10. سورة يونس ج1.{109 آية مكية}
أسماء السورة
بيان المكي والمدني
مقاصد السورة
موضوعات السورة
سُورةُ يُونُس
مقدمة السورة
أسماء السورة:
سُمِّيَت هذه السُّورةُ بِسُورةِ يُونُس
.
بيان المكي والمدني:
سورةُ يُونُسَ مَكِّيَّةٌ
، ونقَلَ غَيرُ واحدٍ الإجماعَ على ذلك
مقاصد السورة:
مِن أهَمِّ مقاصِدِ سُورةِ يُونُس:
1- تقريرُ أصولِ العقيدةِ، وإثباتُ التوحيدِ والرسالةِ والبعثِ
.
2- دفعُ شُبَهِ المشركينَ
.
موضوعات السورة:
مِن أهَمِّ الموضوعات التي اشتَمَلت عليها السُّورةُ:
1- إثباتُ رسالةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم.
2- إثباتُ انفرادِ الله تعالَى بالإلهيةِ.
3- إثباتُ الحشرِ والجزاءِ، والتَّذكيرُ بِمَصيرِ الخَلائِقِ إليه، وانقسامِ البَشَرِ إلى مُؤمِنينَ وكُفَّارٍ، وجزاء كُلٍّ منهم.
4- توضيحُ عقائِدِ المُشرِكينَ، وموقفِهم من القُرآنِ، مع ذكرِ شُبهِهم والردِّ عليها، وإثباتُ أنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ.
5- التذكيرُ بما حلَّ بأهلِ القرونِ الماضيةِ لمَّا أشركوا وكذَّبوا الرسلَ.
6- الاعتبارُ بما خلَق الله للناسِ مِن القدرةِ على السيرِ في البرِّ والبحرِ، وما في أحوالِ السيرِ في البحرِ من الألطافِ.
7- ضربُ المَثَل للدُّنيا وبَهجَتِها، وسرعة زوالِها.
8- ذِكرُ اختلافِ أحوالِ المُؤمِنين والكافرينَ في الآخرةِ، وتبَرُّؤ الآلهةِ الباطلةِ مِن عَبَدتِها، وإبطال إلهيَّةِ غَيرِ الله تعالى.
9- إثباتُ أنَّ القرآنَ منزَّلٌ من عندِ الله، وأنَّ الدلائلَ على بطلانِ أن يكونَ مفترًى واضحةٌ، وتحدِّي المشركين بأن يأتوا بسورةٍ مثلِه.
10- إثباتُ عُمومِ العِلمِ لله تعالى، وذِكرُ آثارِ القُدرةِ الإلهيَّةِ الباهِرةِ.
11- تَبشيرُ أولياءِ الله في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ، وتمييزُهم عن غيرِهم، وتَسليةُ الرَّسولِ عَمَّا يقولُه الكافِرونَ.
12- الأمرُ بإظهارِ السُّرورِ والفَرَحِ بالإسلامِ والقُرآنِ.
13- تَسليةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذِكرِ شَيءٍ مِن قِصَّةِ نوح عليه السلام، وقِصَّةِ موسى عليه السلام، وبني إسرائيلَ مع قومِ فِرعونَ، ونجاةِ قَومِ يُونُسَ بإخلاصِ الإيمانِ في وقت اليَأسِ.
14- تأْكيدُ نبوَّةِ النبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأَمرُه بالصبرِ على جفاءِ المشركين وأذاهم.
===========
سُورةُ يُونُس
الآيتان (1-2)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
غريب الكلمات:
قَدَمَ صِدْقٍ: أي: تَقدِمةَ خَيرٍ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ. وكلُّ سَابقٍ فِي خيرٍ أَو شَرٍّ، فهو عند العَربِ قَدَمٌ. وأصلُ (قدم): يدلُّ على سَبْقٍ، والصِّدقُ يُعبَّرُ به عن كلِّ فعلٍ فاضلٍ ظاهرًا وباطنًا، وكلُّ شيءٍ أُضيفَ إليه فهو ممدوحٌ، وأصلُ (صدق): يدلُّ على قُوَّةٍ في الشَّيءِ قولًا وغيرَه
.
المعنى الإجمالي:
افتَتَحَ اللهُ هذهِ السورةَ العظيمةَ بالحروفِ المقطَّعة؛ لبيانِ إعجازِ القُرآنِ، فمع أنَّه مُركَّبٌ مِن هذه الحُروفِ العربيَّةِ التي يتكلَّمون بها، إلَّا أنَّهم عاجزونَ عن مُعارَضتِه بالإتيانِ بِشَيءٍ مِن مِثلِه، ثمَّ بَيَّنَ تعالى أنَّ تلك الآياتِ الرَّفيعةَ الشَّأنِ، هي آياتُ القُرآنِ الحكيمِ.
ثمَّ قال تعالى: كيف يتعَجَّبُ الكفَّارُ مِن قُريشٍ والعَرَبِ مِن إيحاءِ اللَّهِ إلى رجُلٍ مِن البشَرِ، أنْ يُنذِرَ جَميعَ النَّاسِ عِقابَ اللهِ على الكُفرِ والمَعصيةِ، ويُبَشِّرَ المُؤمِنينَ بأنَّ لهم أجرًا حَسنًا؛ بما قَدَّموا من أعمالٍ صالحةٍ، فتعَجَّبَ الكُفَّارُ مِن هذا الرَّسولِ، فقالوا: إنَّه لَساحرٌ ظاهِرُ السِّحرِ.
تفسير الآيتين:
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1).
الر.
هذه الحروفُ المقطَّعةُ التي افتُتِحَت بها هذه السُّورةُ وغَيرُها، تأتي لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ حيث تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضتِه بمِثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحُروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها
.
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ.
أي: تلك الآيات الرَّفيعة الشَّأن هي آياتُ القرآنِ المحكَم، المشتملِ على الحكمةِ والأحكامِ ، قد أحكَم الله ألفاظَه ومعانيَه، وجعَله حاكمًا بينَ عبادِه؛ يبيِّنُ لهم الحقَّ مِن الباطل، والصَّواب من الخطأ، والحلالَ مِن الحرامِ .
كما قال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] .
وقال سبحانه: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213] .
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ (2).
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ.
أي: كيف يتعَجَّبُ كفَّارُ قُريشٍ وكُفَّارُ العَرَبِ من إيحائِنا القرآنَ إلى رجلٍ من البَشَرِ ، يُنذِرُ جَميعَ النَّاسِ عِقابَ اللهِ، على الكُفرِ به ومَعصِيَتِه ؟!
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ.
أي: وكيف عَجِبَ الكُفَّارُ مِن إيحائِنا إلى بَشَرٍ منهم، أن يبشِّرَ المُؤمِنينَ بأنَّه سبَقَت لهم مِن الله السَّعادةُ في اللَّوحِ المحفوظِ بما قَدَّموا من أعمالٍ صالحةٍ، وإيمانٍ بمحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذي أرشَدَهم إلى ذلك الخَيرِ الذي ينالون به الجنَّةَ ؟!
قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ.
القراءاتُ التي لها أثَرٌ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ لَسَاحِرٌ يقصِدُ الكافرونَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
2- قراءةُ لَسِحْرٌ يَعْنون القُرآنَ الكريمَ .
قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ.
أي: مع أنَّا بعَثْنا إليهم رسولًا منهم، رجلًا مِن جنسِهم، بشيرًا ونذيرًا ، قال الكافرون: إنَّ هذا الرَّجُلَ لَساحِرٌ ظاهِرُ السِّحرِ، يسحَرُ النَّاسَ بالقُرآنِ الذي جاء به
.
الفوائد التربوية :
قال الله تعالى: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا قدَّمَ الإنذارَ على التَّبشيرِ؛ لأنَّ التَّخليةَ مُقَدَّمةٌ على التَّحليةِ، وإزالةَ ما لا ينبغي مُقَدَّمٌ في الرُّتبةِ على فِعلِ ما ينبغي
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا لَمَّا كان الإنذارُ عامًّا، كان متعَلَّقُه- وهو الناس- عامًّا، والبِشارةُ خاصَّةً، فكان متعَلَّقُها خاصًّا، وهو (الذينَ آمنوا)
.
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ عبَّرَ عن كُفَّارِ مَكَّةَ ومَن تَبِعَهم بالنَّاسِ؛ لأنَّ هذه الشُّبهةَ على الرِّسالةِ، قد سبَقَتْهم إليها أقوامُ الأنبياءِ قَبلَ نَبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
3- في قَولِه تعالى: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ بيانُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنذِرٌ لجنسِ النَّاسِ، وأنَّه مِن جِنْسِ النَّاسِ، وأنَّه لا يختصُّ به العرَبُ دونَ غَيرِهم، وإنْ كانوا هم أوَّلَ مَن أُرْسِلَ إليهم وبِلسانِهم .
4- ذكَرَ اللهُ تعالى في كتابِه خمسةَ أشياءَ مُضافةً إلى الصِّدقِ، وهي: قدَمُ الصِّدقِ، كما هنا في سورة يونسَ، ومُدخَلُ الصِّدقِ، ومُخرَجُ الصِّدقِ، كما في سورةِ الإسراءِ (الآية: 80)، ولسانُ الصِّدقِ، كما في سورة الشُّعَراء (الآية: 84)، ومَقعَدُ الصِّدقِ، كما في سورة القمر (الآية: 55)، وحقيقةُ الصِّدقِ في هذه الأشياءِ: هو الحقُّ الثَّابِتُ، المتَّصِلُ باللهِ، المُوصِلُ إلى اللهِ- وهو ما كان به وله، من الأقوالِ والأعمالِ- وجزاءُ ذلك في الدُّنيا والآخرةِ .
5- قَولُ الله تعالى: قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ يُشيرُ إلى إثباتِ رِسالتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ قَولَهم: إنَّ القرآنَ سِحرٌ جاء به ساحِرٌ، يتضَمَّنُ اعترافَهم بأنَّهما فوقَ المعهودِ والمعلومِ للبَشَرِ في عالَمِ الأسبابِ المَقدورةِ لهم
.
بلاغة الآيتين:
1- قولُه تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
- قولُه: تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الْحَكِيمِ في اختيارِ وصْفِ الْحَكِيمِ هنا مِن بينِ أوصافِ الكَمالِ الثَّابتةِ للقُرآنِ؛ لأنَّ لهذا الوَصفِ مَزيدَ اختِصاصٍ بمَقامِ إظهارِ الإعجازِ مِن جهةِ المعنى بعدَ إظهارِ الإعجازِ مِن جهةِ اللَّفظِ بقولِه: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، ولِمَا اشتَمَلَت عليه السُّورةُ مِن براهينِ التَّوحيدِ وإبطالِ الشِّركِ
.
- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، وكذلك في سورةِ لُقمانَ قال: الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2] ، بَينما قال في مَطلعِ سُورةِ يوسُفَ: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف:1] ؛ فوصَفه في السُّورتَين بالحكيمِ، وفي سورةِ يوسُفَ بالمبينِ؛ وذلك لأنَّ سُورتَيْ يونُسَ ولُقمانَ ترَدَّد فيهما مِن الآياتِ المعتبَرِ بها، الـمُطْلِعَةِ على عظيمِ حِكْمتِه تعالى، وإتقانِه للأشياءِ ما لم يَرِدْ في سورةِ يوسُفَ، كقولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [يونس: 3] ، وقد تَبِع الآيةَ المذكورةَ مِن سورةِ يونُسَ ما يُجاريها في التَّنبيهِ بما به الاعتبارُ، كقولِه تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] ، ثمَّ قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا [يونس: 6، 7]، لم يتَخلَّلْها ما يَخرُجُ عن بابِ الاعتبارِ، مِن الأحكامِ أو القَصصِ أو غيرِها، إلَّا ما تضَمَّن اعتِبارًا كالواردِ مِن قصَّةِ نوحٍ في خِطابِه لقومِه: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي... الآيةَ إلى قولِه: ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ [يونس: 71]، وفي هذا أعظمُ عِبرةٍ، ولم يَرِدْ هذا الضَّربُ المقتضَبُ مِن قصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ على هذه الصِّفةِ في غيرِ هذه السُّورةِ لِما قدَّمْنا ذِكرَه، ولم يَكُنْ لِيُناسِبَ ما بُنِيَت عليه السُّورةُ غيرُ هذا الواردِ، وكذلك ما ورَد فيها مِن قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ ودُعائِه في قولِه: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ [يونس: 88] ، فكان ذلك حسْبُ ما دَعاه إلى ذِكْرِ إغراقِ فِرْعونَ وملَئِه، وطمَعِه في الإيمانِ حينَ أدرَكه الغرَقُ، فقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس: 90] ، فلم ينفَعْه ذلك لِفَواتِ وقتِه، فاقتصَر أيضًا على هذا القَدْرِ مِن قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ؛ لِما تقَدَّم مِن مُناسَبةِ هذه السُّورةِ.
وسورةُ لُقمانَ ورَد فيها قولُه تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، إلى قولِه: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان: 10، 11]، وبعد ذلك قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]، وقولُه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ... الآيةَ [لقمان: 34] ، وفي هذه السُّورةِ أيضًا ما مُنِح لقمانُ مِن الحِكْمةِ، وما انطوَت عليه قصَّتُه مِن حِكمةٍ، وما صدَر عنه في وصيَّتِه، ولم تَخرُجْ آيُ هذه السُّورةِ عن هذا، فهذا وجهُ وصفِ الكتابِ في هاتَين السُّورتَين بالحكيمِ.
وأمَّا سورةُ يوسُفَ عليه السَّلامُ فلم تَنطَوِ على غيرِ قصَّتِه، وبسْطِ التَّعريفِ بقَضيَّتِه، وبيانِ ما جرَى له مع أبيه؛ مِن فِراقِه، وامتِحانِه بإلقائِه في الجُبِّ، والبيعِ والتَّعرُّضِ له بالفِتْنةِ، وتَخلُّصِه بسابقِ اصطِفائِه ممَّا كِيدَ له به، وابتلائِه بالسَّجنِ، ثمَّ لِقائِه بأخيه، واجتماعِ شَملِه بأبيه عليهما السَّلامُ وإخوتِه، ولم تَخرُجْ آيةٌ مِن آيِ هذه السُّورةِ عن هذا مِن بَسْطِ هذه القصَّةِ، فلِهذا أتبعَ الكتابَ بالوصفِ بالمبينِ .
2- قولُه تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ
- قولُه: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا الهَمزةُ في أَكَانَ لإِنْكارِ التَّعجُّبِ والتَّعجيبِ مِنه ، وفائدةُ إدخالِ الاستفهامِ المستعمَلِ في الإنكارِ على (كَانَ) دونَ أن يُقالَ: (أَعَجِبَ النَّاسُ): الدَّلالةُ على التَّعجُّبِ مِن تعَجُّبِهم المرادِ به إحالةُ الوحيِ إلى بشَرٍ .
- وقولُه: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قالَ: لِلنَّاسِ باللَّامِ ولَم يَقُلْ: (أكان عِندَ النَّاسِ عجَبًا)؛ لأنَّ معنى لِلنَّاسِ عَجَبًا أنَّهم جعَلوه لهم أُعْجوبةً يتَعجَّبون مِنها، ونصَبوه عَلمًا لهم يُوجِّهون نَحوَه استِهْزاءَهم وإنكارَهم، وليس في (عِندَ النَّاسِ) هذا المعنى .
- وقولُه أيضًا: لِلنَّاسِ مُتعلِّقٌ بـ(كَانَ)؛ لِزِيادةِ الدَّلالةِ على استِقْرارِ هذا التَّعجُّبِ فيهم؛ لأنَّ أصلَ اللَّامِ أن تُفيدَ المِلْكَ، وتستعملُ أيضًا في التَّمكُّنِ، أي: لِتَمكُّنِ الكونِ عجَبًا مِن نُفوسِهم .
- وفيه كذلك تقديمُ خبَرِ (كان) وهو قولُه: عَجَبًا على اسمِها وهو قولُه: أَنْ أَوْحَيْنَا؛ للاهتِمامِ به؛ لكَونِه مَدارَ الإنكارِ والتَّعجُّبِ، وتشويقًا إلى المؤخَّرِ .
- وَجِيءَ في أَنْ أَوْحَيْنَا بـ(أَنْ) والفِعلِ، دون المصدَرِ الصَّريحِ وهو (وَحْيُنا)؛ لِيُتوسَّلَ إلى ما يُفيدُه الفعلُ مِن التَّجدُّدِ، وصيغةُ المُضِيِّ مِن الاستقرارِ؛ تحقيقًا لوُقوعِ الوحيِ المتعجَّبِ منه وتجَدُّدِه، وذلك ما يَزيدُهم كمَدًا .
- وفي قولِه: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ: حُذِفَ المنذَرُ به؛ للتَّهويلِ، ولأنَّه يُعلَمُ حاصِلُه مِن مُقابَلتِه بقولِه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ .
- قولُه: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ، أي: سابقةٌ ومنزِلةٌ رفيعةٌ؛ سُمِّيَت قَدَمًا لأنَّ السَّبقَ بِها، كما سُمِّيَت النِّعمةُ يَدًا؛ لأنَّها تُعطَى باليَدِ، وإضافةُ (قَدَمَ) إلى (صِدْقٍ)؛ لِتَحقُّقِها، والتَّنبيهِ على أنَّهم إنَّما يَنالونها بصِدْقِ القولِ والنِّيَّةِ، ودَلالةً على زيادةِ فضلٍ، وأنَّه مِن السَّوابقِ العظيمةِ .
- قولُه: قَالَ الْكَافِرُونَ ترَك العاطِفَ فلَم يَقُلْ: (وقال)؛ لِجَرَيانِه مَجْرى البَيانِ لِجُملةِ: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ...، أو لكونِه استِئنافًا مَبنيًّا على السُّؤالِ؛ كأنَّه قيل: ماذا صنَعوا بعدَ التَّعجُّبِ؛ هل بَقُوا على التَّردُّدِ والاستِبْعادِ أو قطَعوا فيه بشيءٍ؟ فقيل: قال الكافِرون؛ على طريقةِ التَّأكيدِ .
=======================
سُورةُ يُونُس
الآيتان (3-4)
ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
غريب الكلمات:
شَفِيعٍ: أي: ناصرٍ ومُعينٍ؛ يقال: شفَع لفلانٍ: إذا جاء مُلتَمِسًا مطلبَه، ومعينًا له، والشَّفْعُ: ضمُّ الشيءِ إلى مثلِه، وأصلُ (شفع): يدلُّ على مُقارنةِ الشَّيئَينِ
.
حَمِيمٍ: الحميمُ: الماءُ الشَّديدُ الحرارةِ، وأصل (حمم): يدلُّ على الحرَارةِ، وعلى معانٍ أخرى متفاوِتَةٍ
.
المعنى الإجمالي:
إنَّ رَبَّكم- أيُّها النَّاسُ- هو الله الذي خلقَ السَّمواتِ والأرضَ في سِتَّةِ أيَّامٍ، ثمَّ علا وارتفَعَ على عَرْشِه، يُدَبِّرُ أمورَ جَميعِ الخَلائِقِ، ولا أحَدَ يَشفَعُ عِندَه يومَ القيامةِ إلَّا مِن بعدِ أن يأذَنَ له سُبحانَه بذلك، ذلكم هو اللَّهُ ربُّكم فاعبُدوه وَحْدَه، أفلا تذَكَّرونَ.
إليه وَحْدَه مَرجِعُكم جميعًا يومَ تَخرُجونَ مِن قُبورِكم أحياءً يومَ القيامةِ، وَعَدَكم اللهُ وَعدًا حَقًّا لا يُخلَفُ، إنَّه يبدأُ إنشاءَ الخَلْقِ ثمَّ يُعيدُه بعد مَوتِه، يومَ القيامةِ؛ ليُثِيبَ المُؤمِنينَ الذين عَمِلوا الصَّالِحاتِ بالعَدلِ، والذين كَفَروا لهم شَرابٌ من ماءٍ حارٍّ، قد بلَغَت حرارتُه الغايةَ، ولهم عذابٌ مُوجِعٌ؛ بسبَبِ كُفرِهم في الدُّنيا.
تفسير الآيتين:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3).
إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
أي: إنَّ مالِكَكم- أيُّها النَّاسُ- وخالقَكم، ومدبِّرَ شُؤونِكم، هو المُستحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه؛ الذي خلَقَ السَّمواتِ السَّبعَ، والأَرَضينَ السَّبعَ في ستَّة أيَّامٍ
.
كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] .
وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة: 4] .
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.
أي: ثمَّ علا اللهُ وارتفَعَ على عَرشِه المُحيطِ بِجَميعِ خَلْقِه .
يُدَبِّرُ الأَمْرَ.
أي: يُدبِّر أمورَ جَميعِ خَلْقِه وشُؤونَهم .
كما قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة: 255] .
وقال سبحانه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] .
وقال عزَّ وجلَّ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة: 4، 5].
مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ.
أي: لا يَشفَعُ عندَ الله أيُّ شافعٍ يومَ القِيامةِ إلَّا مِن بَعدِ أن يأذَنَ اللهُ بذلك .
كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] .
ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.
أي: ذلكم الذي هذا شأنُه، وهذه صفتُه، وفعَلَ تلك الأشياءَ العظيمةَ، هو المستَحِقُّ لإفرادِ العبادةِ له دونَ مَن سِواه، وهو مالِكُكم وخالِقُكم ومُدَبِّرُ أمورِكم- أيُّها النَّاسُ- فاعبُدوه وَحْدَه، ولا تَعبُدوا غَيرَه .
أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ.
أي: أفلا تتَّعِظونَ- أيُّها النَّاسُ- بتلك الآياتِ والبَراهينِ، وتتذكَّرون أنَّ اللهَ هو المتفَرِّدُ بالخَلقِ، فتَعبُدونَه وَحْدَه، وتَتْرُكونَ عبادةَ غَيرِه مِن مَخلوقاتِه ؟!
كما قال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 31-32] .
وقال سبحانه: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84 - 89] .
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ اللَّهَ تعالى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلائِلَ الدَّالَّةَ على إثباتِ المبدأِ، أردَفَه بما يدُلُّ على صِحَّةِ القَولِ بالمَعادِ .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى حُكْمَه القَدَريَّ، وهو التَّدبيرُ العامُّ، وحُكمَه الدينيَّ وهو شَرعُه، الذي مضمونُه ومقصودُه عبادَتُه وَحْدَه لا شريكَ له- ذكَرَ الحُكمَ الجَزائيَّ، وهو مُجازاتُه على الأعمالِ بعد الموتِ ، فقال تعالى:
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا.
أي: إلى اللهِ وَحْدَه مَرجِعُكم جميعًا- أيُّها النَّاسُ- يوم تَخرُجونَ مِن قُبورِكم أحياءً يومَ القِيامةِ .
وَعْدَ اللّهِ حَقًّا.
أي: يَعِدُكم اللهُ- أيُّها النَّاسُ- وعدًا صِدقًا لا يُخلَفُ: أنَّه سيبعَثُكم مِن قُبورِكم أحياءً .
إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.
أي: إنَّ اللهَ يبدأُ إنشاءَ الخَلْقِ، وإيجادَه مِن العَدَمِ، ثمَّ يعيدُه بعدَ مَوتِه، ويُحييه يومَ القيامةِ كما بدأه أوَّلَ مرَّةٍ .
كما قال تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [يونس: 34] .
وقال سبحانَه: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [العنكبوت: 19] .
وقال عزَّ وجلَّ: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11] .
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ.
مناسبتُها لما قبلَها:
لَمَّا كان الكلامُ في سِياقِ البَعثِ، قَدَّمَ أهلَ الجَزاءِ، وبدأ بأشرافِهم، فقال :
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ.
أي: يُحيي اللهُ الخَلقَ بعدَ مَوتِه، يومَ القِيامةِ؛ لِيُثيبَ المُؤمِنينَ الذين عَمِلوا ما أمَرَهم اللهُ به، وترَكَوا ما نهاهم عنه، بالعَدلِ، وهو مجازاتُهم على الحَسَنِ مِن أعمالِهم، الحَسَنَ من الثوابِ في الآخرةِ .
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ.
أي: وللكفَّارِ في الآخرةِ ماءٌ قد أُغلِيَ، وبلَغَت حرارتُه الغايةَ، ولهم أيضًا عذابٌ مُوجِعٌ؛ وذلك كلُّه بسبَبِ كُفرِهم في الدُّنيا
.
كما قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29] .
وقال سبحانه: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص: 55 - 58] .
وقال عزَّ وجلَّ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا [النبأ: 24 - 28] .
الفوائد التربوية:
1- قال اللهُ تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ لَمَّا بَيَّنَ تعالى هذه الدَّلائِلَ، وشَرَحَ هذه الأحوالَ؛ ختَمَها بِقَولِه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ مُبَيِّنًا بذلك أنَّ العبادةَ لا تصلُحُ إلَّا له، ومنبِّهًا على أنَّه سُبحانَه هو المستَحِقُّ لِجَميعِ العباداتِ؛ لأجلِ أنَّه هو المُنعِمُ بِجَميعِ النِّعَمِ التي ذكَرَها ووصَفَها
.
2- قَولُ الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فيه حَضٌّ على التدَبُّرِ والتفَكُّرِ في الدَّلائِلِ الدَّالَّةِ على ربُوبيَّتِه تعالى، وإمحاضِ العِبادةِ له
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لو شاء تعالى لخَلَقَهما في لَمحةٍ، ولكِنْ لحِكمةٍ بالغةٍ عَدَلَ عن ذلك، وخَلَقَهما في ستَّةِ أيَّامٍ، وتخصيصُ ذلك بالعدَدِ المعَيَّنِ، أمْرٌ قد استأثَرَ بعِلمِ ما يَستَدعيه علَّامُ الغُيوبِ- جَلَّت قُدرَتُه ودَقَّت حِكمَتُه
، وقيل في حكمةِ خلقِهما في ستةِ أيَّامٍ: لتعليمِ خَلْقِه التأنِّي . وقيل: لِتُشاهِدَ الملائكةُ الخَلقَ شَيئًا بعد شيءٍ، فيعتَبِروه ويُدرِكُوه. وقيل: لأنَّ تصريفَ الخَلقِ حالًا بعد حالٍ أحكَمُ، وأبعَدُ مِن شُبهةِ الاتِّفاقِ .
2- قَولُ الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ناسبَ ذِكرُ الشَّفاعةِ- التي تكونُ في القيامةِ- بعد ذِكرِ المَبدأِ؛ ليجمَعَ بين الطَّرَفينِ: الابتداءِ والانتهاءِ .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أُفرِدت الأرضُ، ولم تُجمَعْ- بخلافِ السمواتِ- لِثِقَلِ جَمْعِها وهو (أَرَضُونَ)، وأَمَّا السَّمَوات فذُكِرَتْ بصيغَةِ الجمعِ؛ لأنَّه أُرِيدَ العددُ، فأُتِيَ بِصِيغَةِ الجمعِ الدَّالَّةِ عَلَى سَعَةِ العظمةِ والكثرةِ، وإذا أُرِيدَ الجهةُ أُتِيَ فيها بصيغةِ الإفرادِ ، وقيل: إيثارُ صِيغةِ الجَمعِ في السَّمواتِ؛ لِما هو المشهورُ مِن الإيذانِ بأنَّها أجرامٌ مُختَلِفةُ الطِّباعِ، مُتَباينةُ الآثارِ والأحكامِ .
4- التدبيرُ يُضاف إلى اللهِ تارةً؛ وإلى الملائكةِ تارةً؛ فيُضافُ إلى الله تعالى أمرًا وإذنًا ومشيئةً، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُم اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ، ويُضافُ إلى الملائكةِ تارةً أخرى؛ لِكَونِهم هم المُباشِرينَ والمُمتَثلينَ للتَّدبيرِ؛ قال تعالى: فَالمُدَبِّراتِ أَمْرًا [النازعات: 5] ، وهذا كما أضاف التوفِّيَ إليهم تارةً، كقَولِه تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا [الأنعام: 61] وإليه تارةً، كقَولِه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ [الزمر: 42] .
5- قَولُ اللهِ تعالى: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ فيه إثباتُ الشَّفاعةِ لِمَن أَذِنَ له .
6- إنَّ شَفاعةَ المَخلوقِ عند المَخلوقِ تكونُ بإعانةِ الشَّافِعِ للمَشفوعِ له، بغيرِ إذْنِ المَشفوعِ عِندَه، بل يشفَعُ إمَّا لحاجةِ المَشفوعِ عنده إليه، وإما لِخَوفِه منه، فيحتاجُ أنْ يقبلَ شفاعتَه، واللهُ تعالى غنيٌّ عن العالَمينَ، وهو وَحْدَه سبحانَه يُدَبِّرُ العالَمينَ كلَّهم؛ فإنَّه مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، فهو الذي يأذَنُ للشَّفيعِ في الشَّفاعة، وهو يقبلُ شفاعتَه، كما يُلْهِمُ الداعيَ الدُّعاءَ، ثمَّ يُجيبُ دعاءَه، فالأمرُ كلُّه له .
7- قال الله تعالى: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، والشَّفاعةُ بإذنِه ليست شفاعةً مِن دُونِه، ولا الشَّافِعُ شَفيعٌ مِن دونِه، بل شفيعٌ بإذْنِه، والفرقُ بين الشَّفيعَينِ هو كالفَرقِ بين الشَّريكِ والعبدِ المأمورِ، فالشَّفاعةُ التي أبطَلَها اللهُ: شفاعةُ الشَّريكِ؛ فإنَّه لا شريكَ له، والتي أثبَتَها: شفاعةُ العبدِ المأمورِ، الذي لا يشفَعُ ولا يتقَدَّمُ بين يدَي مالكِه، حتى يأذَنَ له، ويقولَ: اشفَعْ في فُلانٍ؛ ولهذا كان أسعَدَ النَّاسِ بشَفاعَةِ سَيِّدِ الشُّفَعاءِ يومَ القيامةِ أهلُ التَّوحيدِ، الذين جرَّدُوا التَّوحيدَ، وخَلَّصوه مِن تعَلُّقاتِ الشِّركِ وشَوائِبِه، وهم الذين ارتَضى اللهُ سبحانه .
8- قَولُ الله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يدُلُّ على أنَّه تعالى يعيدُ جَميعَ المَخلوقاتِ، وإعادتُها لا يُمكِنُ إلَّا بعد إعدامِها، وإلَّا لَزِمَ إيجادُ الموجودِ، وهو مُحالٌ، ونظيرُه قَولُه تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء: 104] فحكَمَ بأنَّ الإعادةَ تكونُ مِثلَ الابتداءِ .
9- قَولُه تعالى: إِنَّه يَبْدَأُ الْخَلْقُ ثُمَّ يُعِيدُهُ ردٌّ على المُشرِكينَ الذين أنكَروا البَعثَ، فاحتَجَّ الله عليهم بالنَّشأةِ الأولَى، فالقادِرُ على ابتداءِ الخَلقِ قادِرٌ على إعادتِه، والذي يرى ابتداءَه بالخَلقِ، ثمَّ يُنكِرُ إعادتَه للخَلقِ، فهو فاقِدُ العَقلِ مُنكِرٌ لأحَدِ المِثْلَينِ، مع إثباتِ ما هو أَولى منه، فهذا دليلٌ عَقليٌّ واضحٌ على المَعادِ .
10- في قولِه تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ لم يُعيِّنِ الله تعالى ثوابَ المؤمنينَ وجزاءَهم؛ لأنَّه تعالَى يتولَّى إثابةَ المؤمنينَ بما يليقُ بلطفِه وكرمِه .
11- قَولُ الله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ إنَّما خَصَّ بالقِسطِ جزاءَ المُؤمِنينَ، مع أنَّ الجَزاءَ كُلَّه عَدلٌ، بل ربَّما كانت الزيادةُ في ثَوابِ المُؤمِنينَ فَضلًا زائدًا على العَدلِ؛ وذلك لتأنيسِ المُؤمِنينَ وإكرامِهم بأنَّ جَزاءَهم قد استحَقُّوه بما عَمِلوا ، وأيضًا لأنَّه لو جمع اللهُ الصِّنفَينِ بالقِسطِ، لم يتبَيَّنْ ما يقَعُ بالكافرينَ مِن العذابِ الأليمِ، ففَصَلَهم من المُؤمِنينَ؛ ليُبَيِّنَ ما يجزيهم به ممَّا هو عدلٌ غيرُ جَورٍ، فلهذا خصَّ المُؤمِنينَ بالقِسطِ، وأفرد الكافرينَ بخَبرٍ يرجِعُ إلى تأويلِه بزيادةٍ في الإبانةِ والفائدةِ .
12- قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ مِن عَطفِ العامِّ على الخاصِّ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ، ونكتةُ هذا الخاصِّ أنَّ العرَبَ الذين خُوطِبوا به أوَّلًا ونزَلَ بلُغَتِهم، يَشعُرونَ بما لا يَشعُرُ غَيرُهم من الوَعيدِ بِشُربِ الماءِ الحَميمِ، والحِرمانِ مِن الماءِ البارِدِ
.
بلاغة الآيتين:
1- قولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
- في قولِه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ إيثارُ صيغةِ المضارِعِ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ التَّدبيرِ واستمرارِه
.
- قولُه: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ نفيٌ للشَّفاعةِ الَّتي هي مِن غيرِ إذنِه على أبلَغِ الوُجوهِ؛ فإنَّ نفيَ جميعِ أفرادِ الشَّفيعِ بـ(مِن) الاستِغْراقيَّةِ يَستَلزِمُ نفْيَ الشَّفاعةِ على أتَمِّ الوجوهِ .
- وفي زيادةِ قولِه: إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ احْتِراسٌ؛ لإثباتِ شَفاعةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وغيرِه بإذنِ اللهِ .
- والإتيانُ باسْمِ الإشارةِ في صَدْرِ قولِه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ؛ لِتَمييزِه أكمَلَ تمييزٍ؛ لأنَّهم امتَرَوْا في صِفةِ الإلهيَّةِ، وضَلُّوا فيها ضلالًا مُبينًا، فكانوا أَحْرِيَاءَ بالإيقاظِ بطَريقِ اسْمِ الإشارةِ .
- قولُه: فَاعْبُدُوهُ هذا الأمرُ مُفرَّعٌ على كونِه ربَّهم، والمفرَّعُ هو المقصودُ مِن الجملةِ، وما قَبلَه مُؤكِّدٌ لجملةِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ تأكيدًا بِفَذْلَكةٍ وتحصيلٍ، والتَّقديرُ: (إنَّ ربَّكم اللهُ...) إلى قولِه: فَاعْبُدُوهُ، كقولِه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] ؛ إذ وقَع قولُه: فَبِذَلِكَ تأكيدًا لجُملةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، وأوقَع بعدَه الفرْعَ وهو فَلْيَفْرَحُوا، والتَّقديرُ: قُل بفضلِ اللهِ وبرَحمتِه فليَفرَحوا بذَلك .
- قولُه: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ: جملةٌ ابتدائيَّةٌ للتَّقْريعِ، وهو غرَضٌ جديدٌ؛ فلِذَلكِ لم تُعطَفْ؛ فالاستِفْهامُ إنكارٌ لانتِفاءِ تذَكُّرِهم؛ إذ أشرَكوا معَه غيرَه، ولم يتَذكَّروا في أنَّه المنفرِدُ بخَلْقِ العوالِمِ، وبمِلْكِها وبتَدبيرِ أحوالِها .
2- قولُه تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ
- وقولُه: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فيه ذِكرُ ما يَقتَضي التَّذكيرَ، وهو كونُ مَرجِعِ الجميعِ إليه، وأكَّد هذا الإخبارَ بأنَّه وعدُ اللهِ الَّذي لا شكَّ في صِدْقِه، ثمَّ استأنَف الإخبارَ بقَولِه: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ، وهو استئنافٌ مَعناه التَّعليلُ بابتِداءِ الخَلْقِ وإعادَتِه، وأنَّ الغرَضَ ومُقتَضى الحِكمةِ بذَلك هو جَزاءُ المكلَّفينَ على أعمالِهم .
- وقولُه: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ فيه تقديمُ المجرورِ إِلَيْهِ؛ لإفادَةِ القَصْرِ، أي: إلَيْه لا إلى غَيرِه .
- وفيه مناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قال هنا: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا، وقال أيضًا في سورةِ المائدة: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا [المائدة: 48، 105]، بينما في سُورةِ هود قال: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ [هود: 4]، ولم يَقُلْ: (جَميعًا)؛ وذلك لأنَّ ما في سورةِ يونُسَ والمائدةِ خِطابٌ للمؤمِنينَ والكافِرين جميعًا؛ يدُلُّ عليه قولُه بعدَه في سورةِ يونُسَ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا... الآيةَ [يونس: 4] ، وقولُه بعدَه في سورةِ المائدةِ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48] ، وأمَّا ما في هودٍ فهو خِطابٌ للكفَّارِ فقط؛ يدُلُّ عليه: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 3] .
- قولُه: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ: وموقعُ (إِنَّ) تأكيدُ الخبرِ؛ نظَرًا لإنكارِهمُ البَعثَ، فحصَل التَّأكيدُ مِن قولِه: ثُمَّ يُعِيدُهُ أمَّا كَوْنُه بدَأ الخلْقَ فلا يُنكِرونه .
- وجملةُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ استِئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّه لَمَّا ورَد ذِكْرُ جَزاءِ المؤمِنين على أنَّه العِلَّةُ لِرُجوعِ الجَميعِ إلَيه، ولَم يَذكُرْ في العِلَّةِ ما هو جَزاءُ الجميعِ؛ لا جَرَمَ يتَشوَّفُ السَّامعُ إلى معرفةِ جزاءِ الكافرين؛ فجاء الاستِئنافُ للإعلامِ بذلك، ونُكتةُ تَغييرِ الأسلوبِ- حيث لم يَعطِفْ جَزاءَ الكافِرين على جَزاءِ المؤمِنين فيُقالَ: (ويَجْزِيَ الَّذين كفَروا بعَذابٍ...)- الإشارةُ إلى الاهتمامِ بجَزاءِ المؤمِنين الصَّالِحين، وأنَّه الذي يُبادَرُ بالإعلامِ به، وأنَّ جزاءَ الكافِرين جديرٌ بالإعراضِ عَن ذِكْرِه لولا سؤالُ السَّامِعين .
=============
سُورةُ يُونُس
الآيتان (5-6)
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ
المعنى الإجمالي:
اللهُ الذي جعل الشَّمسَ مُضيئةً في النَّهارِ، وصيَّرَ القَمَرَ مُنيرًا في اللَّيلِ، وقَدَّرَ سَيرَه في منازِلَ؛ لِتَعلَموا- أيُّها النَّاسُ- عدَدَ السِّنينَ، وتَعلَموا حِسابَ اللَّيالي والشُّهورِ، لم يخلُقِ اللهُ ذلك إلَّا بالحَقِّ، يُبَيِّنُ اللهُ الحُجَجَ والأدلَّةَ والبَراهينَ لِقَومٍ يَعلَمونَ.
إنَّ في تعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وفي كلِّ ما خلَقَ اللهُ في السَّمواتِ والأرضِ، لَأدِلَّةً واضِحةً على الخالِقِ جلَّ وعلا، وعلى ثُبوتِ المَرجِعِ إليه يومَ القيامةِ، لِقَومٍ يتَّقونَ غضبَ الله وعقابَه.
تفسير الآيتين:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا قَرَّرَ اللهُ تعالى ربوبيَّتَه وإلهيَّتَه؛ ذكَرَ الأدلَّةَ العقليَّةَ الأفقيَّةَ الدَّالَّةَ على ذلك، وعلى كمالِه في أسمائِه وصِفاتِه؛ مِن الشَّمسِ والقَمَرِ، والسَّمَواتِ والأرضِ، وجَميعِ ما خلَقَ فيهما مِن سائِرِ أصنافِ المَخلوقاتِ
.
فهذا استدلالٌ آخَرُ على انفرادِه تعالى بالتصَرُّفِ في المَخلوقاتِ، وهذا لونٌ آخَرُ مِن الاستدلالِ على الإلهيَّةِ، مَمزوجٌ بالامتنانِ على المحَجوجينَ به .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا.
أي: اللهُ هو الَّذي صيَّرَ الشَّمسَ مُضيئةً إضاءةً ساطِعةً قَويَّةً في النَّهارِ، وصيَّرَ القمَرَ مُنيرًا في اللَّيلِ .
كما قال سُبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان: 61] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح: 16] .
وقال تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [النبأ: 11 - 13] .
وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ.
أي: وقدَّر اللهُ وقضى مَسيرَ القَمَرِ في منازِلَ، يَنْزِلُ في كلِّ يومٍ وليلةٍ مَنزِلًا منها، وهيَّأ ذلك في كلِّ شَهرٍ .
كما قال تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] .
لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.
أي: قدَّرَ اللهُ القَمَرَ مَنازِلَ؛ لِتَعرِفوا- أيُّها النَّاسُ- عدَدَ السَّنواتِ، وتَعرِفوا حسابَ اللَّيالي والشُّهورِ، فتَنتَفِعوا بذلك في أمورِ دِينِكم ودُنياكم .
مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ.
أي: لم يخلُقِ اللهُ الشَّمسَ والقَمَرَ ومَنازِلَه، إلَّا لحكمةٍ عظيمةٍ تدلُّ على وحدانيَّتِه وعظمةِ صِفاتِه، ولم يخلُقْ ذلك عَبَثًا وباطِلًا .
كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ [الأنبياء: 16] .
وقال سبحانه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] .
يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
أي: يُبيِّنُ اللهُ الحُجَجَ والأدلَّةَ الباهرةَ لقومٍ يَعلَمونَ- إذا تدبَّروها- وَحدانيَّةَ اللهِ تعالى وقُدرَتَه، وآثارَ إحسانِه، ويستدِلُّونَ بها على شُؤونِ وصِفاتِ مُبدِعِها سُبحانه .
كما قال تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام: 96، 97].
وقال سبحانه: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28].
إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا استدَلَّ اللهُ تعالى على إثباتِ الإلهيَّةِ والتَّوحيدِ بِقَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وثانيًا بأحوالِ الشَّمسِ والقَمَرِ؛ استدَلَّ ثالثًا بِقَولِه تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي: بالمجيءِ والذَّهابِ، والزِّيادةِ والنُّقصانِ، ورابعًا بِقَولِه تعالى: وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ مِن ملائكةٍ وشَمسٍ وقَمَرٍ ونجومٍ وغيرِ ذلك .
فهذا استدلالٌ آخَرُ على انفرادِ الله تعالى بالخَلقِ والتَّقديرِ، وهو استدلالٌ بأحوالِ الضَّوءِ والظُّلمةِ، وتعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وفي ذلك عِبرةٌ عَظيمةٌ، وهو بما فيه مِن عَطفِ قَولِه تعالى: وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أعَمُّ مِن الدَّليلِ الأوَّلِ؛ لِشُمولِه ما هو أكثَرُ مِن خَلْقِ الشَّمسِ والقَمَرِ، ومِن خَلْقِ اللَّيلِ والنَّهارِ، ومِن كُلِّ ما في الأرضِ والسَّماءِ، مِمَّا تبلُغُ إليه مَعرِفةُ النَّاسِ في مُختَلِفِ العُصورِ، وعلى تفاوُتِ مَقاديرِ الاستدلالِ مِن عُقولِهم .
إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ.
أي: إنَّ في تعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وخَلْفِ أحدِهما الآخَرَ، وفي كلِّ ما خلَقَ اللهُ في السَّمواتِ والأرضِ، لَأدلَّةً واضحةً على خالِقِها، وعلى ثُبوتِ المَعادِ إليه يومَ القيامةِ، لقومٍ يتَّقونَ غَضَبَ اللهِ وعِقابَه، فيَصرِفونَ العبادةَ له وَحْدَه لا شَريكَ له، ويَمتَثِلونَ أوامِرَه، ويَجتَنِبونَ نواهِيَه، لا يحمِلُهم هواهم على خِلافِ ما وضَحَ لهم من الحَقِّ
.
كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] .
وقال سُبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران: 190] .
وقال تبارك وتعالى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 3 - 6] .
الفوائد التربوية :
1- قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ في هذه الآياتِ الحَثُّ والتَّرغيبُ على التفَكُّرِ في مخلوقاتِ الله، والنَّظرِ فيها بعَينِ الاعتبارِ؛ فإنَّ بذلك تنفتِحُ البَصيرةُ، ويزدادُ الإيمانُ والعَقلُ، وتَقوَى القريحةُ، وفي إهمالِ ذلك تهاونٌ بما أمَرَ اللهُ به، وإغلاقٌ لزيادةِ الإيمانِ، وجمودٌ للذِّهنِ والقريحةِ
.
2- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيه تنويهٌ بفَضلِ العِلمِ، وكونِ الإسلامِ دِينًا عِلميًّا لا تقليديًّا؛ ولذلك قَفَّى على هذه الآياتِ السَّماويَّةِ في الشَّمسِ والقَمَرِ بآيةٍ مذَكِّرةٍ بسائِرِ الآياتِ السَّماويَّةِ والأرضيَّةِ، فقال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ هذه الآيةُ أصلٌ في علمِ المواقيتِ والحسابِ ومنازلِ القمرِ والتاريخِ
.
2- سَمَّى سُبحانه الشَّمسَ سِراجًا وضياءً؛ لأنَّ فيها مع الإنارةِ والإشراقِ تَسخينًا وإحراقًا، فهي بالنَّارِ أشبَهُ، بخلافِ القَمَرِ؛ فإنَّه ليس فيه مع الإنارةِ تَسخينٌ، فلِهذا قال: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا .
3- قال تعالى: وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ وقال أيضًا: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] فخَصَّ القَمَرَ بذِكرِ تَقديرِ المَنازِلِ دونَ الشَّمسِ، وإن كانَت مُقَدَّرةَ المَنازِلِ؛ لظُهورِ ذلك للحِسِّ في القَمرِ، وظهورِ تَفاوُتِ نُورِه بالزِّيادةِ والنُّقصانِ في كلِّ مَنزِلٍ؛ ولذلك كان الحِسابُ القَمَريُّ أشهَرَ وأعرَفَ عند الأُمَمِ، وأبعَدَ مِن الغَلَطِ، وأصَحَّ للضَّبطِ مِن الحِسابِ الشَّمسيِّ، ويَشتَرِك فيه النَّاسُ دون الحِسابِ الشَّمسيِّ؛ ولهذا قال تعالى في القَمَرِ: وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ولم يقُل ذلك في الشَّمسِ؛ ولهذا كانت أشهُرُ الحَجِّ والصَّومِ، والأعيادُ ومواسِمُ الإسلامِ، إنَّما هي على حِسابِ القَمَرِ وسَيرِه ونُزولِه في مَنازِلِه، لا على حسابِ الشَّمسِ وسَيرِها؛ حِكمةً مِن اللهِ ورَحمةً وحِفظًا لدِينِه، لاشتراكِ النَّاسِ في هذا الحِسابِ، وتعَذُّرِ الغلَطِ والخطأِ فيه، فلا يدخُلُ في الدِّينِ مِن الاختلافِ والتَّخليطِ ما دخلَ في دينِ أهلِ الكتابِ .
4- قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ... في هذه الآيةِ إشارةٌ إلى أنَّ مَعرفةَ ضَبطِ التَّاريخِ نِعمةٌ أنعَمَ الله بها على البَشَرِ
.
بلاغة الآيتين:
1- قولُه تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
- قولُه: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً، أي: ذاتَ ضياءٍ، أو مُضيئةً، أو نَفْسَ الضِّياءِ، وفيه مُبالَغةٌ، وَالْقَمَرَ نُورًا، أي: ذا نورٍ، أو مُنوَّرًا، أو نفْسَ النُّورٍ، وفيه مُبالغةٌ
.
- ولَمَّا كانَت الشَّمسُ أعظمَ جِرْمًا خُصَّتْ بالضِّياءِ؛ لأنَّه هو الَّذي له سُطوعٌ ولَمَعانٌ، وهو أعظَمُ مِن النُّورِ ؛ لِقُوَّتِه وكَمالِه، وخُصَّ القمَرُ بالنُّورِ؛ لأنَّه أضعَفُ مِن ذلك الضِّياءِ .
- قولُه: يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ جملةٌ مُستأنَفةٌ ابتدائيَّةٌ، مَسوقةٌ للامتِنانِ بالنِّعمةِ، ولِتَسجيلِ المؤاخَذةِ على الَّذينَ لم يَهتَدوا بهذه الدَّلائلِ إلى ما تَحتَوي عليه مِن البيانِ، والإتيانُ بالفِعلِ المضارِعِ يُفَصِّلُ؛ لإفادةِ التَّكْرارِ .
- في قولِه: يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ خُصَّ مَن يَعلَمُ بتَفصيلِ الآياتِ لهم، مع أنَّه تعالى فَصَّل الآياتِ للجُهَلاءِ أيضًا؛ لأنَّ انتِفاعَهم بالتَّفصيلِ أكثرُ؛ فهُم الَّذين يَنتَفِعون بتَفصيلِ الآياتِ، ويتَدبَّرون بها في الاستِدْلالِ، والنَّظرِ الصَّحيحِ .
2- قولُه تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ
- قولُه: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ... فِيه تأكيدُ هذا الاستدلالِ بحَرفِ إِنَّ؛ لأجلِ تَنزيلِ المخاطَبين به الَّذين لم يَهتَدوا بتِلْك الدَّلائلِ إلى التَّوحيدِ مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ أنَّ في ذلك آياتٍ على الوَحدانيَّةِ، بعَدمِ جَرْيِهم على مُوجِبِ العلمِ .
- قولُه: لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ خَصَّ المتَّقينَ؛ لأنَّهم الَّذين يحذرون من الوُقوعِ في شَيءٍ مِمَّا يخالِفُ مُرادَ الله سُبحانه، ويَخافون العَواقِبَ، فيَحمِلُهم الخوفُ على التدَبُّرِ والنَّظَرِ ، وفيه مُناسَبٌة حسَنةٌ، حيث جُعِلَت الآياتُ هنا لقومٍ يتَّقون؛ لأنَّ السِّياقَ تعريضٌ بالمشرِكين الَّذين لم يهتَدوا بالآياتِ؛ لِيَعلَموا أنَّ بُعْدَهم عن التَّقوى هو سببُ حِرمانِهم مِن الانتِفاعِ بالآياتِ، وأنَّ نَفْعَها حاصِلٌ للَّذين يتَّقون، أي: يَحذَرون الضَّلالَ؛ فالمتَّقون هم المتَّصِفون باتِّقاءِ ما يوقِعُ في الخُسْرانِ، فيَبعَثُهم على تَطلُّبِ أسبابِ النَّجاحِ، فيتَوجَّهُ الفِكْرُ إلى النَّظرِ والاستِدْلالِ بالدَّلائلِ .
=========================
غريب الكلمات
المعنى الإجمالي
تفسير الآيات
الفوائد التربوية
الفوائد العلمية واللطائف
بلاغة الآيات
سُورةُ يُونُس
الآيات (7-10)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ
غريب الكلمات :
وَاطْمَأَنُّوا بِهَا: أي: سَكَنوا إليها، والطُّمأنينةُ والاطمِئنانُ: السُّكونُ بعد الانزِعاجِ
.
دَعْوَاهُمْ فِيهَا: أي: دُعاؤُهم وقولُهم وكلامُهم؛ فالدَّعوى تُطلَقُ على: الادِّعاءِ والدُّعاءِ والقَولِ كذلِك، وأصلُ (دعو): أنْ يُمِيلَ الشَّخصُ الشَّيءَ إليه بصَوتٍ وكَلامٍ يكونُ منه
.
المعنى الإجمالي:
يبَيِّنُ تعالى أنَّ الذينَ لا يتوقَّعونَ لِقاءَه يومَ القيامةِ، ورَضُوا بالحياةِ الدُّنيا بدلًا مِن الآخرةِ وسَكَنوا إليها، والذين هم عن آياتِه مُعرِضونَ؛ أولئك مَقَرُّهم ومَسكَنُهم النَّارُ في الآخرةِ؛ بسبَبِ ما كانوا يكسِبونَه من الكُفرِ والمعاصي.
والذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ يَهديهم اللهُ ويُرشِدُهم في الآخرةِ إلى جنَّاتِه؛ بسبَبِ إيمانِهم، تجري مِن تحتِهم الأنهارُ في جنَّاتِ النَّعيمِ، دُعاؤُهم في الجنَّةِ أن يقولوا: سُبحانَك يا أللهُ، وتَحيَّةُ بعضِهم لبعضٍ فيها: سلامٌ، وخاتِمةُ دُعائِهم أن يقولوا: الحمدُ للَّهِ رَبِّ العالَمينَ.
تفسير الآيات:
إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أقام اللهُ تعالى الدَّلائِلَ القاهِرةَ على صِحَّةِ القَولِ بإثباتِ الإلهِ الرَّحيمِ الحكيمِ، وعلى صحَّةِ القَولِ بالمَعادِ والحَشرِ والنَّشرِ؛ شَرَعَ بعْدَه في شرحِ أحوالِ مَن يَكفُرُ بها، وفي شَرحِ أحوالِ مَن يُؤمِنُ بها، فأمَّا شَرحُ أحوالِ الكافرينَ، فهو المذكورُ في هذه الآيةِ
.
إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا.
أي: إنَّ الَّذين لا يتوقَّعونَ لِقاءَنا يومَ القيامةِ، فلا يَخافونَ مِن لِقاءِ اللَّهِ، ولا يَطمَعونَ فيه، ولا يَخافونَ مِن عِقابِه، ولا يَطمَعونَ في ثوابِه .
وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا.
أي: ورضُوا بالحياةِ الدُّنيا بدلًا من الآخرةِ، وفرحوا بها ورَكَنوا وسَكَنوا إليها .
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ.
أي: والذين هم عن آياتِنا الكونيَّةِ والتَّنزيليَّةِ مُعرِضونَ، لا يتفَكَّرونَ فيها، ولا يَعتَبِرونَ بها .
أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8).
أي: أولئك الذين تلك صِفاتُهم، مَقَرُّهم ومَسكَنُهم في الآخرةِ: النَّارُ؛ بسبَبِ ما كانوا يكسِبونَه في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والشِّركِ والمعاصي .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لمَّا شَرَح الله تعالَى أحوالَ المنكرينَ والجاحدينَ في الآيةِ المتقدِّمةِ؛ ذكَر في هذه الآيةِ أحوالَ المؤمنينَ، فذكَر صفاتِهم أولًا، ثمَّ ذكَر ما لهم مِن الأحوالِ السَّنِيَّةِ والدَّرجاتِ الرَّفيعةِ ثانيًا .
فمناسبةُ ذكرِ هذه الآيةِ مقابلةُ أحوالِ الذينَ يكَذِّبونَ بلِقاءِ اللهِ بأضدادِها؛ تنويهًا بأهلِها وإغاظةً للكافرينَ .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ.
أي: إنَّ الذين آمَنوا بكُلِّ ما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحاتِ؛ يَزيدُهم ربُّهم في الدُّنيا هدًى إلى هداهم، ويُرشِدُهم في الآخرةِ إلى جنَّاتِه، وذلك بِسَببِ إيمانِهم .
كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] .
وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] .
تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
أي: تَجري مِن تحتِ هؤلاءِ- الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ- الأنهارُ، فتَجْري مِن تحتِ غُرَفِهم ومقاعِدِهم وسُرُرِهم في بساتينِ النَّعيم .
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10).
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ.
أي: دُعاءُ المُؤمِنينَ في الجنَّةِ أن يقولوا: سُبحانَك اللَّهُم، أي: ننزِّهُك يا اللهُ تنزيهًا مِن كلِّ عيبٍ ونَقصٍ .
عن جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما، قال: سمعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ أهلَ الجنَّةِ يأكلونُ فيها ويَشرَبونَ، ولا يَتفِلونَ ولا يَبولونَ، ولا يتغوَّطونَ ولا يَمتَخِطونَ. قالوا: فما بالُ الطَّعامِ؟! قال: جُشاءٌ ورَشحٌ كرَشحِ المِسكِ، يُلهَمونَ التَّسبيحَ والتَّحميدَ، كما تُلهَمونَ النَّفَسَ) ) .
وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ.
أي: وتحيَّةُ المؤمنينَ في الجنَّةِ: دعاءُ بَعضِهم لِبَعضٍ بالسَّلامةِ مِن كُلِّ سُوءٍ .
وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أي: وخاتِمةُ دُعائِهم أن يقولوا: الحمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ، أي: جميعُ المحامِدِ مُستحَقَّةٌ لله تعالى ربِّ العالمينَ؛ فهو وَحدَه الموصوفُ بالكَمالِ، مع محبَّتِه وتعظيمِه عزَّ وجلَّ
.
الفوائد التربوية :
1- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ في الآيةِ إشارةٌ إلى أنَّ البَهجةَ بالحياةِ الدُّنيا والرِّضا بها، يكونُ مِقدارُ التوغُّلِ فيهما بمِقدارِ ما يَصرِفُ عن الاستعدادِ إلى الحياةِ الآخرةِ، وليس ذلك بمُقتضٍ الإعراضَ عن الحياةِ الدُّنيا؛ فإنَّ اللهَ أنعَمَ على عبادِه بنِعَمٍ كثيرةٍ فيها، وجَبَ الاعترافُ بفَضْلِه بها، وشُكْرُه عليها، والتعَرُّفُ بها إلى مراتِبَ أعلى، هي مراتبُ حياةٍ أخرى، والتزوُّد لها
.
2- قال تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ جُعِلَ الإيمانُ وَحْدَه سبَبَ الهدايةِ؛ لأنَّه هو الباعِثُ النَّفسيُّ لها
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال الله تعالى: أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ في هذه اللَّفظةِ رَدٌّ على الجَبريَّةِ
، فقد أَثْبَتَ الله تعالى للعبادِ كَسْبًا، والكَسْبُ: هو الفعلُ الَّذي يعودُ على فاعلِه منه نفعٌ أو ضَرَرٌ، فالعبادَ فاعِلونَ لأفعالِهم حقيقَةً، ويَسْتَوْجِبونَ عليها المدحَ والذَّمَّ .
2- قَولُ الله تعالى: أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ الباءُ في قَولِه: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مُشعِرٌ بأنَّ الأعمالَ السَّابِقةَ هي المؤثِّرةُ في حُصولِ هذا العذابِ، ونظيرُه قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج: 10] .
3- قال الله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أضافها اللهُ إلى النَّعيمِ؛ لاشتمالِها على النَّعيمِ التَّامِّ؛ نعيمِ القَلبِ: بالفَرَحِ والسُّرورِ، والبهجةِ والحُبورِ، ورؤيةِ الرَّحمنِ وسَماعِ كَلامِه، والاغتباطِ برِضاه وقُربِه، ولقاءِ الأحبَّةِ والإخوانِ، والتمتُّعِ بالاجتماعِ بهم، وسَماعِ الأصواتِ المُطرِباتِ، والنَّغَماتِ المُشجِياتِ، والمَناظِر المُفرِحات، ونعيمِ البَدَنِ: بأنواعِ المآكِلِ والمَشارِبِ والمناكِحِ، ونحوِ ذلك ممَّا لا تَعلَمُه النُّفوسُ، ولا خطَرَ بِبالِ أحدٍ، أو قدَرَ أن يَصِفَه الواصِفونَ .
4- قولُه تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ووَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فيه أنَّ التَّسبيحَ والحَمدَ قد يُسمَّى دُعاءً، وكذلك التهليلُ، فعن ابنِ عبَّاسٍ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ عند الكَربِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ العظيمُ الحَليمُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ رَبُّ العَرشِ العَظيمِ، لا إلهَ إلَّا اللهُ ربُّ السَّمَواتِ، ورَبُّ الأرضِ، ورَبُّ العَرشِ الكَريمِ )) ، وكان السَّلَفُ يُسَمُّونَه دعاءَ الكَربِ، وعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا بها في بطنِ الحُوتِ: لا إلهَ إلَّا أنت سُبحانَك إنِّي كنتُ مِن الظَّالِمينَ؛ فإنَّه لن يدعُوَ بها مُسلِمٌ في شَيءٍ إلَّا استُجيبَ له) ) .
5- وَجهُ ذِكْرِ: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ في عدَدِ أحوالِهم أنَّها تدُلُّ على أنَّ ما هُم فيه مِن النَّعيمِ هو غاياتُ الرَّاغِبينَ بحيثُ إن أرادوا أن يَنعَموا بمقامِ دُعاءِ ربِّهم، الَّذي هو مَقامُ القُربِ لم يَجِدوا أنفُسَهم مُشتاقِين لشيءٍ يَسأَلونه، فاعتَاضوا عَن السُّؤالِ بالثَّناءِ على ربِّهم، فأُلهِموا إلى الْتِزامِ التَّسبيحِ؛ لأنَّه أدَلُّ لفظٍ على التَّمْجيدِ والتَّنزيهِ، فهو جامِعٌ للعِبارةِ عَن الكمالاتِ .
6- يُستحَبُّ للدَّاعي أن يقولَ في آخرِ دُعائِه (الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ)، كما قال الله تعالى عن أهلِ الجنَّةِ: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
7- قولُه: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هذا فيه دلالَةٌ علَى أنَّ اللَّهَ تعالَى هو المحمودُ أبدًا، المعبودُ على طولِ المَدَى؛ ولهذا حَمِد نفسَه عندَ ابتداءِ خَلْقِه واستمرارِه، وفي ابتداءِ كتابِه، وعندَ ابتداءِ تنزيلِه، حيثُ يقولُ تعالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الْكَهْفِ: 1] ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ [الأنعام: 1] إلى غيرِ ذلك مِن الأحوالِ الَّتي يطولُ بسطُها ، ويختمُ الأمورَ بالحَمدِ، كقَولِه تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزُّمَر: 75]، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 45] ، وهو سبحانه لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
[القَصص: 70].
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ
- قولُه: إَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا استِئْنافُ وعيدٍ للَّذين لم يُؤمِنوا بالبَعثِ، ولا فكَّروا في الحياةِ الآخِرَةِ، ولم يَنظُروا في الآياتِ، نشَأ عَن الاستدلالِ على ما كفَروا به مِن ذلك؛ جَمعًا بينَ الاستِدلالِ المناسبِ لأهلِ العقولِ، وبينَ الوعيدِ المناسِبِ للمُعرِضين عن الحقِّ. ولِوُقوعِ هذه الجملةِ مَوقِعَ الوعيدِ الصَّالحِ لأَنْ يَعلَمَه النَّاسُ كلُّهم مُؤمِنُهم وكافِرُهم؛ عدَل فيها عن طريقةِ الخطابِ بالضَّميرِ إلى طريقةِ الإظهارِ، وجيءَ بالموصولةِ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ...؛ للإيماءِ إلى أنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ في حُصولِ الخبَرِ
.
- وفي الكلامِ مَحذوفٌ، والتَّقديرُ: ورَضُوا بالحياةِ الدُّنيا مِن الآخرةِ، كقولِه: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] .
- وفيه اختيارُ صيغةِ الماضي (رَضُوا- اطْمَأَنُّوا)؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ والتَّقرُّرِ، كما أنَّ اختِيارَ صِيغةِ المستقبَلِ لَا يَرْجُونَ؛ للإيذانِ باستِمْرارِ عدَمِ الرَّجاءِ .
- قولُه: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث أُعيد الموصولُ؛ للاهتِمامِ بالصِّلةِ، والإيماءِ إلى أنَّها وحْدَها كافيةٌ في استِحْقاقِ ما سَيُذكَر بعدَها مِن الخبَرِ، وإنَّما لم يُعِدِ الموصولَ في قولِه: وَرَضُوا بالْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ لأنَّ الرِّضا بالحياةِ الدُّنيا مِن تَكْملةِ مَعْنى الصِّلةِ الَّتي في قولِه: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا .
2- قولُه تعالى: أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فيه الإتيانُ باسْمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ لِزِيادَةِ إحصاءِ صِفاتِهم في أذهانِ السَّامِعين، ولِمَا يُؤْذِنُ به مَجيءُ اسْمِ الإشارةِ مُبتَدَأً عَقِبَ أوصافِهم مِن التَّنبيهِ على أنَّ المشارَ إليه جديرٌ بالخبَرِ مِن أجلِ تلك الأوصافِ .
- قَولُ اللهِ تعالى: أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ في تَسميةِ دارِ العذابِ (مأوًى) معنًى دقيقٌ في البلاغةِ، يُشعرُ بأنَّ أولئك المُطمئِنِّينَ بالشَّهواتِ، والغافلينَ عن الآياتِ؛ ليس لهم مصيرٌ يَلجَؤونَ إليه بعد هَولِ الحِسابِ، إلَّا جَهنَّمُ دارُ العذابِ، فوَيلٌ لِمَن كانت هذه الدَّارُ له كالمَلجأِ والمَوئِل؛ إذ لا مأوَى له يلجأُ إليه بَعدَها .
- قولُه: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فيه الإتيانُ بـ(ما)؛ للإيماءِ إلى عِلَّةِ الحُكمِ، أي: إنَّ مَكْسوبَهم سببٌ في مَصيرِهم إلى النَّارِ، فأفاد تأكيدَ السَّببيَّةِ المفادَةِ بالباءِ، والإتيانُ بـ(كان)؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا المكسوبَ دَيدَنُهم .
- ومَجيءُ قولِه: يَكْسِبُونَ بصِيغةِ المضارِعِ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم لم يَزالوا مُستمِرِّين على ذلك ماضِيَ زَمانِهم ومُستَقبَلَه؛ ففيه دَلالةٌ على التَّكريرِ، فيَكونُ دَيدَنُهم تَكْريرَ ذلك الَّذي كسَبوه .
3- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ ... جملةٌ مستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لِتَكونَ أحوالُ المؤمِنين مُستقِلَّةً بالذِّكْرِ غيرَ تابعةٍ في اللَّفظِ لأحوالِ الكافِرين، وهذا مِن طُرقِ الاهتِمامِ بالخبَرِ .
- قَولُ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وصَفَهم أوَّلًا بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ بصيغةِ الماضي؛ لبيانِ صِنفِهم وفريقِهم المُقابِل للفَريقِ الذي ذُكِرَ قبلَهم، وأخبَرَ عن هدايتِه لهم بصيغةِ المضارِعِ يَهْدِيهِمْ الدالَّةِ على الاستمرارِ والتجَدُّدِ .
- وفي قولِه: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ أُوثِرَ الالتِفاتُ؛ تَشْريفًا لهم بإضافةِ الرَّبِّ، وإشعارًا بعِلَّةِ الهدايةِ ، وفي العُدولِ عَنِ اسمِ الجلالةِ العَلَمِ- حيثُ لم يَقُلْ: (يَهْديهم اللهُ)- إلى وصفِ الرُّبوبيَّةِ مُضافًا إلى ضَميرِ الَّذين آمَنوا رَبُّهُمْ: تنويهٌ بشأنِ المؤمنينَ وشأنِ هِدايتِهم، بأنها ناتجةٌ عن كونِه سبحانَه مولى لأوليائِه؛ فشَأنُها أن تَكونَ عطيَّةً كاملةً مَشُوبةً برحمةٍ وكرامةٍ .
4- قولُه تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الاقتِصارُ على كَونِ دَعْواهُم فيها كَلِمةَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ يُشعِرُ بأنَّهم لا دَعْوى لهم في الجنَّةِ غيرَ ذلك القولِ؛ لأنَّ الاقتِصارَ في مَقامِ البيانِ يُشعِرُ بالقَصْرِ- وإن لم يَكُنْ هو مِن طُرقِ القَصْرِ، لكنَّه يُستَفادُ مِن المقامِ- ولكنَّ قولَه: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُفيدُ أنَّ هذا التَّحميدَ مِن دَعْواهم؛ فتَحَصَّل مِن ذلك أنَّ لهم دَعْوى وخاتِمةَ دَعْوى .
=========================
سُورةُ يُونُس
الآيتان (11-12)
ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
غريب الكلمات:
طُغْيَانِهِمْ: أي: عُتُوِّهِمْ وتكبُّرِهم. وأصلُ الطُّغيانِ: مُجاوزةُ الحدِّ
.
يَعْمَهُونَ: أي: يتردَّدونَ ويتَحيَّرونَ. وأصلُ (عمه): يدلُّ على حَيرةٍ، وقِلَّةِ اهتداءٍ
.
المعنى الإجمالي:
يُبَيِّنُ اللهُ تعالى أنَّه لو يعَجِّلُ للنَّاسِ الشَّرَّ كاستِعجالِهم بالخَيرِ، لَهَلكوا، ويَترُكُ اللهُ الذينَ لا يَرجُونَ لِقاءَه في الآخرةِ في ضَلالِهم متحَيِّرينَ مُتَردِّدينَ.
وإذا مَسَّ الإنسانَ الضُّرُّ دعا ربَّه عَزَّ وجَلَّ، في جميعِ أحوالِه: مُضطجِعًا على جَنْبِه أو قاعدًا أو قائِمًا، فلمَّا كشَفَ اللهُ عنه ضُرَّه، استمَرَّ على ما كان عليه مِنَ الكُفرِ أو المعاصي، ونَسِيَ أو تناسى ما كان عليه مِن الشِّدَّةِ، ولم يشكُرِ اللهَ الذي فرَّجَ عنه، وكأنَّه لم يَدْعُه إلى رَفْعِ ما أصابَه، كذلك زُيِّنَ للكافرين المُجاوِزينَ الحَدَّ في الكُفرِ والعِصيانِ ما كانوا يَعملونَ.
تفسير الآيتين:
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وصَفَ الكُفَّارَ بأنَّهم لا يرَجُونَ لِقاءَ اللهِ، ورَضُوا بالحياةِ الدُّنيا واطمَأنُّوا بها، وكانوا عن آياتِ الله غافلينَ- بَيَّنَ أنَّ مِن غَفلَتِهم أنَّ الرَّسولَ متى أنذَرَهم استعجَلوا العذابَ؛ جهلًا منهم وسَفَهًا
.
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الله عَجَبَ النَّاسِ مِن إيحائِه تعالى إلى رَجُلٍ منهم، وكان فيما أُوحِيَ إليه الإنذارُ والتَّبشيرُ، وكانوا يستهِزئونَ بذلك، ولا يعتَقِدونَ حُلولَ ما أنذَروه بهم، ثمَّ استطرَدَ مِن ذلك إلى وحدانيَّتِه تعالى، وذِكْرِ إيجادِه العالَمَ، ثم إلى تقسيمِ النَّاسِ إلى مؤمِنٍ وكافرٍ، وذِكْرِ منازِلِ الفريقينِ- رجع إلى أنَّ ذلك المُنذَرَ به الذي طلَبوا وقوعَه عَجَلًا، لو وقَعَ لَهَلكوا، فلم يكُن في إهلاكِهم رجاءُ إيمانِ بَعضِهم، وإخراجُ مُؤمنٍ مِن صُلبِهم، بل اقتضَتْ حِكمتُه ألَّا يُعجِّلَ لهم ما طَلَبوه؛ لِمَا ترتَّبَ على ذلك .
وأيضًا هذه الجُملةَ مَعطوفةٌ على جملةِ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا الآية، فحيث ذَكَرَ عذابَهم الذي هم آيِلونَ إليه، ناسَبَ أن يبَيِّنَ لهم سبَبَ تأخيرِ العذابِ عنهم في الدُّنيا؛ لتُكشَفَ شُبهةُ غُرورِهم، ولِيَعلَمَ الذين آمنوا حكمةً مِن حِكَمِ تصَرُّفِ اللهِ في هذا الكَونِ .
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ.
أي: ولو يُعجِّلُ الله للنَّاسِ الشرَّ إذا دَعَوْا به، كاستعجالِهم بالخيرِ ، لهلَكوا .
عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ، رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (( لا تَدْعُوا على أنفُسِكم، ولا تَدْعُوا على أولادِكم، ولا تَدعُوا على أمْوالِكم؛ لا تُوافِقوا مِن اللهِ ساعةً يُسألُ فيها عطاءً، فيستجيبَ لكم)) .
فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
أي: فنَترُكُ الذين لا يُؤمِنونَ بلِقائِنا، فلا يخافونَ عِقابَنا، ولا يَطمَعونَ في ثَوابِنا، نَترُكُهم في تَمَرُّدِهم مُترَدِّدينَ مُتحَيِّرينَ، لا يَهتَدونَ إلى الحَقِّ .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ [النمل: 4]
وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى حكى عن الكافرينَ أنَّهم يَستعجِلونَ في نزولِ العَذابِ، ثمَّ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّهم كاذِبونَ في ذلك الطَّلَبِ والاستعجالِ؛ لأنَّه لو نزَلَ بالإنسانِ أدنى شَيءٍ يَكرَهُه ويُؤذيه، فإنَّه يتضَرَّعُ إلى اللهِ تعالى في إزالَتِه عنه، وفي دَفْعِه عنه، وذلك يدُلُّ على أنَّه ليس صادِقًا في هذا الطَّلَبِ .
وأيضًا لَمَّا استدعَى الكافِرونَ حُلولَ الشَّرِّ بهم، وأنَّه تعالى لا يفعَلُ ذلك بطَلَبِهم، بل يترُكُ مَن لا يرجو لقاءَه يَعمَهُ في طُغيانِه؛ بَيَّنَ شِدَّةَ افتقارِ النَّاسِ إليه، واضطرارَهم إلى استمطارِ إحسانِه؛ مُسيئِهم ومُحسِنِهم، وأنَّ مَن لا يرجو لِقاءَه مُضطَرٌّ إليه حالةَ مَسِّ الضُّرِّ له، فكُلٌّ يلجأُ إليه حينَئذٍ، ويُفرِدُه بأنَّه القادِرُ على كَشفِ الضُّرِّ .
وأيضًا فإنَّ هذه الآيةَ عَطفٌ على جُملةِ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ للنَّاسِ الشَّرَّ؛ لأنَّ الغَرَضَ الأهَمَّ مِن كِلتَيهما، هو الاعتبارُ بذَميمِ أحوالِ المُشرِكينَ؛ تَفظيعًا لحالِهم، وتحذيرًا مِن الوقوعِ في أمثالِها، بقرينةِ تَنهيةِ هذه الآيةِ بِجُملةِ: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فلمَّا بَيَّنَ في الآية السَّابقةِ وَجْهَ تأخيرِ عَذابِ الاستئصالِ عنهم، وإرجاءِ جَزائِهم إلى الآخرةِ، بَيَّنَ في هذه الآيةِ حالَهم عِندَما يَمَسُّهم شيءٌ من الضُّرِّ، وعِندَما يُكشَفُ الضُّرُّ عنهم .
وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا.
أي: وإذا أصابَ الإنسانَ الشِّدَّةُ والكَربُ اجتهَدَ في دعائِنا في جميعِ أحوالِه؛ مُضطَجِعًا على جَنْبِه، أو قاعدًا، أو قائمًا .
كما قال تعالى: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [لقمان: 32] .
وقال سُبحانه: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] .
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ.
أي: فلمَّا فَرَّجْنا عن الإنسانِ المُضطَرِّ، واستجَبْنا دُعاءَه، استمَرَّ على ما كان عليه مِن الكُفرِ أو المعاصي، ونَسِيَ أو تناسى ما كان فيه مِن الشِّدَّةِ، ولم يتَّعِظْ بذلك، ولم يَشكُرِ، كأنَّه لم يَدْعُنا إلى رَفعِ ما أصابَه !
كما قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 65-66] .
وقال سُبحانه: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8] .
كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
أي: كما زُيِّنَ للإنسانِ الدُّعاءُ عند البَلاءِ، والإعراضُ عند الرَّخاءِ، واستمرارُه على ما كان عليه مِن كُفرانٍ بعد كَشْفِ ضُرِّه، كذلك زُيِّنَ للكافرين المُجاوِزينَ الحَدَّ في الكُفرِ والعِصيانِ ما كانوا يَعملونَه من ذلك
.
الفوائد التربوية:
قال اللهُ تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. المَقصودُ مِن هذه الآيةِ بيانُ أنَّ الإنسانَ قَليلُ الصَّبرِ عندَ نُزولِ البَلاءِ، قليلُ الشُّكرِ عندَ وِجدانِ النَّعماءِ والآلاءِ؛ فإذا مَسَّه الضُّرُّ أقبَلَ على التضَرُّعِ والدُّعاءِ، مُضطَجِعًا أو قائمًا أو قاعِدًا، مجتَهِدًا في ذلك الدُّعاءِ، طالبًا مِن اللهِ تعالى إزالةَ تلك المِحنةِ، وتبديلَها بالنِّعمةِ والمِنحةِ، فإذا كشَفَ تعالى عنه ذلك بالعافيةِ، أعرَضَ عن الشُّكرِ، ولم يتذَكَّرْ ذلك الضُّرَّ، ولم يَعرِفْ قَدْرَ الإنعامِ، وصار بمنزلةِ مَن لم يَدْعُ اللهَ تعالى لِكَشفِ ضُرِّه، وذلك يدُلُّ على ضَعفِ طبيعةِ الإنسانِ، وشِدَّةِ استيلاءِ الغَفلةِ والشَّهوةِ عليه، وإنَّما ذكَرَ الله تعالى ذلك؛ تنبيهًا على أنَّ هذه الطريقةَ مَذمومةٌ، بل الواجِبُ على الإنسانِ العاقِلِ أن يكونَ صابِرًا عند نزولِ البَلاءِ، شاكِرًا عند الفَوزِ بالنَّعماءِ، ومِن شَأنِه أن يكونَ كَثيرَ الدُّعاءِ والتضَرُّعِ في أوقاتِ الرَّاحةِ والرَّفاهيةِ؛ حتى يكونَ مُجابَ الدَّعوةِ في وقتِ المِحنةِ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قولُه تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ هو إجمالٌ يُنبئُ بأنَّ الله جعَلَ نِظامَ هذا العالَمِ على الرِّفقِ بالمخلوقاتِ، واستبقاءِ الأنواعِ إلى آجالٍ أرادَها، وجعَلَ لهذا البَقاءِ وَسائِلَ الإمدادِ بالنِّعَمِ التي بها دوامُ الحياةِ، فالخيراتُ المُفاضةُ على المخلوقاتِ في هذا العالَم كثيرةٌ، والشُّرورُ العارِضةُ نادرةٌ، ومُعظَمُها مُسبَّبٌ عن أسبابٍ مَجعولةٍ في نظامِ الكَونِ وتصَرُّفاتِ أهلِه، ومنها ما يأتي على خِلافِ العادةِ عند محَلِّ آجالِه التي قَدَّرَها الله تعالى بِقَولِه تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يونس: 49] ، وقولِه تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ
[الرعد: 38] .
2- في قَولِ اللهِ تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ جاء (الضرُّ) بالألف واللام؛ لأنَّه إشارةٌ إلى ما تقدَّمَ من الشَّرِّ في قولِه تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ؛ فإنَّ الضُّرَّ والشَّرَّ واحِدٌ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فائدةُ ذِكرِ هذه الأحوالِ أنَّ المضرورَ لا يزالُ داعيًا، لا يفتُرُ عن الدُّعاءِ، إلى أن يزولَ عنه الضُّرُّ، سواءٌ كان مُضطَجِعًا أو قاعدًا أو قائمًا .
4- قَولُ اللهِ تعالى: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قد أُسنِدَ التَّزيينُ هنا إلى المَفعولِ؛ لأنَّه المقصودُ بالعِبرةِ دونَ فاعِلِه
.
بلاغة الآيتين:
1- قولُه تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
- قولُه: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ فيه وَضْعُ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ موضِعَ (تَعْجيلِه لهم الخَيرَ)- لأنَّ أصلَه: (ولو يُعجِّلُ اللهُ للنَّاسِ الشَّرَّ تَعْجيلَه لهم الخيرَ)-؛ إشعارًا بسُرعةِ إجابَتِه لهم، وإسعافِه بِطَلِبَتِهم، حتَّى كأنَّ استِعْجالَهم بالخَيرِ تعجيلٌ لهم
وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.
2- قولُه تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- قولُه: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ وصفٌ للمُستقبَلِ، وقوله: فَلَمَّا كَشَفْنَا للماضي؛ للدَّلالةِ على أنَّه هكذا كان فيما مَضَى، وهكذا يَكونُ في المستقبَلِ؛ فدَلَّ ما في الآيةِ مِن الفعلِ المستقبَلِ على ما فيه مِن المعنى المستقبَلِ، وما فيها مِن الفِعْلِ الماضي على ما فيه مِن المعنى الماضي .
- وزيادةُ قولِه: أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا؛ لِقَصْدِ تعميمِ الأحوالِ وتَكْميلِها؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ الإطنابِ لِزِيادَةِ تمثيلِ الأحوالِ، أي: دَعانا في سائرِ الأحوالِ لا يُلْهيه عَن دُعائِنا شيءٌ .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ حيث ابتَدَأ بالحالةِ الشَّاقَّةِ دَعَانَا لِجَنْبِهِ، وهي اضطِجاعُه وعَجْزُه عن النُّهوضِ، وهي أعظَمُ في الدُّعاءِ وآكَدُ، ثُمَّ بما يَليها، وهي حالةُ القُعودِ: أَوْ قَاعِدًا، وهي حالَةُ العَجزِ عن القيامِ، ثمَّ بما يَليها وهي حالةُ القيامِ: أَوْ قَائِمًا، وهي حالةُ العَجزِ عَن المشيِ، فتَراه يَضْطَرِبُ ولا يَنهَضُ للمَشيِ كحالَةِ الشَّيخِ الهَرِمِ ، وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.
- قولُه: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ تذييلٌ يَعُمُّ ما تقَدَّم وغيرَه، والإشارةُ إلى التَّزيينِ المستَفادِ هنا، وهو تزيينُ إعراضِهم عن دُعاءِ اللهِ في حالةِ الرَّخاءِ .
=================
سُورةُ يُونُس
الآيتان (13-14)
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ
غريب الكلمات:
الْقُرُونَ: جمعُ قَرْنٍ، والقرنُ: القومُ أو الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ المقترنونَ في زمنٍ واحدٍ، غَيْر مُقَدَّرٍ بمدةٍ مُعَيَّنةٍ، وقيل: مدَّة القرنِ مئةُ سنةٍ، وقيل: ثمانونَ، وقيل: ثلاثون، وقيل غيرُ ذلك، وهو مأخوذٌ مِن الاقترانِ، وهو اجتماعُ شيئينِ، أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصلُ (قرن): يدلُّ على جمعِ شيءٍ إلى شيءٍ
.
خَلَائِفَ: أي: سُكَّانًا يخلُفُ بَعضُكم بعضًا، وأصلُ (خلف): أن يَجيءَ شَيءٌ بعدَ شَيءٍ يقومُ مَقامَه
.
المعنى الإجمالي:
يُخاطِبُ اللهُ تعالى المُشرِكينَ أنَّه قد أهلَكَ الأمم مِن قَبْلِهم لَمَّا ظَلَموا بإشراكِهم باللهِ، وتكذيبِهم رُسُلَه، وأتتْ تلك الأممَ الماضيةَ رُسُلُ اللهِ إليهم بالمُعجِزاتِ والبَراهينِ الواضِحاتِ، فما كانوا ليُؤمِنوا؛ لأنَّ اللهَ طَبَع على قُلوبِهم؛ لِشِدَّةِ كُفرِهم، ومُعانَدتِهم للحَقِّ، كذلك يَجزي الله القَومِ المُجرِمينَ.
ثم جَعَلَهم خلائِفَ في الأرضِ من بعدِ أولئك الأمَمِ التي أهلَكَها اللهُ، ليَنظُرَ كيف يَعملونَ.
تفسير الآيتين:
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّه عاد الخِطابُ إلى المُشرِكينَ عَودًا على بَدْئِه، في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ... إلى قَولِه لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس: 3- 5] بمناسبةِ التَّماثُلِ بينهم وبين الأُمَمِ قَبْلَهم في الغُرورِ بتَأخيرِ العَذابِ عنهم، حتى حَلَّ بهم الهلاكُ فجأةً، وهذه الآيةُ تَهديدٌ ومَوعظةٌ بما حلَّ بأمثالِهم
.
وأيضًا لَمَّا كان مَحَطُّ نظَرِ الكافرينَ الدُّنيا، وكان ما سبَقَ صَريحًا في الإمهالِ للظَّالِمينَ، والإحسانِ إلى المُجرِمينَ؛ أتبَعَه بِقَولِه تعالى مُهَدِّدًا لهم، رادعًا عمَّا هم فيه :
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ.
أي: ولقد أهلَكْنا بالاستئصالِ الأمم الماضيةِ التي كانت قَبْلَكم- أيُّها المُشرِكونَ - لَمَّا أشرَك أهلُها باللهِ، وكَذَّبوا رُسُلَه، وخالفوا أمْرَه ونَهْيَه .
كما قال سُبحانه: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [السجدة: 26] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [ق: 36] .
وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: وأتت الأممَ الماضيةَ رُسُلُ اللهِ بالمُعجِزاتِ والبَراهينِ الواضِحةِ التي تدُلُّ على صِدقِهم .
كما قال تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة: 70] .
وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ.
أي: فلم يكُن أهلُ القُرونِ الماضيةِ لِيُؤمِنوا برُسُلِ اللهِ الذين جاؤوهم بالمُعجِزاتِ؛ لأنَّ اللهَ طبَعَ على قُلوبِهم لشِدَّةِ كُفرِهم، ومُعانَدتِهم للحَقِّ .
كما قال تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف: 101] .
وقال سُبحانه: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ [يونس: 74] .
كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ.
أي: كما أهلَكْنا أهلَ القُرونِ الماضيةِ مِن قَبلِكم- أيُّها المُشرِكونَ- بسبَبِ شِرْكِهم، كذلك نُهلِكُكم إذا لم تَتوبوا وتُؤمِنوا باللهِ ورُسُلِه، ونُهلِكُ كُلَّ مُشرِكٍ وكافرٍ كذلك .
كما قال سبحانه: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ [المرسلات: 16-18] .
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ هذا الخِطابَ مَعطوفٌ على الذي قَبلَه، أي: ثمَّ جَعلْناكم خلائفَ في الأرضِ مِن بَعدِ أولئك الأقوامِ كُلِّهم بما آتيناكم في هذا الدِّينِ مِن أسبابِ المُلكِ والحُكمِ، وقَدَّرناه لكم باتِّباعِه، إذ كان الرَّسولُ الذي به جاءَكم هو خاتَمَ النَّبيِّينَ، فلا يُوجَدُ بعد أمَّتِه أمَّةٌ أخرى لنبيٍّ آخَرَ، فاللهُ يُبشِّرُ قَومَ مُحمَّدٍ وأمَّةَ مُحمَّدٍ بأنَّها ستَخلُفُهم في الأرضِ، إذا آمَنَت به، واتَّبَعَت النُّورَ الذي أُنزِلَ معه .
وأيضًا لَمَّا صَرَّحَ تعالى بأنَّ الجزاءَ المذكورَ عامٌّ لكُلِّ مُجرمٍ، أتبَعَه قَولَه: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ أي: أيُّها المُرسَلُ إليهم أشرَفُ رُسُلِنا خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيتعَلَّقُ نظَرُنا بأعمالِكم موجودةً؛ تخويفًا للمُخاطَبينَ مِن أن يُجرِموا فيُصيبَهم ما أصابَ مَن قَبْلَهم .
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم
أي: ثمَّ جَعَلْناكم سكَّانًا في الأرضِ، تكونون فيها مِن بَعدِ الأمَمِ الماضيةِ التي أهلَكْناها .
لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.
أي: استَخلَفْناكم بَعْدَهم؛ لِنَنظُرَ أيَّ عَمَلٍ تَعملونَ من أعمالِ الخَيرِ أو الشَّرِّ، فنُجازيكم عليه .
عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الدُّنيا حُلوةٌ خَضِرةٌ ، وإنَّ اللهَ مُستَخلِفُكم فيها، فينظُرُ كيف تَعمَلونَ ))
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- سبَبُ هلاكِ الأُمَمِ السَّابقةِ وُقوعُ الظُّلمِ مِنهم؛ قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا
.
2- قولُه تعالى: لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ مِن أدلَّةِ إثباتِ الصِّفاتِ الاختياريَّةِ لِلَّهِ تعالى؛ ففيه إثباتُ صِفةِ النَّظَرِ، فإنَّ اللامَ هنا هي لامُ (كي)، وهي تقتضي أنَّ ما بَعدَها متأخِّرٌ عن المعلولِ، فنَظَرُه لـ كَيْفَ تَعْمَلُونَ هو بعدَ جعْلِهم خلائفَ
.
بلاغة الآيتين:
1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ
- قولُه: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ فيه توكيدُ التَّهديدِ والوَعيدِ؛ حيثُ أُكِّدَت الجُملةُ بلامِ القسَمِ و(قد) الَّتي للتَّحقيقِ
.
- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا الخِطابُ لأمَّةِ الدَّعوةِ المُحمَّديةِ، وُجِّهَ أوَّلًا وبالذَّاتِ إلى قَومِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأهلِ وَطَنِه مكَّةَ؛ إذ أُنزِلَت السُّورةُ فيها، فهو التفاتٌ يُفيدُ مَزيدَ التَّنبيهِ، وتوجيهَ أذهانِ المُخاطَبينَ لِمَوضوعِه .
- قولُه: وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا اللَّامُ لِتَأكيدِ النَّفيِ، أي: وما صَحَّ وما استَقام لهم أن يُؤمِنوا؛ لِفَسادِ استِعْدادِهم، وخِذْلانِ اللهِ تعالى إيَّاهم. أو: ما كانوا يُؤمِنون حقًّا، تأكيدًا لِنَفيِ إيمانِهم .
- قولُه: وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا على القولِ بأنَّ الضَّميرَ عائدٌ على أهلِ مكَّةَ، فيَكونُ الْتِفاتًا؛ لأنَّه خرَج مِن ضميرِ الخطابِ إلى ضَميرِ الغيبةِ، ويَكونُ مُتَّسِقًا معَ قولِه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيهِمْ .
- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا، بالواوِ تَبعًا لها في قولِه: وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وقال في موضعٍ آخَرَ مِن سورةِ يونُسَ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ [يونس: 74] ، وكذلك في سورةِ الأعرافِ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ [الأعراف: 101] بالفاءِ للتَّعقيبِ، على أصلِها .
==================
سُورةُ يُونُس
الآيات (15-17)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
المعنى الإجمالي:
يبَيِّنُ تعالى أنَّه إذا قُرئَ على المُشركينَ آياتُ القُرآنِ واضحاتٍ، دالَّاتٍ على الحَقِّ، قال المُشرِكونَ- الذين يكذِّبونَ بالبَعثِ- لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أحضِرْ قُرآنًا آخَرَ ليس فيه ما نَكْرَه، أو غيِّرْه بنَفسِك على الوَجهِ الذي نحِبُّ، فأمَرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُجيبَهم قائلًا: لا يحِقُّ لي أن أغيِّرَه مِن قِبَلِ نَفسي، ما أتَّبِعُ إلَّا ما يوحيهُ اللَّهُ إليَّ؛ إني أخافُ إن عصيتُ ربِّي عذابَ يومٍ عَظيمٍ، وهو يومُ القيامةِ.
وأمَرَه أيضًا أن يقولَ لهم: لو شاءَ اللهُ ما تَلَوتُ عليكم القُرآنَ، ولا أعلَمَكم اللهُ به؛ فقد أقمْتُ فيكم- يا أهلَ مكَّةَ- حِينًا طويلًا قبلَ أن يُوحَى إليَّ هذا القُرآنُ، أفلا تَعقِلونَ؟!
فلا أحَدَ أظلَمُ ممَّن تقوَّلَ على اللهِ الكَذِبَ، أو كذَّبَ بآياتِه؛ إنَّه لا يُفلِحُ المُجرِمونَ.
تفسير الآيات:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بُدِئَت السُّورةُ بالكتابِ الحكيمِ (القُرآن)، وإنكارِ المُشرِكينَ للوَحيِ بشُبهتِهم المعروفةِ، وسِيقَت بَعدَها الآياتُ في إقامةِ الحُجَجِ عليهم؛ مِن خَلقِ العالَمِ عُلْويِّه وسُفلِيِّه، ومِن طبيعةِ الإنسانِ وتاريخِه، متضمِّنةً لإثباتِ أهَمِّ أركانِ الدِّينِ، وهو الوحيُ والتَّوحيدُ والبَعثُ- جاءت هذه الآياتُ الثَّلاثُ بعد ذلك في شأنِ الكتابِ نَفسِه، وتفنيدِ ما اقتَرَحه المُشرِكونَ على الرَّسولِ فيه، وحُجَّتِه البالغةِ عليهم، في كونِه وَحيًا مِن اللهِ تعالى
.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ.
أي: وإذا قُرئَ على مُشرِكي قُريشٍ آياتُ القُرآنِ واضحاتٍ دالَّاتٍ على الحَقِّ، قال الذين يكَذِّبونَ بالبَعثِ، ولا يخافونَ عِقابَنا، ولا يَطمعونَ في ثَوابِنا: أحضِرْ- يا محمَّدُ- قُرآنًا آخَرَ ليس فيه ما نَكْرَهُ مِن التَّوحيدِ، والنَّهيِ عن الشِّركِ، وعَيبِ آلهَتِنا، وذِكرِ البَعثِ والنُّشورِ، أو غيِّرْ هذا القُرآنَ بنَفسِك على الوَجهِ الذي نُحِبُّ .
قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي.
أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ الكُفَّارِ: لا يحقُّ لي أن أُغيِّرَ القُرآنَ بمَحضِ رأيي، ومُقتضَى اجتهادِي، بِغَيرِ وَحْيٍ مِن اللَّهِ؛ فليس لي مِن الأمرِ شَيءٌ .
إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ.
أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ الكُفَّارِ: إنَّما أنا عبدٌ مأمورٌ، ليس لي إلَّا أن أتَّبِعَ ما يُوحيه اللَّهُ إليَّ ويأمُرُني به، مِن غَيرِ زيادةٍ ولا نُقصانٍ، ولا تبديلٍ ولا تَحريفٍ .
إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
أي: إنِّي أخشى- إن خالَفْتُ أمْرَ اللهِ، وبدَّلْتُ شَيئًا مِن كِتابِه- عذابَ يومِ القيامةِ العظيمِ الأهوالِ .
كما قال تعالى عن يومِ القِيامةِ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 1-2] .
قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ الكافرينَ التَمَسوا مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك الالتِماسَ المذكورَ في الآيةِ السَّابقةِ؛ لأجلِ أنَّهم اتَّهَموه بأنَّه هو الذي يأتي بهذا الكِتابِ مِن عندِ نَفسِه، على سبيلِ الاختلاقِ والافتِعالِ، لا على سَبيلِ كَونِه وَحيًا من عندِ الله تعالى؛ فلهذا المعنى احتَجَّ النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على فَسادِ هذا الوَهمِ بما ذكَرَه اللهُ تعالى في هذه الآية .
قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ.
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ الكُفَّارِ: لو أراد اللَّهُ ما تَلَوتُ عليكم القُرآنَ؛ فاللهُ وَحْدَه هو الذي أنزَلَه عليَّ، وأمَرَني بتِلاوَتِه عليكم، فهو ليس من قِبَلي، ولا أقدِرُ على ذلك، ولا أقدِرُ على الإتيانِ بقرآنٍ غَيرِه .
وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ.
أي: ولو أراد اللهُ لَمَا أعلَمَكم بالقرآنِ، ولا أخبَرَكم به، لكِنَّه أدْراكم به بعد أنْ لم تكونوا كذلك، فلو كان كَذِبًا وافتراءً كما تقولونَ، لأمكَنَ لِغَيري أن يَتلوَه عليكم، وتَدرونَ به مِن جِهَتِه؛ لأنَّ الكَذِبَ لا يَعجِزُ عنه البشَرُ، وأنتم لم تَدْروا بهذا مِن قَبْلُ، ولم تَسمَعوه مِن بشَرٍ غَيري .
فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ.
أي: فقد أقمْتُ فيكم- يا أهلَ مَكَّةَ- حينًا طويلًا مِن عُمُري- أربعينَ سنةً- قبلَ أن يُوحَى إليَّ هذا القرآنُ، ما جرَّبتُم عليَّ كذبًا قطُّ، تَعرِفونَ صدقي وأمانتي، وأنِّي لستُ ممَّن يقرأُ أو يكتبُ، ثمَّ جِئتُكم بالقُرآنِ، أفلا تَعقِلونَ بذلك أنَّه وحيٌ مِن عندِ الله تعالى ؟!
كما قال تعالى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [المؤمنون: 69-70] .
وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: ((أنَّ أبا سُفيانَ أخبَرَه أنَّ قَيصَرَ سألَه عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: هل كُنتُم تتَّهِمونَه بالكَذِب قبلَ أن يقولَ ما قال؟ قلتُ: لا...)) وذكر الحَديثَ بطولِه، وفيه: ((قال: سألتُك هل كُنتُم تتَّهِمونَه بالكَذِب قبلَ أن يقولَ ما قال؟ فذَكَرْتَ أنْ لا، فقد أعرِفُ أنَّه لم يكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ على النَّاسِ ويكذِبَ على اللهِ !)) .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
هذه الآيةُ تَتِمَّةُ الرَّدِّ على اقتراحِ المُشرِكينَ؛ فإنَّه رَدَّ عليهم أوَّلًا ببيانِ حَقيقةِ الأمرِ الواقِعِ، وهو أنَّ تبديلَ القُرآنِ ليس مِن شَأنِ الرَّسولِ في نَفسِه، ولا ممَّا أَذِنَ اللهُ له به، بل يُعاقِبُه عليه أشَدَّ العِقابِ في الآخرةِ إنْ فُرِضَ وُقوعُه منه؛ لأنَّه كلامُه الخاصُّ به. وثانيًا: بإقامةِ الحُجَّةِ العَقليَّةِ على أنَّه كلامُ الله، وأنَّه ليس في استطاعتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإتيانُ بمِثلِه، ثمَّ عَزَّز هاتينِ الحُجَّتَينِ بثالثةٍ أدبيَّةٍ، وهي: أنَّ شَرَّ أنواعِ الظُّلمِ والإجرامِ في البَشَرِ شيئان؛ أحدُهما: افتراءُ الكَذِبِ على اللهِ، وهو ما اقتَرَحوه عليه بجُحودِهم، وثانيهما: التَّكذيبُ بآياتِ الله، وهو ما اجتَرَحوه بإجرامِهم .
وأيضًا فإنَّ الكافرينَ التَمَسوا مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قُرآنًا يَذكُرُه مِن عندِ نَفْسِه، ونَسَبوه إلى أنَّه إنَّما يأتي بهذا القُرآنِ مِن عِندِ نَفسِه، ثمَّ إنَّه أقام البُرهانَ القاهِرَ الظَّاهِرَ على أنَّ ذلك باطِلٌ، وأنَّ هذا القُرآنَ ليس إلَّا بِوَحيِ اللهِ تعالى وتَنزيلِه، فعندَ ذلك قال :
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ.
أي: فلا أحَدَ أشَدُّ كَذِبًا، وأوضَعُ لِقَولِه في غيرِ مَوضِعِه ممَّن تقوَّلَ الكَذِبَ على اللهِ سُبحانه- كمَن زعَمَ أنَّ اللهَ أوحَى إليه- أو كذَّبَ بآياتِ كِتابِه فلم يُصَدِّقْها .
إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ.
أي: إنَّه لا يفوزُ الكافرونَ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هذا جوابٌ حَسَنٌ؛ فإنَّه لَمَّا كان أحدُ المَطلوبَينِ التَّبديلَ، بدأ به في الجوابِ، ثمَّ أُتبِعَ بأمرٍ عامٍّ يشمَلُ انتفاءَ التَّبديلِ وغَيرِه، ثمَّ أتى بالسَّبَبِ الحامِلِ على ذلك، وهو الخوفُ، وعَلَّقَه بمُطلَقِ العِصيانِ، فبِأَدنَى عصيانٍ ترتَّبَ الخَوفُ
.
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هم طَلَبوا مِن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحدَ أمرَينِ على البَدَلِ: فالأوَّلُ: أن يأتيَهم بقرآنٍ غيرِ هذا القُرآنِ. والثاني: أن يُبدِّلَ هذا القُرآنَ، وفيه إشكالٌ؛ لأنَّه إذا بدَّلَ هذا القرآنَ بغَيرِه، فقد أتى بقرآنٍ غيرِ هذا القُرآنِ، وإذا كان كذلك، كان كلُّ واحدٍ منهما شيئًا واحدًا، وإذا ثبت أنَّ كُلَّ واحدٍ مِن هذينِ الأمرينِ هو نفسُ الآخَرِ، كان إلقاءُ اللَّفظِ على التَّرديدِ والتَّخييرِ فيه باطلًا.
والجواب: أنَّ أحَدَ الأمرينِ غيرُ الآخَرِ؛ فالإتيانُ بكتابٍ آخَرَ لا على ترتيبِ هذا القرآنِ، ولا على نَظمِه، يكونُ إتيانًا بقُرآنٍ آخَرَ، وأمَّا إذا أتى بهذا القُرآنِ، إلَّا أنَّه وضع مكانَ ذَمٍّ بعضَ الأشياءِ مَدَحَها، ومكانَ آيةِ رحمةٍ آيةَ عَذابٍ، كان هذا تبديلًا، أو يقالُ: الإتيانُ بقُرآنٍ غَيرِ هذا، هو أن يأتيَهم بكتابٍ آخَرَ سِوى هذا الكِتابِ، مع كَونِ هذا الكتابِ باقيًا بحالِه، والتَّبديلُ هو أن يغيِّرَ هذا الكتابَ .
3- إذا قيلَ: هم طَلَبوا مِن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحدَ أمرَينِ: إمَّا أن يأتيَهم بقُرآنٍ غيرِ هذا القُرآنِ، أو أن يبَدِّلَ هذا القرآنَ، ومع ذلك اكتفَى في الجوابِ على نَفيِ أحدِ القِسمَينِ وهو قولُه: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ... . فيُقال: الجوابُ المذكورُ عن أحَدِ القِسمَينِ هو عَينُ الجوابِ عن القِسمِ الثَّاني، وإذا كان كذلك وقَعَ الاكتفاءُ بذِكرِ أحَدِهما عن ذِكرِ الثَّاني . وقيل: نفَى عن نَفسِه أحَدَ القِسمَينِ، وهو التَّبديلُ؛ لأنَّه الذي يُمكِنُه- لو كان ذلك جائزًا- بخِلافِ القِسمِ الآخَرِ، وهو الإتيانُ بقرآنٍ آخَرَ؛ فإنَّ ذلك ليس في وُسعِه، ولا يقدِرُ عليه. وقيل: إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نفَى عن نَفسِه أسهَلَ القِسمَينِ؛ ليكونَ دليلًا على نَفيِ أصعَبِهما بالطَّريقِ الأَوْلى، وهذا منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بابِ مُجاراةِ السُّفهاءِ؛ إذ لا يَصدُرُ مِثلُ هذا الاقتراحِ عن العُقَلاءِ بعد أنْ أمَرَه اللهُ سُبحانَه بذلك .
4- قال الله تعالَى عن المشركينَ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ وقولُهم هذا يحتَمِلُ أن يكونَ جِدًّا، ويحتَمِلُ أن يُريدوا به الاستهزاءَ، وعلى الاحتمالينِ فقد أمرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يُجيبَهم بما يَقلَعُ شُبهَتَهم مِن نُفوسِهم إن كانوا جادِّينَ، أو مِن نُفوسِ مَن يَسمَعونَهم مِن دَهْمائِهم فيَحسَبون كلامَهم جِدًّا، فيتَرَقَّبون تبديلَ القُرآنِ، فقال تعالى له: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ .
5- قال الله تعالى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي يُفهَمُ مِن قَولِه تعالى: مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي أنَّ اللهَ تعالى يُبدِّلُ مِنه ما شاء بما شاء، وصَرَّحَ بهذا المفهومِ في مواضِعَ أُخَرَ، كقولِه تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ [النحل: 101] ، وقولِه تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106] ، وقولِه تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [الأعلى: 6- 7] .
6- في قوله: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ دلَّ سياقُ الكلامِ على أنَّ الإتيانَ بقرآنٍ آخرَ غيرِ هذا، بمعنَى إبطالِ هذا القرآنِ، وتعويضِه بغيرِه، وأنَّ تبديلَه بمعنَى تغييرِ معاني وحقائقِ ما اشْتَملَ عليه ممتنِعٌ، ولذلك لم يُلَقَّنِ الرسولُ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنْ يقولَ هنا: إلَّا ما شاءَ اللَّه، أوْ نحو ذلك .
7- قولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ لَمَّا كان هذا الكتابُ العَظيمُ قد جاء على يَدِ مَن لم يتعَلَّمْ، ولم يُتلمذْ، ولم يطالِعْ كِتابًا، ولم يمارِسْ مُجادلةً، عُلِمَ بالضَّرورةِ أنَّه لا يكونُ إلَّا على سبيلِ الوَحيِ والتَّنزيلِ، وإنكارُ العُلومِ الضَّروريةِ يَقدَحُ في صِحَّةِ العَقلِ، فلِهذا السَّبَبِ قال: أَفَلَا تَعْقِلُونَ .
8- قال الله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ قولُه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا المقصودُ مِنه نفيُ الكَذِبِ عن نَفسِه، وقَولُه تعالى: أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ المقصودُ منه إلحاقُ الوَعيدِ الشَّديدِ بهم؛ حيث أنكَروا دَلائِلَ اللهِ، وكَذَّبوا بآياتِ الله تعالى
.
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
- قولُه: وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ فيه الْتِفاتٌ مِن خِطابِهم إلى الغيبةِ؛ إعراضًا عنهُم، وتَوجيهًا الخطابَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بتَعْديدِ جِناياتهِم المضادَّةِ لما أُريدَ مِنهم بالاستِخْلافِ مِن تكذيبِ الرَّسولِ والكفرِ بالآياتِ البيِّناتِ
، ويظهَرُ في هذه الآيةِ أنَّ نُكتةَ حكايةِ هذا الاقتراحِ السَّخيفِ بأسلوبِ الإخبارِ عن قَومٍ غائبينَ إفادةُ أمرَينِ؛ أحدُهما: إظهارُ الإعراضِ عنهم كأنَّهم غيرُ حاضرينَ؛ لأنَّهم لا يستحِقُّونَ الخِطابَ به مِنَ الله تعالى. ثانيهما: تلقينُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجوابَ عنه بما ترى مِن العبارةِ البليغةِ التَّأثيرِ .
- قولُه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فيه تقديمُ الظَّرفِ وَإِذَا تُتْلَى... على عامِلِه، وهو قولُه: قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا؛ للاهتِمام بذِكْرِ ذلك الوقتِ الَّذي تُتلى فيه الآياتُ عليهم، فيَقولون فيه هذا القولَ؛ تعجُّبًا مِن كَلامِهم، ووَهنِ أحلامِهم .
- والتَّعبيرُ بالفِعلِ المضارِعِ تُتْلَى؛ للدَّلالةِ على التَّكرُّرِ والتَّجدُّدِ، أي: ذلك قولُهم كُلَّما تُتلى علَيهم الآياتُ ، وبُني للمَفعولِ؛ إيذانًا بتَكذيبِهم عند تلاوةِ أيِّ تالٍ كان .
- قولُه: قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فيه وضعُ الموصولِ موضِعَ الضَّميرِ- حيث لم يَقُلْ: (قَالُوا)- إشعارًا بعِلِّيَّةِ ما في حَيِّزِ الصِّلةِ؛ للعَظيمةِ المَحكيَّةِ عَنهم، وأنَّهم إنَّما اجتَرَؤوا عليها لِعدَمِ خوفِهم مِن عِقابِه تَعالى يومَ اللِّقاءِ؛ لإنكارِهم له، ولِما هو مِن مَباديه مِن البَعثِ .
- قولُه: قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لَمَّا كان لاقتِراحِهم مَعنًى صريحٌ، وهو الإتيانُ بقُرآنٍ آخَرَ، أو تبديلُ آياتِ القرآنِ الموجودِ، ومعنًى التزاميٌّ كنائيٌّ، وهو أنَّه غيرُ مُنزَّلٍ مِن عِندِ اللهِ، وأنَّ الَّذي جاء به غيرُ مُرسَلٍ مِن اللهِ؛ كان الجوابُ عن قولِهم جَوابَين، أحَدُهما: ما لَقَّنه اللهُ بقولِه: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وهو جوابٌ عن صريحِ اقتراحِهم، وثانيهما: ما لقَّنه بقولِه: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وهو جوابٌ عن لازِمِ كلامِهم، وقد جاء الجوابُ عن اقتراحِهم كَلامًا جامِعًا؛ قضاءً لِحَقِّ الإيجازِ البديعِ، وجاءَ بأبلَغِ صِيَغِ النَّفيِ، وهو: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ، أي: ما يَكونُ التَّبديلُ مِلكًا بيَدي .
- وجملةُ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في موضعِ التَّعليلِ لِجُملةِ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ؛ ولذلك فُصِلَت عنها- أي: لم تُعطَفْ- واقتَرَنَت بحَرفِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ، و(إنَّ) تُؤْذِنُ بالتَّعليلِ .
- قولُه: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي فيه التَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، معَ الإضافةِ إلى ضَميرِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ لِتَهويلِ أمرِ العِصْيانِ، وإظهارِ كَمالِ نَزاهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عنه .
- قولُه: يَوْمٍ عَظِيمٍ فيه إيرادُ اليومِ بالتَّنوينِ التَّفخيميِّ، ووصفُه بالعِظَمِ؛ لِتَهويلِ ما فيه مِن العذابِ وتَفظيعِه .
2- قولُه تعالى: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فيه مُبالَغةٌ في التَّبرِئةِ ممَّا طلَبوا منه، أي: إنَّ تِلاوتَه عليهم هذا القرآنَ إنَّما هو بمَشيئةِ اللهِ تَعالى، وإحداثِه أمرًا عجيبًا خارِجًا عن العاداتِ .
- ومفعولُ شَاءَ محذوفٌ، أي: (قُل لو شاء اللهُ أنْ لا أَتلُوَه...)، وجاء جوابُ (لو) على الفصيحِ مِن عدمِ إتيانِ اللَّامِ؛ لِكَونِه مَنفيًّا بما .
3- قولُه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ
- قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا استفهامٌ إنكاريٌّ، وتقريرٌ، أي: لا أحَدَ أظلَمَ مِمَّن افْتَرى على اللهِ كَذِبًا، أو ممَّن كَذَّب بآياتِه بعدَ بَيانِها .
- قولُه: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ تذييلٌ، وموقِعُه يَقتَضي شُمولَ عُمومِه للمَذكورين في الكَلامِ المذيَّلِ، فيَقْتَضي أنَّ أولئِك مُجرِمون، وأنَّهم لا يُفلِحون .
- وقولُه أيضًا: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ فيه تأكيدُ الجملةِ بحَرفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ وذلك نَظرًا إلى شُمولِ عُمومِ المُجرِمين للمُخاطَبين؛ لأنَّهم يُنكِرون أن يَكونوا مِن المجرِمين. وفيه افتِتاحُ الجملةِ بضَميرِ الشَّأنِ إِنَّهُ؛ لِقَصدِ الاهتِمامِ بمَضمونِها .
===============
سُورةُ يُونُس
الآيات (18-20)
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ يعبدونَ مِن دونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهم ولا ينفَعُهم، ويقولونَ إنَّ هؤلاءِ الذين نَعبُدُهم يَشفَعونَ لنا عندَ الله، وأمَرَ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا أن يقولَ لهم: أتُخبِرونَ الله بما ليس موجودًا في السَّمواتِ ولا في الأرضِ، تَنَزَّه الله وتقَدَّسَ عمَّا يُشرِكونَ.
ويبَيِّنُ تعالى أنَّ النَّاسَ كانوا مُجتَمِعينَ على دينِ التَّوحيدِ، فاختلفوا في دينِهم، وأشرَكوا بالله، ولولا أنَّه سبَقَ مِن اللهِ أنَّه يُمهِلُ المُشرِكينَ والعُصاةَ، ويؤخِّرُ جزاءَهم إلى يومِ القيامةِ؛ لحَكَم سبحانه بينَ مَن اختلَفوا في الدُّنيا، فيُنَجِّي أهلَ التَّوحيدِ، ويعجِّلُ بعقوبةِ المُشرِكينَ.
ويخبِرُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ يقولون: هلَّا أُنزِلَ على محمَّدٍ مُعجِزةٌ مِن رَبِّه ممَّا نقتَرِحُ عليه؛ حتى نعلَمَ أنَّه رسولٌ مِن عندِ الله حقًّا، وأمَرَ نَبيَّه أن يقولَ لهم: إنَّما إنزالُ الآياتِ مِن الغَيبِ الذي لا يعلَمُه إلَّا اللهُ، ولا يقدِرُ على إنزالِه إلَّا هو، فإن شاء أنزَلَها، وإن شاء لم يُنزِلْها، فانتظروا حُكمَ اللهِ فينا بعقوبةِ المُبطِلِ مِنَّا، ونصْرِ المُحِقِّ، إنَّا معكم مُنتَظِرونَ.
تفسير الآيات:
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ الكافرينَ إنَّما التَمَسوا من الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قرآنًا غيرَ هذا القرآنِ، أو تبديلَ هذا القُرآنِ؛ لأنَّ هذا القُرآنَ مُشتَمِلٌ على شَتمِ الأصنامِ التي جَعَلوها آلهةً لأنفُسِهم؛ فلهذا السَّبَبِ ذكَرَ اللهُ تعالى في هذا الموضِعِ ما يدُلُّ على قُبحِ عبادةِ الأصنامِ؛ لِيُبيِّنَ أنَّ تَحقيرَها والاستخفافَ بها أمرٌ حَقٌّ، وطريقٌ مُتيَقَّنٌ
.
وأيضًا فهذه الآيةَ عَطفٌ على قَولِه تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ [يونس: 15] عطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ، فهذه قصَّةٌ أخرى مِن قَصَصِ أحوالِ كُفرِهم، أن قالوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا [يونس: 15] حين تُتلى عليهم آياتُ القرآنِ، ومِن كُفرِهم أنَّهم يعبدونَ الأصنامَ، ويقولون: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ والمناسبةُ بين القِصَّتَينِ أنَّ في كِلتَيهما كُفرًا أظهَرُوه في صورةِ السُّخريةِ والاستهزاءِ، وإيهامِ أنَّ العُذرَ لهم في الاسترسالِ على الكُفرِ .
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ.
أي: ويَعبُدُ المُشرِكونَ مِن دُونِ الله آلهةً مِن الأصنامِ وغَيرِها، لا تَضُرُّهم إن تركوا عِبادتَها، ولا تنفَعُهم في الدُّنيا ولا في الآخرةِ إنْ عَبَدوها .
كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [النحل: 73] .
وقال سُبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 6] .
وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ.
أي: ويقولُ المُشرِكونَ: هؤلاء الذين نعبُدُهم يَشفَعونَ لنا عند الله .
قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ.
أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: أتُخبِرونَ اللهَ بما لا يقعُ، ولا يَكونُ أبدًا في السَّمواتِ ولا في الأرضِ، وهو أنَّ له شركاءَ يشفعون لكم عندَ الله، وقد أخبركم بأنَّه ليس له شريكٌ، أفتخبرونَه بأمرٍ خفِي عليه، وعلِمْتوه ؟
ثمَّ نزَّه نفسه عمَّا افتروه، فقال :
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
أي: تقدَّس اللهُ وتنزَّهَ عن أن يكونَ له شريكٌ .
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ اللَّهَ تعالى لَمَّا أقام الدَّلالةَ القاهرةَ على فسادِ القَولِ بعبادةِ الأصنامِ؛ بَيَّنَ السَّببَ في كيفيَّةِ حُدوثِ هذا المذهَبِ الفاسِدِ، والمقالةِ الباطلةِ .
وأيضا لَمَّا بَيَّنَ تعالى شَرَّهم بعبادةِ غَيرِه، وختَمَ بتَنزيهِه وكَمالِه؛ بَيَّنَ أنَّ هذا الدِّينَ الباطِلَ حادِثٌ، وبيَّنَ نزاهَتَه وكمالَه ببيانِ أنَّ النَّاسَ كانوا أوَّلًا مُجتَمِعينَ على طاعَتِه، ثمَّ خالَفوا أمْرَه فلم يَقطَعْ إحسانَه إليهم، بل استمَرَّ في إمهالِهم مع تمادِيهم في سوءِ أعمالِهم، على ما سبَقَ في عِلمِه، ومضى به قَضاؤُه .
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ.
أي: وما كان النَّاسُ إلَّا مُجتَمِعينَ على توحيدِ اللهِ، فاختَلَفوا في دينِهم، وأشرَكوا بالله .
وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
أي: ولولا أنَّه سبَقَ مِن اللهِ أنَّه يُمهِلُ المُشرِكينَ والعُصاةَ، ويؤخِّرُ جزاءَهم إلى يومِ القيامةِ؛ لحَكَم في الدُّنيا بين المُختَلِفينَ، فيُنَجِّي أهلَ التَّوحيدِ، ويعجِّلُ عُقوبَتَه على المُشرِكينَ، وينزلُ بهم عذابَه .
كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118- 119] .
وقال سبحانه: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [طه: 129- 130] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الشورى: 14] .
وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ هذه الآيةَ عَطفٌ على جُملةِ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [يونس: 18] ، فبعد أنْ ذكَرَ افتراءَهم في جانِبِ الإلهيَّةِ، نفى بُهتانَهم في جانِبِ النبوَّةِ .
وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ.
أي: ويقولُ مُشرِكو قُرَيشٍ: هلَّا أَنزلَ اللهُ على محمَّدٍ مُعجِزةً مِمَّا نقتَرِحُ عليه؛ حتَّى نعلَمَ أنَّه رسولٌ مِن عندِ الله حقًّا ؟
كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 89 - 93] .
وقال سبحانه: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان: 7-8] .
فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ.
أي: فقُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: إنزالُ الآياتِ مِن الغَيبِ الذي لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، ولا يَقدِرُ أن يُنزِلَ آيةً إلَّا اللهُ، فإن شاء أنزَلَها، وإن شاء لم يُنزِلْها .
كما قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 109] .
وقال سُبحانه: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 50- 51] .
فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ.
أي: قُلْ لهم- يا مُحَمَّدُ: فانتَظِروا حُكمَ اللهِ فينا، بعقوبةِ المُبطِلِ مِنَّا، ونَصرِ المُحِقِّ، إنِّي معكم ممَّن ينتَظِرُ ذلك
.
كما قال تعالى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 102-103] .
وقال سبحانه: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى [طه: 135] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السجدة: 28-30] .
الفوائد التربوية :
1- أساسُ عَقيدةِ الشِّركِ أنَّ جَميعَ ما يَطلُبونَه مِن اللهِ لا بُدَّ أن يكونَ بوَساطةِ المقَرَّبينَ عنده؛ لأنَّهم لا يُمكِنُهم القُربُ مِن اللهِ والحُظوةُ عنده بأنفُسِهم؛ لأنَّها مُدَنَّسةٌ بالمعاصي، بخلافِ دِينِ التَّوحيدِ، فإنَّه يُوجِبُ على العاصي أن يتوَجَّهَ إلى اللهِ وَحْدَه، تائبًا إليه، طالبًا مَغفِرتَه ورَحمتَه؛ يُبيِّنُ ذلك قَولُ الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ
.
2- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يتضَمَّنُ الوعيدَ على اختلافِ النَّاسِ المُفضي إلى الشِّقاقِ والعُدوانِ، ولا سيَّما الاختلافُ في كتابِ اللهِ الذي أنزَلَه لإزالةِ الشِّقاقِ بحُكمِه، وإدالةِ الوَحدةِ والوِفاقِ منه
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال اللهُ تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ هذه غايةُ الجَهالةِ منهم؛ حيث يَنتَظِرونَ الشَّفاعةَ في المآلِ، ممَّن لا يُوجَدُ منه نَفعٌ ولا ضَرٌّ في الحالِ
.
2- كان المُشرِكونَ مُعتَرفينَ بأنَّ آلهتَهم لم تُشارِك اللهَ في خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، ولا خلْقِ شيءٍ؛ وإنَّما كانوا يتَّخِذونَهم شُفَعاءَ ووسائِطَ، كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ .
3- قَولُ الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ لَمَّا كان السِّياقُ للتَّهديدِ والتَّخويفِ، قدَّمَ (الضَّرَّ) فقال: مَا لَا يَضُرُّهُمْ، وتنبيهًا لهم على أنَّهم مَغمورونَ في نِعَمِه التي لا قُدرةَ لِغَيرِه على مَنعِ شَيءٍ منها، فعليهم أن يُقَيِّدوها بالشُّكرِ .
4- قَولُ الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ فيه أنَّ مِن الشِّركِ اتِّخاذَ الوُسَطاءِ عند الله، وأنَّه عَينُ الشِّركِ .
5- المُشرِكُ يقصِدُ فيما يُشرِكُ به أنْ يشفعَ له، أو يتقَرَّبَ بعِبادَتِه له إلى اللهِ، أو هو يُحبُّه كما يحبُّ اللهَ، والمُشرِكونَ بأصحابِ القُبورِ تُوجَدُ فيهم الأنواعُ الثَّلاثةُ، كما قال اللهُ تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] .
6- في قَولِه تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ دلالةٌ على أنَّ كلَّ مَن يملكُ الضَّرَّ والنَّفعَ؛ فإنَّه هو المعبودُ حقًّا؛ فالمعبودُ لا بدَّ أنْ يكونَ مالِكًا للنَّفعِ والضَّرَرِ؛ ولهذا أنكَرَ اللهُ تعالى على مَن عَبَدَ مِن دُونِه ما لا يَملِكُ ضَرًّا ولا نفعًا، وذلك كثيرٌ في القُرآنِ .
7- في قَولِ اللهِ تعالى هنا أيضًا: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ نفى عن الأصنام الضُّرَّ والنَّفعَ، وأثبَتَهما لها في قَولِه تعالى في سورةِ الحَجِّ: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الحج: 13] ؛ فنَفيُهما عنها باعتبارِ الذَّاتِ، وإثباتُهما لها باعتبارِ السَّبَبِ .
8- في قَولِه تعالى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ أنَّ اللهَ يَعلمُ الأشياءَ على ما هي عليه؛ وما لم يكُنْ مَوجودًا لا يَعلَمُه مَوجودًا، ولا يكون نفيُ هذا العِلمِ نقصًا، بل هو مِن تمامِ كَمالِه تعالى؛ لأنَّه يقتضي أنْ يعلمَ الأشياءَ على ما هي عليه .
9- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا يَستَدِلُّ به من قال: إنَّ الأصلَ في النَّاسِ الإيمانُ حتى كفَروا .
10- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إخبارٌ بأنَّ الحَقَّ واحِدٌ، وأنَّ ذلك الاختلافَ مَذمومٌ .
11- قَولُ الله تعالى: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فيه أنَّ مِن أصولِ الدِّينِ أنَّ شُؤونَ الرَّبِّ، وسائِرَ ما في عالَمِ الغَيبِ، تَوقيفيٌّ لا يُعلَمُ إلَّا بخَبَرِ الوَحيِ
.
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
- قولُه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ هذا إخبارٌ على سَبيلِ التَّجهيلِ والتَّحقيرِ للكُفَّارِ ولِمَعبوداتِهم، وللتَّنبيهِ على أنَّهم عبَدوا مَن لا يَستحِقُّ العبادةَ
.
- واختيارُ صيغةِ المضارِعِ في قولِه: وَيَعْبُدُونَ ووَيَقُولُونَ؛ لاستِحْضارِ الحالةِ العَجيبةِ مِن استمرارِهم على عِبادتها- أي: عبَدوا الأصنامَ ويَعبُدونها-، فجاء بالمضارِعِ الدَّالِّ على أنَّهم على الشِّركِ في المستقبَلِ، كما كانوا عليه في الماضي؛ تَعجُّبًا مِن تَصميمِهم على ضَلالِهم .
- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، بينما قال في سورة الفرقان: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ [الفرقان: 55] فقدَّم: يَضُرُّهُمْ على يَنْفَعُهُمْ في آيةِ يونُسَ، وقدَّم يَنْفَعُهُمْ على يَضُرُّهُمْ في آيةِ الفرقانِ؛ قيل: ووجهُ ذلك أنَّه إنَّما قدَّم: مَا لَا يَضُرُّهُمْ على لَا يَنْفَعُهُمْ في الآيةِ الأولى في سورةِ يونُسَ؛ لأنَّ العبادةَ تُقامُ للمَعبودِ خوفًا مِن العقابِ أوَّلًا، ثمَّ رجاءً للثَّوابِ ثانيًا، وقد تقدَّم في هذا المكانِ ما أوجَبَ تقديمَ مَا لَا يَضُرُّهُمْ على وَلَا يَنْفَعُهُمْ في الآيةِ الأولى، وهو قولُه: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس: 15] ، فكأنَّه قال: ويَعبُدون مِن دونِ اللهِ ما لا يَخافون ضَررًا في مَعصيتِه، ولا يَرجون نفعًا في طاعتِه، فتقدَّم مَا لَا يَضُرُّهُمْ على وَلَا يَنْفَعُهُمْ في هذا المكانِ لهذا المعنى، ولهذا اللَّفظِ المتقدِّمِ.
وأمَّا سورةُ الفرقانِ فقد تقدَّمَت فيها آياتٌ قُدِّم فيها الأفضلُ على الأدْوَنِ، كقولِه عزَّ وجلَّ: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [الفرقان: 53] ، وكقولِه بعدَه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان: 54] ، وصِلَةُ النَّسَبِ أفضَلُ مِن صِلَةِ المصاهَرةِ، كما أنَّ العذْبَ مِن الماءِ أفضلُ مِن المِلحِ، ثمَّ قال بعدَه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ [الفرقان: 55] ؛ فقدَّم الأفضلَ على الأدْوَنِ لهذا المعنى، وللبناءِ على ما تقدَّم مِن الآياتِ، فجاء في كلِّ موضعٍ ما يُناسِبُ السِّياقَ، وصحَّ المعنى الذي اعتَمَد عليه . وقيل: وجهُ ذلك أنَّ الموجِبَ لتأخيرِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ في سورةِ يونُسَ ما وصَل به مِن قولِهم: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، فكأنَّه قيل: ويَعبُدون مِن دونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهم ولا ينفَعُهم، ويَزعُمون أنَّ ذلك يَنفَعُهم؛ فلم يَكُنْ لِيُناسِبَ لو قيل: (ويَعبُدون مِن دونِ اللهِ ما لا يَنفَعُهم ولا يضُرُّهم، ويقولون: هؤلاء شُفعاؤُنا عندَ اللهِ)- تَناسُبَ الوارِدِ مِن متَّصِلِ قولِه: وَلَا يَنْفَعُهُمْ بقولِه: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ؛ فلمَّا كان الاتِّصالُ فيما ذُكِر أنسَبَ، وردَت الآيةُ بحسَبِ ذلك. أمَّا آيةُ الفرقانِ فإنَّ قبْلَها ذِكْرَ دَلائِلَ وشَواهِدَ مِن مَصنوعاتِه تعالى، يَهْتدي المعتبِرُ بالنَّظرِ فيها، تُخلِّصُه مِن ورَطاتِ الشُّكوكِ، ويَستقيمُ له دينُه، وذلك أعظمُ النَّفعِ وأجَلُّه، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الفرقان: 45] ، إلى قولِه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان: 54] ، فلمَّا تقدَّم التَّنبيهُ بهذه الآياتِ الواضحاتِ الموقِظاتِ مِن سِنَاتِ الغَفلاتِ، والمحصِّلاتِ أعظَمَ النَّفعِ في امتِثالِ الواجباتِ، والنَّجاةِ مِن الضَّلالاتِ؛ ناسبَها تقديمُ ما قُدِّم في الآيةِ مِن قولِه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ [الفرقان: 55] ، وصار الكلامُ بقوَّتِه مجاوبًا لقولِه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النحل: 17] ؛ فورَد كلٌّ على ما يُناسِبُه .
- قولُه: أَتُنَبِّئُونَ استفهامٌ على سبيلِ التَّهكُّمِ والتَّوبيخِ بما ادَّعَوه مِن المُحالِ، الَّذي هو شَفاعةُ الأصنامِ، وإعلامٌ بأنَّ الَّذي أنبَؤوا به باطلٌ، غيرُ مُنطَوٍ تحتَ الصِّحَّةِ .
- وأيضًا في قولِه: عَمَّا يُشْرِكُونَ أتَى بالمضارِعِ، ولم يَقُلْ: (عمَّا أشرَكوا)؛ للدَّلالةِ على استِمْرارِ حالِهم .
2- قوله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
- قولُه: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً جاء بصيغةِ القَصرِ: (ما... إلَّا)؛ للمُبالَغةِ في تأكيدِ الخبَرِ؛ لأنَّه خبرٌ مهِمٌّ عجيبٌ؛ إذِ القصرُ تأكيدٌ على تأكيدٍ؛ باعتِبارِ اشتِمالِه على صيغَتَيْ إثباتٍ للمُثبَتِ، ونفيٍ عمَّا عَداه، فهو أقوى مِن تأكيدِ ردِّ الإنكارِ؛ ولذلك يُؤْذِنُ برَدِّ إنكارٍ شديدٍ .
- وحسَّنَ القَصْرَ هنا وُقوعُه عَقِبَ الجدالِ معَ الَّذين غيَّروا الدِّينَ الحقَّ، وروَّجوا نِحْلتَهم بالمَعاذيرِ الباطلةِ؛ كقولِهم: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، بخِلافِ آيةِ سورةِ البقرَةِ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة: 213] ؛ فإنَّها وقَعَت في سياقِ المجادلةِ مع أهلِ الكتابِ؛ لقولِه: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [البقرة: 211] ، وأهلُ الكتابِ لا يُنكِرون أنَّ النَّاسَ كانوا أمَّةً واحدةً؛ فآيةُ سورةِ يونُسَ تُشيرُ إلى الوَحْدةِ الاعتِقاديَّةِ؛ ولذلك عبَّر عَنِ التَّفرُّقِ الطَّارئِ عليها باعتِبارِ الاختِلافِ المُشعِرِ بالمَذمَّةِ، والمعقَّبِ بالتَّخويفِ في قولِه: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ...، وآيةُ سورةِ البقَرةِ تُشيرُ إلى الوَحْدةِ الشَّرعيَّةِ الَّتي تَجمَعُها الحنيفيَّةُ الفِطريَّةُ؛ ولذلك عبَّر عن التَّفرُّقِ الَّذي طرَأ عليها بقولِه: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، ثمَّ جاء ذِكْرُ الاختِلافِ عرَضًا عَقِب ذلك بقولِه: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213] ، وأريدَ به الاختِلافُ بينَ أتباعِ الشَّرائعِ؛ لقولِه: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ [البقرة: 213] .
- قولُه: فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيه تقديمُ المجرورِ؛ للرِّعايةِ على الفاصِلةِ .
3- قولُه تعالى: وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
- قولُه: وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فيه التَّعبيرُ بصيغةِ المُضارِعِ (يَقُولُونَ)؛ لاستِحْضارِ صورةِ مَقالَتِهم الشَّنعاءِ، والدَّلالةِ على الاستِمْرارِ .
- قولُه: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فيه الإتيانُ بصيغةِ القَصْرِ؛ للرَّدِّ عليهم في اعتِقادِهم أنَّ في إمكانِ الرَّسولِ الحقِّ أن يَأتِيَ بما يَسأَلُه قومُه مِن الخوارقِ، فجَعَلوا عدَمَ وُقوعِ مُقتَرَحِهم عَلامةً على أنَّه ليس برَسولٍ مِن اللهِ؛ فلذلك رَدَّ عليهم بصِيغَةِ القَصرِ الدَّالَّةِ على أنَّ الرَّسولَ ليس له تَصرُّفٌ في إيقاعِ ما سأَلوه؛ لِيَعلَموا أنَّهم يَرمُون بسُؤالِهم إلى الجَراءةِ على اللهِ تعالى بالإفحامِ .
- وجملةُ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينِ تفريعٌ على جملةِ: إِنَّما الْغَيْبُ لِلَّهِ، أي: ليس دَأْبي ودَأْبَكم إلَّا انتِظارُ ما يَأتي بِه اللهُ إن شاءَ، وهذا تعريضٌ بالتَّهديدِ لهم أنَّ ما يأتي به اللهُ لا يتَرقَّبون مِنه إلَّا شرًّا لهم ، فقولُه: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينِ وعيدٌ، وقد صدَّقه اللهُ تعالى بنُصرتِه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم .
=======================
سُورةُ يُونُس
الآيات (21-23)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ
غريب الكلمات:
ضَرَّاءَ: أي: مرَضًا وضُّرًّا، والضَّرَّاءُ كذلك: سوءُ الحالِ، والفقرُ والقحطُ، والضرُّ: خلافُ النَّفْعِ
.
مَكْرٌ: أي: استِهزاءٌ وتَكذيبٌ، والمكرُ: صَرفُ الغَيرِ عمَّا يَقصِدُه بحيلةٍ، فسمَّى استهزاءَهم وتكذيبَهم مكرًا؛ لاحتيالِهم لدفعِ آياتِ الله بكلِّ سبيلٍ، وأصلُ (مكر): يدلُّ على احتيالٍ وخِداعٍ .
الْفُلْكِ: أي: السُّفنِ، وواحده وجمْعه بلفظٍ واحد، وأصلُ (الفلك): الاستدارةُ في الشَّيءِ، ولعلَّ السُّفن سُمِّيت فُلكًا؛ لأنَّها تُدارُ في الماءِ .
عَاصِفٌ: أي: شَديدةُ الهُبوبِ. وأصلُ (عصف): يدلُّ على خِفَّةٍ وسُرعةٍ .
أُحِيطَ بِهِمْ: أي: هلَكوا، وأصلُ هذا أنَّ العدوَّ إذا أحاطَ ببلدٍ، فقد دنَا أهلُه مِن الهلَكَةِ، وأصلُ (حوط): الشيءُ يطيفُ بالشيءِ .
مَتَاعَ: المتاع: المَنفعةٌ، وكلُّ ما حَصَل التمتُّع والانتفاعُ به على وجهٍ ما، أو ما يُنتفعُ به انتفاعًا قليلًا غيرَ باقٍ، بل يَنقضي عن قَريبٍ، وأصل (متع): يدلُّ على مَنفعةٍ، وامتدادٍ مُدَّةً في خيرٍ
.
مشكل الإعراب:
قَولُه تعالى: إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
مَتَاعَ: منصوبٌ على المَصدرِ، أي: تتمتَّعونَ متاعَ الحياةِ الدُّنيا، أو منصوبٌ على الحالِ، أي: متمتِّعينَ. أو على أنَّه مَفعولٌ لأجلِه، أي: لأجلِ مَتاعِ. وعلى ذلك فـعَلَى أَنْفُسِكُمْ متعَلِّقٌ بمحذوفٍ خَبَرُ بَغْيُكُمْ، وقيل: الخبَرُ مَحذوفٌ تَقديرُه: مذمومٌ، ونحوُ هذا.
وقُرِئ مَتَاعُ بالرَّفعِ، وفي رفْعه أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّه خبرُ بَغْيُكُمْ وعلى هذا فقَولُه: عَلَى أَنْفُسِكُمْ متعلِّقٌ بـ بَغْيُكُمْ؛ لأنَّه مصدرٌ. الثاني: أن يكونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ خبَرًا لـبَغْيُكُمْ، ومَتَاعُ خبَرًا ثانيًا. الثالث: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: هو متاعُ الحياةِ الدُّنيا
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ تعالى أنَّه إذا أذاقَ المُشرِكينَ رَحمةً بعد أن أصابَهم البَلاءُ، سَعَوا بكلِّ حيلةٍ بالباطِلِ؛ لإبطالِ الحَقِّ وتَكذيبِه، ومقابِلَ هذا المَكرِ أمَرَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: إنَّ اللهَ أعجَلُ منكم مكرًا؛ إنَّ رُسُلَه يكتبونَ ما تَمكرونَ.
هو سُبحانه وتعالى الذي يُسَيِّرُكم في البَرِّ والبَحرِ، حتَّى إذا كُنتُم في السُّفُنِ، وجَرَت بكم بريحٍ طَيِّبةٍ، وفَرِحَ ركَّابُ السَّفينةِ بها، جاءَتْها ريحٌ شَديدةُ الهُبوبِ، وجاء ركابَ السَّفينةِ الموجُ مِن كُلِّ جَوانبِ السَّفينةِ، وأيقَنوا أنَّ الهلاكَ قد أحاط بهم، وأنَّهم سيَغرَقونَ- دَعَوُا اللهَ مُخلِصينَ له الدِّينَ لَئِن أنجاهم من هذه الشِّدَّةِ ليَكونُنَّ مِن الشَّاكرينَ.
فلمَّا أنجاهم أخلَفوا اللهَ ما وعدوه، فبَغَوا في الأرضِ بإشراكِهم باللهِ، وإفسادِهم في الأرضِ بالكُفرِ والظُّلمِ والمعاصي، يا أيُّها النَّاسُ إنَّما وبالُ بَغيِكم عائِدٌ على أنفُسِكم، تتمتعون به مدة حياتكم القصيرة، ثمَّ إلى الله مَرجِعُكم يومَ القيامةِ، فيُخبِرُكم بما كُنتُم تعملونَ في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، ويُجازيكم به.
تفسير الآيات:
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الكافرينَ لَمَّا طَلَبوا من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آيةً أخرى سوى القُرآنِ، وأجابَهم بما في قَولِه: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ [يونس: 20] ذكَرَ جوابًا آخرَ، وهو المذكورُ في هذه الآيةِ، وهو أنَّه تعالى بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ عادةَ هؤلاءِ الأقوامِ المَكرُ واللَّجاجُ، والعِنادُ وعدمُ الإنصافِ، وإذا كانوا كذلك فبِتَقديرِ أن يُعطَوا ما سألوه من إنزالِ مُعجِزاتٍ أخرى، فإنَّهم لا يؤمنونَ، بل يَبقَونَ على كُفرِهم وجَهلِهم
.
وأيضًا لَمَّا حكى اللهُ تعالى تمَرُّدَ المُشرِكينَ، وذكر قَولَه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ وذلك على سبيلِ التعنُّتِ؛ أخبَرَ أنَّ هؤلاء إنَّما يصيرونَ لهذه المقالاتِ عندما يكونونَ في رخاءٍ مِن العَيشِ، وخُلُوِّ بالٍ، وأنَّهم في ذلك لاهون ببَطَرِهم، وازدهائِهم بالنِّعمةِ والدَّعَة، وأنَّ إحسانَ اللهِ تعالى قابَلوه بما لا يجوزُ من ابتغاءِ المَكرِ لآياتِه، وتفَنَّنوا في التكذيبِ بوعيدِ اللهِ أفانينَ الاستهزاءِ، وكان خليقًا بهم أن يكونوا أوَّلَ مَن صدَّقَ بآياتِه .
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا.
أي: وإذا فرَّجنا عن المُشرِكينَ ورَحِمناهم، من بعدِ بَلاءٍ أصابَهم، سَعَوا بكلِّ حيلةٍ بالباطِلِ؛ لإبطالِ آياتِنا وردِّها وتكذيبِها !
كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] .
وقال سبحانه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الروم: 33-34].
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8] .
وقال تبارك وتعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 50-51] .
وعن زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَني رَضِيَ الله عنه، قال: ((صلَّى بنا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاةَ الصُّبحِ بالحُدَيبية في إثْرِ السَّماءِ كانت من اللَّيلِ، فلما انصرَفَ أقبَلَ على النَّاسِ فقال: هل تَدرونَ ماذا قال ربُّكم؟ قالوا: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: قال: أصبحَ مِن عبادي مؤمِنٌ بي وكافِرٌ، فأمَّا من قال: مُطِرْنا بفَضلِ اللهِ ورَحمتِه، فذلك مُؤمِنٌ بي، كافِرٌ بالكوكَبِ، وأمَّا من قال: مُطِرْنا بنَوءِ كذا وكذا ، فذلك كافِرٌ بي، مُؤمِنٌ بالكوكبِ)) .
قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت جملةُ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا دالَّةً على إسراعِ الكافرينَ بالمَكرِ مِن ثلاثةِ أوجُهٍ: التعبيرُ بالذَّوقِ الذي هو أوَّلُ المُخالطةِ، ولفظُ (مِن) التي هي للابتداءِ، و(إذا) الفجائيَّة، كان كأنَّه قيل: أسرَعوا جُهدَهم في المَكرِ، فقيل :
قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا.
أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ: اللهُ أعجَلُ مَكرًا بكم- باستدراجِكم وتعجيلِ عُقوبتِكم- مِن مَكرِكم في آياتِه .
قال تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] .
إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ.
أي: إنَّ المَلائكةَ الحَفَظةَ يَكتُبونَ مَكْرَكم في آياِتي- أيُّها المُشرِكونَ- ويُحصُون أعمالَكم؛ للحِسابِ عليها في الآخرةِ .
كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12].
وقال تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] .
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا كان هذا الكلامُ كلامًا كُلِّيًّا لا ينكَشِفُ معناه تمامَ الانكشافِ إلَّا بذِكرِ مِثالٍ كاملٍ، فذكرَ اللهُ تعالى لِنَقلِ الإنسانِ مِن الضُّرِّ الشَّديدِ إلى الرَّحمةِ مِثالًا، ولِمَكر الإنسانِ مِثالًا؛ حتى تكونَ هذه الآيةُ كالمُفَسِّرةِ للآيةِ التي قَبلَها .
وأيضًا لَمَّا قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا أخذ سبحانَه يبيِّنُ ما يتَّضِحُ به أسرعيَّةُ مَكرِه، في مثالٍ دالٍّ على نَقْلِه سبحانَه لِعبادِه مِن الضُّرِّ إلى النِّعمةِ، ومِن سُرعةِ تَقَلُّبِهم .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى القاعدةَ العامَّةَ في أحوالِ النَّاسِ عند إصابةِ الرَّحمةِ لهم بعد الضَّرَّاءِ، واليُسرِ بعد العُسرِ؛ ذكَرَ حالةً تؤيِّدُ ذلك، وهي حالُهم في البَحرِ عند اشتدادِه، والخوفِ مِن عَواقِبِه، فقال تعالى :
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ يَنْشُرُكُمْ مِن النَّشرِ، أي: يبثُّكم
2- قراءةُ يُسَيِّرُكُمْ مِنَ التَّسييرِ، أي: يَحمِلُكم في البَرِّ والبَحرِ .
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
أي: اللهُ هو الذي يُسَيِّرُكم في البَرِّ؛ بإقدارِه لكم على المَشيِ على أقدامِكم، وبما سَخَّرَه لكم من الدوابِّ وغَيرِها، ويُسَيِّرُكم في البَحرِ في السُّفُنِ التي يَسَّرَ لكم صُنعَها .
حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ.
أي: حتى إذا كُنتم في السُّفُنِ، وجَرَت بكم؛ بسَبَبِ ريحٍ لَيِّنةِ الهُبوِبِ، مُوافِقةٍ لرَغبتِكم، وفَرِحَ رُكَّابُ السَّفينةِ بتلك الرِّيحِ، واطمأنُّوا بها، فبينما هم كذلك إذ جاءت السَّفينةَ ريحٌ شديدةُ الهُبوبِ .
وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ.
أي: وجاء ركابَ السَّفينةِ مَوجُ البَحرِ مِن كُلِّ جانبٍ مِن جوانِبِ السَّفينةِ .
وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ.
أي: وأيقَنُوا أنَّ الهَلاكَ قد أحاط بهم، وأنهم سيَغرَقونَ في البَحرِ الهائِجِ .
دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
أي: دَعُوا اللهَ وَحْدَه أن يُنجِيَهم مِن الكَربِ، وأخلصوا له الدُّعاءَ دون آلهتِهم .
كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] .
لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
أي: وقالوا: واللهِ لَئِنْ أنجيتَنا- يا ربَّنا- من هذه الشِّدَّةِ، لنكونَنَّ مِن الشَّاكرينَ لنِعَمِك، المُطيعينَ أمْرَك، ولا نُشرِكُ بك شيئًا في عبادَتِك .
عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: ((لَمَّا كان يومُ فَتحِ مَكَّةَ أمَّنَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ النَّاسَ، إلَّا أربعةَ نَفَرٍ وامرأتينِ، وقال: اقتُلوهم، وإن وَجَدتُموهم متعَلِّقينَ بأستارِ الكَعبةِ: عِكرمةُ بنُ أبي جَهلٍ، وعبدُ الله بنُ خطَل، ومقيسُ بنُ صُبابةَ، وعبدُ اللهِ بنُ سعدِ بن أبي السَّرحِ... وأمَّا عِكرمةُ فرَكِبَ البَحرَ، فأصابتهم عاصِفٌ، فقال أصحابُ السَّفينةِ: أخلِصوا؛ فإنَّ آلهَتَكم لا تُغني عنكم شيئًا هاهنا. فقال عكرمةُ: واللهِ لَئِنْ لم ينجِّني من البَحرِ إلَّا الإخلاصُ، لا ينَجِّيني في البَرِّ غَيرُه، اللهمَّ إنَّ لك عليَّ عَهدًا، إن أنت عافيتَني ممَّا أنا فيه، أنْ آتيَ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتى أضَعَ يَدي في يَدِه، فلأَجِدَنَّه عَفُوًّا كريمًا، فجاء فأسلَمَ )) .
فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن الكافرينَ هذا التضُرَّعَ الكامِلَ عند البَليَّةِ؛ بيَّنَ أنَّهم بعدَ الخلاصِ مِن تلك البَليَّةِ والمِحنةِ أقدَموا في الحالِ على البَغيِ في الأرضِ بِغَيرِ الحَقِّ .
فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
أي: فلمَّا أنقَذَ اللهُ رُكَّابَ السَّفينةِ أخلَفوا اللهَ ما وَعَدوه، فأشرَكوا به، وأفسَدوا في الأرضِ بالكُفرِ والظُّلمِ والمعاصي !
كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم.
أي: يا أيُّها النَّاسُ إنَّما وَبالُ بَغيِكم هذا عائدٌ على أنفُسِكم في الدُّنيا والآخِرةِ، ولن تَضُرُّوا اللهَ شيئًا .
كما قال تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] .
وعن أبي بَكرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن ذَنبٍ أجدَرُ أن يُعَجِّلَ اللهُ لِصاحِبِه العُقوبةَ في الدُّنيا مع ما يَدَّخِرُ له في الآخرةِ، مِن البَغيِ وقَطيعةِ الرَّحِم) ) .
مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: تتمَتَّعونَ به مُدَّةَ حَياتِكم القصيرةِ الفانيةِ .
ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: ثمَّ إلينا يكونُ مَصيرُكم بعد مَوتِكم، فنُخبِرُكم يومَ القيامةِ بما كُنتُم تعملونَ في الدُّنيا، ونجازيكم عليه
.
الفوائد التربوية :
1- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ تضمَّنَتِ الآيةُ البَيانَ عَمَّا توجِبُه بديهةُ العَقلِ مِن الفَزعِ عند الشِّدَّةِ إلى واهِبِ السَّلامةِ، ومُسبِغِ النِّعمةِ، في كَشفِ تلك البَليَّةِ
.
2- البَغيُ يُجازَى أصحابُه عليه في الدُّنيا والآخرةِ؛ نَستفيدُ ذلك مِن قَولِ الله تعالى: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا سمَّى تكذيبَهم بآياتِ اللهِ (مكرًا)؛ لأنَّ المكرَ عِبارةٌ عن صَرفِ الشَّيءِ عن وَجهِه الظَّاهِرِ بطريقِ الحِيلةِ، وهؤلاء يحتالونَ لِدَفعِ آياتِ اللهِ بكُلِّ ما يَقدِرونَ عليه؛ مِن إلقاءِ شُبهةٍ، أو تخليطٍ في مناظرةٍ، أو غيرِ ذلك من الأمورِ الفاسدةِ
.
2- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ تضمَّنَت الآيةُ البَيانَ عَمَّا يُوجِبُه حالُ الجاهِلِ مِن تَضييعِ حَقِّ النِّعمةِ والمَكرِ فيها، وإن جَلَّتْ مَنزِلتُها، وأتتْ على فاقةٍ إليها، وشِدَّةِ حاجةٍ إلى نُزولِها، مع الوعيدِ بعائدِ الوَبالِ على الماكرِ فيها .
3- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فيه جوازُ رُكوبِ البَحرِ مُطلقًا في الغَزوِ، وفي غيرِ الغَزوِ .
4- قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ في هذا دَليلٌ على أنَّ المُضطرَّ يُجابُ دُعاؤه وإن كان كافرًا؛ لانقطاعِ الأسبابِ، ورُجوعِه إلى الواحِدِ رَبِّ الأربابِ .
5- قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الاعترافُ باللهِ مَركوزٌ في طبائِعِ العالَم، وهم مَجبولونَ على أنَّه المتصَرِّفُ في الأشياءِ، فإذا حقَّت الحقائِقُ رَجَعوا إليه كُلُّهم؛ مُؤمِنُهم وكافِرُهم ؛ فقد جُبِلوا على الرُّجوعِ إليه في الشَّدائِدِ .
6- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ لَمَّا كان الخَوفُ في البَحرِ أغلَبَ على الإنسانِ منه في البَرِّ؛ وقع المِثالُ به لذلك المَعنى الكُليِّ؛ مِن التجاءِ العَبدِ لِرَبِّه تعالى حالةَ الشِّدَّةِ، والإهمالِ لجانِبِه حالةَ الرَّخاءِ .
7- ذُكرتِ الرياحُ في القُرآنِ جَمعًا ومُفردةً، فحيث كانت في سياقِ الرَّحمةِ أتت مجموعةً، وحيثُ وقعتْ في سياقِ العَذابِ أتت مُفردةً، وسرُّ ذلك أنَّ رياحَ الرَّحمةِ مُختلفةُ الصِّفاتِ والمهابِّ والمَنافِعِ، وأمَّا في العذابِ فإنَّها تأتي مِن وجهٍ واحدٍ وصِمَام واحدٍ لا يقومُ لها شيءٌ، ولا يعارِضُها غيرُها حتى تنتهيَ إلى حيث أُمِرَتْ، ولهذا وصفَ سُبحانه الريحَ التي أرسلَها على عادٍ بأنَّها عقيمٌ، فقال سُبحانه: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: 41] وهي التي لا تُلقِحُ ، ولا خيرَ فيها، إلَّا أنَّ هذا لم يَطَّرِدْ هنا في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ حيث جاءت بالإفرادِ، ووُصِفَت بأنها طَيِّبةٌ! ووجهُ ذلك: أنَّ تمامَ الرَّحمةِ هنا إنَّما تحصُلُ بوَحدةِ الرِّيحِ لا باختلافِها، بخلافِ المقصودِ منها في البَرِّ؛ فإنَّ السفينةَ لا تسيرُ إلَّا بريحٍ واحدةٍ مِن وجهٍ واحدٍ تُسَيِّرُها، فإذا اختَلَفَت عليها الرِّياحُ وتصادَمَتْ وتقابَلَتْ، فهو سببُ الهلاكِ، فالمطلوبُ هنا ريحٌ واحدةٌ لا رياحٌ، وأكَّدَ هذا المعنى بوصفِها بالطَّيِّبةِ؛ دفعًا لتوهُّمِ أنْ تكون ريحًا عاصفةً؛ بل هي ممَّا يُفرحُ بها لِطِيبِها .
8- قَولُ اللهِ تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فيه بَيانُ أنَّ هؤلاءِ المُشرِكينَ كانوا لا يَلتَفِتونَ إلى أصنامِهم في هذه الحالةِ وما يُشابِهُها، والعجب مِن طوائِفَ يَعتَقِدونَ في الأمواتِ!! فإذا عَرَضَت لهم في البَحرِ مثلُ هذه الحالةِ دَعُوا الأمواتَ، ولم يُخلِصُوا الدُّعاءَ لله كما فعَلَه المُشرِكونَ، فلينظُر المرء إلى ما فعَلَت تلك الاعتقاداتُ الشَّيطانيَّةُ، وأين وصل بها أهلُها، وإلى أينَ رمى بهم الشَّيطانُ، وكيف اقتادَهم وتسَلَّطَ عليهم؟! حتى انقادوا له انقيادًا ما كان يَطمَعُ في مِثلِه ولا في بَعضِه عُبَّاد الأوثانِ
.
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ
- وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ... فيه إسنادُ المِساسِ إلى الضَّرَّاءِ بعدَ إسنادِ الإذاقةِ إلى ضَميرِ الجَلالةِ، وهذا مِن الآدابِ القُرآنيَّةِ؛ كما في قولِه تعالى: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] ونَظائرِه
.
- وجاء الكلامُ على طَريقةِ الحِكايةِ عن حالِهم، والمُلْقَى إليه الكلامُ هو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمِنون، وفيه تعريضٌ بتَذْكيرِ الكُفَّارِ بحالِ حُلولِ المصائبِ بِهم؛ لعلَّهم يتَذكَّرون، فيُعِدُّوا عُدَّةَ الخوفِ مِن حُلولِ النِّقْمةِ الَّتي أنذَرَهم بها في قولِه: فَانْتَظِرُوا .
- قولُه: إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا فيه تنكيرُ مَكْرٌ؛ للتَّفخيمِ .
- قولُه: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ؛ فإنَّه قال: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا، فجاءَت أفعَلُ التَّفضيلِ؛ لأنَّ جُملةَ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قبْلَها تتَضمَّنُ سُرعةَ المَكْرِ مِنهم؛ لأنَّ هذه الجملةَ دليلٌ على سُرعةِ تَقلُّبِ ابنِ آدَمَ مِن حالةِ الخيرِ إلى حالةِ الشَّرِّ، وذلك بلَفْظِ أَذَقْنَا، كأنَّه قيلَ: أوَّلَ ذَوْقِه الرَّحمةَ قبلَ أن يُداوِمَ استِطْعامَها مَكَروهٌ، وبلفظِ مِنْ الْمُشْعِرِ بابتِداءِ الغايةِ، أي: يُنشِئُ المَكْرَ إثْرَ كَشْفِ الضَّرَّاءِ لا يُمهِلُ ذلك، وبلَفظِ (إذا) الفُجائيَّةِ الواقعةِ جَوابًا لـ(إذا) الشَّرطيَّةِ، أي: في وقتِ إذاقةِ الرَّحمةِ، كأنَّه قال: وإذا رَحِمْناهم مِن بعدِ ضرَّاءَ فاجَؤوا وُقوعَ المكرِ مِنهم، وسارَعوا إليه قبل أن يَغسِلوا رُؤوسَهم مِن مَسِّ الضَّرَّاءِ، ولم يتَلبَّثوا ريثَما يُسيغُون غُصَّتَهم .
- وجملةُ: إِنَّ رُسَلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ استِئْنافُ خِطابٍ للمُشرِكينَ مُباشَرةً؛ تَهديدًا مِن اللهِ؛ فلِذَلِك فُصِلَت ولم تُعطَفْ على الَّتي قبلَها؛ لاختِلافِ المُخاطَبِ، وتأكيدُ الجملةِ بـإنَّ؛ لِكَونِ المخُاطَبين يَعتقِدون خِلافَ ذلك؛ إذْ كانوا يَحسَبون أنَّهم يَمكُرون بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ مَكْرَهم يتَمشَّى عليه ولا يَشعُرُ به، فأعلَمَهم اللهُ بأنَّ الملائِكةَ الموكَّلِين بإحصاءِ الأعمالِ يَكتُبون ذلك . وهذه الجملةُ أيضًا تَعليلٌ مِن جِهتِه تعالى لأسرَعيَّةِ مَكرِه سبحانه، وفيه مِن المبالَغةِ ما لا يوصَفُ، وصيغةُ الاستقبالِ في (يَكْتُبون- تَمكُرون)؛ للدَّلالةِ على الاستِمرارِ التَّجدُّديِّ ، والتَّكرُّرِ، أي: تتَكرَّرُ كِتابتُهم كلَّما يتَكرَّرُ مَكرُهم .
- وفي قولِه: تَمْكُرُونَ- بالتَّاءِ على الخِطابِ- مُبالَغةٌ لهم في الإعلامِ بحالِ مَكرِهم .
- وفي قولِه: إِنَّ رُسَلَنَا الْتِفَاتٌ- حيث لم يَقُلْ: (إنَّ رُسلَه)- فهو تلوينٌ للخِطابِ بصَرفِه عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهم؛ للتَّشديدِ في التَّوبيخِ .
2- قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
- في قولِه: وَجَرَيْنَ بِهِمْ التفاتٌ، حيث عدَل عن الخِطابِ إلى الغيبةِ؛ للمُبالغةِ، كأنَّه تذكِرةٌ لغَيرِهم؛ لِيتعجَّبَ مِن حالِهم ويُنكِرَ عليهم ، ومِن بديعِ الأسلوبِ في الآيةِ: أنَّها لَمَّا كانت بصَددِ ذِكْرِ النِّعمةِ جاءَت بضَمائرِ الخِطابِ الصَّالحةِ لِجَميعِ السَّامِعين، فلمَّا تَهيَّأَت للانتِقالِ إلى ذِكْرِ الضَّرَّاءِ وقَع الانتِقالُ مِن ضَمائرِ الخِطابِ إلى ضَميرِ الغيبةِ؛ لِتَلوينِ الأسلوبِ بما يُخلِّصُه إلى الإفضاءِ إلى ما يَخُصُّ المشرِكين، فقال: وَجَرَيْنَ بِهِمْ على طريقةِ الالتِفاتِ، أي: وجرَيْن بكُم، وهكذا أُجرِيَت الضَّمائرُ جامِعةً للفريقَين، إلى أن قال: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ فإنَّ هذا ليس مِن شِيَمِ المؤمِنين، فتَمحَّضَ ضميرُ الغيبةِ هذا للمُشركين، فقد أخرَج مِن الخبَرِ مَن عَدا الَّذين يَبغُون في الأرضِ بغيرِ الحقِّ؛ تعويلًا على القَرينةِ؛ لأنَّ الَّذين يَبغون في الأرضِ بغيرِ الحقِّ لا يَشمَلُ المسلِمين .
- وأيضًا ابتُدِئ الإتيانُ بضَميرِ الغيبةِ مِن آخِرِ ذكرِ النِّعمةِ عندَ قولِه: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ؛ للتَّصريحِ بأنَّ النِّعمةَ شَمِلَتهم، وللإشارةِ إلى أنَّ مَجيءَ العاصفةِ فجأةً في حالِ الفرَحِ مُرادٌ مِنه ابتِلاؤُهم وتخويفُهم؛ فهو تمهيدٌ لقولِه: وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ .
- قولُه: لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فيه تأكيدُ وَعْدِهم بالشُّكرِ بثَلاثِ مُؤكِّداتٍ: لامِ تَوطِئةِ القَسَمِ، ونونِ التَّوكيدِ، والتَّعبيرِ بصيغةِ مِنَ الشَّاكِرِينَ وهو أبلَغُ مِن (لنَكوننَّ شاكِرين)؛ لِما يُفيدُه مِن كَونِهم مِن هذه الزُّمرةِ الَّتي دَيدَنُها الشُّكرُ .
3- قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
- قولُه: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أتَى بـ (إذا) الفُجائيَّةِ في جوابِ (لَمَّا)؛ للدَّلالةِ على تَعجيلِهم بالبَغيِ في الأرضِ عَقِبَ النَّجاةِ .
- وزيادةُ فِي الْأَرْضِ؛ للدَّلالةِ على شُمولِ بَغيِهم لأقطارِها، وصيغةُ المضارِعِ يَبْغُونَ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والاستمرارِ .
- وقولُه: بِغَيْرِ الْحَقِّ قيدٌ كاشفٌ لِمَعنى البغيِ؛ إذ البغيُ لا يَكونُ بحقٍّ، فهو كالتَّقييدِ في قولِه تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50] .
- قولُه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ توجيهٌ للخِطابِ إلى أولئك الباغينَ؛ للتَّشديدِ في التَّهديدِ، والمبالَغةِ في الوَعيدِ . وافتُتِح الخِطابُ بـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ لاستِصْغاءِ أسماعِهم، والمقصودُ مِن هذا تَحذيرُ المشرِكين ثمَّ تَهديدُهم .
قولُه: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ في قَصْرِ البَغيِ على كونِه مُضِرًّا بهم- كما هو مُفادُ حرفِ الاستِعْلاءِ (على)- تنبيهٌ على حَقيقةٍ واقعيَّةٍ وموعظةٍ لهم؛ لِيَعلَموا أنَّ التَّحذيرَ مِن الشِّركِ والتَّهديدَ عليه لِرَعْيِ صَلاحِهم، لا لأنَّهم يَضُرُّونه سُبحانَه .
- قولُه: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ... فيه تقديم الجارِّ والمجرورِ؛ للدَّلالةِ على الثَّباتِ والقَصْرِ ، وإفادةِ الاختِصاصِ، أي: تُرجَعون إلينا لا إلى غيرِنا؛ تَنزيلًا للمُخاطَبين منزلةَ مَن يظُنُّ أنَّه يُرجَعُ إلى غيرِ اللهِ؛ لأنَّ حالَهم في التَّكذيبِ بآياتِه، والإعراضِ عن عِبادتِه إلى عبادةِ الأصنامِ كحالِ مَن يظُنُّ أنَّه يُحشَرُ إلى الأصنامِ، وإن كان المشرِكون يُنكِرون البَعثَ مِن أصلِه .
- وعُطِفَت هذه الجملةُ بـ (ثُمَّ)؛ لإفادةِ التَّراخي الرُّتبيِّ؛ لأنَّ مضمونَ هذه الجملةِ أصرَحُ تَهديدًا مِن مَضمونِ جُملةِ: إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ .
- قولُه: فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه تفريعُ فَنُنَبِّئُكُمْ على جملةِ: إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ تفريعَ وعيدٍ على تهديدٍ، والإنباءُ هنا كنايةٌ عَن الجزاءِ؛ لأنَّ الإنباءَ يَستلزِمُ العِلمَ بأعمالِهم السَّيِّئةِ، والقادِرُ إذا عَلِم بسوءِ صَنيعِ عَبدِه لا يَمنَعُه مِن عقابِه مانِعٌ، وفي ذِكْرِ كُنْتُمْ والفِعْلِ المضارعِ تَعْمَلُونَ دَلالةٌ على تَكرُّرِ عمَلِهم، وتَمكُّنِه مِنهم .
========================
سُورةُ يُونُس
الآيتان (24-25)
ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ
غريب الكلمات:
زُخْرُفَهَا: أي: حُسنَها وبَهاءَها، وزينَتَها بالنَّباتِ، وأصلُ الزخرف: الذَّهَبُ والزِّينةُ المُزَوَّقةُ
.
حَصِيدًا: أي: محصودةً، ومقطوعةً مِن أصولِها. وأصلُ (حصد): يدلُّ على قَطعِ الشَّيءِ .
لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ: أي: لم تَكُنْ عامِرةً، مِن: غَنِيَ في المكانِ: إذا أقامَ فيه وعَمَّره، ومِنه المَغاني: المَنازِلُ التي يَعمُرُها النَّاسُ. وأصلُ (غني): يدلُّ على الكِفايةِ
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ تعالى أنَّ مَثَلَ زينةِ الحياةِ الدُّنيا، في سُرعةِ زَوالِها، كمَثَلِ مَطَرٍ أنزَلَه اللهُ مِن السَّماءِ إلى الأرضِ، فنبَتَ به أنواعٌ مِن نباتِ الأرضِ، اختلط بعضُها ببعضٍ، ممَّا يأكُلُه النَّاسُ والأنعامُ، حتى إذا ظهر حُسنُ الأرضِ بألوانِ النَّباتِ المُختَلِفةِ، وتزَيَّنَت بأنواعِ الحُبوبِ والثِّمارِ، والأزهارِ المتعَدِّدةِ الألوانِ والأشكالِ، وأيقنَ أهلُها أنَّهم قادِرونَ على حَصدِ زَرْعِها، وقَطْفِ ثِمارِها؛ أتاها قضاءُ اللهِ بإهلاكِ نَباتِها، فصَيَّرَ تعالى النَّباتَ مَقلوعًا هالِكًا، كأنْ لم يكُنْ قائمًا على ظَهرِ الأرضِ مِن قَبلُ، كذلك يُفصِّلُ اللهُ الآياتِ لِقَومٍ يتفَكَّرونَ.
ويُبيِّنُ تعالى أنَّه يدعو عِبادَه لِدُخولِ جَنَّتِه، السَّالِمةِ مِن جميعِ الآفاتِ، ويُرشِدُ ويُوفِّقُ من يشاءُ مِن عِبادِه لسُلوكِ الطَّريقِ المُستقيمِ، المُوصِل إلى الجنَّةِ، وهو الإسلامُ.
تفسير الآيتين:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وكان سبَبُ ما ذُكِرَ مِن البَغيِ هو الإفراطَ في حبِّ التمتُّعِ بما في الدُّنيا من الزِّينةِ واللَّذَّاتِ؛ ضرَبَ مثلًا بَليغًا عَجيبًا للحياةِ الدُّنيا، يُذَكِّرُ من يبغي فيها على سُرعةِ زَوالِها وانقضائِها، ويَصرِفُ العاقِلَ عن الغُرورِ بها، ويهديه إلى القَصدِ والاعتدالِ فيها، واجتنابِ التوسُّلِ إليها بالبَغيِ والظُّلمِ، وحُبِّ العُلُوِّ والفَسادِ في الأرضِ، وأنَّها بحالِ ما تُعِزُّ وتُسِرُّ، تَضمَحِلُّ ويَؤُولُ أمرُها إلى الفَناءِ
.
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء.
أي: إنَّما مَثَلُ زِينةِ الحياةِ الدُّنيا في سُرعةِ زَوالِها، كمَثَلِ مَطرٍ أنزلناه من السَّماءِ إلى الأرضِ .
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ.
أي: فنَبَتَ بذلك المطَرِ أنواعٌ مِن نَباتِ الأرضِ مُتداخِلٌ بعضُها في بعضٍ ممَّا يأكُلُه النَّاسُ من الحُبوبِ والثِّمارِ والبُقولِ، وممَّا تأكُلُه الأنعامُ مِن الكَلأِ والعُشبِ .
حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ.
أي: حتَّى إذا ظهَرَ حُسنُ الأرضِ بألوانِ النَّباتِ المُختَلفةِ، وتزيَّنَت بأنواعِ الحُبوبِ والثِّمارِ والأزهارِ المتعدِّدةِ الأشكالِ والألوانِ .
كما قال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5] .
وقال سُبحانه: وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ *وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: 7 - 10] .
وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ.
أي: وأيقَنَ أهلُ الأرضِ- الذين زَرَعوها وغَرَسوها- أنَّهم قادِرونَ على حَصدِ زَرعِها، وقَطْفِ ثِمارِها .
أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ.
أي: جاء الأرضَ قضاؤُنا بإهلاكِ نَباتِها فجأةً؛ إمَّا ليلًا أو نهارًا، فصيَّرْنا النَّباتَ مَقلوعًا هالِكًا، كأنْ لم يكُنْ قائمًا على ظَهرِ الأرضِ يُزَيِّنُها بجمالِه مِن قَبلُ !
كما قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف: 45] .
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
أي: كما بيَّنَّا لكم- أيُّها النَّاسُ- مَثَلَ الدُّنيا بهذا المِثالِ، وعرَّفناكم أمْرَها؛ نُبَيِّنُ ونُوضِّحُ- بمِثلِ ذلك التَّفصيلِ البديعِ- الآياتِ لقومٍ يتفكَّرونَ ويعتبرونَ، فلا يغترُّونَ بالدُّنيا الفانيةِ .
كما قال سُبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [الزمر: 21] .
وقال عزَّ وجلَّ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20] .
وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى الدُّنيا، وسُرعةَ عَطَبِها وزَوالِها، ونَفَّرَ عن المَيلِ إليها بالمَثَلِ السَّابقِ؛ رغَّبَ في الآخرةِ، ودعا إلى الجنَّةِ ، فقال:
وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ.
أي: واللهُ يدعو عِبادَه إلى دُخولِ جَنَّتِه السَّالِمةِ مِن جميعِ الآفاتِ، فاطلُبوها بِطاعَتِه، ولا تطلُبوا الدُّنيا وزينَتَها؛ فإنَّها مليئةٌ بالآفاتِ والنَّكَباتِ، ومصيرُها إلى زوالٍ وفَناءٍ .
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((جاءتْ ملائكةٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو نائِمٌ، فقال بعضُهم: إنَّه نائمٌ، وقال بعضُهم: إنَّ العَينَ نائِمةٌ، والقلبَ يَقظانُ، فقالوا: إنَّ لِصاحِبِكم هذا مَثلًا، فاضرِبوا له مَثلًا، فقال بعضُهم: إنَّه نائِمٌ، وقال بعضُهم: إنَّ العَينَ نائمةٌ، والقَلبَ يَقظانُ، فقالوا: مَثَلُه كمَثَلِ رَجُلٍ بنى دارًا، وجعل فيها مأدُبةً ، وبعثَ داعيًا، فمن أجابَ الدَّاعيَ دخل الدَّارَ، وأكلَ مِن المَأدُبةِ، ومَن لم يُجِبِ الدَّاعيَ لم يدخُلِ الدَّارَ، ولم يأكلْ من المأدُبة، فقالوا: أوِّلُوها له يَفْقَهْها، فقال بعضُهم: إنَّه نائمٌ، وقال بعضُهم: إنَّ العَينَ نائمةٌ، والقَلبَ يَقظانُ، فقالوا: فالدَّارُ الجنَّةُ، والدَّاعي مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمن أطاع محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقد أطاعَ الله، ومَن عصى محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقد عصى اللهَ، ومُحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم فَرْقٌ بين النَّاسِ)) .
وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.
أي: واللهُ يُرشِدُ ويوفِّقُ مَن يَشاءُ مِن عِبادِه إلى الإسلامِ، وهو الطَّريقُ المُستَقيمُ المُوصِلُ مَن سلَكَه إلى الجنَّةِ
.
الفوائد التربوية :
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ شَبَّه الحياةَ الدُّنيا بماءِ السَّماءِ دونَ ماءِ الأرضِ؛ لأنَّ ماءَ السَّماءِ- وهو المطَرُ- لا تأثيرَ لِكَسبِ العَبدِ فيه بزيادةٍ أو نقصٍ، أو لأنَّه يستوي فيه جميعُ الخلائِقِ، بخلافِ ماءِ الأرضِ، فكان تشبيهُ الحياةِ به أنسَبَ
.
2- الأمرُ المذكورُ في قَولِه تعالى: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا هو الأمْرُ الكونيُّ، ويقابلُه: الأمْرُ الدينيُّ، كما في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] .
3- الإرادةُ نوعان: إرادةٌ كونيَّةٌ قَدَريَّةٌ، وهي المشيئةُ، ولا مُلازمةَ بينها وبين المحبَّةِ والرِّضا، بل يدخُلُ فيها الكُفرُ والإيمانُ، والطَّاعاتُ والعِصيانُ، والمَرضِيُّ والمحبوبُ والمكروهُ وضِدُّه، وإرادةٌ دينيَّةٌ شَرعيَّةٌ مختَصَّةٌ بمراضي اللهِ ومَحابِّه، وعلى مقتضاها أمَرَ عِبادَه ونهاهم، وتجتَمِعُ الإرادةُ الكونيَّةُ والشَّرعيَّةُ في حَقِّ المُؤمِنِ الطائعِ، وتنفَرِدُ الكونيَّةُ في حقِّ الفاجِرِ العاصي؛ فالله سبحانه دعا عبادَه عامَّةً إلى مرضاتِه، وهدى لإجابتِه من شاء منهم، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فعمَّمَ سُبحانه الدَّعوةَ، وخَصَّ الهدايةَ بمَن شاء .
4- قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ أي: يدعو النَّاسَ جميعًا إلى دارِ السَّلامةِ عن كُلِّ مَكروهٍ وآفةٍ، وهي الجنَّةُ، وإنَّما ذُكِرَت بهذا الاسمِ لذِكْرِ الدُّنيا بما يُقابِلُه مِن كَونِها مَعرِضًا للآفاتِ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ عَمَّ سبحانَه وتعالى بالدَّعوةِ أوَّلًا؛ إظهارًا للحُجَّةِ، وخَصَّ بالهدايةِ ثانيًا؛ استغناءً عن خَلْقِه، وإظهارًا للقُدرةِ، لأنَّ الحُكمَ له في خَلْقِه ، وقيل أيضًا: عمَّ بالدَّعوةِ إلى دارِ السَّلامِ، وخَصَّ بالهدايةِ مَن يشاءُ، فذاك عَدلُه، وهذا فَضلُه .
6- قال اللهُ تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ هذه الآيةُ بَيِّنةُ الحُجَّةِ في الرَّدِّ على القَدَريَّةِ؛ لأنَّهم قالوا: هَدى اللهُ الخَلقَ كُلَّهم إلى صراطٍ مُستقيمٍ، واللهُ قال: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فردُّوا على اللهِ نُصوصَ القُرآنِ .
7- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ حثٌّ مِن الله تعالى لعبادِه على إجابةِ هذه الدَّعوةِ، والمبادرةِ إليها، والمُسارعةِ في الإجابةِ
.
بلاغة الآيتين:
1- قَولُه تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
- قولُه: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ... فيه تشبيهٌ، وهو مِن التَّشبيهِ المركَّبِ؛ شُبِّهَت حالُ الدُّنيا في سُرعةِ تَقَضِّيها، وانقِراضِ نَعيمِها بعدَ الإقبالِ، بحالِ نَباتِ الأرضِ في جَفافِه وذَهابِه حُطامًا بعدَما الْتَفَّ وتَكاثَفَ، وزيَّن الأرضَ بخُضرتِه ورَفيفِه
، وهذه الآيةُ تتَنزَّلُ مَنزِلةَ البيانِ لقَولِه: مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا المؤذِنةِ بأنَّ تَمتُّعَهم بالدُّنيا ما هو إلَّا لمدَّةٍ قصيرةٍ، فبيَّنَت هذه الآيةُ أنَّ التَّمتُّعَ صائِرٌ إلى زَوالٍ، وأطنَبَت فشبَّهَت هيئةَ التَّمتُّعِ بالدُّنيا لأصحابِها بهيئةِ الزَّرعِ في نَضارتِه، ثمَّ في مَصيرِه إلى الحَصْدِ .
وفي هذه الآيةِ عَشْرُ جُمَلٍ وقَع التَّركيبُ مِن مَجموعِها، بحيث لو سقَط مِنها شيءٌ اختَلَّ التَّشبيهُ، قيل: وجهُ تشبيهِ الدُّنيا بالماءِ أمْرانِ؛ أحَدُهما: أنَّ الماءَ إذا أخَذتَ مِنه فوقَ حاجَتِك تضَرَّرتَ، وإن أخذتَ قدْرَ الحاجةِ انتفعتَ به، فكَذِلك الدُّنيا. والثَّاني: أنَّ الماءَ إذا طبَّقتَ عليه كفَّك لِتَحفَظَه لم يَحصُلْ فيه شيءٌ فكذلك الدُّنيا .
- وصيغةُ القَصرِ إِنَّمَا هنا لِتَأكيدِ المقصودِ مِن التَّشبيهِ، وهو سُرعةُ الانقِضاءِ، ولِتَنزيلِ السَّامِعين مَنزلةَ مَن يَحسَبُ دَوامَ بهجةِ الحياةِ الدُّنيا؛ لأنَّ حالَهم في الانكِبابِ على نَعيمِ الدُّنيا كحالِ مَن يَحسَبُ دَوامَه، ويُنكِرُ أن يَكونَ له انقِضاءٌ سريعٌ ومُفاجئٌ، والمعنى: قَصرُ حالةِ الحياةِ الدُّنيا على مُشابهةِ حالةِ النَّباتِ الموصوفِ؛ فالقصرُ قَصْرُ قَلبٍ، بُنِيَ على تنزيلِ المُخاطَبينَ منزلةَ مَن يَعتقِدُ عَكسَ تِلك الحالةِ؛ شُبِّهتْ حالةُ الحياةِ في سُرعةِ تَقضِّيها، وزوالِ نَعيمِها بعدَ البهجةِ به، وتَزايُدِ نَضارتِها بحالِ نباتِ الأرضِ في ذَهابِه حُطامًا، ومَصيرِه حَصيدًا، ومِن بديعِ هذا التَّشبيهِ: تَضمُّنُه لتشبيهاتٍ مُفرَّقةٍ من أطوارِ الحالينِ المتشابهَينِ بحيثُ يَصلُحُ كلُّ جزءٍ مِن هذا التشبيهِ المركَّبِ لتشبيهِ جُزءٍ مِن الحالينِ المتشابِهينِ؛ ولذلك أَطْنَبَ وصْفَ الحالينِ مِن ابتدائِه .
- قولُه: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ... كلامٌ فصيحٌ بديعُ اللَّفظِ، حيث جُعِلَت الأرضُ آخِذةً زُخرُفَها على التَّمثيلِ بالعَروسِ، إذا أخَذَت الثِّيابَ الفاخِرةَ مِن كلِّ لونٍ، فاكْتَسَتها وتزَيَّنَت بغيرِها مِن ألوانِ الزِّيَنِ .
- قولُه: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ فيه مُبالَغةٌ في التَّلَفِ والهلاكِ، حتَّى كأنَّها لم تُوجَدْ قَبلُ، ولم يَقُمْ بالأرضِ بهجةٌ خَضِرةٌ نضِرةٌ تَسُرُّ أهلَها .
- قولُه: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تذييلٌ جامعٌ؛ أي مِثْلَ هذا التَّفصيلِ نُفصِّلُ، أي: نُبيِّنُ الدَّلالاتِ كلَّها الدَّالَّةَ على عُمومِ العلمِ والقدرةِ، وإتقانِ الصُّنعِ ، وفيه تعريضٌ بأنَّ الذين لم ينتَفِعوا بالآياتِ، ليسوا مِن أهلِ التفَكُّرِ، ولا كان تفصيلُ الآياتِ لأجْلِهم .
- وفي قولِه: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ خَصَّ (الْمُتَفَكِّرِينَ) بالذِّكرِ؛ تَشريفًا للمنزلةِ، ولِيَقعَ التَّسابُقُ إلى هذه الرُّتبةِ ، ولأنَّهم هم المنتَفِعون بتَفصيلِ الآياتِ .
2- قولُه تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
- قولُه: دَارِ السَّلَامِ فيه إضافةُ الدَّارِ إلى اسمِه سُبحانَه؛ تَعظيمًا وتَشريفًا لها ، وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.
- وفي قولِه: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مناسَبةٌ حسَنةٌ؛ فإنَّه لَمَّا كان الدُّعاءُ عامًّا لم يتَقيَّدْ بالمشيئةِ، ولَمَّا كانت الهدايةُ خاصَّةً تقيَّدَت بالمشيئةِ، فقال: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .
=========================
سُورةُ يُونُس
الآيتان (26-27)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
غريب الكلمات:
وَلَا يَرْهَقُ: أي: لا يَغشَى، ولا يَعلُو، وأصلُ (رهق): غِشْيانُ الشَّيءِ الشَّيءَ
.
قَتَرٌ: أي: غبارٌ وكآبةٌ، وأصلُ (قتر): يدلُّ على تجميعٍ وتَضييقٍ .
ذِلَّةٌ: أي: صَغارٌ، وأصْلُ الذُّلِّ: الخُضُوعُ والاستكانةُ
.
المعنى الإجمالي:
يُبَيِّنُ تعالى أنَّ الَّذينَ أحسَنوا في الدُّنيا لهم الجنَّةُ في الآخرةِ، وزيادةٌ على ذلك، ومِن الزيادةِ- بل أعظمُها- النَّظَرُ إلى وَجهِ اللهِ الكريمِ، ولا يغشَى وُجوهَهم غُبارٌ ولا هَوانٌ ولا صَغارٌ، أولئك أصحابُ الجنَّةِ هم فيها ماكِثونَ أبدًا.
والذين عمِلوا السَّيِّئاتِ فعَصَوا وكفَروا بالله ورسولِه، فلهم جزاءٌ يسوؤُهم بحسبِ ما عمِلوا مِن السيئاتِ، دونَ زيادةٍ، ويغشاهم هَوانٌ وذُلٌّ وخِزيٌ، ليس لهم مِن اللهِ مِن مانعٍ يمنَعُ عنهم سَخَطَه وعذابَه، كأنَّما أُلبِسَت وجوهُهم- مِن شِدَّةِ سَوادِها- أجزاءً مِن اللَّيلِ في حالِ ظُلمَتِه، أولئك أصحابُ النَّارِ هم فيها ماكِثونَ أبدًا.
تفسير الآيتين:
لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا دعا اللهُ تعالى عِبادَه إلى دارِ السَّلامِ؛ ذكَرَ السَّعاداتِ التي تحصُلُ لهم فيها
.
وأيضًا لَمَّا أفهم خَتمُ الآيةِ بِقَولِه: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أنَّ مِن النَّاسِ مَن يهديه، ومنهم مَن يُضِلُّه، وأنَّ الكُلَّ فاعلونَ لِما يَشاءُ، كان موضِعَ أن يُقالَ: هل هم واحِدٌ في جزائِه، كما هم واحِدٌ في الانقيادِ لِمُرادِه؟ فقيل: لا، بل هم فَريقانِ، فذَكَرَهما .
وأيضًا أنَّه لَمَّا دعا تعالى إلى دارِ السَّلامِ، كأنَّ النُّفوسَ تَشَوَّقَت إلى الأعمالِ المُوجِبةِ لها المُوصِلةِ إليها، فأخبَرَ عنها بقَولِه تعالى :
لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ.
أي: للَّذين أحسَنوا في الدُّنيا بالإيمانِ، وأحسَنوا في طاعةِ الرَّحمنِ؛ امتثالًا لأمرِه، واجتنابًا لِنَهيِه، على وَجهِ المُراقَبةِ له سُبحانه، وأحسَنوا إلى عبادِ اللهِ تعالى؛ هؤلاء لهم الجنَّةُ، ولهم زيادةٌ على ذلك، وأعظمُ أنواعِها النَّظَرُ إلى وجهِ الله عزَّ وجلَّ .
كما قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60].
وقال سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23].
وعن صُهَيبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا دخَلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، يَقولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُريدونَ شَيئًا أزيدُكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّضْ وُجوهَنا؟! ألم تُدخِلْنا الجنَّةَ، وتُنْجِنا من النَّارِ؟! قال: فيَكشِفُ الحِجابَ، فما أُعطُوا شَيئًا أحَبَّ إليهم مِن النَّظَرِ إلى رَبِّهم عزَّ وجَلَّ، ثمَّ تلا هذه الآيةَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) .
وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا شرَحَ اللهُ تعالى ما يحصُلُ لأهلِ الجنَّةِ مِن السَّعاداتِ، شرَحَ بعد ذلك الآفاتِ التي صانَهم اللهُ بفَضلِه عنها، فقال تعالى :
وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ.
أي: ولا يَغشى وجوهَ أهلِ الجنَّة غُبارٌ ولا كآبةٌ، ولا هوانٌ أو صَغَارٌ .
كما قال تعالى: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: 11].
وقال سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس: 38-39] .
وقال عزَّ وجلَّ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] .
أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي: أولئك- الذين أحسَنوا- أهلُ الجنَّةِ، هم فيها ماكِثونَ أبدًا .
وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لمَّا أخبَر تعالَى عن حالِ السُّعداءِ؛ عَطَف بذكرِ حالِ الأشقياءِ، فذَكَر عدلَه تعالى فيهم، وأنَّه يُجازيهم على السَّيِّئةِ بمثلِها، لا يزيدُهم على ذلك .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى كما شرحَ حالَ المُسلِمينَ في الآيةِ المتقَدِّمةِ، شَرحَ حال مَن أقدَمَ على السيِّئاتِ في هذه الآيةِ ، فقال:
وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا.
أي: والَّذين عمِلوا السيِّئاتِ في الدُّنيا، فعَصَوا وكفَروا بالله ورسولِه، فلهم جزاءٌ يسوؤُهم بحسبِ ما عمِلوا مِن السيئاتِ، دونَ زيادةٍ على ما يستحقُّونَ .
كما قال تعالى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160] .
وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.
أي: ويَغشاهم هوانٌ وخِزيٌ .
كما قال تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45] .
وقال سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 42، 43].
مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ.
أي: ما لهم مِن اللهِ مِن مانعٍ يمنَعُ عنهم سَخَطَه وعذابَه .
كما قال تعالى: لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [الرعد: 34].
وقال سُبحانه: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [غافر: 33] .
كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا.
أي: كأنَّما أُلبِسَت وجوهُهُم- مِن شِدَّةِ سَوادِها- أَجزاءً مِن اللَّيلِ في حالِ ظُلمَتِه .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] .
وقال سبحانه: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران: 106] .
أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي: أولئك- الموصوفونَ بهذه الصفاتِ الذميمةِ- أهلُ النَّارِ، هم فيها ماكِثونَ أبدًا
.
الفوائد التربوية:
لا عاصِمَ مِن اللهِ لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ؛ فإنَّ قضاءَه مُحيطٌ بِجَميعِ الكائِناتِ، وقدَرَه نافِذٌ في كلِّ المُحدَثاتِ، إلَّا أنَّ الغالِبَ على الطِّباعِ العاصيةِ، أنَّهم في الحياةِ العاجلةِ مُشتَغِلونَ بأعمالِهم ومُراداتِهم، أمَّا بعد الموتِ فكُلُّ أحدٍ يُقِرُّ بأنَّه ليس له مِن اللهِ مِن عاصمٍ، قال تعالى: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
في قَولِه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ مُناسبةٌ بينَ الإحسانِ، وبينَ النَّظَرِ إلى وجهِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ووجهُ ذلك أنَّ الإحسانَ هو أنْ يَعبُدَ المؤمِنُ ربَّه في الدُّنيا على وَجهِ الحُضورِ والمُراقبةِ، كأنَّه يراهُ بقَلبِه، وينظرُ إليه في حالِ عبادَتِه، فكان جزاءُ ذلك النَّظَرَ إلى اللهِ عِيانًا في الآخرةِ، وعكسُ هذا ما أخبَرَ اللهُ تعالى به عن جزاءِ الكفَّارِ في الآخرةِ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] ، وجَعَلَ ذلك جزاءً لحالِهم في الدُّنيا، وهو تَراكُمُ الرَّانِ على قُلوبِهم؛ حتى حُجِبَتْ عن مَعرِفتِه، ومُراقَبتِه في الدُّنيا، فكان جزاؤُهم على ذلك أنْ حُجِبُوا عن رؤيَتِه في الآخرةِ
.
بلاغة الآيتين:
1- قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
- قولُه: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ جملةٌ مُستأنَفةٌ؛ لبيانِ أمْنِهم مِن المكارِه، بَعدَ بَيانِ فوزِهم بالمطالِبِ بقولِه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، وإنَّما ذَكرَ أمْنَهم مِن المكارِهِ- مع أنَّ فَوْزَهم بالمطالِبِ يَقتضِيه-؛ تَذكيرًا بما يُنقِذُهم اللهُ تعالى مِنه برحمتِه
.
- وفيه تقديمُ المفعولِ: وُجُوهَهُمْ، على الفاعلِ: قَتَرٌ؛ للاهتمامِ ببيانِ أنَّ المَصونَ مِن الرَّهَقِ أشرفُ أعضائِهم، وللتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ؛ فإنَّ ما حقُّه التَّقديمُ إذا أُخِّر تَبْقَى النَّفسُ مُترقِّبةً لوُرودِه، فعند ورودِه عليها يتَمكَّنُ عندَها فضْلَ تمكُّنٍ، ولأنَّ في الفاعلِ ضرْبَ تَفْصيلٍ .
- وكنَى بالوجهِ عن جملةِ الجسَدِ؛ لكونِ الوجهِ أشرَفَه، ولِظُهورِ أثرِ السُّرورِ والحزنِ فيه ، والمرادُ: لا ينالُهم مكروهٌ، بوجهٍ مِن الوجوهِ؛ لأنَّ المكروهَ إذا وقَع بالإنسانِ، تبيَّن ذلك في وجهِه، وتغيَّر وتكدَّر .
- وفيه تعريضٌ بالَّذين لم يَهدِهِمُ اللهُ إلى صراطٍ مستقيمٍ، وهم الَّذين كسَبوا السَّيِّئاتِ؛ تعجيلًا للمَساءةِ إليهم بطريقِ التَّعريضِ قبلَ التَّصريحِ، الذي يأتي في قولِه: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ إلى قولِه: مُظْلِمًا [يونس: 27] .
- وجملةُ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ نتيجةٌ للمقدِّمةِ؛ فبَيْنها وبينَ التي قبلَها كمالُ الاتِّصالِ؛ ولذلك فُصِلَت عنها، ولم تُعطَفْ .
- واسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ فيه تَنبيهٌ على أنَّهم استَحقُّوا الخلودَ لأجلِ إحسانِهم، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ دَرجتِهم، وسُموِّ طبَقتِهم .
2- قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
- قولُه: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ عطفٌ على جملةِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، وعبَّر في جانبِ المسيئين بفِعلِ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ، دونَ فِعْل (أَساؤوا) كما عبَّر في جانبِ الَّذين أحسَنوا؛ للإشارةِ إلى أنَّ إساءتَهم مِن فِعْلِهم وسعيِهم؛ فما ظلَمَهم اللهُ ولكنْ أنفسَهم يَظلِمون .
- وفيه تغييرُ السَّبْكِ حيثُ لم يَقُل: (ولِلَّذين كسَبوا السَّيِّئاتِ السُّوأى)، في مقابلةِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى؛ لِمُراعاةِ ما بينَ الفريقينِ مِن كمالِ التَّنائي والتَّبايُن، وإيرادُ (الكَسْبِ)؛ للإيذانِ بأنَّ ذلك إنَّما هو لسوءِ صَنيعِهم، وبسبب جِنايتِهم على أنفُسِهم .
- وأيضًا قوله: أَحْسَنُوا، وكَسَبُوا السَّيِّئاتِ فيه تنبيهٌ على أنَّ المؤمِنَ لَمَّا خُلِقَ على الفِطرةِ واصَلَها بالإحسانِ، وعلى أنَّ الكافِرَ لَمَّا خُلِقَ على الفطرةِ انتقَلَ عنها، وكسَبَ السَّيِّئاتِ، فجَعلَ ذلك مُحسِنًا، وهذا كاسِبًا للسيِّئاتِ؛ ليدُلَّ على أنَّ المؤمِنَ سلك ما يَنبغي، وهذا سلَك ما لا يَنبغي .
- قولُه: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ فيه إسنادُ الرَّهَقِ إلى أنفُسِهم دون وُجوهِهم؛ للإيذانِ بأنَّها محيطةٌ بهم غاشيةٌ لهم جميعًا، وتنكيرُ ذِلَّةٌ للتَّفخيمِ .
- قولُه: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ: نفْيُ العاصمِ فيه مُبالغةٌ ظاهرةٌ في نفْيِ العِصمةِ من الله تعالى .
- في قولِه: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا مبالغةٌ في سَوادِ الوُجوهِ، ولَمَّا كانت ظُلمةُ اللَّيلِ نهايةً في السَّوادِ شبَّه سَوادَ وُجوهِهم بقِطَعٍ مِن اللَّيلِ حالَ اشتدادِ ظُلمتِه .
=================
سُورةُ يُونُس
الآيات (28-30)
ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ
غريب الكلمات:
فَزَيَّلْنَا: أي: فَرَّقْنا. وأصلُ التزايُل: التبايُن
.
تَبْلُو: أي: تَختَبِرُ وتَعلَمُ. وأصلُ (بلو): يدلُّ على اختبارٍ .
أَسْلَفَتْ: أي: قَدَّمَت وعَمِلَت، وأصلُ (سلف): يدلُّ على تقدُّمٍ وسَبْقٍ
.
مشكل الإعراب:
قَولُه تعالى: مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ
مَكَانَكُمْ اسمُ فِعلِ أمرٍ، مبنيٌّ على الفَتحِ، لا محَلَّ له من الإعرابِ، بمعنى: اثبُتُوا، منقولٌ عن الظَّرفِ، والفاعِلُ ضَميرٌ مُستَترٌ وُجوبًا، تقديرُه (أنتم)، وأَنْتُمْ ضميرٌ مبنيٌّ في محلِّ رفعٍ توكيدٌ للضَّميرِ المُستَترِ في اسمِ الفِعل، وَشُرَكَاؤُكُمْ معطوفٌ على الضَّميرِ المُستَترِ، مرفوعٌ. وقيل: مَكَانَكُمْ مفعولٌ به منصوبٌ لفِعلٍ محذوفٍ، تَقديرُه (الزموا)
.
المعنى الإجمالي:
يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قائلًا له: واذكرْ- يا مُحمَّدُ- يومَ نَجمَعُ الخَلقَ جميعًا لِمَوقفِ الحسابِ يومَ القيامةِ، ثمَّ نقولُ للذينَ أشرَكوا: الزَمُوا مَكانَكم أنتم ومَن زَعَمتُم أنَّهم شُرَكاءُ لله في العبادةِ، وفَرَّقْنا بين المُشرِكينَ وشُرَكائِهم، وقال لهم شُركاؤهم الذين كانوا يعبدونَهم مِن دُونِ اللهِ: ما كُنتم تَعبُدونَنا في الحقيقةِ، بل كُنتُم تعبدونَ أهواءَكم وشَياطينَكم الذين أمَرُوكم بعبادَتِنا، فحَسْبُنا اللهُ شاهِدًا بيننا وبينكم؛ فهو سبحانَه وتعالى قد عَلِمَ أنَّا لم نأمُرْكم بعِبادَتِنا، ولم نكُن نَشعُرُ بعِبادتِكم لنا.
في ذلك المَوقِفِ في أرضِ المَحشَرِ يومَ القيامةِ تعلَمُ كُلُّ نَفسٍ ما قَدَّمَت من خيرٍ أو شَرٍّ، وتَجِدُه مكتوبًا لِتُحاسَبَ عليه، ورُدَّ المُشرِكونَ إلى اللهِ رَبِّهم الحَقِّ؛ لِيُجازيَهم بالعدلِ، وزال عنهم ما كانوا يختَلِقونَه من الكَذِبِ على اللهِ تعالى.
تفسير الآيات:
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ في الآيتينِ السَّابِقَتينِ ما يختَصُّ به كلُّ فريقٍ مِن الفَريقينِ مِن الجَزاءِ وسِماتِه، (الذين أحْسَنوا والذين كسَبوا السَّيِّئاتِ)؛ جاءت هذه الآيةُ بإجمالِ حالةٍ جامعةٍ للفَريقَينِ، ثمَّ بتَفصيلِ حالةٍ يَمتازُ بها المُشرِكونَ؛ لِيَحصُلَ بذلك ذِكرُ فَظيعٍ مِن أحوالِ الذين بَلَغوا الغايةَ في كَسبِ السَّيِّئاتِ، وهي سَيِّئةُ الإشراكِ الذي هو أكبَرُ الكبائرِ، وبذلك حصَلَت المُناسَبةُ مع الجُملةِ التي قَبلَها المُقتَضيةِ عَطْفَها عليها
.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا.
أي: واذكُرْ- يا مُحَمَّدُ- يومَ نَجمَعُ جَميعَ الخَلقِ لِمَوقِفِ الحسابِ يومَ القيامةِ؛ الإنسَ والجِنَّ، والمُؤمِنينَ والكافرينَ، والعابدينَ والمَعبودينَ .
كما قال تعالى: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف: 47] .
ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ.
أي: ثمَّ نقولُ للمُشرِكينَ: الزَموا مكانَكم، وقِفوا في مَوضعِكم، أنتم والذين زَعَمتُم أنَّهم شركاءُ لله في عبادتِه .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22] .
فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ.
أي: ففَرَّقْنا بين المُشرِكينَ العابدينَ، ومَعبُوديهم مِن دونِ اللهِ .
كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 166- 167] .
وقال سُبحانه: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا [الكهف: 52] .
وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ.
أي: وقال المعبودونَ للمُشرِكينَ الذين عَبَدوهم: ما كُنتُم تعبدونَنا في الحقيقةِ، بل كُنتم تعبدونَ أهواءَكم وشَياطينَكم الذين أمَروكم بعبادَتِنا .
كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ [النحل: 86] .
وقال سُبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ [الفرقان: 17-19] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ [الروم: 12-13] .
وقال جلَّ جلاله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40-41] .
فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29).
أي: قال المَعبودونَ للذين عَبَدوهم: فحَسْبُنا اللهُ شاهدًا بيننا وبينكم، أيُّها المُشرِكونَ؛ فإنَّه قد عَلِمَ أنَّكم عَبَدتُمونا من غيرِ أن نأمُرَكم، ومِن دونِ أن نَشعُرَ بعِبادتِكم لنا .
كما قال تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] .
وقال سُبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5-6] .
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (30).
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ تَتْلُو مِن التِّلاوةِ، أي: تقرأُ كُلُّ نَفسٍ أعمالَها مِن كِتابِها يومَ القيامةِ، وقيل: المعنى: تَتبَعُ كُلُّ نَفسٍ ما قدَّمَتْ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ .
2- قِراءةُ تَبْلُو، أي: تَخْبُرُ، فالمعنى: تَعلَمُ كُلُّ نَفسٍ ما قدَّمَت مِن خَيرٍ أو شَرٍّ .
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ.
أي: في ذلك المَقامِ في أرضِ المَحشَرِ يومَ القيامةِ تَعلَمُ كلُّ نفسٍ ما قدَّمَت مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وتَجِدُه مكتوبًا لِتُحاسَبَ عليه .
كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] .
وقال سُبحانه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13- 14] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .
وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ.
أي: ورُجِعَ هؤلاء المُشرِكونَ إلى اللهِ الذي هو ربُّهم ومالِكُهم، والمتولِّي أمرَهم، الحَقُّ لا شكَّ فيه، دُونَ مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ مِن آلهةٍ .
كما قال تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 62] .
وقال عزَّ وجلَّ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج: 62] .
وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ.
أي: وزال عن المُشرِكينَ وبطَلَ ما كانوا يختَلِقونَه مِن الكَذِبِ على اللهِ، بدعواهم أنَّ له شُرَكاءَ يَنفَعونَ مَن عَبَدَهم، ويَدفَعونَ عنه الضُّرَّ، ويُقَرِّبونَه إلى اللهِ
.
كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [النحل: 86-87] .
وقال سبحانه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [القصص: 74-75] .
الفوائد التربوية :
قَولُ اللهِ تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ العبادةَ المَشوبةَ لا اعتدادَ بها، وأنَّ مَن استحَقَّ العبادةَ استحَقَّ الإخلاصَ فيها، وأنْ لا يُشرَك به أحدٌ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا مِن نُكَتِ ذِكرِ حَشرِ الجَميعِ هنا: التَّنبيهُ على أنَّ فظيعَ حالِ المُشرِكينَ، وافتِضاحَهم، يكون بمرأًى ومَسمَعٍ من المؤمِنينَ، فتكونُ السَّلامةُ من تلك الحالةِ زيادةً في النِّعمةِ على المُسلِمينَ، وتقويةً في النِّكايةِ للمُشرِكينَ
.
2- قَولُ الله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ كَلِمةُ فَزَيَّلْنَا جاءت على لفظِ المُضيِّ بعدَ قَولِه: ثُمَّ نَقُولُ وهو مُنتظَرٌ في المُستقَبلِ، والسَّببُ فيه أنَّ الذي حكَمَ اللهُ فيه بأن سيكونُ، صار كالكائنِ الرَّاهِنِ الآن .
3- قال اللهُ تعالى: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ إنَّما أضاف الشُّرَكاءَ إليهم لوجوهٍ:
منها: أنَّه يكفي في الإضافةِ أدنَى تعلُّقٍ، فلمَّا كان الكفارُ هم الذين أثْبَتوا هذه الشركةَ؛ لا جرمَ حسنتْ إضافةُ الشركاءِ إليهم
وقيل: إنَّه تعالى لما خاطَب العابدينَ والمعبودينَ بقولِه: مَكَانَكُمْ صاروا شركاءَ في هذا الخطابِ .
4- إن قيل: كيف قال: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وقد أخبَرَ تعالى بـ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 11] ، فالجوابُ: لا تناقُضَ بينهما، فالإخبارُ بأنَّه مولاهم؛ ذلك لأنَّه تعالى مَولى عبادِه جَميعًا، على معنى: أنَّه رَبُّهم ومالِكُ أمْرِهم، والمتصَرِّفُ فيهم بما شاء، وهو مَولاهم جميعًا في الرِّزقِ وإدرارِ النِّعَم، وأمَّا النَّفيُ فهو على معنى وِلايةِ المحبَّةِ والتَّوفيقِ والنَّصرِ، فهو مَولى المُؤمِنينَ خاصَّةً، وليس للكافرينِ نصيبٌ فيها .
5- اللهُ سبحانه يَقرِنُ في كتابِه بين الشِّركِ والكَذِب، كما يَقرِنُ بين الصِّدقِ والإخلاصِ، كما في قَولِه تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ إلى قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وقال تعالى عن الخليلِ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ
[الصافات: 85 - 86] .
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ
- قولُه: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا... كلامٌ مستأنَفٌ، مَسُوقٌ لبيانِ بعضٍ آخرَ مِن أحوالِهم الفظيعةِ، وتأخيرُه في الذِّكرِ مع تقدُّمِه في الوجودِ على بعضِ أحوالِهم المحكيَّةِ سابقًا؛ للإيذانِ باستقلالِ كلٍّ مِن السَّابقِ واللَّاحقِ بالاعتبارِ
.
- وقولُه: فَزَيَّلْنَا، الفاءُ للدَّلالةِ على وقوعِ التَّزْييلِ ومَباديه عَقِيبَ الخِطابِ مِن غيرِ مُهلةٍ، وإيثارُ التَّعبيرِ بصيغةِ الماضي؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ الموروثِ؛ لزيادةِ التَّوبيخِ والتَّحسيرِ .
- وقال: فَزَيَّلْنَا، ولم يَقُلْ: (فَزِلْنا بينَهم)؛ إرادةَ تَكثيرِ الفعلِ، وتكريرِه .
2- قولُه تعالى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، تذييلٌ وفَذْلَكةٌ للجُمَلِ السَّابقةِ، مِن قولِه: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ [يونس: 25] إلى هنا .
- وقدَّم الظَّرفَ هُنَالِكَ؛ للاهتمامِ به؛ لأنَّه الغرضُ الأهَمُّ مِن الكلامِ؛ لعِظَمِ ما يقَعُ فيه .
- وقولُه: تَبْلُو أي: تَختبِرُ، وهو هنا كنايةٌ عن التَّحقُّقِ وعِلمِ اليقينِ .
- وفي قولِه: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، جُعل الضَّميرُ في رُدُّوا للنُّفوسِ المدلولِ عليها بـ كُلُّ نَفْسٍ على أنَّه معطوفٌ على تَبْلُو، وعُدِل إلى الماضي؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ والتَّقرُّرِ، وإيثارُ صيغةِ الجمعِ؛ للإيذانِ بأنَّ ردَّهم إلى اللهِ يكونُ على طريقةِ الاجتماعِ، لا يُلائِمُه التَّعرُّضُ لوصفِ الحقِّيَّةِ في قولِه تعالى: مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ؛ فإنه للتَّعريضِ بالمردودينَ؛ فقولُه عز وجل: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ممَّا لا مجالَ فيه للتَّدارُكِ قطعًا؛ فإنَّ ما فيهِ من الضَّمائرِ الثَّلاثةِ للمُشرِكين، فيَلزَمُ التَّفكيكُ حتمًا، وتخصيصُ كُلُّ نَفْسٍ بالنُّفوسِ المشرِكةِ مع عُمومِ البلوى للكلِّ يأباه مَقامُ تَهويلِ المقامِ
===========
سُورةُ يُونُس
الآيات (31-33)
ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ
غريب الكلمات: