الخميس، 18 يناير 2024

10. سورة يونس ج1.{109 آية مكية}

 10. سورة يونس ج1.{109 آية مكية}


أسماء السورة

بيان المكي والمدني

مقاصد السورة

موضوعات السورة

 

سُورةُ يُونُس

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

سُمِّيَت هذه السُّورةُ بِسُورةِ يُونُس

 

.

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ يُونُسَ مَكِّيَّةٌ

، ونقَلَ غَيرُ واحدٍ الإجماعَ على ذلك

مقاصد السورة:

 

مِن أهَمِّ مقاصِدِ سُورةِ يُونُس:

1- تقريرُ أصولِ العقيدةِ، وإثباتُ التوحيدِ والرسالةِ والبعثِ

.

2- دفعُ شُبَهِ المشركينَ

 

.

موضوعات السورة:

 

مِن أهَمِّ الموضوعات التي اشتَمَلت عليها السُّورةُ:

1- إثباتُ رسالةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم.

2- إثباتُ انفرادِ الله تعالَى بالإلهيةِ.

3- إثباتُ الحشرِ والجزاءِ، والتَّذكيرُ بِمَصيرِ الخَلائِقِ إليه، وانقسامِ البَشَرِ إلى مُؤمِنينَ وكُفَّارٍ، وجزاء كُلٍّ منهم.

4- توضيحُ عقائِدِ المُشرِكينَ، وموقفِهم من القُرآنِ، مع ذكرِ شُبهِهم والردِّ عليها، وإثباتُ أنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ.

5- التذكيرُ بما حلَّ بأهلِ القرونِ الماضيةِ لمَّا أشركوا وكذَّبوا الرسلَ.

6- الاعتبارُ بما خلَق الله للناسِ مِن القدرةِ على السيرِ في البرِّ والبحرِ، وما في أحوالِ السيرِ في البحرِ من الألطافِ.

7- ضربُ المَثَل للدُّنيا وبَهجَتِها، وسرعة زوالِها.

8- ذِكرُ اختلافِ أحوالِ المُؤمِنين والكافرينَ في الآخرةِ، وتبَرُّؤ الآلهةِ الباطلةِ مِن عَبَدتِها، وإبطال إلهيَّةِ غَيرِ الله تعالى.

9- إثباتُ أنَّ القرآنَ منزَّلٌ من عندِ الله، وأنَّ الدلائلَ على بطلانِ أن يكونَ مفترًى واضحةٌ، وتحدِّي المشركين بأن يأتوا بسورةٍ مثلِه.

10- إثباتُ عُمومِ العِلمِ لله تعالى، وذِكرُ آثارِ القُدرةِ الإلهيَّةِ الباهِرةِ.

11- تَبشيرُ أولياءِ الله في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ، وتمييزُهم عن غيرِهم، وتَسليةُ الرَّسولِ عَمَّا يقولُه الكافِرونَ.

12- الأمرُ بإظهارِ السُّرورِ والفَرَحِ بالإسلامِ والقُرآنِ.

13- تَسليةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذِكرِ شَيءٍ مِن قِصَّةِ نوح عليه السلام، وقِصَّةِ موسى عليه السلام، وبني إسرائيلَ مع قومِ فِرعونَ، ونجاةِ قَومِ يُونُسَ بإخلاصِ الإيمانِ في وقت اليَأسِ.

14- تأْكيدُ نبوَّةِ النبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأَمرُه بالصبرِ على جفاءِ المشركين وأذاهم.

===========

 

سُورةُ يُونُس

الآيتان (1-2)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

 

قَدَمَ صِدْقٍ: أي: تَقدِمةَ خَيرٍ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ. وكلُّ سَابقٍ فِي خيرٍ أَو شَرٍّ، فهو عند العَربِ قَدَمٌ. وأصلُ (قدم):  يدلُّ على سَبْقٍ، والصِّدقُ يُعبَّرُ به عن كلِّ فعلٍ فاضلٍ ظاهرًا وباطنًا، وكلُّ شيءٍ أُضيفَ إليه فهو ممدوحٌ، وأصلُ (صدق): يدلُّ على قُوَّةٍ في الشَّيءِ قولًا وغيرَه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

افتَتَحَ اللهُ هذهِ السورةَ العظيمةَ بالحروفِ المقطَّعة؛ لبيانِ إعجازِ القُرآنِ، فمع أنَّه مُركَّبٌ مِن هذه الحُروفِ العربيَّةِ التي يتكلَّمون بها، إلَّا أنَّهم عاجزونَ عن مُعارَضتِه بالإتيانِ بِشَيءٍ مِن مِثلِه، ثمَّ بَيَّنَ تعالى أنَّ تلك الآياتِ الرَّفيعةَ الشَّأنِ، هي آياتُ القُرآنِ الحكيمِ.

ثمَّ قال تعالى: كيف يتعَجَّبُ الكفَّارُ مِن قُريشٍ والعَرَبِ مِن إيحاءِ اللَّهِ إلى رجُلٍ مِن البشَرِ، أنْ يُنذِرَ جَميعَ النَّاسِ عِقابَ اللهِ على الكُفرِ والمَعصيةِ، ويُبَشِّرَ المُؤمِنينَ بأنَّ لهم أجرًا حَسنًا؛ بما قَدَّموا من أعمالٍ صالحةٍ، فتعَجَّبَ الكُفَّارُ مِن هذا الرَّسولِ، فقالوا: إنَّه لَساحرٌ ظاهِرُ السِّحرِ.

تفسير الآيتين:

 

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1).

الر.

هذه الحروفُ المقطَّعةُ التي افتُتِحَت بها هذه السُّورةُ وغَيرُها، تأتي لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ حيث تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضتِه بمِثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحُروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها

.

تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ.

أي: تلك الآيات الرَّفيعة الشَّأن هي آياتُ القرآنِ المحكَم، المشتملِ على الحكمةِ والأحكامِ ، قد أحكَم الله ألفاظَه ومعانيَه، وجعَله حاكمًا بينَ عبادِه؛ يبيِّنُ لهم الحقَّ مِن الباطل، والصَّواب من الخطأ، والحلالَ مِن الحرامِ .

كما قال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] .

وقال سبحانه: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213] .

أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ (2).

أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ.

أي: كيف يتعَجَّبُ كفَّارُ قُريشٍ وكُفَّارُ العَرَبِ من إيحائِنا القرآنَ إلى رجلٍ من البَشَرِ ، يُنذِرُ جَميعَ النَّاسِ عِقابَ اللهِ، على الكُفرِ به ومَعصِيَتِه ؟!

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ.

أي: وكيف عَجِبَ الكُفَّارُ مِن إيحائِنا إلى بَشَرٍ منهم، أن يبشِّرَ المُؤمِنينَ بأنَّه سبَقَت لهم مِن الله السَّعادةُ في اللَّوحِ المحفوظِ بما قَدَّموا من أعمالٍ صالحةٍ، وإيمانٍ بمحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذي أرشَدَهم إلى ذلك الخَيرِ الذي ينالون به الجنَّةَ ؟!

قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ.

القراءاتُ التي لها أثَرٌ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ لَسَاحِرٌ يقصِدُ الكافرونَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

2- قراءةُ لَسِحْرٌ يَعْنون القُرآنَ الكريمَ .

قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ.

أي: مع أنَّا بعَثْنا إليهم رسولًا منهم، رجلًا مِن جنسِهم، بشيرًا ونذيرًا ، قال الكافرون: إنَّ هذا الرَّجُلَ لَساحِرٌ ظاهِرُ السِّحرِ، يسحَرُ النَّاسَ بالقُرآنِ الذي جاء به

 

.

الفوائد التربوية :

 

قال الله تعالى: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا قدَّمَ الإنذارَ على التَّبشيرِ؛ لأنَّ التَّخليةَ مُقَدَّمةٌ على التَّحليةِ، وإزالةَ ما لا ينبغي مُقَدَّمٌ في الرُّتبةِ على فِعلِ ما ينبغي

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا لَمَّا كان الإنذارُ عامًّا، كان متعَلَّقُه- وهو الناس- عامًّا، والبِشارةُ خاصَّةً، فكان متعَلَّقُها خاصًّا، وهو (الذينَ آمنوا)

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ عبَّرَ عن كُفَّارِ مَكَّةَ ومَن تَبِعَهم بالنَّاسِ؛ لأنَّ هذه الشُّبهةَ على الرِّسالةِ، قد سبَقَتْهم إليها أقوامُ الأنبياءِ قَبلَ نَبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

3- في قَولِه تعالى: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ بيانُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنذِرٌ لجنسِ النَّاسِ، وأنَّه مِن جِنْسِ النَّاسِ، وأنَّه لا يختصُّ به العرَبُ دونَ غَيرِهم، وإنْ كانوا هم أوَّلَ مَن أُرْسِلَ إليهم وبِلسانِهم .

4- ذكَرَ اللهُ تعالى في كتابِه خمسةَ أشياءَ مُضافةً إلى الصِّدقِ، وهي: قدَمُ الصِّدقِ، كما هنا في سورة يونسَ، ومُدخَلُ الصِّدقِ، ومُخرَجُ الصِّدقِ، كما في سورةِ الإسراءِ (الآية: 80)، ولسانُ الصِّدقِ، كما في سورة الشُّعَراء (الآية: 84)،  ومَقعَدُ الصِّدقِ، كما في سورة القمر (الآية: 55)، وحقيقةُ الصِّدقِ في هذه الأشياءِ: هو الحقُّ الثَّابِتُ، المتَّصِلُ باللهِ، المُوصِلُ إلى اللهِ- وهو ما كان به وله، من الأقوالِ والأعمالِ- وجزاءُ ذلك في الدُّنيا والآخرةِ .

5- قَولُ الله تعالى: قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ يُشيرُ إلى إثباتِ رِسالتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ قَولَهم: إنَّ القرآنَ سِحرٌ جاء به ساحِرٌ، يتضَمَّنُ اعترافَهم بأنَّهما فوقَ المعهودِ والمعلومِ للبَشَرِ في عالَمِ الأسبابِ المَقدورةِ لهم

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ

- قولُه: تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الْحَكِيمِ في اختيارِ وصْفِ الْحَكِيمِ هنا مِن بينِ أوصافِ الكَمالِ الثَّابتةِ للقُرآنِ؛ لأنَّ لهذا الوَصفِ مَزيدَ اختِصاصٍ بمَقامِ إظهارِ الإعجازِ مِن جهةِ المعنى بعدَ إظهارِ الإعجازِ مِن جهةِ اللَّفظِ بقولِه: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، ولِمَا اشتَمَلَت عليه السُّورةُ مِن براهينِ التَّوحيدِ وإبطالِ الشِّركِ

.

- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، وكذلك في سورةِ لُقمانَ قال: الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2] ، بَينما قال في  مَطلعِ سُورةِ يوسُفَ: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف:1] ؛ فوصَفه في السُّورتَين بالحكيمِ، وفي سورةِ يوسُفَ بالمبينِ؛ وذلك لأنَّ سُورتَيْ يونُسَ ولُقمانَ ترَدَّد فيهما مِن الآياتِ المعتبَرِ بها، الـمُطْلِعَةِ على عظيمِ حِكْمتِه تعالى، وإتقانِه للأشياءِ ما لم يَرِدْ في سورةِ يوسُفَ، كقولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [يونس: 3] ، وقد تَبِع الآيةَ المذكورةَ مِن سورةِ يونُسَ ما يُجاريها في التَّنبيهِ بما به الاعتبارُ، كقولِه تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] ، ثمَّ قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا [يونس: 6، 7]، لم يتَخلَّلْها ما يَخرُجُ عن بابِ الاعتبارِ، مِن الأحكامِ أو القَصصِ أو غيرِها، إلَّا ما تضَمَّن اعتِبارًا كالواردِ مِن قصَّةِ نوحٍ في خِطابِه لقومِه: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي... الآيةَ إلى قولِه: ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ [يونس: 71]، وفي هذا أعظمُ عِبرةٍ، ولم يَرِدْ هذا الضَّربُ المقتضَبُ مِن قصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ على هذه الصِّفةِ في غيرِ هذه السُّورةِ لِما قدَّمْنا ذِكرَه، ولم يَكُنْ لِيُناسِبَ ما بُنِيَت عليه السُّورةُ غيرُ هذا الواردِ، وكذلك ما ورَد فيها مِن قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ ودُعائِه في قولِه: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ [يونس: 88] ، فكان ذلك حسْبُ ما دَعاه إلى ذِكْرِ إغراقِ فِرْعونَ وملَئِه، وطمَعِه في الإيمانِ حينَ أدرَكه الغرَقُ، فقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس: 90] ، فلم ينفَعْه ذلك لِفَواتِ وقتِه، فاقتصَر أيضًا على هذا القَدْرِ مِن قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ؛ لِما تقَدَّم مِن مُناسَبةِ هذه السُّورةِ.

وسورةُ لُقمانَ ورَد فيها قولُه تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، إلى قولِه: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان: 10، 11]، وبعد ذلك قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]، وقولُه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ... الآيةَ [لقمان: 34] ، وفي هذه السُّورةِ أيضًا ما مُنِح لقمانُ مِن الحِكْمةِ، وما انطوَت عليه قصَّتُه مِن حِكمةٍ، وما صدَر عنه في وصيَّتِه، ولم تَخرُجْ آيُ هذه السُّورةِ عن هذا، فهذا وجهُ وصفِ الكتابِ في هاتَين السُّورتَين بالحكيمِ.

وأمَّا سورةُ يوسُفَ عليه السَّلامُ فلم تَنطَوِ على غيرِ قصَّتِه، وبسْطِ التَّعريفِ بقَضيَّتِه، وبيانِ ما جرَى له مع أبيه؛ مِن فِراقِه، وامتِحانِه بإلقائِه في الجُبِّ، والبيعِ والتَّعرُّضِ له بالفِتْنةِ، وتَخلُّصِه بسابقِ اصطِفائِه ممَّا كِيدَ له به، وابتلائِه بالسَّجنِ، ثمَّ لِقائِه بأخيه، واجتماعِ شَملِه بأبيه عليهما السَّلامُ وإخوتِه، ولم تَخرُجْ آيةٌ مِن آيِ هذه السُّورةِ عن هذا مِن بَسْطِ هذه القصَّةِ، فلِهذا أتبعَ الكتابَ بالوصفِ بالمبينِ .

2- قولُه تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ

- قولُه: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا الهَمزةُ في أَكَانَ لإِنْكارِ التَّعجُّبِ والتَّعجيبِ مِنه ، وفائدةُ إدخالِ الاستفهامِ المستعمَلِ في الإنكارِ على (كَانَ) دونَ أن يُقالَ: (أَعَجِبَ النَّاسُ): الدَّلالةُ على التَّعجُّبِ مِن تعَجُّبِهم المرادِ به إحالةُ الوحيِ إلى بشَرٍ .

- وقولُه: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قالَ: لِلنَّاسِ باللَّامِ ولَم يَقُلْ: (أكان عِندَ النَّاسِ عجَبًا)؛ لأنَّ معنى لِلنَّاسِ عَجَبًا أنَّهم جعَلوه لهم أُعْجوبةً يتَعجَّبون مِنها، ونصَبوه عَلمًا لهم يُوجِّهون نَحوَه استِهْزاءَهم وإنكارَهم، وليس في (عِندَ النَّاسِ) هذا المعنى .

- وقولُه أيضًا: لِلنَّاسِ مُتعلِّقٌ بـ(كَانَ)؛ لِزِيادةِ الدَّلالةِ على استِقْرارِ هذا التَّعجُّبِ فيهم؛ لأنَّ أصلَ اللَّامِ أن تُفيدَ المِلْكَ، وتستعملُ أيضًا في التَّمكُّنِ، أي: لِتَمكُّنِ الكونِ عجَبًا مِن نُفوسِهم .

- وفيه كذلك تقديمُ خبَرِ (كان) وهو قولُه: عَجَبًا على اسمِها وهو قولُه: أَنْ أَوْحَيْنَا؛ للاهتِمامِ به؛ لكَونِه مَدارَ الإنكارِ والتَّعجُّبِ، وتشويقًا إلى المؤخَّرِ .

- وَجِيءَ في أَنْ أَوْحَيْنَا بـ(أَنْ) والفِعلِ، دون المصدَرِ الصَّريحِ وهو (وَحْيُنا)؛ لِيُتوسَّلَ إلى ما يُفيدُه الفعلُ مِن التَّجدُّدِ، وصيغةُ المُضِيِّ مِن الاستقرارِ؛ تحقيقًا لوُقوعِ الوحيِ المتعجَّبِ منه وتجَدُّدِه، وذلك ما يَزيدُهم كمَدًا .

- وفي قولِه: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ: حُذِفَ المنذَرُ به؛ للتَّهويلِ، ولأنَّه يُعلَمُ حاصِلُه مِن مُقابَلتِه بقولِه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ .

- قولُه: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ، أي: سابقةٌ ومنزِلةٌ رفيعةٌ؛ سُمِّيَت قَدَمًا لأنَّ السَّبقَ بِها، كما سُمِّيَت النِّعمةُ يَدًا؛ لأنَّها تُعطَى باليَدِ، وإضافةُ (قَدَمَ) إلى (صِدْقٍ)؛ لِتَحقُّقِها، والتَّنبيهِ على أنَّهم إنَّما يَنالونها بصِدْقِ القولِ والنِّيَّةِ، ودَلالةً على زيادةِ فضلٍ، وأنَّه مِن السَّوابقِ العظيمةِ .

- قولُه: قَالَ الْكَافِرُونَ ترَك العاطِفَ فلَم يَقُلْ: (وقال)؛ لِجَرَيانِه مَجْرى البَيانِ لِجُملةِ: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ...، أو لكونِه استِئنافًا مَبنيًّا على السُّؤالِ؛ كأنَّه قيل: ماذا صنَعوا بعدَ التَّعجُّبِ؛ هل بَقُوا على التَّردُّدِ والاستِبْعادِ أو قطَعوا فيه بشيءٍ؟ فقيل: قال الكافِرون؛ على طريقةِ التَّأكيدِ .

=======================

 

سُورةُ يُونُس

الآيتان (3-4)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ

غريب الكلمات:

 

شَفِيعٍ: أي: ناصرٍ ومُعينٍ؛ يقال: شفَع لفلانٍ: إذا جاء مُلتَمِسًا مطلبَه، ومعينًا له، والشَّفْعُ: ضمُّ الشيءِ إلى مثلِه، وأصلُ (شفع): يدلُّ على مُقارنةِ الشَّيئَينِ

.

حَمِيمٍ: الحميمُ: الماءُ الشَّديدُ الحرارةِ، وأصل (حمم): يدلُّ على الحرَارةِ، وعلى معانٍ أخرى متفاوِتَةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

إنَّ رَبَّكم- أيُّها النَّاسُ- هو الله الذي خلقَ السَّمواتِ والأرضَ في سِتَّةِ أيَّامٍ، ثمَّ علا وارتفَعَ على عَرْشِه، يُدَبِّرُ أمورَ جَميعِ الخَلائِقِ، ولا أحَدَ يَشفَعُ عِندَه يومَ القيامةِ إلَّا مِن بعدِ أن يأذَنَ له سُبحانَه بذلك، ذلكم هو اللَّهُ ربُّكم فاعبُدوه وَحْدَه، أفلا تذَكَّرونَ.

إليه وَحْدَه مَرجِعُكم جميعًا يومَ تَخرُجونَ مِن قُبورِكم أحياءً يومَ القيامةِ، وَعَدَكم اللهُ وَعدًا حَقًّا لا يُخلَفُ، إنَّه يبدأُ إنشاءَ الخَلْقِ ثمَّ يُعيدُه بعد مَوتِه، يومَ القيامةِ؛ ليُثِيبَ المُؤمِنينَ الذين عَمِلوا الصَّالِحاتِ بالعَدلِ، والذين كَفَروا لهم شَرابٌ من ماءٍ حارٍّ، قد بلَغَت حرارتُه الغايةَ، ولهم عذابٌ مُوجِعٌ؛ بسبَبِ كُفرِهم في الدُّنيا.

تفسير الآيتين:

 

إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3).

إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.

أي: إنَّ مالِكَكم- أيُّها النَّاسُ- وخالقَكم، ومدبِّرَ شُؤونِكم، هو المُستحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه؛ الذي خلَقَ السَّمواتِ السَّبعَ، والأَرَضينَ السَّبعَ في ستَّة أيَّامٍ

.

كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] .

وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة: 4] .

ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.

أي: ثمَّ علا اللهُ وارتفَعَ على عَرشِه المُحيطِ بِجَميعِ خَلْقِه .

يُدَبِّرُ الأَمْرَ.

أي: يُدبِّر أمورَ جَميعِ خَلْقِه وشُؤونَهم .

كما قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة: 255] .

وقال سبحانه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] .

وقال عزَّ وجلَّ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة: 4، 5].

مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ.

أي: لا يَشفَعُ عندَ الله أيُّ شافعٍ يومَ القِيامةِ إلَّا مِن بَعدِ أن يأذَنَ اللهُ بذلك .

كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] .

ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.

أي: ذلكم الذي هذا شأنُه، وهذه صفتُه، وفعَلَ تلك الأشياءَ العظيمةَ، هو المستَحِقُّ لإفرادِ العبادةِ له دونَ مَن سِواه، وهو مالِكُكم وخالِقُكم ومُدَبِّرُ أمورِكم- أيُّها النَّاسُ- فاعبُدوه وَحْدَه، ولا تَعبُدوا غَيرَه .

أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ.

أي: أفلا تتَّعِظونَ- أيُّها النَّاسُ- بتلك الآياتِ والبَراهينِ، وتتذكَّرون أنَّ اللهَ هو المتفَرِّدُ بالخَلقِ، فتَعبُدونَه وَحْدَه، وتَتْرُكونَ عبادةَ غَيرِه مِن مَخلوقاتِه ؟!

كما قال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 31-32] .

وقال سبحانه: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84 - 89] .

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ اللَّهَ تعالى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلائِلَ الدَّالَّةَ على إثباتِ المبدأِ، أردَفَه بما يدُلُّ على صِحَّةِ القَولِ بالمَعادِ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى حُكْمَه القَدَريَّ، وهو التَّدبيرُ العامُّ، وحُكمَه الدينيَّ وهو شَرعُه، الذي مضمونُه ومقصودُه عبادَتُه وَحْدَه لا شريكَ له- ذكَرَ الحُكمَ الجَزائيَّ، وهو مُجازاتُه على الأعمالِ بعد الموتِ ، فقال تعالى:

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا.

أي: إلى اللهِ وَحْدَه مَرجِعُكم جميعًا- أيُّها النَّاسُ- يوم تَخرُجونَ مِن قُبورِكم أحياءً يومَ القِيامةِ .

وَعْدَ اللّهِ حَقًّا.

أي: يَعِدُكم اللهُ- أيُّها النَّاسُ- وعدًا صِدقًا لا يُخلَفُ: أنَّه سيبعَثُكم مِن قُبورِكم أحياءً .

إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.

أي: إنَّ اللهَ يبدأُ إنشاءَ الخَلْقِ، وإيجادَه مِن العَدَمِ، ثمَّ يعيدُه بعدَ مَوتِه، ويُحييه يومَ القيامةِ كما بدأه أوَّلَ مرَّةٍ .

كما قال تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [يونس: 34] .

وقال سبحانَه: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [العنكبوت: 19] .

وقال عزَّ وجلَّ: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11] .

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ.

مناسبتُها لما قبلَها:

لَمَّا كان الكلامُ في سِياقِ البَعثِ، قَدَّمَ أهلَ الجَزاءِ، وبدأ بأشرافِهم، فقال :

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ.

أي: يُحيي اللهُ الخَلقَ بعدَ مَوتِه، يومَ القِيامةِ؛ لِيُثيبَ المُؤمِنينَ الذين عَمِلوا ما أمَرَهم اللهُ به، وترَكَوا ما نهاهم عنه، بالعَدلِ، وهو مجازاتُهم على الحَسَنِ مِن أعمالِهم، الحَسَنَ من الثوابِ في الآخرةِ .

وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ.

أي: وللكفَّارِ في الآخرةِ ماءٌ قد أُغلِيَ، وبلَغَت حرارتُه الغايةَ، ولهم أيضًا عذابٌ مُوجِعٌ؛ وذلك كلُّه بسبَبِ كُفرِهم في الدُّنيا

 

.

كما قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29] .

وقال سبحانه: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص: 55 - 58] .

وقال عزَّ وجلَّ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا [النبأ: 24 - 28] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال اللهُ تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ لَمَّا بَيَّنَ تعالى هذه الدَّلائِلَ، وشَرَحَ هذه الأحوالَ؛ ختَمَها بِقَولِه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ مُبَيِّنًا بذلك أنَّ العبادةَ لا تصلُحُ إلَّا له، ومنبِّهًا على أنَّه سُبحانَه هو المستَحِقُّ لِجَميعِ العباداتِ؛ لأجلِ أنَّه هو المُنعِمُ بِجَميعِ النِّعَمِ التي ذكَرَها ووصَفَها

.

2- قَولُ الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فيه حَضٌّ على التدَبُّرِ والتفَكُّرِ في الدَّلائِلِ الدَّالَّةِ على ربُوبيَّتِه تعالى، وإمحاضِ العِبادةِ له

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لو شاء تعالى لخَلَقَهما في لَمحةٍ، ولكِنْ لحِكمةٍ بالغةٍ عَدَلَ عن ذلك، وخَلَقَهما في ستَّةِ أيَّامٍ، وتخصيصُ ذلك بالعدَدِ المعَيَّنِ، أمْرٌ قد استأثَرَ بعِلمِ ما يَستَدعيه علَّامُ الغُيوبِ- جَلَّت قُدرَتُه ودَقَّت حِكمَتُه

، وقيل في حكمةِ خلقِهما في ستةِ أيَّامٍ: لتعليمِ خَلْقِه التأنِّي . وقيل: لِتُشاهِدَ الملائكةُ الخَلقَ شَيئًا بعد شيءٍ، فيعتَبِروه ويُدرِكُوه. وقيل: لأنَّ تصريفَ الخَلقِ حالًا بعد حالٍ أحكَمُ، وأبعَدُ مِن شُبهةِ الاتِّفاقِ .

2- قَولُ الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ناسبَ ذِكرُ الشَّفاعةِ- التي تكونُ في القيامةِ- بعد ذِكرِ المَبدأِ؛ ليجمَعَ بين الطَّرَفينِ: الابتداءِ والانتهاءِ .

3- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أُفرِدت الأرضُ، ولم تُجمَعْ- بخلافِ السمواتِ- لِثِقَلِ جَمْعِها وهو (أَرَضُونَ)، وأَمَّا السَّمَوات فذُكِرَتْ بصيغَةِ الجمعِ؛ لأنَّه أُرِيدَ العددُ، فأُتِيَ بِصِيغَةِ الجمعِ الدَّالَّةِ عَلَى سَعَةِ العظمةِ والكثرةِ، وإذا أُرِيدَ الجهةُ أُتِيَ فيها بصيغةِ الإفرادِ ، وقيل: إيثارُ صِيغةِ الجَمعِ في السَّمواتِ؛ لِما هو المشهورُ مِن الإيذانِ بأنَّها أجرامٌ مُختَلِفةُ الطِّباعِ، مُتَباينةُ الآثارِ والأحكامِ .

4- التدبيرُ يُضاف إلى اللهِ تارةً؛ وإلى الملائكةِ تارةً؛ فيُضافُ إلى الله تعالى أمرًا وإذنًا ومشيئةً، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُم اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ، ويُضافُ إلى الملائكةِ تارةً أخرى؛ لِكَونِهم هم المُباشِرينَ والمُمتَثلينَ للتَّدبيرِ؛ قال تعالى: فَالمُدَبِّراتِ أَمْرًا [النازعات: 5] ، وهذا كما أضاف التوفِّيَ إليهم تارةً، كقَولِه تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا [الأنعام: 61] وإليه تارةً، كقَولِه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ [الزمر: 42] .

5- قَولُ اللهِ تعالى: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ فيه إثباتُ الشَّفاعةِ لِمَن أَذِنَ له .

6- إنَّ شَفاعةَ المَخلوقِ عند المَخلوقِ تكونُ بإعانةِ الشَّافِعِ للمَشفوعِ له، بغيرِ إذْنِ المَشفوعِ عِندَه، بل يشفَعُ إمَّا لحاجةِ المَشفوعِ عنده إليه، وإما لِخَوفِه منه، فيحتاجُ أنْ يقبلَ شفاعتَه، واللهُ تعالى غنيٌّ عن العالَمينَ، وهو وَحْدَه سبحانَه يُدَبِّرُ العالَمينَ كلَّهم؛ فإنَّه مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، فهو الذي يأذَنُ للشَّفيعِ في الشَّفاعة، وهو يقبلُ شفاعتَه، كما يُلْهِمُ الداعيَ الدُّعاءَ، ثمَّ يُجيبُ دعاءَه، فالأمرُ كلُّه له .

7- قال الله تعالى: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، والشَّفاعةُ بإذنِه ليست شفاعةً مِن دُونِه، ولا الشَّافِعُ شَفيعٌ مِن دونِه، بل شفيعٌ بإذْنِه، والفرقُ بين الشَّفيعَينِ هو كالفَرقِ بين الشَّريكِ والعبدِ المأمورِ، فالشَّفاعةُ التي أبطَلَها اللهُ: شفاعةُ الشَّريكِ؛ فإنَّه لا شريكَ له، والتي أثبَتَها: شفاعةُ العبدِ المأمورِ، الذي لا يشفَعُ ولا يتقَدَّمُ بين يدَي مالكِه، حتى يأذَنَ له، ويقولَ: اشفَعْ في فُلانٍ؛ ولهذا كان أسعَدَ النَّاسِ بشَفاعَةِ سَيِّدِ الشُّفَعاءِ يومَ القيامةِ أهلُ التَّوحيدِ، الذين جرَّدُوا التَّوحيدَ، وخَلَّصوه مِن تعَلُّقاتِ الشِّركِ وشَوائِبِه، وهم الذين ارتَضى اللهُ سبحانه .

8- قَولُ الله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يدُلُّ على أنَّه تعالى يعيدُ جَميعَ المَخلوقاتِ، وإعادتُها لا يُمكِنُ إلَّا بعد إعدامِها، وإلَّا لَزِمَ إيجادُ الموجودِ، وهو مُحالٌ، ونظيرُه قَولُه تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء: 104] فحكَمَ بأنَّ الإعادةَ تكونُ مِثلَ الابتداءِ .

9- قَولُه تعالى: إِنَّه يَبْدَأُ الْخَلْقُ ثُمَّ يُعِيدُهُ ردٌّ على المُشرِكينَ الذين أنكَروا البَعثَ، فاحتَجَّ الله عليهم بالنَّشأةِ الأولَى، فالقادِرُ على ابتداءِ الخَلقِ قادِرٌ على إعادتِه، والذي يرى ابتداءَه بالخَلقِ، ثمَّ يُنكِرُ إعادتَه للخَلقِ، فهو فاقِدُ العَقلِ مُنكِرٌ لأحَدِ المِثْلَينِ، مع إثباتِ ما هو أَولى منه، فهذا دليلٌ عَقليٌّ واضحٌ على المَعادِ .

10- في قولِه تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ لم يُعيِّنِ الله تعالى ثوابَ المؤمنينَ وجزاءَهم؛ لأنَّه تعالَى يتولَّى إثابةَ المؤمنينَ بما يليقُ بلطفِه وكرمِه .

11- قَولُ الله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ إنَّما خَصَّ بالقِسطِ جزاءَ المُؤمِنينَ، مع أنَّ الجَزاءَ كُلَّه عَدلٌ، بل ربَّما كانت الزيادةُ في ثَوابِ المُؤمِنينَ فَضلًا زائدًا على العَدلِ؛ وذلك لتأنيسِ المُؤمِنينَ وإكرامِهم بأنَّ جَزاءَهم قد استحَقُّوه بما عَمِلوا ، وأيضًا لأنَّه لو جمع اللهُ الصِّنفَينِ بالقِسطِ، لم يتبَيَّنْ ما يقَعُ بالكافرينَ مِن العذابِ الأليمِ، ففَصَلَهم من المُؤمِنينَ؛ ليُبَيِّنَ ما يجزيهم به ممَّا هو عدلٌ غيرُ جَورٍ، فلهذا خصَّ المُؤمِنينَ بالقِسطِ، وأفرد الكافرينَ بخَبرٍ يرجِعُ إلى تأويلِه بزيادةٍ في الإبانةِ والفائدةِ .

12- قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ مِن عَطفِ العامِّ على الخاصِّ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ، ونكتةُ هذا الخاصِّ أنَّ العرَبَ الذين خُوطِبوا به أوَّلًا ونزَلَ بلُغَتِهم، يَشعُرونَ بما لا يَشعُرُ غَيرُهم من الوَعيدِ بِشُربِ الماءِ الحَميمِ، والحِرمانِ مِن الماءِ البارِدِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ

- في قولِه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ إيثارُ صيغةِ المضارِعِ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ التَّدبيرِ واستمرارِه

.

- قولُه: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ نفيٌ للشَّفاعةِ الَّتي هي مِن غيرِ إذنِه على أبلَغِ الوُجوهِ؛ فإنَّ نفيَ جميعِ أفرادِ الشَّفيعِ بـ(مِن) الاستِغْراقيَّةِ يَستَلزِمُ نفْيَ الشَّفاعةِ على أتَمِّ الوجوهِ .

- وفي زيادةِ قولِه: إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ احْتِراسٌ؛ لإثباتِ شَفاعةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم  وغيرِه بإذنِ اللهِ .

- والإتيانُ باسْمِ الإشارةِ في صَدْرِ قولِه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ؛ لِتَمييزِه أكمَلَ تمييزٍ؛ لأنَّهم امتَرَوْا في صِفةِ الإلهيَّةِ، وضَلُّوا فيها ضلالًا مُبينًا، فكانوا أَحْرِيَاءَ بالإيقاظِ بطَريقِ اسْمِ الإشارةِ .

- قولُه: فَاعْبُدُوهُ هذا الأمرُ مُفرَّعٌ على كونِه ربَّهم، والمفرَّعُ هو المقصودُ مِن الجملةِ، وما قَبلَه مُؤكِّدٌ لجملةِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ تأكيدًا بِفَذْلَكةٍ وتحصيلٍ، والتَّقديرُ: (إنَّ ربَّكم اللهُ...) إلى قولِه: فَاعْبُدُوهُ، كقولِه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] ؛ إذ وقَع قولُه: فَبِذَلِكَ تأكيدًا لجُملةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، وأوقَع بعدَه الفرْعَ وهو فَلْيَفْرَحُوا، والتَّقديرُ: قُل بفضلِ اللهِ وبرَحمتِه فليَفرَحوا بذَلك .

- قولُه: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ: جملةٌ ابتدائيَّةٌ للتَّقْريعِ، وهو غرَضٌ جديدٌ؛ فلِذَلكِ لم تُعطَفْ؛ فالاستِفْهامُ إنكارٌ لانتِفاءِ تذَكُّرِهم؛ إذ أشرَكوا معَه غيرَه، ولم يتَذكَّروا في أنَّه المنفرِدُ بخَلْقِ العوالِمِ، وبمِلْكِها وبتَدبيرِ أحوالِها .

2- قولُه تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ

- وقولُه: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فيه ذِكرُ ما يَقتَضي التَّذكيرَ، وهو كونُ مَرجِعِ الجميعِ إليه، وأكَّد هذا الإخبارَ بأنَّه وعدُ اللهِ الَّذي لا شكَّ في صِدْقِه، ثمَّ استأنَف الإخبارَ بقَولِه: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ، وهو استئنافٌ مَعناه التَّعليلُ بابتِداءِ الخَلْقِ وإعادَتِه، وأنَّ الغرَضَ ومُقتَضى الحِكمةِ بذَلك هو جَزاءُ المكلَّفينَ على أعمالِهم .

- وقولُه: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ فيه تقديمُ المجرورِ إِلَيْهِ؛ لإفادَةِ القَصْرِ، أي: إلَيْه لا إلى غَيرِه .

- وفيه مناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قال هنا: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا، وقال أيضًا في سورةِ المائدة: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا [المائدة: 48، 105]، بينما في سُورةِ هود قال: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ [هود: 4]، ولم يَقُلْ: (جَميعًا)؛ وذلك لأنَّ ما في سورةِ يونُسَ والمائدةِ خِطابٌ للمؤمِنينَ والكافِرين جميعًا؛ يدُلُّ عليه قولُه بعدَه في سورةِ يونُسَ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا... الآيةَ [يونس: 4] ، وقولُه بعدَه في سورةِ المائدةِ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48] ، وأمَّا ما في هودٍ فهو خِطابٌ للكفَّارِ فقط؛ يدُلُّ عليه: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 3] .

- قولُه: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ: وموقعُ (إِنَّ) تأكيدُ الخبرِ؛ نظَرًا لإنكارِهمُ البَعثَ، فحصَل التَّأكيدُ مِن قولِه: ثُمَّ يُعِيدُهُ أمَّا كَوْنُه بدَأ الخلْقَ فلا يُنكِرونه .

- وجملةُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ استِئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّه لَمَّا ورَد ذِكْرُ جَزاءِ المؤمِنين على أنَّه العِلَّةُ لِرُجوعِ الجَميعِ إلَيه، ولَم يَذكُرْ في العِلَّةِ ما هو جَزاءُ الجميعِ؛ لا جَرَمَ يتَشوَّفُ السَّامعُ إلى معرفةِ جزاءِ الكافرين؛ فجاء الاستِئنافُ للإعلامِ بذلك، ونُكتةُ تَغييرِ الأسلوبِ- حيث لم يَعطِفْ جَزاءَ الكافِرين على جَزاءِ المؤمِنين فيُقالَ: (ويَجْزِيَ الَّذين كفَروا بعَذابٍ...)- الإشارةُ إلى الاهتمامِ بجَزاءِ المؤمِنين الصَّالِحين، وأنَّه الذي يُبادَرُ بالإعلامِ به، وأنَّ جزاءَ الكافِرين جديرٌ بالإعراضِ عَن ذِكْرِه لولا سؤالُ السَّامِعين .

=============

 

سُورةُ يُونُس

الآيتان (5-6)

ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ

المعنى الإجمالي:

 

اللهُ الذي جعل الشَّمسَ مُضيئةً في النَّهارِ، وصيَّرَ القَمَرَ مُنيرًا في اللَّيلِ، وقَدَّرَ سَيرَه في منازِلَ؛ لِتَعلَموا- أيُّها النَّاسُ- عدَدَ السِّنينَ، وتَعلَموا حِسابَ اللَّيالي والشُّهورِ، لم يخلُقِ اللهُ ذلك إلَّا بالحَقِّ، يُبَيِّنُ اللهُ الحُجَجَ والأدلَّةَ والبَراهينَ لِقَومٍ يَعلَمونَ.

إنَّ في تعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وفي كلِّ ما خلَقَ اللهُ في السَّمواتِ والأرضِ، لَأدِلَّةً واضِحةً على الخالِقِ جلَّ وعلا، وعلى ثُبوتِ المَرجِعِ إليه يومَ القيامةِ، لِقَومٍ يتَّقونَ غضبَ الله وعقابَه.

تفسير الآيتين:

 

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا قَرَّرَ اللهُ تعالى ربوبيَّتَه وإلهيَّتَه؛ ذكَرَ الأدلَّةَ العقليَّةَ الأفقيَّةَ الدَّالَّةَ على ذلك، وعلى كمالِه في أسمائِه وصِفاتِه؛ مِن الشَّمسِ والقَمَرِ، والسَّمَواتِ والأرضِ، وجَميعِ ما خلَقَ فيهما مِن سائِرِ أصنافِ المَخلوقاتِ

.

فهذا استدلالٌ آخَرُ على انفرادِه تعالى بالتصَرُّفِ في المَخلوقاتِ، وهذا لونٌ آخَرُ مِن الاستدلالِ على الإلهيَّةِ، مَمزوجٌ بالامتنانِ على المحَجوجينَ به .

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا.

أي: اللهُ هو الَّذي صيَّرَ الشَّمسَ مُضيئةً إضاءةً ساطِعةً قَويَّةً في النَّهارِ، وصيَّرَ القمَرَ مُنيرًا في اللَّيلِ .

كما قال سُبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان: 61] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح: 16] .

وقال تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [النبأ: 11 - 13] .

وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ.

أي: وقدَّر اللهُ وقضى مَسيرَ القَمَرِ في منازِلَ، يَنْزِلُ في كلِّ يومٍ وليلةٍ مَنزِلًا منها، وهيَّأ ذلك في كلِّ شَهرٍ .

كما قال تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] .

لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.

أي: قدَّرَ اللهُ القَمَرَ مَنازِلَ؛ لِتَعرِفوا- أيُّها النَّاسُ- عدَدَ السَّنواتِ، وتَعرِفوا حسابَ اللَّيالي والشُّهورِ، فتَنتَفِعوا بذلك في أمورِ دِينِكم ودُنياكم .

مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ.

أي: لم يخلُقِ اللهُ الشَّمسَ والقَمَرَ ومَنازِلَه، إلَّا لحكمةٍ عظيمةٍ تدلُّ على وحدانيَّتِه وعظمةِ صِفاتِه، ولم يخلُقْ ذلك عَبَثًا وباطِلًا .

كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ [الأنبياء: 16] .

وقال سبحانه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] .

يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.

أي: يُبيِّنُ اللهُ الحُجَجَ والأدلَّةَ الباهرةَ لقومٍ يَعلَمونَ- إذا تدبَّروها- وَحدانيَّةَ اللهِ تعالى وقُدرَتَه، وآثارَ إحسانِه، ويستدِلُّونَ بها على شُؤونِ وصِفاتِ مُبدِعِها سُبحانه .

كما قال تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام: 96، 97].

وقال سبحانه: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28].

إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا استدَلَّ اللهُ تعالى على إثباتِ الإلهيَّةِ والتَّوحيدِ بِقَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وثانيًا بأحوالِ الشَّمسِ والقَمَرِ؛ استدَلَّ ثالثًا بِقَولِه تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي: بالمجيءِ والذَّهابِ، والزِّيادةِ والنُّقصانِ، ورابعًا بِقَولِه تعالى: وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ مِن ملائكةٍ وشَمسٍ وقَمَرٍ ونجومٍ وغيرِ ذلك .

فهذا استدلالٌ آخَرُ على انفرادِ الله تعالى بالخَلقِ والتَّقديرِ، وهو استدلالٌ بأحوالِ الضَّوءِ والظُّلمةِ، وتعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وفي ذلك عِبرةٌ عَظيمةٌ، وهو بما فيه مِن عَطفِ قَولِه تعالى: وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أعَمُّ مِن الدَّليلِ الأوَّلِ؛ لِشُمولِه ما هو أكثَرُ مِن خَلْقِ الشَّمسِ والقَمَرِ، ومِن خَلْقِ اللَّيلِ والنَّهارِ، ومِن كُلِّ ما في الأرضِ والسَّماءِ، مِمَّا تبلُغُ إليه مَعرِفةُ النَّاسِ في مُختَلِفِ العُصورِ، وعلى تفاوُتِ مَقاديرِ الاستدلالِ مِن عُقولِهم .

إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ.

أي: إنَّ في تعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وخَلْفِ أحدِهما الآخَرَ، وفي كلِّ ما خلَقَ اللهُ في السَّمواتِ والأرضِ، لَأدلَّةً واضحةً على خالِقِها، وعلى ثُبوتِ المَعادِ إليه يومَ القيامةِ، لقومٍ يتَّقونَ غَضَبَ اللهِ وعِقابَه، فيَصرِفونَ العبادةَ له وَحْدَه لا شَريكَ له، ويَمتَثِلونَ أوامِرَه، ويَجتَنِبونَ نواهِيَه، لا يحمِلُهم هواهم على خِلافِ ما وضَحَ لهم من الحَقِّ

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] .

وقال سُبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران: 190] .

وقال تبارك وتعالى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 3 - 6] .

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ في هذه الآياتِ الحَثُّ والتَّرغيبُ على التفَكُّرِ في مخلوقاتِ الله، والنَّظرِ فيها بعَينِ الاعتبارِ؛ فإنَّ بذلك تنفتِحُ البَصيرةُ، ويزدادُ الإيمانُ والعَقلُ، وتَقوَى القريحةُ، وفي إهمالِ ذلك تهاونٌ بما أمَرَ اللهُ به، وإغلاقٌ لزيادةِ الإيمانِ، وجمودٌ للذِّهنِ والقريحةِ

.

2- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيه تنويهٌ بفَضلِ العِلمِ، وكونِ الإسلامِ دِينًا عِلميًّا لا تقليديًّا؛ ولذلك قَفَّى على هذه الآياتِ السَّماويَّةِ في الشَّمسِ والقَمَرِ بآيةٍ مذَكِّرةٍ بسائِرِ الآياتِ السَّماويَّةِ والأرضيَّةِ، فقال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ هذه الآيةُ أصلٌ في علمِ المواقيتِ والحسابِ ومنازلِ القمرِ والتاريخِ

.

2- سَمَّى سُبحانه الشَّمسَ سِراجًا وضياءً؛ لأنَّ فيها مع الإنارةِ والإشراقِ تَسخينًا وإحراقًا، فهي بالنَّارِ أشبَهُ، بخلافِ القَمَرِ؛ فإنَّه ليس فيه مع الإنارةِ تَسخينٌ، فلِهذا قال: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا .

3- قال تعالى: وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ وقال أيضًا: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] فخَصَّ القَمَرَ بذِكرِ تَقديرِ المَنازِلِ دونَ الشَّمسِ، وإن كانَت مُقَدَّرةَ المَنازِلِ؛ لظُهورِ ذلك للحِسِّ في القَمرِ، وظهورِ تَفاوُتِ نُورِه بالزِّيادةِ والنُّقصانِ في كلِّ مَنزِلٍ؛ ولذلك كان الحِسابُ القَمَريُّ أشهَرَ وأعرَفَ عند الأُمَمِ، وأبعَدَ مِن الغَلَطِ، وأصَحَّ للضَّبطِ مِن الحِسابِ الشَّمسيِّ، ويَشتَرِك فيه النَّاسُ دون الحِسابِ الشَّمسيِّ؛ ولهذا قال تعالى في القَمَرِ: وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ولم يقُل ذلك في الشَّمسِ؛ ولهذا كانت أشهُرُ الحَجِّ والصَّومِ، والأعيادُ ومواسِمُ الإسلامِ، إنَّما هي على حِسابِ القَمَرِ وسَيرِه ونُزولِه في مَنازِلِه، لا على حسابِ الشَّمسِ وسَيرِها؛ حِكمةً مِن اللهِ ورَحمةً وحِفظًا لدِينِه، لاشتراكِ النَّاسِ في هذا الحِسابِ، وتعَذُّرِ الغلَطِ والخطأِ فيه، فلا يدخُلُ في الدِّينِ مِن الاختلافِ والتَّخليطِ ما دخلَ في دينِ أهلِ الكتابِ .

4- قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ... في هذه الآيةِ إشارةٌ إلى أنَّ مَعرفةَ ضَبطِ التَّاريخِ نِعمةٌ أنعَمَ الله بها على البَشَرِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

- قولُه: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً، أي: ذاتَ ضياءٍ، أو مُضيئةً، أو نَفْسَ الضِّياءِ، وفيه مُبالَغةٌ، وَالْقَمَرَ نُورًا، أي: ذا نورٍ، أو مُنوَّرًا، أو نفْسَ النُّورٍ، وفيه مُبالغةٌ

.

- ولَمَّا كانَت الشَّمسُ أعظمَ جِرْمًا خُصَّتْ بالضِّياءِ؛ لأنَّه هو الَّذي له سُطوعٌ ولَمَعانٌ، وهو أعظَمُ مِن النُّورِ ؛ لِقُوَّتِه وكَمالِه، وخُصَّ القمَرُ بالنُّورِ؛ لأنَّه أضعَفُ مِن ذلك الضِّياءِ .

- قولُه: يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ جملةٌ مُستأنَفةٌ ابتدائيَّةٌ، مَسوقةٌ للامتِنانِ بالنِّعمةِ، ولِتَسجيلِ المؤاخَذةِ على الَّذينَ لم يَهتَدوا بهذه الدَّلائلِ إلى ما تَحتَوي عليه مِن البيانِ، والإتيانُ بالفِعلِ المضارِعِ يُفَصِّلُ؛ لإفادةِ التَّكْرارِ .

- في قولِه: يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ خُصَّ مَن يَعلَمُ بتَفصيلِ الآياتِ لهم، مع أنَّه تعالى فَصَّل الآياتِ للجُهَلاءِ أيضًا؛ لأنَّ انتِفاعَهم بالتَّفصيلِ أكثرُ؛ فهُم الَّذين يَنتَفِعون بتَفصيلِ الآياتِ، ويتَدبَّرون بها في الاستِدْلالِ، والنَّظرِ الصَّحيحِ .

2- قولُه تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ

- قولُه: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ... فِيه تأكيدُ هذا الاستدلالِ بحَرفِ إِنَّ؛ لأجلِ تَنزيلِ المخاطَبين به الَّذين لم يَهتَدوا بتِلْك الدَّلائلِ إلى التَّوحيدِ مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ أنَّ في ذلك آياتٍ على الوَحدانيَّةِ، بعَدمِ جَرْيِهم على مُوجِبِ العلمِ .

- قولُه: لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ خَصَّ المتَّقينَ؛ لأنَّهم الَّذين يحذرون من الوُقوعِ في شَيءٍ مِمَّا يخالِفُ مُرادَ الله سُبحانه، ويَخافون العَواقِبَ، فيَحمِلُهم الخوفُ على التدَبُّرِ والنَّظَرِ ، وفيه مُناسَبٌة حسَنةٌ، حيث جُعِلَت الآياتُ هنا لقومٍ يتَّقون؛ لأنَّ السِّياقَ تعريضٌ بالمشرِكين الَّذين لم يهتَدوا بالآياتِ؛ لِيَعلَموا أنَّ بُعْدَهم عن التَّقوى هو سببُ حِرمانِهم مِن الانتِفاعِ بالآياتِ، وأنَّ نَفْعَها حاصِلٌ للَّذين يتَّقون، أي: يَحذَرون الضَّلالَ؛ فالمتَّقون هم المتَّصِفون باتِّقاءِ ما يوقِعُ في الخُسْرانِ، فيَبعَثُهم على تَطلُّبِ أسبابِ النَّجاحِ، فيتَوجَّهُ الفِكْرُ إلى النَّظرِ والاستِدْلالِ بالدَّلائلِ .

=========================

 

غريب الكلمات

المعنى الإجمالي

تفسير الآيات

الفوائد التربوية

الفوائد العلمية واللطائف

بلاغة الآيات

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (7-10)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ

غريب الكلمات :

 

وَاطْمَأَنُّوا بِهَا: أي: سَكَنوا إليها، والطُّمأنينةُ والاطمِئنانُ: السُّكونُ بعد الانزِعاجِ

.

دَعْوَاهُمْ فِيهَا: أي: دُعاؤُهم وقولُهم وكلامُهم؛ فالدَّعوى تُطلَقُ على: الادِّعاءِ والدُّعاءِ والقَولِ كذلِك، وأصلُ (دعو): أنْ يُمِيلَ الشَّخصُ الشَّيءَ إليه بصَوتٍ وكَلامٍ يكونُ منه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يبَيِّنُ تعالى أنَّ الذينَ لا يتوقَّعونَ لِقاءَه يومَ القيامةِ، ورَضُوا بالحياةِ الدُّنيا بدلًا مِن الآخرةِ وسَكَنوا إليها، والذين هم عن آياتِه مُعرِضونَ؛ أولئك مَقَرُّهم ومَسكَنُهم النَّارُ في الآخرةِ؛ بسبَبِ ما كانوا يكسِبونَه من الكُفرِ والمعاصي.

والذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ يَهديهم اللهُ ويُرشِدُهم في الآخرةِ إلى جنَّاتِه؛ بسبَبِ إيمانِهم، تجري مِن تحتِهم الأنهارُ في جنَّاتِ النَّعيمِ، دُعاؤُهم في الجنَّةِ أن يقولوا: سُبحانَك يا أللهُ، وتَحيَّةُ بعضِهم لبعضٍ فيها: سلامٌ، وخاتِمةُ دُعائِهم أن يقولوا: الحمدُ للَّهِ رَبِّ العالَمينَ.

تفسير الآيات:

 

إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا أقام اللهُ تعالى الدَّلائِلَ القاهِرةَ على صِحَّةِ القَولِ بإثباتِ الإلهِ الرَّحيمِ الحكيمِ، وعلى صحَّةِ القَولِ بالمَعادِ والحَشرِ والنَّشرِ؛ شَرَعَ بعْدَه في شرحِ أحوالِ مَن يَكفُرُ بها، وفي شَرحِ أحوالِ مَن يُؤمِنُ بها، فأمَّا شَرحُ أحوالِ الكافرينَ، فهو المذكورُ في هذه الآيةِ

.

إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا.

أي: إنَّ الَّذين لا يتوقَّعونَ لِقاءَنا يومَ القيامةِ، فلا يَخافونَ مِن لِقاءِ اللَّهِ، ولا يَطمَعونَ فيه، ولا يَخافونَ مِن عِقابِه، ولا يَطمَعونَ في ثوابِه .

وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا.

أي: ورضُوا بالحياةِ الدُّنيا بدلًا من الآخرةِ، وفرحوا بها ورَكَنوا وسَكَنوا إليها .

وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ.

أي: والذين هم عن آياتِنا الكونيَّةِ والتَّنزيليَّةِ مُعرِضونَ، لا يتفَكَّرونَ فيها، ولا يَعتَبِرونَ بها .

أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8).

أي: أولئك الذين تلك صِفاتُهم، مَقَرُّهم ومَسكَنُهم في الآخرةِ: النَّارُ؛ بسبَبِ ما كانوا يكسِبونَه في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والشِّركِ والمعاصي .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لمَّا شَرَح الله تعالَى أحوالَ المنكرينَ والجاحدينَ في الآيةِ المتقدِّمةِ؛ ذكَر في هذه الآيةِ أحوالَ المؤمنينَ، فذكَر صفاتِهم أولًا، ثمَّ ذكَر ما لهم مِن الأحوالِ السَّنِيَّةِ والدَّرجاتِ الرَّفيعةِ ثانيًا .

فمناسبةُ ذكرِ هذه الآيةِ مقابلةُ أحوالِ الذينَ يكَذِّبونَ بلِقاءِ اللهِ بأضدادِها؛ تنويهًا بأهلِها وإغاظةً للكافرينَ .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ.

أي: إنَّ الذين آمَنوا بكُلِّ ما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحاتِ؛ يَزيدُهم ربُّهم في الدُّنيا هدًى إلى هداهم، ويُرشِدُهم في الآخرةِ إلى جنَّاتِه، وذلك بِسَببِ إيمانِهم .

كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] .

وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] .

تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

أي: تَجري مِن تحتِ هؤلاءِ- الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ- الأنهارُ، فتَجْري مِن تحتِ غُرَفِهم ومقاعِدِهم وسُرُرِهم في بساتينِ النَّعيم .

دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10).

دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ.

أي: دُعاءُ المُؤمِنينَ في الجنَّةِ أن يقولوا: سُبحانَك اللَّهُم، أي: ننزِّهُك يا اللهُ تنزيهًا مِن كلِّ عيبٍ ونَقصٍ .

عن جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما، قال: سمعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ أهلَ الجنَّةِ يأكلونُ فيها ويَشرَبونَ، ولا يَتفِلونَ ولا يَبولونَ، ولا يتغوَّطونَ ولا يَمتَخِطونَ. قالوا: فما بالُ الطَّعامِ؟! قال: جُشاءٌ ورَشحٌ كرَشحِ المِسكِ، يُلهَمونَ التَّسبيحَ والتَّحميدَ، كما تُلهَمونَ النَّفَسَ) ) .

وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ.

أي: وتحيَّةُ المؤمنينَ في الجنَّةِ: دعاءُ بَعضِهم لِبَعضٍ بالسَّلامةِ مِن كُلِّ سُوءٍ .

وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

أي: وخاتِمةُ دُعائِهم أن يقولوا: الحمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ، أي: جميعُ المحامِدِ مُستحَقَّةٌ لله تعالى ربِّ العالمينَ؛ فهو وَحدَه الموصوفُ بالكَمالِ، مع محبَّتِه وتعظيمِه عزَّ وجلَّ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ في الآيةِ إشارةٌ إلى أنَّ البَهجةَ بالحياةِ الدُّنيا والرِّضا بها، يكونُ مِقدارُ التوغُّلِ فيهما بمِقدارِ ما يَصرِفُ عن الاستعدادِ إلى الحياةِ الآخرةِ، وليس ذلك بمُقتضٍ الإعراضَ عن الحياةِ الدُّنيا؛ فإنَّ اللهَ أنعَمَ على عبادِه بنِعَمٍ كثيرةٍ فيها، وجَبَ الاعترافُ بفَضْلِه بها، وشُكْرُه عليها، والتعَرُّفُ بها إلى مراتِبَ أعلى، هي مراتبُ حياةٍ أخرى، والتزوُّد لها

.

2- قال تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ جُعِلَ الإيمانُ وَحْدَه سبَبَ الهدايةِ؛ لأنَّه هو الباعِثُ النَّفسيُّ لها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ في هذه اللَّفظةِ رَدٌّ على الجَبريَّةِ

، فقد أَثْبَتَ الله تعالى للعبادِ كَسْبًا، والكَسْبُ: هو الفعلُ الَّذي يعودُ على فاعلِه منه نفعٌ أو ضَرَرٌ، فالعبادَ فاعِلونَ لأفعالِهم حقيقَةً، ويَسْتَوْجِبونَ عليها المدحَ والذَّمَّ .

2- قَولُ الله تعالى: أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ الباءُ في قَولِه: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مُشعِرٌ بأنَّ الأعمالَ السَّابِقةَ هي المؤثِّرةُ في حُصولِ هذا العذابِ، ونظيرُه قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج: 10] .

3- قال الله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أضافها اللهُ إلى النَّعيمِ؛ لاشتمالِها على النَّعيمِ التَّامِّ؛ نعيمِ القَلبِ: بالفَرَحِ والسُّرورِ، والبهجةِ والحُبورِ، ورؤيةِ الرَّحمنِ وسَماعِ كَلامِه، والاغتباطِ برِضاه وقُربِه، ولقاءِ الأحبَّةِ والإخوانِ، والتمتُّعِ بالاجتماعِ بهم، وسَماعِ الأصواتِ المُطرِباتِ، والنَّغَماتِ المُشجِياتِ، والمَناظِر المُفرِحات، ونعيمِ البَدَنِ: بأنواعِ المآكِلِ والمَشارِبِ والمناكِحِ، ونحوِ ذلك ممَّا لا تَعلَمُه النُّفوسُ، ولا خطَرَ بِبالِ أحدٍ، أو قدَرَ أن يَصِفَه الواصِفونَ .

4- قولُه تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ووَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فيه أنَّ التَّسبيحَ والحَمدَ قد يُسمَّى دُعاءً، وكذلك التهليلُ، فعن ابنِ عبَّاسٍ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ عند الكَربِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ العظيمُ الحَليمُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ رَبُّ العَرشِ العَظيمِ، لا إلهَ إلَّا اللهُ ربُّ السَّمَواتِ، ورَبُّ الأرضِ، ورَبُّ العَرشِ الكَريمِ )) ، وكان السَّلَفُ يُسَمُّونَه دعاءَ الكَربِ، وعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا بها في بطنِ الحُوتِ: لا إلهَ إلَّا أنت سُبحانَك إنِّي كنتُ مِن الظَّالِمينَ؛ فإنَّه لن يدعُوَ بها مُسلِمٌ في شَيءٍ إلَّا استُجيبَ له) ) .

5- وَجهُ ذِكْرِ: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ في عدَدِ أحوالِهم أنَّها تدُلُّ على أنَّ ما هُم فيه مِن النَّعيمِ هو غاياتُ الرَّاغِبينَ بحيثُ إن أرادوا أن يَنعَموا بمقامِ دُعاءِ ربِّهم، الَّذي هو مَقامُ القُربِ لم يَجِدوا أنفُسَهم مُشتاقِين لشيءٍ يَسأَلونه، فاعتَاضوا عَن السُّؤالِ بالثَّناءِ على ربِّهم، فأُلهِموا إلى الْتِزامِ التَّسبيحِ؛ لأنَّه أدَلُّ لفظٍ على التَّمْجيدِ والتَّنزيهِ، فهو جامِعٌ للعِبارةِ عَن الكمالاتِ .

6- يُستحَبُّ للدَّاعي أن يقولَ في آخرِ دُعائِه (الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ)، كما قال الله تعالى عن أهلِ الجنَّةِ: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

7- قولُه: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هذا فيه دلالَةٌ علَى أنَّ اللَّهَ تعالَى هو المحمودُ أبدًا، المعبودُ على طولِ المَدَى؛ ولهذا حَمِد نفسَه عندَ ابتداءِ خَلْقِه واستمرارِه، وفي ابتداءِ كتابِه، وعندَ ابتداءِ تنزيلِه، حيثُ يقولُ تعالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الْكَهْفِ: 1] ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ [الأنعام: 1] إلى غيرِ ذلك مِن الأحوالِ الَّتي يطولُ بسطُها ، ويختمُ الأمورَ بالحَمدِ، كقَولِه تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزُّمَر: 75]، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 45] ،  وهو سبحانه لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

 

[القَصص: 70].

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ

- قولُه: إَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا استِئْنافُ وعيدٍ للَّذين لم يُؤمِنوا بالبَعثِ، ولا فكَّروا في الحياةِ الآخِرَةِ، ولم يَنظُروا في الآياتِ، نشَأ عَن الاستدلالِ على ما كفَروا به مِن ذلك؛ جَمعًا بينَ الاستِدلالِ المناسبِ لأهلِ العقولِ، وبينَ الوعيدِ المناسِبِ للمُعرِضين عن الحقِّ. ولِوُقوعِ هذه الجملةِ مَوقِعَ الوعيدِ الصَّالحِ لأَنْ يَعلَمَه النَّاسُ كلُّهم مُؤمِنُهم وكافِرُهم؛ عدَل فيها عن طريقةِ الخطابِ بالضَّميرِ إلى طريقةِ الإظهارِ، وجيءَ بالموصولةِ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ...؛ للإيماءِ إلى أنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ في حُصولِ الخبَرِ

.

- وفي الكلامِ مَحذوفٌ، والتَّقديرُ: ورَضُوا بالحياةِ الدُّنيا مِن الآخرةِ، كقولِه: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] .

- وفيه اختيارُ صيغةِ الماضي (رَضُوا- اطْمَأَنُّوا)؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ والتَّقرُّرِ، كما أنَّ اختِيارَ صِيغةِ المستقبَلِ لَا يَرْجُونَ؛ للإيذانِ باستِمْرارِ عدَمِ الرَّجاءِ .

- قولُه: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث أُعيد الموصولُ؛ للاهتِمامِ بالصِّلةِ، والإيماءِ إلى أنَّها وحْدَها كافيةٌ في استِحْقاقِ ما سَيُذكَر بعدَها مِن الخبَرِ، وإنَّما لم يُعِدِ الموصولَ في قولِه: وَرَضُوا بالْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ لأنَّ الرِّضا بالحياةِ الدُّنيا مِن تَكْملةِ مَعْنى الصِّلةِ الَّتي في قولِه: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا .

2- قولُه تعالى: أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فيه الإتيانُ باسْمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ لِزِيادَةِ إحصاءِ صِفاتِهم في أذهانِ السَّامِعين، ولِمَا يُؤْذِنُ به مَجيءُ اسْمِ الإشارةِ مُبتَدَأً عَقِبَ أوصافِهم مِن التَّنبيهِ على أنَّ المشارَ إليه جديرٌ بالخبَرِ مِن أجلِ تلك الأوصافِ .

- قَولُ اللهِ تعالى: أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ في تَسميةِ دارِ العذابِ (مأوًى) معنًى دقيقٌ في البلاغةِ، يُشعرُ بأنَّ أولئك المُطمئِنِّينَ بالشَّهواتِ، والغافلينَ عن الآياتِ؛ ليس لهم مصيرٌ يَلجَؤونَ إليه بعد هَولِ الحِسابِ، إلَّا جَهنَّمُ دارُ العذابِ، فوَيلٌ لِمَن كانت هذه الدَّارُ له كالمَلجأِ والمَوئِل؛ إذ لا مأوَى له يلجأُ إليه بَعدَها .

- قولُه: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فيه الإتيانُ بـ(ما)؛ للإيماءِ إلى عِلَّةِ الحُكمِ، أي: إنَّ مَكْسوبَهم سببٌ في مَصيرِهم إلى النَّارِ، فأفاد تأكيدَ السَّببيَّةِ المفادَةِ بالباءِ، والإتيانُ بـ(كان)؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا المكسوبَ دَيدَنُهم .

- ومَجيءُ قولِه: يَكْسِبُونَ بصِيغةِ المضارِعِ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم لم يَزالوا مُستمِرِّين على ذلك ماضِيَ زَمانِهم ومُستَقبَلَه؛ ففيه دَلالةٌ على التَّكريرِ، فيَكونُ دَيدَنُهم تَكْريرَ ذلك الَّذي كسَبوه .

3- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ

- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ ... جملةٌ مستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لِتَكونَ أحوالُ المؤمِنين مُستقِلَّةً بالذِّكْرِ غيرَ تابعةٍ في اللَّفظِ لأحوالِ الكافِرين، وهذا مِن طُرقِ الاهتِمامِ بالخبَرِ .

- قَولُ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وصَفَهم أوَّلًا بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ بصيغةِ الماضي؛ لبيانِ صِنفِهم وفريقِهم المُقابِل للفَريقِ الذي ذُكِرَ قبلَهم، وأخبَرَ عن هدايتِه لهم بصيغةِ المضارِعِ يَهْدِيهِمْ الدالَّةِ على الاستمرارِ والتجَدُّدِ .

- وفي قولِه: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ أُوثِرَ الالتِفاتُ؛ تَشْريفًا لهم بإضافةِ الرَّبِّ، وإشعارًا بعِلَّةِ الهدايةِ ، وفي العُدولِ عَنِ اسمِ الجلالةِ العَلَمِ- حيثُ لم يَقُلْ: (يَهْديهم اللهُ)- إلى وصفِ الرُّبوبيَّةِ مُضافًا إلى ضَميرِ الَّذين آمَنوا رَبُّهُمْ: تنويهٌ بشأنِ المؤمنينَ وشأنِ هِدايتِهم، بأنها ناتجةٌ عن كونِه سبحانَه مولى لأوليائِه؛ فشَأنُها أن تَكونَ عطيَّةً كاملةً مَشُوبةً برحمةٍ وكرامةٍ .

4- قولُه تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الاقتِصارُ على كَونِ دَعْواهُم فيها كَلِمةَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ يُشعِرُ بأنَّهم لا دَعْوى لهم في الجنَّةِ غيرَ ذلك القولِ؛ لأنَّ الاقتِصارَ في مَقامِ البيانِ يُشعِرُ بالقَصْرِ- وإن لم يَكُنْ هو مِن طُرقِ القَصْرِ، لكنَّه يُستَفادُ مِن المقامِ- ولكنَّ قولَه: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُفيدُ أنَّ هذا التَّحميدَ مِن دَعْواهم؛ فتَحَصَّل مِن ذلك أنَّ لهم دَعْوى وخاتِمةَ دَعْوى .

=========================

 

سُورةُ يُونُس

الآيتان (11-12)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ

غريب الكلمات:

 

طُغْيَانِهِمْ: أي: عُتُوِّهِمْ وتكبُّرِهم. وأصلُ الطُّغيانِ: مُجاوزةُ الحدِّ

.

يَعْمَهُونَ: أي: يتردَّدونَ ويتَحيَّرونَ. وأصلُ (عمه): يدلُّ على حَيرةٍ، وقِلَّةِ اهتداءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ اللهُ تعالى أنَّه لو يعَجِّلُ للنَّاسِ الشَّرَّ كاستِعجالِهم بالخَيرِ، لَهَلكوا، ويَترُكُ اللهُ الذينَ لا يَرجُونَ لِقاءَه في الآخرةِ في ضَلالِهم متحَيِّرينَ مُتَردِّدينَ.

وإذا مَسَّ الإنسانَ الضُّرُّ دعا ربَّه عَزَّ وجَلَّ، في جميعِ أحوالِه: مُضطجِعًا على جَنْبِه أو قاعدًا أو قائِمًا، فلمَّا كشَفَ اللهُ عنه ضُرَّه، استمَرَّ على ما كان عليه مِنَ الكُفرِ أو المعاصي، ونَسِيَ أو تناسى ما كان عليه مِن الشِّدَّةِ، ولم يشكُرِ اللهَ الذي فرَّجَ عنه، وكأنَّه لم يَدْعُه إلى رَفْعِ ما أصابَه، كذلك زُيِّنَ للكافرين المُجاوِزينَ الحَدَّ في الكُفرِ والعِصيانِ ما كانوا يَعملونَ.

تفسير الآيتين:

 

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وصَفَ الكُفَّارَ بأنَّهم لا يرَجُونَ لِقاءَ اللهِ، ورَضُوا بالحياةِ الدُّنيا واطمَأنُّوا بها، وكانوا عن آياتِ الله غافلينَ- بَيَّنَ أنَّ مِن غَفلَتِهم أنَّ الرَّسولَ متى أنذَرَهم استعجَلوا العذابَ؛ جهلًا منهم وسَفَهًا

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الله عَجَبَ النَّاسِ مِن إيحائِه تعالى إلى رَجُلٍ منهم، وكان فيما أُوحِيَ إليه الإنذارُ والتَّبشيرُ، وكانوا يستهِزئونَ بذلك، ولا يعتَقِدونَ حُلولَ ما أنذَروه بهم، ثمَّ استطرَدَ مِن ذلك إلى وحدانيَّتِه تعالى، وذِكْرِ إيجادِه العالَمَ، ثم إلى تقسيمِ النَّاسِ إلى مؤمِنٍ وكافرٍ، وذِكْرِ منازِلِ الفريقينِ- رجع إلى أنَّ ذلك المُنذَرَ به الذي طلَبوا وقوعَه عَجَلًا، لو وقَعَ لَهَلكوا، فلم يكُن في إهلاكِهم رجاءُ إيمانِ بَعضِهم، وإخراجُ مُؤمنٍ مِن صُلبِهم، بل اقتضَتْ حِكمتُه ألَّا يُعجِّلَ لهم ما طَلَبوه؛ لِمَا ترتَّبَ على ذلك .

وأيضًا هذه الجُملةَ مَعطوفةٌ على جملةِ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا الآية، فحيث ذَكَرَ عذابَهم الذي هم آيِلونَ إليه، ناسَبَ أن يبَيِّنَ لهم سبَبَ تأخيرِ العذابِ عنهم في الدُّنيا؛ لتُكشَفَ شُبهةُ غُرورِهم، ولِيَعلَمَ الذين آمنوا حكمةً مِن حِكَمِ تصَرُّفِ اللهِ في هذا الكَونِ .

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ.

أي: ولو يُعجِّلُ الله للنَّاسِ الشرَّ إذا دَعَوْا به، كاستعجالِهم بالخيرِ ، لهلَكوا .

عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ، رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (( لا تَدْعُوا على أنفُسِكم، ولا تَدْعُوا على أولادِكم، ولا تَدعُوا على أمْوالِكم؛ لا تُوافِقوا مِن اللهِ ساعةً يُسألُ فيها عطاءً، فيستجيبَ لكم)) .

فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.

أي: فنَترُكُ الذين لا يُؤمِنونَ بلِقائِنا، فلا يخافونَ عِقابَنا، ولا يَطمَعونَ في ثَوابِنا، نَترُكُهم في تَمَرُّدِهم مُترَدِّدينَ مُتحَيِّرينَ، لا يَهتَدونَ إلى الحَقِّ .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ [النمل: 4]

وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (12).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى حكى عن الكافرينَ أنَّهم يَستعجِلونَ في نزولِ العَذابِ، ثمَّ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّهم كاذِبونَ في ذلك الطَّلَبِ والاستعجالِ؛ لأنَّه لو نزَلَ بالإنسانِ أدنى شَيءٍ يَكرَهُه ويُؤذيه، فإنَّه يتضَرَّعُ إلى اللهِ تعالى في إزالَتِه عنه، وفي دَفْعِه عنه، وذلك يدُلُّ على أنَّه ليس صادِقًا في هذا الطَّلَبِ .

وأيضًا لَمَّا استدعَى الكافِرونَ حُلولَ الشَّرِّ بهم، وأنَّه تعالى لا يفعَلُ ذلك بطَلَبِهم، بل يترُكُ مَن لا يرجو لقاءَه يَعمَهُ في طُغيانِه؛ بَيَّنَ شِدَّةَ افتقارِ النَّاسِ إليه، واضطرارَهم إلى استمطارِ إحسانِه؛ مُسيئِهم ومُحسِنِهم، وأنَّ مَن لا يرجو لِقاءَه مُضطَرٌّ إليه حالةَ مَسِّ الضُّرِّ له، فكُلٌّ يلجأُ إليه حينَئذٍ، ويُفرِدُه بأنَّه القادِرُ على كَشفِ الضُّرِّ .

وأيضًا فإنَّ هذه الآيةَ عَطفٌ على جُملةِ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ للنَّاسِ الشَّرَّ؛ لأنَّ الغَرَضَ الأهَمَّ مِن كِلتَيهما، هو الاعتبارُ بذَميمِ أحوالِ المُشرِكينَ؛ تَفظيعًا لحالِهم، وتحذيرًا مِن الوقوعِ في أمثالِها، بقرينةِ تَنهيةِ هذه الآيةِ بِجُملةِ: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فلمَّا بَيَّنَ في الآية السَّابقةِ وَجْهَ تأخيرِ عَذابِ الاستئصالِ عنهم، وإرجاءِ جَزائِهم إلى الآخرةِ، بَيَّنَ في هذه الآيةِ حالَهم عِندَما يَمَسُّهم شيءٌ من الضُّرِّ، وعِندَما يُكشَفُ الضُّرُّ عنهم .

وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا.

أي: وإذا أصابَ الإنسانَ الشِّدَّةُ والكَربُ اجتهَدَ في دعائِنا في جميعِ أحوالِه؛ مُضطَجِعًا على جَنْبِه، أو قاعدًا، أو قائمًا .

كما قال تعالى: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [لقمان: 32] .

وقال سُبحانه: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] .

فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ.

أي: فلمَّا فَرَّجْنا عن الإنسانِ المُضطَرِّ، واستجَبْنا دُعاءَه، استمَرَّ على ما كان عليه مِن الكُفرِ أو المعاصي، ونَسِيَ أو تناسى ما كان فيه مِن الشِّدَّةِ، ولم يتَّعِظْ بذلك، ولم يَشكُرِ، كأنَّه لم يَدْعُنا إلى رَفعِ ما أصابَه !

كما قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 65-66] .

وقال سُبحانه: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8] .

كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.

أي: كما زُيِّنَ للإنسانِ الدُّعاءُ عند البَلاءِ، والإعراضُ عند الرَّخاءِ، واستمرارُه على ما كان عليه مِن كُفرانٍ بعد كَشْفِ ضُرِّه، كذلك زُيِّنَ للكافرين المُجاوِزينَ الحَدَّ في الكُفرِ والعِصيانِ ما كانوا يَعملونَه من ذلك

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال اللهُ تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. المَقصودُ مِن هذه الآيةِ بيانُ أنَّ الإنسانَ قَليلُ الصَّبرِ عندَ نُزولِ البَلاءِ، قليلُ الشُّكرِ عندَ وِجدانِ النَّعماءِ والآلاءِ؛ فإذا مَسَّه الضُّرُّ أقبَلَ على التضَرُّعِ والدُّعاءِ، مُضطَجِعًا أو قائمًا أو قاعِدًا، مجتَهِدًا في ذلك الدُّعاءِ، طالبًا مِن اللهِ تعالى إزالةَ تلك المِحنةِ، وتبديلَها بالنِّعمةِ والمِنحةِ، فإذا كشَفَ تعالى عنه ذلك بالعافيةِ، أعرَضَ عن الشُّكرِ، ولم يتذَكَّرْ ذلك الضُّرَّ، ولم يَعرِفْ قَدْرَ الإنعامِ، وصار بمنزلةِ مَن لم يَدْعُ اللهَ تعالى لِكَشفِ ضُرِّه، وذلك يدُلُّ على ضَعفِ طبيعةِ الإنسانِ، وشِدَّةِ استيلاءِ الغَفلةِ والشَّهوةِ عليه، وإنَّما ذكَرَ الله تعالى ذلك؛ تنبيهًا على أنَّ هذه الطريقةَ مَذمومةٌ، بل الواجِبُ على الإنسانِ العاقِلِ أن يكونَ صابِرًا عند نزولِ البَلاءِ، شاكِرًا عند الفَوزِ بالنَّعماءِ، ومِن شَأنِه أن يكونَ كَثيرَ الدُّعاءِ والتضَرُّعِ في أوقاتِ الرَّاحةِ والرَّفاهيةِ؛ حتى يكونَ مُجابَ الدَّعوةِ في وقتِ المِحنةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ هو إجمالٌ يُنبئُ بأنَّ الله جعَلَ نِظامَ هذا العالَمِ على الرِّفقِ بالمخلوقاتِ، واستبقاءِ الأنواعِ إلى آجالٍ أرادَها، وجعَلَ لهذا البَقاءِ وَسائِلَ الإمدادِ بالنِّعَمِ التي بها دوامُ الحياةِ، فالخيراتُ المُفاضةُ على المخلوقاتِ في هذا العالَم كثيرةٌ، والشُّرورُ العارِضةُ نادرةٌ، ومُعظَمُها مُسبَّبٌ عن أسبابٍ مَجعولةٍ في نظامِ الكَونِ وتصَرُّفاتِ أهلِه، ومنها ما يأتي على خِلافِ العادةِ عند محَلِّ آجالِه التي قَدَّرَها الله تعالى بِقَولِه تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يونس: 49] ، وقولِه تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ

[الرعد: 38] .

2- في قَولِ اللهِ تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ جاء (الضرُّ) بالألف واللام؛ لأنَّه إشارةٌ إلى ما تقدَّمَ من الشَّرِّ في قولِه تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ؛ فإنَّ الضُّرَّ والشَّرَّ واحِدٌ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فائدةُ ذِكرِ هذه الأحوالِ أنَّ المضرورَ لا يزالُ داعيًا، لا يفتُرُ عن الدُّعاءِ، إلى أن يزولَ عنه الضُّرُّ، سواءٌ كان مُضطَجِعًا أو قاعدًا أو قائمًا .

4- قَولُ اللهِ تعالى: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قد أُسنِدَ التَّزيينُ هنا إلى المَفعولِ؛ لأنَّه المقصودُ بالعِبرةِ دونَ فاعِلِه

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

- قولُه: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ فيه وَضْعُ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ موضِعَ (تَعْجيلِه لهم الخَيرَ)- لأنَّ أصلَه: (ولو يُعجِّلُ اللهُ للنَّاسِ الشَّرَّ تَعْجيلَه لهم الخيرَ)-؛ إشعارًا بسُرعةِ إجابَتِه لهم، وإسعافِه بِطَلِبَتِهم، حتَّى كأنَّ استِعْجالَهم بالخَيرِ تعجيلٌ لهم

وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.

2- قولُه تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

- قولُه: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ وصفٌ للمُستقبَلِ، وقوله: فَلَمَّا كَشَفْنَا للماضي؛ للدَّلالةِ على أنَّه هكذا كان فيما مَضَى، وهكذا يَكونُ في المستقبَلِ؛ فدَلَّ ما في الآيةِ مِن الفعلِ المستقبَلِ على ما فيه مِن المعنى المستقبَلِ، وما فيها مِن الفِعْلِ الماضي على ما فيه مِن المعنى الماضي .

- وزيادةُ قولِه: أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا؛ لِقَصْدِ تعميمِ الأحوالِ وتَكْميلِها؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ الإطنابِ لِزِيادَةِ تمثيلِ الأحوالِ، أي: دَعانا في سائرِ الأحوالِ لا يُلْهيه عَن دُعائِنا شيءٌ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ حيث ابتَدَأ بالحالةِ الشَّاقَّةِ دَعَانَا لِجَنْبِهِ، وهي اضطِجاعُه وعَجْزُه عن النُّهوضِ، وهي أعظَمُ في الدُّعاءِ وآكَدُ، ثُمَّ بما يَليها، وهي حالةُ القُعودِ: أَوْ قَاعِدًا، وهي حالَةُ العَجزِ عن القيامِ، ثمَّ بما يَليها وهي حالةُ القيامِ: أَوْ قَائِمًا، وهي حالةُ العَجزِ عَن المشيِ، فتَراه يَضْطَرِبُ ولا يَنهَضُ للمَشيِ كحالَةِ الشَّيخِ الهَرِمِ ، وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.

- قولُه: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ تذييلٌ يَعُمُّ ما تقَدَّم وغيرَه، والإشارةُ إلى التَّزيينِ المستَفادِ هنا، وهو تزيينُ إعراضِهم عن دُعاءِ اللهِ في حالةِ الرَّخاءِ .

=================

 

سُورةُ يُونُس

الآيتان (13-14)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ

غريب الكلمات:

 

الْقُرُونَ: جمعُ قَرْنٍ، والقرنُ: القومُ أو الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ المقترنونَ في زمنٍ واحدٍ، غَيْر مُقَدَّرٍ بمدةٍ مُعَيَّنةٍ، وقيل: مدَّة القرنِ مئةُ سنةٍ، وقيل: ثمانونَ، وقيل: ثلاثون، وقيل غيرُ ذلك، وهو مأخوذٌ مِن الاقترانِ، وهو اجتماعُ شيئينِ، أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصلُ (قرن): يدلُّ على جمعِ شيءٍ إلى شيءٍ

.

خَلَائِفَ: أي: سُكَّانًا يخلُفُ بَعضُكم بعضًا، وأصلُ (خلف): أن يَجيءَ شَيءٌ بعدَ شَيءٍ يقومُ مَقامَه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ تعالى المُشرِكينَ أنَّه قد أهلَكَ الأمم مِن قَبْلِهم لَمَّا ظَلَموا بإشراكِهم باللهِ، وتكذيبِهم رُسُلَه، وأتتْ تلك الأممَ الماضيةَ رُسُلُ اللهِ إليهم بالمُعجِزاتِ والبَراهينِ الواضِحاتِ، فما كانوا ليُؤمِنوا؛ لأنَّ اللهَ طَبَع على قُلوبِهم؛ لِشِدَّةِ كُفرِهم، ومُعانَدتِهم للحَقِّ، كذلك يَجزي الله القَومِ المُجرِمينَ.

ثم جَعَلَهم  خلائِفَ في الأرضِ من بعدِ أولئك الأمَمِ التي أهلَكَها اللهُ، ليَنظُرَ كيف يَعملونَ.

تفسير الآيتين:

 

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّه عاد الخِطابُ إلى المُشرِكينَ عَودًا على بَدْئِه، في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ... إلى قَولِه لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس: 3- 5] بمناسبةِ التَّماثُلِ بينهم وبين الأُمَمِ قَبْلَهم في الغُرورِ بتَأخيرِ العَذابِ عنهم، حتى حَلَّ بهم الهلاكُ فجأةً، وهذه الآيةُ تَهديدٌ ومَوعظةٌ بما حلَّ بأمثالِهم

.

وأيضًا لَمَّا كان مَحَطُّ نظَرِ الكافرينَ الدُّنيا، وكان ما سبَقَ صَريحًا في الإمهالِ للظَّالِمينَ، والإحسانِ إلى المُجرِمينَ؛ أتبَعَه بِقَولِه تعالى مُهَدِّدًا لهم، رادعًا عمَّا هم فيه :

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ.

أي: ولقد أهلَكْنا بالاستئصالِ الأمم الماضيةِ التي كانت قَبْلَكم- أيُّها المُشرِكونَ - لَمَّا أشرَك أهلُها باللهِ، وكَذَّبوا رُسُلَه، وخالفوا أمْرَه ونَهْيَه .

كما قال سُبحانه: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [السجدة: 26] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [ق: 36] .

وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ.

أي: وأتت الأممَ الماضيةَ رُسُلُ اللهِ بالمُعجِزاتِ والبَراهينِ الواضِحةِ التي تدُلُّ على صِدقِهم .

كما قال تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة: 70] .

وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ.

أي: فلم يكُن أهلُ القُرونِ الماضيةِ لِيُؤمِنوا برُسُلِ اللهِ الذين جاؤوهم بالمُعجِزاتِ؛ لأنَّ اللهَ طبَعَ على قُلوبِهم لشِدَّةِ كُفرِهم، ومُعانَدتِهم للحَقِّ .

كما قال تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف: 101] .

وقال سُبحانه: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ [يونس: 74] .

كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ.

أي: كما أهلَكْنا أهلَ القُرونِ الماضيةِ مِن قَبلِكم- أيُّها المُشرِكونَ- بسبَبِ شِرْكِهم، كذلك نُهلِكُكم إذا لم تَتوبوا وتُؤمِنوا باللهِ ورُسُلِه، ونُهلِكُ كُلَّ مُشرِكٍ وكافرٍ كذلك .

كما قال سبحانه: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ [المرسلات: 16-18] .

ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ هذا الخِطابَ مَعطوفٌ على الذي قَبلَه، أي: ثمَّ جَعلْناكم خلائفَ في الأرضِ مِن بَعدِ أولئك الأقوامِ كُلِّهم بما آتيناكم في هذا الدِّينِ مِن أسبابِ المُلكِ والحُكمِ، وقَدَّرناه لكم باتِّباعِه، إذ كان الرَّسولُ الذي به جاءَكم هو خاتَمَ النَّبيِّينَ، فلا يُوجَدُ بعد أمَّتِه أمَّةٌ أخرى لنبيٍّ آخَرَ، فاللهُ يُبشِّرُ قَومَ مُحمَّدٍ وأمَّةَ مُحمَّدٍ بأنَّها ستَخلُفُهم في الأرضِ، إذا آمَنَت به، واتَّبَعَت النُّورَ الذي أُنزِلَ معه .

وأيضًا لَمَّا صَرَّحَ تعالى بأنَّ الجزاءَ المذكورَ عامٌّ لكُلِّ مُجرمٍ، أتبَعَه قَولَه: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ أي: أيُّها المُرسَلُ إليهم أشرَفُ رُسُلِنا خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيتعَلَّقُ نظَرُنا بأعمالِكم موجودةً؛ تخويفًا للمُخاطَبينَ مِن أن يُجرِموا فيُصيبَهم ما أصابَ مَن قَبْلَهم .

ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم

أي: ثمَّ جَعَلْناكم سكَّانًا في الأرضِ، تكونون فيها مِن بَعدِ الأمَمِ الماضيةِ التي أهلَكْناها .

لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.

أي: استَخلَفْناكم بَعْدَهم؛ لِنَنظُرَ أيَّ عَمَلٍ تَعملونَ من أعمالِ الخَيرِ أو الشَّرِّ، فنُجازيكم عليه .

عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الدُّنيا حُلوةٌ خَضِرةٌ ، وإنَّ اللهَ مُستَخلِفُكم فيها، فينظُرُ كيف تَعمَلونَ ))

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- سبَبُ هلاكِ الأُمَمِ السَّابقةِ وُقوعُ الظُّلمِ مِنهم؛ قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا

.

2- قولُه تعالى: لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ مِن أدلَّةِ إثباتِ الصِّفاتِ الاختياريَّةِ لِلَّهِ تعالى؛ ففيه إثباتُ صِفةِ النَّظَرِ، فإنَّ اللامَ هنا هي لامُ (كي)، وهي تقتضي أنَّ ما بَعدَها متأخِّرٌ عن المعلولِ، فنَظَرُه لـ كَيْفَ تَعْمَلُونَ هو بعدَ جعْلِهم خلائفَ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ

- قولُه: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ فيه توكيدُ التَّهديدِ والوَعيدِ؛ حيثُ أُكِّدَت الجُملةُ بلامِ القسَمِ و(قد) الَّتي للتَّحقيقِ

.

- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا الخِطابُ لأمَّةِ الدَّعوةِ المُحمَّديةِ، وُجِّهَ أوَّلًا وبالذَّاتِ إلى قَومِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأهلِ وَطَنِه مكَّةَ؛ إذ أُنزِلَت السُّورةُ فيها، فهو التفاتٌ يُفيدُ مَزيدَ التَّنبيهِ، وتوجيهَ أذهانِ المُخاطَبينَ لِمَوضوعِه .

- قولُه: وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا اللَّامُ لِتَأكيدِ النَّفيِ، أي: وما صَحَّ وما استَقام لهم أن يُؤمِنوا؛ لِفَسادِ استِعْدادِهم، وخِذْلانِ اللهِ تعالى إيَّاهم. أو: ما كانوا يُؤمِنون حقًّا، تأكيدًا لِنَفيِ إيمانِهم .

- قولُه: وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا على القولِ بأنَّ الضَّميرَ عائدٌ على أهلِ مكَّةَ، فيَكونُ الْتِفاتًا؛ لأنَّه خرَج مِن ضميرِ الخطابِ إلى ضَميرِ الغيبةِ، ويَكونُ مُتَّسِقًا معَ قولِه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيهِمْ .

- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا، بالواوِ تَبعًا لها في قولِه:  وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وقال في موضعٍ آخَرَ مِن سورةِ يونُسَ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ [يونس: 74] ، وكذلك في سورةِ الأعرافِ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ [الأعراف: 101] بالفاءِ للتَّعقيبِ، على أصلِها .

==================

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (15-17)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ

المعنى الإجمالي:

 

يبَيِّنُ تعالى أنَّه إذا قُرئَ على المُشركينَ آياتُ القُرآنِ واضحاتٍ، دالَّاتٍ على الحَقِّ، قال المُشرِكونَ- الذين يكذِّبونَ بالبَعثِ- لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أحضِرْ قُرآنًا آخَرَ ليس فيه ما نَكْرَه، أو غيِّرْه بنَفسِك على الوَجهِ الذي نحِبُّ، فأمَرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُجيبَهم قائلًا: لا يحِقُّ لي أن أغيِّرَه مِن قِبَلِ نَفسي، ما أتَّبِعُ إلَّا ما يوحيهُ اللَّهُ إليَّ؛ إني أخافُ إن عصيتُ ربِّي  عذابَ يومٍ عَظيمٍ، وهو يومُ القيامةِ.

وأمَرَه أيضًا أن يقولَ لهم: لو شاءَ اللهُ ما تَلَوتُ عليكم القُرآنَ، ولا أعلَمَكم اللهُ به؛ فقد أقمْتُ فيكم- يا أهلَ مكَّةَ- حِينًا طويلًا قبلَ أن يُوحَى إليَّ هذا القُرآنُ، أفلا تَعقِلونَ؟!

فلا أحَدَ أظلَمُ ممَّن تقوَّلَ على اللهِ الكَذِبَ، أو كذَّبَ بآياتِه؛ إنَّه لا يُفلِحُ المُجرِمونَ.

تفسير الآيات:

 

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بُدِئَت السُّورةُ بالكتابِ الحكيمِ (القُرآن)، وإنكارِ المُشرِكينَ للوَحيِ بشُبهتِهم المعروفةِ، وسِيقَت بَعدَها الآياتُ في إقامةِ الحُجَجِ عليهم؛ مِن خَلقِ العالَمِ عُلْويِّه وسُفلِيِّه، ومِن طبيعةِ الإنسانِ وتاريخِه، متضمِّنةً لإثباتِ أهَمِّ أركانِ الدِّينِ، وهو الوحيُ والتَّوحيدُ والبَعثُ- جاءت هذه الآياتُ الثَّلاثُ بعد ذلك في شأنِ الكتابِ نَفسِه، وتفنيدِ ما اقتَرَحه المُشرِكونَ على الرَّسولِ فيه، وحُجَّتِه البالغةِ عليهم، في كونِه وَحيًا مِن اللهِ تعالى

.

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ.

أي: وإذا قُرئَ على مُشرِكي قُريشٍ آياتُ القُرآنِ واضحاتٍ دالَّاتٍ على الحَقِّ، قال الذين يكَذِّبونَ بالبَعثِ، ولا يخافونَ عِقابَنا، ولا يَطمعونَ في ثَوابِنا: أحضِرْ- يا محمَّدُ- قُرآنًا آخَرَ ليس فيه ما نَكْرَهُ مِن التَّوحيدِ، والنَّهيِ عن الشِّركِ، وعَيبِ آلهَتِنا، وذِكرِ البَعثِ والنُّشورِ، أو غيِّرْ هذا القُرآنَ بنَفسِك على الوَجهِ الذي نُحِبُّ .

قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ الكُفَّارِ: لا يحقُّ لي أن أُغيِّرَ القُرآنَ بمَحضِ رأيي، ومُقتضَى اجتهادِي،  بِغَيرِ وَحْيٍ مِن اللَّهِ؛ فليس لي مِن الأمرِ شَيءٌ .

إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ الكُفَّارِ: إنَّما أنا عبدٌ مأمورٌ، ليس لي إلَّا أن أتَّبِعَ ما يُوحيه اللَّهُ إليَّ ويأمُرُني به، مِن غَيرِ زيادةٍ ولا نُقصانٍ، ولا تبديلٍ ولا تَحريفٍ .

إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.

أي: إنِّي أخشى- إن خالَفْتُ أمْرَ اللهِ، وبدَّلْتُ شَيئًا مِن كِتابِه- عذابَ يومِ القيامةِ العظيمِ الأهوالِ .

كما قال تعالى عن يومِ القِيامةِ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 1-2] .

قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ الكافرينَ التَمَسوا مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك الالتِماسَ المذكورَ في الآيةِ السَّابقةِ؛ لأجلِ أنَّهم اتَّهَموه بأنَّه هو الذي يأتي بهذا الكِتابِ مِن عندِ نَفسِه، على سبيلِ الاختلاقِ والافتِعالِ، لا على سَبيلِ كَونِه وَحيًا من عندِ الله تعالى؛ فلهذا المعنى احتَجَّ النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على فَسادِ هذا الوَهمِ بما ذكَرَه اللهُ تعالى في هذه الآية .

قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ.

أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ الكُفَّارِ: لو أراد اللَّهُ ما تَلَوتُ عليكم القُرآنَ؛ فاللهُ وَحْدَه هو الذي أنزَلَه عليَّ، وأمَرَني بتِلاوَتِه عليكم، فهو ليس من قِبَلي، ولا أقدِرُ على ذلك، ولا أقدِرُ على الإتيانِ بقرآنٍ غَيرِه .

وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ.

أي: ولو أراد اللهُ لَمَا أعلَمَكم بالقرآنِ، ولا أخبَرَكم به، لكِنَّه أدْراكم به بعد أنْ لم تكونوا كذلك، فلو كان كَذِبًا وافتراءً كما تقولونَ، لأمكَنَ لِغَيري أن يَتلوَه عليكم، وتَدرونَ به مِن جِهَتِه؛ لأنَّ الكَذِبَ لا يَعجِزُ عنه البشَرُ، وأنتم لم تَدْروا بهذا مِن قَبْلُ، ولم تَسمَعوه مِن بشَرٍ غَيري .

فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ.

أي: فقد أقمْتُ فيكم- يا أهلَ مَكَّةَ- حينًا طويلًا مِن عُمُري- أربعينَ سنةً- قبلَ أن يُوحَى إليَّ هذا القرآنُ، ما جرَّبتُم عليَّ كذبًا قطُّ، تَعرِفونَ صدقي وأمانتي، وأنِّي لستُ ممَّن يقرأُ أو يكتبُ، ثمَّ جِئتُكم بالقُرآنِ، أفلا تَعقِلونَ بذلك أنَّه وحيٌ مِن عندِ الله تعالى ؟!

كما قال تعالى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [المؤمنون: 69-70] .

وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: ((أنَّ أبا سُفيانَ أخبَرَه أنَّ قَيصَرَ سألَه عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: هل كُنتُم تتَّهِمونَه بالكَذِب قبلَ أن يقولَ ما قال؟ قلتُ: لا...)) وذكر الحَديثَ بطولِه، وفيه: ((قال: سألتُك هل كُنتُم تتَّهِمونَه بالكَذِب قبلَ أن يقولَ ما قال؟ فذَكَرْتَ أنْ لا، فقد أعرِفُ أنَّه لم يكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ على النَّاسِ ويكذِبَ على اللهِ !)) .

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

هذه الآيةُ تَتِمَّةُ الرَّدِّ على اقتراحِ المُشرِكينَ؛ فإنَّه رَدَّ عليهم أوَّلًا ببيانِ حَقيقةِ الأمرِ الواقِعِ، وهو أنَّ تبديلَ القُرآنِ ليس مِن شَأنِ الرَّسولِ في نَفسِه، ولا ممَّا أَذِنَ اللهُ له به، بل يُعاقِبُه عليه أشَدَّ العِقابِ في الآخرةِ إنْ فُرِضَ وُقوعُه منه؛ لأنَّه كلامُه الخاصُّ به. وثانيًا: بإقامةِ الحُجَّةِ العَقليَّةِ على أنَّه كلامُ الله، وأنَّه ليس في استطاعتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإتيانُ بمِثلِه، ثمَّ عَزَّز هاتينِ الحُجَّتَينِ بثالثةٍ أدبيَّةٍ، وهي: أنَّ شَرَّ أنواعِ الظُّلمِ والإجرامِ في البَشَرِ شيئان؛ أحدُهما: افتراءُ الكَذِبِ على اللهِ، وهو ما اقتَرَحوه عليه بجُحودِهم، وثانيهما: التَّكذيبُ بآياتِ الله، وهو ما اجتَرَحوه بإجرامِهم .

وأيضًا فإنَّ الكافرينَ التَمَسوا مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قُرآنًا يَذكُرُه مِن عندِ نَفْسِه، ونَسَبوه إلى أنَّه إنَّما يأتي بهذا القُرآنِ مِن عِندِ نَفسِه، ثمَّ إنَّه أقام البُرهانَ القاهِرَ الظَّاهِرَ على أنَّ ذلك باطِلٌ، وأنَّ هذا القُرآنَ ليس إلَّا بِوَحيِ اللهِ تعالى وتَنزيلِه، فعندَ ذلك قال :

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ.

أي: فلا أحَدَ أشَدُّ كَذِبًا، وأوضَعُ لِقَولِه في غيرِ مَوضِعِه ممَّن تقوَّلَ الكَذِبَ على اللهِ سُبحانه- كمَن زعَمَ أنَّ اللهَ أوحَى إليه- أو كذَّبَ بآياتِ كِتابِه فلم يُصَدِّقْها .

إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ.

أي: إنَّه لا يفوزُ الكافرونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هذا جوابٌ حَسَنٌ؛ فإنَّه لَمَّا كان أحدُ المَطلوبَينِ التَّبديلَ، بدأ به في الجوابِ، ثمَّ أُتبِعَ بأمرٍ عامٍّ يشمَلُ انتفاءَ التَّبديلِ وغَيرِه، ثمَّ أتى بالسَّبَبِ الحامِلِ على ذلك، وهو الخوفُ، وعَلَّقَه بمُطلَقِ العِصيانِ، فبِأَدنَى عصيانٍ ترتَّبَ الخَوفُ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هم طَلَبوا مِن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحدَ أمرَينِ على البَدَلِ: فالأوَّلُ: أن يأتيَهم بقرآنٍ غيرِ هذا القُرآنِ. والثاني: أن يُبدِّلَ هذا القُرآنَ، وفيه إشكالٌ؛ لأنَّه إذا بدَّلَ هذا القرآنَ بغَيرِه، فقد أتى بقرآنٍ غيرِ هذا القُرآنِ، وإذا كان كذلك، كان كلُّ واحدٍ منهما شيئًا واحدًا، وإذا ثبت أنَّ كُلَّ واحدٍ مِن هذينِ الأمرينِ هو نفسُ الآخَرِ، كان إلقاءُ اللَّفظِ على التَّرديدِ والتَّخييرِ فيه باطلًا.

والجواب: أنَّ أحَدَ الأمرينِ غيرُ الآخَرِ؛ فالإتيانُ بكتابٍ آخَرَ لا على ترتيبِ هذا القرآنِ، ولا على نَظمِه، يكونُ إتيانًا بقُرآنٍ آخَرَ، وأمَّا إذا أتى بهذا القُرآنِ، إلَّا أنَّه وضع مكانَ ذَمٍّ بعضَ الأشياءِ مَدَحَها، ومكانَ آيةِ رحمةٍ آيةَ عَذابٍ، كان هذا تبديلًا، أو يقالُ: الإتيانُ بقُرآنٍ غَيرِ هذا، هو أن يأتيَهم بكتابٍ آخَرَ سِوى هذا الكِتابِ، مع كَونِ هذا الكتابِ باقيًا بحالِه، والتَّبديلُ هو أن يغيِّرَ هذا الكتابَ .

3- إذا قيلَ: هم طَلَبوا مِن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحدَ أمرَينِ: إمَّا أن يأتيَهم بقُرآنٍ غيرِ هذا القُرآنِ، أو أن يبَدِّلَ هذا القرآنَ، ومع ذلك اكتفَى في الجوابِ على نَفيِ أحدِ القِسمَينِ وهو قولُه: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ... . فيُقال: الجوابُ المذكورُ عن أحَدِ القِسمَينِ هو عَينُ الجوابِ عن القِسمِ الثَّاني، وإذا كان كذلك وقَعَ الاكتفاءُ بذِكرِ أحَدِهما عن ذِكرِ الثَّاني . وقيل: نفَى عن نَفسِه أحَدَ القِسمَينِ، وهو التَّبديلُ؛ لأنَّه الذي يُمكِنُه- لو كان ذلك جائزًا- بخِلافِ القِسمِ الآخَرِ، وهو الإتيانُ بقرآنٍ آخَرَ؛ فإنَّ ذلك ليس في وُسعِه، ولا يقدِرُ عليه. وقيل: إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نفَى عن نَفسِه أسهَلَ القِسمَينِ؛ ليكونَ دليلًا على نَفيِ أصعَبِهما بالطَّريقِ الأَوْلى، وهذا منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بابِ مُجاراةِ السُّفهاءِ؛ إذ لا يَصدُرُ مِثلُ هذا الاقتراحِ عن العُقَلاءِ بعد أنْ أمَرَه اللهُ سُبحانَه بذلك .

4- قال الله تعالَى عن المشركينَ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ وقولُهم هذا يحتَمِلُ أن يكونَ جِدًّا، ويحتَمِلُ أن يُريدوا به الاستهزاءَ، وعلى الاحتمالينِ فقد أمرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يُجيبَهم بما يَقلَعُ شُبهَتَهم مِن نُفوسِهم إن كانوا جادِّينَ، أو مِن نُفوسِ مَن يَسمَعونَهم مِن دَهْمائِهم فيَحسَبون كلامَهم جِدًّا، فيتَرَقَّبون تبديلَ القُرآنِ، فقال تعالى له: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ .

5- قال الله تعالى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي يُفهَمُ مِن قَولِه تعالى: مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي أنَّ اللهَ تعالى يُبدِّلُ مِنه ما شاء بما شاء، وصَرَّحَ بهذا المفهومِ في مواضِعَ أُخَرَ، كقولِه تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ [النحل: 101] ، وقولِه تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106] ، وقولِه تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [الأعلى: 6- 7] .

6- في قوله: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ دلَّ سياقُ الكلامِ على أنَّ الإتيانَ بقرآنٍ آخرَ غيرِ هذا، بمعنَى إبطالِ هذا القرآنِ، وتعويضِه بغيرِه، وأنَّ تبديلَه بمعنَى تغييرِ معاني وحقائقِ ما اشْتَملَ عليه ممتنِعٌ، ولذلك لم يُلَقَّنِ الرسولُ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنْ يقولَ هنا: إلَّا ما شاءَ اللَّه، أوْ نحو ذلك .

7- قولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ لَمَّا كان هذا الكتابُ العَظيمُ قد جاء على يَدِ مَن لم يتعَلَّمْ، ولم يُتلمذْ، ولم يطالِعْ كِتابًا، ولم يمارِسْ مُجادلةً، عُلِمَ بالضَّرورةِ أنَّه لا يكونُ إلَّا على سبيلِ الوَحيِ والتَّنزيلِ، وإنكارُ العُلومِ الضَّروريةِ يَقدَحُ في صِحَّةِ العَقلِ، فلِهذا السَّبَبِ قال: أَفَلَا تَعْقِلُونَ .

8- قال الله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ قولُه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا المقصودُ مِنه نفيُ الكَذِبِ عن نَفسِه، وقَولُه تعالى: أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ المقصودُ منه إلحاقُ الوَعيدِ الشَّديدِ بهم؛ حيث أنكَروا دَلائِلَ اللهِ، وكَذَّبوا بآياتِ الله تعالى

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

- قولُه: وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ فيه الْتِفاتٌ مِن خِطابِهم إلى الغيبةِ؛ إعراضًا عنهُم، وتَوجيهًا الخطابَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بتَعْديدِ جِناياتهِم المضادَّةِ لما أُريدَ مِنهم بالاستِخْلافِ مِن تكذيبِ الرَّسولِ والكفرِ بالآياتِ البيِّناتِ

، ويظهَرُ في هذه الآيةِ أنَّ نُكتةَ حكايةِ هذا الاقتراحِ السَّخيفِ بأسلوبِ الإخبارِ عن قَومٍ غائبينَ إفادةُ أمرَينِ؛ أحدُهما: إظهارُ الإعراضِ عنهم كأنَّهم غيرُ حاضرينَ؛ لأنَّهم لا يستحِقُّونَ الخِطابَ به مِنَ الله تعالى. ثانيهما: تلقينُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجوابَ عنه بما ترى مِن العبارةِ البليغةِ التَّأثيرِ .

- قولُه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فيه تقديمُ الظَّرفِ وَإِذَا تُتْلَى... على عامِلِه، وهو قولُه: قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا؛ للاهتِمام بذِكْرِ ذلك الوقتِ الَّذي تُتلى فيه الآياتُ عليهم، فيَقولون فيه هذا القولَ؛ تعجُّبًا مِن كَلامِهم، ووَهنِ أحلامِهم .

- والتَّعبيرُ بالفِعلِ المضارِعِ تُتْلَى؛ للدَّلالةِ على التَّكرُّرِ والتَّجدُّدِ، أي: ذلك قولُهم كُلَّما تُتلى علَيهم الآياتُ ، وبُني للمَفعولِ؛ إيذانًا بتَكذيبِهم عند تلاوةِ أيِّ تالٍ كان .

- قولُه: قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فيه وضعُ الموصولِ موضِعَ الضَّميرِ- حيث لم يَقُلْ: (قَالُوا)- إشعارًا بعِلِّيَّةِ ما في حَيِّزِ الصِّلةِ؛ للعَظيمةِ المَحكيَّةِ عَنهم، وأنَّهم إنَّما اجتَرَؤوا عليها لِعدَمِ خوفِهم مِن عِقابِه تَعالى يومَ اللِّقاءِ؛ لإنكارِهم له، ولِما هو مِن مَباديه مِن البَعثِ .

- قولُه: قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لَمَّا كان لاقتِراحِهم مَعنًى صريحٌ، وهو الإتيانُ بقُرآنٍ آخَرَ، أو تبديلُ آياتِ القرآنِ الموجودِ، ومعنًى التزاميٌّ كنائيٌّ، وهو أنَّه غيرُ مُنزَّلٍ مِن عِندِ اللهِ، وأنَّ الَّذي جاء به غيرُ مُرسَلٍ مِن اللهِ؛ كان الجوابُ عن قولِهم جَوابَين، أحَدُهما: ما لَقَّنه اللهُ بقولِه: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وهو جوابٌ عن صريحِ اقتراحِهم، وثانيهما: ما لقَّنه بقولِه: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وهو جوابٌ عن لازِمِ كلامِهم، وقد جاء الجوابُ عن اقتراحِهم كَلامًا جامِعًا؛ قضاءً لِحَقِّ الإيجازِ البديعِ، وجاءَ بأبلَغِ صِيَغِ النَّفيِ، وهو: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ، أي: ما يَكونُ التَّبديلُ مِلكًا بيَدي .

- وجملةُ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في موضعِ التَّعليلِ لِجُملةِ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ؛ ولذلك فُصِلَت عنها- أي: لم تُعطَفْ- واقتَرَنَت بحَرفِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ، و(إنَّ) تُؤْذِنُ بالتَّعليلِ .

- قولُه: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي فيه التَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، معَ الإضافةِ إلى ضَميرِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ لِتَهويلِ أمرِ العِصْيانِ، وإظهارِ كَمالِ نَزاهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عنه .

- قولُه: يَوْمٍ عَظِيمٍ فيه إيرادُ اليومِ بالتَّنوينِ التَّفخيميِّ، ووصفُه بالعِظَمِ؛ لِتَهويلِ ما فيه مِن العذابِ وتَفظيعِه .

2- قولُه تعالى: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فيه مُبالَغةٌ في التَّبرِئةِ ممَّا طلَبوا منه، أي: إنَّ تِلاوتَه عليهم هذا القرآنَ إنَّما هو بمَشيئةِ اللهِ تَعالى، وإحداثِه أمرًا عجيبًا خارِجًا عن العاداتِ .

- ومفعولُ شَاءَ محذوفٌ، أي: (قُل لو شاء اللهُ أنْ لا أَتلُوَه...)، وجاء جوابُ (لو) على الفصيحِ مِن عدمِ إتيانِ اللَّامِ؛ لِكَونِه مَنفيًّا بما .

3- قولُه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ

- قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا استفهامٌ إنكاريٌّ، وتقريرٌ، أي: لا أحَدَ أظلَمَ مِمَّن افْتَرى على اللهِ كَذِبًا، أو ممَّن كَذَّب بآياتِه بعدَ بَيانِها .

- قولُه: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ تذييلٌ، وموقِعُه يَقتَضي شُمولَ عُمومِه للمَذكورين في الكَلامِ المذيَّلِ، فيَقْتَضي أنَّ أولئِك مُجرِمون، وأنَّهم لا يُفلِحون .

- وقولُه أيضًا: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ فيه تأكيدُ الجملةِ بحَرفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ وذلك نَظرًا إلى شُمولِ عُمومِ المُجرِمين للمُخاطَبين؛ لأنَّهم يُنكِرون أن يَكونوا مِن المجرِمين. وفيه افتِتاحُ الجملةِ بضَميرِ الشَّأنِ إِنَّهُ؛ لِقَصدِ الاهتِمامِ بمَضمونِها .

===============

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (18-20)

ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ يعبدونَ مِن دونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهم ولا ينفَعُهم، ويقولونَ إنَّ هؤلاءِ الذين نَعبُدُهم يَشفَعونَ لنا عندَ الله، وأمَرَ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا أن يقولَ لهم: أتُخبِرونَ الله بما ليس موجودًا في السَّمواتِ ولا في الأرضِ، تَنَزَّه الله وتقَدَّسَ عمَّا يُشرِكونَ.

ويبَيِّنُ تعالى أنَّ النَّاسَ كانوا مُجتَمِعينَ على دينِ التَّوحيدِ، فاختلفوا في دينِهم، وأشرَكوا بالله، ولولا أنَّه سبَقَ مِن اللهِ أنَّه يُمهِلُ المُشرِكينَ والعُصاةَ، ويؤخِّرُ جزاءَهم إلى يومِ القيامةِ؛ لحَكَم سبحانه بينَ مَن اختلَفوا في الدُّنيا، فيُنَجِّي أهلَ التَّوحيدِ، ويعجِّلُ بعقوبةِ المُشرِكينَ.

ويخبِرُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ يقولون: هلَّا أُنزِلَ على محمَّدٍ مُعجِزةٌ مِن رَبِّه ممَّا نقتَرِحُ عليه؛ حتى نعلَمَ أنَّه رسولٌ مِن عندِ الله حقًّا، وأمَرَ نَبيَّه أن يقولَ لهم: إنَّما إنزالُ الآياتِ مِن الغَيبِ الذي لا يعلَمُه إلَّا اللهُ، ولا يقدِرُ على إنزالِه إلَّا هو، فإن شاء أنزَلَها، وإن شاء لم يُنزِلْها، فانتظروا حُكمَ اللهِ فينا بعقوبةِ المُبطِلِ مِنَّا، ونصْرِ المُحِقِّ، إنَّا معكم مُنتَظِرونَ.

تفسير الآيات:

 

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ الكافرينَ إنَّما التَمَسوا من الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قرآنًا غيرَ هذا القرآنِ، أو تبديلَ هذا القُرآنِ؛ لأنَّ هذا القُرآنَ مُشتَمِلٌ على شَتمِ الأصنامِ التي جَعَلوها آلهةً لأنفُسِهم؛ فلهذا السَّبَبِ ذكَرَ اللهُ تعالى في هذا الموضِعِ ما يدُلُّ على قُبحِ عبادةِ الأصنامِ؛ لِيُبيِّنَ أنَّ تَحقيرَها والاستخفافَ بها أمرٌ حَقٌّ، وطريقٌ مُتيَقَّنٌ

.

وأيضًا فهذه الآيةَ عَطفٌ على قَولِه تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ [يونس: 15] عطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ، فهذه قصَّةٌ أخرى مِن قَصَصِ أحوالِ كُفرِهم، أن قالوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا [يونس: 15] حين تُتلى عليهم آياتُ القرآنِ، ومِن كُفرِهم أنَّهم يعبدونَ الأصنامَ، ويقولون: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ والمناسبةُ بين القِصَّتَينِ أنَّ في كِلتَيهما كُفرًا أظهَرُوه في صورةِ السُّخريةِ والاستهزاءِ، وإيهامِ أنَّ العُذرَ لهم في الاسترسالِ على الكُفرِ .

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ.

أي: ويَعبُدُ المُشرِكونَ مِن دُونِ الله آلهةً مِن الأصنامِ وغَيرِها، لا تَضُرُّهم إن تركوا عِبادتَها، ولا تنفَعُهم في الدُّنيا ولا في الآخرةِ إنْ عَبَدوها .

كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [النحل: 73] .

وقال سُبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 6] .

وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ.

أي: ويقولُ المُشرِكونَ: هؤلاء الذين نعبُدُهم يَشفَعونَ لنا عند الله .

قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ.

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: أتُخبِرونَ اللهَ بما لا يقعُ، ولا يَكونُ أبدًا في السَّمواتِ ولا في الأرضِ، وهو أنَّ له شركاءَ يشفعون لكم عندَ الله، وقد أخبركم بأنَّه ليس له شريكٌ، أفتخبرونَه بأمرٍ خفِي عليه، وعلِمْتوه ؟

ثمَّ نزَّه نفسه عمَّا افتروه، فقال :

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.

أي: تقدَّس اللهُ وتنزَّهَ عن أن يكونَ له شريكٌ .

وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ اللَّهَ تعالى لَمَّا أقام الدَّلالةَ القاهرةَ على فسادِ القَولِ بعبادةِ الأصنامِ؛ بَيَّنَ السَّببَ في كيفيَّةِ حُدوثِ هذا المذهَبِ الفاسِدِ، والمقالةِ الباطلةِ .

وأيضا لَمَّا بَيَّنَ تعالى شَرَّهم بعبادةِ غَيرِه، وختَمَ بتَنزيهِه وكَمالِه؛ بَيَّنَ أنَّ هذا الدِّينَ الباطِلَ حادِثٌ، وبيَّنَ نزاهَتَه وكمالَه ببيانِ أنَّ النَّاسَ كانوا أوَّلًا مُجتَمِعينَ على طاعَتِه، ثمَّ خالَفوا أمْرَه فلم يَقطَعْ إحسانَه إليهم، بل استمَرَّ في إمهالِهم مع تمادِيهم في سوءِ أعمالِهم، على ما سبَقَ في عِلمِه، ومضى به قَضاؤُه .

وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ.

أي: وما كان النَّاسُ إلَّا مُجتَمِعينَ على توحيدِ اللهِ، فاختَلَفوا في دينِهم، وأشرَكوا بالله .

وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

أي: ولولا أنَّه سبَقَ مِن اللهِ أنَّه يُمهِلُ المُشرِكينَ والعُصاةَ، ويؤخِّرُ جزاءَهم إلى يومِ القيامةِ؛ لحَكَم في الدُّنيا بين المُختَلِفينَ، فيُنَجِّي أهلَ التَّوحيدِ، ويعجِّلُ عُقوبَتَه على المُشرِكينَ، وينزلُ بهم عذابَه .

كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118- 119] .

وقال سبحانه: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [طه: 129- 130] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الشورى: 14] .

وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (20).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ هذه الآيةَ عَطفٌ على جُملةِ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [يونس: 18] ، فبعد أنْ ذكَرَ افتراءَهم في جانِبِ الإلهيَّةِ، نفى بُهتانَهم في جانِبِ النبوَّةِ .

وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ.

أي: ويقولُ مُشرِكو قُرَيشٍ: هلَّا أَنزلَ اللهُ على محمَّدٍ مُعجِزةً مِمَّا نقتَرِحُ عليه؛ حتَّى نعلَمَ أنَّه رسولٌ مِن عندِ الله حقًّا ؟

كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 89 - 93] .

وقال سبحانه: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان: 7-8] .

فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ.

أي: فقُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: إنزالُ الآياتِ مِن الغَيبِ الذي لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، ولا يَقدِرُ أن يُنزِلَ آيةً إلَّا اللهُ، فإن شاء أنزَلَها، وإن شاء لم يُنزِلْها .

كما قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 109] .

وقال سُبحانه: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 50- 51] .

فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ.

أي: قُلْ لهم- يا مُحَمَّدُ: فانتَظِروا حُكمَ اللهِ فينا، بعقوبةِ المُبطِلِ مِنَّا، ونَصرِ المُحِقِّ، إنِّي معكم ممَّن ينتَظِرُ ذلك

 

.

كما قال تعالى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 102-103] .

وقال سبحانه: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى [طه: 135] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السجدة: 28-30] .

الفوائد التربوية :

 

1- أساسُ عَقيدةِ الشِّركِ أنَّ جَميعَ ما يَطلُبونَه مِن اللهِ لا بُدَّ أن يكونَ بوَساطةِ المقَرَّبينَ عنده؛ لأنَّهم لا يُمكِنُهم القُربُ مِن اللهِ والحُظوةُ عنده بأنفُسِهم؛ لأنَّها مُدَنَّسةٌ بالمعاصي، بخلافِ دِينِ التَّوحيدِ، فإنَّه يُوجِبُ على العاصي أن يتوَجَّهَ إلى اللهِ وَحْدَه، تائبًا إليه، طالبًا مَغفِرتَه ورَحمتَه؛ يُبيِّنُ ذلك قَولُ الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يتضَمَّنُ الوعيدَ على اختلافِ النَّاسِ المُفضي إلى الشِّقاقِ والعُدوانِ، ولا سيَّما الاختلافُ في كتابِ اللهِ الذي أنزَلَه لإزالةِ الشِّقاقِ بحُكمِه، وإدالةِ الوَحدةِ والوِفاقِ منه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ هذه غايةُ الجَهالةِ منهم؛ حيث يَنتَظِرونَ الشَّفاعةَ في المآلِ، ممَّن لا يُوجَدُ منه نَفعٌ ولا ضَرٌّ في الحالِ

.

2- كان المُشرِكونَ مُعتَرفينَ بأنَّ آلهتَهم لم تُشارِك اللهَ في خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، ولا خلْقِ شيءٍ؛ وإنَّما كانوا يتَّخِذونَهم شُفَعاءَ ووسائِطَ، كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ .

3- قَولُ الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ لَمَّا كان السِّياقُ للتَّهديدِ والتَّخويفِ، قدَّمَ (الضَّرَّ) فقال: مَا لَا يَضُرُّهُمْ، وتنبيهًا لهم على أنَّهم مَغمورونَ في نِعَمِه التي لا قُدرةَ لِغَيرِه على مَنعِ شَيءٍ منها، فعليهم أن يُقَيِّدوها بالشُّكرِ .

4- قَولُ الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ فيه أنَّ مِن الشِّركِ اتِّخاذَ الوُسَطاءِ عند الله، وأنَّه عَينُ الشِّركِ .

5- المُشرِكُ يقصِدُ فيما يُشرِكُ به أنْ يشفعَ له، أو يتقَرَّبَ بعِبادَتِه له إلى اللهِ، أو هو يُحبُّه كما يحبُّ اللهَ، والمُشرِكونَ بأصحابِ القُبورِ تُوجَدُ فيهم الأنواعُ الثَّلاثةُ، كما قال اللهُ تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] .

6- في قَولِه تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ دلالةٌ على أنَّ كلَّ مَن يملكُ الضَّرَّ والنَّفعَ؛ فإنَّه هو المعبودُ حقًّا؛ فالمعبودُ لا بدَّ أنْ يكونَ مالِكًا للنَّفعِ والضَّرَرِ؛ ولهذا أنكَرَ اللهُ تعالى على مَن عَبَدَ مِن دُونِه ما لا يَملِكُ ضَرًّا ولا نفعًا، وذلك كثيرٌ في القُرآنِ .

7- في قَولِ اللهِ تعالى هنا أيضًا: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ نفى عن الأصنام الضُّرَّ والنَّفعَ، وأثبَتَهما لها في قَولِه تعالى في سورةِ الحَجِّ: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الحج: 13] ؛ فنَفيُهما عنها باعتبارِ الذَّاتِ، وإثباتُهما لها باعتبارِ السَّبَبِ .

8- في قَولِه تعالى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ أنَّ اللهَ يَعلمُ الأشياءَ على ما هي عليه؛ وما لم يكُنْ مَوجودًا لا يَعلَمُه مَوجودًا، ولا يكون نفيُ هذا العِلمِ نقصًا، بل هو مِن تمامِ كَمالِه تعالى؛ لأنَّه يقتضي أنْ يعلمَ الأشياءَ على ما هي عليه .

9- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا يَستَدِلُّ به من قال: إنَّ الأصلَ في النَّاسِ الإيمانُ حتى كفَروا .

10- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إخبارٌ بأنَّ الحَقَّ واحِدٌ، وأنَّ ذلك الاختلافَ مَذمومٌ .

11- قَولُ الله تعالى: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فيه أنَّ مِن أصولِ الدِّينِ أنَّ شُؤونَ الرَّبِّ، وسائِرَ ما في عالَمِ الغَيبِ، تَوقيفيٌّ لا يُعلَمُ إلَّا بخَبَرِ الوَحيِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ

- قولُه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ هذا إخبارٌ على سَبيلِ التَّجهيلِ والتَّحقيرِ للكُفَّارِ ولِمَعبوداتِهم، وللتَّنبيهِ على أنَّهم عبَدوا مَن لا يَستحِقُّ العبادةَ

.

- واختيارُ صيغةِ المضارِعِ في قولِه: وَيَعْبُدُونَ ووَيَقُولُونَ؛ لاستِحْضارِ الحالةِ العَجيبةِ مِن استمرارِهم على عِبادتها- أي: عبَدوا الأصنامَ ويَعبُدونها-، فجاء بالمضارِعِ الدَّالِّ على أنَّهم على الشِّركِ في المستقبَلِ، كما كانوا عليه في الماضي؛ تَعجُّبًا مِن تَصميمِهم على ضَلالِهم .

- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، بينما قال في سورة الفرقان: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ [الفرقان: 55] فقدَّم: يَضُرُّهُمْ على يَنْفَعُهُمْ في آيةِ يونُسَ، وقدَّم يَنْفَعُهُمْ على يَضُرُّهُمْ في آيةِ الفرقانِ؛ قيل: ووجهُ ذلك أنَّه إنَّما قدَّم: مَا لَا يَضُرُّهُمْ على لَا يَنْفَعُهُمْ في الآيةِ الأولى في سورةِ يونُسَ؛ لأنَّ العبادةَ تُقامُ للمَعبودِ خوفًا مِن العقابِ أوَّلًا، ثمَّ رجاءً للثَّوابِ ثانيًا، وقد تقدَّم في هذا المكانِ ما أوجَبَ تقديمَ مَا لَا يَضُرُّهُمْ على وَلَا يَنْفَعُهُمْ في الآيةِ الأولى، وهو قولُه: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس: 15] ، فكأنَّه قال: ويَعبُدون مِن دونِ اللهِ ما لا يَخافون ضَررًا في مَعصيتِه، ولا يَرجون نفعًا في طاعتِه، فتقدَّم مَا لَا يَضُرُّهُمْ على وَلَا يَنْفَعُهُمْ في هذا المكانِ لهذا المعنى، ولهذا اللَّفظِ المتقدِّمِ.

وأمَّا سورةُ الفرقانِ فقد تقدَّمَت فيها آياتٌ قُدِّم فيها الأفضلُ على الأدْوَنِ، كقولِه عزَّ وجلَّ: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [الفرقان: 53] ، وكقولِه بعدَه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان: 54] ، وصِلَةُ النَّسَبِ أفضَلُ مِن صِلَةِ المصاهَرةِ، كما أنَّ العذْبَ مِن الماءِ أفضلُ مِن المِلحِ، ثمَّ قال بعدَه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ [الفرقان: 55] ؛ فقدَّم الأفضلَ على الأدْوَنِ لهذا المعنى، وللبناءِ على ما تقدَّم مِن الآياتِ، فجاء في كلِّ موضعٍ ما يُناسِبُ السِّياقَ، وصحَّ المعنى الذي اعتَمَد عليه . وقيل: وجهُ ذلك أنَّ الموجِبَ لتأخيرِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ في سورةِ يونُسَ ما وصَل به مِن قولِهم: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، فكأنَّه قيل: ويَعبُدون مِن دونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهم ولا ينفَعُهم، ويَزعُمون أنَّ ذلك يَنفَعُهم؛ فلم يَكُنْ لِيُناسِبَ لو قيل: (ويَعبُدون مِن دونِ اللهِ ما لا يَنفَعُهم ولا يضُرُّهم، ويقولون: هؤلاء شُفعاؤُنا عندَ اللهِ)- تَناسُبَ الوارِدِ مِن متَّصِلِ قولِه: وَلَا يَنْفَعُهُمْ بقولِه: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ؛ فلمَّا كان الاتِّصالُ فيما ذُكِر أنسَبَ، وردَت الآيةُ بحسَبِ ذلك. أمَّا آيةُ الفرقانِ فإنَّ قبْلَها ذِكْرَ دَلائِلَ وشَواهِدَ مِن مَصنوعاتِه تعالى، يَهْتدي المعتبِرُ بالنَّظرِ فيها، تُخلِّصُه مِن ورَطاتِ الشُّكوكِ، ويَستقيمُ له دينُه، وذلك أعظمُ النَّفعِ وأجَلُّه، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الفرقان: 45] ، إلى قولِه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان: 54] ، فلمَّا تقدَّم التَّنبيهُ بهذه الآياتِ الواضحاتِ الموقِظاتِ مِن سِنَاتِ الغَفلاتِ، والمحصِّلاتِ أعظَمَ النَّفعِ في امتِثالِ الواجباتِ، والنَّجاةِ مِن الضَّلالاتِ؛ ناسبَها تقديمُ ما قُدِّم في الآيةِ مِن قولِه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ [الفرقان: 55] ، وصار الكلامُ بقوَّتِه مجاوبًا لقولِه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النحل: 17] ؛ فورَد كلٌّ على ما يُناسِبُه .

- قولُه: أَتُنَبِّئُونَ استفهامٌ على سبيلِ التَّهكُّمِ والتَّوبيخِ بما ادَّعَوه مِن المُحالِ، الَّذي هو شَفاعةُ الأصنامِ، وإعلامٌ بأنَّ الَّذي أنبَؤوا به باطلٌ، غيرُ مُنطَوٍ تحتَ الصِّحَّةِ .

- وأيضًا في قولِه: عَمَّا يُشْرِكُونَ أتَى بالمضارِعِ، ولم يَقُلْ: (عمَّا أشرَكوا)؛ للدَّلالةِ على استِمْرارِ حالِهم .

2- قوله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

- قولُه: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً جاء بصيغةِ القَصرِ: (ما... إلَّا)؛ للمُبالَغةِ في تأكيدِ الخبَرِ؛ لأنَّه خبرٌ مهِمٌّ عجيبٌ؛ إذِ القصرُ تأكيدٌ على تأكيدٍ؛ باعتِبارِ اشتِمالِه على صيغَتَيْ إثباتٍ للمُثبَتِ، ونفيٍ عمَّا عَداه، فهو أقوى مِن تأكيدِ ردِّ الإنكارِ؛ ولذلك يُؤْذِنُ برَدِّ إنكارٍ شديدٍ .

- وحسَّنَ القَصْرَ هنا وُقوعُه عَقِبَ الجدالِ معَ الَّذين غيَّروا الدِّينَ الحقَّ، وروَّجوا نِحْلتَهم بالمَعاذيرِ الباطلةِ؛ كقولِهم: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، بخِلافِ آيةِ سورةِ البقرَةِ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة: 213] ؛ فإنَّها وقَعَت في سياقِ المجادلةِ مع أهلِ الكتابِ؛ لقولِه: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [البقرة: 211] ، وأهلُ الكتابِ لا يُنكِرون أنَّ النَّاسَ كانوا أمَّةً واحدةً؛ فآيةُ سورةِ يونُسَ تُشيرُ إلى الوَحْدةِ الاعتِقاديَّةِ؛ ولذلك عبَّر عَنِ التَّفرُّقِ الطَّارئِ عليها باعتِبارِ الاختِلافِ المُشعِرِ بالمَذمَّةِ، والمعقَّبِ بالتَّخويفِ في قولِه: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ...، وآيةُ سورةِ البقَرةِ تُشيرُ إلى الوَحْدةِ الشَّرعيَّةِ الَّتي تَجمَعُها الحنيفيَّةُ الفِطريَّةُ؛ ولذلك عبَّر عن التَّفرُّقِ الَّذي طرَأ عليها بقولِه: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، ثمَّ جاء ذِكْرُ الاختِلافِ عرَضًا عَقِب ذلك بقولِه: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213] ، وأريدَ به الاختِلافُ بينَ أتباعِ الشَّرائعِ؛ لقولِه: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ [البقرة: 213] .

- قولُه: فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيه تقديمُ المجرورِ؛ للرِّعايةِ على الفاصِلةِ .

3- قولُه تعالى: وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ

- قولُه: وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فيه التَّعبيرُ بصيغةِ المُضارِعِ (يَقُولُونَ)؛ لاستِحْضارِ صورةِ مَقالَتِهم الشَّنعاءِ، والدَّلالةِ على الاستِمْرارِ .

- قولُه: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فيه الإتيانُ بصيغةِ القَصْرِ؛ للرَّدِّ عليهم في اعتِقادِهم أنَّ في إمكانِ الرَّسولِ الحقِّ أن يَأتِيَ بما يَسأَلُه قومُه مِن الخوارقِ، فجَعَلوا عدَمَ وُقوعِ مُقتَرَحِهم عَلامةً على أنَّه ليس برَسولٍ مِن اللهِ؛ فلذلك رَدَّ عليهم بصِيغَةِ القَصرِ الدَّالَّةِ على أنَّ الرَّسولَ ليس له تَصرُّفٌ في إيقاعِ ما سأَلوه؛ لِيَعلَموا أنَّهم يَرمُون بسُؤالِهم إلى الجَراءةِ على اللهِ تعالى بالإفحامِ .

- وجملةُ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينِ تفريعٌ على جملةِ: إِنَّما الْغَيْبُ لِلَّهِ، أي: ليس دَأْبي ودَأْبَكم إلَّا انتِظارُ ما يَأتي بِه اللهُ إن شاءَ، وهذا تعريضٌ بالتَّهديدِ لهم أنَّ ما يأتي به اللهُ لا يتَرقَّبون مِنه إلَّا شرًّا لهم ، فقولُه: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينِ وعيدٌ، وقد صدَّقه اللهُ تعالى بنُصرتِه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم .

=======================

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (21-23)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ

غريب الكلمات:

 

ضَرَّاءَ: أي: مرَضًا وضُّرًّا، والضَّرَّاءُ كذلك: سوءُ الحالِ، والفقرُ والقحطُ، والضرُّ: خلافُ النَّفْعِ

.

مَكْرٌ: أي: استِهزاءٌ وتَكذيبٌ، والمكرُ: صَرفُ الغَيرِ عمَّا يَقصِدُه بحيلةٍ، فسمَّى استهزاءَهم وتكذيبَهم مكرًا؛ لاحتيالِهم لدفعِ آياتِ الله بكلِّ سبيلٍ، وأصلُ (مكر): يدلُّ على احتيالٍ وخِداعٍ .

الْفُلْكِ: أي: السُّفنِ، وواحده وجمْعه بلفظٍ واحد، وأصلُ (الفلك): الاستدارةُ في الشَّيءِ، ولعلَّ السُّفن سُمِّيت فُلكًا؛ لأنَّها تُدارُ في الماءِ .

عَاصِفٌ: أي: شَديدةُ الهُبوبِ. وأصلُ (عصف): يدلُّ على خِفَّةٍ وسُرعةٍ .

أُحِيطَ بِهِمْ: أي: هلَكوا، وأصلُ هذا أنَّ العدوَّ إذا أحاطَ ببلدٍ، فقد دنَا أهلُه مِن الهلَكَةِ، وأصلُ (حوط): الشيءُ يطيفُ بالشيءِ .

مَتَاعَ: المتاع: المَنفعةٌ، وكلُّ ما حَصَل التمتُّع والانتفاعُ به على وجهٍ ما، أو ما يُنتفعُ به انتفاعًا قليلًا غيرَ باقٍ، بل يَنقضي عن قَريبٍ، وأصل (متع): يدلُّ على مَنفعةٍ، وامتدادٍ مُدَّةً في خيرٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

مَتَاعَ: منصوبٌ على المَصدرِ، أي: تتمتَّعونَ متاعَ الحياةِ الدُّنيا، أو منصوبٌ على الحالِ، أي: متمتِّعينَ. أو على أنَّه مَفعولٌ لأجلِه، أي: لأجلِ مَتاعِ. وعلى ذلك فـعَلَى أَنْفُسِكُمْ متعَلِّقٌ بمحذوفٍ خَبَرُ بَغْيُكُمْ، وقيل: الخبَرُ مَحذوفٌ تَقديرُه: مذمومٌ، ونحوُ هذا.

وقُرِئ مَتَاعُ بالرَّفعِ، وفي رفْعه أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّه خبرُ بَغْيُكُمْ وعلى هذا فقَولُه: عَلَى أَنْفُسِكُمْ متعلِّقٌ بـ بَغْيُكُمْ؛ لأنَّه مصدرٌ. الثاني: أن يكونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ خبَرًا لـبَغْيُكُمْ، ومَتَاعُ خبَرًا ثانيًا. الثالث: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: هو متاعُ الحياةِ الدُّنيا

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه إذا أذاقَ المُشرِكينَ رَحمةً بعد أن أصابَهم البَلاءُ، سَعَوا بكلِّ حيلةٍ بالباطِلِ؛ لإبطالِ الحَقِّ وتَكذيبِه، ومقابِلَ هذا المَكرِ أمَرَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: إنَّ اللهَ أعجَلُ منكم مكرًا؛ إنَّ رُسُلَه يكتبونَ ما تَمكرونَ.

هو سُبحانه وتعالى الذي يُسَيِّرُكم في البَرِّ والبَحرِ، حتَّى إذا كُنتُم في السُّفُنِ، وجَرَت بكم بريحٍ طَيِّبةٍ، وفَرِحَ ركَّابُ السَّفينةِ بها، جاءَتْها ريحٌ شَديدةُ الهُبوبِ، وجاء ركابَ السَّفينةِ الموجُ مِن كُلِّ جَوانبِ السَّفينةِ، وأيقَنوا أنَّ الهلاكَ قد أحاط بهم، وأنَّهم سيَغرَقونَ- دَعَوُا اللهَ مُخلِصينَ له الدِّينَ لَئِن أنجاهم من هذه الشِّدَّةِ ليَكونُنَّ مِن الشَّاكرينَ.

فلمَّا أنجاهم أخلَفوا اللهَ ما وعدوه، فبَغَوا في الأرضِ بإشراكِهم باللهِ، وإفسادِهم في الأرضِ بالكُفرِ والظُّلمِ والمعاصي، يا أيُّها النَّاسُ إنَّما وبالُ بَغيِكم  عائِدٌ على أنفُسِكم، تتمتعون به مدة حياتكم القصيرة، ثمَّ إلى الله مَرجِعُكم يومَ القيامةِ، فيُخبِرُكم بما كُنتُم تعملونَ في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، ويُجازيكم به.

تفسير الآيات:

 

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ الكافرينَ لَمَّا طَلَبوا من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آيةً أخرى سوى القُرآنِ، وأجابَهم بما في قَولِه: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ [يونس: 20] ذكَرَ جوابًا آخرَ، وهو المذكورُ في هذه الآيةِ، وهو أنَّه تعالى بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ عادةَ هؤلاءِ الأقوامِ المَكرُ واللَّجاجُ، والعِنادُ وعدمُ  الإنصافِ، وإذا كانوا كذلك فبِتَقديرِ أن يُعطَوا ما سألوه من إنزالِ مُعجِزاتٍ أخرى، فإنَّهم لا يؤمنونَ، بل يَبقَونَ على كُفرِهم وجَهلِهم

.

وأيضًا لَمَّا حكى اللهُ تعالى تمَرُّدَ المُشرِكينَ، وذكر قَولَه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ وذلك على سبيلِ التعنُّتِ؛ أخبَرَ أنَّ هؤلاء إنَّما يصيرونَ لهذه المقالاتِ عندما يكونونَ في رخاءٍ مِن العَيشِ، وخُلُوِّ بالٍ، وأنَّهم في ذلك لاهون ببَطَرِهم، وازدهائِهم بالنِّعمةِ والدَّعَة، وأنَّ إحسانَ اللهِ تعالى قابَلوه بما لا يجوزُ من ابتغاءِ المَكرِ لآياتِه، وتفَنَّنوا في التكذيبِ بوعيدِ اللهِ أفانينَ الاستهزاءِ، وكان خليقًا بهم أن يكونوا أوَّلَ مَن صدَّقَ بآياتِه .

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا.

أي: وإذا فرَّجنا عن المُشرِكينَ ورَحِمناهم، من بعدِ بَلاءٍ أصابَهم، سَعَوا بكلِّ حيلةٍ بالباطِلِ؛ لإبطالِ آياتِنا وردِّها وتكذيبِها !

كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] .

وقال سبحانه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الروم: 33-34].

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8] .

وقال تبارك وتعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 50-51] .

وعن زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَني رَضِيَ الله عنه، قال: ((صلَّى بنا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاةَ الصُّبحِ بالحُدَيبية في إثْرِ السَّماءِ كانت من اللَّيلِ، فلما انصرَفَ أقبَلَ على النَّاسِ فقال: هل تَدرونَ ماذا قال ربُّكم؟ قالوا: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: قال: أصبحَ مِن عبادي مؤمِنٌ بي وكافِرٌ، فأمَّا من قال: مُطِرْنا بفَضلِ اللهِ ورَحمتِه، فذلك مُؤمِنٌ بي، كافِرٌ بالكوكَبِ، وأمَّا من قال: مُطِرْنا بنَوءِ كذا وكذا ، فذلك كافِرٌ بي، مُؤمِنٌ بالكوكبِ)) .

قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا.

مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:

لَمَّا كانت جملةُ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا دالَّةً على إسراعِ الكافرينَ بالمَكرِ مِن ثلاثةِ أوجُهٍ: التعبيرُ بالذَّوقِ الذي هو أوَّلُ المُخالطةِ، ولفظُ (مِن) التي هي للابتداءِ، و(إذا) الفجائيَّة، كان كأنَّه قيل: أسرَعوا جُهدَهم في المَكرِ، فقيل :

قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا.

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ: اللهُ أعجَلُ مَكرًا بكم- باستدراجِكم وتعجيلِ عُقوبتِكم- مِن مَكرِكم في آياتِه .

قال تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] .

إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ.

أي: إنَّ المَلائكةَ الحَفَظةَ يَكتُبونَ مَكْرَكم في آياِتي- أيُّها المُشرِكونَ- ويُحصُون أعمالَكم؛ للحِسابِ عليها في الآخرةِ .

كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12].

وقال تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] .

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا  كان هذا الكلامُ كلامًا كُلِّيًّا لا ينكَشِفُ معناه تمامَ الانكشافِ إلَّا بذِكرِ مِثالٍ كاملٍ، فذكرَ اللهُ تعالى لِنَقلِ الإنسانِ مِن الضُّرِّ الشَّديدِ إلى الرَّحمةِ مِثالًا، ولِمَكر الإنسانِ مِثالًا؛ حتى تكونَ هذه الآيةُ كالمُفَسِّرةِ للآيةِ التي قَبلَها .

وأيضًا لَمَّا قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا أخذ سبحانَه يبيِّنُ ما يتَّضِحُ به أسرعيَّةُ مَكرِه، في مثالٍ دالٍّ على نَقْلِه سبحانَه لِعبادِه مِن الضُّرِّ إلى النِّعمةِ، ومِن سُرعةِ تَقَلُّبِهم .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى القاعدةَ العامَّةَ في أحوالِ النَّاسِ عند إصابةِ الرَّحمةِ لهم بعد الضَّرَّاءِ، واليُسرِ بعد العُسرِ؛ ذكَرَ حالةً تؤيِّدُ ذلك، وهي حالُهم في البَحرِ عند اشتدادِه، والخوفِ مِن عَواقِبِه، فقال تعالى :

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ يَنْشُرُكُمْ مِن النَّشرِ، أي: يبثُّكم

2- قراءةُ يُسَيِّرُكُمْ مِنَ التَّسييرِ، أي: يَحمِلُكم في البَرِّ والبَحرِ .

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.

أي: اللهُ هو الذي يُسَيِّرُكم في البَرِّ؛ بإقدارِه لكم على المَشيِ على أقدامِكم، وبما سَخَّرَه لكم من الدوابِّ وغَيرِها، ويُسَيِّرُكم في البَحرِ في السُّفُنِ التي يَسَّرَ لكم صُنعَها .

حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ.

أي: حتى إذا كُنتم في السُّفُنِ، وجَرَت بكم؛ بسَبَبِ ريحٍ لَيِّنةِ الهُبوِبِ، مُوافِقةٍ لرَغبتِكم، وفَرِحَ رُكَّابُ السَّفينةِ بتلك الرِّيحِ، واطمأنُّوا بها، فبينما هم كذلك إذ جاءت السَّفينةَ ريحٌ شديدةُ الهُبوبِ .

وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ.

أي: وجاء ركابَ السَّفينةِ مَوجُ البَحرِ مِن كُلِّ جانبٍ مِن جوانِبِ السَّفينةِ .

وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ.

أي: وأيقَنُوا أنَّ الهَلاكَ قد أحاط بهم، وأنهم سيَغرَقونَ في البَحرِ الهائِجِ .

دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.

أي: دَعُوا اللهَ وَحْدَه أن يُنجِيَهم مِن الكَربِ، وأخلصوا له الدُّعاءَ دون آلهتِهم .

كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] .

لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.

أي: وقالوا: واللهِ لَئِنْ أنجيتَنا- يا ربَّنا- من هذه الشِّدَّةِ، لنكونَنَّ مِن الشَّاكرينَ لنِعَمِك، المُطيعينَ أمْرَك، ولا نُشرِكُ بك شيئًا في عبادَتِك .

عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: ((لَمَّا كان يومُ فَتحِ مَكَّةَ أمَّنَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ النَّاسَ، إلَّا أربعةَ نَفَرٍ وامرأتينِ، وقال: اقتُلوهم، وإن وَجَدتُموهم متعَلِّقينَ بأستارِ الكَعبةِ: عِكرمةُ بنُ أبي جَهلٍ، وعبدُ الله بنُ خطَل، ومقيسُ بنُ صُبابةَ، وعبدُ اللهِ بنُ سعدِ بن أبي السَّرحِ... وأمَّا عِكرمةُ فرَكِبَ البَحرَ، فأصابتهم عاصِفٌ، فقال أصحابُ السَّفينةِ: أخلِصوا؛ فإنَّ آلهَتَكم لا تُغني عنكم شيئًا هاهنا. فقال عكرمةُ: واللهِ لَئِنْ لم ينجِّني من البَحرِ إلَّا الإخلاصُ، لا ينَجِّيني في البَرِّ غَيرُه، اللهمَّ إنَّ لك عليَّ عَهدًا، إن أنت عافيتَني ممَّا أنا فيه، أنْ آتيَ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتى أضَعَ يَدي في يَدِه، فلأَجِدَنَّه عَفُوًّا كريمًا، فجاء فأسلَمَ )) .

فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن الكافرينَ هذا التضُرَّعَ الكامِلَ عند البَليَّةِ؛ بيَّنَ أنَّهم بعدَ الخلاصِ مِن تلك البَليَّةِ والمِحنةِ أقدَموا في الحالِ على البَغيِ في الأرضِ بِغَيرِ الحَقِّ .

فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.

أي: فلمَّا أنقَذَ اللهُ رُكَّابَ السَّفينةِ أخلَفوا اللهَ ما وَعَدوه، فأشرَكوا به، وأفسَدوا في الأرضِ بالكُفرِ والظُّلمِ والمعاصي !

كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم.

أي: يا أيُّها النَّاسُ إنَّما وَبالُ بَغيِكم هذا عائدٌ على أنفُسِكم في الدُّنيا والآخِرةِ، ولن تَضُرُّوا اللهَ شيئًا .

كما قال تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] .

وعن أبي بَكرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن ذَنبٍ أجدَرُ أن يُعَجِّلَ اللهُ لِصاحِبِه العُقوبةَ في الدُّنيا مع ما يَدَّخِرُ له في الآخرةِ، مِن البَغيِ وقَطيعةِ الرَّحِم) ) .

مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

أي: تتمَتَّعونَ به مُدَّةَ حَياتِكم القصيرةِ الفانيةِ .

ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.

أي: ثمَّ إلينا يكونُ مَصيرُكم بعد مَوتِكم، فنُخبِرُكم يومَ القيامةِ بما كُنتُم تعملونَ في الدُّنيا، ونجازيكم عليه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ تضمَّنَتِ الآيةُ البَيانَ عَمَّا توجِبُه بديهةُ العَقلِ مِن الفَزعِ عند الشِّدَّةِ إلى واهِبِ السَّلامةِ، ومُسبِغِ النِّعمةِ، في كَشفِ تلك البَليَّةِ

.

2- البَغيُ يُجازَى أصحابُه عليه في الدُّنيا والآخرةِ؛ نَستفيدُ ذلك مِن قَولِ الله تعالى: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا  سمَّى تكذيبَهم بآياتِ اللهِ (مكرًا)؛ لأنَّ المكرَ عِبارةٌ عن صَرفِ الشَّيءِ عن وَجهِه الظَّاهِرِ بطريقِ الحِيلةِ، وهؤلاء يحتالونَ لِدَفعِ آياتِ اللهِ بكُلِّ ما يَقدِرونَ عليه؛ مِن إلقاءِ شُبهةٍ، أو تخليطٍ في مناظرةٍ، أو غيرِ ذلك من الأمورِ الفاسدةِ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ تضمَّنَت الآيةُ البَيانَ عَمَّا يُوجِبُه حالُ الجاهِلِ مِن تَضييعِ حَقِّ النِّعمةِ والمَكرِ فيها، وإن جَلَّتْ مَنزِلتُها، وأتتْ على فاقةٍ إليها، وشِدَّةِ حاجةٍ إلى نُزولِها، مع الوعيدِ بعائدِ الوَبالِ على الماكرِ فيها .

3- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فيه جوازُ رُكوبِ البَحرِ مُطلقًا في الغَزوِ، وفي غيرِ الغَزوِ .

4- قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ في هذا دَليلٌ على أنَّ المُضطرَّ يُجابُ دُعاؤه وإن كان كافرًا؛ لانقطاعِ الأسبابِ، ورُجوعِه إلى الواحِدِ رَبِّ الأربابِ .

5- قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الاعترافُ باللهِ مَركوزٌ في طبائِعِ العالَم، وهم مَجبولونَ على أنَّه المتصَرِّفُ في الأشياءِ، فإذا حقَّت الحقائِقُ رَجَعوا إليه كُلُّهم؛ مُؤمِنُهم وكافِرُهم ؛ فقد جُبِلوا على الرُّجوعِ إليه في الشَّدائِدِ .

6- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ لَمَّا كان الخَوفُ في البَحرِ أغلَبَ على الإنسانِ منه في البَرِّ؛ وقع المِثالُ به لذلك المَعنى الكُليِّ؛ مِن التجاءِ العَبدِ لِرَبِّه تعالى حالةَ الشِّدَّةِ، والإهمالِ لجانِبِه حالةَ الرَّخاءِ .

7- ذُكرتِ الرياحُ في القُرآنِ جَمعًا ومُفردةً، فحيث كانت في سياقِ الرَّحمةِ أتت مجموعةً، وحيثُ وقعتْ في سياقِ العَذابِ أتت مُفردةً، وسرُّ ذلك أنَّ رياحَ الرَّحمةِ مُختلفةُ الصِّفاتِ والمهابِّ والمَنافِعِ، وأمَّا في العذابِ فإنَّها تأتي مِن وجهٍ واحدٍ وصِمَام واحدٍ لا يقومُ لها شيءٌ، ولا يعارِضُها غيرُها حتى تنتهيَ إلى حيث أُمِرَتْ، ولهذا وصفَ سُبحانه الريحَ التي أرسلَها على عادٍ بأنَّها عقيمٌ، فقال سُبحانه: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: 41] وهي التي لا تُلقِحُ ، ولا خيرَ فيها، إلَّا أنَّ هذا لم يَطَّرِدْ هنا في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ حيث جاءت بالإفرادِ، ووُصِفَت بأنها طَيِّبةٌ! ووجهُ ذلك: أنَّ تمامَ الرَّحمةِ هنا إنَّما تحصُلُ بوَحدةِ الرِّيحِ لا باختلافِها، بخلافِ المقصودِ منها في البَرِّ؛ فإنَّ السفينةَ لا تسيرُ إلَّا بريحٍ واحدةٍ مِن وجهٍ واحدٍ تُسَيِّرُها، فإذا اختَلَفَت عليها الرِّياحُ وتصادَمَتْ وتقابَلَتْ، فهو سببُ الهلاكِ، فالمطلوبُ هنا ريحٌ واحدةٌ لا رياحٌ، وأكَّدَ هذا المعنى بوصفِها بالطَّيِّبةِ؛ دفعًا لتوهُّمِ أنْ تكون ريحًا عاصفةً؛ بل هي ممَّا يُفرحُ بها لِطِيبِها .

8- قَولُ اللهِ تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فيه بَيانُ أنَّ هؤلاءِ المُشرِكينَ كانوا لا يَلتَفِتونَ إلى أصنامِهم في هذه الحالةِ وما يُشابِهُها، والعجب مِن طوائِفَ يَعتَقِدونَ في الأمواتِ!! فإذا عَرَضَت لهم في البَحرِ مثلُ هذه الحالةِ دَعُوا الأمواتَ، ولم يُخلِصُوا الدُّعاءَ لله كما فعَلَه المُشرِكونَ، فلينظُر المرء إلى ما فعَلَت تلك الاعتقاداتُ الشَّيطانيَّةُ، وأين وصل بها أهلُها، وإلى أينَ رمى بهم الشَّيطانُ، وكيف اقتادَهم وتسَلَّطَ عليهم؟! حتى انقادوا له انقيادًا ما كان يَطمَعُ في مِثلِه ولا في بَعضِه عُبَّاد الأوثانِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ

- وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ... فيه إسنادُ المِساسِ إلى الضَّرَّاءِ بعدَ إسنادِ الإذاقةِ إلى ضَميرِ الجَلالةِ، وهذا مِن الآدابِ القُرآنيَّةِ؛ كما في قولِه تعالى: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] ونَظائرِه

.

- وجاء الكلامُ على طَريقةِ الحِكايةِ عن حالِهم، والمُلْقَى إليه الكلامُ هو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمِنون، وفيه تعريضٌ بتَذْكيرِ الكُفَّارِ بحالِ حُلولِ المصائبِ بِهم؛ لعلَّهم يتَذكَّرون، فيُعِدُّوا عُدَّةَ الخوفِ مِن حُلولِ النِّقْمةِ الَّتي أنذَرَهم بها في قولِه: فَانْتَظِرُوا .

- قولُه: إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا فيه تنكيرُ مَكْرٌ؛ للتَّفخيمِ .

- قولُه: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ؛ فإنَّه قال: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا، فجاءَت أفعَلُ التَّفضيلِ؛ لأنَّ جُملةَ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قبْلَها تتَضمَّنُ سُرعةَ المَكْرِ مِنهم؛ لأنَّ هذه الجملةَ دليلٌ على سُرعةِ تَقلُّبِ ابنِ آدَمَ مِن حالةِ الخيرِ إلى حالةِ الشَّرِّ، وذلك بلَفْظِ أَذَقْنَا، كأنَّه قيلَ: أوَّلَ ذَوْقِه الرَّحمةَ قبلَ أن يُداوِمَ استِطْعامَها مَكَروهٌ، وبلفظِ مِنْ الْمُشْعِرِ بابتِداءِ الغايةِ، أي: يُنشِئُ المَكْرَ إثْرَ كَشْفِ الضَّرَّاءِ لا يُمهِلُ ذلك، وبلَفظِ (إذا) الفُجائيَّةِ الواقعةِ جَوابًا لـ(إذا) الشَّرطيَّةِ، أي: في وقتِ إذاقةِ الرَّحمةِ، كأنَّه قال: وإذا رَحِمْناهم مِن بعدِ ضرَّاءَ فاجَؤوا وُقوعَ المكرِ مِنهم، وسارَعوا إليه قبل أن يَغسِلوا رُؤوسَهم مِن مَسِّ الضَّرَّاءِ، ولم يتَلبَّثوا ريثَما يُسيغُون غُصَّتَهم .

- وجملةُ: إِنَّ رُسَلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ استِئْنافُ خِطابٍ للمُشرِكينَ مُباشَرةً؛ تَهديدًا مِن اللهِ؛ فلِذَلِك فُصِلَت ولم تُعطَفْ على الَّتي قبلَها؛ لاختِلافِ المُخاطَبِ، وتأكيدُ الجملةِ بـإنَّ؛ لِكَونِ المخُاطَبين يَعتقِدون خِلافَ ذلك؛ إذْ كانوا يَحسَبون أنَّهم يَمكُرون بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ مَكْرَهم يتَمشَّى عليه ولا يَشعُرُ به، فأعلَمَهم اللهُ بأنَّ الملائِكةَ الموكَّلِين بإحصاءِ الأعمالِ يَكتُبون ذلك . وهذه الجملةُ أيضًا تَعليلٌ مِن جِهتِه تعالى لأسرَعيَّةِ مَكرِه سبحانه، وفيه مِن المبالَغةِ ما لا يوصَفُ، وصيغةُ الاستقبالِ في (يَكْتُبون- تَمكُرون)؛ للدَّلالةِ على الاستِمرارِ التَّجدُّديِّ ، والتَّكرُّرِ، أي: تتَكرَّرُ كِتابتُهم كلَّما يتَكرَّرُ مَكرُهم .

- وفي قولِه: تَمْكُرُونَ- بالتَّاءِ على الخِطابِ- مُبالَغةٌ لهم في الإعلامِ بحالِ مَكرِهم .

- وفي قولِه: إِنَّ رُسَلَنَا الْتِفَاتٌ- حيث لم يَقُلْ: (إنَّ رُسلَه)- فهو تلوينٌ للخِطابِ بصَرفِه عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهم؛ للتَّشديدِ في التَّوبيخِ .

2- قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ

- في قولِه: وَجَرَيْنَ بِهِمْ التفاتٌ، حيث عدَل عن الخِطابِ إلى الغيبةِ؛ للمُبالغةِ، كأنَّه تذكِرةٌ لغَيرِهم؛ لِيتعجَّبَ مِن حالِهم ويُنكِرَ عليهم ، ومِن بديعِ الأسلوبِ في الآيةِ: أنَّها لَمَّا كانت بصَددِ ذِكْرِ النِّعمةِ جاءَت بضَمائرِ الخِطابِ الصَّالحةِ لِجَميعِ السَّامِعين، فلمَّا تَهيَّأَت للانتِقالِ إلى ذِكْرِ الضَّرَّاءِ وقَع الانتِقالُ مِن ضَمائرِ الخِطابِ إلى ضَميرِ الغيبةِ؛ لِتَلوينِ الأسلوبِ بما يُخلِّصُه إلى الإفضاءِ إلى ما يَخُصُّ المشرِكين، فقال: وَجَرَيْنَ بِهِمْ على طريقةِ الالتِفاتِ، أي: وجرَيْن بكُم، وهكذا أُجرِيَت الضَّمائرُ جامِعةً للفريقَين، إلى أن قال: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ فإنَّ هذا ليس مِن شِيَمِ المؤمِنين، فتَمحَّضَ ضميرُ الغيبةِ هذا للمُشركين، فقد أخرَج مِن الخبَرِ مَن عَدا الَّذين يَبغُون في الأرضِ بغيرِ الحقِّ؛ تعويلًا على القَرينةِ؛ لأنَّ الَّذين يَبغون في الأرضِ بغيرِ الحقِّ لا يَشمَلُ المسلِمين .

- وأيضًا ابتُدِئ الإتيانُ بضَميرِ الغيبةِ مِن آخِرِ ذكرِ النِّعمةِ عندَ قولِه: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ؛ للتَّصريحِ بأنَّ النِّعمةَ شَمِلَتهم، وللإشارةِ إلى أنَّ مَجيءَ العاصفةِ فجأةً في حالِ الفرَحِ مُرادٌ مِنه ابتِلاؤُهم وتخويفُهم؛ فهو تمهيدٌ لقولِه: وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ .

- قولُه: لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فيه تأكيدُ وَعْدِهم بالشُّكرِ بثَلاثِ مُؤكِّداتٍ: لامِ تَوطِئةِ القَسَمِ، ونونِ التَّوكيدِ، والتَّعبيرِ بصيغةِ مِنَ الشَّاكِرِينَ وهو أبلَغُ مِن (لنَكوننَّ شاكِرين)؛ لِما يُفيدُه مِن كَونِهم مِن هذه الزُّمرةِ الَّتي دَيدَنُها الشُّكرُ .

3- قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

- قولُه: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أتَى بـ (إذا) الفُجائيَّةِ في جوابِ (لَمَّا)؛ للدَّلالةِ على تَعجيلِهم بالبَغيِ في الأرضِ عَقِبَ النَّجاةِ .

- وزيادةُ فِي الْأَرْضِ؛ للدَّلالةِ على شُمولِ بَغيِهم لأقطارِها، وصيغةُ المضارِعِ يَبْغُونَ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والاستمرارِ .

- وقولُه: بِغَيْرِ الْحَقِّ قيدٌ كاشفٌ لِمَعنى البغيِ؛ إذ البغيُ لا يَكونُ بحقٍّ، فهو كالتَّقييدِ في قولِه تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50] .

- قولُه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ توجيهٌ للخِطابِ إلى أولئك الباغينَ؛ للتَّشديدِ في التَّهديدِ، والمبالَغةِ في الوَعيدِ . وافتُتِح الخِطابُ بـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ لاستِصْغاءِ أسماعِهم، والمقصودُ مِن هذا تَحذيرُ المشرِكين ثمَّ تَهديدُهم .

قولُه: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ في قَصْرِ البَغيِ على كونِه مُضِرًّا بهم- كما هو مُفادُ حرفِ الاستِعْلاءِ (على)- تنبيهٌ على حَقيقةٍ واقعيَّةٍ وموعظةٍ لهم؛ لِيَعلَموا أنَّ التَّحذيرَ مِن الشِّركِ والتَّهديدَ عليه لِرَعْيِ صَلاحِهم، لا لأنَّهم يَضُرُّونه سُبحانَه .

- قولُه: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ... فيه تقديم الجارِّ والمجرورِ؛ للدَّلالةِ على الثَّباتِ والقَصْرِ ، وإفادةِ الاختِصاصِ، أي: تُرجَعون إلينا لا إلى غيرِنا؛ تَنزيلًا للمُخاطَبين منزلةَ مَن يظُنُّ أنَّه يُرجَعُ إلى غيرِ اللهِ؛ لأنَّ حالَهم في التَّكذيبِ بآياتِه، والإعراضِ عن عِبادتِه إلى عبادةِ الأصنامِ كحالِ مَن يظُنُّ أنَّه يُحشَرُ إلى الأصنامِ، وإن كان المشرِكون يُنكِرون البَعثَ مِن أصلِه .

- وعُطِفَت هذه الجملةُ بـ (ثُمَّ)؛ لإفادةِ التَّراخي الرُّتبيِّ؛ لأنَّ مضمونَ هذه الجملةِ أصرَحُ تَهديدًا مِن مَضمونِ جُملةِ: إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ .

- قولُه: فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه تفريعُ فَنُنَبِّئُكُمْ على جملةِ: إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ تفريعَ وعيدٍ على تهديدٍ، والإنباءُ هنا كنايةٌ عَن الجزاءِ؛ لأنَّ الإنباءَ يَستلزِمُ العِلمَ بأعمالِهم السَّيِّئةِ، والقادِرُ إذا عَلِم بسوءِ صَنيعِ عَبدِه لا يَمنَعُه مِن عقابِه مانِعٌ، وفي ذِكْرِ كُنْتُمْ والفِعْلِ المضارعِ تَعْمَلُونَ دَلالةٌ على تَكرُّرِ عمَلِهم، وتَمكُّنِه مِنهم .

========================

 

سُورةُ يُونُس

الآيتان (24-25)

ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ

غريب الكلمات:

 

زُخْرُفَهَا: أي: حُسنَها وبَهاءَها، وزينَتَها بالنَّباتِ، وأصلُ الزخرف: الذَّهَبُ والزِّينةُ المُزَوَّقةُ

.

حَصِيدًا: أي: محصودةً، ومقطوعةً مِن أصولِها. وأصلُ (حصد): يدلُّ على قَطعِ الشَّيءِ .

لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ: أي: لم تَكُنْ عامِرةً، مِن: غَنِيَ في المكانِ: إذا أقامَ فيه وعَمَّره، ومِنه المَغاني: المَنازِلُ التي يَعمُرُها النَّاسُ. وأصلُ (غني): يدلُّ على الكِفايةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ مَثَلَ زينةِ الحياةِ الدُّنيا، في سُرعةِ زَوالِها، كمَثَلِ مَطَرٍ أنزَلَه اللهُ مِن السَّماءِ إلى الأرضِ، فنبَتَ به أنواعٌ مِن نباتِ الأرضِ، اختلط بعضُها ببعضٍ، ممَّا يأكُلُه النَّاسُ والأنعامُ، حتى إذا ظهر حُسنُ الأرضِ بألوانِ النَّباتِ المُختَلِفةِ، وتزَيَّنَت بأنواعِ الحُبوبِ والثِّمارِ، والأزهارِ المتعَدِّدةِ الألوانِ والأشكالِ، وأيقنَ أهلُها أنَّهم قادِرونَ على حَصدِ زَرْعِها، وقَطْفِ ثِمارِها؛ أتاها قضاءُ اللهِ بإهلاكِ نَباتِها، فصَيَّرَ تعالى النَّباتَ مَقلوعًا هالِكًا، كأنْ لم يكُنْ قائمًا على ظَهرِ الأرضِ مِن قَبلُ، كذلك يُفصِّلُ اللهُ الآياتِ لِقَومٍ يتفَكَّرونَ.

ويُبيِّنُ تعالى أنَّه يدعو عِبادَه لِدُخولِ جَنَّتِه، السَّالِمةِ مِن جميعِ الآفاتِ، ويُرشِدُ ويُوفِّقُ من يشاءُ مِن عِبادِه لسُلوكِ الطَّريقِ المُستقيمِ، المُوصِل إلى الجنَّةِ، وهو الإسلامُ.

تفسير الآيتين:

 

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وكان سبَبُ ما ذُكِرَ مِن البَغيِ هو الإفراطَ في حبِّ التمتُّعِ بما في الدُّنيا من الزِّينةِ واللَّذَّاتِ؛ ضرَبَ مثلًا بَليغًا عَجيبًا للحياةِ الدُّنيا، يُذَكِّرُ من يبغي فيها على سُرعةِ زَوالِها وانقضائِها، ويَصرِفُ العاقِلَ عن الغُرورِ بها، ويهديه إلى القَصدِ والاعتدالِ فيها، واجتنابِ التوسُّلِ إليها بالبَغيِ والظُّلمِ، وحُبِّ العُلُوِّ والفَسادِ في الأرضِ، وأنَّها بحالِ ما تُعِزُّ وتُسِرُّ، تَضمَحِلُّ ويَؤُولُ أمرُها إلى الفَناءِ

.

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء.

أي: إنَّما مَثَلُ زِينةِ الحياةِ الدُّنيا في سُرعةِ زَوالِها، كمَثَلِ مَطرٍ أنزلناه من السَّماءِ إلى الأرضِ .

فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ.

أي: فنَبَتَ بذلك المطَرِ أنواعٌ مِن نَباتِ الأرضِ مُتداخِلٌ بعضُها في بعضٍ ممَّا يأكُلُه النَّاسُ من الحُبوبِ والثِّمارِ والبُقولِ، وممَّا تأكُلُه الأنعامُ مِن الكَلأِ والعُشبِ .

حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ.

أي: حتَّى إذا ظهَرَ حُسنُ الأرضِ بألوانِ النَّباتِ المُختَلفةِ، وتزيَّنَت بأنواعِ الحُبوبِ والثِّمارِ والأزهارِ المتعدِّدةِ الأشكالِ والألوانِ .

كما قال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5] .

وقال سُبحانه: وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ *وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: 7 - 10] .

وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ.

أي: وأيقَنَ أهلُ الأرضِ- الذين زَرَعوها وغَرَسوها- أنَّهم قادِرونَ على حَصدِ زَرعِها، وقَطْفِ ثِمارِها .

أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ.

أي: جاء الأرضَ قضاؤُنا بإهلاكِ نَباتِها فجأةً؛ إمَّا ليلًا أو نهارًا، فصيَّرْنا النَّباتَ مَقلوعًا هالِكًا، كأنْ لم يكُنْ قائمًا على ظَهرِ الأرضِ يُزَيِّنُها بجمالِه مِن قَبلُ !

كما قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف: 45] .

كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

أي: كما بيَّنَّا لكم- أيُّها النَّاسُ- مَثَلَ الدُّنيا بهذا المِثالِ، وعرَّفناكم أمْرَها؛ نُبَيِّنُ ونُوضِّحُ- بمِثلِ ذلك التَّفصيلِ البديعِ- الآياتِ لقومٍ يتفكَّرونَ ويعتبرونَ، فلا يغترُّونَ بالدُّنيا الفانيةِ .

كما قال سُبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [الزمر: 21] .

وقال عزَّ وجلَّ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20] .

وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى الدُّنيا، وسُرعةَ عَطَبِها وزَوالِها، ونَفَّرَ عن المَيلِ إليها بالمَثَلِ السَّابقِ؛ رغَّبَ في الآخرةِ، ودعا إلى الجنَّةِ ، فقال:

وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ.

أي: واللهُ يدعو عِبادَه إلى دُخولِ جَنَّتِه السَّالِمةِ مِن جميعِ الآفاتِ، فاطلُبوها بِطاعَتِه، ولا تطلُبوا الدُّنيا وزينَتَها؛ فإنَّها مليئةٌ بالآفاتِ والنَّكَباتِ، ومصيرُها إلى زوالٍ وفَناءٍ .

عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((جاءتْ ملائكةٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو نائِمٌ، فقال بعضُهم: إنَّه نائمٌ، وقال بعضُهم: إنَّ العَينَ نائِمةٌ، والقلبَ يَقظانُ، فقالوا: إنَّ لِصاحِبِكم هذا مَثلًا، فاضرِبوا له مَثلًا، فقال بعضُهم: إنَّه نائِمٌ، وقال بعضُهم: إنَّ العَينَ نائمةٌ، والقَلبَ يَقظانُ، فقالوا: مَثَلُه كمَثَلِ رَجُلٍ بنى دارًا، وجعل فيها مأدُبةً ، وبعثَ داعيًا، فمن أجابَ الدَّاعيَ دخل الدَّارَ، وأكلَ مِن المَأدُبةِ، ومَن لم يُجِبِ الدَّاعيَ لم يدخُلِ الدَّارَ، ولم يأكلْ من المأدُبة، فقالوا: أوِّلُوها له يَفْقَهْها، فقال بعضُهم: إنَّه نائمٌ، وقال بعضُهم: إنَّ العَينَ نائمةٌ، والقَلبَ يَقظانُ، فقالوا: فالدَّارُ الجنَّةُ، والدَّاعي مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمن أطاع محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقد أطاعَ الله، ومَن عصى محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقد عصى اللهَ، ومُحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم فَرْقٌ بين النَّاسِ)) .

وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.

أي: واللهُ يُرشِدُ ويوفِّقُ مَن يَشاءُ مِن عِبادِه إلى الإسلامِ، وهو الطَّريقُ المُستَقيمُ المُوصِلُ مَن سلَكَه إلى الجنَّةِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ شَبَّه الحياةَ الدُّنيا بماءِ السَّماءِ دونَ ماءِ الأرضِ؛ لأنَّ ماءَ السَّماءِ- وهو المطَرُ- لا تأثيرَ لِكَسبِ العَبدِ فيه بزيادةٍ أو نقصٍ، أو لأنَّه يستوي فيه جميعُ الخلائِقِ، بخلافِ ماءِ الأرضِ، فكان تشبيهُ الحياةِ به أنسَبَ

.

2- الأمرُ المذكورُ في قَولِه تعالى: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا هو الأمْرُ الكونيُّ، ويقابلُه: الأمْرُ الدينيُّ، كما في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] .

3- الإرادةُ نوعان: إرادةٌ كونيَّةٌ قَدَريَّةٌ، وهي المشيئةُ، ولا مُلازمةَ بينها وبين المحبَّةِ والرِّضا، بل يدخُلُ فيها الكُفرُ والإيمانُ، والطَّاعاتُ والعِصيانُ، والمَرضِيُّ والمحبوبُ والمكروهُ وضِدُّه، وإرادةٌ دينيَّةٌ شَرعيَّةٌ مختَصَّةٌ بمراضي اللهِ ومَحابِّه، وعلى مقتضاها أمَرَ عِبادَه ونهاهم، وتجتَمِعُ الإرادةُ الكونيَّةُ والشَّرعيَّةُ في حَقِّ المُؤمِنِ الطائعِ، وتنفَرِدُ الكونيَّةُ في حقِّ الفاجِرِ العاصي؛ فالله سبحانه دعا عبادَه عامَّةً إلى مرضاتِه، وهدى لإجابتِه من شاء منهم، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فعمَّمَ سُبحانه الدَّعوةَ، وخَصَّ الهدايةَ بمَن شاء .

4- قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ أي: يدعو النَّاسَ جميعًا إلى دارِ السَّلامةِ عن كُلِّ مَكروهٍ وآفةٍ، وهي الجنَّةُ، وإنَّما ذُكِرَت بهذا الاسمِ لذِكْرِ الدُّنيا بما يُقابِلُه مِن كَونِها مَعرِضًا للآفاتِ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ عَمَّ سبحانَه وتعالى بالدَّعوةِ أوَّلًا؛ إظهارًا للحُجَّةِ، وخَصَّ بالهدايةِ ثانيًا؛ استغناءً عن خَلْقِه، وإظهارًا للقُدرةِ، لأنَّ الحُكمَ له في خَلْقِه ، وقيل أيضًا: عمَّ بالدَّعوةِ إلى دارِ السَّلامِ، وخَصَّ بالهدايةِ مَن يشاءُ، فذاك عَدلُه، وهذا فَضلُه .

6- قال اللهُ تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ هذه الآيةُ بَيِّنةُ الحُجَّةِ في الرَّدِّ على القَدَريَّةِ؛ لأنَّهم قالوا: هَدى اللهُ الخَلقَ كُلَّهم إلى صراطٍ مُستقيمٍ، واللهُ قال: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فردُّوا على اللهِ نُصوصَ القُرآنِ .

7- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ حثٌّ مِن الله تعالى لعبادِه على إجابةِ هذه الدَّعوةِ، والمبادرةِ إليها، والمُسارعةِ في الإجابةِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

- قولُه: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ... فيه تشبيهٌ، وهو مِن التَّشبيهِ المركَّبِ؛ شُبِّهَت حالُ الدُّنيا في سُرعةِ تَقَضِّيها، وانقِراضِ نَعيمِها بعدَ الإقبالِ، بحالِ نَباتِ الأرضِ في جَفافِه وذَهابِه حُطامًا بعدَما الْتَفَّ وتَكاثَفَ، وزيَّن الأرضَ بخُضرتِه ورَفيفِه

، وهذه الآيةُ تتَنزَّلُ مَنزِلةَ البيانِ لقَولِه: مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا المؤذِنةِ بأنَّ تَمتُّعَهم بالدُّنيا ما هو إلَّا لمدَّةٍ قصيرةٍ، فبيَّنَت هذه الآيةُ أنَّ التَّمتُّعَ صائِرٌ إلى زَوالٍ، وأطنَبَت فشبَّهَت هيئةَ التَّمتُّعِ بالدُّنيا لأصحابِها بهيئةِ الزَّرعِ في نَضارتِه، ثمَّ في مَصيرِه إلى الحَصْدِ .

وفي هذه الآيةِ عَشْرُ جُمَلٍ وقَع التَّركيبُ مِن مَجموعِها، بحيث لو سقَط مِنها شيءٌ اختَلَّ التَّشبيهُ، قيل: وجهُ تشبيهِ الدُّنيا بالماءِ أمْرانِ؛ أحَدُهما: أنَّ الماءَ إذا أخَذتَ مِنه فوقَ حاجَتِك تضَرَّرتَ، وإن أخذتَ قدْرَ الحاجةِ انتفعتَ به، فكَذِلك الدُّنيا. والثَّاني: أنَّ الماءَ إذا طبَّقتَ عليه كفَّك لِتَحفَظَه لم يَحصُلْ فيه شيءٌ فكذلك الدُّنيا .

- وصيغةُ القَصرِ إِنَّمَا هنا لِتَأكيدِ المقصودِ مِن التَّشبيهِ، وهو سُرعةُ الانقِضاءِ، ولِتَنزيلِ السَّامِعين مَنزلةَ مَن يَحسَبُ دَوامَ بهجةِ الحياةِ الدُّنيا؛ لأنَّ حالَهم في الانكِبابِ على نَعيمِ الدُّنيا كحالِ مَن يَحسَبُ دَوامَه، ويُنكِرُ أن يَكونَ له انقِضاءٌ سريعٌ ومُفاجئٌ، والمعنى: قَصرُ حالةِ الحياةِ الدُّنيا على مُشابهةِ حالةِ النَّباتِ الموصوفِ؛ فالقصرُ قَصْرُ قَلبٍ، بُنِيَ على تنزيلِ المُخاطَبينَ منزلةَ مَن يَعتقِدُ عَكسَ تِلك الحالةِ؛ شُبِّهتْ حالةُ الحياةِ في سُرعةِ تَقضِّيها، وزوالِ نَعيمِها بعدَ البهجةِ به، وتَزايُدِ نَضارتِها بحالِ نباتِ الأرضِ في ذَهابِه حُطامًا، ومَصيرِه حَصيدًا، ومِن بديعِ هذا التَّشبيهِ: تَضمُّنُه لتشبيهاتٍ مُفرَّقةٍ من أطوارِ الحالينِ المتشابهَينِ بحيثُ يَصلُحُ كلُّ جزءٍ مِن هذا التشبيهِ المركَّبِ لتشبيهِ جُزءٍ مِن الحالينِ المتشابِهينِ؛ ولذلك أَطْنَبَ وصْفَ الحالينِ مِن ابتدائِه .

- قولُه: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ... كلامٌ فصيحٌ بديعُ اللَّفظِ، حيث جُعِلَت الأرضُ آخِذةً زُخرُفَها على التَّمثيلِ بالعَروسِ، إذا أخَذَت الثِّيابَ الفاخِرةَ مِن كلِّ لونٍ، فاكْتَسَتها وتزَيَّنَت بغيرِها مِن ألوانِ الزِّيَنِ .

- قولُه: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ فيه مُبالَغةٌ في التَّلَفِ والهلاكِ، حتَّى كأنَّها لم تُوجَدْ قَبلُ، ولم يَقُمْ بالأرضِ بهجةٌ خَضِرةٌ نضِرةٌ تَسُرُّ أهلَها .

- قولُه: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تذييلٌ جامعٌ؛ أي مِثْلَ هذا التَّفصيلِ نُفصِّلُ، أي: نُبيِّنُ الدَّلالاتِ كلَّها الدَّالَّةَ على عُمومِ العلمِ والقدرةِ، وإتقانِ الصُّنعِ ، وفيه تعريضٌ بأنَّ الذين لم ينتَفِعوا بالآياتِ، ليسوا مِن أهلِ التفَكُّرِ، ولا كان تفصيلُ الآياتِ لأجْلِهم .

- وفي قولِه: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ خَصَّ (الْمُتَفَكِّرِينَ) بالذِّكرِ؛ تَشريفًا للمنزلةِ، ولِيَقعَ التَّسابُقُ إلى هذه الرُّتبةِ ، ولأنَّهم هم المنتَفِعون بتَفصيلِ الآياتِ .

2- قولُه تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

- قولُه: دَارِ السَّلَامِ فيه إضافةُ الدَّارِ إلى اسمِه سُبحانَه؛ تَعظيمًا وتَشريفًا لها ، وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.

- وفي قولِه: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مناسَبةٌ حسَنةٌ؛ فإنَّه لَمَّا كان الدُّعاءُ عامًّا لم يتَقيَّدْ بالمشيئةِ، ولَمَّا كانت الهدايةُ خاصَّةً تقيَّدَت بالمشيئةِ، فقال: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .

=========================

 

سُورةُ يُونُس

الآيتان (26-27)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ

غريب الكلمات:

 

وَلَا يَرْهَقُ: أي: لا يَغشَى، ولا يَعلُو، وأصلُ (رهق): غِشْيانُ الشَّيءِ الشَّيءَ

.

قَتَرٌ: أي: غبارٌ وكآبةٌ، وأصلُ (قتر): يدلُّ على تجميعٍ وتَضييقٍ .

ذِلَّةٌ: أي: صَغارٌ، وأصْلُ الذُّلِّ: الخُضُوعُ والاستكانةُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ تعالى أنَّ الَّذينَ أحسَنوا في الدُّنيا لهم الجنَّةُ في الآخرةِ، وزيادةٌ على ذلك، ومِن الزيادةِ- بل أعظمُها- النَّظَرُ إلى وَجهِ اللهِ الكريمِ، ولا يغشَى وُجوهَهم غُبارٌ ولا هَوانٌ ولا صَغارٌ، أولئك أصحابُ الجنَّةِ هم فيها ماكِثونَ أبدًا.

والذين عمِلوا السَّيِّئاتِ فعَصَوا وكفَروا بالله ورسولِه، فلهم جزاءٌ يسوؤُهم بحسبِ ما عمِلوا مِن السيئاتِ، دونَ زيادةٍ، ويغشاهم هَوانٌ وذُلٌّ وخِزيٌ، ليس لهم مِن اللهِ مِن مانعٍ يمنَعُ عنهم سَخَطَه وعذابَه، كأنَّما أُلبِسَت وجوهُهم- مِن شِدَّةِ سَوادِها- أجزاءً مِن اللَّيلِ في حالِ ظُلمَتِه، أولئك أصحابُ النَّارِ هم فيها ماكِثونَ أبدًا.

تفسير الآيتين:

 

لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا دعا اللهُ تعالى عِبادَه إلى دارِ السَّلامِ؛ ذكَرَ السَّعاداتِ التي تحصُلُ لهم فيها

.

وأيضًا لَمَّا أفهم خَتمُ الآيةِ بِقَولِه: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أنَّ مِن النَّاسِ مَن يهديه، ومنهم مَن يُضِلُّه، وأنَّ الكُلَّ فاعلونَ لِما يَشاءُ، كان موضِعَ أن يُقالَ: هل هم واحِدٌ في جزائِه، كما هم واحِدٌ في الانقيادِ لِمُرادِه؟ فقيل: لا، بل هم فَريقانِ، فذَكَرَهما .

وأيضًا أنَّه لَمَّا دعا تعالى إلى دارِ السَّلامِ، كأنَّ النُّفوسَ تَشَوَّقَت إلى الأعمالِ المُوجِبةِ لها المُوصِلةِ إليها، فأخبَرَ عنها بقَولِه تعالى :

لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ.

أي: للَّذين أحسَنوا في الدُّنيا بالإيمانِ، وأحسَنوا في طاعةِ الرَّحمنِ؛ امتثالًا لأمرِه، واجتنابًا لِنَهيِه، على وَجهِ المُراقَبةِ له سُبحانه، وأحسَنوا إلى عبادِ اللهِ تعالى؛ هؤلاء لهم الجنَّةُ، ولهم زيادةٌ على ذلك، وأعظمُ أنواعِها النَّظَرُ إلى وجهِ الله عزَّ وجلَّ .

كما قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60].

وقال سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23].

وعن صُهَيبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا دخَلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، يَقولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُريدونَ شَيئًا أزيدُكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّضْ وُجوهَنا؟! ألم تُدخِلْنا الجنَّةَ، وتُنْجِنا من النَّارِ؟! قال: فيَكشِفُ الحِجابَ، فما أُعطُوا شَيئًا أحَبَّ إليهم مِن النَّظَرِ إلى رَبِّهم عزَّ وجَلَّ، ثمَّ تلا هذه الآيةَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) .

وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ.

مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:

لَمَّا شرَحَ اللهُ تعالى ما يحصُلُ لأهلِ الجنَّةِ مِن السَّعاداتِ، شرَحَ بعد ذلك الآفاتِ التي صانَهم اللهُ بفَضلِه عنها، فقال تعالى :

وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ.

أي: ولا يَغشى وجوهَ أهلِ الجنَّة غُبارٌ ولا كآبةٌ، ولا هوانٌ أو صَغَارٌ .

كما قال تعالى: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: 11].

وقال سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس: 38-39] .

وقال عزَّ وجلَّ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] .

أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

أي: أولئك- الذين أحسَنوا- أهلُ الجنَّةِ، هم فيها ماكِثونَ أبدًا .

وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لمَّا أخبَر تعالَى عن حالِ السُّعداءِ؛ عَطَف بذكرِ حالِ الأشقياءِ، فذَكَر عدلَه تعالى فيهم، وأنَّه يُجازيهم على السَّيِّئةِ بمثلِها، لا يزيدُهم على ذلك .

وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى كما شرحَ حالَ المُسلِمينَ في الآيةِ المتقَدِّمةِ، شَرحَ حال مَن أقدَمَ على السيِّئاتِ في هذه الآيةِ ، فقال:

وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا.

أي: والَّذين عمِلوا السيِّئاتِ في الدُّنيا، فعَصَوا وكفَروا بالله ورسولِه، فلهم جزاءٌ يسوؤُهم بحسبِ ما عمِلوا مِن السيئاتِ، دونَ زيادةٍ على ما يستحقُّونَ .

كما قال تعالى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160] .

وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.

أي: ويَغشاهم هوانٌ وخِزيٌ .

كما قال تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45] .

وقال سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 42، 43].

مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ.

أي: ما لهم مِن اللهِ مِن مانعٍ يمنَعُ عنهم سَخَطَه وعذابَه .

كما قال تعالى: لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [الرعد: 34].

وقال سُبحانه: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [غافر: 33] .

كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا.

أي: كأنَّما أُلبِسَت وجوهُهُم- مِن شِدَّةِ سَوادِها- أَجزاءً مِن اللَّيلِ في حالِ ظُلمَتِه .

كما قال تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] .

وقال سبحانه: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران: 106] .

أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

أي: أولئك- الموصوفونَ بهذه الصفاتِ الذميمةِ- أهلُ النَّارِ، هم فيها ماكِثونَ أبدًا

 

.

الفوائد التربوية:

 

لا عاصِمَ مِن اللهِ لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ؛ فإنَّ قضاءَه مُحيطٌ بِجَميعِ الكائِناتِ، وقدَرَه نافِذٌ في كلِّ المُحدَثاتِ، إلَّا أنَّ الغالِبَ على الطِّباعِ العاصيةِ، أنَّهم في الحياةِ العاجلةِ مُشتَغِلونَ بأعمالِهم ومُراداتِهم، أمَّا بعد الموتِ فكُلُّ أحدٍ يُقِرُّ بأنَّه ليس له مِن اللهِ مِن عاصمٍ، قال تعالى: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

في قَولِه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ مُناسبةٌ بينَ الإحسانِ، وبينَ النَّظَرِ إلى وجهِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ووجهُ ذلك أنَّ الإحسانَ هو أنْ يَعبُدَ المؤمِنُ ربَّه في الدُّنيا على وَجهِ الحُضورِ والمُراقبةِ، كأنَّه يراهُ بقَلبِه، وينظرُ إليه في حالِ عبادَتِه، فكان جزاءُ ذلك النَّظَرَ إلى اللهِ عِيانًا في الآخرةِ، وعكسُ هذا ما أخبَرَ اللهُ تعالى به عن جزاءِ الكفَّارِ في الآخرةِ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] ، وجَعَلَ ذلك جزاءً لحالِهم في الدُّنيا، وهو تَراكُمُ الرَّانِ على قُلوبِهم؛ حتى حُجِبَتْ عن مَعرِفتِه، ومُراقَبتِه في الدُّنيا، فكان جزاؤُهم على ذلك أنْ حُجِبُوا عن رؤيَتِه في الآخرةِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

- قولُه: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ جملةٌ مُستأنَفةٌ؛ لبيانِ أمْنِهم مِن المكارِه، بَعدَ بَيانِ فوزِهم بالمطالِبِ بقولِه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، وإنَّما ذَكرَ أمْنَهم مِن المكارِهِ- مع أنَّ فَوْزَهم بالمطالِبِ يَقتضِيه-؛ تَذكيرًا بما يُنقِذُهم اللهُ تعالى مِنه برحمتِه

.

- وفيه تقديمُ المفعولِ: وُجُوهَهُمْ، على الفاعلِ: قَتَرٌ؛ للاهتمامِ ببيانِ أنَّ المَصونَ مِن الرَّهَقِ أشرفُ أعضائِهم، وللتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ؛ فإنَّ ما حقُّه التَّقديمُ إذا أُخِّر تَبْقَى النَّفسُ مُترقِّبةً لوُرودِه، فعند ورودِه عليها يتَمكَّنُ عندَها فضْلَ تمكُّنٍ، ولأنَّ في الفاعلِ ضرْبَ تَفْصيلٍ .

- وكنَى بالوجهِ عن جملةِ الجسَدِ؛ لكونِ الوجهِ أشرَفَه، ولِظُهورِ أثرِ السُّرورِ والحزنِ فيه ، والمرادُ: لا ينالُهم مكروهٌ، بوجهٍ مِن الوجوهِ؛ لأنَّ المكروهَ إذا وقَع بالإنسانِ، تبيَّن ذلك في وجهِه، وتغيَّر وتكدَّر .

- وفيه تعريضٌ بالَّذين لم يَهدِهِمُ اللهُ إلى صراطٍ مستقيمٍ، وهم الَّذين كسَبوا السَّيِّئاتِ؛ تعجيلًا للمَساءةِ إليهم بطريقِ التَّعريضِ قبلَ التَّصريحِ، الذي يأتي في قولِه: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ إلى قولِه: مُظْلِمًا [يونس: 27] .

- وجملةُ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ نتيجةٌ للمقدِّمةِ؛ فبَيْنها وبينَ التي قبلَها كمالُ الاتِّصالِ؛ ولذلك فُصِلَت عنها، ولم تُعطَفْ .

- واسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ فيه تَنبيهٌ على أنَّهم استَحقُّوا الخلودَ لأجلِ إحسانِهم، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ دَرجتِهم، وسُموِّ طبَقتِهم .

2- قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

- قولُه: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ عطفٌ على جملةِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، وعبَّر في جانبِ المسيئين بفِعلِ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ، دونَ فِعْل (أَساؤوا) كما عبَّر في جانبِ الَّذين أحسَنوا؛ للإشارةِ إلى أنَّ إساءتَهم مِن فِعْلِهم وسعيِهم؛ فما ظلَمَهم اللهُ ولكنْ أنفسَهم يَظلِمون .

- وفيه تغييرُ السَّبْكِ حيثُ لم يَقُل: (ولِلَّذين كسَبوا السَّيِّئاتِ السُّوأى)، في مقابلةِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى؛ لِمُراعاةِ ما بينَ الفريقينِ مِن كمالِ التَّنائي والتَّبايُن، وإيرادُ (الكَسْبِ)؛ للإيذانِ بأنَّ ذلك إنَّما هو لسوءِ صَنيعِهم، وبسبب جِنايتِهم على أنفُسِهم .

- وأيضًا قوله: أَحْسَنُوا، وكَسَبُوا السَّيِّئاتِ فيه تنبيهٌ على أنَّ المؤمِنَ لَمَّا خُلِقَ على الفِطرةِ واصَلَها بالإحسانِ، وعلى أنَّ الكافِرَ لَمَّا خُلِقَ على الفطرةِ انتقَلَ عنها، وكسَبَ السَّيِّئاتِ، فجَعلَ ذلك مُحسِنًا، وهذا كاسِبًا للسيِّئاتِ؛ ليدُلَّ على أنَّ المؤمِنَ سلك ما يَنبغي، وهذا سلَك ما لا يَنبغي .

- قولُه: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ فيه إسنادُ الرَّهَقِ إلى أنفُسِهم دون وُجوهِهم؛ للإيذانِ بأنَّها محيطةٌ بهم غاشيةٌ لهم جميعًا، وتنكيرُ ذِلَّةٌ للتَّفخيمِ .

- قولُه: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ: نفْيُ العاصمِ فيه مُبالغةٌ ظاهرةٌ في نفْيِ العِصمةِ من الله تعالى .

- في قولِه: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا مبالغةٌ في سَوادِ الوُجوهِ، ولَمَّا كانت ظُلمةُ اللَّيلِ نهايةً في السَّوادِ شبَّه سَوادَ وُجوهِهم بقِطَعٍ مِن اللَّيلِ حالَ اشتدادِ ظُلمتِه .

=================

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (28-30)

ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ

غريب الكلمات:

 

فَزَيَّلْنَا: أي: فَرَّقْنا. وأصلُ التزايُل: التبايُن

.

تَبْلُو: أي: تَختَبِرُ وتَعلَمُ. وأصلُ (بلو): يدلُّ على اختبارٍ .

أَسْلَفَتْ: أي: قَدَّمَت وعَمِلَت، وأصلُ (سلف): يدلُّ على تقدُّمٍ وسَبْقٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ

مَكَانَكُمْ اسمُ فِعلِ أمرٍ، مبنيٌّ على الفَتحِ، لا محَلَّ له من الإعرابِ، بمعنى: اثبُتُوا، منقولٌ عن الظَّرفِ، والفاعِلُ ضَميرٌ مُستَترٌ وُجوبًا، تقديرُه (أنتم)، وأَنْتُمْ ضميرٌ مبنيٌّ في محلِّ رفعٍ توكيدٌ للضَّميرِ المُستَترِ في اسمِ الفِعل، وَشُرَكَاؤُكُمْ معطوفٌ على الضَّميرِ المُستَترِ، مرفوعٌ. وقيل: مَكَانَكُمْ مفعولٌ به منصوبٌ لفِعلٍ محذوفٍ، تَقديرُه (الزموا)

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قائلًا له: واذكرْ- يا مُحمَّدُ- يومَ نَجمَعُ الخَلقَ جميعًا لِمَوقفِ الحسابِ يومَ القيامةِ، ثمَّ نقولُ للذينَ أشرَكوا: الزَمُوا مَكانَكم أنتم ومَن زَعَمتُم أنَّهم شُرَكاءُ لله في العبادةِ، وفَرَّقْنا بين المُشرِكينَ وشُرَكائِهم، وقال لهم شُركاؤهم الذين كانوا يعبدونَهم مِن دُونِ اللهِ: ما كُنتم تَعبُدونَنا في الحقيقةِ، بل كُنتُم تعبدونَ أهواءَكم وشَياطينَكم الذين أمَرُوكم بعبادَتِنا، فحَسْبُنا اللهُ شاهِدًا بيننا وبينكم؛ فهو سبحانَه وتعالى قد عَلِمَ أنَّا لم نأمُرْكم بعِبادَتِنا، ولم نكُن نَشعُرُ بعِبادتِكم لنا.

في ذلك المَوقِفِ في أرضِ المَحشَرِ يومَ القيامةِ تعلَمُ كُلُّ نَفسٍ ما قَدَّمَت من خيرٍ أو شَرٍّ، وتَجِدُه مكتوبًا لِتُحاسَبَ عليه، ورُدَّ المُشرِكونَ إلى اللهِ رَبِّهم الحَقِّ؛ لِيُجازيَهم بالعدلِ، وزال عنهم ما كانوا يختَلِقونَه من الكَذِبِ على اللهِ تعالى.

تفسير الآيات:

 

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ في الآيتينِ السَّابِقَتينِ ما يختَصُّ به كلُّ فريقٍ مِن الفَريقينِ مِن الجَزاءِ وسِماتِه، (الذين أحْسَنوا والذين كسَبوا السَّيِّئاتِ)؛ جاءت هذه الآيةُ بإجمالِ حالةٍ جامعةٍ للفَريقَينِ، ثمَّ بتَفصيلِ حالةٍ يَمتازُ بها المُشرِكونَ؛ لِيَحصُلَ بذلك ذِكرُ فَظيعٍ مِن أحوالِ الذين بَلَغوا الغايةَ في كَسبِ السَّيِّئاتِ، وهي سَيِّئةُ الإشراكِ الذي هو أكبَرُ الكبائرِ، وبذلك حصَلَت المُناسَبةُ مع الجُملةِ التي قَبلَها المُقتَضيةِ عَطْفَها عليها

.

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا.

أي: واذكُرْ- يا مُحَمَّدُ- يومَ نَجمَعُ جَميعَ الخَلقِ لِمَوقِفِ الحسابِ يومَ القيامةِ؛ الإنسَ والجِنَّ، والمُؤمِنينَ والكافرينَ، والعابدينَ والمَعبودينَ .

كما قال تعالى: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف: 47] .

ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ.

أي: ثمَّ نقولُ للمُشرِكينَ: الزَموا مكانَكم، وقِفوا في مَوضعِكم، أنتم والذين زَعَمتُم أنَّهم شركاءُ لله في عبادتِه .

كما قال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22] .

فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ.

أي: ففَرَّقْنا بين المُشرِكينَ العابدينَ، ومَعبُوديهم مِن دونِ اللهِ .

كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 166- 167] .

وقال سُبحانه: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا [الكهف: 52] .

وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ.

أي: وقال المعبودونَ للمُشرِكينَ الذين عَبَدوهم: ما كُنتُم تعبدونَنا في الحقيقةِ، بل كُنتم تعبدونَ أهواءَكم وشَياطينَكم الذين أمَروكم بعبادَتِنا .

كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ [النحل: 86] .

وقال سُبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ [الفرقان: 17-19] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ [الروم: 12-13] .

وقال جلَّ جلاله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40-41] .

فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29).

أي: قال المَعبودونَ للذين عَبَدوهم: فحَسْبُنا اللهُ شاهدًا بيننا وبينكم، أيُّها المُشرِكونَ؛ فإنَّه قد عَلِمَ أنَّكم عَبَدتُمونا من غيرِ أن نأمُرَكم، ومِن دونِ أن نَشعُرَ بعِبادتِكم لنا .

كما قال تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] .

وقال سُبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5-6] .

هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (30).

هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ تَتْلُو مِن التِّلاوةِ، أي: تقرأُ كُلُّ نَفسٍ أعمالَها مِن كِتابِها يومَ القيامةِ، وقيل: المعنى: تَتبَعُ كُلُّ نَفسٍ ما قدَّمَتْ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ .

2- قِراءةُ تَبْلُو، أي: تَخْبُرُ، فالمعنى: تَعلَمُ كُلُّ نَفسٍ ما قدَّمَت مِن خَيرٍ أو شَرٍّ .

هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ.

أي: في ذلك المَقامِ في أرضِ المَحشَرِ يومَ القيامةِ تَعلَمُ كلُّ نفسٍ ما قدَّمَت مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وتَجِدُه مكتوبًا لِتُحاسَبَ عليه .

كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] .

وقال سُبحانه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13- 14] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .

وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ.

أي: ورُجِعَ هؤلاء المُشرِكونَ إلى اللهِ الذي هو ربُّهم ومالِكُهم، والمتولِّي أمرَهم، الحَقُّ لا شكَّ فيه، دُونَ مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ مِن آلهةٍ .

كما قال تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 62] .

وقال عزَّ وجلَّ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج: 62] .

وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ.

أي: وزال عن المُشرِكينَ وبطَلَ ما كانوا يختَلِقونَه مِن الكَذِبِ على اللهِ، بدعواهم أنَّ له شُرَكاءَ يَنفَعونَ مَن عَبَدَهم، ويَدفَعونَ عنه الضُّرَّ، ويُقَرِّبونَه إلى اللهِ

 

.

كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [النحل: 86-87] .

وقال سبحانه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [القصص: 74-75] .

الفوائد التربوية :

 

قَولُ اللهِ تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ العبادةَ المَشوبةَ لا اعتدادَ بها، وأنَّ مَن استحَقَّ العبادةَ استحَقَّ الإخلاصَ فيها، وأنْ لا يُشرَك به أحدٌ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا مِن نُكَتِ ذِكرِ حَشرِ الجَميعِ هنا: التَّنبيهُ على أنَّ فظيعَ حالِ المُشرِكينَ، وافتِضاحَهم، يكون بمرأًى ومَسمَعٍ من المؤمِنينَ، فتكونُ السَّلامةُ من تلك الحالةِ زيادةً في النِّعمةِ على المُسلِمينَ، وتقويةً في النِّكايةِ للمُشرِكينَ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ كَلِمةُ فَزَيَّلْنَا جاءت على لفظِ المُضيِّ بعدَ قَولِه: ثُمَّ نَقُولُ وهو مُنتظَرٌ في المُستقَبلِ، والسَّببُ فيه أنَّ الذي حكَمَ اللهُ فيه بأن سيكونُ، صار كالكائنِ الرَّاهِنِ الآن .

3- قال اللهُ تعالى: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ إنَّما أضاف الشُّرَكاءَ إليهم لوجوهٍ:

منها: أنَّه يكفي في الإضافةِ أدنَى تعلُّقٍ، فلمَّا كان الكفارُ هم الذين أثْبَتوا هذه الشركةَ؛ لا جرمَ حسنتْ إضافةُ الشركاءِ إليهم

وقيل: إنَّه تعالى لما خاطَب العابدينَ والمعبودينَ بقولِه: مَكَانَكُمْ صاروا شركاءَ في هذا الخطابِ .

4- إن قيل: كيف قال: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وقد أخبَرَ تعالى بـ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 11] ، فالجوابُ: لا تناقُضَ بينهما، فالإخبارُ بأنَّه مولاهم؛ ذلك لأنَّه تعالى مَولى عبادِه جَميعًا، على معنى: أنَّه رَبُّهم ومالِكُ أمْرِهم، والمتصَرِّفُ فيهم بما شاء، وهو مَولاهم جميعًا في الرِّزقِ وإدرارِ النِّعَم، وأمَّا النَّفيُ فهو على معنى وِلايةِ المحبَّةِ والتَّوفيقِ والنَّصرِ، فهو مَولى المُؤمِنينَ خاصَّةً، وليس للكافرينِ نصيبٌ فيها .

5- اللهُ سبحانه يَقرِنُ في كتابِه بين الشِّركِ والكَذِب، كما يَقرِنُ بين الصِّدقِ والإخلاصِ، كما في قَولِه تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ إلى قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وقال تعالى عن الخليلِ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ

 

[الصافات: 85 - 86] .

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ

- قولُه: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا... كلامٌ مستأنَفٌ، مَسُوقٌ لبيانِ بعضٍ آخرَ مِن أحوالِهم الفظيعةِ، وتأخيرُه في الذِّكرِ مع تقدُّمِه في الوجودِ على بعضِ أحوالِهم المحكيَّةِ سابقًا؛ للإيذانِ باستقلالِ كلٍّ مِن السَّابقِ واللَّاحقِ بالاعتبارِ

.

- وقولُه: فَزَيَّلْنَا، الفاءُ للدَّلالةِ على وقوعِ التَّزْييلِ ومَباديه عَقِيبَ الخِطابِ مِن غيرِ مُهلةٍ، وإيثارُ التَّعبيرِ بصيغةِ الماضي؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ الموروثِ؛ لزيادةِ التَّوبيخِ والتَّحسيرِ .

- وقال: فَزَيَّلْنَا، ولم يَقُلْ: (فَزِلْنا بينَهم)؛ إرادةَ تَكثيرِ الفعلِ، وتكريرِه .

2- قولُه تعالى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، تذييلٌ وفَذْلَكةٌ للجُمَلِ السَّابقةِ، مِن قولِه: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ [يونس: 25] إلى هنا .

- وقدَّم الظَّرفَ هُنَالِكَ؛ للاهتمامِ به؛ لأنَّه الغرضُ الأهَمُّ مِن الكلامِ؛ لعِظَمِ ما يقَعُ فيه .

- وقولُه: تَبْلُو أي: تَختبِرُ، وهو هنا كنايةٌ عن التَّحقُّقِ وعِلمِ اليقينِ .

- وفي قولِه: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، جُعل الضَّميرُ في رُدُّوا للنُّفوسِ المدلولِ عليها بـ كُلُّ نَفْسٍ على أنَّه معطوفٌ على تَبْلُو، وعُدِل إلى الماضي؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ والتَّقرُّرِ، وإيثارُ صيغةِ الجمعِ؛ للإيذانِ بأنَّ ردَّهم إلى اللهِ يكونُ على طريقةِ الاجتماعِ، لا يُلائِمُه التَّعرُّضُ لوصفِ الحقِّيَّةِ في قولِه تعالى: مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ؛ فإنه للتَّعريضِ بالمردودينَ؛ فقولُه عز وجل: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ممَّا لا مجالَ فيه للتَّدارُكِ قطعًا؛ فإنَّ ما فيهِ من الضَّمائرِ الثَّلاثةِ للمُشرِكين، فيَلزَمُ التَّفكيكُ حتمًا، وتخصيصُ كُلُّ نَفْسٍ بالنُّفوسِ المشرِكةِ مع عُمومِ البلوى للكلِّ يأباه مَقامُ تَهويلِ المقامِ

===========

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (31-33)

ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ

غريب الكلمات:

 

حَقَّتْ: أي: وجَبَتْ وثبَتَتْ؛ يُقال مِنه: حقَّ على فُلانٍ كذا، يَحِقُّ عليه: إذا ثبَت ذلك عليه ووجَبَ، وأصلُ (حقَّ): يدلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يسألَ المُشرِكينَ: مَن الذي يرزُقُكم من السَّماءِ والأرضِ، أمْ مَن يملِكُ السَّمعَ والأبصارَ، ومن يُخرِجُ الشَّيءَ الحيَّ من الشيءِ الميِّتِ بقُدرتِه العظيمةِ، ويُخرِجُ الشَّيءَ الميِّتَ من الشَّيءِ الحيِّ، ومن يدبِّرُ أمرَ جَميعِ الخلائقِ، ويتصَرَّفُ في السَّماءِ والأرضِ بما شاء، فسيقولُ المُشرِكونَ: اللهُ وَحدَه من يفعَلُ ذلك، فقُل لهم يا محمَّدُ: أفلا تتَّقونَه، وتخافونَ عِقابَه؟!

فذلكم اللهُ الذي يفعَلُ كُلَّ ذلك، هو المستحِقُّ للعبادةِ وَحدَه، وهو ربُّكم الحقُّ الذي لا شَكَّ فيه، فأيُّ شَيءٍ غيرِ الحَقِّ إلا الضَّلالُ، فأنَّى تُصرفونَ؟!

ثم بيَّنَ تعالى أنَّه كما صُرِفَ المُشرِكونَ عن الحقِّ، واستَمَرُّوا على شِركِهم، كذلك حقَّت كلمةُ اللهِ على الذين فَسَقوا أنَّهم لا يُؤمِنونَ.

تفسير الآيات:

 

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى فضائِحَ عَبَدةِ الأوثانِ؛ أتبَعَها بذِكرِ الدَّلائلِ على فسادِ مَذهَبِهم بما يوبِّخُهم، ويَحُجُّهم بما لا يُمكِنُ إلَّا الاعترافُ به من حالِ رِزقِهم وحواسِّهم، وإظهارِ القُدرةِ الباهرةِ في الموتِ والحياةِ

.

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ.

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: مَن الذي يرزُقُكم من السَّماءِ مياهَ الأمطارِ، ويَرزُقُكم من الأرضِ أنواعًا من الحبوبِ والثِّمارِ والبُقولِ والمعادِنِ ؟!

كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [إبراهيم: 32] .

وقال سبحانه: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس: 24 - 32] .

أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ.

أي: أم مَن الذي يملِكُ سَمعَكم وأبصارَكم، ولو شاء لسَلَبَكم إيَّاها ؟!

كما قال تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الملك: 23] .

وقال سُبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ [الأنعام: 46] .

وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ.

أي: ومَنْ يُخرِجُ الشَّيءَ الحَيَّ مِن الشَّيءِ الميِّتِ بقُدرتِه العظيمةِ، فيُخرجُ الإنسانَ الحيَّ والأنعامَ والبهائمَ الأحياءَ من النُّطَف الميِّتةِ، ويُخرِجُ الزَّرعَ من الحَبَّةِ، والنَّخلةَ من النَّواةِ، والدَّجاجةَ مِن البيضةِ، والمؤمنَ من الكافِر، إلى غيرِ ذلك ؟!

وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ.

أي: ومَنْ يُخرِجُ الشَّيءَ الميِّتَ مِن الشَّيءِ الحَيِّ بقُدرتِه العظيمةِ، فيُخرجُ النُّطفةَ الميِّتةَ مِن الإنسانِ الحيِّ والأنعامِ والبهائمِ الأحياءِ، ويُخرجُ الحَبَّةَ من الزَّرع، والنَّواةَ من النَّخلةِ، والبيضةَ من الدَّجاجةِ، والكافرَ من المؤمِن، إلى غيرِ ذلك ؟!

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام: 95] .

وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ.

أي: ومَنْ يُقدِّر أمرَ جَميعِ الخلائِقِ، ويتصَرَّفُ في السَّماءِ والأرضِ بما يشاء ؟!

كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] .

وقال عزَّ وجلَّ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة: 5] .

فَسَيَقُولُونَ اللّهُ.

أي: فسيقولُ المُشرِكونَ: الله وَحدَه هو الذي يرزُقُنا من السَّماءِ والأرضِ، ويَملِكُ السَّمعَ والأبصارَ، ويُخرِجُ الحَيَّ من الميِّتِ، ويُخرِجُ الميِّتَ مِن الحيِّ، ويُدَبِّرُ الأمرَ .

فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ.

أي: فقُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ: أفلا تتَّقونَ الله، وتخافونَ عِقابَه على إصرارِكم على الشِّركِ، فتُخلِصون له العبادةَ؟! فأنتم مُقِرُّونَ أنَّه خالِقُكم ورازِقُكم، ومدبِّرُ أمورِكم .

كما قال تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [المؤمنون: 86 - 87] .

فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32).

فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ.

أي: فهذا الذي يفعَلُ هذه الأفعالَ؛ فَيرزُقُكم من السَّماءِ والأرضِ، ويَملِكُ السَّمعَ والأبصارَ، ويُخرِجُ الحَيَّ مِنَ الميِّتِ، ويُخرِجُ الميِّتَ مِن الحَيِّ، ويُدَبِّرُ الأمرَ؛ هو المستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه دونَ ما سواه، وهو ربُّكم الحَقُّ الذي لا شَكَّ فيه .

كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62] .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، ((أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ إذا قام إلى الصلاةِ مِن جَوفِ اللَّيلِ: اللهمَّ لك الحمدُ، أنت نورُ السَّموات والأرضِ، ولك الحَمدُ، أنت قيَّامُ السَّمواتِ والأرضِ، ولك الحمدُ، أنت ربُّ السَّمواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ، أنت الحقُّ، ووَعدُك الحَقُّ، وقَولُك الحَقُّ، ولِقاؤك حَقٌّ، والجنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، والسَّاعةُ حَقٌّ، اللهمَّ لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكَّلتُ، وإليك أنَبْتُ، وبك خاصَمتُ، وإليك حاكَمتُ، فاغفِرْ لي ما قدَّمتُ وأخَّرتُ، وأسرَرتُ وأعلَنتُ، أنت إلهي، لا إلهَ إلَّا أنت )) .

فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ.

أي: فأيُّ شَيءٍ غيرِ الحقِّ إلَّا الضَّلالُ؟! فلا واسطةَ بين الحَقِّ والباطِلِ، فمن عبدَ غَيرَ اللهِ المستَحِقِّ وَحدَه للعبادةِ، فقد ضلَّ .

فَأَنَّى تُصْرَفُونَ.

أي: فكيف يَقَعُ صَرفُكم بعدَ وضوحِ الحقِّ، فتَعدِلونَ عن عبادةِ الله إلى عبادةِ ما سواه، وأنتم تعلمونَ أنَّ الله وَحْدَه هو المتفرِّدُ بالخَلقِ والتَّدبيرِ ؟!

كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33).

أي: كما صُرِف المُشرِكونَ عَن الحقِّ، واستمرُّوا على شِركِهم، كذلك وجب قضاءُ الله وحُكمُه السَّابِقُ الصادر عن عِلمِه، على الذين خَرَجوا عن الحقِّ إلى الباطِلِ، بأنَّهم لا يُؤمنونَ، وأنَّهم مُعَذَّبونَ

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .

وقال سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر: 71] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قولِه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لم يقتصِرْ برزقِ الناسِ على جهةٍ واحدةٍ؛ ليُفيضَ عليهم نعمتَه، ويوسِّعَ رحمتَه

.

2- قَولُ الله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ يدلُّ على أنَّ المُخاطَبينَ بهذا الكلامِ كانوا يَعرِفونَ اللهَ تعالى، ويُقِرُّونَ به، وهم الذين قالوا في عبادَتِهم للأصنامِ: (إنَّها تقَرِّبُنا إلى الله زُلفى، وإنَّهم شفعاؤنا عند الله)، وكانوا يعلمونَ أنَّ هذه الأصنامَ لا تنفَعُ ولا تضُرُّ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ فيه تقريرُ أنَّ التَّوحيدَ لا يصِحُّ مع الفَصلِ بين الربوبيَّةِ والألوهيَّة، كما كانوا يفعلونَ، فيقرُّونَ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ دونَ توحيدِ الألوهيَّةِ .

4- في قَولِه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ بيانُ أنَّ المُشرِكينَ لم يكونوا يُسَوُّونَ بين آلِهَتِهم وبين اللهِ في كُلِّ شَيءٍ، بل كانوا يؤمِنونَ بأنَّ اللهَ هو الخالقُ المالِكُ لهم، وهم مخلوقونَ مَملوكونَ له، ولكنْ كانوا يُسَوُّونَ بينه وبينها في المحبَّةِ والتَّعظيمِ، والدُّعاءِ والعبادةِ والنَّذرِ لها، ونحوِ ذلكِ مما يُخَصُّ به الرَّبُّ سُبحانَه .

5- التَّدبيرُ يُضافُ إلى اللهِ تارةً؛ وإلى الملائكةِ تارةً، فيُضافُ إلى الله تعالى أمرًا وإذنًا ومَشيئةً، كقولِه تعالى عن نَفسِه: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، ويُضافُ إلى الملائكةِ تارةً أخرى؛ لِكَونِهم هم المباشِرينَ والمُمتَثلينَ للتَّدبيرِ، قال تعالى: فَالمُدَبِّراتِ أَمْرًا [النازعات: 5] ، وهذا كما أضاف التوفِّيَ إليهم تارةً، كقوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا [الأنعام: 61] ؛ وإليه تارةً، كقوله تعالى: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: 42] .

6- قول الله تعالى: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عبَّرَ عن الباطِلِ بالضَّلالِ؛ لأنَّ الضَّلالَ أشنَعُ أنواعِ الباطلِ .

7- في قَولِه تعالى: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ بيانُ أنَّ مَن عَبَدَ غيرَ اللهِ، فما عَبَدَ إلَّا الضلالَ المحضَ، والباطلَ البَحتَ ، فاللهُ تعالى هو الإلهُ الذي يُعبَدُ بحَقٍّ، وعبادَتُه وَحْدَه هي الهُدى، فما سواها من عبادةِ الشُّركاءِ والوُسَطاءِ ضَلالٌ، فكُلُّ مَن يَعبُدُ غَيرَه معه، فهو مُشرِكٌ مُبطِلٌ ضالٌّ .

8- قَولُ الله تعالى: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ فيه مِن قواعِدِ العقائِدِ الدينيَّةِ، وأصولِ التَّشريعِ والعِلمِ، أنَّ الحَقَّ والباطِلَ ضِدَّانِ لا يَجتَمِعانِ، وأنَّ الهُدى والضَّلالَ ضِدَّانِ لا يجتَمِعانِ، ولهذا الأصلِ فروعٌ كثيرةٌ في الدِّينِ والعِلمِ العَقليِّ .

9- الكلامُ المذكورُ في قوله تعالى: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ هو الكلامُ الكونيُّ، ويقابلُه: الكلامُ الدينيُّ- وهو الذي يأمُرُ به ويَنهى- كما في قولِه تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ

 

[التوبة: 6] .

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ

- قولُه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ استفهامٌ تقريريٌّ، وجاء الاستدلالُ بطريقِ الاستفهامِ والجوابِ؛ لأنَّ ذلك في صورةِ الحوارِ، فيكون الدَّليلُ الحاصلُ به أوقَعَ في نُفوسِ السَّامِعين

.

- وفي قولِه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هنا: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.... فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، وفي سورةِ سبَأٍ قال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [سبأ: 24] ، فأفرَد لفْظَ السَّماءِ في الأولى، وجمَعه في الثَّانيةِ مع اتِّحادِ المعنى، والتَّساوي في ألفاظِ الآيتَينِ غير ما ذُكِر، وقال في يونُسَ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ وقال في سبأٍ قُلِ اللَّهُ ووجهُ ذلك: أنَّ الآياتِ التي في يونُسَ سِيقَت مَساقِ الاحتجاجِ عليهم بما أقَرُّوا به ولم يُمكِنْهم إنكارُه، مِن كَونِ الرَّبِّ تعالى هو رازِقَهم ومالِكَ أسماعِهم وأبصارِهم ومُدَبِّرَ أمورِهم وغيرِها، ومُخرِجَ الحَيِّ مِن المَيِّتِ، والمَيِّتِ مِن الحيِّ، فلمَّا كانوا مقِرِّينَ بهذا كُلِّه، حَسُنَ الاحتجاجُ به عليهم أنَّ فاعِلَ هذا هو اللهُ الذي لا إلهَ غَيرُه، فكيف يعبُدونَ معه غيرَه، ويجعلونَ له شُرَكاءَ لا يَملِكونَ شَيئًا من هذا، ولا يستطيعونَ فِعلَ شَيءٍ منه؟! ولهذا قال- بعد أن ذكَرَ ذلك مِن شأنِه تعالى: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ أي: لا بُدَّ أنَّهم يُقِرُّونَ بذلك ولا يَجحَدونَه، فلا بدَّ أن يكونَ المذكورُ ممَّا يُقِرُّونَ به، والمُخاطَبونَ المحتَجُّ عليهم بهذه الآيةِ إنَّما كانوا مُقرِّينَ بنُزولِ الرِّزقِ مِن قِبَلِ هذه السَّماءِ التي يشاهِدونَها بالحِسِّ، ولم يكونوا مقِرِّينَ ولا عالِمينَ بنُزولِ الرِّزقِ مِن سَماءٍ إلى سماءٍ حتى تنتهيَ إليهم، ولم يصِلْ عِلمُهم إلى هذا، فأُفرِدَ لفظُ السَّماءِ هنا؛ فإنَّه لا يمكِنُهم إنكارُ مَجيءِ الرِّزقِ منها، لا سيَّما والرِّزقُ هاهنا إن كان هو المطرَ، فمجيئُه من السَّماءِ التي هي السَّحابُ؛ فإنَّه يُسمَّى سَماءً لعُلُوِّه، فلمَّا انتظمَ هذا بذِكرِ الاحتجاجِ عليهم، لم يصلُحْ فيه إلَّا إفرادُ السَّماءِ؛ لأنَّهم لا يُقِرُّونَ بما ينزِلُ من فوقِ ذلك من الأرزاقِ العظيمةِ للقُلوبِ والأرواحِ، ولا بُدَّ من الوحيِ الذي به الحياةُ الحقيقيَّةُ الأبديَّةُ، وهو أَولى باسمِ الرِّزقِ مِن المطَرِ الذي به الحياةُ الفانيةُ المنقَضِيةُ، فما يَنزِلُ من فوقِ ذلك مِن الوحيِ والرَّحمةِ والألطافِ والمواردِ الربَّانيَّة والتنَزُّلاتِ الإلهيَّة، وما به قِوامُ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ- مِن أعظَمِ أنواعِ الرِّزقِ، ولكِنَّ القَومَ لم يكونوا مقِرِّينَ به فخُوطِبوا بما هو أقرَبُ الأشياءِ إليهم، بحيث لا يُمكِنُهم إنكارُه.

وأمَّا الآيةُ التي في سورة سبأ فلم يَنتظِمْ بها ذِكرُ إقرارِهم بما يَنزِلُ مِن السَّمواتِ؛ ولهذا أمَرَ رسولَه بأن يتولَّى الجوابَ فيها، ولم يذكُرْ عنهم أنَّهم المُجيبونَ المُقِرُّونَ، فقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ولم يقُل: (سَيقُولونَ اللهُ) فأمرَ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُجيبَ بأنَّ ذلك هو اللهُ وَحدَه الذي يُنزِلُ رِزقَه على اختلافِ أنواعِه ومنافِعِه من السَّمواتِ السَّبعِ، وأمَّا الأرضُ فلم يَدْعُ السِّياقُ إلى جَمعِها في واحدةٍ مِن الاثنتَينِ؛ إذ يُقِرُّ به كُلُّ أحدٍ؛ مُؤمِنٍ وكافرٍ، وبَرٍّ وفاجرٍ .

وقيل: إنَّ الإفرادَ الوارِدَ في آيةِ يونُسَ مُحصِّلٌ للمعنى مع الإيجازِ، وأمَّا الواردُ في سورةِ سبَأٍ على الجمعِ فرُوعِيَ فيه ما تقَدَّم مِن قولِه تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ: 22] ، والمرادُ بذلك: نَفْيُ الشُّرَكاءِ له تعالى، ثمَّ عاد الكلام إلى ذلك أيضًا، فقال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ على الجمعِ مُناسَبةً؛ إذِ الآيةُ قبلَ هذه في قضيَّةٍ واحدةٍ، وهي نفيُ الشُّركاءِ والأندادِ، فجاءت على ما يُناسِبُ الَّتي قبلَها .

- قولُه تعالى: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ فيه إفرادُ السَّمعِ؛ لأنَّه مصدَرٌ فهو دالٌّ على الجنسِ الموجودِ في جميعِ حواسِّ النَّاسِ، وأمَّا الأبصارُ فجيءَ به جمعًا؛ لأنَّه اسمٌ، فهو ليس نصًّا في إفادةِ العمومِ؛ لاحتمالِ توَهُّمِ بصَرٍ مخصوصٍ، فكان الجمعُ أدَلَّ على قصدِ العمومِ، وأنفى لاحتمالِ العهدِ . وقيل: وحَّدَ السَّمعَ؛ لأنَّ إدراكَه لِجنسٍ واحدٍ هو الأصواتُ، وجمع البَصرَ لِتَعدُّدِ أجناسِ المُبصَراتِ ، وأفرَد البصرَ في سورةِ الإسراءِ، في قولِه: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء: 36] ؛ لأنَّ المرادَ الواحدُ لكلِّ مخاطَبٍ بقولِه: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] .

- وخَصَّ هاتين الحاسَّتينِ بالذِّكرِ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ؛ لأنَّ عليهما مدارَ الحياةِ الحيوانيَّة، وكمالَ البَشَريَّة، وتحصيلَ العلومِ الأوَّلية . وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّه خَصَّهما بالذِّكرِ مِن بابِ التَّنبيهِ على المفضولِ بالفاضِلِ، ولكمالِ شَرَفِهما ونَفْعِهما ، ولما فيهما مِن الصنعةِ العجيبةِ، والقدرةِ الباهرةِ العظيمةِ .

- قولُه: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ: فيه الإتيانُ بالعُمومِ بعدَ الخُصوصِ ، فلَمَّا ذكَرَ تعالى التَّفصيلَ في قوله: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ؛ ذكَرَ بعده كلامًا كليًّا، وهو قَولُه: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؛ وذلك لأنَّ أقسامَ تَدبيرِ اللهِ تعالى في العالَمِ العُلويِّ، وفي العالَم السُّفليِّ، وفي عالَمَي الأرواحِ والأجسادِ، أمورٌ لا نهايةَ لها، وذِكرُ كُلِّها كالمتعَذِّر، فلمَّا ذكَرَ بعضَ تلك التفاصيلِ؛ لا جرَمَ عَقَّبَها بالكلامِ الكُليِّ؛ لِيدُلَّ على الباقي ، وإيثارُ صيغةِ المضارِعِ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ التَّدبيرِ واستمرارِه .

2- قولُه تعالى: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ

- قولُه: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ فَذْلَكةٌ لِما تقدَّم، أي: ذلكم الذي اعترَفتُم باتِّصافِه بالنُّعوتِ المذكورةِ هو اللهُ، واسمُ الإشارةِ عائدٌ إلى اسمِ الجلالةِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المشارَ إليه جَديرٌ بالحُكمِ الَّذي سيُذكَرُ بعدَ اسْمِ الإشارةِ، من أجْلِ الأوصافِ المتقدِّمةِ على اسمِ الإشارةِ، وهي كونُه الرَّازِقَ، الواهبَ الإدراكِ، الخالِقَ، المدبِّرَ؛ لأنَّ اسْمَ الإشارةِ قد جمَعها .

- قولُه: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ الاستفهامُ هنا إنكاريٌّ في معنى النَّفيِ، أي: إنكارُ الواقعِ ونَفيُه واستبعادُه؛ ولذلك وقَع بعدَه الاستثناءُ في قولِه: إِلَّا الضَّلَالُ؛ فلذلك دخلَت (إلَّا)، وصَحِبَه التَّقريرُ والتَّوبيخُ، والتَّقديرُ: ليس بَعْدَ الحقِّ إلَّا الضَّلالُ، فمَن تَخطَّى الحقَّ الَّذي هو عبادةُ اللهِ تعالى وقَعَ في الضَّلالِ، وفيه مِن المبالَغةِ ما ليس في توجيهِ الإنكارِ إلى نفْسِ الفِعلِ؛ لأنَّ كلَّ موجودٍ لا بدَّ مِن أن يَكونَ وُجودُه على حالٍ مِن الأحوالِ قَطعًا، فإذا انتَفى جميعُ أحوالِ وُجودِه، فقد انتَفى وجودُه، والضَّلالُ هو الباطلُ الضَّائعُ المضمَحِلُّ؛ وإنَّما سُمِّي بالمصدَرِ مُبالَغةً، كأنَّه نفْسُ الضَّلالِ والضَّياعِ .

- وقولُه: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ استفهامٌ إنكاريٌّ، بمعنى إنكارِ الواقعِ واستبعادِه، والتَّعجُّبِ منه .

- وفي إيثارِ صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ تُصْرَفُونَ إيذانٌ بأنَّ الانصِرافَ مِن الحقِّ إلى الضَّلالِ ممَّا لا يَصدُرُ عن العاقلِ بإرادتِه، وإنَّما يقَعُ عندَ وُقوعِه مِن جهةِ صارِفٍ خارجيٍّ .

- قولُه: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ تذييلٌ للتَّعجُّبِ مِنِ استِمْرارِهم على الكفرِ بعدَما ظهَر لهم مِن الحُجَجِ والآياتِ، وتَأْييسٌ مِن إيمانِهم، بإفادةِ أنَّ انتِفاءَ الإيمانِ عنهم بتقديرٍ مِن اللهِ تعالى عليهم؛ فقد ظهَر وُقوعُ ما قدَّره مِن كلمتِه في الأزَلِ .

- وفي قولِه تعالى: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، بينَما قال في سورةِ غافِرٍ: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر: 6] ، ففي الأولى قال: كَذَلِكَ، وفي سورةِ غافرٍ قال: وَكَذَلِكَ بالواوِ، وقال في الأولى: عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا، وفي الثَّانيةِ: عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وقال في الأولى: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونُ، وفي الثَّانيةِ: أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ؛ ووجهُ تركِ الواوِ في هذا الموضعِ كَذَلِكَ وإثباتِها في سورةِ غافرٍ وَكَذَلِكَ: أنَّ القصَّةَ بعد كَذَلِكَ هي الَّتي قَبْلَها؛ فهي مرتبطةٌ بها بِعَودِها إليها، وبكافِ التَّشبيهِ؛ فاستغنَت بهذين الرَّابِطَينِ عن حرفِ العطفِ، وهؤلاء الَّذين حقَّت عليهم كلمةُ اللهِ أنَّهم لا يُؤمنون، هم الَّذين خُوطبوا بقولِه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وليس كذلك ما في سورةِ غافرٍ؛ لأنَّه وإن تَعلَّق به بكافِ التَّشبيهِ فإنَّه يَنقَطِعُ عنه بأنَّ المذكورين بعدَ كَذَلِكَ غيرُ المذكورين قبلَها؛ فقولُه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ [غافر: 5] خبرٌ عن الَّذين كانوا قبلَ النَّبيِّ، وما بعدَه مِن قولِه: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ إنَّما هو وعيدٌ لِمَن هو في عصرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فلمَّا انقطَع ما بعدَ (كَذَلِكَ) عمَّا قبلَها احتاج إلى الواوِ، وما في سورةِ يونُسَ لَمَّا لم ينقَطِعْ ما بعدَها عمَّا قبلَها، لم يحتَجْ إليها.

ووجهُ اختصاصِ ما في سورةِ يونُسِ بقولِه: عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا، واختصاصُ ما فيِ سورةٍ غافر بقولِه: عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا؛ فلأنَّ الأوَّلَ في ذِكرِ قومٍ أخبَر عنهم بقولِه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [يونس: 31] ، فأخَذ إقرارَهم بأنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي يَرزُقُهم مِن مطرِ السَّماءِ، ونباتِ الأرضِ، وهو الَّذي يَملِكُ أسماعَهم وأبصارَهم، وهو الَّذي يُخرِجُ الحيَّ مِن الميِّتِ، وأنَّه هو الَّذي يُدبِّرُ أمورَ الخلقِ مِن ابتداءِ أحوالِهم إلى انتهاِئها، وكانوا ممَّن أخبَر اللهُ تعالى عنهم بقولِه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، فبايَنوا بإثباتِ الخالقِ وما زعَموه مِن معرفةِ الخالقِ، وقد أنكَروه وجحَدوا بآياتِه، وفسَقوا- بأنْ عبَدوا معه غيرَه ولم يُثبِتوا النَّبيَّ ونُبوَّتَه- الفسْقَ الَّذي هو كفرٌ، لا يَنفَعُ معه الإقرارُ الأوَّلُ، فقال تعالى: هَؤُلَاءِ الَّذين أقَرُّوا بالخالقِ وصفاتِ فِعلِه، ثمَّ خرَجوا عمَّا دخَلوا فيه بإنكارِ نُبوَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبعبادةِ آلهةٍ مع اللهِ تعالى، كان ذلك فسقًا؛ لخُروجِهم عن حُكمِ مَن يُقِرُّ بما أقَرُّوا به، والفسقُ فسقان: كفرٌ، وفسقٌ ليس بكفرٍ؛ فأخبَر عن هؤلاء بـ الَّذِينَ فَسَقُوا في سورةِ يونُسَ لذلك.

وأمَّا في سورةِ غافرٍ فإنَّه لم يتَقدَّمْه مثلُ ما تقدَّم هنا، بل قال تعالى قبلَه: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [غافر: 4-5] ؛ فأخبَر عن الكفَّارِ الَّذين في عصرِه بأنَّهم كفَروا بمُجادَلتِهم في آياتِ اللهِ، فشبَّههم بالقومِ الَّذين مضَوْا قبلَهم؛ حيث قال: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، ثمَّ قال تعالى: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، فلمَّا أراد الَّذين قدَّم ذِكرَهم مِن أوَّلِ القصَّةِ، كان وصفُهم بما وصَفَهم به قبلُ مِن الكفرِ أولى وأدَلَّ على أنَّ المعنَيَين بوجوبِ النَّارِ لهم.

ووجهُ مُناسبةِ قولِه تعالى هنا في سورةِ يونُسَ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وقولُه في سورةِ غافرٍ: أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر: 6] : أنَّه تعالى أراد أن يُبيِّنَ في سورةِ يونُسَ أنَّهم- وإن أقَرُّوا باللهِ تعالى، وأثبَتوه خالِقًا قادِرًا- غيرُ مؤمنين، وما داموا يَعبُدون غيرَه لا يُؤمِنون؛ فالقصدُ إلى إبطالِ ما بذَلوه بألسِنَتِهم من الإقرارِ بخالقِهم، والمرادُ في آيةِ غافرٍ توَعُّدُهم على كُفرِهم بالنَّارِ؛ إذ لم يتَقدَّمْ ذِكرُ إقرارٍ يُشبِهُ إقرارَ المؤمنين، فيَبطُلُ بتَركِهِم سائرَ ما أمر اللهُ تعالى به؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ السِّياقَ .

=======

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (34-36)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ

غريب الكلمات:

 

تُؤْفَكُونَ: أي: تُصرَفون عن الحقِّ، وتُصَدُّون عن الصوابِ، وتَعْدلونَ، يُقالُ: أفَكَ الرجلُ عن كذا: إذا عدَل عنه، والإفْكُ: كلُّ مصروفٍ عن وجهِه الذي يحقُّ أن يكونَ عليه، وأصلُ (أفك): قلبُ الشيءِ، وصرفُه عن جهتِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ نَبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ للمُشرِكينَ: هل مِن آلهتِكم- الذين زعَمتُم أنَّهم شُرَكاءُ لله في العبادةِ- مَن يَبتَدِئُ خلقَ أيِّ شَيءٍ، ثمَّ إذا مات يُعيدُه مَرَّةً أُخرَى؟ ثم يأمرُه أن يجيبَهم قائلًا: اللهُ وَحدَه يبدأُ الخَلقَ ثُمَّ يعيدُه، فكيف تُصرَفونَ عن اتِّباعِ الحقِّ إلى الباطلِ؟!

ويأمُرُه تعالى أن يقولَ لهم: هل من آلهتِكم- الذين زعمتُم أنَّهم شُرَكاءُ للهِ في العبادةِ- مَن يهدي إلى الحَقِّ، وأن يجيبَهم بقولِه: اللهُ وَحدَه مَن يَهدِي إلى الحَقِّ، آللَّهُ الذي يهدي إلى الحَقِّ أحَقُّ أن يُطاعَ، أم شُرَكاؤُهم الذين لا يَهتَدونَ، ولا يَهدُونَ إلَّا أن يهدِيَهم غيرُهم؟! فما لكم- أيُّها المُشرِكونَ- كيف تحكمونَ؟

ويُبَيِّنُ الله تعالى أنَّه ما يتَّبِعُ أكثرُ هؤلاء المُشرِكينَ في إشراكِهم باللهِ تعالى إلَّا مُجَرَّدَ ظَنٍّ ضعيفٍ، مِن غَيرِ يَقينٍ، وهو لا يُغني من اليقينِ شَيئًا، إنَّ اللهَ عليمٌ بما يَفعلونَ.

تفسير الآيات:

 

قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا استفْهَم الكافرينَ عن أشياءَ مِن صِفاتِ اللهِ تعالى واعتَرَفوا بها، ثمَّ أنكَرَ عليهم صَرْفَهم عن الحَقِّ وعبادةِ اللهِ، استَفْهَم عن شيءٍ هو سبَبُ العبادةِ، وهو إبداءُ الخَلقِ، وهم يُسَلِّمونَ ذلك: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ثمَّ أعاد الخَلقَ وهم مُنكِرونَ ذلك، لكِنَّه عَطَفَه على ما يُسَلِّمونَه؛ لِيُعلَمَ أنَّهما سواءٌ بالنِّسبةِ إلى قُدرةِ الله تعالى، وأنَّ ذلك لِوضوحِه وقيامِ بُرهانِه، قُرِنَ بما يُسلِّمونَه؛ إذْ لا يدفَعُه إلَّا مكابِرٌ، إذ هو من الواضحاتِ التي لا يختَلِفُ في إمكانِها العُقَلاءُ

.

وأيضًا بعدَ أن أقام عليهم الدليلَ على انفرادِ الله تعالى بالرزقِ، وخلقِ الحواسِّ، وخلقِ الأجناسِ، وتدبيرِ جميعِ الأمورِ، وأنَّه المستحقُّ للإلهيةِ بسببِ ذلك الانفرادِ؛ بيَّن هنا أنَّ آلهتَهم مسلوبةٌ مِن صفاتِ الكمالِ، وأنَّ اللهَ متَّصفٌ بها، فقال تعالى :

قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: هل من آلهَتِكم- التي زَعَمتُم أنَّها شُرَكاءُ لله في العبادةِ- مَن يبتدِئُ خَلقَ أيِّ شَيءٍ مِن العَدَمِ، ثمَّ إذا مات يُعيدُه إلى الحياةِ مَرَّةً أخرى ؟!

قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: اللهُ وَحدَه هو الذي يَبتَدِئُ خَلقَ كُلِّ شَيءٍ مِن العدَمِ، ثمَّ يُعيدُه بعد مَوتِه متى شاء مِن غَيرِ مُعاوِنٍ ولا شريكٍ .

كما قال تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يونس: 4] .

وقال سبحانه: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت: 20] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] .

فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.

أي: فكيف تُصرَفونَ وتُقلَبونَ عن اتِّباعِ الحَقِّ إلى الباطِلِ ؟!

قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ عَجزَ أصنامِ الكافرينَ عن الإبداءِ والإعادةِ- اللَّذينِ هما من أقوى أسبابِ القُدرةِ، وأعظَمِ دَلائِلِ الألوهيَّةِ- بَيَّنَ عَجزَهم عن هذا النَّوعِ مِن صفاتِ الإلهِ، وهو الهِدايةُ إلى الحَقِّ، وإلى مناهِجِ الصَّوابِ .

قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: هل مِنْ آلهتِكم مَنْ يُرشِدُ الضَّالَّ، ويُوفِّقُه إلى مَعرفةِ الحَقِّ واتِّباعِه ؟!

قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ.

مناسبتُها لما قبلَها:

لَمَّا كان الكافِرونَ مُعتَقدينَ أنَّ شُركاءَهم تهدي إلى الحَقِّ، ولا يُسَلِّمونَ حَصرَ الهدايةِ لله تعالى، أمَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يبادِرَ بالجوابِ، فقال :

قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: اللهُ وَحدَه هو الذي يُرشِدُ ويُوفِّقُ مَن يَشاءُ إلى مَعرفةِ الحَقِّ واتِّباعِه .

كما قال تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213] .

وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه، عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاةِ قال: وجَّهتُ وجهيَ للَّذي فطر السَّمواتِ والأرضَ حَنيفًا، وما أنا من المُشرِكينَ، إنَّ صلاتي ونسكي ومحيايَ ومماتي للَّه رَبِّ العالمينَ، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرتُ وأنا من المُسلِمينَ، اللهمَّ أنت المَلِكُ لا إله إلا أنت، أنت ربِّي، وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي، واعتَرَفتُ بذنبي، فاغفِرْ لي ذنوبي جميعًا؛ إنَّه لا يغفِرُ الذُّنوبَ إلا أنت، واهدِني لأحسَنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسَنِها إلَّا أنت، واصرِفْ عني سَيِّئَها لا يَصرِفُ عني سَيِّئَها إلا أنت...)) .

وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما، أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ قُلوبَ بني آدَمَ كُلَّها بين إصبَعَينِ مِن أصابعِ الرَّحمنِ كقلبٍ واحدٍ، يُصَرِّفُه حيث يشاءُ. ثم قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللهمَّ مُصَرِّفَ القُلوبِ، صَرِّفْ قلوبَنا على طاعَتِك )) .

أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى.

أي: آللهُ الذي يهدي إلى الحَقِّ أحقُّ أن يُطاعَ ويُعبَدَ، أم شُركاؤُهم الذين لا يَهتَدونَ بأنفُسِهم، ولا يَهدُونَ مَن يَعبُدُهم، إلَّا أن يهدِيَهم غيرُهم ؟!

فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.

أي: فما بالُكم- أيُّها المُشرِكونَ- تَعبُدونَ المخلوقَ العاجِزَ، وتترُكونَ عبادةَ الخالقِ الذي يَهدِيكم؟! كيف تحكمونَ بالباطلِ فتُساوونَ بين الله وبين خَلْقِه في العبادةِ ؟!

وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

بَعدَ أن أمَرَ اللهُ رَسولَه بأن يَحُجَّهم فيما جَعلوهم آلهةً، وهي لا تَصَرُّفَ ولا تدبيرَ ولا هدايةَ لها؛ أعقب ذلك بأنَّ عِبادتَهم إيَّاها اتِّباعٌ لظَنٍّ باطلٍ .

وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا.

أي: وما يتَّبِعُ أكثَرُ هؤلاء المُشرِكينَ في إشراكِهم باللهِ إلَّا مُجَرَّدَ ظَنٍّ ضعيفٍ واهٍ، من غيرِ يقينٍ ولا دليلٍ على صِحَّةِ إشراكِهم بالله عزَّ وجلَّ .

إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا.

أي: إنَّ الظَّنَّ لا يُوصِلُ إلى الحَقِّ، ولا يُنتفَعُ به في شيءٍ يَحتاجُ إلى اليقينِ .

إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ.

أي: إنَّ اللهَ ذو علمٍ بما يفعَلُ المُشرِكونَ، وسيُجازيهم على ذلك

 

.

الفوائد التربوية:

 

ينبغي أن يكونَ غَرَضُ المُسلِمِ مِن حياتِه تزكيةَ نَفسِه، وتَكميلَها باتِّباعِ الحَقِّ في كلِّ اعتقادٍ، والهدى- وهو الصَّلاحُ- في كُلِّ عَملٍ، وبناؤُهما على أساسِ العِلمِ دونَ الظَّنِّ وما دونَه من الخَرْصِ والوَهم؛ يُرشِدُ إلى ذلك قولُ الله تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ الفائدةُ في ذِكرِ هذه الحُجَّةِ على سبيلِ السُّؤالِ والاستفهامِ؛ أنَّ الكلامَ إذا كان ظاهِرًا جَليًّا، ثمَّ ذُكِرَ على سبيلِ الاستفهامِ، وتَفويضِ الجوابِ إلى المَسؤول، كان ذلك أبلَغَ وأوقَعَ في القَلبِ

.

2- قال الله تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ هم لا يَقدِرونَ على دعوى ذلك لِمَعبوداتِهم، وفي ذلك الحُجَّةُ القاطعةُ والدَّلالةُ الواضِحةُ على أنَّهم في دعواهم أنَّها أربابٌ، وشُرَكاءُ لله في العبادةِ- كاذِبونَ مُفتَرونَ، وهذا توقيفٌ على قصورِ الأصنامِ وعَجزِها، وتنبيهٌ على قدرةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ .

3- قولُه تعالى: قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ الآية، احتجاجٌ على الكفَّارِ، فإنْ قِيل: كيفَ يحتجُّ عليهم بإعادةِ الخلقِ، وهم لا يعترفون بها؟ فالجوابُ: أنَّهم معترفونَ أنَّ شركاءَهم لا يقدرونَ على الابتداءِ ولا على الإعادةِ، وفي ذلك إبطالٌ لربوبيتِهم، وأيضًا فوُضِعتِ الإعادةُ موضعَ المتفقِ عليه؛ لظهورِ برهانِها .

4- قَولُ الله تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فيه سؤال: لِمَ أمَرَ رَسولَه بأن يَعتَرفَ بذلك، والإلزامُ إنَّما يحصُلُ لو اعتَرَف الخَصمُ به؟ والجوابُ: ذكر العُلَماءُ لذلك عِدَّةَ أوجُهٍ:

الوجه الأول: أنَّ الدَّليلَ لَمَّا كان ظاهرًا جَليًّا، فإذا أُوردَ على الخَصمِ في مَعرِضِ الاستفهامِ- ثمَّ إنَّه بنَفسِه يقولُ الأمرَ كذلك- كان هذا تنبيهًا على أنَّ هذا الكلامَ بلغ في الوضوحِ إلى حيثُ لا حاجةَ فيه إلى إقرارِ الخَصمِ به، وأنَّه سواءٌ أقَرَّ أو أنكرَ، فالأمرُ مُتقَرِّرٌ ظاهِرٌ .

الوجه الثاني: أنَّه لَمَّا كان الكافِرونَ لِمُكابَرتِهم لا يُقِرُّونَ بذلك، أمَرَ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُجيبَ، فقال: قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ .

الوجه الثالث: أنَّه لَمَّا كان هذا السُّؤالُ ممَّا لا يُجيبونَ عنه، كما أجابوا عن أسئلةِ الخِطابِ الأوَّلِ؛ لإنكارِهم البَعثَ والمَعادَ، لا لاعتقادِهم أنَّ شُرَكاءَهم تفعَلُ ذلك- لقَّنَ اللهُ رَسولَه الجوابَ: قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ .

5- قال الله تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بيَّنَ سبحانَه بما هو مُسْتَقِرٌّ في الفِطَرِ أنَّ الذي يهدي إلى الحَقِّ أحقُّ بالاتِّباعِ ممَّن لا يهتَدي إلَّا أنْ يهديَه غيرُه؛ فلَزِمَ أنْ يكونَ الهادِي بنَفسِه هو الكامِلَ، دون الذي لا يهتدي إلَّا بِغَيرِه، وإذا كان لا بُدَّ مِن وجودِ الهادي لِغَيرِ المُهتَدي بنَفسِه، فهو الأكملُ .

6- في قَولِه تعالى: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى بيانُ أنَّ الذي يَهدي إلى الحَقِّ مُطلقًا هو اللهُ، والذي لا يَهدِي إلَّا أن يُهدَى صفةُ كلِّ مخلوقٍ؛ لا يُهدَى إلَّا أنْ يَهدِيَه اللهُ تعالى، وهذا هو المقصودُ بالآيةِ، وهي أنَّ عبادةَ اللهِ أَولى مِن عبادةِ خلْقِه .

7- الظنُّ لا يُرادُ به في الكِتابِ والسُّنَّةِ الاعتقادُ الرَّاجِحُ، كما هو في اصطلاحِ طائفةٍ مِن أهلِ الكلامِ في العِلمِ، ويسمُّونَ الاعتقادَ المرجوحَ وهمًا، بل قد قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظنَّ أكذَبُ الحديثِ)) ، وقد قال تعالى : إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، فالاعتقادُ المرجوحُ هو ظنٌّ، وهو وهْمٌ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ

قولُه: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... استِئنافٌ على طريقةِ التَّكريرِ لقولِه قبْلَه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ لأنَّ هذا مقامُ تَقريرِ وتعديدِ الاستدلالِ، وهو مِن دَواعي التَّكريرِ

، وإنَّما لم يُعطَفْ على ما قَبْلَه؛ إيذانًا باستقلالِه في إثباتِ المطلوبِ .

والاستفهامُ في هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ... إنكارٌ، وتقريرٌ بإنكارِ ذلك، وللتَّبكيتِ والإلزامِ؛ إذ ليس المتكلِّمُ بطالبٍ للجوابِ، ولا يسَعُهم إلَّا الاعترافُ بذلك؛ فهو في مَعنى نفيِ أن يكونَ مِن آلِهَتِهم مَن يَبدَأُ الخلقَ ثُمَّ يُعيدُه .

قولُه: قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فيه إعادةُ الجملةِ في الجوابِ بتَمامِها غيرَ مَحذوفةِ الخبَرِ، كما في الجوابِ السَّابقِ؛ لِمَزيدِ التَّأكيدِ والتَّحقيقِ، حيث أُبرِزَ الجوابُ في جُملةٍ مُبتدَأةٍ مُصرَّحٍ بخبَرِها؛ فعاد الخبرُ فيها مُطابِقًا لخبرِ اسمِ الاستفهامِ، وذلك تأكيدٌ وتثبيتٌ .

قوله: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ذِكْرُ إعادةِ الخَلْقِ في الموضعَينِ، مع أنَّهم لا يَعترِفون بها نوعٌ مِن الإدماجِ في الحِجاجِ ، وهو فنٌّ بديعٌ .

2- قوله تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ

قولُه: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ... تكريرٌ آخرُ بَعْدَ قولِه: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، ومجموعُ الجُملَتَين مفيدٌ قَصْرَ صفةِ الهدايةِ إلى الحقِّ على اللهِ تعالى، دونَ آلِهَتِهم، وهو قصرُ إفرادٍ ، وهو احتِجاجٌ آخرُ على ما ذُكِر؛ جيءَ به إلزامًا لهم بعدَ إلزامٍ، وإفحامًا إثرَ إفحامٍ، وفَصْلُه عمَّا قَبْلَه وعدَمُ عَطفِه عليه؛ للدَّلالةِ على استقلالِه .

وقولُه: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ... تفريعُ استفهامٍ تقريريٍّ على ما أفادَتْه الجملَتان السَّابِقَتان مِن قَصْرِ الهدايةِ إلى الحقِّ على اللهِ تعالى دونَ آلِهَتِهم ، وهذا الاستفهامُ للإلزامِ .

قولُه: أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فيه مِن المبالغةِ ما لا يَخْفى، وإنَّما نفى عنه الاهتِداءَ مع أنَّ المفهومَ ممَّا سبَق نفيُ الهدايةِ؛ لأنَّ نفْيَها مُستتبِعٌ لنفيِه غالبًا؛ فإنَّ مَن اهتَدى إلى الحقِّ لا يَخْلو عن هدايةِ غيرِه في الجملةِ .

قولُه: فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ الاستفهامُ في فَمَا لَكُمْ للإنكارِ التَّوبيخيِّ، وفيه تعجُّبٌ مِن حالِهم .

وجملةُ كَيْفَ تَحْكُمُونَ استفهامٌ يتَنزَّلُ مَنزِلةَ البيانِ لِما في جملةِ: فَمَا لَكُمْ مِن الإجمالِ؛ ولذلك فُصِلَت عنها، أي: لم تُعطَفْ، فهو مِثلُه استفهامٌ تعجُّبيٌّ من حُكمِهم الضَّالِّ إذ حَكَموا بإلهيَّةِ مَن لا يَهتَدي، فهو تعجُّبٌ على تعجُّبٍ .

ومِن محاسِنِ البلاغةِ في هذه الآيةِ: الجمْعُ بين تَعديةِ الفِعل (يهدي) بالحرفَين، وبين ترْكِ التَّعديةِ وهو حذفُ المتعلِّقِ الدَّالِّ على العمومِ؛ ففِعلُ الهُدَى يتَعدَّى بنَفسِه، وبـ (اللَّام)، وبـ(إلى)، وكلٌّ مِنها وقَع في مَوقِعِه الَّذي تَقتَضيه البلاغةُ؛ أمَّا الأوَّلُ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ؛ فقد عدَّاه بإلى في حيِّزِ الاستفهامِ الإنكاريِّ؛ للإيذانِ بأنَّه لا أحَدَ مِن هؤلاءِ الشُّركاءِ المتَّخَذين بالباطلِ يدُلُّ النَّاسَ على الطَّريقِ الَّذي يَنتَهي سالِكُه إلى الحقِّ مِن علمٍ وعملٍ وهو التَّشريعُ؛ فهو يَنفي المقدِّماتِ ونَتائِجَها، والأسبابَ ومُسبَّباتِها، ولو عدَّاه بنَفسِه لَمَا أفاد إلَّا إنكارَ هدايةِ الإيصالِ إلى الحقِّ بالفعلِ، دون هدايةِ التَّشريعِ الموصلةِ إليه، ولو عدَّاه باللَّام لكان بمعنى تَعديَتِه بنفسِه إن كانت اللَّامُ للتَّقويةِ أو لإنكارِ هدايةٍ يُقصَدُ بها الحقُّ إن كانت للتَّعليلِ، والأوَّلُ أعَمُّ وأبلَغُ كما هو ظاهرٌ.  وأمَّا الثَّاني قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ وهو تَعدِيَتُه باللَّامِ فهو يَستلزِمُ الأوَّلَ، وعلى جوازِ استِعْمالِ اللَّام بمَعنَيَيْها، يكونُ مَعناه: قُل اللهُ يَهْدي لِما هو الحقُّ؛ لأجْلِ أن يَكونَ المهتدون به على الحقِّ. وأمَّا الثَّالثُ- أي حَذْفُ المتعلِّقِ-: فهو في الشِّقِّ الثَّاني مِن قولِه: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى، ومعناه مع ما قَبْلَه نصًّا واقتِضَاءً: أفمَن يَهْدي إلى الحقِّ ويَهْدي له ويَهْديه- وهو اللهُ تعالى- أحَقُّ أن يُتَّبَعَ فيما يَشرَعُه، أم مَن لا يَهْدي غيرَه ولا هو يَهْتدي بنفسِه- ممَّن عُبِد مَن دونَه- إلَّا أن يَهدِيَه غيرُه، أي: اللهُ تعالى؛ إذ لا هادِيَ غيرُه؟ وهذا استِثْناءٌ مُفرَّغٌ مِن أعمِّ الأحوالِ؛ لأنَّ مَن نفَى عَنهم الهدايةَ ممَّن اتُّخِذوا شُركاءَ للهِ تعالى يَشمَلُ المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ وعُزيرًا والملائكةَ عليهم السَّلامُ، وهؤلاء كانوا يَهْدون إلى الحقِّ بهدايةِ اللهِ ووَحْيِه كما قال تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء: 73] ، وقيل: الاستثناءُ مُنقَطِعٌ، فمعنى إِلَّا أَنْ يُهْدَى: لكنَّه يَحتاجُ أن يُهْدى .

3- قولُه تعالى: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ

قولُه: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا فيه تخصيصُ هذا الاتِّباعِ بأكثَرِهم مع مُشاركةِ المعانِدين لهم في ذلك؛ للتَّلويحِ بما سيَكونُ مِن بَعضِهم مِن اتِّباعِ الحقِّ والتَّوبةِ ، وقِيلَ: المرادُ بأكثَرِهم جَمِيعُهم .

وتنكيرُ ظَنًّا للتَّحقيرِ، أي: ظنًّا واهيًا، ودلَّت صيغةُ القَصرِ (ما... إلَّا) على أنَّهم ليسوا في عَقائدِهم المنافيةِ للتَّوحيدِ على شيءٍ من الحقِّ؛ ردًّا على اعتِقادِهم أنَّهم على الحقِّ .

وجملةُ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا تعليلٌ لما دلَّ عليه القَصْرُ مِن كونِهم ليسوا على شيءٍ من الحقِّ؛ فكيف يَزعُمون أنَّهم على الحقِّ ؟!

وجُملةُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ استئنافٌ للتَّهديدِ بالوَعيدِ .

======

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (37-40)

ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ

غريب الكلمات:

 

تَأْوِيلُهُ: أي: عاقِبتُه، وما يَؤُولُ إليه، ووقوعُ ما أخبَر به، وأصلُ (أول) هنا: يدُلُّ على انتِهاءِ الأمرِ

.

عَاقِبَةُ: عاقبةُ كلِّ شىءٍ: آخرُه، أو: ما يُؤدِّي إليه السببُ المتقدِّمُ، والعاقبةُ تختصُّ بالثوابِ إذا أُطْلِقتْ، وقد تُستعمَلُ في العقوبةِ إذا أُضيفَتْ، وأصلُ (عقب): تأخيرُ شيءٍ، وإتيانُه بعدَ غيرِه

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ

أَنْ يُفْتَرَى: مَصدرٌ مُؤوَّلٌ في محَلِّ نَصبٍ، خَبرُ كان، أي: وما كان هذا القُرآنُ افتِراءً، والمَصدرُ هنا بمعنى المَفعولِ، أي: مُفتَرًى. وَلَكِنْ تَصْدِيقَ: تصديقَ منصوبٌ، خبَرُ (كان) الـمحذوفةِ هي واسمُها، والتقديرُ: ولكِنْ كان تَصديقَ، أو منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ مِن أجلِه لفِعل مقدَّرٍ، أي: وما كان هذا القرآنُ أن يُفتَرَى، ولكن أُنزِلَ للتَّصديقِ، والجُملةُ معطوفةٌ بـ (الواو) على ما قَبْلَها

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ تعالى أنَّه لا يُمكِنُ أن يكونَ هذا القرآنُ مَكذوبًا، يأتي به أحَدٌ غيرُ اللهِ تعالى، ولكِنْ أنزَلَه اللهُ مُصَدِّقًا للكتُبِ السَّابقةِ المُنَزَّلةِ على أنبيائِه، وتِبيانًا لِمَا كتَبَه اللهُ على هذه الأمَّةِ مِن الفرائِضِ والأحكامِ، والعقائِدِ والأخبارِ، لا شَكَّ في أنَّه مِن رَبِّ العالَمينَ.

أم يقولُ المُشرِكونَ: اختلقَ مُحمَّدٌ القُرآنَ، فأمرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: إنْ كنتُ قد افتَرَيتُه- كما تزعمونَ- فأْتُوا بسُورةٍ واحدةٍ مِثلِ القُرآنِ؛ فأنتم عَرَبٌ مِثلي، وادعُوا مَن قَدَرتُم أن تَدْعُوه؛ لِيُعينَكم على المجيءِ بسُورةٍ مِثلِ سُوَرِ القرآنِ، إنْ كُنتُم صادقينَ في دعواكم أنِّي افتَرَيتُه.

بل كذَّبَ المُشرِكونَ بالقُرآنِ الذي لم يُحيطُوا بعِلمِ ما فيه، وقبل أن يقَعَ ما أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه آتيهم، مِن العُقوبةِ التي توعَّدَهم اللهُ بها على تكذيبِهم بالقُرآنِ، كذلك كذَّبَ اللهَ مَن قَبلَهم، فانظُرْ- يا مُحمَّدُ- كيف كانت نهايةُ المُكَذِّبينَ بآياتِ اللهِ مِن الأُمَمِ الماضيةِ.

ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّ مِن المُشرِكينَ مَن سيُؤمِنُ بالقُرآنِ، ويتوبُ مِن الكُفرِ، ومنهم من لا يؤمِنُ به، وسيبقَى على كُفرِه حتى يموتَ، وربُّك- يا مُحمَّدُ- أعلَمُ بالمُفسِدينَ.

تفسير الآيات:

 

وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لما فرَغ سبحانَه مِن دلائلِ التوحيدِ وحُجَجِه؛ شرَع في تثبيتِ أمرِ النبوَّةِ

.

وأيضًا لَمَّا تقدَّم قولُهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ وكان مِن قَوْلِهم: (إنَّه افْتَراه)؛ قال تعالَى :

وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ.

أي: ما يَنْبغي لهذا القرآنِ أن يختلِقَه أحدٌ مِن الخلقِ على الله، ولا يمكنُ أن يكونَ إِلَّا مِن عندِ اللَّهِ .

وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.

أي: ولكِنْ أنزَلَه الله مُصَدِّقًا للكتُبِ السَّابقةِ التي أنزَلَها على أنبيائِه .

كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48] .

وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ.

أي: وتبيانًا لِما كتَبَه اللهُ على أُمَّةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الفرائِضِ والأحكامِ، والعقائِدِ والأخبارِ .

كما قال تعالى: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111] .

وقال سبحانه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .

لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ.

أي: لا شكَّ في أنَّ القُرآنَ مِن عندِ اللهِ رَبِّ العالَمينَ وليس كلامَ غَيرِه .

كما قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] .

وقال سُبحانه: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة: 2] .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا نفى اللهُ تعالى أن يكونَ القُرآنُ مُفتَرًى، بل جاء مُصَدِّقًا لِما بين يَدَيه من الكُتُبِ، وبيانًا لِما فيها؛ ذكَرَ هنا أعظَمَ دَليلٍ على أنَّه مِن عندِ الله، وأقام البرهانَ القاطعَ على ذلك ، وهو الإعجازُ الذي اشتمَلَ عليه، فتحدَّى جميعَ الخلقِ بسورةٍ واحدةٍ مثلِه، فأبطلَ بذلك دعواهم افتراءَه .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ.

أي: أم يقولُ المُشرِكونَ المُكَذِّبونَ: اختلَقَ مُحمَّدٌ القُرآنَ مِن نَفسِه، وكذَبَ على اللهِ ؟!

قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: إنْ كنتُ قد افتَرَيتُ هذا القُرآنَ- كما تَزعُمونَ- فأنتم عرَبٌ مِثلي، فأْتُوا بسُورةٍ واحدةٍ مِن جِنسِ القُرآنِ .

كما قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 23، 24].

وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.

أي: وادْعُوا- أيُّها المُشرِكونَ- مَن قَدَرتُم أن تَدْعُوه مِن شُرَكائِكم وأولِيائِكم؛ لِيُعينوكم على المجيءِ بسُورةٍ واحدةٍ مِثلِ سُوَرِ القُرآنِ، إن كُنتُم صادِقينَ في زَعمِكم أنِّي افتريتُ القُرآنَ .

كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88].

بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى مجموعَ الدَّلائِلِ التي في إثباتِ أنَّ القُرآنَ مُعجِزٌ، ذكَرَ السَّبَبَ الذي لأجْلِه كذَّبُوا القُرآنَ .

وأيضًا لَمَّا أقام اللهُ تعالى الدَّليلَ على أنَّ القُرآنَ كلامُه، وكان الدَّليلُ إنَّما مِن شَأنِه أن يُقامَ على مَن عَرَض له غَلَطٌ أو شُبهةٌ، وكان قَولُ الكافرينَ افْتَرَاهُ لا عن شُبهةٍ، وإنَّما هو مجَرَّدُ عِنادٍ- نبَّه سُبحانه على ذلك، وعلى أنَّه إنَّما أقام الدَّليلَ لإظهارِ عِنادِهم، لا لأنَّ عِندَهم شُبهةً في كونِه حَقًّا، بالإضرابِ عَن قَولِهم ، فقال تعالى:

بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ.

أي: بل كذَّب المُشرِكونَ بالقُرآنِ الذي لم يُحيطوا بعِلمِ ما فيه مِنَ الحَقِّ، ولم يَفهَموه .

كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل: 84] .

وقال سبحانه: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف: 11] .

وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.

أي: ولَمْ يأتِهم بعدُ حَقيقةُ ما وُعِدوا في الكِتابِ، بما يَؤُولُ إليه أمْرُهم مِن العُقوبةِ، ونزولِ العذابِ .

كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأعراف: 53] .

كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.

أي: كما كذَّب المُشرِكونَ بالحَقِّ، كذلك كذَّبَ المُشرِكونَ مِن الأُمَم الماضيةِ بالحَقِّ الذي جاءَهم مِن اللهِ تعالى .

كما قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [فاطر: 25- 26] .

فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.

أي: فانظُرْ- يا مُحمَّدُ- كيف كانت نهايةُ المكذِّبينَ بآياتِ اللهِ مِن الأُمَمِ الماضية؛ أهلَكْناهم، وسنُهلِكُ كذلك الظَّالِمينَ المكَذِّبينَ مِن هذه الأمَّةِ، فلا تحسبَنَّهم يُفلِتونَ منَّا .

كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] .

وقال سُبحانه: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 16 - 19] .

وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ الله تعالى تكذيبَ مُشرِكي قُريشٍ، كان ذلك ربَّما أيأسَ مِن إذعانِهم وتَصديقِهم، وآذَنَ باستئصالِهم لِتَكمُلَ المُشابهةُ للأوَّلينَ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شديدَ الشَّفَقةِ عليهم، والحِرصِ على إيمانِهم، فأتبَعَه تعالى بقَولِه هذا؛ بيانًا لأنَّ عِلمَه بانقسامِهم أوجَبَ عدَمَ استئصالِهم .

وأيضًا لَمَّا بيَّنَ تعالى في الآياتِ السَّابقةِ حالَ مُشرِكي قُرَيشٍ في اتِّهامِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بافتراءِ القُرآنِ، وبتكذيبِهم بوَعيدِه لهم؛ بَيَّنَ في هاتينِ الآيتينِ أقسامَ هؤلاءِ القَومِ في تَكذيبِهم ومُستقبَلِ أمْرِهم، أو حالِهم ومُستقبَلِهم في الإيمانِ، وفي عَمَلِ المكَذِّبينَ بمُقتَضى تكذيبِهم، وعَمَلِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمُقتَضى رسالتِه إلى أنْ يأتيَ أمرُ اللهِ فيهم .

وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ.

أي: ومِنَ المُشرِكينَ مَن سَيُؤمِنُ بالقُرآنِ، ويتوبُ مِن الكُفرِ، ومِنهم مَن لا يُؤمِنُ بالقُرآنِ أبدًا، ويستمِرُّ على كُفرِه حتى يموتَ .

وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ.

أي: وربُّك- يا مُحمَّدُ- أعلَمُ بالمكذِّبينَ، ومَن يبقَى منهم مُصِرًّا على الكُفرِ، فيُجازيهم بأعمالِهم

 

.

كما قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران: 63] .

الفوائد التربوية :

 

قَولُ اللهِ تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ في هذا دليلٌ على التثبُّتِ في الأمورِ، وأنَّه لا ينبغي للإنسانِ أن يُبادِرَ بقَبولِ شَيءٍ أو رَدِّه، قبل أن يحيطَ به عِلمًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: ما كان لِأنْ يُفتَرى، يقولُ: ما كان لِيُفعَلَ هذا، فلم ينفِ مُجَرَّدَ فِعلِه، بل نفى احتمالَ فِعلِه، وأخبَرَ بأنَّ مِثلَ هذا لا يقَعُ، بل يمتَنِعُ وقوعُه، فيكونُ المعنى: ما يُمكِنُ، ولا يحتَملُ، ولا يجوزُ أن يُفتَرَى هذا القُرآنُ مِن دُونِ الله؛ فإنَّ الذي يفتَريه مِن دونِ اللهِ مَخلوقٌ، والمخلوقُ لا يقدِرُ على ذلك

.

2- قال الله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ففَرَّقَ بين الإحاطةِ بعِلمِه وبين إتيانِ تأويلِه، فتبيَّنَ أنَّه يُمكِنُ أن يُحيطَ أهلُ العِلمِ والإيمانِ بعِلمِه، ولَمَّا يأتِهم تأويلُه، وأنَّ الإحاطةَ بعِلمِ القُرآنِ ليست إتيانَ تأويلِه؛ فإنَّ الإحاطةَ بعِلمِه معرفةُ معاني الكلامِ على التَّمامِ، وإتيانَ التَّأويلِ نَفسُ وُقوعِ المُخبَرِ به .

3- في قَولِه تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ذمٌّ لِمَن كذَّبَ بما لم يُحِطْ بعِلْمِه، فما قاله الناسُ من الأقوالِ المُختَلِفةِ في تفسيرِ القُرآنِ وتأويلِه، ليس لأحدٍ أنْ يُصَدِّقَ بقَولٍ دونَ قولٍ بلا عِلمٍ، ولا يُكذِّبَ بشيءٍ مِنها إلَّا أنْ يحيطَ بعِلمِه، وهذا لا يُمكِنُ إلَّا إذا عَرفَ الحقَّ الذي أُريدَ بالآيةِ، فيَعلَم أنَّ ما سواه باطلٌ، فيُكَذِّب بالباطِلِ الذي أحاط بعِلمِه، وأمَّا إذا لم يَعرِفْ مَعناها، ولم يُحِطْ بشَيءٍ منها عِلمًا؛ فلا يجوزُ له التكذيبُ بشَيءٍ منها .

4- في قَولِه تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ إشارةٌ إلى أنَّ مَن جَهِلَ شيئًا عاداه .

5- قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ فيه تفريقُ كَلِمةِ الكُفَّارِ، وأنَّهم لَيسُوا مُستَوينَ في اعتقاداتِهم، بل هم مُضطَرِبونَ، وإن شَمِلَهم التَّكذيبُ والكُفرُ ، وذلك على أحد وجْهَي تأويلِ الآيةِ.

6- في قَولِه تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ إخبارٌ أنَّ مَن قَبْلَ المكَذِّبينَ أصلٌ يُعتبَرُ به، والفرعُ نفوسُهم، فإذا ساوَوهم في المَعنى ساوَوهم في العاقِبةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ

قولُه: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى يفيدُ المبالغةَ في نفْيِ أن يكونَ القرآنُ مُفتَرًى مِن غيرِ اللهِ، أي: مَنسوبًا إلى اللهِ كَذبًا وهو آتٍ مِن غيرِه، فإنَّ قولَه: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى أبلَغُ مِن أن يُقالَ: (ما هو بِمُفتَرًى)؛ لما يَدُلُّ عليه فِعلُ الكَونِ مِن الوجودِ، أي: ما وُجِدَ أن يُفتَرى، أي: وجودُه مُنافٍ لافتِرائِه؛ فدَلالةُ ذاتِه كافيةٌ في أنَّه غيرُ مفترًى

.

قولُه: هذَا الْقُرْآنُ الإشارةُ بـهَذَا فيها تفخيمُ المشارِ إليه وتَعظيمُه، وكونُه جامِعًا للأوصافِ الَّتي يَستحيلُ وُجودُها فيه أن يَكونَ مُفترًى .

قولُه: وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ، لَمَّا نَفى عن القرآنِ الافتراءَ أخبَر عنه بأنَّه تصديقٌ وتفصيلٌ، فجَرَت أخبارُه كلُّها بالمصدَرِ؛ تَنْويهًا ببلوغِه الغايةَ في هذه المعاني حتَّى اتَّحد بأجناسِها .

2- قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، (أم) للإضرابِ الانتقاليِّ مِن النَّفيِ في وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى إلى الاستفهامِ الإنكاريِّ التَّعجُّبيِّ، وهو ارتقاءٌ بإبطالِ دَعْواهم أن يَكونَ القُرآنُ مُفتَرًى مِن دونِ اللهِ، والاستفهامُ مقدَّرٌ، والمعنى: بل أيَقولون: افْتَراه بعدَما تبيَّن لهم مِن الدَّلائلِ على صِدْقِه وبَراءتِه مِن الافتراءِ، وهذا الاستفهامُ تقريرٌ لإلزامِ الحُجَّةِ عليهم، أو إنكارٌ لقولِهم واستِبْعادٌ ، وهذا على أحدِ أوجهِ تأويلِ (أم).

ومِن بَديعِ الأسلوبِ وبَليغِ الكلامِ: أنْ قَدَّمَ وصْفَ القرآنِ بما يَقْتَضي بُعْدَه عن الافتراءِ في قولِه: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى وبما فيه مِن أجَلِّ صِفاتِ الكتُبِ، وبِتَشريفِ نِسْبتِه إلى اللهِ تعالى، ثمَّ أعقَب ذلك بالاستِفْهامِ في قولِه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ عن دَعْوى المشرِكين افتراءً؛ لِيَتلقَّى السَّامعُ هذه الدَّعوى بمَزيدِ الاشمئزازِ والتَّعجُّبِ مِن حَماقةِ أصحابِها؛ فلذلك جُعِلَت دَعْواهم افتِراءَه في حيِّزِ الاستفهامِ الإنكاريِّ التَّعجُّبيِّ .

3- قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ

قولُه: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ (بل) إضرابٌ انتقاليٌّ لبيانِ كُنْهِ تَكْذيبِهم، وأنَّ حالَهم في المبادَرةِ بالتَّكذيبِ قبْلَ التَّأمُّلِ أعجَبُ مِن أصلِ التَّكذيبِ؛ إذ إنَّهم بادَروا إلى تَكْذيبِه دونَ نظَرٍ في أدلَّةِ صِحَّتِه التي أشار إليها قولُه: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ .

وعبَّر بقولِه: بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ دونَ أن يُقالَ: (بل كذَّبوا به مِن غيرِ أن يُحيطوا بعِلمِه)، أو نحوُ ذلك؛ للإيذانِ بكمالِ جَهلِهم به، وأنَّهم لم يَعلَموه إلَّا بعُنوانِ عدمِ العلمِ به، وبأنَّ تكذيبَهم به إنَّما هو بسبَبِ عدمِ عِلْمِهم به؛ لأنَّ إدارةَ الحكمِ على الموصولِ (ما) مُشعِرةٌ بعِلِّيَّةِ مَا في حيِّزِ الصِّلةِ له .

وفيه نفيُ إتيانِ التَّأويلِ بكلمةِ (لَمَّا) الدَّالَّةِ على التَّوقُّعِ بعدَ نفيِ الإحاطةِ بعِلمِه بكلمةِ (لم)؛ لتَأكيدِ الذَّمِّ، وتَشديدِ التَّشنيعِ؛ فإنَّ الشَّناعةَ في تكذيبِ الشَّيءِ قبْلَ عِلمِه المتوقَّعِ إتيانُه، أفحَشُ منها في تَكذيبِه قبلَ علمِه مُطلقًا .

قولُه: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيه إِشارةٌ إلى أنَّ التَّكذيبَ عادةُ المعانِدين الكافرين؛ لِيَعلَمَ المشرِكون أنَّهم مُماثِلون للأُممِ الَّتي كذَّبَت الرُّسلَ فيَعتبِروا بذلك، وتعريضٌ بالنِّذارةِ لهم بحُلولِ العذابِ بهم، كما حلَّ بأولئك الأممِ الَّتي عرَفَ السَّامِعونَ مَصيرَها وشاهَدوا دِيارَها، وتسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه ما لَقِي مِن قومِه إلَّا مِثلَ ما لَقِي الرُّسلُ السَّابقون مِن أقوامِهم .

قولُه: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ فيه وضعُ المُظهَرِ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ موضِعَ المُضمَرِ (عاقِبتُهم)؛ للإيذانِ بكونِ التَّكذيبِ ظُلمًا، أو بعِلِّيَّتِه لإصابةِ ما أصابهم مِن سوءِ العاقبةِ، وبدُخولِ هؤلاء الظَّالِمين في زُمرَتِهم جُرمًا ووَعيدًا دُخولًا أوَّليًّا

 

.

4- قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ

قولُه: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، في اختيارِ صيغةِ المُضارِعِ يُؤْمِنُ دلالةٌ على استمرارِ الإيمانِ به مِن بَعضِهم معَ المعانَدةِ، واستمرارِ عدمِ الإيمانِ به مِن بعضِهم أيضًا

، وذلك على أحدِ وجهي تأويلِ الآيةِ.

وجملةُ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ مُعترِضةٌ في آخِرِ الكلامِ، وهي تعريضٌ بالوعيدِ والإنذارِ ، وفي تعلُّقِ العلمِ بالمفسِدين وَحْدَهم: تهديدٌ عظيمٌ لهم

.==================

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (41-44)

ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﰤ ﰥ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى لنبيِّه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وإن كذَّبَك المُشرِكونَ، ولم يُؤمِنوا بما جِئتَهم به من الحَقِّ، فقل لهم: لي عَمَلي ولكم عمَلُكم، لا تُؤاخَذونَ بما أعمَلُ، ولا أُؤاخَذُ بما تَعمَلونه.

ويخبرُ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ مِن الكُفَّارِ مَن يستَمِعُ إلى تلاوتِك- يا مُحمَّدُ- للقُرآنِ، وإلى حديثِك، وقلوبُهم غافلةٌ لا ينتَفِعونَ بما سَمِعوه من ذلك، أفأنت تستطيعُ أن تُسمِعَ الصُّمَّ، خصوصًا إذا كانوا لا عَقلَ لهم، وأنَّ منهم من ينظُرُ إليك- يا مُحمَّدُ- أفأنت تُرشِدُ العُميَ، ولو كانوا مع ذلك بدونِ بَصيرةٍ.

إنَّ اللهَ لا يَظلِمُ أحدًا من النَّاسِ شَيئًا، ولكنَّ النَّاسَ هم الذين يَظلِمونَ أنفُسَهم بكُفرِهم ومَعاصيهم، فيَستَحِقُّونَ عِقابَه عَزَّ وجلَّ، ولا يضرُّونَه شيئًا.

تفسير الآيات:

 

وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (41).

وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ.

أي: وإنْ كذَّبَك- يا مُحمَّدُ- المُشرِكونَ، ولم يُؤمِنوا بما جئتَهم به من الحَقِّ، فقل لهم: لي عمَلي الذي سيُجازيني اللهُ به، ولكم عَمَلُكم الذي سيُجازيكم اللهُ عليه

.

كما قال سبحانه: اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى: 15] .

وقال تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة: 139] .

أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ.

أي: وقُلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: لا تُؤاخَذونَ بِجَريرةِ أعمالي، ولا أُؤاخَذُ بجَريرةِ أعمالِكم .

كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 1 - 6] .

وقال سُبحانه: قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ: 25] .

وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (42).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا أنبأَ اللهُ رَسولَه بأنَّ مِن قَومِه مَن لا يؤمِنُ بهذا القُرآنِ حالًا ولا استِقبالًا؛ إذ لا ينفَعُهم البيانُ مهما يكُنْ ناصِعًا، ولا ينفَعُهم البُرهانُ وإن كان قاطِعًا، وأنَّ الذي عليه في المُصِرِّينَ على تكذيبِه منهم بعدما جاءَهم به مِن الآياتِ التي دمَغَتْهم بالحُجَج البَيِّناتِ، أن يتبَرَّأَ منهم، وينتظِرَ أمرَ اللهِ فيهم- كان مِن شأنِ هذا النَّبأِ أن يُثيرَ عَجَبَه؛ لِغَرابتِه في نفسِه، وأن يسوءَه؛ لِما يشيرُ إليه مِن انتقامِ الله منهم؛ بَيَّنَ له مَثَلَ الذين فَقَدوا الاستعدادَ للإيمانِ، وعَلَّمَه ما لم يكُن يَعلَمُه مِن سُنَّةِ الله تعالى فيهم، وكَونِ مُصيبتِهم من أنفسِهم، فلا حولَ له ولا قُوَّةَ على هدايتِهم .

وأيضًا لَمَّا سبَقَ تَقسيمُ المُشرِكينَ بالنِّسبةِ إلى اعتقادِهم في الأصنامِ إلى مَن يَتَّبِعُ الظَّنَّ، ومَن يُوقِنُ بأنَّ الأصنامَ لا شيءَ، وتقسيمُهم بالنِّسبةِ لتصديقِ القُرآنِ إلى قِسمَينِ: من يؤمِنُ بصِدقِه ومَن لا يؤمِنُ بصِدقِه؛ كمَّلَ في هذه الآيةِ تَقسيمَهم بالنِّسبةِ للتلقِّي مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى قِسمَينِ: قسمٌ يَحضُرونَ مَجلِسَه، ويستمعونَ إلى كلامِه، وقِسمٌ لا يحضُرونَ مَجلِسَه وإنَّما يتوسَّمونَه، وينظُرونَ سَمتَه، وفي كلا الحالينِ مَسلكٌ عَظيمٌ إلى الهُدى لو كانوا مهتدينَ .

وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ.

أي: ومِن الكُفَّارِ مَن يستَمِعُ إلى تلاوتِك للقرآنِ وحديثِك- يا مُحمَّدُ- وقلوبُهم غافلةٌ، لا ينتَفِعونَ بسَماعِهم ذلك .

كما قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام: 25] .

وقال سُبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .

أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ.

أي: أفأنت- يا مُحمَّدُ- تستطيعُ أن تُسمِعَ الصُّمَّ، وخصوصًا إذا كانوا مع صَمَمِهم جُهَّالًا، لا عَقلَ لهم ؟! فكذلك لا تقدِرُ على جَعلِ الكُفَّارِ ينتَفِعونَ بالسَّماعِ منك .

كما قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 21 - 23] .

وقال سُبحانه: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء: 45] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل: 80] .

وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (43).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ طَريقًا عظيمًا من طُرُقِ العِلمِ قد انسَدَّ على المُشرِكينَ، وهو طريقُ المَسموعاتِ المُتعَلِّقةِ بالخَيرِ، ذكَرَ انسدادَ الطَّريقِ الثَّاني، وهو: طريقُ النَّظَرِ، فقال تعالى :

وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ.

أي: ومِن الكُفَّارِ مَن ينظُرُ إليك- يا مُحمَّدُ- ولا ينتَفِعونَ بذلك النَّظَرِ .

كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 41- 42] .

أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ.

أي: أفأنتَ- يا مُحمَّدُ- تستطيعُ أن تُرشِدَ العُمْيَ الذين لا بَصرَ لهم ينتَفِعونَ به، وخصوصًا إذا انضَمَّ إلى ذلك فقدُ البَصيرةِ ؟! فكذلك لا تَقدِرُ على هدايةِ الكُفَّارِ الذين عَمِيَت قلوبُهم عن رؤيةِ الحَقِّ .

كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] .

وقال سُبحانه: وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ [النمل: 81] .

إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ الله تعالى في الآيتَينِ السَّابِقَتينِ فَريقَينِ، ووصَفَهما بالشِّقْوةِ؛ يَنظُرونَ ويَسمَعونَ، ولا يَعقِلونَ ولا يُؤمِنونَ؛ وذلك للقَضاءِ السَّابقِ عليهم- أخبَرَ اللهُ في هذه الآيةِ أنَّ تَقديرَ الشِّقْوةِ عليهم ما كان ظُلمًا منه؛ وذلك لكمالِ عدلِه؛ حيثُ يضعُ الأمورَ في مواضعِها، ويوقعُها في مواقعِها عن علمٍ بمن يستحقُّ الهدَى أو الضلالةَ والعمَى، وإذا كَسَبوا المعاصيَ فقد ظَلَموا أنفُسَهم؛ لأنَّ الفِعلَ مَنسوبٌ إليهم، وإن كان القضاءُ لله تعالى .

إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا.

أي: إنَّ اللهَ لا يفعلُ بخلقِه ما لا يستحقُّون منه؛ فلا يسلبُ أحدًا الإيمانَ، ولا يصرفُه عن الهدَى إلَّا إذا استحقَّ ذلك؛ لكمالِ علمِه سبحانَه وحكمتِه وعدلِه، وأيضًا فهو لا يعُاقِبُ مَن لم يستوجِبِ العقابَ، ولا يزيدُ في سَيِّئاتِ المُسيئينَ، ولا يَنقُصُ مِن حَسَناتِ المُحسِنينَ .

كما قال تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] .

وعن أبي ذرٍّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما روى عن اللهِ تبارك وتعالى، أنَّه قال: ((يا عبادِي، إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نَفسِي، وجَعَلتُه بينكم مُحرَّمًا، فلا تَظَالَموا )) .

وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

أي: ولكنَّ النَّاسَ هم الذينَ يَظلِمونَ أنفُسَهم، ويضُرُّونَها بكُفرِهم باللهِ ومَعصيتِه، فيستَحِقُّونَ عقابَه، ولا يضرُّونَ اللهَ شَيئًا

 

.

كما قال تعالى: فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة: 70] .

الفوائد التربوية :

 

1- في قَولِه تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ إشارةٌ إلى أنَّ الإيمانَ والتوفيقَ به تعالى لا بِغَيرِه، وفي ذلك تسليةٌ مِن اللهِ عَزَّ وجَلَّ لنبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ

.

2- قال اللهُ تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ المرادُ مِن الآيتَينِ: أنَّ هدايةَ الدِّينِ كهِدايةِ الحِسِّ، ولا تكونُ إلَّا للمُستعِدِّ لها بهدايةِ العَقلِ، وأنَّ هدايةَ العَقلِ لا تحصُلُ إلَّا بتوجُّهِ النَّفسِ، وصِحَّةِ القَصدِ، وهذا الصِّنفُ مِن الكُفَّارِ قد انصَرَفت أنفُسُهم عن استعمالِ عُقولِهم في الدَّلائلِ البَصَريَّةِ والسَّمعيةِ؛ لإدراكِ مَطلَبٍ مِن المطالِبِ ممَّا وراءَ شهواتِهم وتقاليدِهم، وليس المرادُ أنهم فقَدوا نعمةَ العَقلِ الغَريزيِّ، ولا نعمةَ الحواسِّ، بل استعمالَها النَّافِعَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ فيه أنَّ اللهَ لا يؤاخِذُ أحدًا مِن النَّاسِ بعَمَلِ الآخَرِ

.

2- النَّظَرُ إلى حالةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهديِه وأخلاقِه، وأعمالِه وما يدعو إليه؛ مِن أعظَمِ الأدلَّةِ على صِدقِه وصِحَّةِ ما جاء به، ويكفي البَصيرَ عَن غيرِه من الأدلَّةِ؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ .

3- في قَولِه تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ إيئاسُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من إسماعِ هؤلاء الصُّمِّ، وهدايةِ هؤلاء العُميِ، وقفَّى على ذلك بقَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فأمثالُ هذه الآياتِ تَحثُو التُّرابَ في فِي مَن يزعُمُ أنَّ الآيةَ تدُلُّ على الجَبرِ، وعَدَمِ اختيارِ العبدِ في كُفرِه وإيمانِه .

4- قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ذِكْرُ هذا عَقِبَ ما تَقَدَّم مِن عدمِ الاهتداءِ بالأسماعِ والأبصارِ؛ لبيانِ أَنَّ ذلك لم يَكُنْ لأجلِ نَقْصٍ فيما خَلَقَه اللَّهُ لهم مِن السَّمْعِ والعقلِ والبصرِ والبصيرةِ، بل لأجلِ ما صارَ في طبائِعِهم مِن التَّعَصُّبِ والمُكابرةِ للحقِّ، والمجادلةِ بالباطلِ، والإصرارِ على الكفرِ، فهم الَّذين ظَلموا أنفسَهم بذلك، ولم يَظْلِمْهم اللَّهُ شيئًا مِن الأشياءِ، بل خَلَقَهم، وجعلَ لهم مِنَ المشاعرِ ما يُدركونَ به أكملَ إدراكٍ، وركَّبَ فيهم مِن الحواسِّ ما يَصِلونَ به إِلى ما يريدونَ، ووَفَّرَ مَصالحَهم الدُّنيويَّةَ عليهم، وخلَّى بينَهم وبينَ مصالِحِهم الدِّينيَّةِ، فعلَى نفسِها بِراقِشُ تَجْني

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ

قولُه: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ فيه معنى الحصرِ بتَقْديمِ المعمولِ لِي وَلَكُمْ، وبالتَّعبيرِ بالإضافةِ بـعَمَلِي وعَمَلُكُمْ

.

وقولُه: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ بيانٌ لجملةِ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ؛ ولذلك فُصِلَت، أي: لم تُعطَفْ على الَّتي قبلَها ، وهي أيضًا تأكيدٌ لِمَا أفادَتْه لامُ الاختصاصِ مِن عدَمِ تعدِّي جَزاءِ العمَلِ إلى غيرِ عاملِه .

وقولُه: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ فيه العُدولُ عن الإتيانِ بالعملِ مَصدَرًا، كما أُتي به في قولِه: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ إلى الإتيانِ به فِعْلًا صِلَةً لِـ(ما) الموصولةِ؛ للدَّلالةِ على البراءةِ مِن كلِّ عملٍ يَحدُثُ في الحالِ والاستقبالِ .

وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث بدَأ في المأمورِ بقولِه: لِي عَمَلِي؛ لأنَّه آكَدُ في الانتفاءِ مِنهم، وبَدَأ في البراءةِ بقولِه: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ؛ لأنَّ هذه الجملةَ جاءت كالتَّوكيدِ والتَّتميمِ لِما قبْلَها؛ فناسَب أن تَلِيَ قولَه: وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، ولِمُراعاةِ الفواصلِ؛ إذ لو تَقدَّم ذِكْرُ براءةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما تقدَّم ذِكْرُ لِي عَمَلِي لم تقَعِ الجملةُ فاصلةً؛ إذ كان يكونُ التَّركيبُ: (وأنتم بَريئون ممَّا أعمَلُ) .

2- قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ

قولُه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ جيءَ بالفعلِ المضارِعِ يَسْتَمِعُونَ يَنْظُرُ دونَ اسمِ الفاعلِ (مُستَمِعون- ناظِرٌ)؛ للدَّلالةِ على تَكرُّرِ الاستماعِ والنَّظرِ .

قولُه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ جمَع الضَّميرَ الرَّاجِعَ إلى كلمةِ (مَنْ) مع الاستماعِ؛ رعايةً لجانبِ المعنى، وأفرَدَه مع النَّظَرِ؛ مُحافَظةً على ظاهرِ اللَّفظِ، ولعلَّ ذلك للإيماءِ إلى كَثرةِ المستَمِعين بِناءً على عدمِ توقُّفِ الاستماعِ على ما يتَوقَّفُ عليه النَّظرُ مِن المقابلةِ، وانتفاءِ الحجابِ والظُّلمةِ ، وقيل:  لعلَّ اختلافَ الصِّيغتين للمُناسَبةِ مع مادَّةِ فِعْلَيْ (يَسْتَمِعُ) و(يَنْظُرُ)؛ ففِعلُ (يَنظُر) لا تُلائِمُه صيغةُ الجمعِ؛ لأنَّ حُروفَه أثقَلُ مِن حروفِ (يَستمِعُ)؛ فيكونُ العدولُ استِقْصاءً لِمُقتَضى الفصاحةِ .

قولُه: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وقولُه: أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ استِفْهامان مُستعمَلان في التَّعجُّبِ مِن حالِهم؛ إذ يَستمِعون إلى دعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا يَعقِلونها، وإذ يَنظُرون أعمالَه وسيرتَه ولا يَهتَدون بها، فليس في هذين الاستِفْهامَين معنى الإنكارِ على مُحاولة النَّبيِّ إبلاغَهم وهدْيَهم؛ لأنَّ المقامَ يَنْبو عن ذلك ، وفي هذا مبالغةٌ عظيمةٌ في انتفاءِ قَبولِ ما يُلْقى إلى هؤلاء؛ إذ جمَعوا بين الصَّممِ وانتفاءِ العقلِ، وبين العمَى وفَقْدِ البصيرةِ .

وفي الاستِفْهامَين تقديمُ المسنَدِ إليه (أنتَ) على الخبَرِ الفِعْليِّ بقولِه: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ وقولِه: أَفَأَنْتَ تَهْدِي دون أن يُقالَ: (أَتُسمِعُ الصُّمَّ) و(تَهْدي العُمْي)؛ فكان هذا الاستفهامُ التَّعجُّبيُّ فيهِما مُؤكَّدًا مُقَوًّى .

و(لو) في قولِه: وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وقولِه: وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ وَصْليَّةٌ دالَّةٌ على المبالغةِ في الأحوالِ، وهي الَّتي يكونُ الَّذي بعدَها أقصى ما يَعْلَقُ به الغَرَضُ ، وجوابُ (لو) في الجُملَتَين محذوفٌ؛ لِدَلالةِ قولِه تعالى: تُسْمِعُ الصُّمَّ وتَهْدِي الْعُمْيَ عليه، وكلٌّ منهما مَعطوفةٌ على جُملةٍ مقدَّرةٍ مقابِلةٍ لها في الفَحْوى، أي: أفأَنتَ تُسمِعُ الصُّمَّ لو كانوا يَعقِلون، ولو كانوا لا يَعقِلون، أفأنتَ تَهدي العُميَ لو كانوا يُبصِرون، ولو كانوا لا يُبصِرون؟! أي: على كلِّ حالٍ مفروضٍ، وقد حُذِفَت الأولى في البابِ حذفًا مُطَّرِدًا؛ لِدَلالةِ الثَّانيةِ عليها دلالةً واضحةً؛ فإنَّ الشَّيءَ إذا تحقَّق عند تحقُّقِ المانعِ، أو المانعِ القويِّ فلأَنْ يتَحقَّقَ عند عدَمِه، أو عند تحقُّقِ المانعِ الضَّعيفِ أولَى، وعلى هذه النُّكْتةِ يدورُ ما في (لو) و(أنْ) الوَصليَّتين مِن التَّأكيدِ .

3- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

قولُه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ تذييلٌ، وشَمِل عمومَ النَّاسِ المشرِكين الَّذين يَستمِعون ولا يَهْتَدون، ويَنظُرون ولا يَعتبِرون، والمقصودُ مِن هذا التَّذييلِ: التَّعريضُ بالوعيدِ بأنْ سيَنالُهم ما نال جَميعَ الَّذين ظلَموا أنفُسَهم بتكذيبِ رُسلِ اللهِ .

وقولُه: وَلَكِنَّ النَّاسَ... فيه وضْعُ الظَّاهِرِ مَوضِعَ الضَّميرِ- إذ قال: وَلَكِنَّ النَّاسَ ولم يقُل: (ولكِنَّهم)-؛ لزيادةِ تعيينٍ وتقريرٍ ، ففيه إشارةٌ إلى أنَّ هذا الظُّلمَ خاصٌّ بهم دونَ سائِرِ أنواعِ الحَيوانِ؛ فإنَّها لا تعدو في استعمالِ مَشاعِرِها وقُواها ما خُلِقَت لأجلِه مِن حِفظِ حياتِها الشَّخصيَّةِ والنَّوعيَّةِ، وأمَّا النَّاسُ فقد يستَعمِلونَها فيما يَضُرُّهم في حياتِهم الحيوانيَّةِ الدُّنيويَّةِ، وفي حياتِهم الرُّوحيَّةِ الأُخرويَّةِ .

وقولُه: أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فيه تقديمُ المفعولِ أَنْفُسَهُمْ على عامِلِه يَظْلِمُونَ؛ لإفادةِ تَغْليطِهم بأنَّهم ما جَنَوْا بكُفْرِهم إلَّا على أنفُسِهم، وما ظلَموا اللهَ ولا رُسلَه، فما أضَرُّوا بعمَلِهم إلَّا أنفُسَهم .

============

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (45-47)

ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ تعالى: ويومَ يَجمَعُ اللهُ الكافرينَ في موقِفِ الحِسابِ، كأنَّهم لم يَمكُثوا في الدُّنيا إلَّا ساعةً مِن نهارٍ، يتعارَفُ النَّاسُ بينهم يومَ القيامةِ، كما كانوا يتعارَفونَ في الدُّنيا، قد خَسِرَ ثوابَ اللهِ وجَنَّتَه الذين كذَّبوا بلِقاءِ اللهِ، وما كانوا مُهتَدينَ.

وإمَّا نُرِكَ- يا مُحمَّدُ- عُقوبةَ الكُفَّارِ في حياتِك بأن نُعَجِّلَها لهم، أو نُمِتْك قبل أن نُرِيَك ذلك؛ فإلينا مَرجِعُهم ومَصيرُهم، ثمَّ اللهُ شاهِدٌ على ما كانوا يَفعَلونَه في الدُّنيا، وسيُجازيهم به.

ثمَّ يبَيِّنُ تعالى أنَّ لكُلِّ أمَّةٍ رَسولًا مِن اللهِ، يدعوهم إلى الإيمانِ وعِبادةِ اللهِ وَحدَه، فإذا جاء الأمةَ رَسولُهم يومَ القيامةِ لِيَشهَدَ عليهم، حكَمَ اللهُ بينهم بالعَدلِ، وهو غيرُ ظالمٍ لهم.

تفسير الآيات:

 

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وصَفَ الكُفَّارَ بقِلَّةِ الإصغاءِ، وتَرْكِ التَّدبُّرِ؛ أتبَعَه بالوعيدِ لهم

.

وأيضًا لَمَّا كان في سابقِ الآياتِ ما ذُكِرَ مِن أفانينِ جِدالِهم في أباطيلِهم وضَلالِهم، وكان فِعلُ ذلك- ممَّن لا يرى حَشرًا ولا جزاءً، ولا نعيمًا وراء نعيمِ هذه الدَّارِ- فِعلَ فارِغِ السِّرِّ، مُستطيلٍ للزَّمانِ، آمِنٍ مِن نوازلِ الحَدَثانِ- حَسُنَ تَعقيبُه بأنَّهم يَرَونَ يومَ الحَشرِ مِن الأهوالِ ما يَستَقصِرونَ معه مُدَّةَ لُبثِهم في الدُّنيا، فقد خَسِروا إذَن دُنياهم بالنِّزاعِ، وآخِرتَهم بالعذابِ الذي لا يُستطاعُ، وليس له انقِطاعٌ .

وأيضًا لمَّا جاء فيما مضَى ذكرُ يومِ الحشرِ، إذ هو حينُ افتضاحِ ضلالِ المشركينَ ببراءةِ شركائِهم منهم- أتبعَ ذلك بالتقريعِ على عبادتِهم الأصنامَ، مع وضوحِ براهينِ الوحدانيةِ للهِ تعالى، وإذ كان القرآنُ قد أبلغهم ما كان يعصمُهم مِن ذلك الموقفِ الذَّليلِ لو اهْتَدَوا به، أتْبَع ذلك بالتنويهِ بالقرآنِ، وإثباتِ أنَّه خارجٌ عن طوقِ البشرِ، وتسفيهِ الذين كذَّبوه، وتفنَّنوا في الإعراضِ عنه، واستوفَى الغرض حقَّه، عاد الكلامُ إلى ذِكرِ يومِ الحشرِ مرةً أُخرَى؛ إذ هو حينُ خيبةِ أولئك الذين كذَّبوا بالبعثِ، وهم الذين أشْرَكوا، وظهَر افتضاحُ شركِهم في يومِ الحشرِ، فكان مثلَ ردِّ العجزِ على الصدرِ .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ.

أي: ويومَ يَجمَعُ اللهُ الكافرينَ في موقِفِ الحِسابِ، فيَستِقلُّون حِينذاك مُدَّةَ مُكثِهم في الدُّنيا، كأنَّهم لم يَعيشوا فيها إلَّا ساعةً مِن نَهارٍ !

كما قال تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 112-114] .

وقال سبحانه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [طه: 102-104] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الروم: 55-56] .

وقال سُبحانه: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات: 46] .

يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ.

أي: يَعرِفُ النَّاسُ بَعضُهم بعضًا يومَ القيامةِ، كما كانوا في الدُّنيا يَعرِفونَ بَعضَهم .

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ .

أي: قد خَسِرَ ثوابَ اللهِ وجَنَّتَه الجاحِدونَ لِلِقاءِ اللهِ، يومَ القيامةِ، فاستحَقُّوا دخولَ النَّارِ، وما كانوا موفَّقينَ للحَقِّ بتكذيبِهم بالبَعثِ بعدَ المَوتِ .

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذه الآيةَ تتمَّةُ الرَّدِّ على المُشرِكينَ في تكذيبِ ما لم يُحيطوا بعِلمِه، ولَمَّا يأتِهم تأويلُه، مِن العقابِ الذي سبَقَ ذِكرُه .

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ.

أي: وإمَّا نُعجِّلْ عُقوبةَ الكُفَّارِ في حياتِك- يا مُحمَّدُ- فتَراها ، أو نُمِتْك قبل أن نُرِيَك ذلك فيهم؛ فمَصيرُهم إلينا بكلِّ حالٍ .

ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ.

أي: ثمَّ اللهُ شاهدٌ على ما كانوا يفعَلونَه في الدُّنيا، وسيُجازيهم به .

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (47).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ حالَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَومِه؛ بيَّنَ حالَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أقوامِهم؛ تسليةً له، وتطمينًا لِقَلبِه .

وأيضًا لَمَّا كان في الآيةِ السَّابقةِ التَّهديدُ بالعذابِ- إمَّا في الدُّنيا أو في الآخرةِ- غيرَ مُعَيَّنٍ له صلَّى الله عليه وسلَّم واحدةٌ منهما- أتبَعَها بما هو صالحٌ للأمرَينِ بالنِّسبةِ إلى كلِّ رَسولٍ؛ إشارةً إلى أنَّ أحوالَ الأُمَمِ على غيرِ نِظامٍ؛ فلذلك لم يَجزِمْ بتعيينِ واحدةٍ مِن الدارَينِ للجَزاءِ، وجعل الأمرَ مَنوطًا بالقِسطِ .

وأيضًا فإنَّها بمنزلةِ السَّبَبِ لِمَضمونِ الجملةِ التي قبلَها؛ فقد بيَّنتْ أنَّ مَجيءَ الرَّسولِ للأمَّةِ هو مُنتهى الإمهالِ، وأنَّ الأمَّةَ إن كذَّبَت رسولَها استحقَّت العقابَ على ذلك، فهذا إعلامٌ بأنَّ تكذيبَهم الرَّسولَ هو الذي يجُرُّ عليهم الوعيدَ بالعقابِ .

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ.

أي: ولكلِّ أمَّةٍ من الأُمَمِ الماضيةِ رَسولٌ أرسَلَه اللهُ إليهم، يدعوهم إلى الإيمانِ، وعبادةِ اللهِ وَحْدَه .

فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ.

أي: فإذا أتَى الأمةَ رسولُهم يومَ القيامةِ؛ لِيَشهَدَ عليهم، حَكَم اللهُ بينهم بالعَدلِ، وهو غيرُ ظالمٍ لهم

 

.

كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزمر: 69] .

الفوائد التربوية:

 

1- في قَولِه تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ تنبيهٌ على قِصَرِ الأمَلِ، وهو العِلمُ بقُرْبِ الرَّحيلِ، وسرعةِ انقضاءِ مدةِ الحياةِ، وهو مِن أنفعِ الأمورِ للقَلبِ؛ فإنه يبعَثُه على مبادرةِ طَيِّ صحائِفِ الأعمالِ، ويثيرُ ساكِنَ عَزَماتِه إلى دارِ البقاءِ، ويَحُثُّه على قضاءِ جَهازِ سَفَرِه، وتدارُكِ الفارِط، ويُزَهِّدُه في الدنيا، ويرَغِّبُه في الآخرة، فيقومُ بقَلبِه- إذا داومَ مُطالعةَ قِصَرِ الأمَلِ- شاهِدٌ من شواهِد اليَقينِ، يُريهِ فَناءَ الدُّنيا، وسُرعةَ انقضائِها، وقلَّةَ ما بَقِيَ منها، وأنَّها قد ترحَّلَت مُدبِرةً، وأنَّها لم يبقَ مِنها إلَّا كما بَقِيَ مِن يومٍ صارت شَمسُه على رؤوسِ الجبالِ، ويُريه بقاءَ الآخرةِ ودوامَها، وأنَّها قد ترحَّلَت مُقبِلةً، وقد جاء أشراطُها وعلاماتُها، وأنَّه مِن لقائِها كمُسافرٍ خرج صاحِبُه يتلقَّاه، فكلٌّ منهما يسيرُ إلى الآخَرِ، فيُوشِكُ أن يلتَقيا سريعًا

.

2- قَولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فيه تحذيرٌ مِن مُشاقَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ يدلُّ على أنَّه تعالى يُري رَسولَه أنواعًا مِن ذُلِّ الكافرينَ وخِزيِهم في الدُّنيا، وسيَزيدُ عليه بعد وفاتِه، ولا شكَّ أنَّه حصل الكثيرُ منه في زمانِ حياةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحصل الكثيرُ أيضًا بعد وفاتِه، والذي سيحصُلُ يومَ القيامةِ أكثَرُ، وهو تنبيهٌ على أنَّ عاقِبةَ المُحِقِّينَ مَحمودةٌ، وعاقبةَ المُذنِبينَ مَذمومةٌ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ جاء الكلامُ على طريقةِ إبهامِ الحاصِلِ مِن الحالَينِ؛ لإيقاعِ النَّاسِ بين الخَوفِ والرَّجاءِ، وإن كان المخاطَبُ به النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

3- قَولُ الله تعالى: فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ رتَّبَ شَهادتَه تعالى على فِعلِهم، على رجوعِهم إليه في القيامةِ، مع أنَّه شهيدٌ عليهم في الدُّنيا أيضًا؛ لأنَّ المرادَ بما ذُكِرَ نَتيجتُه، وهو العذابُ والجزاءُ، كأنَّه قال: ثمَّ اللهُ مُعاقِبٌ، أو مُجازٍ على ما يَفعَلونَ .

4- قَولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ كُلَّ جمَاعةٍ ممَّن تقَدَّمَ، قد بَعثَ الله إليهم رسولًا، وأنَّ اللهَ تعالى ما أهمَلَ أمَّةً مِن الأمَمِ قَطُّ، ويتأكَّدُ هذا بقَولِه تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24] .

فإنْ قيل: كيف يصِحُّ هذا مع أحوالِ الفَترةِ، ومع قَولِه سُبحانه: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ [يس:6] ؟ فالجواب: أنَّ الآيةَ لا تُوجبُ أن يكونَ الرَّسولُ حاضرًا مع القَومِ، لأنَّ تقدُّمَ الرَّسولِ لا يمنَعُ مِن كَونِه رسولًا إليهم، كما لا يَمنَعُ تقَدُّمُ رسولِنا من كونِه مَبعوثًا إلينا إلى آخِرِ الأبدِ، وتُحمَلُ الفَترةُ على ضَعفِ دَعوةِ الأنبياءِ، ووُقوعِ مُوجِباتِ التَّخليطِ فيها .

وقيل: آباءُ القومِ الَّذين لم يُنْذَروا ليسوا أُمَّةً مستقلَّةً حتَّى يردَ الإشكالُ في عدمِ إنذارِهم، معَ قولِه: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ بل هم بعضُ أُمَّةٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ

قولُه: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ فيه تخصيصُ السَّاعةِ بالنَّهارِ؛ لأنَّ ساعاتِه أعرَفُ حالًا مِن ساعاتِ اللَّيلِ

، فكأنَّ هؤلاءِ يتحَقَّقونَ قِلَّةَ ما لَبِثوا؛ إذْ كلُّ أمَدٍ طَويلٍ إذا انقضى، فهو واليَسيرُ سَواءٌ .

وقولُه: قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ استئنافٌ فيه معنى التَّعجُّبِ، كأنَّه قيل: ما أخْسَرَهم !

وفيه إظهارٌ في موضعِ الإضمارِ، والتَّعبيرُ عنهم بالموصولِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مع كَونِ المقامِ مَقامَ إضمارٍ- حيث لم يَقُل: خَسِروا-؛ لِذَمِّهم بما في حيِّزِ الصِّلةِ، والإشعارِ بعِلِّيَّتِه لِما أصابَهم؛ فنبَّه على العِلَّةِ الموجبةِ للخُسرانِ، وهو التَّكذيبُ بلقاءِ اللهِ .

2- قوله تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ

قولُه: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فيه العدولُ إلى صيغةِ الاستقبالِ نَعِدُهُمْ؛ لاستحضارِ الصُّورةِ، أو للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والاستمرارِ، أي: نَعِدُهم وعدًا مُتجدِّدًا حسَبما تَقْتَضيه الحِكمةُ مِن إنذارٍ غِبَّ إنذارٍ، وفي تخصيصِ البعضِ بالذِّكرِ رمزٌ إلى العِدَةِ بإراءةِ بعضِ الموعودِ .

وجملةُ: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ اسميَّةٌ تُفيدُ الدَّوامَ والثَّباتَ، وتقديمُ المجرورِ فَإِلَيْنَا على عامِلِه، وهو مَرْجِعُهُمْ؛ للاهتمامِ .

وقوله: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ حرفُ ثُمَّ للتراخي الرتبي (أي: كون الجملةِ المعطوفةِ بها أعلَى رتبةً مِن المعطوفةِ عليها)؛ فإنَّ جملةَ: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ لاشتمالِها على التعريضِ بالجزاءِ على سوءِ أفعالِهم كانت أهمَّ مرتبةً في الغرضِ، وهو غرضُ الإخبارِ بأنَّ مرجعَهم إلى اللهِ؛ لأنَّ إرجاعَهم إلى الله مجملٌ، واطلاعَه على أفعالِهم المكنى به عن مؤاخذتِهم بها هو تفصيلٌ للوعيدِ المجملِ، والتفصيلُ أهمُّ مِن الإجمالِ، وقد حصَل بالإجمالِ ثم بتفصيلِه تمامُ تقريرِ الغرضِ المسوقِ له الكلامُ، وتأكيدُ الوعيدِ ، وقيل: جاء بـ(ثم) الدالةِ على التبعيدِ، مع كونِ الله سبحانَه شهيدًا على ما يفعلونَه في الدارين؛ للدلالةِ على أنَّ المرادَ بهذه الأفعالِ ما يترتَّب عليها مِن الجزاءِ، أو ما يحصلُ مِن إنطاقِ الجوارحِ بالشهادةِ عليهم يومَ القيامةِ، فجعَل ذلك بمنزلةِ شهادةِ اللهِ عليهم .

3- قولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وقال فيما بعدُ مِن هذه السُّورةِ: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [يونس: 54] ، وقال في سورةِ الزُّمَرِ: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزمر: 69] ، وفي آخِرِ السُّورةِ: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر: 75] ؛ فورَد في الموضِعَين من سورةِ يونُسَ بِالْقِسْطِ، وفي الموضِعَين مِن سورةِ الزُّمرِ بِالْحَقِّ؛ وذلك لأنَّ القِسْطَ يُرادُ به العملُ، والتَّسويةُ في الحكمِ، فمَظِنَّةُ وُرودِه حيث يُرادُ مُوازَنةُ الجزاءِ بالأعمالِ مِن غيرِ زيادةٍ، والحقُّ: الصِّدقُ، فوُرودُه حيث يُرادُ تَصديقُ وعيدٍ، أو إخبارٌ متقدِّمٌ، وإنَّ اللهَ سبحانه وعَد المؤمِنين بزِيادةِ الأُجورِ والإحسانِ بما يَفوتُ الغاياتِ، ويَفوقُ الحصرَ، ولم يَجعَلْ جَزاءَهم على أعمالِهم الدِّينيَّةِ وِفاقًا لأعمالِهم في مَقاديرِ الجزاءِ، بل قال تعالى: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 58] ، وقال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] ، ومنه جعَل الحسَنةَ بعَشْرِ أمثالِها؛ ولَمَّا كان الواردُ في آيتَيِ الزُّمرِ مُنزَّلًا على الحُكمِ حقًّا بين النَّبيِّين والشُّهداءِ والملائكةِ قال تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الزمر: 69] ، وقال تعالى: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الزمر: 75] ، والضميرُ في الأولى إمَّا أن يَكونَ للنَّبيِّين والشُّهداءِ، وهؤلاء ممَّن يُضاعَفُ أُجورُهم؛ فجيءَ بقولِه: بِالْحَقِّ [الزمر: 69] ؛ تصديقًا لما وُعِدوا مِن الزِّيادةِ، وليس مَوضع وُرودِ القِسْطِ، وإمَّا أن يكونَ للخَلقِ كافَّةً- وفيهم المؤمِنُ والكافرُ-؛ فورَد قولُه: بِالْحَقِّ [الزمر: 69] ؛ تصديقًا لِما ورَد في حقِّ الفريقَين: مِن الزِّيادةِ في أجْرِ المؤمنِ، والعدلِ في حقِّ الكافرِ، فلا يُظلَمُ مِثقالَ ذرَّةٍ، وإنَّما جَزاؤُه وِفاقُ عمَلِه، ولا يَصِحُّ هذا إنْ لو قيل: (وقُضي بينَهم بالقسطِ)، وعلى هذا ما ورَد في الآيةِ الأخيرةِ مِن فُروقٍ.

وأمَّا آيَتا يُونُسَ فقد تقدَّم الأولَى مِنهما آياتٌ في تأنيسِ نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وتعنيفِ كفَّارِ قُريشٍ ووَعيدِهم، وتَسْليتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في إبراهيمَ؛ فخِتامُ الآياتِ قَبْلَها بقولِه: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [يونس: 46] ، ثمَّ قال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ [يونس: 47] ، أي: حضَرهم في القيامةِ وقد كذَّبوه في الدُّنيا قُضي بينَهم وبينَه، فنَجا المصدِّقُ، وهلَك المكذِّبُ، ولما لم يَقصِدْ هنا تفضيلَ أحوالِ المصدِّقين، بل لَحْظَ الطَّرَفين من التَّصديقِ والتَّكذيبِ، كان موضعُ التَّعبيرِ بـ(القِسْطِ) الَّذي هو العدلُ بينَ المصدِّقِ والمكذِّبِ، وبِناءُ الآياتِ على إرغامِ المكذِّبين، ولا يُناسِبُ هذا إلَّا ذِكْرُ العدلِ بحسَبِ ما بُنِيَت عليه الآياتُ قبلَه، وأمَّا قولُه في الآيةِ بعدُ: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ، فمُسِرُّو نَدامتِهم هم المكذِّبون، وهم المشاهِدون العذابَ، والضَّميرُ في قولِه: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عائدٌ عليهم؛ فليس موضع التَّعبيرِ بقولِه: بِالْحَقِّ؛ فوضَح وُرودُ كلٍّ مِن هذه الآياتِ على ما يُناسِبُ ويُلائِمُ

 

======

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (48-53)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ

غريب الكلمات:

 

بَيَاتًا: أي: ليلًا، وَقتَ اشتِغالِهم بالنَّومِ، وأصلُ (بيت): يدلُّ على مأوى الإنسانِ باللَّيلِ

.

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ: أي: يَستخبِرونَك، والنبأُ: خبرٌ له شأنٌ عظيمٌ. وأصلُ (نبأ): يدلُّ على الإتيانِ من مكانٍ إلى مكانٍ .

إِي: أي: نَعَم، وهي كلمةٌ موضوعةٌ لتحقيقِ كلامٍ مُتقَدِّمٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ يقولونَ مُخاطبينَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن اتَّبَعه: متى سيأتي عذابُ اللهِ الذي تَعِدونَنا به إن كُنتم صادقينَ؟

فأمَرَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا أن يُجيبَهم: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَقدِرُ على ضَرِّ نَفسِه ولا نَفْعِها، إلَّا ما شاء اللهُ أن يَملِكَه ويقدِرَ عليه، وليس ممَّا يقدِرُ عليه أن يأتيَهم بما سألوا من العذابِ، لكلِّ قَومٍ وقتٌ مُحَدَّدٌ قَدَّرَه اللهُ لانقضاءِ مُدَّتِهم، فإذا جاء ذلك الوقتُ فلا يُؤخَّرونَ عنه ساعةً، ولا يتقَدَّمُ أجَلُهم عنه، وأمَرَه أن يقولَ لهم: أخبِروني إن أتاكم عذابُ اللهِ ليلًا أو نهارًا، ماذا يستعجِلُ المجرمونَ مِن العذابِ سِوى الشَّرِّ الذي لا يستطيعونَ اجتنابَه؟! أثمَّ إذا وقع العذابُ بكم آمَنتُم، حين لا ينفَعُكم الإيمانُ، آلآنَ تؤمِنونَ وقد كنتم تستعجِلونَه مُكَذِّبينَ به؟!

ثمَّ يُبَيِّنُ تعالى أنَّه يُقالُ يومَ القيامةِ للَّذين ظَلَموا أنفُسَهم: ذوقوا العذابَ الدَّائِمَ، فهل يَجزيكم اللهُ إلَّا بما كُنتم تَعمَلونه في الدُّنيا.

ثمَّ يقولُ اللهُ لنبيِّه: يستخبِرُك المُشرِكونَ قائلينَ: أحقٌّ ما تَعِدُنا به؟ قل لهم: نعَم وربِّي، إنَّه لحَقٌّ لا شَكَّ فيه، وما أنتم بمعجزينَ الله، بل هو قادِرٌ عليكم.

تفسير الآيات:

 

وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

عَطفٌ على جُملةِ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [يونس: 46] والمناسَبةُ أنَّه لَمَّا بَيَّنَت الآيةُ السَّالفةُ أنَّ تعجيلَ الوعيدِ في الدُّنيا للمُشرِكينَ وتأخيرَه سواءٌ عند الله تعالى؛ إذ الوعيدُ الأتَمُّ هو وعيدُ الآخرةِ- أُتبِعَت بهذه الآيةِ حكايةً لتهكُّمِهم على تأخيرِ الوَعيدِ

.

وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.

أي: ويقولُ المُشرِكونَ: متى سيأتينا عذابُ اللهِ إن كُنتُم- أيُّها الرَّسولُ ومَن اتَّبَعَك- صادقينَ فيما تَعِدونَنا به مِن العَذابِ ؟!

قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (49).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أمَرَ اللهُ تعالى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يُجيبَ عن شُبهةِ تأخُّرِ الوعيدِ بجوابٍ يحسِمُ المادَّةَ، وهو قولُه: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ والمرادُ أنَّ إنزالَ العذابِ على الأعداءِ، وإظهارَ النُّصرةِ للأولياءِ، لا يَقدِرُ عليه أحَدٌ إلَّا اللهُ سُبحانه، وأنَّه تعالى ما عَيَّنَ لذلك الوعدِ والوعيدِ وقتًا مُعَيَّنًا .

وأيضًا لَمَّا تضَمَّنَ قَولُهم: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ استعجالَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما يتوعَّدُهم به، أمَرَه بأن يتبَرَّأَ من القدرةِ على شيءٍ لم يُقْدِرْه اللهُ عليه .

قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ.

أي: قُلْ لهم- يا مُحمَّدُ-: لا أقدِرُ على ضَرِّ نَفسي ولا نَفْعِها في ديني ولا دُنياي، إلَّا ما شاء اللهُ أن أملِكَه وأقدِرَ عليه، ولستُ قادرًا على الإتيانِ بما تسألونَني عنه مِن العذابِ .

لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ.

أي: لكلِّ قومٍ وقتٌ محددٌ قدَّره اللهُ لانقضاءِ مُدَّتِهم .

إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ.

أي: إذا جاء وقتُ انقضاءِ أجَلِ كلِّ أمةٍ، فلا يُؤخَّرونَ عن ذلك الوَقتِ الذي قدَّرَه اللهُ لهلاكِهم ساعةً، ولا يتقدَّم أجَلُهم عنه .

كما قال تعالى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ [الحجر: 5] .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا كان جُلُّ قَصدِ المُشرِكينَ بِقَولِهم السَّابِقِ: الاستهزاءَ، وكان وقوعُه أمرًا مُمكِنًا، وكان مِن شأنِ العاقِلِ أن يَبعُدَ عن كلِّ خَطَرٍ ممكِنٍ- أمَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بجوابٍ آخَرَ .

وأيضًا فإنَّ هذا جوابٌ ثانٍ عَن قَولِهم: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ باعتبارِ ما يتضَمَّنُه قَولُهم مِن الوَعدِ بأنَّهم يُؤمِنونَ إذا حَقَّ الوَعدُ الذي توعَّدَهم به، وهذا الجوابُ إبداءٌ لخَلَلِ كَلامِهم واضطرابِ استهزائِهم، وقع هذا الأمرُ بأن يُجيبَهم هذا الجوابَ بعد أن أُمِرَ بأن يجيبَهم بِقَولِه: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وهذا الجوابُ واقِعٌ موقِعَ التَّسليمِ الجَدَليِّ بعد أن يُجابَ المُخطئُ بالإبطالِ .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا.

أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ: أخبِروني إن أتاكم عذابُ اللهِ ليلًا، وقتَ نَومِكم، أو نهارًا، وقتَ اشتغالِكم بمَعاشِكم .

مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ.

أي: أيَّ شيءٍ يَستعجِلُ المُشرِكونَ مِن العذابِ إلا الشَّرَّ الذي لا يستطيعونَ دَفْعَه عن أنفُسِهم ؟

أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51).

أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ.

أي: أإذا نزَلَ عذابُ اللهِ بكم- أيُّها المُشرِكونَ- آمَنتُم به حين لا ينفَعُكم الإيمانُ ؟!

قال سبحانه: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 84-85] .

آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ.

أي: آلآنَ تُؤمِنونَ- أيُّها المُشرِكونَ- بعد أن وقَعَ بكم العذابُ، وقد كنتُم قبل مَجيئِه تَستعجِلونَه مُكَذِّبينَ به ؟

كما قال تعالى عن فِرعونَ لَمَّا أدرَكَه الغَرَقُ: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 90-91] .

ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (52).

ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ.

أي: ثمَّ يُقالُ يومَ القيامةِ للَّذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ بالله: تجرَّعوا العَذابَ الدَّائمَ الذي لا ينقَطِعُ .

هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ.

أي: يُقالُ للذينَ ظَلَموا: هل يُجازيكم اللهُ إلَّا بما كُنتُم تعملونَ في الدُّنيا من الكُفرِ والتَّكذيبِ والمعاصي ؟

كما قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 13 - 16].

وقال سُبحانه: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ: 21 - 30] .

وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لما أخبَر عن الكفارِ بقولِه: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 48] ، وأجابَ عنه؛ حكَى عنهم أنَّهم رجَعوا إلى الرسولِ مرةً أخرَى في عينِ هذه الواقعةِ، وسألوه عن ذلك السُّؤالِ مرةً أُخرَى .

وأيضًا فإنَّ هذا حِكايةُ فَنٍّ مِن أفانينِ تَكذيبِ المُشرِكينَ، فمَرَّةً يتظاهرونَ باستبطاءِ الوَعدِ استخفافًا به، ومَرَّةً يُقبِلونَ على الرَّسولِ في صورةِ المُستَفهِم الطَّالبِ، فيسألونَه: أهذا العذابُ الخالِدُ- أي: عذابُ الآخرةِ- حَقٌّ؟! فالجملةُ مَعطوفةٌ على جملةِ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [يونس: 48] .

وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ.

أي: ويَستخبِرُك المُشرِكونَ- يا محمَّدُ- فيقولونَ لك: أحقٌّ ما تَعِدُنا به ؟

قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ.

أي: قُلْ لهم- يا محمَّدُ-: نعَمْ، وأُقسِمُ بربِّي إنَّ ما وعَدْتُكم به لَحَقٌّ واقعٌ، لا شكَّ فيه، وما أنتم بفائِتي اللهِ؛ فهو قادرٌ عليكم

 

.

الفوائد التربوية:

 

في قَولِ اللهِ تعالى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أعظَمُ واعظٍ، وأبلَغُ زاجرٍ لِمَن صار ديدَنُه وهِجِّيراه المُناداةَ لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والاستغاثةَ به عندَ نُزولِ النَّوازِلِ التي لا يَقدِرُ على دَفْعِها إلَّا اللهُ سبحانه، وكذلك مَن صار يطلُبُ مِن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما لا يقدِرُ على تحصيلِه إلَّا اللهُ سُبحانَه، فإنَّ هذا مقامُ رَبِّ العالمينَ الذي خلقَ الأنبياءَ والصَّالحين وجميعَ المخلوقينَ، ورَزَقهم، وأحياهم ويُميتُهم، فكيف يُطلَبُ من نبيٍّ من الأنبياءِ، أو مَلَكٍ من الملائكةِ، أو صالحٍ مِن الصالحينَ ما هو عاجزٌ عنه، غيرُ قادرٍ عليه، ويُترَكُ الطَّلَبُ لِرَبِّ الأربابِ، القادرِ على كلِّ شَيءٍ، الخالق الرزاق، المعطي المانِعُ؟! وحَسبُك بما في هذه الآيةِ مَوعِظةً؛ فإنَّ هذا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ، وخاتَمُ الرُّسُل، يأمُرُه اللهُ بأن يقولَ لعبادِه: لا أملِكُ لِنَفسي ضَرًّا ولا نفعًا، فكيف يملِكُه لِغَيره، وكيف يملِكُه غيرُه- مَن رُتبَتُه دون رُتبَتِه، ومَنزِلَتُه لا تبلُغُ إلى مَنزِلتِه- لنفسِه، فضلًا عن أن يَملِكَه لِغَيرِه، فيا عجبًا لِقَومٍ يعكُفونَ على قبورِ الأمواتِ، الذين قد صاروا تحت أطباقِ الثَّرى، ويطلُبونَ منهم من الحوائِجِ ما لا يقدِرُ عليه إلَّا اللهُ عزَّ وجَلَّ! كيف لا يتيقَّظونَ لِما وقَعوا فيه مِن الشِّركِ، ولا يتنَبَّهونَ لِما حَلَّ بهم من المُخالفةِ لِمَعنى: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ومَدلولِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ

 

؟!

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ يدلُّ على أنَّ أحدًا لا يموتُ إلَّا بانقضاءِ أجَلِه، وكذلك المقتولُ لا يُقتَلُ إلَّا على هذا الوجهِ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُجيبَهم بهذا القَسَمِ، والفائدةُ فيه أمورٌ:

أحدها: أن يَستَميلَهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويتكَلَّمَ معهم بالكلامِ المُعتادِ، ومن الظَّاهِرِ أنَّ مَن أخبَرَ عن شيءٍ وأكَّدَه بالقَسَمِ، فقد أخرَجَه عن الهَزْلِ، وأدخَلَه في بابِ الجِدِّ. وثانيها: أنَّ النَّاسَ طَبَقاتٌ؛ فمِنهم مَن لا يُقِرُّ بالشَّيءِ إلَّا بالبُرهانِ الحَقيقيِّ، ومنهم من لا ينتَفِعُ بالبُرهانِ الحَقيقيِّ، بل ينتَفِعُ بالأشياءِ الإقناعيَّةِ نحو القَسَمِ .

3- كثرةُ الحَلِفِ مكروهٌ، ولكنْ قد يُستحَبُّ إذا كان فيه مصلحةٌ شرعيَّةٌ، كما أمَرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ، قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: 7] ، قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ

 

[سبأ: 3] .

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

قولُه: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فيه حكايةُ قولِهم بصيغةِ المضارِعِ (يَقولون)؛ لِقَصدِ استِحْضارِ الحالةِ، وللدَّلالةِ على تَكرُّرِ صُدورِه مِنهم، والسُّؤالُ مُستعمَلٌ في الاستِبْطاءِ، وهو كِنايةٌ عن عدَمِ اكْتِراثِهم به، وأنَّهم لا يَأْبَهون به؛ لِيَنتقِلَ مِن ذلك إلى أنَّهم مُكذِّبون بحُصولِه بطريقِ الإيماءِ بقَرينةِ قولِهم: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وهُم يُريدون أنَّنا لا نُصدِّقُك حتَّى نرى ما وعَدتَنا؛ كنايةً عن اعتِقادِهم عدَمَ حُلولِه، وأنَّهم لا يُصدِّقون به

.

2- قوله تعالى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ

قولُه: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا: فيه تقديمُ الضَّرِّ؛ لأنَّ مَساقَ النَّظْمِ لإظهارِ العَجْزِ عنه، وأمَّا ذِكْرُ النَّفعِ فلِتَوسيعِ الدَّائرةِ تَكمِلةً للعَجزِ، وما وقَع في سورةِ الأعرافِ مِن تقديمِ النَّفعِ في قوله: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف: 188] ؛ للإشعارِ بأهمِّيَّتِه والمقامُ مَقامُه .

قولُه: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فيه إظهارُ أَجَلُهُمْ في موقعِ الإضمارِ؛ فعلى القولِ بأنَّ الضَّميرَ في أَجَلُهُمْ جُعِل للأُمَمِ المدلولِ عليها بـ (كلِّ أمَّةٍ)؛ فإظهارُ (الأجَلِ) مُضافًا إليه؛ لإفادةِ المعنى المقصودِ الَّذي هو بُلوغُ كلِّ أمَّةٍ أجَلَها الخاصَّ بها، فالإظهارُ في موقعِ الإضمارِ؛ لزيادةِ التَّقريرِ، والإضافةُ إلى الضَّميرِ؛ لإفادةِ كَمالِ التَّعيينِ، أي: إذا جاءَها أجَلُها الخاصُّ بها .

قولُه: فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قدَّم بيانَ انتفاءِ الاستِئْخارِ على بيانِ انتفاءِ الاستقدامِ؛ لأنَّ المقصودَ الأهَمَّ بيانُ عدَمِ خَلاصِهم مِن العذابِ ولو ساعةً، وذلك بالتَّأخُّرِ، بخِلافِ ما في قولِه تعالى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ [الحجر: 5، والمؤمنون:43]، حيث تقدَّم (السَّبقُ) في الذِّكرِ؛ لأنَّ المرادَ بيانُ سِرِّ تأخيرِ عَذابِهم مع استحقاقِهم له حسَبما يُنبِئُ عنه قولُه تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3] ؛ فالأهَمُّ إذ ذاك بيانُ انتفاءِ السَّبْقِ .

3- قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ

أمَرَ تعالى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بجوابٍ آخَرَ بعدَ الجوابِ في الآيةِ المتقَدِّمةِ، في قَولِه تعالى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، حذَف مِن هذا الجوابِ الآخرِ واوَ العطفِ؛ لئلا يُظنَّ أنَّه لا يكفي في كونِه جوابًا إلا بضمِّه إلى ما عُطِف عليه .

قال: بَيَاتًا ولم يَقُل: (لَيْلًا) مع أنَّه أكثَرُ استعمالًا، وأظهَرُ مطابقةً مع النَّهارِ؛ لأنَّ المعهودَ في الاستعمالِ عندَ ذِكرِ الإهلاكِ والتَّهديدِ ذِكرُ البَياتِ، وإنْ قُرِنَ به النَّهارُ .

لَمَّا كان أخذُ اللَّيلِ أنكى وأسرَعَ، قَدَّمَه فقال: بَيَاتًا أي: في اللَّيلِ بَغتةً وأنتم نائِمونَ .

لَمَّا كان الظَّفَرُ ليلًا لا يستلزِمُ الظَّفَرَ نهارًا مُجاهرةً، قال: أَوْ نَهَارًا أي: مُكاشَفةً، وأنتم مُستَيقِظونَ .

قولُه: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ يحتملُ أن تَكونَ جملةُ الاستفهامِ جاءت على سبيلِ التَّلطُّفِ بهم، والتَّنبيهِ لهم على أنَّ العذابَ لا ينبَغي أن يُستعجَلَ، ويجوزُ أن تكونَ الجملةُ جاءَت على سبيلِ التَّعجُّبِ والتَّهويلِ للعذابِ، أي: أيَّ شيءٍ شديدٍ تَستعجِلون مِنه، أي: ما أشدَّ وأهوَلَ ما تستَعجِلون مِن العذابِ ! ويحتملُ أنَّ الاستفهامَ مُستعمَلٌ في الإنكارِ عَليهم، وفي التَّعجُّبِ مِن تَعجُّلِهم العذابَ بنِيَّةِ أنَّهم يُؤمِنون به عندَ نُزولِه .

وقولُه أيضًا: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ، حيث لم يَقُلْ: (ماذا يَستعجِلون منه)؛ لِقَصدِ التَّسجيلِ عليهم بالإجرامِ، وللتَّنبيهِ على خطَئِهم في استعجالِ الوعيدِ؛ لأنَّه يأتي عليهم بالإهلاكِ فيَصيرون إلى الآخرةِ ، فإنَّهم لِجُرمِهم ينبغي أن يَفزَعوا من مجيءِ الوَعيدِ لا أن يَستعجِلوا .

4- قوله تعالى: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ

قولُه: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ استفهامٌ مستعمَلٌ في الإنكارِ بمعنى التَّغليطِ، وإفسادِ رأيِهم؛ فإنَّهم وعَدوا بالإيمانِ عند نزولِ العذابِ؛ استِهْزاءً مِنهم، فوقَع الجوابُ بمُجاراةِ ظاهرِ حالِهم، وبيانِ أخطائِهم .

قولُه: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ الاستفهامُ في آلآنَ استفهامٌ إنكاريٌّ عن حصولِ إيمانِهم عند حُلولِ ما توَعَّدهم؛ فعبَّر عن وقتِ وُقوعِه باسمِ الزَّمانِ الحاضرِ، وهو (الآنَ)؛ حكايةً للِسانِ حالِ مُنكِرٍ عليهم في ذلك الوقتِ؛ استحضَر حالَ حُلولِ الوعدِ، كأنَّه حاضرٌ في زمنِ التَّكلُّمِ، وهذا الاستحضارُ مِن تخييلِ الحالةِ المستقبَلةِ واقعةً .

قولُه: وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ يُفيدُ تَشديدَ التَّوبيخِ والتَّقريعِ، وزيادةَ التَّنديمِ والتَّحسيرِ؛ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ بِهِ على الفعلِ تَسْتَعْجِلُونَ؛ للاهتمامِ بالوعدِ الَّذي كذَّبوا به، ولِمُراعاةِ الفواصلِ .

5- قوله تعالى: ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ

في الإتيانِ بـ (ثُمَّ) إشارةٌ إلى تراخي ذلك عن الإهلاكِ في الدُّنيا بالمُكثِ في البَرزخِ، أو إلى أنَّ عَذابَه أدنى مِن عذابِ يَومِ الدِّينِ .

قولُه: ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ فيه استعمالُ صِيغةِ المُضِيِّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا في معنى المستقبَلِ؛ تَنبيهًا على تحقيقِ وُقوعِه، مِثلُ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [النحل:1] .

وقولُه: لِلَّذِينَ ظَلَمُوا فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيث لم يَقُلْ: (قيل لهم)- فوضَع الموصولَ موضِعَ الضَّميرِ؛ لِتَسجيلِ وصفِ الظُّلمِ عليهم، أي: لِذَمِّهم بما في حيِّزِ الصِّلةِ، وللإشعارِ بعِلِّيَّتِه لإصابةِ ما أصابَهم .

وقولُه: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ الاستفهامُ إنكاريٌّ بمعنى النَّفيِ؛ ولذلك جاء بعدَه الاستثناءُ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ، وفيه توبيخٌ لهم، وتوضيحُ أنَّ الجزاءَ هو على كَسْبِ العبدِ .

قَولُ الله تعالى: هَلْ تُجْزَوْنَ بناه للمَفعولِ؛ لأنَّ المُخيفَ مُطلَقُ الجَزاءِ .

6- قولُه تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ

الاستِفْهامُ في قولِه: أَحَقٌّ هُوَ استفهامٌ على جهةِ الإنكارِ والاستهزاءِ .

وقولُه أيضًا: أَحَقٌّ هُوَ فيه تقديمُ الخبَرِ (حقٌّ) على المبتدَأِ هُوَ؛ للاهتمامِ به .

قولُه: قُلْ إِيْ وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ فيه زيادةُ توكيدٍ بإظهارِ الجملةِ الَّتي كانَت تُضمَرُ بعدَ قولِه: إِيْ وَرَبِّي، وهي مَسوقةٌ مُؤكَّدةٌ بـ(إنَّ) واللَّامِ؛ مُبالَغةً في التَّوكيدِ في الجوابِ .

========

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (54-56)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ تعالى أنَّه لو كان لكُلِّ نَفسٍ كفَرَت باللهِ أو أشركَت به جميعُ ما في الأرضِ، لبَذَلتْه يومَ القيامةِ- لو كان يُقبَلُ منها- لِتَفتديَ به من عذابِ اللهِ تعالى، وأخفى الكُفَّارُ الحَسرةَ والتأسُّفَ على كُفرِهم حين رأَوا عذابَ اللهِ تعالى يومَ القيامةِ، وتيقَّنوا أنَّه واقِعٌ بهم، وقضى اللهُ بينهم بالعَدلِ، وهو غيرُ ظالمٍ لهم.

ألَا إنَّ لله وَحدَه كلَّ ما في السَّمواتِ والأرضِ، ألا إنَّ وَعدَه تعالى حقٌّ لا محالةَ، ولكِنَّ أكثَرَ أولئك المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ.

هو سبحانَه وَحْدَه يُحيي ويُميتُ، وإليه وَحْدَه- أيُّها النَّاسُ- مَرجِعُكم ومَصيرُكم بعد مَوتِكم، فيُجازيكم يومَ القيامةِ بأعمالِكم.

تفسير الآيات:

 

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (54).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى العذابَ، وأقسَمَ على حقيقَتِه، وأنَّ المُشرِكينَ لا يُفلِتونَ منه؛ ذكَرَ بعضَ أحوالِ الظَّالِمينَ في الآخرةِ

، فقال:

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ.

أي: ولو أنَّ لكُلِّ نَفسٍ كفَرَت باللهِ، جميعَ ما في الأرضِ، لبَذَلَت ذلك يومَ القيامةِ- لو كان يُقبَلُ منها- لتفتَدِيَ به من عذابِ اللهِ .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91] .

وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ.

أي: وأخفَى الكُفَّارُ الحَسرةَ والتأسُّفَ على كُفرِهم حين رأَوْا عذابَ اللهِ يومَ القيامةِ، واستيقَنوا أنَّه واقعٌ بهم .

وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ.

أي: وقضَى اللهُ بينَ الكُفَّارِ بالعَدلِ، وهو غيرُ ظالمٍ لهم .

أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (55).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى قال قبلَ هذه الآيةِ: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ [يونس:54] ، فلا جرَمَ قال في هذه الآيةِ: ليس للظالمِ شَيءٌ يَفتَدي به؛ فإنَّ كلَّ الأشياءِ مِلكُ اللهِ تعالى ومُلكُه .

أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .

أي: ألَا إنَّ لِلَّهِ وَحْدَه جميعَ ما في السَّمواتِ والأرضِ، فلا مانِعَ يَمنَعُه من إنفاذِ حُكمِه .

أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.

أي: ألا إنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ لا محالةَ، ولكنَّ أكثَرَ أولئك المُشرِكينَ لا يعلمونَ ذلك، فهم به يُكذِّبونَ .

هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56).

هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ.

أي: اللهُ وَحدَه هو المتصَرِّفُ بالإحياءِ والإماتةِ، فلا يتعذَّرُ عليه إحياءُ المُشرِكينَ وغَيرِهم، ولا إماتَتُهم إذا أراد ذلك .

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

أي: وإلى اللهِ وَحْدَه مَصيرُكم- أيُّها النَّاسُ- بعد مَوتِكم، فيُجازيكم يومَ القيامةِ بأعمالِكم

 

.

الفوائد التربوية:

 

النفعُ والضرُّ، والثوابُ والعقابُ يكون على الأعمالِ الصالحةِ والسيئةِ، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ، فـ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ بالكفرِ والمعاصي جميعَ مَا فِي الأَرْضِ مِن ذهبٍ وفضةٍ وغيرهما، لتفتديَ به مِن عذابِ اللهِ يومَ القيامةِ لافْتَدَتْ بِهِ ولما نفَعها ذلك

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ ذكَرَ لِكُلِّ نَفْسٍ دون أن يُقالَ (ولو أنَّ لكم ما في الأرضِ لافتَدَيتُم به)؛ لأنَّ المعنى أنَّ هذا العذابَ لا تتحَمَّلُه أيَّةُ نَفسٍ على تفاوُتِ الأنفُسِ في احتمالِ الآلامِ

.

2- قال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وإنَّما يقَعُ هذا الكِتمانُ منهم قبلَ إحراقِ النَّارِ لهم، فإذا أحرَقَتْهم النَّارُ ألهَـتْهم عن هذا التصَنُّعِ لِمَن كان يَتبَعُهم في الدُّنيا؛ يدلُّ على هذا قَولُه تعالى: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا... الآيات [المؤمنون: 106] ، فهم في هذه الحالِ لا يكتُمونَ نَدَمَهم .

3- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ صَدَّرَ الجملةَ بِحَرفِ التَّنبيهِ (ألا) الذي يُفتَتَحُ به الكلامُ؛ لِتَنبيهِ الغافلينَ عن هذه الحَقيقةِ، وإن كانوا يعرفونَها؛ لكثرةِ ذُهولِ النَّاسِ عن تذكُّرِ أمثالِها .

4- قَولُ الله تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فيه تقييدُ نَفيِ العِلمِ بالأكثَرِ؛ إشارةً إلى أنَّ منهم مَن يعلَمُ ذلك، ولكِنَّه يجحَدُه مكابرةً

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

قولُه: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ، فيه تقديمُ خبرِ (أنَّ) لِكُلِّ نَفْسٍ على الاسمِ ما؛ للاهتمامِ بما فيه مِن العمومِ؛ بحيث يَنُصُّ على أنَّه لا تَسلَمُ نفسٌ مِن ذلك

.

وقولُه: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ فيه التَّعبيرُ عن الإسرارِ المستقبَليِّ بلفظِ الماضي وَأَسَرُّوا؛ تَنبيهًا على تحقيقِ وُقوعِه حتَّى كأنَّه قد مضَى، والمعنى: وسيُسِرُّون النَّدامةَ قطعًا، وكذلك قولُه: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ .

والعدولُ إلى صيغةِ الجمعِ وَأَسَرُّوا مع تحقُّقِ العمومِ في صورةِ الإفرادِ أيضًا (وأسَرَّت)؛ لإفادةِ تَهويلِ الخَطْبِ بكَونِ الإسرارِ بطريقِ المعيَّةِ والاجتماعِ، ولم يُراعَ ذلك فيما سبَق لتحقيقِ ما يُتوخَّى مِن فرضِ كَونِ جميعِ ما في الأرضِ لكلِّ واحدةٍ من النُّفوسِ .

2- قَولُه تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

قولُه: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ... تذييلُ إنهاءٍ للكلامِ المتعلِّقِ بصدقِ الرَّسولِ والقرآنِ وما جاء به مِن الوعيدِ، وتَرقُّبِ يومِ البعثِ ويومِ نُزولِ العذابِ بالمشرِكين، وقد اشتَمل هذا التَّذييلُ على مُجمَلِ تفصيلِ ذلك الغرَضِ، وعلى تعليلِه بأنَّ مَن هذه شُؤونُه لا يَعجِزُ عن تَحقيقِ ما أخبَر بوُقوعِه، وافتُتح هذا التَّذييلُ بحَرفِ التَّنبيهِ أَلَا، وأُعيدَ فيه حرفُ التَّنبيهِ للتأكيدِ على استِماعِه، وللتَّنبيهِ على أنَّه كلامٌ جامعٌ هو مُحصِّلةُ الغرَضِ الَّذي سَمِعوا تَفصيلَه آنِفًا ، وقيل: أعاد حرفَ التنبيهِ (ألا) تأكيدًا لتمييزِه تعالى بهذا التنبيهِ عما سبَقه؛ لأنَّه المقصودُ هنا بذاتِه، وإنَّما ذكر قبلَه للاستدلالِ عليه، أي كلُّ ما وعَد به على لسانِ رسلِه حقٌّ واقعٌ، لا ريبَ فيه؛ لأنَّه وعدُ المالكِ القادرِ على إنجازِ ما وعَد، لا يعجزُه منه شيءٌ .

وفيه تأكيدُ الخبرِ بحرفِ (إنَّ)؛ للرَّدِّ على المشركين؛ لأنَّهم لَمَّا جعَلوا للهِ شُرَكاءَ فقد جعَلوها غيرَ مَملوكةٍ للهِ، وكذلك أَكَّد بحرفِ التَّوكيدِ (إنَّ) بعدَ حرفِ التَّنبيهِ (ألَا) في الموضِعَين؛ للاهتمامِ به، ولِرَدِّ إنكارِ مُنكِري بعضِه والَّذين هم بمَنزِلةِ المنكِرين بعضَه الآخَرَ .

وفي قولِه: إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ تقديمُ خبَرِ إنَّ لِلَّهِ على اسمِها مَا؛ للاهتمامِ باسمِه تعالى، ولإفادةِ القَصْرِ؛ لِرَدِّ اعتقادِهم الشَّرِكةَ .

وفي قولِه تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثم قال بعدَ عشرِ آياتٍ مِن الآيةِ المذكورةِ: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ [يونس: 66] ، ثم قال بعدَ ذلك: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا [يونس: 68] ، فقال في الآيةِ الأولى: مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وفي الثَّانيةِ: مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ؛ وذلك لأنَّ الأُولى جاءَت بعدَ قولِه تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ [يونس: 54] ، فكان المعنى: أنَّ النَّفْسَ الظَّالمةَ إذا رأَتْ عذابَ اللهِ تعالى لو مَلَكَت جميعَ ما في الأرضِ لبذَلَته في فداءِ نفسِها، وهي تَحرِصُ على اليَسيرِ مِن حُطامِها في ظُلمِ أهلِها؛ فكرَّر على ذلك بقولِه: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، أي: إنَّ النَّفسَ الظَّالمةَ لا تَملِكُ ما في الأرضِ فتَفتَدي به، ولو ملَكَتْه لَما قُبِلَ في فِدائِها، وكيف يكونُ لها ذلك، واللهُ تعالى مالِكُ ما في السَّمواتِ والأرضِ، وليس للعبدِ ذلك، ولا مَحِلُّه هنالك؟! فناسَب لهذا المكان: (ما).

وأمَّا الموضعُ الَّذي ذُكِر فيه (مَن) فلم يَصِحَّ فيها غيرُها؛ لأنَّ قبْلَه: وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [يونس: 65- 66] ، والمعنى: لا يَحزُنْك ما يتَوعَّدُك به الكفَّارُ مِن القتلِ وأنواعِ المكروهِ؛ فإنَّ العزَّةَ للهِ تعالى، لا يَمنَحُ الكفَّارَ قُدرةً على ما يُريدونه مِنك، بل يُعطيك القدرةَ عليهم، والغلَبةَ لهم، فإنَّه يَملِكُ مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ، ولا قوَّةَ لهم إلَّا به، ولا قُدرةَ لهم إلَّا مِن عِندِه، فاقتضى هذا المكانُ (مَن) .

والسَّببُ في إعادةِ (مَن) في قولِه: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [يونس: 66] ، وتَرْكِ إعادةِ (ما) في الآيةِ الأولى أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس: 55] ، فلَم يَقُلْ: (وما في الأرضِ): أنَّ المقصودَ بالذِّكرِ أنَّه قادرٌ على أن يَكفِيَ نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أمْرَه مِمَّن في الأرضِ مِن الكفَّارِ الَّذين بُعِث إليهم، وخوَّفوه أذاهم؛ فقرَن إلى ذِكْرِهم ذِكْرَ مَن في السَّمواتِ، وهم أكبَرُ شأنًا وأعظَمُ أمرًا؛ فإذا مُلِكوا كان مَن دونهم أدْوَنَ؛ فإعادةُ (مَن) مع ذِكرِ الأرضِ؛ للتَّوكيدِ الَّذي اقتَضاه القَصدُ إلى ذِكْرِهم. وأمَّا حذفُ (ما) في الآيةِ الأولى عندَ ذِكْرِ الأرضِ؛ فلأنَّ ذِكرَها قد تَقدَّم، وهو: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ [يونس: 54] ، فلمَّا قال: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، كان ما في ذِكْرِ الأرضِ هناك، ورُجوعُ هذا إلى ذلك المعنى مِثلُ ذِكْرِه في هذا الموضِعِ، فأغْنَى ذلك عن التَّكريرِ .

ووجهُ تَكْرارِ (ما) في قولِه: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا [يونس: 68] ، وحَذْفِها من الآيةِ الأولى: أنَّ قَبْلَه: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [يونس: 68] ، فنزَّه نفْسَه تعالى عن الولَدِ، وأخبَر أنَّه غنيٌّ عمَّا يُجلَبُ باتِّخاذِه، ويُستفادُ بمَكانِه، إذ كان مالِكًا لكلِّ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، فكان الموضعُ موضعَ توكيدٍ؛ فكأنَّه قال: (إذا كان له كلُّ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، فلِماذا يتَّخِذُ الولدَ؟)، فإعادةُ (ما) في هذا المكانِ؛ لهذا الضَّربِ من التَّوكيدِ، أي: هو غنيٌّ لا يَحتاجُ إلى ولَدٍ يُعينُه على شيءٍ ممَّا في السَّمواتِ، وهو مالِكٌ له كلِّه، ولا إلى أن يُعينَه على شيءٍ ممَّا في الأرضِ، وهو مالِكٌ له بأَسْرِه، فلمَّا تأكَّد الكلامُ في مثلِ هذا المكانِ جاءت (ما) مُعادَةً لهذا الشَّأنِ .

وفي قولِه تعالى: أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ إظهارُ اسمِ الجلالةِ دونَ الإتيانِ بضَميرِه؛ لِتَفخيمِ شأنِ الوعدِ، والإشعارِ بعِلَّةِ الحُكمِ ، ولِتَكونَ الجملةُ مُستقلَّةً؛ لِتَجريَ مَجْرى المثَلِ، والكلامِ الجامعِ .

======

 

سُورةُ يُونُس

الآيتان (57-58)

ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات:

 

مَوْعِظَةٌ: الوعظُ: تخويفٌ، أو: زجْرٌ مُقترِنٌ بتَخويفٍ، وتذكيرٌ بالخيرِ وما يَرِقُّ له القلبُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُوجِّهُ الله سُبحانَه نداءً إلى النَّاسِ كافَّةً، فيقولُ: يا أيُّها النَّاسُ، قد أتاكم من ربِّكم قرآنٌ يأمُرُكم ويزجُرُكم، ويرَقِّقُ قُلوبَكم، وهو دواءٌ للقلوبِ مِن الشَّهواتِ والشُّبُهاتِ، ورُشدٌ لِمن اتَّبَعه مِن الخَلقِ، فيُنجيه مِن الهلاكِ، وهو رحمةٌ يحصُلُ به الخيرُ والإحسانُ والثَّوابُ للمُؤمِنينَ، ثمَّ أمر رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ: افرَحوا بالإيمانِ والقُرآنِ، لا بمتاعِ الدُّنيا، وأموالِها الزَّائلةِ؛ فذلك خيرٌ ممَّا يجمَعُه النَّاسُ مِن حُطامِها الفاني.

تفسير الآيتين:

 

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ الأدلَّةَ على الألوهيَّةِ والوحدانيَّةِ والقدرةِ؛ ذكَرَ الدلائِلَ الدالَّةَ على صحَّةِ النبوَّةِ، والطَّريقَ المؤدِّيَ إليها وهو القُرآنُ، والمتَّصِفُ بهذه الأوصافِ الشَّريفةِ هو القُرآنُ

.

وأيضًا لَمَّا بيَّنَ الله تعالى أنَّ الرَّسولَ حَقٌّ وصِدقٌ بظهورِ المُعجِزاتِ على يَدَيه، في قَولِه: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس: 37] ، إلى قَولِه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 38] وصَفَ القرآنَ هنا بصفاتٍ أربعٍ: أوَّلُها: كونُه مَوعِظةً. وثانيها: كونُه شِفاءً لِما في الصُّدورِ. وثالثُها: كونُه هدًى. ورابعُها: كونُه رحمةً للعالَمينَ .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ.

أي: يا أيُّها النَّاسُ، قد أتاكم قرآنٌ يأمُرُكم ويزجُرُكم، ويرقِّقُ قُلوبَكم، وتَصلُحُ به أحوالُكم، مُنزَّلٌ مِن عندِ رَبِّكم .

وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ.

أي: ودواءٌ للقُلوبِ مِن الشَّهَواتِ والشُّبُهاتِ، يشفي من الجَهلِ والشَّكِّ، والنِّفاقِ والغَيِّ .

كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82] .

وقال سُبحانه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] .

وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ.

أي: وبيانٌ للحَلالِ مِن الحرامِ، ودليلٌ على الطَّاعةِ والمعصية، ورشدٌ لمن اتَّبَعه، وهو رحمةٌ يحصلُ به الخَيرُ والإحسانُ والثوابُ للمُؤمِنينَ .

كما قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] .

وقال سُبحانه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] .

قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّه يتفَرَّعُ على كونِ القُرآنِ هُدًى ورحمةً للمُؤمنِينَ تَنبيهُهم إلى أنَّ ذلك فضلٌ مِن اللهِ عليهم ورحمةٌ بهم، يحِقُّ لهم أن يَفرَحوا بهما، وأن يَقْدُروا قَدْرَ نِعمَتِهما، وأن يعلَموا أنَّها نِعمةٌ تَفوقُ نعمةَ المالِ التي حُرِمَ منها أكثَرُ المؤمنينَ، ومُنِحَها أكثَرُ المُشرِكينَ .

قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ -: بالإسلامِ والقرآنِ فلْيَفرَحوا، لا بمتاعِ الدُّنيا الفانيةِ، وأموالِها الزَّائلةِ .

هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ.

أي: الإسلامُ والقُرآنُ خَيرٌ مما يجمَعُ النَّاسُ في الدُّنيا مِن مَتاعٍ وأموالٍ

 

.

كما قال تعالى: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 32] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَولُه: وِشَفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ أي: دواءٌ للقُلوبِ مِن داءِ الجَهلِ والشبهات والشهوات وغيرها؛ لأنَّ داءَ الجهلِ أضرُّ للقلبِ مِن المَرَض للبَدَن، وأمراضُ القلبِ هي الأخلاقُ الذَّميمةُ، والعقائِدُ الفاسدةُ، والجَهالاتُ المُهلِكةُ، والقرآنُ مُزيلٌ لهذه الأمراضِ كُلِّها؛ لأنَّ فيه المواعِظَ والزَّواجِرَ، والتخويفَ، والتَّرغيبَ والتَّرهيبَ، والتَّحذيرَ والتَّذكيرَ، فهو الشِّفاءُ لهذه الأمراضِ القَلبيَّةِ

.

2- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إذا حصل الهُدى، وحَلَّت الرَّحمةُ النَّاشِئةُ عنه، حصلتِ السَّعادةُ والفلاحُ، والرِّبحُ والنَّجاحُ، والفَرَح والسُّرورُ؛ ولذلك أمَرَ تعالى بالفَرَحِ بذلك، فقال: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ .

3- قال الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ إذا حَصَلَت اللَّذَّاتُ الرُّوحانيَّةُ، فإنَّه يجِبُ على العاقِلِ ألَّا يفرَحَ بها من حيثُ هي هي، بل يجِبُ أن يفرَحَ بها من حيثُ إنَّها مِن اللهِ تعالى، وبفضلِ اللهِ وبِرحمتِه .

4- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فيه كراهةُ تأسفِ القارئِ والعالمِ على ضيقِ حالِه في الدُّنيا، واستحبابُ تذكرِه أنَّ ما أُوتي أفضلُ مما أُوتي أصحابُ الأموالِ .

5- نِعمةُ الدِّينِ المتَّصِلةُ بسَعادةِ الدَّارَينِ، لا نسبةَ بينها وبين جميعِ ما في الدُّنيا، ممَّا هو مُضمَحِلٌّ زائِلٌ عن قَريبٍ، قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مِن مَتاعِ الدُّنيا ولذَّاتِها .

6- قَولُ الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا إنَّما أمَرَ اللهُ تعالى بالفَرَح بفَضلِه ورَحمتِه؛ لأنَّ ذلك ممَّا يُوجِبُ انبساطَ النَّفسِ ونَشاطَها، وشُكرَها لله تعالى وقوَّتَها، وشِدَّةَ الرَّغبةِ في العِلمِ والإيمانِ الدَّاعي للازديادِ منهما، وهذا فَرَحٌ مَحمودٌ، بخلافِ الفَرَح بشهواتِ الدُّنيا ولذَّاتِها، أو الفَرَح بالباطلِ؛ فإنَّ هذا مذمومٌ .

7- الفَرحُ في قَولِه تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو فرحُ القَلبِ، وهو مِن الإيمانِ، ويثابُ عليه العبدُ، فإنَّ فَرَحَه به يدلُّ على رِضاه به، بل هو فَوقَ الرِّضا؛ لأنَّه يكونُ على قَدْرِ محبَّتِه، فإنَّ الفَرحَ إنَّما يكونُ بالظَّفَر بالمحبوبِ، وعلى قَدْرِ محبَّتِه يفرحُ بحُصولِه له، فالفرَحُ باللهِ وأسمائِه وصِفاتِه، ورَسولِه وسُنَّتِه وكلامِه، محضُ الإيمانِ وصَفوتُه ولُبُّه، وله عبوديَّةٌ عجيبةٌ، وأثَرُ القَلبِ لا يعبِّرُ عنه، فابتهاجُ القَلبِ وسُرورُه وفَرَحُه باللهِ وأسمائِه وصِفاتِه، وكلامِه ورَسولِه ولقائِه؛ أفضَلُ ما يُعطاه، بل هو أجَلُّ عطاياه، والفَرَحُ في الآخرةِ باللهِ ولقائِه بحَسَبِ الفَرَحِ به ومحبَّتِه في الدُّنيا، فالفَرَحُ بالوصولِ إلى المحبوبِ يكونُ على حسَبِ قُوَّةِ المحبَّةِ وضَعفِها، فهذا شأنُ فَرَحِ القَلبِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ المرادُ بما جاءَهم وبَلَغَهم هو ما أُنزِلَ من القرآنِ، وقُرِئَ عليهم، وقد عبَّرَ عنه بأربعِ صِفاتٍ هي أصولُ كَمالِه وخَصائِصِه وهي: أنَّه مَوعِظةٌ، وأنَّه شِفاءٌ لِما في الصُّدورِ، وأنَّه هُدًى، وأنَّه رَحمةٌ للمُؤمِنينَ

.

2- قال تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فالقُرآنُ شِفاءٌ لِما فى الصُّدورِ مِن مَرَضِ الجهلِ والغَيِّ؛ فإنَّ الجَهلَ مَرَضٌ شفاؤه العِلمُ والهُدى، والغَيَّ مَرَضٌ شِفاؤُه الرُّشدُ .

3- قال اللهُ تعالى: وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ جعَلَه تبارك وتعالى رحمةً للمُؤمِنينَ به دونَ الكافرينَ به؛ لأنَّ مَن كفَرَ به فهو عليه عَمًى، وفي الآخرةِ جزاؤُه على الكُفر ِبه الخلودُ في لظَى .

4- قال تعالى: وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الهدُى أجلُّ الوسائِلِ، والرَّحمةُ أكمَلُ المقاصِدِ والرَّغائِبِ .

5- قَولُ الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا دخولُ الباءِ على كلٍّ مِن الفَضلِ والرَّحمةِ هنا يدلُّ على استقلالِ كلٍّ منهما بالفَرَحِ به .

6- شَرَعَ اللهُ لهذه الأُمَّةِ الفرحَ والسرورَ بتمامِ نِعمَتِه وكمالِ رَحمَتِه، كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا .

7- قَولُ الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا لا تَنافي بين الأمرِ بالفَرَحِ هنا، وبين النَّهيِ عنه في قَولِه تعالى: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] لاختلافِ المتعَلَّقِ، فالمأمورُ به هنا الفَرَحُ بفَضلِ اللهِ وبِرَحمتِه، والمنهيُّ هناك الفَرَحُ بجَمعِ الأموالِ لرئاسةِ الدُّنيا، وإرادةِ العُلُوِّ بها، والفَسادِ والأشَرِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ

قولُه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ فيه الْتِفاتٌ، ورجوعٌ إلى استِمالَتِهم نحوَ الحقِّ، واستنزالِهم إلى قَبولِه واتِّباعِه، بعدَ تحذيرِهم مِن غَوائلِ الضَّلالِ بما تُليَ عليهم مِن القوارِعِ النَّاعيةِ عليهم سوءَ عاقبتِهم، وإيذانٌ بأنَّ جميعَ ذلك مَسوقٌ لِمَصالِحِهم ومَنافعِهم

.

وافتِتاحُ الكلامِ بـ قَدْ؛ لِتَأكيدِه؛ لأنَّ في المُخاطَبين كثيرًا ممَّن يُنكِرُ هذه الأوصافَ للقرآنِ .

قولُه: مِنْ رَبِّكُمْ فيه التَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، وهو حَسنُ الموقِعِ هنا؛ ففيه تنبيهٌ على أنَّها بالغةٌ غايةَ كَمالِ أمثالِها ، وتذكيرٌ بما يَزيدُها تعظيمًا، وتبيينٌ لوجوبِ الاتِّعاظِ بها إيمانًا وتسليمًا؛ لأنَّها مِن مالكِ أمرِ النَّاسِ، ومُرَبِّيهم بفَضلِه ورَحمتِه، وعِلمِه وحِكمتِه .

وقَولُه تعالى: وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ خُصَّ الصَّدرُ بالذِّكرِ؛ لأنَّه مَوضِعُ القَلبِ وغيرِه، وهو أعزُّ مَوضعٍ في الإنسانِ لِمكانِ القَلبِ .

وفيه تنكيرُ كلٍّ مِن مَوْعِظَةٌ وَشِفَاءٌ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ؛ للتَّفخيمِ .

2- قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ

قولُه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ فيه تلوينٌ للخِطابِ، وتوجيهٌ له إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليَأمرَ النَّاسَ بأن يَغتنِموا ما في القرآنِ العظيمِ مِن الفضلِ والرَّحمةِ .

وأيضًا في قولِه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ فيه حذْفُ أحَدِ الفِعلَين؛ لِدَلالةِ المذكورِ عليه؛ إذ أصلُ الكلامِ: (بِفَضلِ اللهِ وبِرَحمتِه فَلْيَفرَحوا، فبذلك فَليَفرحوا)، والتَّكريرُ للتَّأكيدِ والتَّقريرِ .

وأخَّرَ الأمرَ، وقدَّمَ عليه متعَلَّقَه؛ لإفادةِ الاختصاصِ؛ فإنَّ أصلَ المعنى بدونِهما: (قُل لِيَفرَحوا بفضلِ الله وبِرَحمتِه)، كأنَّه قال: (إنْ كان في الدنيا شيءٌ يستَحِقُّ أن يُفرَحَ به، فهو فضلُ اللهِ ورَحمتُه) .

والإشارةُ في قولِه: فَبِذَلِكَ للمذكورِ، وهو مجموعُ الفضلِ والرَّحمةِ، واخْتِير للتَّعبيرِ عنه اسمُ الإشارةِ (ذَلِكَ)؛ لِما فيه مِن الدَّلالةِ على التَّنويهِ والتَّعظيمِ، مع زيادةِ التَّمييزِ والاختصارِ .

===

 

سُورةُ يُونُس

الآيتان (59-60)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ تعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ للمُشرِكينَ: أخبِروني عن هذا الرِّزقِ الذي خلَقَه اللهُ لكم، فأحللتُم بعضَ ذلك لأنفُسِكم، وحرَّمتُم بَعضَه، قلْ لهم: هل اللهُ أباح لكم تحليلَ ما أحلَلْتُم، وتحريمَ ما حرَّمتُم، أم أنَّكم تَختَلِقونَ عليه الكَذِبَ؟!

ثمَّ توعَّدَهم سبحانَه بسوءِ المَصيرِ على جُرأتِهم وكَذِبِهم، فقال: وما يظُنُّ هؤلاءِ الذينَ يتخَرَّصونَ على اللهِ الكَذِبَ، أنَّ اللهَ فاعِلٌ بهم يومَ القيامةِ بكَذِبِهم وفِريَتِهم عليه؟! أيحسَبونَ أنَّه سيتركُهم بدونِ عِقابٍ؟ كلَّا، إنَّ عقابَهم لَشديدٌ بسبب افترائِهم عليه الكَذِبَ، إنَّ اللهَ لذو فَضلٍ على خَلْقِه بنِعَمِه الكثيرةِ، والتي منها تسخيرُه نِعَمَ الدُّنيا لهم، وإمهالُه العاصينَ وعدمُ مُعاجَلتِهم بالعقوبةِ، ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَشكرونَ اللهَ على تفَضُّلِه عليهم بذلك.

تفسير الآيتين:

 

قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ (59).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الدَّلائِلَ الكثيرةَ على صِحَّةِ نبُوَّةِ نَفسِه، وبيَّنَ فسادَ سؤالاتِهم وشُبُهاتِهم في إنكارِها- أتبَعَ ذلك ببيانِ فَسادِ طَريقتِهم في شرائِعِهم وأحكامِهم، وبيَّنَ أنَّ التَّمييزَ بين هذه الأشياءِ بالحِلِّ والحُرمةِ- مع أنَّه لم يشهَدْ بذلك لا عَقلٌ ولا نَقلٌ- طريقٌ باطِلٌ، ومَنهجٌ فاسِدٌ، والمقصودُ إبطالُ مذاهِبِ القومِ في أديانِهم وفي أحكامِهم، وأنَّهم ليسُوا على شيءٍ في بابٍ مِن الأبوابِ

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى قولَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس: 57] ، وكان المرادُ بذلك كتابَ اللهِ المُشتَمِلَ على التَّحليلِ والتَّحريمِ- بَيَّنَ فسادَ شَرائِعِهم وأحكامِهم من الحلالِ والحرامِ مِن غَيرِ مُستنَدٍ في ذلك إلى وَحيٍ .

وأيضًا فهذا الكلامُ وقَع عقبَ ما تقدَّم مِن تكذيبِهم بالقرآنِ، وادعائِهم أنَّه مفترى، وأنَّه ليس بحقٍّ، ثم إبطالِ أن يكونَ القرآنُ مفترًى على الله؛ لأنَّه اشتَمل على تفصيلِ الشريعةِ، وتصديقِ الكتبِ السالفةِ، ولأنَّه أعجزَ مكذِّبيه عن معارضتِه، فلما استوفَى ذلك بأوضحِ حجَّةٍ، وبانَتْ لقاصدِ الاهتداءِ المحجةُ، لا جرَمَ دالت النوبةُ إلى إظهارِ خَطلِ عقولِهم، واختلالِ تكذيبِهم .

قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: أخبِروني عن الرِّزقِ الذي خَلَقَه اللهُ لكم، فجعَلْتُم بعضَه حرامًا عليكم، وبَعضَه حلالًا لكم .

قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: آللَّهُ أذِنَ لكم بأن تُحَرِّموا ما حرَّمتُم، وتُحِلُّوا ما أحلَلْتُم، أم أنَّكم تَكذِبونَ على اللهِ في ذلك ؟!

كما قال سُبحانه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى: 21] .

وقال تبارك وتعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [النحل: 116] .

وقال تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [المائدة: 103] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 138-139] .

وقال جلَّ جلالُه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] .

وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (60).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان قد مضَى من أدلَّةِ المعادِ ما صَيَّرَه كالشَّمسِ، وكان افتراؤُهم قد ثبت بعَدَمِ قُدرتِهم على مُستنَدٍ بإذنِ اللهِ لهم في ذلك؛ قال مشيرًا إلى أنَّ القيامةَ ممَّا هو معلومٌ لا يَسوغُ إنكارُه :

وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

أي: وما ظنُّ الذين يتقوَّلونَ على اللهِ الكَذِبَ أن يَحُلَّ بهم يومَ القيامةِ مِن النَّكالِ؟ أيحسَبونَ أنَّ اللهَ لا يُعاقِبُهم به ؟!

كما قال تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60] .

إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ.

أي: إنَّ اللهَ لَصاحِبُ تفَضُّلٍ على النَّاسِ بنِعَمِه الكثيرةِ؛ ومنها: ما سخَّره لهم من نِعَم الدُّنيا وأباحه لهم، ومنها إمهالُ العاصِينَ، وعَدَمُ معاجَلتِهم بالعقوبةِ، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَشكُرونَ اللهَ على ما تفضَّلَ به مِن نِعَمٍ، بل يستعينون بها على مَعصِيتِه، ويحرِّمون بَعضَها

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [البقرة: 243] .

الفوائد التربوية :

 

قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ فيه إنكارٌ على من حَرَّمَ ما أحَلَّ الله، أو أحَلَّ ما حرَّمَ، بمجَرَّدِ الآراءِ والأهواءِ التي لا مُستنَدَ لها، ولا دليلَ عليها

، وكفَى بهذه الآيةِ زاجرةً زجْرًا بليغًا عن التَّجوُّزِ فيما يُسأَلُ عنه مِن الأحكامِ، وباعثًا على وُجوبِ الاحتياطِ فيه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا عبَّرَ عن الخَلْقِ بالإنزالِ؛ تنبيهًا على أنَّه شَيءٌ لا يُمكِنُ للمُشرِكينَ ادِّعاؤه لأصنامِهم؛ لنزولِ أسبابِه من موضِعٍ لا تعلُّقَ لهم به بوجهٍ

.

2- الأصلُ في العباداتِ التَّوقيفُ، فلا يُشرَعُ منها إلَّا ما شَرَعه اللهُ تعالى، وإلَّا دخَلْنا في معنى قَولِه تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] . والعاداتُ الأصلُ فيها العفوُ، فلا يُحظَرُ منها إلَّا ما حَرَّمَه، وإلَّا دَخَلْنا في معنى قَولِه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا .

3- قَولُ الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ فيه أنَّ كُلَّ ما خلقَه اللهُ تعالى للنَّاسِ، وسَخَّرَه من سائِرِ مَنافِعِ الكونِ، الأصلُ فيه الإباحةُ كالرِّزقِ، ويؤخَذُ من هذه الآيةِ بالفحوَى، وبناءِ المِنَّةِ فيه على كَونِه منه تعالى .

4- في قَولِه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ذَمٌّ لمَن دانَ بغير شرعِ اللهِ سبحانه .

5- الإذنُ المذكورُ في قَولِه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ هو إِذْنٌ شرعيٌّ- وهو ما يأمرُ به سبحانَه ويَرضاه- وأمَّا الإذنُ الكَونيُّ، فهو كقولِه تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: 102] أي: بمَشيئَتِه وقدَرِه .

6- إنَّ المشركين قد ارتكبوا في دينِهم بما يلزمُهم منه مماثلةُ الحالةِ التي أنكروها، فإنَّهم قد وضعوا دينًا، فجعلوا بعضَ أرزاقِهم حلالًا لهم، وبعضَها حرامًا عليهم، كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ فإن كان ذلك حقًّا بزعمِهم، فمَن الذي أبلَغهم تلك الشرائعَ عن الله، ولماذا تقبَّلوها عمَّن شرَعها لهم، ولم يكذِّبوه، وهم لا يستطيعون أن يلتزموا ذلك، وإن كان ذلك مِن تلقاءِ أنفسِهم فقد افتروا على الله، فلزِمهم ما ألصقوه بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فعلق بهم، وبرأ الله منه رسولَه، فهذا الاستدلالُ مِن الطريقِ المسمَّى بالقلبِ في علمِ الجدلِ .

7- قَولُ الله تعالى: وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هذه الآيةُ وإن كانت في صُورةِ الاستعلامِ، إلَّا أنَّ المرادَ منها تعظيمُ وعيدِ مَن يَفتَري عليه تعالى .

8- قولُ الله تعالى: وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيه سؤالٌ: أنَّ هذا تهديدٌ، فكيف ناسَبَه قَولُه بعدُ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ؟ الجواب: هو مُناسِبٌ لأنَّ مَعناه: إنَّ الله لذو فَضلٍ على النَّاسِ؛ حيث أنعمَ عليهم بالعَقلِ، وإرسالِ الرُّسُلِ، وتأخيرِ العذابِ، وفتحِ بابِ التَّوبةِ، أي: كيف تَفتَرونَ على اللهِ الكَذِبَ مع تضافُرِ نِعَمِه عليكم

 

؟!

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ

قولُه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ، الاستفهامُ في أَرَأَيْتُمْ وآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ تقريريٌّ، باعتبارِ إلزامِهم بأحَدِ الأمْرَينِ؛ إمَّا أن يكونَ اللهُ أَذِن لهم، أو أنْ يَكونوا مُفتَرين على اللهِ، وقد شِيبَ التَّقريرُ في ذلك بالإنكارِ

.

وقُلْ الثَّاني تأكيدٌ لـ قُلْ الأوَّلِ، وهو معترِضٌ بينَ جملةِ الاستفهامِ الأولى وجملةِ الاستفهامِ الثَّانيةِ؛ لزيادةِ إشرافِ الأسماعِ عليه .

قولُه: أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ و(أَمْ) متَّصِلةٌ، والاستفهامُ للتَّقريرِ والتَّبكيتِ؛ لتَحقُّقِ العلمِ بالشِّقِّ الأخيرِ قطعًا، كأنَّه قيل: أم لم يَأذَنْ لكم، بل تَفتَرون عليه سُبحانه؛ ويجوزُ أن يكون الاستفهام للإنكارِ، وأَمْ منقطِعةٌ، بمعنى: بَلْ أتَفْتَرون على اللهِ؛ تقريرًا للافتراءِ .

وفيه: إظهارُ الاسمِ الجليلِ، وتقديمُه على الفعلِ تَفْتَرُونَ؛ للدَّلالةِ على كمالِ قُبحِ افترائِهم، وتأكيدًا للتَّبكيتِ إثْرَ تأكيدٍ، مع مُراعاةِ الفَواصلِ .

واختيارُ الاستدلالِ عليهم بشيءٍ مِن تشريعِهم في خصوصِ أرزاقِهم في قولِه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا... يزيدُ هذا الاستدلالَ مناسبةً بآخرِ الكلامِ الذي قبلَه؛ ليظهرَ ما فيه مِن حسنِ التخلُّصِ إليه، وذلك أنَّ آخرَ الكلامِ المتقدِّم جملةُ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، أي: مِن أموالِهم، وتلك الأموالُ هي التي رزَقهم الله إيَّاها، فجعَلوا منها حلالًا، ومنها حرامًا، وكفَروا نعمةَ الله؛ إذ حرَّموا على أنفسِهم مِن طيِّباتِ ما أعطاهم ربُّهم، وحسبُهم بذلك شناعةً بهم ملصقةٌ، وأبوابًا مِن الخيرِ في وجوهِهم مغلقةٌ .

2- قوله تعالى: وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ

قولُه: وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ (ما) للاستفهامِ، وهذا الاستفهامُ مُستعمَلٌ هنا في التَّعجُّبِ مِن حالِهم، والمقصودُ به: التَّعريضُ بالمشرِكين؛ لِيَستَفيقوا مِن غَفلتِهم، ويُحاسِبوا أنفُسَهم .

وأبْهمَ الأمرَ، أي: لم يُوضِّحْ جَزاءَهم، على سبيلِ التَّهديدِ والإيعادِ يومَ يكونُ الجزاءُ بالإحسانِ والإساءةِ .

وأيضًا في قولِه: وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ العدولُ عن مُقتَضى الظَّاهرِ إلى الإتيانِ بالموصولِ بالصِّلةِ المختصَّةِ بهم: الَّذِينَ يَفْتَرُونَ...- إذْ كان مُقتَضى الظَّاهرِ أن يُؤتى بضَميرِ (هُم) مُضافًا إليه الظَّنُّ، إمَّا ضميرَ خطابٍ أو غَيبةٍ، فيُقالَ: (وما ظَنُّكم) أو (وما ظنُّهم)؛ للتَّنبيهِ على أنَّ التَّرديدَ بين أن يَكونَ اللهُ أَذِن لهم فيما حرَّموه، وبين أن يَكونوا مُفتَرين عليه قد انحصَر في القسمِ الثَّاني، وهو كونُهم مُفتَرين؛ إذ لا مَساغَ لهم في ادِّعاءِ أنَّه أَذِن لهم، فإذا تعيَّن أنَّهم مُفتَرون، فقد صار الافتراءُ حالَهم المختصَّ بهم، وفي الموصولِ إيذانٌ بعِلَّةِ التَّعجُّبِ مِن ظنِّهم بأنفُسِهم يومَ القيامةِ .

قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ تذييلٌ للكلامِ المفتتَحِ بقولِه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس: 57] ، وفيه قطعٌ لِعُذرِ المشركين، وتَسجيلٌ عليهم بالتَّمرُّدِ بأنَّ اللهَ تفضَّل عليهم بالرِّزقِ والموعظةِ والإرشادِ، فقابَلوا ذلك بالكفرِ دون الشُّكرِ، وجعَلوا رِزقَهم أنَّهم يُكذِّبون، في حينِ قابَله المؤمِنون بالفرَحِ والشُّكرِ فانتفَعوا به في الدُّنيا والآخرةِ ، مع ما فيه من التَّأكيدِ بـ(إنَّ) واللَّامِ واسْميَّةِ الجملةِ.

وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ، وكذلك في سورةِ النَّملِ قال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ [النمل: 73] ، وأمَّا في البقرةِ ويوسُفَ وغافرٍ، فقال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [البقرة: 243، يوسف: 38، غافر: 61]، ووجهُ ذلك: أنَّ في سورةِ يونُسَ تقدَّم قولُه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [يونس: 55] فوافَقه، وفي غيرِها جاء بلفظِ الصَّريحِ ، وأيضًا لأنَّ آيةَ غافرٍ لَمَّا تقدَّمها قولُه تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] ، ومقصودُ هذه الآيةِ تحريكُ الخلقِ للاعتبارِ، والتَّذكيرُ بما نصَب سبحانه مِن الدَّلائلِ والآياتِ؛ فاقتَضى ذلك تَكْرارَ الظَّاهرِ، كما في آيةِ التَّذكيرِ والتَّنبيهِ، ثمَّ جيءَ بعدَ هذا بقولِه: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ؛ فنُوسِبَ بينَ هذا وبينَ ما تقدَّم؛ لِتَجيءَ هذه الآياتُ على مِنهاجٍ واحدٍ مِن التَّذكيرِ، فاقتضَتِ الثَّانيةُ تَكْريرَ الظَّاهرِ. وأمَّا آيةُ يونُسَ فإنَّما تقَدَّمها تأنيسٌ بقولِه تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا... الآيةَ [يونس: 58] ، ثمَّ رجَع الكلامُ إلى تَعنيفِ الكُفَّارِ في تَحْكيمِهم، فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس: 59] ، ثمَّ قال: وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ، ولم يتَقدَّمْ تَكريرٌ يُطلَبُ بمُناسَبةٍ؛ فلِذلك ورَد الكلامُ على ما هو الأصلُ مِن الإتيانِ بالضَّميرِ؛ لِيَحصُلَ به ربطُ الكلامِ، فجاء كلٌّ مِن الموضِعَينِ على ما يَقتَضيه ما قَبلَه؛ رَعيًا لِتَناسُبِ الكلامِ .

======

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (61-64)

ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ

غريب الكلمات:

 

تُفِيضُونَ: أي: تأخُذونَ فيه، وتَخوضونَ، وأصلُ (فيض): يدلُّ على جَرَيانِ الشَّيءِ بسُهولةٍ

.

يَعْزُبُ: أي: يَبعُدُ ويَغيبُ، وأصلُ (عزب): يدلُّ على تباعُدٍ وتنَحٍّ .

مِثْقَالِ ذَرَّةٍ: أي: زنةِ نملةٍ صغيرةٍ، يقالُ: هذا على مثقالِ هذا أي: على وزنِ هذا، وأصلُ (ثقل): ضدُّ الخفةِ، والذَّرَّةُ هي أصغرُ النَّملِ، وتُطلقُ كذلك على ما لا وزنَ لها، وما يرفعُه الريحُ مِن الترابِ، وأجزاءِ الهواءِ في الكوةِ ، وأصلُ (ذَرَّ): يَدُلُّ على لَطافَةٍ وانتشارٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ

مِنْ مِثْقَالِ: فاعلٌ لـ يَعْزُبُ مرفوعٌ محلًّا، مجرورٌ لَفظًا، و (مِنْ) حرفُ صِلةٍ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ (ولا): الواوُ عاطفةٌ. (لا) زائدةٌ؛ لتأكيدِ النفيِ. (أصغَرَ وأكبرَ) مجرورانِ عطفًا على لفظِ مِثْقَالِ، أو علىذَرَّةٍ، وجرُّهما بالفتحةِ نيابةً عن الكسرةِ؛ لأنَّهما ممنوعانِ مِن الصَّرفِ؛ للوَصفيَّةِ ووَزنِ الفِعلِ. وإِلَّا فِي كِتَابٍ: أي: إلَّا هو في كتابٍ، والاستثناءُ مُنقطِعٌ. وقيل: (لا) فيهما نافيةٌ للجنسِ و (أصغر) و(أكبر) اسماها، فهما مَبْنيانِ على الفتحِ. ويوقَفُ على فِي السَّمَاءِ ومَا بعْدهَا مُسْتَأْنف ليس معطوفًا على ما قبلَه. وإِلَّا فِي كِتَابٍ (إلَّا) أداةُ حصرٍ، و (فِي كِتَابٍ) متعلِّقٌ بمحذوفٍ خبر (لا) النافيةِ للجنسِ.

وقُرِئ: وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ بالرفعِ فيهما عطفًا على محلِّ مِثْقَالِ؛ لأنَّه في موضعِ رفعٍ بـ يَعْزُبُ. أو هو مبتدأٌ، و (في كتاب) متعلقٌ بمحذوفٍ خبرٌ له

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: وما تكونُ- يا مُحمَّدُ- في أيِّ عملٍ من الأعمالِ، وما تتلو من سورةٍ من القُرآنِ، ولا تعملونَ- أيُّها النَّاسُ- عملًا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، صغيرًا أو كبيرًا، إلَّا واللهُ مطَّلِعٌ عليكم، حين تأخُذونَ فيه وتَعمَلونَه، فنَحفَظُه عليكم ونَجزيكم به، وما يغيبُ عن ربِّك- يا مُحمَّدُ- مِن زِنةِ نَملةٍ صَغيرةٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ، ولا أصغَرِ الأشياءِ ولا أكبَرِها، إلَّا وهو في لوحٍ مَحفوظٍ مكتوبٍ فيه كلُّ شَيءٍ، ألَا إنَّ مَن تولَّاهم اللهُ تعالى بنَصرِه ومحَبَّتِه ورعايتِه، لا خوفٌ عليهم ممَّا يَستَقبِلونَه، ولا هم يَحزنونَ على ما فاتهم، وهؤلاء الأولياءُ هم الذين آمنوا بما وجبَ عليهم الإيمانُ به، وكانوا يتَّقونَ اللهَ بامتثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيه، فلهؤلاءِ الأولياءِ البُشرى مِن اللهِ في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ بما يَسُرُّهم، لا تغييرَ لِقَولِ اللهِ، ولا خُلْفَ لوَعدِه، ذلك هو الفوزُ العظيمُ.

تفسير الآيات:

 

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا أطال اللهُ تعالى الكلامَ في أمرِ الرَّسولِ، بإيرادِ الدَّلائلِ على فسادِ مذاهِبِ الكفَّارِ، وفي أمْرِه بإيرادِ الجَوابِ عن شُبُهاتِهم، وفي أمرِه بتحَمُّلِ أذاهم، وبالرِّفقِ معهم- ذكَرَ هذا الكلامَ ليحصُلَ به تمامُ السَّلوةِ والسُّرورِ للمُطيعينَ، وتمامُ الخوفِ والفَزَع للمُذنبينَ، وهو كونُه سُبحانَه عالِمًا بعمَلِ كُلِّ واحدٍ، وبما في قَلْبِه من الدَّواعي والصَّوارف؛ فإنَّ الإنسانَ ربَّما أظهَرَ مِن نفسِه نُسُكًا وطاعةً، وزُهدًا وتقوى، ويكونُ باطِنُه مملوءًا من الخَبَث، وربما كان بالعَكسِ مِن ذلك، فإذا كان الحَقُّ سُبحانَه عالِمًا بما في البواطِنِ، كان ذلك من أعظَمِ أنواعِ السُّرورِ للمُطيعينَ، ومن أعظَمِ أنواعِ التَّهديدِ للمُذنِبينَ

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الله تعالى جُملةً مِن أحوالِ الكُفَّارِ ومذاهِبِهم، والرَّدَّ عليهم، ومحاورةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم، وذكَرَ فَضْلَه تعالى على النَّاسِ، وأنَّ أكثَرَهم لا يشكُرُه على فَضلِه- ذكَرَ تعالى اطِّلاعَه على أحوالِهم وحالِ الرَّسولِ معهم في مجاهَدتِه لهم، وتلاوةِ القرآنِ عليهم، وأنَّه تعالى عالمٌ بجميعِ أعمالِهم، واستطرَدَ من ذلك إلى ذِكرِ أولياءِ الله تعالى، ليُظهِرَ التفاوتَ بين الفريقينِ؛ فريقِ الشَّيطانِ وفَريقِ الرَّحمنِ .

وأيضًا لَمَّا ذكَّرَ اللهُ تعالى عبادَه بفَضلِه، وما يجِبُ عليهم مِن شُكرِه، وبكونِ أكثَرِهم لا يَشكرونَه كما يجِبُ عليهم- عطفَ على ذلك تذكيرَه لهم بإحاطةِ عِلمِه بشُؤونِهم وأعمالِهم كُلِّها؛ صغيرِها وكبيرِها، جليلِها وحقيرِها، وبكُلِّ ما في العوالِمِ عُلويِّها وسُفليِّها؛ ليحاسِبُوا أنفُسَهم على تقصيرِهم في ذِكْرِه وشُكرِه وعبادتِه .

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ.

أي: وما تكونُ- يا محمَّدُ - في أيِّ عملٍ من الأعمالِ، وما تتلو من سورةٍ مِن القرآنِ، ولا تعملونَ- أيُّها النَّاسُ- مِن عَمَلٍ صغيرٍ أو كبيرٍ، من خيرٍ أو شَرٍّ، إلَّا واللهُ مطَّلِعٌ عليكم حين تأخذونَ فيه، وتَقومونَ به .

وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ.

أي: وما يغيبُ عن رَبِّك- يا مُحمَّدُ- وزنُ نَملةٍ صَغيرةٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ، ولا أصغَرَ مِن ذلك ولا أكبَرَ، فلا يخفَى عليه سبحانَه أصغرُ الأشياءِ، وإنْ خفَّ في الوزنِ كلَّ الخِفَّةِ، ولا أكبرُها وإنْ عَظُمَ وثَقُل وزنُه، وكلُّ ذلك في لوحٍ مَحفوظٍ، مكتوبٍ فيه كلُّ شَيءٍ .

كما قال الله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] .

وقال سُبحانه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج: 70] .

أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لمَّا بيَّن سبحانه إحاطتَه بجميعِ الأشياءِ، وكان في ذلك تقويةٌ لقلوبِ المطيعين، وكسرٌ لقلوبِ العاصينَ؛ ذكَر حالَ المطيعينَ ، فقال:

أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.

أي: ألَا إنَّ مَن تولَّاهم اللهُ تعالى بنَصرِه ومحبَّتِه ورعايَتِه، لا خوفٌ عليهم ممَّا يستَقبِلونَه، ولا هم يَحزَنونَ على ما مَضَى .

ثمَّ ذكَر وصفَهم، فقال:

الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63).

أي: هم الذين آمَنوا بما وجبَ عليهم الإيمانُ به، وصدَّقوا إيمانَهم بلزومِ تقوى اللهِ، بفِعلِ أوامِرِه، واجتنابِ نَواهيه .

لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64).

لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ.

أي: لأولياءِ الله البُشرى من اللهِ في الحياةِ الدُّنيا- ومن ذلك ما وُعِدوا به من الخَيرِ في القرآنِ والسُّنَّةِ، ومن البِشاراتِ الرُّؤيا الصَّالحةُ، والثَّناءُ الحَسَنُ- ولهم البُشرى في الآخرةِ بدُخولِ الجنَّةِ .

كما قال تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة: 21-22] .

وقال سُبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت: 30-31] .

وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء: 101 - 103] .

وقال جلَّ جلالُه: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد: 12] .

وعن البراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنه، قال: قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ العبدَ المؤمنَ إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ مِن الآخرةِ، نزَل إليه ملائكةٌ مِن السماءِ بيضُ الوجوهِ، كأنَّ وجوهَهم الشمسُ، معهم كفنٌ مِن أكفانِ الجنةِ، وحنوطٌ مِن حنوطِ الجنةِ، حتى يجلسوا منه مدَّ البصرِ، ثم يجيءُ ملكُ الموت عليه السَّلام حتى يجلسَ عندَ رأسِه، فيقول: أيَّتُها النفسُ الطيبةُ، اخرُجي إلى مغفرةٍ مِن الله ورضوانٍ، فتخرج تسيلُ كما تسيلُ القطرةُ من فِي السِّقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدَعوها في يدِه طرفةَ عينٍ حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفنِ، وفي ذلك الحنوطِ، ويخرج منها كأطيبِ نفحةِ مسكٍ وُجِدت على وجهِ الأرضِ، فيصعدون بها، فلا يمرُّون - يعني بها - على ملإٍ من الملائكةِ إلا قالوا: ما هذا الروحُ الطيبُ؟! فيقولون: فلانُ بنُ فلانٍ، بأحسنِ أسمائِه التي كانوا يسمُّونه بها في الدُّنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماءِ الدنيا، فيستفتحون له، فيُفتح لهم، فيشيِّعُه من كلِّ سماءٍ مقرَّبوها إلى السماءِ التي تليها، حتى يُنتهَى به إلى السماءِ السابعةِ، فيقول الله عزَّ وجلَّ: اكتبوا كتابَ عبدي في عِلِّيين ، وأعيدوه إلى الأرضِ، فإنِّي منها خلقتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومنها أُخرجُهم تارةً أخرَى، فتُعاد روحُه في جسدِه، فيأتيه ملَكانِ، فيُجلسانِه، فيقولانِ له: مَن ربُّك؟ فيقول: ربِّي الله، فيقولان له: ما دينُك؟ فيقول: ديني الإسلامُ، فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هو رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيقولان له: وما علمُك؟ فيقولُ: قرأتُ كتابَ الله، فآمنتُ به، وصدَّقت، فينادي منادٍ في السماءِ: أن صدَق عبدي، فأفْرِشوه مِن الجنة، وألْبِسوه مِن الجنةِ، وافتحوا له بابًا إلى الجنةِ، فيأتيه من رَوْحها ، وطِيبها، ويُفسحُ له في قبرِه مدَّ بصرِه، ويأتيه رجلٌ حسنُ الوجهِ، حسنُ الثيابِ، طيِّبُ الرِّيحِ، فيقول: أبْشِرْ بالذي يَسرُّك، هذا يومُك الذي كنتَ تُوعَدُ، فيقولُ له: مَن أنت؟ فوجهُك الوجهُ يجيءُ بالخيرِ، فيقولُ: أنا عملُك الصالحُ، فيقول: ربِّ أقمِ الساعةَ حتى أرجعَ إلى أهلِي ومالِي)) .

وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهِ عنه، قال: ((قيل لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرأيتَ الرَّجُلَ يعمَلُ العمَلَ مِن الخَيرِ، ويَحمَدُه النَّاسُ عليه؟ قال: تلك عاجِلُ بُشرى المؤمِنِ) ) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم يَبْقَ من النُّبُوَّةِ إلا المُبَشِّراتُ، قالوا : وما المُبَشِّراتُ ؟ قال : الرؤيا الصالحةُ )) .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناسُ، إنه لم يبقَ من مبشراتِ النبوةِ إلا الرؤيا الصالحةُ، يراها المسلمُ، أو تُرى له) ) .

لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ.

لا خُلْفَ لوعدِ الله؛ فما وعَد الله فهو حقٌّ، لا يمكنُ تغييرُه ولا تبديلُه، وهو كائنٌ لا محالةَ .

كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام: 115] .

وقال سُبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 9] .

ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

أي: ما يُبشَّرُ به أولياءُ اللهِ هو الظَّفَرُ العَظيمُ بكلِّ مَحبوبٍ، والنجاةُ الكبيرةُ مِن كُلِّ مَحذورٍ

 

.

الفوائد التربوية:

 

مما يُوجبُ خشيةَ اللهِ تعالى في السِّرِّ والعَلانيةِ ضرورةُ مُراقبتِه تعالى؛ والعلمُ بأنَّه شاهِدٌ ورقيبٌ على قلوبِ عبادِه وأعمالِهم، وأنَّه مع عبادِه حيث كانوا، كما دلَّ القرآنُ على ذلك في مواضِعَ، منها قولُه تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ

.

قَولُ الله تعالى: وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ الإفاضةُ في العمَلِ أخَصُّ مِن إتيانِه مُطلقًا، وحِكمةُ تَخصيصِها بالذِّكرِ دونَ اللَّفظِ الأعمِّ منها، هي أنَّ ما يُفيضُ فيه الإنسانُ مهتَمًّا به مندفِعًا فيه، جديرٌ بألَّا يَنسى أو يَغفُل عن مراقبةِ رَبِّه فيه، واطِّلاعِه عليه؛ فاللَّفظُ يذَكِّرُه به تذكيرًا منبِّهًا مُؤثِّرًا، وكذلك لفظُ (يَعزُب) الدالُّ على الخفاءِ والبُعدِ معًا، فكأنَّه يقولُ: إنَّ ما شأنُه أن يَبعُدَ ويَخفى عليكم مِن أعمالِكم لا يغيبُ عن عِلمِ رَبِّكم؛ فإنَّه لا يَعزُبُ عنه مِن مثقالِ ذَرَّةٍ .

أولياءُ اللهِ هم الذين جَمَعوا بين الإيمانِ الصَّحيحِ ومَلَكةِ التقوى له عزَّ وجلَّ، وما تقتضيه مِن عمَلٍ، فظاهِرُ الآيةِ أنَّ مَن آمَن واتَّقى، فهو داخِلٌ في أولياءِ اللهِ، وهذا هو الذي تقتضيه الشَّريعةُ في الوليِّ، فكلُّ من كان مؤمنًا تقيًّا كان لِلَّه وليًّا، وقد ضَمِنَ اللهُ تعالى لأوليائِه ألَّا يحصُلَ لهم ما يخافونَه، وألَّا يحُلَّ بهم ما يَحزُنُهم، قال الله تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ الله تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ التعبيرُ في خطابِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالشَّأنِ- وهو الأمرُ العظيمُ أو ذو البالِ- يدلُّ على أنَّ جَميعَ أمورِه وأعمالِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانت عظيمةً، حتى العاداتِ منها؛ لأنَّه كان قُدوةً صالحةً فيها كلِّها

.

قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ إن قيل: كيف جُمِعَ الضَّميرُ، مع أنَّه أُفرِدَ قبلُ في قولِه تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ والخطابُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟

الجواب: جُمِعَ ليدُلَّ على أنَّ الأُمَّةَ داخِلونَ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما خوطِبَ به قبلُ ، أو جُمِعَ تعظيمًا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

قال الله تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ الذرُّ: صغارُ النملِ، جعَلها الله مثالًا؛ إذ لا يُعرفُ في الحيوانِ المتغذِّي المتناسلِ المشهورِ النوعِ والموضعِ أصغرُ منه .

قَولُ الله تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إنَّما قُيِّد بقَولِه تعالى: فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ تقريبًا لعُقولِ العامَّةِ ، فعبَّر بالأرضِ والسماءِ مع أنَّه سبحانَه لا يغيبُ عنه شيءٌ، لا فيهما، ولا فيما هو خارجٌ عنهما؛ لأنَّ الناسَ لا يشاهدونَ سواهما، وسوَى ما فيهما مِن المخلوقاتِ .

قَولُ الله تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ فيه إشارةٌ إلى ما في الوجودِ مِن أشياءَ لا تُدرِكُها الأبصارُ، وقد رُئيَ كثيرٌ منها في هذا العَصرِ بالآلاتِ التي تكبِّرُ المرئيَّاتِ أضعافًا كثيرةً، ولم يكُنْ هذا ممَّا يَخطُرُ في البالِ في عصرِ التَّنزيلِ، فهو من دقائقِ تَعبيرِ القُرآنِ، التي تَظهَرُ حِكمتُها للنَّاسِ آنًا بعد آنٍ .

من ظنَّ أنَّ أحدًا مِن الذين لا يؤدُّونَ الواجباتِ، ولا يترُكونَ المُحَرَّماتِ- سواءٌ كان عاقلًا، أو مجنونًا، أو مُولَهًا أو مُتَوَلِّهًا- فمن اعتقَدَ أنَّ أحدًا مِن هؤلاء، مِن أولياءِ اللهِ المُتَّقينَ، وحِزبِه المُفلِحينَ، وعبادِه الصَّالحينَ، وجُندِه الغالبينَ، السَّابقينَ المُقَرَّبينَ والمُقتَصدينَ، الذين يرفَعُ الله درجاتِهم بالعِلمِ والإيمانِ، مع كونِه لا يؤدِّي الواجباتِ، ولا يترُكُ المُحَرَّمات- كان المُعتَقِدُ لولايةِ مِثلِ هذا كافرًا مرتدًّا عن دينِ الإسلامِ، غيرَ شاهدٍ أنَّ مُحمَّدًا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل هو مكَذِّبٌ لمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما شَهِدَ به؛ لأنَّ محمَّدًا أخبَرَ عن الله أنَّ أولياءَ اللهِ هم المُتَّقونَ المؤمِنونَ؛ قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ .

قَولُ اللهِ تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فيه أنَّ أهلَ الثَّوابِ لا يحصُلُ لهم خوفٌ في مَحفِلِ القيامةِ، كما قال تعالى أيضًا: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] .

قَولُ اللهِ تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ هذه البُشرى مُبَيَّنةٌ في مواضِعَ مِن كتابِ الله تعالى، وقد يُرادُ بها متعَلَّقُها الذي يبشَّرونَ به، ولم يُذكَرْ هنا؛ ليشمَلَ كلَّ ما بُشِّروا به في كتابِ الله تعالى، وعلى لسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَّا البُشرَى في الحياةِ الدُّنيا فأهمُّها البِشارةُ بالنَّصرِ، وبحُسنِ العاقِبةِ في كلِّ أمرٍ، وباستخلافِهم في الأرضِ ما أقاموا شَرعَ اللهِ وسُنَنَه، ونَصَروا دينَه، وأعلَوْا كَلِمتَه، وأمَّا في الآخرةِ فمِن أكمَلِها وأجمَعِها لمعاني الآيةِ لأكمَلِهم قولُه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت: 30 - 32] .

قَولُ الله تعالى: ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ اشتمَلَ على النجاةِ مِن كلِّ محذورٍ، والظَّفَرِ بكلِّ مَطلوبٍ مَحبوبٍ، وحُصِرَ الفَوزُ فيه؛ لأنَّه لا فوزَ لِغَيرِ أهلِ الإيمان والتَّقوى

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ

قولُه: وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ: على القولِ بأنَّ الضَّميرَ في مِنْهُ عائدٌ على شأنٍ، ومِنْ قُرْآنٍ تفسيرٌ للضَّميرِ؛ فيكون خُصَّ مِنْ قُرْآنٍ مِن العمومِ؛ لأنَّ القرآنَ هو أعظَمُ شُؤونِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتنبيهًا على علُوِّ مَرتبتِه، وعلى القولِ بأنَّه يعودُ على التَّنزيلِ، وفُسِّر بالقرآنِ لأنَّ كلَّ جزءٍ منه قرآنٌ، فيكونُ أُضْمِرَ قبلَ الذِّكْرِ على سَبيلِ التَّفخيمِ له

.

قولُه: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ فيه تعميمٌ للخطابِ بعدَ تخصيصِه بمَن هو رأسُهم؛ ولذلك ذُكِر حيث خصَّ ما فيه فخامةٌ، وذُكر حيث عمَّ ما يتَناوَلُ الجليلَ والحقيرَ .

قولُه: مِنْ عَمَلٍ مفعولُ تَعْمَلُونَ، فهو مَصدرٌ بمعنى المفعولِ، وأُدخِلَت عليه (مِن)؛ لإفادة التَّعميمِ؛ لِيَشمَلَ العملَ الجليلَ والحقيرَ، والخيرَ والشَّرَّ ، فدخولُ مِنْ التبعيضيَّةِ على النكرةِ المنفيةِ يؤكِّدُ هذا العُمومَ .

قولُه: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ فيه مُواجَهةُ اللهِ تعالى بالخطابِ لرسولِ اللهِ وحدَه؛ تَشريفًا له وتَعظيمًا .

و(مِنْ) في قولِه: مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ؛ لِتَأكيدِ عُمومِ النَّفيِ الَّذي في وَمَا يَعْزُبُ .

قولُه: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ناسبَ تقديمُ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لأنَّه ذكَر تعالى أنَّه لا يَغيبُ عن عِلمِه أدقُّ الأشياءِ الَّتي نُشاهِدُها، وهي الذَّرَّةُ، ثمَّ أتى بقولِه: وَلَا أَكْبَرَ على سبيلِ إحاطةِ عِلمِه بجَميعِ الأشياءِ؛ فمَن عَلِم أدَقَّ الأشياءِ وأخفاها كان عِلمُه مُتعلِّقًا بأكبَرِ الأشياءِ وأظهَرِها ، ولأنَّ ذكرَ الأصغرِ هو الأهَمُّ في سياقِ العِلمِ بالخفيِّ، وعَطفَ عليه الأكبَرَ؛ لإفادةِ كونِ الأكبَرِ لا يكبُرُ عليه سُبحانه، كما أنَّ الأصغَرَ لا يَعزُبُ عنه .

وفي قولِه تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وقال في سورةِ سبأٍ: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ: 3] ، وقال فيما بعدُ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ [سبأ:22] ؛ فقدَّم الأرضَ على السَّماءِ في سورةِ يونُسَ، وعكَس ذلك في الموضِعَين من سورةِ سبأٍ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ آيةَ يونُسَ مقصودٌ فيها من تأكيدِ الاستيفاءِ والاستغراقِ ما لم يُقصَدْ في الأُخرَيَينِ، وإن كان العمومُ مُرادًا في الجميعِ، إلَّا أنَّ آيةَ يونُسَ قضَت بزيادةِ التَّأكيدِ؛ ولذلك تَكرَّرَت فيها معَ ما قبلَها (ما) النَّافيةُ المتلقَّى بها القَسَمُ في قولِه: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا [يونس: 61] ، فقوَّى بذلك قصْدَ تأكيدِ الاستغراقِ، وتَضمينِ الكلامِ معنى القسَمِ؛ فقال تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ بزيادةِ (مِن) في الفاعلِ، وهي مقتَضِيةٌ معنى الاستغراقِ في مثلِ هذا. ثمَّ إنَّه قد تَقدَّم قبلَ هذه الآيةِ قولُه تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ؛ فدخولُ (مِن) في المفعولِ في الموضِعَين مِن قولِه: وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ- حيث زِيدَت في المفعولِ، وهو اسمٌ نَكِرةٌ، وارِدٌ في سياقِ النَّفيِ- وذلك محصِّلٌ للاستغراقِ، ثمَّ حُمِل عليه قولُه تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ؛ فناسبَ هذا تقديمَ ذِكرِ الأرضِ على السَّماءِ؛ لأنَّ السَّماءَ مَصعَدُ الأمرِ ومحَلُّ العُلوِّ ومسكَنُ الملائكةِ، وهى مُشاهَدةٌ لهم ومُستقبَلُ الدَّاعين، منها يُنزَّلُ الأمرُ ورِزقُ العبادِ، وفيها الخزَنةُ مِن الملائكةِ، وإليها يُصعَدُ بأرواحِ المؤمِنين ويَعرُجُ الملائكةُ السَّيَّاحون في الأرضِ المسؤولون عن أفعالِ العبادِ، فكان العِلمُ بما فيها أجلى وأظهرَ، وكان العلمُ بما في الأرضِ أخفى، وهذا بالنَّظرِ إلينا وبحسَبِ مُتعارَفِ أحوالِنا، وإلَّا فعِلمُ اللهِ سبحانه بما في الأرضِ وما في السَّماءِ سواءٌ، كما أنَّ عِلمَه بالسِّرِّ والجهرِ مُستوٍ: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الرعد: 10] ، ولكنَّا إنَّما خُوطِبْنا على أحوالِنا وبما نتَعاهَدُه ونتَعارَفُه مِن المعاني والصِّفاتِ؛ ولذلك ورَد في القرآنِ التَّعجُّبُ والدُّعاءُ والتَّرجِّي وغيرُ ذلك، فخُوطِبَ العبادُ بما يتَعارَفون عليه ويَألَفونه فيما بينَهم؛ فلمَّا كانت الأرضُ بالنِّسبةِ إلى اسْمِها- فيما ذكَرْنا- كان أمرُها أخفى، وكان أمرُ السَّماءِ أوضَحَ وأقرَبَ من حيثُ ما ذكَرْنا، خُوطِب الخلقُ على ذلك، فقُدِّم ذِكرُ ما هو عِندَنا كافَّةً أخفى، فقيل عند قصدِ المبالَغةِ في تأكيدِ الاستغراقِ والقسَمِ على ذلك: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [يونس: 61] .

وقيل: إنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَر في هذه الآيةِ شَهادتَه على أحوالِ أهلِ الأرضِ وأعمالِهم، ثمَّ وصَل بذلك قولَه: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ [يونس: 61] ، ناسَب أن تُقدَّمَ الأرضُ على السَّماءِ في هذا الموضعِ .

وقيل: إنَّ تقديمَ الأرضِ هنا؛ لأنَّ ما فيها أعلَقُ بالغرَضِ الَّذي فيه الكلامُ، وهو أعمالُ النَّاسِ فقد قال: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ؛ فإنَّهم مِن أهلِ الأرضِ، بخلافِ ما في سورةِ سبَأٍ: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 3] ؛ فإنَّه لَمَّا كان المقامُ لذِكْرِ عِلمِ الغيبِ، والغيبُ ما غاب عن النَّاسِ، ومُعظمُه في السَّماءِ لاءَم ذلك أنْ قُدِّمَت السَّماءُ على الأرضِ ، فاقتضَى حسنُ النظمِ تقديمُها مرتبةً في الذكرِ مع المخاطبينَ الذين هم أهلُها، بخلافِ الآيةِ التي في سبأ، فإنَّها منتظمةٌ بقولِه عَالِمِ الْغَيْبِ .  وقيل: إنَّه قدَّم ذِكْرَ الأرضِ؛ لأنَّ الكلامَ مع أهلِها، وأخَّره في آيةِ سبَأٍ وقدَّم السَّماءَ؛ لأنَّها في سِياقِ ثَنائِه تعالى على نفسِه ووَصْفِه بإحاطةِ عِلمِه؛ فناسَب تقديمُ السَّماءِ لأنَّها أعَظُم، فإنَّ فيها مِن الشُّموسِ وعَوالِمِها ما يَبعُدُ بعضُه عن بعضٍ مَسافةَ أُلوفٍ .

قوله تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

قولُه: أَلَا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فيه افتتاحُ الكلامِ بأداةِ التَّنبيهِ أَلَا؛ للإيماءِ إلى أهميَّةِ شأنِه؛ ولذلك أُكِّدت الجملةُ بـ إنَّ بعدَ أداةِ التَّنبيهِ؛ فصُدِّرَتِ الجملةُ بحَرْفَيِ التَّنبيهِ (ألَا)، والتَّحقيقِ (إنَّ)؛ لزيادةِ تقريرِ مَضْمونِها .

قولُه: وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فيه تَقْديمُ المُسنَدِ إليه هُمْ على الخبَرِ الفِعْليِّ يَحْزَنُونَ؛ لِتَقويةِ الحُكْم الحاصلِ بالخبرِ الفعليِّ، أي: لا يَحصُلُ لهم خوفٌ متمكِّنٌ ثابتٌ يَبقَى فيهم، ولا يَجِدون تَخلُّصًا منه .

قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ

قولُه: وَكانُوا يَتَّقُونَ فيه التَّعبيرُ بصيغةِ الماضي وَكَانُوا، وهو يَدُلُّ على أنَّ التَّقْوى مُلازِمةٌ لهم، وجاء بصِيغةِ المضارعِ قولُه: يَتَّقُونَ، وهو يَدُلُّ على أنَّها مُتجدِّدةٌ منهم؛ ففي قولِه: وَكَانُوا يَتَّقُونَ إشعارٌ بمُصاحبَتِهم للتَّقوى مُدَّةَ حياتِهم؛ فحالُهم في المستقبَلِ كحالِهم في الماضي .

قوله تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

قولُه: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ جملةٌ مُستأنَفةٌ استِئْنافًا بيانيًّا، كأنَّه قيل: هل لهم وراءَ ذلك مِن نِعمةٍ وكَرامةٍ؟ فقيل: لهم ما يَسُرُّهم في الدَّارَين .

وفيه إيثارُ الإبهامِ والإجمالِ في البُشْرى؛ للإيذانِ بكونِه وراءَ البيانِ والتَّفصيلِ .

وجملةُ: ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ مُؤَكِّدةٌ لجملةِ: لَهُمُ الْبُشْرَى ومُقرِّرةٌ لِمَضمونِها؛ فلذلك فُصِلَت- أي: لم تُعطَفْ بالواوِ .

واختيارُ اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ؛ لأنَّه أجمَعُ لِمَا ذُكِر، وفيه كمالُ تمييزٍ له؛ لزيادةِ تقريرِ مَعناه، وذُكِر ضميرُ الفصلِ هُوَ بعدَ اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ؛ لزيادةِ التَّأكيدِ، ولإفادةِ القصرِ، أي: هو الفوزُ العظيمُ لا غيرُه ممَّا يتقلَّبُ فيه المشرِكون في الحياةِ الدُّنيا مِن رزقٍ ومَنَعةٍ وقوَّةٍ .

قولُه: هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فيه تفسيرٌ لِما أُبهِم فيما سبَق، وهذه الجملةُ والَّتي قَبلَها اعتراضٌ؛ لِتَحقيقِ المبشَّرِ به، وتعظيمِ شأنِه، أو هذه تَذْييلٌ، والسَّابقةُ اعتِراضٌ

================

 

سُورةُ يُونُس

الآيتان (65-66)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات:

 

يَخْرُصُونَ: أي: يَحْدِسُون ويحزُرونَ، أو يكذِبونَ، لأَنَّ الكاذبَ لا يتحرَّى في الأمورِ، بل يُخمِّنُ ويحزُر، ولا يتحرَّى الحقائقَ، وكلُّ قولٍ عن ظنٍّ وتخمينٍ، يُقال له: خرصٌ، سواءٌ كان ذلك مطابقًا للشيءِ أو مخالفًا له، وأصلُ الخرصِ: حَزْرُ الشَّيءِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَوْلُه تعالى: وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ

وَمَا يَتَّبِعُ: في (ما) وجهان؛ الأول: أن تكونَ نافيةً، وشُرَكَاءَ مفعولُ يَتَّبِعُ، ومفعولُ يَدْعون محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، والتَّقديرُ: وما يتَّبعُ الذين يَدْعُون مِنْ دون اللهِ آلهةً شُرَكاءَ، ومعنى: وما يتَّبِعونَ شُرَكاء، أي: وما يتَّبِعونَ حقيقةَ الشُّرَكاءِ، وإن كانوا يسمُّونَها شُرَكاءَ. الثاني: أن تكونَ استفهاميَّةً في محلِّ نصبٍ، مفعولٌ مقَدَّم لـيتَّبِعُ، أي: وأيَّ شيءٍ يَتَّبعونَ؟ وشُرَكَاءَ على هذا مفعولٌ به لـيَدْعُونَ، وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مسلِّيًا له عمَّا لَقِيَه من أعدائِه مِن أذًى، فيقولُ له: ولا يَحزُنْك قَولُ المُشرِكينَ، كافترائِهم على اللهِ وتكذيبِهم لك، واستهزائِهم بالحَقِّ؛ لأنَّ اللهَ هو المنفَرِدُ بجميعِ العِزَّةِ في الدُّنيا والآخرةِ، فهو مانِعُك من أذى المُشرِكينَ، وهو السَّميعُ العليمُ.

ويبيِّنُ تعالى أنَّه له كلُّ مَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ؛ وأيَّ شيءٍ يتَّبِعُ مَن يدعو غيرَ اللهِ من الشُّرَكاءِ؟ ما يتَّبِعونَ إلَّا الظَّنَّ بلا دليلٍ، وإنْ هم إلَّا يكذِبونَ فيما ينسُبونَه إلى اللهِ.

تفسير الآيتين:

 

وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا حكَى عن الكفَّارِ شُبهاتِهم المتقَدِّمةَ، وأجاب عنها؛ عدلوا إلى طريقٍ آخَرَ، وهو أنَّهم هدَّدوه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وخوَّفوه بأنَّهم أصحابُ أموالٍ وأتباعٍ، فنسعَى في قَهرِك وفي إبطالِ أمْرِك، فأجاب تعالى عن هذا الطَّريقِ

.

وأيضًا فإنَّه بعد أن بيَّن اللهُ تعالى لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حالَ أوليائِه وصِفتَهم وما بشَّرَهم به في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ، وكونَه لا تبديلَ لِكلماتِه فيما بشَّرَهم ووعَدَهم، كما أنَّه لا تبديلَ لها فيما أَوعَدَ به أعداءَه المُشرِكينَ، وكان هذا يتضَمَّنُ الوعدَ بنَصرِه ونَصرِ مَن آمن له- وهم أولياءُ اللهِ وأنصارُ دينِه- على ضَعفِهم وفَقرِهم، وكانت العِزَّةُ- أي: القوَّةُ والغَلَبةُ- في مكَّةَ لا تزالُ للمُشرِكينَ بكَثرتِهم، وكانوا لغُرورِهم بكَثرتِهم وثَروتِهم يُكَذِّبونَ بوَعدِ الله، وكان ذلك يَحزُنُه  صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال تعالى مسلِّيًا له ومؤكِّدًا وَعدَه له ولأوليائِه، ووعيدَه لأعدائِهم وأعدائِه :

وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ.

أي: ولا يُحْزِنْك- يا مُحمَّدُ- قَولُ المُشركينَ، كافترائِهم على اللهِ، وتكذيبِهم لك، واستهزائِهم بالحَقِّ .

إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا.

أي:  فإنَّ اللهَ هو المُنفَرِدُ بجميعِ العِزَّةِ في الدُّنيا والآخرةِ، فله وَحْدَه القوَّةُ الكامِلةُ، والقُدرةُ التامَّةُ، والغَلَبةُ الشَّاملةُ، فهو ناصِرُك ومُعينُك، ومانِعُك مِن أذَى المُشرِكينَ- يا مُحمَّدُ- وهو القادِرُ على عقابِهم، والانتقامِ منهم، حتى تصيرَ أعَزَّ منهم .

هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .

أي: وهو- سُبحانَه- السَّميعُ لأقوالِ عِبادِه، العليمُ بأحوالِهم، ومن ذلك سَماعُه لأقوالِ المُشرِكينَ، وعِلمُه بأعمالِهم، وما في قُلوبِهم، فيُجازيهم بذلك، ويدفَعُ عنك أذاهم- يا مُحمَّدُ- فاكتفِ بعِلمِ اللهِ وكفايتِه عزَّ وجلَّ .

                 ﮈﮉ                   ﮑﮒ                    .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ العِزَّةَ له، وهي القَهرُ والغَلَبةُ- ذكَرَ ما يُناسِبُ القَهرَ، وهو كَونُ المخلوقاتِ مِلكًا له تعالى ، فقال:

أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66).

أي: ألا إنَّ لله كلَّ مَن في السَّمواتِ وكُلَّ مَن في الأرضِ، فهم مِلكُه، يتصَرَّفُ فيهم كيف يشاءُ، وهو المستَحِقُّ وَحدَه للعبادةِ .

وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء.

أي: وأيَّ شيءٍ يتَّبِعُ هؤلاء الذين يقولونَ: إنَّ لله شُرَكاءَ ؟!

إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ.

أي: ما يتَّبِعُ المُشرِكونَ في دَعواهم الشُّرَكاءَ لله إلَّا مُجَرَّدَ الظَّنِّ بلا دليلٍ، وما هم إلَّا يتقوَّلونَ الكَذِبَ على اللهِ ظنًّا بِلا عِلمٍ

 

.

الفوائد التربوية :

 

قال الله تعالى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ اللامُ في قَولِه: لِلَّهِ للمِلكِ، وقد أفاد جعلُ جِنسِ العزَّةِ مِلكًا للهِ أنَّ جميعَ أنواعِها ثابِتٌ لله

؛ فالغَلَبةُ والقُوَّةُ والمَنَعةُ لله جميعُها لا يَملِكُ أحَدٌ مِن دُونِه شَيئًا منها، فهو يَهَبُها لِمَن يشاءُ، ويَحرِمُها مَن يشاءُ، وليسَت للكَثرةِ دائمًا كما يدَّعونَ؛ فكم مِن فئةٍ قليلةٍ غَلَبَت فئةً كثيرةً بإذنِ الله، وقد وعدَ بها رسُلَه والذينَ آمَنوا بهم واتَّبَعوهم من أوليائِه، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] ، وإِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] ، ووَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] ، فعِزَّتُه تعالى ذاتيَّةٌ له، وعِزَّةُ رَسولِه والمُؤمِنينَ به ومنه عزَّ وجَلَّ، كما قال تعالى: وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ

 

[آل عمران: 26] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ الله تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ عبَّرَ بـ (مَن) التي للعُقَلاءِ، والمرادُ كلُّ ما في الكونِ؛ لأنَّ السِّياقَ لِنَفي العِزَّةِ عن غَيرِه، والعقلاءُ بها أجدَرُ، فنفيُها عنهم نفيٌ عن غيرِهم بطريقِ الأَوْلى، ثم غُلِّبوا لشَرَفِهم على غيرِهم

.

وقيل: خص العُقَلاءَ المميِّزين، وهم الملائكةُ والثَّقلان في قوله: مَنْ فِي السَّمَواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ؛ لِيُؤذِنَ أنَّ هؤلاء إذا كانوا له وفي مُلكِه فهُم عَبيدٌ كُلُّهم، وهو سبحانه وتعالى ربُّهم، ولا يَصلُحُ أحدٌ مِنهم للرُّبوبيَّةِ، ولا أن يكونَ شَريكًا له فيها، فما وَراءهم ممَّا لا يُعقَلُ أحَقُّ أن لا يكونَ له نِدًّا وشَريكًا، ولِيَدُلَّ على أنَّ مَن اتَّخَذ غيرَه ربًّا مِن ملَكٍ أو إنسيٍّ، فضلًا عن صنمٍ أو غيرِ ذلك، فهو مُبطِلٌ

 

.

بلاغة الآيتين :

 

1- قوله تعالى: وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

قولُه: وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ على القولِ بأنَّ المرادَ بقولِهم بعضُ أفرادِه، وهو التَّكذيبُ والتَّهديدُ، وما يتَشاوَرون به في أمرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فيكونُ مِن إطلاقِ العامِّ المرادِ به الخاصُّ

.

قولُه: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا استئنافٌ بمعنى التَّعليلِ، كأنَّه قيل: ما لي لا أحزَنُ؟ فقيل: إنَّ العزَّةَ للهِ جميعًا؛ تعليلًا لِدَفعِ الحزنِ عنه؛ ولذلك فُصِلَتْ عن جملةِ النَّهيِ: وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ولم تُعطَفْ عليها .

وقولُه: جَمِيعًا حالٌ مِن الْعِزَّةُ مؤكِّدةٌ لمضمونِ الجملةِ قبْلَها، المفيدِ لاختصاصِه تعالى بجميعِ جنسِ العزَّةِ؛ لِدَفعِ احتمالِ إرادةِ المبالَغةِ في مِلْكِ ذلك الجنسِ .

وفي قوله تعالى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يونس: 65] ، وقال في سورةِ (المنافقون): وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] ؛ لأنَّ المرادَ في سورةِ يونُسَ: العزَّةُ الخاصَّةُ باللهِ، وهي: عِزَّةُ الإلهيَّةِ، والخَلْقِ والإماتةِ، والإحياءِ والبقاءِ الدَّائمِ، وشِبْهِها، وفي سورةِ (المنافقون) العزَّةُ المشترَكةُ، وهي في حقِّ اللهِ تعالى: القدرةُ والغَلَبةُ، وفي حقِّ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عُلُوُّ كَلمتِه، وإظهارُ دينِه، وفي حقِّ المؤمنين: نَصرُهم على الأعداءِ  فلا مضادَّةَ بينَ قَولِه تعالى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وقَولِه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] ؛ لأنَّ عِزَّةَ الرَّسولِ والمؤمنينَ كُلَّها باللهِ، فهي لله .

2- قوله تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ

قولُه: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فيه افتتاحُ الجملةِ بحرفِ التَّنبيهِ أَلَا، والمقصودُ منه إظهارُ أهمِّيَّةِ العلمِ بمَضمونِها وتَحقيقِه؛ ولذلك عُقِّب بحرفِ التَّأكيدِ إِنَّ، وزِيدَ ذلك تأكيدًا بتقديمِ الخبَرِ لِلَّهِ على الاسمِ مَنْ وباجتلابِ لامِ المِلْكِ في لِلَّهِ .

وابتدأ بالسَّموات؛ لأنَّ مِلكَها يدُلُّ على مِلكِ الأرضِ بطَريقِ الأَولى ، وأيضا لعظَمِها، ولأنَّها أشرفُ مِن الأرضِ وأعلَى .

قولُه: وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ على القولِ بأنَّ مَا يَتَّبِعُ في مَعْنى الاستفهامِ- أيْ: وأيَّ شيءٍ يتَّبِعون، فـ مَا استفهامٌ بمعنى الإِنكارِ والتَّوبيخِ، فتكونُ اسمًا في موضعِ نصبٍ بـ يَتَّبِعُ، كأنَّه قيل: وأيَّ شيءٍ يتَّبِعُ الَّذين تَدْعونهم شُركاءَ مِن الملائكةِ والنَّبيِّين؛ تقريرًا لكونِهم مُتَّبِعين للهِ تعالى مُطيعين له، وتَوبيخًا لهم على عدَمِ اقتدائِهم بهم في ذلك .

=====

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (67-70)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ

غريب الكلمات:

 

سُلْطَانٍ: أي: حُجَّة، وأصْلُ السُّلطانِ: القوَّةُ والقهرُ، من التَّسلُّط؛ ولذلك سُمِّي السُّلطانُ سُلطانًا

.

لِتَسْكُنُوا فِيهِ: أي: تهدءُوا فيه مِن التصرُّفِ والحركةِ، وتستقرُّوا لراحةِ أبدانِكم، والسُّكونُ: ثبوتُ الشيءِ بعدَ تحرُّكٍ، وأصلُ (سَكَنَ): يَدُلُّ على خِلافِ الاضْطِرابِ والحركةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ تعالى النَّاسَ مبينًا بعضَ مظاهرِ نِعمِه عليهم، فيقولُ: إنَّه وَحْدَه الذي خلَقَ لهم اللَّيلَ؛ لأجلِ أن يَهدَؤوا ويَستَريحوا فيه مِن العَناءِ والتَّعَب، وجعَلَ لهم النَّهارَ مُضيئًا؛ لِيَسعَوْا لطَلَبِ رِزقِهم، وقَضاءِ حَوائِجِهم، إنَّ في ذلك لدَلالاتٍ للَّذينَ يَسمَعونَ آياتِ اللهِ، ويَعتَبِرونَ بها.

ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّ مُشرِكي العرَبِ زَعَموا أنَّ لله ولدًا، تنزَّه سُبحانَه عن ذلك، هو الغنيُّ عن الزَّوجةِ والوَلَدِ، وعن جميعِ خَلْقِه، له جميعُ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ، فكيف يكونُ له ولَدٌ ممَّن خلَقَ، وكلُّ شَيءٍ مملوكٌ له؟ وليس عند هؤلاء المُشرِكينَ دليلٌ على أنَّ الله اتَّخذَ ولدًا مِن خَلْقِه، أيقولونَ على الله ما لا يعلمونَ حَقيقتَه وصِحَّتَه؟

ثمَّ وجَّه سُبحانه الخطابَ إلى نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: قلْ- يا محمَّدُ-: إنَّ الذينَ يَختَلِقونَ على الله الكَذِبَ لا يَفوزونَ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، لهم في الدُّنيا متاعٌ قليلٌ، ثمَّ إلينا مَصيرُهم، ثمَّ نُذيقُهم في النَّارِ العذابَ المُوجِعَ؛ بسبَبِ كُفرِهم بالله.

تفسير الآيات:

 

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّها استدلالٌ على مَضمونِ ما قَبلَها مِن نَفيِ وُجودِ شُرَكاءَ له في الخلقِ والتَّقديرِ، ولا بالشَّفاعةِ عنده في التصَرُّفِ والتَّدبيرِ؛ فهو الذي جعلَ لكم الوقتَ قِسمَينِ بمقتضى عِلمِه ومَشيئتِه بدونِ مُساعدٍ ولا شفيعٍ، بل بمَحضِ الحِكمةِ البالغةِ والرَّحمةِ الشَّاملةِ؛ أحدُهما: اللَّيلُ، جعَلَه مُظلِمًا لأجلِ أن تسكُنوا فيه بعد طولِ الحَرَكةِ والتقلُّبِ في الأرضِ، تستريحونَ مِن التَّعَبِ في طلَبِ الرِّزقِ، وثانيهما: النَّهارُ، جعَلَه مُضيئًا ذا إبصارٍ لتَنتَشِروا في الأرضِ، وتقوموا بجميعِ أعمالِ العُمرانِ والكَسبِ

.

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا.

أي: اللهُ وَحْدَه هو الذي خلَقَ لكم- أيُّها النَّاسُ- اللَّيلَ؛ لأجل أن تَهدَؤوا عن الحَرَكةِ، وتستريحوا فيه مِن العَناءِ والتَّعَب، وجعل لكم النَّهارَ مُضيئًا تُبصِرونَ فيه لِمَعاشِكم، وقضاءِ حوائِجِكم .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ.

أي: إنَّ في اختلافِ حالِ اللَّيلِ والنَّهارِ بالظُّلمةِ والضِّياءِ، واختلافِ حالِ أهلِهما فيهما بالسُّكونِ والحَرَكةِ، لدَلالاتٍ للَّذينَ يَسمَعونَ آياتِ الله ويَعُونَها، فيَقبلونَها، ويعتَبِرونَ بها على عَظَمتِه وعِلمِه، وقُدرتِه ورَحمتِه، وحِكمَتِه واستحقاقِه وَحْدَه للعبادةِ .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 5- 6] .

وقال سُبحانه: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النمل: 86] .

قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68).

قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا.

أي: قال مُشرِكو العَرَبِ: الملائكةُ بناتُ اللهِ !!

سُبْحَانَهُ.

أي: تنزَّه اللهُ عن أن يكونَ له ولَدٌ .

هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ.

أي: اللهُ هو الغنيُّ عن الزَّوجةِ والوَلَدِ، وعن جميعِ خَلْقِه، له جميعُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، خَلقًا ومُلكًا وتصَرُّفًا، فكيف يَحتاجُ إلى شيءٍ مِن خَلْقِه، وكيف يتَّخِذُ منهم ولدًا ؟!

كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 88 - 95] .

إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا.

أي: ليس عندكم- أيُّها المشركون- دليلٌ وحجَّةٌ على أنَّ الله اتَّخذ ولدًا مِن خَلْقِه .

أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.

أي: أتقولونَ- أيُّها المُشرِكونَ- على اللهِ قَولًا لا تَعلَمونَ حَقيقتَه وصِحَّتَه، فتنسُبونَ إليه الولَد جهلًا منكم بغيرِ دَليلٍ ؟!

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا بيَّنَ بالدَّليلِ القاهرِ أنَّ إثباتَ الوَلَدِ لله تعالى قولٌ باطِلٌ، ثم بيَّنَ أنَّه ليس لهذا القائلِ دَليلٌ على صِحَّةِ قَولِه، فقد ظهَرَ أنَّ ذلك المذهَبَ افتراءٌ على الله، ونِسْبة ما لا يليقُ به إليه؛ فبيَّنَ أنَّ مَن هذا حالُه، فإنَّه لا يُفلِحُ البتَّةَ .

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ-: إنَّ الذين يَكذِبونَ على اللهِ فيَنسُبونَ إليه الولدَ، لا يفوزونَ، ولا يَنجُونَ، ولا يأمنونَ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ .

مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70).

مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ.

أي: لهم مَتاعٌ قليلٌ في الدُّنيا يتمَتَّعونَ به إلى انقضاءِ آجالِهم، ثمَّ إلينا مَصيرُهم بعد مَوتِهم .

ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ.

أي: ثمَّ نُذيقُهم في النَّارِ العذابَ الغليظَ المُوجِعَ؛ بسبَبِ كُفرهِم باللهِ في الدُّنيا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا مِن لطائفِ المُناسَبة أنَّ النورَ الذي هو كيفيَّةُ زَمَنِ النَّهارِ، شيءٌ وُجوديٌّ، فكان زمانُه حقيقًا بأن يُوصَفَ بأوصافِ العُقَلاءِ، بخلافِ اللَّيلِ؛ فإنَّ ظُلمَتَه عَدَميَّةٌ، فاقتُصِرَ في العبرةِ به على ذِكرِ الفائدةِ الحاصلةِ فيه، وهي أن يسكُنوا فيه

.

2- إن قيل: إنَّ قَولَ الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ يدلُّ على أنَّه تعالى ما خلَقَ اللَّيلَ إلَّا لهذا الوجهِ، وقولَه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يدلُّ على أنَّه تعالى أراد بتخليقِ اللَّيلِ والنَّهارِ أنواعًا كثيرةً مِن الدلائلِ، فالجوابُ: أنَّ قَولَه تعالى: لِتَسْكُنُوا لا يدلُّ على أنَّه لا حِكمةَ فيه إلَّا ذلك، بل ذلك يقتضي حصولَ تلك الحكمةِ، أمَّا قَولُه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ فالمرادُ: يتدبَّرونَ ما يَسمَعونَ ويَعتَبِرونَ به .

3- قَولُ الله تعالى: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يدلُّ على أنَّ صِفةَ العبوديَّةِ تُنافي صِفةَ البُنُوَّةِ، ويؤخَذُ مِن هذا أنَّ الوَلَدَ لا يُستَرَقُّ لأبيه ولا لأُمِّه؛ ولذلك يُعتَقُ الولدُ على مَن يَملِكُه مِن أبٍ أو أمٍّ وإنْ عَلَيَا .

4- قال اللهُ تعالى: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ في هذه الآيةِ سَمَّى اللهُ تعالى الحُجَّةَ العِلميَّةَ سُلطانًا؛ لأنَّها تُوجِبُ تسَلُّطَ صاحِبِها واقتدارَه، فله بها سُلطانٌ على الجاهلينَ، بل سُلطانُ العِلمِ أعظَمُ مِن سُلطانِ اليَدِ، ولهذا ينقادُ النَّاسُ للحُجَّة ما لا ينقادونَ لليَدِ؛ فإنَّ الحُجَّةَ تنقاد لها القلوبُ، وأمَّا اليدُ فإنَّما ينقادُ لها البدنُ، فالحجَّةُ تأسِرُ القلبَ وتقودُه، وتُذِلُّ المُخالِفَ، وإن أظهَرَ العِنادَ والمكابرةَ، فقَلبُه خاضِعٌ لها ذليلٌ، مقهورٌ تحت سُلطانِها، بل سلطانُ الجاهِ إن لم يكُن معه عِلمٌ يُساسُ به فهو بمَنزلةِ سُلطانِ السِّباعِ والأُسودِ ونحوِها، قُدرة بلا عِلمٍ ولا رحمةٍ، بخلافِ سُلطانِ الحُجَّة، فإنَّه قُدرةٌ بعِلمٍ ورحمةٍ وحِكمةٍ، ومَن لم يكن له اقتدارٌ في عِلمِه، فهو إمَّا لِضَعفِ حُجَّتِه وسُلطانِه، وإمَّا لِقَهرِ سُلطانِ اليَدِ والسَّيفِ له، وإلَّا فالحُجَّةُ ناصرةٌ نَفسَها، ظاهِرةٌ على الباطِلِ، قاهِرةٌ له .

5- قال الله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ لما نفَى البُرهانَ عنهم جعَلَهم غيرَ عالِمينَ، فدلَّ على أنَّ كُلَّ مَقالةٍ لا دليلَ عليها ولا برهان، فهي جَهالةٌ، وليسَتْ مِن العلمِ في شيءٍ .

6- قَولُ الله تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ لا يختَصُّ هذا الوعيدُ بالصورةِ المذكورةِ، بل كلُّ من قال في ذاتِ اللهِ تعالى وفي صفاتِه قَولًا بغيرِ عِلمٍ وبِغَيرِ حُجَّةٍ بَيِّنةٍ؛ كان داخلًا في هذا الوعيدِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ

قولُه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ: فيه طريقٌ مِن طُرقِ القَصرِ، وهو تعريفُ المسنَدِ والمسنَدِ إليه هُوَ الَّذِي، وهو هنا قصرٌ حقيقيٌّ

.

وذكَر عِلَّةَ خلقِ اللَّيلِ فقال: لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وحذَفها من النَّهارِ، وذكَر وصْفَ النَّهارِ مُبْصِرًا وحذَفه مِن اللَّيلِ، وكلٌّ مِن المحذوفِ يدُلُّ على مُقابِلِه، والتَّقديرُ: جعَل اللَّيلَ مُظلِمًا؛ لِتَسكُنوا فيه، والنَّهارَ مُبصِرًا؛ لِتتحرَّكوا فيه في مَكاسِبِكم وما تَحتاجون إليه بالحرَكةِ، وهو مِن بابِ الاحتباكِ؛ حيث حَذَفَ مِن كُلٍّ مِن آيتَيِ اللَّيلِ والنَّهارِ ما أثبَتَ مُقابِلَه في الأُخرَى، والعَكس .

قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ما في اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ مَنزلةِ المشارِ إليه، وعُلوِّ رُتبتِه .

وقولُه: لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ فيه تخصيصُ الآياتِ بالَّذي يَسمَعون معَ أنَّها منصوبةٌ لِمَصلحةِ الكلِّ؛ لأنَّهم المنتَفِعون بها ، وفي وَصْفِ القومِ بأنَّهم يَسمَعون إشارةٌ إلى أنَّ تلك الآياتِ والدَّلائلَ تَنهَضُ دَلالتُها للعُقولِ بالتَّأمُّلِ فيها، وأنَّ توجُّهَ التَّفكيرِ إلى دَلائلِها غيرُ مُحتاجٍ إلَّا إلى التَّنبيهِ عليها، ولَفْتِه إليها، والوصفُ بالسَّمعِ تعريضٌ بأنَّ الَّذين لم يَهتَدوا بها، ولا تَفطَّنُوا لِدَلالتِها بمَنزِلةِ الصُّمِّ، كقولِه تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ [الزخرف: 40] .

2- قوله: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

قولُه: سُبْحَانَهُ تنزيهٌ وتقديسٌ له عمَّا نَسَبوا إليه، وتعجُّبٌ مِن كَلمَتِهم الحمقاءِ .

قولُه: هُوَ الْغَنِيُّ علَّةٌ لِنَفيِ الولَدِ؛ لأنَّ ما يُطلَبُ به الولَدُ مَن يَلِدُ، وما يَطلُبُه له السَّببُ في كلِّه الحاجةُ، فمَنِ الحاجةُ منتفِيَةٌ عنه كان الولَدُ عنه مُنتفِيًا .

وجملةُ: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مُقرِّرةٌ لوصفِ الغِنى بأنَّ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ مِلكُه .

ولَمَّا كان سياقُ الاستدلالِ يَقتَضي التَّأكيدَ، أعاد (ما) فقال: وَمَا فِي الْأَرْضِ .

قولُه: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا فيه الْتِفاتٌ مِن الغيبةِ إلى الخطابِ؛ لِمَزيدِ المبالَغةِ في الإلزامِ والإفحامِ .

ومِنْ في قولِه: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا؛ لتأكيدِ النَّفيِ بالاستغراقِ، أي: استغراقِ نفيِ جميعِ أنواعِ الحجَّةِ قَوِيِّها وضَعيفِها، عَقْليِّها وشَرعيِّها .

وقولُه: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ استفهامٌ مستعمَلٌ في التَّوبيخِ والتَّقريعِ على جَهلِهم واختلافِهم .

3- قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ

قولُه: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فيه تلوينٌ للخِطابِ، وتوجيهٌ له إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِيُبيِّنَ لهم سوءَ مَغبَّتِهم، ووَخامةَ عاقِبَتِهم .

4- قوله تعالى: مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ

قولُه: مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ القضاءَ عليه بعدَمِ الفلاحِ يتَوجَّه عليه أن يَسأَلَ سائلٌ: كيف نَراهم في عِزَّةٍ وقُدرةٍ على أذى المسلِمين، وصدِّ النَّاسِ عن اتِّباعِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؟! فهو جوابٌ على تقديرِ سؤالٍ، أنَّ قائلًا قال: كيف لا يُفلِحون وهم في الدُّنيا مُفلِحون بأنواعٍ ممَّا يتَلذَّذون به؟! فيُجابُ السَّائلُ بأنَّ ذلك تَمتيعٌ في الدُّنيا لا يُعبَأُ به، أو لهم مَتاعٌ في الدُّنيا زائلٌ لا بقاءَ له، ثمَّ يَلْقَون الشَّقاءَ المؤبَّدَ في الآخرةِ، وإنَّما عدَمُ الفلاحِ مَظهَرُه الآخرةُ .

ومادَّةُ (متع) مُؤذِنةٌ بأنَّه غيرُ دائمٍ، وتنكيرُه مؤذِنٌ بتقليلِه، وتقييدُه بأنَّه فِي الدُّنْيَا مؤكِّدٌ للزَّوالِ وللتَّقليلِ .

====

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (71-73)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ

غريب الكلمات:

 

كَبُرَ: أي: شَقَّ، وعَظُمَ وصَعُبَ. وأصلُ (كبر): يدلُّ على خِلافِ الصِّغَر

.

مَقَامِي: أي: لُبثي وطولُ مُكثي بينَ أظهرِكم، وقيل: المرادُ بالمَقامِ القيامُ؛ أي: قيامي لوعظِكم؛ لأنَّ الواعظَ يقومُ حالَ وعظِه، والمَقامُ يكونُ مصدرًا، واسمَ مكانِ القيامِ، وزمانِه، وأصلُ (قوم): يدلُّ على انْتِصابٍ أو عَزْمٍ .

فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ: أي: فأعِدُّوا أمْرَكم، واعْزِموا على ما تُقْدِمون عليه في أمري، يُقالُ: أَجْمَعْتُ على كذا، بمعنَى: عَزَمْتُ عليه، وأَجْمَعْتُ كذا: أكثرُ ما يُقالُ فيما يكونُ جمعًا يُتوصَّلُ إليه بالفكرةِ، وأصل (جمع): يَدُلُّ عَلَى تَضَامِّ الشَّيْءِ .

غُمَّةً: أي: مُلتَبِسًا مُشكِلًا مُبهَمًا. وأصلُ (غم): يدُلُّ على تَغطيةٍ وإطباقٍ .

اقْضُوا إِلَيَّ: أي: أمضُوا إليَّ ما في أنفُسِكم وافرُغُوا منه. وأصلُ (قضي): يدلُّ على إنفاذِ أمرٍ لجِهَتِه .

تُنْظِرُونِ: أي: تؤخِّرونِ، وأصلُ (نظر): يدلُّ على انتظارٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ

وَشُرَكَاءَكُمْ: مَنصوبٌ عطفًا على أَمْرَكم بتقديرِ حذفِ مُضافٍ، أي: وأمْرَ شركائِكم، وإنَّما قُدِّر مضافٌ محذوفٌ؛ لأنَّ الأكثَرَ أنَّ فِعلَ (أَجْمع) يُستعمَلُ في المعاني، و (جَمَع) يُستعمَل في الأعيانِ، فيُقال: أجمعَ أمْرَه، وجَمَع شُركاءَه. وقيل: إنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ لائقٍ، أي: واجْمَعوا أو ادْعُوا شُركاءَكم. وقيل: إنَّه مفعولٌ معه، والواوُ هنا واو المعيَّةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يتلوَ على كفَّارِ مَكَّةَ خبَرَ نُوحٍ عليه السَّلامُ مع قومِه حين قال لهم: إنْ كان عَظُمَ عليكم وُجودي بين أظهُرِكم، وتذكيري إيَّاكم بحُجَجِ اللهِ وبراهينِه، فعلى اللهِ توكَّلتُ، فأعِدُّوا أمْرَكم، وادعُوا شُرَكاءَكم لإعانتِكم، ثمَّ لا تجعَلوا أمْرَكم عليكم مُستَتِرًا مُشكِلًا، ثمَّ أَمضُوا إليَّ ما في أنفُسِكم، ولا تُمهِلوني، فإن أعرَضتُم عن دَعوتي، فإنَّني لم أسأَلْكم عليها أجرًا؛ لأنَّ ثوابي عند ربِّي وأجري عليه سُبحانَه، وأُمِرتُ أن أكونَ مِن المُسلِمينَ.

ثمَّ أخبَرَ تعالى أنَّ نوحًا كذَّبَه قومُه، فنجَّاه اللهُ هو ومَن معه في السَّفينةِ، وجعَلَهم يَخْلُفونَ المكَذِّبينَ في الأرضِ، وأغرقَ الذين جَحَدوا حُجَجَه، ثمَّ أمرَ الله تعالى نبيَّه مُحمَّدًا أن يتأمَّلَ كيف كان عاقبةُ القَومِ الذين أنذَرَهم رسولُهم عذابَ اللهِ وبأسَه؟

تفسير الآيات:

 

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ (71).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى الدَّلائِلَ على وحدانيَّتِه، وذكَرَ ما جرى بين الرَّسولِ والكفَّارِ؛ ذكَرَ قَصصًا مِن قَصَصِ الأنبياءِ، وما جرى لهم مع قَومِهم من الخِلافِ؛ وذلك تسليةً للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولِيَتأسَّى بمَن قَبلَه من الأنبياءِ، فيَخِفَّ عليه ما يلقَى مِن التَّكذيبِ، وقِلَّةِ الأتباعِ، ولِيَعلمَ المتلوُّ عليهم هذا القَصَصُ عاقبةَ مَن كذَّبَ الأنبياءَ، وما منح اللهُ نبيَّه مِن العلمِ بهذا القَصَصِ، وهو لم يُطالِعْ كتابًا، ولا صَحِبَ عالِمًا، وأنَّها طِبقُ ما أخبَرَ به، فدلَّ ذلك على أنَّ الله أوحاه إليه، وأعلَمَه به، وأنَّه نبيٌّ لا شَكَّ فيه

.

وأيضًا فهي انتقالٌ مِن مُقارعةِ المُشرِكينَ بالحُجَج السَّاطعةِ على بُطلانِ دِينِهم، وبالدَّلائِلِ الواضحةِ على تفنيدِ أكاذيبِهم وتكذيبِهم، وما تخلَّلَ ذلك مِن الموعظةِ والوعيدِ بالعذابِ العاجِلِ والآجِلِ، إلى التَّعريضِ لهم بذِكرِ ما حَلَّ بالأُمَم المُماثلةِ أحوالُها لأحوالِهم؛ استِقصاءً لطرائِقِ الحِجاجِ على أصحابِ اللَّجاجِ، ففي ذِكرِ عاقِبةِ قَومِ نُوحٍ عليه السَّلامُ تعريضٌ للمُشرِكينَ بأنَّ عاقِبتَهم كعاقبةِ أولئك، أو أنَّهم إنَّما يُمتَّعونَ قليلًا، ثم يُؤخَذونَ أخذةً رابيةً، كما مُتِّعَ قَومُ نوحٍ زمنًا طويلًا، ثمَّ لم يُفلِتوا من العذابِ في الدُّنيا، فذكَرَ قِصَّةَ نُوحٍ مع قومِه عِظةً للمُشرِكينَ، ومُلقيًا بالوَجَلِ والذُّعرِ في قلوبهم، وفي ذلك تأنيسٌ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم وللمُسلمينَ بأنَّهم أُسوةٌ بالأنبياءِ والصَّالحينَ مِن أقوامِهم .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ.

أي: واقرأْ- يا مُحمَّدُ- على قَومِك المُشرِكينَ خَبَرَ نوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع قَومِه الذينَ كذَّبوه فأهلَكَهم اللهُ؛ لِيَحذَرَ قومُك من أن يُصيبَهم اللهُ بعِقابِه .

إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ.

أي: حين قال لِقَومِه: يا قومي، إن كان عَظُم وثقُلَ عليكم لُبثِي بين أظهُرِكم، وشَقَّ عليكم وَعظي إيَّاكم بالدَّلائِلِ والبراهينِ الإلهيَّةِ، فعَزَمتُم على أن تنالوني بسوءٍ- فَعَلى اللهِ اعتمَدْتُ؛ فهو مَن ينصُرُني، ويمنَعُ أذاكم عني .

كما قال تعالى: قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ * قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 116 - 118] .

فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ.

أي: فأعِدُّوا أمْرَكم، واعزِموا جميعًا على إيذائي، وادعُوا مَن تدعونَ مِن دونِ اللهِ لإعانتِكم .

ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً .

أي: ثمَّ لا يكُنْ أمرُكم خفيًّا مُشكِلًا، فيه لبسٌ عليكم .

ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ.

أي: ثمَّ أَمضُوا ما تحدِّثونَ أنفسَكم به فيَّ، وأنفِذوا قضاءَكم نَحوِي، وافرُغُوا مِن أمري، ولا تُمهِلوني .

فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72).

فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ.

أي: قال نوحٌ لِقَومِه: فإن أعرَضْتُم- يا قومِ- عن دَعوتي لكم إلى توحيدِ اللهِ وطاعتِه، فإنِّي لم أسألْكم على دَعوتي مالًا، حتى تُعرِضوا عن الحَقِّ .

إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ.

أي: ما ثَوابي على دَعوتِكم إلى الحَقِّ إلَّا على اللهِ الذي أرسَلَني إليكم، ولا أريدُ ثوابًا مِن غيرِه .

وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

أي: وأمَرَني اللهُ أن أكونَ مِن المُستَسلمينَ له، الموحِّدينَ المُنقادينَ له بالطَّاعةِ، وأنا مُمتَثِلٌ ما أمَرَني به .

فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى الكَلِماتِ التي جَرَت بينَ نوحٍ وأولئك الكُفَّار، ذكَرَ ما إليه رجعَتْ عاقِبةُ تلك الواقِعةِ، أمَّا في حقِّ نوحٍ وأصحابِه فأمرانِ؛ أحدُهما: أنَّه تعالى نجَّاهم مِن الكُفَّارِ. الثاني: أنَّه جعَلَهم خلائِفَ بمعنى أنَّهم يَخلُفونَ مَن هلك بالغَرَق، وأمَّا في حَقِّ الكُفَّار فهو أنَّه تعالى أغرَقَهم وأهلَكَهم .

فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ.

أي: فكذَّب نوحًا قومُه، فنجَّيناه مِن الغَرَق هو ومَن معه على دينِه، ممَّن حُمِلَ معه في السَّفينةِ .

وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ.

أي: وجَعَلْنا مَن نجَّينا في السَّفينةِ مع نوحٍ خلائِفَ في الأرضِ، يخلُفُ بَعضُهم بعضًا بعد إغراقِ قَومِ نُوحٍ .

وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا.

أي: وأغرَقْنا بالطُّوفانِ قَومَ نوحٍ؛ لأنهم كذَّبوا برسالةِ نوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

كما قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف: 64] .

وقال سُبحانه: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ [الفرقان: 37] .

فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ.

أي: فانظُرْ- يا محمَّدُ- كيف كان آخِرُ أمرِ القَومِ الذين أنذَرَهم نوحٌ عِقابَنا على شِرْكِهم باللهِ وتكذيبِهم لِرَسولِه؛ أعقَبَهم ذلك أنَّا أهلَكْناهم

 

.

كما قال تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران: 137] .

الفوائد التربوية :

 

قولُ الله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أي: ما أنصَحُكم إلَّا لوجهِ اللهِ تعالى، لا لغَرَضٍ من أغراضِ الدُّنيا، وهكذا ينبغي لكلِّ مَن ينفَعُ النَّاسَ بعِلمٍ أو إرشادٍ إلى طريقِ الله تعالى

. فالآية فيها إشارةٌ إلى أنَّه ما أخَذَ منهم مالًا على دَعوتِهم إلى دِينِ اللهِ تعالى، ومتى كان الإنسانُ فارغًا مِن الطَّمَعِ كان قَولُه أقوَى تأثيرًا في القَلبِ ، ففي الآيةِ بيانٌ عن إخلاصِ الدُّعاةِ إلى اللهِ جلَّ وعَزَّ، مِن تَرْكِ الأجرِ؛ لتتوَفَّرَ الدَّواعي إلى الحَقِّ، وذلك أنَّ النَّاصِحَ إذا طلَبَ على نُصحِه أجرًا ربَّما كان ذلك سببًا لامتناعِ النَّاسِ عن القَبولِ منه والإقبالِ عليه، وإذا لم يَطلُبِ الأجرَ كان ذلك أدعى إلى قَبولِ قَولِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ هذا مِن أقوى آياتِ النبوَّةِ؛ أن يقولَ النبيُّ لِقَومِه، وهم متعاوِنونَ عليه: افعلوا بي ما شِئتُم

.

2- قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ .. هذا وإن كان خبرًا مِن اللهِ تعالى عن نوحٍ، فإنَّه حَثٌّ مِن الله لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على التأسِّي به، وتعريفٌ منه سبيلَ الرَّشادِ فيما قلَّدَه من الرِّسالةِ، والبلاغِ عنه .

3- في قولِه تعالى: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ بيانُ أنَّ تَوَكُّلَ نوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على اللهِ يَدفعُ عنه شرَّ أعدائِه، فقَولُ نوحٍ: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ لولا أنَّ تَحقيقَه هذه الكَلِمةَ- وهو توكُّلُه على اللهِ- يَدفَعُ ما تحدَّاهم به، ودعاهم إليه تعجيزًا لهم من مناجَزَتِه، لكان قد طلَبَ منهم أن يُهلِكوه، وهذا لا يجوزُ، وهذا طلَبُ تعجيزٍ لهم، فدلَّ على أنَّه بتوكُّلِه على اللهِ يُعجِزُهم عمَّا تحدَّاهم به .

4- قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ...، ومعنى كَبُرَ عَلَيْكُمْ: ثَقُل عليكم، وشقَّ عليكم، وعَظُمَ أمرُه عندَكم، وسبَبُ هذا الثِّقلِ أمرانِ: أحدهما: أنَّه عليه السَّلامُ مكَثَ فيهم ألفَ سَنَةٍ إلَّا خمسينَ عامًا. والثاني: أنَّ أولئك الكُفَّارَ كانوا قد ألِفُوا تلك المذاهِبَ الفاسِدةَ والطَّرائِقَ الباطلةَ، والغالِبُ أنَّ مَن ألِفَ طريقةً في الدِّينِ، فإنَّه يَثقُلُ عليه أن يُدعى إلى خلافِها، ويُذكرَ له ركاكتُها، فإن اقتَرَن بذلك طولُ مُدَّةِ الدعاءِ، كان أثقَلَ، وأشَدَّ كراهيةً، فإن اقتَرَن به إيرادُ الدلائِلِ القاهرةِ على فسادِ تلك المذاهبِ، كانت النُّفرةُ أشَدَّ، فهذا هو السَّبَبُ في حصولِ ذلك الثِّقلِ .

5- بيَّنَ نُوحٌ عليه السَّلامُ أنَّه لا يَخافُ من قومِه بوجهٍ مِن الوجوهِ؛ وذلك لأنَّ الخَوفَ إنَّما يحصُلُ بأحدِ شَيئينِ؛ إمَّا بإيصالِ الشَّرِّ أو بِقَطعِ المنافِعِ، فبيَّنَ أنَّه لا يخافُ شَرَّهم بقوله: إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ، وبيَّن أنَّه لا يخافُ أن يقطَعوا عنه خيرًا؛ لأنَّه ما أخَذ منهم شيئًا، وذلك في قولِه: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ .

6- في قَولِه تعالى عن نوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بيانُ أنَّ الإسلامَ هو دينُ الرُّسُلِ كلِّهم؛ أوَّلِهم وآخرِهم، وأنَّهم كلَّهم بُعِثوا بالإسلامِ .

7- قولُه: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فيه توعُّدٌ للكفَّارِ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وضربُ مثالٍ لهم في أنَّهم بحالِ هؤلاء مِن التَّكذيبِ، فسيَكونُ حالُهم كحالِهم في التَّعذيبِ .

8- قولُه: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ تعظيمٌ لما جَرى عليهم، وتحذيرٌ لِمَن أنذَرَهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن مِثلِه، وتسليةٌ له

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ

في افتتاحِ خطابِ نوحٍ عليه السَّلامُ لقومِه بقولِه: يَا قَوْمِ إيذانٌ بأهمِّـيَّةِ ما سيُلْقيه إليهم؛ لأنَّ النِّداءَ طلَبُ الإقبالِ، واختيارُ التَّعبيرِ عنهم بوصفِ كونِهم قَوْمَه تَحْبيبٌ لهم في نفسِه؛ لِيَأخُذوا قولَه مأخَذَ قولِ النَّاصحِ المتطلِّبِ الخيرَ لهم؛ لأنَّ المرءَ لا يُريدُ لقومِه إلَّا خيرًا

.

قَولُ الله تعالى: إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ... خَصَّ بالذِّكرِ مِن أحوالِه فيهم تذكيرَه إيَّاهم بآياتِ اللهِ؛ لأنَّ ذلك من أهَمِّ شُؤونِه مع قَومِه، فعَطْفُه مِن عَطفِ الخاصِّ على العامِّ .

قولُه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ: صيغةُ الأمرِ في قولِه: فَأَجْمِعُوا مُستعمَلةٌ في التَّسويةِ، أي: إنَّ عَزْمَهم لا يَضيره بحيث هو يُغْريهم بأخذِ الأُهْبَةِ التَّامَّةِ لِمُقاوَمتِه، وزاد ذِكْرَ شُركائِهم؛ لِلدَّلالةِ على أنَّه لا يَخْشاها؛ لأنَّها في اعتِقادِهم أشدُّ بَطشًا مِن القومِ، وذلك تَهكُّمٌ بهم .

قولُه: ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً فيه إظهارُ الأمرِ في موقعِ الإضمارِ؛ لزيادةِ تقريرٍ يَقتَضيها مقامُ الأمرِ بالإظهارِ، الَّذي يَستلزِمُه النَّهيُ عن التَّستُّرِ والإسرارِ .

2- قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

قولُه: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فيه تعميمٌ لنفيِ تَطلُّبِه أجرًا على دَعوتِهم، سواءٌ مِنهم أو مِن غيرِهم؛ فالقَصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ (إنْ... إلَّا) حقيقيٌّ، وبه يَحصُلُ تأكيدُ جملةِ: فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ مع زيادةِ التَّعميمِ .

3- قوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ

قولُه: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فيه تقديمُ ذِكْرِ إنجائِه قبل ذِكرِ الإغراقِ الَّذي وقَع الإنجاءُ منه؛ للإشارةِ إلى أنَّ إنجاءَه أهمُّ عندَ اللهِ تعالى مِن إغراقِ مُكذِّبيه، ولإظهارِ كمالِ العنايةِ بشأنِ المقدَّمِ، ولتعجيلِ المَسرَّةِ للمُسلِمين السَّامعين لهذه القصَّةِ، وللإيذانِ بسَبقِ الرَّحمةِ على الغضَبِ ، وأيضًا لأنَّه هو الأهَمُّ في سياقِ صِدقِ الوعدِ والوعيدِ مِن وَجهينِ؛ أوَّلُهما: تقديمُ مِصداقِ الوعدِ لِتَسليةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتسريةِ حُزنِه على قومِه، وثانيهما: كونُه هو الأظهَرَ في الحُجَّةِ على أنَّهما- أي: الوعدَ والوعيدَ- مِن الله تعالى القادِرِ على إيقاعِهما، على خلافِ ما يعتَقِدُ المُشرِكونَ المكَذِّبون، المَغرورون بكَثرتِهم وقلَّةِ أتباعِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وخلافِ الأصلِ المعهودِ في المصائبِ العامَّةِ في العادةِ، وهو أنَّها تُصيبُ الصَّالحَ والطَّالِحَ على سواءٍ، فلا تمييزَ فيها ولا استثناءَ، ولكنَّه هو الذي جَرَت به سنَّةُ الله تعالى في مُكَذِّبي الرُّسُل مِن بَعدِ نوحٍ، فكان آيةً لهم، فلولا أنَّ الأمرَ بِيَدِ اللهِ على وَفقِ وَعدِه ووعيدِه، لَما هلَكَ الألوفُ الكثيرونَ، ونجا أفرادٌ قليلون لهم صِفةٌ خاصَّةٌ أخرَجَهم منهم تصديقًا لخبَرِ رسولِهم، وما سِيقَ هذا النبأُ هنا إلَّا لتقريرِ هذا المَعنى .

وتعريفُ قومِ نوحٍ بطريقِ الموصوليَّةِ في قولِه: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا؛ للإيماءِ إلى سبَبِ تَعذيبِهم بالغرَقِ، وأنَّه التَّكذيبُ بآياتِ اللهِ؛ إنذارًا للمُشرِكين مِن العرَبِ؛ ولذلك ذُيِّل بقولِه: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ، أي: المنذَرين بالعذابِ، المكذِّبين بالإنذارِ

==============

.

غريب الكلمات

المعنى الإجمالي

تفسير الآيات

الفوائد العلمية واللطائف

بلاغة الآيات

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (74-78)

ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ

غريب الكلمات:

 

وَمَلَئِهِ: الملأ: أشرافُ النَّاسِ ووجُوهُهم، أو الجماعةُ يجتمعونَ على رأيٍ، فيملوؤنَ العيونَ منظرًا، والنفوسَ بهاءً وجلالًا، ويُقالُ: فلانٌ ملءُ العيونِ، أي: معظَّمٌ عندَ مَن رآه، وقيل: وُصِفوا بذلك؛ لأنَّهم يتمالئونَ، أي: يتظاهرونَ عليه ، وأصلُ (ملأ):  يدلُّ على المساواةِ، والكمالِ في الشيءِ

.

لِتَلْفِتَنَا: أي: لتَصْرِفَنا، والالتفاتُ: الانصرافُ عمَّا كنتَ مُقبِلًا عليه، وأصلُ (لفت): يدلُّ على اللَّيِّ، وصَرفِ الشَّيءِ عن جِهتِه المُستَقيمةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه بعثَ بعد نوحٍ رُسُلًا إلى قَومِهم بالمُعجِزاتِ والبَراهينِ التي تدُلُّ على صِحَّةِ رسالتِهم، فما كان هؤلاء المُشرِكونَ لِيُؤمِنوا؛ بسبَبِ تكذيبِهم إيَّاهم أوَّلَ ما أُرسِلوا إليهم. وكما ختم اللهُ على قُلوبِ هؤلاء الأقوامِ فلم يُؤمِنوا، كذلك يختِمُ على قلوبِ المُعتَدينَ، ثمَّ بعث اللهُ مِن بعد أولئك الرُّسُلِ موسى وهارونَ عليهما السَّلامُ إلى فرعونَ وأشرافِ قَومِه بالمُعجزاتِ الدَّالَّةِ على صِدقِهما، فاستكبَروا عن قَبولِ الحَقِّ، وكانوا قومًا مُجرمينَ.

فلما أتى فرعونَ وقومَه الحقُّ الذي جاء به موسى، قالوا: إنَّ الذي جاء به موسى مِن الآياتِ إنما هو سِحرٌ ظاهِرٌ، فقال لهم موسى مُنكرًا عليهم: أتقولونَ للحَقِّ لَمَّا جاءَكم إنَّه سِحرٌ مُبينٌ؟! أسِحرٌ هذا الحَقُّ الذي تُبصِرونَه؟! ولا يفوزُ السَّاحِرونَ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، فقال فرعونُ وملَؤه لموسى: أجِئتَنا لِتَصرِفَنا عمَّا وَجْدَنا عليه آباءَنا من عبادةِ غَيرِ الله، وتكونَ لكما أنت وهارونَ العظَمةُ والسُّلطانُ في أرضِ مِصرَ؟ وما نحنُ لكما بمُؤمِنينَ.

تفسير الآيات:

 

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ (74).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى بيَّنَ في هذه الآيةِ عِبرةً أُخرَى مِن عِبَرِ مُكَذِّبي الرُّسُلِ، وسُنَّةً مِن سُنَنِه فيهم؛ تكملةً لِما بَيَّنَه في حالِ قَومِ نُوحٍ مع رسولِهم، عسَى أن يعتبِرَ بها أهلُ مَكَّة، فيَعلموا كيف يتَّقونَ عاقِبةَ المكَذِّبينَ مِن قَومِ نُوحٍ وغَيرِهم، فإنَّ كُلَّ سوءٍ وضُرٍّ عُلِمَ سَبَبُه، أمكن اتِّقاؤُه باتِّقاءِ سَبَبِه، إذا كان من عمَلِ النَّاسِ الاختياريِّ، كالكُفرِ والاعتداءِ والظُّلمِ

.

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ.

أي: ثمَّ أرسَلْنا من بعدِ نوحٍ رُسُلًا إلى قَومِهم، فجاؤوهم بالمُعجزاتِ، والبَراهينِ الواضحةِ الدالَّةِ على صِدقِهم .

فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ.

أي: فما كان المُشرِكونَ لِيُؤمِنوا بما جاءتهم به رسُلُهم؛ بسبَبِ تكذيبِهم بالحَقِّ حين جاءَهم أوَّلَ مرَّةٍ .

كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .

كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ.

أي: كما خَتَمْنا على قلوبِ السَّابِقينَ فلم يُؤمِنوا، نختِمُ أيضًا على قلوبِ المُجاوِزينَ الحَدَّ بالشِّركِ، وتكذيبِ الرُّسُلِ، فلا يؤمِنون؛ عقوبةً لهم .

كما قال تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف: 101] .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (75).

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ.

أي: ثمَّ أرسَلْنا من بعد الأنبياءِ الذين جاؤوا بعدَ نوحٍ، موسى وهارونَ إلى فِرعونَ والأشرافِ مِن قَومِه بمُعجِزاتِنا الواضحةِ، فكذَّبوا بها، واستكبَروا عن اتِّباعِ الحَقِّ .

كما قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 103] .

وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ.

أي: وكان فِرعونُ وقَومُه أصحابَ ذُنوبٍ كبيرةٍ وآثامٍ عظيمةٍ؛ ولذلك استكبَروا عن اتِّباعِ الحَقِّ .

كما قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 4] .

وقال سُبحانه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف: 54] .

فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى باستكبارِ آلِ فِرعونَ؛ بيَّنَ أنَّه تسبَّبَ عنه طعنُهم في معجزاتِه مِن غَيرِ تأمُّلٍ، بل بغايةِ المُبادَرةِ والإسراعِ بما أشعَرَت به الفاءُ والسِّياقُ .

فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ.

أي: فلمَّا جاءَتْهم المُعجزاتُ الواضحةُ التي أيَّدنا بها موسى، قالوا: إنَّ هذا الَّذي جاء به موسى لَسِحْرٌ ظاهِرٌ !!

كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل: 12- 14] .

وقال سُبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر: 23-24] .

قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77).

قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا.

أي: قال موسى لهم مُنكِرًا عليهم ومُوبِّخًا لهم: أتقولونَ عن المُعجزاتِ التي جِئتُكم بها: إنَّها سِحرٌ مُبينٌ؟! أسِحرٌ هذا الحَقُّ الذي تُبصِرونَه ؟!

وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ.

أي: ولا ينجو السَّاحِرونَ، ولا يفوزونَ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ .

كما قال تعالى: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69] .

قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78).

قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا.

أي: قالوا: أجِئتَنا- يا موسى- لِتصرِفَنا بسِحرِك عن دينِنا الذي وَجَدْنا عليه آباءَنا مِن قبلِ مجيئِك، وتأمُرَنا أن نَعبُدَ اللهَ وحده، ونتركَ عبادةَ آلهَتِنا ؟!

وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ.

أي: ولتكونَ لكما عَظمةُ المُلكِ، وعِزُّ السُّلطانِ في أرضِ مِصرَ ؟

وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ.

أي: وقالوا تكبُّرًا وعنادًا: وما نحنُ لكما- يا موسى وهارونُ- بمصدِّقينَ ومُقِرِّينَ بأنَّكما رسولانِ مِن عندِ اللهِ

 

.

كما قال تعالى: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [الأعراف: 132-135] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فيه إشارةٌ إلى أنَّ نُوحًا أوَّلُ الرُّسُلِ

.

2- قَولُ الله تعالى: قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ فيه تَنبيهٌ على فَسادِ السِّحرِ، وسُوءِ عاقِبةِ مُعالِجيه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا فيه سؤالٌ: أنَّه كيف قال موسى إنَّهم قالوا: أسِحرٌ هذا، بطريقِ الاستفهامِ، مع أنَّهم إنَّما قالوه بطريقِ الإخبارِ المؤكَّدِ في قَولِه تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ؟!

الجوابُ: أنَّ فيه إضمارًا تقديرُه: أتقولونَ للحَقِّ لَمَّا جاءَكم: إنَّ هذا لَسِحرٌ مُبينٌ؟ ثمَّ قال لهم: أسِحرٌ هذا؟! إنكارًا لِما قالوه، فالاستفهامُ للإنكارِ، مِن قَولِ موسى لا مِن قَولِهم .

4- قولُه: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ إنَّما أعْلَمَ أنَّ السَّاحِرَ لا يُفلِحُ، أي: لو كان ساحِرًا لَما شَنَّع حالَ السَّاحِرين، إذ صاحِبُ الصِّناعةِ لا يَحقِرُ صِناعتَه؛ لأنَّه لو رآها مُحقَّرةً لَما الْتزَمَها .

5- قَولُ الله تعالى: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا لَمَّا كان موسى عليه السَّلامُ هو الأصلَ في الرِّسالةِ، وكان أخوه له تبعًا، وحَّدوا الضميرَ فقالوا: أَجِئْتَنَا .

6- قَولُ اللهِ تعالى: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ حكى عن فِرعونَ وقَومِه أنَّهم لم يَقبَلوا دعوةَ موسى عليه السَّلامُ، وعَلَّلوا عدمَ القَبولِ بأمرَينِ؛ الأول: قَولُه: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وفيه إشارةٌ إلى التمَسُّكِ بالتَّقليدِ. والثاني: قولُه: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وفيه إشارةٌ إلى الحِرصِ على طلبِ الدُّنيا والجِدِّ في بقاءِ الرِّياسةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ: فيه تنكيرُ رُسُلًا؛ للتَّفخيمِ ذاتًا ووَصفًا، أي: رُسلًا كِرامًا ذَوِي عددٍ كثيرٍ

.

قولُه: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ: فيه التَّعبيرُ عن النَّفيِ بصيغةِ لامِ الجُحودِ؛ مُبالَغةً في انْتِفاءِ الإيمانِ عنهم بأَقْصى أحوالِ الانتفاءِ؛ فمَجيءُ النَّفيِ بلامِ الجُحودِ يَدُلُّ على أنَّ إيمانَهم في حيِّزِ الاستحالةِ والامتناعِ .

2- قولُه تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ

قولُه: إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فيه تخصيصُ فِرْعونَ ومَلَئِه بالذِّكرِ مع عُمومِ رسالةِ موسى عليه السَّلامُ لقَومِه كافَّةً- حيث كانوا جَميعًا مأمورين بعبادةِ ربِّ العالَمين عزَّ سُلطانُه، وتَرْكِ العَظيمةِ الشَّنعاءِ الَّتي كانَ يدَّعِيها الطَّاغيةُ، ويَقبَلُها منهُ فئتُه الباغيةُ- لأصالتِهم في تدبيرِ الأمورِ، واتِّباعِ غيرِهم لهم في الوُرودِ والصُّدورِ .

قولُه: فَاسْتَكْبَرُوا السِّينُ والتَّاءُ للمُبالَغةِ في التَّكبُّرِ .

وقولُه: وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبلَه، أي: كانوا معتادين لارتكاب الذنوبِ العظامِ؛ فإنَّ الإجرامَ مؤذنٌ بعِظَمِ الذنبِ .

3- قَوله تعالى: قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ

قولُه: قَالَ مُوسَى استِئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ تَنْساقُ إليه الأذهانُ، كأنَّه قيل: فماذا قال لهم مُوسى حينَئذٍ؟ فقيل: قال: أَتَقُولُونَ... .

قولُه: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ استفهامٌ إنكاريٌّ، ومفعولُ أَتَقُولُونَ محذوفٌ؛ لدَلالةِ الكلامِ عليه، وهو: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ .

ولَمَّا كان تكريرُهم لذلك القَولِ أجدَرَ بالإنكارِ، عبَّرَ بالمضارِعِ أَتَقُولُونَ الدَّالِّ على أنَّهم كَرَّروه؛ لِيَنسخوا ما ثبتَ في قلوبِ النَّاسِ مِن عَظمتِه .

وجملةُ: أَسِحْرٌ هَذَا مُستأنَفةٌ للتَّوبيخِ والإنكارِ؛ أنكَر موسى عليهم وصْفَهم الآياتِ الحقَّ بأنَّها سِحرٌ، والإشارةُ بـ هَذَا تُفيدُ التَّعريضَ بجَهْلِهم، وفسادِ قولِهم، بأنَّ الإشارةَ إلى تلك الآياتِ كافيةٌ في ظُهورِ حَقيقتِها، وأنَّها ليسَتْ مِن السِّحرِ في شيءٍ .

4- قوله تعالى: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ

قولُه: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا: الاستِفْهامُ في قولِه: أَجِئْتَنَا إنكاريٌّ؛ بنَوْا إنكارَهم على تَخطئةِ موسى فيما جاء به .

واخْتِير التَّعبيرُ بـ وَجَدْنَا؛ لِما فيه مِن الإشارةِ إلى أنَّهم نشَؤوا عليها وعقَلوها، وذلك ممَّا يُكسِبُهم تَعلُّقًا بها، وأنَّها كانت أحوالَ آبائِهم، وذلك ممَّا يَزيدُهم تَعلُّقًا بها تبَعًا لِمَحبَّةِ آبائِهم؛ لأنَّ مَحبَّةَ الشَّيءِ تَقْتَضي محبَّةَ أحوالِه ومُلابَساتِه .

وجملةُ: وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ عطفٌ على جملةِ: أَجِئْتَنَا، وهي في قوَّةِ النَّتيجةِ لتِلك الجُملةِ بما مَعها مِن العلَّةِ، أي: لَمَّا تبيَّن مَقصَدُكما، فما نحن لَكُما بمُؤمِنين .

قولُه: وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ فيه تقديمُ لَكُمَا على مُتعلَّقِه بِمُؤْمِنِينَ؛ لأنَّ المخاطَبَينِ هما الأهمُّ مِن جملةِ النَّفيِ؛ لأنَّ انتِفاءَ إيمانِهم في زَعمِهم كان لأجلِ موسى وهارونَ؛ إذ توَهَّموهما مُتطَلِّبَي نفْعٍ لأنفُسِهما .

وصِيغَتْ جُملةُ: وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ اسميَّةً دونَ أن يَقولوا: (وما نُؤمِنُ لكُما)؛ لإفادةِ الثَّباتِ والدَّوامِ، وأنَّ انتفاءَ إيمانِهم بهِما مُتقرِّرٌ مُتمكِّنٌ، لا طَماعِيَةَ لأحدٍ في ضدِّه .

ا

=======

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (79-82)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ فِرعونَ قال لِقَومِه بعد أن رأى مِن موسى الإصرارَ على دَعوتِه ودَعوةِ قَومِه إلى عبادةِ اللهِ وَحدَه: جِيئوني بكلِّ ساحرٍ مُتقِنٍ للسِّحرِ، فلمَّا جاء السَّحرةُ فِرعونَ قال لهم موسى: ألقُوا على الأرضِ ما معكم مِن حِبالِكم وعِصيِّكم، فلمَّا ألقَوا حِبالَهم وعِصيَّهم قال لهم موسى: إنَّ الذي جِئتُم به وألقَيتُموه هو السِّحرُ، إنَّ اللهَ سيُذْهِبُه؛ إنَّ اللهَ لا يُصلِحُ عَمَلَ مَن سعى في الأرضِ بالفَسادِ، ويُثبِّتُ اللهُ الحَقَّ الذي جِئتُكم به مِن عِندِه فيُعليه على باطِلِكم، بكَلِماتِه وأمْرِه، ولو كَرِه المُجرِمون.

تفسير الآيات:

 

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا ادَّعى فِرعونُ ومَلؤُه أنَّ ما جاء به موسى عليه السَّلامُ هو سِحرٌ؛ أخَذوا في مُعارضتِه بأنواعٍ مِن السِّحرِ، لِيَظهَرَ لسائِرِ النَّاسِ أنَّ ما أتَى به من بابِ السِّحرِ

.

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ.

أي: وقال فِرعونُ لِقَومِه: أحضِروا إليَّ مِن المدائِنِ كلَّ ساحرٍ ماهرٍ بالسِّحرِ .

كما قال تعالى: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [الأعراف: 109-112] .

فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (80).

أي: فلمَّا جاء السَّحرةُ قال لهم موسى: اطرَحوا على الأرضِ ما تريدون طرحَه، مما مَعَكم من الحِبالِ والعِصِيِّ .

كما قال تعالى: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا [الأعراف: 113-116] .

وقال سُبحانه: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه: 65-66] .

فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81).

فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ آلسِّحْرُ بالمَدِّ والهَمزِ، على أنَّ الاستفهامَ مِن موسى للسَّحَرةِ عما جاؤوا به، أسِحرٌ هو أم غيرُه؟ فهو استفهامٌ على جهةِ التَّوبيخِ؛ لأنَّهم قد عَلِموا أنَّه سِحرٌ .

2- قِراءةُ السِّحْرُ بألف وصلٍ مِن غَيرِ مَدٍّ ولا همزٍ، على وجهِ الخَبَرِ مِن موسى أنَّ الذي جاء به سَحَرةُ فِرعونَ هو السِّحرُ، لا ما جاء به موسى .

فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ.

أي: فلمَّا ألقَى السَّحرةُ حِبالَهم وعِصيَّهم، وسَحَروا أعيُنَ النَّاسِ، قال موسى للسَّحَرةِ: الذي جِئتُم به هو السِّحرُ، وليس ما جئتُكم به ممَّا أسمَيتُموه سِحرًا .

إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ.

أي: إنَّ اللهَ سيُذهِبُ سِحرَكم، ويُظهِرُ بُطلانَه للنَّاسِ بما يُظهِرُه على يَدي من المعجزةِ .

كما قال تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [الأعراف: 116-119] .

إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ.

أي: إنَّ اللهَ لا يُصلِحُ أعمالَ الذين يَسعَونَ في أرضِ اللهِ بما يَكرَهُه كالسَّحَرةِ، فلا يُتِمُّها لهم فينتَفِعونَ بها، ولا يثيبُهم عليها .

وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82).

وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ.

أي: ويُثبِّتُ اللهُ الحَقَّ الذي جاء مِن عندِه، ويُوضِّحُه ويُظهِرُه على مَن خالَفَه، بكَلِماتِه الكونيَّةِ، وكَلِماتِه التنزيليَّةِ التي يُوحيها إلى رسلِه، ومِنها الإخبارُ بإظهارِ الحقِّ وإعزازِه .

كما قال تعالى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال: 7-8] .

وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.

أي: يُحِقُّ اللهُ الحَقَّ وإن كَرِه العُصاةُ الآثمونَ ذلك

 

.

الفوائد التربوية :

 

قال الله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ هكذا كلُّ مُفسدٍ عَمِلَ عملًا، واحتال كَيدًا، أو أتى بمكرٍ، فإنَّ عمَلَه سيَبطُلُ ويضمَحِلُّ، وإن حصَلَ لعَمَلِه رَوَجانٌ في وقتٍ ما، فإنَّ مآلَه الاضمحلالُ والمَحْقُ، وأمَّا المُصلِحونَ الذين قَصْدُهم بأعمالِهم وَجهُ الله تعالى- وهي أعمالٌ ووسائِلُ نافعةٌ، مأمورٌ بها- فإنَّ اللهَ يُصلِحُ أعمالَهم ويُرَقِّيها، ويُنَمِّيها على الدَّوامِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فأمَرهم موسَى عليه السلامُ بالإلقاءِ؛ لأنَّه علِم أنَّهم لا بدَّ أن يُلقوا تلك الحبالَ والعصيَّ، وإنَّما وقَع التخييرُ في التقديمِ والتأخيرِ، فأذِن لهم في التقديمِ؛ لتظهرَ معجزتُه أيضًا بغلَبِهم؛ لأنَّه لو ألقَى أوَّلًا لم يكنْ له غلَبٌ وظهورٌ عليهم، فلهذا المعنَى أمَرهم بالإلقاءِ أولًا

، وهو بمنزلةِ تَقريرِ شُبهةِ المُلحِدِ ممَّن يتَصدَّى لإبطالِها بعد تقريرِها .

2- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ إطلاقُ الإلقاءِ على عمَلِ السِّحرِ؛ لأنَّ أكثَرَ تصاريفِ السَّحَرةِ في أعمالِهم السِّحريةِ يكونُ برَميِ أشياءَ إلى الأرضِ .

3- قولُ الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ طُويَ ذِكرُ صورةِ سِحرِهم في هذه الآيةِ؛ لأنَّ الغرضَ مِن العبرةِ في هذه الآيةِ وَصفُ إصرارِ فِرعونَ ومَلَئِه على الإعراضِ عن الدعوةِ، وما لَقِيَه المُستَضعَفونَ الذين آمَنوا بموسى عليه السَّلامُ مِن اعتلاءِ فِرعونَ عليهم، وكيف نصَرَ اللهُ رَسولَه والمُستَضعفَينَ معه، وكيف كانت لهم العاقِبةُ الحُسنى، ولِمَن كفروا عاقبةُ السَّوءِ، ليكونوا مثلًا للمُكَذِّبينَ بمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولذلك لم يُعرِّجْ بالذِّكرِ إلَّا على مقالةِ موسى عليه السَّلامُ حين رأى سِحرَهم، الدَّالَّةِ على يقينِه برَبِّه ووَعدِه، وبأنَّ العاقِبةَ للحَقِّ، وذلك أهَمُّ في هذا المقامِ مِن ذِكرِ اندحاضِ سِحرِهم تجاهَ مُعجزةِ موسى عليه السَّلامُ؛ ولأجلِ هذا لم يذكُرْ مَفعولَ أَلْقَوْا لتنزيلِ فِعلِ أَلْقَوْا منزلةَ اللَّازمِ؛ لِعَدمِ تعَلُّقِ الغَرَض ببيانِ مَفعولِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ

قولُه: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ عطفٌ على مُقدَّرٍ يَستَدعيهِ المقامُ قد حُذِف؛ إيذانًا بسُرعةِ امتثالِهم لأمرِ فرعونَ، كما هو شأنُ الفاءِ الفصيحةِ في كلِّ مَقامٍ، والتَّقديرُ: فأتَوْا به، فلَمَّا جاؤوا قَالَ لَهُمْ مُوسَى...

.

قولُه: أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فيه استعمالُ فعلِ الأمرِ أَلْقُوا في التَّسويةِ المرادِ منها الاختيارُ، وإظهارُ قِلَّةِ الاكتراثِ بأحَدِ الأمْرَين؛ وفيه استِطالةٌ عليهم، وعدَمُ مُبالاةٍ بهم .

وفي إبهامِ: مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ تخسيسٌ له وتقليلٌ، وإعلامٌ أنَّه لا شيءَ يُلتَفَتُ إليه .

2- قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ

قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ جملةٌ معترِضةٌ، وهي تعليلٌ لِمَضمونِ جُملةِ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ، وتذييلٌ للكلامِ بما فيه نفيُ الإصلاحِ، وإضافةُ عَمَلَ إلى الْمُفْسِدِينَ يُؤْذِنُ بأنَّه عملٌ فاسدٌ .

وفيه وضْعُ المظهَرِ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ موضِعَ المضمَرِ- حيث لم يَقُلْ: إنَّ اللهَ لا يُصلِحُ عمَلَكم- للتَّسجيلِ عليهم بالإفسادِ، والإشعارِ بعلَّةِ الحكمِ .

3- قوله تعالى: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ

قولُه: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ فيه إظهارُ اسمِ الجلالةِ في هذه الجملةِ، مع أنَّ مُقتَضى الظَّاهرِ الإضمارُ؛ لِقَصدِ تربيةِ المهابةِ في نُفوسِهم .

وقولُه: وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ المرادُ (بالمجرمين) فِرعونُ ومَلؤُه؛ فعَدَل عن ضميرِ الخِطابِ إلى الاسمِ الظَّاهرِ؛ لِما فيه مِن وَصفِهم بالإجرامِ تَعريضًا بهم، وإنَّما لم يُخاطِبْهم بصفةِ الإجرامِ بأن يَقولَ: (وإنْ كَرِهتُم أيُّها المُجرِمون) عُدولًا عن مُواجَهتِهم بالذَّمِّ، وُقوفًا عندَ أمرِ اللهِ تعالى؛ إذ قال له: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه: 44] ، وذلك على القولِ بأنَّه مِن كلامِ موسَى عليه السلامُ.

 

================

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (83-86)

ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ

غريب الكلمات:

 

ذُرِّيَّةٌ: الذُرِّيَّةُ: الأولادُ وأولادُ الأولادِ، فهي اسمٌ يَجمعُ نَسلَ الإنسانِ مِن ذَكَرٍ وأُنثَى، قيل: أصلُها مِن ذرَأ، أي: خلَق؛ لأنَّها خلقُ الله، وحُذِفت الهمزةُ منها، وقيل: أصلُها مِن الذَّرِّ، بمعنَى التَّفريقِ؛ لأنَّ اللَّه تعالى ذَرَّهم في الأرضِ

.

يَفْتِنَهُمْ: أي: يَقتُلَهم ويُعَذِّبَهم، وأصلُ (فتن): يدُلُّ على ابتلاءٍ واختبارٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه لم يُؤمِنْ لِموسى عليه السَّلامُ- مع ما أتى به مِن الحُجَج والأدِلَّةِ على صِدقِه- إلَّا عدَدٌ قليلٌ مِن شَبابِ قَومِه من بني إسرائيلَ، وهم خائفونَ مِن فرعونَ وأشرافِ قَومِهم أن يَفتِنوهم بالعذابِ، فيصدُّوهم عن دينِهم، وإنَّ فِرعونَ لَجبَّارٌ مُستكبِرٌ في الأرضِ، وإنَّه لَمِن المُتَجاوزينَ الحَدَّ في الكفرِ والفَسادِ، وقال موسى لِقَومِه- تَطمينًا لقلوبهم-: يا قَومي، إن كُنتم آمَنتُم باللهِ، فثِقوا به، وسلِّموا لأمْرِه إن كُنتم مُذعِنينَ له بالطَّاعة، فقالوا: على اللهِ وَحْدَه لا شريكَ له اعتَمَدْنا، وإليه فوَّضْنا أمْرَنا، ربَّنا لا تُظْهرْهم علينا فيَروا أنَّهم خيرٌ منا فيزدادوا طغيانًا، ويقولوا: لو كانوا على حقٍّ ما سُلِّطنا عليهم، فيُفتنوا بذلك، ويَصُدَّهم عن الإقرارِ بالحَقِّ واتِّباعِه.

تفسير الآيات:

 

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا حكى سُبحانَه أنَّ موسى عليه السَّلامُ أبان ما أبان مِن بُطلانِ السِّحرِ، وكونِه إفسادًا، فثَبَت ما أتَى به لِمُخالفَتِه له؛ أخبَرَ تعالى- تسليةً للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وفَطمًا عن طلَبِ الإجابةِ للمُقتَرَحاتِ- أنَّه ما تسبَّبَ عن ذلك في أوَّلِ الأمرِ عَقِبَ إبطالِ سِحرِهم مِن غيرِ مُهلةٍ، إلَّا إيمانُ ناسٍ ضُعفاءَ، غيرِ كثيرٍ

.

وأيضًا فإنَّ هذه الآيةَ تَفريعٌ على ما تقَدَّمَ مِن المحاورةِ، أي: فتفَرَّع على ذلك أنَّ فِرعونَ ومَلأَه لم يُؤمِنوا بموسى .

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ.

أي: فلم يصدِّقْ بموسى في أوَّلِ دَعوتِه، ويُقِرَّ له بالنبوَّةِ إلَّا قَليلٌ مِن أولادِ قَومِه بني إسرائيلَ .

عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ.

أي: آمَنوا وهم خائفونَ مِن فِرعونَ ومِن أشرافِ قَومِهم- الذين كانوا على مِثلِ ما كان عليه فرعونُ- أن يَصرِفَهم فِرعونُ عن اتِّباعِ الحَقِّ، بمِحنةٍ وبليَّةٍ يُوقِعُها عليهم .

ثم بيَّن أسبابَ خوفِهم منه بقولِه:

وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ.

أي: وإنَّ فِرعونَ لجبَّارٌ، متكبِّرٌ على الحَقِّ والخَلْقِ في أرضِ مِصرَ، وإنَّه لَمِنَ المجاوزينَ الحدَّ في الكُفرِ والقَتلِ والبَغيِ .

وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا ذكَرَ الله تعالى خَوَفهم وعُذرَهم؛ أتبَعَه ما يُوجِبُ طُمَأنينَتَهم، وهو التوكُّلُ على اللهِ الذي مَن راقَبَه تلاشى عنده كلُّ عَظيمٍ .

وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ.

أي: وقال موسى لِقَومِه بني إسرائيلَ: يا قومِ، إن كُنتم آمَنتُم باللهِ حقًّا فاعتَمِدوا عليه وَحْدَه في نَصْرِكم، ودَفْعِ الضُّرِّ عنكم، وبه ثِقوا، ولأمْرِه سَلِّموا، إن كنتم مُذعِنينَ له بالطَّاعةِ .

فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85).

َقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا.

أي: فقال بنو إسرائيلَ: على اللهِ وَحْدَه اعتَمَدْنا، وإليه فوَّضْنا أمْرَنا .

رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.

أي: قال قَومُ موسى عليه السَّلامُ: ربَّنا؛ لا تُظفِر الكافرينَ بنا، وتُسَلِّطْهم علينا، فيَعتَقِدوا أنَّ غَلَبتَهم علينا لم تقَعْ إلَّا لأنَّهم على الحَقِّ، ونحن على الباطِلِ، فيُفتَنوا بذلك، ويُعرضوا عن الإقرارِ بالحَقِّ واتِّباعِه .

أو: ربَّنا؛ لا تُسَلِّطْهم علينا فيَفْتنونا عن دينِنا .

وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86).

أي: وخلِّصْنا- يا رَبَّنا- برَحمتِك مِن بَطشِ وسُلطانِ قَومِ فِرعونَ الكافرينَ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ الله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ الحِكمةُ- واللهُ أعلَمُ- مِن كونِه ما آمَنَ لموسى إلَّا ذرِّيَّةٌ مِن قَومِه: أنَّ الذريَّةَ والشَّبابَ أقبَلُ للحَقِّ، وأسرَعُ له انقيادًا، بخلافِ الشُّيوخِ ونَحوِهم ممَّن تربَّى على الكُفرِ؛ فإنَّهم- بسبَبِ ما مكَثَ في قلوبِهم من العقائِدِ الفاسِدةِ- أبعَدُ مِن الحَقِّ مِن غَيرِهم

.

2- قال الله تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فالتوكُّلُ على اللهِ دَلالةُ الإيمانِ ومُقتَضاه، وعُنصرُ القُوَّةِ الذي يضافُ إلى رصيدِ القِلَّةِ الضعيفةِ أمام الجَبَروتِ الطَّاغي، فإذا هي أقوى وأثبَتُ، وقد ذكَرَ لهم موسى الإيمانَ والإسلامَ، وجعل التوكُّلَ على اللهِ مُقتضى هذا وذاك؛ مُقتضَى الاعتقادِ في الله، ومُقتَضى إسلامِ النَّفسِ له خالصةً، والعملِ بما يريدُ، واستجاب المؤمنونَ لهُتافِ الإيمانِ على لسانِ نبيِّهم: فَقالُوا: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا .

3- قَولُ الله تعالى: فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ في تقديمِ التوكُّلِ على الدُّعاءِ تَنبيهٌ على أنَّ الدَّاعيَ ينبغي أن يتوكَّلَ أولًا؛ لِتُجابَ دَعوتُه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ فيه مَسْلاةٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بقِلَّةِ مَن آمَن لموسَى، ومَن استَجاب له، معَ ظهورِ ذلك المعجِزِ الباهرِ، ولم يُؤمِنْ له إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِن قومِه

.

2- في قَولِه تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ بيانُ أنَّ مُسمَّى الإسلامِ غيرُ مُسمَّى الإيمانِ؛ لأنَّه لو كان مُسمَّاهما واحدًا لكان هذا تكريرًا .

3- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فيه إثارةُ صِدْقِ إيمانِهم، وإلهابُ قُلوبِهم بِجَعلِ إيمانِهم مُعلَّقًا بالشَّرطِ مُحتمِلِ الوقوعِ، حيث تَخوَّفوا مِن فِرعَونَ أن يَفتِنَهم، فأرادوا أن يَكتُموا إيمانَهم تَقيَّةً مِن فرعونَ ومَلئِهم، وإنَّما جعَل عدَمَ اكتِراثِهم ببَطْشِ فِرعونَ علامةً على إيمانِهم؛ لأنَّ الدَّعوةَ في أوَّلِ أمرِها لا تتَقوَّمُ إلَّا بإظهارِ مُتَّبِعيها جَماعتَهم، فلا تُغتفَرُ فيها التَّقيَّةُ حينَئذٍ .

4- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ أي: أرضِ مِصرَ، التي هي بكثرةِ ما فيها من المرافِقِ كأنَّها جميعُ الأرضِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ إذا ضُمَّت هذه الآيةُ إلى قَولِه تعالى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر: 43] كان قياسًا صريحًا قطعيًّا أنَّ فِرعونَ مِن أصحابِ النَّارِ؛ تكذيبًا لأهلِ الوَحدةِ في قَولِهم: إنَّه آمَنَ، لِيُهَوِّنوا المعاصيَ عند النَّاسِ، فيَحُلُّوا بذلك عقائِدَ أهلِ الدِّينِ .

6- في قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وصَفوا الكفَّارَ بالظَّالمينَ؛ لأنَّ الشِّركَ ظلمٌ، ولأنَّه يشعرُ بأنَّهم تَلبَّسوا بأنواعِ الظُّلمِ: ظلمِ أنفسِهم، وظلمِ الخلائقِ .

7- قَولُ الله تعالى: وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ زيادةُ بِرَحْمَتِكَ للتبَرُّؤِ من الإدلالِ بإيمانِهم؛ لأنَّ المِنَّةَ لله عليهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ

قولُه: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى معطوفٌ على مقدَّرٍ يَستدعيهِ المقامُ قد حُذِف، أي: فألقَى عَصاهُ فَإِذَا هِي تَلقَفُ ما يَأفِكون... إلخ، ولم يُذكَرْ؛ لِدَلالةِ المقامِ عليه، وإيثارًا للإيجازِ، وإيذانًا بأنَّ قولَه تعالى: إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ ممَّا لا يَحتَمِلُ الخُلفَ أصلًا، وعطفُه على ذلك بالفاءِ مع كونِه عَدمًا مستمرًّا مِن قَبيلِ ما في قولِه عزَّ وجلَّ: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: 97] ، وما في قولِك: وعَظْتُه فلم يتَّعِظْ، والسِّرُّ في ذلك: أنَّ الإتيانَ بالشَّيءِ بعدَ وُرودِ ما يوجِبُ الإقلاعَ عنه، وإن كان استمرارًا عليه، لكنَّه بحسَبِ العُنوانِ فِعلٌ جديدٌ، وصُنعٌ حادثٌ

.

قولُه: عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيث جاء هنا بضميرِ الجمعِ وَمَلَئِهِمْ؛ لِعَودِه إلى الذُّريَّةِ، أو القومِ، لتَقدُّمِهما عليه ، بخِلافِ بقيَّةِ الآياتِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [الأعراف: 103، يونس: 75، هود: 97، المؤمنون: 46، القصص: 32، الزخرف: 46]؛ فإنَّه بضميرِ المفرَدِ؛ لعَوْدِه إلى فِرعونَ .

قَولُه تعالى: عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ، وحَّد الضميرَ في قوله: يَفْتِنَهُمْ ولم يجمَعْه؛ لأنَّه لَمَّا كان إنكارُ الملأِ إنَّما هو بسبَبِ فِرعونَ أن يَسلُبَهم رئاستَهم، انحصَرَ الخَوفُ في فِرعونَ، فأشارَ إلى ذلك بوَحدةِ الضَّميرِ، فقال: أَنْ يَفْتِنَهُمْ ، وأيضًا فإسنادُ الفعلِ إلى فرعونَ خاصَّةً؛ لأنه الآمِرُ بالتعذيب .

قولُه: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ جملةٌ في موضِعِ الحالِ، وهي تُفيد معنى التَّعليلِ لِخَوفِهم مِن فِرعونَ .

وتأكيدُ الخبَرِ بـ(إنَّ)؛ للاهتمامِ بتَحقيقِ بَطشِ فرعونَ .

وقَولُه: لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ أبلغُ في وصفِه بالإسرافِ مِن أن يُقالَ: وإنَّه لمسرفٌ، والتَّعريفُ في المُسرفينَ تعريفُ الجنسِ، فالإخبارُ عن فرعونَ بأنَّه مِنَ المُسرفينَ يفيدُ أنَّه واحدٌ مِنَ الفئةِ الَّتي تُعْرَفُ عندَ النَّاسِ بفئةِ المُسرفينَ، فيُفيدُ أنَّه مسرفٌ، فهو مِنْ قبيلِ الكنايةِ الَّتي هي إثباتُ الشَّيءِ بإثباتِ مَلزومِه، وهي أبلغُ مِنَ التَّصريحِ .

2- قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ

في قولِه: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا قُدِّم المجرورُ فَعَلَيْهِ على مُتعلَّقِه تَوَكَّلُوا؛ لإفادةِ القصرِ، وهو قصرٌ إضافيٌّ ،كأنَّه عليه السَّلامُ أمَرَهم بالتوكُّلِ عليه، ونهاهم عن التوكُّلِ على الغَيرِ .

3- قوله تعالى: فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

قولُه: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فيه تقديمُ ما كان عِندَهم أهمَّ، وهو سلامةُ دينِهم لهم، فسأَلوا اللهَ تعالى ألَّا يُفتَنوا عن دينِهم، وتأخيرُ سلامةِ أنفُسِهم، فسأَلوه أن يُخلَّصوا مِن الكفَّارِ؛ إذ الاهتمامُ بمَصالِحِ الدِّينِ آكَدُ مِن الاهتمامِ بمَصالحِ الأبدانِ . وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.

.----------------

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (87-89)

ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ

غريب الكلمات:

 

تَبَوَّآ: أي: اتَّخِذا، وأصلُ (بوأ): يدُلُّ على رجوعٍ إلى الشَّيءِ

.

قِبْلَةً: أي: مَساجِدَ، وأصلُ (قبل): يدلُّ على مواجهةِ الشَّيءِ للشَّيءِ .

زِينَةً: الزِّينةُ: اسمٌ لكلِّ ما يُتَزَيَّنُ به: مِن مَلْبوسٍ ومركوبٍ وحِلْيَةٍ وفِراشٍ وسِلاحٍ، والزَّينُ نَقيضُ الشَّينِ، يُقال: زانَه كذا، وزَيَّنه: إذا أظْهَر حُسنَه؛ إمَّا بالفِعل، أو بالقولِ، وأصلُ (زين) يدلُّ على حُسنِ الشَّيءِ وتَحسينِه .

اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ: أي: أهلِكْها، وأذهِبْ آثارَها. وأصلُ (طمس): يدلُّ على مَحوِ الشَّيءِ، ومَسحِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه أوحَى إلى موسَى وأخيه هارونَ أن يتَّخِذا لقومِهما بيوتًا في مِصرَ، تكونُ مساكِنَ لهم، وأن يجعَلوا بُيوتَهم مساجِدَ يُصلُّونَ فيها، وأن يؤدُّوا الصَّلاةَ المفروضةَ في أوقاتِها، وأن يبشِّرَ موسى المؤمنينَ بالنَّصرِ والثَّوابِ منه سبحانه وتعالى.

وقال موسى: ربَّنا إنَّك أعطيتَ فِرعونَ وأشرافَ قَومِه زينةً مِن متاعِ الدُّنيا؛ استدراجًا منك لِتَفتِنَهم فيَضِلُّوا ويُضِلُّوا غيرَهم؛ عقوبةً منك لهم، ربَّنا فأهلِكْ أموالَهم، فلا ينتَفِعوا بها، واختِمْ على قلوبِهم حتى لا تنشَرِحَ للإيمانِ، فلا يؤمِنوا حتى يَرَوا العذابَ الشَّديدَ المُوجِعَ، فلا ينفَعُهم إيمانُهم حينئذٍ. قال الله تعالى لهما: قد أجيبَت دَعوتُكما في فرعونَ ومَلَئِه وأموالِهم، فاستَقيما على دينِكما، واستَمِرَّا على دعوتِكما فرعونَ وقَومَه إلى توحيدِ اللهِ وطاعتِه، ولا تَسلُكا طريقَ مَن لا يعلَمُ حقيقةَ وعيدي، وأنِّي لا أخلِفُ الميعادَ.

تفسير الآيات:

 

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا أجابوه إلى إظهارِ الاعتمادِ عليه سُبحانَه، وفوَّضوا الأمورَ إليه؛ أتبَعَه ما يزيدُهم طُمأنينةً مِن التوطُّنِ في أرضِ العَدُوِّ؛ إشارةً إلى عدَمِ المبالاةِ به

.

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا.

أي: وأوحَينا إلى موسى وأخيه هارونَ أن اتَّخِذا لِقَومِكما بني إسرائيلَ في أرضِ مِصرَ مساكِنَ .

وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً .

أي: واجعَلوا مَساكِنَكم مساجِدَ تصلُّونَ فيها .

وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ.

أي: وأدُّوا ما أمَرَكم اللهُ به من الصَّلَواتِ بحُدودِها في أوقاتِها .

وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.

أي: وبَشِّر- يا موسى- المؤمنينَ بالنَّصرِ والثَّوابِ .

وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا ختَمَ الآيةَ السابقةَ ببِشارةِ المؤمنينَ، وكان هلاكُ المُشانئِ مِن أعظَمِ البَشائِرِ، وكان ضلالُ فِرعونَ وقَومِه بالزِّينةِ والمالِ إضلالًا لِغَيرِهم، سأل موسى عليه السَّلامُ إزالةَ ذلك كلِّه؛ للرَّاحةِ مِن شرِّه .

وأيضًا فإنَّ موسى عليه السَّلامُ لَمَّا بالغَ في إظهارِ المُعجِزاتِ الظَّاهرةِ القاهرةِ، ورأى القومَ مُصرِّينَ على الجُحودِ والعِنادِ والإنكارِ، أخذ يدعو عليهم، ومن حَقِّ مَن يدعو على الغيرِ أن يذكُرَ أوَّلًا سبَبَ إقدامِه على تلك الجرائِمِ، وكان جُرمُهم هو أنَّهم لأجلِ حُبِّهم الدُّنيا تَرَكوا الدِّينَ؛ فلهذا السَّبَبِ قال موسى عليه السَّلامُ ، فيما يحكيه الله عنه:

وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

أي: وقال موسى: يا رَبَّنا إنَّك أعطيتَ فِرعونَ وأشرافَ قَومِه زينةً يتزَيَّنونَ بها، كالأثاثِ، وأنواعِ الحُلِيِّ، والثِّيابِ، والبيوتِ، والمَراكِبِ، وأعطيتَهم أموالًا كثيرةً في هذه الحياةِ الدُّنيا .

رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ لِيُضِلُّوا بمعنى: ليُضِلُّوا النَّاسَ عن سبيلِك، ويَصُدُّوهم عن دينِك .

2- قراءةُ لِيَضِلُّوا بمعنى: ليَضِلُّوا هم أنفُسُهم عن سبيلِك .

رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ.

أي: قال موسى: يا ربَّنا إنَّك أعطيتَهم الزِّينةَ والأموالَ استدراجًا منك؛ كي تفتِنَهم فيَضِلُّوا ويُضِلُّوا غيرَهم عن اتِّباعِ دينِك؛ عقوبةً منك لهم .

رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ.

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا تقَدَّم ذِكرُ الأموالِ- وهي أعَزُّ ما ادُّخِر- دعا بالطُّموسِ عليها .

رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ.

أي: يا ربَّنا أتْلِفْ أموالَ فِرعونَ ومَلَئِه، فلا ينتَفِعوا بها .

وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ.

أي: واطبعْ- يا ربَّنا- على قلوبِهم بالكُفرِ، واجعَلْها قاسيةً .

فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ.

أي: فلا يُؤمِنوا بالحَقِّ حتى يُعايِنوا العذابَ المُوجِعَ الذي يَهلِكونَ به، فلا ينفعُهم إيمانُهم حينئذٍ .

قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89).

قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا.

أي: قال الله: قد أجبتُ دَعوتَكما- يا موسى وهارونُ- على فِرعونَ ومَلَئِه .

فَاسْتَقِيمَا .

أي: فاستَقِيما واثْبُتا على دينِكما، واستمِرَّا على دعوةِ فِرعونَ وقومِه إلى الحَقِّ إلى أن يأتيَهم العذابُ .

وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ.

أي: ولا تسلُكا طريقَ الذين يَجهَلونَ أنَّ اللهَ لا يُخلِفُ الميعادَ، فيَستعجِلونَ وعيدَه وقضاءَه، فعذابي واقعٌ بفِرعونَ وقَومِه

 

.

الفوائد التربوية :

 

قولُ الله تعالى: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قدَّم بين يدَي الدُّعاءِ ما آتاهم اللهُ مِن النِّعمةِ في الدُّنيا، وكان اللائقُ أن يكونَ ذلك سببًا للإيمانِ به ولِشُكرِ نِعَمِه، فجَعَلوا ذلك سببًا لِجُحودِه ولكُفرِ نِعَمِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ استشكلَ بعضُ النَّاسِ هذه الآيةَ، فقال: كيف دعا عليهم، وحُكمُ الرُّسُلِ استدعاءُ إيمانِ قَومِهم؟ فالجوابُ: أنَّه لا يجوزُ أن يدعوَ نبيٌّ على قَومِه إلَّا بإذنٍ مِن اللهِ، وإعلامٍ أنَّه ليس فيهم من يؤمِنُ، ولا يخرجُ مِن أصلابِهم مَن يُؤمِنُ، دليلُه قَولُه تعالى لنوحٍ عليه السَّلامُ: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] وعند ذلك قال: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا

[نوح: 26] .

2- في قَولِه تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ دليلٌ على جوازِ الدُّعاءِ على الظَّالمِ المعَيَّنِ بما يَستلزِمُ النَّقصَ في دينِه، وليس هو مِن طلَبِ وقوعِ المَعصيةِ، ولكِنْ مِن حيثُ إنَّه يؤدِّي إلى نِكايةِ الظَّالمِ وعُقوبتِه .

3- قَولُه تعالى: وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ الشَّدُّ على القَلبِ: هو الصَّدُّ والمَنعُ، وهذا الشدُّ والتقسيةُ مِن كمالِ عَدْلِ الربِّ سُبحانه في أعدائِه؛ حيث جعَلَه عقوبةً لهم على كُفرِهم وإعراضِهم- وهذا كعُقوبتِه لهم بالمصائِبِ- ولهذا كان محمودًا عليه، فهو حسَنٌ منه سُبحانه، وأقبحُ شيءٍ منهم؛ فإنَّه عَدْلٌ منه وحِكمةٌ، وهو ظُلْمٌ منهم وسَفَهٌ، فالقضاءُ والقَدَرُ فِعلُ عادلٍ حكيمٍ غَنيٍّ عليمٍ، يضعُ الخَيرَ والشَّرَّ في أليقِ المواضِعِ بهما .

4- قَولُ الله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا دليلٌ على أنَّ اللهَ يفعَلُ ذلك بمن يَشاءُ، ولولا ذلك ما حسُنَ مِن موسى هذا السُّؤالُ .

5- قال الله تعالى: فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ جعلَ رُؤيةَ العَذابِ نهايةً وغايةً، وذلك لعِلمِه مِن قِبَلِ اللهِ أنَّ الذي يؤمن عند رؤيةِ العَذابِ لا ينفَعُه إيمانُه في ذلك الوقتِ، ولا يُخرِجُه مِن كُفرِه، ثم أجاب اللهُ هذه الدَّعوةَ في فرعونَ نَفسِه .

6- في قوله تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا بعد قَولِه تعالى: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ دلالةٌ على أنَّ فِرعونَ مات كافِرًا؛ لأنَّ اللهَ استجابَ دعوةَ موسى وهارون أنَّ فِرعونَ ومَلأَه لا يُؤمِنونَ حتى يَرَوا العذابَ الأليمَ .

7- في قَولِه تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا إن قال قائِلٌ: كيف نُسِبَت الإجابةُ إلى اثنينِ، والدُّعاءُ إنَّما كان من واحدٍ؟ قيل: إنَّ الداعيَ وإن كان واحدًا، فإنَّ الثانيَ كان مؤَمِّنًا وهو هارونُ؛ فلذلك نُسِبَت الإجابةُ إليهما، لأنَّ المؤَمِّنَ داعٍ ، وقيل: إنَّما أُضيفَت الدَّعوةُ إلى ضميرِ التَّثنيةِ المخاطَبِ به موسى وهارونُ- وإن كانَت الدَّعوةُ إنَّما حُكِيَت عن موسى عليه السَّلامُ وحْدَه-؛ لأنَّ موسى عليه السَّلامُ دعا لِما كان هارونُ مُواطِئًا له، وقائِلًا بمِثلِه؛ لأنَّ دعوتَهما واحدةٌ .

8- قَولُ الله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا بناه للمَفعولِ، والبناءُ للمَفعولِ أدَلُّ على القُدرةِ وأوقعُ في النَّفسِ، من جهةِ الدَّلالةِ على الفاعِلِ بالاستدلالِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

قولُه: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ فيه تنويعُ الخطابِ، حيث ثَنَّى أوَّلًا، ثمَّ جمَع، ثمَّ وحَّدَ آخِرًا؛ فخُوطِبَ موسى وهارونُ عليهما السَّلامُ أن يتَبوَّآ لقومِهما بُيوتًا، ويَختاراها للعِبادةِ، وذلك ممَّا يفوَّضُ إلى الأنبياءِ، ثمَّ سيقَ الخطابُ عامًّا لهما ولِقَومِهما باتِّخاذِ المساجدِ والصَّلاةِ فيها؛ لأنَّ ذلك واجبٌ على الجمهورِ، ثمَّ خُصَّ موسى عليه السَّلامُ بالبِشارةِ الَّتي هي الغرَضِ؛ تعظيمًا لها وللمُبشَّرِ بها

.

وعَطفُ جملةِ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ على ما قبلَها يؤذِنُ بأنَّ ما أُمِروا به مِن اتِّخاذِ البيوتِ، أمْرٌ بحالةٍ مُشعِرةٍ بتَرقُّبِ أخطارٍ وتَخوُّفٍ؛ فإنَّهم قالوا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً...؛ فأمر موسى أن يُبشِّرَهم بحُسنِ العاقبةِ، وأنَّهم مَنصورون على عَدوِّهم، وناجون منه .

2- قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ

في قولِه: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا توطِئةٌ للدُّعاءِ عليهم؛ فليس المقصودُ به حَقيقةَ الإخبارِ؛ ضرورةَ أنَّ موسى يوقِنُ أنَّ اللهَ يَعلَمُ ذلك، فتَعيَّن أنَّ الخبَرَ مُستعمَلٌ في التَّمهيدِ لطَلبِ سَلْبِ النِّعمةِ عَنهم في قولِهم: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، ثمَّ الانتقالِ إلى الدُّعاءِ بسَلبِ ما أُوتوه .

واقترانُ الخبرِ بحَرفِ (إنَّ) في قولِه: إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ... مقصودٌ به الاهتمامُ بهذا المعنى الَّذي استُعمِل فيه الخبرُ؛ إذ ليس المقامُ مَقامَ دَفعِ تردُّدٍ، أو دفعِ إنكارٍ .

وعلى القولِ بأنَّ اللَّامَ في لِيُضِلُّوا للعِلَّةِ- لأنَّ إيتاءَ النِّعَمِ على الكُفرِ استِدْراجٌ، وتثبيتٌ على الضَّلالِ، ولأنَّهم لَمَّا جعَلوها ذَريعةً إلى الضَّلالِ فكأنَّهم أُوتوها ليُضِلُّوا- فيَكونُ رَبَّنَا تكريرًا للأوَّلِ؛ تأكيدًا أو تنبيهًا على أنَّ المقصودَ عرضُ ضلالِهم وكُفرانِهم؛ تَقْدِمةً لقولِه تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، ففيه إعادةُ النِّداءِ رَبَّنَا بينَ الجملةِ المعَلَّلةِ إِنَّكَ آتَيْتَ... والجملةِ المعلِّلةِ لِيُضِلُّوا؛ لِتَأكيدِ التَّذلُّلِ والتَّعرُّضِ للإجابةِ، ولإظهارِ التَّبرُّؤِ مِن قصدِ الاعتراضِ، وتوكيدًا للدُّعاءِ والاستغاثةِ .

وأُعيد النِّداءُ ثالِثَ مرَّةٍ في قولِهم: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ؛ لِزيادةِ تأكيدِ التَّوجُّهِ والتَّضرُّعِ .

وتعدِيَةُ اطْمِسْ بـ(عَلَى)؛ لإرادةِ تَمكُّنِ الفعلِ مِن المفعولِ، أو لِتَضمينِ الطَّمسِ مَعْنى الاعتلاءِ بآلةِ المحوِ والإزالةِ؛ فطَمْسُ الأموالِ إتلافُها وإهلاكُها .

3- قوله تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ

قولُه: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فيه افتتاحُ الجملةِ بـ(قد)، والفعلُ الماضي أُجِيبَتْ يُفيدُ تَحقيقَ الحصولِ في المستقبَلِ؛ فشُبِّه بالمضيِّ .

 

======

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (90-92)

ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

 

بَغْيًا: أي: ظلمًا، مصدرُ بَغَى يَبْغي إذا ظلَم، أو: هو طلبُ الاستعلاءِ بغيرِ حقٍّ، وأصلُ البغي: الفسادُ، وتجاوزُ الحدِّ، يقال: بَغَى الجرحُ: إذا ترامَى إلى فسادٍ

.

وَعَدْوًا: أي: اعتداءً، وأصلُ (عدو): يدُلُّ على تجاوُزٍ في الشَّيءِ، وتقَدُّمٍ لِما ينبغي أن يُقتصَرَ عليه

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يقولُ الله تعالى: وقطَعْنا ببني إسرائيلَ البَحرَ حتى جاوَزوه، فتَبِعَهم فرعونُ وجُنودُه ظلمًا وعُدوانًا، فسَلَكوا البحرَ وراءَهم، حتى إذا أحاط بفرعونَ الغَرَقُ قال: آمنتُ أنَّه لا إلهَ إلَّا الذي آمنتْ به بنو إسرائيلَ، وأنا من الموحِّدينَ المُستَسلِمينَ بالانقيادِ والطَّاعة، فقال اللهُ له: آلآنَ تؤمِنُ يا فرعونُ، وقد نزل بك الموتُ، تقرُّ لله بالعبوديَّةِ، وقد عصيتَه قبلَ نُزولِ عَذابِه بك، وكنتَ مِن المفسدينَ الصَّادِّينَ عن سبيلِه؟! فاليومَ نجعَلُك على مرتفَعٍ مِن الأرضِ بجَسَدِك، ينظُرُ إليك مَن كذَّب بهلاكِك؛ لتكونَ لِمَن بَعدَك من النَّاسِ عِبرةً يَعتَبِرونَ بك؛ فإنَّ كثيرًا مِن النَّاسِ عن حُجَجِنا وأدلَّتِنا لَغافِلونَ، لا يتفَكَّرونَ فيها ولا يعتَبِرونَ.

تفسير الآيات:

 

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لمَّا أمَر بالتأنِّي الذي هو نتيجةُ العلمِ، عطَف على ذلك الإخبارَ بالاستجابةِ

، فقال تعالى:

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ.

أي: وقَطَعنا ببني إسرائيلَ البَحرَ عندما خرجوا من مِصرَ مع نبيِّهم موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا.

أي: فتَبِعَ بني إسرائيلَ فرعونُ وجنودُه؛ استعلاءً عليهم واعتداءً .

حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

أي: حتى إذا أحاط الغَرَقُ بفِرعونَ قال عند الموتِ: أقررتُ بأنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ الذي آمَنَ به قومُ موسى، وأنا من الموحِّدينَ لله، المُستَسلِمينَ المُنقادينَ له بالطَّاعةِ .

آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91).

أي: قال اللهُ لِفَرعونَ: آلآنَ تتوبُ، وتؤمِنُ باللهِ، وتستسلِمُ له بعد فواتِ الأوانِ، وقد عصيتَه قبلَ نزولِ عذابِه، وكنتَ مِن المُفسِدينَ في الأرضِ الذين ظَلَموا العبادَ، وأضَلُّوهم، وصَدُّوهم عن سبيلِ الله ؟!

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92).

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ.

أي: قال اللهُ لِفَرعونَ: فاليومَ نجعَلُ جَسَدَك وما تقلَّدتَه مِن دروعِ الحربِ بعدَ غَرَقِك، على مكانٍ مرتَفعٍ مِن الأرضِ، فيَتبَيَّن للنَّاسِ هلاكُك .

لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً.

أي: لِتَكونَ- يا فرعونُ- لِمَن بَعدَك من النَّاسِ عِبرةً بعد إيقانِهم بهلاكِك وقدرةِ الله على كلِّ ذلك، فيَنزَجِروا عن الكُفرِ باللهِ ومَعصيتِه، ويَرَوا عاقِبةَ الطُّغيانِ، ويخافوا غضَبَ اللهِ .

وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ.

أي: وإنَّ كثيرًا مِن النَّاسِ مُعرِضونَ عن تأمُّلِ آياتِنا، وعن التفكُّرِ فيها، والاعتبارِ بها

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- التَّوبةُ بعد المُعاينةِ لا تنفَعُ؛ قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ

؛ إذ إنَّ إيمانَ فِرعونَ في تلك اللَّحظةِ كان إيمانًا مُشاهَدًا غيرَ نافعٍ، فالإيمانُ الذي ينفَعُ إنَّما هو الإيمانُ بالغَيبِ .

2- قَولُ الله تعالى: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الآيةُ تفيدُ أنَّه لم يَسَعْه إلَّا الإيمانُ باللهِ؛ لأنَّه قَهَرتْه أدلَّةُ الإيمانِ، وهذه مُستفادةٌ مِن رَبطِ جُملة إيمانِه بالظَّرفِ في قوله: إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ وهذه مَنقبةٌ للإيمانِ، وأنَّ الحَقَّ يَغلِبُ الباطِلَ في النِّهايةِ .

3- قَولُ الله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ فيه ذمٌّ للغَفلةِ وعدمِ التفَكُّرِ في أسبابِ الحَوادِثِ وعَواقِبها، واستبانةِ سُنَنِ الله فيها للاعتبارِ والاتِّعاظِ بها .

4- قَولُ الله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ جملةُ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ تذييلٌ لِمَوعظةِ المُشرِكينَ، والمرادُ منه: دَفعُ توهُّمِ النَّقصِ عن آياتِ اللهِ عندما يُحرَمُ كَثيرٌ مِن النَّاسِ الاهتداءَ بها، فهي في ذاتِها دلائِلُ هُدًى سواءٌ انتفَعَ بها بعضُ النَّاسِ أم لم ينتَفِعوا، فالتَّقصيرُ منهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ... الإدراكُ: اللَّحاقُ وانتهاءُ السَّيرِ، وهذا التَّعبيرُ يُؤْذِنُ بأنَّ الغرَقَ دَنا مِنه تَدريجيًّا بهَولِ البحرِ ومُصارَعتِه الموجَ، وهو يَأمُلُ النَّجاةَ منه، وأنَّه لم يُظهِرِ الإيمانَ حتَّى أَيِسَ مِن النَّجاةِ، وأيقنَ بالموتِ، وذلك لِتَصلُّبِه في الكفرِ

.

2- قولُه: قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لم يَقُلْ فرعونُ كما قاله السَّحرةُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ بل عبَّر عنه تعالى بالموصولِ، وجعَل صِلتَه إيمانَ بَني إسرائيلَ به تعالى؛ للإشعارِ برُجوعِه عن الاستعصاءِ، وباتِّباعِه لِمَن كان يَستتبِعُهم؛ طمعًا في القَبولِ، والانتظامِ معَهم في زُمرةِ النَّجاةِ ؛ وقد كرَّر المخذولُ المعنى الواحدَ ثلاثَ مرَّاتٍ في ثلاثِ عباراتٍ؛ حِرصًا على القَبولِ، ثمَّ لم يُقبَلْ منه حيث أخطَأ وقْتَه، وقاله حين لم يبقَ له اختيارٌ قطُّ، وكانت المرَّةُ الواحدةُ كافيةً في حالِ الاختيارِ، وعِندَ بقاءِ التَّكليفِ .

3- في قَولِه تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ردٌّ على مَن زعم إيمانَ فِرعونَ؛ وذلك لأنَّ الاستفهامَ هنا هو استِفهامُ إنكارٍ وذَمٍّ، ولو كان إيمانُه صَحيحًا مقبولًا عند الغَرَق، لَمَا قيلَ له ذلك .

4- قوله: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً في تعليلِ تنجِيَتِه بما ذُكِر إيذانٌ بأنَّها ليسَت لإعزازِه أو لفائدةٍ أُخرَى عائدةٍ إليه، بل لِكَمالِ الاستهانةِ به، وتَفْضيحِه على رُؤوسِ الأشهادِ، وزيادةِ تفظيعِ حالِه؛ كمن يُقتَلُ ثمَّ يُجرُّ جسَدُه في الأسواقِ، أو يُدارُ برأسِه في البلادِ .

5- في قَولِه تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ردٌّ على مَن زعم إيمانَ فرعونَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى جعَلَه عبرةً وعلامةً لِمَن يكونُ بعده مِن الأمَمِ؛ ليَنظُروا عاقِبةَ مَن كفَرَ باللهِ تعالى؛ ولهذا ذَكَرَ اللهُ تعالى الاعتبارَ بقصَّةِ فِرعونَ وقَومِه في غيرِ موضِعٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ

قوله: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فيه إيثارُ التَّعبيرِ بالجملةِ الاسميَّةِ؛ لادِّعاءِ الدَّوامِ والاستمرارِ

.

2- قوله تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ

قولُه: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ: الاستفهامُ إنكاريٌّ، والإنكارُ مُؤذِنٌ بأنَّ الوقتَ الَّذي عُلِّق به الإنكارُ ليس وقتًا يَنفَعُ فيه الإيمانُ؛ لأنَّ الاستِفْهامَ الإنكاريَّ في قوَّةِ النَّفيِ .

وجملةُ: وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ حالٌ مِن فاعلِ الفعلِ المقدَّرِ؛ جيءَ به لِتَشديدِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ على تأخيرِ الإيمانِ إلى هذا الآنِ ، وهي مؤكِّدةٌ لِمَا في الاستفهامِ آلآنَ مِن معنى الإنكارِ؛ فإنَّ إيمانَه في ذلك الحينِ مُنكَرٌ، ويَزيدُه نُكْرًا أنَّ صاحِبَه كان عاصيًا للهِ، ومفسِدًا للدِّينِ الَّذي أرسَلَه اللهُ إليه، ومُفسِدًا في الأرضِ بالجَورِ والظُّلمِ، والتَّمويهِ بالسِّحرِ .

3- قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ

قولُه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ اعتِراضٌ تذييليٌّ، جيءَ به عندَ الحكايةِ؛ تَقريرًا لِفَحوَى الكلامِ المحكيِّ .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...