الأحد، 21 يناير 2024

شرح التنوخي ج2. شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

 

شرح التنوخي ج2.

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء

قال بعض شيوخنا الوصية عقد يوجب حقًا في ثلث عاقده يلزم بموته أو نيابة عنه بعده والوصية مطلقة ومقيدة كما إذا قال: فلان وصيي ولم يزد، فإن قيل: ما الفرق بين هذا، وبين من قال: وكلتك فإنه لا يفيد شيئاً إلا أن يقيد بالتفويض أو بأمر يعرف عند غير واحد من أهل المذهب كابن الحاجب خلافًا لابن رشد.

قيل: لأن اليتيم لما كان محتاجا بأن يتصرف له في كل شيء، ولم يوص عليه والده غير ما أطلق الوصية له كان ذلك قرينة في تفويض الأمر للوصي بخلاف الموكل فإنه قادر على التصرف فيما جعل للوكيل، ولابد من أمر مستبد به في العادة احتاج

  إلى تقييد الوكالة بالتفويض، أو بأمر مخصوص، وهذا الفرق أشبه ما قيل في الفرق بينهما.

(ويحق على من ما يوصي فيه أن يعد وصيته):

مذهبنا أن الوصية مندوب إليها ويعرض لها والوجوب والتحريم والكراهة والإباحة، وأمثلتها واضحة معلومة، وفي الحديث: " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عند رأسه مكتوبة" فحمله أبو عمران على المريض والصحيح، بعدم أمن الموت فجأة وحمله عبد الحق على المريض، فقال: معناه بيت موعوكا.

قلت: والمراد بالكتب والإشهاد على نفسه، وأما لم وجدت مكتوبة بخط يده ولم يشهد عليها فلا تنفع قاله مالك، وغيره.

قال عياض: إلا أن يقول إذا مت فينفذ ما كتبته، وظاهر كلام الشيخ أن الوصية ماضية من السفيه والصبي، وهو كذلك.

واختلف أبو حنيفة في الصبي، واحتج أهل المذهب بما في الوطأ أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن هنها غلامًا يفاعًا لم يحتلم من غسان وورثته بالشام، وهو ذو مال، وليس له ههنا إلا ابنة عم له فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فليوص لها قال: فأوصى لها بما يقال له: بئر جشم.

قال عمر بن سليم الزرقي: فبيع ذلك المال بثلاثين ألف درهم وابنة عمه التي أوصي لها هي أم عمر بن سليم الزرقي.

واختلف في السن الذي تجوز وصية الصغير فيه على ستة أقوال:

فقيل: تجوز إذا كان ابن عشر سنتين أو أقل باليسير قاله في المدونة، وقيل: ابن تسع سنين قاله في كتاب محمد.

وقيل: إن عقل الصلاة قاله أصبغ.

وقيل: إن أثغر وأمر بالصلاة وأدب عليها قاله مالك في العتبية، وقيل: إن كان يفاعًا مراهقًا، قاله عبد الملك.

وقيل: ينظر إلى حال كل صبي على انفراده، وهذا القول أشار إليه اللخمي، وصوبه بعض المتأخرين قال عبد الملك: وتجوز وصية المجنون في حال إفاقته كما تجوز شهادته كذلك إن كان عدلا.

  واعلم أن الوصية من الكافر للمسلم بشيء جائزة إلا أن يمنع من ذلك مانع شرعي كالخمر لمسلم قاله ابن شاس، وأما عكسه فقال ابن القاسم: إنها جائزة قال أشهب: ولو كان أجنبيا.

وقال أصبغ: تجوز للذمي لا للحربي؛ لأنها قوة للحربي وترجع ميراثا لا صدقة، ووصايا المرتد باطلة، وإن تقدمت في حال إسلامه لا سيما على قول من يقول إن ماله لا يرد إليه إذا رجع للإسلام.

(ولا وصية لوارث):

الأصل في ذلك ما خرجه الترمذي وصححه عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته المشهورة عام حجة الوداع: " إن الله تعالى قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر" ويريد الشيخ إلا أن يجيزه الورثة على المنصوص.

وذهب بعض العلماء إلى أن ذلك مردود ولو أجازه الورثة.

وحجتنا في ذلك ما خرجه الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة" رواه ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس، وعطاء هذا لم يدرك ابن عباس، ووصله يونس بن راشد عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس.

قال عبد الحق: وكونه مقطوعا هو المشهور.

قلت: وخرج بعض شيوخنا قول المخالف من نقل ابن فتوح عن عبد الملك: ليس لوارث أن يجيز ما زاد الموصي على الثلث؛ لأنه عقد فاسد للنهي عنه، واختلف المذهب إذا وقعت الإجازة هل هو ابتداء عطية أو تنفيذ؟

فقال ابن القاسم في المدونة: إذا أوصى الأب بأكثر من ثلثه فأجازه الابن وعليه دين أن للغرماء أن يردوا ذلك.

وقال ابن القصار: إذا أجاز الوارث ما أوصي به الميت من الزيادة على الثلث أو الوصية لوارث كان ذلك تنفيذًا لفعل الميت ولم يكن ذلك ابتداء عطية من الوارث.

واختلف إذا أجاز الوارث ولا دين عليه فلم يقبل ذلك الموصي له حتى استدان الوارث دينًا أو مات فقيل: إن غرماء الوارث وورثته أحق بها؛ لأنها هبة ولم تجز.

(2/204)

________________________________________

وقال أشهب: يبدأ بوصية الأب قبل دين الابن وهذا الخلاف ذكره اللخمي فلو قال: إن لم يجيزوا فهي للمساكين، وشبه ذلك، فإن لم يجيزوها كان ميراثا بلا خلاف فإن أجازوها ففي ذلك قولان مرويان عن مالك.

قال ابن عبد السلام: والأقرب إلى أصل المذهب إجازتها؛ لأن الحق دائر فيها بين الميت، وورثته، وقد أجمعوا على إجازتها للموصى له، فإن قال للمساكين إلا أن يجيزوه لابني فقال المدنيون: تجوز وقال به من المصريين ابن القاسم، وابن وهب، وقاله أصبغ استحسانا قائلاً: فيه بعض المغمز.

وقال أشهب: تبطل قال أصبغ وهو القياس.

(الوصايا خارجة من الثلث):

ظاهر كلامه أن الثلث ماض، ولو قصد بذلك الضرر، وهو كذلك في أحد القولين، ومثل هذا الخلاف إذا وهبت ذات الزوج ثلث مالها على وجه الضرر.

فقيل: إنه جائز قاله ابن القاسم، وأصبغ، وقيل: لا يجوز رواه ابن حبيب، واختار اللخمي الأول قائلاً: قد اختلف في الوصية بالثلث على وجه الضرر.

وظاهر كلام الشيخ أيضًا أنه يدخل في ثلث الميت، ما لم يعلم به، وهو كذلك بالنسبة إلى المدبر في الصحة باتفاق، واختلاف في المدبر في المرض والمبتل فيه على أربعة أقوال ثالثها يدخل المبتل دون المدبر، ورابعها عكسه.

وأما الوصايا بالمال فالمعروف من المذهب أن ما لم يعلم به إلى حين الموت لا يدخل نص عليه المفيد.

قال ابن عبد السلام: ولم أر فيه خلافًا سوي ما ذكر اللخمي حيث قال: اختلف في دخول الوصايا ما لم يعلم به الموصي. قال: فأرى أن يكون ذلك على ثلاثة أقسام فإن كانت الوصايا بالثلث لم يكن لأهل الوصايا غير ثلث ما علم به أوصى لواحد أو لجماعة معينين أو مجهولين فإنه هو الذي أعطاهم الميت فلا يزاد عليه، وإن كانت الوصية بغير الثلث بواجبات من زكاة أو عتق عن ظهار وشبه ذلك، وضاق الثلث تممت مما لم يعلم به ومشي في بقية كلامه بنحو من هذا، وهو العمل على ما يفهم من قصد الموصي، وعلى الأول لو اشتهر غرق سفينة ثم أوصي ثم ظهرت السلامة فهل تدخل أم لا؟

في ذلك قولان، والمنصوص في العبد الآبق والبعير الشارد إذا اشتهر موتها ثم ظهرت السلامة قولان كغرق السفينة.

  قال ابن عبد السلام: لتقارب الفقد حمل الصور كلها محملا واحدًا.

قلت: قال بعض شيوخنا فظاهر كلامه يقتضي أن الخلاف في العبد إنما هو للتخريج اعتمادا منه على لفظ اللخمي، وهو خلاف قول ابن شاس في العبد الآبق والبعير الشارد إن اشتهر موتهما روايتان لأشهب، وهذا هو الصواب لنقل الشيخ أبي محمد عن الموازية، والمجموعة أن أشهب روى القولين في السفينة والعبد الآبق.

وظاهر كلام الشيخ أنه يرد ما زاد وإن كان الزيادة يسيرة، وهو كذلك، واختلف فيه فقيل: فيمن أوصى بعتق عبده إن وسعه الثلث فزادت قيمته على الثلث بشيء يسير عتق ولا يتبع بشيء، وقيل: يتبع بذلك القدر، وقيل: يكون مقدار ذلك القدر رقيقًا كما هو ظاهر كلام الشيخ كما قلناه.

وقيل: يرد جميعه بقول الميت إن وسعه الثلث ولا معارضة بين هذا الكلام وبين المشهور في المرأة إذا زادت على ثلثها أنه يبطل الجميع خلافًا للمغيرة؛ لأن المرأة يمكنها استدراك مخرجها بإنشاء الثلث ثانيًا قاله الفاكهاني ثم ذكر فائدة، وهي أن مما اختصت به هذه الأمة ثلاثة أشياء: الصلاة على الميت، وثلث الأموال والغنائم.

قال بعض شيوخنا: لا أعرف من خرج الأولين وقال شيخنا أبو مهدي عيسي الغبريني رحمه الله تعالى خرجه أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار من طرق وقال أبو عمر وهي أحاديث واهية.

قلت: وبقي عليه من خصائص هذه الأمة ثلاثة أشياء:

الأول: اليتيم

الثاني: كون الأصل في الأرض الطهارة حتى تظهر النجاسة، دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصلها".

الثالث: الوضوء ذكره الفاكهاني عند تكلمه على قول الشيخ في باب ما يجب منه الوضوء والغسل.

(ويرد ما زاد عليه إلا أن يجيزه الورثة العتق بعينه مبدأ عليها):

نقل الفاكهاني عن المذهب أن من لا ورثة له فإن لا يوصي بأكثر من الثلث بعد أن قال: اختلف في ذلك وظاهر كلام المغربي أن الخلاف مذهبي لقوله في كتاب العدة

  وطلاق السنة، وسبب الخلاف في بيت المال هل هو وارث محقق فلا يجوز، وإنما هو جائز للأموال الضائعة فيجوز.

(والمدير في الصحة مبدأ على ما في المرض من عتق وغيره، وعلى ما فرط فيه من الزكاة فأوصى به فإن ذلك في ثلثه مبدأ على الوصايا ومدبر الصحة مبدأ عليه وإذا ضاق الثلث تحاص أهل الوصايا التي لا تبدئة فيها):

اعلم انه إذا ضاق الثلث أو ما يقدم المدبر في الصحة على المشهور وهو ظاهر المدونة في كتاب الوصايا والصوم، ولابن القاسم قول آخر بتقديم صداق المنكوحة في المرض وهو ظاهر كتاب الإيمان بالطلاق منها.

وقيل: إنما يتحاصان قاله ابن القاسم أيضًا ثم المدبرون في الصحة إن كانوا متفاوتين قدم في الثلث الأول فالأول منهم، وإن كانوا في كلمة واحدة فالمشهور أنهم يعتقون بالحصص، وقيل: يقرع بينهم ثم بعد ذلك الزكاة الموصي بها إلا أن يعترف بحلولها وأنه لم يخرجها فتكون من رأس المال، ولو لم يوص فإن الوارث يؤمر بإخراجها ولا يجبر قاله ابن القاسم.

وقال أشهب: إذا حلت في مرضه فمن رأس ماله وسواء أوصى بها أم لا، وكلاهما حكاه اللخمي، وهذا الذي ذكرناه من الترتيب هو المشهور، وفي المجموعة أن الزكاة تبدأ على المدبرن وقيل: إنها بعد العتق المعين، وقيل: الوصايا ثم العتق في الظهارة وقتل النفس معًا وقيل: يبدأ عتق النفس إذ لا بدل عنه، وعتق الظهار عنه بدل وهو الإطعام ثم كفارة اليمين ثم المبتلي في المرض والمدبر فيه معًا.

وقيل: إن المبتلي في المرض مقدم على المدبر فيه؛ لأن المبتلي يخرج من رأس المال في حياة المعتق إن لو صح من مرضه بخلاف المدبر ثم الموصى بعتقه معينا أو يشترى على المشهور.

وقيل: الذي في ملكه مقدم على الذي يشتري لاحتمال أن لم يتم شراؤه وعلى الأول فقيل: يلحق بهما في هذه المرتبة من أوصى بعتقه إلى أجل قريب كالشهر أو أوصى بعتقه على مال يعجله، وقيل: لا يلحقان بهما ثم المكاتب ثم المنذور مثل قوله لله على إطعام عشرة مساكين ثم الموصي بعتقه غير معين، والمال والحج معًا.

وقيل: المعتق مقدم وعلى الأول فمعناه إذا كان الحج ضرورة، وأما حج التطوع فالمعتق مبدأ عليه، وهذا الفصل متسع جداً، ولو أفرد له تأليف لكان لذلك أهلا ومحل التكلم بالاستيفاء على ذلك المدونة.

(2/207)

________________________________________

(وللرجل الرجوع عن وصيته من عتق وغيره):

لا خلاف أعلمه أن للرجل الرجوع عن وصيته وسواء كانت وصيته في حال الصحة أو المرض بعتق أو غيره.

وظاهر كلام الشيخ، ولو أشهد أنه لا رجوع له في وصيته أن له ذلك، وهو كذلك على خلاف بين التونسيين وألف بعضهم على بعض فيها، وقال بعضهم، وهو الشيخ أبو على بن علوان في لزومها بالتزامه.

ثالثها: إن كانت بعتق، ولم يعزها.

قلت: وفي أول المدبر للتونسي ما يفهم منه اللزوم، ويقوم عدمه من كتاب التخيير والتمليك من المدونة قال فيها: وإن قال: أنت طالق تطليقة ينوي لا رجعة لي عليك فيها فله الرجعة.

وقوله: لا رجعه لي عليك البتات باطل إلا أن ينوي بقوله لا رجعة لي عليك البتات، وقاله غير واحد من شيوخنا، والرجوع إن كان بالنطق كما إذا قال رجعت عن وصيتي فواضح، وإن كان أوصى بشيء لزيد ثم أوصي به لعمرو فليس برجوع قاله ابن القاسم في المجموعة.

وقال الباجي: بالدرس والتصفية ينتقل اسمه من الزرع إلى اسم القمح والشعير فكان رجوعا، وقوله أدخله بيته تأكيد لمقصوده، وكذلك قوله: وكالة وإنما يريد بلغ حد اكتياله، ولو جصص الدار وصبغ الثوب ولت السويق فليس برجوع، واختلف هل تكون الزيادة للموصى له أم لا؟

فالمشهور أنها له وقال أصبغ: الورثة شركاء بما زاد ميتهم، واختلف إذا بني العرصة، فقيل: برجوع قاله أشهب، وقيل: يشتركان قاله ابن القاسم، واختلف أيضًا في نقض العرصة، فقيل: رجوع، وقيل: لا، قاله أشهب فعورض بما سبق له.

(والتدبير أن يقول الرجل لعبده: أنت مدبر أو أنت حر عن دبر مني):

قال ابن الحاجب: التدبير عتق معلق على الموت على غير الوصية واعترضه ابن عبد السلام بأنه تعريف بالإضافيات.

وقد ذكروا أنه مما يجتنب في التعريف لإجماله وكذلك يجتنب في تعريف الوصية بالعتق مثلا أن يقال: عتق معلق على الموت على غير التدبير فاعترضه، وأجابه بعض شيوخنا بأن ما ذكره عنهم من اجتناب الإضافيات لا أعرفه لهم حيث تقرر في موضعه، وليست الإضافة ملزومة للإجمال فلذلك وقعت في تعريفاتهم كثيرًا كقول القاضي:

  القياس حمل معلوم بإضافة حمل إلى معلوم ثم سأل ابن عبد السلام نفسه، فقال: إن قلت: وهل يرد عليه مع ذلك كونه التعريف غير مانع لدخول بعض انواع العتق إلى أجمل كمن علق عتق عبده على موت أجنبي؟ فإن كلامه ينطبق عليه، وليس ذلك تدبيرا عندهم.

وأجاب بأن قول على غير الوصية قرينة تدل على أنه إنما أراد كون التعليق على موت المعتق وحده إذ الوصية لا تكون معلقة إلا على موت الموصي وحده.

قلت: وقطع ابن هارون بأن كلامه غير مانع بما وقع السؤال عنه. قال بعض شيوخنا: وينتقض بحكم عتق أم الولد فإنه عتق معلق على موت مالكها، ولا يجاب بعدم تعليقه؛ لأنه إن أراد به أنه معنى التعليق اللفظي خرج عنه قوله: أنت حر عن دبر منى فإنه لا تعليق فيه لفظا، وإن أريد به التعليق معنى فعتق أم الولد كذلك وحده بأن قال: التدبير عقد يوجب عتق مملوك من ثلث مالكه بعد موته بعتق لازم والمدبر هو المعتق من ثلث إلى آخره، ولا خلاف في الصيغتين اللتين ذكرهما المؤلف أنهما من صيغ التدبير.

اختلف إذا قال لعبده في صحته: أنت حر بعد موتي، فقال في المدونة عن مالك، وابن القاسم، إن أراد به وجه الوصية صدق وإن أراد به التدبير صدق.

وقال ابن القاسم: هي وصية أبدًا حتى يتبين أنه أراد التدبير، وقال أشهب فيها: إذا قال هذا في حين إحداث وصية لسفر أو لما جاء أنه لا ينبغي لأحد أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه فهو تدبير إذا قال ذلك في صحته.

واختلف إذا قيد تدبيره بشرط كقوله: إن مت في سفري أو في مرضي فقيل: إنها وصية قال ابن القاسم إلا أن يكون قصد التدبير، وقيل: هو تدبير لازم قاله ابن كنانة، وابن سحنون، وابن القاسم أيضًا.

وفي المدونة: إذا قال: أنت حر يوم أموت كقوله: أنت حر بعد موتي، وناقضوها بقول مالك فيمن قال لزوجته: أنت طالق يوم أموت، إنه يعجل عليه.

قال ابن يونس: فينبغي عليه أن يكون في قوله: أنت حر يوم أموت معتقًا إلى أجل.

قلت: قال بعض شيوخنا: وقد يفرق بينهما بأن تعليقه على الموت ظاهر في كونه بعده فلما كان العتق يصح بعد الموت حمل عليه عملا برجحان حمل اللفظ على ظاهره، ولما لم يصح الطلاق بعد الموت حمل على أنه قبله صونا للفظ من حمله على الإهمال.

(ثم لا يجوز له بيعه وله خدمته):

يريد إلا في دين سابق ولا خصوصية للبيع بل، وكذلك هبته والصدقة به نقله

  رحمه الله تعالى عن الموازية، وما ذكر أنه لا يجوز بيعه هو المشهور مطلقًا.

وفي نوازل ابن الحاج عن ابن عبد البر: كان ابن لبابة يفتي ببيعه إذا تخلق على مولاه وأحدث أحداثا قبيحة لا ترضى كما روي عن عائشة رضي الله عنها، وأول ابن رشد فعل عائشة بأنها أرادت قتلها بالسجن وذلك بين من قولها أرادت تعجيل العتق فحرمتها منه كحرمان القاتل من الميراث.

وقال الشافعي وغيره: التدبير وصية يجوز بيعها بكل حال.

قال ابن عبد البر: وناقض الشافعي على مالك بيع المدبر في المقاواة فيما إذا دبر أحد الشريكين قال غيره: وأجاب سحنون بأن المقاواة إنما قلنا بها لإزالة الضرر عن الشريك الذي لم يدبر وعلى المشهور فإن بيع فإنه يفسخ ما لم يفت اتفاقًا.

واختلف إذا فات بعتق المشتري له فقيل: بإمضاء البيع ويكون الولاء للمشتري وقيل: يفسخ البيع، ويرجع مدبرا على ما كان عليه والقولان لمالك.

(وله انتزاع ماله ما لم يمرض وله وطؤها إن كانت أمة ولا يطأ المعتقة إلى أجل ولا يبيعها وله أن يستخدمها):

يريد إذا كان المرض مخوفا عليه فيه، وما ذكر الشيخ زعم ابن حارث في ترجمة باب جامع المدبر الاتفاق عليه.

وقال ابن هارون: حكي ابن رشد في المريض أن له انتزاع ماله؛ لأنه ينتزعه لنفسه وحكاه ابن عبد السلام بلفظ: وقيل له: انتزاعه مطلقًا.

قال: وهو الأصل قال بعض شيوخنا: ولا أعرفه وأظنه لابن نافع، ولم أجده لابن رشد، وظاهر كلام الشيخ: ولو فلس السيد أنه يجوز له أن ينتزع ماله، وهو ظاهر المدونة.

وقيل: ليس له ذلك وجعله ابن الحاجب المذهب، فقال: وللسيد أخذ ماله ما لم تحضره الوفاة أو يفلس وأراد بقوله ما لم تحضره الوفاة ما لم يمرض المرض المخوف، وليس لغرماء السيد أخذ ماله.

واختلف هل لهم أن يجبروا السيد على انتزاعه أم لا؟ فالمنصوص أن ليس لهم ذلك، وخرج بعضهم مما قيل في المذهب فيمن حبس عليه الحبس وشرط عليه المحبس أن يبيع متى احتاج إلى البيع أن للغرماء جبر السيد المحبس عليه على البيع أن يكون للغرماء إجبار القادر على انتزاع مال عبده.

(وله أن ينتزع مالها ما لم يقرب الأجل وإذا مات فالمدبر من ثلثه والمعتق إلى أجل من

(2/210)

________________________________________

رأس ماله):

قال الفاكهاني: قدر القرب الشهر والشهران.

(والمكاتب عبد ما بقي عليه شيء):

قال ابن عبد السلام: لما كانت حقيقتها العرفية معلومة، وهي إعتاق العبد على مال منجم لم يتعرض ابن الحاجب إلى رسمها، واعترضه بعض شيوخنا بأنه يدخل في كلامه عتقه على منجم على أجنبي، وليس بكتابة ولا حكمه حكمها وحدها بأن قال الكتابة عتق على مال مؤجل من العبد موقوف على أدائه.

قال ابن عبد السلام: قالوا: والحد الذي تجوز فيه كتابة المكاتب إذا بلغ حد السعاية، وهو بلوغ سنه عشر سنين، واختلف في كتابة الصغير والأمة للذين لا مال لهما، ولا يسعيان بالجواز، والكراهة.

وظاهر كلام أشهب التحريم لقوله: تفسخ كتابة الصغير ما لم يعرف بالأداء.

قلت: قال بعض شيوخنا: تأمل قوله: قالوا: فإن أراد بذلك على قول أشهب فهو خلاف نصه تمنع كتابة ابن عشر سنين، وإن أراد على قول ابن القاسم فظاهر نقل الباجي عنه جوازه، وإن لم يبلغ عشر سنين.

(والكتابة جائزة على ما رضيه العبد وسيده ما المال منجما قلت النجوم أو كثرت):

اعلم أن قول الشيخ جائزة نفي لما يتوهم، وإنما أراد أنها مندوب إليها. قال الله تعالى: (والذين يبتغون الكتب مما ملكت أيمنكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا وءاتوهم من مال الله الذي ءاتكم) [النور: 33]

، ونص على الندبية ابن شعبان في نقل الباجي، وعزاه اللخمي لرواية ابن القصار في قول مطرف وتأول اللخمي عن مالك في الموطأ أنه يقول: الكتابة مباحة لا مندوب إليها لقوله هناك: إن بعض أهل العلم كان إذا سئل عن آية الكتاب تلا قوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) [المائدة: 2]

، وقوله: (فإذا قضيت الصلوة فانتشروا) [الجمعة: 10]

قلت: وعزاة الباجي لإسماعيل القاضي وعبد الوهاب، ورواية ابن الحاجب، وقال اللخمي، أرى إن كان العبد لا يعرف بسوء وسعاية من مباح وقدر الكتابة ليس بأكثر من خراجه بكثير فمباحة، وإن عرف بالسوء والإذاية فمكروهة، وإن كانت سعايته من حرام فحرمة.

وظاهر كلام الشيخ: أن السيد لا يجبر عبده على الكتابة، وهو كذلك على

(2/211)

________________________________________

المشهور وروى إسماعيل القاضي عن مالك أنه يجبره وهو ظاهر سماع أشهب، وبه قال ابن بكير وإسماعيل، وأخذه ابن رشد من قول المدونة عتقه بتلاً على مال عليه بعد العتق دينًا فالكتابة أحرى.

ورده بعض شيوخنا بتحقق العتق في مسألة المدونة وأما الكتابة فهي معروضة للعجز بعد أداء جلها واختار اللخمي أن السيد إذا رضي من عبده بمثل خراجه أو زيادة يسيرة فله الجبر، وإلا فلا وحسنه ابن عبد السلام قائلاً: لأنها منفعة للعبد خالية عن الضرر.

واختلف المذهب إذا اشترط السيد وطء مكاتبته، واستثنى حملها فقيل: إن الشرط ساقط، قاله ابن القاسم، ونقل ابن المواز عن أشهب عن مالك أن الكتابة تفسخ إلا أن يرضي السيد بطرح الشرط، واختار ابن المواز مثله ما لم تؤد نجما منها فإن الكتابة ماضية، ويبطل الشرط.

واختلف هل تنافي الكتابة الحلول أم لا؟ فقيل: تنافيه؛ لأن الكتابة لم تقع قديمًا وحديثا إلا مؤجلة. وقيل: إنها كالبيع تقبل الحلول والتأجيل غير أن الغالب عليه عند أهل المذهب التأجيل، ولذلك قالوا: إذا أوصى الموصي بالكتابة مجملة نجمت على حسب ما يراه أهل المعرفة.

وزعم ابن رشد أنه مذهب مالك قال: وقول الشيخ أبي محمد في رسالته الكتابة جائزة على ما رضيه العبد وسيده من المال منجما ظاهر في أنها لا تكون إلا منجمة وليس بصحيح، وإنما منعها حالة أبو حنيفة ورده بعض شيوخنا بأن قول أبي محمد لا يدل على منعها حالة بل عدم صدق لفظ الكتابة عليها فقط فتأمله.

(فإن عجز رجع رقيقًا وحل له وأخذ منه ولا يعجزه إلا السلطان بعد التلوم إذا امتنع من التعجيز):

ما ذكر الشيخ من أنه إذا عجز رجع رقيقًا وحل له ما أخذ منه هو مذهبنا واضطراب العلماء فيه اضطرابًا كثيرًا وظاهر كلام الشيخ أنهما إذا اتفقا على التعجيز لا يفتقر إلى السلطان وإن كان له مال ظاهر، وهو كذلك عند مالك.

وقال أيضًا: إن كان له مال ظاهر فلابد من تعجيز السلطان.

وقال سحنون: لابد من السلطان مطلقًا، وكلها نقلها اللخمي قائلاً: وعلى القول بالمنع إذا رضي بالفسخ، ولم ينظروا في ذلك حتى فات بالبيع أو بإعتاق المشتري فقيل: البيع فوت، وقيل: ليس بفوت إلا أن يفوت بعتق.

(2/212)

________________________________________

وقيل: يريد البيع، ولو أعتق فإنه ينقض، وقيل: إذا باع السيد رقبته برضاه جاز قاله ابن القاسم في الديماطية، وقول الشيخ: لا يعجزه إلا السلطان ظاهر في أن التلوم لابد منه سواء كان يرجى له الخلاص أم لا!! وهو كذلك إلا أن القلة والكثرة تختلف بذلك صرح في المدونة، وفيها أيضًا: ومن شرط على مكاتبه أنه إن عجز عن نجم ما فهو رقيق، وإن لم يرد نجومه إلى أجل كذا فلا كتابة لم يكن للسيد تعجيزه بما شرط، ولا يعجزه إلا السلطان بعد أن يجتهد له في التلوم بعد الأجل، فمن العبيد من يرجي لهم في التلوم، ومنهم من لا يرجى له فإن رأى له وجه أداء تركه، وإلا عجزه فظاهرها أن التلوم لابد منه وإنما الاجتهاد في قدره.

وقال المغربي: إنها محتملة لذلك، ومحتملة لأن يكون معناها أن من لا يرجى له لا يتلوم له كمسألة العجز عن النفقة فإن للشيوخ تأولين عليها، وليس كذلك بل الفرق من وجهين:

أحدهما: حق الله هنا وحق الآدمي هناك، وقد علمت أن حق الله آكد.

والثاني: أن العبد مظنة أن يرجى له لأن الغالب كونه ممن يتصدق عليه ويوهب له بخلاف الحر فليس هو في مظنة ذلك، والله أعلم.

(وكل ذات رحم فولدها بمنزلتها من مكاتبة أو مدبرة أو معتقة إلى أجل أو مرهونة وولد أم الولد من غير السيد بمنزلتها):

قال التادلي: يخرج من هذا العموم الأمة المستأجرة والمستخدمة والموصى بعتقها.

قلت: لا يحتاج إلى هذا الإخراج لقوله: من، فليس في كلامه عموم وظاهر كلام الشيخ سواء حملت به بعد العقد أو قبل العقد، وهو كذلك وسواء كان من زوج أو من زنا.

(ومال العبد له إلا أن ينتزعه السيد فإن أعتقه أو كاتبه، ولم يستثن ماله فليس له أن ينتزعه، وليس له وطء مكاتبته، وما حدث للمكاتب والمكاتبة من ولد دخل معهما في الكتابة وعتق بعتقهما):

ظاهر كلام الشيخ أنه يملكه حقيقة فيقوم من كلامه فرعان:

الفرع الأول: أنه يجوز له أن يطأ جاريته إذا ملكها، وهو كذلك نص عليه مالك في الموطأ.

قال ابن زرقون وذكر ابن القصار أن أهل العراق لا يجيزون للعبد أن يطأ

(2/213)

________________________________________

جاريته وتقدم نحو كلامه على أبي عمر يريد أنه قال فيما سبق من يقول العبد لا يملك لا يجوز له التسري بحال، وما في الموطأ هو ظاهر الروايات من المدونة، وغيرها.

وقال ابن عبد السلام في كتابه الرهون: المحجور عليه لا يجوز له أن يطأ أمته إلا بإذن سيده بخلاف المأذون له ورده بعض شيوخنا بكلام مشبع فانظره.

الفرع الثاني: يجب على العبد أن يزكي المال الذي بيده، وتقدم في محله أن ابن هارون نقل عن ابن كنانة مثله في المدونة والمشهور لا يزكي، هكذا رأيته في النسخة التي كانت بيدي، ورأيت الآن في بعض النسخ إسقاط ابن كنانة فلعله أخذ لا نص.

وتقدم اعتراض بعض شيوخنا عليه بأن ما ذكره لم يجده في المدونة بحال.

(وتجوز كتابة الجماعة ولا يعتقون إلا بأداء الجميع):

يريد إذا كان المالك واحدًا وأما عبد لك وعبد لغيرك لم يجز لكما جمعهما قاله في المدونة فإن وقعت فقال اللخمي: يختلف هل تمضى وتفض الكتابة عليهما وتسقط حمالة أحدهما عن الآخر أو تفسخ ما لم يؤد نجما واحدًا من الكتابة على ما تقدم في الشروط الفاسدة، وهذا كله إن دخلا على الحمالة، وأما إن كان السيدان عقدا الكتابة لا على الحمالة فقال ابن عبد السلام: وقال الباجي: إنها جائزة، ويجعل على كل واحد من العبدين ما ينوبه من جملة الكتابة.

وأشار إلى أنه لا يختلف فيه كما اختلف في جمع الرجلين سلعيتهما في البيع.

قلت: قال التادلي: منهم من أجرى ذلك على جمع الرجلين سلعيتهما في البيع، وأما لو كان العبدان شركة لرجلين فاختلف في جمعهما في كتابة واحدة فلم يجز ذلك أشهب قائلاً: لأن كل عبد يتحمل لغير سيده إلا أن يسقطا حمالة بعضهم فيجوز، وقال ابن ميسر ليس كما احتج لأن لكل واحد نصف كل عبد فإنما يقبض كل واحد عن نصفه نصف الكتابة فلم يقبض أحدهما عن غير ملكه شيئاً.

واختلف المذهب في صورة الشيخ على أربعة أقوال: فقيل: إن الكتابة توزع على قدر قوتهم على الأداء يوم عقد الكتابة قاله في المدونة وهو قوله أيضًا في كتاب ابن المواز، وفيه أيضًا أنها تفض على اعتبار حالهم ذلك اليوم مع رجاء الحال التي يكونون عليها بعد ذلك من قوة وضعف.

وقال عبد الملك: تفض على عددهم وكذلك إذا استحق أحدهم وهم أربعة سقط عنهم ربع الكتابة، هذا ظاهر ما حكاه ابن يونس عنه وحكى اللخمي عنه أنها تكون على قدر القوة على الأداء وقيمة الرقاب، وما ذكر الشيخ أنهم لا يعتقون إلا

(2/214)

________________________________________

بأداء الجميع صحيح إذ هو ثمرة الحمالة، وكذلك يؤخذ المليء بالجميع.

ونص على ذلك في المدونة ولابن رشد في المسألة التاسعة من نوازل سحنون ظاهر قول المغيرة أنهم لا يكونوا حملاء بعضهم عن بعض إذا كوتبوا كتابة واحدة إلا أن يشترطوا ذلك وهو خلاف المدونة وغيرها، واختلف هل يوضع لموت أحدهم شيء أم لا؟ فالمعروف من المذهب أنه لا يوضع لذلك شيء، وقال اللخمي: القياس أن يحط عنهم ما ينويه لأن كل واحد اشترى نفسه بما ينوبه من تلك الكتابة فمن مات في الرق سقطت الحمالة عنه، وإن استحق أحدهم بحرية أو ملك سقط عنه ما ينوبه نقله الباجي عن الموازية.

قال: ولابن حبيب عن أصبغ من أعتقه سيده وأبي ذلك شركاؤه فأدى معهم حتى عتقوا لم يرجع على سيده بما أدى.

قلت: وقال أبو حفص العطار في رجوعه عليه قولان، والصواب الرجوع.

(وليس للمكاتب عتق ولا إتلاف ماله حتى يعتق):

ظاهر كلام الشيخ: إن أذن له سيده وهو كذلك عند غير ابن القاسم في المدونة قائلاً: لأنه داعية إلى رقه، وقال ابن القاسم فيها: لا يجوز إلا بإذن السيد والقولان فيها في كتاب الحمالة والأقرب أنهما يرجعان إلى قول واحد فيحمل قول الغير على إتلاف المال الكثير، وقول ابن القاسم على اليسير قال في المدونة: ويجوز كتابة جماعة ووكالتهم في الخصومة بإذن السيد لأن من وكل عبده بقضاء دينه فقام للعبد شاهد أنه قد قضاه حلف العبد وبرئ كالحر سواء، ولا يحلف السيد، وأقام منها المغربي صحة وكالة الصبي لأنه محجور عليه كالعبد وارتضى هذه الإقامة بعض من لقيناه ممن تولي قضاء الجماعة بتونس، وهو شيخنا أبو مهدي عيسى رحمه الله تعالى، واجبته بأنها إقامة ضعيفة؛ لأن حجر الصبي ذاتي فالغالب عليه إتلاف ما يوكل عليه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال بخلاف حجر العبد فإنما هو لحق السيد، وقد يكون العبد في ذاته رشيدًا فالحق أن وكالة الصبي لا تجوز وهو نقل اللخمي قال: لأنه تضييع للمال، وعليه العمل عندنا بتونس وظاهر كلام ابن رشد جواز توكيله، وكذلك في نوازل ابن الحاج، وقال: ومن كل على قبض دين له صبيا قبل بلوغه فقبضه براءة للغريم؛ لأن رب الحق رضي به وأنزله منزلته.

(2/215)

________________________________________

قال بعض شيوخنا: وهو ظاهر كتاب المديان من المدونة وفيها ما نصه.

قلت: أرأيت إن دفعت إلى عبد أجنبي محجور عليه مالا يتجر لك به أو ليتيم محجور عليه ثم لحقهما دين أيكون في ذمتهما؟ قال قال مالك: يكون في المال الذي دفع إليهما، وما زاد فهو ساقط إلا أن يقال: إنما تكلم عليه بعد الوقوع، والأول أظهر، وهو الأكثر من أخذ الأشياخ الأحكام من مفروضات المدونة.

(ولا يتزوج ولا يسافر السفر البعيد بغير إذن سيده):

يقوم من كلام الشيخ أنه لا يكفر إلا بالصيام وهو مقتضى نقل المدونة أنه كالعبد ونص ابن شاس على ذلك، وقال بعض شيوخنا: ولا أعرفه لغيره نصًا في المذهب بل للغزالي في وجيزه، واختلف إذا تزوج بغير إذن سيده فالمشهور أنه بخير السيد في فسخه وإمضائه، وقال الأبهري: القياس فسخه، وعلى الأول إذا اختار الفسخ فقيل بطلاق، وقيل: بغيره، وعلى الأول فقيل: بطلقة، وقيل: بطلقتين، والقولان في المدونة والمعروف أنه بائن وقيل: رجعي فلو عتق في العدة كان أحق بها كما قيل في المعتقة تحت العبد تختار الفراق ثم يعتق هو في عدتها.

واختلف في إذا دخل بها العبد ثم علم السيد به بعد البناء وبعد أن دفع الصداق لها فقال في المدونة: يترك لها ربع دينار، وقال ابن الماجشون: لا يترك لها شيئًا.

وظاهر كلام الشيخ: أن السفر القريب جائز، وهو كذلك عند ابن القاسم، ومنعه مالك مطلقًا.

وقال اللخمي: إن كان صانعا أو تاجرا قبل كتابته فللسيد منعه، وإن بارت صناعته أو تجارته، واحتاج للسفر لم يكن ذلك له إلا بحميل بالأقل من باقي كتابته أو قيمته، وإن كان شأنه السفر ومنعه السيد قبل كتابته لم يمنع إلا في السفر يحل النجم عليه قبل رجوعه منه، وإن اتهم على ذلك منع إلا بحميل.

قلت: قال بعض شيوخنا: الحمالة خلاف المذهب، وقال الفاكهاني: وكان الشيخ أراد بقوله السفر البعيد الذي تحل فيه نجومه قبل قدومه كالمديان.

(وإذا مات وله ولد قام مقامه وأدى من ماله ما بقي عليه حالا وورث من معه من ولده ما بقي):

اعلم أن المكاتب إذا مات، وكان له وفاء بالكتابة، وفضلت فضلة فالمذهب أنه لا يرثه ورثته الأحرار، وإنما يرثه من معه في الكتابة على خلاف في تبعيتهم، وفي ذلك أربعة أقوال: فقيل: لا يرثه إلا قريب يعتق عليه من الأب والأولاد والإخوة قاله عبد

(2/216)

________________________________________

الملك وابن القاسم مرة وقيل: لا يرثه إلا الولد خاصة، وقيل: يرثه قريبه الحر ممن معه إلا الزوجة قاله ابن القاسم أيضًا، وقيل والزوجة وكل هذه الأقوال منسوبة إلى مالك، والمشهور منها الثالث.

وقال الشافعي: يرثه سيده قال الفاكهاني، وكأنه القياس لقوله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم: " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم".

(وإن لم يكن في المالك وفاء فإن ولده يسعون فيه ويؤدون نجوما إن كانوا كبارا):

قوة كلام الشيخ تقتضي أن هذا المال لا يرجع لمن معه في الكتابة من أجنبي أو قريب غير الولد وهو كذلك قاله ابن القاسم في المدونة، وقال أشهب: يدفع إلى من معه، وقال ربيعة: لا يدفع لأحد سواء كان قريبًا أو أجنبيا ولو كانوا ذوي قرابة، وأمانة، وليتعجله السيد، ويحاسبهم به من آخر النجوم.

(وإن كانوا صغارا وليس في المال قدر النجوم إلى بلوغهم السعي رقوا وإن لم يكن له ولد معه في كتابته ورثه سيده):

يريد ما لم تكن معهم أم ولد فإن كانت ولها قوة وأمانة، دفع إليها إن رجي لها قوة على سعي بقية الكتابة، أو كان في المال ما يبلغهم السعي، وأما إن لم يكن لها قوة فإنها تباع ويضم ثمنها إلى التركة فيؤدي إلى بلوغهم السعي وحيث آل الأمر إلى بيع أم الولد فقال مالك في المدونة: للولد بيع من فيه نجابة من أمهات الأولاد أمهم كانت أو غيرها.

وقال ابن القاسم: أرى أن لا يبع أمه إذا كان في بيع سواها ما يكفيه، واختلف قول سحنون إذا كن أمهات أولاد متعددات فقال مرة يقرع بينهن، وقال مرة يباع من كل واحدة بقدرها.

قالوا: يريد غير أم الولد الموجود إلا أن يكون لكل واحدة ولد فيباع من كل واحدة بقدرها.

(ومن أولد أمة فله أن يستمتع منها في حياته، وتعتق من رأس ماله بعد مماته):

ما ذكر الشيخ صحيح ومذهبنا أنه لا يردها دين سابق، وقد روى على أنها تباع في الدين وروي عنه أنه رجع عنه، ولو قال في مرضه هذه ولدت منى، ولا ولد معها فلا يخلو أما أن يكون له ولد من غيرها أم لا فإن كان فإنه يصدق وقيل: لا يصدق

(2/217)

________________________________________

قاله أكثر أصحاب مالك: والقولان لمالك رحمه الله، وإن لم يكن له ولد فإنه لا يصدق. قاله في المدونة.

قال اللخمي: وعلى قوله في المرض يقر بقبض كتابة مكاتبه وورثته كلالة: إنه يقبل قوله هنا، ولو كانت ورثته كلالة إذا كان الثلث يحملها، ولم يشغل الثلث بوصية.

واختلف إذا اشترى زوجته، وهي حامل منه فقيل: إنها تكون به أم ولد، وقيل: لا، والمشهور هو الأول.

(ولا يجوز له بيعها ولا له عليها خدمة، ولا غلة، وله ذلك في ولدها من غيره، وهو بمنزلة أمه في العتق بعتقها):

ما ذكر من أن بيعها لا يجوز هو مذهبنا باتفاق بل زعم غير واحد الإجماع على ذلك ومنع بعضهم ثبوته، وكذلك بيعها حاملا من سيدها، وحكى البرذعي عن النخعي في احتجاجه على داود الظاهري الإجماع على منع بيعها، وقدح فيه بعض فقهاء تونس بناء على قول من يجيز بيع الحامل واستثناء جنينها.

ونقل بعض من شرح التهذيب أنه أبو سعيد البرذعي الحنفي، واشتد نكير شيخنا أبي مهدي عيسى الغبريني أيده الله تعالى بقوله: إنما هو أبو سعيد البراذعي الخراساني.

ذكر الشيخ ابن سيد الناس الأندلسي وغيره قالوا: سار البرذعي من بلده إلى الحج، فلما وصل إلى بغداد وجد داود الظاهري في مجلسه وهو يقول: أجمعنا على أن بيع أم الودل قبل حملها جائز فكذلك بعد وضعها أخذا بالاستصحاب فقال البرذعي: أجمعنا على أن بيعها حالة العلوق لا يجوز فكذلك بعده أخذا بالاستصحاب فانقطع قال: فخرجت وأنا أستخير الله في الجلوس لتعليم العلم، وترك الحج لغلبة مذهب داود على غيره فرأيت في المنام تلك الليلة قارئا يقرأ قوله تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) [الرعد: 17]

فلما استيقظت وإذا بصارخ يقول: إلا أن داود الظاهري قد مات فتركت الحج، وجلست للناس قال: يقول هذا القائل هو الزناتي شارح التهذيب أنه أبو سعيد البرذعي خطأ من وجوه منها أنه لم يكن في عصر داود، ومنها أن هذا المنقول عنه إنما هو البرذعي بإسكان الراء على غير ذلك.

قلت: قال بعض شيوخنا: وأخبرني بعض من لقيناه من الثقات الحفاظ يريد به أبا عبد الله محمد الشطي أنه وقف على حاشية في رسالة ابن أبي زيد بخط من يوثق به

(2/218)

________________________________________

إمضاء بيعها عن على بن زياد، وإذا فرعنا على المعلوم من المذهب ووقع بيعها فإنه يفسخ ويتحفظ منه عليها لئلا يعود إلى بيعها، ولا يمكن من السفر بها، وإن خيف عليها وتعذر حفظها عتقت عليه. كقول مالك فيمن باع زوجته أن لا يكون بيعها طلاقا، ويطلق عليه إن خيف عوده لذلك، والحكم ما ذكرناه من الفسخ، ولو أعتقها المشتري فمصيبتها من البائع بخلاف البيع الفاسد في غيرها، وما ذكر أنه ليس له عليها خدمة يريد معتبرة.

وأما الخدمة الخفيفة فإنها عليها قاله القاضي عبد الوهاب، وقال ابن القاسم: ليس له في أم الولد أن يعتقها في الخدمة، وإن كانت دنيئة، وتبتذل الدنيئة في الحوائج الخفيفة ما لا تبتذل فيه الرفيعة فحمله ابن عبد السلام وغيره على خلاف قول القاضي عبد الوهاب، ولا يبعد حمله على الوفاق، وقال أبو حنيفة له فيها الخدمة.

قال الباجي: وهو الأظهر عندي لأنها باقية على حكم الملك، وإنما منع أن يملكها غيره قياسًا على استخدامه ولدها؛ لأن حرمتهما واحدة إذ كل ذات رحم فولدها بمنزلتها في الحرمة فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال، وإذا فرعنا على المشهور فليس له أن يؤاجرها ولو وقع ذلك، وفات لم يرد، وكانت الإجارة له قاله اللخمي.

(وكل ما أسقطته مما يعلم أنه ولد فهي به أم ولد):

لا خلاف في المذهب أنه إذا أقر السيد بوطئها وثبت الإتيان بولد حي أو ميت علقة فما فوقها مما يقول النساء: إنه منتقل إنها تكون به أم ولد.

واختلف في الدم المجتمع فقال ابن القاسم في المدونة في كتاب الديات: إنه معتبر ذكر ذلك في أخذه في الكلام على الغرة، وألغاه أشهب.

قال شيخنا أبو مهدي عيسي الغبريني رحمه الله: وأسقطه البراذعي، وهو مما يتعقب به عليه.

قلت: لا يتعقب عليه لكونه ذكره في كتاب الاستبراء، ونصه: ومن اشتري جارية حاملا فليتواضعها حتى تلد، وليقبضها المبتاع، وينقد ثمنها، ولا يطؤها حتى تلد فإن ألقت دما أو مضغة أو شيئًا مما يستيقن النساء أنه ولد فاستبراؤها ينقضي به كما تنقضي بذلك العدة في الحرة وتكون به الأمة أم ولد، وعكس عياض في الإكمال فعزا لكل واحد من ابن القاسم وأشهب ما للآخر، ولم يزل أشياخنا بأجمعهم ينبهون عليه كما نبه عليه ابن عبد السلام في العدد فاعلمه.

واختلف إذا أنكر السيد الوطء فالأكثر أنه لا يتوجه عليه اليمين إذا ادعت عليه

(2/219)

________________________________________

ذلك؛ لأنها من دعوى العتق، وهي غير موجبة لليمين على أصل المذهب، واختار اللخمي تحليفه إذا كانت من الوخش، وعلم منه الميل إلى ذلك الجنس.

والفرق بين هذا وبين دعوى العتق أن الغالب حصول الوطء في هذا الموضع والعتق نادر، ولو قيل: لا يصدق في العلي إذا طال مقدمها لكان له وجه وإذا أقر السيد بالوطء، وأنكر الولادة وليس مع الأمة ولد فإن اليمين تتوجه عليه بذلك.

واختلف إذا أتت بامرأتين على الولادة هل تكون بذلك أم ولد أن لا؟ وكذلك اختلف إذا كان معها الولد.

فقيل: يقبل قولها قاله مالك في المدونة، وقال أيضًا: لابد من امرأتين على الولادة، وقال ابن المواز: يقبل قولها إن صدقها جيرانها ومن حضرها، وليس يحضر مع ذلك الثقات.

واختار اللخمي بعد أن ذكر الأقوال الثلاثة الرجوع إلى دلائل الأحوال في ذلك من اللبن ودم النفاس، وتغير الوجه إن اختلف قرب ما تزعم أنها ولدت فيه.

واختلف إذا توفي سيدها وهي حامل منه فمرة، قال مالك: تكون حرة إذا تبين الحمل بتحرك الولد وهو قول ابن القاسم وروايته، ومرة قال: لا تكون حرة حتى تضع الحمل لاحتمال أن ينفش الحمل، وهو مذهب ابن الماجشون وسحنون.

(ولا ينفعه العزل إذا أنكر ولدها وأقر بالوطء)

ما ذكر الشيخ من أنه لا ينفعه العزل عنها صحيح؛ لأن الماء قد يغلبه ولو اليسير منه، وقال اللخمي: إلا أن يكون العزل البين، وأما الوطء في الدبر، وبين الفخذين مع الإنزال ففي ذلك قولان: فقيل: كالأول، وقيل: لا يلحق به؛ لأن الماء إذا باشر الهواء فسد وكلاهما ذكره اللخمي، واختار الأول؛ لأن ما ذكره مظنون فلا يسقط النسب لمثله، واستبعد الباجي الأول قائلاً: وإذ لو صح أن يكون من الوطء بين الفخذين ولد لما لزم من ظهر بما حمل حد.

قال سحنون: ولو كان الإنزال بين شفري الفرج لحق الولد قولاً واحدًا.

قال ابن القاسم: ولو قال: كنت أطؤها ولا أنزل لم يلزمه به الولد.

(فإن ادعى استبراء لم يطأ بعده، ولم يلحق به ما جاء من ولد):

ما ذكر الشيخ هو المشهور في كتاب ابن سحنون عن المغيرة لا يبرأ منه إلا إلى خمس سنين، وهذا منه تضعيف للاستبراء، وهو الأول فاختلف هل يلزم في ذلك يمين أم لا؟ فالأكثرون على أنه يحلف وتؤول على المدونة في قولها فهو مصدق، وقيل:

(2/220)

________________________________________

يحلف قاله عيسى.

وقال ابن مسلمة: يحلف إن اتهم واحتار بعض المتأخرين قول عيسى؛ لأن دعواها قد حققتها ولا يحتاج إلى التفصيل بين المتهم، وغيره.

واختلف هل الاستبراء بحيضة كاف أم لا؟ فالأكثر على أنه كاف قال ابن الحاجب، وانفراد المغيرة بثلاث حيض، ويحلف، قال ابن عبد السلام: وهو غير صحيح فإن ابن رشد ذكره عن عبد الملك عن مالك قائلاً، ويحلف كما قال.

قلت: عزاه اللخمي لعبد الملك في كتابة لا لروايته.

(ولا يجوز عتق من أحاط الدين بماله):

إنما لا يجوز ذلك لحق الغير؛ لأنهم لم يعاملوه على ذلك، ولا أعلم فيه خلافًا.

قال في المدونة في كتاب العتق الأول: ولا يحوز عتق من أحاط الدين بماله ولا صدقته، ولا هبته، ولو كانت الديون التي عليه إلى أجل بعيد إلا بإذن غرمائه، وأخذ منها شيخنا أبو مهدي رحمه الله أن من أحاط الدين بماله يجوز له أن يضحي؛ لأنه إنما نفى ما ذكر فقط ومن حيث المعنى أن الغرماء عاملوه على ذلك.

قال المغربي: وأخذ الشيوخ أن من عليه فوائت أنه لا يتنفل.

قلت: وأخذ التادلى مثله من قول الشيخ أبي محمد قائلاً: فإ، تنفل فقال ابن رشد في أجوبته أثم يترك الفرض وأثيب بفعل النوافل.

وقال المغربي: يجوز له أن يتنفل، ولا يحرم نفسه من الفضيلة.

قلت: ويرد هذا الأخذ الإجماع على أن رد مظالم الخلق في كل واجب فورا في كل آن آن، ولا كذلك في الفوائت لقول ابن رشد في البيان: وليس وقت ذكر المنسية بمضيق لا يجوز تأخيرها عنه بحال كغروب الشمس للعصر، ولقولهم: إن ذكرها مأمون تمادى، وكذلك الفذ عند ابن حبيب، ولقوله في آخر أجوبته إنما يؤمر بتعجيلها خوف معالجة الموت، فيجوز تأخيرها حيث يغلب على ظنه أداؤها.

واعلم أن رد الغرماء رد إيقاف على المشهور.

وقال ابن نافع: رد إبطال، واختلف قول مالك في قضاء من أحاط الدين بماله لبعض الغرماء دون بعض، وكذلك اختلف قوله في رهنه حينئذ.

(ومن أعتق بعض عبده استتم عليه):

ما ذكر الشيخ هو مذهبنا باتفاق، وذهب بعض العلماء على أنه لا يستتم عليه، ويريد الشيخ أن حكم عبد غيره كعبده.

(2/221)

________________________________________

وظاهر كلام الشيخ: أنه مذهبنا، وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يستتم عليه، ويريد الشيخ أن حكم عبد غيره كعبده وظاهر كلام الشيخ أنه يعتق عليه بالحكم لا بالسراية لقوله: استتم عليه، وهو كذلك فى إحدى الروايتين وكلتاهما نقلهما اللخمي قائلاً: والأحسن الأولى ثم قال: وهو الصحيح من المذهب.

وقال ابن رشد في أول رسم سماع يحيى بن القاسم: من أعتق نصف عبده في صحته فلم يرفع ذلك حتى مات المعتق لم يعتق منه إلا ما عتق في صحته، هذا هو مشهور المذهب.

وقيل: يكون حرا كله لسريان العتق في جميعه حكاه عبد الوهاب، ولو أعتق نصف عبده، وتصدق بنصفه على آخر فليقوم على المعتق، ويلزمه نصف قيمته للمتصدق عليه فإن مات المعتق أو أفلس قبل أن يستتم عليه عتقه فالمتصدق عليه أولى بنصيبه يسترقه وسواء تصدق عليه بنصفه قبل عتق النصف أو بعده فالقيمة تلزمه في الوجهين؛ لأنه رضي أن يكون شريكًا معه قاله مطرف، وابن الماجشون.

وقال ابن القاسم في العتبية وكتاب ابن سحنون: من قال لرجل في كلام واحد نصف عبدي صدقة على فلان ونصفه حر فالصدقة ثابتة، ويقوم عليه إن كان مليا، وإن بدأ بالعتق فهو حر كله.

(وإن كان لغيره معه فيه شركة قوم عليه نصيب شريكه بقيمته يوم يقام عليه وعتق):

ما ذكر أنه يقوم عليه لا أعلم فيه خلافًا، ووافقنا من خالفنا في الفرع الأول قالوا: لأن الموجب للتقويم على المعتق إنما هو إدخاله العيب في ملك غيره، وذلك مفقود في تبعيضه عتق عبده، وظاهر كلام الشيخ أنه يعتق عليه بالحكم وهو كذلك على المشهور، وكلاهما لمالك والقول المشهور هو قول التهذيب، ومن أعتق شقصًا له في عبد بإذن شريكه أو بغير إذنه وهو ملي قوم عليه نصيب صاحبه بقيمته يوما لقضاء وليس في الأم أو بغير إذنه لكنه أحروي ولا يوم القضاء إلا أنه مراده.

فإن قلت: هذا القول مشكل؛ لأن القاعدة في سائر المتلفات أن تكون قيمتها يوم الجناية قيل: لما كان الشريك بالخيار بين عتق نصيبه أو التقويم ناسب أن تكون القيمة يوم الحكم والله أعلم.

واختلف هل يقوم نصيب الشريك، وهو المشهور أو يقوم جميع العبد، وهو قول التونسي؟ في ذلك قولان.

(2/222)

________________________________________

واختلف إذا قال إذا مت فنصيبي حر، والأصح أنه لا تقويم فيه وهو نص المدونة قال فيها: وسواء كان له مال مأمون أم لا، ومثله مالك في المبسوط، ويشترط في التقويم عليه أن يكون هو المبتدئ لتبعيض العتق فلو كان بعضه حرا لم يقوم عليه، ولأجل هذا لو كانوا جماعة مشتركين في عبد فأعتق اثنان منهم متعاقبين فالتقويم لمن لم يعتق على المعتق الأول وحده، ولا تقويم على من بعده، وذكر سحنون عن ابن نافع أنه يقوم على الثاني، ولو أعتق اثنان معًا فإنه يقوم عليهما بلا خلاف واختلف هل ذلك على قدر حصصهما وهو مذهب المدونة وهو المشهور أو على عدد الرءوس قاله المغيرة وغيره، في ذلك قولان وممن قال بالقول الأخير خارج المذهب الشافعي رحمه الله.

قال ابن عبد السلام: وكأنه الأسبق إلى الذهب لأن التقويم يترتب على أقل الأجزاء.

قلت: ونظير هذه المسألة يأتي ذكره في الشفعة إن شاء الله تعالى، وفي المدونة في العتق الأول لابن القاسم: إن أعتق مسلم حظه من عبد مسلم أو كافر بينه وبين ذمي قوم عليه وإن أعتق نصراني حصته من مسلم بينه وبين مسلم قوم عليه قال ابن حارث اتفاقًا فيهما وإن أعتق نصراني بينه، وبين مسلم فقيل: إنه لا يقوم عليه قال ابن القاسم، وقيل: بل يقوم عليه قاله غيره، وكلاهما في المدونة، والغير هو أشهب.

قلت: قال بعض شيوخنا عزوه قول الغير لأشهب خلاف نقل الباجي فإنه عزا لأشهب قول ابن القاسم ولم يعز قول الغير.

واعلم أن قول ابن القاسم نوقض بقوله في الشفعة في دار بين مسلم وذمي فباع المسلم من مسلم أو ذمي نصيبه أن لشريكه الشفعة، ووجه المناقضة أن في كليهما ... ذميين تخللهما مسلم لغلب في الشفعة حكم الإسلام بخلاف ما هنا، ولو كان العبد مسلمًا لنصرانيين فأعتق أحدهما حصته ففي التقويم روايتان ذكرهما ابن شاس ولو أعتق أحدهما جنين الأمة فإنها لا تقوم عليه ولم يجعلوه كالجزء منها، وعارض الفاكهاني ذلك بقولهم من أعتق أمة، وهي حامل فإن جنينها يتبعها قالوا: لأنه كالعضو منها.

قلت: ويجاب بأن في عتقه الجنين بانفراده عتق شيء غير محقق يدل على ذلك قول مالك في المبسوط، وكتاب ابن شعبان تفرض للحامل النفقة، ولا تدفع إليها لاحتمال أن يكون ريحا فينفش وفي مسألة الأمة أعتق شيئًا محققًا فكان جنينها تبعًا لها كالعضو منها والله أعلم.

(2/223)

________________________________________

(فإن لم يوجد له مال بقي سهم الشريك رقيقا):

قال في العتق الأول من المدونة، ويباع في ذلك شوار بيته، والكسوة ذات البال ولا يترك إلا الكسوة التي لابد له منها، وعيشه الأيام وفي الواضحة المراد بالأيام الشهر، ونحوه.

وقال أشهب: يباع عليه كل ما يفضل عما يواريه لصلاته كذا عزاه الباجي.

قال بعض شيوخنا: ولا أعرفه عن أشهب لنقل غيره، وهذا الباب وباب المفلس واحد فكل ما قيل فيه فاطرده هنا ولو كان موسرا بالبعض سرى فيه.

واختلف إذا رضي الشريك باتباع ذمة المعسر هل له ذلك أم لا؟ على قولين، فقال ابن المواز: له ذلك، وقيل: ليس له ذلك قاله الغير في كتاب أمهات الأولاد من المدونة.

قال اللخمي: وهو أحسن قال ابن يونس، وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم، وعزا الباجي الأول لرواية محمد لا لقوله، والثاني لابن القاسم، ولو كان المعتق لبعض العبد مريضًا فإنه يقوم عليه نصيب شريكه من الثلث فقط.

واختلف هل يقوم عليه الآن أم لا؟ فقيل: كذلك إلا أنه لا يعتق عليه إلا بعد الموت، وعلى هذا حمل المدونة غير واحد، وهو منصوص عليه في كتاب محمد، وقيل: إنه لا ينظر فيه إلا بعد الموت، وقيل بالأول: إن كان له مال مأمون وبالثاني: إن لم يكن له ذلك.

(ومن مثل بعبده مثلة بينة من قطع جارحة ونحوه عتق عليه):

اعلم أنه أخذ من ههنا ثبوت العقوبة بالمال وهو أخذ ضعيف لحرمة الآدمي فإن قلت: هو ضعيف أيضًا بالنسبة إلى نقل المذهب لأن المنقول فيه اشترط يسارته ولو صح هذا الأخذ لزم ولو كان كثيراً ولا أعرفه في المذهب.

قلت: بل هو معروف في المذهب، ويتحصل في ذلك أربعة أقوال، حكاها ابن سهل فقيل: ما ذكرتم من اشتراط اليسارة، وهو قول ابن القاسم مقيدا به سماعه، وقيل: يجوز للأدب ولو كان كثيرًا كالملاحف الرديئة النسخ فإنها تحرق بالنار قاله ابن القطان، وأفتى ابن عتاب بذلك في أعمال الخرازين إذا غشوا فيها.

وقيل: تقطع الملاحف خرقًا خرقًا وتعطي للمساكين إذا تقدم إلى أهلها قاله ابن عتاب.

(2/224)

________________________________________

وقيل: لا يحل الأدب في مال مسلم قاله ابن القطان في الخبز المغشوش أو الناقص.

قال ابن سهل: وهذا تناقض منه بقوله في الملاحف.

قلت: وكذلك ابن عتاب يتناقض قوله في الملاحف مع قوله في أعمال الخرازين.

واعلم أن هذا الخلاف إنما هو في نفس المغشوش هل يصح الأدب به أم لا؟، وأما لو زنا رجل مثلاً فإنه لا قائل فيما قد علمت أنه يؤدب بالمال، وما يفعله الولاة من ذلك فجور لا شك فيه، والمشهور أن العمد كاف، وإن لم يقصد المثلة، وهو ظاهر المدونة لقولها: إنما يعتق بما تعمد، ونقل اللخمي عن عيسى بن دينار اشتراط تعمد المثلة وهو صحيح؛ لأن الغالب شفقة الإنسان على ماله، وعلى الأول فالقول للسيد أنه لم يتعمد على الأصح، وكلاهما لسحنون، وظاهر كلام الشيخ، وإن كان الفعال بعبده ذلك سفيها، وهو كذلك عند ابن القاسم في أحد قوليه ذكرهما في الموازية، وبه قال ابن وهب، وأشهب وصوبه بعض المتأخرين؛ لأن العتق بالمثلة شبيه بالحدود والعقوبات.

وإذا قلنا بهذا القول فهل يتبعه ماله؟ فقال ابن القاسم: لا يتبعه واستقرئ لأشهب أنه يتبعه، ومثلة الصبي والمجنون لغو اتفاقًا، وظاهر كلام الشيخ أيضًا ولو كان الممثل ذميا وعبده ذميا، وهو كذلك عند أشهب وقيل: لا يعتق عليه قاله ابن القاسم، واختاره أصبغ، واختار ابن حبيب الأول.

واختلف في مثلة العبد بعبده والمديان على قولين، ويمكن أن يقوم من كلام الشيخ أن الزوج إذا مثل بزوجته أنها تطلق عليه، وهو قول مالك في العتبية.

وقال في المبسوط بطلقة بائنة مخالفة أن يعود إليها بمثل ذلك.

وذكر ابن رشد مثلة الزوج بزوجته وبيعه لها وانكاحه إياها، وقال: إنها في المعنى واحد فيتخرج من بعضها الخلاف في بقيتها فحصل في كل مسألة منها ثلاثة أقوال: طلاق الثلاث وواحدة بائنة وعدم الطلاق ولا شك أن قطع عضو مثلة، كما قال الشيخ.

واختلف في السن الواحدة فقيل: إنها مثلة قاله ابن القاسم، ومطرف وابن الماجشون، وقيل: لا، قاله أصبغ وكلا القولين نقلهما ابن يونس، وأما حلق رأس الأمة ولحية العبد فإن كان العبد تاجرا والأمة رفيعة فقال ابن الماجشون: يعتقان، وقال مطرف في الثمانية لا يعتقان، ولم يحفظه الفاكهاني بل قال: هو ظاهر كلام المؤلف لوصفه المثلة بكونها بينة مع قوله من قطع جارحة، ونحوه.

(2/225)

________________________________________

وأما غير التاجر والرفيعة فليس فيه شيء بلا خلاف ولا يعتق إلا بالحكم في المثلة عند ابن القاسم، وقيل: بنفس المثلة عند أشهب.

قال التادلي: وهو ظاهر كلام الشيخ: وفرق ابن عبد الحكم بين غير الواضح فالأول وبين الواضح فالثاني.

(ومن ملك أبويه أو أحد من ولده ولده أو ولد بناته أو جده أو جدته أو أخاه لأم أو لأب أولهما جميعا عتق عليه):

ما ذكر الشيخ هو قول مالك في المدونة، وهي أول مسألة من كتاب العتق الثاني، وهو المشهور، وقيل بإسقاط الأخوة قاله مالك من رواية ابن خويز منداد، وقيل: كل ذي رحم محرم يعتق عليه رواه ابن القصار عن مالك وبه قال ابن وهب وكل الأقوال ذكرها اللخمي، وأخذ الثاني من قول المدونة في كتاب المكاتب: من اشترى أباه بإذن سيده دخل معه في كتابته، ومن اشترى أخاه بإذنه لم يدخل ورده بعض شيوخنا بأن ملك الحر أقوى من ملك المكاتب، وكان في ذكر أشار إليه ابن عبد النسلام بقوله في استقرائه نظر ولولا الإطالة لذكرناه واختار اللخمي الثالث لما رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ملك ذا رحم محرم فقد عتق" وذكر ابن الجلاب قولاً بزيادة العم على ما في المدونة وعزاه لابن وهب فيتحصل في المسألة أربعة أقوال، وفي كتاب العتق الأول من المدونة، قال مالك: ومن ابتاع أباه وعليه دين يغترقه لم يعتق عليه، وإن اشتراه وليس عنده إلا بعض ثمنه قال مالك يرد البيع، وقال ابن القاسم: بل يباع منه بقدر الثمن يعتق ما بقي، وقال غيره: لا يجوز في السنة أن يملك أباه إلا إلى عتق فإذا كان عليه دين يرده صار خلاف السنة أن يملكه فيباع في دينه ويقضي غرماؤه.

قال عياض: واختلف هل قولاً مالك سواء في المسألة وإن مضى لم يعتق عليه في الأولى كقوله يرد البيع في الثانية قاله القابسي، أبوهما مختلفان ولا يرد البيع في الأولى ويباع في الدين بخلاف الثانية قاله أبو محمد بن أبي زيد.

والصحيح الأول لأن المسألة جاءت مبينة في سماع يحيى بن القاسم مما لا يحتاج إلى تفسير وقول الغير وهو المغيرة حجة لمالك ولذلك أدخله سحنون.

واختلف هل يكون القريب حرًا بنفس الملك ولا يحتاج إلى حكم أو لابد منه، أو يفرق بين الأبوين والإخوة، قاله اللخمي.

قال ابن عبد السلام: وهو حسن لضعف الخلاف في الآباء وقوته في الإخوة

(2/226)

________________________________________

وأشار اللخمي إلى تخريج الخلاف في جواز انتزاع ماله إذا فرعنا على القول بافتقاره إلى الحكم من الخلاف في انتزاع مال المعتق إلى أجل إذا قرب الأجل وقد منع منه في المشهور، وأجازة ابن نافع.

قال ابن عبد السلام: والأقرب عندي أن مال القريب لا ينتزع؛ لأن القاضي إذا عثر عليه يعتقه، ولا ينظر به ساعة والمعتق إلى أجل يؤخره إلى أجله، وأيضًا فقد كان ماله مباحا قبل ثبوت عقد الحرية له وبعده فالأصل دوام ذلك الحكم إلى الغاية التي يجوز له الاستخدام فيها.

(ومن أعتق حاملا كان جنينها حرًا معها):

قال عبد الوهاب: هذا لما ذكرناه إن كان ولد حدث من غير ملك من تزويج أو زنى فإنه تابع لأمه في الحرية والعبودية وإنه لا يوجد في الأصول حرة حاملا بعبد، وإنما يوجد أمة حامل بحر فوجب ما قاله أبو محمد يعتق بعتقها؛ لأن الحرية مثبتة، وهو في بطنها إذ هو عضو من أعضائها.

قال الفاكهاني: قول القاضي إنما توجد أمه حامل بحر، وهذا في أربع مسائل:

الأولى: إذا وطئ أمته المرهونة، وكان عديما.

الثانية: إذا وطئها السيد بعد علمه بالجناية، وهو عديم، فإنها تسلم للمجني عليه،

الثالثة: أمة المفلس إذا وقفت للبيع ووطئها فحملت.

الرابعة الابن يطأ أمة من تركه أبيه وعلى الأب دين يغترق التركة والابن عديم، وهو عالم بالدين حالة وطئها فهذه الأربع لا أعلم لها خامسًا فمن وجد شيئًا من ذلك

(2/227)

________________________________________

فليضفه إليها راجيا ثواب الله الجزيل.

قلت: بقي عليه رحمه الله تعالى مسألتان:

الأولى: أمة الشريكين يطؤها أحدهما وهو معسر.

والثانية: إذا وطئ العامل أمة القراض فحملت وكان معسرا، وما قاله عبد الوهاب من أنه لا يوجد في الأصول حرة حامل بعبد وتسليم الفاكهاني له ذلك فيه نظر لقول خليل إن قلت: كيف يتصور عكس هذا بأن يكون العبد في بطن الحرة قيل نعم، وذلك إذا وطئ العبد جاريته وحملت وأعتقها ولم يعلم السيد بعتقه حتى أعتقه فإن عتق العبد ماض وتكون حرة والولد الذي في بطنها رقيق؛ لأنه للسيد وقبله شيخنا أبو مهدي رحمه الله قائلاً: وهو المذهب ومحمله على أن الولد وضعته قبل عتق السيد، وأما لو لكان في بطن أمة حين العتق فإنه يتبع أمه والله أعلم.

(ولا يعتق في الرقاب الواجبة من فيه معنى من عتق بتدبير أو كتابة أو غيرهما ولا أعمى ولا أقطع اليد وشبهه ولا من على غير الإسلام):

وقد تقدم ما في ذلك في باب الأيمان والظهار فأغني عن إعادته.

(ولا يجوز عتق الصبي ولا المولى عليه):

قال عبد الوهاب: لأن الصبي ليس من أهل التكليف فلم يصح عتقه كالمجنون، ولأن القلم مرفوع عنه فلم يكن لقوله حكم المغلوب؛ لأنه لما لم يصح طلاقه لم يصح عتقه كالنائم، وناقشه الفاكهاني فقال: قوله: كالمجنون فيه نظر لجواز وصيته، ومن شرط الوصية التمييز بلا خلاف أعلمه والمجنون لا تمييز عنده فليس كالمجنون، والأصل المقيس عليه علته معدومة في الفرع وقوله لأن القلم مرفوع عنه إنما رفع عنه قلم المؤاخذة لا قلم القربات بدليل أنه إذا أسلم اعتبر إسلامه ولو ارتد لم يقتل ويدل على ما نقوله قوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: ألهذا حج؟ قال: " نعم، ولك أجر".

واختلف المذهب إذا أعتق المولى عليه أم ولده، والمشهور أنه يمضي ورده المغيرة وابن نافع، وعلى الأول فهل يتبعها مالها أم لا؟ اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: فقيل: يتبعها مطلقاً، رواه أشهب، وعكسه رواه يحيى عن ابن القاسم، وقيل: إن كان يسيرا تبعها وإلا فلا قاله أصبغ، والمذهب لزوم الطلاق لأنه مكلف، وهو نص كتاب المديان من المدونة.

(2/228)

________________________________________

وقال المازري: مال بعض المحققين إلى الوقف في لزومه من تعليل المغيرة رد عتقه أم ولده بأنه يدخل عليه نقصًا في ماله لاحتياجه لتزويج أو تسر ويرد بأن في عتق أم الولد تفويت أمر مالي وهو ما يعرض من أرش جناية عليها فأشبهت الأمر المالي حقيقة.

قلت: وأجابه بعض شيوخنا بأن العصمة معروضة للخلع كالأرش في أم الولد، وقصر شيخنا أبو مهدي ما قاله المازري مفرقًا بأن الخلع ليس عوضه أمر ماليا حقيقة بخلاف الأرش.

قلت: وقول خليل خرج بعضهم على قول المغيرة عدم لزوم طلاقه كقول ابن أبي ليلى، ورده بنقل المازري غلط، وإنما المنقول في نقل المازري الوقف خاصة، ويلزم الصبي ما أفسد أو كسر مما لم يؤتمن عليه باتفاق، وما عومل عليه لا خلاف أنه لا يضمنه، وفيما اؤتمن عليه قولان، وبسط هذا يأتي في الغصب إن شاء الله تعالى.

(والولاء لمن أعتق):

الأصل في هذا ما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت أهلى على تسع أوراق في كل عام أوقية فأعينيني فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة وأعتقك فعلت، ويكون ولاؤك لي فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها فقالت: إني عرضت عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته فقال: " خذيها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق" فقالت عائشة رضي الله عنها قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله تعالى وأثني عليه فقال: " أما بعد ... فما بال رجال منكم يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله فأيما شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق إنما الولاء لمن أعتق، ما بال رجال منكم يقولون: أعتق يا فلان والولاء لي إنما الولاء لمن أعتق".

وفي الصحيح من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهي عن بيع الولاء وهبته" وحده بعض شيوخنا فقال: هو لمن ثبت العتق عنه، ولو بعوض، أو بغير إذنه ما لم يمنع مانع.

(2/229)

________________________________________

(ولا يجوز بيعه، ولا هبته):

ما ذكره صحيح لا أعلم فيه خلافًا لنهيه عليه السلام عن ذلك.

(ومن أعتق عبدًا عن رجل فالولاء للرجل):

ظاهر كلام الشيخ سواء بإذنه أو بغير إذنه وهو كذلك في القول المشهور، وقول أشهب: الولاء للمعتق، وقاله الليث والأوزاعي وسواء في قوله أمره بذلك أو لم يأمره نقله ابن عبد البر.

(2/230)

________________________________________

(ولا يكون الولاء لمن أسلم على يديه، وهو للمسلمين، وولاء ما أعتقت المرأة لها وولاء من يجر من ولد أو عبد أعتقته ولا ترث ما أعتق غيرها من أب أو ابن أو زوج أو غيره):

وما ذكر الشيخ هو مذهبنا وبه قال الشافعي وأحمد وغيرهما لحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم وقد ورد بصيغة إنما المقتضية للحصر وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: جعل الله إسلامه على يديه موالاة وجعل لمن لا ولاء عليه لشيء أن يوالى من شاء، وهو قول عمر بن عبد العزيز والليث وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أسلم على يدي رجل فله ولاؤه" قال ابن عبد السلام: فإن صح هذا الحديث وجب العمل عليه؛ لأنه خاص وحديث بريرة عام ومذهب أبي حنيفة في الموالاة قريب من هذا إلا أنه أجاز له نقل الموالاة.

(وميراث السائبة لجماعة المسلمين):

يعني: إذا قال لعبده: أنت سائبة يريد بذلك العتق فإن الولاء للمسلمين، وما ذكره هو المشهور، وقيل: إن الولاء لربه. قاله ابن الماجشون، وابن نافع، وابن عبد الحكم، ورواه ابن وهب كذا عزاه عياض، وكذلك الخلاف إذا قال: عبدي حر عن المسلمين، ولم يتعرض الشيخ رحمه الله تعالى للتكلم على حكم ما ذكره ابتداء.

وفي ذلك ثلاثة أقوال: الجواز لأصبغ والكراهة لابن القاسم، والمنع لابن الماجشون كذا عزاها ابن رشد وعزا الباجي لسحنون مثل قول أصبغ ولم يحك اللخمي إلا الكراهة لمالك وابن القاسم والجواز لغيرهما.

قال ابن عبد السلام: والأقرب الكراهة وأكثر الناس على أن السائبة المنهي عنها في القرآن إنما هي في الأنعام.

واختلف إذا كان للكافر عبد مسلم فلم يرفع أمره للقاضي حتى أعتقه فقيل: إن ولاؤه للمسلمين لا يرجع للمعتق سواء بقي على كفره أو أسلم، وهو المشهور في المذهب وخالف فيه أكثر العلماء خارج المذهب ورأوا أن الولاء لمن أعتق، وأنه يرجع إليه إذا أسلم، واختاره أبو عمر بن عبد البر.

وقال اللخمي: أنه القياس؛ لأن العتق موجب للولاء الذي هو لحمة كلحمة النسب كما جاء في الحديث فكما أن الكفر لا يبطل النسب فكذلك لا يبطل الولاء

(2/231)

________________________________________

ويتوقف بعد ذلك على شرط اتفاق المدنيين فمتى حصل ذلك الشرط تم الحكم وهو وجوب الميراث.

(والولاء للأقعد من عصبة الميت الأول فإن ترك ابنين فورثا ولاء مولي لأبيهما ثم مات أحدهما وترك بنين رجع الولاء إلى أخيه دون بنيه وإن مات واحد وترك ولدًا أو مات أخوه وترك ولدين فالولاء بين الثلاثة أثلاثًا):

اعلم أن المعتق وابنه أقوى من الأب فلا شيء للأب مع وجود أحدهما والأخ الشقيق أو للأب وأبناؤها مقدمون على الجد، وهو مقدم على العم وابنه والولاء كالعصوبة في عدمها.

قال ابن الحاجب: كالمدونة وغيرهما فيفيد عن عدمها الميراث، وولاية النكاح وحمله العاقلة.

قال ابن عبد السلام: لا يقتصر بإفادته على هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرها بل كل موضع للعصبة فيه مدخل كصلاة الجنازة وغسل الميت، وربما لا يشترط عدم العصبة في بعض مسائل النكاح.

قلت: قال بعض شيوخنا: يلزم على قوله أن يكون للمعتق القيام بقذف معتقه وهو يعيد والحق في ذلك اتباع النصوص والله سبحانه الموفق للصواب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن

والعارية والوديعة واللقطة والغصب

قال عياض رحمه الله: هي بتسكين الفاء.

قلت: وحكي بعض فضلاء أصحابنا عن النووي فيها الضم قال عياض: وأصل ذلك من الشفع، وهو ضد الوتر؛ لأن الشفيع يضم الحصة التي يأخذها إلى حصته فتصير حصته حصتين. وقيل: من الزيادة؛ لأنه يزيد مال شريكه إلى ماله وهو يقرب من الأول.

وقيل: من الشفاعة؛ لأنه يشفع نصيبه إلى نصيب صاحبه.

وقيل: كانوا في الجاهلية إذا باع الرجل حصته جاء المجاور شافعًا إلى المشتري ليوليه ما اشتراه.

وحقيقتها في الاصطلاح وقال ابن الحاجب: الشفعة أخذ الشفيع حصة شريكه جبرًا بشراء، واعترضه ابن هارون بأنه غير مانع؛ لأنه يقتضي وجوب الشفعة في العروض وهى لا شفعة فيها. قال بعض شيوخنا لا يخفي سقوط ما اعترض به لذي فهم.

(2/232)

________________________________________

قال ابن عبد السلام: نقض عليه بأخذ أحد الشريكين مشتركًا بينهما لا ينقسم بما وقف عليه بثمن إذا دعا أحدهما إلى بيعه. وقال: وجوابه بأن المأخوذ هو كل المشترك لاحظ الشريك ليس بقوي.

قال خليل: وأحسن من هذا الجواب أن يقال: لا نسلم أنه يأخذه أحدهما جبراً بل اختياراً من صاحبه إذ له أن يزيد فوق ما أعطى شريكه بخلاف الشفيع فإنه يأخذ الحصة بمصل الثمن من غير زيادة.

قلت: واعترضه بعض شيوخنا أيضًا بأن حده إنما يتناول أخذها لا ماهيتها وهو غير آخذها لأنها معروضة له ولنقيضه وهو تركها، والمعروض لشيئين متناقضين ليس عين أحدهما وإلا اجتمع عليه النقيضان وحدها بأن قأل: هي استحقاق شريك أخذ مبيع شريك بثمنه.

(وإنما الشفعة في المشاع ولا شفعة فيما قد قسم ولا لجار ولا في طريق ولا عرصة دار قد قسمت بيوتها):

يريد في غير العروض، وما أشبهها حسبما يأتي إن شاء الله تعالى، واختلف في الشفعة هل هي معللة أم لا؟ فقيل: إنما غير معللة بل هي عبادة نقله ابن العربي عن إمام الحرمين وقيل: معللة بضرر من الشريك الذي أدخله البائع قاله ابن رشد في أجوبته قائلاً: أجمع عليه أهل العلم.

واعترضه بعض شيوخنا بأن في نقله تنافيا لقوله في مقدماته في كونها لضرر الشركة أو للقسم قولان للمتأخرين.

واختلف هل في المناقلة شفعة أم لا؟ وهي بيع شقص بعقار على أربعة أقوال: فقيل: بثبوت الشفعة فيها كغيرها قاله مالك، وابن القاسم، وقيل: لا حكاه ابن الجلاب، قال خليل: ولم أره، ولعل صاحبه رأى أنه من باب المعروف، وقيل: إن علم القصد بالمسكن فلا شفعة، وإلا وجبت قاله مالك أولا ثم رجع إلى ما تقدم.

وقيل: إن ناقل بحصته حصة بعض شركائه فلا شفعة ذكره ابن الحاجب وذكر الأربعة الأقوال ولم يذكره المغربي إلا تقييدًا وذلك أنه قال: إن مطرفًا وابن الماجشون قالا: إن المناقلة التي قال فيها مالك لا شفعة إنما هي إذا باع شقصه من شريكه بشقص له فيه شرك، ويكون كل واحد إنما أراد التوسعة في حصته بما صار إليه وكذلك ذكره اللخمي وابن رشد، وغيرهما.

قال خليل الله: ولعل ما نقلاه عن مالك بنفي الشفعة هو القول الثاني، قال

(2/233)

________________________________________

ابن حارث: واختلف في الشفعة في الكراء، قال ابن القاسم: إن اكتري رجلان دارًا أو أرضًا ثم اكتري أحدهما حصة فلا شفعة لشريكه، وقاله سحنون، وقال ابن القاسم في المستخرجة له الشفعة، وقاله أشهب، وقال: وكذلك لو اكترى أحد الشريكين في دار حظه منها فلشريكه الشفعة.

قال ابن رشد: إنما وقع اختلاف قول مالك في الكراء في الواضحة، وبقوله بالشفعة فيه قال ابن الماجشون، وابن عبد الحكم وبنفيها فيه قال ابن القاسم، ومطرف وأصبغ وابن حبيب.

قال ابن المواز: ولو كان الأصل لواحد فأكرى نصفه مشاعا ثم أكري المكتري لغيره فلرب الأصل الشفعة.

(ولا في فحل نخل أو بئر إذا قسمت النخل أو الأرض):

قال ابن رشد: وقيل إن الشفعة في الأصول ثابته، وإن لم تنقسم وقيل: تقصر على ما يحكم بقسمته، وقيل: تقصر على ما ينقسم، وإن لم يحكم بقسمته.

قلت: وإلى هذا يرجع اختلافهم في هذا الأصل، وسأذكر بعضه على طريق الاستئناس، وقال الشيخ أبو محمد عن محمد بن المواز لم يختلف مالك وأصحابه أن الشفعة في الحمام.

وقال ابن الماجشون في غير الموازية أبي مالك من الشفعة في الحمام؛ لأنه لم ينقسم إلا بتحويله عن كونه حمامًا، وأنا أرى فيه الشفعة.

قال بعض شيوخنا: وما ذكر عن ابن الماجشون: هو خلاف نقل اللخمي عنه،

(2/234)

________________________________________

قال رواية المدونة في الحمام الشفعة، وقال ابن الماجشون: لا شفعة فيه هو خلاف قوله في النخلة والشجرة الشفعة.

قال ابن عبد السلام: وفي المدونة ما يدل على القولين قال غيره، وبعدم الشفعة قال ابن القاسم ومطرف، وبالشفعة قال أشهب وابن الماجشون وأصبغ، وقال صاحب الوجيز وعدم الشفعة هو المشهور.

وقال صاحب المعين: وبه القضاء، وأفتى فقهاء قرطبة به لما جمعهم القاضي منذر بن سعيد إذ كان به القضاء عندهم فرفع الشفيع أمره إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد، وقال: حكم عبى بقول غير مالك فوقع بخط يده إلى القاضي أن يحمله على قول مالك ويقضي له به فجمع القاضي منذر بن سعيد الفقهاء وشاورهم فقالوا: مالك يرى الشفعة في الحمام فقضي منذر بن سعيد بذلك وحكم بها.

قلت: وقيل هذا غير واحد كخليل واستشكل شيخنا أبو مهدي رحمه الله نقض حكم نفسه مع كونه حكم بما عليه العمل وأجاب باحتمال أن يكون إنما حكم به لكونه معتقدا أنه قول مالك فلما أخبر بخلافه ولم يخفظوا له غيره على ظاهر ما تقدم حكم بنقض الأول لا لغير ذلك؛ لأنه كان لا يخالف في الله لومة لائم حسبما هو مذكور في محله.

قال ابن حارث: واختلف في الشفعة في الأندر فقال أشهب وابن نافع في سماع عبد الملك فيه الشفعة، وفي سماع سحنون لا شفعة فيه يعني في الأندر، ولا في الأفنية.

واختلف في حجر رحا الماء إن بيعت على ثلاثة أقوال: ففي المدونة لا شفعة فيها، وقال ابن القاسم وأشهب في كتاب ابن سحنون فيه الشفعة، وقيل: الشفعة في الحجر السفلي دون الأعلى قاله عبد الحق وبعض شيوخه، قال عياض: وأشار الباجي إلى أن الخلاف في حجر رحا دون محلها وأشار التونسي إلى أن الخلاف فيهما.

(ولا شفعة إلا في الأرض وما يتصل بها من البناء والشجر):

ظاهر كلام الشيخ أن الثمرة لا شفعة فيها وهو كذلك عن ابن الماجشون وسواء بيعت مع الأصل أو دونه والشفيع شريك في الأصل أم لا؟

وقيل: إن الشفعة فيها ثابتة قاله مالك في المدونة قائلاً: ما علمت أحدا من أهل العلم قاله قبلي ولكني استحسنته، وقيل: إن بيعت مع الأصل ففيها الشفعة وإلا فلا قاله أشهب وهذه الأقوال الثلاثة ذكرها غير واحد وكذلك استحسن مالك في الشفعة في نقض الحبس.

(2/235)

________________________________________

قال في المدونة: وإذا بنى قوم في دار حبست عليهم ثم مات أحدهم فأراد ورثته بيع نصيبه من البناء فلإخوته فيه الشفعة، وهي شيء استحسنته وما سمعت فيه شيئًا وخارج المدونة قول لابن المواز بأنه لا شفعة في ذلك.

واعم أن مالكاً لم يقل بالاستحسان إلا في خمس مسائل هاتان وقول قسمتها إذا أوصت الأم بالصبي ولمالها فإن كان يسيرا نحو ستين دينار فلا ينتزع من الصبي استحسنه مالك وليس بقياس والقصاص بالشاهد واليمين في كل أنملة من الإبهامين خمس من الإبل.

وسمعت شيخنا أبا مهدي عيسى رحمه الله تعالى ينقل عن أبي بكر عن العربي أنه قال في كتابه المسمى بالمحصول في أصول الفقه: أنكر الشافعي وأصحابه الاستحسان وكفروا أبا حنيفة في القول به تارة، وبدعوه تارة وبه قال مالك ولم يكن في أصحابه شديد عارضة يبرزه إلى الوجود، وقد تتبعناه في مذهبنا فألفيناه ينقسم إلى أربعة أقسام:

الأول: ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف.

الثاني: ترك الدليل لمصلحة كتضمين الصناع، والدليل يقتضي ائتمانهم.

الثالث: ترك الدليل لإجماع الصحابة كإيجاب القيمة على من قطع ذنب بغلة القاضي.

الرابع: ترك الدليل في اليسير ورفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق بجواز التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة وإجازة بيع وصرف في اليسير.

قال أبو محمد وغيره قال ابن المواز: لو ساقي أحد الشريكين في النخل حظه منها فقال أشهب: لا شفعة لشريكه في ذلك، وأظن أن ابن القاسم يرى له الشفعة وجدته في كتاب، ولا أدري ممن سمعته.

وظاهر كلام الشيخ أنه لا شفعة في العروض وهو كذلك باتفاق عند أهل العلم ولذلك أنكروا نقل الإسفراييني من الشافعية عن مالك وجوب الشفعة فيها وفي الحيوان وقد أكثر الشيوخ الاعتذار عنه وكذلك حكي بعض الحنفية عن مالك وجوب الشفعة في السفن؛ لأنها تشبه الرباع.

قال ابن عبد السالم: وهو لا يصح نعم الشفعة في رقيق الحائط ودوايه عند أهل المذهب على أن بعض الشيوخ خرج من ذلك خلافًا كثيراً، وكذلك لا شفعة في الممر ومسيل الماء.

قال ابن عبد السلام: ولا يبعد تخريج الخلاف فيهما من الخلاف في النخلة

(2/236)

________________________________________

الواحدة وشبهها، وكذلك لا شفعة في الدين باتفاق، واختلف هل يكون المديان أحق به أم لا؟ فقال ابن القاسم: لا يكون أحق به، وقيل: هو أحق به للضرر الذي يدخل عليه فيأخذه بقيمة العرض إن كان الثمن عرضا، وبعدده إن كان عينا، والقولان حكاهما ابن حارث رحمه الله تعالى.

(ولا شفعة للحاضر بعد السنة):

اختلف المذهب هل تسقط الشفعة بنفس الشراء إذا كان الشفيع حاضرا عالما بالبيع أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقيل: تسقط به قاله ابن وهب في كتاب ابن شعبان، وقيل: هو على شفعته أبدًا ما لم يوقف قاله مالك والأبهري.

وقيل: إنها تسقط بمضي مدة طويلة وعلى الثالث فاختلف في منتهي المدة على تسعة أقوال:

فروى أشهب، وقال به: إن مضيت سنة فلا شفعة له، وهو مذهب الشيخ رحمه الله.

وقيل: لا يكفي ذلك بل حتى يمضي مع ذلك أكثر من شهرين نقله المتيطي عن ابن الهندي ونحوه لابن فتوح غير معزو وكأنه المذهب وحكى الصدفي يسقطها ما زاد على ثلاثة أشهر.

وقال ابن سهل: بل على أربعة أشهر، وقال أصبغ: وهو على شفعته الثلاث سنين ونحوها قيل له بأكثر من ذلك قال: ليس هذا طولا ما لم يحدث المشتري بناء، وقيل: تثبت للحاضر إلى أربعين سنة قاله ابن الماجشون. ثم رجع إلى عشر سنين وكلاهما حكاه ابن رشد في مقدماته عن أحمد بن المعذل.

وروي عن أبي عمران أنه يسقطها ثلاثون سنة وعن بعضهم خمسة عشرة سنة فيتحصل في ذلك أحد عشر قولا، وهذه المسألة إحدي المسائل الستة، وهي إحدى وعشرون مسألة وقد ذكرتها في اللقطة حسبما تقف عليه عن قريب إن شاء الله تعالى.

وتسقط الشفعة بالمغارسة والسكوت وهو يبنى ويهدم ويغرس، واختلف في المساومة والمساقاة والاستئجار والمشهور أنها مسقطة خلافًا لأشهب والمعبر في إسقاط الشفعة أن تكون بعد الشراء، وأما قبله فكالعدم على المنصوص؛ لأنه إسقاط للشيء قبل محله.

وخرج اللخمي اعتباره من قوله في المدونة إن اشتريت عبد فلان فهو حر، وإن تزوجت فلانة فهي طالق، ومن جعل لزوجته الخيار إن تزوج عليها فأسقطت ذلك الخيار قبل أن يتزوج عليه قائلاً: وهو في الشفعة أبين؛ لأنه أدخل المشتري في عهدة

(2/237)

________________________________________

الشراء فهو كهبة قارنت البيع.

وفي أجوبة ابن رشد: الفرق بين قوله: وإن تزوجت فلانة فهي طالق وإن اشترى فلان شقص كذا فقد أسقطت عنه الشفعة إن الطلاق حق لله تعالى لا يملك المطلق رده إن وقع لو رضيت المرأة برده إذا ليس بحق لها، وإسقاط الشفعة إنما هو حق له لا لله يصح له الرجوع فيه برضى المشتري فلا يلزم إلا بعد وجوبه، وذكر ابن بزيزة القولين منصوصين قال: وهما جاريان على لزوم الوفاء بالوعد قال خليل: وقد يقال: هما على الخلاف فيما جر سببه دون شرطه أن الشركة سبب والبيع شرط.

(والغائب على شفعته وإن طالت غيبته):

ما ذكر مثله في المدونة قال فيها: الغائب على شفعته، وإن طالت غيبته، وهو عالم بالشراء وإن لم يعلم بذلك أحرى.

قال ابن عبد السلام: لو قيل: العالم بالشفعة في غيبته لا يوسع له في الأجل إذا قدم له لكان له وجه، وهذا كله في الغيبة البعيدة، وأما ما قرب ولا ضرورة في الشخوص إليه على الشفيع فهو فيه كالحاضر، ونص عليه أشهب.

قال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: المريض الحاضر والصغير والكبير كالغائب، ولهم بعد زوال العذر ما للحاضر سواء علم المريض والغائب بالشفعة أم لا!!

وقال أصبغ: المريض كالصحيح إلا أن يشهد في مرضه وقت الشفعة إنه على شفعته، وإن تركه التوكل عجز عنه وإلا فلا شيء له، ولما ذكر الباجي قول أشهب في إشهاد المريض، وقال: وهذا يقتضي أن الغائب إنما يبقي على شفعته إن لم يعلم فإن علم فإنه يقدر على شهادة بأخذ بالشفعة فإن لم يفعل فحكمه حكم الحاضر.

(وعهدة الشفيع على المشتري):

قال بعضهم: ظاهر كلامه سواء دفع الشفيع الثمن للمشتري أو للبائع أنها على

(2/238)

________________________________________

المشتري وقبله الفاكهاني.

(ويوقف الشفيع فإما أخذ أو ترك):

ما ذكر الشيخ هو المشهور والمعمول به قال المتيطي وابن رشد ووجهه قياسًا على قول مالك في الولي أنه لا يؤخر حتى بنظر قاله ابن رشد، وقيل: أنه يمهل ثلاثة أيام عزاه ابن رشد لابن عبد الحكم قياسًا على المرتد وحديث المصراة، وعزاه ابن يونس واللخمي والباجي لروايته لا لقوله.

قال اللخمي: وهو أحسن إن أوقفه بنفس شرائه؛ لأنه إذا كان لا بنفس شرائه فقد تربص، وأمهل، ونظير هذه المسألة ما في ثالث نكاح المدونة وفي المجوسيين يسلم الزوج فيعرض عليها الإسلام أنه يفرق بينهما إن لم تسلم ولو تؤخر ونظيره أيضًا المملكة يوقفها السلطان فلا يؤخرها وهاتان النظيرتان ذكرهما ابن رشد قائلاً: لا يبعد دخول الخلاف في هذه المسائل كلها، والأصل في هذا المعنى قوله تعالى (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) [هود: 65].

واختلف المذهب إذا طلب أن يؤخر أيامًا ليأتي بالثمن على أربعة أقوال: فقيل: يؤخر ثلاثة أيام قاله في المدونة.

ونقل الباجي عن ابن الماجشون انه يمهل عشرة أيام ونحوها.

قال أصبغ: بقدر قلة المال، وكثرته وعسره ويسره وأقصاه شهر فلا أدري ما وراء ذلك، وقال اللخمي: الشهر كثير للموسر.

(ولا توهب الشفعة ولا تباع):

يريد لغير المشتري قاله المشتري قاله الفاكهاني واختلف إذا أخذ بالشفعة ليبيع على قولين.

(وتقسم بين الشركاء بقدر الأنصباء):

ما ذكر هو المنصوص والمشهور، وخرج اللخمي قولاً باعتبار العدد من قول عبد الملك في المعتقين وحصصهم متفاوتة أن التقويم عليه بالسواء وكأنه رجحه، وحكى الفاكهاني نصا لعبد الملك ولا أعرفه قال خليل: وقد يقال في هذا التخريج نظر إذ لا شك أن العلة هنا الضرر ومتى كثر النصيب كثر الضرر ومتى قل قل بخلاف العتق فإن من قال بالتقويم فيه على قدر الرءوس علل بأنه حق لله تعالى ولا تفاوت فيه.

قال عياض: وخرجه آخرون من قول المدونة في الأقضية أجر القاسم على عدد الرءوس والفرق بين البابين بين، وحكاه ابن الجهم عن بعض أصحاب مالك نصًا.

(2/239)

________________________________________

قلت: وصرح المغربي بالفرق فقال: إن عمل الفريضة وحسابها يكثر لأجل صاحب القليل فذلك فذلك كانت على الرءوس.

واعلم أن لهذه المسائل الثلاث نظائر منها توزيع نفقة الوالد على أولاده وأجرة كاتب الوثيقة، وكانس المراحض وحارس الأندر وزكاة الفطر في العبيد المشتركة وإذا أرسل أحد الصائدين كلبًا والآخر كلبين وإذا أوصى لمجاهيل من أنواع، وكلها ذكرها خليل في النفقات قائلاً: اختلف في جميعها.

(ولا تتهم هبة ولا صدقة، ولا حبس إلا بالحيازة):

قال المغربي: الصدقة نقل الملك بغير عوض، وكذلك الهبة.

قلت: وقال بعض شيوخنا: الهبة تمليك متمول بغير عوض إنشاء فيخرج الإنكاح والحكم باستحقاق وارث إرثه وتدخل العارية والحبس والعمري والصدقة.

قال: والحبس مصدرا إعطاء منفعة شيء مدة وجودة لازما بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديرا.

وقول ابن عبد السلام إعطاء منافع على سبيل التأبيد يبطل طرده بالمخدم حياته، ولا يرد بأن جواز بيعه يمنع اندراجه تحت التأبيد؛ ولأن التأييد إنما هو في الإعطاء، وهو صادق على المخدم المذكور لا في لزوم بقائه في ملك معطيه، وهو اسم ما أعطيت منفعته مدة إلى آخره.

ويلحق بما قال الشيخ من قوله: ولا تتم هبة ولا صدقة ولا حبس إلى آخره القرض والعارية، قاله في المدونة، وغيرها، وأما الكفالة فالمشهور أنها لا تحتاج إلى حيازة، وما ذكر في الهبة متفق عليه، وما ذكر في الصدقة والحبس هو المشهور، وروي أبو تمام أنهما لا يفتقران إلى حيازة حكاه ابن زرقون، والمذهب أنهما لا زمان بالقول ويجبر على التحويز إن هو امتنع.

وكذلك في الهبة على المشهور، وروي عن مالك أنها لا تنعقد إلا بالقبض.

(فإن مات قبل أن تحاز عنه فهي ميراث إلا أن يطول ذلك في المرض فذلك نافذ من الثلث إن كان لغير وارث):

ظاهر كلامه وإن كان جادا في الطلب، وهو كذلك عن ابن الماجشون، وقال ابن القاسم: لا تبطل قال التادلي: وظاهر كلامه أنه لا تؤخذ منه في حالة المرض، ولو كانت له أموال مأمونة.

وروي ابن القاسم أن له أخذها في المرض إن كان له ذلك.

(2/240)

________________________________________

قلت: ما ذكره من ظاهر كلامه هو أحد قولي مالك في كتاب الصدقة، والمال المأمون هو العقار والرباع، قاله مالك في العتق الأول من المدونة.

واختلف في الناض الكثير فعند ابن القاسم: ليس بمال مأمون، وقيل: هو مال مأمون قاله أشهب، وأصبغ.

(والهبة لصلة الرحم أو لفقير كالصدقة لا رجوع فيها):

يريد وكذلك الهبة لليتيم وما ذكره زعم ابن عبد البر الاتفاق عليه وعزاه ابن عبد السلام لبعض الشيوخ كعادته في التعمية بعدم العزو، وقال: فيه نظر فإن مطرفًا قال فيمن وهب هبة لأبيه أو لوجه الله: فله الاعتصار.

وقال ابن الماجشون: لا يعتصر.

قلت: وما ذكره عن مطرف ذكره ابن زرقون بعد أن ذكر كلام ابن عبد البر، وزاد ابن رشد في قول مطرف أنه إذا وهب لولده لوجه الله أو لصلة الرحم أن له الاعتصار أبدًا حتى يسمي الصدقة.

وقال عياض: خرج بعض شيوخنا من إجازة مالك في العتبية لكل ما تصدق به على ابنه الصغير جواز الاعتصار في الصدقة.

(ومن تصدق على ولده فلا رجوع له):

كلامه في المسألة السابقة يغني عما ذكر هنا والله أعلم.

(وله أن يعتصر ما وهب لولده الصغير أو الكبير ما لم ينكح لذلك، أو يداين أو يحدث في الهبة حدثًا):

ظاهر كلام الشيخ: أن الجد لا يعتصر، وهي رواية ابن القاسم في المدونة ورواية ابن وهب في غيرها، وهو المشهور، وروي أشهب أنه يلحق بالأب وهو اختيار ابن عبد الحكم وظاهر كلامه أن الولد إذا نكح لذلك يمنع الاعتصار سواء كان الولد ذكرا أو أثني وهو كذلك على ظاهر المدونة وابن الحاجب وتصريح مالك في الموطأ.

وقال ابن دينار: نكاح الذكر لغير الهبة لا يمنع الاعتصار ولأن الذكر دخل فيما المخرج بيده منه، وذلك في الأنثى بيد غيرها حكاه غير واحد كالباجي.

وظاهر كلامه ولو زال النكاح بموت أو طلاق قبل البناء أو بعده، وهو كذلك عند ابن القاسم، وظاهر كلامه أن المداينة لا يشترط فيها أن تكون على الهبة بل هي مانعة مطلقاً، كما لو كان الابن غنيا فوهب له أبوه هبة يسيرة يرى أنه لا يداين لمثلها، وهو كذلك عند ابن الماجشون.

(2/241)

________________________________________

وقال مالك، وابن القاسم وأصبغ ومطرف: لا يمنع والقولان حكاهما ابن رشد.

قال الباجي: ولو كان الابن مديانا فوهب له أبوه مالا فقال ابن الماجشون: لا يعتصر كما لو تقدمت الهبة، وقال أصبغ: يعتصر، وتغيير السوق لا يفيت نص عليه غير واحد كابن الماجشون.

قال ابن عبد السلام: وهو ظاهر المدونة، وقال بعضهم: لا يختلف فيه ولا يبعد تخريج الخلاف في هذا.

قلت: أراد بالبعض عياضًا رحمه الله تعالى، واعترض بعض شيوخنا قوله: ولا يبعد تخريج الخلاف فيه بأن من حقه أن يبين الذي يتخرج منه الخلاف وذكره دون تعيينه ساقط، ونص متأخر الأصوليين على أن القياس المنكر هو القياس على صورة غير معينة باطل ومثلوه بقول المستدل الزكاة واجبة في الحلي بالقياس على صورة من صور الوجوب فيسقط ليس معارضته بمثله وهو القياس على صورة من صور عدم الوجوب، وللأصبهاني شارح العتبية في ذلك كلام حسن ليس هذا موضعه.

وظاهر كلام الشيخ أن العطية إذا كانت دنانير وصرفها فإنها فوت، وهو كذلك قاله بعض من لقيناه من القرويين وأفتى به.

وقال شيخنا أبو مهدي رحمه الله: ليس بفوت والأقرب هو الأول وقد قال ابن الجلاب: وعبد الوهاب خلط الدنانير بمثلها فوت وإن كان استقر لي من المدونة خلافه، وذلك أنه قال في المدونة: من اتباع زيتا فصبه بمحضر بينة على زيته ثم فلس فالبائع أحق بقدر زيته، وهو كعين قائمة، وكذلك خلط الدنانير ومسألتنا أشد والله أعلم.

الحمل من الولد مفيت اتفاقًا وفي مجرد الوطء قولان.

(والأم تعتصر ما دام الأب حيًا فإذا مات لم تعتصر ولا يعتصر من يتيم واليتم من قبل الأب):

قال الفاكهاني: هكذا روايتنا من يتيم في هذا الموضع، وفي بعض النسخ: والأم تعتصر ما دام الأب حيًا فإن مات لم تعتصر ولا يعتصر من يتيم.

قلت: هما في المعنى واحد، وظاهر كلام الشيخ أنها تعتصر من ولدها اليتيم حالة الهبة، وإن كان غنيا، وهو كذلك قاله جمهور أصحاب مالك.

قال الباجي: وروى ابن المواز عن أشهب أن اليتيم إذا كان غنيا أن لها أن تعتصر كما تعتصر من الكبير.

(2/242)

________________________________________

واختلف إذا وهبته في حياة أبيه ثم مات الأب ففي الاعتصار قولان: قال المغربي: والتهذيب يحتمل القولان قال فيها: وللأم أن تعتصر ما وهبت أو نحلت لولدها الصغير في حياة أبيه فيحتمل أن يكون العامل في حياة أبيه تعتصر أو قوله وهبة.

وظاهر كلام الشيخ: وإن وقعت حيازة أن لها أن تعتصر، وهو المشهور، وقال ابن الماجشون: لا تعتصر ما حاز عنها له أبوه أو وصيه أو هو إن كان يلي نفسه، وإنما تعتصر ما وهبت له إن كانت هي التي تليه فلم تخرج الهبة من يدها حكاه ابن حارث وغيره.

(وما وهبه لابنه الصغير فحيازته له جائزة إذا لم يسكن ذلك أو يلبسه إن كان ثوبًا وإنما يجوز له ما يعرف بعينه وأما الكبير فلا تجوز حيازته له):

قال ابن عبد السلام: يقع في الإشهاد رفع يد الملك ووضع يد الحوز وظاهر كلامه أن ذلك على طريق الشرطية.

وقال شيخنا أبو مهدي رحمه الله: الصواب عندي ما رأيته بخط ابن رشد وليس في شرحه لا يحتاج إلى الكتب برفع يد الملك ووضع يد الحوز، وما يكتبه جهلة الموثقين من ذلك لا يحتاج إليه.

واختلف فيما لا يعرف بعينه من المكيلات والموزونات فقيل: يكون حوزه فيها كغيره، وقيل: لا، كما قال الشيخ بل يجوز غيره وذكره الهبة طردي بل وكذلك الصدقة وكذلك ذكر الصبي وكذلك ذكر السفيه، وأراد بالكبير الرشيد، والوصي، ومقدم القاضي ملحقان بالأب وألحقوا الأب بالأجنبي في هبة دار سكناه فشرطوا معاينة الشهود الدار خالية من شواغل الأب.

قال الباجي عن ابن العطار: إن وهب أحد الوصيين يتيمهما لم يجز حوزه له وقيل: يجوز.

قلت: واختار بعض شيوخنا إن رضي الوصي الثاني وإلا فالأول، واختلف إذا قبض الزوج ما وهب لزوجته بدون أمرها فقيل: حوزه لها ماض قاله ابن الماجشون.

وقال ابن القاسم، وأصبغ: كالعدم فلا يصح وكلاهما حكاه ابن حارث.

قلت: وأخذ المغربي القول الأول من المدونة من قولها: ومن وهب لحاضر أو غائب أرضًا فقبض الحاضر جميعها فقبضه حوز للغائب، وإن لم يعلم ولا وكله، ونقل ابن حارث عن عبد الملك في مسألة المدونة: أنه ليس بحوز وكان عبد الملك رأى أن قبض الزوج ما وهر لزوجته كأنها وكلته عليه بخلاف الغائب فلا تناقض في كلامه-

(2/243)

________________________________________

والله أعلم – ولذا ينبغي حمل الخلاف على أنه خلاف في حال.

(ولا يرجع الرجل في صدقته ولا ترجع إليه إلا بالميراث):

كلام الشيخ رحمه الله يحتمل الوجهين الكراهة والتحريم، وظاهره أن الهبة بخلاف ذلك قال اللخمي: واختلف في خمسة مواضع هل النهي على الوجوب أو على الندب؟ وهل النهي عن الشراء من المتصدق عليه أم منه أو ممن صارت إليه؟ وهل تدخل في ذلك الصدقة الواجبة أو لا؟ وهل الهبة كالصدقة أم لا؟ وهل المنافع كالرقاب أم لا؟ وهل العود بالثمن أو بغيره؟ فذكر في الأول المشهور من المذهب أن النهي في ذلك على الندب.

قال مالك: لا ينبغي أن يشتريها، وقال: يكره، وقال الداودي: هو حرام وظاهر الموازية لا يجوز قال: والأول أحسن لأن المثل ضرب لنا بما ليس بحرام.

قلت: واعترض بعض شيوخنا ما استدل به بأن التعليل يدل على ذم الفاعل لتشبيهه بالكلب العائد في قيئه، والذم على الفعل يدل على حرمته.

وقال عز الدين بن عبد السلام وأبعد اللخمي عن ذكر قواعد أصول الفقه حسبما قاله المازري في صلاة الجنازة. قال: هذا والله أعلم، وكذلك قول ابن عبد السلام المشهور الكراهة فيه نظر؛ لأن ظاهر كلام اللخمي فبما حكاه عن الموازية أن معنى لا يجوز الحرمة، وهو لفظ المدونة وسماع ابن القاسم ولم يحك ابن رشد في سماع عيسى غير لفظ لا يجوز.

قلت: تبع ابن عبد السلام اللخمي في تصريحه بالمشهور كما تقدم إذ معنى كلامهما واحد إلا أن عبارة ابن عبد السلام أشد لأنهما يتكلمان في النهي وليس الندب من عوارضه.

وظاهر كلام شيخنا أنه انفرد به وليس كذلك.

قال التادلى: واختلف إذا أخرج لسائل كسرة فلم يجده على ثلاثة أقوال ثالثها لابن رشد: إن أخرجها لسائل معين أكلها، وإلا فلا وفي النوادر: ولو أخرجها لسائل فلم يقبلها فليعطها لغيره وهو أشد من الذي لم يجده وفرق ابن رشد في بيانه بينهما بأنه لما أن وجده فأبي أن يقبلها وقد كان له أن يقبلها فردها أشبه عند ردها إليه بعد قبوله إيهاها ولعله إنما ردها إليه ليعطيها لغيره مثل أن يقول له أنا لا حاجة لي بها فادفعها لغير فيكون ذلك قبولا منه لها، ويكون بذلك راجعا في صدقته.

(ولا بأس أن يشرب من لبن ما تصدق به ولا يشتري ما تصدق به):

(2/244)

________________________________________

يريد بلا بأس هنا لما غيره خير منه قال الفاكهاني: الظاهر أن هذا خلاف قول المدونة في كتاب الصدقة، ومن تصدق على أجنبي بصدقة لم يجز له أن يأكل من ثمرتها، وأي فرق بين اللبن والثمرة فانظره.

ونحوه قول شيخنا أبي مهدي رحمه الله تعالى: الصواب أن له الأكل من الثمرة كاللبن.

قلت: ويظهر لي فرق بينهما من حيث المعني، وهو أن الابتذال في اللبن أغلب من الثمرة والله أعلم.

قال التادلي: وانظر هل يأكل من ربح ما تصدق به يجري على حكم اللبن بل هو أجوز منه والله أعلم، وإذا تصدق بداية فلا ينتفع بركوبها قاله في كتاب الصدقة من المدونة بأثر ما تقدم عنها.

وزعم ابن عبد السلام: أن المشهور الجواز وعزا عدم الانتفاع لعبد الملك، واختاره بعض الشيوخ للأحاديث الواردة في هذا الباب وأما العرية فقد تقدم أن ذلك إنما جاز للضرورة أو لقصد المعروف.

(والموهوب للعوض إما أثاب القيمة أو رد الهبة فإن فاتت فعليه قيمتها، وذلك إذا كان يرى أنه أراد الثواب من الموهوب له):

ما ذكر الشيخ أن الموهوب إذا أتي بالقيمة لا مقال للواهب هو المشهور، وقال مطرف: يخير الواهب حينئذ فإن شاء سلمها له بذلك، وإن شاء استرجع هبته حتى يرضي كذا عزاه أكثرهم، وعزاه ابن رشد له ولروايته وعزاه الباجي له ولسماع ابن القاسم وأبهم اللخمي روايته فعزاه له، ولمالك، ونقل الفاكهاني عن الباجي مثل عزو ابن رشد، وهو غلط لا شك فيه، وهذا القول هو قائم من كتاب الشفعة من المدونة، قال فيها: ولو أثابه بعد تغييرها أضعاف القيمة قبل قيام الشفيع ثم قام لم يأخذ إلا بذلك كالثمن الغالى وإنما يهب الناس ليعارضوا أكثر.

قال مطرف وهو ظاهر قول عمر رضي الله عنه قال في الموطأ: ومن وهب هبة يرى أنه أراد الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها.

وظاهر كلام الشيخ أن الموهوب بالخيار ولو قبض الشيء الموهوب، وهو كذلك في المشهور وروى ابن الماجشون عن مالك أن القبض فوت يوجب القيمة، ولابن القاسم أن حوالة الأسواق فوت، وقاله أشهب، وأصبغ، وظاهر كلامه أن الزيادة والنقصان مما تفوت به الهبة فتلزم القيمة.

قال الباجي: وهو المشهور عن مالك، وقاله ابن القاسم، ولمالك وأشهب أن

(2/245)

________________________________________

والزيادة لا تلزم بها الموهوب القيمة، قال أشهب: وهو معنى قول مالك ليس للموهوب له ردها في النقص ولا للواهب في الزيادة.

وقال ابن عبد الحكم: ليس له الزيادة إلا باجتماعها زادت القيمة أو نقصت.

قال ابن رشد: واختلف إذا تشاح الواهب والموهوب له فيما يكون ثوابًا، فقال أشهب: تتعين الدنانير والدراهم، وقال سحنون: لا تتعين ويصح أن يثيبه بكل ما يتمول، وقال ابن القاسم في المدونة: إلا فيما لا يثاب منه عادة كالحطب، وفي المدونة: لا ثواب في هبة العين ابن القاسم إلا بشرط، واختلف في هبة الحلى. فقال ابن القاسم فيه الثواب.

وقال أشهب: بعكسه والقولان حكاهما المتيطي رحمه الله تعالى، واشتهر الخلاف في اعتبار القيمة هل هي يوم الهبة أو يوم الحكم إلا فيوم القبض على قولين: وكلاهما لمالك رحمه الله تعالى.

قال الفاكهاني: ورأيت لابن عبادة البطليوسي التفصيل بين أن يكون العوض مما لا تتعين فيه الهبة فيوم الحكم وإلا فيوم القبض فكأنه تفقه فيه وهو عندي لا بأس به.

(ويكره أن يهب لبعض ولده ماله كله وأما الشيء منه فذلك سائغ):

إنما كان مكروها خشية العقوق، ولذلك قال: وأما الشيء منه فذلك سائغ؛ لأنه يؤدي على البر.

(ولا بأس أن يتصدق على الفقراء بماله كله لله):

قال الفاكهاني: لأنه فعل خير وقربة، وقد أثنى الله تعالى على فاعل ذلك فقال: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) [الحشر:9]

وبقوله: (وما انفقتم من شيء فهو يخلفه) [سبأ: 37]

وقوله: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) [الحشر:9]

، وفي الحديث: " ينادي مناديان كل يوم في السماء: اللهم أعط كل منفق خلفا، وكل ممسك تلفا"، وهذا له عندي شرطان أن لا يتشوش إذا بقي بغير شيء إلى أن يفتح الله عليه وأن يكون ما يرجوه مثل المال المتصدق به في الحلية.

قلت: كلامه يدل على أن لا بأس هنا: راجحة الفعل من حيث الجملة، وقال التادلي: يريد مع الكراهة إذا بلا قائل بجوازه دونها

(2/246)

________________________________________

قلت: وقال سحنون في العتبية من تصدق بكل ماله ولم يبق ما يكفيه ردت صدقته كذا عزاه اللخمي، وتعقبه بعض شيوخنا بكونه لم يجده في العتبية إلا في سماع ابن القاسم تصدق بكل ماله وتخلى عنه صحيحا فلا بأس به قال: وظاهر قوله ردت صدقته أنه لا يلزمه شيء، ولما ذكر ابن بشير الخلاف في إمضاء فعله بعد الوقوع والنزول ولم يعزه.

قال: وفي الشريعة ما يدل على الوجهين قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة من أبي بكر بجميع ماله ورده على كعب بن مالك وغيره، وقد قال أبو حامد الإسفراييني: إن من يرجع إلى اليقين كما رجع إليه أبو بكر بحيث لا يسخط فتجوز صدقته بجميع ماله ومن يكون على خلاف في ذلك فلا ويرد إليه فيجعل ذلك خلافًا في حال.

(ومن وهب هبة فلم يحزها الموهوب له حتى مرض الواهب أو أفلس فليس له حينئذ قبضها):

يريد بالمرض المخوف عليه، وظاهر كلام الشيخ أن إحاطة الدين بمال الواهب ليست بمانعة من الحيازة بل حتى يفلس، وهو كذلك عند أصبغ.

قال ابن الماجشون، ومطرف: الدين أولى ويشترط في صحة القبض أن يكون الواهب في عقله نص على ذلك ابن القاسم.

قال الباجي: يريد ويكون موقوفا فإن اتصل ذلك بموته بطلت وإلا جاز ذلك.

وقال ابن عبد السلام: إنما يتبين هذا على القول الشاذ أن الهبة لا تلزم بالقول، وأما على القول المشهور أنها تلزم به فمقتضى القياس كان دفعها للموهوب له والفرق بين ذهاب العقل وبين المرض والدين أن الحق في ذهاب العقل للواهب وقد أسقطه بالتزامه، وهو في المرض لغير الواهب، وهو للوارث، وكذلك في الدين لغير الوارث، ولا يلتزم أحدهما شيئًا، وشرط إنفاذ الهبة قد فات فتبطل الهبة.

(ولو مات الموهوب له كان لورثته القيام فيها على الواهب الصحيح):

ما ذكر مثله في أول كتاب الهبة من المدونة قال فيها: وإن وهبت هبة لحر أو عبد فلم يقبضها حتى مات فلورثة الحر، وسيد العبد قبضها، وقال: في كتاب الصدقة في المرسل بهدية يموت المرسل أو يموت المرسل إليه قبل وصولها فإنها ترجع إلى المهدي أو لورثته واستشكلت وأجيب بقوة الحوز إذا مات الواهب وباحتمال أن لا يقبل الموهوب له العطية لو وصلت إليه.

قال ابن عبد السلام مضعفا له: وقد علمت أن هذا الاحتمال قائم إذا أشهد

(2/247)

________________________________________

الواهب مع ذلك فلا أثر له، وأيضًا لو كان هذا التعليل صحيحا لما افترق الحكم بين هبة الحاضر والغائب فالصواب عنده تعليل المسألة بأن الإشهاد هو غاية المقدور عليه في التحويز فإن موت الموهوب لا يضر في الحيازة ألا ترى إلى قوله في المسألة التي قبل هذا: وما اشترى الرجل من هدية لأهله في سفره من كسوة ونحوها ثم مات قبل أن تصل إلى بلده فإن كان أشهد على ذلك فهي لمن اشتراها له، وإن لم يشهد فهي ميراث فقد أمضى، هذه الهدية مع عدم القبول.

(ومن حبس دارًا فهي على ما جعلها عليه إن حيزت قبل موته ولو كانت حبسًا على ولده الصغير جازت حيازته له إلى أن يبلغ وليكرها له ولا يسكنها):

اعلم أن المذهب وبه قال أكثر العلماء في الحبس أنه مندوب إليه.

قال بعض شيوخنا: ويتعذر عروض وجوبه بخلاف الصدقة، وقال أبو حنيفة وأصحابه ممنوع لقوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) [المائدة: 103]

وما في معني هذا من الآي وليس معناه كما ظنوه إذ مقتضي الآية الكريمة توبيخهم على اتباع خطوات الشيطان وليس ما يحبسه الإنسان على ولده أو غيره بشيء من ذلك بل هي قربة، وأيضًا فقد وقع الإجماع على تحبيس المساجد والطرقات، والقناطر وللقوم احتجاج يطول جلبه ورده فمن شاءه فلينظره في المطولات.

قال الباجي: وقد نزع أبو يوسف عن مذهبه إلى مذهب مالك لما ظهر عليه مالك في مجلس الرشيد، وقال: هذه أوقاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلها أهل المدينة خلفهم عن سلفهم يشير بذلك إلى الخير المتواتر، وهذا فعل أهل الدين والعلم في الرجوع إلى الحق متى ظهر، وتبين ولا خلاف عندنا أنه يصح في العقار المملوك لا

(2/248)

________________________________________

المستأجر.

قال اللخمي: ومن حبس حظه في مشاع قبل أن يأذن شريكه فإن كان المشاع مما ينقسم بما خرج للحبس مضى حبسًا، وإن كان مما لا ينقسم رد الحبس للضرورة؛ لأنه لا يقدر على بيع الجميع وإن فسد فيه شيء لم يجد من يصلحه معه، وما ذكر مثله في نوازل الشعبي، وقال بعض شيوخنا في القسم الأول هذا على أن القسم تمييز حق، وإما على أنه بيع فإنه يؤدي إلى بيع الحبس إلا أن يقال الممنوع بيعه ما كان معينا لا المعروض للقسم؛ لأنه كالمأذون في بيعه من محبسه.

قال: وما ذكر اللخمي عن المذهب هو أحد الأقوال الثلاثة، وقال ابن حبيب، وابن الماجشون فيما لا ينقسم: يباع فما أصاب المحبس اشترى به مثل ما حبسه فيه وظاهر آخر مسألة من شفعة المدونة أنه جائز مطلقًا، ولا مقال للشريك، ونقله ابن سهل عن ابن زرب.

قلت: ولم يذكر ابن عبد السلام إلا القول الثاني: وعزاه لبعضهم زاد واختلفوا هل يقضى عليه بذلك أم لا؟

واختلف قول مالك في وقف العروض وكذلك اختلف قوله أيضًا في الحيوان فقيل: يجوز في الخيل وحدها.

واعلم أن الحبس لا يصح بالشاهد واليمين، وقال أبو عمران الصنهاجي: وكذلك النكاح والطلاق والعتق والولاء والنسب، والوصايا لغير المعينين وهلال رمضان وهلال ذي الحجة، والتمويت والقذف والإيصاء، ونقل الشهادات والترشيد.

قلت: زاد شيخنا أبو مهدي الحضانة لا يصح إسقاطها بشاهد ويمين قال أبو عمران، وفي التعديل والتجريح خلاف وكذلك الوكالة وشاهد على نكاح امرأة وقد ماتت وشاهد على نسب رجل أنه قد مات وكذلك على ولاء رجل أنه قد مات وترك مالا.

قلت: وكذلك الأدب بالشاهد واليمين ذكره ابن رشد، وما ذكر الشيخ أن الدار تصرف فيما جعلت فيه صحيح، وإن لم ينص صاحبها على شيء، ومات فإنه يرجع إلى العرف فإن لم يكن فهي على الفقراء قاله في المدونة وقاله عبد الوهاب في المعونة وتصرف في وجوه الخير.

(فإن لم يدع سكناها حتى مات بطلت):

ما ذكر الشيخ من أنه إذا لم يدع سكناها فإنها تبطل، وهو كذلك وتقدمت رواية أبي تمام أن الحبس والصدقة لا يفتقران إلى حوز، واختلف إذا سكن بعضها ووقع

(2/249)

________________________________________

الحوز في بعض. فقال ابن القاسم في المدونة في آخر الرهون: ومن حبس على صغار ولده دارًا أو وهبها لهم أو تصدق بها عليهم فذلك حوز وحوزه حوز لهم إلا أن يكون ساكنا في كلهما أو رجلها حتى مات فيبطل جميعها وتورث على فرائض الله تعالى، وأما الدار الكبيرة ذات المساكن يسكن أقلها ويكري لهم باقيها فذلك نافذ فيما سكن وفيما لم يسكن.

وفي المذهب أقوال أخر أحدهما: أنه يمضي الجميع بشرط أن يكون ما حيز منها أكثر من النصف وعكسه وإن حيز النصف وسكن النصف صح ما لم يسكن وبطل ما سكن.

وقيل: إن سكن القليل وأبقي الكثير خاليا بطل حتى يكريه لهم؛ لأن تركه منع لهم فكأنه أبقاه لنفسه وكلاهما لشيوخ عبد الحق وعزا عياض الأخير منهما للصقليين قال: وهو صحيح في النظر ظاهر من لفظ الكتاب وقيل: يبطل الجميع مطلقًا حكاه ابن شاس.

وقيل: ما حيز لزم بخلاف الباقي عزاه ابن الحاجب لابن القاسم، وهو خلاف ما تقدم له في الدونة؛ لأنه حاصل ما فيها إن سكن الجل بطل الجميع، وإن سكن الأقل صح الجميع، ويتعارض المفهومان في النصف، واختلف إذا كان المحبس يتولى صرف منفعة الحبس على من حبس عليه، وهم غير معينين هل يؤثر ذلك في صحة الحوز أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقيل: يؤثر وقيل: لا يؤثر.

وقيل: إن كانت الرقبة بيدة وإنما يتصرف في الغلة كالحائط يبقيه بيده ويدفع غلته للفقراء فإنه يؤثر، وإن كان سلاحا أو كتبًا يدفعها لم يقاتل بها أو ينظر فيها ثم غلته للفقراء فإنه يؤثر قاله في المدونة وما ذكرناه من أنها ثلاثة أقوال هو عزو ابن الحاجب وذكرها ابن شاس رواية وقبله ابن عبد السلام وابن هارون.

وقال بعض شيوخنا: لا أعرف بطلانه في الفرس والسلاح إن أخرجها وعادت إليه بحال ويشترط في إثبات الحوز الشهادات بالمعاينة لا بالإقرار.

(وإن انقرض من حبست عليه رجعت حبسًا على أقرب الناس بالمحبس يوم المرجع):

ويريد من الفقراء قال ابن كنانة: وإنما يرجع إلى أولى الناس بالمحبس ولم يرجع إلى المحبس؛ لأنه رجوع في الصدقة.

قال ابن عبد السلام: وهذا قد يظهر إذا كان الحبس أولى بمعني الصدقة وهو أعم

(2/250)

________________________________________

من ذلك لأن المذهب لا يشترط فيه ظهور القربة، وإنما كان الحكم أن يرجع إلى أولى الناس بالمحبس لما يجتمع به من الصلة، وسد خلة الفقير قاله ابن كنانة أيضًا.

وقال مالك في رواية أشهب أحب إلي أن يرجع صدقة على المساكين وأهل الحاجة ولا يرجع ميراثا وما ذكرناه من اشتراط الفقير هو المشهور.

وقيل: يدخل الأغنياء في السكنى دون الغلة، وقيل: إذا لم يكن أهل المرجع فقراء أعطى للأغنياء منهم، والمشهور من المذهب أنه يدخل من النساء من لو كان رجلاً كان عاصبا.

وقيل: لا يدخلن وعلى الأول فقال مالك في كتاب محمد الذكر والأنثى فيه سواء واشترط في أصل الحبس للذكر مثل حظ الأنثيين قال: إن المرجع ليس فيه شرط ولو لم يكن له يوم الموجع إلا ابنة واحدة لكان لها جمعيه فإن لم يكن للمحبس من القرابة من يصرف إليه المرجع فإنه يصرف إلى الفقراء.

(ومن أعمر رجلاً حياته دارًا رجعت بعد موت الساكن ملكًا لربها، وكذلك إن أعمر عقبه فانقرضوا بخلاف الحبس):

ما ذكره صحيح جلي المعني من حيث إن العمرى إنما هي تمليك للمنافع دون الرقاب بخلاف الحبس فإنه تملك للرقاب.

(فإن مات المعمر يومئذ كان لورثته يوم موته ملكا):

قال الفاكهاني: يريد إذا قال له: أعمرتك هذه الدار أيام حياتي، وأما إن قال له: أيام حياتك فمات المعمر فإنها لا ترجع لورثته إلا بعد موت المعمر.

(ومن مات من أهل الحبس فنصيبه على من بقي):

قال ابن رشد: إذا مات أحد من أهل الحبس فلا يخلو من ثلاثة أوجه: تارة يكون بعد الطيب فهذا حصته لوارثه اتفاقًا.

قلت: وذكر اللخمي قولاً أن المعتبر من وجد عند القسم فيما إذا كانت تقسم عليهم الغلة، وليسوا يلون عملها.

قال ابن رشد: وتارة يموت قبل الإبار فلا شيء لوارثه اتفاقًا، وتارة يكون بعد الإبار، وقبل الطيب ففي ذلك خمسة أقوال: فقيل: لوارثه مطلقًا قاله غير واحد من الرواة في المدونة، وقيل: مثله إن كانت الميت أبر وسقًا قاله في هذا السماع وقيل: هو لمن بقي من أهل الحبس وهذا الحبس وهذا الذي رجع إليه مالك، وقيل: مثله إن كانوا يلون عملها، وكان المحبس عبدًا يخدمهم أو دارًا يسكنونها، وإن كان ثمرا يقسم رجع لمحبسه، وقيل:

(2/251)

________________________________________

له مطلقًا وإن لم يعرها وأولهما هو الذي رجع عنه مالك في المدونة.

وثانيهما: مقتضى قول اللخمي وعزاه لرواية عبد الوهاب في المعونة وصوبه إلا أن تكون العادة رجوعه لبقية أصحابه.

(ويؤثر في الحبس أهل الحاجة بالسكني والغلة):

ما ذكر هو المشهور، وقيل: لا يفضل ذو الحاجة على الغنى إلا بشرط من المحبس وسواء كان التحبيس على قوم بأعيانهم وأعقابهم أو على ولده وولد ولده إلا أن المخالف في الأولى عبد الملك، والمخالف في الثانية المغيرة والفقه قريب.

(ومن سكن فلا يخرج لغيره إلا أن يكون في أصل الحبس شرط فيمضي):

زاد في المدونة ولو لم يجد مسكنا ولا كراء له، وظاهر كلامه ولو استغني بعد أن سكن لأجل فقره، وهو كذلك.

قال ابن عبد السلام: ولعل ذلك لأن عودته لا تؤمن وإلا فالأصل كان أن لا يخرج.

قلت: وقال بعض شيوخنا: ونص ابن رشد عن ابن القاسم على أنه لا يخرج إذا كان الحبس على العقب فإذا سكن لغيبة غيره فلا يخرج، ولو كان على الفقراء فإنه يخرج إذا استغني قال: وقول ابن الحاجب: ولا يخرج الساكن لغيره وإن كان غنيا يوهم خلاف ذلك لقول ابن عبد السلام: ولو سكن ثم خرج فإن كان خروج انقطاع يسقط حقه وكان من سكن أولى وإلا فلا قال في المدونة: ومن مات أو غاب غيبة انتقال استحق الحاضر مكانه.

وأما من سافر لا يريد مقامًا فهو على حقه إذا رجع وأقام منها المغربي ما في جامع العتبية أن من أقام بموضع في المسجد في الصف الأول وقام لتجديد وضوء أو لغيره على أن يؤوب إليه بالقرب أنه أحق والقرب هو أن يكون ذلك المعنى الذي جلس إليه قائمًا مثل أن يكون ينتظر الصلاة.

قلت: ومن هذا المعني قيام الطالب من درس العلم لحاجة ثم يعود وكذلك قال شيخنا أبو مهدي رحمه الله: لا يجلس غيره من أصحابه في مكانه إذا سبقه إذا كان لكل إنسان موضع معلوم به كما هو المألوف عندنا بتونس؛ لأن ذلك مقصود من المجلس للعرف المقتضي لذلك.

(ولا يباع الحبس وإن خرب)

(2/252)

________________________________________

ما ذكر هو المعروف وروي أبو الفرج جوازه وهو الذي حكاه ابن رشد، وكذلك ذكر اللخمي وعزا الجواز لابن القاسم جريا على قوله في الثياب إذا بليت إلا أنه قصر الخلاف على ما بعد من العمل ولم يرج صلاحه، وأما ما كان بالمدينة فلا يباع وظاهر كلامه باتفاق فجعله بعض شيوخنا ثالثًا.

وقال ابن عبد السلام: حكى أبو الفرج وابن شعبان قولاً بجواز بيع الخرب مثل ما في الرسالة واعترضه بعض شيوخنا بأن الذي في الرسالة إنما هو المناقلة بالمعاوضة فقط كما سيأتي ورواية أبي الفرج بالبيع أعم منه.

قلت: على أن ما حكاه عن ابن شعبان لم أجده.

واختلف هل يجوز نقض بيع نقض الحبس إذا خرب أم لا؟ على قولين ذكرها في الزاهي، وكذلك اختلف هل يجوز نقله إلى حبس آخر ليبني به إذا لم ترج عمارة الخرب أم لا؟ وبالجواز مضى العمل عندنا.

قال مالك: ولا بأس أن يشتري من دور محبسة إن احتيج إلى توسعة مسجد أو طريق؛ لأنه نفع عام، وقيل به في مساجد جوامع الأمصار لا القري قاله غير واحد كابن عبد الحكم ومطرف واختلف المتأخرون إذا أبوا من بيعها للمسجد فقال أكثرهم: تؤخذ بالقيمة جبرًا، وقيل: لا يجبرون وقيل بالأول في المسجد الجامع بخلاف غيره، وأما إذا كانت الدار الملاصقة لمسجد الجمعة مملوكة، فقال الباجي: يجبر أهلها بإجماع.

وقال ابن رشد: في الجبر قولان وأفتي بالجبر، واحتج بقول سحنون يجبر ذو أرض تلاصق طريقًا هدمها نهر لا ممر للناس إليه فيها على بيع طريق لهم بثمن يدفعه الإمام من بيت المال، وبفعل عثمان رضي الله عنه، في توسعة مسجده صلى الله عليه وسلم ويقول مالك وغيره إذا غلا الطعام واحتيج إليه أمر الإمام أربابه بإخراجه للسوق.

(ويباع الفرس الحبس يكلب ويجعل ثمنه في مثله أو يعان به فيه):

ما ذكر الشيخ هو المشهور، وقول ابن الماجشون: لا يباع ويوقف، وإن ذهبت

(2/253)

________________________________________

منفعته إلا أن يكون شرط فأطلق هذا الخلاف غير واحد.

وقال اللخمي: إن انقطعت منفعة الحبس وعاد بقاؤها ضررا جاز بيعه وإن لم يكن ضررا ورجا أن تعوده منفعته لم يجز بيعه.

واختلف إذا لم يكن ضرر أو لا رجيت منفعته، وما ذكر الشيخ من صفة الجعل هو كذلك في المدونة في الفرس، وقال في الثياب: يتصدق بها في السبيل إن لم تبلغ ثيابًا ينتفع بها فقيل: إن الثياب لما لم يظهر لها كبير منفعة في الغزو واستخفت الصدقة بما عجز عن ثمن ثوب بخلاف الخيل لعظم منفعتها في الغزو وحوفظ على أصل التحبيس فيه.

قال ابن عبد السلام: وفي هذا الفرق نظر، قال ابن وضاح سألت سحنون عن زيت المسجد يكون كثيراً أيباع ويتخذ في منفعة الحبس؟ قال: تجعل فتائله غلاظا ولم ير بيعه.

قلت: أيوقد في مسجد آخر؟ قال: لا بأس، قلت: فالخشب تكون في المسجد قد عفنت لا يكون لها كبير منفعة أترى أن تباع ويشترى بثمنها خشب، ويرم بها المسجد قال: أما أنا فلا أجعل سبيلا إلى بيعها أصلاً وأشار بقوله أنا إلى أن ثم قولاً ضعيفا.

وقال ابن زرب بيع حصر المسجد جائز وكذلك ما يلي من أنقاض المسجد ويصرف في منافعه.

(واختلف في المعارضة بالربع الخرب بربع غير خرب):

قد قدمنا أن القول بالجواز داخل في عموم رواية أبي الفرج، والقول بالمنع نقله الباجي عن ابن شعبان قائلاً: وإن خرب ما حوله وقد تعود العمارة ولم يحك الباجي غيره.

واعلم أن المتولي للوقف يكريه بنظره السنة والسنتين فإن أكراه ممن مرجعه إليه جازت الزيادة على ذلك وقد أكرى مالك منزله، وهو كذلك عشر سنين واستكثرت.

قال ابن عبد السلام: ومعنى ما تقدم إذا كانت الدار وقفا على معينين ثم على أولادهم، وشبه ذلك، وأما إن كانت الدار على الفقراء وشبههم فينبغي أن يكون أوسع من هذا الأجل إذا لا يتقي في ذلك سوى انهدام الدار، وهذا الاحتمال لا يمنع من طول الأجل في الدور ثم قال: وأجاز جماعة من فقهاء بلدنا وعمل به منذ عشرين عامًا كراء بقعة من أرض الحبس أربعين عامًا لمن بناها دارًا وليس الحبس فيها على معينين بعد أن بذل فيها مكتريها عوضًا خارجًا في الكثرة عن العادة.

(2/254)

________________________________________

قال ابن الحاجب: ولا يفسخ كراء الوقف لزيادة، قال ابن عبد السلام: يعني إذا كان عقده غبطة، وأما إن كان فيه غبن فتقبل فيه الزيادة قيل: وسواء كان من طلب الزيادة فيه حاضرا أو غائبًا وأهل تونس في هذا التاريخ وقبله بسنين كثيرة استمروا على أنه يكري ربع الحبس على قبول الزيادة فيه ويجعلونه منحلا من جهة المكري ومنعقدا من جهة المكتري وهو قول منصوص عليه في المذهب ووقع في المدونة ما يقتضيه، وإن بعضهم رأى ما في المدونة خارجًا عن أصول المذهب، واعتقد بعض من لقيناه أن ذلك مخالف للإجماع؛ لأنه راجع إلى بيع الخيار ولم يجزه أحد إلى سنة.

وأشار ابن رشد إلى أن هذه المسألة ليست كبيع الخيار الذي جعل أمد الخيار فيه سنة فإن ذلك ينتقض فيه البيع من أصله إذا أراد حله من جعل له الخيار وهنا لا ينتقض إلا ما بقي من المدة.

قلت: وهذا الفصل لما كان مضطرا إليه ذكرنا في هذا المحل اتباعا لمن ذكر، وإن كان غير هذا الفصل أليق به والأعمال بالنيات.

(والرهن جائز):

(2/255)

________________________________________

وقال ابن الحاجب: الرهن إعطاء امرئ وثيقة بحق واعترض بأنه غير مانع بالمنع لذي حق على الوفاء به والحميل لحق والإشهاد به.

قال ابن عبد السلام: وأجيب بمنع قبول دخول شيء منها تحته؛ لأن لفظة إعطاء تقتضي حقيقة دفع شيء ولفظ وثيقة يقتضي صحة رجوع ذلك الشيء لدافعه إذا استوفي ذاك وذلك لا يصح في الحميل واليمين الأخذ والرد حقيقة.

وأما الوثيقة بذكر الحق فهو وإن صح دفعها فلا يلزم ردها بعد استيفاء الحق.

قلت: ورده بعض شيوخنا بأن قوله لفظة إعطاء يقتضي دفع الشيء إلى آخذه، وإن أراد دفعه حسب المحسوس منع لصحة قولنا: إعطاء عهد الله والأصل الحقيقة، وإن أراد الأعم منه، ومن المعني دخل ما وقع النقص به وإن سلم كونه حسبا بطل بإخراجه رهن الدين، وقوله لفظة وثيقة تقتضي صحة رجوع ذلك الشيء إلى آخذه يريد؛ لأنه لا يلزم من نفي لزوم ردها نفي صحته واللازم عنده إنما هو الصحة حسبما تصرح به قال: ويتعقب رسم ابن الحاجب بأنه لا يتناول الرهن بحال؛ لأنه اسم والإعطاء مصدر وهما متباينان، وظاهر كلام الشيخ: أن الرهن جائز حضرًا أو سفا وهو كذلك عندنا.

(ولا يتم إلا بالحيازة):

ظاهر كلام الشيخ إذا لم يحز فإنه يبطل، وإن كان جد في الطلب إلى أن قام عليه الغرماء، وهو كذلك قال ابن حارث وقال عبد الوهاب عجزه مع جده في طلبه إلى أن قاموا لا يبطله كالهبة.

وحكى اللخمي القول الثاني غير معزو كالأول دون استدلال قائلاً، وهو أحسن.

قلت: واستدلال القاضي بالهبة يدل على أنه متفق عليه فيما وليس كذلك بل هو قول ابن القاسم، وقال ابن الماجشون: تبطل حسبما قدمنا ذلك في موت الواهب ولا فرق بين الموت والتفليس.

واعلم أن الحواز المتقدم لغير الرهن كالمتأخر على الأصح، واختلف هل يصخ رهن مشاع العقار أم لا ففي المدونة صحته.

وقال ابو حنيفة والشافعي: لا ينعقد فيه رهن قال المازري، وخرجه الشيخ عبد المنعم، وهو أحد شيوخ شيوخي من قول بعض أصحابنا أن هبة المشاع لا تصح؛ لأن قبضه لا يتأتى.

قلت: وخرجه بعض المتأخرين من منع صرف جزء الدينار لامتناع القبض

(2/256)

________________________________________

والحسي فيه ورده شيخنا أبو مهدي رحمه الله بأن الصرف أشهد فهو أضيق بدليل أنه يشترط فيه القبض الحسي.

وقال ابن الحاجب: وقبض الجزء المشاع، والباقي لغير الراهن إن كان عقارا جائز باتفاق.

وقال ابن عبد السلام: لم يطلع المؤلف على الرواية بمنع رهن المشاع كأبي حنيفة.

قلت: ومرض بعض شيوخنا نقله بقوله: لا أعرف هذه الرواية وظاهر نقل شيوخ المذهب نفيها، ولو كانت ثابتة ما اضطر إلى التخريج الذي ذكره المازري والشأن من التحقيق في ذكر غريب مثل هذا عزوه.

(ولا تنفع الشهادة في حيازته إلا بمعاينة البينة):

ظاهر كلامه أن الإقرار بحوزه ووجوده في يده بعد الموت أو التفليس كالعدم، وهو ظاهر المدونة قال فيها: ولا يقضى بالحيازة إلا بمعاينة البينة بحوزه في حبس أو هبة أو رهن.

وقيل: إن وجود الرهن بيد المرتهن بعد موت راهنة يقبل قوله حزته في صحته نقله أبو محمد في نوادره عن مطرف وأصبغ، ونقل خلافه عن ابن الماجشون، وابن حبيب، وفي الطرر لابن عات العمل أنه إذا وجد بيده وقد حازه كان رهنا، وإن لم يحضروا الحيازة ولا عاينوها؛ لأنه صار مقبوضًا وكذلك الصدقة.

(وضمان الرهن من المرتهن فيها يغاب عليه ولا يضمن ما لا يغاب عليه، وثمرة النخل الرهن للراهن):

ما ذكر الشيخ أن ضمان ما يغاب عليه من المرتهن هو كذلك باتفاق من حيث الجملة ويريد ما لم يكن بيد أمين فإنه من الرهن كما سيأتي له.

وظاهر كلامه ولو قامت البينة على هلاكه وهو كذلك في رواية أشهب وقيل: لا يضمن رواه ابن القاسم، وقال به، وبه قال عبد الملك وأصبغ نقله ابن يونس وسبب الخلاف هل الضمان بالأصالة أو بالتهمة، ولو اشترط نفي الضمان؟ فقال ابن القاسم: لا يعول عليه، ويضمن، وقال أشهب: لا يضمن وقيل: إن كلا منهما ناقض أصله.

وأجاب بعض شيوخنا عن ابن القاسم: بأن الضمان يتقوى معه الشرط؛ لأن الضمان عنده معلل بالتهمة، وعن أشهب بأن شرط عدم الضمان ناسخ.

قلت: ولا مناقضة على ابن القاسم في قوله في العارية إذا اشترط المستعبر أنه

(2/257)

________________________________________

مصدق فيها وكانت مما يغاب عليه فإن يوفي له بشرطه؛ لأن العارية معروف وإسقاط الضمان معروف ثان بخلاف ما أصله المكايسة كالرهن قاله اللخمي في العارية، وما ذكر الشيخ من نفي الضمان فيما لا يغاب عليه هو المنصوص والمشهور، وقال المازري: وخرج بعضهم ضمانه من رواية ضمان المحبوس بالثمن.

ورده بعض أشياخي بأن ضمان المحبوس بالثمن ليس لأنه رهن بثمنه لاحتمال كونه على رواية شرط مضى زمان إمكان قبض المبيع بعد عقده في ضمانه بالعقد والحبس مانع من تمكن قبضه وخرجه بعضهم من قول شركة المدونة إن استعار أحد الشريكين دابة لحمل شيء من مالك الشركة بغير إذن شريكه فتلفت: لا ضمان على الشريك غير المستعير، وأجيب بأنه بيان لحكم الشركة لو حكم حاكم بضمانه لا أنه بيان لحكم ضمان المستعير.

قال رحمه الله: ويستغني عن هذا التخريج بقول أبي الفرج عن ابن القاسم فيمن قبض عبدًا ارتهن نصفه فتلف: ضمن نصف فقط.

قال في المدونة في السلم الثاني: ما لا يغاب عليه هو الحيوان والدور والأرضون والثمر في رءوس النخل والزرع إذا لم يحصد.

قال اللخمي: وهو عام في الحيوان على اختلاف أنواعه من شاة وطير، وأري أن يضمن ما يستخف أكله وذبحه.

(وكذلك غلة الدور):

ما ذكر الشيخ أن غلة الدور للراهن هو المشهور، وفي المبسوط لمالك: ومن استرهن دارًا أو عبدًا قبضه أو لم يقبضه؛ فإن إجارة العبد والدار تجمع لا تصل إلى الراهن ولا للمرتهن حتى يفك الرهن فتكون تبعًا للرهن فإن كان في الدار كفاف الحق كانت الإجارة للراهن.

قال في البيان: وهذه الروايات شاذة لا تعرف في المذهب، ويريد الشيخ إلا أن يشترط المرتهن ذلك فيكون له، وسمع أصبغ ابن القاسم: لا بأس أن يشترط بيع المبيع، ويرتهن الدار أو العبد انتفاعه به لأجل معلوم كان أبعد من أجل الرهن أو قبله.

قال ابن رشد: هو كقوله في المدونة خلاف نص مالك جوازه في الربع والأصول دون الحيوان والثياب إذ لا يدري كيف يرجع ذلك إليه، واحتج ابن القاسم بجواز إجارة ذلك، وهو لا يدري كيف يرجع إليه، ولا حجة على مالك؛ لأنه إنما كرهه للغرر كالرهن إذ لا يدري متى تكون القيمة بعد استعماله.

(2/258)

________________________________________

واختلف في رهن الجنين فمعروف قول مالك أنه ممنوع وأجازه ابن ميسر كذا نقله الشيخ أبو محمد ولم يحك ابن الجلاب إلا الجواز وعزاه ابن حارث لابن الماجشون والمعروف جواز رهن الثمر قبل بدو صلاحه.

ونقل ابن رشد عن ابن القاسم: أنه ممنوع ولم يذكره غيره إلا بالتخريج.

قال المازري: ورهن الثمرة التي لم تخلق كالجنين، وهو خلاف قول ابن الحارث اتفق ابن القاسم، وابن الماجشون على ارتهان الثمرة التي لم تخلق.

واختلف في ارتهان ما في البطن فأجازه عبد الملك كالثمرة ومنعه ابن القاسم.

(والولد رهن مع الأمة الرهن تلده بعد الرهن):

ما ذكر مثله في المدونة قال فيها: ومن ارتهن أمة حاملا كان ما في بطنها وما تلد بعد ذلك رهنا معها، وكذلك نتاج الحيوان.

قال ابن رشد: لأنه كجزء منها، ونحوه للمازري في منع استثنائه واستشكل بعض التونسيين كونه كالجزء بأنه لو كان كذلك للزوم من عتق الجنين عتق أمه كعتق يديها وليس كذلك.

وأجاب بعض شيوخنا بأن الجزء ملازم ومفارق فالملزوم للعتق الملازم لا المفارق، وفي الجلاب وفراخ النخل، والشجر رهن مع أصولها.

قال في المدونة: ولا يدخل إلا صوف كمل نباته يوم الرهن معها كلبن في ضروعها.

(ولا يكون مال العبد معه رهنا إلا بشرط، وما هلك بيد أمين فهو من الراهن):

ما ذكر مثله في المدونة، قال ابن حارث اتفاقًا، قال: واختلف فيما يستفيده بهبة أو شبهها.

قال ابن عبدوس عن ابن القاسم: لا يدخل إلا باشتراطه، وقاله أشهب، واحتج بالوصية؛ لأنها لا تدخل في الأرباح إلا فيما لم يعلمه الموصي.

وقال يحيى بن عمر: تدخل وهي أشبه بالمبيع من الوصية. قال التونسي في الموازية: إذا اشترط مال العبد في الرهن لا يدخل ما أفاد فيه، وإلا شبه دخوله كشرط ماله إذا ابتيع على الخيار فما أفاد من مال في أيامه دخل فيه.

وفي المدونة فيمن كوتبت على خيار فما أفادت في أيامه فهو لسيدها، وهو فيها لغير ابن القاسم، والمعروف الأول.

وقال المازري: وقيل في الأرباح: إنها كالفائدة في الزكاة فأشار إلى تخريج الخلاف في ربح مال العبد.

(2/259)

________________________________________

(والعارية مؤداة يضمن ما يغاب عليه ولا يضمن ما لا يغاب عليه من عبد أو دابة إلا أن يتعدى):

العارية هي بتشديد الياء، قاله الجوهري. وقال ابن شاس، وابن الحاجب العارية تمليك منافع العين بغير عوض، واعترضه بعض شيوخنا بأنه غير جامع؛ لأنه لا يتناولها إلا مصدرا والعرف إنما هو استعمالها اسما وهو الشيء المعار.

قال مالك في المدونة فيما تلف من عارية الحيوان عند من استعارها: لا ضمان عليه إلا أن يتعدى، وبأنه غير مانع؛ لأنه يدخل عليه الحبس، وحدها بأن قال: هي مصدرًا: تمليك منفعة مؤقتة لا بعوض فتدخل العمرى والإخدام لا الحبس واسما مالك ذو منفعة مؤقتة ملكت بغير عوض، وهي مندوب إليها من حيث الجملة؛ لأنها إحسان والله يحب المحسنين ويعرض لها الوجوب كمن هو مستغن عنها لمن يخشى هلاكه والتحريم ككونها معينة على معصية والكراهة إذا أعين بها على مكروه والمباح إذا أعين بها غني.

واختلف في علف الدابة المعارة فقيل: على المعير، وقيل: على المستعير، قال ابن رشد في المقدمات: وأجرة حمل العارية على المستعير، واختلف في أجرة ردها فقيل: على المستعير وهو الأظهر وقيل: على المعير؛ لأن العارية معروف فلا يكلفه أجرف بعد معروف صنعه.

وقبل الفاكهاني قول ابن الجلاب ومن استعار شيئًا إلى مدة معلومة فلا بأس أن يكريه من مثله، وفي المدونة: ولا بأس أن يعيره من مثله كما قال ابن هارون وابن عبد السلام، قول ابن شاس، وابن الحاجب المعير مالك للمنفعة غير محجور عليه فتصح من المستعير، والمستأجر، ويؤيد ما قالوه قول المدونة في الوصايا الثاني، وللرجل أن يؤاجر ما أوصى له به من سكنى دار أو خدمة عبد قال في الوصايا الأول إلا أن يريد رب العبد ناحية الكفالة والحضانة، وهو خلاف ما في الزاهي لابن شعبان من استعار دابة فلا يركبها غيره وإن كان مثله في الخفة والحال ومثله قول إجارة المدونة إن استأجرت ثوبًا تلبسه يومًا إلى الليل فلا تعطه غيرك ليلبسه لاختلاف الناس في اللباس والأمانة.

وكره مالك لمكتري الدابة لركوبة كراؤها من غيره، وإن كان أخف، وخرج ابن عبد السلام قوله في العارية، وما ذكر الشيخ أنه لا يضمن ما لا يغاب عليه، قال اللخمي: هو المشهور من قولي مالك وأصحابه وروى ابن شعبان: لا يصدق في ذهاب الحيوان حتى يعلم ذهابه، وقاله ابن القاسم في كتاب الشركة، ولا حاجة لتأويل بعضهم

(2/260)

________________________________________

إذا كان أحد قولي مالك، وقيل: لا يصدق فيما صغر فقط، وقد يرجح هذا فيما يراد منه الأكل دون غيره.

قلت: ونقل ابن يونس عن أشهب يضمن الحيوان ولو قامت بينة على هلاكه بغير سببه فيتحصل في المسألة أربعة أقوال.

(والمودع إن قال: رددت الوديعة إليك صدق إلا أن يكون قبضها بإشهاد):

قال ابن شاس: وابن الحاجب: الوديعة استنابة في حفظ المال، واعترض بعض شيوخنا ما ذكراه بأنه غير جامع؛ لأنه بقي عليهما إيداع الوثائق بذكر الحقوق وبأنه غير مانع لأنه يدخل فيه حفظ الإيصاء، والوكالة؛ لأنها أزيد من الحفظ وحفظ الربع، وحدها بأن قال الوديعة بمعنى الإيداع نقل مجرد حفظ مالك بنقل، وهي مباحة، ويعرض لها الوجوب والتحريم، وأمثلتها واضحة.

وما ذكر الشيخ من أنه مصدق مثله في التهذيب، وظاهرهما بغير يمين وعزى للمدونة، وقيد الفاكهاني قول الشيخ فقال يريد، ويحلف كان متهما أم لا قال عبد الحق.

وقال اللخمي: يحلف ولو كان مأمونا لدعوى ربها عليه التحقيق إلا أن تطول عليه المدة مما يعلم أن مثل المودع لا يستغني عنها لما يعلم من قله ذات يده أو تمر عليه عشرة فتضعف اليمين إن كان المودع عدلا، ونقل ابن الحاجب قولاً بعدم حلفه فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال منصوصة، ومرض غير واحد من أشياخي ما نسب لابن الحاجب لعدم وقوفهم عليه لغيره.

وأجابهم شيخنا أبو مهدي رحمه الله بأنه ظاهر قول أبي محمد في مختصره في الوكالات في قوله، ويحلف إن كان متهما وظاهره إذا كان غير متهم لا يحلف، وما أجابهم به شيخنا صحيح؛ لأن ظواهر كلام الفقهاء كالمنصوص، ويريد الشيخ بقوله إذا قبضها بالإشهاد أن تكون البينة مقصورة التوثق، وبذلك قيد غير واحد المدونة كعبد الحق واللخمي.

ونقل ابن عات عن ابن زرب ما يقتضي أن البينة لا يشترط فيها ذلك بل يضمن مع وجودها مطلقًا، قال بعض شيوخنا: ولا أعرفه لغيره وقيل: لا يضمن والبينة كالعدم عزاه ابن شاس لابن القاسم نصًا، ولم يذكره ابن رشد إلا تخريجا من قوله في دعوى المستأجر رد ما استأجره من العروض أنه يصدق ولو قبضه ببينة على تردد عنده في التخريج، وجعله ابن الحاجب المذهب وجعل ما يقوله غيره أنه المذهب، وأنه المشهور ثانيًا له ونصه وإذا ادعى الرد قبل مطلقًا، وقيل: ما لم تمكن بينة مقصودة

(2/261)

________________________________________

التوثق، وتعقبه ابن عبد السلام، بقوله: الثاني: هو مذهب المدونة، وأما الأول فشاذ على نظر في صحة نسبته إلى المذهب.

(وإن قال ذهبت فهو مصدق بكل حال):

ما ذكر الشيخ هو كذلك باتفاق، واختلف في حلفه على ثلاثة أقوال: فقيل: يلزمه قاله ابن نافع وعليه حمل الفاكهاني قول الشيخ، وقيل: لا يحلف نقله اللخمي، وقيل: إن كان متهما حلف وإلا فلا، نقله أبو محمد عن أصحاب مالك رحمه الله وبه فسر ابن يونس المدونة في قولها صدق وصرح ابن رشد بأنه المشهور.

قال: ولو حققت الدعوى توجهت اليمين باتفاق، وقال ابن الحاجب: فيها وفي التي قبلها: وأما المتهم فيحلف باتفاق وهو قصور لما تقدم من الخلاف قاله ابن عبد السلام، وتعقبه خليل.

قلت: وهو خلاف قوله في الزكاة فإن قال: قراض أو وديعة أو على دين أو لم يحل الحول صدق ولم تحلف فإن أشكل أمره فثالثها بحلف المتهم كأيمان التهم.

(والعارية: لا يصدق في هلاكها فيما يغاب عليه):

لا حاجة إلى هذا بعد قوله قبل، والعارية مؤداة، واختلف قول مالك لو قامت بينة فيما يغاب عليه فإنه لم يتعد وأخذ ابن القاسم بعدم الضمان وأشهب بعكسه، ولم يحفظها ابن يونس وذكر ابن الحاجب قولين لهما وحكاهما ابن الجلاب روايتين.

(ومن تعدى عله وديعة ضمنها):

ما ذكر هو كذلك باتفاق كما إذا أودعها لغير عذر، واختلف في مسائل يتردد النظر هل هو متعد فيها أم لا؟ فمن ذلك إذا نزى على بقرة وشبهها فعطبت به أو ماتت من الولادة، فقال ابن القاسم في المدونة: يضمن، وقال أشهب: لا يضمن قائلاً: إنزاؤه عليه أرجح؛ لأنه مصلحة، ولو ختن المودع علجا أسلم عنده، وهو يطيقه فمات فإنه ليس بمتعد اتفاقًا وسواء قلنا: الختان واجب أو سنة على ما تقدم قاله شيخنا أبو مهدي رحمه الله وكذلك اختلف إذا وضع الوديعة في جيبه فضاعت فهل يضمنها أم لا على قولين حكاهما ابن شعبان.

والذي أفتى به بعض شيوخنا: أنه لا يضمن قائلاً: لا ينبغي اليوم أن يختلف فيه ومن ذلك اختلف ابن القاسم، وأشهب، فيما إذا أودعها زوجته وخادمة المعتادة عنده لذلك فقال ابن القاسم: لا يضمن خلافًا لأشهب.

وأما عكسها، وهي إذا أودعت المرأة زوجها وديعة فضاعت فأظن أن عياضًا

(2/262)

________________________________________

حكى في مداركه فيها خلافًا لما عرف بأحمد بن صالح الفهري عرف بابن الطبري من أصحاب ابن وهب فانظره فإنه قد تعذر علي الآن، وفي المعنى لا فرق وهذا الفصل متسع جداً.

(وإن كانت دنانير فردها في صرتها ثم هلكت فقد اختلف في تضمينه):

اعلم أنه اختلف المذهب في المسألة على أربعة أقوال فقال مالك وابن القاسم في المدونة، ومحمد: لا يضمن، وبه قال أشهب، وعبد الحكم، وأصبغ وهو المشهور، وقيل: يضمن رواه يحيى بن عمر عن مالك، وهو قول المدنين.

وقال ابن الماجشون: وإن كانت مربوطة أو مختومة لم يبرأ إلا بردها إلى ربها وكذلك إن كان سلف بعضها ضمن جميعها، ولو أشهد على إخراجها من ذمته لم يبرأ إلا بردها لربها، والجميع ذكره اللخمي إلا أنه لم يعز إلا الثلاث الأول فقط، وقيل: إن ردها كما كانت بإشهاد برئ قاله مالك، وأخذ به ابن وهب وعلى الأول فاختلف في اليمين فقيل: لا يخلف، وهو ظاهر المدونة قاله الباجي، وأشار أبو محمد إليه بقوله لم يذكر في المدونة يمينا، وقيل: يحلف قاله ابن المواز، وابن الماجشون في المبسوط.

وقيل: إن تسلفها بغير بينة فالأول وإلا لم يصدق إلا بينة قال في الموازية، ولم يعزه اللخمي بل ذكره اختيارًا له وقيل: إلا أن يكون إشهاده لخوف موته حفظ الحق المودع فيبرأ، وإن لم يشهد على ردها.

قال ابن شعبان: من أودع وديعة وقال له: تسلف منها إن شئت فتسلق لم يبرأ يردها إلا إلى ربها.

وقال ابن رشد، واللخمي: لا يختلف فيه؛ لأن السلف من ربها وهذا التوجيه الذي ذكرنا هـ ذكره الباجي أيضًا وقال عندي إنه يبرأ بردها.

(ومن اتجر بوديعة فذلك مكروه والربح له إن كانت عينا):

ذكره التجر طردي، وإنما المراد تسلفها، وما ذكر من الكراهة، وهو أحد الأقوال الستة، وبه قال مالك في سماع أشهب، وعليه يحمل منع مالك في كتاب اللقطة من المدونة، وقيل: إنه جائز إن أشهد قاله في سماع أشهب ثانيًا.

وقيل: إن كانت مربوطة أو مختومة لم يجز قاله عبد الملك، ولما ذكر اللخمي هذه الأقوال الثلاثة قال: وأرى إن علم عدم كراهته المودع لذلك جاز، وإن علم كراهته لم يجز، وإن أشكل أمره كره.

قلت: وسمع أشهب ترك تسلفها أحب إلي فجعله بعض شيوخنا خامسًا بناء على

(2/263)

________________________________________

أن نقيض المستحب ليس بمكروه ونص ما في لقطة المدونة، ولا يتجر باللقطة في السنة ولا بعد السنة أيضًا كالوديعة فأخذ بعضهم منها التحريم، وقبله الفاكهاني فيكون سادسها.

والصواب: حملها على الكراهة كما صرح بها في أواخر كتاب الوديعة، ولم يذكر ابن الحاجب غير المدونة الكراهة والجواز فقال: وإن كان له وفاء وهي نقد فجائز إن أشهد، وقيل مكروه فقدم الجواز في أن الثاني هو مذهب، وأما سلف المبضع معه فإنه جائز ذكره ابن يونس في الوكالة وأجرى بعض من لقيناه من القرويين فيه ما في الوديعة وكنت أجيبه بأنه فرق بين من لم يؤذن له فيه التصرف البتة، وبين من أذن له فيه على وجه ما فالأول: أشهد والثاني: وأخف فلم يقبله.

وما ذكرناه من الخلاف في تسلف الوديعة إنما هو في غير الفقير، وأما فيه فلا يجوز قاله اللخمي قائلاً: وليس له تسلفها إن كانت مما يقضى فيه بالقيمة، وكذلك المكيل والموزون إذا كثر اختلافه، كالكتان. واختلف في تسلق القمح والشعير وشبهه، فقال في المدونة: إن تسلفها ثم رد مثلها لم يضمنها، وقال عبد الملك: إن خلطها بمثلها ضمن.

وقال الباجي: حكي عبد الوهاب هذا في كل مكيل أو موزون.

قلت: وذكر ابن الحاجب القولين منصوصين، واعترضه ابن عبد السلام بأن وجودها غريب بل هما مخرجان على أن التخريج الأول لا يسلم من اعتراض؛ لأنه لا يلزم من عدم ضمانه جوازه وأجابه بعض شيوخنا بوجودهما في كلام ابن الحاجب في قوله وفي اتفاق الوديعة بغير إذن ربها روايتان: الكراهة، والإجازة قال: فإن قلت: لفظ الإنفاق يدل على أنها عين والكلام إنما هو في الطعام، ونحوه.

قلت: ليس كذلك لحمل أبي محمد وابن رشد سماع أشهب من استنفق طعامًا أودعه غرم مبلغه على ظاهره.

(وإن باع الوديعة، وهي عرض فربها مخير بين أخذ الثمن أو القيمة يوم التعدي):

قال الفاكهاني: أنظر هل تكون له أجرة في بيع للعرض والعرض هنا ما عدا العين والاشتراء به أو لا شيء له، وهو الظاهر من إطلاقهم فإني لم أر فيه نصًا.

(ومن وجد لقطة فليعرفها سنة بموضع يرجو التعريف بها):

(2/264)

________________________________________

قال ابن الحاجب: اللقطة كل مال معصوم معرض للضياع في عامر أو غامر.

قال ابن عبد السلام تبع في ذلك ابن شاس، وقد تبع هو في ذلك الغزالي كعادته

(2/265)

________________________________________

في كشقير وهي بسكون القاف وفتحها.

قلت: وقال بعض شيوخنا: اللقطة مال وجد بغير حرز محترم ليس حيوانا ناطقًا ولا نعما فيخرج الركاز وما بأرض الحرب، وتدخل الدجاجة وحمام الدور إلا السمكة تقع في سفينة هي لمن وقعت إليه قاله ابن عات عن ابن شعبان والأظهر في السمكة إن كانت في موضع بحيث لو لم يأخذها من سقطت إليها لنجت بنفسها لقوة حركتها وقرب محل سقوطها من ماء البحر فهي كما قال ابن شعبان في زاهيه: وإلا فهي لرب السفينة كقول المدونة فيمن طرد صيدا حتى دخل دار قوم إن اضطره إليها فهو له، وإن لم يضطره، وبعد عنه فهو لرب الدار.

واعلم أن واجد اللقطة على ثلاثة أقسام: تارة يعلم من نفسه الخيانة فهذا يحرم عليه التقاطها لأن ذلك مستلزم لإتلاف المال المعصوم وتارة يخاف على نفسه الخيانة فهذا يكره له التقاطها ولا يحرم، وتارة يعلم من نفسه الأمانة فإن كانت في مكان يخاف عليها من أهل الخيانة فهذا يجب عليه التقاطها باتفاق، وإن لم يخف عليها الخيانة ففي ذلك ثلاثة أقوال: الاستحباب والكراهة، والاستحباب فيما له بال، وكلها لمالك.

وفي المدونة مع سماع ابن القاسم من التقط ثوبًا يظنه لقوم يراهم فسألهم فقالوا له: ليس لنا فرده حيث وجده لا بأس به.

قال ابن القاسم: إن كانت علينا فأخذه أحب إلى فجعل بعض شيوخنا قول ابن القاسم رابعًا، وهو الفرق بين العين وغيرها، وتأوله ابن رشد فقال: معناه لا ضمان عليه إن فعل والاختيار أن لا يفعل كقوله في الثوب إذ لا فرق بينهما وبين الثوب ورده شيخنا بوضوح خفة الحفظ في العين دون الثوب ولما يلزم من تفقده.

وقال ابن عبد السلام: والأظهر إن كان مع القدرة على الحفظ أن يجب الالتقاط ولا يعد علمه بخيانة نفسه مانعا وأحرى خوفه ذلك؛ لأنه يجب عليه ترك الخيانة والحفظ للمال المعصوم وقصارى الأمر أن من يأمن على نفسه الخيانة فقد توجه عليه الخطاب بالحفظ وحده ومن يخاف على نفسه الخيانة وجب عليه أمران: الحفظ وترك الخيانة، وبعد تسليم هذا فالأظهر من الأقوال الثلاثة الاستحباب أو الوجوب لو قيل به لوجوب أعانة المسلمين عند الحاجة والقدرة على الإعانة.

وما ذكر الشيخ أنه يعرف بها بموضع يرجو التعريف بها هو كذلك؛ لأن ذلك مظنة لوجود صاحبها، ويريد في غير المسجد ولكن على بابه.

(2/266)

________________________________________

قال في المدونة: ويعرف بها على أبواب المساجد مع أنه أجاز في المدونة الحكومة في المسجد وهي مظنة لرفع الصوت فيه وكأنه رآه من باب المذاكرة في العلم فاستخفه أو لقلة الحكومة في زمانهم قاله المغربي.

وقال ابن الحاجب: يعرف بها في الجوامع والمساجد، وغيرها.

قال ابن عبد السلام: لعل ذلك مع حفظ الصوت، وما في المدونة أولى ويريد الشيخ أيضًا، ويكون تعريفه بها فورا بحيث لو تواني بها وضاعت ثم جاء صاحبها فإنه يضمن وهو كذلك على تفصيل فيه ذكره اللخمي، وظاهر كلامه أنه يعرف بنفسه، وهو كذلك إلا أن يكون مثله لا يعرف فيستأجر منهما؛ لأن ذلك مصلحة لربها قاله ابن شاس، وتبعه ابن الحاجب.

وظاهر لفظ اللخمي أجاز ابن شعبان أن يستأجر عليها منها أنه لو كان ممن يلي ذلك لم يلزمه.

(فإن تمت سنة ولم يأت لها أحد فإن شاء حبسها وإن شاء تصدق بها وضمنها لربها إن جاء وإن انتفع بها ضمنها، وإن هلكت قبل السنة أو بعدها بغير تحريك لم يضمنها):

اعلم أن هذه إحدى مسائل السنة، وكذلك الشفعة والمعترض والمجنون والأجذم والأبرص، وعدة المستحاضة والمرتابة والمريضة والجرح، ولا يحكم فيه إلا بعد سنة والبكر تقيم عند زوجها سنة، ولم يصبها ثم تطلق فإنها لا تجبر واليتيمة تمكث في بيتها سنة فإنها تحمل على الرشد في قول والذي يوصي بشراء عبد ليعتق وأبي أهله البيع فإنه يستأني سنة، والتي تقيم شاهد الطلاق، ويأبى زوجها أن يحلف فإنه يحبس سنة في قول.

والهبة إن حاز الموهوب الهبة سنة صح الحوز فيها وإن رجعت إلى الواهب على المشهور والزكاة والصوم لا يجبان إلا بعد السنة، والعمرة لا يباح فعلها على المشهور في السنة إلا مرة واحدة وعهدة السنة، والشاهد إذا تاب من فسقه قيل: لابد من مضي السنة، وقيل: ستة أشهر.

وقيل: لا حد لذلك وكل هذه النظائر ذكرها الشيخ خليل وأكثرها في نظائر أبي عمران الصنهاجي، وظاهر كلام الشيخ أن السنة كافية، ولو كانت لقطة مكة، وهو كذلك لم يحك المازري عن المذهب غيره، ومثله وعزاه عياض لمالك، وأصحابه.

وقيل: يعرف بها أبدًا لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل ساقطته إلا لمنشد" قاله الباجي،

(2/67)

________________________________________

وابن رشد عن المذهب ولفظ ابن رشد أقوى ونصه في المقدمات لقطة مكان لا يحل استنفاقها بإجماع، وعليه أن يعرف بها أبدًا وبها أيضًا قال اللخمي، وابن العربي في القبس بعد أن ذكر اللخمي القول الأول عن ابن القصار، وكذلك ابن العربي، وإنما اختار ما ذكره بعد أن ذكر الأول مالك قال: وتكلم علماؤنا في الاحتجاج لمالك والانفصال عن الحديث، ولا أرى مخالفة الحديث ولا تأويل ما لا يقبل.

وأجابه بعض شيوخنا بقاعدة مالك في تقديمه العمل على الحديث الصحيح حسبما ذكره ابن يونس في كتاب الأقضية، ودل عليه استقراء المذهب.

قال: وقول المازري: محمل الحديث على أصلنا على المبالغة في التعريف؛ لأن ربها يرجع لبلده وقد لا يعود إلا بعد أعوام حجة عليه لا له، وظاهر كلامه وإن كانت يسيرة أنها كالكثيرة ولابد من سنة وهو كذلك على ظاهر قول مالك في المدونة.

وقيل: يعرف بها أيامًا فقط قاله ابن وهب، وابن القاسم في المدونة والقولان حكاهما ابن رشد في المقدمات، وذلك مثل الدريهمات مما جرت العادة أن ربها يسمح بها.

وأما التافه فلا يعرف به وظاهر كلام التسوية بين حبسها وصدقتها ومثله في ابن الجلاب، وزاد ويتملكها وليس في كلام الشيخ خلاف.

وقال اللخمي: واختلف في صفة تصرفه فيها على أربعة أقوال: فقيل: إنه مخير في انفاقها والصدقة ويخير صاحبها في تضمينه وهو قول مالك: لا أحب أن يأكلها مع قول ابن القصار، ويكره أكلها، وقيل: يجوز استمتاعه بها غنيا كان أو فقيرا، ويضمنها لربها، وهو مقتضى قول ابن القاسم في المدونة، وقيل إن كان غنيا بمثلها قاله أشهب، وابن شعبان، وقيل: مثله إن قلت وكان فقيرا قاله ابن وهب في العتبية، وذكر ابن رشد مثل ما ذكر اللخمي من الأربعة الأقوال إلا أنه عزا قول ابن القاسم للشافعي لا لأحد من أهل المذهب.

وقال ابن العربي: لم أجد لأحد من المسلمين خلافًا في ضمان مستنفقها لربها، وأجابه بعض شيوخنا بأن في معلم المازري اختلف الناس في غرامة ملتقطها إن أكلها جاء ربها فعندنا يغرمها، وقال داود: لا غرامة عليه.

(وإذا عرف طالبها العفاص والوكاء أخذها):

قيل العفاص: هو وعاء الدراهم، والوكاء ما يشد به وهذا هو المعلوم في اللغة، وعليه أكثر الفقهاء، وقيل: بالعكس عزاه الباجي لأشهب، وعزا الأول لابن القاسم وهو

(2/268)

________________________________________

واضح لقوله صلى الله عليه وسلم: "اعرف عددها ووكاءها ووعاءها" فجعل بدل العفاض الوعاء.

وظاهر كلام الشيخ أن الدنانير والدراهم لا يشترط معرفة عددها، وهو كذلك عند أصبغ واعتبر ذلك ابن القاسم وأشهب كذا عزاهما الباجي.

وعزا اللخمي الثاني كما ذكر والأول للمدونة.

قال بعض شيوخنا: وفيه نظر؛ لأن فيها يلزم دفعها لمن وصف عفاصها، ووكاءها وعددها قال: لم أسمع من مالك فيها شيئًا، ولا شك أن وجه الشأن أن تدفع إليه فظاهر هذا اعتبار العدد، وعلى هذا اللفظ اختصرها البراذعي، وفيها بعد ذلك أن دفعها لمن وصف عفاضها، ووكاءها وعددها ثم جاء آخر فوصف مثل ما وصف الأول وأقام بينه أن تلك اللقطة كانت له لم يضمنها له لأنه قد دفعها بأمر كان وجه الدفع فيه كذا جاء في الحديث " اعرف عفاصها ووكاءها".

فظاهر هذا مثل ما قال اللخمي قال: وفي اقتصاره على هذا دون الأول نظر، وكذلك بالنسبة إلى البراذعي لكونه اقتصار على الأول فقط، ظاهر كلام الشيخ، أنه لا يفتقر إلى اليمين كما هو ظاهر المدونة، وهو المشهور.

وقال أشهب: لابد من من اليمين وسبب الخلاف هل العرف يتنزل منزلة الشاهدين أو الشاهد الواحد، ولهذه المسألة نظائر كتصديق الزوجة في المسيس بإرخاء الستر عليه في خلوة الاهتداء، وكالقمط والعقود في الحائط، وكالحكم لأحد الزوجين بما يصلح ما في اختلافهما في متاع البيت، وتصديق المغصوبة إذا جائت مستغيثة عند النازلة أو جاءت تدمي وتصديق أحد المتداعيين مع الحوز وتصديق المرتهن في مبلغ قيمة الرهن.

وذكر المغربي في إرخاء الستور عوض هذه النظيرة تصدق الراهن في دفع الدين إذا قبض الرهن، ولا أعرفها منصوصه لغيره وكأنها مناقضة لما نص عليه ابن الهندي، وقبله هو وغيره فيما إذا وجدت الوثيقة بيد المديان ويقول ما قبضتها حتى دفعت ما على فإنه لا يقبل منه ويؤخذ بالحق؛ لأن من حجة رب الدين أن يقول سقطت لي أو سرقت إلا أن يقال: إن الاحتفاظ على الرهن أشد.

وقال شيخنا أبو مهدي رحمه الله: أعرفها منصوصة لغيره، ومحملها عندي على ما إذا اقر المرتهن إنه إذا دفع الرهن، وأما إذا خالف وقال: لم أدفعه فإن القول قوله

(2/269)

________________________________________

كمسألة الوثيقة.

قال المازري في المعلم: ولو جهل عين المسروق منه فكاللقطة يأخذ السرقة ويصفها بما تؤخذ به اللقطة قاله أصحابنا.

واختلف في جهل المودع فقيل: كذلك وقيل: لأنه قادر على دفعها ببينة؛ لأنه مختار.

واعلم أنه إذا وصفها اثنان بما يأخذها به المنفرد تحالفا وقسمت بينهما فإن نكل أحدهما أخذها الحالف قال الباجي زاد اللخمي عن أشهب إن نكلا لم تدفع إليهما قال: وأرى أن يقتسماها.

قلت: قال بعض شيوخنا، وهو الجاري على قول ابن القاسم بعدم وقف أخذها بالصفة على اليمين قال اللخمي: وإن أخذها بالصفة ثم أتى آخر فوصفها بمثل وصف الأول قبل أن يتبين ويظهر أمرها قسمت بينهما على الصحيح من القولين فظاهره أن في ذلك خلافًا.

وقال ابن يونس: تقسم بينهما على قول ابن القاسم وعلى قول أشهب تكون للأول.

(ولا يأخذ الرجل ضالة الإبل من الصحراء):

(2/270)

________________________________________

ظاهر كلام الشيخ: وإن كانت بموضع لا يؤمن عليها من السباع وهو كذلك في أحد القولين، وظاهر كلامه أيضًا أنه يلتقطها إذا وجدها في غير الصحراء، وهو واضح؛ لأن وجود ربها في غير الصحراء أسهل فليلتقطها ليحفظها له حتى يجدها عن قرب بخلاف ما إذا وجدها في الصحراء فلا يتأتى له معرفه ربها إذا نقلها إلى العمارة.

واختلف هل يلحق البقر والخيل والبغال والحمير بالإبل أم لا؟ على ثلاثة أقوال: ثالثها لابن القاسم تلحق البقر دونها وهذه الأقوال حكاها ابن الحاجب.

قال ابن عبد السلام: وإنما تتصور الأقوال الثلاثة على نوع من التخريج.

(وله أخذ الشاة وأكلها إن كانت بفيفاء لا عمارة فيها):

ظاهر كلام الشيخ ولا ضمان عليه إن جاء صاحبها، وهو كذلك قاله مالك.

قال ابن عبد البر، وقال سحنون في العتبية: إذا أكل الشاة واجدها بالفلاة أو تصدق بها ثم جاء صاحبها ضمنها له، وهو الصحيح، وقد قال مالك: ومن اضطر إلى طعام غيره، وأكله فإنه يضمنه فالشاة الملتقطة أولى بذلك ورأوا أن قوله صلى الله عليه وسلم: " هي لك أو لأخيك أو للذئب" ليس بتمليك لقوله أو للذئب.

قالوا: وقد جاء: " هي لك أو لأخيك أو للذئب فاردد على أخيك ضالته" قيل: وإنما قوله هي لك مثل قوله في اللقطة فشأنك بها.

قلت: وما نقله عن العتبية قبله ابن عبد السلام: وقال بعض شيوخنا هو وهم وليس في العتبية شيء من ذلك، وإنما لسحنون فيها ضمانه فيما يجب عليه فيه التعريف.

قال فيها عنه: من اختلطت بغنمه شاة ولم يجد ربها كانت لقطة يتصدق بها ويضمنها لربها وشرب لبنها خفيف؛ لأنه يرعاها ويتفقدها فهذا هو الموجود فيها لا ما تقدم، وإذا فرعنا على الأول فإذا ذبحها في الفلاة ثم أتى بلحمها أكله غنيا كان أو فقيرا.

قال أصبغ: ويصير لحمها وجلدها مالا من ماله، ولا ضمان عليه في ذلك إلا أن يجده صاحبها في يده فيكون أحق به.

(2/271)

________________________________________

قال اللخمي: يريد ويغرم أجر نقلها.

قلت: قال بعض شيوخنا: وفيه نظر؛ لأنه نقلها لنفسه، وإن أتى بالشاة من الفلاة إلى العمارة فلها حكم اللقطة فإن أتى ربها أخذها قاله أصبغ أيضًا، وقال اللخمي: والقياس لا شيء فيها لربها؛ لأنه نقلها بعد أن ساغ له ملكها ولولا ذلك لما نقلها، وأجابه بعض شيوخنا بأن المملوك له منها الانتفاع بها لا ملكها.

وقال ابن رشد: تعقب التونسي قول أصبغ إذا قدم بها مذبوحة، وقال: الأصوب عدم أكله إياها، وإن يبيعها، ويوقف ثمنها؛ لأن الإباحه إنما كانت حيث لا ثمن لها، وهو صحيح، فيتحصل من هذا ثلاثة أقوال: قول أصبغ، وقول سحنون وقول التونسي.

وأما إذا وجد ما يفسد كالطعام وكان كثيرًا فلا يخلو إما أن يكون مما لا يخشى تلفه كوجوده في رفقة مأمونة أو قرية أم لا؟ فالأول: إن أكله أو تصدق به، واختلف في ضمانه له على ثلاثة أقوال: فقيل: إنه يضمنه أكله أو تصدق به وهو ظاهر قول أشهب يبيعه، ويعرف بثمنه وقيل: بعكسه، وهو ظاهر المدونة وقيل: إن أكله ضمنه، وإن تصدق به لم يضمنه قاله ابن حبيب.

وأما الثاني فيجوز له أكله ولا شيء عليه وهذه طريقة ابن رشد في المقدمات وما ذكر اللخمي الثلاثة في التافه وغيره وعزاه الأول كما تقدم والثاني لمالك والثالث لمطرف قال: وأرى فيما لا يطلبه ربه غالبًا لقلته لا شيء فيه إذا أكله أو تصدق به، وأما ما الغالب طلبه فعلى واجده حفظه لبقائه على ملك ربه فذكر كما ترى الأقوال في الكثير واليسير.

(ومن استهلك عرضًا فعليه قيمته):

ما ذكر أن العرض تلزمه فيه القيمة هو المشهور، وحكى الباجي عن مالك قوله بأن جميع المتلفات مثليه كقول أبي حنيفة والشافعي.

قال المازري: كذا في نسخ المنتقي وأراه وهما.

قلت: وحكاه عنه ابن زرقون، ولم يتعقبه، ولا نقل كلام المازري، مع أنه نقل عنه في غير موضع.

(وكل ما يوزن أو يكال فعليه مثله):

ظاهر كلام الشيخ أن من استهلك غزلا فعليه مثله، وهو كذلك عند غير ابن القاسم، وهو أشبه.

(2/272)

________________________________________

وقال ابن القاسم: تلزمه قيمته وكلاهما في المدونة وهي أول مسألة من كتاب تضمين الصناع.

فإن قلت: وهل حكم سلف الغزل يتنزل منزلة استهلاكه فيختلف فيه أم لا؟ قلت: ليس كذلك بل نقل ابن يونس في أوائل الجعل والإجارة عن البراذعي وعن محمد بن أبي زيد أنه يرد مثله، وسألت شيخنا أبا مهدي: هل تحفظ خلافة؟ قال: لا، وهو صواب؛ لأنه فرق بين السلف والاستهلاك، وكذلك اختلف ابن القاسم، وأشهب فيمن استهلك حليا إلا أن قول اشهب ليس هو في المدونة، وإنما نقله ابن يونس والأصل قول أشهب ولذلك قال بعض شيوخ الفاكهاني: الأصل أن يحكم في ذوات الأمثال بالمثل إلا في أربع مسائل: الأولى: مسألة الغزل.

الثانية: من فدى أسيرًا بدار الحرب بقنطار قطن مثلاً فإنه يأخذ قيمته ببلد الإسلام؛ لأنه لو أخذ القطن ربما أضر بالمفتدى.

الثالثة: إذا وهب لغيره هبة ثواب مما يكال أو يوزن فيفوت فعليه قيمته، وهل له أن يعطيه مثله؟ فقال ابن القاسم: ليس له ذلك خلافًا لأشهب.

الرابعة: إذا كان لشريكين على رجل قنطار كتان مثلاً فاقتضى أحدهما منه نصفه فدخل معه شريكه فيما اقتضى، وقلنا: إنه يرجع الآخر بالنصف الثاني، فقبضه منه فعليه أن يعطيه قيمة نصفه لشريكه.

وأما من قال: يرجعان جميعا فلا تخرج هذه المسألة عن الأصل.

وزاد الفاكهاني مسألة خامسة: وهي من اشترى صبرة جزافا فأتلفها البائع أو غيره فإنما فيها القيمة لا المثل ذكر ذلك عند تكلمه على كلام الشيخ، وكل بيع فاسد فضمانه من البائع.

ومسألة الحلي السابقة سادسة: وظاهر كلام غير واحد أن المعدود من ذوات القيم بالإطلاق.

وقال ابن رشد: المعدود الذي لا تختلف أعيان عدده كالجوز والبيض مثلي، قلت: وأما اللؤلؤ الصغير القدر جداً الذي لا يباع إلا وزنا فهو مثلي أيضًا بخلاف ما فوقه فإنه من ذوات القيم لكمال تباين آحاده، ولذلك قال في المكاتب لا تجوز الكتابة على لؤلؤ غير موصوف لتقارب الإحاطة بصفته يريد بصفة الوسط منه قاله بعض شيوخنا.

(2/273)

________________________________________

(والغاصب ضامن لما غصب)

قال ابن الحاجب مختصرا لكلام ابن شاس: الغصب أخذ المال عدوانا قهرًا من غير حرابة فأخرج بالعدوان ما أخذ قهرا لا عدوانا كأخذ الإمام الزكاة من الممتنع وتعقب بوجهين:

أحدهما: أن فيه التركيب وهو وقف معرفة على معرفة حقيقة أخرى ليست أعم منه، ولا أخص من أعمه.

الثاني: بأنه غير مانع لأنه يدخل عليه فيه المنافع كسكنى ربع وحرثه، وليس غصبًا بل تعديل، وهو لبعض شيوخنا وحده بأن قال: الغصب أخذ مال غير منفعة ظلما قهرا لا لخوف قتال فيخرج أخذه غيلة إذ لا قهر فيه؛ لأنه بموت مالكه وحرابه، ومعرفة حرمة الغصب في الدين ضرورة؛ لأن حفظ الأموال أحد الكليات التي اجتمعت الملل عليها.

قال ابن رشد في مقدماته، ومثله لابن شعبان، وغيره: ويؤدب فاعله سواء عفا عنه المغصوب منه أم لا!! لئلا يتجرأ على الناس، وما ذكروه هو خلاف نقل المتيطي لا يؤدب إن عفا عنه المغصوب منه فجعل الحق فيه للآدمي، وإن كان الغاصب صغيرا لم يبلغ فقيل: يسقط أدبه لرفع الإثم عنه.

وقيل: إنه يؤدب كتأديبه في المكتب وكلاهما حكاه ابن رشد في مقدماته، وغيره ولم يحك ابن الحاجب غير الثاني، ولم يتحقق ابن عبد السلام وجود الأول بل قال: أظن أني وقفت عليه لبعض الشيوخ.

قال ابن شعبان: والغصب بين الزوجين وبين الوالد، وولده ثابت لابد من أدبه، وفي اغتصاب الوالد من ولده خلاف، وبهذا أقول: وظاهر كلام الشيخ أن الغاصب يضمن وإن كان صبيا مميزا وهو كذلك باتفاق.

وأما غصب الصغير الغير المميز فقيل: كذلك وقيل، لا، كذلك الخلاف في الدم وجمع ابن الحاجب بينهما فذكر ثلاثة أقوال فقال: وأما غير المميز فقيل: المال في ماله

(2/274)

________________________________________

والدية على عاقلته، وقيل: المار هدر كالمجنون، وقيل: كلاهما هدر، واعترضه ابن عبد السلام بأن هذه الطريقة، وإن كانت حسنة في الفقه لكن الروايات لا تساعدها، وإنما تعرضوا للتحديد في هذه المسألة بالسنين فقيل: ابن سنتين، وقيل: ابن سنة ونصف إلى غير ذلك.

وأجابة بعض شيوخنا بأنها تساعده، قال ابن رشد في ثاني مسألة في رسم العتق من سماع عيسى من الجنايات: لا خلاف أن الصبي الذي لا يعقل ابن سنة ونصف ونحوها أنه في جنايته في المال، والدماء كالمجنون، وفيها ثلاثة أقوال المذكورة وعزا الثالث لهذه الروايات والصبي قال: والصبي والمميز ضامن المال في ذمته والدماء على حكم الخطأ والمشهور أن الضمان يعتبر حالة الغصب إن فات المغصوب.

وقيل: يلزمه أرفع القيم نقله ابن شعبان عن ابن وهب، وأشهب، وعبد الملك قال: لأن عليه رده في كل وقت فمتى لم يرده فهو كغصبه حينئذ قال: وكذلك إذا كانت قيمته خمسين ثم بلغت ألفا ثم عادت إلى خمسين أو هلك فالقيمة عندهم على أرفع القيم.

قال اللخمي: فجعلوا له أرفع القيم مع وجود عينه وعدمها وأراه كذلك إن كان المغصوب للتجر لا للقنية، ولقول مطرف، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم وأصبغ، فيمن غصب دارًا فأغلقها أو أرضًا فبورها أو دابة فأوقفها يغرم إجارتها لمنعه ربها إياها.

(فإن رد ذلك بحاله فلا شيء عليه وإن تغير في يده فربه مخير بين أخذه بنقصه أو تضمينه القيمة):

ظاهر كلامه وإن تغير في سوقه وهو المشهور وتقدم الآن ما في ذلك.

واختلف إذا نقل الغاصب الطعام لغير البلد الذي غصبه فيه ووجده ربه على أربعة أقوال، فقيل: إنما يلزمه مثله في البلد الذي غصبه فيه قال ابن القاسم وقيل: إنه مخير في ذلك بين قيمته وأخذه قاله أشهب وقيل: إن لقيه ببلد بعيد عن بلد غصبه فالأول وإلا فالثاني قاله أصبغ.

وقال اللخمي: بعد أن نقل ما تقدم: إن له أخذ الطعام إن كان الغاصب مستغرق الذمة أو لم يكن سعره في بلد الغصب أقل منه في بلد النقل أو قال ربه: ادفع الأقل من نقله وزيادة سوقه.

قال ابن الحاجب: ولا خلاف أن الغاصب يمنع منه حتى يتوثق.

(2/275)

________________________________________

قال ابن عبد السلام: هذا صحيح في النظر، ولا يبعد وجود الخلاف فيه أو ما يدل عليه في فروعهم وأظن أني وقفت على ما يقتضي ذلك.

قلت: ولم ينقل الشيخ خليل ما ذكره، واعترضه بعض شيوخنا بأن قول وجود الخلاف فيه يقتضي وجود القول عنده؛ لأنه لا يحال بينه وبينه مع عدم التوثق منه، وهذا خلاف الإجماع على منع الحاكم من الحكم بما يقتضي تضييع الأموال على أربابها فتأمله.

وفسر خليل التوثق المذكور بأحد أمرين: إما برهن أو بضامن وقبله شيخنا أبو مهدي وهو عندي بعيد بالنسبة إلى الرهن، والصواب: الضامن فقط، والله أعلم.

قال الشيخ أبو مهدي، وفي الموازية عن ابن القاسم: لو اتفقا على أن يأخذ منه ثمنا نقدا جاز كبيع طعام القرض قبل قبضه، وقاله أصبغ، وروي ابن القاسم في المجموعة والعتبية: لا يجوز أخذه منها طعامًا يخالفه في جنس أو صفة؛ لأنه طعام بطعام مؤخر.

(ولو كان النقص بتعديه خير أيضًا في أخذه وأخذ ما نقصه، وقد اختلف في ذلك):

هذه المسألة هي من باب التعدي لا من باب الغصب ويعني أن من خرق ثوبًا مثلاً فأفسده فسادًا كثيرًا أن ربه مخير في أخذه وأخذ ما نقصه أو أخذ القيمة بخلاف اليسير، وهذا قول مالك في المدونة.

قال ابن القاسم فيها: وكان مالك يقول: ويغرم ما نقصه، ولم يفصل بين القليل والكثير ونقل غير واحد كابن يونس عن أشهب إنما له أخذ القيمة أو أخذه ناقصًا ولا شيء له معه، وقاله ابن القاسم في أحد قوليه. قال سحنون وفي المدونة إن أفسده يسيرا فلا خيار له وإنما له ما نقصه بعد رفوه.

قال ابن حارث: اتفاقًا من ابن القاسم، وأشهب زاد غيره، ومالك قال اللخمي: وليس فيه القضاء بالمثل ولو كان منه ما غرم النقص بعد إصلاحه، وقد تكون قيمة الثوب سالما مائة ومعيبًا تسعين فأجرة رفوة عشرة وتكون قيمته بعد إصلاحه خمسة وتسعين بخسر المتعدي خمسة، وقد لا تزيد إلا صلاح في قيمته معيبًا شيئًا وإنما يلزمه إصلاحه؛ لأن ربه لا يقدر على استعماله إلا بعده، ومثله من حلق رأس محرم كرها بفدي عنه؛ لأنه أدخله في ذلك.

واختلف في هذا الأصل هل يغرم الجارح أجرة الطبيب أم لا؟ على قولين الأحسن أنه على الجارح كأنه كالرفو قال ابن يونس: ولو قال قائل السير إنما عليه فيه ما نقصه فقط، لم يبعد؛ لأنه إذا أعطاه ما نقصه دخل فيه الرفق كقولهم فيمن وجد آبقا، وكذلك شاة له جعل مثله، ولا نفقة له؛ لأنها داخلة في تقويم جعل مثله.

(2/276)

________________________________________

قلت: وما ذكرناه قول ابن الحاجب قالوا: بعد رفو الثوب وشعب القصعة وضعف. واعترضه خليل بأنه يوهم تواطؤ أهل المذهب أو أكثرهم عليه، وإنما نقله ابن يونس عن بعض الأصحاب، ونحوه.

قال ابن عبد السلام: وإنما حكاه بعض الشيوخ وأنكره غيره، وقال ظاهر نصوصهم لا يلزم رفو الثوب ولا شعب القصعة ولعل هذا وما في معناه هو ما أراد بقوله: وضعف.

(ولا غلة للغاصب ويرد ما أكل من غلة أو انتفع بها، وعليه الحد إن وطئ ولده رقيق لرب الأمة):

قال ابن رشد في المقدمات: تحصيل اختلافهم في الغلة بعد اجتماعهم على أن ما هلك ببينة لا ضمان على الغاصب فيه، وأنه لا يقبل دعواه التلف، وإن كان مما لا يغاب عليه على ثلاثة أقسام قسم على خلقه الأصول كالولد، وفي إطلاق الغلة عليه نظر فلا خلاف عندهم أن عليه رده مع الأم إن كانت قائمة، وإن ماتت خير بين الولد وقيمة الأم.

قلت: وخرج الشيخ ابن القاسم السيوري: أن الولد غلة وهو للغاصب من قول مالك في المدونة في كتاب الرد بالعيب فيمن رد أمة ابتاعها بعيب فقد زوجها فولدت يجبر نقص النكاح بالولد كما يجبر بزيادة قيمتها، والنكاح ثابت.

قال المازري: ورد بوجهين:

أحدهما: لو كان غلة ما جبر به العيب؛ لأن الولد غير عين وقيمة العيب، إنما هي عين والجبر فيه يوجب كونه كعضو منها.

الثاني: أنه يجبرها وإن زاد على أرش العيب ولو كان كما قال لما جبر به مع الزيادة.

قال ابن رشد: وما كان متولدا على غير خلقة الأصول كالصوف واللبن ففيه قولان، وأما ما كان غير متولد كالأكرية والجراحات ففي ذلك خمسة أقوال ولم يعزها، وما ذكر من العزر هو للمغربي، فقيل: يرد ذلك قاله مطرف، وابن الماجشون، وأشهب وابن عبد الحكم، وأصبغ، وعكسه قاله مالك، وقيل: يرد إن اكتري ولا يلزمه إن انتفع أو عطل رواه أبو الفرج.

وقيل: يلزمه إن أكرى أو انتفع، ولا يلزمه إن عطل قاله مطرف، وقيل: يرد غلة الأصول دون الحيوان قاله ابن القاسم.

(2/277)

________________________________________

قلت: وأقام المغربي من قول المدونة من أنه إذا عطل لا شيء عليه على ما نص عليه في الواضحة من وكل على ربع فتركه ولم يكره فلا شيء عليه، قال: ويتخرج من قول مطرف ومن ذكر أنه يضمن.

قلت: ويرد بأن الغاصب أشد، وقبل شيخنا أبو مهدي ما نص عليه ابن سهل أن الوصي إذا بور ربع اليتيم؛ أنه ضامن وهو الصواب، ولا يتخرج في الوكيل؛ لأن الموكل قادر على أن يكري بنفسه أو يوكل غيره وبخلاف الموصى عليه والله أعلم.

(ولا يطيب لغاصب المال ربحه حتى يرد رأس المال على ربه):

قال اللخمي: واختلف في ربح الغاصب على ثلاثة أقوال: فقيل له سواء كان موسرا أم لا قاله مالك وابن القاسم.

وقيل له: إن كان موسرا قاله ابن حبيب، وابن مسلمة في الولي يتجر في مال يتيمه لنفسه.

قلت: ويرد بأن الغاصب أشد، وقيل: للمغصوب منه بقدر ما ربح في ذلك المال لو بقي في يده، وما زاد عليه للغاصب، وذكره ابن سحنون فيمن شهد بدين حال أن صاحبه أخر الغريم به سنة ثم رجع عن الشهادة بعد محل الأجل.

قال التادلى: وقول الشيخ: ولا يطيب أي لا يحل اختلاطه بالمحرم وحمل عبد الوهاب على الكراهة قائلاً: لأن الشيء المعصوب في ذمته فكان الربح بحكم الشرع؛ لأنه مكروه؛ لأنه نشأ عن مال لم تطب نفس مالكه بتقبله فإذا رد رأس المال على ربه ساغ له.

(ولو تصدق بالربح كان أحب إلى بعض أصحاب مالك، وفي باب الاقضية شيء من هذا المعني):

كلام الشيخ دل على قولين:

أحدهما: إذا رد رأس المال على ربه؛ أنه يطيب له الربح، ولا يستحب له الصدقة به، وإلى هذا أشار بقوله: ولا يطيب لغاصب المال ربحه حتى يرد رأس المال على ربه.

الثاني: أنه يستحب له الصدقة به ولهذا أشار بقوله: ولو تصدق بالربح كان أحب إلى بعض أصحاب مالك وعرضت هذا على شيخنا أبي مهدي رحمه الله فاستحسنه وقال به.

(2/278)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في أحكام الدماء والحدود

قال ابن رشد: قتل المسلم عمدًا عدوانا كبيرة ليس بعد الشرك أعظم منه وفي قبول التوبة منه وإنفاذ وعيده مذهبان للصحابة رضوان الله عليهم، وإلى الثاني ذهب ملك لقوله: لا تجوز إمامته.

قلت: قال بعض شيوخنا: لا يلزم منه عدم قبول توبته لعدم علم رفع سابق جرأته وقبول توبته أمر باطن وموجب منصب الإمامة أمر ظاهر.

قال ابن رشد في سماع عيسى من قول مالك: ليكثر العمل الصالح، والصدقة والحج والجهاد ويلزم الثغور من تعذر القود منه دليل على الرجاء عنده في قبول توبته خلاف قوله: لا تجوز إمامته.

قال: والقول بتخليده خلاف السنة، ومن توبته عرض نفسه على ولي المقتول قودا أودية وفي كون القود منه كفارة له أم لا؟ مذهبان وجه الثاني أنه لا نفع فيه للقتيل بل لوليه قال غيره، ونقل الأصوليون إجماع الملل على حفظ الأديان والعقول والنفوس والأعراض والأموال، وذكر بعضهم الأنساب عرض الأموال واستشكل الفاكهاني قول مجاهد جعل الله جزاء من قتل نفسًا مؤمنة بغير حق جهنم وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا فول قتل جميع الخلق لم يزد من عذاب الله على ذلك؛ لأن الإثم على قدر عظم المفسدة هذا أصل الشريعة والمستقرأ من أحكامها.

(ولا تقتل نفس بنفس إلا ببينة عادلة أو اعتراف أو بالقسامة إذا وجبت يقسم الولاة خمسين يمينا، ويستحقون الدم):

مذهب مالك أن القود يجب بالقسامة، وبه قال ابن أبي ذئب، وابن حنبل وداود، وروى ذلك عن عبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين.

وقال إسحاق بن راهويه: من قال القود في القسامة لم يبعد، وأما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لا يقاد بالقسامة وإنما تجب بها الدية وإليك النظر في بقية اختلاف العلماء في ذلك.

(ولا يحلف في العمد أقل من رجلين):

ما ذكره هو قول مالك لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: " أتحلفون خمسين

(2/279)

________________________________________

يمينا وتستحقون دم صاحبكم" فأتى بصيغة الجمع، وأقل الجمع عندنا اثنان ومن أهل العلم من قال: لا يحلف أقل من ثلاثة رعيا للصيغة، وأقلها عنده ثلاثة، ومنهم من قال: يحلف واحد وحمل الكلام على مجازه، وهو بعيد.

وعبر التادلى عن هذين القولين بلفظة قيل، وذلك يوهم أنها في المذهب وليس كذلك ويشترط في الحالفين أن يكونا عصبة اتباعا لقضية الأنصار فإن لم يكونا فالموالي فإن لم يكونا ردت اليمين.

(ولا يقتل بالقسامة أكثر من رجل واحد):

ما ذكره هو قول الموطأ لا نعلم قسامة كانت قط إلا على واحد.

وقال المغيرة: يقسم على جماعة في العمد، ويقتلون كما يقتلون بالشهادة القاطعة قال: وكذلك كان في الزمان الأولى إلى زمان معاوية وعلى رضي الله عنهما.

وفي المجموعة وكتاب ابن المواز عن ابن القاسم في قوم وجب لهم دم رجل بقسامة فقدم للقتل فأرادوا قتله فأقر غيره أنه قتله قال: إن شاءوا قتلوا المقر بإقراره وإن شاءوا قتلوا الأول بالقسامة ولا يقتلون إلا واحدًا منهما، وهذا نحو ما قال مالك وإذا فرعنا عليه، وكان المدعي عليه جماعة، ففي ذلك ثلاثة أقوال: فقال ابن القاسم في المجموعة: إنهم لا يقسمون إلا على واحد بعينه.

وقال أشهب: هم بالخيار أن يقسموا على واحد كما قال ابن القاسم أو يقسموا على اثنين أو على الجميع فإذا أقسموا عليهم اختاروا واحدًا منهم فقتلوه وكلامهما نقله ابن يونس والباجي، ولابن حارث عن سحنون: إن كان الضرب واحدًا كاحتمالهم صخره حلفوا على جميعهم كالخطأ وإن افترق الضرب كما إذا ضربه واحد على الرأس وآخر على البطن وآخر على الظهر لم يحلفوا إلا على واحد وعزا الفاكهاني هذا القول لنقل مكي بن أبي طالب في تذكرته وهو قصور.

(وإنما تجب القسامة بقول الميت دمي عند فلان أو بشاهد على القتل أو بشاهدين على الجرح ثم يعيش بعد ذلك ويأكل ويشرب):

ما ذكر أنه يقتل بقول الميت دمي عند فلان هو قول مالك.

قال ابن رشد: وتابعه على قوله أصحابه والليث بن سعد، والجمهور على

(2/280)

________________________________________

خلافه.

قلت: وفي اختصار الحريري، وقال عبد الرحمن بن أحمد بن مخلد: إنه توقف عن القول في التدمية ففهم منه بعض شيوخنا أنه قال بلغوها كقول المخالف، وسمعت شيخنا أبا مهدي رحمه الله يقول: هذه إحدى المسائل التى حلف فيها بالمشي إلى مكة أبو القاسم السيوري أن لا يفتي فيها بمذهب مالك، وكذلك وقف فيها اللؤلؤي ولم يفت به.

قلت: واحتج مالك على قوله بقوله تعالى: (فقلنا اضربوه ببعضها) [البقرة: 73]

الآية.

قال ابن العربي: في أحكام القرآن فإن قيل: كان ذلك آية ومعجزة لموسى عليه السلام، قلنا: الآية، والمعجزة إنما كانا في إحياء الميت فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الآدميين كلهم في القبول والرد، وهذا دقيق من العلم لا يتفطن له إلا مالك، فإن قيل: إنما قتله موسي بالآية.

قلنا: أليس في القرآن آية إنه إذا أخبر وجب صدقة فلعله أمرهم بالقسامة معه أو صدقه جبريل عليه السلام، وكما قتل النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن سويد.

وظاهر كلام الشيخ: ولو كان المدعي عليه القتل ورعا عدلا والمدعي مسخوطًا، وهو كذلك على المشهور، وقال ابن عبد الحكم: صواب. قال: واختلف إذا قال ذلك على عدوه وفيه شبهة فيصح أن يقبل قوله؛ لأن عدو الإنسان يصح أن يفعل به ذلك، ويصح أن لا يقبل لتهمة إذا نزل به ذلك أنه يرميه بدعواه عليه ليشتفي منه، وظاهره أيضًا أنه لا فرق بين كون المدعي امرأة على زوجها أم لا، وهو ظاهر المذهب.

ومن الشيوخ من أخرج دعواها عليه لما شرع له من أدبها وربما أدى ذلك إلى قتلها نقله ابن هشام وابن عات عن ابن أبي زمنين عن الشعباني عن ابن مزين قائلاً: هو الذي تعلمناه من شيوخنا.

وظاهر كلامه أنه لا فرق بين أن يكون هناك أثر ضرب أم لا، وهو كذلك عند أصبغ خلافًا لابن كنانة، واختاره ابن رشد، وغيره.

وبالثاني: العمل، واختلف إذا قال الابن: إن أبي قتلني مثلاً فالأكثر أنه لا يقتل به، وقال أشهب: يقتل به.

واختلف قول مالك في أعمال قول دمي عند فلان خطأ، ويريد الشيخ أن الشاهد الواحد على القتل لابد من عدالته، وهو المشهور، وقيل: لا يشترط.

(2/281)

________________________________________

واعلم أنه إذا تعدد اللوث فلابد من القسامة كما لو شهد شاهد على الموت، وقال المقتول دمي عند فلان.

(وإذا نكل مدعو الدم حلف المدعي عليهم خمسين يمينا فإن لم يجد من يحلف من ولاته معه غير المدعي عليه وحده حلف الخمسين يمينا):

اعلم أنه اختلف المذهب إذا نكل ولاة الدم، وكانت القسامة وجبت بقول المقتول أو بشاهد على القتل على ثلاثة أقوال حكاها ابن رشد في المقدمات:

أحدها: أن الأيمان ترد على المدعي عليه فيحلف أو يحلف عنه رجلان فأكثر من ولاته خمسين يمينا إن أطاعوا بذلك، ولا يحلف هو معهم قاله ابن القاسم.

والثاني: أن المتهم يحلف معهم قاله ابن القاسم أيضًا.

والثالث: لا يحلف إلا المدعى عليه وحده، وليس له أن يستعين بأحد قاله مطرف.

قلت: وذكر ابن حارث قول مطرف رواية له ونقلة الشيخ أبو محمد قولاً له ورواية وإن وجبت القسامة بشاهدين على الجرح ففي رد الأيمان على القاتل قولان:

أحدهما: أنها ترد على المدعي عليه، فيحلف ما مات من ضربي فإن نكل سجن حتى يحلف ولو حلف ضرب مائة وسجن عامًا، وإن أقر قتل قاله ابن القاسم، وابن الماجشون.

والقول الثاني: أن الأيمان لا ترد على القاتل ولا يحلف؛ لأن يمينه حينئذ غموس فعلى هذا إن أقر لم يقتل وهو قول أشهب، وابن عبد الحكم وأصبغ.

قال اللخمي: واختلف إن نكل المدعي عليه عن الأيمان ففي المدونة يحبس حتى يحلف.

وقال أشهب: عليه الدية وأرى أن يخير الأولياء في حبسه أبدًا حتى يحلف أو أخذهم الدية.

(ولو ادعى القتل على جماعة حلف كل واحد خمسين يمينا، ويحلف من الولاة في طلب الدم خمسون رجلاً خمسين يمينا):

لأن كل واحد من الجماعة مدعي عليه فلا يبرأ إلا بالخمسين.

واختلف إذا كان المدعى عليهم أكثر من خمسين هل يحلفون كلهم أو إنما يحلف خمسون رجلاً منهم.

(وإن كانوا أقل قسمت عليهم الأيمان):

يعني: إذا كان اثنان فإنه يحلف كل واحد منهما خمسًا وعشرين يمينا فإن أطاع

(2/282)

________________________________________

أحدهما أن يحلف أكثر الأيمان لم يجز ذلك قاله ابن رشد في مقدماته ولم يعزه وعزاه غيره لنقل أبي محمد عن ابن القاسم في الموازية.

قال ابن رشد: فإن كانوا أكثر من ذلك إلى الخمسين وتشاحوا مع تساويهم في العدد قسمت بينهم على عددهم فلو وقع كسر كما لو كانوا عشرين فيحلف كل واحد منهم يمينين يمينين ثم لا سبيل لهم إلى القتل إلا أن يحلف العشرة منهم العشرة الإيمان الباقية فإن أبي جميعهم من حلفها بطل الدم كنكولهم.

واختلف إذا طاع اثنان بحلف الخمسين فقال ابن القاسم: ذلك جائز، ولم يجزه المغيرة وأشهب وابن الماجشون، وأما لو كانوا أكثر من خمسين فإنه يجتزأ منهم بخمسين باتفاق عند الأكثر، وقد رأيت لابن الماجشون في كتاب مجهول أنه لابد أن يحلف كل واحد منهم يميناً يمينًا وإلا لم يستحق الدم.

(ولا تحلف امرأة في العمد):

ما ذكر مثله في الموطأ والمدونة قال الفاكهاني: وقيل: تحلف.

(ويحلف الورثة في الخطأ بقدر ما يرثون من الدية من رجل أو امرأة):

ما ذكر من أنه يحلف واحد منهم على قدر ميراثه هو متفق عليه؛ لأن الأيمان سبب لحصول الدية لهم فيجب توزيع الأيمان كما توزع الدية.

(وإن انكسرت يمين عليهم حلفها أكثرهم نصيبًا منها وإذا حضر بعض ورثة الخطأ لم يكن له بد أن يحلف جميع الأيمان ثم يحلف من يأتي بعده بقدر نصيبه من الميراث):

(2/283)

________________________________________

يعني كما لو كان الوارث ابنا وبنتا فإنها إنما تحلفها البنت مراعاة للتبعية والمتبوعية، والضمير المجرور في قوله منها عائد على اليمين المذكورة وتردد التادلي هل هو كذلك أو عائد على الدية، وهو بعيد.

وما ذكر الشيخ هو كذلك في القول المشهور ومثله قول المدونة إن لزم واحدًا نصف اليمين ولزم آخر ثلثها وآخر سدسها يحلفها صاحب النصف وصورتها بنت وزوج وأم عاصب.

وقيل: إنما يحلفها صاحب الأكثر من عدد الأيمان لا من عدد اليمين المنكسرة حكاه ابن رشد، ولم يعزه وعزاه غيره للموطأ من رواية يحيى.

وقيل: على كل واحد منهم يمين مستقلة نقلة ابن الحاجب ومثله في الكافي لابن عبد البر، وقال ابن حارث: واتفقوا على أنها لا تجبر على كل واحد منهم فتصير الأيمان أكثر من خمسين، وهذا يقتضي نفي الثالث.

قال ابن رشد: واختلف إذا انكسرت اليمين بأجراء متساوية مثل ما لو كان الورثة ثلاث إخوة لوجب على كل واحد منهم ستة عشر يمينا وثلثا بيمين فقال ابن القاسم، يجبر على كل واحد منهم الكسر الذي صار إلى حظه فيحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا.

وقال أشهب: يحلف كل واحد منهم ستة عشر يمينا، ويقال لهم: عينوا اثنين منكم يحلفان يمينين فإن تشاحوا فيمن يحلف ما بقي فرأيت لابن كنانة: لايجبر الإمام منهم أحدًا، ويقال لهم: لا تأخذوا شيئًا إلا أن تحلفوا بقية الأيمان ويشبه أن يقول

(2/287)

________________________________________

أشهب مثل هذا أو يقرع بينهم فيها.

وقاله بعض أهل النظر وقاسه على قول ابن القاسم، ولا يصح إلا على قول أشهب.

(ويحلفون في القسامة قيامًا):

ما ذكر هو المشهور، ونقل مكي في تذكرته عن ابن الماجشون أنهم يحلفون قعودا ولا خصوصية للحلف قيامًا في القسامة بل وكذلك كل الحقوق المالية على المشهور ونص الشيخ على ذلك بعد قوله: ويحلف قائمًا.

وظاهر كلام الشيخ: أنه لا يعتبر في أيمان القسامة زمن معين وهو كذلك.

وقيل: إنه تقع الأيمان بعد صلاة العصر يوم الجمعة ذكره ابن رشد واختلف في الذي يحلف به على أربعة أقوال:

فقيل: يقول: بالله الذي لا إله إلا هو.

والثاني: يقول معه الذي أمات وأحيا.

والثالث: يقول معه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم.

والرابع: لا يزيد فيها الرحمن الرحيم، وذكر ابن رشد أن العمل مضى عندهم مع كون اليمين بعد صلاة العصر من يوم الجمعة كما تقدم.

(ويجلب إلى مكة والمدينة وبيت المقدس أهل أعمالها للقسامة):

لأن ذلك أيضًا أهول وأخوف على الحالف وأردع.

(ولا يجلب في غيرها إلا من الأميال اليسيرة):

قال التادلي: واختلف في الأميال اليسيرة، فقال ثلاثة أميال.

وقيل: بريد، وقيل: عشرة أميال.

(ولا قسامة في جرح ولا في عبد ولا بين أهل الكتاب، ولا في قتيل بين الصفين أو وجد في محلة قوم):

ما ذكر من أنه لا قسامة في الجرح هو نص المدونة، وما ذكر أنه لا قسامة في عبد هو كذلك؛ لأنه مال. قال ابن زرقون: ولو قال العبد دمي عند فلان ففيه أربعة أقوال: يحلف المدعى عليه خمسين يمينا ويبرأ قال أشهب: ويضرب مائة ويسجن فإن كل حلف السيد يمينا واحدًا ويستحق قيمة عبده مع الضرب والسجن.

وقال ابن القاسم: ويحلف المدعي عليه يمينا واحدة ولا قيمة عليه ولا ضرب ولا سجن فإن نكل ضرب وسجن وغرم القيمة.

وروى أشهب عن مالك مثل قوله إلا أن مالكًا قال: إذا حلف المدعى عليه

(2/288)

________________________________________

الأيمان لم يضرب، ولم يسجن، وقال أصبغ: يحلف المدعى عليه خمسين يمينا فإن حلف برئ، وإن نكل لم يلزمه شيء لا قيمة ولا ضرب ولا سجن، وأما إذا أقام السيد شاهدا على أحد أنه قتل عبده حلف السيد يمينا واحدة وأخذ قيمته ويجلد مائة ويسجن عامًا قاله ابن القاسم، وأشهب، وفي المدونة قال مالك في نصراني قام على قتله شاهد واحد مسلم يحلف، ولأنه يمينا واحدة ويستحقون الدية على قاتله مسلمًا كان أو نصرانيا ومثله في رسم أوصى من سماع عيسى من الجنايات وسماع أشهب في الديات.

قال ابن رشد: وقيل: دم النصراني لا يستحق بالشاهد واليمين، وهو قول أشهب وظاهر سماع يحيى في الديات وفيه قول ثالث، وهو أن يحلف أولياؤه مع شاهدهم خمسين يمينا ويستحقون ديته، وهو قول المغيرة لمالك في المدونة من رواية محمد بن يحيى السبائي أنه يستحق بغير يمين.

قلت: وحكى ابن زرقون فيها وفيما إذا قال الذمي: دمي عند فلان أربعة أقوال فذكر ما تقدم عن المدونة في المسألتين، وعزاه لنقل ابن حبيب عن ابن القاسم، وقول المغيرة على فرض ما حكاه ابن رشد في مسألة الشاهد وعزاه لنقله قال: وهو غريب، وقيل: يحلف المدعى عليه خمسين يمينا ويبرأ قاله مالك، وأشهب وابن عبد الحكم.

وقيل: إن لم يكن إلا قول الذمي دمي عند فلان فلا قسامة فيه، وفي مسألة الشاهد فيحلف ولاته يمينا واحدة ويأخذون الدية ويضرب مائة ويسجن سنة قاله ابن القاسم في المدونة.

قال الفاكهاني: انظر قول الشيخ ولا بين أهل الكتاب هل المعنى إذا كان المقتول ذميا، والقاتل مسلماً أو المعنى لا قسامة بينهم إذا تحاكموا إلينا فلا نوجبها عليهم وكلاهما قد قيل.

ورجح بعضهم القول الأول لقوله: ولا في عبد، وما ذكر أنه لا قسامة في القتيل بين الصفين هو قول مالك في المدونة ورجع إليه ابن القاسم بعد أن أخذ بقوله في الموطأ بثبوتها قيل لابن القاسم في العتبية فإن كان القتيل الذي وجد بين الصفين إنما كانوا يقتلون على تأويل، قال: ليس على الذين قتلوه قتل، وإن عرفوا قيل: له فديته هل عليهم منها شيء؟ قال: لما سقط القتل سقطت الدية، وليس أهل التأويل كغيرهم، وروي معناه عن مالك، قال القاضي أبو الوليد بن رشد: ومن أهل العلم من يري أنه يقاد من صاحب التأويل ويقتص، وهو قول أصبغ وعطاء والخلاف في القصاص منه مطلقًا سواء تاب أو أخذ قبل أن يتوب ولا يقام عليه حد الحرابة وإن أخذ قبل أن

(2/289)

________________________________________

يتوب ولا يؤخذ منه ما أخذ من مال وإن كان موسرا إلا أن يوجد شيء بعينه بيده فإنه يرد إلى ربه.

واختلف إذا شهدت البينة أنه قتل ودخل في جماعة فقيل: لا شيء عليهم قاله سحنون وقيل: يستحلف كل واحد منهم خمسين يمينا ويغرمون الدية بلا قسامة قاله ابن القاسم في العتبية، وما ذكر أنه لا قسامة فيما إذا وجد في محلة قوم هو المعروف في المذهب بالإطلاق.

وقال ابن رشد في مقدماته: إنه لوث إذا وقع الأمر فيه على الصورة التي وقعت بخيبر للأنصار وذهبت طائفة من العراقيين خارج المذهب إلى أنه لوث بالإطلاق.

وكذلك قال بعض العلماء في الذي يموت في ازدحام الناس في الأعياد وغيرها: إن ديته على جميع الناس من ذلك، وتأول ابن يونس قول المدونة إذا وجد قتيل في قرية قوم أو دارهم لا يدرون من قتله لم يؤخذ به أحد بأن معناه إن لم يكن معه أحد، ولو وجد في دار ومعه رجل وعليه أثر قتله لقتل به مع القسامة.

(وقتل الغيلة لا عفو فيه):

ظاهره وإن كان المقتول كافرًا أو القاتل له مسلم، وهو كذلك نص عليه في المدونة قال فيها: لا يتقل مسلم بكافر إلا أن يقتله قتل غيلة.

قال بعض شيوخنا: والاستثناء منقطع؛ لأن بالحرابة قتل لأن الغيلة حرابة، ولذا قال فيها: إن قطع يديه ورجليه غيلة حكم عليه بحكم المحارب.

قلت: ويجري فيه قول أبي مصعب أن الإمام مخير في المحارب إن قتل كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقال الفاكهاني عن أهل اللغة: قتل الغيلة هو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع خفي فإذا صار فيه قتله فهذا يقتل، ولا عفو فيه؛ لأنه حق الله وكل حق تعلق به حق الله فلا عفو فيه كالزنى، ونحوه.

واعترضه بأنه لا يختص حق الله تعالى بقتل الغيلة حتى يكون عله لما ذكر إذا لا حق من الحقوق للعبد إلا ولله فيه حق، وهو إيصال الحق إلى مستحقه فانظر العله في ذلك.

ونقل عن بعض أصحابنا وأظنه البوني رحمه الله تعالى أنه اشترط في ذلك أن يكون القتل على مال، وأما الثائرة، وهي العداوة بينهما يجوز العفو فيه.

قلت: ما ظنه عن البوني مثله نقل الباجي عن العتبية والموازية قال: قتل الغيلة حرابة، وهو قتل الرجل خفية لأخذ ماله، وقال: ومن أصحابنا من يقول هو القتل على

(2/290)

________________________________________

وجه القصد الذي لا يجوز عليه الخطأ، وقبله ابن زرقون فالعجب من الشيخ رحمه الله.

(ولرجل العفو عن دمه العمد إن لم يكن قتل غيلة وعفوه عن الخطأ في ثلثه):

اعلم أنه اختلف المذهب إذا قال رجل لرجل: إن قتلتني فقد وهبت لك دمي، وهذا الخلاف حكاه سحنون عن أصحابنا قال: وأحسن ما رأيت في ذلك أنه يقتل القاتل؛ لأن المقتول عفا عن شيء لم يجب له، وإنما يجب للأولياء، ولا يشبه هنا من أنفذت مقاتله.

وقال: وأشهدكم أني قد عفوت عنه فقيل: فلو أنه قال له: اقطع يدي فقطعها قال: لا شيء عليه؛ لأن هذا جرح لا نفس، وذكر ابن رشد قولاً ثالثًا في مسألة القتل أنه لا يقتل به بل تكون الدية في ماله قال: وهو أظهر الأقوال.

(وإن عفا أحد البنين فلا قتل، ولمن بقي نصيبهم من الدية ولا عفو للبنات مع البنين):

اعلم أنه إذا عفا بعض البنين فإنه يسقط نصيب العافي وحده؛ لأن الحق المشترك بين جماعة لا يسقط جميعه بإسقاط بعض الشركاء له وإلا لما كان للشركة فائدة، وهذا إذا بقي بعض العصبة، وأما إذا عفا البنون وثم بنات فإنه يسقط حق البنات من الدية وكذلك الأخوات مع الأخوة، قاله ابن القاسم، وأشهب.

وروى أشهب عن مالك أن حق الإناث باق وقال ابن المواز، وبالقول الأول قال: من أدركناه من أصحاب مالك، وهو أصله في موطئه، قال الباجي: وهذا إذا عفا الرجال في فور واحد فأما إن عفا أحدهم ثم بلغ الآخر فعفا فلا يضر ذلك من كان معهما من أخت أو غيرها؛ لأنه مال ثبت بعفو الأول قاله محمد.

(ومن عفي عنه في العمد ضرب مائة وحبس عامًا):

ظاهر كلامه وإن كان رقيقًا أو امرأة وهو كذلك قاله في المدونة. وقيل: إن الضرب والسجن ساقطان عنهما حكاه ابن عبد السلام مفسرا به قول ابن الحاجب، ومن عفي عنه ضرب مائة وحبس عامًان وإن كان رقيقًا أو امرأة على الأشهر والذي أعرفه للباجي رحمه الله تعالى قولين:

أحدهما: مثل ما في المدونة.

والثاني لأصبغ في الموازية: لا حبس على عبد ولا على امرأة ويجلدان قاله

(2/291)

________________________________________

المغيرة، وخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً قتل عبده متعمدًا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة ومحا اسمه من المسلمين ولم يغربه وأمره أن يعتق رقبة قال عبد الحق في سنده إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف في غير الشاميين، وهذا الإسناد حجازي، رواه إسحاق بن عبد الله بن أبي قرة عن إبراهيم عن عبد الله بن جبير عن أبيه عن على عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر رقبة وإسحاق بن أبي قرة متروك وذكر حديثه أيضًا الدارقطني ولا يصح في هذا شيء، وتعقب ابن القطان قوله هذا في الإسناد حجازي فإنه شامي بأنه في إسناد الدارقطني حدثنا إسماعيل بن عياش عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الحديث، وجعل أهل المذهب هذا الحديث أصلاً في قاتل العمد إذا تعذر القصاص منه لموجب ما ولو وجبت القسامة للأولياء فنكلوا فحلف المدعى عليه.

فقال ابن المواز على المدعى عليه الجلد، والسجن، ولم يخالف فيه إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: إذا نكلوا فلا جلد، ولا سجن، والأكثر على تعميم هذا الحكم في كل مقتول واختاره ابن حبيب ورواه عن مالك إنما ذلك في المسلم عبدًا كان أو حرًا وأما غير المسلم فإنما لم يجب فيه إلا الأدب المؤلم.

وقال أشهب: إن شاء بدأ بالجلد أو بالحبس وذلك واسع وظاهر رواية عيسى عن ابن القاسم في العتبية أنه يبدأ بالجلد؛ لأنه قال: يأتنف حبس سنة من يوم جلد، ولا يحتسب بما مضى، ولم يذكر ابن رشد غير ما في السماع وحفظ الباجي قول أشهب.

(والدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم):

في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قول الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم.

وروى أهل العراق أن عمر وضع الديات فوضع على أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألف شاة، وعلى أهل الحلل ألف حلة.

وروي مثله مرسلا إلا أنه لم يذكر الدراهم، وهو قول عطاء والزهري وفقهاء المدينة السبعة وغيرهم.

(2/292)

________________________________________

قال مالك: أهل البادية وأهل العمود أهل الإبل.

قال الباجي: لا خلاف في ذلك، وأما أهل مكة فقال إصبع في العتبية: هم أهل الذهب.

وقال أشهب: أهل الحجاز أهل إبل، وأهل مكة منهم، وأهل المدينة أهل الذهب، وفي الموازية عن مالك أهل الشام، وأهل مصر أهل الذهب.

وقال ابن حبيب: وكذلك أهل مكة، والمدينة، وقال أصبغ: هم اليوم أهل الذهب، وقال ابن الحاجب: أهل المغرب أهل الذهب.

وقال ابن حبيب: أهل الأندلس أهل ورق وأشار أصبغ في قوله: أهل مكة وأهل المدينة هم اليوم أهل الذهب إلى أن المعتبر في كل جهة الزمان الذي تجب الدية فيه، وهو اختيار القاضي الباجي رحمه الله تعالى.

(ودية العمد إذا قبلت خمس وعشرون حقة وخمسة وعشرون جذعة وخمس وعشرون بنت ليون وخمس وعشرون بنت مخاض):

اختلف المذهب في الواجب في العمد فقال أشهب: يخير الولي في القصاص أو الدية وروى ابن القاسم تعيين القود فعلى رواية أشهب تعيين دية العمد لا إشكال فيها، وأما على رواية ابن القاسم فالقياس أن يقال لا يجب فيها إلا ما اصطلحوا عليه كما حكي عن أبي حنيفة، قاله ابن عبد السلام.

وظاهر كلام الشيخ سواء وقع النص على الدية بالتعيين أو بالإبهام.

قال الباجي: وهو المشهور عن مالك في الموازية إن اصطلحوا على شيء فهو ذلك، وإن اصطلحوا على دية مبهمة أو عفا بعض الأولياء رجع الأمر إلى دية مثل دية الخطأ.

(ودية الخطأ مخمسة عشرون من كل ما ذكرنا وعشرون ابن لبون ذكرا)

قال ابن عبد السلام: الأحاديث في الخطأ مختلفة لم تقع بشرط الصحة فيما قد علمت فخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعشرون ابن لبون".

قالوا: إسناده ضعيف وخرج أيضًا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن قتل خطأ بمائة من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشرون ابن لبون ذكروًا.

(2/293)

________________________________________

(وإنما تغلظ الدية في الأب يرمي ابنه بحديدة فيقتله فلا يقتل به ويكون عليه ثلاثون جذعة وثلاثون حقة وأربعون خلفة في بطونها أولادها، وقيل ذلك على عاقلته، وقيل ذلك في ماله):

دل كلام الشيخ من باب أحرى أن الأم كالأب فلا تقتل؛ لأنه لم يقتل الأب إذا قتل أبنه لما طبع عليه من الحنانة والشفقة وبالإذن له في التأديب فالأم أحرى، وهذا ما لم تكن قرينة تدل على أ، هـ أراد قتله حقيقة فإن كانت فإنه يقتل به على المشهور خلافًا لأشهب وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهما، وذلك إذا ذبحه أو شق جوفه وما أشبه ذلك.

وذكر الشيخ في ذكر كون الدية على من تكون؟ على ثلاثة أقوال: فقيل: إنها تكون على الأب يعني في ذمته فإن كان له مال الآن أخذه منه، وإلا انتظر يسره.

الثاني: أنها على العاقلة.

الثالث: أنها تكون في ماله إن كان وإن لم يكون فعلى عاقلته وإليه أشار الشيخ بقوله وقيل ذلك في ماله.

والثاني لمالك واللخمي وعزا ابن رشد الثالث لمطرف وابن حبيب لا غير ويريد الشيخ أنها حالة، قال ابن زرقون: لا خلاف أنها في مال الجاني حالة.

قلت: وقال ابن عبد السلام: لا يبعد وجود قول بأنها منجمة في مال الجاني إذا اختلف في تنجيم دية العمد مع كونها في مال الجاني.

قال اللخمي: قال عبد الملك هي على العاقلة معجلة، ولابن القاسم في الواضحة هي عليها منجمة ثم رجع لقول المدونة، وهو أحسن، والمشهور أنها تغلظ على أهل الذهب والورق، وقيل: لا تغلظ عزاه اللخمي لأول قول مالك في الموازية، ولم يعزه ابن رشد إلا لنقل عبد الوهاب وعزاه الباجي لرواية سحنون وابن عبد الحكم، وفي كيفية التغليظ خلاف شهير في المذهب، وكذلك اختلف هل تغظ الجراح أم لا؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن زرقون فروى ابن عبد الحكم: لا تغلظ فيها وقال مالك في المدون والمبسوط: تغلظ في الجراح كلها، وفرق عبد الملك وسحنون بين ما يقتص منه في العمد وما لا يقتص منه.

(ودية المرأة على النصف من دية الرجل):

هو كذلك في كتابه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم.

(وكذلك دية الكتابيين ونساؤهم على النصف من ذلك):

(2/294)

________________________________________

ما ذكر هو المذهب وقال أبو حنيفة: دية الكتابي مثل دية المسلم، وقال الشافعي: ديته مثل دية المسلم، ونقل الفاكهاني عنه مصل قول أبي حنيفة رضي الله عنه، واحتج أبو حنيفة بما رواه الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ودي ذميا دية مسلم، وأجيب بأن في إسناده من هو متروك وفي مراسيل أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار" واحتج أصحابنا بما خرجه النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين، وهم اليهود والنصارى" وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عقل الكافر نصف عقل المؤمن".

(والمجوسي ديته ثمانمائة درهم ونساؤهم على النصف من ذلك ودية جراحهم كذلك):

ما ذكر الشيخ هو قولنا وقول الشافعي، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: دية المجوسي مثل دية الحر المسلم.

واختلف المذهب في دية المرتد على ثلاثة أقوال: فقيل: كدية المجوسي قال ابن القاسم وأشهب وأصبغ، في كتاب ابن سحنون وقيل: كدية من ارتد إليه ورواه سحنون عن أشهب وكلاهما حكاه الباجي، وقيل: لا شيء فيه حكاه ابن رشد في مقدماته، ولم يعزه كالأولين وعزاه في البيان لأشهب، وسحنون.

قال ابن عبد السلام: وهو الظاهر سواء قلنا بوجوب الاستنابة أو باستحبابها غير أنه إذا قيل بوجوبها فقد يظهر لوجوب الدية وجه، وهذه المسألة تشبه قتل الكافر إذا قتل قبل الدعوة هل تكون فيه الدية أم لا؟

قلت في تعليق الطرطوشي: من لم تبلغه الدعوة بحال كمن هو في جزيرة إن قتل لا يضمن ومن قول مالك إن أقام مسلم بدار الحرب مع القدرة على خروجه لا دية فيه.

(وفي اليدين الدية وكذلك في الرجلين أو العينين وفي كل واحد منهما نصفها):

يريد أن الدية كاملة في مجموع اليدين سواء قطعت الأصابع خاصة أو قطعت من

(2/295)

________________________________________

الكف أو مع الذراع أو قطعت اليدان من المنكب، وهذا الذي قلناه هو قول مالك من رواية أشهب مستدلاً باستكمال دية الذكر بقطع الحشفة فتكون ديته كدية قطعه من أصله ولو قطع كفه وليس فيها إلا إصبع واحد فله دية الإصبع، واستحسن ابن القاسم في كف حكومة.

وقال أشهب: لا شيء له في الكف ما بقي له شيء فيه دية، واتفقوا إذا بقي الكف خاصة ففيها حكومة وإنه إذا لم يذهب إلا إصبع واحد لا شيء له فيها ما بقي من الكف.

واختلفوا فيما بين ذلك فجعل ابن القاسم الإصبع قليلاً كما لو لم يبق فيها شيء وجعل أشهب وجودها مانعا من أخذ الحكومة ووافقه على ذلك سحنون قاله ابن القاسم في الإصبعين وجعل عبد الملك الثلاثة من حيز القليل فله في الكف عنده بحساب ما ذهب من الأصابع.

وقال المغيرة: إذا ذهب منها إصبعان ثم قطع بعد فإن أخذ في الإصبعين عقلا وقودا فله عقل ثلاثة أصابع ولا حكومة له، وما ذكر الشيخ أن في الرجلين الدية صحيح لأنه بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وسواء قطعت الأصابع وحدها أو الأصابع مع الرجل أو الرجل بإصبعها إلى الركبة وكذلك إلى الورك.

قال الفاكهاني: روينا قول الشيخ بالياء في الرجلين والعينين والوجه فيه، وكذلك الرجلان والعينان ويبعد فيه تقدير في عند البصريين إذ لا يحذف الجر ويبقى عمله عندهم قياسًا.

(وفي الأنف يقطع مارنه الدية):

ما ذكر هو مذهب المدونة وهو المشهور، وفي المبسوط عن مالك أنه يعتبر من أصل الأنف.

قال ابن الحاجب: والأصح هو الأول وصحح غيره القول الثاني لموافقته ظاهر ما في كتاب عمرو بن حزم، وفي الأنف إذا أوعب جدعا مائة من الإبل، والمارن ما فوق العظم الذي هو أصل الأنف ويسمي أيضًا الأرنبة والرونة قاله أشهب، وإذا فرعنا على ما قال الشيخ وقطع بعض المارن كان فيه إلا دية واحدة، وهذا كما أن الذكر إذا قطع من أصله وجبت فيه الدية وإذا قطعت الحشفة فكذلك وإذا قطع بعض الحشفة نظر المقطوع منها فبحسابه منها يجب من الدية لا من أصل الذكر قاله في المدونة والمجموع والموازية.

وأما الشم فروي عن مالك أن فيه حكومة، وقال أبو الفرج: فيه الدية وكلاهما

(2/296)

________________________________________

نقله ابن زرقون وقال اللخمي: واختلف إذا ذهب الشم والأنف معًا فقال ابن القاسم: فيهما معًا دية واحدة، وقال ابن الجلاب: القياس ديتان والأول أحسن قياسًا على الذكر واللسان.

(وفي السمع الدية):

يعني إذا لم يسمع بشيء من أذنه فيجب عليه الدية بلا خلاف وفي إبطال أحدهما نصف الدية وما نقص فبحسابه، ويعرف ذلك بأن يصاح من مواضع عدة مختلفة الجهات، وتكون الأذن الصحيحة مسدودة فإذا لم يضطرب قول المجني عليه بل تساوت الأماكن التي بلغ سمعه إليها سدت تلك الأذن الناقصة وفتحت الأذن الصحيحة وصيح حينئذ ثم يقدر أهل المعرفة ما نقصه من السمع ويلزم ذلك الجاني، وحكي نحو هذا عن على بن أبي طالب رضي الله عنه، وسكت في المدونة عن يمينه ونص في غيرها على لزومها.

قال بعض الشيوخ: وينبغي أن يختلف فيه؛ لأن ذلك يمين تهمة إذ الجاني لا يحقق دعوى المجنى عليه، وإنما هو متهم له فإن اختبر، واختلف قوله لم يكن له شيء.

وقال عيسى بن دينار: له الأقل مع يمينه.

واعلم أنه إن لم يكن يسمع إلا بأذن واحدة ففيها ما تقدم نصف الدية.

قال الفاكهاني: انظره مع قولهم في عين الأعور الدية الكاملة.

قلت: فرق ابن القاسم بين عين الأعور وغيرها بالسنة قاله في المدونة.

قال ابن الجلاب: فإذا ذهب السمع والأذن بضربة واحدة ففيهما دية واحدة قاله ابن القاسم، والقياس عندي أن تكون فيهما دية وحكومة أو ديتان على اختلاف الروايتين.

واختلف في أشراف الأذنين فقيل: فيهما دية، وقيل حكومة حكاهما القاضي عبد الوهاب.

(وفي العقل الدية):

قال ابن رشد في مقدماته: محل العقل القلب لا الدماغ عند مالك خلافًا لابن الماجشون، وما ذكر الشيخ أن العقل فيه الدية صحيح، وكيف لا تكون فيه الدية، وهو أفضل صفات الإنسان فإذا وجبت الدية في السمع وشبهه فلأن تجب فيه أحرى ولو ذهب بعض العقل فبحسابه، وقدر اللخمي بالأيام وشبهها من الشهر فإن كان يذهب عقله يومًا وليلة في الشهر وجب له جزء من ثلاثين وهكذا.

(2/297)

________________________________________

(وفي الصلب ينكسر الدية):

اختلف في المسألة على أربعة أقوال: فقيل: إن امتنع من القيام والجلوس وجبت الدية كاملة وإلا فلا.

وقيل: إن تعذر القيام فقط وجبت الدية، وإن لم يتعذر الجلوس قاله مالك، وقيل: فيه الدية إذا انطوى.

قال اللخمي: يريد إذا صار كالراكع، وقال عبد الملك في كتاب ابن حبيب: في الصلب الدية إن انكسر فلم يقدر على الجلوس ثم على هذه الأقوال فما نقص فبحسابه، واتفق المذهب على أنه إذا ضرب على صلبه فبطل بذلك قيامه وجماعه فإنه يلزمه فيه ديتان.

(وفي الأنثيين الدية):

خرج النسائي في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم في البيضتين الدية، وروي عن ابن المسيب أنه قال: في البيضة اليسرى نصف الدية وفي اليمنى الثلث، فقيل له: لم؟ فقال: إن اليسرى إذا ذهبت لم يولد له وإذا ذهبت اليمنى ولد له.

قال ابن حبيب: وقيل: في اليسرى دية كاملة قال اللخمي: يريد لما قيل: إن النسل منها خاصة، ولو قطع الذكر والأنثيين بضربة كان فيها ديتان.

قال ابن حارث: اتفاقًا وهو قصور لنقل اللخمي رواية القاضي عبد الوهاب فيهما معًا دية واحدة وإن كان واحدة بعد أخرى فمذهب المدونة والمجموعة والموازية ديتان مطلقًا، وقال ابن الماجشون في الأول منهما قطعا الدية كاملة وفي الذكر إن كان هو الآخر الدية أيضًا كاملة وإن كان الاثنين فحكومة.

قال الفاكهاني: ذكر هذا القول مكي في تذكرته.

قلت: وعزاه اللخمي لابن حبيب ونقل الباجي عن مالك أن قطع الذكر أولا وآخرًا ففي الآخر الحكومة وعن ابن حبيب إن قطعهما بعد الذكر فلا دية فيهما، وفي الذكر الدية قطع قبلهما أو بعدهما، وقيل: أيهما قطع قبل صاحبه ففي الثاني حكومة حكاه أبو الفرج عن مالك فيتحصل في ذلك خمسة أقوال.

(وفي الحشفة الدية):

ما ذكر هو المنصوص وخرج اللخمي من أحد القولين في الأنف أن الدية لا تجب فيه إذا من أصله لا من المارن قولاً هنا بأن الدية لا تجب في الحشفة وحدها بل يقطعه من أصله.

(2/298)

________________________________________

قال ابن عبد السلام: وفي هذا التخريج بعد؛ لأن في الحديث أن الأنف إذا أوعب جدعا الدية وروي هنا في الحشفة الدية فلا يبعد أن يفرق بينهما باتباع ما روي والله اعلم، ولو قطع عسيبها بعدها فحكومة كالكف بعد الأصابع.

وأما قطع أليتي المرأة أو الرجل فقال ابن القاسم في المدونة: فيهما حكومة. قال الباجي، وقاله ابن وهب وقال أشهب: فيهما من المرأة الدية الكاملة.

(وفي اللسان الدية وفيما منع منه الكلام الدية):

قال التادلي: والألسنة ثلاثة غير ناطق فيه الحكومة ولسان الصبي، قال مالك: يتربص به إذ لعله ينبت فلا دية وإلا فله الدية، وإذا قطع لسان الناطق ففيه دية كاملة فإن قطع ما لا يمنع النطق شيئًا فحكومة؛ لأن الدية للنطق لا له، ولذلك كان في لسان الأخرس حكومة.

(وفي ثديي المرأة الدية):

يريد وكذلك قطع حلمتيهما وكذلك إن بطل اللبن قاله ابن القاسم، ولو بطل اللبن فأخذت الدية ثم عاد ردت.

(وفي عين الأعور الدية، وفي الموضحة خمس الإبل):

(2/299)

________________________________________

ما ذكر هو مذهبنا وبه قال الزهري، وربيعة، وقضى به عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وقاله ابن عمر والليث بن سعد، وقال أبو حنيفة والشافعي وغيرهما فيها نصف الدية، قاله الشافعي، وعطاء.

قال أشهب: محتجا لقول مالك لأن ينظر بالعين الواحدة ما ينظر بالعينين معًا، ولا يعمل بيد واحدة ما يعمل باليدين، وعبر الفاكهاني عن أشهب ببعضهم، واعترضه بأنها دعوى محتاج عليها لدليل وأي فرق بين الأعور، ومن لا يسمع إلا بأذن واحدة ثم لا يقال فيها أيضًا انتقل السمع إليها.

قلت: وفرق ابن القاسم بين عين الأعور وغيرها بالسنة ومثله قول ابن الحاجب، وفي عين الأعور الدية كاملة بخلاف كل زوج في الإنسان لما جاء في السنة قال ابن

(2/300)

________________________________________

عبد السلام: وفيه نظر فإن ظاهر السنة مع المخالف؛ لأن في كتاب عمرو بن حزم في العين خمسون.

واختلف المذهب في ذكري العنين والخصي فقيل: تجب فيه الدية، وقيل: بل حكومة، وكذلك ما ليس فيه إلا الجمال كأشفار العينين فيه حكومة عندنا، معنى الحكومة هو أن يقوم المجني عليه عبدًا سالما بعشرة مثلاً ثم يقوم مع الجناية بتسعة فالتفاوت عشر فيجب عشر الدية قاله الشافعي وتبعه أصحابنا البغداديون وفي تفسير ابن مزين أن الحكومة أن ينظر الإمام أو الحاكم على قدر اجتهاده، ومن يحضره معه، وذكر أبو عمران في تعليقه القولين كما تقدم قائلاً: هو الذي كنا نقول قبل أن نظهر على قول ابن إدريس.

قلت: وذكر غيره أن القول الأول معزو لمالك ومثله في كتاب أبي الفرج وهو نص ابن الجلاب، وأن القول الثاني ذكره في النوادر لأشهب، وأما لو قطع من لحمه بضعة فإنه يجب القصاص، ويعتبر في البضعتين المساواة في المقدار طولا وعمقًا إن أمكن لسمن المجروح ونحافة الجارح، ولا شك في اعتبار محلها، وهذه المسألة داخلة في عموم قوله تعالى: (والجروح قصاص) [المائدة: 45]

ولا قود في اللطمة باتفاق وفي ضربة السوط القود على المشهور، وقاله ابن القاسم، وروي عن مالك لا قود فيه كاللطمة نقله سحنون وعزاه في المجموعة لأشهب قائلاً: لأنه لا يعرف أحد تلك الضربة والضرب من الناس مختلف.

قال شيخنا أبو مهدي رحمه الله تعالى: ويفرق لابن القاسم بأحد أمرين أحدهما إما لنهيه صلى الله عليه وسلم عن لطم الوجه، وإما لأنه رأى الضرب بالسوط ينضبط بخلاف اللطمة.

(وفي السن خمس):

من الإبل ظاهر كلام الشيخ لا فرق بين أن تكون من مقدم الفم أو مؤخرهن وهو كذلك؛ لأن السن تصدق على الأضراس وغيرها، ففي الفم اثنان وثلاثون سنا خلافًا للخمي في قوله: الأسنان اثنا عشر سنا والأضراس عشرون.

وقال ابن شعبان: للرجل الألح اثنان وثلاثون وللكوسج ثمانية وعشرون سنا.

قال اللخمي: يريد لأنه لا نواجذ له واسودادها كزوالها قاله في المدونة خلافًا للشافعي في قوله فيه حكومة وفي الموازية عن أشهب قال عمر وعلى وابن المسيب وعدد من التابعين: إذا اسودت وجب عقلها ولم يبلغني عن أحد خلافه، وسئل

(2/301)

________________________________________

القرويون رضي الله عنهم عمن أطعمته زوجته ما اسود به لونه فوقفوا فقال أحمد بن ناصر هي المدونة وأوجب الدية أخذها من قولها في السن إذا اسودت وأول ما وقفت على الإقامة المذكورة للشيخ المذكور في حال صغرى في تأليف الشيخ أبي بكر المالكي المسمي برياض النفوس وسلمها كغيره.

وقال بعض شيوخنا: قد يفرق بلزوم البياض للسن وسواد بعض الآدميين ولو قلع سن سوداء فكغيرها وسن الصبي الذي لم يثغر يوقف عقلها إلى الإياس كالقود.

قال ابن عبد السلام: وهذا ربما يظهر في الخطأ وأما في العمد فالمتبادر إلى الذهن وجوب القصاص وسواء نبتت أو لم تنبت؛ لأن المقصود من القصاص إنما هو إيلام الجاني بمثل ما آلم به المجني عليه، ولكن يجاب عن هذا بأنه لو وجب فيه القصاص لوجبت الدية والإلزام باطل.

(وفي كل إصبع عشر من الإبل وفي الأنملة ثلاث وثلث):

الإصبع مؤنث بلا خلاف وقد قدمنا أن في الإصبع عشرة لغات منها قول الشيخ: وإن استاك بإصبعه، وفي الأنملة لغتان أصحهما الفتح في الميم والضم طردي.

وظاهر كلام الشيخ من غير تفضيل بعض الأصابع على بعض وهو كذلك عندنا وللسلف في تفضيل بعض الأصابع على بعض كلام يطول ذكره ولو قطعت يد لها أربع أصابع فله دية أربع أصابع قاله أشهب، وابن القاسم في المدونة.

قال اللخمي: واختلف فيمن له ستة أصابع فلا بن القاسم وفي العتبية إن كانت السادسة قوية ففيها عشر ولو قطعت عمدًا إذ لا قصاص فيها وفي كل يدها ستون وإن كانت ضعيفة ففيها حكومة إن انفردت مع اليد لا يزاد لها شيء، وقال ابن سحنون عنه إذا قطعت يد خطأ ففيها نصف الدية فقط وقيل: حكومة في الزائد ولم يفرق بين قوية وضعيفة، وقول ابن القاسم أبين.

(وفي كل أنملة من الإبهامين خمس من الإبل):

ما ذكر الشيخ هو قول مالك قال ابن المواز وذكر عنه أنه رجع عن ذلك وقيل: إن فيها ثلاث أنامل وكذلك روى عنه سحنون أنه رجع إلى ذلك قال: وأخذ أصحابنا بالقول الأول.

قال الفاكهاني: وأما أبهام الرجلين ففي كل واحد أنملتان ولم يذكر أن بي ذلك خلافًا.

قلت: وقال اللخمي: بعد أن ذكر ما تقدم عن محمد بن المواز: المسألة تحتمل القولين جميعا أن يقال فيها أنملتان؛ لأن ذلك هو البائن منها وإن يقال فيها ثلاثة؛ لأن

(2/302)

________________________________________

الثالث وإن لم يكن بائنًا فهو متحرك بحركة الإبهام عن استعمال البائن من ذلك واستعمال الإبهام بالجميع البائن وغيره، وهو أقيس، ويريد الشيخ في أقل من أنملة بحساب ذلك الأقل.

(وفي المنقلة عشر ونصف عشر والموضحة ما أوضح العظم والمنقلة من طار فراشها من العظم ولم يصل إلى الدماغ وما وصل إليه فهي المأمومة ففيها ثلث الدية، وكذلك الجائفة وليس فيها دون الموضحة إلا الاجتهاد وكذلك في جراح الجسد ولا يعقل جرح إلا بعيد البرء):

المنقول بكسر القاف المشددة قاله الجوهري.

(وما برأ على غير شين مما دون الموضحة فلا شيء فيه):

قال الفاكهاني: ظاهرة أنه لا يعطى أجر الأدوية ولم يقل به مالك، وقيل: يعطى ما أنفق من الأدوية قال الفقهاء السبعة رضي الله تعالى عنهم.

قلت: وأخذه بعضهم من قول مالك بوجوب رفو الثوب قال بعض شيوخنا: وهو أخذ أحروي لأن الدماء أكد من الأموال وأراد الشيخ بقوله: ولم يقل به مالك أي لم يقل بأن له الأجرة، بل قال: مثل ظاهر كلام الشيخ إذا قيل له من انكسرت فخذه ثم انجبرت مستوية له ما أنفق في علاجه قال: ما علمته من أمر الناس أرأيت من برأ علي غير شين أتكون له قيمة الشين وما أنفق.

(وفي الجراح القصاص في العمد إلا في المتألف مثل المأمون والجائفة والمنقلة والفخذ والأنثيين والصلب ونحوه ففي كل ذلك الدية):

يعني: أن الجراح على قسمين منها ما هو غير المتلف ومنها ما هو متلف فالأول قال الشيخ: فيه القصاص، ويعني بذلك إذا تحققت فيه المماثلة.

وأما مالا تتحقق فيه المماثلة فعلى ضربين ضرب لا تتأتى فيه المماثلة كالبياض العين فهذا لا قصاص فيه وضرب قد تتأنى فيه المماثلة والغالب نفيها ككسر العظام فحكى القاضي عبد الوهاب في ذلك روايتين وذكر في المدونة عن مالك أنه يقاد من الظفر وفي غيرها عنه: أنه لا يقاد بناء على أنه كالعظم أو كالشعر.

وأما المتلف فذكر الشيخ أنه لا قصاص في المأمونة الجائفة، وهو كذلك باتفاق لنصه صلى الله عليه وسلم بذلك وما ذكر أنه لا قصاص في المنقلة هو المشهور.

قال اللخمي: وروي عن مالك القصاص فيها حكاه عبد الوهاب.

قلت: وذكره ابن الجلاب أيضًا قال ابن زرقون قال محمد بن عبد الحكم القصاص.

(2/303)

________________________________________

في كل جرح ولو كان متلفا إلا ما خصصه الحديث عنه من الجائفة والمأمومة وقال ربيعة: القصاص عموما ولم يستثن وحيث لا قصاص فلابد من الأدب قاله في المدونة.

(ولا تحمل العاقلة قتل عمد ولا اعترافا به):

قال الفاكهاني: روينا ولا اعتراف بغير تنوين والصواب تنوينه وكذلك هو في بعض النسخ، واختلف في المقر بالخطأ على خمسة أقوال: فقيل تكون الدية في مال المقرر وحده، وقيل: على العاقلة بقسامة في رواية ابن القاسم، وأشهب، وكلاهما في المدونة في كتاب الصلح، وقيل: تسقط الدية مطلقًا حكاه عبد الوهاب، ونجوه حكاه ابن ميسر عن ابن وهب، وابن القاسم.

وقيل: تقسط عليه، وعلى العاقلة فيلزمه منها ما يخصه، ولا يلزم العاقلة شيء حكاه ابن الجلاب عن رواية ابن وهب، وهو قول ابن دينار وغيره وفي المدونة في كتاب الديات إن اتهم أنه أراد غناء ولد المقتول كالأخ والصديق ولم يصدق، وإن كان من الأباعد صدق إن كان ثقة مأمونا ولم يخف أن يرشي على ذلك، وأطال عياض رحمه الله الكلام عليها في كتاب الصلح، وحصل فيها ستة أقوال وهو أحسن من تكلم عليها.

(وتحمل من جراح الخطأ ما كان قدر الثلث فأكثر، وما كان دون الثلث ففي مال الجاني):

ما ذكر الشيخ هو مذهبنا خلافًا للشافعي في قوله تحمل القليل، والكثير إلى غير ذلك من المذاهب.

(وأما المأمومة والجائفة عمدًا فقال مالك ذلك على العاقلة، وقال أيضًا: إن ذلك في ماله إلا أن يكون عديما فتحمله العاقلة؛ لأنهما لا يقاد من عمدهما وكذلك ما بلغ ثلث الدية مما لا يقاد منه؛ لأنه متلف):

ما ذكر الشيخ من القولين كلاهما في المدونة والذي رجع إليه مالك منهما هو القول الأول. قال ابن القاسم فيها: وبه أقوال. قال الفاكهاني: ترك الشيخ قولاً ثالثًا لمالك أيضًا أنها تكون في ماله وليس على العاقلة شيء، وإن كان عديما وذكره ابن الجلاب.

قلت: وذكر ابن زرقون هذه الروايات أيضًا وعزا ابن هارون هذا القول لظاهر ديات المدونة.

(ولا تعقل العاقلة من قتل نفسه عمدًا أو خطأ):

ما ذكر هو مذهبنا وقال الأوزاعي من أخذ يضرب بسيفه في العدو فأصاب

(2/304)

________________________________________

نفسه فعلي عاقلته الدية ونحوه عن احمد بن حنبل رضي الله عنه وروي أن رجلاً فقأ عين نفسه خطأ فقضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بديتها على عاقلته، وقال أصابته يد من أيدي المسلمين وقال الفاكهاني: لا أعرف من خالف في الخطأ سوى الأوزاعي.

(وتعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل فإذا بلغتها رجعت إلى عقلها):

قال في المدونة: في كتاب الجراحات: والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديته فإذا بلغت إلى ذلك رجعت إلى عقل نفسها، وقصد بقوله: تعاقل أي تساوي قال فيها: وتفسير ذلك أن للها في ثلاثة أصابع، ونصف أنملة أحدا وثلاثين بعيرا وثلثي بعير وهي والرجل في ذلك سواء إن أصيب منها ثلاث أصابع وأنملة رجعت إلى عقلها وكان لها من ذلك ستة عشر بعيرًا وثلث بعير ونحوه في الموطأ قال ربيعة لابن المسيب لما عظم جرحها واشتدت بليتها نقص عقلها قال أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم قال: هي السنة يا ابن أخي وظاهر لفظه هذا يدل على أنه أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(والنقر يقتلون رجلاً فإنهم يقتلون به):

(2/305)

________________________________________

النقر والنفير عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة قاله الفاكهاني عن أهل اللغة، وظاهر كلام الشيخ ولو كثروا جدًا وهو كذلك ويعني سواء باشروا القتل كما لو جرحه كل واحد جرحا أو ضربه كل واحد سوطًا وهم قاصدون قتله أو باشر بعضهم القتل والباقون بحضرته.

واختلف قول ابن القاسم إذا أنفذ رجل مقاتل رجل وأجهز عليه آخر فقال مرة في سمع يحيى يقتل الأول ويعاقب الثاني، وقال مرة في سماع أبي زيد بعكسه، وبالأول قال أشهب، وأختاره غير واحد كابن رشد قال ابن عبد السلام، ولكن قد يلزم عليه أمور شنيعة وهو أنه إذا كان يتعين على الأول القصاص لأنه هو الذي قتله حقيقة فهو من حينئذ كالميت فلا تجوز وصاياه، وقد ذهب إلى ذلك أصبغ، وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة، ويلزم أن لا يخاطب بالصلاة إلى ذلك، وقد أوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصلى على تلك الحالة وأنفذ المسلمون وصاياه وأشار إلى لزوم الصلاة له حينئذ بقوله: ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وأشار بعض الشيوخ يعنى به ابن رشد إلى أنه لو قيل بقتلهما معًا ما كان بعيدًا.

قال ابن شاس، واختلف المذهب إذا حفر رجل حفر لشخص معين لكي يقع فيها فوقف الرجل على شفيرها فرداه آخر فقال القاضي أبو الحسن يقتلان معًا للاعتداء، وقال القاضي أبو عبد الله بن هارون البصري يقتل المردي دون الحافز تغليبًا

(2/306)

________________________________________

للمباشرة.

قلت: قال بعض شيوخنا: الأظهر أن علم المردي بتقدم فعل الحافر وقصده قتلا معًا كبينة الزور مع القاضي العالم بزورها وإلا قتل وحده على رواية ابن القاسم في بينة الزور.

واختلف في قتل الأب إذا أمر ولده الصغير بالقتل وفي قتل المعلم على قولين، وكذلك القولان في السيد يأمر عبده وسواء كان العبد صغيرا أو كبيرا، وقيل: الفرق بين أن يكون العبد فصيحا فيقتل به، وبين أن يكون أعجميا فلا يقتل به، رواه ابن وهب عن مالك، ويقتل العبد إذا كان بالغاء اتفاقًا، وكذلك اتفق المذهب لو قتل بعض أعوان الإمام رجلاً ظلما بأمر الإمام على قتلهما معًا.

(والسكران إن قتل قتل):

يقوم من كلام الشيخ من باب أحرى أن طلاقه يلزم وهو كذلك قال في المدونة: في كتاب الأيمان بالطلاق، ويلزم السكران طلاقه وخلعة وعتقه، وإن قتل قتل به فأطلقه غير واحد كابن يونس، وقال ابن رشد في النكاح الأول من بيانه السكران على قسمين طافح ونشوان فأما الطافح فهو الذي لا يميز بين الذرة والفيل، ولا يميز بين الرجل والمرأة فحكمه حكم المجنون غير أنه اختلف هل يقضي الصلاة أم لا؟ وأما النشوان فهو الذي معه شيء من التمييز ففيه أربعة أقوال:

الأول: لا يلزمه شيء قاله ابن عبد الحكم.

الثاني: يلزمه كل شيء قاله ابن نافع.

الثالث: تلزمه الأفعال دون الأقوال قاله الليث.

الرابع: تلزمه الجنايات والطلاق والعتاق والحدود ولا تلزمه الإقرارات ولا العقود قاله مالك، ومثل له سلك ابن رشد، في أن الطافح لا يلزمه شيء باتفاق إلا في الصلاة ففيه اختلاف سلك أبو الوليد الباجي رحمه الله تعالى، ولم يتعرض للخلاف في الصلاة ولذلك تعقب على ابن الحاجب في قوله، وقال الباجي: المطبق به كالمجنون اتفاقًا إلا في الصلاة، وظاهر كلام غيرهما لا فرق بين الطافح وغيره؛ لأنه أدخله على نفسه اختيارًا وذلك يناسب عدم التفصيل، ولو تعرض السكران إلى الجانب العلي أسال الله السلامة من ذلك فقال شيخنا أبو مهدي رحمه الله يلزمه حكم ما لفظ كغيره ولا يختلف فيه لحرمة الجانب العلي، وقال بعض من أدركناه من مشايخنا من القرويين: لا فرق بين هذه المسألة وغيرها على ظاهر كلام ابن رشد، وغيره، وهو الباجي فيختلف فيها.

(2/307)

________________________________________

قلت: ونص الشيخ أبو الحسن القابسي على أنه يقتل وقبله عياض في الشفاء.

(وإن قتل مجنون رجلاً فالدية على عاقلته):

خرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن المبتلى حتى يبرأ وعن الصبي حتى يحتلم".

قال ابن عبد السلام: وهذا الحديث قوي في الحجة لما في كتاب ابن المواز، وإن ما أصابه الجنون المطبق والصبي هدر من الدماء، والأموال، ولو قتل المجنون في حالة إفاقته فهو كالصحيح يقتص منه نص على ذلك في المدونة، ولو أشكل على البينة أقتل في حال عقله أو جنونه، فقال بعض من لقيناه: لا يلزمه شيء، وهو صواب.

وقال شيخنا أبو مهدي رحمه الله معتلا بأنه شك في المقتضى لأن الحاكم لا يحكم عليه إلا بعد أن تشهد البينة أنه قتله في حال كونه في عقله.

قال الشيخ أبو محمد في المجموعة لابن القاسم: ما جنى المجنون في حال إفاقته من حد أو قتل فلم يقم عليه حتى جن أخر لإفاقته الحد والقصاص فإن أيس من إفاقته وقد قتل كانت الدية عليه في ماله، وقال المغيرة: يسلم إلى أولياء المقتول فيقتلونه إن شاءوا.

(وعمد الصبي كالخطأ وذلك على عاقلته إن كان ثلث الدية فأكثر وإلا ففي ماله):

ما ذكر مثله في المدونة وذلك في جناياتها وإذا جنى الصبي أو المجنون عمدًا أو خطأ بسيف أو غيره فهو كله خطأ تحمله العاقلة إن بلغ الثلث وإن لم يبلغ ففي ماله يتبعه به دينًا في عدمه والحكم ما تقدم إن كان مميزا باتفاق، وأما غير المميز فقال ابن الحاجب فقيل: المال في ماله والدية على عاقلته، وقيل: المال هدر كالمجنون وقيل: كلاهما وتقدم في الغصب اعتراض ابن عبد السلام ورده بعض شيوخنا عليه.

واختلف المذهب إذا اشترك بالغ عاقل في قتل رجل مع صبي وشبهه كالمجنون على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه يجب على البالغ نصف الدية.

الثاني: القصاص بعد أن يقسم ولاة المقتول أنه من ضربه مات في الحال وبعد أن طال.

الثالث: أنه مات في الحال قتل هذا البالغ من غير قسامة كما لو انفرد ولو مات

(2/308)

________________________________________

المقتول بعد طول قتل بقسامة وكل من شاركه يجب على عاقلته نصف الدية، وهذه الثلاثة الأقوال ذكرها ابن الحاجب مطلقًا.

وقال ابن يونس في قول المدونة في قتل رجل وصبي رجلاً عمدًا يقتل الرجل ما نصه يريد إذا تعمدًا جميعا قتله وتعاونا عليه كما لو لم يباشر قتله إلا الصبي والرجل معين له حتى لو كان رجلان لقتلا معًا فحينئذ يجب قتل الرجل وإلا لم يقتل الرجل عند ابن القاسم كما لو كانت من رمية الصبي خطأ واللخمي نحوه، ولم يفرق ابن حارث بين معرفة ضربة غير المتعمد وجهلها، وهو ظاهر المدونة.

وقال اللخمي: إن افترق ضربهم وعملت ضربة كل واحد منهم ولم يقصدوا التعاون فلهم أن يقسموا على بعض الضربات لمات منها ويثبت القود والدية على العاقلة ثم استمر في كلامه فانظره.

(وتقتل المرأة بالرجل والرجل بها ويقنص لبعضهم من بعض في الجراح):

ما ذكر هو مذهبنا وذهب علي والحسن وعثمان رضي الله عنهم إلى أن أولياء المرأة إن قتلوا الرجل أدوا نصف الدية، وإن لم يقتلوا أخذوا ديتها الخيار لهم في ذلك.

(ولا يقتل حر بعبد ويقتل به العبد):

ما ذكر من أنه لا يقتل حر بعبد هو مذهبنا أيضًا وسواء كان قنا أو فيه عقد حرية من مكاتب، وأم ولد ومدبر ومعتق إلى أجل.

وقال أبو حنيفة ك يقتل الحر بالعبد وبالمكاتب الذي لم يترك وفاء ولا يقتل بالمكاتب الذي يترك وفاء ولابد من أن يكون هذا العبد ملكا لغير القاتل عنده.

وقال النخعي: يقتل بعبد نفسه، قال الباجي وقولنا هو إجماع الصحابة رضوان الله عليهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلى وابن عباس والزبير وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهم وما روي من خلافه عن ابن مسعود فمرسل واتفقوا على أن العبد يقتل بالحر.

قال في جنايات المدونة فإن استحياه الولي خير السيد في إسلامه أو فدائه بالدية، وكذلك يخير في فدائه بالدية في قتله خطأ.

(ولا يقتل مسلم بكافر ويقتل به الكافر):

تقدم أن المسلم يقتل بالكافر في الغيلة فما ذكره الشيخ مخصوص بذلك، وما ذكره هو مذهبنا وبه قال الشافعي والثوري وابن شبرمة وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم.

وقال أبو حنيفة: يقتل المسلم بالكافر، وبه قال ابن أبي ليلي، وهو قول عمر بن

(2/309)

________________________________________

عبد العزيز، والشعبي، وغيرهما.

واحتج أهل المذهب بما في الصحيح عن على رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقتل مسلم بكافر" واحتج الآخرون بما خرجه أبو داود في المراسيل عن عبد الله بن عبد العزيز الحضرمي، قال: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خبير مسلمًا بكافر قتله غيلة، وقال: " أنا أولى وأحق من أوفى بذمته" قيل: وهو ضعيف السند مع ما يرد عليه من القول بالوجوب على أصل مذهبنا في إلحاق قتل الغيلة بالحرابة واحتج بعض الحنفية بقوله تعالى: (يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) [البقرة: 178]

، وهو لفظ عام في كل قتل.

وأجابه الفاكهاني بأن الكاف والميم في قوله تعالى: (كتب عليكم) [البقرة: 178]

خطاب للمؤمنين بلا خلاف أعلمه فلم يدخل الكافر في عمومه، ولأن الله تعالى ربط آخر الآية بأولها، فقال: (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر) [البقرة: 178]

إلى آخر الآية فإذا نقص العبد عن الحر بالرق وهو من آثار الكفر فأحرى أن ينقص عنه الكافر، ولأن الله تعالى قال: (فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف) [البقرة:178]

ولا مداخلة بين المسلم والكافر فدل على عدم دخوله في هذا العموم والله أعلم.

(والسائق والقائد والراكب ضامنون لما وطئت الدابة وما كان منها من غير فعلهم أو وهي واقفة لغير شيء فعل بها فذلك هدر):

قال في المدونة: ما أهلكت الدابة بيدها أو رجليها وعليها مؤخر ومقدم فعلي عاقلة المقدم إلا أن يحركها المؤخر فعليها إلا أن يعجز المقدم عن ردها فعلى المؤخر فقط.

واعلم أنه اختلف المذهب فيها إذا كان رجل راكبًا دابة وطارت حصاة من تحت حافرها فكسرت آنية مثلاً فقال الأشبيلي: هو ضامن لذلك، وقال ابن زرب: لا يضمن، وذهب بعض المتأخرين إلى الأول إن طارت بطرف حافرها، وإلى الثاني إن طارت من تحتها، ونص غير واحد كابن شاس أن الميزاب إذا سقط على شيء فأهلكه

(2/310)

________________________________________

فإنه هدر، وهو نص المدونة في كتاب الديات، وقيده بعضهم بما يأتي.

واختلف المذهب في الجدار المائل إذا وقع على شيء فأهلكه فقال أشهب: يضمن صاحبه سواء تقدم إليه أم لا إذا بلغ الحائط ما يجوز تركه وكذلك لو تقدم إلى السلطان في هدم حائط على حسن النظر للرعية فهو ضامن.

وأما نهي الناس وإشهادهم فليس بلازم له وقيل: إن أنكر رب الحائط ما قيل من ميل الحائط فههنا يحتاج إلى التقديم إليه، وإن أقر بأن حائطه مخوف فههنا ينفع الإشهاد عليه دون الحكم قاله بعض فقهاء القرويين وكلاهما نقله ابن يونس، ومذهب المدونة أنه لا يضمن حتى يشهد عليه.

قال ابن عبد السلام: ومعناه من القاضي ولا ينفع إشهاد غير القاضي أو من له النظر في ذلك، وإن كان ظاهر المدونة عندهم أن الإشهاد من غير القاضي كاف في ذلك، وأشار ابن شاس إلى أن هذا الكلام إنما هو مقصور على الميل الحادث في الجدار الذي بني مستقيما ولو بني مائلا فربه يضمن بالإطلاق، وفي المدونة في كتاب كراء الدور والأرضين إذا ربط دابته على باب الدار فحرنت فكسرت أو قتلت ولدرب الدار فذلك جبار كقول مالك فيمن نزل عن دابته وأوقفها بالطريق لشراء حاجته أو أوقفها لباب المسجد أو الجامع: قال أبو حفص العطار: إن كان يعلم أنها تضرب برجلها فهو ضامن كمتخذ الكلب العقور حيث لا يجوز له يضمن وإن لم يتقدم إليه، وإنما يحتاج على التقديم إذا كان في داره فأما في الطريق فهو ضامن.

(وما مات في بئر أو معدن من غير فعل أحد فهو هدر):

دليله قوله صلى الله عليه وسلم: " البئر جبار والمعدن جبار"، وقال أهل اللغة: الجبار الهدر يقال: ذهب دمه جبارا قال التادلي: ويريد الشيخ إذا حفره في موضع يجوز له وإلا فهو ضامن.

(وتنجم الدية على العاقلة في ثلاث سنين وثلثها في سنة ونصفها في سنتين):

قال ابن عبد السلام: كانت الدية في الجاهلة تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام وكانوا يتعاقلون بالنصرة فجرى الأمر على ذلك حتى فعل عمر الديون اتفق القول بذلك.

والعاقلة هي العصبة والموالي الأعلون وبيت المال لا سيما إذا قلنا: إنه وارث

(2/311)

________________________________________

والمحالف ليس منها، وفي الموالي الأسفلين قولان:

قال ابن المواز: أجمع العلماء على أن الموالي من الأسفلين لا يعقلون مع من أعتقهم وهو معني قول ابن القاسم.

قال ابن رشد وقاله سحنون وليس قول ابن المواز بصحيح بل يعقلون معهم على سماع أصبغ، وابن القاسم هذا ومثله لابن كنانة في المدونة وفي كتاب الجنايات من المدونة، وهو قوله في المبتل في المرض إذا لم تكن لسيده أموال مأمونة إن جنايته جناية عبد لأن العاقلة لا تحمل له جريرة حتى يحمل هو مع العاقلة ما لزم العاقلة من الجرائر، وهذا الأخذ من المدونة سبقه به ابن حارث.

قال بعض شيوخنا: وفيه نظر لاحتمال أن يريد بالعاقلة عاقلة قومه أو عشيرته لا عاقلة معتقه.

قال ابن شاس: وفي دخول الجاني في التحمل روايتان وتبعه ابن الحاجب وقبله ابن عبد السلام وابن هارون، وهو خلاف قول الباجي ويؤدي الجاني مع العاقلة قاله مالك، ومن أصحابنا من قال: هذا استحسان وليس بقياس فمقتضى عزوه عدم دخوله لبعض الأصحاب أنه لا يحفظه رواية وعبر عنه اللخمي بقوله: وقيل: لا يدخل ويبدأ بالفخذ ثم البطن ثم العمارة ثم العصابة ثم القبيلة ثم أقرب القبائل فإن لم تكن عصبة فالموالي فإن لم يكونوا فبيت المال إن كان الجاني مسلمًا وإن كان ذميا فأهل إقليمه من أهل دينه ثم يضم الأقرب الذي من كورهم ولا تضرب على فقير ولا على مخالف في الدين ولا على عبد ولا صبي ولا امرأة. وقول الشيخ ونصفها في سنتين هو قول مالك وعنه يجتهد في ذلك وكلاهما في المدونة.

(والدية موروثة على الفرائض):

قال الفاكهاني: هذا بلا خلاف أعلمه فيغير دية الجنين كما سيأتي.

(وفي جنين الحرة غرة أو وليدة تقوم بخمسين دينارا أو ستمائة درهم وتورث على كتاب الله تعالى):

والأصل في ذلك قضاؤه صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة فيما رواه البخاري ومسلم عن المغيرة، والرواية الصحيحة التي عليها الجمهور بالتنوين دون الإضافة وعبد بدل منه وذكر صاحب مطالع الأنوار: التنوين والإضافة نقله الفاكهاني.

ويعني الشيخ أن من ضرب حرة فألقت جنينا ميتا فإنه يلزمه دفع عبد أو أمة وهو معنى قوله غرة عبد أو وليدة إلا أن العلماء اختلفوا هل لفظة الغرة الواقعة في

(2/312)

________________________________________

الحديث بسبب اللغة زيادة على ذلك أم لا؟ فالمعلوم من مذهبنا أن ليس لها زيادة وإنما المراد بالغرة النسمة، وبه قال كثير من أهل العلم، ومنهم من قال بل هي مأخوذة من غرة الفرس، فلابد من عند من ذهب إلى هذا أن تكون من البيض أو تكون مأخوذة من الغرة بمعني الخيار والأحسن لأن الغرة عند العرب أحسن ما يملك واستحب مالك هذا الوجه، ولم يره على الوجوب.

وقال ابن عبد البر: يشترط أن تكون من البيض لا من السود؛ لأن أصل الغرة البياض الذي في الوجه قال: ولولا النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معني زائدا على شخص العبد والأمة لما ذكره، واعترضه الفاكهاني بأن قال: ما ذكره لا يلزم لأنه صلى الله عليه وسلم عبر عن الجسم كله بالغرة، وهو كقوله عتق رقبة قاله الجوهري في صحاحه.

قال ابن عبد السلام: ولم أر لأحد من أهل العلم حدا في سن الغرة، وقال الشافعي أقلها سبع سنين.

فيها وفي الحيوان وقد أكثر الشيوخ الاعتذار عنه وكذلك حكى بعض الحنفية عن مالك وجوب الشفعة هذا خلاف قول ابن رشد في مقدماته وذلك أنه لما ذكر قول الشافعي ووجهه يكون لا يفرق بينهما وبين أمها دون هذا السن قال، وهذا مما لا يختلف فيه إلا ما استحسنه مالك من أن تكون قيمتها خمسين دينارا أو ستمائة درهم وخلاف عزو ابن عبد البر قول الشافعي لبعضهم معه والمذهب أن ليس عليه أن يقبلها معيبة ولابد من أن تكون الغرة تساوي ما ذكره الشيخ، وإلا لم يجبر على أخذها نص على ذلك في المدونة.

قال اللخمي: وليس ببين لأنه عليه أفضل الصلاة والسلام إنما أوجب الغرة من غير اعتبار القيمة وأثمان العبيد تختلف في البلدان وتختلف أثمانها في الأسواق وظاهر كلام الشيخ ولو تعددت الغرة تعدد ما ذكر وهو كذلك.

قال ابن عبد السلام: انظره مع المصراة وظاهر كلامه أيضًا ولو قصد إلى ضربها عمدًا وهو كذلك في قول أشهب وجعلها ابن الحاجب المشهور.

وقال ابن القاسم في المدونة والمجموعة إن تعمد الجنين بضرب بطن أو ظهر فالقود بالقسامة وألحق أبو موسي بن مناس ضرب الرأس بالبطن بخلاف ضرب الرجل وشبهها.

واختلف المذهب هل الغرة على الجاني أو على العاقلة فقيل عليه، وهو المشهور، وقال اللخمي: وروى أبو الفرج عن مالك أنها على العاقلة، وهذا الخلاف في

(2/313)

________________________________________

الخطأ إذا لم يبلغ ثلث الدية، وأما إذا بلغ ثلث دية الجاني فتكون الغرة على العاقلة، وفي المدونة وتورث الغرة على فرائض الله تعالى.

قال الباجي: قال ابن حبيب، وبه قال أصحاب مالك، وقال ربيعة: هي للأم فقط، وقال ابن هرمز هي للأبوين فإن انفرد أحدهما اختص بها وقاله مالك مرة ثم رجع إلى الأول وبقول ابن هرمز قال المغيرة.

قلت: وعزا ابن رشد في المقدمات قول المغيرة لابن دينار، وعبد العزيز بن أبي سلمة.

(ولا يرث قاتل العمد من مال ولا دية وقاتل الخطأ يرث من المال دون الدية):

ما ذكر الشيخ من أن قاتل العمد لا يرث من المال، ولا من الدية زعم بعض الشيوخ أنه مجمع عليه من سائر العلماء وقبله ابن عبد السلام ورد بنقل الفاكهاني عن شيخه أبي محمد الغمري الفرضي عن بعض العلماء أنه يرث في العمد والخطأ ويجاب بأن الواحد لا ينقض الإجماع، ومذهبنا أنه لا يحجب وقيل خارج المذهب أنه يحجب وما ذكر الشيخ في الخطأ هو قولنا وقال الشافعي: لا يرث من المال ولا من الدية، وخرج أو داود في المراسيل عن ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يرث قاتل عمد ولا خطأ شيئًا من الدية" وخرج الدارقطني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم فتح مكة فقال: " لا يتوارث أهل ملتين وترث المرأة من دية زوجها وماله، وهو يرث من ديتها ومالها ما لم يقتل أحدهما صاحبه لم يرث من ديته وماله شيئًا، وإن قتل أحدهما صاحبه خطأ ورث من ماله ولم يرث من ديته".

ورواه محمد بن سعيد عن عمرو بن شعيب قال: أخبرني أبي عن جده قال عبد الحق عن محمد بن سعيد أظنه المصلوب وهو متروك الحديث عند الجميع قال الحوفي: وقاتل العمد والخطأ يرثان الولاء.

قلت: قال بعض شيوخنا، وقاله عبد القهار، ونقله عن المذهب وهو وهم، قال أصبغ: لا يرث قاتل العمد الولاء.

قال ابن رشد: لا خلاف فيه لأحد من أصحاب مالك، وفيه نظر إذ لا يصح إلا على القول بإرث الولاء كالمال يستحقه الأقرب للميت لا للمعتق، وقياس قول

(2/314)

________________________________________

الجمهور: إرث قائل العمد الولاء إن مات المولي بعد مدة لا يمكن أن يحيا إليها القتيل لو لم يتقل وإلا اتهم على إرث الولاء.

قلت: قال بعض شيوخنا: ويلزم مثله في النسب كقتل أخ لأب أحد أخويه الشقيقين، ومات الآخر لمدة لا يحيا إليها القتيل نعم لو قتل المولي والمعتق مشرف على الموت اتهم.

(وفي جنين الأمة من سيدها ما في جنين الحرة):

ما ذكر الشيخ مثله في المدونة وكذلك جنين النصرانية من زوجها العبد المسلم.

قال اللخمي: ولأشهب في كتابه أن فيه عشر دية أمه، ولو كان زوج النصرانية مجوسيا كان فيه قولان هل فيه أربعون درهما على حكم الأب أو فيه عشر دية أمة ولو ذكر الشيخ هذه المسألة والتي بعدها عقب مسألة الغرة لكان أحسن لأنها منها.

(وإن كان من غيره ففيه عشر قيمتها):

ما ذكر الشيخ هو المشهور، وقيل: إنما يلزمه ما نقصها كالبهيمة قاله ابن وهب وظاهر كلام الشيخ فيما ذكر سواء زاد على الغرة أو نقص كان أبوه حرًا أو عبدًا وهو كذلك نقله الباجي من رواية ابن نافع، وأما جنين الكتابية فهو على النصف من دية الحرة لما تقدم أن ديته على النصف من دية الحر المسلم.

(من قتل عبدًا فعليه قيمته):

ظاهر كلامه: وإن بلغت القيمة دية الحرة أو زادت وسواء كان القتل عمدًا أو خطأ وهو كذلك قال في أول الديات من المدونة: وعلى قاتل عبيد أهل الذمة قيمتهم ما بلغت كعبيد المسلمين وإن كانت القيمة أضعاف الدية، وقال أبو حنيفة: ما لم تبلغ دية الحر فينقض منها عشرة دراهم.

(وتقتل الجماعة بالواحد في الحرية والغيلة وإن ولي القتل بعضهم):

لا خصوصية لما ذكر بل وكذلك في غير الحرابة والغيلة كما تقدم إلا أن يريد بتحتم القتل في هذين ولا يصح العتق بخلاف غيرهما على أنه قد سبق له، وقتل الغيلة لا عفو فيه والله أعلم بمراده.

(وكفارة القتل في الخطأ واجبة عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ويؤمر بذلك إن عفي عنه في العمد فهو خير له):

لا يقال: إن ظاهر كلام الشيخ:

أولاً: دل من باب أحرى على أن الكفارة تجب في العمد وهو مناقض لقوله.

(2/315)

________________________________________

ثانيا: ويؤمر بذلك إن عفي عنه في العمد فهو خير له، وذلك كالنص في الاستحباب؛ لأنه معنى يوجب القتل فلم يوجب كفارة، ولأن قتل المؤمن عمدًا أعظم من أن يكفر قال الأبهري: ألا تري أن الكبائر لا كفارة فيها كعقوق الوالدين.

وقال الشافعي: تجب الكفارة كالخطأ وما ذكر الشيخ هو كذلك بإجماع لأنه بنص التنزيل قال تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطئًا) [النساء: 92]

الآية، ويشترط في الرقبة ما تقدم في الأيمان والظهار من كونها سليمة من العيوب ومن الشركة فيها إلى غير ذلك.

قال ابن الجلاب: ومن لم يستطع الصوم فإنه ينتظر القدرة على العتق أو الصيام، ولا يجزئه الإطعام.

واعلم أن الكفارة المذكورة تجب في مال الصبي والمجنون نص على ذلك ابن شاس وتبعه ابن الحاجب، وقال بعض شيوخنا: ما ذكر ابن شاس واضح كالزكاة، ولم أجده لغيره من المذهب نصًا بل في وجيز الغزالي.

قلت: وقبله ابن عبد السلام ووجه ذلك بكون الكفارة عوضًا عن النفس فأشبهت أعواض المتلفات ومرضه بقوله إن كان هناك دليل شرعي من إجماع وغيره يجب له التسليم فحسن وإلا فمقتضى النظر سقوطها عنهما وردها إلى خطاب التكليف وقد جعل الشرع عوضًا عن الرقبة الصيام الذي هو من خطاب التكليف، قال شيخنا أبو مهدي رحمه الله، لما نقلت له كلام ابن عبد السلام هذا بقوله أقوال: واختلف قول مالك هل تجب الكفارة في شبه العمد أم لا؟ على قولين ذكرهما ابن الحاجب، وفي استحبابها في الجنين روايتان أيضًا ذكرهما غير واحد والأولي منهما هو مذهب المدونة قال فيها قلت: من ضرب امرأة خطأ فألقت جنينا ميتا أعليه كفارة؟ قال: قال مالك: إنما الكفارة في كتاب الله في قتل الحر خطأ واستحسن مالك الكفارة في الجنين.

فإن قلت: ما بال أبي سعيد البراذعي اختصرها سؤالا وجوابًا على ما هي في الأم وعادته أن لا يفعل ذلك إلا لمعني من المعاني فما هو هذا المعنى؟

قلت: قال بعض شيوخنا: لإشكال الجواب لعدم انحصار طرق الأحكام في نصوص القرآن.

(ويقتل الزنديق ولا تقبل توبته، وهو الذي يسر الكفر ويظهر الإسلام):

ما ذكر هو المشهور، وقال ابن زرقون في المبسوط: قال المخزومي، وابن أبي

(2/316)

________________________________________

حازم ومحمد بن مسلمة: لا يقتل من أسر دينًا حتى يستتاب والإسرار والإظهار في ذلك سواء.

قلت: وبه قال ابن لبابة قياسًا على المرتد؛ لأنه من الذين كفروا فيعتبر في معرفة انتهائه عن الكفر في إقراره بالإسلام؛ لأنه غاية المقدور في ذلك واحتمال بقائه على مذهب الكفر لا يمنع من إجراء حكم الإسلام عليه إذ قيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأجاب بقوله: " فهلا شققت على قلبه"، وظاهر كلام الشيخ: ولو جاء تائبا، وهو كذلك نقله ابن شاس عن بعض المتأخرين وقال المتيطي: تقبل توبته.

قال غير واحد، وهو مقتضى قول سحنون في شاهد الزور: إنه إذا جاء تائبًا لا يعاقب، وقال ابن الحاجب: الأصح قبوله وارتضاه ابن عبد السلام معبرا عنه بالصحيح لقوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) [الأنفال:38]

ولو تزندق يهودي أو نصراني فقال أصبغ: لا يقتل؛ لأنه خرج من كفر إلى كفر وقاله مطرف، وابن عبد الحكم.

وروي عن مالك، وقال ابن الماجشون: بل يقتل؛ لأنه دين لا يقر عليه، ولا تؤخذ عليه الجزية، قال ابن حبيب: لا أعلم من قاله غيره، ولا أقول به.

قال الباجي: يحتمل أن يريد بالزند هنا الخروج إلى غير شريعة مثل التعطيل ومذاهب الدهرية، وحكى الشيخ عن ابن أبي محمد عن أبي بكر بن محمد، قال: روى عبد الرحمن بن إبراهيم الأندلسي في النصراني أو اليهودي يتزندق أنه يقتل؛ لأنه خرج من ذمة إلى ذمة، ولو أسلم لقتل كمسلم تزندق ثم تاب.

وعزا الفاكهاني قول ابن الماجشون لنقل مكي في تذكرته.

واعلم أن في كلام الشيخ تقديم التصديق على التصور، وقد علمت ما فيه.

(وكذلك الساحر، ولا تقبل توبته):

ما ذكر الشيخ مثله حكي القاضي عبد الوهاب أنه لا يستتاب وحمله عليه قول مالك، وقال ابن عبد الحكم وأصبغ هو كالزنديق من كان للسحر والزندقة مظهرًا استتيب وكلاهما ذكره الباجي.

وروى ابن نافع عن مالك في المبسوط في المرأة تقر أنها عقدت زوجها عن نفسها أو عن غيرها من النساء أنها تنكل، ولا تقتل ولو سحر نفسه لم يقتل بذلك وقبله الشيخ أبو محمد وغيره.

وقال بعض شيوخنا: الأظهر أن فعل المرأة سحر، وأن كل فعل ينشأ عنه حادث

(2/317)

________________________________________

في أمر منفصل عن محل الفعل سحر.

وفي الموازية من لم يباشر عمل السحر أو جعل من يعمله فإنه يؤدي أدبًا شديدا وفيها أيضًا في الذي يقطع أذن المرأة أو يدخل السكاكين في جوف نفسه إن كان سحرًا قتل به، وإن كان خلافه عوقب.

قال الشيخ شهاب الدين القرافي في كتاب الانتقاد في الاعتقاد: من اعتقد أن هاروت وماروت بالهند يعذبان على خطيئاتها فهو كافر بل هم رسل الله وخاصته يجب تعظيمهم وتوقيرهم وتنزيههم ومن لم يعتقد ذلك وجب إراقة دمه.

وقبله الفاكهاني وهو الحق الذي لاشك فيه وعليه الأكثرون وكذلك قال به بعض شيوخنا القرويين واشتد نكيره على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى في في كلامه فيهما بما يقتضي ذلك وتعرض للملائكة بكلام شنيع فظيع لا يقدر أحد على سماعه ذكره في كتابه المسمى بالدرياق في أوائله فاحذر من قراءة ذلك المحل منه، والميل لجميع ما دل عليه مما ذكرناه وكان إنكار شيخنا لما ذكرنا لما قرأته عليه في درسه في حال صغرى بالقيروان بمحضر الطلبة.

وبعض العوام فهم أن يسكتني فتماديت إلى أن فرغت الدولة فقال: ما أشك أن هذا الكلام كفر فالعجب من الشيخ رحمه الله تعالى، وكذلك قرأته بجامع القصبة من تونس في حال كتبي لهذا الموضع على شيخنا أبي مهدي رحمه الله تعالى خاليا عن الناس فأنكره أشد إنكار وتفجع على الشيخ رحمه الله، وقال: لم أزل أسمع أن أهل بغداد تكلموا فيه فلعل هذا المحل هو الموجب لكلامهم أو هو أحد الموجبات قال أصبغ: ولا يقتل الساحر حتى يثبت أن ما فعله من السحر الذي وصفه الله تعالى بأنه كفر قال: ويكشف عن ذلك من يعرف حقيقته.

قال الباجي: يريد ويثبت ذلك عند الإمام وقد استصوب بعض المتأخرين كلام أصبغ هذا، وحكاه الطرطوشي عن قدماء الأصحاب، واستشكل قول مالك أن تعلمه وتعليمه كفر وكذلك استشكل جواب من أجاب عن ذلك الإشكال بأن السحر علامة على الكفر فقال: لا إنا نتكلم في هذه المسألة باعتبار الفتيا.

قال ونحن نعلم أن حال الإنسان في تصديقه لله ولرسوله بعد عمل هذه الأعمال كحاله قبل ذلك وإن أراد الخاتمة فمشكل لأنا لا نكفر في الحال بكفر واقع في المال.

قلت: ولم يتعرض الشيخ رحمه الله لتبيين السحر، ولعل ذلك لصعوبته عنده، والله أعلم.

(2/318)

________________________________________

وقال ابن العربي في أحكامه هو كل كلام مؤلف يعظم فيه غير الله عز وجل وتنسب إليه المقادير والكائنات وقبله الفاكهاني.

(ويقتل من ارتد إلا أن يتوب):

الأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " من بدل دينه فاقتلوه" وروي "فاضربوا عنقه" خرجه البخاري ومسلم.

(ويؤخر للتوبة ثلاثًا وكذلك المرأة):

اختلف قول مالك رحمه الله تعالى هل يؤخر ثلاثة أيام أم لا؟ فقيل: يؤخر وهو المشهور وقيل: يستتاب في الحال رواه ابن القصار والقول الأول مروي عن عمر رضي الله عنه على ما تضمنه حديث الموطأ، وعلى هذا القول فظاهر كلامهم أن التأخير واجب.

وقول التادلي اختلف فيه فقيل واجب وقي: مستحب لا أعرفه وعليه فلا يجوع ولا يعطش وكذلك لا يعاقب إن تاب؛ لأن في عقوبته تنفيرا له عن الإسلام، وليس في استتابته تخويف خلافًا لأصبغ بالقتل.

قال الفاكهاني: وقول الشيخ وكذلك المرأة إشارة إلى خلاف أبي حنيفة في ذلك مستدلاً بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تقتل المرأة " ونقل عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لا تقتل المرأة بل تسترق وقاله جماعة ودليلنا الحديث المتقدم.

(ومن لم يرتد وأقرب بالصلاة، وقال: لا أصلي أخر يمضي وقت صلاة واحدة فإن لم يصلها قتل):

اختلف المذهب هل المراعى الوقت الضروري وهو المشهور والمختار، وهو قول نقله ابن خويزمنداد.

قال ابن بشير وهو بعيد جدًا لأن التأخير إلى ذلك الوقت لا يحرم فكيف يراق به دم وتأخيره مكروه فقط، وعلى القولين فهل تقدر العصر مثلاً بكمالها أو بمقدار ركعة فقط في ذلك قولان.

قال اللخمي: ولا تعتبر قراءة الفاتحة للخلاف.

قال المازري: ولا الطمأنينة، واختلف هل يقتل بالسيف ناجزا أم لا؟ فقيل بذلك قاله في سماع أشهب وقيل: بل بالطعن نخسًا لأن المطلوب رجوعه إلى الإسلام قاله بعض المتأخرين والأكثر على أنه يقتل حدا لا كفرا.

وقال ابن حبيب بل كفرا واختاره ابن عبد السلام ثم قال وعلى تسليم أنه ليس

(2/319)

________________________________________

بكافر فالأقرب قول أبي حنيفة أنه لا يقتل ولمتأخري أهل المذهب صوغ إلى ذلك إذ الأصل بعد الحكم بالإسلام حقن الدماء. قال صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" قال: وهذا الحديث وإن كان مخصوصًا يعني بالمحارب وشبهه فلا يضر ذلك في الاستدلال به في غير محل التخصيص.

قلت: ونقل الفاكهاني الاستدلال بالحديث لأبي حنيفة وقال: كون الحديث على تقدير صحته مخصوصًا بما ذكر يدل على أنه متروك الظاهر، وأورد على المشهور أنه يقتل حد بأنه لو كان كذلك لم يسقط بتوبته قبل إقامة الحد عليه كسائر الحدود.

وقال ابن عبد السلام: ويمكن أن يقال: إن الترك الموجب لقتله حدا إنما هو الترك الجازم، وذلك لا يتحقق إلا بعد إقامة الحد عليه، واختلف إذا قال أنا أصلي، ولم يفعل فقيل يقتل قاله مالك.

وقيل: لا يقتل قاله ابن حبيب نقله عنه غير واحد وليس هو مناقضًا لأصله.

قال التادلي: وقول ابن حبيب هو ظاهر كلام الشيخ، وكذلك اختلف في قتله إذا امتنع من قضاء الفوائت على قولين للمتأخرين واستدل من قال بعدم قتله بالخلاف في وجوب القضاء عليه.

قال المازري: وبإجازة مالك تأخير القضاء للشغل.

(ومن امتنع من الزكاة أخذت منه كرها):

يعني وتجزئه وأخذ من قولهم هذا أن الزكاة لا تفتقر إلى نية لظهور المنافاة بين التقرب وأخذ أيضًا من أحد القولين أن الفقراء شركاء لأن وصول الشريك إلى حقه مما في يد شريكه لا يشترط فيه لا نية القابض، ولا نية الدافع ورد ابن القصار الأول بأنه يعلم فتحصل النية.

وقال ابن العربي في الزكاة المأخوذة كرها إنها تجزئ ولا يحصل الثواب.

قلت: وأفتي شيخنا أبو محمد عبد الله الشبيبي رحمه الله تعالى في الفقير إذا قدر أن يأخذ من مال من يعلم أنه لا يزكي قطعا قدر ما عليه من الزكاة أنه لا يجزئ إذا لا شعور لصاحبه بخلاف المكره.

(ومن ترك الحج فالله حسيبه):

قال الفاكهاني: قال أهل اللغة: معني حسيبك الله أي انتقم الله منك قال: ويريد الشيخ أنه لا يقتل لاختلاف الناس في وجوب الحج هل هو على الفور أو على التراخي والمشهور من مذهب مالك أنه على التراخي بخلاف تارك الصلاة فإن أوقاتها معروفة.

(2/320)

________________________________________

قلت: لا يرد على الشيخ أنه يلزم على قوله إن ظهر تعينه عليه بكبر سنه وكثرة ماله وأمن الطريق ووجود الماء في كل منهل أن يكون تاركه حينئذ الصلاة؛ لأن تعيينه لا يعلم إلا من جهته إذ كثير من الناس يعتقد أنه غني، وهو فقير في باطن الأمر، ويعتقد أنه قوي في بنيته، وأنه قوي على المشي على رجليه، وهو لا يستطيع ذلك.

(ومن ترك الصلاة جحدا لها فهو كالمرتد يستتاب ثلاثًا فإن لم يتب قتل):

يريد وكذلك إذا شك فيها، وما ذكر أنه مرتد هو كذلك بإجماع قاله ابن بشير في تنبيهه وعياض في إكماله في كتاب الأيمان، وقول ابن الحاجب أما جاحدها فكافر باتفاق فيه مسامحة؛ لأنه إذا قال ذلك إنما يريد به اتفاق أهل المذهب ويكون منه تنبيها على أن الخلاف خارج المذهب بخلاف الإجماع هذا هو المستقرأ من كلامه، ولا أعرف هنا نص خلاف.

وقال الفاكهاني: إنما حسن التشيبه في قول الشيخ كالمرتد؛ لأنه لم يخرج عن الإسلام بالكلية كما خرج المرتد عنه من حيث إنه لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه ورثته، ولا غيرهم.

وقال الحنفي: لا يقتل واستدل بالحديث السابق، ولا دليل له في ذلك لأنا إذا قلنا: إنه مرتد صدق عليه أنه كافر بعد إيمانه فهو راجع لإحدى الخصال الثلاثة.

قلت: إنما أراد الشيخ بقوله كالمرتد أن حكم من تكلم بالكفر فهو كافر حقيقة فإذا عرفت هذا فاعلم أن قول الفاكهاني معترض من وجهين:

أحدهما: أن في كلامه التناقض؛ لأنه حكم أولا بأنه ليس بكافر، وفي رده على أبي حنيفة حكم بكفره.

الثاني: أن خلاف أبي حنيفة إنما هو فيما سبق، وهو إذا أقر بوجوبها وقال: لا أصلي والله أعلم.

(ومن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ولا تقبل توبته):

قال التادلي: يريد وكذلك كل مرسل أو نبي أو ملك ومن اختلف في نبوته كأم موسى وأم عيسى وأم إسحاق والخضر ولقمان وذي القرنين والحواريين وإخوة يوسف عليهم الصلاة والسلام، واختلف فيمن سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أو أحدا من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

ومن اختلف في كونه ملكًا كهاروت وماروت نكل نكالا شديدا ولا يقتل وفي كتاب الافتداء لابن أبي زيد سئل عن الرجل يقول قال الفاروق كذا، وقال على كذا

(2/321)

________________________________________

فيعارضه الرجل فيقول له: قال الشافعي كذا قال الحنفي فقال: أرى أن يستتاب قال عياض، وأجمع المسلمون خاصتهم وعامتهم من لدن عهد الصحابة إلى هلم جرًا في مشارق الأرض ومغاربها أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصًا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرضه أو شبهه بشيء على طريق الذم أو الازدراء به أو التصغير لشأنه أو النقص منه أو العيب له أو دعا عليه أو تمني مضرته أو نسب إليه ما لا يليق بنسبه العلي أو عنت في جانبه العزيز بهجو من القبيح أو سخف من الكلام أو منكر من القول أو غيره من بلاء ومنحه جرت عليه أو برئ منه أو كذبه أو استجهله أنه ساب له صرح بذلك أو لوح.

ويقتل كفر إن استحل شيئًا من ذلك ولم يرجع عنه فإن لم يستحله ورجع عنه قتل حدا ولا تقبل توبته على المشهور فيهما ويتخرج عليهما غسله والصلاة عليه ودفنه وميراثه والفرق بين استتابة من سب الله تعالى وعدم استتابة من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله برئ من النقص لذاته لا يلحقه النقص ولا استكمال بغيره سبحانه وتعالى بخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه من جنس من يلحقه النقص فلا يزول إلا بقتل مستنقصه.

وقيل: إنما ثبت له ذلك الكمال بإخباره تعالى الذي لا يتبدل ولا يتحول.

قلت: وما ثبت بالعرض لا يقاوم ما ثبت بالذات وإن كان لا يلحقه نقص.

(ومن سبه من أهل الذمة بغير ما به كفر أو سب الله عز وجل بغير ما به كفر قتل إلا أن يسلم):

ما ذكره من أن من سبه من أهل الذمة بغير ما به كفر فإنه يقتل هو المشهور، وحكى ابن الجلاب وعبد الوهاب، قولاً بالقتل مطلقًا كان بما به كفروا أو غيره وما ذكر من سقوط القتل عنه بالإسلام هو أحد قولي مالك.

(وميراث المرتد لجماعة المسلمين):

ما ذكره لا أعلم فيه خلافًا، واختلف في ميراث الزنديق فقيل كذلك قاله أشهب وابن نافع وقيل لورثته قاله ابن القاسم.

(والمحارب لا عفو فيه إذا ظفر به):

قال ابن الحاجب: الحرية كل فعل يقصد به أخذ المال على وجه تتعذر معه الاستغاثة عادة من رجل أو امرأة حرًا وعبدًا ومسلم أو ذمي أو مستأمن واعترضه ابن عبد السلام بأنه غير مانع لدخول ما ليس بحرابة، وهو غصب السلطان وشبهه فإنه فعل يقصد به على وجه تتعذر به على وجه تتعذر معه الاستغاثة عادة ثم سأل نفسه،

(2/322)

________________________________________

فقال: إن قلت: المتعذر في الحرابة عادة إنما هو الإغاثة وليس الاستغاثة فإن المسلوب يستغيث وجد مغيثا أم لا فلا تتعذر الاستغاثة أصلاً.

وأجاب بأن استغاثة المعدوم ومن لا تنفع إغاثته كلا شيء وإنما المعتبر الاستغاثة التي ترجى معها الإغاثة وهذا النوع من الاستغاثة هو المعتبر في الكلية، وقال بعض شيوخنا: الحرابة الخروج لإخافة السبيل بأخذ مال محرم بمكابرة قتال أو خوفه أو إذهاب عقل أو قتل خفية أو لمجرد قطع الطريق لا لإمرة أو نائرة، ولا عداوة فيدخل في قوله، والخناقون والذين يسقون الناس السيكران ليأخذوا أموالهم محاربون.

(فإن قتل أحدا فلابد من قتله):

ما ذكره هو المشهور في المذهب وقال أبو مصعب الإمام فيه بالخيار وظاهر كلام الشيخ ولو عفا عنه أولياء المقتول وهو كذلك وظاهر كلام أهل المذهب ولو رأي الإمام من حسن المصلحة إطلاقه لكثرة إذاية الذين وراءه كأعراب إفريقية لفعل والله أعلم.

وأفتي شيخنا أو مهدي عبد الله الشبيبي رحمه الله تعالى بالعفو عن نحو أربعين محاربًا أخذوا في حالة واحدة بالقيروان والحالة هذه وبه أقول ومال إليه شيخنا أبو مهدي رحمه الله، وظاهر كلامه: وإن كان المقتول غير كفؤ وهو كذلك وصرح به بعد وقد قتل عثمان رضي الله عنه مسلمًا قتل ذميا حرابة.

(فإن لم يقتل فيسع الإمام فيه اجتهاده بقدر جرمه وكثرة مقامه في فساده فأما قتله أو صلبه ثم قتله أو يقطعه من خلاف أو ينفيه إلى بلد يسجن بها حتى يموت):

ما ذكر الشيخ هو قول مالك وغيره وفهموا قوله تعالى: " إنما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله) [المائدة: 33]

الآية على التخيير الاجتهادي فكل ما رآه الإمام سدادا تعين ولا يجوز الانتقال لغيره.

قال ابن عبد السلام: فعلى هذا يكون لا فرق بين قولنا أو للتخيير هنا، ولا بين قول غيرنا إنها للتفصيل.

قلت: فيما نسبه للمذهب دون ذكر غيره قصور وكذلك في فهمه نظر لقول اللخمي في كونه على الترتيب أو التخيير روايتان للأكثر، وابن وهب فعلى الترتيب إن لم يخف ولم يأخذ مالا، ولا قتل أخذ فيه بأسر الحكم ابن القاسم، وهو أن يجلد وينفي ويسجن في الموضع الذي نفي إليه، وإن أخاف أو أخذ مالا أو جمعهما خير في قتله وقطعه، وكذلك إن طال أمره ونصب، ولم يأخذ مالا، وإن طال زمنه وعلا أمره،

(2/323)

________________________________________

وأخذ المال ولم يقتل قتل ولا بخير فيه.

وعلى رواية ابن وهب قال مالك: إن نفر الناس من كل مكان وعظم فساده، وأخذ أموال الناس فالسلطان يرى فيه رأيه في أحد الأربعة ويستشير في ذلك، وحيث يقتل قال اللخمي يقتل على الوجه المعتاد المعروف بالسيف والرمح ولا يقتل على صفه يعذب بها ولا بحجارة ولا بغير ذلك، وإن رأى صلبه فليصلبه قائمًا لا منكسًا وينبغي أن تطلق يداه؛ لأن له في ذلك بعض الراحة إلى أن يموت وإن لم تطلق فلا بأس.

قال: وظاهر القرآن أن الصلب حد قائم بنفسه كالنفي والمذهب إضافته للقتل ولمالك في بعض المواضع قال: يقتل أو يصلب أو يقطع أو ينفى كظاهر القرآن.

واختلف هل يقدم الصلب على القتل أو العكس على قولين لابن القاسم، وأشهب وعلى الأول فاختلف قول سحنون إذا مات هل ينزل من ساعته، ويدفع إلى أهله للصلاة عليه والدفن ونحوه لأصبغ وإذا صلوا عليه رده الإمام للخشبة اليوم والثلاثة ليردع به أهل الفساد على قولين.

قال ابن الماجشون: لا يمكن أهله من الصلاة عليه، ويبقي على الخشبة حتى يفني وتأكله الكلاب.

وقول الشيخ أو ينفيه إلى بلد يسجن بها حتى يموت يريد أو تظهر توبته الحقيقية ويريد إذا كان حرا، وأما العبد فإنه لا ينفى ويسجن ببلده.

(فإن لم يقدر عليه حتى جاء تائبًا وضع عنه كل حق هو لله من ذلك، وأخذ بحقوق الناس في مال أو دم):

ظاهر كلام الشيخ إذا جاء إلى السلطان طائعا بغير سلاح، وقال: جئتك تائبا؛ أنه ينفعه ذلك، وإن لم تثبت توبته، وهو كذلك عند ابن القاسم، قال: وكذلك إذا ترك ما كان عليه وإن لم يأت خلافًا لابن الماجشون في قوله توبته إنما هي أن يترك ما هو عليه، ويجلس في موضعه حتى لو علم الإمام حاله لم يقم عليه حد الحرابة.

وقيل: إنما تكون بالمجيء إلى الإمام وإن ترك ما هو عليه لم يسقط ذلك حكما من الأحكام إن أخذ قبل أن يأتي الإمام.

قال ابن رشد في مقدماته فهي ثلاثة أقوال واختلف إذا فر المحارب في القتال فقال ابن القاسم: إن كان قتل أحدا فليتبع وإلا فلا أحب أن يتبع ولا يقتل.

وقال سحنون: ويتبعون ويقتلون مقبلين ومدبرين ومنهزمين وليس هروبهم توبة

(2/324)

________________________________________

وفي الإجهاز على جريحهم قولان لهما، ولا يجوز أن يؤمن المحارب إن سأل الأمان بخلاف المشترك؛ لأن المشرك يقر إذا أمن على حاله ويبده أموال المسلمين ولا يجوز تأمين المحارب على ذلك.

واختلف إذا امتنع بنفسه حتى أعطي الأمان فقيل: يتم له ذلك، وقيل: لا قاله أصبغ.

(وكل واحد من اللصوص ضمان لجميع ما سلبوه من الأموال):

ما ذكر هو المعروف، وقال ابن عبد الحكم، لا يضمن إلا ما أخذ خاصة نقله الباجي، وأفتى بعض المتأخرين بالأول إن كان رئيس القوم بحيث يقدر على ردهم، وبالثاني: إن لم يكن ذلك وعلى الأول فإن غرم يرجع على أصحابه كالحملاء.

وأما المجتمعون على السرقة فكل واحد مخاطب بما أخذه خاصة على ظاهر كلام بعض الشيوخ.

وقال ابن رشد: إذا تعاونوا فهم كالمحاربين، وقال اللخمي: إن اعترف بعض المحاربين لما في أيديهم لأهل رفقة اختصوا به وأخذ كل واحد منهم ما لم ينازع فيه فإن تنازع اثنان في شيء قسم بينهما على حكم التداعي فيه فإن فضل عنهم شيء أوقفه الإمام فإن تنازعه اثنان أحدهما من أهل الرفقة اختص به بعد حلفه، وإن ادعاه رجل من غيرهم فإنه يدفع إليه بعد الاستيناء به واليمين وضمنه إياه قاله مالك يريد بعد أن يصفه كاللقطة.

واختلف هل يأخذه بحميل قاله سحنون أو بغيره قاله مالك في ذلك قولان وإن ادعاه أجنبيان حلفا وقسم بينهما فإن نكل أحدهما كان للآخر، وإن نكلا قال محمد لم يكن لهما فيه شيء.

(وتقتل الجماعة بالواحد في الحرابة والغيلة وإن ولي القتل واحد منهم):

قال الباجي ومحمد بن المواز عن مالك وابن القاسم وأشهب: إن ولي أحد المحاربين قتل رجل ممن قطعوا عليه، ولم يعاونوه أي أصحابه قتلوا أجمعين، ولا عفو فيهم للإمام ولا للولي.

قال ابن القاسم: ولو تابوا كلهم قبل القدرة عليهم فللولي قتلهم جميعا، وقتل من شاء منهم والعفو عمن شاء.

قال أشهب: لا يقتل منهم إلا من ولي القتل، أو أعان عليه أو أمسكه لمن يعلم أنه يريد قتله، ولا يقتل الآخرون ويجلد كل واحد منهم، ويسجن عامًا.

(ويقتل المسلم يقتل الذمي قتل غيلة أو حرابة):

يريد ما لم يتب المحارب فإن تاب كان للذمي عليه دية إذ لا يقتل مسلم بكافر

(2/325)

________________________________________

والحالة هذه، ولو جرح ذمي فأسلم قبل أن يموت فقال ابن القاسم ديته دية الحر المسلم. وقال أشهب: دية المجوسي.

(ومن زني من حصر محصن رجم حتى يموت):

قال ابن الحاجب: الزنى أن يطأ فرج آدمي لا ملك له فيه باتفاق متعمدًا فيتناول اللواط، واعترض بأنه غير جامع إذ لا يحتوي إلا على فعل الزاني دون الزانية ورد بأن قوله أن يطأ: مصدر لا يمكن وقوعه إلا من اثنين فذكر أحدهما يستلزم الآخر، واختير ذكر الفاعل؛ لأنه يجري مجرى العلة في الاستغناء بها عن المعمول واعترض أيضًا بأنه غير مانع بل لا يدخل تحته شيء من أفراد المحدود؛ لأن قوله آدمي حقيقة في الذكر دون الأنثى وإتيان الذكر لا يسمى زنا عرفا بل يسمي لواطًا.

وأجيب بأنه إنما أراد بالآدمي الجنس الذي يشمل الذكر والأنثى وحده بعض شيوخنا فقال: الزنى الشامل للواط مغيب حشفة آدمي في فرج آخر دون شبهة حلية عمدًا فتخرج المحللة ووطء الأب أمة ابنه لا زوجته.

وظاهر كلام الشيخ: ولو كانت الموطوءة ميتة أن الواطئ يحد بذلك؛ لأنه يطلق عليه أنه زني، وهو كذلك على المشهور وهو نص المدونة في كتاب الرضاع.

وقيل: يؤدب، ولا يحد قاله ابن شعبان.

واختلف إذا وطئ أمة من المغنم وهو من أهل الجيش والمشهور ثبوته ونفاه ابن الماجشون وعزاهما في المدونة في العتق الثاني لابن القاسم، وغيره.

وقال ابن عبد البر: اختلف قول مالك وأصحابه في حده، واختلف الروايات فيه عن على بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك القولان في الحرية والقول بنفي الحد عزاه ابن رشد في المقدمات لأشهب وعزاه اللخمي لابن الماجشون، وفي قذف المدونة من تزوج امرأة في عدتها أو على عمتها أو خالتها عمدًا لم يحد، وعوقب.

وقال اللخمي: قال مالك في متزوج الخامسة والمبتوتة عالما بتحريم ذلك يحد، وقال في متزوج المعتدة كذلك لا يحد ولا فرق في ذلك، وقيل في المعتدة إنه يحد.

وقال التونسي: إن كان التحريم من القرآن بسبب ولم يحرم عينها، وتحل يوما ما كالخامسة ففي الحد قولان.

(والإحصان أن يتزوج امرأة نكاحا صحيحا ويطأها وطأ صحيحا):

احترز رحمه الله تعالى بقوله: أن يتزوج امرأة من ملك اليمين وصحيحا احتراز من الفاسد واشتراطه الوطء الصحيح ليخرج به الوطء الغير المباح كوطء الحائض.

(2/326)

________________________________________

والصائمة، ويشترط البلوغ والعقل والإسلام والحرية.

قال الفاكهاني رحمه الله: أنشدنا لنفسه القاضي زين الدين بن رشيق رحمه الله تعالى، ونفعنا بعلمه وعمله:

شروط الإحصان ست أتت = فخذها على النص مستفهما

بلوغ وعقل وحرية = ورابعها كونه مسلمًا

وتزويج صحيح ووطء مباح = متى اختل شرط فلن يرجما

واختلف إذا زنى الكافر هل يحد أم لا؟ والمشهور أنه لا يحد.

وقال المغيرة: يحد حد البكر بكرا أو ثيبًا نقله اللخمي.

قلت: وكان المغيرة رحمه الله تعالى ناقض أصله؛ لأنه يقول: إنهم مخاطبون بفروع الشريعة إذ هو القائل بأن طلاقهم لازم بناء منه على أن أنكحتهم صحيحة فكان حقه أن يجعله كالمسلم سواء كما جنح إليه ابن عبد البر، وكما يقطع في السرقة وهو قول الطحاوي وأحد قولي الشافعي.

وأجابني شيخنا أبو مهدي أيده الله تعالى باحتمال موافقته على أن من شرط الإحصان الإسلام ومثله لبعض شيوخنا.

(فإن لم يحصن جلد مائة جلدة وغربه الإمام إلى بلد آخر وحبس فيه عامًا):

ما ذكر من الجلد متفق عليه عند أهل العلم؛ لأنه بنص القرآن، وما ذكره من التغريب قال به الجمهور وصح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة: لا يغرب ورأى أنه زيادة على ما ذكر في الآية والزيادة عنده على النص نسخ والكتاب لا ينسخ بخير الآحاد.

(وعلى العبد في الزنى خمسون جلدة وكذلك الأمة وإن كانا متزوجين):

يريد، وإن كان بعضه حرا، وكذلك المكاتب والمدبر والمعتق إلى أجل وأم الولد.

(ولا تغريب عليهما ولا على امرأة):

ما ذكر الشيخ مثله في المدونة، واحتج أهل المذهب على أنهما لا يغربان بقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: " إذا زنت ولم تحصن فقال إذا زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو

(2/327)

________________________________________

بضفير" ولم يتعرض إلى التغريب، والحديث صحيح خرج مخرج بيان الحكم.

وقال الشافعي، وغيره: تنفى المرأة كالرجل، وقال به الشيخ أبو الحسن اللخمي رحمه الله إذا وجدت المرأة من يسافر معها من ذوي محارمها، أو رفقة مأمونة فيها رجال ونساء كالخروج إلى الحج فإن عدم ذلك سجنت بموضعها عامًا؛ لأنه إذا تعذر التغريب لم يسقط السجن.

(ولا يحد الزاني إلا باعتراف أو حمل يظهر أو بشهادة أربعة رجال أحرار بالغين عدول يرونه كالمرود في المكحلة، ويشهدون في وقت واحد وإن لم يتم أحدهم الصفة حد الثلاثة الذين أتموها):

ظاهر كلام الشيخ: وإن كان إنما أقر مرة واحدة وهو كذلك عندنا خلافًا لأبي حنيفة، فقال هو وغيره: لابد من تكرار إقراره أربع مرات زاد أبو حنيفة: في مجالس مفترقة، وما ذكر من اعتبار الحمل وهو كذلك في غير الطارئة وأما الطارئة فلا حد عليها إذا قالت: هو من زوجي طلقني أو غاب عنى. قاله اللخمي، وألغاه الشافعي وغيره فقبلوا قولها إذا قالت: إنها استكرهت، وقال به اللخمي على تفصيل سيأتي عن قرب إن شاء الله تعالى.

وما ذكر من اعتبار الشهادة هو كذلك باتفاق وما عدا قوله: ويشهدون في وقت واحد فإن ابن الماجشون أجاز التفريق في الشهادة في الزنى نقله عنه أبو عمران الصنهاجي في نظائره.

(ولا حد على من لم يحتلم):

لا شك أنه يحد كما قال؛ لأنه غير مكلف، ولا شك أنه يؤدب كما يؤدب في المكتب، ويمكن أن يختلف في أدبه كما اختلف في الصغير إذا غصب مالا هل يؤدب أم لا؟ على قولين حكاهما ابن رشد في مقدماته وغيره لا يقال لا يلزم من عدم أدبه في غصب المال أن لا يؤدب هنا؛ لأنه ما غصبه وأتلفه يؤخذ من ماله إن كان أو مهما ظهر له إن لم يكن وذلك كان في أدبه لاسيما إن كان أتلفه في فساد، ولا كذلك هنا، لأن القائل بعدم الأدب علله بكونه غير مخاطب والله أعلم.

(ويجد واطئ أمة والده):

إنما كان يحد الولد لعدم الشبهة له في مال الوالد وذكر ابن خويزمنداد عن ابن

(2/328)

________________________________________

وهب وأشهب أنه لا يحد قال اللخمي: لأنه نفقته ترجع عليه عند بعض أهل العلم متى احتاج فيدرأ عنه الحد للخلاف.

(ولا يحد واطئ أمة ولده وتقوم عليه، وإن لم تحمل):

يريد لقوة الشبهة في مال ابنه، وكذلك الجد لا حد عليه خلافًا لأشهب، وظاهر كلام الشيخ أنها تقوم عليه، وإن لم تحمل، وهو كذلك عند أكثر أهل المذهب، وقال ابن عبد الحكم: الابن مخير في أخذها ومثله لابن الماجشون.

وظاهر كلام الشيخ تحتم القيمة وإن كان معدما، وهو كذلك نص عليه في المدونة، وقيل: للابن أخذها ما لم تحمل.

واختلف إذا حلل الأمة سيدها لرجل فوطئها فالمشهور أنه شبهة.

وقال الأبهري: إن كان عالما حد، ولا يلحق به الولد؛ لأنه زان بوطئه من ليس بزوجه له ولا ملك يمين ولا هو جاهل بالوطء.

قال ابن عبد السلام: وهو إجراء على أصل المذهب وذهب إليه جماعة خارج المذهب، وأما المستأجرة للوطء وغيره فالحد ثابت اتفاقًا.

(ويؤدب الشريك في الأمة يطؤها ويضمن قيمتها إن كان لها مالك فإن لم تحمل فالشريك بالخيار بين أن يتماسك أو تقوم عليه):

ما ذكر من أدب الواطئ هو كذلك إن لم يعذر بجهل قاله في قذف المدونة، وما ذكره من ضمانه القيمة هو كذلك باتفاق، واختلف متى يكون هل يوم الحمل أو يوم الوطء، أو يوم الحكم على ثلاثة أقوال وكلها لمالك وكل هذا مع اليسر.

وأما إن أعسر الواطئ فإنها تباع عليه، وهي إحدى المسائل التي تباع فيها أم الولد.

وثانيها: إذا وطئ العامل أمة القراض فحملت وكان معسرا.

وثالثها: أمة المفلس إذا وقفت للبيع ووطئها وحملت.

ورابعها: الابن يطأ أمة من تركة أبيه وعلى الأب دين يستغرق التركة، والابن عديم وهو عالم بالدين حالة الوطء.

وخامسها: إذا وطئ الراهن أمته المرهونة، وحملت وكان معسرا فإنها تباع بعد الوضع وحلول الأجل.

وسادسها: الأمة الجانية إذا وطئها السيد بعد علمه بالجناية وهو عديم فإنه تسلم للمجني عليه، وكل هذه النظائر ذكرها خليل رحمه الله تعالى في الرهون.

وما ذكر الشيخ من أن الشريك بالخيار إذا لم تحمل هو كذلك قاله في المدونة.

(2/329)

________________________________________

وقال في كتاب محمد: يجبر على أن تقوم على شريكه كالأب، وأخذ من كتاب الشركة من المدونة، وقيل: إذا لم تحمل لم تقوم عليه، وكانت على حالها في الشركة، ويلزم نصف ما نقصها الوطء.

قال ابن عبد السلام: وهو الظاهر عندي لأنه نقص يسير في الغالب المرأة تقول هذا الحمل من فلان، وذلك هو الأصل في التعدي، وهو الذي مال إليه اللخمي هنا.

(وإن قالت امرأة بها حمل استكرهت لم تصدق وحدت إلا أن تعرف بينة أنها احتملت حتى غاب عليها أو جائت مستغيثة عند النازل أو جاءت تدمي):

ما ذكر الشيخ هو المشهور، وقيل: يقبل قولها مطلقًا حكاه ابن الحاجب.

وقال اللخمي: إن لم تكون طارئة وادعت أنه من غصب، وتقدم لها ذكر ذلك أو أتت متعلقة برجل أو كان سماع وأشتكت ولم تأت متعلقة به لم تحد إن ادعته على من يشبه، وإن ادعته على رجل صالح حدت هذا إن تقدمت الشكوى قبل ظهور الحمل، وإن لم تذكره إلا بعد ظهوره حدث إلا أن يكون معروفة بالخير وقالت: كتمت ذلك رجاء أن لا أجمل أو أن يسقط فتعذر ومثله لو لم تسم من أكرهها، وهي معروفة بالخير هذا الذي أخذ به ومثله عمر رضي الله عنه في امرأة ظهر بها حمل، وقالت: كنت نائمة فما استيقظت إلا وفد ركبني رجل فأمر أن ترفع إلى الموسم هي وأناس من قومها فسألهم عنها فأثنوا عليها خيرا فلم يحدها وكساها وأوصى بها أهلها.

(والنصراني إن غصب المسلمة في الزنا قتل):

واختلف بماذا يثبت ذلك عليه هل بأربعة شهداء أو بشاهدين على قولين لابن القاسم وظاهر كلام الشيخ، ولو كانت المغصوبة أمة وهو كذلك في أحد القولين قال هو رحمه الله عن ابن المواز إنه لا يقتل كما لو قتلها، وفيه اختلاف.

وهذا أحب إلى لما جاء أنه لا يقتل حر بعبد.

قال ابن عبد السلام: وأجيب بأن الذي جاء إنما هو في قتل القصاص، وهو خارج عما نحن فيه.

قلت: فإذا عرفت هذا فاعلم أن قول الفاكهاني ظاهر كلام الشيخ يقتضي الحرة والأمة، وليس ذلك مراده لقول ابن الجلاب في الأمة عليه العقوبة الشديدة وما نقصها قصور.

وظاهر كلام الشيخ لو طاوعته أنه لا يقتل، وهو كذلك قاله ابن وهب في سماع عبد الملك بزيادة يضرب ضربًا يموت منه خلافًا منه خلافًا لربيعة وكلاهما حكاه ابن رشد.

(2/330)

________________________________________

(وإن رجع المقر بالزنا أقيل وترك):

ظاهره رجع إليى شبهة مثل أن يقول أصبت امرأتي حائضًا فظننته زنى أو لا، وهو قول ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم، وروي عن مالك، وقيل: لا يقبل إذا رجع لغير شبهة قاله أشهب، وعبد الملك، وروي عن مالك أيضًا وكلاهما حكاه الباجي وزعم ابن المواز أن أصحاب مالك لم يختلفوا في رجوعه للشبهة وقبله غير واحد كالباجي.

قلت: وفيه نظر لقول ابن زرقون حكي الخطابي في شرح السنن عن مالك عدم قبوله، وهو غريب فظاهره ولو رجع إلى شبهة.

(ويقيم الرجل على عبده وأمته حد الزنا إذا ظهر حمل أو قامت بينة غيره أربعة شهداء أو كان إقرار):

ما ذكره هو مذهبنا واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " وإذا زنت أمة أحدكم فليجلدها .. " الحديث فظاهره مخاطبة السادات ورؤية السيد لا أثر لها بالنسبة إلى إقامة الحد عليها.

قال ابن عبد السلام: وهو مقتضى القواعد؛ لأنه كالقاضي، وهو لا يحكم بعلمه ولا سيما في الحدود وقيل: إنه معتبر وهو ظاهر الأحاديث.

قلت: وكلاهما نقله ابن الحاجب عن مالك، وأطلق القول في ذلك وقبله الباجي وعزا اللخمي الثاني لرواية المبسوط، وقال: وقد قال عبد الملك إن رأى أمته تزني لم يجلدها إذ ليس للسلطان أن يجلدها برؤيته فإن كان حمل أو ولد فله أن يحد به.

قلت: وهو ظاهر كلام الشيخ فالأقوال على هذا ثلاثة.

(ولكن إن كان للأمة زوج حر أو عبد لغيره فلا يقيم الحد عليها إلا السلطان):

يريد إذا كان الزوج مملوكا لغيره، وأما إن كان عبده فله إقامته عليها، وهذا التفصيل ذكره اللخمي وغيره عن مختصر ابن عبد الحكم.

قال أبو إسحاق التونسي: وكذلك العبد إن كانت له زوجة حرة أو أمة لغير سيده فلا يقيم الحد عليه إلا السلطان.

قلت: وهذا هو الصواب وبه أقول، ولم يحفظه ابن عبد السلام بل جعل المذهب أنه يقيمه عليه قائلاً: لا يلحق المرأة عار إذا حد زوجها، وهو بعيد؛ لأن العيان يشهد بخلافه.

(2/331)

________________________________________

(ومن عمل عمل قوم لوط بذكر بالغ أطاعه رجما أحصنا أو لم يحصنا):

ظاهر كلام الشيخ ولو كان اللائطان عبدين أو كافرين، وهو كذلك، وقال أشهب: يجلد العبدان خمسين خمسين ويؤدب الكافران وضعفه ابن عبد السلام بأنه لو كان من باب الزنا لاعتبر الإحصان ولم يؤدب الكافران إلا بشرط أن يظهراه.

وقال بعض شيوخنا: فيه ميل لاعتبار الإحصان، وذهب أبو حنيفة وغيره إلى أن من فعل هذا الفعل سواء كان حرًا أو عبدًا مسلمًا أو كافرًا أنه يعزر خاصة.

وقال ابن عبد البر عن ابن عباس حده أن يرمى من أعلى شاهق في القرية ثم يتبع بالحجارة.

وقال الباجي عن ابن حبيب: كتب أبو بكر أن يحرق بالنار ففعل وفعله ابن الزبير وهشام بن عبد الملك في زمانه والقشيري بالعراق ومن أخذ بهذا لم يخطأ وألحق ابن القصار بهذا إتيان الأجنبية في دبرها حكاه الباجي.

وقيل: إنه يلحق بالزنا قاله ابن الماجشون ومثله في الموازية حكاه الشيخ أبو محمد.

قلت: وهو نص كتاب القذف من المدونة قال بعض شيوخنا: وربما أجري القولان على إباحة ذلك في الزوجة لزوجها وحرمة ذلك والمساحقة لا حد فيها بل فيها الأدب ومقداره راجع إلى اجتهاد الحاكم قاله ابن القاسم.

وقال أصبغ: مقداره خمسون كذلك نقله الباجي وغيره، ونقل أبو محمد عنه بزيادة ونحوها وضعفه لعدم الدليل على تعين هذا العدد.

(وعلي القاذف الحر الحد ثمانون وعلى العبد أربعون في القذف وخمسون في الزنا والكافر يحد في القذف ثمانين):

القذف في اللغة الرمي قال الله تعالى: (ويقذفون من كل جانب* دحورًا) [الصافات:8، 9]

في الاصطلاح. قال ابن الحاجب: وهو ما يدل على الزنا واللواط والنفي عن الأب أو الجد لغير المجهول، وإنما قال لغير المجهول؛ لأن المجهولين لا تعلم صحة أنسابهم إلى آبائهم المعينين، ولذلك لا يتوارثون وسلمه ابن عبد السلام وغيره.

واعترضه بعض شيوخنا بأن فيه تكرر الثاني إذ هو يسمي زنى ولذلك أدخله في حد الزنا كما تقدم وإلا خير إذ المجهول لا نسب له يعرف لا يتصور فيه قال: والقذف الأعم نسبة آدمي غيره لزنا أو قطع نسب مسلم والأخص بإيجاب الحد نسبة آدمي مكلف غيره حرًا عفيفا بالغا مسلمًا أو صغيرة تطيق الوطء لزنا أو قطع نسب مسلم فيخرج قذف الرجل نفسه، وهو من الكبائر لوجوب الحد فيه.

(2/332)

________________________________________

وما ذكر الشيخ أن مقدار حده ثمانون هو كذلك بإجماع لقوله تعالى: (والذين يرمون المحصنت ثم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمنين جلدة) [النور: 4]

وما ذكر في العبد هو مذهب الجمهور، وبه قال الخلفاء الأربعة.

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مع آخرين هو كالحر لعموم الآية.

وما ذكر الشيخ ولو كان سكرانا، وهو كذلك في قول وظاهر كلامه، ولو كان القاذف أبا لابنه وهو كذلك قاله ابن القاسم في المدونة بعد أن ذكر أن مالكًا استثقله.

وقال أصبغ: لا يحد وعلى الحد فنقل الشيخ أبو محمد عن ابن القاسم في الموازية أنه لا تقبل شهادة الولد في شيء لقوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) [الإسراء: 23]

وضعف الشيخ عز الدين الحكم له بحده؛ لأنه إنما يفسق لارتكاب كبيرة والقاضي يحكم بالمنع من المعاصي، وذكر ابن عبد السلام الخلاف في حده له بصريح القذف وتعريضه ولابن محرز مثله، ونقل أبو محمد عن ابن الماجشون أنه لا يحد في تعريضه بابنه.

(ولا حد على قاذف عبد أو كافر):

اختلف إذا قال لعبده وأبواه حران مسلمان لست لأبيك فالأكثر على أن السيد يضرب الحد، ونقل اللخمي عن سحنون عن أشهب أنه قال: لا حد على من قطع نسب عبد، وإن كان أبواه حرين؛ لأنه يصح أنها أتت به، وزعمت أنها ولدت فلا يكون قاذفا لواحد منهما.

وفي المدونة في أوائل الرجم يحد قاذف المجنون وفي القذف منهما كل ما لا يقام الحد فيه ليس على من رمي به رجلاً حد الفرية.

قال بعض شيوخنا: وكان يجري لنا مناقضة ما ذكرناه من قولها قال: ويجاب بحمل قولها في الرجم على المجنون الذي يفيق أحيانا.

(ويحد قاذف الصبية بالزني إن كان مثلها يوطأ، ولا يحد قاذف الصبي):

ما ذكر في الصبي هو كذلك، وما ذكره في الصبية هو المشهور، وقال ابن عبد الحكم، وابن الجهم: لا حد عليه.

(2/333)

________________________________________

قال اللخمي: والأول أحسن للحوق المعرة لها بذلك قال الفاكهاني: وذهب بعض الشيوخ وأظنه أبا محمد صالح إلى أنه لو قذف صبي بأنه فعل به لكان الحد على قاذفه للحوق المعرة كالصبية.

(ولا حد على من لم يبلغ في قذف ولا وطء ومن نفى رجلاً من نسبه فعليه الحد):

الإجتماع على أن من شرط الحد التكليف ولذلك حمل بعض شيوخنا قول اللخمي في النكاح الثالث إذا أشرف على البلوغ ولم يحتلم فقال مالك مرة: يحد إذا زنا على ثبوت البلوغ بالإثبات.

(وفي التعريض الحد ومن قال لرجل يا لوطي حد):

يريد مثل أما أنا فلست بزان أو جدي معروف وما ذكر هو قولنا، وقول جمهور العلماء وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الشافعي وأبو حنيفة: يؤدب خاصة وهذا بخلاف النكاح والصرف وبيع الطعام بالطعام فإن التعريض فيه جائز.

ويؤخذ من كلام الشيخ أن التعريض في الجانب العلي كالصريح، وهو أخذ أحروي وهو كذلك وبه الفتوى والحكم قديما وحديثًا.

واختلف المذهب إذا قال زنت رجلاه أو يداه وشبههما على قولين فذهب ابن القاسم في المدونة إلى ثبوته ونفاه أشهب في المثالين نقله ابن يونس عن محمد عنه.

واختلف إذا قال مالك أصل وشبهه على ثلاثة أقسام: فقيل: لا يحد قاله في الموازية والعتبية، وقيل: يحد قاله أصبغ، وقيل: إن كان المقول فيه من العرب حد له وإلا فلا، وهي زاهي ابن شعبان لو قال مولي لعربي أنا خير منك حد له وقاله الزهري، وكذلك لو كانا ابني عم قاله أحدهما لصاحبه، وفي هاتين المسألتين خلاف وبهذا أقول.

(ومن قذف جماعة فحد واحد يلزمه لمن قام به منهم ثم لا شيء عليه):

ظاهر كلامه سواء قذف كل واحد واحدًا أو قذفهم جميعا بكلمة واحدة، وهو قول مالك في المدونة وهو أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرها اللخمي.

وقيل: بتعدد الحد مطلقًا حكاه ابن شعبان، وقيل: إن اجتمعوا وقاموا به فحد واحد وإلا تعدد الحد قاله المغيرة، وابن دينار، وأما لو تكرر القذف لواحد فإنه لا يتكرر الحد على المعروف وحكى ابن الحاجب فيه خلافًا قال: ولو قذف قذفات لواحد أو جماعة فحد واحد على الأصح، وثالثها: إن كان بكلمة واحدة فتعقبوه بأن ظاهره ثبوت الأقوال الثلاثة في الواحد والجماعة، وإنما هي في الجماعة حسبما تقدم.

(2/334)

________________________________________

وذكر الشيخ أبو عمران الصنهاجي أن لهذه المسألة نظائر من ذلك من اشترى شياها مصراة فعليه صاع واحد كشاة واحدة.

وقيل: عليه في كل واحدة صاع، ومن قال: أنا أنحر ولدي وله أولاد فعليه هدي واحد وقيل في كل واحد هدي ومن فرط في قضاء رمضان فلم يقضه حتى دخل عليه رمضان آخر ثان وثالث فعليه كفارة واحدة، ومن كرر الوطء في رمضان فعليه كفارة واحدة.

واختلف إن وطئ ثم كفر ثم وطئ ومن كرر اليمين بالله في شيء واحد فليس عليه إلا كفارة واحدة، ومن كرر الطيب في الحج فليس عليه إلا فدية واحدة وإذا ولغ الكلب في إناء واحد ثم كلاب فسبع يجزئ عن جميعها، ومن حلف بصدقة ماله ثم حنث فليس عليه إلا ثلث ماله، وقيل: ثلث ما بقي، ولو قال لجماعة أحدكم زان فإن قام بعد بعضهم فلا يحد بلا خلاف، وإن قام عليه جميعهم فكذلك واستبعد ابن رشد في رسم العرية من سماع عيسى ومن قذف رجلاً فحد له، ثم قذفه ثانية فإنه يحد قاله في المدونة في كتاب الرجم، وفي الكافي يزجر عن ذلك ولا حد عليه.

قال بعض شيوخنا: وفي اقتصاره على ما ذكره فقط دون ما في المدونة وغيرها نظر ولو ضرب بعض الحد ثم قذفه أو غيره فقال ابن القاسم: يستأنف حينئذ الحد إلا أن يبقي يسيرا فيكمل ثم يستأنف.

وقال أشهب مثله إلا أن يمضي يسير فيتمادى ويجزئ لها معًا.

(ومن كرر شرب الخمر أو الزنى فحد واحد في ذلك كله وكذلك من قذفه جماعة):

مثل هذا إذا تكررت موجبات الوضوء فوضوء واحد يجزئ وأما لو شرب الخمر وقذف فلا يتعدد أيضًا للاتحاد على المنصوص وخرج اللخمي فيه خلافًا من الخلاف الذي تقدم في قذف الجماعة.

وأما إذا زني وقذف يتعدد الحد على المشهور قال ابن حارث وذهب عبد الملك إلى الاستغناء بحد الزنى لكونه أكثر وقول الشيخ، وكذلك من قذف جماعة معترض لكونه سبق ذكره ونبه عليه الفاكهاني رحمه الله تعالى.

(ومن لزمته حدود وقتل فالقتل يجزئ في هذا إلا في القذف فيحد قبل أن يقتل):

إنما استثنى القذف للحوق العار، وقال في المدونة: إن شهد عليه أنه زنى وهو بكر ثم زنى بعد أن أحصن رجم، ولم يجلد، وقال اللخمي: القياس أن يجلد ثم يرجم؛ لأن الضرب غير جنس القتل.

(2/335)

________________________________________

(ومن شرب خمرا أو نبيذا مسكرا حد ثمانين سكر أو لم يسكر ولا سجن عليه):

(2/336)

________________________________________

ظاهر كلامه، وإن كان قليلاً وهو كذلك من غير تفصيل بين المسكرات عندنا وللحنفية تفصيل فيما يحرم من الأشربة ويحل يطول ذكره وظاهر كلامه إن كان بدويا وادعى جهل التحريم، وهو كذلك عند مالك، وأصحابه إلا ابن وهب فإنه قال: لا يحد ويعزر، وفعله عمر والقولان نقلهما محمد بن المواز.

واختلف إذا أكل الحشيشة هل يلزم فيها الحد كالخمر أو يؤدب خاصة لأنها مفسدة وليست بمسكرة أو الفرق بين أن تخمر فالأول وإلا فالثاني؟ على ثلاثة أقوال: وكذلك الثلاثة في بطلان صلاة من صلى بها، وأما جورة الطيب فنص ابن هارون على أنها مسكرة، وأنها طاهرة واعترض بذلك قول ابن الحاجب والجمادات مما ليس من حيوان طاهرة إلا المسكر.

قلت: وما ذكره لا أعرفه وكذلك أنكره شيخنا أبو محمد رحمه الله تعالى حسا ومعنى فإن العيان خلافه لأن التواتر على أنها جامدة فقط، وليست بمسكرة ولذلك يجوز أن تعمل للأدوية إن كانت منفردة بقيد اليسارة والشهادة على شرب الخمر إن كان مما يشربها لكونه كافرًا أو مسلمًا عاصيا ثم تاب عمل عليها اتفاقًا وإلا فقولان.

قال ابن القصار: لا يعول عليها، وقال الباجي يعول عليها وعليه العمل عندنا بإفريقية فإنه شك شهود الرائحة فإن كان من أهل الخير ترك وإلا نكل قاله في سماع ابن القاسم في العتبية والموازية وإن شهد شاهدان بأنها رائحة خمر وآخرون بنفي ذلك فالمعروف ثبوت الحد.

واختار ابن عبد السام عدمه كأحد القولين في اختلاف المقومين في المسروق.

قلت: ولهاتين المسألتين نظائر من ذلك إذا شهد أن فلانا قتل فلان وشهد آخرون انه كان حينئذ في بلدنا بحيث لا يمكن قتله فقال سحنون: يقتل لأن من أثبت حكما أولى مما نفاه وهو مشهور المذهب.

وقال القاضي إسماعيل: يقضي ببينة البراءة ولا يقتل وكذلك وقع الخلاف فيما إذا شهدت بينة بالعدم وأخرى بالملاء على ثلاثة أقوال ثالثها: يقضي بأعدل البينتين فإن تكافأت قضي ببينة الملاء، وكذلك إذا عدلت البينة رجلاً وجرحته أخرى فقيل بينه الجرح أولى.

وقيل: يقضى بالأعدل، وكذلك إذا شهدت بينة أنه نكح في المرض المخوف، وأخرى في الصحة وذكر هذه المسألة ابن حارث، وذكر فيها ثلاثة أقوال ابن خويزمنداد وذكر فيها ثلاثة أقوال: ثالثها: يقضي بالتي هي أرجح وإليك النظر في بقية

(2/337)

________________________________________

النظائر، وظاهر كلام الشيخ أنه لا يسجن، وإن كثر ذلك منه، وهو كذلك وعليه العمل.

وقال ابن حبيب إن المشهور بالفسق لا بأس أن يطاف به ويشهر واستحب مالك أن يلزم السجن.

(ويجرد المحدود):

قال مالك: وتترك له يداه يتقي بهما ولا تشد بالحبال، وقاله على بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال الباجي عن محمد: لا يتولى ضرب الحد قوي ولا ضعيف، ولكن وسط الرجال. قال مالك: وكنت أسمع أنه يختار العدل ويضرب في الظهر والكتفين دون سائر الأعضاء، ولأبي زيد عن ابن القاسم إن ضرب على ظهره بالدرة أجزأة، وما هو بالبين.

قال الشيخ أبو محمد عن ابن عبد الحكم: أحب إلى أن يكون ضرب الحدود بين يدي القاضي لئلا يتعدى فيها.

(ولا تجرد المرأة إلا مما يقيها الضرب، ويجلدان قاعدين):

لأنها عورة واستحسن مالك أن تجعل في قفة.

(ولا تحد حامل حتى تضع ولا مريض مثقل حتى يبرأ):

لأنه يخشى عليهما الموت وليؤخرهما وينظر للجلد اعتدال الهواء مطلقًا على المشهور وقيل: لا يؤخر في الحر قاله في الموازية والحق أنه خلاف في حال كما قاله بعض الشيوخ.

قال اللخمي: إن كان ضعيف الجسم يخاف عليه الموت من الحد سقط وسجن وإن كان الحد قصاصًا رجع إلى الدية، وفي كونها في ماله أو على العاقلة قولان وإن كان حد قذف فمن حق المقذوف تفريق ذلك عليه، وكذلك حد الزنى والشرب.

(ولا يقتل واطئ البهيمة وليعاقب):

لولا قوله وليعاقب لا حتمل قوله أن يقام عليها أنه يحد حد البكر فكأنه قال: ولا يحد واطئ البهيمة وليعاقب، وما ذكر هو المشهور، وقيل: يحد قاله ابن شعبان، وقال الطرطوشي: لا يختلف قول مالك إن البهيمة لا تقتل وإن كانت مما يؤكل أكلت.

(ومن سرق ربع دينار ذهبًا أو قيمته يوم السرقة ثلاثة دراهم من العروض أو وزن ثلاثة دراهم فضة إذا سرق من حرز):

قال بعض شيوخنا: السرقة أخذ مكلف حرًا لا يعقل لصغره أو مالا محترما لغيره

(2/338)

________________________________________

نصابًا أخرجه من حرزه بقصد أخذه خفية لا شبهة له فيه.

وما ذكر الشيخ أنه يشترط أن يكون مقدرا المسروق ربع دينار أو ثلاثة دراهم هو مذهب الجمهور، وقال الحسن وغيره: ويقطع فيما سرق مما تكون له قيمة وإن قل واحتجوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده".

وتأوله الجمهور كما قاله البخاري قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه مما يساوي دراهم واضطرب العلماء في مقدار ما يقطع فيه على عشرة أقوال محلها المطولات.

وظاهر كلام الشيخ أن التقويم لا يكون إلا بالدرهم من غير اعتبار غالب مما يباع به ذلك العرض، وهو كذلك على المشهور، وهو ظاهر المدونة ونص الموازية وقيل: يبنى على الأغلب قاله الأبهري وعبد الوهاب وتؤول على المدونة وقيل: إن التقويم لا يكون إلا بالذهب ولو كان المسروق دراهم حكاه ابن حارث عن ابن عبد الحكم وبه قال الشافعي، ونقل عبد الحق عن بعض شيوخ صقلية أن السرقة إن كانت في بلد إنما يتعامل فيه بالعروض قوم في أقرب البلدان إليه التي يتعامل فيها بالدراهم.

قال ابن رشد: وهو خطأ صراح إذ قد تكون ببلد السرقة كاسدة لا قيمة لها فيه، وفي قيمة بلد الدراهم كثيرة فيؤدي إلى قطع اليد في أقل من نصاب، ويريد الشيخ أنه إذا سرق ما يقطع فيه مرة واحدة، وأما لو كان عن تكرار فلا يقطع مطلقًا.

وقال سحنون: إلا في فور واحد، قال في المدونة: ولو سرق ثوبًا قيمته دون النصاب وفيه دنانير أو دراهم لا يشعر بها قطع بخلاف حجر، أو خشبة فيهما ذلك، وقيدها اللخمي بما إذا كان الثوب مما جرت العادة أنه يحمل فيه الدراهم كالصر وإلا فشبهة تدرأ الحد.

ونص أصبغ على أن من سرق ليلا عصا مفضضة وفضتها ظاهرة، وقال: لم أر الفضة بالليل فإن رئي أنه لم ير ذلك لم يقطع، وأقام ابن رشد من مسألة المدونة مثل ما قال ابن كنانة فيمن حلف أن لا يأخذ من فلان درهما فأخذ منه قميصًا وفيه درهم مصرور وهو لا يعلم ثم لما علم رده إنه إن كان مما تجعل في مثله الدراهم فهو حانث، وإلا فلا. قال أشهب: لا شيء عليه، وقال ابن القاسم: إنه حانث ورد ابن عبد السلام الإقامة المذكورة بأن البابين مختلفان لما قد علمت أن الحدود تدرأ بالشبهات وإن

(2/339)

________________________________________

الحنث يقع بأدنى سبب وتردد المغربي هل هذا مما يفرق به أم لا؟ وعزا بعض شيوخنا ما وقع التفرقة به لنفسه.

(ولا قطع في الخلسة ويقطع في ذلك يد الرجل والمرأة والعبد):

يعني به الخطفة وألحقوا بذلك إذا رئي وهو في الحرز فهرب بما معه فإنه لا يقطع.

واختلف إذا تركه وأحضر من يشهد عليه وهو قادر على منعه على ثلاثة أقوال ففي الموازية: لا يقطع وقاله مالك، وقال ابن القاسم يقطع وكلاهما نقله الشيخ أبو محمد، وقيل: الفرق بين أن يشعر برؤيتهم له فيفر فلا يقطع؛ لأنه مختلس وبين أن لا يشعر بذلك فيقطع لأنه سارق وذكره ابن شاس عن بعض المتأخرين وعزا ابن هارون الأول لمحمد فقط، ولم يعز الثالث إلا لمالك.

قال بعض شيوخنا: ولا أعرفه لغيره.

(ثم إن سرق قطعت رجله من خلاف ثم إن سرق فيده ثم إن سرق فرجله ثم إن سرق جلد وسجن):

ما ذكر الشيخ من صفة الترتيب هو مذهبنا وذهب عطاء إلى أنه لا تقطع منه رجل، وإنما تقطع الأيدي فقط، وما ذكر من أنه إذا سرق في الخامسة أنه يجلد ويسجن هو المشهور، وقال أبو مصعب: يقتل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعثمان وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، ولو كانت اليد اليمني شلاء فقيل: إن الرجل اليسري تقطع.

وقال أبو مصعب: تقطع الشلاء ومثله عن ابن وهب نقله ابن زرقون وعنه تقطع إذا كان ينتفع بها ذكره اللخمي عن مختصر ما ليس في المختصر والقولان الأولان في المدونة قال فيها: إن سرق ولا يمين له أو له يمين شلاء قطعت رجله اليسري.

قال مالك ثم عرضتها عليه فقال: امحها، وقل تقطع يده اليسري وقوله في الرجل اليسري أحب إلى وبه أقول، وتقدم أن هذه من الممحوات الأربع وإليك النظر في بقيتها لو قطع الجلاد أو الإمام اليسرى عمدًا فله القصاص والحد باق وإن كان خطأ فإنه يجزئ خلافًا لابن الماجشون والعقل له.

(ومن أقر بسرقة قطع وإن رجع أقيل وغرم السرقة إن كانت معه وإلا أتبع بها):

يريد إذا كان طائعا وأما إذا كان أقر بها من غير طوع ففي ذلك خمسة أقوال ذكرها اللخمي فقيل إقراره، كالعدم قاله مالك، وقال سحنون: يعول على إقراره.

(2/340)

________________________________________

وقال أشهب: بالأول إن لم يعين، وبالثاني إن عين وعرف أنها للمسروق منه.

ووقع لابن القاسم ما يقتضي أنه لا يؤخذ إلا أن يعين وينضاف إلى ذلك ما يدل على صحته كقوله اجترأت.

وقال مالك في المدونة: إن عين السرقة قطع إلا أن يقول دفعها لي فلان، وإنما أقررت لما أصابني ولو أخرج دنانير لم يقطع؛ لأنها تعرف.

قلت: وجرت عادة أمراء إفريقية بضربه الضرب الوجيع كالخمسمائة سوط والالف فإن اعترف ربما أمروا بقتله لكونه محاربًا لإتيانه بالسلاح وليس بحكم شرعي، وإنما الخلاف السابق في الضرب اليسير أو التهديد بالقول أو بالسجن والله أعلم.

وإن رجع عن إقراره إلى شبهة سقط القطع باتفاق وفي غير شبهة روايتان وتثبت السرقة بالبينة كالإقرار بها طوعا.

وفي المدونة: وينبغي للإمام إذا شهدت عنده بينة على سرقة أن يسألهم عن السرقة ما هي؟ ويكف هي ومن أين أخذها؟ وإلى أين أخرجها؟ كما يسألهم في الزني، وأراد بقوله: ينبغي على الوجوب وظاهره سواء كانوا عالمين بالأحكام الشرعية أم لا، وهو كذلك خلافا لسحنون في قوله: إنما يسأل من كان جاهلا، ومعنى كما يسأل في الزني إشارة إلى الضبط فيما ذكر فقط؛ لأن المعروف أنه لا يشترط معاينة إتيان بينة السرقة للشهادة بها، وفي نظائر أبي عمران الصناجي اشترط ذلك، ولم يحك غيره وتبعه القرافي.

قال بعض شيوخنا: وهو وهم وظاهر كلامه أنهما انفراد بذلك وليس كذلك بل ذكره ابن حارث في كتابة المسمي بأصول الفتوى عن مالك ولم يحك غيره ولفظة قال المغيرة: سمعت مالكًا يجيز شهادة الأفذاذ في كل شيء من النكاح والطلاق والعتاق والقذف وشرف الخمر ما خلا الزنا والسرقة.

(ومن أخذ في الحرز لم يقطع حتى يخرج السرقة من الحرز)

قال ابن الحاجب: الحرز ما لا يعد الواضع فيه في العرف مضيعا للمال ثم قال رحمه الله وظهرو الدواب حرز فحمله ابن هارون على ظاهره دون تقييد.

وقال ابن عبد السلام: كذا قال في المدونة: وظاهر سياق الكلام هنا أن ذلك مشروط بما إذا كان معه ربه ما لم يخرج إلى الخلسة. قال بعض شيوخنا: وفيما قاله نظر؛ لأن لفظها والدور حرز لما فيها غاب أهلها أو حضروا وكذلك ظهور الدواب

وبهذا اللفظ نقلها ابن يونس ولم يقيدها.

(2/341)

________________________________________

واختلف إذا سرق القناديل من المسجد على ثلاثة أقوال: فقيل: القطع فيها ثابت قاله أصبغ وابن الماجشون، وروي عن مالك وقيل بنفي القطع قاله أشهب وقيل: إن كان عليها غلق قطع، وإلا فلا والثلاثة لابن القاسم، وفي الحصر خمسة أقوال الثلاثة المذكورة.

وقال سحنون: إن ربط بعضها ببعض قطع وإلا فلا، وعن ابن القاسم إن سرقها نهارا لم يقطع، وإن سرقها ليلا قطع، وسمع عيسى بن القاسم: من سرق أبواب المسجد قطع وللشيخ أبي محمد عن الموازية قال أشهب: لا قطع في بلاط المسجد، وقال أصبغ: يقطع.

(وكذلك الكفن من القبر):

ظاهر كلامه: ولو كان القبر في الصحراء، وهو كذلك ومثله إذا ألقي الميت في البحر فهو كالقبر وسواء شد في خشبة أم لا؛ لأنه قبره ونص عليه ابن شاس، وما ذكر أنه يقطع سارق الكفن هو مذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة وغيره إنه لا يقطع، وقال ربيعة: إنه محارب.

(ومن سرق من بيت أذن له في دخوله لم يقطع):

مثله الرجل يدخل إلى حانوت التاجر ليشتري منه فيسرق فإنه لا يقطع للإذن له في الدخول، اللخمي إن سرق أحد الزوجين من مال الآخر فإن كان من موضع لم يحجر عليه لم يقطع، وإن كان من موضع محجور بائن عن مسكنهما قطع، وإن كان معهما في بيت واحد فسرق من تابوت مغلق أو من بيت محجور معهما في الدار والدار غير مشتركة.

فقال ابن القاسم: يقطع وفي الموازية لا يقطع وعدم القطع أحسن إن كان القصد بالغلق التحفظ من أجنبي يطرقها وإن كان ليتحفظ كل واحد منهما من الآخر قطع وإن سرق الزوج من شيء شورها به ولم يبن به قطع على القول بأنه وجب جميعه لها وعلى القول الآخر انه مترقب لا يقطع كما لو كانت أمة فأصابها وتقدم الخلاف في حصر المسجد وشبهها ولو أخرها إلى هنا لكان أولى.

(ولا يقطع المختلس):

قال الفاكهاني: انظر لم كرر الاختلاس، وقد تقدم وهو ساقط هنا في بعض النسخ، ولكن هو في روايتنا.

(وإقرار العبد فيما يلزمه في بدنه من حد أو قطع يلزمه وما كان في رقبته فلا إقرار له):

خالف أشهب رحمه الله في إقراره بالقتل فقال: لا يلزم كإقراره بالمال

(2/342)

________________________________________

والمعروف لا قطع عليه إذا سرق من مال سيده مطلقًا، وقيل: يقطع فيما حجر عليه قاله في مختصر الوقار، وبه قال أبو مصعب ويريد الشيخ بالعبد من فيه شائبة رق كالمدبر، وأم الولد، وهذا ما لم يعين السرقة فإن عينها حلف السيد على نفي دعوى المدعى.

وأما المأذون وشبهه فإقراره معمول به ومن ادعى على عبد دعوى فلا يمين عليه، وكذلك السفيه على معروف المذهب وفي أحكام ابن سهل لأبي محمد الأصيلي توجه اليمين عليه بذلك متعقبنا قول الأندلسيين بسقوطها واحتج بتوجه اليمين على من أحاط بالدين بمالة وعلى ذات الزوج بدعوى أكثر من ثلثها.

قلت: ورده بعض شيوخنا: بأن السفيه لا يجوز إقراره ولو لزمته اليمين فإن له يوجب نكولها غرمه لم تكن له فائدة فإن وجبت لزم إعمال إقراره وإقرار من أحاط الدين بماله لازم وكذلك الزوجة فيما ادعى عليه بأكثر من ثلثها بمعارضة إن كانت الدعوى بها وإن كانت بعطية منعت توجيهها عليه فتأمله.

قلت: ولا يتخرج قول الأصيلى في العبد لأن المال للسيد.

(ولا قطع في ثمر معلق ولا في الجمار في النخل، ولا في النغم الراعية حتى تسرق من مراحها وكذلك التمر من الأندر):

قال الفاكهاني يريد إذا كان في الحائط قال: وأما النخلة تكون في الدار فإنه يقطع سارقها قاله ابن المواز.

قلت: وظاهر كلام الشيخ ولو كان على الثمر غلق، وهو كذلك عند ابن الماجشون، وقال ابن المواز: لو دخل سارق دارًا فسرق من ثمرها المعلق في رأس النخلة فإنه يقطع قال اللخمي: فيلزم عليه إذا كان النخل أو الكروم أو غيره من الثمار عليه غلق، وعلم أنه أحيط به من السارق أو كان لا غلق عليه حارس أن يقطع.

واختلف قول مالك إذا سرق من الزرع بعد حصاده وهو في موضعه لم ينقل على موضع الحرز، وفي المدونة من احتمل بعيرا من القطار في مسيرة وبان به فإنه يقطع.

وقال ابن يونس: وروى ابن المواز: وإذا سيقت الإبل والدواب للرعي، وهي تسار غير مقطورة فمن سرق منها قطع ما لم تنته للرعي والمقطورة أبين وكذلك الزوامل، وكذلك إن رجعت من الراعي، وهي تسار غير مقطورة وقد خرجت من حد الرعي ولم تصل إلى مراحها فإنه يقطع سارقها.

قال اللخمي: اختلف إن سرق منها، وهي سائرة إلى المرعى أو راجعة منها ومعها من يسوقها فقيل: يقطع وقيل: لا

(2/343)

________________________________________

(ولا يشفع لمن بلغ الإمام في السرقة والزنا)

ظاهر كلام الشيخ، وإن كان السارق والزاني قد تابا وحسنت حالتهما، وهو كذلك وحديث ماعز مع الغامدية يدل عليه.

(واختلف في ذلك في القذف):

قال الشيخ أبو الحسن اللخمي رحمه الله تعالى: اختلف قول مالك في حد القذف هل هو حق الله أو للمقذوف لجعله مرة للمقذوف وأجاز عفوه وإن بلغ الإمام، ومرة جعله لله فلم يجز العفو ولو قبل الإمام إلا أن يريد سترا على نفسه ولم يختلف أن عفوه جائز إذا أراد سترا، وهذا يسحن فيمن لم يعرف بذلك، وكان ذلك منه فلتة.

وقال ابن رشد في المقدمات: لا خلاف أنه حق للمقذوف وهل هو حق لله تعالى في ذلك ثلاثة أقوال:

أحدهما: أن فيه حقًا لله فلا يجوز فيه العفو بلغ الإمام أم لا. وهو دليل سماع أشهب وعليه يقيمه الإمام إن بلغ إليه صاحبه أو أجنبي.

والثاني: لا حق لله فيه تعالى ولصاحبه العفو مطلقًا وهو أحد قولي مالك في السرقة والرجم من المدونة.

والثالث: حق لصاحبه ما لم يبلغ الإمام فإذا بلغه صار حقًا لله، ولم يجز لصاحبه العفو عنه إلا أن يريد سترا وهو أحد قولي مالك.

قلت: فإذا عرفت هذا فاعلم أنه خلاف قول الشيخ؛ لأن ظاهر كلامه يقتضي أنه لا خلاف في العفو قبل بلوغ الإمام وليس كذلك، ولما ذكر ابن الحاجب أن حد القذف من حقوق الآدميين على الأصح قال: وعليهما تحليفه عليه.

قال ابن عبد السلام: أما عدم توجه هذه الدعوى على أنه حق لله تعالى فصحيح، وأما توجهها على كونه حقًا للآدمي ففيه نظر إلا لو كان حقًا ماليا، وأما إذا كان حقاً بدنيا فلا يلزم، وقد قال أشهب: فيما قدمنا أن القاتل إذا ادعى على ولي القتيل أنه عفا عنه ولم تتوجه هذه الدعوى ولم يحلف لها، واعترضه بعض شيوخنا بأن في كلامه الوهم من وجهين:

أحدهما: أن القاعدة لا يستشكل التخريج المطلق على أصل المذهب إلا لمخالفة المشهور وأما ما موافقته فلا هو ههنا موافق قال في كتاب الديات من المدونة ما نصه: وإن ادعى القاتل أن ولي الدم عفا عنه فله أن يستحلفه فإن نكل ردت اليمين على القاتل ابن يونس يحلف يمينا واحدة لا خمسين يمينا؛ لأن المدعي عليه إنما

(2/344)

________________________________________

كان يحلف يمينا واحدة أنه ما عفي عنه فهي اليمين المردودة.

الثاني: من اطلع على كلامه هذا يعقد أن المذهب أو المعروف منه عدم توجه دعوى العفو عن الدم وهو غلط فتأمله منصفًا.

(ومن سرق من الكم قطع):

ظاهر كلام الشيخ وإن كان المسروق من كمه نائمًا وهو كذلك باتفاق وكذلك الجيب زعم بعض الشيوخ الاتفاق عليه ويمكن أن يتخرج قول من أنه لا يقطع من أحد نقلي ابن شعبان وغيره في المودع إذا وضع الوديعة في جيبه فضاعت أنه ضامن وقد تقدم قول الحاجب في الحرز ما لا يعد الواضع فيه في العرف مضيعا للمال ومن سرق صبيا فإنه يقطع وقيل: بعكسه قاله ابن الماجشون.

وقال أشهب: بالأول إن كان لا يعقل. وبالثاني: إن كان يعقل، وقال اللخمي: أرى أن يقطع إلا أن يكون ببلد يخشي فيه على أطفالهم من السرقة.

وأما من سرق ما على صبي من حلى ففي الموازية: إن كان صغيرا لا يعقل، ولا حافظ له وليس في حرز لم يقطع وإلا قطع عليه.

قال الباجي: فأورد الروايتين على الإطلاق، وقال في المدونة: إن دهن رأسه ولحيته بدهن في الحرز ثم خرج فإن كان في الدهن ما يبلغ ربع دينار قطع وإلا فلا.

قال بعض شيوخنا: يقوم منها ما نص عليه ابن شاس، وابن الحاجب، أو من ابتلع درة وخرج فإنه يقطع ولا أعرفها بنصها إلا للغزالي في الوجيز.

(ومن سرق من الهري أو بيت المال أو المغنم فليقطع وقيل: إن سرق فوق حقه من المغنم فليقطع، وقيل: إن سرق فوق حقه من المغنم بثلاثة دراهم قطع):

لا خلاف أن من سرق من الهري أنه يقطع وهو موضع يختص بالطعام.

قال الفاكهاني: رويناه بتشديد الياء والقول بأنه يقطع في الغنيمة هو لابن القاسم والقول بأنه لا يقطع لابن الماجشون، وصوب لتحقق الشركة وقيل: لابن القاسم في كتاب السرقة من المدونة أليس له فيها حصة؟ قال: قال مالك، وكم تلك الحصة ففهم منه أن القطع إنما هو مع كبر الجيش وقله الغنيمة ولو انعكس الفرض لكانت كمسألة الشريكين، والقولان في العتق الثاني من المدونة لابن القاسم وغيره ولم يذكر في السرقة غير ابن القاسم.

وما ذكر الشيخ أنه يقطع إذا سرق من بيت المال، وهو كذلك باتفاق وعلل ذلك في كتاب العتق من المدونة بأن من له فيها حق باق لأنه لا يورق عنه ولما ذكر ابن

(2/345)

________________________________________

الحاجب أن من سرق من مال شركة لم يحجب عنه فإنه لا يقطع قال بخلاف بيت المال والغنائم المحجورة فإنه كالأجنبي على المشهور.

قال ابن عبد السلام: فظاهره أن الخلاف فيهما وليس كذلك إذ الاتفاق في بيت المال على القطع.

قلت: والصواب أنه إنما قصد ذكر الخلاف في الثانية خاصة؛ لأن قوله ما بخلاف بيت المال أي فإنه يقطع وقوله الغنائم أي: وبالخلاف في الغنائم فهي مسألة مستقلة بذاتها والله أعلم.

ولو أراد فهما عنه لقال على المشهور فيهما والله أعلم.

(ويتبع السارق إذا قطع بقيمة ما فات من السرقة في ملائه ولا يتبع في عدمه):

المراد بالملإ أن يكون من حين السرقة إلى حين القطع عند الأكثر وعند أشهب إلى حين القديم، وقيل: لا يغرم إذا أتلفها مطلقا لقول عبد الوهاب عن بعض شيوخنا غرمه استحسان والقياس عدمه، وقيل: عكسه نقله اللخمي عن حكاية ابن شعبان قائلا، وقاله غير واحد من أهل المذهب.

قلت: وهو الصواب لأن القطع إنما هو لله بدليل أن عفوه لا يرفع عنه القطع.

(ويتبع في عدمه لما لا يقطع فيه من السرقة):

ما ذكر متفق عليه فيما علمت كما أنه إذا قطع وهي قائمة فربها أحق بها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في الأقضية والشهادات

قال الأبهري: القضاء في اللغة: على وجوه: مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه، قال الله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) [الجمعة:10]

وفي الاصطلاح: قال بعض شيوخنا: صفة حكمية توجب لموصوفها نفوذ الحكم الشرعي، ولو بتعديل أو تجريح لا في عموم مصالح المسلمين فيخرج التحكيم وولاية الشرطة وأحكامها وأخواتها والإمامة، وقول بعضهم هو الفصل بين الخصمين واضح قصوره.

وطلب خطة القضاء على ثلاثة أقسام: فيجب عليه إذا كان من أهل الاجتهاد والعدالة ولا يكون هناك قاض أو يكون ولكن لا تحل ولايته وتستحب في مثل إذا كان هناك عالم مجتهد خفي علمه على الناس فأراد أن يشهره بولاية القضاء ليعلم الجاهل ويفتي المسترشد ويحرم في مثل إذا كان ليس من أهل العدالة، والأصل أن ذلك مكروه إلا لعارض ولم تزل العلماء قديما وحديثا يهربون من الحصول فيه ولما طلب ابن وهب

(2/346)

________________________________________

للقضاء استخفى عند بعض الناس فأشرف عليه رجل من أصحابه فقال: يا أستاذ ما بالك لم تتقدم تحكم بين الناس بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "يا فلان بينا أنا أرجو أن أحشر في زمرة العلماء أو زمرة الأنبياء أحشر في زمرة القضاة وزمرة السلاطين لا أفعل ذلك أبدا".

وبقي ابن الأغلب يطلب سحنون بن سعيد نحوا من عام وهو يمتنع منه حتى حلف له لئن لم تتقدم لأقدمن على الناس رجلا من الشيعة فتقدم لما تعين عليه على شروط شرطها عليه، ولم يتقدم عبد الله بن فروخ في القيروان إلا كرها ثم لما جلس في الجامع فرح الناس له وكبروا حتى سمع الأمير تكبيرهم من قصره فلما أتى الخصماء يدلون بالحجج جعل لا يأتي له رجلان يدليان بحجتهما إلا بكى ويقول: يا فلان ويا فلان أترضيان أن أدخل النار بسبب حكمي بينكما ناشدتكما الله إلا ما قمتما عني ويقومان عنه وبكى كثير من الناس لبكائه فقيل للأمير: إن لم يعفه يموت من البكاء فقال لهم قولوا له: أخبرني من يتولى القضاء بعدك، وأعفيك فقال: إن كان ثم أحد فما ثم إلا ابن غانم فأعفاه، وتقدم ابن غانم وكذلك عيسى بن مسكين رضي الله عنه لم يتول القضاء إلا بعد إشراف على الموت حسبما هو مذكور في محله، وبالجملة فإن المتقدمين رضي الله عنهم على قدر هروبهم منه وبعدهم على جلالة قدرهم طلب أهل زماننا القرب من بعضهم بالتصريح، وبعضهم بالإشارة وبعضهم بصحبة السلطنة أو من ينتمي إليها إلى غير ذلك فشتان ما بين الفريقين فإنا لله وإنا إليه راجعون وللقضاء شروط كمال وشروط وجوب محلها المدونة.

(والبينة على المدعي واليمين على من أنكر):

(2/347)

________________________________________

هذا مخصوص عندنا بوجهين:

أحدهما: التدمية فإنه لا يفتقر فيها إلى بينة عند مالك والليث وكل العلماء على خلافهم.

والثاني: المغصوبة تحمل بينة وتدعي الوطء لها الصداق كاملا اتفاقا فيما قد علمت، ويكفي في البينتين شاهدان.

وفي العتبية ما ظاهره أنه لابد من أربعة، قال ابن عبد السلام: وليس بصحيح وإذا ادعى المديان على رب الدين عدمه لزمته اليمن أنه ما يعلم عدمه فإن نكل حلف المدين، حكاه المتيطي رحمه الله في باب النفقات عن جماعة من الفقهاء قال: ونحوه لابن شعبان وبه كان يفتي ابن الفخار.

قلت: وكان الشيخ أو اسحاق بن عبدالرفيع حكم به بتونس فترك أكثر الناس حقوقهم من أجل اليمين فحكم بعدم توجهها عموما واستمر عليه العمل إلى الآن، وبه أفتى بعض شيوخنا فيمن لا يظن به علم حال المدين لبعده عنه وعلى الأول فاختلف إذا توجهت اليمين على المطلوب فقيل: يحلف على البت، قاله أبو عمران.

قيل: على العلم إذ قد يكون مالك مالا من إرث أو هبة، ولم يعلم.

قال الشيخ ابن رشد: وقول أبي عمران ظاهر المجموعة وأشار اللخمي على أن من كان ظاهر الفقر بدناءة حاله وصناعته كالبقال والخياط ممن شأن أهلها العدم يقبل قوله في العدم ولا يحبس إلا أن تكون الدعوى في يسير عومل فيه في صنعته فلا يصدق حتي يثبت ذلك، وللمدعى عليه أن يسأل عن السبب قاله أشهب.

واختلف إذ قال المدعي: نسيت هل يقبل قوله بغير يمين أو به؟ على قولين

(2/348)

________________________________________

لأشهب والباجي.

(ولا يمين حتى تثبت الخلطة أو الظنة كذلك قضى حكام أهل المدينة):

مراده بالظنة التهمة التي تنزل منزلة ثبوت الخلطة كالدعاوى على الصناع حسبما نص عليه يحيى بن عمر وألزمه الباجي المنتصبين للتجارة في الأسواق، وذكره ابن شاس غير معزو لإلزام الباجي.

واعترضه ابن هارون وكذلك دعوى الغريب بأنه وضع وديعة عند من يكون أهلا لها في الديانة، والأمانة، والمتهم بالسرقة، وكذلك الرجل يقول عند موته إن لي عند فلان دينا هذا معنى ما أراد الشيخ بالظنة، والله أعلم.

وقول المغربي: قالوا: أراد بالخلطة المعاملات وبالظنة الغصب والتعدد بعيد، وقال شيخنا أبو مهدي رحمه الله تعالى: بل هو الأقرب؛ لأنه ظاهر المدونة قال فيها: ومن ادعى قبل رجل دين أو غصبا أو استهلاكا فإن عرف بمخالطته ومعاملته أو علمت تهمته فيما ادعى قبله من التعدي والغصب ينظر فيه الإمام فإما أحلفه أو أخذ له كفيلا حتى يأتي ببينة وإن لم تعلم خلطته أو تهمته فيما ذكرنا لم يعرض له، وما ذكر الشيخ من ثبوت الخلطة هو المشهور.

وقال ابن نافع: لا تشترط، حكاه ابن زرقون ولم يحفظه أكثر شيوخ المذهب كابن حارث وابن رشد قائلا: مذهب مالك وكافة أصحابه الحكم بالخلطة، وبقول ابن نافع: قال الأندلسيون: واستمر عليه العمل بإفريقية وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهما، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم "لو يعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" وربما رواه سحنون باسناده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" إذا كانت بينهما خلطة.

وقد تقدم أن المطلق يرد إلى المقيد قالوا: حديثنا أشهر رواية وأثبت نقلا قلنا: هذا لا يمنع من رد المطلق إلى المقيد إذا اشتركا في الصحة وإنما يمنع من ذلك الطعن في رواية أحدهما ثم يترجح ما ذكرناه من جهة المعني، وهو أن الحرج والمشقة تلحق الناس بالأيمان لاسيما أهل الديانات.

واختلف إذا اقام المدعي البينة بالخلطة فردها المدعى عليه بعداوة أو جرحة هل

(2/350)

________________________________________

تتوجه اليمين بهذه الدعوى أم لا؟

فقال ابن القاسم عن مالك: إنها لا تتوجه وقيل: لابد من توجهها حكاه أبو بكر بن محمد بن اللباد ولم يسم قائله، ويقوم منه أن من شهدت عليه بينة أنه تعرض إلى الجانب العلي وجرحها أنه لا يطلق بل ينكل ثم يرسل.

وبه قال الشيخ أبو اسحاق القابسي رحمه الله تعالى: كأنه لم يشهد عليه إلا أن يكون ممن يليق به ذلك، ويكون الشاهدان من أهل التبريز فأسقطهما بعداوة فهو وإن لم ينفذ الحكم عليه بشهادتهما فالأرجح ظن صدقهما وللحاكم هنا في تنكيله موضع اجتهاد، والله أعلم وهو ولي الإرشاد، ذكره عنه أبو الفضل عياض في الشفاء ولا يتخرج من رواية ابن القاسم أنه يرسل مطلقا لحرمة الجانب العلي، ولقد بعدنا عن كلام الشيخ فلنرجع إليه.

(وقد قال عمر بن عبدالعزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور):

معناه ما أحدثوا من الفجور مما ليس فيه نص تستنبط أحكامه مما وق النص فيه بحسب الاجتهاد وظاهر كلام الشيخ أنه لم يحفظه حديثا وذكر ابن وضاح أنه حديث، وأن ابن عاصم كان يحلف الناس بالطلاق تغليظا عليهم متأولا الحديث على ذلك قال: فذكرت ذلك لسحنون فلم يرتضه.

(وإذا نكل المدعى عليه لم يقض للطالب حتى يحلف فيما يدعي فيه معرفة):

قال شيخنا أبو مهدي رحمه الله: قصد الشيخ بقوله فيما يدعي فيه معرفة إلى أن القاضي لا يقلب عليه يمين التهمة، وفيها يقول ابن رشد في أجوبته، واختلف في توجيه يمين التهمة وفي انقلابها، والأظهر أنها إذا توجهت أن لا ترجع إذ لا يكلف أن يحلف على ما لا يعرف، قال: والذي أره في ذلك أن تلحق يمين التهمة إذا قويت وتسقط إذا ضعفت.

وقال عبد الحق في النكت المعروف عدم توجهها، ذكر ذلك في كتاب الوكالة.

قلت: وقال ابن زرقون: مذهب المدونة في تضمين الصناع والسرقة أنها تتوجه، وقاله ابن زرقون: مذهب المدونة في تضمين الصناع والسرقة أنها تتوجه، وقاله غير ابن القاسم في غير المدونة، وقال أشهب: لا تتوجه وعلى الأول فالمشهور لا تنقلب وفي سماع عيسى أنها تنقلب ولابن رشد مثل ابن زرقون، وما قاله شيخنا في فهم كلام الشيخ فيه نظر؛ لأن كلامه إنما دل على أنه مطالب أن لا يحلف إلا في الأمر البين، وهل يوجه عليه القاضي ما قال في ذلك مسكوت عنه فليس في كلامه جلاء لا ينفي ولا بإثبات، والله أعلم.

(2/351)

________________________________________

واختلف المذهب هل يبدأ أو لا بيمين من توجه عليه الحلف أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقيل: يبدأ أولا به ثم يؤمر من حلف له بإحضار ما وجب عليه، وقيل: لا يحلف حتى يحضره، واستمر عليه العمل عندنا بتونس، وذكر القولين أبو حفص العطار فذكر الأول عن نفسه، والثاني عن عبد الواحد.

وقيل: يكفي أن يشهد المطلوب أنه مليء بحقه، ويحلف الطالب ثم يرفع له ولا تقبل منه بينة بالعدم ولم يحك أكثر شيوخ المذهب غيره كابن أبي زمنين وفضل ويؤخذ ذلك من قول جنايات المدونة ومن جنى عبده جناية فقال أبيعه وأدفع الأرش من ثمنه فليس له ذلك إلا أن يضمن وهو ثقة مأمون أو يأتي بضامن ثقة فيؤخر اليوم واليومين.

وزعم بعض شيوخنا أنه إنما يؤخذ منها القول الثاني الذي عليه العمل، وسمعت شيخنا أبو مهدي غير ما مرة بذكر أن القول الثاني لا يوجد لغير المتأخرين من التونسيين، وفيه نظر إذ هو في تعليقة أبي حفص العطار عن عبدالواحد، وهو غريب فاعلمه.

فإن قلت في عد قول عبد الرحمن نظر لأن أبا حفص ذكر أن المسألة وقعت لعبد الواحد مع امرأة وأن اليمين توجهت عليه.

قلت: لا نظر فيه؛ لأن فتواه ليست بقاصرة عليه، وإنما هي متعدية، وقد ذكروا أن العبد إذا روى حديثا يقتضى عتق نفسه فإنه لا يقدح، وقد أفتى مالك في أم ولده لما استحقت بأخذ قيمتها فقط.

قال عياض: فحكم فيها بقوله وليس في كلام الشيخ ما يدل على شيء من الأقوال الثلاثة بل كلامه أعم لمن تأمله.

وإذا تم نكوله بقوله: لا أحلف وشبهه ثم أراد أن يحلف فليس له ذلك.

قال في كتاب الديات من المدونة فيمن قام له شاهد بحق وأبي أن يحلف ورد اليمين على المطلوب ثم بدا له أن يحلف فليس له ذلك، وأما إذا التزم المدعى عليه اليمين ثم يريد الرجوع إلى إحلاف المدعي فهل له ذلك أم لا؟

فقال أبو عمران: له ذلك وأباه الشيخ أبو القاسم بن الكاتب وإذا امتنع المدعى عليه عن إقرار وإنكار فروى أشهب أنه يحبس حتى يجيب بأحد الأمرين وصححه بعض الشيوخ بقوله: إن طال سجنه ينبغي أن يحمل عليه السوط وفي المسألة أقوال أخر لم أذكرها لطولها.

(واليمين بالله الذي لا إله إلا هو):

ما ذكر الشيخ هو المشهور وقيل: يزاد عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم،

(2/352)

________________________________________

رواه ابن كنانة وبه قال الشافعي كذا عزاه ابن الحاجب لرواية من ذكر وعزاه ابن رشد لقوله في المدونة لا لروايته وظاهر كلام الشيخ لو قال بالله فقط، أو قال: والذي لا إله إلا هو فإنه لا يكفي، وهو كذلك نص عليهما أشهب، وهو ظاهر المدونة.

قال الشيخ: والذي يقتضيه قول مالك أنها يمين مجزئة.

قال: وهو أحسن؛ لأنه لا خلاف أن من حلف بذلك فحنث أن الكفارة عليه.

قلت: يرد بأن هذا الباب أخص فيطالب فيه بكمال التهويل، والله أعلم.

وقاله بعض شيوخنا، ولما ذكر المازري قول أشهب قال: وحمل بعض أشياخي على مالك أنه يرى الاكتفاء بقوله والله فقط وإنما يتعلق في هذا بقوله في كتاب اللعان يقول بالله وليس مقصود مالك في اللعان بيان اللفظ المحلوف به.

قال بعض شيوخنا: وإنما اختصت اليمين بهذا الاسم المعظم دون سائر أسمائه تعالى التسعة التسعين؛ لأن أسماء الله تعالى كلها صفات ما عدا هذا الاسم فإنه مخصوص به غير صفة بل هو علم، وقد قال سيبويه: الأعلام مختصرات الصفات، معناه إذا ذكر الاسم العلم فكأن صفاته مذكورة معه لاشتهاره وعدم خفائه إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في كتب العربية.

(ويحلف قائما ويحلف عند منبر الرسول صلى الله عليه وسلم في ربع دينار فأكثر وفي غير المدينة يحلف في ذلك في الجامع، وحيث يعظم منه)

وظاهر كلام الشيخ: أن حلفه قائما شرط، وهو ظاهر رواية ابن القاسم ورواية ابن كنانة يحلف جالسا، وظاهره أنه لا يشترط استقبال القبلة، وهو ظاهر نص المدونة.

وقال مطرف وابن الماجشون: يحلف مستقبل القبلة حكاه اللخمي، وابن يونس عنهما.

وظاهر كلامه أيضا أنه لا يعتبر وقت الصلاة، ولو كان المال عظيما، وهو كذلك في مشهور المذهب، وروى ابن كنانة أنه يعتبر ذلك فيه وعليه يحمل قول ابن الحاجب وقيل: بوقت الصلاة يعني به في المال العظيم هذا الذي أعرفه في المذهب.

وقال الفاكهاني: التغليظ يكون بالمكان والزمان ثم قال: وأما الزمان فبعد العصر قال الأبهري: لأن من شأن أهل الدين أن يرتعدوا في الأوقات الشريفة، والمواضع المعظمة هذا هو الغالب من أهل الدين.

وقال الفاكهاني: وكذلك ينبغي أن يضاف إلى ما بعد العصر زمان رمضان ليله

(2/353)

________________________________________

ونهاره لا سيما ليلة القدر منه ويوم عرفة ويوم عاشوراء ويوم الجمعة فإنها أوقات مشرفة في الشرع معظمة عند الناس.

قلت: وفيما ذكر نظر من وجهين:

أحدهما: أن ما ذكره من التغليظ بالزمان بعد العصر لا أعرفه إلا في اللعان على خلاف فيه حسبما قدمناه.

الثاني: كونه لم يذكر غيره من أن المذهب على خلافه فكلامه يوهم مطالعة أنه المذهب والله أعلم.

وظاهر كلام الشيخ أيضا: إن لم يبلغ ربع دينار أنه لا يحلف في الجامع، وهو كذلك نص عليه عبد الملك قائلا: يحلف في مكانه الذي قضي عليه فيه.

وقال ابن الحاجب: يحلف في مسجد من المساجد وتممه بعض الشيوخ بقوله: فإن لم يكن عندهم مسجد حلف كما قال عبد الملك ولا يكلفه الانتقال إلى الجامع، وأما المرأة فقال في المدونة: تخرج فيما له بال من الحقوق فإن كانت من لا تخرج نهارا فلتخرج ليلا وتحلف في اليسير في بيتها إن لم تكن ممن تخرج ويبعث القاضي إليها من يحلفها، ويجزئ رجل واحد.

وقال عياض في بعض النسخ: لم يذكر نهارا فقيل: يحتمل أنها لا تخرج جملة وهي التي لا تنصرف ولا تخرج من نساء الملوك فيبعث إليها الإمام من يحلفها، ولا يترك خصمها لامتهانها هكذا ذكره عبد الوهاب، وهذا فيما يطالبن به ونحوه لابن كنانة في المدونة.

وقد حلف سحنون أمثال هؤلاء في أقرب المساجد إليهن وأما شيوخ الأندلسيين فرأوا أنه لا بد من خروج هؤلاء فإن امتنعت حكم عليها بحكم الملك، وليس بصواب وفسر أبو محمد الذي له بال بربع دينار، وفي كتاب ابن حبيب مثله في قوله: إنهن كالرجال يحلفن في الجامع في ربع دينار فصاعدا وذهب بعض شيوخنا أنهن بخلاف الرجال، وإن الذي له بال في حقهن هو المال الكثير وأما ربع دينار ونحوه فلا يحلفن فيه في المسجد وكذلك قال محمد.

قلت: وقال اللخمي في كتاب محمد: تحلف المرأة في بيتها في أقل من ربع دينار وفي دينار فأكثر في الجامع فيحمل نقل عياض على ما ذكره ونقل ابن يونس عن ابن الماجشون مثل ما تاوله أبو محمد وعزا المتيطي هذا القول في النكاح لمطرف فقط.

(2/354)

________________________________________

(ويحلف الكافر بالله حيث يعظم):

يريد يقول: بالله الذي لا إله إلا هو فبالله من قوله ترجمة وإنما قلنا ذلك؛ لأنه رحمهالله تعالى اختصر المدونة على ذلك, ومثله فى كتاب محمد قال: يمين الحر والعبد واالنصرانى في الحقوق سواء وكذلك في كتاب ابن حبيب.

وذهب الشيخ أبو القاسم بن شبلون، وغيره، إلا أنه لا يلزم الكافر ذلك قالوا: لأنهم لا يوحدون، ولا يكلفون ما ليس من دينهم.

قال ابن محرز: وليس كذلك بل يحلفون كالمسلمين، ولا يكون ذلك منهم إيمانا، ونص عليه المتقدمون من علمائنا ويدل عليه استحلاف المجوس بالله، وهم ينفون الصالح تعالى الله عن قولهم اعتقادهم علوا كبيرا ولم يكن ذلك إيمانا.

قال المتيطي: واحتج ابن الهندي لعدم الزيادة بأن إلزامه ذلك إكراه في الدين والله تعالى يقول: (لا إكراه في الدين) [البقرة: 256]

وقال اللخمي: يلزم اليهودي الزيادة لأنهم يوحدون بخلاف النصراني المتيطي وفيه نظر لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله.

وحكى ابن شعبان عن رواية الواقدي: يحلف اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى والنصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى.

وقال ابن المواز في مجوسية أسلم زوجها وتلاعنا فقالت: أقول والنار لا أحلف بالله فقال: لا تحلفي إلا بالله، وقال اللخمي: ينبغي أن يحلفوا بما يعظمون لما في ذلك من استخراج الحق كحلفهم في كنائسهم وبيعهم، وبيت نارهم، ولا فرق.

قال ابن هارون: هو بعيد.

قلت: وجه بعده أن الحلف بغير الله أشد من السير إلى ما ذكر.

وقال الشيخ أبو الحسن القابسي رضي الله عنه: ولو أراد المسلم أن يحلف الكافر يوم السبت فله ذلك.

وقال غيره من المتأخرين: ليس له ذلك والقولان حكاهما المازري فخصص بعضهم الخلاف اليهودي لأن النصراني لا يعظم يوما وعممه ابن عات فيهما. قال: لأن يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى كذا عزاه بعض شيوخنا والذي في الطرر عن نقل ابن فتحون إنما الخلاف في اليهودي فقط، ولولا الإطالة لذكرنا لفظه، ولما وقف بعض أصحابنا على كلامنا هذا استثبت شيخنا في نقله وأحضر له مختصر وطرر ابن عات وعرفني أنه أصلح تأليفه وعاجلني السفر إلى جزيرة جربة قاضيا فلا أدري

(2/355)

________________________________________

كيف أصلحه، ولا يحلفون في الكنيسة إلا في ربع دينار، وقال المشاور: الحكم كذلك في القليل والكثير حكاه ابن عات.

(وإذا وجد الطالب بنية بعد يمين المطلوب لم يكن علم بها قضى له بها، وإن كان علم بها فلا تقبل منه، وقد قيل تقبل منه):

ما ذكر أنه يعمل على البينة إذا لم يكن عالما بها هو كذلك باتفاق، وأما إذا كان عالما بها فذكر رحمه الله قولين فيها، والقول الأول هو نص المدونة، قال فيها: وإن استحلفه بعد علمه ببينة تاركًا لها وهي حاضرة أوغائبة فلا حق له إلا أن قوله تاركا لها، قال أبو إبراهيم سقط في بعض المواضع فقيل اختلاف.

قلت: وعلى القول باشتراطه فهل المراد تصريحا أو إعراضه كاف وعليه الأكثر في ذلك تأويلان عليها حكاهما عياض والقول الثاني من كلام الشيخ رواه ابن نافع وبه أخذ ابن وهب، وأشهب، وهو قول الليث وغيره كالشافعي.

قال ابن يونس: واستحسن بعض فقهائنا القرويين إذا كان أمد البينة يطول عند القضاة ويشتد على الخصم ذلك أن له أن يحلف رجاء أن ينكل وله القيام بها، واختار اللخمي قولا ففصل فيه لم أذكره لطوله، وكل هذا إذا وجد شاهدان.

قال اللخمي: وأما لو وجد واحد، فقال ابن القاسم، وغيره: يحلف معه ويستحق، وقال ابن كنانة في الواضحة: ليس ذلك لأنه لا يسقط يمينا ولا درأ حقا بيمينه مع شاهده ولكن أتى بشاهدين.

قلت: وعزا القول الثاني أبو محمد من نقل ابن حبيب لمطرف وابن الماجشون وابن عبدالحكم وأصبغ ولم يذكر غيره وكذلك أكثر شيوخ المذهب كابن يونس وهو محمول على عدم العلم حتى يثبت العلم قاله سحنون في المدونة.

قال عياض: ثبت ذلك في كتاب ابن سهل لأحمد بن خالد، وابن أيمن عن ابن وضاح ولم يكن عند غيرهما، ولا في كتاب ابن عات، وهو صحيح على الأصل.

قلت: وبه الفتوى عندنا واستمر عليه عمل القضاة، ولا أعرف خلافه.

(ويقضي بشاهد ويمين في الأموال):

ما ذكره هو مشهور المذهب وذكر يحيى بن يحيى أنه لا يحكم به وذكر أن الليث بن سعد كان يفتي به قال أبو حنيفة وغيره وأطبقوا في قولهم حتى قال محمد بن الحسن: يفسخ القضاء به؛ لأنه خلاف القرآن.

(2/356)

________________________________________

(ولا يقضي ذلك في نكاح أو طلاق أو حد):

ما ذكر في مسألة النكاح هو نص المدونة في كتاب الأيمان بالطلاق. قال فيها: ومن ادعى نكاح امرأة أو أنكرته فلا يمين له عليها، وإن أقام شاهدا ولا يثبت نكاح إلا بشاهدين.

وقال ابن القاسم في الموازية: إذا ادعى الرجل على امرأة نكاحا أو العكس أن اليمين ساقطة ما لم يقم بذلك شاهد فلا بد من اليمين.

قال القاضي عبدالوهاب: فإن نكل جرى على اختلاف قول مالك في دعوى الطلاق مع الشاهد ونقل ابن الهندي لزوم اليمين بمجرد الدعوى لما روي أشبه شيء بالبيع النكاح.

ونقل ابن الحارث عن سحنون مثله، وإن كانا طارئين فالمجموع أربعة أقوال، واختلف إذا أقامت المرأة شاهدا بالنكاح على ميت.

قال ابن القاسم: تحلف وترث، وقال أشهب: لا ترث وقيل بالأول: إن لم يورث بقرابة أو ولاء، وبالثاني: إن ورث بذلك، وكذلك الثلاثة في دعوى الرجل النكاح عليها بعد موته، والثلاثة والأقوال حكاها ابن يونس في الصورتين في كتاب الشهادات وسبب الخلاف بين ابن القاسم، وأشهب في الدعوى إذا لم تكن بمال لكنها تؤول إليه ولا يقال لو صح هذا لا طرد في حال الحياة؛ لأن حال الحياة لا تترتب عليه أحكام أخرى كلحوق النسب.

قال ابن عبدالسلام: وقد ورد سؤالا وجوابا وما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى في الطلاق هو كذلك إلا أنه يؤمر بأن يقرأ ويحلف فإن امتنع فاختلف في المسألة على أربعة أقوال حكاها المتيطي:

أحدها: لزوم الطلاق رواه ابن أبي زين، وبه قال أشهب.

قلت: وهو قصور إذ هو أحد الأقوال عن مالك في المدونة في آخر كتاب الأيمان بالطلاق، ولفظها: قال مالك: فإن نكل طلقت عليه مكانه ومثله في العتق الثاني وبه قال ابن عبدالحكم.

الثاني: أنه يسجن حتى يحلف أو يطلق وإليه رجع مالك.

الثالث: أنه يدين وتبقى له زوجته قاله بعض أصحاب مالك.

الرابع: أنه إذا مضى له أربعة أشهر من يوم إبايته عن اليمين فإنه يدخل عليه الإيلاء فإن استمر على الإبابة طلق علي بالإيلاء، وعلى القول بأنه يسجن اختلف في

(2/357)

________________________________________

قدره في ثلاثة أقوال عن مالك فقيل: سنة قال المتيطي: وعليه العمل.

قال ابن عبد السلام وذكره ابن القاسم في أواخر العتق الثاني من المدونة، وأطلق ذلك في الأيمان بالطلاق.

قلت: بل أطلق فيه أيضا، ولفظه وأنا أرى إن طال سجنه أن يخلي سبيله ويدين نعم هو قول له خارج المدونة كما لا شك فيه، وقيل: إن ذلك يرجع إلى اجتهاد الحاكم وقيل: يسجن أبدا وهو نص أيمانهم أيضا، وما ذكر في الحد هو كذلك باتفاق وكذلك في الأدب على المشهور.

وحكى ابن رشد قولا شاذا إنه يؤدب بالشاهد واليمين.

(ولا في دم عمد أو نفس إلا مع القسامة في النفس وقد قيل: يقضي بذلك في الجراح):

هو قول ابن سحنون يريد كقطع اليد أو موضحة عمدا.

وقوله: وقد قيل: يقضي بذلك في الجراح هو قول ابن القاسم في شهادات المدونة، وأشارالشيخ لتضعيفه بوجهين:

وهما فقد تقدم القول الأول عليه، وقوله: وقد قيل كقوله في اليتيم، وقد قيل: يتيمم لكل صلاة.

(ولا تجوز شهادة النساء إلا في الأموال):

يريد وما لا يطلع عليه إلا هن كما يقوله الآن والوكالة لطلب المال واسناد الوصية التي ليس فيها إلا المال فيجوز فيها شاهد وامرأتان قاله مالك، وابن القاسم، ومنع ذلك عبد الملك وسحنون ومنع ابن القاسم في ذلك الشاهد واليمين واحتج عليه سحنون بذلك قائلا: كل موضع لا يقبل فيه شاهد ويمين لا تقبل النساء.

(ومائة امرأة كامرأتين وذلك كرجل واحد يقضي بذلك مع رجل واحد أو مع اليمين فيما يجوز فيه شاهد ويمين):

(2/358)

________________________________________

مثل هذا في المدونة قال فيها: وإن شهدن لرجل أن فلانا أوصى له بكذا جازت شهادتهن مع يمينه وامرأتان في ذلك ومائة امرأة سواء يحلف معهن ويستحق، وقال فيها: إذا كانت بينة أحد المتداعيين رجلين أو رجلا امرأتين فيما تجوز شهادة النساءء فيه وبينة الآخر مائة رجل واستووا في العدالة فإنهم يسقطون وبقي الشيء في يد حائزه ويحلف فظاهر المدونة والرسالة أن الأمر كذلك حقيقة.

وقال اللخمي في الأول: هذا مبالغة ولا تستوي امرأتان مع مائة امرأة لأنه يفيد العلم. وقال في الثانية: محمل قول ابن القاسم على الغابات ولو كثروا حتى يقع العلم يصدقهن لقضى بهن؛ لأن القضاء باثنين لغلبة الظن وتبعه المازري على هذا وقال

(2/359)

________________________________________

بعض المغاربة انظر هل يسلم هذا للخمي أم لا.

قلت: وأفتى به بعض من لقيناه من القرويين غير ما مرة قال: وهو المذهب عندي ولا يفتقر إلى تزكية، ولا إلى تجريح مهما كثروا، وأول ما أفتى به بالقيروان في أمير شهد عليه أناس شتى بما يوجب عزله ولم يزكهم أحد من العدول وحكم القاضي بما أفتى له به. فعزله وأدبه.

ولم يرتضه شيخنا أبو مهدي عيسى الغبريني رحمه الله قال: وهو عندي خلاف المذهب؛ لأنه إذا قبل القاضي شهادتهم بمجرد كثرتهم فهو يحكم بعلمه، وقد علمت أنه لا يجوز هكذا سمعت منه غير ما مرة وقد كان أخبرني شيخنا الأول بأنه ناظره فيها ومرض اعتلاله هذا بأن الذي لا يحكم القاضي فيه بعلمه إنما هو إذا لم يكن مستندا لشهادة أحد، وفي هذا قد استند حكمه لشهادة من شهد فلا ريبة فقلت ذلك لشيخنا أبي مهدي في درسه فلم يقبله قائلا: لما لم يزك من شهد فهو كالعدم.

قلت: في فهم الشيخين نظر؛ لأن المسألتين المركب عليهما كلام اللخمي إنما هو إذا ثبتت عدالة من شهد ألا ترى إلى قول المدونة، واستووا في العدالة وإلى قول اللخمي لأن القضاء باثنين لغلبة الظن فهمها لم يزك من شهد ولو كثر عددهم جدا فلم يدخل في كلام اللخمي وإذا لم يدخل فلا شك أنها كالعدم ولا يختلف في ذلك والله أعلم.

(وشهادة امرأتين فقط فيما لا يطلع عليه الرجال من الولادة والاستهلال وشبهه جائزة):

ظاهر كلامه أن شهادتهن في الولادة مقبولة، وإن لم يحضر الجسد، وهو كذلك عند ابن القاسم خلافا لسحنون.

وقال اللخمي: إن كانت المناكرة بقرب الولادة لا تجوز؛ لأنه يقدر على إظهاره وإن كان مقبورا وإن كان بعد طول لقدوم من ناكرها أو كانت الأم مقرة ثم أنكرت أن تجوز.

وأما شهادتهن في الاستهلال فتجوز باتفاق.

واختلف هل تجوز شهادتهن على أنه ذكر أو أنثى على ثلاثة أقوال: فأجازها ابن القاسم، لكن مع يمين القائم بشهادتهن وردها أشهب، وقال أصبغ: إن فات بالدفن والطول حتى تغير نظرت فإن كل فضل المال يرجع إلى بيت المال أو إلى العشير البعيد جازت كما قال ابن القاسم وإن كان يرجع إلى بعض الورثة دون بعض أخذت بقول

(2/360)

________________________________________

أشهب، ولو ادعى الزوج على زوجته عيب فرجها فقال ابن القاسم: لا ينظر إليها النساء وهي مصدقة وأنكره سحنون فإن كان العيب بغير الفرج مما هو عورة فقيل: تقبل فيه شهادة النساء.

وقيل: يبقر الثوب حتى ينكشف موضع العيب فيطلع عليه الرجال ولا تقبل شهادتهن حينئذ وعزا اللخمي القولين لأصبغ لغيره وعزاهما المازري للموازي ولغيرها.

قال بعض شيوخنا: والأول هو ظاهر الأيمان بالطلاق من المدونة ولو كان العيب بفرج الأمة فاختلف فيه البائع والمشتري فإنه تقبل فيه شهادتهن باتفاق، وإذا كان القاضي هو الباعث فاختلف هل يكتفي بامرأة واحدة؟ في ذلك قولان بناء على أنه من باب الخبرأم لا، واختار اللخمي أنه لا بد من امرأتين قائلا: لأن العدالة ضعفت وأراد الشيخ بقوله وشبهه كالرضاع وعيوب النساء.

(ولا تجوز شهادة خصم ولا ظنين):

يريد إذا كانت الخصومة في الدنيا وحطامها، وأما في الدين كما إذا شهد على أهل البدع فلا قاله سحنون، وكذلك لا تجوز شهادة المتهاجرين.

وقال ابن كنانة: إن كانت المتهاجرة خفيفة وقعت على أمر خفيف جازت الشهادة.

قال اللخمي: وهذا يحسن في المبرز في الصلاح، والخير قال: واختلف إذا اصطلحا بعد الخصومة فقال محمد: جائز، وقال مطرف ابن الماجشون: إن طال الأمد، وإن كان يحدثان ذلك فلا.

قلت: والصواب أنه خلاف في حال واختلف في أربعة أتوا متعلقين برجل شهدوا عليه بالزنا فمنعه ابن القاسم لأنهم خصماؤهم، وفي كتاب ابن حبيب جوازها، واستحسنه اللخمي؛ لأن الأصل منازعتهم في سبب الدين والظنين.

قال ابن رشد: قيل: هو المتهم في دينه، وقيل: هو المتهم في شهادته، واستمر العمل عندنا بافريقية على قبول شهادة الطلبة بعضهم على بعض.

قال ابن عات: قال الشعباني: تقبل شهادة القراء في كل شيء إلا شهادة بعضهم على بعض لأنهم يتحاسدون كالضرائر والحسود ظالم لا تقبل شهادته على من يحسده.

وقال المتيطي في المبسوطة لابن وهب: لا تجوز شهادة القارئ على القارئ يعني: العلماء لأنهم أشد الناس تحاسدا، وقاله سفيان الثوري ومالك بن دينار، ويقوم من كلام الشيخ أن العدو لا يوكل على العدو وهو كذلك نص عليه أبو إسحاق بن

(2/361)

________________________________________

شعبان قائلا: لما نهي عنه من الضرر الضرار، وهو أيضا ظاهر ما في مديان المدونة قال فيها: ومن أدى عن رجل دينا بغير أمره أو دفع عنه مهر زوجته جاز ذلك إن فعله رفقا بالمطلوب، وأما إن أراد الضرر بطلبه وإعناته وأراد حبسه لعدم أو لعداوة بينه وبينه منع من ذلك كله ويقوم من كلامه أيضًا من أن القاضي لا يحكم على عدوه، وهو كذلك قاله أبو محمد في نوادره عن ابن المواز.

فإن قلت: لا نسلم أن هذا يقوم من كلام الشيخ؛ لأن حكم القاضي ظاهر فإذا حكم عليه سأل غيره من أهل العلم عن حكمه بخلاف الشهادة فإنها خفية؛ لأنه يشهد عن علمه، وبهذا الذي ذكرنا استدل الماوردي في الأحكام السلطانية في أنه لا يحكم على عدوه ولا يشهد نقله ابن الحاج في نوازله عنه.

قلت: ومن أحكام القاضي ما هو باطن أيضا كالتعديل والتجريح بلا فرق والله أعلم. ولهذا قال ابن الحاج: هو خلاف مذهب مالك وخلاف ما في نوازل سحنون من أقضية العتبية.

(ولا يقبل إلا العدول):

قال ابن الحاجب: العدالة المحافظة الدينية على اجتناب الكذب والكبائر وتوقي الصغائر وأداء الأمانة وحسن المعاملة ليس معها بدعة فإنها فسق.

وما ذكر الشيخ فهو مذهبنا وقال الشافعي: الناس محمولون على العدالة حتى يثبت نقيضها وظاهر كلام الشيخ ولو كان العدل مولي عليه السوء نظره في المال لا يجرحه، وهو كذلك رواه أشهب.

وقيل: لا تقبل شهادته، قال ابن المواز وأشهب وأخذ من كتاب الشهادات من المدونة.

(ولا تجوز شهادة المحدود ولا شهادة عبد ولا صبي ولا كافر):

ما ذكر الشيخ من أن شهادة المحدود لا تجوز هو كذلك باتفاق معناه إذا لم يتب كما يقوله الآن وما ذكر أن شهادة العبيد غير معمول بها هو كذلك باتفاق أهل المذهب وخارج المذهب قول بجوازها لغير السيد محتجا بقوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282]

، وبقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) [الطلاق:2]

، والعبد قد يكون عدلا مرضيا ورد بأن الآيتين مخصوصتان بقوله تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) [البقرة: 282]

، والعبد لا يتصرف إلا بإذن سيده.

قال ابن شعبان في زاهيه: قيل: ولو عتق العبد وشهد حينئذ فإنه ينظر في حاله

(2/362)

________________________________________

بخلاف الكافر إذا شهد حين أسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" وكذلك الصبي قرب احتلامه.

وما ذكر أن شهادة الصبي لا تجوز هو كذلك باتفاق؛ لأنه غير مكلف، واختلف في شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح للضرورة وإذا لم تجز شهادة الصبي فأحرى من لا عقل له والكافر لا تجوز شهادته باتفاق وخارج المذهب قول بجوازها في الوصية.

وأما شهادة المسلم على الكافر فإنه معمول بها نص على ذلك في المدونة وأقام منها بعض من لقيناه من القرويين أن شهادة الرعية على الوالي معمول بها؛ لأن العداوة العامة لا أثر لها قال: ونص على ذلك ابن جرير رحمه الله، وأول ما سمعت هذه الإقامة من شيخنا هذا حفظه الله تعالى لما نزلت بقاضي القيروان في واليها تعرض إلى الجانب العالي أسأل الله السلامة من ذلك فشهد عليه جماعة من أهلها وزكوا وعذر بذلك فسأله عنها فأفتاه بذلك وسلم له ذلك أهل العلم ببلدنا وغيرها وترد الإقامة، وإن كنت أقول بموجبها؛ لأن العداوة التي بين المسلم والكافر إنما هي دينية، وقد علمت أنه لا أثر لها بخلاف العداوة التي بين الرعية والوالي إنما هي دنيوية والعداوة الدنيوية معتبرة والله أعلم.

(وإذا تاب المحدود في الزنا قبلت شهادته إلا في الزنا):

اعلم أنه إذا ثبتت التوبة لا يشترط مضي زمان بل التوبة كافية، وقيل: لابد من مضي ستة أشهر، وقيل: لابد من سنة، وما ذكر الشيخ رحمه الله من أن شهادة المحدود في الزنا وكذلك شهادة من حد في شيء لا تجوز شهادته فيه هو كذلك على المشهور، وبه قال سحنون.

وقال ابن كنانة وأصبغ وروي عن مالك أنها تقبل واختاره الأبهري. قال المازري: وهو مذهب الكتاب وعزاه ابن يونس لبعض شيوخه ولم يرتضه قائلا: ليس في الكتاب دليل عليه والقياس هو قول سحنون والجماعة الفرق على مذهب ابن كنانة بين ولد الزنا ومن حد في شيء أن ولد الزنا لا يندفع عاره بالتوبة وغيره يندفع كاندفاع الكفر بالإسلام وضعف ابن يونس هذا الفرق وزعم أنها في الجميع باقية؛ لأنها إذا بقيت في ولد الزنا وليس الزنا من فعله كانت في الزاني أبقى؛ لأنه من فعله.

(2/363)

________________________________________

واختلف متى ترد شهادة القاذف فقال عبد الملك إذا عجز عن اثبات ما ادعاه وحق عليه القذف، وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون بل حتى يحد وكلاهما حكاه ابن تونس. واختلف هل يجوز أن يولي ولد الزنا القضاء أم لا؟ على قولين لسحنون والباجي وعلى الأول فهل يمنع أن يحكم في الزنى أم لا؟ على قولين لسحنون وأصبغ.

(ولا تجوز شهادة الابن للأبوين ولا هما له):

ما ذكر الشيخ أن شهادة الابن للأبوين وهما له لا تجوز هو معروف المذهب وحكى بعض الشافعية عن مالك أن شهادته لأبيه مقبولة.

قال المازري: وهي حكاية منكرة وربما كانت وهما، وأما شهادة الأب لابنه فلا خلاف أنها لا تقبل وليس المراد بالأبوين دنية، وإنما المراد عموما، وكذلك الأبناء وإن سفلوا.

وظاهر كلام الشيخ: أن شهادة الابن لأحد أبويه لا تجوز وهو كذلك عند سحنون. وقال ابن نافع: ذلك جائز ما لم تكن تهمة كموالاة الأب للابن بالصلة وقيل: إن كان مبرزا ويكون ما شهد فيه يسيرا فإنها جائزة قاله مالك في المجموعة والموازية، وفي شهادة الأب لأحد ولديه على الآخر إذا استوت حالتهما قولان لابن محرز وسحنون.

(ولا الزوج للزوجة ولا هي له):

ما ذكر هو قول مالك وأبي حنيفة وقال الشافعي بل هي مقبولة، وقال ابن أبي ليلى، والنخعي: تقبل شهادة الزوج لها دون العكس.

وظاهر كلام الشيخ إذا طلق الرجل زوجته طلاقا بائنا أن شهادته لها مقبولة، وهو كذلك قاله سحنون في العتبية قائلا: وإن كان له منها ولد، وقال عنه ابن عبدون: إنما تجوز إذا كان مليا ليس لولده حاجة إلى أمهم فإن كان عديما والولد في نفقة أمهم لم تجز.

قلت: وينبغي أن يكون هذا مفسرا لما قبله.

واختلف هل يشهد الرجل لربيه أم لا؟ على قولين لابن القاسم وسحنون.

(وتجوز شهادة الأخ العدل لأخيه):

ظاهر كلام الشيخ سواء كان مبرزا أم لا، ومثل هذا الإطلاق وقع في شهادة المدونة، ووقع في أول الشهادات منها اشتراط التبريز فقيل: اختلاف، وقيل: لا.

واختلف المذهب في شهادته له في المال على سبعة أقوال، هذان القولان،

(2/364)

________________________________________

والثالث: تقبل في اليسير دون الكثير قاله ابن كنانة.

والرابع: لأشهب إن كان مبرزا قبلت مطلقا وإلا قبلت في اليسير.

الخامس: أنها مردودة مطلقا.

والسادس: تجوز في غير الربع المتهم بجره إليه أو إلى ابنه كحبس مرجعه إلى ابنه.

والسابع: تجوز إن لم تنله صلته، وكلاهما حكاه الباجي، وكل هذا الخلاف إذا لم يكن الشاهد في نفقة أخيه المشهود له أو يتكرر عليه معروفه.

وأجاز ابن القاسم أن يعدل الأخ أخاه ومنعه أشهب في التعديل وصوب وكذلك الخلاف في تجريح من جرحه.

قال اللخمي: ويختلف في شهادته له في جراح الخطأ لأنها مال.

واختلف في شهادته له جراح العمد فالمعروف المنع؛ لأنه مما تدرك فيه الحمية والتعصب، وأجازها أشهب في العتبية والأول أحسن.

قلت: ولا يقال: إن أشهب ناقض أصله في التعديل؛ لأن التعديل ادخل في النفوس فيكتسب به شرفا زمانا طويلا ودائما فالتهمة فيه أشد وألزم والله أعلم.

قال ابن رشد: والمسائل التي يشترط فيها التبريز ست ما تقدم وشهادة الصديق الملاطف لصديقه وشهادة الشريك لشريكه في غير مال المفاوضة وشهادة المولى لمن أعتقه وشهادة الأجير لمن استأجره إذا لم يكن في عياله، وإذا زاد ونقص في شهادته.

(ولا تجوز شهادة مجرب في كذب أو مظهر لكبيرة ولا جار إلى نفسه ولا دافع عنها):

(2/365)

________________________________________

ظاهر كلامه أن الكذبة الواحدة لا أثر لها وهو كذلك ومثله أقام غير واحد من المتأخرين من قول المدونة ومما يجرح فيها الشاهدان عليه بين أنه شارب خمر أو آكل ربا أو صاحب قيان أو كذاب في غير شيء واحد فأفتى بصيغة فعال للمبالغة ليدل على التكرار، وأشار بقوله أيضا في غير شيء إلى الكذب الجائز لا يقدح كالكذب للصلح بين المتهاجرين، واشتراط الشيخ الإظهار في الكبيرة لا مفهوم له بل إذا شهد عليه أنه فعل حراما كبيرا مستترا فإنه يقدح كما هو ظاهر المدونة كما تقدم في لفظها.

ظاهر كلام الشيخ أن مظهر الصغيرة لا يقدح في شهادته وليس كذلك وقد تقدم لابن الحاجب أنه اشترط في العدالة توقي الصغائر وظاهر كلام ابن القاسم في العتبية أن من ترك الجمعة مرة واحدة إنها جرحة في شهادته وبه قال أصبغ، وقيل: إن تكرر تركه ثلاث مرات، قاله ابن الماجشون وغيره.

وأما من اقتصر على الزكاة فشهادته جائزة ونقل الباجي عن أصحابنا أنها ترد وسبب الخلاف هل ينتفي عنه اسم البخل أم لا؟ وقد أكثر الشيوخ الكلام فيما يجرح به الشاهد لأنه مضطر إليه فمن شاء فلينظره في المطولات.

قال الفاكهاني: وقول الشيخ ولا جار إلى نفسه فهو أن يشهد لشريكه في شيء من مال الشركة.

(ولا وصي ليتيمه وتجوز شهادته عليه):

مثاله من أعتق عبدا فلا تجوز شهادته لسيده أنه أدى دينه؛ لأنه يباع فيما على سيده من دين قال: وقوله: ولا وصي ليتيمه راجع في المعنى إلى قوله: ولا جار، وإنما كرره ليقول وتجوز شهادته عليه وذكر عبد الوهاب رواية أن شهادة الوصي على من يلي عليه لا تجوز لأنه يتهم في أن يريد أن يخرج عن أيديهم مالا قد تعين عليه حفظه ويسقط عن نفسه ما لزمه بقوله.

(ولا يجوز تجريح النساء ولا تعديلهن):

زاد في المدونة: لا للرجال ولا النساء وهو واضح لما تقدم من أن شهادتهن إنما هي جائزة في المال فإن قلت: لم لم يجز ذلك وهل هي شهادة على غير المال تؤول إلى المال؟ وقد علمت أن ابن القاسم أجاز شهادتين في ذلك.

(2/366)

________________________________________

قلت: قال بعض شيوخنا لما كان لا يقتصر تجريحهن على الشهادة التي شهدن فيها من جرحته بل يتعدى إلى غيرها أشبهت الحكم في البدن والله أعلم.

(ولا يقبل في التزكية إلا من يقول عدل رضي):

أي هو عدل ف ينفسه رضي في أفعاله. قال الفاكهاني، ويريد الشيخ، وكونه من أهل اليقظة والتحرز نص على ذلك ابن عبد الحكم قائلا: قد يكون الرجل الخير الفاضل ضعيفا لا يؤمن علهي لغفلته، وقد يلبس عليه وتابعه على ذلك شيوخ المذهب كابن رشد والباجي ويكفي في تعديل الغير أن يقول هو عدل رضي ولا بد منها قاله ابن الجلاب كما هو ظاهر كلام الشيخ ووجهه أن الله تعالى قال: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) [الطلاق: 2]

وقال عز من قائل: (ممن ترضون من الشهداء) [البقرة:282]

وزاد سحنون على الوصفين جائز الشهادة.

وقال بعض الأندلسيين: إن المعلوم من المذهب أنه إن اقتصر على أحد اللفظين من العدالة والرضى أجزأه، وروى ابن كنانة: يقبل إذا قال أعلمه وأعرفه عدلا رضيا جائز الشهادة ولا يقبل إذا قال لا أعلمه إلا عدلا رضيا.

وقال ابن عبد الحكم وغيره: يكفي أن يقول أراه عدلا رضيا، وليس عليه أن يقول هو عدل رضي عند الله ولا يقول أرضاه لي وعلي.

واعلم أنه لا يجب ذكر سبب التعديل بلا خلاف في المذهب، وذكر أرباب الأصول فيه خلافا، واختلف في سبب التجريح على أربعة أقوال: فقيل: يجب وقيل: لا وقيل: إن كان عالما بوجهه لم يجب قاله مطرف، وقيل: إن كان مبرزا لم يجب قاله أشهب.

قال ابن عبدالسلام: والأقرب أنه لابد من ذكره لاختلاف العلماء في كثير من أسبابه مع غموض بعضه وقد جرح أقوال من المحدثين ونسبوهم إلى أشياء هم منها براء، واستفسر بعضهم من جرحهم ما لا يصلح أن يكون جرحة، فقال بعضهم: رأيت فلانا يبيع ولا يرجح الميزان، وقال بعضهم: رأيته يغتاب بحضرته، ولا ينكر وجرح شاهد شاهدا فقال لما سئل عن الجرحة رأيته يبول وهو قائم فقيل له: وإذا بال قائما ماذا يكون؟ قال: يتطاير عليه بوله فقيل له: هل رأيته صلى به بعد ذلك فقال لا فظهر غلطه.

(ولا يقبل في ذلك ولا في التجريح واحد):

إنما لا يقبل في ذلك واحد؛ لأن التعديل والتجريح أمر ظاهر لا يخفى فشهادة

(2/367)

________________________________________

واحدة في ذلك ريبة وكذلك العدم لا يثبت بالشاهد واليمين وعلته ما ذكرناه، وكذلك النكاح والطلاق والعناق والولاء والنسب والإحباس، والوصايا لغير المعينين وهلال رمضان وهلال ذي الحجة وغيرهما، والموت والقذف والإيصاء، ونقل الشهادة لا يكون إلا بشاهدين.

قال الفاكهاني رحمه الله: وهذه المسألة سقطت في بعض النسخ وهي في روايتنا ثابتة، وهي على التقدير زيادتها صحيحة لا أعلم في ذلك خلافا.

(وتقبل شهادة الصبيان في الجراح قبل أن يفترقوا أو يدخل بينهم كبير):

ما ذكر الشخ من أن الشهادة مقبولة فيما ذكر زعم ابن الحارث الاتفاق عليه،

(2/368)

________________________________________

وليس كذلك بل هو مشهور المذهب، وقيل: إنها باطلة كشهادتهم في المال قاله ابن عبد الحكم ومحمد بن صدقة ومطرف كذا عزاه ابن زرقون ولم يعزه ابن رشد إلا لمطرف كما أن اللخمي والمازري لم يعزواه إلا لابن عبد الحكم.

وظاهر كلام الشيخ أن شهادتهم في القتل لا تجوز وهو قول أشهب، وقال مالك: إنها مقبولة وهو المشهور والقولان في المدونة.

ولما ذكر الفاكهاني القولين قال بعد وظاهر الرسالة موافق لقول أشهب، وقد علمت المشهور ما هو فكأنه أشار إلى التعقب عليه لكونه كلامه إنما جاء على الشاذ، والمستقرأ من كلام الشيخ أنه لا يتعقب عليه بمثل هذا لأن طريقة أصحاب مالك طريقه مالك حسبما قدمنا ذلك عند قول الشيخ على مذهب مالك بن أنس رحمه الله وطريقته والمشهور اشتراط الحرية قال ابن زرقون وحكى القاضي عبدالوهاب في شرح الرسالة عن بعض متأخري أصحابنا أن شهادة العبيد منهم جائزة.

قلت: ولم يحفظه ابن رشد بل قال: لا أعلم في ذلك خلافا ولا بد أن يكون ممن يحكم لهم بالاسلام وممن يعقل الشهادة واعتبر ابن القاسم كونهم اثنين فصاعدا، وفي كتاب ابن مزين عن ابن نافع يقسم بشهادة الصبي الواحد وألزمه ابن هارون أن يحلف مع شهادته في الجراح، وتكون فيه الدية ومنع أشهب ومالك من المدونة شهادة إناثهم.

وقال ابن عبد السلام: في قول ابن الحاجب الإناث مطلقا، وفي المجموعة عن مالك تجوز شهادة غلام وجاريتين خاصة، وفي المدونة على المخزومي تجوز شهادة إناثهم.

وقال ابن عبد السلام: في قول ابن الحاجب، وفي اشتراط الذكورية قولان اضطرب المذهب في ذلك، وكذلك اختلف قوله المدونة في ذلك فظاهره أن قول مالك وابن القاسم اختلف فيها وليس كذلك.

ويقوم من كلام الشيخ أن شهادة النساء في الولائم، والأعراس مقبولة، وهو أحد قولي ابن الجلاب فذكر أولا عدم الجواز واعترض أصحابنا قبولهم قال: واعتبرها بشهادة الصبيان وذكرهما المازري روايتين.

فإن قلت: ما ذكرته يرد بقول سحنون لما قال له ولده يلزمك في غصب بعضهم من بعض في المال هذا موضع اتباع الماضيين ولا وجه للقياس فيما هو سنة أو كالسنة وقد فرقت الأئمة بين الدماء والأموال فقبلوا في الدماء ما لم يقبلوا في الأموال.

(2/369)

________________________________________

قلت: ما ذكره سحنون من أنه سنة أو كالسنة ممنوع بخلاف كثير من أهل العلم ممن ذكرنا من أهل المذهب وبه قال القاسم وسالم بن عبد الله من أهل المدينة، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما وبقول القاسم وسالم بن عبد الله ضعف ابن عبد السلام قول ابن الحاجب، وعلى العمل بشهادتهم إجماع أهل المدينة ثم إن كلام سحنون إنما فرق الدماء والأموال مسألتنا من الأول.

(وإذا اختلف المتبايعان استحلف البائع ثم يأخذ المبتاع أو يحلف ويبرأ):

يعني إذا باع رجل سلعة لرجل فيقول البائع بعتها بدينار مثلا ويقول المشتري بل بنصف دينار فإنه يحلف البائع أولا لقد بعتها بدينار ثم يقال للمشتري: اختر إما أن تدفع ما حلف عليه، وإلا فاحلف ويتفاسخا.

وظاهر كلامه ولو قبض المشتري السلعة وفاتت وإلى هذا ذهب أشهب في روايته قال: والقيمة تتنزل في الفوات منزلتها.

قال ابن بشير: وبه كان يتفي من أدركناه من محققي الأشياخ يريد كالمازري، وقيل: القول قول المشتري بنفس العقد عزاه بعض الشيوخ لكتاب ابن حبيب قال ابن بشير: ولم يوجد فيه وقيل: لا يكون القول قوله إلا إذا قبض السلعة وقيل: إذا بان بها وكلاهما رواه ابن وهب، وقيل: إذا قبضها المشتري وقبض البائع الثمن فالقول قول المشتري وإلا فلا حكاه الباجي وقيل يتحالفان ما لم تفت في يد المشتري بتغير سوق فأعلى فالقول قوله، رواه ابن القاسم عن مالك في المدونة قائلا: وثبت عليه، فالحاصل ستة أقوال.

وما ذكر الشيخ من أن المبدئ باليمين إنما هو البائع هو المشهور، وهو نص المدونة في كتاب الأكرية وقيل: بل يبدأ المبتاع قاله في العتبية وأخذه المازري من قول المدونة من تضمين الصناع إذا تجاهل الورثة الثمن يبدأ بوراث المبتاع أنهم لا يعلمون بما ابتاعها به أبوهم ثم ترد فإن فاتت لزمت ورثة المبتاع بقيمتها.

ولم يذكر ابن عبد السلام هذا الأخذ بل سأل نفسه هل يؤخذ منها أم لا؟ فقال: لا لأن الجهل عندهم يتنزل منزلة الفوات، وسلمه خليل رحمه الله ورده بعض شيوخنا بأنه لو كان كما قال للزم عدم ردها كفواتها، وقيل: يقرع بينهما قاله اللخمي، وقيل: يخير الحاكم قاله بعض شيوخنا المازري، ويحتمل أن يريد الشيخ بقوله إذا اختلف المتبايعان اختلافهما في جنس الثمن وقطع شيخنا أبو مهدي بأن هذا مراد الشيخ لكونه لم يقيد التخالف بعد الفوات فحمله على الأول يؤدي إلى حمله على غير

(2/370)

________________________________________

المشهور وحمله على الثاني جار على المذهب، وإن وقع الفوات فإذا دار الأمر بين حمله على الأول والثاني فحمله على الثاني أولى لما ذكرت.

قلت: وقطع الفاكهاني بحمل كلامه على الأول من غير احتمال عكس ما قاله شيخنا وزعم ابن الحاجب الاتفاق على التحالف في اختلافهما في الجنس كابن حارث وخرج عبد الحميد الصائغ قولا بأن يكون القول قول البائع من قول المدونة في تضمين الصناع فيمن صبغ ثوبا أسود فادعى ربه أنه إنما أمره بأحمر أن القول قول الصباغ مع اختلافهما في الجنس؛ لأن الصباغ يدعي أنه باعه نيلا ورب الثوب يدعي أنه اشترى عصفرا.

وفرق المازري بأن صاحب الثوب ما دفع إليه ثوبه فكأنه ائتمنه عليه، وبأن صاحب الثوب يدعي على الصباغ تعديا يوجب عليه تعمير ذمته بقيمة الثوب.

وقال ابن عبدالسلام في رد المازري: عندي نظر تركت جلب ذلك استغناء بما ذكره بعض الشيوخ يعني به: ابن زرقون عن ابن القاسم في الكراء إن القول قول الساكن إن أشبه.

قلت: ظاهره أن القول المخرج قول ابن القاسم وليس كذلك بل القول المخرج هو أن القول قول البائع وقول ابن القاسم في الساكن يوجب أن القول قول المشتري فهي ثلاثة أقوال.

(وإذا اختلف المتداعيان في شيء بأيديهما حلفا وقسم بينهما وإن أقاما بينتين قضى بأعدلهما فإن استويا حلفا وكان بينهما):

ما ذكر أنه يقسم بينهما هو كذلك باتفاق وذلك أن كلا منهما له شبهة لحوزه فجعله بينهما عدل وما ذكر من أنه يقضي بأعدل البينتين هو المشهور وروي عن مالك أنه لا يرجح بها.

وقال ابن عبد السلام: وهذه الرواية إما أن تكون مبنية على القول بنفي الترجيح في الأدلة وإما أن تكون لا ترجح بذلك ويكون الترجيح بغير ذلك، وهو الأقرب.

قلت: قال بعض شيوخنا ولا أعرف هذه الرواية لنقل غيره ولم يعزه ابن رشد إلا للمخزومي وبعض أهل العلم وعزاه ابن حبيب لبعض علمائنا والمشهور لا يرجح بكثرة العدد وهو قول المدونة.

وروى ابن حبيب أنه يرجح بذلك وجمع بعض الشيوخ بين المسألتين وذكر فيها ثلاثة أقوال: ثالثها: يرجح العدالة دون زيادة كثرة العدد، قال القرافي في توجيه

(2/371)

________________________________________

المشهور والمقصود من علم القضاء إنما هو قطع النزاع والعدالة أقوى من زيادة العدد؛ لأن كل واحد يمكنه زيادة العدد في الشهود ولا يمكنه ذلك في مزيد العدالة.

ورده ابن عبد السلام بأن من رجح بزيادة العدد لم يقل به كيف ما اتفق وإنما اعتبر مع قيد العدالة فليس بسهل حينئذ.

ووجهه المازري بأن الشارع لما قيد شهادة الزنا بأربعة والطلاق باثنين وقيد في المال بالواحد مع اليمين دل على أنه لا تأثير للعدد.

واختلف قول ابن القاسم هل يترجح الشاهدان على الشهاد واليمين والشاهد والمرأتين أم لا؟

قال ابن عبدالسلام: فإن قلت: هب أن رجحان الشاهدين على الشاهد واليمين ظاهر للاختلاف في قبول الشاهد واليمين فما السبب في رجحانهما على الشاهد والمرأتين.

قلت: لما نبه عليه بقوله تعالى (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) [البقرة: 282]

من زيادة مزية الرجلين على الرجل والمرأتين.

(وإذا رجع الشاهد بعد الحكم أغرم ما أتلف بشهادته إن اعترف أنه شهد بزور قاله أصحاب مالك):

ظاهر كلامه يقتضي أن جميع أصحاب مالك فرقوا بين أن يعترف أنه شهد يزور أم لا فإن شهد به غرم، وإن قال شبه علي فإنه لا يغرم وتبع في هذا النقل ابن المواز وليس كذلك بل قال ابن القاسم ومطرف وأصبغ في الواضحة: إنه يغرم مطلقا، وهو ظاهر كتاب السرقة من المدونة قال فيها: إن رجعا عن عتق أو طلاق أو دين أو قصاص أو حد أو غير ذلك فإنهما يضمنان، وهذا القول كذا عزاه ابن رشد وهو الصواب عندي لقول أصحابنا العمد والخطأ في أموال المسلمين سواء وكذلك قال في أحكام الشعبي من أفتى بغرم ما لا يجب فقضى به غرمه قاله أصبغ بن خليل، ولم يرتض بعض شيوخنا ما قلناه فقال: الخطأ كالعمد في الأموال باتفاق المذهب ولذلك رجع غير واحد القول الثاني فما وجه القول الأول؟

قلت: إنما وقع الاتفاق على أن الخطأ كالعمد في فعل غير المأذون له في الفعل، وأما المأذون له في الفعل فليس كذلك كالراعي بضرب الشاة ضرب مثلها فتهلك فلا يضمن والوكيل على شراء عبد يشتري أبا الموكل خطأ فإن لا ضمان عليه، والشاهد لما كان مطلوبا بالشهادة صار كالمأذون له في الفعل منضما إلى أن الأصل عدم التفريط

(2/372)

________________________________________

وعدم الضمان.

وفيما قاله شيخنا نظر؛ لأن هذا الفرق لو صح لا طرد وبيان عدم اطراده ما ذكرناه عن أحكام الشعبي بأن المفتي مأذون له بل هو مأمور بذلك ولا سيما إن لم يكن في ذلك الإقليم غيره.

وقد قال رحمه الله: ما تقدم من ضمانه لم يحك غير ذلك في كتاب الغصب من تأليفه، ولو رجع الشاهد بعد الحكم وقبل الاستيفاء فإن كان مالا نفذ، وإن كان دما ففيه خلاف، وإن كان قبل القضاء فلا ينفذ خلافا لأبي ثور.

قال في المدونة في كتاب السرقة: لو أدب لكان لذلك أهلا، وقال سحنون: لا يؤدب كالمرتد.

(ومن قال رددت إليك ما وكلتني عليه أو على بيعه أو دفعت إليك ثمنه أو وديعتك أو قراضك فالقول قوله):

ما ذكر من أن الوكيل على البيع إذا قال دفعت إليك ثمنه إن القول قوله هو كذلك وكلامه رحمه الله تعالى أعم من أن تلزمه اليمين أم لا.

واختلف في المسألة على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في المقدمات في كتاب الوديعة فقيل: يحلف وهو سماع ابن القاسم في المدونة في الوكالات وقيل: إن كان بمقدار الأيام اليسيرة فالقول قول الموكل أنه ما قبض شيئا وعلى الوكيل إقامة البينة ويصدق الوكيل إن كان بعد شهر ونحوه مع يمينه وإن طال جدا لم يحلف رواه مطرف.

وقيل: إن كان كيسير الأيام حلف وإن طال فلا قاله ابن عبد الحكم وابن الماجشون.

وقيل: الوكيل على معين غارم مطلقا والمفوض إليه يحلف بالقرب خاصة قاله أصبغ.

قلت: الذي عزا بعض شيوخنا للفظ المدونة إنه مصدق وكذلك اختصرها البراذعي والذي تلقيانه من شيوخنا بأجمعهم أنه إذا قال في الكتاب: مصدق فإنه لا يحلف بخلاف إذا قال قبل قوله فإنه لا بد من اليمين وعزا ابن يونس الأول لابن القاسم وابن الماجشونن وابن عبد الحكم وعزا القول الثاني لقول مطرف لا لروايته ولقول ابن القاسم في العتبية.

ويريد الشيخ في مسألة الوديعة إذا قبضها بغير بينة ولو قبضها ببينة فلا يقبل قوله

(2/373)

________________________________________

قاله في المدونة وقيل: يقبل قوله مطلقا حكاه ابن شاس عن ابن القاسم قاله ابن عبد السلام وهو قول شاذ على نظر في صحة نسبته إلى المذهب يريد أن ابن رشد إنما خرجه من دعوى المستأجر رد ما استأجره من العروض أنه مصدق ولو قبضه ببينة رواه أصبغ وضعفه بفرق ذكره والمراد بالبينة إذا كانت مقصودة التوثق، وأما إن كانت اتفاقا فلا، قاله غير واحد كعبد الحق، واللخمي وابن يونس.

وقيل: لا يشترط فيها أن تكون مقصودة التوثق حكاه ابن عات عن ابن زرب حسبما قدمناه.

(ومن قال دفعت إلى فلان كما أمرتني فأنكر فلان على الدافع البينة وإلا ضمن):

إنما قال يضمن؛ لأنه دفع إلى غير اليد التي دفعت إليه فوجب أن يضمن وهذا هو مشهور المذهب ونقل ابن رشد في المقدمات عن ابن الماجشون فيمن بعث بضاعة من رجل لرجل أنه لا يلزمه إشهاد في دفعها ويصدق، وإن أنكر القابض كانت دينا أو صلة.

قال: ويتخرج من قول ابن القاسم في المدونة أن من أمر غيره أن يشتري لؤلؤا من بلد وينقد عنه فزعم أنه ابتاعه ونقد ثمنه ثم تلف حلف على ذلك ورجع عليه بالثمن لأنه أمينه ومن سماع عسى فيمن اشترى ثوبا من ثوبين على أن أحدهما قد وجب عليه بخياره فيضيع أحدهما فيدع أنه كان اختار هذا الباقي أنه مصدق والمسائل أربع دافع أمانة لأمانة، وذمة لذمة ودافع ما في أمانة لذمة، وعكسه ولولا الإطالة لذكرنا جميع ذلك فانظر المقدمات.

(وكذلك على ولي الأيتام البينة أنه أنفق عليهم أو دفع إليهم):

ظاهر كلامه وإن قاموا عليه بعد طول من ترشيدهم وهو ظاهر المذهب لقوله تعالى: (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) [النساء: 6]

الآية، قال مالك: لئلا تضمنوا، وقال ابن الماجشون: لئلا تحلفوا كذا نقله المغربي عنه نصا، وخرجه اللخمي وتبعه خليل، وكأنه من عند نفسه من قوله السابق فيمن بعث بضاعة مع رجل أنه لا يلزمه الإشهاد في دفعها وإن أنكر القابض.

وفي الموازنة: إن طال الزمان كعشرين سنة مقيمين معه لا يبطلونه فالقول قوله مع يمنه.

قال ابن يونس: لأن العرف قبض أموالهم فإذا رشدوا كالبياعات بغير كتب وثيقة إذا مضى من الزمان ما يظن معه عدم تأخير قبض الثمن إليه فالقول قول المشتري وجعل القاضي أبو بكر بن زرب أن مقدار ثمانية أعوام كاف.

(2/374)

________________________________________

وقيل: إن الطول يرجع فيه إلى العرف قاله ابن رشد فالحاصل خمسة أقوال، وجعل خليل المشهور مقيد بعدم الطول وليس على عمومه.

وقال بعض شيوخنا: المعروف من المذهب عدم قبوله مطلقا، وهو مذهب المدونة في وصاياها وفي تضمين الصناع نص شيخنا على ما ذكر في آخر مسألة من الوصايا من تأليفه وما نسبه للمدونة إنما هو ظاهرها وليس ذلك بنص فيها.

وما ذكر الشيخ أنه لا يقبل قوله مقدار النفقة إذا لم يكونوا في حضانته هو المشهور مطلقا.

وقال اللخمي: إن كانت الأم فقيرة وهي حاضنتهم وهي في عافية يصدق الوصي للقرينة.

وفي ترجمة دفع الوصي النفقة إلى الحاضنة في الربع الأخر من الطرر لابن عات ما نصه قاله الأبهري: الوصي مصدق فيما دفع من النفقة؛ لأنه لو كلف البينة لشق ذلك عليه إذا كان يحتاج على أن يشهدهم على درهم ودانق وحبة وهذا من الأمر الموضوع عن الناس، ولذا قال مالك: إن اللقطة لمن جاء بعلامتها، وقوله صلى الله عليه وسلم "البينة على المدعى واليمين على من أنكر" إنما ذلك إذا ادعى شيئا في يد غيره.

وقال أحمد بن ناصر: قوله مقبول فيما دفع من النفقة إذا أشبه نفقة الأيتام في حضانته كانوا أو عند حاضنتهم من غير بينة عن الحاضن لهم أو عليهم أنفسهم البينة أنه لم ينفق، وإلا فالقول قوله من غير يمين تلزمه في دعوى الأيتام وللحاضن اليمين عليه بدعواه.

(وإن كانوا في حضانته صدق في النفقة فيما يشبه):

يريد الشيخ بقوله صدق مع يمينه لنص مالك وابن القاسم وأشهب قال عياض: وهو مالا يختلف فيه لأن ما يشبه قد يكون وقد لا يكون واختلف إذا أراد أن يحسب أقل ما يمكن ويسقط الزائد فقال أبو عمران: لا يمين عليه، وقال عياض: تلزمه إذ قد يكون أقل منه لاحتمال استغناء اليتيم عن تلك النفقة التي لا شك فيها أياما مفترقة أو متوالية لمرض أو صلة من أحد وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم في الموازنة من قوله: ويحلف ما لم يأت بأمر مستنكر وإذا زاد على مقدار العادة زيادة يسيرة صدق مع يمينه رواه ابن المواز، وقال ابن القاسم حكاه ابن يونس في سماع أشهب وربما قال: وله أن يشتري ما يلهو به.

وفي المجموعة لابن كنانة: وينفق في عرسه بقدر حاله وحال من تزوج وقدر ماله

(2/375)

________________________________________

فإن خشى أن يتهم رفع إلى الإمام.

(والصلح جائز إلا ما جر إلى حرام):

قال عياض: الصلح معاوضة عن دعوى واعترضه بعض شيوخنا بأنه غير جامع؛ لأنه يخرج عنه صلح الإقرار قال: وقول ابن شاس، وابن الحاجب، الصلح معاوضة كالبيع وإبراء وإسقاط تقسيم وتفسير له لا تعريف قال والصلح انتقاله عن حق أو دعوى بعوض لرفع نزاع أو لخوف وقوعه وهو مندوب إليه ويعرض له الوجوب حيث تتعين مصلحته وحرمته وكراهته لاستلزامه مفسدة واجبة المدار وأرجحيته ومعنى قول الشيخ: إلا ما جر إلى حرام كالصلح على دعوى عشرة دنانير أقر بخمسة منها فقط على دراهم مؤجلة ولا خلاف في تحريم هذه الصورة؛ لأنه حرام في حق كل واحد منهما وأما ما حرم في حق أحدهما فقط كصلحه عن عشرة دنانير أنكرها بدراهم مؤجلة فالمشهور أنه يفسخ.

وقال أصبغ: يمضي وأماما ظاهره الفساد وهو غير محقق ككونه في جهة معينة كدعوى كل واحد منهما على صاحبه دنانير أو دراهم فيصطلحان على تأخير كل واحد منهما صاحبه لأجل فإنه مكروه فإن وقع مضى. وقال ابن الماجشون: يفسخ ما لم يطل.

(ويجوز على الإقرار والإنكار):

أما الصلح على الإقرار فبالاتفاق وأما الإنكار فالمشهور كذلك وقيل: إنه لا يجوز حكاه عياض عن ابن الجهم عن بعض أصحابه وأخذه شيخنا من قول سحنون إلا طلب السلابة شيئا خفيفا لم يجز أن يعطوه قال: والتخريج أحروي؛ لأن العادة في المحارب القتال المعروض للقتل وهو أشد من عداء الخصومة المعروضة للحلف ويرد بأن القافلة قد يتحقق أنها تغلب السلابة لكثرة عدد القافلة أو لشجاعتهم فيحرم عليهم إعطاء مال وإن قل؛ لأن فيه الإعانة على المعصية؛ لأنهم إذا وجدوا من يقدر عليه أخذوه أو قتلوه فيكون عليهم بعض إثم من ذلك لأنهم إذن غير مضطرين إلى الدفع من مالهم وقد ينكره خصمه ولا تكون عنده بينة وهومضطر إلى الصلح.

وأيضا فإن اللص معترف بأنه ظالم في أخذ المال والمنكر في الصلح يزعم أن ما يؤخذ منه فهو مظلوم فيه فافترقا والله أعلم.

وعلى المشهور أن الصلح على الإنكار جائز قال بعض شيوخنا: إنما ذلك باعتبار عقده، وأما ما في باطن الأمر فإن كان الصدق هو المنكر فالمأخوذ منه حرام

(2/376)

________________________________________

وإلا فحلال فإن وفى بالحق برئ وإلا فهو غاضب فيما بقي والصلح مع السكوت كالإقرار قاله عياض، ولم يحك فيه خلافا.

قال الفاكهاني: هو كالإقرار على المشهور ولم يحك خلافا في الإنكار كالمازري وابن القصار وغيرهما وما ذكر من الخلاف لا أعرفه لكنه جار على قواعد المذهب في السكوت هل هو كالإقرار أم لا؟

والمعروف أن الافتداء من اليمين جائز، قال في المدونة في كتاب الأيمان والنذور: من لزمته يمين فافتدى منها بمال جاز ذلك، وقال ابن هشام: إن علم المدعى عليه براءته وطلبت منه اليمين فليحلف ولا يصالح على شيء من ماله وإن صالح أثم من أربعة أوجه: الأول: أنه أذل نفسه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أذل الله من أذل نفسه".

والثاني: أنه أطعمه ما لا يحل.

والثالث: أنه أضاع ماله وقد نهى عليه السلام عن ذلك.

والرابع: جرأه على غيره كما جرأه على نفسه.

وقبله خليل ورده شيخنا أبو مهدي نقلا ومعنى.

أما نقلا فلأن عثمان صالح عن يمينه، وأبا بكر وعمر حلفا فالأمران جائزان.

وأما معنى فلأن ما استدل به لا ينهض؛ لأن في صلحه إحرار نفسه لأن الخصومات مرجوحة ولاسيما كثرتها ولم يضيع ماله بل ادخره عنده وكونه أطعمه مالا حراما أو جرأه على الغير ليس باختياره وإنما هو مضطر لذلك وظلم هو نفسه قال الله تعالى: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق) [الشورى: 42].

(والأمة الغارة تتزوج على أنها حرة فلسيدها أخذها وأخذ قيمة الولد يوم الحكم له):

ما ذكر الشيخ من أن للسيد أخذ الأمة فهو كذلك على المشهور.

وروي عن مالك وفي الجلاب رواية أخرى يأخذ قيمتها ولا شيء له في الولد، وما ذكر من أن له أخذ قيمة الولد هو كذلك بلا خلاف.

قال ابن رشد: القياس أن الولد رق لمالك أمه لإجماعهم على أن ولد الأمة من

(2/377)

________________________________________

غير سيدها ملك له، وترك هذا القياس لإجماع الصحابة على حرمته خلافا لأبي ثور وداود في قولهما: إنه رقيق.

قلت: قال بعض شيوخنا: إن ثبت إجماع الصحابة رضوان الله عليهم فقول أبي ثور وداود باطل؛ لأن خلاف إجماع تقرر، وهذا الذي ذكرنا هو الذي أعرفه في المذهب.

وقول الفاكهاني قيل: يدخلها الأقوال الثلاثة الآتية في الأمة المستحقة لا أعرفه وظاهر كلام الشيخ أن الولد حر ولو كان الزوج عبدا وهو كذلك في قول حكاه ابن شاس ومذهب المدونة أنه رقيق قائلا: إذ لا بد من رقه مع أحد أبويه.

وقال التونسي: كان يجب حرية ولده لشرط ذلك وما الفرق بينه وبين الحر والفرق لعجزه عن غرم قيمته يبطل بالحر العديم وتوقع اليسر كتوقع العتق والفرق بأن لربه إبطاله من ذمته غير بين.

قلت: واعترضه بعض شيوخنا بأن الحر العديم إنما يطلب يسره فقط وفي العبد يطلب عتقه ويسره والموقوف على أمر أقر من الموقوف على أمرين وما ذكر من أن القيمة يوم الحكم هو المشهور.

وقال المغيرة: يوم الولادة وبه قال أشهب، وقيل: يوم القيامة ذكره ابن بشير تخريجا من المستحقة بملك وكذلك القول بيوم الحكم قال: والمنصوص يوم الولادة واشتد نكير شيخنا أبي مهدي عليه فقال: هذا منه رحمه الله قصور لنص المدونة في النكاح الأول أن قيمته يوم الحكم.

قلت: وقول ابن الحاجب وانفرد المغيرة بيوم الولادة قصور أيضا إذ هو قول أشهب ذكره ابن رشد عنهما في أول مسألة من رسم الكراء من سماع أصبغ من كتاب النكاح.

واختلف هل يقوم بماله فذكر عن مالك أنه يقوم بماله وقيل: بدونه قاله غير واحد.

وأخذه المازري وعياض من قول المدونة إذا كان الأب عديما أنها تؤخذ من الولد؛ لأنه لا يستحيل أن يكون في ماله خاصة مقدار قيمة نفسه مع ماله وإلا لزم أن يكون الجزء مساويا للكل.

قلت: ورده بعض شيوخنا باحتمال أن يكون طرأ له مال بعد العتق وقبل الدفع أو قوماه تقويما إجماليا على أن له مالا؛ لأن مال العبد تبع له فلا تشترط معرفته حقيقة،

(2/378)

________________________________________

ونقلت هذين الوجهين من درس شيخنا أبي مهدي رحمه الله تعالى فاعترض الوجه الثاني بأن تقويمه على طريق الإجمال دون بيان جهل ويفسخ إن وقع إذ فيه الضرر على المستحق وأجبته بأن أصول المذهب تدل على ما قال، وذلك أن العبد إذا كان بيده مال عين يصح أن يشتري بها ولولا أنه تبع لما جاز.

وقد قال في كتاب الخيار في المدونة ولو تلف مال العبد في عهدة الثلاث، وقد بيع به لم يكن للمبتاع رد العبد فلم يقبله واشتهر الخلاف في مقدار صداقها هل هو صداق المثل أو المسمى أو الأكثر منها أو الأقل منهما أو ربع دينار خاصة قاله ابن أبي حازم.

(ومن استحق أمة قد ولدت قيمتها وقيمة الولد يوم الحكم وقيل: يأخذها وقيمة الولد وقيل: له قيمتها فقط إلا أن يختار الثمن فيأخذ من الغاصب الذي باعها، ولو كانت بيد غاصب فعليه الحد وولده رقيق معها لربها):

اعلم ان هذه المسألة إحدى المسائل التي ذكر في الرسالة أن فيها ثلاثة أقوال وثانيتها: من ترك الفاتحة من ركعة وثالثتها: هل يتيمم لكل صلاة أم لا؟ رابعها: في تغليظ الدية على الأب إذا ضرب ابنه بحديدة وخامستها: في كفن الزوجة هل هو على الزوجة أم لا؟ وسادستها: في تقديم الظهر وتأخيرها والقول الأول قاله مالك وبه أخذ المصريون من أصحابه مع مطرف قاله ابن حبيب في واضحته.

والقول الثاني أيضا قاله مالك من رواية ابن القاسم في الموازية قال أشهب: وعليه جماعة الناس وهو قول علي رضي الله عنه قاله في المجموعة والقول الثالث قاله ابن دينار وابن الماجشون وابن كنانة وابن أبي حازم وعبد العزيز وغيرهم قاله اللخمي، والمازري، وبه أفتى مالك لما استحقت أم ولده إبراهيم وقال عياض: في الغصب لما استحقت أم ولده محمد ومثله لابن رشد.

قال خليل: والصواب قول ابن القاسم في كتاب القسم من المدونة بعد أن ذكر القولين الأولين عن مالك ولو رضي المستحق بأخذ قيمتها وقيمة ولدها لم يكن للذي أولدها أن يأبى ذلك ويجبر حينئذ في قولي مالك جميعا على غرم قيمتها وقيمة ولدها يوم الاستحقاق.

وقال المازري: أشار أشهب إلى بقاء قول مالك مع رضا المستحق بأخذ القيمة ولو لم تحمل لكان له أخذها وليس له ما نقصها بسبب الوطء قاله مالك في المدونة خلافا لسحنون في قوله له ما نقصها الوطء محتجا باستحقاق الثوب بعد لبسه وإذا رد

(2/379)

________________________________________

الأمة فإنه يرد النقص وجواب ذلك معلوم ومحله المدونة وفي المدونة: من ابتاع أمة فوطئها وهي بكر أو ثيب ثم استحقت بحرية فلا شيء عليه لوطئه لا صداق ولا ما نقصها. وقال المغيرة: لها صداق مثلها قال اللخمي وهو أبين.

وعزا ابن عبد السلام القولين للمدونة اعترضه بعض شيوخنا بأن قول المغيرة ليس فيها وأقام ابن سهل من قولها أن من ورث شيئا واغتله ثم استحق بحبس أنه لا يرد شيئا وبمثل هذه الإقامة.

قال ابن القاسم في العتبية: لأن المستحق منخ كان ضامنا للثمن الذي دفع عند عدم البائع.

وقيل: إنه يرد الغلة؛ لأن ما اشتراه لو تلف رجع بالثمن وهو ظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة؛ لأنه على الغلة بالضمان وبالأول جرى العمل.

(ومستحق الأرض بعد أن عمرت يدفع قيمة العمارة قائمة فإن أبى دفع إليه المشتري قيمة البقعة براحا وإن أبيا كانا شريكين بقيمة ما لكل واحد):

ما ذكر أنه يرجع على المستحق بقيمة العمارة هو قول ابن نافع ولا يتلفت إلى ما أنفق سواء كان البناء قليلا أو كثيرا جيدا أو رديئا، وقيل: يرجع بما أنفق فيهما فيما عمل من عمل البناء فأما بنيان الأمراء فلا أدري ما هو قاله مالك.

قال ابن رشد: تضعيفه أن يكون له رجوع فيما بنى من بنيان الأمراء صحيح؛ لأنه أتلف ماله فيما لا يسوغ له من السرف المنهي عنه.

وفي كون المعتبر من القيمة يوم بنائه، وهو الأقرب أو يوم الحكم قولان، وما ذكر الشيخ من أنهما إذا أبيا كانا شريكين هو المشهور، وروي عن مالك إن أبى المستحق من دفع قيمة العمارة جبر الباني والغرس على دفع قيمة الأرض؛ لأنه قد فوتها به حكاه المازري قال أبو محمد صالح: ولو استحقت هذه الأرض بعد أن عمرت فإنها حبس على المساكين فإنه يأخذ قيمة بنائه وشجره مقلوعا كما يفعل بالغاصب؛ لأنه يقال له: اقلع متاعك وليس للمساكين مال يعطونه لك وتأخذ قيمته قائما، ولا يجري بينكما من التخيير ما جرى فيمن استحق أرضا بعد أن عمرت لأنا إنا أجريناه بينكما أدى ذلك إلى بيع الحبس وما ذكره قبله غير واحد كالفاكهاني.

(والغاصب يؤمر بقلع بنائه وشجره وزرعه، وإن شاء أعطاه ربها قيمة ذلك النقض والشجر ملقى بعد قيمة أجر من يقلع ذلك):

قد تقدم حد ابن الحاجب للغصب حيث ترجم عليه الشيخ، وما ذكر من أن

(2/380)

________________________________________

الغاصب إنما يعطي قيمته منقوضا هو كذلك باتفاق إذ لا شبهة له وعكسه المشتري وهو إذا استحق من يده ربع بعد أن بنى فيه له قيمته قائما اتفاقا؛ لأنه دخل على التأبيد بوجه جائز.

واختلف في المكتري والمستعير ومن بنى في أرض زوجته فألحقهم ابن القاسم بالغصب وألحقهم ابن الماجشون ومطرف وابن حبيب بالمشتري ونص في المدونة على أن المشتري إذا أخذ بالشفعة من يده فإنه يأخذه قيمة ما بنى قائما فأخذ بعض شيوخنا بعمومه، وأفتى به، وكذلك شيخنا أبو مهدي وأكثر فتواه على حملها إذا لم يعلم المشتري بالشفيع فأما إن علم فله قيمته منقوضا.

وما ذكر الشيخ من إسقاط مقدار القلع من القيمة مثله لابن المواز وابن شعبان وقيده ابن رشد بما إذا كان الغاصب ممن لا يتولى ذلك بنفسه ولا بعبده وقيل: إنه لا يحط منه أجر القلع وتؤول على المدونة وإليه ذهب ابن دحون واعتل بذلك بأن الغاصب لو هدمه لم يكن للمغصوب منه أن يأخذه بالقيمة بعد هدمه وكذلك أنكر ابن سهل كلام ابن المواز وأعتقد أن قيمة البناء مقلوعا تستلزم طرح أجرة القلع فلا ينبغي أن يسقط مرة أخرى.

قال خليل: وليس بالبين فإن تقويم البناء مقلوعا أعم من كل واحد من وجهين طرح أجرة القعل وعدم طرحه والأعم لا يستلزم الأخص.

قال ابن الجلاب: ومن غصب أرضا وزرعه ثم أدركها ربها في إبان الزراعة كان بالخيار بين ترك الزرع فيها وأخذ كراء مثله من غاصبها وبين قلع الزرع منها.

وأما إن أدركها وقد فات وقت إبان زراعتها ففيها روايتان أحدهما كما ذكرناه آنفا والرواية الأخرى أنه ليس له قلع الزرع منها وله أجرة مثلها.

قال المغربي في كتاب كراء الدور والأرضين انظر قول الشيخ في الرسالة والغاصب يؤمر بقلع بنائه وسكت عن الزرع فاختلف الشيوخ ولم يسكت هل لقلعه على القول بالقلع أو للتفصيل فيه بين قبل الإبان وبعده وهل فيه نفع لزارع أم لا؟ وهو إنما قصد الاختصار أو لأنه لم يبينه في المدونة فأعرض عنه الشيخ وهذا التأويل الأخير بعيد والأول أولى.

(ولا شيء عليه فيما لا قيمة له بعد القلع والهدم):

مثل هذا في المدونة قال فيها: وكل ما لا منفعة فيه للغصب بعد قلعه كالجص والنقش فلا شيء له فيه يريد وإذا أزاله فإنه يغرم قيمته.

وقال غير واحد ممن لقيناهم: وهو جلي واضح، قال المغربي: وأقاموا منها أن من استحق أرضا بعد أن زرعها للغاصب ولا منفعة له في الزرع أنه لربها فلا شيء عليه.

قلت ونقله الفاكهاني نصا عن ابن القاسم في المدونة بأثر ما ذكرناه وكذلك ما حفره من بئر أو مطمرة فلا شيء له في ذلك وقيدها غير واحد من الشيوخ بما إذا لم يطوها بالأجر، وأما لو طواها به لكانت كالبناء.

وقال سحنون في كتاب ابنه متمما للمدونة ولرب الأرض أن يكلفه بردها.

(ويرد الغاصب الغلة ولا يردها غير الغاصب والول في الحيوان وفي الأمة إذا كانت الولد من غير السيد يأخذه المستحق للأمهات من يد مبتاع أو غيره):

قد تقدم ما في غلة الغاصب من الخلاف وإنما كان غير الغاصب لا يرد الغلة؛ لأنه إنما وضع يده بوجه شبهة.

(ومن غصب أمة ثم وطئها فولده رقيق وعليه الحد):

قال الفاكهاني: وهذه المسألة ثابتة في روايتنا وهي ساقطة من بعض النسخ.

قلت: وإنما كان ولده رقيقا؛ لأنه لا شبهة له، ولذا يحد وهذا إذا قامت البينة أو

(2/381)

________________________________________

كان إقرار بغصبها قبل الوطء وأما إن لم يكن إلا مجرد إقراره الآن بأن وطئ عالما فإنه يحد لأجل إقراره على نفسه بالزنا ويلحق به الولد لحق الله تعالى وحق الولد في ثبوت النسب، وهي إحدى المسائل التي يجتمع فيها الحد، وثبوت النسب وإليه النظر في نظائرها والقانون المذكور فيها.

قال ابن رشد: ويجب على الغاصب رد المغصوب بعينه إن كان قائما وإلا فمثله إن كان مثليا وظاهره ولو كان عينا، وفي الجلاب ولو امتنع غاصب عين من ردها وأراد أن يرد مثلها فقال ابن القاسم: يجبر ربها على ذلك وقال الأبهري: لا يجبر لخبث كسب الغاصب، وقيل: وقول ابن القاسم إنما أخذه له من البيع.

قلت: وقول الأبهري هو الصواب وأقام بعض شيوخنا من قول ابن القاسم: لو خلط زيتا بمثله وأراد أن يدفع مثله من غير أن ذلك له وعزاه المازري للشافعي ونقل رحمه الله عن أشهب أن لربه الأخذ منه وإن كره الغاصب ومن غصب غزلا ونسجه فإنه تلزمه القيمة.

وقيل: المثل والأول لابن القاسم والثاني لغيره وهما في أول المسألة من تضمين الصناع من المدونة والمراد بالغير أشهب إذ هو معزوله في الموازنة نقله الباجي إلا أنه لما ذكر القولين وعزاهما لابن القاسم، وأشهب، أخبر أن عزوه لهما نقله من الموازية وهو قصور إذ هما في المدونة كما سبق وتقدم اختلاف المذهب إذ مر على المغصوب وقت قيمته أرفع هل يلزم ذلك أم لا؟ واحتج عبد الملك بن الماجشون بقوله بأرفع القيم بأن على الغاصب أن يرد ما غصب في كل وقت فالوقت الذي كانت فيه أرفع القيم بقدر كأنه غصبه حينئذ وقبله غير واحد كاللخمي ويرد بأن لابن القاسم أن يمنع أن الدوام كالإنشاء، وأجرى اللخمي على القول بأرفع القيم إذ غصبه طعاما في شدة ثم قدر عليه في زمان الرخاء أنه يلزمه مقدار قيمته في زمان الغلاء؛ لأنه عطل عليه أسواقه، وفي العتبية عن مالك فيمن انتهب صرة وناس ينظرون إليه فطرحها في متلفة وادعى كذا وأكذبه ربها أن القول قول الغاصب وإن لم يفتحها.

وقال ابن كنانة وغيره: إن القول قول ربها إذا أشبه، ونص في المدونة والعتبية على وجوب اليمين على الغاصب إذا اختلفا في العدد.

قال خليل: ولم أر في الأمهات وجوبه إذا ادعى تلفا لكن نص فيها في الشيء المستحق إذا كان مما يغاب عليه إنه يحلف إذا ادعى المشتري تلفه وكذلك في رهن ما يغاب عليه ولا يمكن أن يكون الغاصب أسوأ حالا منها.

(2/383)

________________________________________

وقد نص ابن عبد السلام على وجوب اليمين هنا في التلف.

(وإصلاح السفل على صاحب السفل والخشب للسقف عليه وتعليق الغرف عليه إذا وهي السفل وهدم حتى يصلح):

ما ذكر الشيخ من أن على صاحب السفل الخشب للسقف مثله في المدونة وهو سماع ابن القاسم.

قال ابن رشد: ولا خلاف فيه وما ذكر من أن التعليق عليه هو أحد قولي أبي عمران وعن ابن القاسم أنه على صاحب الأعلى.

وقال ابن شعبان: إلا أن يهدمه من غير حاجة فيكون على صاحب الأسفل نقله عنه ابن يونس فقال بعض شيوخنا ظاهره جواز هدمه من غير حاجة.

وفي كتاب ابن سحنون عن أشهب وسحنون ليس له هدمه إلا من ضرورة وإن كانت فيه فضلة لصاحب العلو تسقط في مرحاض صاحب السفل فقيل: على السفل قاله أشهب وقيل: عليهما على عدد الجماجم قاله ابن وهب، وأصبغ، وكذلك اختلف المذهب في كنس كنيف الدار المكتراه هل هوعلى رب الدار أو على المكتري.

وفي المدونة: ومن اكترى دارا أو حماما واشترط كنيس المراحيض وغسالة الحمام على المكتري جاز؛ لأنه معروف وجهه وفيه أيضا من اكترى دارا فعلى ربها مرمتها، وكنس المراحيض، فظاهر لفظها الأول أن الكنس على المكتري وظاهر لفظها الثاني أنه على المكري فحمل ابن رشد ذلك على التناقض وحمله ابن يونس وعبد الحق عن بعض القرويين على أنهما يرجعان إلى قول واحد ومعنى اللفظ الأول أراد به الحادث في المستقبل ومعنى الثان أراد به ما كان قديما.

ومعنى قول الشيخ وهي ضعف وقوله وهدم قال بعض شيوخنا: قارب أن يهدم وهو الأقرب.

وقال الفاكهاني: يحمل أن يكون على بابه وهو ظاهر المدونة.

(ويجبر على أن يصلح أو يبيع ممن يصلح):

ما ذكر الشيخ مثله في المدونة وزاد فيها فإن باعه ممن يبنيه فامتنع أجبر المبتاع على أن يبنيه أو يبيع ممن يبني، وقيل: إنما يجوز البيع بشرط الإصلاح إن كان البائع لا مال له وإلا لم يجز على الإصلاح نقله ابن سحنون عن سحنون.

قال ابن القصار: ويجبر مطلقا إلا أن يختار رب العلو بناءه من ماله ويمنع رب السفل من النفع به حتى يعطيه ما أنفق، نقله اللخمي عنه واختار أن يجبر رب السفل

(2/384)

________________________________________

في بنائه أو بيعه ممن يبني أو يمكن رب العلو من بنائه إن رضي على أن يشتركا فيه بقيمة كراء القاعة وقيمة كراء البناء إلا أن يعطيه بعد ذلك قيمة البناء قائما يوم يأخذه.

وسمع ابن القاسم في كتاب الأقضية من له حائط وهو سترة على جاره ليس له هدمه إلا لوجه يعلم أنه لم يقصد به الضرر، واختلف إذا انهدم على أربعة أقوال: فقيل: إن سقط بسماوي أو بهدم لخوف سقوطه لم يلزمه بناؤه وإن هدمه ليجدده أو لمنفعته أجبر عل بنائه إن كان له مال وإلا فلا وإن هدمه ضرر ألزمه بناؤه إن كان له مال، وإن لم يكن له مال بيع ممن يبنيه قاله ابن القاسم.

وقيل: يجبر مطلقا كالحائط بين الشريكين قاله مطرف وابن الماجشون وهو ظاهر قول سحنون، وقيل: كذلك إلا أنه إن لم يكن له مال بيع من داره ما يبني به فإن كانت بيده صدقة أو عمرى فلصاحبه بناؤه وأتبع به دينا في ذمته قاله ابن الماجشون، وقيل: لا يلزمه شيء بكل حال وهو قول أصبغ وروايته وكل هذه الأقوال ذكرها ابن رشد، ومن أراد أن ينظر حائطه من دار جاره ليس له منعه أن يدخل داره فلينظره، وكذلك لو قلعت الريح ثوب رجل فألقته في دار لم يكن لصاحب الدار منعه أن يدخل فيأخذه أو يخرجه له قاله سحنون.

(ولا ضرر ولا ضرار):

هذا حديث ورد عن النبي صلى الله عليهوسلمل. قال عياض: واختلف في معناه، فقيل: هما بمعنى واحد على طريق التأكيد، وقيل: بمعنيين أي لا يلزم لا ضرر من لم يقصد فاعله ولا ضرار الذي قصده وأتاه عمدا.

وقال الفاكهاني: قيل: هو على التأكيد وقيل: هي ألفاظ مترادفة والذي عندي فيه أن معنى لا ضرر استبداد أحدهما بالضرر ومعنى لا ضرار اشتراكهما في الضرر لأن الضرار مصدر ضارر على وزن فاعل مثل قاتل وخاصم، وهو لا يكون إلا من اثنين فيكون المعنى على النهي على أن لا يضر أحدهما نفسه دون صاحبه أو يضر كل واحد منهما الآخر، هذا أولى من التاكيد والترادف الذي الأصل عدمه فأشار بقوله آخرا أن ذكر الخلاف أولا إنما هو اختلاف عبارة لا حقيقة والله أعلم.

وذكر هذا الحديث ليبني عليه ما يقوله يليه، وقد احتج به في المدونة في النكاح حيث قال: ولا يكون الأب عاضلا لابنته البكرالبالغ في رده أول خاطب أو خاطبين

(2/385)

________________________________________

حتى يتبين ضرره فإذا تبين قال له الإمام: إما أن تزوج وإلا زوجناها عليك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار".

وفي القسمة أيضا في قوله: وأنا أرى أن ما لا ينقسم إلا بضرر، ولا يكون فيما يقسم منه منتفع من دار أو أرض أو حمام فإنه لا ينقسم ويباع فيقسم ثمنه لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر، ولا ضرار".

(فلا يفعل ما يضر بجاره من فتح كوة قريبة يكشف جاره منها أو فتح باب قبالة بابه أو حفر ما يضر بجاره في حفره وإن كان في ملكه):

ما ذكر من أنه لا يفتح كوة تضر بجاره هو المشهور.

وقال ابن رشد وسند قول أشهب وابن الماجشون ومحمد بن مسلمة ومحمد بن صدقة من أصحاب مالك أنه لا يمنع ويقال لجاره استر على نفسك إن شئت.

قلت: وقوله إن شئت فيه تجوز بل هو الواجب ونبه عليه بعض شيوخنا وظاهر كلام الشيخ: وإن كان يشرف منها على بستان جاره أنه يمنع وهو أحد نقلي ابن الحاج في نوازله، قال: ولا خلاف أن له أن يطلع على المزارع.

وظاهر كلام الشيخ أن فتح الباب الذي لم يقابل جائز وإن كانت السكة غير نافذة ولا يفتقر إلى إذن وهو كذلك عن ابن القاسم في المدونة وعند ابن وهب في العتبية إلا أنهما جعلا ما يقارب كالمقابل.

وقال ابن زرب يمنع مطلقا إلا بإذن جميع أهل الزقاق وبه جرى العمل بقرطبة وعليه العمل عندنا بإفريقية أيضا.

وقيل: له تحويل بابه بحيث لا يضر لقربه سد الأول، وأما فتح باب آخر فلا وهو ظاهر قول أشهب، وأما السكة النافذة، فقيل: يفتح بابا أو حانوتا قبالة باب جاره قاله ابن القاسم في المدونة في كتاب القسمة، وبه قال أشهب.

وقيل: يمنع إلا أن ينكب عن ذلك قاله سحنون.

وقيل: إن كانت السكة واسعة جاز وإلا فلا قاله ابن وهب والسكة الواسعة سبعة أذرع فاكثر وما ذكر الشيخ في الحفر هو قول المدونة.

وقيل: إنه جائز قاله ابن كنانة، وقيل: إن استفرغ ماء بئر جاره منع وإلا فلا، وهو في سماع أشهب وابن نافع، وقيل: إن وجد بدا من احتفاره ولم يضطر إليه منع وإلا فلا قاله أشهب، وهذه الفروع الثلاثة من كلام ابن رشد.

(2/386)

________________________________________

(ويقضي بالحائط لمن إليه القمط والعقود):

يريد وكذلك الطاقات إذا لم تكن نافذة وكانت من جهة أحدهما خاصة قضي بالحائظ لمن تلك الطاقات في جانبه، وروي أن حذيفة اليماني بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر في معاقد الحيطان فقضى به وفي سنده وهم قال عبد الحق: وهو متروك الحديث، والقمط هو الخشب الذي يكون بين البنيان وهل يلزم اليمين صاحب القمط أم لا؟ في هذا الأصل خلاف وتقدمت نظائرها في اللقطة فأغنى عن إعادتها.

(ولا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ):

هو في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى الحديث لا يمنع أحدكم فضل مائة ليسلم له الكلأ لأن الدواب إذا لم تشرب لم تأكل شيئا قال بعضهم: فهو من سد الذرائع قال ابن القاسم في حريم البئر من المدونة وذلك في الصحاري، وأما الفلاة والأرض المحروثة فللرجل منع كلائه عند مالك إن احتاج إليه وإلا فليخل بين الناس وبينه، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل يحلف على سلعته لقد أعطى فيها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف يمينا بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء فيقول الله يوم القيامة: أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمله يداك".

قال الفاكهاني: قال أهل اللغة: الكلأ: العشب، قال في الصحاح: وسواء كانت رطبة أو يابسة ورأيت لبعض الفقهاء أن الكلأ يختص بالرطب من الربيع، ولم أدر من أين يأخذه والكلأ رويناه بالقصر ولا أعلم فيه خلافا.

(وأهل آبار الماشية أحق بها حتى يسقوا ثم الناس فيها سواء):

واختلف هل تورث بئر الماشية أم لا؟ فالأكثر على أن ورثة من حفرها تتنزل منزلته في الانتفاع.

وقال ابن الماجشون: لا حظ فيها للزوجين وفي المجموعة لا تورث ولا توهب ولا تباع وإن احتاج قال الباجي: يريد بقوله: لا تورث على ملك المالك.

وقال ابن الماجشون: إن كانت لهم سنة يعني الورثة من تقديم ذي المال الكثير أو قوم على قوم أو كبير على صغير حملوا عليه وإلا اقترعوا عليه.

(2/387)

________________________________________

قال ابن رشد: وهذا عندي إذا استوى تعددهم من حافرها وأما إن كان بعضهم أقرب من بعض فهو أحق بالتبدئة قلت ماشيته أو كثرت.

واعلم أن المسافرين أحق بالماء من المقيمين إن كانت حاجتهم أشد فإن استوت حاجتهم، ولم يكن في الماء فضل فإنه يبدأ بمن جهده أكثر فإن استووا فيه فأهل آبار الماشية أحق أو يستوون؟ اختلف في ذلك على قولين لابن لبابة وأشهب وللمسافرين عارية الدلو والرشا والحوض.

وظاهر كلام الشيخ سواء كان المسافرون أملياء أم لا، وهو كذلك.

قال ابن عبد السلام: ولعل ذلك لأن مالكها لم يتخذها للكراء، وإنما اتخذها لتحصيل المنفعة المقصودة منها لا لغير ذلك وإلا فالأصل أنه لا يخرجه ملك الإنسان عنه ولا الانتفاع به إلا بعوض.

(ومن كان في أرضه عين أو بئر فله منعها إلا أن تنهدم بئر جاره وله زرع يخاف عليه فلا يمنعه فضله واختلف هل عليه في ذلك ثمن أم لا؟):

ما ذكر من أن له المنع هو المذهب واختلف هل له بيع ذلك أم لا؟ فقيل: جائز وهو المعروف، وكأنه ظاهر كلام الشيخ؛ لأن الأصل أن من له منع ملكه من التصرف فيه فله الإذن بالبيع وغيره إلا لعارض.

قال ابن عبد السلام: وظاهر قول يحيى بن يحيى أنه منع منه؛ لأنه قال: أربع لا أرى أن يمنعن الماء والنار والحطب والكلأ، وأظنه اعتمد في ذلك على الحديث المروي في هذا الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلمون شركاء في الماء والكلأ والنار، وثمنه حرام" وهو حديث ضعيف السند.

والقول بأنه يأخذ الماء بغير ثمن هو قول المدونة في حريم البئر منها، والقول بأنه بالثمن روي عن مالك حكاه ابن يونس وعن أشهب مثله إن كان مليا وإن لم يكن مليا فالأول.

وكذلك اختلف المذهب إذا اضطر إلى أكل مال غيره هل عليه في ذلك ثمن عند يسره أم لا والذي به الفتوى أنه يلزمه لخلاف الماء ليسره؛ لأنه مما يبتذل بخلاف الطعام. وذكر الشيخ في إعطاء فضل الماء شرطين.

الأول: أن يحرث على أصل ماء ولهذا أشار بقوله: إلا أن تنهدم بئر جاره.

والثاني: أن يخاف على زرعه وبقي عليه شرط ثالث: وهو أن يشرع في

(2/388)

________________________________________

الإصلاح ولا يؤخر.

(وينبغي أن يمنع الرجل جاره أن يغرز خشبه في جداره ولا يقضي عليه بذلك):

يعني: يندب إلى إعارةا الجدار لغرز الخشب عليه، وقوله ولا يقضي عليه تأكيد لقوله وينبغي، وهذا هو المعروف ونص المدونة في الجعل والإجارة ونقل ابن رشد وابن زرقون عن ابن كنانة أنه تجب إعارته إن لم تكن في ذلك مضرة بينة على رب الجدار وزاد أبو إبراهيم يقضي به وعلى الأول فهل يلزم بمجرد الإذن فلو بدأ لربه قبل الغرز عليه فليس له ذلك أو له ذلك.

واختلف في ذلك على قولين، وأفتى ابن عات مع نقله عن الشيوخ بجواز الغرز بجدار المسجد أو الجامع لجاره كغير المسجد، وذهب مالك إلى المنع منه، والنفس إليه أميل؛ لأن محبسه لم يحبسه على شيء خاص.

واختلف في التعليق على جدار المسجد كما اختلف في الغرز فإن أعاد جداره ثم أراد الرجوع بعد الغرز فليس له ذلك إذا قصد الضرر فإن احتاج لجدار لهدمه أو لينتفع به فهو أولى، وهذا القول هو سماع ابن القاسم، وأشهب.

وقال في المدونة: فيمن أذن في بناء بأرضه أو غرس له أن يخرجه إذا أعطاه قيمة ما أنفق فقيل: هو اختلاف في قول قوله ابن لبابة، وابن أيمن وغيرهما، وقال سحنون: إنما الفرق بينهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنع أحدكم جاره .... " الحديث يريد لقول من حمله على الوجوب وبقي في المسألة أقوال لم نذكرها خشية الإطالة.

(وما أفسدت الماشية من الزرع والحوائط بالليل فذلك على أرباب الماشية ولا شيء عليهم في إفساد النهار):

ما ذكر من التفصيل هو قول مالك رحمه الله وحجته ما خرجه في الموطأ: أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضمانه من أهلها.

قال أبو عمر بن عبد البر: هو من مراسيل الثقات وتلقاه أهل الحجاز وطائفة من أهل العراق بالقبول وقيل: بالضمان مطلقا قاله يحيى بن يحيى من أصحابنا وهو قول الليث وعطاء وعزاه الباجي لرواية ابن القاسم وكذلك لم يحكه عياض في الإكمال إلا عن سحنون فقط وخارج المذهب قول بعدمه مطلقا لأبي حنيفة واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "فعل العجماء جبار" ويرد بأنه مخصوص بما سبق، وقيد قول مالك

(2/389)

________________________________________

بالضمان في الليل إذا كان الزرع مهملا لا حائط له.

وقال ابن عبد البر: يسقط الضمان نهارا عن أرباب الماشية إذا طلعت دون راع، وأما إن كان معها راع فلم يمنعها وهو يقدر على دفعها فهو كالقائد والراكب.

وقال ابن شعبان عن محمد بن حارث: هذا محمول على أن أهل الماشية لا يهملون مواشيهم بالنهار وعلى أنهم يجعلون معها حافظا، وراعيا وإن أهملوها فهم ضامنون، وهذا عكس ما قدمناه عن أبي عمر، وقيل: إذا كانت المزارع ممتدة لا يقدر أربابها على حراستها لم يكن على أهل المواشي شيء.

وقال بعض الشيوخ: العكس أولى؛ لأنه إذا كان الأمر هكذا كان على أربابها أن لا يخرجوها إلا براع، وهذا كله إذا لم تكن من المواشي التي شأنها العداء على الزرع، فإن كانت كذلك وتقدم إلى أربابها ضمنوا ما أصابته ليلا كان أو نهارا كالكلب العقور حكاه الباجي في رواية عيسى عن ابن القاسم في المدونة.

واختلف فيما لا يستطاع التحرز منه كالنحل والدجاج والحمام فقيل: لا يمنع من اتخاذها وإن أضرت، وعلى أهل القرية حفظ زرعهم وشجرهم، قاله أصبغ وابن القاسم، وابن كنانة.

وقيل: يمنع من اتخاذها؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه قاله مطرف وابن حبيب والقولان ذكرهما الباجي ويقوم من كلام الشيخ أن الثور إذا حصل قرناه في شجرة ولم يمكن خروجهما إلا بنشر قرنيه أو بقطع أفراع الشجرة فإنه يفصل في ذلك بين الليل والنهار وسمعت في درس شيخنا أبي محمد الشبيبي رحمه الله من نقل بعض الطلبة الحفاظ قولا بمثله وطلبت عليه حثيثا فلم أجده، والذي وقفت عليه الآن لأبي عمران الصنهاجي في نظائره ارتكاب أخف الضررين بالبيع وكذلك وقفت على ما وجدت بخط ابن سهل بالبيع ونصه في ذلك ثور وقع بين غصنين أو دينار وقع في محبرة أو دجاجة لقطت فصا فيجبر صاحب القليل منهما على البيع من صاحب الكثير لرفع الضرر.

وكذلك وقفت على ما وجدت بخط ابن سهل عن ابن أبي زمنين أن الغصن يقطع ويؤدي صاحب الثور قيمته، ويحمل على أن قطع الغصن هو أخف ضررا؛ لأنه الأعم الأغلب فيرجع إلى وفاق وحيث يثبت الضمان فإنه يضمن قيمته على الرجاء والخوف لو حل بيعه ونص على ذلك في المدونة في كتاب المدبر على طريق التشبيه ولم ينص عليه في غيره قاله المغربي واختلف هل يستأني بذلك لعله ينبت كما يستأنى بسن الصبي أو تعجيل القيمة في ذلك قولان.

(2/390)

________________________________________

واختلف إذا عاد الزرع بعد أخذ قيمته فهل هو حكم مضى أو ترد القيمة في ذلك قولان لمطرف وغيره.

قال ابن رشد وهما مخرجان من كتاب الدية من المدونة فيمن ضرب رجلا فنزل الماء في عينه فغرم دية العين ثم برئت فقال أشهب: لا يرد الدية، وقال ابن القاسم: يرد قال في البيوع الفاسدة من المدونة وإذا كانت المواشي تعدو في زرع الناس فأرى أن تغرب وتباع في بلد لا زرع فيها إلا يحبسها أربابها عن الناس ويريد بعد البيان في البيع فإن لم يفعل فهو عيب قاله ابن يونس.

قال بعض فضلاء أصحابنا، وأخذ منها نفي من يضرب الخطوط، ونفي من يأخذ الحيوان بالعين، وفي الآدمي يسجن لأنه بالنفي تقل مفسداته ولأنه يغرب من ذلك الموضع إذا اتصف بذلك.

قلت: ولا يخفى ضعف ما ذكر من الأخذ والحق عندي سجن من ذكر لأن به تؤمن غائلته، وأما من يؤدي الناس بالغيبة فإن أدبه كاف في زجره قاله شيخنا أبو مهدي، وأفتى أبو عمر الأشبيلي، وأحمد بن عبدالملك بأنه يخرج من المسجد.

قال ابن عبد البر في الاستذكار فقلت له: ما هذا؟ وفي ضربه بالسوط كفاية فقال: الاقتداء بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى وهو قوله "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا يؤذينا بريح الثوم".

(ومن وجد سلعته في التفليس فإما حاصص وإلا أخذ سلعته إن كانت تعرف بعينها وهو في الموت أسوة الغرماء):

ما ذكر الشيخ من الفرق بين الملفلس هو مذهبنا، وقال الشافعي: وهو أحق مطلقا، وهو قول عثمان وعلي وغيرهما رضي الله عنهما، وقال أبو حنيفة: لا مقال له مطلقا، وبه قال الحسن وغيره، وإنما يكون أحق في الفلس إلا لم يرض الغرماء بتقدمته في مال المفلس، فأم إن رضوا فلا مقال له.

واختلف هل لهم دفع الثمن من حيث شاءوا أم لا؟ على أربعة أقوال: فقيل: لهم ذلك قاله ابن القاسم في المدونة وقيل: يتعين كونه من مالهم وقيل: يتعين كونه من مال المفلس قاله ابن كنانة، وهذه الأقوال الثلاثة حكاها ابن حارث، وقيل: ليس لهم شيء من ذلك إلا أن يشترط زيادة على ثمنها يحطونه من دينهم على الملفس نقلها المازري عن أشهب وإذا فلس المكتري فإن أسلم المبتاع إلى الجمال ليحمله على جماله فهو أحق بالمتاع إن كان بيده، وكذلك إن مات باتفاق.

قال ابن رشد: لأنه كرهن بيده وتعليله في المدونة بأنه إنما بلغ على إبله علة غير

(2/391)

________________________________________

صحيحة.

وإن أسلم الجمال إليه الإبل يحمل عليها ففلس قبل حوزه متاعه ورده الإبل للجمال فالمشهور أن الجمال أولى قال: ويتخرج أنه أسوة الغرماء في الفلس والموت، ويتخرج أيضا أنه أسوة في الفلس خاصة وأخذ أحمد بن خالد من قول المدونة؛ لأنه على دوابه وصل إلى المكتري أحق وإن قبضه ربه ابن رشد وهو بعيد، قال خليل: لعل أحمد فهم قوله في المدونة كالرهن، ولأنه على دوابه وصل أنهما علتان على البدل وفهمه غيره على أنه علة واحدة والله أعلم.

ونص ابن القاسم في العتبية على أن السفن كالدواب وأخذ ذلك جماعة من تعليله في المدونة المسألة السابقة.

قال في التفليس من المدونة: أرباب الدور والحوانيت فيما فيها من أمتعة أسوة الغرماء في التفليس والموت.

وزعم ابن رشد الاتفاق عليه وهو قصور لنقل ابن يونس والمازري وعن عبد الملك بن الماجشون أنه جعل الدور والحوانيت كالدواب، وأما أجير رعاية الإبل أو راحلتها فإنه أسوة الغرماء في الفلس والموت قاله في المدونة وقيدها عبد الجبار بن خالد بما إذا كان يردها لبيتها عند ربها، وأما إن كانت باقية في يديه فهو كالصانع نقله ابن حارث عن لقمان بن يوسف عنه.

قلت: ونقلت هذه المسألة في درس شيخنا أبي مهدي فلم يرتضه، واختار إبقاء المدونة على ظاهرها من العموم والصواب تقييدها به كما قال عبدالجبار.

(والضامن غارم لما ضمن):

يعني إذا قال الرجل أنا ضامن لك يا فلان فإنه غارم ولا خصوصية لهذه اللفظة بل، وكذلك أنا حميل أو غريم أو كفيل أو قبيل وهو لك عندي أو علي أوإلي أو قبلي نص على جميع ذلك في المدونة قائلا: هي حمالة لازمة إن أراد المال لزمه، وإن أراد الوجه لزمه.

واختلف إذا كان اللفظ مبهما، وقال أردت الوجه ففي قبوله قولان، قال ابن رشد في المقدمات: والأصح عدم قبوله لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحميل غارم" قلت: وقبله بعض شيوخنا قال المازري: اختار بعض أشياخي أنها حمالة بالوجه لكونها أقل الأمرين والأصل براءة الذمة ورد الاستدلال بالحديث بأنه إنما قصد بالحديث بيان

(2/392)

________________________________________

حكم وجوب المطالبة للكفيل بما ضمنه، ولم يقصد بيان إطلاق هذه اللفظة قال: ولأن الغرامة إنما تكون في الأموال لا في الأبدان إذ البدن لا يصح أن يغرم فكأنه قال: الزعيم غارم لما ضمن والضامن الذي تتصور فيه الغرامة إنما يكون في المال.

(وحميل الوجه إن لم يأت به غرم حتى يشترط أن لا يغرم):

ما ذكر الشيخ أنه إن لم يأت به غرم هو المشهور، ونقل اللخمي عن ابن عبد الحكم أنه لا يغرم، وظاهر كلامه لو أحضره عديما أنه لا يضمن وهو كذلك خلافا لابن الجهم وقول أبي بكر بن اللباد اختار اللخمي الأول إن كان معسرا وقت حلول الأجل وإما إن كان مليا، وأتى به معسرا فإنه يلزمه المال إلا أن تكون بمال حل، ولم يتحمل ليؤخره فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال، والأول منها نص المدونة ولا يعارض قولها بقولها في النذور من حلف لا يتكفل بمال فتكفل بنفس حنث لأنها كفالة بالمال؛ لأن الحنث يقع ناقل الأشياء.

واختلف إذا حكم القاضي على الضامن بالغرم فأحضره قبل الغرم فمذهب المدونة، وهو المشهورأنه يغرم خلافا لسحنون وهذه طريقة اللخمي، وابن يونس وغيرهما، ونص المدونة: ولو حكم عليه بالمال بعد التلوم لزمه المال ومضى الحكم فقال بعضهم بإشهاد الحاكم، وإن لم يغرم وهو قول عبدالملك، وقال بعضهم: المراد إذا دفع بعد الحكم وكلا التأويلين حكاه عياض.

قال خليل: وما ذكره خلاف الطريقة الأولى، ولو شرط رب المال على الضامن الوجه أن يحضر له الغريم ببلد سماه فأحضره ببلده تناله الأحكام فيه فنقل ابن عبد الحكم في إبرائه قولين وأجراهما المازري على الخلاف في شرط ما لا يفيد ورده ابن عبد السلام بأنه قد تكون البلد المشترط فيها فائدة لرب المال ككونها سكنى البينة التي ثبت بها الحق أو يكون الحق غير الدنانير والدراهم مما يقصد به موضع خاص.

(ومن أحيل بدين فرضي فلا رجوع له على الأول وإن أفلس هذا إلا أن يغره منه):

قال ابن الحاجب: الحوالة: نقل الدين من ذمة إلى ذمة لتبرأ بها الأولى وتعقب من وجهين:

أحدهما: أن النقل حقيقة في الأجسام مجاز في المعاني والدين لا ينتقل وإنما يؤخذ مثله من ذمة أخرى.

الثاني: أن قوله لتبرأ بها الأولى حشو لعدم إفادته مدخلا ومخرجا، وإنما هو علة والعلة غير المعلول وكلاهما ذكره ابن رشد رحمه الله تعالى.

وقال ابن عبدالسلام في قوله لتبرأ بها الأولى: هو على طريق البيان.

(2/393)

________________________________________

وقال الشيخ خليل: لعله احترز به من الحمالة فإن فيها شغل ذمة أخرى بالحق، ولا تبرأ بها الأولى وما ذكره ضعيف؛ لأن قوله نقل الدين يقتضي خروج الحمالة وحكمها الندب، وقيل: إنها مباحة.

قال بعضهم: وما ذكر الشيخ أنه يرجع عليه إذا غره هو نص المدونة وعارضها غير واحد كالشيخ أبي اسحاق التونسي بقوله في المساقاة: من باع سلعة بثمن إلى أجل ممن ظن ملاءه فبان عدمه أنه لا مقال له، وفرق ابن يونس بأن الحوالة بيع دين بدين وأجيزت للرخصة وشراء الدين لا يجوز حتى يعلم ملاء الغريم من عدمه؛ لأن شراء لما في ذمته فوجود ذمته معيبة كوجود السلعة معيبة والذي باع السلعة لم يقصد شراء ما في ذمته.

وفرق التونسي بأن البياعات تتكرر كثيرا لشدة الحاجة إليها فالكشف مما يشق فلو لم يجز البيع للبائع إلا بعد الكشف عن ذمة المشتري، والبحث عنها لتعذرت أكثر البياعات بخلاف الحوالة لعدم تكررها، وذكر المازري أيضا وزاد فرقا آخر، وهو أن البائع يدفع للمشتري سلعة تقارب الثمن الذي يحل في ذمته فاستغنى بذلك عن الكشف بخلاف الحوالة.

قال ابن عبد السلام: وحكى غير واحد من الشيوخ الموثق بنقلهم عن مالك أنه لا يلزم المحال الكشف عن ذمة المحال عليه هل غني أو فقير بخلاف شراء الدين، وفرق بعضهم بأن الحمالة طريقتها المعروف بخلاف البيع فإن مبناه على المكايسة.

قلت: ما ذكر عن الشيخ صحيح نقله اللخمي المازري وهو خلاف ما تقدم لابن يونس، قاله بعض شيوخنا، ولو شرط المحال على المحيل إن أفلس المحال عليه فإنه يرجع عليه فإن شرطه نافع قاله المغيرة، ونقله الباجي كأنه المذهب.

وقال ابن رشد: هذا صحيح لا أعرف فيه خلافا.

قلت: استشكله بعض شيوخنا لأنه شرط مناقض لمقتضى الحوالة وقد علمت قول ابن القاسم ذا شرط في العارية التي لا يغبب عليها الضمان إنه لا أثر له.

(وإنما الحوالة على أصل دين إلا فهي حمالة):

يعني: أنه يشترط أن يكون على المحال عليه دين للمحيل فمهما لم يكن فهي حمالة وسواء كانت بلفظ الحمالة أو الحوالة وهذا الذي قاله هو المشهور.

وقال ابن الماجشون: إذا كان بلفظ الحوالة فلها حكم الحوالة نقلها الباجي، ويشترط أن يكون الدين المحال به حالا من غير خلاف ووقع في السلم الثاني من المدونة ما يوهم خلافه في قوله ولو استقرض الذي عليه السلم مثل طعامك من أجنبي أو سأله أن يوفيك أو أحالك به، ولم تسأل أن الأجنبي جاز ذلك قبل الأجل أو بعده فأورد

(2/394)

________________________________________

بعضهم في درس ابن عبدالسلام عليه حين إقرائها أنه خلاف المذهب في اشتراط حلول المحال به فلم يحضره، ولا غيره جواب ثم بان لبعض شيوخنا يسره بأن شرط الحلول إنما هو في الحوالة الحقيقية التي هي على أصل دين، وهذا مجاز لأنها على غير أصل دين فهي حمالة قال ويؤيده قولها في الحوالة إن أحالك مكاتبك على من لا دين له قبله لم يجز لأنها حمالة بكتابة وتجوز الحوالة ولا تجوز الحمالة بها على أصل دين.

ويشترط أن يحضر المحال عليه ويقر بالدين عند ابن القاسم خلافا لابن الماجشون وللأندلسيين القولان ولابد من رضا المحيل والمحال.

وصرح ابن رشد وابن الحاجب بأنهما من شروطهما، ولم يعدهما اللخمي، وابن رشد منها.

قال بعض شيوخنا: وهو أحسن والأظهر أنهما جزآن لها لأنهما كلما وجدا وجدت ونصر شيخنا أبو مهدي الأول بأن حدها يدل على أنهما من الشروط إذا لم يذكر ذلك في الحد، وأما رضا المحال عليه فإنه لا يشترط ونقل ابن زرقون عن زاهي ابن شعبان اعتباره.

(ولا يغرم الحميل إلا في عدم الغريم أو غيبته):

ما ذكر هو القول الذي رجع إليه مالك وبه أفتى ابن القاسم وكان يقول: يتبع أيهما شاء، والقولان في المدونة، وقال ابن الحاجب: وللمضمون له مطالبة من شاء منهما وفيها لا يطالب والأصل حاضر مليء لكن إذا غاب أو فلس ورآه كالرهن.

وقيل: أو كان ملطاطا، قلت: وهو معترض من وجهين:

الأول: أن كلامه يقتضي أن المشهور من المذهب أن يتبع أيهما شاء وليس كذلك بل الذي أخذ به ابن القاسم هو الذي يعول إليه أهل المذهب وصرح بن ابن رشد أنها الرواية المشهورة، وقوله: وفيها لعله نسبها لها ليبين أن ما فيها هو المشهور بعيد.

الثاني: أن كلامه يوهم أن المدونة إنما فيها قول مالك وليس كذاك ومعنى قوله أو كان ملطاطا أي جاحد الحق.

قال بعض شيوخنا: ولا أعرف هذا القول في هذا المسألة بل في غيرها.

وسلمه ابن عبدالسلام بل قال في عده خلافا نظر.

وقال ابن راشد: لا ينبغي عده خلافا بل قال: وهو جار على المشهور وكذلك ذكره غيره.

(ويحل بموت المطلوب أو تفليسه كل دين عليه ولا يحل ما كان له على غيره):

قال عبد الحق عن بعض البغداديين: إنما وجب ذلك لأن الميت انقطعت ذمته،

(2/395)

________________________________________

ولأن الوارث وجب له المال، ولا إرث إلا بعد أداء الدين والفلس عيب في ذمته فلرب الدين أن يأخذ دينه؛ لم يدخل على ذمة خربت معينة.

وما ذكر الشيخ هو المشهور ونحا الشيخ أبو القاسم السيوري إلى عدم حلول الدين في الموت قيل: وأحرى أن يقال ذلك في الفلس واستقراه من المدونة من قولها في القراض إذا مات العامل بقي المال في يد وارثه يعمل فيه إن كان أمينا أو أتى بأمين، وقبله غير واحد كابن عبدالسلام.

ورده بعض شيوخنا بأن مال القراض ليس دينا في الذمة على العامل إجماعا وإنما هو أجبر فيه ووجه عمل وارثه فيه مذكور في القراض.

وقال اللخمي: القياس إذا أتى المفلس بحميل أن يبقى عليه لأجله لأن تعجيله إنما هو خوف أن لا يكون له عند الأجل شيء ويدخل في كلام الشيخ إذا فلس المكتري لدار اكتراها سنة مثلا فإنه يحمل ما عليه وهو ظاهر المدونة، قال فيها وإذا فلس المكتري فصاحب الدابة أولى بالمبتاع من الغرماء فإنه يقتضي تعجيل حقه ولا يصح أن يبيع الغرماء منافع دابته ويبقى هو مطالبا بالكراء ومن له فيها أيضا إذا اكترى أرضا فزرعها ثم فلس أنه يحاصص الغرماء بالكراء قال المازري، وذكر لي بعض الشيوخ أن عبدالوهاب نص عليه في شرح الرسالة وكذلك ذكر لي عن المبسوط ولم أو قدر علي النقل في هذين الكتابين ولكن عندي أن المسألة كالمنصوص فيها على القولين لأنه اختلف فيمن أكرى داره خمس سنين وقبض كراءه ومر عليه حول هل يزكي الجميع أو العام الأول فقط قلت: والذي به الفتوى عندنا أنه لا يزكي وهو الجاري عمى قول ابن القاسم أن قبض الأوائل ليس قبضا للأواخر خلافا لأشهب وقاله ابن رشد في مقدمته في كتاب التفليس.

(ولا تباع رقبة المأذون فيما عليه ولا يتبع به سيده):

ما ذكر هو المشهور وقال سحنون: تباع رقبته نقله الفاكهاني ويعني الشيخ أنه تتبع به ذمته سواء بقي في ملك سيده أو أعتقه، قال في أول مسألة من كتاب المأذون من المدونة ومن خلا بين عبده وبين التجارة يتجر فيما شاء ولزم ذمته ما يداين به ثم قال بعد وإن أعتق يوما ما بقي الدين في ذمته وأما الذي لم يؤذن له في التجارة فلا يتبع بشيء إلا أن يعتقه يوما ما فيتبع بذلك إلا ان يفسخه عنه سيده أو السلطان لأن ذلك يعيبه ومعنى فسخ السلطان إذا كان السيد غائبا قاله المغرب في النكاح الأول.

وقاله ابن عبدالسلام هناك أيضا يدفع السيد له وطالبه ذلك فإن قلت كيف يعيبه مع أنه لا يتبع به إلا إذا أعتق فهو لا يحط شيئا من ثمنه قلت لاحتمال أن يتهم عليه أنه

(2/396)

________________________________________

استأذنه في فساد هو يبخس من ثمنه ولو استهلك المأذون وديعته فإنه لا يبا فيه عند ابن القاسم وقال يحيى بن عمر هي جناية في رقبته، وعلى الأول فالمعروف من المذهب في ذمته فهما أمكن أخذها ولو قبل العتق أخذت ونقل ابن عبدالسلام عن أشهب أنها تتعلق بذمته لا تؤخذ من ماله الآن.

(ويحبس المديان ليستبرأ):

أعلم أن المديان إذا امتنع من أداء عليه فهو على ثلاثة أقسام:

الأول: إن كان موسرا به، قال مالك يسجن ويضرب بالسوط مرة بعد مرة حتى يؤدي ما عليه أو يموت أو يتبين أن لا شيء معه وبه قضى سحنون على أحمد بن أبي الجواد ولم يزل يضربه ضربا بعد ضرب حتى مات حسبما هو مذكور في المدارك وغيرها، الثاني إذا طلب التأخير لأداء ما عليه فقال سحنون يؤخر اليوم وشبهه.

وقال مالك: يختلف حال الملأ والمعدوم وقلة المال وكثرته وحيث يؤخر فلابد من حميل قاله قاله سحنون وفي المبسوط عن مالك لا يلزمه ذلك الثالث: مجهول الحال في المقدمات يحبس بقدر ما يستبرأ أمره ويختلف باختلاف الدين فيحبس في يسير الدريهمات نصف شهر، وفي كثير المال أربعة أشهر وفي الوسط شهرين قاله ابن الماجشون، قلت: وهذا الوجه هو الذي تكلم عليه الشيخ، وظاهر كلامه أنه محمول على املأ وهو المعروف إذ لو كان عنده محمول على العدم لما سجنه، ولكلف الطالب إثبات ملائه إذ ذاك يسجنه وقيل أنه محمول على العدم وقيل: إن كان عن عوض على الملأ وإن كان على غير عوض كنفقة الأبوين فعلى العدم ولو سأل الطالب أن يفتش دار المديان فقال ابن سهل: شاهدت الفتوى والحكم بطليطل أنه يفتش عليه مسكنه فما ألقى من متاع الرجل بيع عليه وأنصف الطالب منه، ولا يختلف فقهاؤنا فيه وأنكر ذلك على أكثرهم فلم يرجعوا عنه. وسألت ابن عات عند ذكره، وكذلك أنكره أيضا ابن مالك.

وقال: أرأيت الذي يلقي في بيته إن كان ودائع قلت هو محمول على أنه ملك له حتى يثبت خلافه قال فيلزم إذا الاستيناء به حتى يعلم هل له طالب أم لا؟ وأعلمت ابن القطان بفعل أهل طليلطة فقال لي: ما هو ببعيد قال ابن رشد: وأراه حسنا فيمن ظاهر اللدد والمطل، وحيث يسجن الغريم فإنه لا يخرج ولو لصلاة الجمعة أو العيدين، وإن اشتد مرض أبويه أو ولده أو إخوته أو من يقرب من قرابتهوخيف موتهفإنه يخرج بكفيل بوجهه، قاله ابن عبد الحكم نقله أبو محمد ونقله ابن يونس عن ابن المواز قال المازري: وأخذ بعض أشياخي يريد به اللخمي أن الجمعة فرض كفاية ويرد لها بدلا فتسقط بالمطر على قول وأبيح التيمم إذا كثر ثمن الماء فكذلك الخوف على تلف مال الغرماء

(2/398)

________________________________________

بخروجه للجمعة. قال والأولى لا يمنع منها إن أمكن خروجه له مع عدم ضرر الغرماء.

(ولا حبس على معدم):

مثله قال في المدونة، قال في المقدمات: ويحلف ما له باطن ولا ظاهر فإن وجدها مالا ليؤدين إليه حقه وعن ابن سهل هذه اليمين لابن لبابة وغيره، قال ابن فتوح وزاد بعض المفتين في اليمين وليعجلن الأداء لأنه قد يؤديه بعد طول، وزاد بعضهم لئن رزقه الله مالا في سفره ليعجلن الأوبة والأداء، ونقل ابن عبدالسلام عن مالك أنه لم ير زيادة قوله وإن وجد قضاء ليقضين، قال خليل ولم أر من نقله عن مالك فإن ثبت فإنه يحمل على أنه قول شاذ ولو شهدت بينة بعدمه وأخرى بملائه ففيها اضطراب شهير في المذهب والعمل بتونس على تقديم بينة الملأ وهذا ما لم تقل بينه الملأ له مال باطن أخفاه فإن قالت ذلك قدمت اتفاقا.

(وما انقسم بلا ضرر قسم من ربع وعقار):

قال ابن رشد: لا خلاف أن المكيل والموزون إذا كان صبرة واحدة أنه يقسم على الاعتدال بالكيل والوزن وعلى تبيين الفضل ولو حرم فيه التفاضل ويجوز بالمكيال والصنجة المجهولين، ونقل ابن زرقون عن ابن الماجشون يقسم التمر والرطب العنب على أكثر شأنه في البلد من كيل أو وزن وقال محمد بن عبد الحكم لا بأس أن يقسم القاضي الزبيب كيلا، أو وزنا على أي ذلك شاء وقال أشهب: في المدونة يبيع الزيت بالكيل، فأما الوزن فإن عرف ما فيه من الكيل فلا بأس به، وإن اختلف فلا خير فيه فجعل الأصل الكيل قال المتيطي عن أصبغ: لا يأمر القاضي بقيم بين ورثة طلبوه منه حتى يثبت عنده ملك موروثهم ما طلبوا قسمه إلى أن هلك ولا يحكم إلا بما ثبت عنده وإن أحبوا قسم ذلك لم يعرض لهم وهو الشأن وعليه العمل، قال بعض الأندلسيين: هذا قول مالك وأصحابه قال أبو عمر في كافيه وإن قسم القاضي بينهم دون أن يثبتوا عند الملك ذكر في كتاب قسمهم أن ذلك بإقرارهم دون بينة.

(وما لم ينقسم بغير ضرر فمن دعا إلى البيع أجبر عليه من أباه):

ما ذكر مثله في المدونة قال فيها: إن لم ينقسم ما بينهم من ربع أو حيوان أو عرض وشركته بإرث أو غيره، فمن دعا إلى البيع أجبر عليه من أباه ثم للآبي أخذ الجميع بما يعطي فيه فأخذ غير واحد أن ليس لطالب البيع أخذه إلا بزيادة ما وقف عليه من الثمن وهو أحد القولين، وقيل لكل من الشريكين أخذه بذلك الثمن قيل: وبه

(2/398)

________________________________________

أفتى القاضي أبو الوليد وظاهر المدونة والرسالة ولو دخل أحد الشريكين على الآخر، وليس كذلك إذ لا حجة في بخس الثمن في حظه منفردا لأنه كذلك اشترى قاله عياض قال وقول شيخنا القاضي أبي الوليد لمثل قول الداودي في رباع الغلة وما لا يحتاج إلى السكني والانفراد إنه لا يجبر عليه من أباه مطلقا لأنه رباع الغلة إنما تراد للغلة وقيل ما يحط ثمن بعضها منفردا عن ثمنه في بيعه جملة بل ربما كان الراغب في شراء بعضه أكثر من الراغب في شراء جميعها بخلاف دار السكنى، قلت: ورده بعض شيوخنا بأن العيان خلافه إلا أن تكون عادتهم بالأندلس فواضح، وحيث حكمنا لمريد البيع بالتمكين منه فهل تخلي الدور والحوانيت وغيرها أم لا؟ في ذلك ثلاثة أقوال، فقيل بما ذكر، وقيل يكفي التزام الساكن أن لا يمنع من أراد التقليب من الدخول.

وقيل: لا يحكم بالإخلاء في الحوانيت وشبهها ويحكم في الدور وشبهها بالإخلاء نقله ابن عبدالسلام عن بعض قضاة بلده واختلف قول مالك فيما يبطل القسم صفته المقصودة كالبيت الصغير، والحمام والماجل وللقول قسم ما ذكر ذهب إليه ابن كنانة من أصحاب مالك وحده، قاله ابن حبيب وعزاه اللخمي وعياض، لابن القاسم في أحد قوليه واختار اللخمي المنع ولو رضوا فإن الحاكم يمنعم للنهي عن إضاعة المال ولا يقسم الباب ولا المصراعان ولا الخفان ولا النعلان قاله في المدونة وعدد أشياء أخر، واختلف في الغرارتين على ثلاثة أقوال فقال ابن وهب: لا تقسم قياسا على الخروج، وعكسه لأشهب وقيل: إن لم يكن في قسمتها فساد قسمت وإلا فلا قاله في المدونة وكلها ذكرها الباجي.

(وقسم القرعة لا يكون إلا في صنف واحد ولا يؤدي أحد الشركاء ثمنا وإن كان في ذلك تراجع لم يجزالقسم إلا بتراض):

قال ابن حارث: اتفقوا على ان كل صنف من الثياب أو إذا احتمل القسم وحده فإنه يقسم ولا يجمع وإن لم يحتمل القسم ففي ذلك ثلاثة أقوال، قال ابن القاسم: يجمع البز والحرير والديباج والقطن والكتان صنف، والمزعفر صنف لا يجمع شيء إلى الآخر، وقال ابن عبدوس أنكر سحنون مذهب ابن القاسم وصوب قول أشهب نما جاز فيه واحد باثنين لأجللم يجمع قلت وقول ابن القاسم أطلقه في المدونة مرة وقال في موضع آخر لم يحمل كل صنف منه القسم وحمل ذلك اللخمي وغيره على الخلاف واختلف في المعتبر في الدور فقيل المعتبر تقارب المواضع ولا يعتبر تساوي نفاقها قاله أشهب، وعكسه لابن القاسم في المجموعة.

وقال سحنون باشتراط التقارب وتساوي النفاق وكلها حكاها الباجي وجعل

(2/399)

________________________________________

غير واحد مذهب المدونة هو الثالث وجعل صاحب البيان أن مذهب المدونة هو الأول قال ويقوم منها قول آخر فأشار على ما تقدم عنها، واختلف في دار سكنى لميت إذا حملت القسمة على ثلاثة أقوال: فقيل: القول قول من أراد فرادها قاله ابن حبيب ونحوه في المدونة، وقيل: هي كغيرها قاله أبو عمران وغيره وقيل: إن كان للميت شرف بها فالأول وإلا فالثاني.

(ووصي الوصي كالوصي):

وإن بعد وعارض المغربي قول المدونة هذا بقولها في القذف إن مات المقذوف ولا وارث له فأوصى بالقيام في قذفه فلوصيه القيام به ولو كان له وارث فإن الحق له وأجاب بأن قوله لا وارث له إنما هو السؤال فلا يعول عليه هذا الذي قلناه في القذف والصواب في الفراق بينها إنما هو لما في القذف من العار فالعار الحاصل في أبي الوارث مثلا كأنه متعلق به ولما كان نظر الوصي في تزويجه البكر خارجا عن ذلك ناسب أن يقوم عليهم والله أعلم.

وفي بيع الخيار من المدونة ومن تزوج امرأة وشرطت عليه إن نكح أو تسري فأمرها بيد أمها فماتت الأم، فإن أوصت بذلك إلى أحد فذلك له، فجعل لها أن توصي وهو خلاف قول رهونها إذا مات العدل، وبيده رهن فليس له أن يوصي قبل موته بوضعه في يد غيره وذلك إلى المتراهنين.

قال المغربي: والفرق أن العدل إنما جعل له الحفظ لا غير ولم يجعل له النظر وفي بيع الخيار وجعل للأم النظر فأشبهت الوصي، وقال شيخنا أبو مهدي أيده الله الصواب في الفرق بأن في صلة الأم لو لم يكن الأمر كما ذكر لسقط حق الزوجة بخلاف مسألة الرهن، فإن الحكم إلى المتراهنين فلم يسقط الحق وليس لمقدم القاضي أن يوصي قال ابن عبدالسلام: هكذا قالوا والذي عندي أن أصول المذهب تقتضي تحريم خلاف فيه قلت: الأصل الذي أشار إليه والله أعلم هو اختلافهم في مقدم القاضي هل هو أولى بالإنكاح من الولي لأن القاضي أقامه مقام الأب.

وقد قال في المدونة: إنه كان كالوصي في جميع أموره وهو قول ابن حارث وابن لبابة وغيرهما والولي أولى لأنه مقدم على القاضي والمقدم على المقدم مقدم، قاله ابن حبيب وموسى بن أحمد الوتر وغيرهما حسبما ذكرنا ذلك في أوائل الأنكحة قال في المدونة: ولا وصية لجد.

وقال الشافعي: للجد في عدم الأب ما للأب من النظر ولما نقل ابن الحاجب أنه لا وصية للأم قال فيها: وتصح في اليسير كستين دينارا فأشار إلى أن القدس لا تصح في اليسير

(2/400)

________________________________________

كالكثير وكذلك صرح به ابن القاسم في المدونة، وقال استحسنه مالك وليس بقياس.

(وللوصي أن يتجر بأموال اليتامى ويزوج إماءهم):

ظاهر كلامه يقتضي أنه مخير ولا يجبر عليه ببر أو بحر وهو كذلك رواه ابن وهب وقيده غير واحد بزمان الأمن واعلم أن عطاء ماله قراضا من معنى التجر لأنه للولد فهو شيء مأذون فيه لا يعارض بقولهم لا يودع إلا من ضرورة واختلف هل يعمل هو به قراضا أم لا؟ والقائل بمنعه هو أشهب، وفي رهون المدونة: ولا يعجبني أن يعمل به الوصي لنفسه، قال اللخمي: ولا يسلف ماله لأنه معروف إلا أن يكون كثير التجر ويسلف اليسير مما يصلح وجهه للناس ولا بأس أن يتسلف له، والمذهب على أنه لا يشتري لنفسه من مال المحجور شيئا، ولا يتخرج فيه الجوازمن قول عبدالوهاب يجوز للوكيل احتياطا لليتيم لعجزه عن الذب عن نفسه والله أعلم.

فإن وقع تعقبه الحاكم فإن رآه سدادا أمضاه وإلا فلا، واختلف هل يراعي يوم الشراء قاله ابن كنانة أو يوم الحكم قالهابن الماجشون أو الأحوط على ثلاثة أقوال والثالث هو ظاهر المدونة في آخر كتاب الدور والأرضين في قوله: ولا أحب للوصي أن يشتري من مال يتيمه شيء أو يكري أرضا له من نفسه فإن نزل أعيد ما اشترى إلى السوق فإن زيد عليه بيع وإلا لزم الوصي ما اشترى قال شيخنا أبو مهدي الغبريني أيده الله تعالى.

قلت: وعليه يحمل ما في الوصايا الأول من المدونة ونحوه في الإجازة في قوله: ينظر السلطان فإن كان فيه فضل كان لليتامى وإلا ترك واختلف المذهب إذا قيل الوصي الوصية ثم بدا له على ثلاثة أقوال: فقيل له ذلك مطلقا، واسشكله بعض الشيوخ لأنه غر الموصي، إلا أن يقال التزم ما لا غاية له، وقيل لا رجوع له مطلقا على ظاهر قول القاضي عبدالوهاب في معونته إذا قيل الوصي الوصية ثم أراد تركها لم يجز له ذلك إلا أن يعجز أو يظهر له عذر لأنه قربة وفعل خير ألزمه لنفسه كالصوم الحج.

قال ابن شاس وهو ظاهر قول شيخنا أبي القاسم قال غيره وهو ظاهر قول التونسي عن أشهب، وقيل له ذلك في حياة الموصي وليس له ذلك بعد مماته وهو قول أشهب وظاهر قول المدونة وهذا كله ما لم يقبل بعد الموت فإن قبل فلا كلام له عند الأكثر باتفاق وقال ابن الحاجب: لا رجوع بعد الموت والقبول على الأصح، قال ابن هارون: ولا نعلم فيه خلاف، وقال ابن عبدالسلام قال بعضهم: ولا فرق بين قبوله بعد الموت أو قبله أن له الرجوع وقد أطرد تعليل أشهب بأن ما قبله في حياته لهالرجوع عنه في حياته لأنه لم يغره قلت قال بعض شيوخنا وما ذكره لا أعرفه لعير أبي إبراهيم في قوله لا فرق بين رجوعه قبل ولا بعد لأنه لم يغره.

(2/401)

________________________________________

وفرق بين قبوله بعد الموت قيل لما ثبت بالفعل بخلاف قبوله في الحياة قال أصبغ: فالرجل يوكله السلطان بالنظر لليتيم فيقبل ذلك منه فليس له أن يعتزل عن ذلك السلطانأو لم يعزل إلا أن يزيله السلطان على وجه النظر فهو في غير لحسن نظره فرأي بعض الشيوخ أنه مخالف للمدونة، وقال ابن عبدالسلام يحتمل أن يكون وفاقا لأن السلطان مستدرك لما أخل به الوصي وأهمله قبل الوصي من السلطان صار قبوله كأنه من الأب فلا رجوع له عنه قال: وهذا الكلام نبه عليه بعض الشيوخ في غير هذه المسألة وخالف فيه غير واحد لكنه مناسب هنا، قلت: المسألة التي أشار إليها هي مسألة الوتد السابقة ويقوم من قول أصبغ أن الرجل إذا التزم إمامة مسجد بتقديم القاضي فليس له أن يعزل نفسه لا أن يكون عرفا فإما بالإطلاق وإما بإرادة تبديله بغيره لكثرة مرتبة الثاني فله ذلك والعمل جرى عندنا بأن له ذلك مطلقا فصار مدخولا عليه.

(ومن أوصى إلى غير مأمون فإنه يعزل):

ظاهره وإن علم الموصي بعيبه وهو كذلك عند سحنون، وهو ظاهر أول قسمة المدونة وإذا أسند مسلم وصيته إلى ذمي أو مسخوط لم يجز ذلك ولا يكون وصيا وهو ظاهر ما في وصاياها أيضا، وقال المغيرة: لا يعزل ويقوم مع عدل وقال أصبغ ومصرف وابن الماجشون بالأول إلا أن يكون مثل القريب والمولى والزوجة، ومن يرى حسن النظر لقرابته أو لولايته وشبه ذلك فالثاني وقيل: إن لم يعلم الذي أوصاه بحاله فالأول وإلا فالثاني نقله ابن الحارث، وظاهر كلام الشيخ أن المأمون الوصية إليه صحيحة وإن كان أعمى واعلم أنه يشترط في الوصية خمسة شروط ذكرها ابن شاس أن يكون مسلما، مكلفا، عدلا، ذا كفاءة، وذا هداية في التصرف.

وإن أوصى ذمي إلى مسلم، فقال في المدونة: إنلم تكن تركته خمرا أو خنازير ولم يخف أن يؤخذ بالجزية فلا بأس بذلك، واختلف في عكسها على ثلاثة أقوال: فقال ابن القاسم: كره مالك الوصية لليهودي والنصراني وكان قبل يجيزه وأن أرى أنه لا بأس به إن كان على وجه الصلة مثل أن يكون أبوه يهوديا أو نصرانيا أو أخوه أو إخوته فليصلهم وأراه حسنا وأما غير هؤلاء فلا، وأما وصية الذمي للذمي فلا يمنعون منها وإن كان في الوصي خمر قاله ابن الماجشون وقال أشهب: ولو أوصى ذمي إلى حربي لم يجز وإن كان مستأمنا وإن أوصى الحربي المستأمن إلى ذمي جاز وتجوز وصية الحربي للمسلم.

(ويبدأ بالكفن ثم الدين ثم الوصية ثم الميراث):

(2/402)

________________________________________

الأمر كما قال لأن الكفن مقدم على الدين ونص على ذلك من رواية ابن القاسم ووجهه أن الغرماء عاملوه على ذلك ألا ترى أنه إذا فلس لا يباع لباسه المعتاد ما عدا ثوبي جمعته إذا كانت لهما قيمة لأنهما في حقه سرف، وقال ابن كنانة: لا يترك للمفلس إلا ما يستر به عورته خاصة فيجري على قوله هذا لا يلزم الغرماء في الموت إلا ستر العورة خاصة والباقي عل المسلمين من باب أخرى لخراب ذمته بالموت والله أعلم.

ولم يرتض شخينا أبو مهدي رحمه الله ما ذكرنا عن التخريج لقدرة المفلس على السعاية ويريد الشيخ أن مؤنة الدفن كالكفن مقدمة وخشونة كفنه ورقته على قدر حاله.

(ومن حاز دارا على حاضر عشر سنين تنسب إليه وصاحبه حاضر عالم لا يدعي شيء فلا قيام له):

(2/403)

________________________________________

ما ذكر الشيخ أن الحرز مقداره عشر سنين قال به جميع أصحاب مالك وقيل: لا حد في ذلك والمرجع إلى العرف وهو قول مالك في المدونة قال فيها: ولم يحك مالك في الحيازة عشر سنين ولا غير ذلك، وقيل: تسع سنين قاله ابن القاسم في أحد قوليه، ويريد الشيخ ما لم يحدث فيها من هي بيده بناء أو هدما فإن أحدث فيها شيء من ذلك سقط قول المدعي إذا علم بنفس الفعل واختلف المذهب، هل يلزم الحائز الكشف من أين صارت له أم لا؟

فأفتى ابن أبي زمنين بأنه لا يلزمه قائلا: لأنه يقول ملكتها بوجه لا يريد إظهاره وخالفه غيره والقولان ذكرهما عياض، واختار شخينا أبو مهدي حفظه الله الأول قاله وبه القضاء واعلم أن الخلاف السابق إنما هو الحاضر وأما الغائب فلا حيازة عليه قاله في المدونة، وأطلق الكلام في هذا ولا شك أن الغيبة على قسمين تارة تكون بعيدة فالأمر كما ذكرنا وتارة تكون قريبة كأربعة أيام ثبت عجزه وضعف عن الإتيان بذاته أو بالنيابة عنه بالتوكيل فكالأزل وعكسه حكمه حكم الحاضر، وإن أشكل أمره فهل يسقط حقه أم لا؟ في ذلك قولان لابن حبيب وابن القاسم وهذا كله في غير حق الله، وأما حق الله تعالى فلا ينتفع فيه بالحيازة وإن طالت أحدث ضررا على المسلمين في طريقهم باقطاع شيء منها.

وظاهر كلام الشيخ أن الحاضر محمول على عدم العلم حتى يثبت وهو كذلك عند ابن سهل، كذا عزاه بعض من لقيناه وهو ظاهر التهذيب قال فيه كان هذا المدعي يراه يبني ويهدم ويكري فلا حجة له.

وقيل إنه محمول على العلم حتى يثبت خلافه وهو قول ابن رشد رحمه الله.

وقيل بالأول إن كان وارثا وبالثاني إن لم يكن، قاله في وثائق المجموعة إنما هو التشبيه على فرع آخر متفق عليه، وهو إذا ادعى الوارث الجهل بملك موروثه الشيء المتنازع فيه فإنه يقبل قوله مع يمينه قاله المغربي.

انظر إذا قال علمته ولم أجد ما أقوم به ووجدته الآن هل يعذر أم لا؟ قلت واختار شخينا أبو مهدي حفظه الله أنه يقبل منه لأنه كالمعترف بأنه لا حق له مدع رفعه وقول المدونة في الذي يقول علمت العيب ونسبته مشكل قال الفاكهاني: واقتصر الشيخ على حيازة الرباع وأما الثياب فالسنة والحيوان والأمة والسنتين إلا أن يطأ فتكون أم ولد قاله أصبغ.

(ولا حيازة بين الأقارب والأصهار في مثل هذه المدة):

يعني وإنما المعتبر في ذلك أكثر من عشر سنين كخمسين سنة، وبه قال مطرف

(2/404)

________________________________________

في كتاب ابن حبيب قال: لا حيازة بين الورثة فيما يزرع أو يسكن إلا في مثل خمسين سنة، وقيل إن الأقرباء كغيرهم قاله أشهب وابن وهب وهو ظاهر المدونة قال فيها قلت لابن القاسم، أرأيت لو أن دارا لي ورثتها عن أبي وأقام ابن عمي بينة أنها دارجده وطلب موروثه قال هذا من وجه الحيازة التي أخبرتك، فإن قلت لأي شيء اختصرها البراذعي بلفظه سؤالا وجوابا، وقد قدمتم غير ما مرة أن لا يفعل ذلك إلا لمعنى من المعاني فما هذا المعنى.

قلت استشكالا للحكم لما علم من الحنانة والشفقة التي بين الأقرباء فلا يكون حكمهم بحكم الأجانب على الظاهر ببادئ الرأي فجعل حكمهم حكم الأجانب مشكل والله أعلم.

وقال بعض القرويين: إن كانت بين الأقرباء مشاحنة فهم كالأجانب يعتبر فيهم العشر سنين، وظاهر كلام الشيخ أن الولد كغيره من الأقارب وهو كذلك وروى أصبغ عن ابن القاسم ليس بين الولد وأبيه حيازة وإن طالت وما ذكر الشيخ من أن الصهر كالأقرباء وكذلك نص عليه سحنون في المدونة.

(ولا يجوز إقرار المريض لوارثه بدين أو بقبضه):

يعني بالمرض المخوف عليه، وإنما كان ذلك كما قال لأنه يتهم أن يكون كاذبا، والحامل كالصحيح حتى تدخل في الشهر السادس فهي كالمريض في أحكامه حكاه المتيطي وقيل حتى تدخل في السابع قاله في الموطأ به فسر عياض المذهب في كتاب الخيار.

ونقهل المازري عنابن الماجشون فقط وقيل هي كالصحيح حتى يأخذها الطلق نقله المتيطي عن الداودي وابن شهاب.

قلت: قال بعض من لقيناه ممن يظن به حفظ المذهب بنقل غير ما مرة عن السيوري أن حكمها حكم الصحيح وإن أخذها المطلق لأن الأعم الأغلب عدم موتها ولم أقف عليه له بل حكى بعضهم الإجماع على أنها حينئذ كالمريض.

قال المازري: فإن صح الإجماع فواضح وإلا فمقتضى النظر أنه لا يحكم لها بذلك لأنه لو كان الموت على هذا المرض غالبا للزم أن لا تلد المرأة إلا مرة واحدة، والمعلوم خلافه وخارج المذهب قول عن المسيب هي بمنزلة المريض من أول حملها وهو بعيد، وطاهر كلام الشيخ أن إقرار أحد الزوجين لصاحبه في مرضه لا يجوز وهو كذلك إن علم الميل والمحبة له دون غيره وعكسه عكسه وإن أشكل الأمر ففيه تفصيل ذكره ابن رشد في المقدمات، ولولا الإطالة لذكرناه قال في البيوع الفاسدة من المدونة

(2/405)

________________________________________

وبيع المريض من ولده بغير محاياة جائز.

قال التونسي: إن حاباه بغير البيع كبيعه منه خيار ماله فلورثته نقض ذلك ولو زاد ثمنه على قيمته وإن حاباه في ثمنه فقط ولو أتم بقية الثمن ما كان ذلك له لأن البيع وقع على التأجيل وقيل إن أتم بقية المحاباة فلا قول للورثة.

(ومن أوصى يحج أنقذ عنه):

ما ذكر هو المشهور وقال ابي كنانة لا ينفذ لأنه عمل بدن وقول الشيخ أوصى يقتضي أن ذلك من الثلث وهو المذهب وقال الشافعي من رأس المال.

(والوصية بالصدفة أحب إلينا):

إنما كانت الوصية بالصدقة أحسن لأن الميت ينتفع بها باتفاق بخلاف الحج ففيه اختلاف وما يتفق عليه أولى ويقوم من كلام الشيخ أن الوصية بالمال أفضل من أن يوقف مالا برسم أن يقرأ عليه القرأن به لأنه مختلف بين أهل العلم وأنه للميت أم لا، ومذهب مالك أنه لا ينتفع به الميت، قال عبد الحق ولذلك لا تقرأ الفاتحة في صلاة الجنائز.

(وإذا مات أجير قبل أن يصل فله بحساب ما سار ويرد ما بقي وما هلك بيده فهو منه إلا أن يأخذ المال على أن ينفق على البلاغ فالضمان من الذين واجروه ويرد ما فضل إن فضل شيء):

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في الفرائض

خرج أبو داود عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العلم ثلاثة وما سوى ذلك باطل آية محكمة أو سنة ماضية أو فريضة عادلة" وأراد بقوله ماضية قائمة، وكذلك رواه غيره، قال عبد الحق في إسناده عن عبد الرحمن الإفريقي قاضيها ضعفه.

قلت: قال المازري: في البحاري وما هو مقارب الحديث، وقال أبو عمر بن عبدالبر ضعفه بعضهم، وأما أهل المغرب ومصر وإفريقية فيثنون عليه بالفضل والدين وروي عنه جماعة من الأئمة الثوري وغيره، وقال أبو سليمان الخاطبي رضي الله عنه: الآية المحكمة هي كتاب الله، واشترط فيه الإحكام لأن من الآي ما هو منسوخ ولا

(2/406)

________________________________________

يعمل به وإنما يعمل بناسخه. والسنة القائمة هي الثابتة بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم.

وقوله أو فريضة عادلة يحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون من العدل في نفسه فتكون معدل على الانصباء والسهام المذكورة في الكتاب والسنة.

والوجه الثاني: أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة.

وحض صلى الله عليه وسلم على الفرائض بقوله "تعلموا الفرائض وعلموها للناس فإنها تنسي وإنها أول ما يرفع".

قال الفاكهاني: وعلم الفرائض أجل العلوم خطرا وأعظمها قدرا وأعظمها أجرا وهي من العلوم القرآنية والصناعة الربانية وقد خض صلى الله عليه وسلم على ذلك ورغب فيه.

(ولا يرث من الرجال إلا عشرة الابن وابن الابن وإن سفل والأب والجد للأب وإن علا والأخ وابن الأخ وإن بعد والعم وابن العم وإن بعد، والزوج ومولى النعمة):

ما ذكر الشيخ صحيح يريد بالجد الجد للأب، وابن الأخ إذا كان شقيقا أو الأب وإن كان للأم فلا يرث شيء وصرح به الشيخ ببعد وكذلك العم وابن العم للأم لا يرث، وهذا قال الفاكهاني: ولو قال الأب وأبوه لكان أحسن ليخرج به الجد للأم، وكذلك لو قال والأخ العاصب لكان أحسن ليخرج ابن الأخ للأم وكذلك في العم، وقوله وولي النعمة إضافة مجازية لأن المنعم في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، واعلم أن الذكور كلهم يرثون بالتعصب إلا الزوج والأخ وكلهم يرثون بالنسب إلا الزوج ومولى النعمة.

(ولا يرث من النساء غير سبع البنت وابنة الابن والأم والجدة والأخت والزوجة ومولاة النعمة):

واعلم ان كلهن يرثن بالفرض إلا الأخت ترث مع البنت بالتعصيب ومولاة النعمة وكلهن يرثن بالنسب إلا ابن الزوجة ومولاة النعمة.

(وميراث الزوج من الزوجة إن لم تترك ولد ولا ولد ابن النصف فإن تركت ولدا أو ولد ابن منه أو من غيره فله الربع وترث هي منه الربع):

لقوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد) [النساء: 12]

ولا خلاف أن ابن الابن وإن سفل كالابن سواء كان الابن أو ابن الابن ذكر أو أنثى، واعلم أن أصحاب النصف خمسة بنت الصلب وبنت الابن والأخت الشقيقة والأخت

(2/407)

________________________________________

للأب، والزوج مع عدم الولد أو ولد الولد.

(وترث هي منه الربع إن لم يكن له ولد ولا ابن فإن كان له ولد أو ولد ابن منها أو من غيرها فلها الثمن):

(2/408)

________________________________________

واعلم أن أصحاب الربع اثنان: الزوج مع الولد أو ولد الولد أو الزوجة والزوجات مع عدمه، وأصحاب الثمن صنف واحد الزوجة والزوجات مع وجود الولد أو ولد الولد.

(وميراث الأم من ابنها الثلث إن لم يترك ولدا أو ولد ابن أو اثنين من الإخوة ما كانوا فصاعدا):

اعلم أن أصحاب الثلث اثنان: الأم والإخوة للأم فترث الأم الثلث كما قال إن لم يكن ولدا ولا ولد ابن ولا أخوان فاكثر ما كانا شقيقين أو لأب أو لأم سواء كانا ذكرين أو انثيين أو ذكر أو أنثى، وذهب ابن عباس إلى أن لها مع الأخوين الثلث ومع الثلاثة فأكثر السدس مستدلا بقوله تعالى (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) [النساء:11]

وتابعه على قوله جماعة، وخلافهم في هذه المسألة يجري على الخلاف في أقل الجمع هل هو اثنان أو ثلاثة قاله ابن عبد السلام، وفيه نظر لأن عثمان يسلم له فهمه في الآية في أن الأخوين ليسا بأخوة، وإنما أشار به بالرد عليه؛ لأن الإجماع أن الاثنين كالثلاثة.

ووافق ابن عباس في زوج وأم وأخ وأخت لأم أن للزوج النصف، وللأم السدس، ولكل واحد من الأخ والأخت وللأم السدس ولو كان للأم الثلث لعالت المسألة.

قال بعض الناس: والإجماع على أن هذه الفريضة لا تعول قال ابن عبد السلام بعد أن ذكر ما قلناه وفي الاحتجاج عليه بهذه المسألة نظر لاحتمال أن يقول فيها ابن عباس بسقوط الأخوين للأم على أصله في العول إذا أدى الأمر إليه، قلت: وهذا كما ترى ضعيف؛ لأن ابن عباس قد نقل عنه بأن الأخوين لكل واحد منهما السدس فكيف يتوهم أنهما يسقطان، ومرض الفاكهاني قول ابن عباس بأن اتفاق الجماعة ومعظمهم غير معاذ بن جبل رضي الله عنه على أن الثلاث أخوات يحجبن الأم من الثلث إلى السدس مع أنه لا يطلق عليهم إخوة، فقيل له إذا وقفت مع ظاهر اللفظ فينبغي أن تقول بقول معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(إلا في فريضتين في زوجة وأبوين فللزوجة الربع وللأم الثلث ما بقي وما بقي للأب وفي زوج وأبوين فللزوج النصف وللأم الثلث ما بقي وما بقي للأب ولها في غير ذلك

(2/409)

________________________________________

الثلث إلا ما نقصها العول):

ما ذكر هو مذهب الجمهور وخالف ابن عباس في ذلك فأعطى للأم الثلث من رأس المال، وأعطى الزوج أو الزوجة كذلك النصف أو الربع وسبب الخلاف بينهم قوله تعالى (وورثه أبواه فلأمه الثلث) [النساء: 11]

فابن عباس رأى الآية منطبقة على هذين اللفظين والجمهور حملوا الآية على ما إذا كان جميع ما خلف الميت الأبوين لا غيرهما بدليل قوله تعالى (فإن كان إخوة فلأمه السدس) [النساء:11]

ورأوا أن ما أخذه الزوج والزوجة كمستحق على التركة وكان التركة ما بقي بعد نصيب الزوجين قال ابن عبد السلام وهذا الأخير أشبه بمرادهم، وذهب ابن سيرين إلى قول الجمهور لأن نصيب الأم على مذهبهم ثلث ما بقي وهو السدس وذلك معهود في نصيب الأم مع ولد أو إخوة وفي زوجة وأبوين إلى قول ابن عباس لأن الواجب لها على مذهب الجمهور ثلث ما بقي وهو الربع، وذلك غير معهود في فرضها.

(إلا أن يكون للميت ولد أو ولد ابن أو اثنان من الإخوة ما كانا فلها السدس حينئذ):

اعلم أن أصحاب السدس سبعة: الأب والأم والجد والجدة وبنت الابن مع بنت الصلب والأخت للأب مع الأخت الشقيقة والأخ الواحد من قبل الأم.

(وميراث الولد الذكر جميع المال إن كان وحده أو يأخذ ما بقي بعد سهام من معه من زوجة وأبوين أو جد أو جدة):

لا خلاف أن الابن إذا انفرد أنه يأخذ المال أجمع قال ابن عبد السلام: وكنت أوقفت في كتاب ابن ثابت المؤلف في الفرائض على خلاف في الابن هل هو عاصب أم لا ولا أدري ما معنى ذلك الخلاف ولعله خلاف في التسمية.

قلت: قال بعض شيوخنا: ويرد بأن معناه واضح وقد ذكرناه في كتاب الولاء من قولنا وقال اللخمي: وميراث مولى المرأة لعصبتها وعقلها على قومها إن لم يكن لها ولد فإن كانلها ولد فقال مالك: ميراثهم لولدها وجريرتهم على قومها وقال ابن بكير النظر أن ميراث لولدها منه وهو قول عمر رضي الله عنه.

وقال عبد الوهاب: قيل: يحمل ولدها مع العاقلة لأن البنوة عاصبة بنفسها قال شيخنا فقول ابن بكير ظاهر في أن ولد المرأة ليس من العصبة والخلاف إذا معنوي لا لفظي فتأمله منصفا قال الفاكهاني: وإنما حاز الولد الذكر إذا انفرد المال أجمع لأربعة أوجه:

الأول: الإجماع على ذلك.

(2/410)

________________________________________

الثاني: أن الله تعالى لما نص على حيازة الأخ جميع المال إذا انفرد بقوله (وهو يرثها) [النساء: 176]

وهي في حال اجتماعها مع الذكر تأخذ نصف ما يأخذ فليكن للابن إذا انفرد مثلا مالها وذلك في جميع المال قياسا على حال الاجتماع.

الرابع: أن الابن أقوى تعصيبا من كل العصبات بدليل أن سائرهم معه على ضربين إما أن يسقطوا جملة كالإخوة وإما أن يصبروا من أهل السهام كالأب.

(وابن الابن بمنزلة الابن إذا لم يكن ابن):

قال الفاكهاني: ليس هذا على عمومه وبيان أن الابن لا يسقط بحال البتة وابن الابن يسقط في ثلاث مسائل أحدها أبوان وابنتان وابن ابن وكذلك إن كان زوج إو زوجة فكان حقه أن يقول يريد غالبا كما قلناه في منهاج الفرائض في علم الفرائض.

(فإن كان ابن وابنة فللذكر مثل حظ الانثيين وكذلك في كثرة البنين والبنات وقلتهم يرثون كذلك جميع المال أو ما فضل منه بعد من شركهم من أهل السهام):

ما ذكر لا خلاف فيه، وقد اختلف في سبب نزول آية الوصية حسبما هو مذكور في محله.

(وابن الابن كالابن في عدمه فيما يرث ويحجب):

قد تقدم للشيخ ما يغني عن هذا وخالف مجاهد في الحجب يجعله الزوج ولا الزوجة مستدلا بقوله تعالى (إن كان له ولد) [النساء: 11]

وهذا ليس بولد. قال الفاكهاني: واختلف هل يطلق عليه ولد حقيقة أو مجازا والذي اختاره السهيلي حقيقة.

(وميراث البنت الواحدة النصف وللأنثتين فصاعدا الثلثان فإن كثرن لم يزدن على الثلثين شيئا):

قد قدمنا أن أصحاب النصف خمسة إحداها: بنت الصلب وبنت الابن والأختان الشقيقتان والأختان للأب، والأصل فيما ذكر الشيخ قوله تعالى (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف) [النساء: 11]

، ومعنى قوله تعالى (فإن كن نساء فوق اثنتين) [النساء: 11]

أي اثنتين فأعلى ومنه قوله تعالى (فاضربوا فوق الأعناق) [الأنفال: 12].

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن للبنتين النصف قال بعض المحدثين وهي رواية ضعيفة والصحيح عنه مثل قول الجمهور ولما رواه الترمذي عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبدالله قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد

(2/411)

________________________________________

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك وإن عمهما أخذ مالهما، ولا ينكحن إلا ولهم مال قال "يقضي الله في ذلك" فنزلت آية المواريث فبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال "اعط ابنتي سعد الثلثين واعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك" قال هذا حديث حسن صحيح.

وقال أبو عمر بن عبدالبر قد روي من أخبار العدل فذكر هذا الحديث وابن عقيل هذا وإن كان مختلف فيه ولكن هذان الإمامان قد ذكرا ما تقدم وإنما احتجا بالحديث المذكور لأن الآية ليست بنص في الذي ذكروا.

(فإن كانت ابنة وابنة فللبنت النصف ولبنت الابن السدس تمام الثلثين):

ما ذكره هو مذهب الجمهور وقال ابن مسعود يكون الباقي للذكر وحده ووافقه على ذلك علقمة وأبو ثور واحتج أبو ثور بقوله صلى الله عليه وسلم "ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر".

(وميراث الشقيقة النصف وللاثنين فصاعدا الثلثان فإن كانوا إخوة وأخوات شقائق أو لأب فالمال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين قلوا أو كثروا):

الأصل في ذلك قوله تعالى "يستفتونك" [النساء: 176]

الآية.

(والأخوات مع البنات كالعصبة لهن يرثن ما فضل عنهن ولا يربي لهن معهن ولا ميراث للأخوات والإخوة مع الأب ولا مع الولد الذكر أو مع ولد الولد والإخوة للأب في عدم الشقائق كالشقائق ذكورهم وإناثهم فإن كانت أخت شقيقة وأخت وأخوات لأب فالنصف للشقيقة ولمن بقي من الأخوات للأب السدس ولو كانتا شقيقتين لم يكن للأخوات للأب بشيء إلا أن يكون معهن ذكر فيأخذون ما بقي للذكر مثل حظ الانثيين):

فهذا تعقب على ابن الحاجب بقوله: ولا يكون التعصب إلا في ذكر يدلي بنفسه أو بذكر وأجاب ابن عبد السلام بأنه إنما يلزم هذا إن عطف قوله أو ذكر على نفسه وهو محتمل أن يكون معطوفا على ذكر وهو الذي يكون بسبب ذكر فكأنه يقول لا يكون إلا في ذكر موصوف بكذا أو بسبب ذكر وهذا الذي يكون بسبب ذكر قد يكون في ذكر كالأخ، وقد يكون أنثى كالأخت مع البنت.

قلت: قال بعض شيوخنا فيما ذكره بعد لأنه قاصد لاختصار كلام ابن شاس

(2/412)

________________________________________

وهو لا يقبل هذا الاحتمال لأن لفظه ويرث بالتعصيب كل ذكر يدلي بنفسه أو بذكر ويلزم على قوله في الاحتمال الذي ذكره أن تكون الباء في بنفسه للتعدية وفي بذكر للسببية ويلزم عليه أن تكون بنت الأخ عاصبة للبنت عملا بالسببية لقولهم حجة الأشقاء على الإخوة للأم في الحمارية بمشاركتهم إياهم في سبب إرثهم.

(وميراث الأخت للأم والأخ للأم سواء السدس لكل واحد وإن كثروا فالثلث بينهم الذكر والأنثى فيه سواء):

الأصل في ذلك قوله تعالى (وإن كان رجل يوث كلالة أو امرأة) [النساء: 12]

وأجمعوا على أن المراد بالأخ والأخت في هذه الآية من قبل الأم خاصة وعلى أن الشركة بينهم في ذلك سواء الأنثى كالذكر لقوله شركاء.

(ويحجبهم عن الميراث الولد وبنوه والأب والجد للأب والأخ يرث المال إذا انفرد إن كان شقيقا أو لأب والشقيق يحجب الأخ للأب وإن كان الأخ وأخت فأكثر شقائق أو لأب فالمال بينهم للذكر مثل حظ الانثيين):

يعني: عمودي النسب سفلي وعلوي.

(وإن كان مع الأخ ذو سهم بدئ بأهل السهام وكان له ما بقي وكذلك يكون ما بقي للإخوة والأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين فإن لم يبق شيء فلا شيء لهم):

قيل: هذا لا يختص الأخ بل كان عاصب كذلك حكمه.

(إلا أن يكون في أهل السهام إخوة لأم قد ورثوا الثلث وقد بقي أخ شقيق أوإخوة ذكورأو ذكور وإناث شقائق معهم فيشاركون كلهم الإخوة للأم في ثلثهم فيكون بينهم بالسواء وهي الفريضة التي تسمى المشتركة ولو كان من بقي إخوة لأب لم يشاركوا الإخوة للأم لخروجهم عن ولادة الأم وإن كان من بقي أختا أو أخوات لأبوين أو لأب أعيل لهن وإن كان من قبل الأم أخ واحد أو أخت لم تكن مشتركة وكان ما بقي للإخوة إن كانوا ذكورا وإناثا وإن كن إناث لأبوين أو لأب أعيل لهن والأخ للأب كالشقيق في عدم الشقيق إلا في المشتركة):

صورتها امرأة ماتت وتركت زوجا وأما أو جدة وأخوين لأم فصاعدا وأختا شقيقة وأخا شقيقا وحده أو مع غيره يشتركون في الثلث الذكر والأنثى سواء وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما، وقيل إن الأشقاء لا يشاركون الإخوة للأم، قاله أبو حنيفة وغيره.

واختلف رأي الصحابة رضوان الله عليهم حتى إن كل من تكلم فيها اختلف

(2/413)

________________________________________

قوله بهذين القولين ومال بعض من ألف في الفرائض عن مذهب مالك إلى مذهب أبي حنيفة وهو أبو عمر بن عبد البر رضي الله عنه وتسمى هذه المسألة بالحمارية لأنها رفعت إلى عمر رضي الله عنه فأراد أن يحكم فيها بإسقاط الإخوة الأشقاء فقال واحد منهم: هب أبانا حمارا أليست أمنا واحدة، فحكم بالثلث لجميعهم بالسواء قال ابن خروف فإن كان مع ذلك جد فلا نص فيها ومذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه أن للزوج النصف وللأم أو الجدة السدس أو للجد السدس وللإخوة الأشقاء كذلك، واختلف أصحاب مالك فيها فمنهم من قال بما تقدم عن زيد ومنهم من جعل الثلث كله للجد.

وأما الفريضة المسماة بالمالكية وهي زوج وأم وجد وأخ لأب وأخ لأم قيل: للأخ السدس قاله ابن خروف وهو اختيار ابن يونس وظاهر نقل ابن شعبان في زاهيه عن ابن وهب، وذكره ابن العربي عن مالك في غاية الوصية من أحكامه، وقال بعض شيوخنا: لا أعرفه لغيره ولم يذكره في قبسه ولا عارضته، وقيل: يسقط الأخ والثلث أجمع للجد نقله الباجي عن مالك، وقال ابن خروف: سميت مالكية لأن مالكا خالف فيها زيد بن ثابت زاد غيره مع شدة اتباعه لزيد في الفرائض.

قال ابن رشد: سميت بذلك لقول مالك فيها وصحة اعتبار فيها وظاهر كلامه أن مالكا لم يختلف قوله فيها وهذه المسألة منهم من فرعها على المشتركة كالحوفي وأبي النجار ومنهم من فرعها على الأكدرية كابن شاس وابن الحاجب.

(وابن الأخ كالأخ في عدم الأخ كان شقيقا أو لأب ولا يرث ابن الأخ للأم، والأخ لأبوين يحجب الأخ للأب، والأخ للأب أولى من ابن أخ شقيق وابن أخ شقيق أولى من ابن أخ لأب. وابن أخ يحجب عما لأبوين وعم لأبوين يحجب عما لأب، وعم لأب يحجب ابن عم لأبوين، وابن عم لأبوين يحجب ابن لأب، وهكذا يكون الأقرب أولى ولا يرث بنو الأخوات ما كن ولا بنوا البنات الأخ ما كان ولا بنات العم ولا جد لأم ولا عم أخو أبيك لأمه):

قال الفاكهاني: يريد في التعصب خاصة لأنه لا يتنزل منزلته من كل وجه لأن ابن الأخ لا يعصب أخته ولا يحجب الأم اثنان من بني الإخوة وأن الجد يحجب ابن الأخ وأنه إذا كان في التركة مكان أبيه لم تكن مشتركة وابن الأخ للأم لا يرث.

(ولا يرث عبد ولا من فيه بقية رق):

اختلف العلماء في الذي بعضه حر فقال مالك كما قال الشيخ: هو كالقن لا يرث ولا

(2/414)

________________________________________

يورث، وماله لمن يملك الرق منه، وبه قال أبو حنيفة والزهري، وقالت طائفة: يرث المعتق بعضه ويورث وقيل ميراثه بين من يملك بعضه وبين من كان يرثه لو كان حرا قاله عطاء وعمرو بن دينار وإياس بن معاوية وغيرهم قال بعض التابعين ميراثه كله للذي أعتق بعضه وتقدم الخلاف في المكاتب إذا مات من يرثه على أربعة أقوال.

(ولا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم):

ما ذكر هو مذهبنا وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهم وكان معاذ ومعاوية يورثان المسلم من الكافر وروي مثله عن ابن الحنفية ومحمد بن علي بن الحسن، وغيرهما وحجتنا ما في الصحيح عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا توارث بين ملتين" وعنه صلى الله عليهوسلما قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" فهذا الرد من جهة النقل، ومن جهة المعنى أن الكافر قطع بينه وبين الله تعالى، فيقطع ما بينه وبين أوليائه وهم المؤمنون قال الله سبحانه "إنما المؤمنون إخوة" [الحجرات: 10]

ولا إخوة مسلم وكافر أيضا فإن الكافر أبيح دمه للمؤمنين والمال تبع للنفس فلما استبيح دمه لجميع المسملين، فكذلك ماله لبيت مالهم وليس بعضهم أولى من بعض لأنهم قدموا على من سواهم قاله السهيلي.

قال ابن عبد البر: واحتج الآخرون بحديث ليس بالقوي واختلف المذهب فيمن يظهر الإسلام ثم يطلع على زندقته فقتل بها أو مات، فروي ابن القاسم: يره ورثته المسلمون، وروى ابن نافع: كالمرتد وعليه الأكثرون، وقال ابن عبدالسلام وهو الأظهر لأن المقتضى حقيقة لقتله إنما هو كفره فيدخل تحت حكم المرتد والله أعلم.

(ولا ابن الأخ للأم ولا جد لأم ولا أم أبي الأم):

قال الفاكهاني: حقه أن يكون مع ماتقدم وهو ساقط من بعض النسخ.

(ولا ترث أم أبي الأب مع ولده أبي الميت):

هو قولنا وقول أكثر العلماء وحكي عن ابن مسعود وغيره أنها ترث مع الأب السدس.

(ولا يرث إخوة الأم مع الجد للأب ولا مع الولد ولد الولد ذكرا كان الولد أو أنثى ولا ميراث للإخوة مع الأب ما كانوا ولا يرث مع الجد ولا ابن الأخ مع الجد):

هذا منه رحمه الله تكرار إذ سبق له ذلك ولعله إنما كرره لزيادة قوله ذكرا كان

(2/415)

________________________________________

أو أنثى والله أعلم.

(ولا يرث قاتل العمد من مال ولا دية ولا يرث قالت الخطأ من الدية ويرث من المال):

قيل الإجماع أن قاتل العمد لا يرث من مال ولا دية وإنما اختلف العلماء هل يحجب ومذهبنا أنه لا يحجب وقبله ابن عبد السلام وفي هذا الإجماع نظرا لأن ابن المسيب وسعيد بن جبير ونفرا من البصريين ذهبوا إلى أنه يرث مطلقا أعني العمد والخطأ وذهب الشافعي إلى عكسه نقل ذلك الفاكهاني رحمه الله.

وأراد الشيخ بالعمد والعدوان وأما إن كان القتل عمدا غير عدوان كما إذا قتل القاضي ولده قصاصا فهذا يرث بلا خوف في المذهب وفي مذهب الشافعي ثلاثة أقوال: أحدها: ما تقدم.

والثاني: المنع لعموم الحديث.

الثالث: إن ثبت قتله بإقراره فإنه يرث إذ لا تهمة بخلاف البينة فربما تطرق تهمته إلى القاضي فيه.

قال الفاكهاني: وهل يرث المقتول من قاتله يعني إذا جرح موروثه ثم مات قبل المجروح لم أقف فيه نقل لأصحابنا وفي روضة النووي أنه يرث قلت: قد قدمناه في التكلم على منفوذ المقاتل وأن ابن يونس صوب قول المدونة أن منفوذ المقاتل لا تعمل فيه الزكاة قائلا: لأنه ميتة ألا ترى أن الإنسان لو أصيب بذلك لورث وإن لم تزهق نفسه وإن مات له ابن حينئذ لم يرث منه لأن الابن قد ورث منه.

وذكر اللخمي هذا عن ابن القاسم إذا ذبح الأب قال وإن انفذت مقالته ولم يذبح ورث هو ابنه ومثله حكى التونسي عن ابن القاسم أيضا.

ومن موانع الإرث اللعان والإرث ثابت بين الابن وبين أمه، والتوأمان شقيقان واستشكله بعضهم لانقطاع النسب وإذا لا جد بينهما ولا عم ولا اشتراك بينهما من جهة الأب شرعا.

وأما توأما الزنا فإنهما إخوة لأم وشذ ابن نافع في قوله شقيقان حكاه ابن رشد وفي توأمي المغتصبة خلاف فقيل بالأول وبه العمل وقيل بالثاني قاله المغيرة وابن دينار وضعفه وكذلك اختلف في توأمي المسيبة والمستأمنة على قولين.

(وكل من لا يرث بحال فلا يحجب وارثا):

احترز بقوله بحال من الإخوة للأم فإنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس وإن لم يرثوا لوجود الجد مثلا وكذلك لو كان أبوان وإخوة وكذلك الإخوة للأب في

(2/416)

________________________________________

مسائل المعادة كأخ شقيق وأخ لأب وجد فإن الشقيق بعد على الجد الأخ للأب فيقتسمون المال ثلاث ثم يرجع الشقيق على الأخ للأب فيأخذ ما بيده فقد حجب الأخ للأب الجد من النصف إلى الثلث ولم يرث شيئا.

(والمطلقة ثلاثا في المرض ترث زوجه إن مات من مرضه ذلك ولا يرثها وكذلك إن كان الطلاق واحدة وقد مات في مرضه ذلك بعد العدة):

الأصل في إرث من طلقها زوجها وهو مريض قضاء عثمان في امرأة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما واختلف إذا عقد اليمين في الصحة ووقع الحنث في المرض كما إذا حلف لزوجته لا دخلت الدار فدخلت فقيل إنها ترثه قاله في الأيمان بالطلاق والتخيير والتمليك من المدونة ومثله في العتق الأول منها أيضا وهو المشهور وروي زياد بن جعفر عن مالك أنها لا ترث حكاه الباجي.

قال ابن عبد السلام: وما رواه زياد هو صحيح عندي لانتفاء التهمة فيه من كل الوجوه، ألا ترى أن اليمين صدرت من الزوج في الصحة والحنث وقع منها قلت: ورده شيخنا أبو مهدي عيسى حفظه الله بأن عدم الإرث هو للظنة فلا يضر تخلفها في بعض الصور بدليل أن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه لا يتوهم متوهم عليه أنه أراد إخراج الزوجة من الميراث ومع هذا فقد حكم عثمان بإرثها اعتبار التهمة الأكثر قال أبو الحسن فعلى هذا القول لا ترثه إذا خالعها في مرضه لأنه أبين في البراءة من التهمة لأنه باختيارها وجعل ابن شاس وابن الحاجب التلاعن في المرض من ذلك وأبعده بعض شيوخنا لأنها فيه غير مختارة لخوف حدها يومئذ ولعانه إلا أن يرد باقيه خلافا أيضا نصا. واختلف إذا طلق ذمية أو أمة فأسلمت وعتقت بعد العدة وقبل موته فقيل: إنها ترثه قال ابن المواز وقيل: لا ترثه قاله ابن الماجشون.

(وإن طلق الصحيح امرأته طلقة واحدة فإنهما يتوارثان ما كانت في العدة فإن انقضت فلا ميراث بينهما بعدها ومن تزو امرأة في مرضه لم ترثه ولا يرثها):

يعني وتكون الطلقة غير فداء ولا خلاف أن التوارث بينهما وكذلك بقية أحكام الزوجية ثابتة بينهما من لزوم الطلاق والظهار والنفقة إلى غير ذلك وبهذا وجه ابن بشير قول ابن الماجشون فإن المطلقة طلاقا رجعيا يجوز وطؤها في العدة، ورده بعض شيوخنا بدليل أن الحائض والمعتكفة لا توطأ مع أن أحكام الزوجية ثابتة بينهما والمشهور أن المطلقة طلاقا رجعيا لا توطأ.

(وترث الجدة للأم السدس وكذلك التي للأب فإن اجتمعتا فالسدس بينهما إلا أن تكون التي للأم أقرب بدرجة فتكون أولى به لأنها التي فيها النص وإن كانت التي للأب

(2/417)

________________________________________

أقربهما فالسدس بينهما نصفين ولا يرث عند مالك أكثر من جدتين أم الأب وأم الأم وأمهاتهما ويذكر عن زيد بن ثابت أنه ورث ثلاث جدات واحدة من قبل الأم واثنتين من قبل الأب أم أم الأب ولم يحفظ عن الخلفاء توريث أكثر من جدتين):

ما ذكر هو مذهبنا وروي عن ابن عباس أن الجدة في عدم الأم كالأم يكون لها الثلث حيث يكون للأم والأصل في ميراث الجدة هو أن الجدة للأم جاءت إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأله ميراثها فقال لها مالك في كتاب الله شيء ولا علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فارجعي حتى أسال الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فقال أبو بكر هل معك غيرك؟ فقال محمد بن مسملة فأنفذه لها أبو بكر ثم جاءت الأخرى إلى عمر رضي الله عنه تسأله ميراثها فقال مالك في كتاب الله شيء وما كان القضاء الذي قضى به أبو بكر إلا لغيرك وما أنا بزائد في الفرائض ولكن هو ذلك السدس فإن اجتمعتما فالسدس بينكما وأيكما خلت به فهو لها، قال بعض الشيوخ وهذا الحديث وإن كان غير متصل السند إلا أنه مشهور.

(وميراث الجد إذا انفرد ورث المال وله مع الولد الذكر أو مع ولد الولد الذكر فالسدس فإن شركه أحد من أهل السهام غير الإخوة والأخوات فليقض له بالسدس فإن بقي شيء من المال كان له):

قال الفاكهاني: اعلم أن الجد ليس له ذكر صريح في القرآن ولم أعلم فيه حديثا في الصحيح ولا في الحسن المتواتر وإنما ورث بإجماع الصحابة عليه فمن بعدهم وقد قال الفرضيون الذين يرثون بالإجماع ثلاثة أصناف: الجد وبنو البنين والأعمام وبنوهم.

(فإن كان مع أهل السهام إخوة فالجد مخير في ثلاثة أوجه يأخذ أي ذلك أفضل له إما مقاسمة الإخوة أو السدس من رأس المال أو ثلث ما بقي فأما إن لم يكن معه غير الإخوة فهو يقاسم أخا وأخوين أوعدلهما أربع أخوات فإن زادوا فله الثلث فهو يرث الثلث مع الإخوة إلا أن تكون المقاسمة أفضل له والإخوة للأب معه في عدم الشقائق كالشقائق فإن اجتمعوا عادة الشقائق بالذين للأب فمنعوه بهم كثرة الميراث ثم كانوا أحق منهم بذلك إلا أن يكون مع الجد أخت شقيقة ولها أخ لأب أو أخت لأب أو أخ وأخت للأب فتأخذ نصفها مما حصل وتسلم ما بقي إليهم ولا يربى للأخوات مع الجد إلا في الغراء وحدها وسنذكرها بعد هذا):

اختلف العلماء في الجد هل يحجب الإخوة أم لا؟ فقيل لا يحجبهم قاله مالك

(2/418)

________________________________________

وهو قول عمر وعلي وعثمان رضي الله عنهم وروي عن أبي بكر وابن عباس وابن الزبير وأبي موسى أن الجد يحجب الإخوة كالأب وبه قال أبو حنيفة وغيره.

وقد جمع عمر رضي الله عنه على هذه المسألة الصحابة في بيته ليتفقهوا في هذه القضية فانكسرت جائزة من البيت فتفرقوا وقيل الشعبي تسمع مسألة من الفرائض فقال هاتها إن لم يكن فيها جد قال ابن عبد السلام والنفس أركن إلى المذهب الثاني وبيان ذلك في علم الخلاف.

(ويرث المولى الأعلى إذا انفرد جميع المال كان رجلا أو امرأة فإن كان معه أهل سهم كان للمولى ما بقي بعد أهل السهام ولا يرث المولى مع العصبة وهو أحق من ذوي الأرحام الذين لا سهم لهم في كتاب الله):

روى أبو يعلى الموصلي ثم ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" وحكمه كعصوبة النسب إلا أن ابن الأخ يحجب الجد وابن العم أبا الجد.

(ولا يرث من ذوي الأرحام إلا من له سهم في كتاب الله):

ما ذكر هو مذهب الجمهور واحتج به من ذهب إلى توريثهم بقوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) [الأنفال: 75]

قالوا والآية على عمومها وبقوله تعالى (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) [النساء: 7]

قالوا وذوو الأرحام من الأقربين ويدرجون تحت النص وغاية ما في الباب إن قدر ذلك النصيب غير مذكور في الآية فقد ثبت استحقاقهم للنصيب وأما القدر فيستفاد من دليل آخر وأجيب عن ذلك بما هو معلوم في المطولات.

(ولا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتقن أو جره من أعتقن إليهم بولادة أو عتق):

ولو ذكر الشيخ هذه المسألة قبل الأولى لكان أنسق للترتيب وما ذكر الشيخ ذكره سحنون وأن إجماع المسلمين عليه قاله أجمع المسلمون أن النساء لا يرثن شيء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو ولد من أعتقن وإن سفل من ولد الذكر خاصة كان ذلك الولد ذكر أو أنثى.

(وإذا اجتمع من له سهم معلوم في كتاب الله فكان ذلك أكثر من المال أدخل عليهم كلهم الضرر وقسمت الفريضة على مبلغ سهامهم):

اعلم أن العول أول ما نزل بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال للصحابة: فرض الله للزوج النصف وللأختين الثلث فإن بدأت بالزوج لم يبق للأختين حقهما

(2/419)

________________________________________

وإن بدأت بالأختين لم يبق للزوج حقه فأشيروا علي فقال ابن عباس صلى الله عليه وسلم: عوله إلى سبعة أجزاء؟ فادفع ثلاثة منها للزوج وأربعة للأختين قال: أرأيت لو مات رجل وترك ستة دراهم ولرجل عليه ثلاثة ولآخر أربعة كيف تصنع أليس تجعل المال سبعة أجزاء فقال نعم فقال العباس هو كذلك وأجمع الصحابة عليه إلا عبد الله بن عباس وكان في ذلك الوقت صغير فلما كبر أظهر الخلاف.

(ولا يعال للأخت مع الجد إلا في الغراء وحدها وهي امرأة تركت زوجها، وأمها وأختها لأبوين أو لأب وجدها فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس فلما فرغ المال أعيل للأخت بالنصف ثلاثة ثم جمع إليها سهم الجد فقسم جميع ذلك بينهما على الثلث لها والثلثين له فتبلغ سبعة وعشرين سهما):

ما ذكرالشيخ من تصورهما هو كذلك ومثله عن زيد بن ثابت وعنه تصح من ستة وتسقط الأخت، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تصح من تسعة ويأخذ كل واحد ما بيده ولا يجمع نصيب الجد مع نصيب الإخوة وعن ابن مسعود تصح من ثمانية للأم السدس سهم.

وما ذكر أنها تسمى الغراء وبذلك سماها مالك فقيل: لأنها من غرة الفرس إذ لا يعرف في مذهب مسألة يفرض فيها للأخت مع الجد إلا هذه فكانت شهرتها في مسائل الجد وبيانها كغرة الفرس وقيل: من الغرور لأن الجد غر الأخت بسكوته عنها حتى فرض لها النصف ثم عاد عليها فقاسمها وتسمى هذه الأكدرية أيضا.

واختلف لأي شيء سميت بذلك فقيل: لتكدر قول زيد فيما قالوا لأنه فرض للأخت مع الجدولم يكن قبل ذلك يفرض لها معه، قال الفاكهاني: هذا القول ساقط عندي فول كان المعنى على ذلك لقيل: مكدرة لأن اسم الفاعل من كدر مكر إجماعا وقيل: إن رجلا فرضيا أتى بها يقال له الأكدر وقيل من بني الأكدر فسأل عنها عبد الملك بن مروان وهو يومئذ خليفة فأخطأ فيها ثم استدرك خطأه فقال له إليك عني يا أكدري وقيل: إن عبدالملك سأله عنها فغلط فنسبها إليه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب جمل من الفرائض ومن السنن الواجبة والرغائب

سئل أبو محمد رضي الله عنه عن وضعه لهذا الباب وما قصد به مع أن فيه كثيرا من المكروه وهو مناف لشرط اختصاره فقال: لما رأيت الناس زهدوا في العلم ورغبوا عن تعليمه وقد أمرنا بنشر العلم بحسب الإمكان قصدت إلى تجديد عيون ما تقدم، إذ الواجب على كل مكلف أن يحفظ عين ما كلف به ويعمل على الجزم فيما خوطب به

(2/420)

________________________________________

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلك بأصحابه سبيلا فإذا رأى منهم مللا سلك بهم مسلكا آخر تنشيطا لهم وإذهابا للكسل قلت وها أنا أسلك مسلك الشيخ رحمه الله تعالى.

(والوضوء للصلاة فريضة وهو مشتق من الوضاءة إلا المضمضة والاستنشاق

(2/421)

________________________________________

ومسح الأذنين منه فإن ذلك سنة):

ظاهره سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا وهو كذلك من غير خلاف أعلمه وإن كان وقع في كلام بعضهم خلاف فيجب تأويله، وقدمنا أن حكم المضمضة والاستنشاق السنة في مشهور المذهب وقيل إن ذلك فضيلة حكاه ابن بشير في شرحه على ابن الحاجب ووقفت عليه الآن للمازري أيضا في شرحه على التلقين ومسح الأذنين حكمهما السنة وقيل فرض، وهذا الخلاف في الظاهر وأما في الباطن فهو سنة اتفاقا، واختلف في الظاهر والباطن، وفي كلام الشيخ مسامحة لأنه لم يف بذكر السنن لأنه ترك غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء إلى غير ذلك.

(والسواك مستحب مرغب فيه):

ما ذكره هو المعروف واختار بعض شيوخنا أنه سنة لمداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك وأمره به وقال أحمد بن حنبل وغيره: هو واجب وقال الفخر في المعالم: أجمعوا على أنه مندوب إليه، واعترضه ابن هارون بقول أحمد وغيره وأراد بالغير إسحاق بن راهويه، وداود الطائي إلا أن اسحاق أبطل صلاته بتركه عمدا، وداود مطلقا على ظاهر ما نقل عنه، ويكون بغير الإصبع إلا أن لا يجد شيء بستاك به. وظاهر كلام الشيخ فيما سبق به أنه جائز أو هو أرجح من غيره حيث قال: وإن استاك بإصبعه فحسن.

(والمسح على الخفين رخصة وتخفيف):

ما نقله عليه الأكثر وقيل: سنة وقيل: فرض ولهذه الأقوال الثلاثة حكاها ابن الطلاع قائلا: إن نفس المسح فرض والانتقال إلى المسح رخصة ويرد عليه أن كلامه يقتضي أنه رابع وليس كذلك بل من عبر بالفريضة والخلاف في حكمه ابتداء هل هو رخصة أو سنة على أنه رخصة قد يقال إن الأولى ترك ذلك وعلى أنه سنة يكون راجح الفعل وعلى كل منهما ينوي الفريضة قولا واحدا والله أعلم.

(والغسل من الجنابة ودم الحيض والنفاس فريضة):

يدخل في الجنابة مغيب الحشفة، وقد قدمنا أنه اختلف في دم الاستحاضة إذا انقطع على ثلاثة أقوال: السقوط والاستحباب وكلاهما في المدونة والوجوب نقل مالك حكاها ابن الحاجب قال ابن بشير فيها قولان.

(2/422)

________________________________________

(وغسل الجمعة سنة):

ما ذكر هو المشهور وقيل: إنه مستحب وقيل: إنه واجب أخذا من قول المدونة وغسل الجمعة واجب واعترض بأنه في المدونة لفظ أثر وأوجب اللخمي الغسل على أصحاب الروائح الكريهة لئلا يؤذوا غيرهم والمشهور أنه يشترط اتصال الرواح ووقع لابن وهب ما يقتضي أنه لا يشترط.

(وغسل اليدين مستحب):

ما ذكر هو قول الأكثر وقيل إنه سنة واختار اللخمي فيه كما سبق ويتخرج الوجوب فيه من باب أخرى من غسل الجمعة.

(والغسل على من أسلم فريضة لأنه جنب):

ظاهر كلام الشيخ يقتضي إذا لم تسبق منه جنابة أنه لا يجب عليه الغسل وهو كذلك على المشهور وقيل إن الغسل عبادة فيغتسل وإن لم تسبق منه جنابة، وقال القاضي إسماعيل يستحبله وإن كان جنبا لقوله صلى الله عليه وسلم "الإسلام يجب ما قبله" وألزمه اللخمي الوضوء ونقل عنه المازري أنه قال لا يلزمه الوضوء لأن الله تعالى أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء فقال (يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة) [المائدة: 6]

وهذا إنما يتمشى على أن وضوء التجديد فرض أما أنه فضيلة فلا.

(وغسل الميت سنة والصلوات الخمس فريضة):

ما ذكره هو أحد القولين في غسل الميت وقيل: أنه فرض قال عبد الوهاب وابن محرز وابن عبد البر وزعم ابن بزيزة أن المشهور هو الأول.

(وتكبيرة الإحرام فريضة وباقي التكبير سنة):

قد تقدم أن المازري قال في شرحه على الجوزقي كان عبد الحميد الصائغ يحكي في تكبيرة الإحرام سنة، وحكى ابن رشد قولا إن جميع التكبير سنة واحدة وعندي كلام الشيخ يحتملها هنا وينبني على هذا الخلاف إذا ترك المصلي أكثر من تكبيرة هل يسحد أم لا؟ والخلاف في ذلك شهير.

(والدخول في الصلاة بنية الفرض فريضة):

لا خلاف أن الصلاة تفتقر إلى نية لأنها عبادة محضة ويشترط اقترانها بتكبيرة الإحرام وقيل: يجوز تقديمها بالزمن اليسير قاله ابن رشد رحمه الله واختلف هل يلزمه أن ينوي الخروج من الصلاة أم لا؟ والأكثر على أنه لا يضر، واختلف إذا دخل بنية الظهر وخرج بنية العصر مثلا على قولين والأكثر على أنه لا يجزئه.

(2/423)

________________________________________

(ورفع اليدين سنة):

ما ذكر هو أحد الأقوال الثلاثة وقيل فضيلة وهو المشهور وقيل لا يرجع حكاه ابن شعبان عن مالك من رواية ابن القاسم ويكون الرفع مقارنا لتكبيرة الإحرام على طريق الأولى وإن تقدم أو تأخر فلا جناح والمشهور أنه مختص بتكبيرة الإحرام وفيها أقوال متعددة وانظرها فيما تقدم.

(والقراءة بأم القرآن في الصلاة فريضة وما زاد عليها سنة واجبة والقيام والركوع والسجود فريضة):

جميع ما ذكر هو قول الأكثر وروى الواقدي عن مالك: أن من لم يقرأ في جميع صلاته أنه لا شيء عليه، قال الباجي وهو شذوذ.

وروى علي بن زياد عن مالك: أحب إلى أن يعيد وحكم السورة السنية على المنصوص وفيها قول بالفضيلة أخذه اللخمي من قول مالك وأشهب لا يسحد من تركها سهوا، ورده ابن بشير باحتمال قصر السجود على ما ورد ولم يرد فيها.

وأجابه ابن هارون بأن أصل مذهب مالك أن السجود لا يقصر على ماورد قال: ولم نعلم فيه خلافا ولو لزم ذلك للزم ترك السجود في جل مسائل السهو وقيل إنها فرض وأخذها اللخمي أيضا من قول عيسى بن دينار: من تركها عمدا بطلت صلاته ورده المازري باحتمال أن يكون البطلان لترك السنة عمدا، قال شيخنا حفظه الله وظاهر كلام الشيخ أن مطلق الزيادة على أم القرآن سنة لا إن جميع السورة سنة، وهو كذلك وهذا بالنسبة إلى الفرض وأما قراءتها في النفل فقال ابن رشد مستحبة لسماع ابن القاسم لا سجود لتركها في الوتر.

(والجلسة الأولى سنة والثانية فريضة):

أراد بقوله والثانية فريضة مقدار ما يقول فيه السلام عليكم فإنه فرض لا خلاف في ذلك وما زاد على ذلك فهو سنة كما قال الشيخ وقيل: إن كلا الجلستين أعني الوسطى والأخيرة فرض، قال ابن زرقون: وهو ظاهر نقل أبي عمران وأبي عمر بن عبد البر عن أبي مصعب وقيل إن الأخير منها فرض رواه أبو مصعب.

(والسلام فريضة):

ما ذكره هو المعروف وحكى الباجي عن ابن القاسم من أحدث في آخر صلاته أجزأته صلاته، واعترضه ابن هارون نقلا ومعنى.

أما نقلا فلأن المنقول عن ابن القاسم إنما هو في جماعة صلوا خلف إمام فأحدث إمامهم فلسلموا هم لأنفسهم فسأل عن ذلك فقال تجزئهم صلاتهم أي تجزئ

(2/424)

________________________________________

صلاة المأمومين فقط. وأما معنى فلأن الأمة على قولين: منهم من يرى لفظ السلام بعينه وهو مالك، ومنه من لا يراه لكن يشترط أن ينوي بكل مناف الخروج من الصلاة وأما ما حكاه الباجي من إطلاقه فهو خلاف ما عليه الأمة. وقبله ابن عبد السلام على أن الأخير لا يسلم من اعتراض حسبما قدمناه.

(والتيامن به قليلا سنة):

يعني سنة ضعيفة وظاهر كلام غير واحد أن ذلك فضيلة.

(وترك الكلام في الصلاة فريضة والتشهدان سنة):

يعني فرض مع الذكر ساقط مع النسيان وجعله ابن الحاجب من الشرط لا من الفرائض.

(والقنوت في الصبح حسن وليس بسنة):

اعلم أن قوله ليس بسنة تأكيد لأن قوله حسن يدل على ذلك، وما ذكره أنه حسن بمعنى الفضيلة هو المشهور وقيل إنه سنة قاله علي بن زياد وابن سحنون وهو ظاهر قول السليمانية يسجد لسهوه وهو قول المدونة قال فيها عن ابن مسعود: القنوت في الفجر سنة ماضية والأصل الحقيقة وإتيان سحنون به دون أن يأتي بخلافه يدل على ارتضائه ذلك وقال يحيى بن يحيى: لا يقنت وإنما قال ذلك لقول مالك في الموطأ: كان ابن عمر لا يقنت وعلى الأول فلا سجود كالفضائل فإن سجد بطلت حكاه ابن رشد عن أشهب وقال الطليطلي وإذا قلنا بالسنة فنص علي بن زياد على أنه إن لم يسجد بطلت وهو قائل بذلك في كل سنة.

وقال بعض المتأخرين: من أراد أن يخرج من الخلاف فليسجد بعد السلام وبه قال وأفتى بعض من لقيناه من القرويين ونص ابن الحجب على أنه لا بأس برفع يديه في دعاء القنوت وظاهر المدونة خلافه، قال فيها: ولا يرفع يديه إلا من الاستفتاح شيئا خفيفا والمشهور أنه لا تكبير له. وروي أن مالكا كبر حين قنت.

(واستقبال القبلة فريضة):

يريد مع القدرة ويريد أن ذلك مخصوص بغير النوافل في السفر الطويل للراكب وجعل ابن الحاجب استقبال القبلة من الشروط لا من الفرائض، فإن صلى لغير القبلة ناسيا أو جاهلا فقيل: بعيد أبدا وقيل: في الوقت وإن كان باجتهاد فالمشهور يعيد في الوقت، وقال ابن سحنون: يعيد أبدا وقال ابن مسلمة: إن استدير يعيد أبدا وكل هذا في قبلة الاجتهاد وأما قبلة عيان فيعيد أبدا بالإطلاق اتفاقا فيما قد علمت.

(2/425)

________________________________________

(وصلاة الجمعة والسعي إليها فريضة):

المنصوص والمعروف أن الجمعة فرض ع ين وخرج اللخمي أنها فرض كفاية، وروى ابن وهب أنها سنة فحملها بعضهم على ظاهره ولم يرتضه ابن عبدالسلام، وإنما كان السعي فرضا لأنه من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

(والوتر سنة واجبة):

يعني مؤكدة وهذا هو المنصوص وخرج اللخمي وابن زرقون أنه واجب من قول سحنون يجرح تاركه وأصبغ يؤدب واعتذر بعض شيوخ المازري على الأول بأن تركه علامة استخفافه بأمور الدين، واعتذر المازري عن الثاني بأن تأديبه واستخفافه بالسنة، كقول ابن خويز منداد ترك السنة فسق وإن تمادى عليه أهل بلد حوربوا، وقال ابن عبد السلام تخرجي اللخمي عندي قوي حسن من قول أصبغ ضعيف من قول سحنون وقال ابن عبد البر: ضارع مالك وجوب من قوله تقطع صلاة الصبح.

(وكذلك صالة العيدين والخسوف والاستسقاء):

أما ما ذكر من أن صلاة العيدين سنة هو المعروف قال ابن بشير: لا يبعد كونها فرض كفاية لأنها إظهار لأبهة الإسلامة ونقل ابن حارث عن ابن حبيب أنها واجبة على كل من عقل الصلاة من النساء، والعبيد والمسافر إلا أنهم خطبة عليهم.

وناقض بعض شيوخنا قول ابن حارث هذا بقوله في أول الباب: اتفقوا على أنها لا تجب على النساء ولا على أهل القرى البعيدة عن الحواضر، ولما ذكر ابن عبد السلام القول بالسنة قال: وذهب بعض الأندلسيين إلى أن ذلك فرض كفاية وأراد به ابن زرقون على بعد في ذلك حسبما قدمناه، وأما ما ذكر من أن حكم صلاة الخسوف السن هو كذلك باتفاق بالنسبة إلى الخسوف وأما خسوف القمر فقيل كذلك، قاله ابن الجلاب واللخمي وقيل ذلك فضيلة.

وروي عن مالك وبه قال أشهب: ومثله في التلقين، وأما ما ذكر من أن صلاة الاستسقاء سنة فهو كذلك من حيث الجملة قال اللخمي: ويستحب أن يقيمها المخصبون للمجدبين ولسعة الخصب مباح.

(وصلاة الخسوف واجبة أمر الله سبحانه بها وهو فعل يستدركون به فضل الجماعة): يريد أنها سنة مؤكدة وصرح بأن حكمها السنة ابن يونس في أول كتاب الصلاة ونقل عن ابن المواز لما تكلم على صلاة الخسوف أنها رخصة وتوسعة.

(والغسل لدخول مكة مستحب والجمع ليلة المطر تخفيف وقد فعله الخلفاء الراشدون والجمع بعرفة ومزدلفة سنة واجبة):

(2/426)

________________________________________

ظاهر كلامه أن الجمع رخصة وصرح به قبل حيث قال: وأرخص في الجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر وهو خلاف رواية ابن عبد الحكم الجمع ليلة المطر سنة وخلاف قول ابن قسيط: الجمع ليلة المطر سنة ماضية والأصل الحقيقة وإتيان سحنون به يدل على ارتضائه ووقع لابن القاسم الجمع غير مشروع، وأن من جمع أعاد العشاء أبدا حكاه الباجي وإليه نحا القرافي في استشكاله الجمع بأن رعاية الأوقات واجبة وفائدة الجمع تحصيل فضيلة الجماعة وهي مندوب إليها فكيف يترك الواجب لأجل تحصيل المندوب، قلت ورد بأن الجمع إما سنة كما قدمنا واستشكال السنة لا يجز وإما رخصة وقد علمت أن الرخصة ارتكاب المحظور لأجل اقيام المانع.

وللقراني جواب عن ذلك لم أذكره لطوله وضعفه وتولى خليل بيان ضعفه وهل هذه الرخصة على القول بها راجحة أو مرجوحة في ذلك قولان للخمي وابن رشد، وظاهر كلام الشيخ الأول لقوله وقد فعله الخلفاء والله أعلم.

والصواب أنها مرجوحة إذ ليست بمتفق عليها ألا ترى ما تقدم عن ابن القاسم وقد جرت العادة في أفراد من المساجد بعدم الجمع فيها كجامع الزيتونة عندنا بتونس.

(وجمع المسافر في جد السير رخصة):

ظاهر كلامه أن جد السير شرط وهو كذلك، وقال أصبغ: لا يشترط وقيل: يشترط في حق الرجال دون النساء قاله بعض شيوخ المذهب، وظاهر كلامه أنه لا يشترط فوات أمر وهو كذلك عند ابن حبيب وفي التهذيب اشتراطه ونصه ولا يجمع المسافر إلا أن يجد السير به ويخاف فوات أمر.

وقال أشهب: يشترط فوات أمر مهم فهو أخص من قول التهذيب فهو قول ثالث والرابع لابن الماجشون الفرق بين الرجال والنساء، وظاهر كلام الشيخ أن الجمع جائز دون كراهة وهو كذلك.

وروي عن مالك أنه مكروه مطلقا.

وروي عنه الكراهة للرجال فقط، وهذه الأقوال الثلاثة حكاها عياض في الإكمال ونقل عبدالحق جوازه في البر دون البحر.

(وجمع المريض جاف أن يغلب على عقله تخفيف):

المشهور أن الجمع الإغماء مطلوب ومنعه ابن نافع وعلى الأول فهل تقدم الثانية إلى الأولى أو يصلي كل صلاة لوقتها في ذلك خلاف قال الفاكهاني: لم فرق بين جمع المسافر وجمع المريض فعبر عن الأول بالرخصة وعن الثاني بالتخفيف مع أن معنى الرخصة التخفيف قلت: تفنن في العبارة والله أعلم.

(2/427)

________________________________________

(وكذلك جمعه لعلة فيكون ذلك أرفق به):

ما ذكره هو المشهور ومنع ابن نافع هو كالأول نقله ابن رشد والخلاف في كيفية الجمع لما سبق، وقال ابن بشير المريض يجمع مطلقا اتفاق وهو قصور لنقل ابن نافع وحفظ ابن الحاجب الخلاف في الثانية دون الأولى فقال: والمريض إذا خشى الإغماء جمع وإن لم يخش فقولان ذكرهما ابن عبد السلام قال بعض شيوخنا ومذان طريقان لا أعرفهما لغيرهما.

(والفطر في السفر رخصة والإقصار فيه واجب):

لا خلاف أن الفطر في سفر القصر جائز واختل فهل هو أفضل من الصوم أو العكس وهو المشهور أوهما على حد السواء في ذلك ثلاثة أقوال حكاها غير واحد، قال ابن حبيب: الصوم أفضل إلا في الجهاد للتقوي على العدو وجعله كالتفسير للمدونة، وظاهر كلام ابن يونس أنه خلاف.

وقول الشيخ الإقصار فيه واجب ظاهره أنه فرض وهو ظاهر قوله قبل حيث قال: فعليه أن يقصر الصلاة وهو أحد الأقوال الأربعة.

وقيل: سنة وهو المشهور. وقيل: فضيلة.

وقيل: مباح وقول الفاكهاني يحتمل ما ذكرناه ويحتمل أن يريد وجوب السنن المؤكدة وهو أولى لأنه المشهور بعيد لما قلناه من قوله فعليه أن يقصر الصلاة فهو كالنص في الوجوب، فيحمل قوله هذا عليه دفعا للخلاف وتقدم فرقا بين الفطر والقصر أفضلهما أن القصر تبرأ منه الذمة في الحال ولا كذلك الفطر فإن الذمة مشغولة بالقضاء.

(وركعتا الفجر من الرغائب وقيل من السنن):

أراد بالرغيبة الفضيلة والقول بالفضيلة هو نقل الأكثر ولاقول بالسنة هو قول أشهب، قال الفاكهاني: وفائدة الخلاف تفاوت الثواب فإن ثواب السنة أكثر من ثواب الرغيبة والنافلة، كما أن ثواب الواجب أكثر من ثواب السنن هذا في الفعل وأما في الترك عمدا فإن قلنا إنها سنة جرى فيها الخلاف في تارك السنن عمدا هل يأثم أم لا؟ قلت يحتمل أن يراعي قائله الخلاف فلا يأثم والله أعلم.

(وصلاة الضحى نافلة):

ما ذكر مثله في التلقين وظاهر كلام ابن عبد البر أنه فضيلة لقوله ورد في صلاة الضحى والوصية آثار كثيرة.

(وكذلك قيام رمضان نافلة وفيه فضل كبير ومن أقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه):

(2/428)

________________________________________

لما خاف أن يتوهم أن حكمه النافلة أردفه بقوله: وفيه فضل كبير وما بعده ليبين أن حكمه الفضيلة التي هي أقوى من النافلة وهذا قول ابن حبيب خلافا لابن عبد البر في قوله: إن قيامه سنة.

(والقيام من الليل في رمضان أو غيره من النوافل المرغب فيها):

قيام الليل من شعائر الأنبياء والصالحين وشيم المخلصين ومذهبنا أن أفضل الليل الثلث الأخر لحديث النزول ومذهب الشافعي الوسط أفضل لحديث داود عليه السلام كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه.

(والصلاة على موتى المسلمين فريضة يحملها من قام بها وكذلك مواراتهم بالدفن وغسلهم سنة واجبة):

ما ذكر الشيخ من أن الصلاة على ميت المسلم فرض كفاية هو قول ابن عبد الحكم وأشهب وسحنون والقاضي عبد الوهاب وهو ظاهر نقل ابن الجلاب عن مالك في قوله قال مالك: صلاة الجنازة واجبة وقيل: إنها سنة قاله أصبغ، وقال ابن زرقون في تلقين الشارقي هي مستحبة ورواه ابن عيشون وأخذ ابن القاسم أنها غير واجبة من قول مالك تجوز صلاة الجنازة بتيمم الفريضة ومن تشبيه فعلها بعد صلاة العصر بسجود التلاوة، قال ولم أجد لمالك فيها نصا وأجيب بالنسبة إلى التخريج لكونها فرض كفاية وبقصوره بقوله لم أجد فيها نصا.

ونقل ابن الجلاب عن مالك وجوبها، وأورد الشيخ شهاب الدين القرافي على القول الأول سؤالا وهو إذا تعذر الوجوب على جملة الطوائف في فرض الكفاية فكيف يسقط عمن لم يفعل غيره مع أن الفعل البدني كصلاة الجنائز والجهاد مثلا لا يجزئ فيه أحد عن أحد فكيف يسوي الشرع بين من يفعل ومن لم يفعل، وأجاب بأن الفاعل يساوي غير الفاعل في سقوط التكليف لا في الثواب وعدمه وما ذكر من أن المواراة فرض كفاية لا أعلم فيه خلافا وما ذكر من أن غسلهم سنة واجبة أراد أنها سنة مؤكدة قاله غيره وزعم ابن بزيزة أنه المشهور وقيل إنه فرض قاله عبد الوهاب وغيره والعجب من الشيخ في تكرره لغسل الميت مع أنه سبق له في هذا الباب.

(وكذلك طلب العلم فريضة عامة يحملها من قام بها إلا ما يلزم الرجل في خاصة نفسه):

ظاهر كلام الشيخ أنه لا يجب عليه تعليم العلم الزائد على فرض العين وإن كان فيه القابلية وهو خلاف قول سحنون بوجوبه عليه والنفس أميل إليه وجعله شيخنا أبو مهدي المذهب قال: لا أعلم خلافه ولأنه ممن تلبس فصار من الجاهلين له بطلب العلم

(2/429)

________________________________________

أن القابلية فيه لا تعلم إلا بعد التلبس.

(وفريضة الجهاد دعامة يحملها من قام بها إلا أن يغشى العدو محلة قوم فيجب فرضا عليهم قتالهم إذا كانوا مثلي عددهم):

يعني أن الجهاد فرض كفاية وهو كذلك بإجماع نص عليه ابن القصار وانتقد ابن عبدالسلام قول ابن الحاجب بذلك قال ابن المسيب وابن شبرمة وغيرهما أنه فرض عين وحكي عن سحنون أنه سنة ليس بفرض، وقال طاوس: السعي على الأخوات أفضل من غير أن هذه الأقوال لا يبعد تأويلها وردها إلى ما نص عليه الجمهور وقال وحق ابن الحاجب أن يقول: الجهاد واجب على الكفاية على الجمهور وانظر ما تقدم لخليل في هذا.

(والرباط في ثغور المسلمين وحياطتها واجبة يحمله من قام به):

قال ابن سحنون وغيره: قال مالك: ليس من سكن بأهله بالاسكندرية وطرابلس ونحوها بمرابطين إنما المرابط من خرج من منزله مرابطا فرابط في نحر العدو وحيث الخوف، قال الباجي: وعندي أن من اختار استيطان ثغر الرباط فقط ولولا ذلك لأمكنه المقام بغيره له حكم الرباط، وروى ابن وهب: الرباط أحب إلي من الغزو على غير وجهه وهو الصواب وأحب إلي من الرباط.

(وصوم شهر رمضان فريضة):

اختلف العلماء في إطلاق رمضان على الشهر على ثلاثة أقوال ثالثها: إن كان هنالك فرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة وإلا كره والقول بالكراهة قاله أصحاب مالك.

(والاعتكاف نافلة والتنفل بالصوم مرغب فيه):

اختلف في حكم الاعتكاف على أربعة أقوال: فقيل: نافلة كما قال الشيخ ونحوه قال القاضي عبد الوهاب: هو قربة وقال ابن العربي في العارضة: هو سنة ولا يقال فيها مباح وقول أصحابنا في كتبهم: جائز جهل، قلت ليس بجهل إنما قصدهم بذلك نفي ما يتوهم من كراهته.

وقال ابن عبد البر في الكافي: هو في رمضان سنة وفي غيره جائز، وقال ابن عبدوس وروى ابن نافع: ما رأيت صحابيا اعتكف وقد اعتكف صلى الله عليه وسلم حتى قبض وهم أشد اتباعا فلم أزل أفكر حتى أجد في نفسي أنه لشدته نهاره وليله سواء كالوصال المنهي عنه مع وصاله صلى الله عليه وسلم فأخذ منه ابن ابن رشد كراهة لتلك.

(وكذلك صوم يوم عاشوراء ورجب وشعبان وصوم يوم عرفة ويوم التروية وصوم

(2/430)

________________________________________

يوم عرفة لغير الحج أفضل منه للحاج):

قال ابن رشد: أفضل الصوم بعد رمضان صوم يوم عاشوراء وقد كان فرض قبل رمضان قال الفاكهاني رحمه الله: وفيه نظر لأن عاشوراء تكفر السنة قبلها فقط، ويوم عرفة تكفر السنة التي قبلها والتي بعدها كما جاء في الصحيح والتكفير منوط بالأفضلية فمن ادعى غير هذا فعليه الدليل.

(وزكاة العين والحرث والماشية فريضة وزكاة الفطر سنة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم):

أراد الشيخ بقوله: فرضها: قدرها فلا تناقض في كلامه وقول ابن عبدالبر قول الشيخ أبي محمد سنة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم تمريض للسنة ضعيف لما قد قدمناه، وما ذكر من أن حكمها السنة عزاه ابن عبد البر لبعض أصحاب مالك وعزاه ابن رشد لبعض أصحابنا وذكره بعضهم عن مالك، وقال الباجي واللخمي: إنها واجبة، وأخذ ذلك من قول المجموعة إنها داخلة في قوله تعالى (وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة) [البقرة: 43]

وغيرها وجعله ابن الحاجب المشهور.

(وحج البيت فريضة والعمرة سنة واجبة والتلبية سنة واجبة والنية بالحج فريضة والطواف للإفاضة فريضة والسعي بين الصفا والمروة فريضة وكذلك الطواف المتصل به واجب وطواف الإفاضة آكد منه والطواف للوداع سنة والمبيت بمنى ليلة يوم عرفة سنة والجمع بعرفة واجب والوقوف بعرفة فريضة ومبيت المزدلفة سنة واجبة ووقوف المشعر الحرام مأمور به):

لا خلاف أن الحج فرض واشتهر الخلاف هل ذلك واجب على الفور أو على التراخي؟ ويجب على الأعمى إذا وجد قائدا واختلف في السائل إذا كانت العادة أنه يعطى فقيل: يجب عليه وقيل لا واختلف إذا كان يؤدي غفرا بحيث لا يجحف به هل يجب عليه أم لا؟

(ورمى الجمار سنة واجبة وكذلك الحلاق وتقبيل الركن سنة والغسل للإحرام سنة والركوع عند الإحرام سنة وغسل عرفة سنة):

ما ذكر هو المشهور وقال ابن الماجشون بوجوب جمرة العقبة قاله غير واحد.

(والغسل لدخول مكة مستحب):

قال الفاكهاني: انظر لم جعل الغسل لدخول مكة منحطا عن رتبة السنن حيث عبر بالاستحباب قلت: يحتمل أنه أراد به ليس بتأكيد السنن كغيره.

(والصلاة في الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة):

(2/431)

________________________________________

واختلف في حكم صلاة الجماعة على أربعة أقوال: فقيل: سنة قاله الأكثر وقيل: فرض كفاية نقله الأكثر ابن محرز وغيره عن بعض أصحابنا وقيل مندوب إليها مؤكدة الفضل قاله عبد الوهاب في تلقينه ومثله قول ابن العربي في عارضته ويحث عليها وقال ابن رشد: مستحبة للرجل في خاصته فرض في الجماعة سنة في كل مسجد واختلف هل تتفاضل بالكثرة أم لا؟ والمشهور أنها لا تتفاضل خلافا لابن حبيب، وحمل بعض الشيوخ المذهب على قول ابن حبيب وجعل معنى المشهور أن الجماعة سواء بالنسبة إلى عدم الإعادة في جماعة نقله ان عبد السلام ولا أعرفه لغيره، وأقل الجمع اثنان باتفاق.

(والصلاة في المسجد الحرام ومسجد الرسول عليه السلام فذا أفضل من الصلاة في سائر المساجد واختلف في مقدار التضعيف بذلك بين مسجد الحرام ومسجد الرسول عليه السلام ولم يختلف أن صلاة في مسجد الرسول أفضل من ألف صلاة فيما سواه وسوى المسجد الحرام بدون الألف وهذا كله في الفرائض وأما النوافل ففي البيوت أفضل):

واختلف في مقدار التضعيف وقد تقدم في باب الأيمان والنذور أن المشهور من المذهب أن المدينة أفضل من مكة وقيل مكة أفضل من المدينة حكاه عياض عن ابن حبيب وابن وهب واختاره بابن عبد السلام ووقف الباجي.

(والتنفل بالركوع لأهل مكة أحب إلينا من الطواف والطواف للغرباء أحب إلينا من الركوع لقلة وجود ذلك لهم):

قال الفاكهاني: تعليله بقلة وجود ذلك للغرباء فيه نظر لأن التنفل بالصلاة أفضل من التنفل بالطواف ولذلك كانت الصلاة لأهل مكة أفضل من الطواف وإذا كان ذلك فينبغي أن لا يفرق بين الغرباء وأهل مكة إذ المحافظة على الأفضل أولى من المحافظة على المفضول لاسيما على القول بمساواة النافلة للفريضة في الفضل.

(ومن الفرائض غض البصر عن المحارم وليس في النظرة الأولى بغير تعمد حرج ولا في النظر إلى المتجالة ولا في النظر إلى الشابة لعذر من شهادة عليها):

الأصل في غض البصر قوله تعالى (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) [النور: 30]

قال ابن عطية: الأظهر في من أن تكون للتبعيض بخلاف الفروج إذ حفظها عام ويؤيد هذا التأويل ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست الثانية لك" وقال ابن جرير عن عبدالله:

(2/432)

________________________________________

سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال: "اصرف بصرك" قال ويصح أن تكون من لبيان الجنس ولابتداء الغاية والبصر هو الباب الكبير إلى القلب وأعم طرق الحواس إليه وبحسب ذلك كثرة السقوط من جهته فوجب التحذير منه.

قال الفاكهاني: وأحسن الشيخ رحمه الله في قوله بغير تعمد لأن النظرة تعمدا حرام وإن كانت الأول وأما المتجالة فيجوز النظر إليها لقوله تعالى (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا) [النور: 60]

الآية.

(وقد أرخص من ذلك للخاطب):

سمع ابن القاسم لمن يريد تزويج امرأة نظره إليها بإذنها قال ابن رشد: يريد إلى وجهها قال المارزي: ويديها وكره مالك أن يتغفلها وأجازه ابن وهب واختار ابن الفطان كون النظر إليها مندوبا إليه لحديث الأمر به، وما إلى جواز النظر إلى جميع الجسد سوى السوأتين وزيد نقل جواز النظر إليها عن داود قال، وروى قاسم بن أصبغ عن الخشني عن أبي عمرو عن سفيان بن عيينة عن عمر بن دينار عن محمد بن دينار عن محمد بن علي بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب إلى علي رضي الله عنه بنته أم كلثوم فذكر له صغرها فقيل له: إن ردك فعاود فعاوده فقال له علي رضي الله عنه: أبعث بها إليك فإن رضيتها فهي امرأتك فأرسل بها إليه فكشف عن ساقيها فقالت له فقالت له: لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينك ويزيد فيها أهل الأخبار أنه بعث إليه بثوب وقال لها: قولي له هذا الذي قلت لك عليه، فقال لها عمر قولي له رضيت به فلما أدبرت كشف عن ساقيها فقالت له ما سبق، ذكره فلما رجعت إلى أبيها قالت له: بعثتني إلى شيخ سوء فعل كذا فقال لها: هو زوجك يا بنية وما ذكر عن أهل الأخبار ذكره ابن عباس وابن عبد البر بأتم من هذا فانظره. ابن العربي في الأحكام في قوله تعالى (يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق) [الحجرات: 6]

الآية.

من ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا لأن الخبر أمانة والفسق قرينة تبطلها فأما في الإنشاء عن نفسه فلا يبطل إجماعا وأما على غيره فإن الشافعي قال: لا يكون وليا في النكاح وقال أبو حنيفة ومالك: يكون وليا ثم قال: ولا خلاف أنه يكون رسولا عن غيره في قوله يبلغه أو شيء يوصله أوإذن يعلمه إذا لم يكن عن حق المرسل والمبلغ فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله وهذا جائز للضرورة الداعية إليه ولو لم يتصرف بين الخلق في هذا المعنى إلا العدول ما تحصل منها شيء لعدمهم في ذلك.

(2/433)

________________________________________

(ومن الفرائض صون اللسان عن الكذب والزور والفحشاء والغيبة والنميمة والباطل كله).

قال التادلي رحمه الله: الكذب على خمسة أقسام:

واجب: لإنقاذ مال مسلم أو نفسه.

ومحرم: وهو الكذب لغير منفعة شرعية.

ومندوب: وهو الكذب للكفار بأن المسلمين أخذوا في أهبة الحرب إذا قصد بذلك إرهابهم.

مكروه: وهو الكذب لزوجته ليطيبها لنفسه.

قلت: وقال ابن رشد: جوزت السنة الكذب فيه وفي الحراب لتحذير الكفار قوله: إنه مكروه قال: ومباح وهو الكذب للإصلاح بين الناس، وأراد الشيخ بقوله والزور قول الزور، قال الفاكهاني: والزور والكذب كأنهما مترادفان، قلت: ليس كذلك لأن الزور أخص والغيبة أن يقول الإنسان في غيره في مغيبة ما يكرهه ولو كان ما لا يكرهه فليست بغيبة كما إذا قال رجل فلان سار ولرجل من أعراب إفريقية فليس ذلك بغيبة عندهم لأنهم يقدحون بذلك لأنه لا يتعاطى ذلك إلا من هو شجاع عندهم، وسمعت عبر واحد من شيوخ القرويين وغيرهم يفتي أن الغيبة في الفاسق لا تجوز وما جاء في حديث "لا غيبة في فاسق" لم يصح سلمنا صحته فبعضهم حمله على من يتمدح لذلك، وبعضهم يقول ليس فيها جلاء للجواز إذ يتحمل أن يكون معناه لا غيبة جائزة في فاسق وإلى الآخر مال صاحب الذخيرة في قواعده وعزاه الجماعة من الفضلاء.

وأما النميمة فهي نقل الكلام الفاسد بين الناس وينشأ عن ذلك مفاسد بحسب القول والقائل والمقول به وفيه.

(قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ليقل خيرا أو ليصمت"، وقال "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)

ذكر هذين الحديثين دليلا لما سبق وقد بعث بعض الأمراء إلى زياد بن عبد الرحمن الملقب بشطور يسأله عن كفتي ميزان الأعمال يوم القيامة قال: ممن من فضة أو من ذهب؟ فكتب إليه: حدثنا أنس بن مالك وذكر سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال" من حسن

(2/434)

________________________________________

إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وسترد أيها الأمير يوم القيامة فتعلم هل هما من ذهب أو فضة، وذكر ذلك عياض في مداركه، واعلم أن هذين الحديثين عظيمان من وقف معهما وحافظ عليهما سلم.

فالأول: يقول الإنسان إذا وفقه الله أنه لا يتكلم إلا بالقرآن أو بعلم غالبا، وقيل: إن أبا بكر الصديق صلى رضي الله عنه كان يجعل في فيه حصاة يتذكر بها ما يقول أو نحو ذلك.

ويقول: العبادة عشرة أجزاء تسعة في السكوت وواحدة في طلب المعيشة، وكان الشيخ أبو علي البخاري رضي الله عنه يقول: إنما جعل لك لسان واحد وأذنان ليكون ما تسمع أكثر مما تقول ويقال لو كان الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب.

وأما الثاني: فيحمل الإنسان إذا وفقه الله على أن يجتنب صحبة من لا خلاق له ويرغب في صحبة من هو خير منه فيتعلم من علمه وعمله وورعه ولا يتعاطى فعلا لا يليق به حتى إذا تلبس بمباح ينقل نفسه إلى المندوب والذي يثاب عليه نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يملكنا نفوسنا وأن يذكرنا عيوبنا بمنه وكرمه.

(وحرم الله سبحانه دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها ولا يحل دم مسلم إلا أن يكفر بعد إيمانه أو يزني بعد إحصانه أو يقتل نفسا بغيرنفس أو فساد في الأرض أو يمرق من الدين ولتكف يدك عما لا يحللك من مال أو جسد أو دم ولا تسع بقدميك فيما لا يحل لك ولا تباشر بفرجك أو بشيء من جسدك ما لا يحل لك قال الله سبحانه (والذين هل لفروجهم حافظون) إلى قوله (فأولئك هم العادون) [المؤمنون: 5 - 7]:

قال عبد الوهاب: أراد بقوله أو يمرق من الدين الخوارج الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ومنهم المبتدعة من القدرية والإباضية الذين قال فيهم مالك بالاستتابة فإن تابوا وإلا قوتلوا.

(وحرم الله سبحانه الفواحش ما ظهر منها وما بطن):

أراد بذلك قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها) [الأعراف: 33]

والفاحشة: قيل كل مستقبح من قول أو فعل ما ظهر للأعين وما بطن أي ستر.

(وأن يقرب النساء في دم حيضهن أو دم نفاسهن وحرم من النساء ما تقدم ذكرنا إياه):

(2/435)

________________________________________

لا خلاف أنه لا يجوز له وطؤها في الفرج كما أنه لا خلاف أنه يجوز له التمتع بما فوق الإزار واختلف فيما تحته من غير الفرج على قولين المشهور أنه لا يجوز.

(وأمر بأكل الطيب وهو الحلال فلا يحل لك أن تأكل إلا طيبا ولا تلبس إلا طيبا ولا تركب إلا طيبا ولا تسكن إلا طيبا وتستعمل سائرما تنتفع به طيبا ومن وراء ذلك مشتبهات من تركها سلم ومن أخذها كان كالواقع حول الحمى يوشك أن يقع فيه).

ما ذكر الشيخ من أن الطيب هو الحلال صرح بذلك سحنون بن سعيد، قال أبو عبدالله بن عبدوس: واعلم أن عماد الدين وقومه وهو طيب المطعم فمن طاب كسبه زكا عمله ومن لم ينصح في طيب مكسبه خيف عليه ولا تقبل صلاته وصيامه وحجه وجهاده وجميع عمله لأن الله تعالى يقول "إنما يتقبل الله من المتقين) [المائدة: 27]

وقد أخذ سحنون بن سعيد عن عبدالرحمن بن القاسم عن عبدالله بن عبدالعزيز الزاهد يرفع الحديث إلى عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم "من المؤمن" قال "الذي إذا أصبح سأل من أين قرصاه" قلت: يا رسول الله من المؤمن قال "الذي إذا أمسى سأل من أين قرصاه" قلت يا رسول الله لو علم الناس ذلك لتكلفوه قال "قد علموا ولكنهم قد غشموا المعيشة غشمها".

قال الشيخ أبو محمد: تعسفوا تعسفا ونظر عمر إلى المصلين فقال: لا يغرني كثيرة رفع أحدكم رأسه وخفضه، الدين الورع في دين الله، والكف عن محارم الله والعمل لحلاله وحرامه، قال بعض الشيوخ: وأصول الحلال صيد البحر وصيد البر وتجارة بصدق وصناعة بنصح ومغنم قسم بعد وميراث عن قريب وماء من غدير ونبات من أرض غير متملكة وهدية من صالح وسؤال عن حاجة والمتشابه: هو ما اختلف فيه بالحلية والتحريم وقيل ما توقف فيه العلماء كخنزير الماء قال بعضهم: يجب على المكلف طلب الحلال المتفق عليه عند أهل العلم فإن لم يجد فالمتفق عليه في المذهب فإن لم يجد فليجتهد في معرفة أصول ما يشتريه فإن تعذر فشراء الخبز أولى من شراء الدقيق وشراء الدقيق أولى من شراء القمح والمجلوب عن قرب أولى من شرائه عن بعد وفي وجوب السؤال عن أصل محله قولان.

قال الفاكهاني: لا ينبغي اليوم أن يسأل عن أصل شيء فإن الأصول فيه فسدت واستحكم فسادها بل يأخذ الشيء على ظاهر الشرع أولى له من أن يسأل عن شيء فيتعين له تحريمه ثم هو الأرفق بالناس لا قول من قال الحلال ما علم أصله، والذي

(2/436)

________________________________________

عندي في هذا الزمان أن من أخذ قدر الضرورة لنفسه وعياله من غير سرف ولا زيادة على ما يحتاج إليه ما لم يأكل حراما ولا شبهة، وقد قال قاسم بن محمد: لو كانت الدنيا حراما لما كان بد من العيش ألا ترى أنه لا يحل أكل الميتة ومال الغي للمضطر على تفصيل تقدم فما ظنك بما ظاهره الإباحة هذا لا يكاد يختلف فيه اليوم والله أعلم.

(وحرم الله سبحانه أكل المال بالباطل):

دليل ذلك قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) [البقرة: 188]

قال النبي صلى الله عليه وسلم "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به" أو كما قال عليه السلام قال: "ما يريد من الفواكه والثمار ولبن الغنم يحلبها" فقال ابن الفرس لا خلاف في أكل المحتاج من هذه الأشياء وإن لم يأذن ربها، واختلف في غير المحتاج على أربعة أقوال: فقيل: يجوز له ذلك، وقيل: بعكسه، وقيل: يجوز للصديق الملاطف دون غيره، وقيل: يجوز في اللبن دون الفواكه والثمار.

(ومن الباطل الغصب والتعدي والخيانة والربا والسحت والقمار والغرو والغش والخديعة والخلابة):

الغصب: هو ملك الرقبة وأما التسلط على المنفعة هو التعدي.

والخيانة: أخذ ما أؤتمن.

والربا: قيل المراد به ما كانت الجاهلية عليه من فسخ الدين في الدين يقول المطلوب أجرني وأزيدك فقال سواء علينا إن زدنا في أول البيع أو عند محل الأجل فكذبهم الله تعالى قاله مجاهد وغيره فالألف واللام على هذا القول في قوله تعالى (وحرم الربوا) [البقرة: 275]

بالتعريف العهد. وقيل المراد به ما حرم التفاضل فيه لأن الربا في اللسان الزيادة فالألف واللام على هذا لتعريف الجنس، وقيل مراده كل بيع محرم بالإطلاق وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وعائشة رضي الله عنهما.

والسحت: هو الرشوة وقيل هو القمار على الحمام والقمار معلوم عند العامة فضلا عن غيرهم.

والغش: كخلط دنئ بجيد قاله الفاكهاني.

والخلابة: بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام الخديعة وفي الصحيح أن رجلا كان يخدع في البيوع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا بعت فقل لا خلابة" أي لا خديعة أي

(2/437)

________________________________________

لا يحل لك خديعتي ولا تلزمني خديعتك هكذا فسر فيكون الشيخ ذكر الخديعة من باب ما اختلف لفظه واتفق معناه.

(وحرم الله سبحانه أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وما ذبح لغير الله وما أعان على موته ترد من جبل أو وقذة بعصا أو غيرها والمنخنقة بحبل أو غيرها إلا يضطر إلى ذلك كالميتة وذلك إذا صارت بذلك إلى حال لا حياة بعده فلا زكاة فيها):

قال الله تعالى (حرمت عليكم الميتة): [المائدة: 3]

الآية قال الفاكهاني: قد تقدم الكلام على هذا في موضعه بما يغني عن الإعادة وما أحسن قول من قال ومن شأن الناس معادات المعاودات قلت، وظاهر كلام الشيخ سواء أنقذت مقاتلها أم لا فمهما آيس من حياتها فلا تؤكل وهو كذلك على خلاف.

(ولا بأس للمضطر أن يأكل الميتة ويشبع ويتزود فإن استغنى عنها طرحها):

اعلم أن قول الشيخ لا بأس نفي لما يتهم وإلا فالواجب أكله منها إجماعا، وما ذكر أنه يشبع هو قول سحنون وأكثر أهل المذهب وبه الفتوى، وقال ابن حبيب وابن الماجشون وأبوه وحكى ابن المنذر وعبد الوهاب عن مالك: لا يؤكل منها إلا ما يسد به رمقه خاصة، وهذا القول هكذا عزاه عياض في إكماله وهو الذي تركن إليه النفوس ومثل هذا الاختلاف اختلاف سحنون وابن حبيب فيمن اضطر لعطش في رمضان فأزاله هل يجوز له أكل بقية يومه أم لا؟ ويقرب منه اختلافهم فيمن يباح له أخذ الزكاة فقيل يجوز إعطاؤه ما يغنيه نصابا فأكثر قاله مالك وقيل: يمنع أن يعطي النصاب قاله عبد الملك والقولان حكاهما ابن الجلاب، واختلف هل يأكل من ميتة الآدمي أو لا يأكل لحمته على قولين.

(ولا بأس بالانتفاع بجلدها إذا دبغ):

ظاهر كلام الشيخ أن الذبغ يقيد بالانتفاع بالجلد في المائعات وغيرها وهو كذلك عند سحنون وغيره وقيل إن طهارته مقيدة باليابسات والماء وحده من المائعات لأن الماء يدفع عن نفسه وهذا القول هو المشهور، وظاهره أنه لا ينتفع به قبل الدبغ وهو كذلك وحكى بن رشد عن ابن وهب وظاهر سماع ابن القاسم أنه ينتفع به زعم ابن حارث الاتفاق على الأول، وما ذكر أنه لا يصلي عليه هو المشهور وكذلك في البيع وقيل يجوز البيع إذا دبغ وقيل يجوزه مطلقا وقول الشيخ وأحب إلينا أن يغسل هو خلا ابن حبيب بوجوب غسله.

وظاهر قوله ولا ينتفع بريشها: التحريم وتقدم أن في القرن والظلف والسن ثلاثة

(2/438)

________________________________________

أقوال ثالثها: الفرق بين طرفها وأصلها وكذلك في العظم الثلاثة حكاها غير واحد، وحكى الباجي فيه الفرق بين أن يصلق أم لا كأحد الأربعة في أنياب الفيل، وحمل بعض من لقيناه من القرويين قول الشيخ وكره الانتفاع بأنياب الفيل على ظاهره فجعله خامسا والأقرب رده إلى التحريم لعدم وجودها لغيره، قال الفاكهاني: هذا الذي ذكر الشيخ قد تقدم في الضحايا بعينه واستوعب الكلام عليه هناك ... من بعض النسخ لكنه ثابت في روايتنا.

(وكل شيء من الخنزير حرام):

قال عبد الوهاب: يريد مما يؤكل قلت وقد تقدم الكلام على شعر الخنزير هل نجس أو طاهر وهو المشهور وكذلك القولان في شعر الكلب.

(وحرم الله سبحانه شرب الخمر قليلها وكثيرها وشراب العرب يومئذ فضيخ التمر، وبين الرسول عليه السلام أن كل ما أسكر كثيره من الأشربة فقليله حرام):

قال الله تعالى (إنما الخمر والميسر) [المائدة: 90]

الآية وخرج مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مسر خمر وكل خمر حرام ومن شرب خمرا في الدنيا ومات هو يومئذ لم يتب لم يشربها في الآخرة" وفي حديث أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إني أنهاكم عن كل مسكر" وخرج البزار وغيره عن ابن عباس قال: حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب.

وروى مرفوعا من حديث جماعة من الصحابة وكلهم ما بين ضعيف ومجهول، وقول الشيخ: وشراب العرب يومئذ فضيخ التمر قال الجوهري: والفضيخ شراب يتخذ من البسر وحده من غير أن تمسه النار.

(فكل ما خامر العقل فأسكره من كل شراب فهو خمر):

قال عبد الوهاب: أما إن أراد أنه من باب التحريم والحكم كالخمر فذلك صحيح لاجتماعهما في العلة وأما إن أراد أنه يسمى خمرا في اللغة حتى إذا ثبت ذلك صح دخوله تحت قوله تعالى "إنما الخمر والميسر" [المائدة: 90]

الآية وتحت سائر الظواهر الواردة بتحريم الخمر فهذا مبني على صحة القياس في اللغة قد سلك هذه الطريقة أبو بكر بن الجهم ورواه ابن وهب وهي مسألة من أصول الفقه وفيها خلاف.

(2/439)

________________________________________

(وقال الرسول عليه السلام: أن الذي حرم شربها حرم بيعها):

هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود حرمت عليها الشحوم فجملوها ثم باعوها وأكلوا أثمانها" وكذلك لعن صلى الله عليه وسلم الخمرة عشرة: عاصرها، ومن اعتصرت له، وبائعها، ومن ابتاعها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وشاهدها، وآكل ثمنها.

(ونهى عن الخليطين من الأشربة وذلك أن يخلطا عند الانتباذ وعند الشرب):

يريد بالخليطين البسر والرطب والتمر والزبيب.

(ونهى عن الانتباذ في الدباء المزفت):

الدباء معلومة وهي القرعة المزفت قلال أو ظروف تزفت أو تقير ولا خصوصية ما ذكر الشيخ -رحمه الله- من أن النهي عن الانتباذ فيما ذكر في الحديث الصحيح أن نهي عن التقير أيضا وهو قعر النخلة التي تنقر منه الآنية كذلك نهي عن المحنتم قال ابن حبيب: وهو ما كان من الجرار الكبار أخضر وأبيض مطليا بالزجاج الإمام المازري في المعلم في كتاب الإيما، روى ابن حبيب أنه أرخص في المحنتم، وروى القاضي أبو محمد المنع وأما النقير فروى عن مالك الكراهة والرخصة فيه وأما الدباء والمزفت فكره مالك نبيذهما قال ابن حبيب والتخليل أحب إلي.

(ونهى عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن أكل لحوم الحمر الأهلية ودخل مدخلها لحوم الخيل والبغال لقول الله تبارك تعالى: (لتركبوها وزينة) [النحل: 8]).

اختلف في أكل كل ما يفترس على ثلاثة أقوال: فقيل: أكله حرام وقيل مكروه وقيل: ما يعدو حرام كالأسد والنمر وما لا يعدو فمكروه كالضبع والهر وكذلك اختلف في الحمر الأهلية والبغال بالتحريم والكراهة في الخيل ثلاثة أقوال: هذان القولان والثالث الإباحة هذا الذي نقله أهل المذهب، وحكى النووي عن مالك في الحمر الأهلية الإباحة كالخيل ولا أعرفه لغيره وعلل من ذهب إلى التحريم بأمره صلى الله عليه وسلم بإراقتها وأجاب من أباح أكلها خارج المذهب عن ذلك خوف الفناء عليها مع الحاجة إليها فإذا كثرت كزماننا جاز أكلها وفعله صلى الله عليه وسلم أدبا لأنها طبخت قبل القسمة أو لأنها كانت جلالة.

(ولا زكة في شيء منها إلا في الحمر الوحشية):

قال الفاكهاني: يريد زكاة لحمه وإلا ففي الكتاب تزكية السباع لأخذ

(2/440)

________________________________________

جلودها وتقدم ما ذكره الباجي من أن الزكاة توجب طهارة ما زكي مطلقا سواء قلنا يؤكل أو لا يؤكل.

(ولا بأس بأكل سباع الطير وكل ذي مخلب منها):

ما ذكر هو المشهور روي عن مالك: لا يؤكل كل ذي مخلب من الطير والمشهور لا كراهة في الخطاف وقيل مكروه وقال ابن بشير: هل هذا لأنه لا كبير لحم فيها فدخلت في باب تعذيب الحيوان لا لفائدة قال ابن عبدالسلام وفيه نظر.

(ومن الفرائض بر الوالدين وإن كانا فاسقين وإن كانا مشركين فليقل لهما قولا لينا):

اعلم أن بر الأب والأم متساو وتؤول أنه اختيار مالك ومذهبه وروي عن الليث بن سعد خلافه وذكر المحاسبي أن على تفضيل الأم على الأب في البر إجماع العلماء قال عبد الوهاب: والأبوان الكافران كالمسلمين إلا أن برهما ينقطع بالموت.

قال بعض الشيوخ: والفاسق من الأبوين يزاد في الدعاء على الآخر وقيل لشهاب بن خراش ما جعلت لأبيك من دعائك؟ قال: الثلثين ولأمي الثلث فقيل له: أليس يقال للأم ثلثا البر فقال: بلى ولكن أبي شرطي لأبي هريرة. واختلف في بر الجد فقال أبو بكر الطرطوشي: لم أجد نص العلماء في الأجداد والذي عندي أنهم لا يبلغون مبلغ الآباء واستدل بسلب الأبوة عنهم في الحقيقة بقوله تعالى (أحدهما أو كلاهما) [الإسراء: 23]

ولو كان حكم الأجداد لقاله بلفظه الجمع وبقوله "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك فأدناك" وفي حديث آخر "أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك ثم أدناك فأدناك" قال: وفصل صلى الله عليه وسلم ورتب الإخوة بعد الآباء واحتج بقوله تعالى (كما ربياني صغيرا) [الإسراء: 24]

والتربية لا تكون إلا للوالدين.

قال عياض في الإكمال: والذي عندي خلاف ما ذهب إليه كله والمعروف من قول مالك ومن وافقه من أهل العلم من أصحابه لزوم بر الأجداد وتقديمهم وقربهم من الآباء، وقد روي عن مالك أنه لا يقتص من الجد لابن ابنه إلا أن يفعل به ما لا شك في قصده قتله كالأب سواء، وكذلك قالوا في الجهاد بغير إذنه لا يجوز كالآباء وكذلك اختلف في تغليظ الدية عليه في عمد قتله وفي قطعه في السرقة من مال حفيده، وأما الحديث الي احتج به من قوله أمك وأباك وأخاك ومولاك فهو حجة عليه لأنه لما لم يذكر الأجداد وقد ذكر الموالي دل على أنهم داخلون في عموم الآباء قلت: وقد ذكرنا بعض هذا الاحتجاج في أواخر الجهاد وابن عبد السلام حسن قول الطرطوشي قال:

(2/441)

________________________________________

وإن احتجاج عياض إنما يتم على من يدعي أن الجد لاحظ له من البر وهذا لم يذهب إليه أحد وسمعت شيخنا أبا مهدي أيده الله يذكر أهل قرطبة اختلفوا هل يجوز أن توكل الأم ولدها على والده أو يمنع وأنه حكم بجوازه.

(ولا يطعهما في معصية كما قال الله سبحانه):

قال ابن القاسم: إذا طلب الأعمى من ولده أن يذهب به إلى الكنيسة فليطعهما ويحميهما ويعطيهما ما ينفقان في أعيادهما ولكن لا يتولى ذلك بنفسه ولا يعطيهما ما ينفقان في الكنيسة وقال أشهب: لا يفعل ذلك كله.

(وعلى المؤمن أن يستغفر لأبويه المؤمنين وعليه موالاة المؤمنين والنصيحة لهم):

إنما كان عليه أن يستغفر لهما لقوله تعالى (وقل رب ارحمهما) [الإسراء: 24]

الآية وفي الحديث إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث فذكر الولد الصالح يدعو له. وقد أجمع العلماء على أن الميت ينتفع بالدعاء له، وبالصدقة عليه، واختلف في قراءة القرآن على أربعة أقوال للعلماء يفصل في الثالث بين أن يكون عند القبر فينتفع بها الميت وإلا فلا، قال الفاكهاني: وذهب بعض الشافعية وأظنه أبا المعالي إلى أن القارئ إذا نوى أول قراءته أن يكون ثواب ما يقرأه لفلان الميت كان ذلك له وإلا فلا إذ ليس له أن ينقل ما ثبت ثوابه لغيره، قوله وعليه موالاة المؤمنين والنصيحة لهم، قيل هذا لقوله صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة" الحديث.

وروي عن جابر أنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم وقال صلى الله عليه وسلم "لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله أخوان" وقال التادلي: اختلف إذا كان هناك من يشارك في النصيحة هل تجب عليك النصيحة أم لا سواء طلب منك أم لا كمن رأيته يفسد في صلاته؟ فقال الغزالي: يجب عليك النصح وقال ابن العريب، لا يجب قلت: الذي أقول به ما قاله الغزالي ويكون ذلك برفق لأنه أقرب للقبول.

ولا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

هذا الحديث يدل على أن المطلوب للعالم أن يود أن يكون كل الناس علماء مثله

(2/442)

________________________________________

وكذلك الصالح والغني، قال النواوي قال الشيخ أبو محمد بن الصلاح: هذا الحديث قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك إذ معناه: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه والقيام بذلك يحصل بأن يجب حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئا من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله وإخواننا من ذلك أجمعين.

(وعليه أن يصل رحمه):

يريد بنفسه وماله إلا أن يعرض له ما هو أوكد كتعليمه العلم في بلد نائية يعسر عليه الزيارة لهم والدليل على ما ذكر الشيخ قوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) [الأنفال: 75]

الأية وفي الحديث "صلة الرحم، تزيد في العمر" ويحتمل هذا بالنسبة إلى الملائكة وفي الحديث "الرحم معلقة بالعرش تقول يا رب صل من وصلني، واقطع من قطعني".

(ومن حق المؤمن على المؤمن أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض ويشمته إذا عطس ويشهد جنازته إذا مات ويحفظه إذا غاب في السر والعلانية):

لا شك أن هذا من حقه كما قال ويتكلم الشيخ بعد على حكم الإسلام ابتداء وانتهاء.

(ولا يهجر أخاه فوق ثلاث ليال والسلام يخرجه من الهجران ولا ينبغي له أن يترك كلامه بعد السلام):

والأصل في ذلك ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" وروى مالك عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة أن رسولا الله صلى الله عليه وسلم قال "تفتح أبوا الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا" قال بعض من لقيناه من القرويين قول الشيخ والسلام يخرج من الهجران إذا نوى به ذلك وإلا فلا ويذكر أن أبا عمران نص عليه.

(2/443)

________________________________________

(والهجران الجائز هجران ذي البدعة أو متجاهر بالكبائر):

قال الفاكهاني: يريد بالبدعة المحرمة كأهل الأهواء والخوارج: وفي البدعة المكروهة عندي نظر هل يحل هجران مرتكبها أم لا؟

(ومن مكارم الأخلاق أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك):

قيل هذه الألفاظ الثلاث تفسير لقوله (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) [الأعراف: 177]

، واختلف العلماء هل ينفع تحليل من الظلامات والتباعات أم لا؟ على ثلاثة أقوال فقال ابن المسيب بعدم التحليل مطلقا وقال غيره بعكسه وفرق مالك بين الظلامات فلا تحل بخلاف الديون ونحوها، قال ابن العربي: إذا مات الذي له التباعات انتقلت إلى ورثته وإذا رد الغاصب ما كان عليه للورثة برئ من التباعات بإجماع وبقي عليه حق المطل.

واختلف إذا لم يعط الغاصب للورثة شيئا ثم اجتمعوا في الآخرة لمن يكون ما عليه هل للورثة أو للميت؟ على قولين قلت: وأفتى شيخنا أبو محمد عبدالله الشيبيي- رحمه الله- بأن ذلك للورثة وعلل بما سبق من أنه لو دفعه إليهم تبرأ ذمته إجماعا وذلك حق للورثة وشق ذلك على العامة بالقيروان لكثرة المطالب التي يؤدونها على الزرع لغلبة الأعراب عليه فجعل الفلاحون يأتون أفواجا ويقولون يا سيدنا بلغنا كذا فيقول نعم فيها خلاف وهذا الذي ظهر لي من الترجيح فرأيت بعضهم يبكي واشتد بكاؤه فجعل الشيخ يقول لهم على طريق المؤانسة على الظالم ما تعبتم بسببه وما غير به قلوبكم إلى غير ذلك.

(وجماع آداب الخير وأزمته تتفرع عن أربعة أحاديث قول النبي علي السلام "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" وقوله عليه السلام "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقوله للذي اختصر له في الوصية "لا تغضب" وقوله "المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحبه لنفسه"):

أما الحديث الأول فخرجه مسلم، وأما الحديث الثاني فخرجه الترمذي من كتاب الزهد في حديث الزهري من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي وهو غريب من هذا الوجه والمشهور عن مالك عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام وحديث "إنما الأعمال بالنيات والحلال بين والحرام بين، ومن وراء ذلك أمور متشابهات وازهد

(2/444)

________________________________________

في الدنيا يحبك الله" وقد نظمها أبو الحسن ظاهر بن فورك رحمه الله تعالى فقال:

عمدة الشرع عندنا كلمات: أربع من كلام خيرالبرية

اتق الشبهات وازهد ودع ما: ليس يعنيك واعملن بنية

وأما الحديث الثالث فخرجه البخاري ولم يخرجه مسلم أخرجه البخاري في كتاب الأدب عن يحيى بن يوسف عن أبي بكر بن عياش عن أبي حفص عن أبي صالح عبد الله بن ذكوان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما الحديث الرابع فخرجه مسلم ولفظه " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو لجاره ما يحب لنفسه" هكذا في مسلم على الشك وهكذا هو في مسند عبدالله بن حميد على الشك وهو في البخاري من غير شك، قال العلماء: معناه لا يؤمن الإيمان التام والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث "حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه".

(ولا يحل لك أن تتعمد سماع الباطل كله):

الباطل ضد الحق قولا كان أو فعلا ومفهوم الشيخ أن سماعه من غير تعمد جائز وهو كذلك كالنظرة الأولى قال الفاكهاني: وقد روي عن ابن عمر فيما أظن أنه لما سمع صفارة الراعي سد أذنيه وكان معه إنسان فيقول له تسمع حتى بعد عن الصوت فظاهر هذا عدم التحريم إذ لو كان حراما لأمر من معه أن يفعل كفعله من سد أذنيه.

(وإلا أن تتلذذ بسماع كلام امرأة لا تحل لك):

قال ابن شعبان: وكذلك لا يحل لك سماع صوت الأمرد من الصبيان إذا كان فيه لين يخشى منه اللذة وقبله التادلي وأردفه بقول الغزالي ولا يصلي وراءه الأشفاع لأنه يتلذذ بصوته قال الفاكهاني: وانظر قول الشيخ ولا تتلذذ ولم يقل ولا أن تسمع لأن كلام المتجالة وما في معناها جائز.

(ولا سماع شيء من الملاهي والغناء):

قال الفاكهاني: لم أعلم في كتاب الله آية صريحة ولا في السنة حديثا صحيحا صريحا في تحريم الملاهي وإنما هي ظواهر وعمومات يتأنس بها للاأدلة قاطعة واستدل ابن رشد بقوله تعالى (وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه) [القصص: 55]

وأي دليل في ذلك على تحريم الملاهي والغناء وللمفسرين في ذلك أربعة أقوال:

الأول: أنها ما زالت في قوم من اليهود أسلموا فكان اليهود يلقونهم بالسب والشتم فيعرضون عنهم.

(2/445)

________________________________________

الثاني: قوم من اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غيره اليهود من التوراة وبدلوه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته أعرضوا عنه وذكروا الحق.

الثالث: أنهم المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا إليه.

الرابع: أنهم من أناس من أهل الكتاب لم يكونوا من اليهود ولا النصارى وكانوا على دين الله كانوا ينتظرون بعث محمد صلى الله عليه وسلم فلما سمعوا به بمكة قصدوه فعرض عليهم القرآن فأسلموا فكان الكفار من قريش يقولون لهم أف لكم من قوم اتبعتم غلاما كرهه قومه وهم أعلم منكم به، قاله ابن العربي في أحكامه فليت شعري كيف يقوم الدليل من هذه الآية على تحريم الملاهي والغناء.

استدل أيضا بقوله تعالى (فماذا بعد الحق إلا الضلال) [يونس: 32]

وهذا كما تقدم أعني لا صراحة فيه ولا تحريم شيء بعينه حتى يكون نصا في عين المسألة المطلوبة، واستدل أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم "وكل لهو يلهو به المؤمن باطل إلا ثلاثة، ملاعبة الرجل زوجته، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه" قال الغزالي: قلنا قوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل لا يدل على التحريم بل يدل على عدم الفائدة وقد سلم ذلك على أن الملاهي بالنظر إلى الحبشة خارج عن هذه الثلاثة وليس بحرام بل يلحق بالمحظور غير المحظور كقوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأحد ثلاثة" فإنه يلحق به رابع وخامس وكذلك ملاعبة زوجته فلا فائدة فيها إلا التلذذ وفي هذا دليل على أن التفرج في البساتين وسماع أصوات الطيور وأنواع الملهيات مما يلهو به الرجل لا يحرم شيء منها، وإن جاز وصفه بأنه باطل، وبالجملة فإن لأصحابنا ظواهر يستدلون لها على التحريم كما لغيرنا ظواهر يستدلون بها على الإباحة.

قال الشيخ أبو القاسم القشيري رضي الله عنه مستدلا على إباحة السماع قال الله تعالى (فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) [الزمر: 17، 18]

قال: ويقتضي قوله عز وجل التعميم والاستغراق والدليل علىه أنه مدحهم بسماع الأحسن وقال تعالى (فهم في روضة يخبرون) [الروم: 15]

وقال في التفسير أنه السماع قال: وأعلم أن سماع الأشعار بالأصوات الطيبة والنغم المستلذة إذا لم يقصد المستمع محظور أو لم يشتل على مذموم في الشرع ولم ينجرر في زمام هواه ولم ينخرط في سلك لهوه فمباح في الجملة، ولا خلاف أن الأشعار أنشدت بين يدي

(2/446)

________________________________________

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها فإذا جاز سماعها بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان الطيبة هذا ظاهر من الأمر، وثم ما يوجب للمستمع من توفر الرغبة على الطاعة فيذكر ما أعد الله لعباده من الدرجات، ويحمله على التحرز من الزلات ويؤدي في الحال إلى صفاء الواردات مستحب في الدين وممتاز في الشرع.

ثم قال بعد كلام: وقد سمع السلف والأكابر الأبيات والألحان وممن قال بإباحاته من السلف: مالك بن أنس وأهل الحجاز كلهم يبيحون الغناء وأما الحداء فأجمعوا على إجازته وقد وردت الأخبار واستفاضت الآثار في ذلك وذكر في ذلك أوارقا لا نطول بذكرها إذا كان موضعها معروفا، وأما الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله فأفتى بذلك في البحر الزخار وأورد كل ما استدل به من قال بتحريم السماع، وأجاب بأجوبة لا يشك سامعها في أنها أجوبة صحيحة لا تكاد تنقض فعليك بالأحياء إن أردت الوقوف عليها فإن هذا الكتاب ليس موضعا لذلك والذي في ذلك أني لا اعتقد تحريمه، ولا إباحته على الإطلاق بل على التفصيل بحسب الأشخاص والأحوال ووجود الشروط وعدمها على ما هو مذكور في كتاب علماء الصوفية وأرباب القلوب أعاد الله علينا من بركاتهم ولا أحرمنا الإيمان بكراماتهم حتى يجتمع علينا مصيبتان: عدم الوصول إلى مرتبتهم وعدم الإيمان بأحوالهم قلت وبهذا التفصيل أقول ومن رأي حالهم اتصف بطريقتهم وحقر نفسه معهم.

وممن كان يبيحه ويرغب الناس في الاجتماع إليه ويحضره من العلماء القرويين المتأخرين الشيخ الصالح العالم الورع أبو عمران موسى بن عيسى المناري كان يقع بين يديه في زاويته المعروفة بالقيروان وهو في خلوته وأجمع أهل عصره على علمه ودينه وشرع في تأليفه على التهذيب وصل فيه إلى صلاة السفر وتكلم فيه بكلام مشبع يعلم فيه فقه فلما نظر في كتاب الغزالي المسمى بالإحياء تفرغ للعبادة ليلا ونهار أيعمر ميعاده بقراءة الرقائق ويعظ الناس وكان لا يحضر ميعاده أهل الدنيا لما يسمعون منه، وكان ممن يعمله لنفسه شيخ الفقراء والصلاح عندنا بالقيروان في عصره الشيخ الصالح الورع الزاهد أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الحريري نفعنا الله به لقد مررت بزاويته، وسمعته نشد فوقفت في الزقاق أسمع وهبت أن أدق الباب لأنه كان مغلقا وليس على الشيخ دلالة وكان ذلك في جوف الليل ليلة سفره إلى المشرق فأصابني حال عظيم وكاد عقلي أن يزهق، ووددت أني أحضر في حلقته تلك الساعة، وأخرج عن ملك الدنيا بأسرها لو ملكتها.

(2/447)

________________________________________

وبالجملة فإن القرويين من الطلبة والمرابطين يتسامحون في حضوره بأنفسهم ويرغبون العامة في ذلك، وأما المتصدرون بالخطط منهم فهم لا يفعلون ذلك متبعين في ذلك أشياخ التونسيين المنكرين ذلك أتم إنكار مصرحين بتحريم من يفعل ذلك.

(ولا قراءة القرآن باللحون كترجيع الغناء وليجل كتاب الله العزيز أن يتلى إلا بسكينة ووقار وما يوقن أن الله يرضى به ويقرب منه مع إحضار الفهم لذلك):

اللحون والألحان جميع لحن بإسكان الحاء قال ابن رشد: فالواجب أن ينزه القرآن عن ذلك، ولا يقرأ إلا على الوجه الذي يخشع به القلب ويزيد في الإيمان وينبغي تفهمه ما عند الله لقوله تعالى (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) [الأنفال: 2]

الآية وقوله تعالى (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها) [محمد: 24]

وقوله (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول) [المائدة: 38]

الآية.

والألحان تكره في الشعر فكيف بالقرآن؟ فمن قصد إلى سماع القرآن بالصوت الحسن فهو حسن، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري ذكرنا رنبا لحسن صوته بالقرآن وتجويده لقراءته، وقد اختلف في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" اختلافا كثيرا وأحسن ما قيل في ذلك أن يكون المعنى فيه: ليس منا من لم يتلذذ بسماع القرآن لرقة قبل وشوقه إلى ما عند ربه كما يتلذذ أهل الغواني بسماع غوانيهم.

(ومن الفرائض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل من بسطت يده في الأرض وعلى كل من تصل يده إلى ذلك فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه):

المعروف هنا ما أمر الله سبحانه به والمنكر ما نهى عنه والأصل في ذلك ما قاله أبو موسى واستحسنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم"، وروى جرير بن عبدالله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من قوم يعلم فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعمله فلا يغيرونه إلا عمهم الله بعقابه" ويشترط في ثلاثة شروط الأول: أن يكون المتولي عالما بما يأمر به، وبما ينهى

(2/448)

________________________________________

عنه. الثاني: أن يأمر أن يؤدي إنكاره إلى أكبر من مثل أن ينهى عن شرب الخمر فيؤول نهيه عنه إلى قتل النفس ونحوها الثالث: أن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له وأن أمره بالمعروف مؤثر فيه ونافع وفقد أحد الشرطين يمنع الجواز وفقد الثالث يسقط الوجوب فقط ويبقى الجواز والندب.

قال التادلي: واختلف في شرطين وهما العدالة وإذن الإمام والمشهور عدم اشتراطهما واختلف إذا رأى بهيمة تفسد شيئا على أقوال ثالثها: يجب علي منعها إن لم تكن فيه مشقة قلت: لا أعرف هذا النقل لغيره وسألت عنه شيخنا أبا مهدي أيده لاله فأنكره قائلا: مقتضى المذهب الوجوب باتفاق نعم يختلف في عزمه إن تركها حتى أفسدت جريا على الخلاف في الترك هل هو كالفعل أم لا؟ وقد علمت النظائر المذكور في ذلك ويشترط في المنكر ظهوره في الوجود من غيرتجسس، ولا يسرق سماعا ولا يستنشق رائحة يتوصل بذلك إلى المنكر ولا يبحث عما أخفى في يده أو ثوبه أو دكانه أو داره فإن السعي في ذلك حرام لقوله تعالى (ولا تجسسوا) [الحجرات: 12].

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أحس من رجل بالخنا فتسور عليه فرآه على منكر فصاح عليه فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن عصيت الله في واحدة فقد عصيته أنت في ثلاثة فقال: وما هن قال: تجسست وقد قال ولا تجسسوا فقد نهى عنه، وأتيت البيوت من ظهورها وقد أمر تعالى إتيانها من أبوابها، ودخلت غير بيتك من غير استئذان وتسليم وقد أمر الله تعالى بذلك فقال عمر: صدقت فاستغفر لنا فقال: غفر الله لنا ولك يا أمير المؤمنين.

(وفرض على كل مؤمن أن يريد بكل قول وعمل من البر وجه الله الكريم ومن أريد بذلك غيرالله لم يقبل عمله):

الدليل على ذلك قوله تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) [البينة: 5]

الآية، وقوله تعالى (ألا لله الدين الخالص) [الزمر: 3]

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" قال الغزالي: الإخلاص عند علمائنا إخلاصان إخلاص العمل، وإخلاص طلب الأجر فأما إرادة إخلاص العمل فهو التقرب إلى الله تعالى وتعظيم أمره وإجابة دعوته

(2/449)

________________________________________

وأما إخلاص طلب الأجر فهو إرادة نفع الآخرة يعمل الخير، قلت: وكلام المؤلف كالنص بأن الرياء لو طرأ في أثناء العمل يفسده، وهو كذلك وبه أفتى غير واحد ممن أدركناهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

(والرياء هو الشرك الأصغر):

هو أن يريد بعمله غير الله أو يشرك فيه غيره.

(والتوبة فريضة من كل ذنب من غير إصرار والإصرار المقام على الذنب واعتقاد العود إليه):

يريد الكبائر وأما الصغائر فلا تفتقر إلى توبة منها إذا اجتنبت الكبائر وظاهره سواء كان الذنب معلوما أو مجهولا وهو كذلك قال الشيخ أبو علي ناصر الدين: تجب التوبة من المعلوم تفصيلا ومن المجهول إجمالا وتقدم في العقيدة فروع متعدة في أحكام التوبة هل هي مقطوع بها أم لا؟ إلى غير ذلك.

(ومن التوبة رد المظالم واجتناب المحارم والنية أن لا يعود وليستغفر الله ربه):

قال التادلي: ولابد من رد المظالم إلى المظلوم أو إلى ورثته ولو أتى على جميع ماله فإن لم يكن له ورثة تصدق به عليه وقال بعضهم: يترك لنفسه ما يترك للمفلس قلت: وهو ضعيف لأن المفلس أخذ مال الغرماء عن طيب أنفسهم فهم عاملوه على إبقاء شيء بيده بخلاف من أخذ له مال كرها فيناسبه أخذ جميع ما بيده. (ويرجو رحمته ويخاف عذابه ويتذكر نعمته لديه ويشكر فضله عليه بالأعمال بفرائضه وترك ما يكره فعله ويتقرب إليه بما تيسر له من نوافل الخير):

يعني أن جامع بين الرجاء والخوف ويغلب الرجاء عند الموت ليلقى الله على حسن الظن به وفي الحديث "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا.

(وكل ما ضيع من فرائضه فيلفعله الآن):

قال الفاكهاني: لأن الفرض المطلوب لا يسقط بالنسيان فإذا ضيع فرضه قضى، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من نسي صلاة أو نام عنها فليقضها إذا ذكرها" ولا خلاف في ذلك قلت: أما ما ترك في العمد فالخلاف فيه بالنص والتخريج كما قدمنا في محله قال عياض: سعت بعض شيوخنا يحكي أنه بلغه عن مالك قولة شاذة بسقوط القضاء ولا يصح عنه ولا عن غيره من الأئمة سوى داود بن عبد الرحمن الشافعي

(2/450)

________________________________________

وإنكار عياض لا ينفيه لأن من حفظ مقدم على من لم يحفظ لقلة الناقلين ولإطلاع بعضهم على من لم يطلع عليه الآخر قال سند يتخرج على قول ابن حبيب بتكفيره لأنه مرتد تاب.

(وليرغب إلى الله في تقبله ويتوب إليه من تضييعه وليلجأ إلى الله فيما عسر عليه من قياد نفسه ومحاولة أمره موقنا أنه المالك لصلاح شأنه وتوفيقه وتسديده لا يفارق ذلك على ما فيه من حسن أو قبيح ولا ييأس من رحمة الله):

قال عبدالوهاب: لأن الله هو المسهل والميسر وبيده التوفيق والتسهيل وقد قال تعالى (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) [فاطر:2]

، وقال تعالى (وما توفيقي إلا بالله) [هود: 88]

وقال تعالى (رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري) [طه: 25، 26]

، وقال تعالى: (ولا تيئسوا من روح الله) [يوسف: 87]

الآية، وقال تعالى (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) [النور:40].

قال التادلي: وأشار الشيخ بقوله وليلجأ إلى الله فيما عسر عليه إلى آخره جهاد نفسه وهو أعظم من جهاد العدو ولأنه فرض عين ولكونه دائما وكونه متصلا بالنفس وكونه لا يحصل إلا باسعتمال النفس في جميع الطاعات وكفها عن المحرمات بخلاف جهاد العدو في الجميع.

(والفكرة في أمر الله مفتاح العبادة):

فاستعن بذكر الموت والفكرة فيما بعده وفي نعمة ربك عليك وإمهاله لك وأخذه لغيرك بذنبه وفي سالف ذنبك وعاقبة أمرك ومبادرة ماعسى أن يكون قد اقترب من أجلك أشار الشيخ بقوله في أمر الله لقوله صلى الله عليه وسلم "تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق لأنكم لا تقدرون قدره) وهو معنى قوله تعالى (ويتفكرون في خلق السموات والأرض) [آل عمران: 191].

ولقد أحسن من قال من العلماء: المتفكر في ذات الله كالناظر في عين الشمس لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وقال الحسن بن أبي الحسن "الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته" وقال بن عباس وأبو الدرداء "فكرة ساعة خير من عبادة سنة" وما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الآخرة، وأخذ أبو سليمان الداراني قدحا من الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف فرآه لما أدخل اصبعه في أذن القدح

(2/451)

________________________________________

أقام كذلك مفكرا حتى طلع الفجر فقال له ما هذا يا أبا سليمان؟ فقال له: إني لما طرحت اصبعي في أذن القدح تفكرت قول الله تعالى (إذا الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسبحون، في الحميم ثم في النار يسجرون) [غافر: 71، 72]

فتفكرت في حالي وأنا الملقى أن طرح الغل في عنقي يوم القيامة فما زال في ذلك حتى أصبح.

قال ابن عطية: وهذه نهاية الخوف وخير الأمور أوسطها وليس علماء الأئمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج وقراءة علم كتاب الله عز وجل ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تفهم وجاء نفعه أفضل من هذا لكنه يحسن أن لا تخلو البلاد من مثل هذا، وحدثني أبي رحمه الله عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائنا في المسجد الأقدم بمصر فصليت العتمة فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء مسجي بكسائه حتى أصبح وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل وصلى مع الناس فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء فلما فرغت الصلاة خرج فاتبعته لأعظه فما دنوت منه سمعته ينشد:

مسجن الذهن غائب حاضر: منتبه القلب صامت ذاكر

منقبض في الغيوب منبسط: كذلك من كان عارفا شاكر

يبيت في ليله أخا فكرة: فهو مدى الدهر قائم ساهر

قال: فعلمت أنه ممن يعبد الله بالفكرة فانصرفت عنه.

(فاستعن بذكر الموت والفكرة إلى آخره):

قيل: لأن ذكر الموت ما بعده مبغض في الحياة مزهد في الدنيا وإذا حصل الزهد حصل الخير كله أو جله فإن حب الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم "رأس كل خطيئة ومن طال أمله ساء عمله ونسي أجله" ولا معين على الزهد مثل قصر الأمل.

وفي الحديث "إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك ومن غناك لفقرك ومن شبابك لهرمك" الحديث.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في الفطرة وختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك

(هنا أفرد الختان بالذكر دلالة على تأكده فإنه أكد خصال الفطرة وإلا فهو منها. ومن الفطرة خمس قص الشارب وهو الإطار وهو طرف الشعر المستدير على الشفه

(2/452)

________________________________________

لا إخفاؤه والله أعلم وقص الشارب ونتف الجناحين وحلق العانة): الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الآباط" واختلفت الروايات في هذا الحديث فجاء: الفطرة خمس كما تقدم، وجاء خمس من الفطرة فعلى الأول يكون على الحصر بخلاف الثاني لوجود من التبعيضية فيها وعليها جاء كلام الشيخ في قوله: ومن الفطرة خمس.

قال عياض: ومعناه أن هذه الخصال من سنن الأنبياء عليهم السلام وقيل معناه من الإسلام خمس فإن الفطرة الإسلام قال غير واحد ولم ير مالك باستئصال شعر الشارب وأمر بأدب فاعله لأنه حلقه مثله وهو فعل النصارى وإنما يأخذ منه مقدار ما يبدو من طرف الشارب يبدأ إن قص له غيره بيمين القاص وبيمينه إن قص لنفسه وللقص فوائد: تحسين البشرة وإذهاب الشين وتمكينه من الاستمتاع بالقبلة وعدم إيذائه زوجته بذلك، وقص الأظفار لا حد في البداءة يه ولذلك أنكر المازري فيه على الغزالي قوله يبدأ بسبابته اليمنى لأنها هي المسبحة ثم ما يليها لأنها من ناحية اليمنى وهي في الشرع أفضل ثم يبتدئ باليسرى ومن خنصرها على صفة دائرة فإذا أتمها ختم بإبهام اليمنى الذي تركه أولا قائلا: لأنه سر الهندسة والدوائر.

وكذلك يقص أظفاره في أي زمان أحب وما يعتقده العوام من التحرج يوم الأربعاء فلا يعول عليه، قال التادلي: ويكره قصها بالأسنان وهو مما يورث الفقر وكذلك طرح القمل وترك العنكبوت في البيت واستخدام الأجرار قال ابن العربي في سراجه: إنما شرع في شعر الجناحين النتف لأنه أشد ذهابا لإنبات الشعر وأما الحلق فيقويه وإنما لم يشرع في العانة للمشقة اللاحقة في ذلك قال الباجي: ولا تحلق المرأة عانتها لأنه يضر بالزوج لاسترخاء المحل بذلك اتفاقا من الأطباء.

(ولا بأس بحلاق غيرها من شعرالجسد):

ظاهر كلامه جواز حلق شعر اليدين ولا أعرف في ذلك نصا في المذهب وعن غير واحد كالفاكهاني الخلاف فيه للعلماء وإنما قال من شعر الجسد احتراز من شعر اللحية والرأس لأن حلقهما بدعة.

(والختان في الرجال سنة والخفاض للنساء مكرمة وأمر النبي أن تعفى اللحية وتوفر ولا تقص):

(2/453)

________________________________________

ما ذكر من أن الختان سنة ويريد بتأكيد مثله لابن يونس وروى ابن حبيب هو من الفطرة لا تجوز إمامة تاركه اختيار ولا شهادته قال الباجي: لأنها تبطل بترك المروءة ولو أسلم وقد قدمنا الخلاف فيما إذا أسلم شيخ كبير يخاف على نفسه إن هو اختتن هل يتركه أم لا؟ على قولين لابن عبد الحكم وسحنون وذكرنا أن قوله والخفاض للنساء مكرمة هو خلاف رواية الباجي وغيره والخفاض كالختان.

(قال مالك ولا بأس بالأخذ من طولها إذا طالت كثيرا إلى آخره):

يريد أن ذلك خير من غيره وكذلك يستحب الأخذ من عرضها قال عياض:

واختلف السلف هل لذلك حد أم لا؟ فالمعروف أنه لا حد له إلا أنه لا يتركها نحو الشهر، ومنهم من قال في حدها بما زاد على القبضة فيزال ومنهم من كره الأخذ منها جملة إلا في الحج والعمرة، قال مالك: وبلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى أن يحلق ما تحت اللحية إلى الغلصمة وقيل أنه من فعل المجوس وأنا أكره حلق الرقبة إلا لمن أراد أن يحتجم وأكره تحديد اللحية والشارب بالموس من جهاتها تحسينا وتزينا وإنما ذلك من زي النساء.

(ويكره صباغ الشعر بالسواد من غير تحريم ولا بأس بالحناء والكتم):

قال الفاكهاني: أما السواد ففي المذهب قولان بالكراهة والجواز ووجه الكراهة قوله صلى الله عليه وسلم: "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود" خرجه النسائي وأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقيد سواد من غيره وفي غيره قولان بالندب والإباحة، قلت: وكلام الشيخ يحتملهما والأقرب له الإباحة والحناء ممدود قاله عياض والكتم بفتح الكاف والتاء نبت بخلط بالوسمة فيختصب به قاله الجوهري.

(ونهى الرسول عليه السلام الذكور عن لباس الحرير وتختم الذهب عن التختم بالحديد):

لا خلاف في المذهب أن لبسه حرام على الذكور وجائز للنساء في حال الحياة وفي المذهب قولان متقابلان بالجواز مطلقا ذكرهما المازري وأما التكفين فيه فقد قدمنا أن في المذهب ثلاث أقوال ثالثها: يجوز للنساء وأجاز ابن حبيب للرجل أن يلبس الحرير لحكة وأجازه ابن الماجشون في الجهاد ورواه عن مالك والمشهور المنع.

واختلف هل يجوز افتراشه والاتكاء عليه أم لا؟ فقيل إنه جائز قاله ابن الماجشون قال أبو محمد وهو خلاف قول مالك، وطاهر المذهب أنه لا يجوز لزوج

(2/454)

________________________________________

المرأة الجلوس عليه تبعا لها قال ابن العربي: ذلك جائز قال بعض شيوخنا ولا أعرفه لغيره والتختم بالذهب جائز للنساء ممنوع للرجال واختلف فيمن صلى به فقيل يعيد في الوقت وقيل لا وكذلك القولان فيمن صلى بخاتم فيه تماثيل نقله ابن هارون ولا أعرفهما إلا في خاتم الذهب واختلف المذهب إذا صلى بثوب حرير على ثلاثة أقوال حكاها ابن الحاجب قال: ولو صلى بالحرير مختارا عصى وثالثها: تصح إن كان ساترا غيره، ولا توجد الأقوال هكذا لغيره، وما ذكر الشيخ من النهي عن تختم الحديد قال المغربي: هو خلاف ظاهر المدونة لقولها في باب الاحداد لا تلبس حليا ولا قرطا ولا خاتم حديد فمفهوم كلامه أنه لغير الحاد من النساء جائز وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم "التمس ولو خاتما من حديد".

(ولا بأس بالفضة في الحلية الخاتم والسيف والمصحف):

ظاهر كلام الشيخ أن تحلية ما ذكر بالذهب منهي عنه وهو كذلك بالنسبة إلى الخاتم باتفاق وإلى السيف في قول وقيل إنه جائز وأما بالنسبة إلى المصحف فقيل مكروه رواه ابن عبد الحكم وقاله به وقيل أنه جائز ورواه ابن المواز وهو في الموطأ والقولان حكاهما ابن رشد.

(ولا يجعل ذلك في لجام ولا سرج ولا سكين ولا في غير ذلك ويتختم النساء بالذهب ونهي عن التختم بالحديد):

اختلف المذهب هل يجوز تحلية باقي آلة الحرب على ثلاثة أقوال: فقيل: جائز وقيل: لا يجوز وهو ظاهر كلام الشيخ، وقيل: يجوز فيما يطاعن به ويضارب لا فيما يتقي به ويتحزم، واختلف هل يجوز للمرأة أن تعمل فبقايا من فضة أم لا؟ فقال أبو بكر بن عبدالرحمن: لا يجوز ولم يرتضه أبو حفص العطار واختار الجواز ذكر ذلك في تعليقه في كتاب الصرف، قال شيخنا أبو مهدي: وتصوره المسألة في قبقاب لا مفهوم له وكذلك يختلف في قبقاب الذهب لأن مستند من أجاز كون قبقابها من حليها كخلهالها قلت: ولذلك أطلقت فرض المسألة في قولي في الزكاة من هذا التعليق والقبقاب للمرأة فيه قولان حكاهما أبو حفص العطار وما عدا ما ذكر فإنه محرم باتفاق.

(والاختيار مما روي في التختم التختم في اليسار لأن تناول الشيء باليمين فهو يأخذه بيمنيه ويجعله في يساره):

ما ذكر الشيخ هو مذهب جمهور العلماء لأنه يتناوله بيمينه ويجعله في شماله، قال

(2/455)

________________________________________

ابن رشد: من السلف من يختار التختم في اليمين وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم والوجه في ذلك أنه من اللباس والزينة فيؤثر به اليمنى على اليسرى كما تؤثر الرجل اليمنى على اليسرى بما جاء به من السنة في الانتعال بأن ينتعل اليمنى أولا ويخلع اليسرى قبلها لتكون اليمنى أكثر استعمالا للباس منها وقد يكون فيه اسم الله تعالى فلا يحتاج إذا تختم في يمينه أن يخلعه عند الاستنجاء لأن ذلك يستحب فيمن تختم في شماله.

(واختلف في لباس الخز فأجيز وكره وكذلك العلم في الثوب من الحرير وإلا الخط الرقيق):

لا خصوصية لقول الشيخ الخز بل الخلاف فيه وفي غيره ويتحصل في ذلك أربعة أقوال: فقيل إن ذلك مكروه وقيل إنه جائز وكلاهما ذكره الشيخ وقيل يمنع لباس الخز وغيره وظاهر قائله التحريم وقيل يجوز الخز ولا يجوز غيره اتباعا للعمل، قال ابن رشد وهو أضعف الأقوال إذ لا فرق في القياس بين الخز وغيره من المحررات التي قيامها حرير ولحمتها قطن أو كتان لأن الذي من أجله استجاز لبس الخز من السلف وذلك أنه ليس بمحرم محض في موجود المحررات وشبهها فلذلك استجازوا لباسها لا من أجل أنه خز إذ لم يأت أثر بالترخيص لهم في ثياب الخز فيختلف في قياس غيره عليه قال: والقول بالكراهة هو أولى الأقوال بالصواب لأن ما اختلف العلماء فيه لتكافؤ تحريمه وتحليله فهو من الشبهات التي قام فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتقاها فقد استبرأ لدينه وعرضه فعلى هذا القول يأتي ما يحكى عن مطرف أنه رأى على مالك ساج أبريسم كساه إياه هارون الرشيد إذ لم يكن يلبس ما يعتقد أنه يأثم بلبسه.

واعلم أن الخز ما سداه حرير ولحمته وبر الإبل قاله ابن رشد، وأما العلم فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: فقيل إنه جائز وإن عظم قاله ابن جبير وقيل إنه يجوز قدر الإصبع فقط رواه أبو مصعب وقيل إنه منهي عنه إذا كان قدر الإصبع رواه ابن القاسم ومراده به الكراهة والتحريم فيما زاد.

(ولا يلبس النساء من الرقيق ما يصفهن إذا خرجن):

قال عبدالوهاب هذا لقوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) [النور: 31]

وإذا لبسن ما لا يستر أبدانهن فقد أبدينها ولقوله تعالى (غير متبرجات بزينة) [النور: 60]

وهذا في التبرج فوجب منعه وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ورب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة ورب كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن

(2/456)

________________________________________

الجنة ولا يجدن ريحها".

(ولا يجر الرجل إزاره بطرا ولا ثوبه من الخيلاء وليكن إلى الكعبين فهو أنظف لثوبه وأتقى لربه).

هذا لما في البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" وفي مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بينما رجل يتبختر في برديه وأعجبته نفسه فخسف الله به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" وفي النسائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيها بينه وبين الكعبين وما أسفل من ذلك ففي النار لا ينظر الله عز وجل إلى من يجر ثوبه بطرا".

وقول الشيخ فهو أنظف لثوبه وأتقى لربه معلوم بالمشاهدة وذلك حد ما قيل في قوله تعالى (وثيابك فطهر) [المدثر: 4]

أي فقصر.

(وينهى عن اشتمال الصماء وهي على غير ثوب يرفع ذلك من جهة واحدة ويسدل الأخرى وذلك إذا لم يكن تحت اشتمالك ثوب واختلف فيه على ثوب):

ما ذكره الشيخ من الاختلاف إذا كان الاشتمال على ثوب هو لمالك قال ابن رشد: فوجه المنع من ذلك اتباع ظاهر الحديث فحمله على عمومه ولئلا يكون ذريعة للجاهل الذي لا يعلم العلة في ذلك فيفعله ولا إزار عليه إذا رأى العالم يفعله وعليه إزار.

(ويؤمر بستر العورة وإزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه والفخذ عورة وليس كالعورة نفسها):

قد قدمنا أن ستر العورة عن أعين الناس لا خلاف في وجوبه وفي الخلوة قولان المشهور أنه مستحب وقيل إنه واجب حكاه ابن رشد وعلى الأول فقيل إنه واجب في الصلاة شرط وقيل ليس بشرط وقيل سنة وأن في عورة الرجل ستة أقوال: فقيل سوأتاه خاصة قاله أصبغ وقيل سوأتاه وفخذاه قاله ابن الجلاب وقيل من السرة حتى الركبة وقيل السوأتان مثقلة وإلى ستره وركبته مخففة قاله الباجي وظاهره خروج السرة والركبة وقيل الفخذ عورة وليس كالعورة نفسها كما قال الشيخ على أنه يمكن أن يرجع إلى ما

(2/457)

________________________________________

قال ابن الحلاب: وقول الشيخ وإزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه يريد في حق الرجال وأما النساء فقد جاء في الترمذي أنهن يرخين ذراعا لا يزدن على ذلك شيء قال حديث حسن صحيح لو ذكر الشيخ قوله هذا عقب المسألة السابقة لكان أنسب.

(ولا يدخل الرجل الحمام إلا بمئزر):

قال في المدونة: في كتاب الدور والأرضين لا بأس بكراء الحمام قال المغربي: فيؤخذ منه جواز دخول الحمام وهو على ثلاثة أوجه الأول: دخوله مع زوجته أو جاريته أو وحده فيباح الثاني: دخوله مع قوم لا يستترون فممنوع، الثالث: مع قوم مستورين فمكروه إذ لا يأمن أن ينكشف بعضهم فيقع بصره على ما لا يحل وقيل في هذا الوجه هو جائز فعلى القول بالجواز يصح بعشرة شروط ذكرها ابن شاس.

قلت: قال رحمه الله تعالى قال القاضي أبو بكر: فإن استتر الداخلون فيصح دخوله بعشرة شروط: الأول: أن لا يدخلن إلا بنية التداوي أو بنية الطهر، الثاني: أن يقصد أوقات الخلوة أو قلة الناس، الثالث: أن يستر عورته بإزار صفيق، الرابع: أن يطرح بصره إلى الأرض أو يستقبل الحائط لئلا يقع بصره على محظور، الخامس: أن يغير ما يرى من منكر برفق بقول استر سترك الله، السادس: أن لا يدلكه أحد ولا يمكن من عورته من سرته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته. وقد اختلف في الفخذين هل هما عورة أم لا؟ السابع: أن يدخل بأجرة معلومة بشرط أو عادة، الثامن: أن يصب من الماء قدر الحاجة، التاسع: إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم في كرائه، العاشر: أن يتذكر به عذاب جهنم فإن لم يمكنه ذلك فليدخل وليجتهد في غض البصر، وإن غض وقت الصلاة فيه استتر وصلى على موضع متطهر.

(ولا تدخله المرأة إلا من علة):

قال عبد الوهاب: دخول النساء في هذا الوقت يمنعن منه إلا لعلة أو حاجة إلى لغسل من حيض أو نفاس أو شدة برد لأن جميع بدنها عورة لا يجوز لها أن تظهره لرجل ولا لامرأة.

وقيل إنما منع ذلك لما لم تكن لهن حمامات دون التحريم منفردة فأما اليوم مع انفرادهم لا يمنعن ثم إذا دخلن فليسترن جميع الجسد، قال ابن رشد: حدهن في الدخول الكراهة دون التحريم قال: ولا يلزمها من الستر مع النساء إلا ما يلزم الرجل ستره ورأى أن النساء مع النساء كالرجال مع الرجال واشتهر ذلك بما أجمع عليه العلماء من أن النساء يغسلن النساء كما يغسل الرجال الرجال قال: وما ذكره عبد الوهاب من أن الحمام محرم عليهن لا أعلمه نصا على النبي صلى الله عليه وسلم.

(2/458)

________________________________________

وقد ذكر عنه عليه السلام في كتاب الجامع من المعونة: الحمام بيت لا ستر فيه لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدخله إلا بمئزر ولا امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدخله إلا من علة فإن صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم فمعناه على ما جرى عليه عادتهن من دخولهن أياه غير مستترات قال: وأما ما قاله من أن بدن المرأة عورة لا يحل أن يراه رجل ولا امرأة فليس بصحيح إنما هي عور على الرجل فقط، وذكر في الرد عليه ما تقدم من الإجماع وغيره.

وسلك أبو بكر طريق عبد الوهاب فقال: لا سبيل إلى دخولهن لأن جميع المرأة عورة للرجال والنساء ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم "وأفضل صلاة المرأة في بيتها لما فيه من الستر" ولم يؤذن لها في الحج أن تكشف إلا وجهها ويديها فتدخله مع زوجها إذا احتاجت إليه.

قلت: ولا شك أن دخوله اليوم حرام عندنا للنساء لأنهن لا يستترن وكذلك الرجال في الأعم الأغلب إلا المشهور في الدين والفضل وأما غيره فوجود المئزر إنما هو كالعدم قال بعض شيوخنا وذكر شيخنا ابن عبدالسلام في درسه أن من له النظر الشرعي كان أمر الحمامين باتخاذ أزرا للنساء كما هو اليوم، للرجال فصار النساء يتضاربن بالأزر على وجه اللعب فصارت المصلحة زيادة في المفسدة.

وفي أحكام السوق ليحيى بن عمر كتب بعض قضاة عبدالله بن طالب: أن أهل المرسى قد شكوا من حمام عندهم للمنكر الذي فيه فكتب إليه أن يحضر المتقبل للحمام فأمر أن لا يدخلنه إلا بمئزر فإن تعدى النهي فأغلق الحمام وصير المتقبل للسجن قيل ليحيى أيعجبك قال نعم وما ذهب إليه يجري على الأدب بالمال وقد ذكرنا أن ابن سهل حكى في ذلك أربعة أقوال فانظرها فيما سبق عند قول الشيخ ومن مثل بعبده مثلة بينة.

(ولا يتلاصق رجلان ولا امرأتان في لحاف واحد):

يعني سواء كانا قريبين أو أجنبيين وكذلك يفرق بين الصبيان في المضاجع عند بلوغ سنهم سبع سنين عند ابن القاسم وعشرا عند ابن وهب والأصل فيما ذكر الشيخ ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي سعيد الخدري أنه قال "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد" وظاهر الحديث جواز اضطجاع الرجلين

(2/459)

________________________________________

أو المرأتين في الكساء الواحد إذا تعاكساه بحيث يكون وسط الكساء حائلا بينهما وبه أفتى بعض من لقيناه من القرويين رحمه الله تعالى، وغفر لنا وله.

(ولا تخرج امرأة إلا مستترة فيما لابد لها منه من شهود موت أبويها أو قرابتها أو ذي نحو ذلك مما يباح لها ولا تحضر من ذلك ما فيه نوح نائحة أو لهو من مزمار أو عود وشبهة من الملاهي الملهية إلا الدف في النكاح):

ما ذكر الشيخ هو المشهور وذكر ابن حبيب خروجهن في جنازة قريب قال وينبغي للإمام أن يمنعهن من الخروج وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطرد امرأة وقال للنساء في جنازة "أتحملنه" قلن لا فقال "أفتدخلنه في قبره" قلن لا فقال "افتحثين عليه التراب" قلن لا قال "فارجعن مأزورات غير مأجورات" وكان مسروق يحثو في وجهوههن التراب ويطردهن فإن رجعن وإلا رجع وكان يفعل الحسن كذلك ويقول لا ندع حقا لباطل.

وقال النخعي: كانوا إذا خرجوا بالجنازة أغلقوا الأبواب على النساء وقال ابن عمر: ليس للنساء في الجنازة نصيب وحيث تخرج فإنها لا تخرج إلا بشروط خمسة الأول: أن يكون خروجها طرفي النهار وما لم تضطر الى الخروج في غيرهما اضطرارا فادحا. الثاني: أن تلبس أدنى ثيابها، الثالث: أن تمشي في حافتي الطريق دون وسطه حتى تبعد عن الرجال، الرابع: أن لا يكون عليها ريح طيبة، الخامس: أن لا يظهر عليها ما يحرم على الرجال النظر إليه غير الوجه والكفين ما لم يكن النظر إلى وجهها يؤدي إلى الفتنة فيجب عليها ستره.

(وقد اختلف في الكبر):

قال ابن رشد: اتفق أهل العلم على إجازة الدف وهو الغربال في العرس وفي الكبر والمزهر ثلاثة أقوال: الجواز قاله ابن حبيب والمنع قاله أصبغ في سماعه وهو الآتي عمى ما في سماع سحنون ابن القاسم أن بيع الكبر فسخ بيعه وأدب فاعله والمزهر أحرى بذلك، وجواز الكبر دون المزهر وهو قول ابن القاسم هنا في سماع عيسى من كتاب الوصايا وعليه سماع عيسى القطع بقيمته في الكبر الصحيح ولابن كنانة في المدونة إجازة البوق في العرس فقيل معناه في البوقات والمزامر التي لا تلهي كل اللهو.

واختلف فيما أجيز من ذلك فالمشهور ما يستوي فعله وتركه في نفي الحرج في الفعل ونفى الثواب في الترك وقيل من الجائز الذي تركه خير من فعله لما في تركه من الثواب لأن فعله حرج وعقاب وهو قول مالك في المدونة أنه كره الدفوف والمعازف وغيرهما. قلت: وما نسبه للمدونة صحيح هو نص في الجعل والإجازة منها، قال

(2/460)

________________________________________

الفاكهاني: ولا أدري ما المراد بالكبر والذي يغلب على ظني أنه الطبل والله أعلم. فأما المزهر فهو المغشي من الجهتين قلت: الكبر في عرفنا هو الذي يقال له الشقف وهو في الحقيقة الطبل فهو كمال قال الشيخ.

(ولا يخلو رجل بامرأة ليست منه بمحرم ولا بأس أن يراها لعذر من شهادة عليه أو نحو ذلك وإذا خطبه وأما المتجالة فله أن يرى وجهها على كل حال):

لا خلاف أنه لا يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة الأجنبية من حيث الجملة ولذلك اختصر البرادعي من مسألة صبيان الأعراب تصيبهم السنة سؤالا وجوابا لما فيه من الخلوة بالأجنبية لكثرة ملازمته لكونه مربيها فغالب الأمر أنه لا بد أن يخلو بها وفي إجارة المدونة أكره للعازب مؤاجرة غير ذي محرم منه حرة كانت أو أمة وللخمي فيها تفصيل: إن كان عازبا لم يجز وإن كان مأمونا وكان له أهل وهو مأمون جاز وإلا لم يجز وإن كانت متجالة لا إرب فيها للرجال جاز، وكذلك الشابة مع الشيخ.

وقال شيخنا أبو مهدي أيده الله تعالى لا نص في خلوة الرجل مع خادم زوجه والظاهر أنه بحسب الأشخاص فإذا وثق بنفسه جاز ولا ينتقض بالحرة لأن النفس مجبولة على الميل إليها وإن كانت كبيرة وتقدم الخلاف في النكاح في عبد المرأة الوغد هل ينظر إلى شعرها أم لا؟ على قولين والمشهور لابن عبد الحكم قائلا: ولا يخلو معها في بيت، وكذلك تقدم عن قرب هل يستغفل الخاطب من يخطبها أم لا؟ على قولين بالكراهة والجواز لمالك وابن وهب.

(وينهي النساء عن وصل الشعر وعن الوشم):

إنما خص الشيخ النساء بالذكر لأنهن يرغبن في ذلك أكثر من الرجال وإلا فالحكم سواء وظاهر كلام الفاكهاني أنه لم يقف على نص في الرجال لقوله الظاهر أن النساء والرجال في النهي سواء ونص البلنسي على أنه لا يجوز للرجال أن يفروا رءوسهم، وقبله الادلي ولم يذكر غيره وذكر المغربي في كتاب الطهارة الضفر في حق الرجال مباح ولم يحك غيره والأصل فيما ذكر الشيخ قوله صلى الله عليه وسلم "لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة".

قال عبدالوهاب: ومعنى ذلك أن فيه ضربا من الغرور وتغيير الخلق وذلك غيرجائز، وقا غيره من المتأخرين من أصحابنا: أن الوشم في جميع الجسد مكروه، قال الفاكهاني: فإن أراد به كراهة التحريم فهو المنطبق على معنى الحديث إذ من فعل

(2/461)

________________________________________

المكروه كراهة التنزيه لا يستحق اللعنة بإجماع وإن أراد الكراهة على بابها أشكل كلامه لما قدمناه، وقال ابن رشد: لا يجوز للمرأة أن توصل شعرها ولا توشم وجهها ولا يديها ولا تحدد أسنانها، قلت: وأما ربط خيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعرفليس منهيا عنه لأنه ليس بوصل ولا مقصود للوصل إنما المراد به التجمل التحسن. قال عياض: في الإكمال.

قال المغربي: وأما ثقب الأذن للأخراص فقد نص بعض الشيوخ على جوازه ومنعه الغزالي وانظر هل يقوم الأول من قول المدونة ولا تلبس الحاد حليا ولا قرطا ولا خاتما أم لا؟ قال ابن رشد: ويجوز لها أن تخصب يديها ورجليها بالحناء واختلف في تطريف اصابع يديها بالحناء فأجيز ومنع.

(ومن لبس خفا أو نعلا بدأ بيمينه وإذا نزع بدأ بشماله):

قال الشيخ محي الدين النواوي في شرح مسلم في قول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله هذه قاعدة مستمرة في الشرع وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف كلبس الخف والسراويل ودخول المسجد والسواك وغسل أعضاء الوضوء، وتقبيل الحجر الأسود وغير ذلك مما يستجب التيامن فيه فأما ما كان مثل دخول الخلاء والخروج من المسجد والاستجمار والاستنجاء وخلع الثوب والسراويل وما أشبه ذلك فيستحب التياسر فيه وذلك لكرامة اليمنى وشرفها.

(ولا بأس بالانتعال قائما):

قال عبد الوهاب: ذلك كالانتعال جالسا لا فرق وقد روي من حديث إبراهيم بن طاهر عن ابن الزبير عن جابر ابن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينتعل الرجل قائما ويشبه ذلك في مثل النعل العربي لقلة تمكنه من لبسها مع القيام فإن تمكن فلا بأس، قال الفاكهاني: وروي عن علي رضي الله عنه، ولم أره أنا بل سمعته من غير رواية أنه نهى عن التعمم قاعدا وعن التسرول قائما والله أعلم بصحة ذلك.

(ويكره المشي في نعل واحدة):

لأن الشيطان يمشي في نعل واحدة كما جاء في الحديث قال عبد الوهاب وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمشي أحدكم في نعل واحدة ولينعلهما جميعا أو ليضعهما جميعا لأن ذلك ضرب من الهمزة والخروج عن

(2/462)

________________________________________

العادة" ولهذا قلنا نحن أن من أتلف إحدى نعلين أو خفين أو ما لا يستغني أحدهما عن الآخر أنه كالتالف للجميع، وكذلك إذا وجد بأحدهما عيبا.

وقد اختلف المذهب فيمن انقطع أقفال نعليه وهو يمشي هل يقف حتى يصلح الاخرى أم لا؟ فأجاز ذلك ابن القاسم ومنعه أصبغ والظاهر، قول ابن القاسم لأن الوقف ليس بمشي ولا يجوز على قوليهما جميعا أن يمشي في نعل واحدة وهو يصلح الأخرى، قلت ولا بأس بالمشي في النعل الواحدة للمقطوع الرجل الأخرى قاله كبار الشيوخ وهو واضح لعذره ولا يختلف فيه.

(وتكره التماثيل في الأسرة والقباب والجدران وفي الخاتم وليس الرقم في الثوب من ذلك غيره أحسن):

ما ذكر الشيخ نحوه قول صلاة المدونة تكره التماثيل التي في الأسرة والقباب والمنابر وليس كالثياب والبسط التي تمتهن، واعلم أن التماثيل المصورة على صورة الإنسان أو صفة شيء من الحيوان مما له ظل قائم على صفة ما يحيا يوم القيامة يحرم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أصحاب هذه الصورة يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم".

الثاني: مباح عند الأكثر مطلقا وهو كل تمثال لم يكن على صورة حيوان كصورة النخل والسفن والفواكه وما أشبه ذلك، وكره مجاهد تصوير الشجرة المثمرة قال عياض: ولم يقله غيره.

والثالث: مختلف فيه وذلك كالرسوم في الحيطان والرقم في الستور التي تنتشر والحصر التي تفرش والوسائد التي يرتفق بها ويتكأ عليها، وقد اختلف أهل العلم في ذلك على أربعة أقوال: التحريم مطلقا والإباحة مطلقا والإباحة فيما عدا المرسوم منها في الحيطان والجدران.

والرابع: إباحة ما عدا المرسوم منها في الستور التي تعلق ولا تمتهن بالبسط لها والجلوس عليها.

والرابع: إباحة ما عدا المرسوم منها في الستور التي تعلق ولا تمتهن بالبسط لها والجلوس عليها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في الطعام والشراب

(وإذا أكلت أو شربت فواجب عليك أن تقول باسم الله وتتناول بيمينك فإذا فرغت فلتقل الحمد لله):

(2/463)

________________________________________

يريد: إذا أردت الأكل والشرب كقوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) [النحل: 98]

عند الأكثر وكقوله صلى الله عليه وسلم "من أتى الجمعة فليغتسل" والأصل فيما ذكر الشيخ ما خرجه مسلم في صحيحه عن عمر بن أبي سلمة قال كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك".

وفي الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإذا أكل أحدكم طعاما فليقل باسم الله في أوله والحمد لله في آخره" قال هذا الحديث حسن صحيح، وفي مسلم عن أبي عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله" وفي أيضا عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها".

قال الفاكهاني: وقول الشيخ فواجب عليك أن تقول باسم الله أي وجوب السنن التي لا إثم على من تركها قال ابن الحاجب، ويستحب للمرء أن يسمي الله عن طعامه وشرابه، قلت: وأراد بقوله يستحب السنة لأنها عبارة العراقيين الذين يطلقون على السنة الاستحباب كما تقدم له في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء.

قال الفاكهاني: قال بعض من شرح الرسالة: وليس له أن يقول الرحمن الرحيم فإن فعل فلا شيء عليه، قلت: واختار شيخنا أبو مهدي رحمه الله تعالى راجحية الرحمن الرحيم ويكفي باسم الله فقط وبه أقول.

(وحسن أن تلعق يدك قبل مسحها):

خرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم طعاما فليعلق أصابعه فإنه لا يدري في أيتهم البركة".

(ومن آداب الاكل أن تجعل بطنك ثلثا للطعام وثلثا للماء وثلثا للنفس):

هذا لما في الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من البطن حسب ابن

(2/464)

________________________________________

آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان ولا محالة فثلثا لطعامه، وثلثا لشرابه وثلثا لنفسه"، وقال حديث حسن صحيح، وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه: صحبت أكثر رجال الله في جبل لبنان فكانوا يوصوني إذا رجعت إلى أبناء الدنيا فعظهم بأربع قل لهم: من يكثر الأكل لا يجد لذة العبادة ومن ينام كثيرا لم ير في عمره بركة ومن طلب رضى الناس فلا ينظر رضى الرب، ومن يكثر الكلام بالفضول والغيبة فلا يخرج من الدنيا على دين الإسلام.

قال سهل رحمه الله: الخير كله في هذه الخصال الأربعة وبهذا صارة الأبدال أبدالا أخماص البطون والصمت والاعتزال عن الخلق وسهو الليل، قال بعض العراقيين: الجوع رأس مالنا ذكره الغزالي في منهاج العابدين ولا شك أن الشبع من الجوع فقط وقد سأل سحنون وابن سعيد كل شيء يعمل على الشبع إلا ابن آدم فإذا شبع رقد.

(وإذا أكلت مع غيرك أكلت مما يليك ولا تأخذ لقمة حتى تفرغ الأخرى):

قال ابن رشد: هذا إذا كان الطعام صنفا واحدا كالثريد واللحم وشبهه وأما إذا كان أصنافا مختلفة كأنواع الفاكهة في طبق مما يختلف أغراض الآكلين فلا بأس للرجل أن يتناول ما بين يدي غيره، وذلك منصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل الرجل مع أهله وبنيه له أن يتناول مما بين أيديهم إذ لا يلزمه أن يتأدب معهم ويلزمهم أن يتأدبوا معه في الأكل فإن لم يفعلوا أمرهم بذلك كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة، ومن أدب الأكل إذا أكل الرجل مع القوم أن يصغراللقمة ويترسل في الأكل وإن خالف ذلك عادته فيه.

(ولا تتنفس في الإناء عند شربك ولتبن القدح عن فيك ثم تعاوده إن شئت):

هذا لما في النسائي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا شرب أحدكم فليتنفس ثلاث مرات فإنه أهنا وأهدى" وفي مسلم عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النفخ في الشراب فقال له رجل: يا رسول الله لا أروى من نفس واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فبن القدح وتنفس".

(ولا تعب الماء عبا ولتمصه مصا وتلوك طعامك وتنعمه مضغا قبل بلعه):

هو بفتح العين لأمره صلى الله عليه وسلم بالمص وقول الشيخ وتلوك طعامك معلوم وجهة العادة لكونه أنفع في الأدب.

(2/465)

________________________________________

(وتنظف فاك بعد طعامك):

لأن الفم محل الأذى فكان المطلوب تنظيفه على حسب الإمكان.

(وإن غسلت يدك من الغمر واللبن فحسن):

الغمر بفتح الغين ريح اللحم والسمن قاله الجوهري ولم يحك الفاكهاني غيره وهو خلاف قول عياض الغمر بفتح الغين المعجمة وفتح الميم هو الودك وزاد غيره وبسكونها الماء الكثير وأما بضم الغين وسكون الميم فهو الرجل الجاهل وبكسر الغين هو الحقد وظاهر كلام الشيخ أن الغسل مطلوب سواء أراد الصلاة أم لا، وهو كذلك صرح بذلك غير واحد كالمغربي وابن عبدالسلام ولذلك نسب ابن الحاجب هذه المسألة المدونة فقال: وفيها أحب إلى أن يتمضمض من اللبن ويغسل الغمر إذا أراد الصلاة فإن مفهومها أنه إذا لم يرد الصلاة أنه لا يغسل وليس كذلك، نعم يتأكد الغسل إذا أراد الصلاة.

وتردد المتأخرون من التونسييين هل قول المدونة: ويغسل الغمر معطوف على قوله يتمضمض فيكون الاستحباب على حد السواء أو هو مستأنف فيكون الأمر فيه أكد من الذي قبله، والأصل فيما ذكر الشيخ ما خرجه أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم قال: "من بات وفي يده غمر لمن يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه".

(وتخلل ما تعلق بأسنانك من الطعام):

لأن ذلك من معنى التنظيف.

(ونهى الرسول عليه السلام عن الأكل والشرب بالشمال):

هذا ما تقدم أن الشيطان يأكل بشماله.

(وتناول إذا شربت من علي يمينك):

الأصل في هذا ما روى مالك عن ابن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر فأعطاه الأعرابي وقال "الأيمن فالأيمن" وفي حديث آخر عن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام "أتأذن لي يا غلام" فقال لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصبي منك أحدا فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أعطاه في يده.

قال الفاكهاني: هذه قاعدة الشرع أن القرب منه لا يؤثر به ولم أر ما خرج عن

(2/466)

________________________________________

هذه القاعدة إلا مسألة واحدة وهي إذن عائشة رضي الله عنها لعمر رضي الله عنه في دفنه عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانت أعدته لنفسها فانظر لماذا خرجت عن القاعدة وما تأولت عائشة عن ذلك.

(ونهى عن النفخ في الطعام والشراب والكتاب):

هذا لما تقدم فابن القدح عن فيك قال الفاكهاني: وأما الطعام فهو بذلك أولى والله أعلم لأن الماء يدفع عن نفسه بخلاف الطعام ولأن فيه الاستقذار وكراهة الغير كما في الماء وفي البزار أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الطعام والشراب وأما الكتاب فإجلاله له خيفة أن يخرج ريق فيحماء والله أعلم.

(وعن الشراب في آنية الذهب والفضة):

أي ونهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة وهو كذلك في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" قال الفاكهاني رويناه يجرجر بالكسر ونار بالضم ومعنى يجرجر بصوت فنار فاعليجرجر فاعرف هذا فإنالبحث يقع فيه كثيرا، واعلم أن أهل المذهب ألحقوا سائر الاستعمالات بالأكل والشرب في التحريم وذهب بعض الظاهرية إلى قصور المنع على الشرب خاصة فإن قلت: قد قدمتم غير ما مرة أن ابن الحاجب إذا قال باتفاق ويكون الاتفاق خارج المذهب بخلاف الإجماع وهو قد قال في هذا المحل من الذهب والفضة حرام استعمالها على الأصح على الرجل والمرأة اتفاقا، فيقتضي كلامه إن ثم من يقول بجواز الاستعمال فهل ثم من قال به؟

قلت: نعم قال عياض: في الإكمال ذهب بعض السلف إلى جواز الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة واستعمالها والظن به لم تبلغه السنة، واختلف في الاقتناء فقال ابن الجلاب وهو مذهب الأكثر، كذلك خلافا للباجي وألحق الأبهري بالأواني ما يصنع من الياقوت واللؤلؤ والمرجان، وقال القاضي أبو الوليد بعدم الإلحاق.

واختلف في المغشي من ذهب وأصله من غيره أو العكس على قولين واختار ابن عبدالسلام الجواز في الأول دون الثاني وكذلك اختلف في المضيب وذي الحلقة على ثلاثة أقوال ثالثها يكره.

(ولا بأس بالشراب قائما):

الأصل في ذلك ما رواه ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما، وروى

(2/467)

________________________________________

جابر بن مطعم: قال رأيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يشرب قائما قال الفاكهاني: وفي الصحيح خلاف هذا ورى مسلم عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما قال قتادة: فالأكل أخبث وأخبث وفيه أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يشرب أحدكم قائما فمن نسي فليستقئ" قال عبد الحق في إسناده عمر بن حمزة العمري وهو ضعيف قال الشافعي: وإنما كره الشرب قائما لداء يأخذ في البطن قال بعض متأخري أصحابنا: ولم ير مالك به بأسا إذ لم يصح عنده النهي فبوب في موطئه باب شرب الرجل قائما وأدخل في باب عن عمر أنهم كانوا يشربون قياما.

(ولا ينبغي لمن أكره الكراث أو الثوم والبصل نيئا أن يدخل المسجد):

قال عياض: نيئا ممدود مهموز والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن أكل ثوما أو بصلا نيئا فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته" وأتى أتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا فسأل فأخبر بما فيها من البقول فقال "قربوها" إلى بعض أصحابه فلما رآه كره أكلها قال "كل فإني أناجي من لا تناجي" وألحق بذلك آكل الفجل يتجشأ به أو غير ذلك مما يستقبح ريحه، ويتأذى به.

وكذلك ذكر أبو عبد الله بن المرابط في شرحه أن حكم من به داء البخر في فيه أو جرح له رائحة حكمه حكم البصل والثوم ومن هذا المعنى خروج الريح في المسجد ونص عليه بعض الشيوخ وبه أفتى بعض من لقيناه من القرويين قائلا: خلافا للبخاري رحمه الله وأما من يغتاب الناس في المسجد فالأدب فيه كاف وبه أفتى شيخنا أبو مهدي رحمه الله وتقدم ما نقله ابن عبد البر في الاستذكار عن أحمد بن عبد الملك الإشبيلي أنه يخرج من المسجد عملا بهذا الحديث وإنما ذكر المسجد لأنه مظنة الاجتماع وإلا فمجامع الصلاة في غير المسجد كمصلى العيدين والجنائز ونحوهما كالمسجد.

قال عياض: ذكر بعض فقهائنا أن الحكم كذلك في مجالس العلم والولائم وحلق الذكر وظاهر كلام الشيخ أن الحكم عاما في سائر المساجد وهو كذلك عند جمهور العلماء وذهب بعضهم إلى أن هذا خاص بمسجد المدينة لأجل ملائكة الوحي وتأذيهم بذلك ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم "فلا يقرب" وحجة الجماعة قوله صلى الله عليه وسلم "فلا يقرب

(2/468)

________________________________________

المساجد" ذكر الروايتين مسلم.

وظاهر كلامه أن دخوله مكروه لا محرم لقوله: ولا ينبغي وهو كذلك في سماع ابن القاسم قال: يكره ريح الثوم قيل: البصل والكراث مثله قال ما سمعت فيه شيء وما أحب أن يؤذي الناس، وسمع عيسى إن آذى فمثله قال ابن رشد: عليه يجب حمل قول مالك لوجود علة النهي وقوله لا أحب أن يؤذي الناي تجوز لأن ترك إذايتهم واجب لا مستحب.

(ويكره أن يأكل مكئا):

هذا لما في البخاري عن أبي حذيفة قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده: "أما أنا فلا آكل متكئا" قال عبد الوهاب: والمنع في ذلك للعجب والخيلاء ولأنه من فعل الأعاجم والجبابرة وقال الباجي: قال مالك: ومن السنة الآكل جالسا على الأرض على هيئة يطمئن عليها ولا يأكل مضطجعا على بطنه ولا متكئا على ظهره لما فيه من البعد عن التواضع والتشبه بالأعاجم ووقت الأكل وقت تواضع وشكر الله تعالى على نعمه.

قال عياض: والاتكاء هو التمكن من الأرض والتقعد في الجلوس كالتربع من تمكن الجلسات التي يعتمد فيها ما تحته فإن الجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل ويستكثر منه والنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان جلوسه جلوس المستوفز وقال "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد" وليس معنى الحديث في الاتكاء الميل على الشق عند المحققين واعترضه الفاكهاني بل الذي يتحقق أنه الميل على لاشق لأنه يسبق إلى الذهن من لفظ الاتكاء وأنه غير الجلوس، وكذلك قال الداودي في الحديث الصحيح وكان متكئا فجلس فيلزم على ما قال عياض: أن يكون معنى الكلام كان جالسا فجلس وهذا محال وبالله تعالى التوفيق.

(ويكره الأكل من رأس الثريد):

هذا لما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أكل أحدكم طعاما فلا يأكل من أعلى الصحفة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها" بيان هذا أن تخصيص الشيخ الكراهة بهذا الثريد لا مفهوم له.

(ونهى عن القران في التمر وقيل إن ذلك مع الأصحاب الشركاء فيه ولا بأس بذلك

(2/469)

________________________________________

مع أهلك أو مع قوم تكون أنت أطعمتهم):

ذكر مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرن الرجل بين التمرتين حتى يستأذن أصحابه يقال قرن يقرن بالكسر والضم، ووجه عبد الوهاب القول الثاني أن الشركة تستدعي النساوي فإذا أراد أحد الشركاء القران فينبغي أن يعلم صاحبه ليساويه إن أراد لا يستبد دونه بالزيادة، واعترضه الفاكهاني بأن قوله فينبغي ظاهر في عدم الوجوب وظاهر الحديث الوجوب لقوله ابن عمر نهى.

(ولا بأس في التمر وشبهه أن تجول يدك في الإناء لتأكل ما تريد منه):

هذا واضح جلي ولا أعلم فيه خلافا.

(وليس غسل اليد قبل الطعام من السنة إلا أن يكون بها أذى):

ما ذكر الشيخ أنه إذا كانت يده طاهرة ليس من السنة غسلها هو قول ابن القاسم في العتيبة قائلا: لأنه من زي الأعاجم، قال المغربي وقال ابن وهب: يغسلها وكان نحا إلى قول ابن حبيب أن يد الجنب محمولة على النجاسة قلت: ما ذكر عن ابن وهب لا أعرفه وقوله صلى الله عليه وسلم "المؤمن لا ينجس" يرد ما ذكر والاستثناء من قول الشيخ إلا أن يكون بها أذى الأقرب فيه أنه متصل والمعنى أن الأمر بالغسل جاء بالسنة والمراد به الوجوب لأن حكمه السنة والله أعلم.

وظاهر كلام الشيخ أن إذا كان بها أذى أنه يغسل ولو كان الطعام باردا جامدا وهو كذلك قاله أبو عمران الجورائي كيلا يتهاون بالطعام وإليه كان يذهب بعض من لقيناه من القرويين مصرحا بوجوب الغسل وقال أبو محمد صالح رحمه الله تعالى: له أن يأكل من غير غسل وهو بعيد.

(وليغسل يده وفاه بعد الطعام من الغمر وليمضمض فاه من اللبن):

ما ذكر قد تقدم له مثله فلا معنى لاعادته.

(ويكره غسل اليد بالطعام أو بشيء من القطاني وكذلك بالنخالة وقد اختلف في ذلك):

قال الفاكهاني رحمه الله: القول بالجواز في الطعام نقله ابن يونس عن مالك وعلل ذلك بأن الصحابة كانوا يتمندلون بأقدامهم وكانوا يأكلون الطعام الدسم.

مثله نقل ابن شاس عن ابن وهب في المختصر قال: سمعت مالكا يقول في الجلبان والقول وما أشبهه من الطعام لا بأس أن يتوضأ منه ويتدلك به في الحمام، وسئل

(2/470)

________________________________________

مالك عن الدقيق يغسل به اليدين، قال غيره أعجب إلي ولو فعله لم ار به بأسا قد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمندل ببطن رجله، قلت القول بالكراهة هو مقتضى الروايات قال ابن رشد: الغسل بالعسل واللبن والنخالة وامتشاط المرأة بالنضوخ يعمل من التمر والزبيب الروايات كراهته لحرمته وسمع أشهب: لا يعجبني غسل الرأس باليض وغسل اليدين بالأرز وهو أخف كالأشنان ابن رشد الأرز بكسر الراء إن لم يكن طعاما فلا وجه لكراهتهم الغسل به وإن كان طعاما فمكروه وروايته بتحريك الراء خطأ ولا وجه لتخفيف الغسل به لأنه من رفيع الطعام ومرض بعض شيوخنا قوله هذا بأنه يلزم في الغسل وهو حمل سماع عيسى بن القاسم لا تعجبني الكراهة وإذا ثبت في الطعام القول بالجواز فالنخالة أولى من أن يختلف فيها كمال قال الشيخ.

قال الفاكهاني: ورأيت لبعض شراح الرسالة أن قول الشيخ وقد اختلف في ذلك أي في النخالة وهو غلط ظاهر أعني تخصيصه الخلاف بالنخالة بل الخلاف في كل ما تقدم وقد قال مالك في الجلبان وما أشبهه: لا بأس أن يتوضأ منه ويتدلك به في الحمام فهذا نص في الإباحة والجواز وأما الكراهة فقد نقلها الشيخ أبو محمد وغيره، قلت: واختار بعض من لقيناه من القرويين زمان الرخاء والشدة فالكراهة في زمان الرخاء لعدم استقصاء الطعام منها، والجواز في زمان الغلاء لاستقصائه منها وكأنه أراد به أن يجمع بين القولين وليس ببعيد والاحتياط أولى.

(ولتجب إذا دعيت إلى وليمة العرس إن لم يكن هناك لهو مشهور ولا منكر بين وأنت في الأكل بالخيار وقد أرخص مالك في التخلف لكثرة زحام الناس فيها):

اختلف هل الوليمة مستحبة أم لا؟ فقل: إنها مستحبة وجعله غير واحد المذهب كابن رشد والمازري، وقال ابن سهل الصواب: القضاء بها على الزوج لقوله صلى الله عليه وسلم "أولم ولو بشاة" مع العمل به عند الخاصة والعامة.

واختلف في وقتها فقيل: قبل البناء رواه ابن المواز فلما ذكر عياض الرواية التي في المدونة قال: والرواية الأخرى جوازها بعد البناء وحكى ابن حبيب استحبابها عند العقد وعند البناء واستحبها بعض شيوخنا قبل البناء قلت: قال بعض شيوخنا وأشار بقوله الرواية الأخرى إلى ما ذكره الباجي من رواية أشهب لا بأس أن يولم بعد البناء قال ونظرت العتبية فلم أجدها فيها.

وظاهر كلام الشيخ أن الإجابة واجبة وهو كذلك قاله مالك وقيل إنها لا تجب

(2/471)

________________________________________

نقله الباجي عن رواية ابن حبيب ليس ذلك فرضا ولا حتما وأحب أن يأتيه فجعلها ندبا وحكاه ابن الحاجب عن ابن القصار عن المذهب، وقال اللخمي: إن كان المدعو قريبا أو جارا أو صديقا أو من يحدث بتأخيره عداوة وتقاطعا وجبت إجابته وإن كان المدعو غير ذلك فإن لم يأت من الناس ما تقوم شهرة النكاح به ندبت وإلا أبيحت.

فإن قلت: والقول بأن الإباحة واجبة مع أن الدعوة مندوبة متنافيان قلت: ليس في ذلك تناف بل هو أصل المذهب ألا ترى أن الابتداء بالسلام سنه ورده فرض فإن قلت والقول بأنها مندوبة مشكل أيضا لقوله صلى الله عليه وسلم "ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" قلت: أجيب عن ذلك بوجهين أحدهما أن يقصد بعدم إجابته الترفع عنها والرغبة عن السنة، وهذا تأويل عبدالوهاب الثاني لبعض البغداديين من أصحابنا بأنه لا يمنع أن يطلق على من أخل بالمندوب تسمية عاص لأن المعصية مخالفة الأمر المأمور به والمندوب مأمور به، واعترضه الفاكهاني بوجهين.

أحدهما: أنه خلاف عرف حملة الشريعة وغير مصطلحهم واستعمالهم، الثاني: أن المندوب قد اختلف فيه أهل الأصول هل هو مأمور به أم لا؟ قال الباجي: لا نص لأصحابنا في وجوب أكل المجيب وفي المذهب ما يقتضي القولين روى محم: عليه أن يجيب وأن لم يأكل أو كان صائما وقال أصبغ: ليس ذلك بالوكيد وهو خفيف فحمل قول مالك على أن الأكل ليس بواجب وقول أصبغ على وجوبه قلت: واعترضه بعض شيوخنا بأن رواية محمد يجب وإن لم يأكل نص فقهي في عدم وجوب الأكل وعليه حملة اللخمي فكيف يقول: لا نص قلت: ويعترض عليه أيضا بقول الشيخ أبي محمد وأنت في الأكل بالخيار.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في التعالج وذكر الرقى والطيرة والنجوم والخصاء والوسم وذكر الكلاب والرفق بالمملوك

الأصل في جواز الاسترقاء قوله تعالى (وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) [الإسراء: 82]

وقول تعالى (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) [الأنعام: 92]

وقوله صلى الله عليه وسلم في أم جعفر بن أبي طالب "استرقوا لها فإنه لو سبق القدر شيء لسبقه العين" قال التلمساني: إنما أمر بالاسترقاء في هذا الحديث وشبهه ولم يأمر بالوضوء لأن الاغتسال إنما يؤمر به إذا كان العائن معروفا والأصل في التعوذ قوله تعالى (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) [النحل: 98]

، وقوله (وإن أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) [آل عمران: 136]

إلى غير ذلك من الآي.

والأصل في التعالج من المرض وشرب الدواء والفصد والكي قوله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) [النساء: 29]

وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء" وأنه عليه الصلاة والسلام أمر بالكي والحجامة، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجرته وهو أبو طيبة وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه، وكره بعض أهل العلم التداوي بذلك ورأوا أن تركه والاتكال على الله عز وجل أفضل منه واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب وهم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون

(2/486)

________________________________________

وعلى ربهم يتوكلون" ودليل الحجامة ما تقدم قال التادلي: وقول الشيخ الحجامة حسنة يريد في كل أيام السنة، خلافا لبعض ضعفة العقول في تركه يوم السبت والأربعاء، قال ابن رشد: ويصححه إيمان مالك بالقدر كان لا يكره الحجامة ولا شيء من الاشياء يوم السبت والاربعاء بل يتعمد ذلك فيهما.

(والكحل للتداوي للرجال جائز وهو من زينة النساء):

ظاهر كلام الشيخ أن الرجل لا يكتحل من غير ضرورة وهو كذلك على أحد القولين وروي عن مالك جوازه قال التادلي: واختلف في صفة الاكتحال فقيل اثنان لليمنى وواحد لليسرى وقيل: ثلاث في كل عين.

(ولا يتعالج بالخمر ولا بالنجاسة ولا بما فيه ميتة ولا بشيء مما حرم الله ولا بأس بالاكتواء):

أما التعالج بالخمر وسائر النجاسات في باطن الجسم فالاتفاق على تحريمه وأما ظاهر الجسد ففيه قولان وأفتى غير واحد من شيوخنا بحرمته ومن هذا المعنى غسل العثرة بالبول.

(ولا بأس بالرقي بكتاب الله وبالكلام الطيب):

قال في البيان: كره مالك الرقي بالحديد والملح وعقد الخيوط لأن الشفاء لا يكون إلا بكتاب الله وأسمائه وما يعرف من الذكر.

(ولا بأس بالمعاذة تعلق وفيها القرآن):

ظاهر كلام الشيخ أنه جائز للصحيح والمريض وهو كذلك بالنسبة إلى المريض باتفاق وإلى الصحيح باختلاف على قولين والذي أفتى به بعض من لقيناه من القرويين غير ما مرة أن ذلك جائز ولقائل أن يقول: سياق كلام الشيخ إنما يدل على جوازه في المريض، وما ذكرناه هو الذي أعرفه في المذهب وقال التادلي: في المسألة أقوال ثالثها يجوز للمريض دون الصحيح والحيوان ورابعها للآدمي دون الحيوان.

(وإذا وقع الوباء بأرض قوم فلا يقدم عليه ومن كان بها فلا يخرج فرار منه):

يحتمل قول الشيخ الكراهة والتحريم وفي ذلك قولان في المذهب.

(وقال عليه السلام في الشؤم إن كان ففي المسكن والمرأة والفرس):

قال بعض أهل العلم: الشؤم في الدور ما يصيب ساكنها من المصائب وكذلك

(2/487)

________________________________________

المرأة والفرس قوله صلى الله عليه وسلم "لا عدوى لا طيرة معارض له" ومنهم من ضعف حديث الشؤم بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت على أبي هريرة رضي الله عنه حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم قط، وإنما كان أهل الجاهلية يقولونه ثم قرأت (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) [الحديد: 22]

، ومنهم من صحح الحديث، وتأوله على أن الشؤم في الدار معناه سوء الجار، وفي المرأة اختلافها وفي الفرس كذلك.

(وكان عليه السلام يكره سيء الأسماء ويعجبه الفأل الحسن):

ولا يفعل ما يفعله بعض الجهلة من استخراجهم الفأل في المصحف وهو نوع من الاستقسام بالأزلام لأنه قد يخرج له مالا يريد فيؤدي ذلك إلى التشاؤم بالقرآن.

(والغسل للعين أن يغسل العائن وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم يصب على المعين):

قال المازري: هل يقضي على العائن بغسل هذه المواضع أم لا؟ فإن شهدت بينة بأنه عائن سجن في داره ويأكل من ماله إن كان له مال، وإن لم يكن له مال فمن بيت المال فإن خرج بعد ذلك وأصاب أحدا بعينه ضمن ذلك، وكذلك صاحب الكلب العقور والجمل الصائل والحائط المائل فهؤلاء يضمنون بعد التقدم إليهم وداخلة إزاره ما يلي فخذه الأيمن من الإزار قاله ابن حبيب وقيل داخلة إزاره أن يستنجي بعد إزالة النجاسة وقيل ما يلي البدن من الثوب حكاه ابن يونس عن مالك فإن لم يكن له إزار فإنه يغسل فرجه وما يلي بدنه من ذلك، والصفة التي ذكر أبو محمد هي التي قال ابن شهاب.

(ولا ينظر في النجوم إلا ما يستدل به على القبلة وأجزاء الليل ويترك ما سوى ذلك):

قال ابن رشد: وأما النظر في أمرها فيما يتوصل به إلى معرفة نقصان الشهر من كماله فذلك مكروه لأنه لا يجوز لأحد أن يعمل في صومه وفطره على ذلك، وقال مصرف وابن عبد الله بن الشخير أنه يعمل به من يعرفه في خاصة نفسه، وقاله الشافعي في أحد قوليه وأما من نظر فيها وقال لا يقدم المسافر ولا تمطر السماء وما أشبه ذلك من المغيبات قيل إن ذلك كفر يوجب القتل دون استتابة وقيل يستتاب فإن تاب وإلا

(2/488)

________________________________________

قتل، وروي ذلك عن أشهب وقيل يزجر عن ذلك، ويؤدب عليه وهو قول مالك في العتبية وليس قول الرجل الشمس أو القمر ينكسف غدا أو نقصان في الشهر، وتمامه من عمل النجوم وليس بكفر لأنه يعرف بالحساب لكنه يكره الاشتغال به لأنه مما لا يعني وفي الإخبار به قبل أن يكون ضرر في الدين على من سمعه من الجهال فيظن ذلك من علم الغيب فيزجر قائله ويؤدب عليه، وكره المازري النظر في الاصطرلابات والصحيفة لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد التعمق في علم النجوم.

(ولا يتخذ كلب في الدور في الحضر ولا في دور البادية إلا لزرع أو ماشية يصحبها في الصحراء ثم يروح معها أو لصيد يصطاده لعيشه لا للهو):

يريد إلا أن يصطر فيتخذه حتى يزول المانع ويذكر أن أبا محمد بن أبي زيد وقع له حائط من داره وكان يخاف على نفسه من الشيعة فاتخذ كلبا لذلك، قال الفاكهاني: وانظر على قول من أجاز الصيد للهو من غير كراهة هل يجوز له اتخاذ الكلب لذلك وهو الذي يظهر والله أعلم لكن لم أره منقولا واختلف الشافعية هل يجوز اتخاذ الكلب لحراسة الدواب والحوائط الكبار للضرورة في ذلك أم لا؟ على قولين.

(ولا بأس بخصاء الغنم لما فيه من صلاح لحومها ونهي عن خصاء الخيل):

الخصاء ممدود والفرق بين خصاء الغنم والخيل أن الغنم تراد للأكل فليس في خصائها ما يمنع ذلك بما فيه إصلاح له ومعونة عليه وليس كذلك الخيل لأنها إنما تراد للركوب والجهاد عليه وذلك ينقص قوتها ويضعفها ويقل نسلها وأما الفرس يكلب فيجوز أن يخصى قاله بعض الشيوخ وقبله الفاكهاني وأما الآدمي فلا خلاف في منع خصائه.

(ويكره الوسم في الوجه ولا بأس به في غير ذلك):

قال الفاكهاني: رويناه بالشين المعجمة ليس إلا.

قال الله تعالى (لا يكلف الله نفسها إلى وسعها) [البقرة: 268]، وقال (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) [البقرة: 286]، وقال صلى الله عليه وسلم "وأوصيكم بالضعيفين المرأة والمملوك".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة

باب في الرؤية والتثاؤب والعطاس واللعب بالنرد وغيره والسبق بالخيل والرمي وغير ذلك

قال أبو إسحاق الاسفرائيني الرؤيا هي عبارة عن أمثلة يدركه الرائي بجزء لم يصبه آفات النوم وتلك الأمثلة تدل على معان وقيل هي رؤية القلب.

(2/489)

________________________________________

(قال الرسول عليه السلام الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة ومن رأى منكم ما يكره في منامه فإذا استيقط فليتفل عن يساره ثلاثا وليقل: اللهم إني أعوذ بك من شر ما رأيت في منامي أن يضرني في ديني ودنياي):

اختلفت الروايات في هذا الحديث فروي سنة وأربعون جزءا من النبوة وروي خمسة وأربعون جزءا، وروي من سبعين وانظر المازري في كيفية الجمع بين ذلكز

(ومن تثاءب فليضع يده على فيه):

يقال: تثاءب بالمد مخفف وكذلك وقع في بعض نسخ مسلم وفي أكثرها تثاوب بالواو قال العلماء: وإنما أمر بكظم التثاؤب ورده ووضع اليد على الفم لئلا يبلغ الشيطان مراده من تشويه صورته ودخوله في فيه وضحكه منه.

(ومن عطس فليقل: الحمد لله وعلى من سمعه يحمد الله أن يقول له يرحمك الله ويرد العاطس يغفر الله لنا ولكم أو يقول يهديكم الله ويصلح بالكم):

قال ابن الفرس: ويزيد رب العالمين عند ابن مسعود وعلى كل حال عند ابن عمرو حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه عند غيرهما ويقال ذلك جهرا، واختلف في هذا القول فقيل: سنة وقيل مستحب وأما التشميت قال في البيان قيل فرض عين وقيل فرض كفاية وقيل ندب وإرشاد والأول أشهر.

قلت: وظاهر كلام الشيخ أن رد السامع فرض لقوله وعلى من سمعه يحمد الله أن يقول: يرحمك الله، ولو تكرر العطاس سقط تشميته ودليله ما في مسلم عن سلمة بن الأكوع أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عطس رجل عند فقال "يرحمك الله" ثم عطس أخرى، فقال رسور الله صلى الله عليه وسلم "الرجل مزكوم" وفي الترمذي في الثالثة أنه مزكوم.

(ولا يجوز اللعب بالنرد ولا بالشطرنج ولا بأس أن يسلم على من يلعب بها ويكره الجلوس إلى من يلعب بها والنظر إليهم):

واللعب بذلك جرحة وإن لم يدمن وقيل بشرط الإدمان ولا حد في الإدمان ويرجع فيه إلى العرف وقيل من لعب به أكثر من مرة واحدة في السنة، ويريد بقوله لا بأس أن يسلم على من يلعب بها إذا كان بعد انصرافهم وفراغتهم من اللعب فإما في حالة اللعب فلا يجوز لأنهم متلبسون بالمعصية ألا ترى إلى قوله ولا يجوز اللعب بالنرد، وفي العتبية سئل مالك أيسلم على اللاعب بالشطرنج فقال نعم أو ليسوا

(2/490)

________________________________________

مسلمين، وتأوله ابن رشد على ما ذكرناه من أن معنى ذلك إذا انصرفوا من لعبهم وكان بعض من لقيناه من القرويين يحمل ما في العتبية على ظاهره ولا يفتى به وما ذكر من كراهة الجلوس محمول على التحريم.

(ولا بأس بالسبق بالخيل وبالإبل وبالسهام بالرمي وإن أخرجا شيئا جعلا بينهما محللا يأخذ ذلك المحلل إن سبق هو وإن سبق غيره لم يكن عليه شيء هذا قول ابن المسيب وقال مالك: إنما يجوز ويخرج الرجل سبقا فإن سبق غيره أخذه وإن سبق هو كان للذي يليه من المتسابقين وإن لم يكن غير جاعل السبق وآخر فسبق جاعل السبق أكله من حضر ذلك):

شروط المسابقة أن يجهل كل واحد منهما فرس صاحبه وأن يكونا بالغين ومعرفة انتهاء الغاية وأن يخرج أحدهما مثل ما يخرجه الآخر، وقيل يجوز التفاضل وهو المشهور وإن يقصد بذلك القوة على الجهاد.

(وجاء فيما ظهر من الحيات بالمدينة أن تؤذن ثلاثا وإن فعل ذلك في غيرها فهو حسن ولا تؤذن في الصحراء ويقتل ما ظهر منها):

قال ابن شاس: واختلف في الاستئذان المشروع فقيل: ثلاثة في خرجة واحدة وقيل مرة في كل خرجة وقيل: ثلاثة أيام وإن ظهرت اليوم الواحد مرارا.

قال الفاكهاني: قيل وقول الشيخ ثلاث مرات يحتمل ثلاث ليال وفي الحديث ثلاث أيام رفع للاحتمال، وصفة الاستئذان أن يقول أنشدتكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان ابن داود عليهما السلام أن لا تؤذونا أو تظهروا علينا وهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره عياض في إكماله من رواية ابن حبيب.

(ويكره قتل القمل والبراغيث بالنار):

دليل ذلك ما جاء في الحديث "لا يعذب بالنار إلا رب النار" قال التادلي: وهذا ما لم يضطر فيجوز قتلها بالنار لأن في قتلها بغير النار حرجا ومشقة ويجوز نشرها للشمس.

(ولا بأس إن شاء الله يقتل النمل إذا آذت ولم يقد على تركها ولو لم تقتل كان أحب إلينا إن كان يقدر على تركها):

مفهوم كلام الشيخ إنها إذا لم تؤذ فإنها لا تقتل كقول الخطابي لا تقتل النملة الحمراء الطويلة القوائم لأنه لا تحصل منها إذاية وما ذكر الشيخ هو معنى قول مالك وكان الشيخ لم يقف عليه لمالك من عنده لقوله إن شاء الله.

(ويقتل الوزغ):

(2/491)

________________________________________

هذا لما في مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الوزغ وسماه "الفويسقة" وفيه أيضا "من قتل وزغة في أول ضربة كتب له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك"، قال ابن رشد وكذلك يقتل ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله من العقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور.

(ويكره قتل الضفادع):

الأصل في ذلك ما في النسائي أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله قال عبد الوهاب كان الأصل منع إتلاف الحيوان إلا لمنفعة ورفع ضرر ولا ضرر في الضفدع.

(وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم من تراب):

لأن المفاخرة بالأنساب تؤدي إلى إيقاع العداوة والبغض وذلك ممنوع لأنه مؤد إلى الهجر والفساد ولأن الله تعالى قال (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13]

فأخبر تعالى أن الفضل عند بالتقوى دون النسب وعبية العين المهملة وكسرها ومعناه الكبر والتجبر.

(وقال عمر تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم قال مالك أن يرفع في النسبة فيما قبل الإسلام من الآباء):

قال التادلي: يريد وجوبا لأن صلة الرحم واجبة فوسيلته كذلك.

(والرؤيا الصالحة جزء من سنة وأربعين جزءًا من النبوة ومن رأى في منامه ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا وليتعوذ من شر ما رأى):

قال الفاكهاني: قد تقدم مستوعبا وما أدري لم أعاده الشيخ رحمه الله تعالى، ونفع به.

(ولا ينبغي أن يفسر الرؤيا من لا علم له بها ولا يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه):

قال التادلي: يريد إلا إذا كان عالما بأصول التفسير وهي الكتاب والسنة وكلام العرب وأشعارها وأمثالها وكان له فضل وصلاح فراسة ولا يعبرها بالنظر في كتاب

(2/492)

________________________________________

العبارات ويفتي بذلك على جهة التقليد لذلك فإن ذلك لا يجوز لأنها تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان قال الفاكهاني: ولا ينبغي على التحريم لأنه يكون كاذبا أو مخمنا قال تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) [الإسراء: 36].

(ولا بأس بإنشاد الشعر وما خف من الشعر أحسن ولا ينبغي أن يكثر منه ومن الشغل به):

إنشاد ما خف من الشعر جائز بلا خلاف وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر في المسجد وغيره، وقال عليه السلام "إن من الشعر لحكمة" وقال عليه الصلاة والسلام "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد".

ألا كل شيء ما خلا الله باطل"

وقال لحسان " أنشد ومعك روح القدس" قال عبد الوهاب: والإكثار منه مكروه لأنه يشغل عن الحلال والحرام، قال الطرطوشي: ولأن أطيبه أكذبه قال ابن الفرس وقد منع قوم قليله وكثيره.

(وأولى العلوم وأفضلها وأقربها إلى الله علم دينه وشرائعه مما أمر به ونهى عنه ودعا إليه وحض عليه في كتابه وعلى لسان نبيه والفقه في ذلك والفهم فيه والتهمم برعايته والعمل به والعلم أفضل الأعمال وأقرب العلماء إلى الله وأولادهم به أكثرهم له خشية وفيما عند رغبة والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها):

قال الفاكهاني: هذا قد تقدم في أول الكتاب فراجعه هناك فلا معنى للإعادة.

(واللجأ إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه عليه السلام واتباع سبل المؤمنين وخير القرون من خير أمة أخرجت للناس نجاة في المفرع إلى ذلك العصمة وفي اتباع سبيل السلف الصالح النجاة وهم القدوة في تأويل ما تأولوه واستخراج ما استنبطوه وإذا اختلفوا في الفروع والحوادث يخرج عن جماعتهم والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله):

اللجأ بفتح اللام والجيم والملتجأ بمعنى واحد وهو في اللغة بمعنى الاستناد على الشيء والاعتماد عليه، وكتاب لله المراد به القرآن لأنه غلب إطلاقه على ذلك وإلا فكتب الله المنزلة تزيد على المائة، والمفزع هو الملجأ يعني فزعت إلى كذا لجأت إليه والعصمة الحفظ وخص الفروع بالذكر في قوله وإذا اختلفوا في الفروع والأحاديث

(2/493)

________________________________________

لأنهم متفقون على أصول التوحيد وسائر الاعتقادات المتعلقة بذلك مما يجب لله تعالى وما يجوز في حقه وما يستحيل عليه فكلام الشيخ كالنص في أن خرق الإجماع لا يجوز وهو كذلك قال تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) [النساء: 115]

الآية ويقوم من كلام الشيخ جواز إمامة المخالف في الفروع الطنية وهو كذلك بإجماع عند المارزي باختلاف عند اللخمي.

(قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد قد أتينا على ما شرطنا أن نأتي به في كتابنا هذا مما ينتفع به إن شاء الله من رغب في تعليمه ذلك من الصغار ومن احتاج إليه من الكبار وفيه ما يؤدي الجاهل إلى علم ما يعتقده من دينه ويعمل به من فرائضه ويفهم كثيرا من أصول الفقه وفنونه ومن السنن والرغائب والآداب وأنا أسأل الله أن ينفعنا وإياك بما علمنا ويعيننا وإياك على القيام بحقه فيما كلفنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على نبيه وآله وسلم تسليما):

يقول مؤلف هذا المختصر وهو أبو القاسم بن عيسى بن ناجي التونسي القروي: أطلب ممن وقف على مختصري هذا لو رأى فيه خرقا أن يتجاوز عن خشونة الكلام فإنه لا معصوم إلا من عصمه الله تعالى وأطلب منه أن يدعو لي بالمغفرة والرحمة ولوالدي وللمسلمين أجمعين.

(يقول مصححه الراجي عفو به الكريم ابن الشيخ حسن الفيومي إبراهيم):

نحمدك اللهم أن أرشدت من اخترت لتبليغ دينك القويم. ودللت الهداة إلى سبل الخيرات فسلكوا أنهج طريق إلى رضا ربهم البر الرحيم، ونصلي ونسلم على الرسول المرسل رحمة للعالمين، سيدنا محمد القائل "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وآله الهادين، وصحابته أجمعين.

وبعد:

فقد قيض الله جلت قدرته لنشر شرعه بين طلابه، حتى لا يتمكن حاجب فضل من ستره عن أصحابه، أناسا نظر لهم بعين عنايته، وأيدهم بوفور فضله ومنته، فاستخرجوا دفين فنون الفضائل، من تربة الإهمال بعد أن كاد يقضي عليها طول عهد مؤلفيها الأماثل، من ذلك أن انتدب سلطان العلماء العاملين، وسيد الجهابذة المحققين، صاحب السيف والقلم، وينبوع الحكمة والحكم، فرع الشجرة المباركة النبوية، ومفخر السلالة الطاهرة العلوية، من دان لمكانته القاصي والداني، واعترف الزمان بأن ليس يدانيه ثاني، جلالة مولانا عبد الحفيظ سلطان المغرب الأقصى السابق ابن السلطان مولاي الحسن ابن السلطان

(2/494)

________________________________________

مولاي محمد رفع الله قدره وأدام فخره بأن عنى حفظه الله بنشر لواء العلم النافع بين طلابه ففتح لهم بذلك ما استغلق عليهم من أبوابه، فتقدم بأمره السامي لجناب الحاج محمد بن العباس بن شقرون خديم المقام العالي بالله الآن بثغر طنجة ووكيل دولة المغرب الأقصى سابقا بمصر بطبع شرحي الرسالة ورسالة ابن أبي زيد القيرواني الأول لهما: شرح العلامة زروق الفاسي والثاني: شرح العلامة ابن ناجي فأناط حفظه الله ورعاه بهذا التوكيل نجله الشاب النجيب، والفاضل الأديب الحاج عبد السلام ابن شقرون فقام بهذه الخدمة الجليلة، وباشر بنفسه أمر ذلك إحرازا لتلك الفضيلة فتم ولله الحمد طبعهما على وفق المرام، وكان بذلك قرة عين أهل العلم الأعلام، وذلك بالمطبعة الجمالية ذات الأدوات البهية، الكائنة بمصر المحمية. أوائل شهر شوال المعظم لسنة 1332 هجرية وعلى صاحبها أفضل الصلاة وأتم التحية والحمد لله أولا وآخرًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...