5. سورة المائدة {ج1.}
سُورةُ المائِدَةِ
سُورةُ المائِدَةِ
مقدمة السورة
أسماء السورة:
سُمِّيتْ هذه السُّورةُ الكريمةُ، سُورةَ المَائدة
.
فعَن جُبَيرِ بنِ نُفَيرٍ، قال: (حَجَجتُ فدخلتُ على عائشةَ رضِي اللهُ عنها، فقالَت لي: يا جُبَيرُ، تقرأُ المائدةَ؟ فقُلتُ: نَعم، فقالَت: أمَا إنَّها آخِرُ سُورةٍ نزَلَتْ...)
.
فضائل السورة وخصائصها:
1- سُورةُ المَائدةِ مِن السَّبعِ الطِّوالِ التي أُوتِيَها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مكانَ التَّوراةِ:
فعَن واثلةَ بنِ الأَسقَعِ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((أُعطِيتُ مَكانَ التَّوراةِ السَّبعَ الطِّوالَ، وأُعطيتُ مَكانَ الزَّبورِ المِئِينَ، وأُعطيتُ مَكانَ الإنجيلِ المثانيَ، وفضِّلتُ بالمفَصَّلِ ))
.
2- مِن خَصائصِ هذِه السُّورةِ: أنَّها مِن آخِرِ ما نزَلَ مِنَ القُرآنِ :
فعَن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو رضِي اللهُ عنهما، قالَ: (آخِرُ سُورةٍ أُنزِلَت سورَةُ المائدةِ) .
وعن جُبَيرِ بنِ نُفَيرٍ، أن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، قالت له: (يا جُبَيرُ، تَقرَأُ المائدةَ؟ فقال: نَعَم، قالتْ: أمَا إنَّها آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَت) .
3- مِن خَصائِصِها: أنَّها أجمعُ سُورةٍ في القُرآنِ لفُروعِ الشَّرائعِ، وذُكِر فيها مِن التَّحليلِ والتحريمِ والإيجابِ ما لم يُذكَرْ في غيرِها
.
بيان المكي والمدني :
سُورةُ المَائدةِ سُورةٌ مدَنيَّة، نزلَتْ بعدَ الهِجرةِ، ونقَل الإجماعَ على ذلِك عددٌ من المفسِّرينَ
.
مقاصد السورة :
مِن أَهمِّ المقاصدِ التي تَضمَّنَتْها سورةُ المائدةِ:
1- التَّأكيدُ على حِفظِ العُهودِ والمواثيقِ والوفاءِ بها
2- بيانُ الكَثيرِ من الأحكامِ الشَّرعيَّةِ .
3- تَنظيمُ العَلاقاتِ بينَ المسلمينَ وغَيرِهم
.
موضوعات السورة :
مِن أَبرزِ الموضوعاتِ التي تناولَتْها سورةُ المائدةِ:
1- تقريرُ العَقيدةِ الصَّحيحةِ، والاهتمامُ بأمورِ التَّوحيدِ، وتَصحيحُ الكثيرِ مِن المعتقَداتِ الباطلةِ، والتذكيرُ بيومِ القيامةِ.
2- تقريرُ أنَّ الحُكمَ للهِ تعالى وحدَه، وأنَّه لا حُكمَ أحسنُ مِن حُكمِ الله تعالى، مع بيانِ وجوبِ الحُكمِ بما أَنزلَ اللهُ تعالى، وإلغاءِ حُكْم الجاهليَّة وتقبيحِه.
3- التأكيدُ على عقيدةِ الولاءِ والبراء، والتشديدُ على تولِّي المؤمنين، مع التحذيرِ غايةَ التحذيرِ من تولِّي أهلِ الكُفر، وبيانِ أنَّ الذين في قلوبِهم مرضٌ هم المسارِعونَ في تَوَلِّيهم.
4- تنظيمُ علاقاتِ المُسلمينَ مع غيرِهم، خاصَّةً اليهودَ والنَّصارى.
5- بيانُ كثيرٍ من الأحكامِ الشَّرعيَّة وتوضيحُها؛ فمِن ذلك: الأحكامُ الشَّرعيَّة المتعلِّقة بالعباداتِ والمعاملاتِ؛ كأحكامِ العُقود، والذَّبائح، والصَّيد، والإِحرام، ونِكاح الكتابيَّات، والرِّدَّة، وأحكامِ الطَّهارة، وحَدِّ السَّرِقة، وحدِّ البَغي والإفسادِ في الأرضِ (الحِرابة)، وتحريمِ الخَمْر والميسرِ، وكَفَّارة اليَمين، والنَّهي عن قَتْلِ الصَّيدِ في الإِحرام، والوَصيَّةِ عندَ الموتِ؛ إلى غيرِ ذلك.
6- اشتملتْ سورةُ المائدةِ على بعضِ القِصصِ، ومِن ذلك قِصَّةُ بني إِسرائيلَ مع موسى عليه السلامُ، وقِصَّة ابنَيْ آدَم، وقِصة المائدة.
7- بيانُ أحوالِ أهلِ الكتابِ، ونقضِهم للعهودِ وتحريفِهم للكتبِ المنزَّلةِ، ومناقشةُ بعض عقائدِهم الزَّائفةِ؛ من نسبةِ الولدِ إلى الله، وإنكار رِسالةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إلى غير ذلِك من عقائدِهم الباطِلة.
====2.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (1 - 2)
ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ
غريب الكلمات:
أَوْفُوا: أدُّوا مع التَّمامِ، وأصلُ الوفاء: تمامُ الشَّيءِ، وإتمامُ العَهدِ، والقيامُ بمقتضاه، وإكمالُ الشَّرط
.
بِالْعُقُودِ: بالعُهودِ الموثَّقَةِ، وأصل (عقد) يدلُّ على: شَدٍّ، وشِدَّةِ وُثوقٍ .
بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ: الإبلُ والبَقَر والغَنَم، والبَهِيمَةُ: كلُّ ما استَبْهَم عن الجَوابِ، أي: استَغلَق، وما لا نُطْقَ له؛ وإنما قيل للأنعامِ: بَهيمة؛ لأنَّها أبهمتْ عن أن تُميِّزَ، والأنعامُ: أصلُها الإبل، ثم استُعمِلَتْ للبقرِ والغَنَم، وأصل كلمة (نعم): يدلُّ على تَرفُّهٍ، وطِيبِ عَيشٍ، وصلاحٍ .
الصَّيْدِ: أي: الاصطياد، والصَّيد: هو تناولُ ما يُظفَر به، أو ما كان مُمتنِعًا ولم يكُن له مالكٌ، وكان حلالًا أكْلُه، وأصلُه: ركوبُ الشَّيءِ رأسَه، ومُضيُّه غيرَ ملتفِتٍ ولا مائلٍ .
حُرُمٌ: مُحرِمونَ، جمْع حَرامٍ، وهو بمَعْنَى مُحرِم، مِن: أَحْرم الرَّجلُ بالحجِّ؛ لأنَّه يَحرُم عليه ما كان حلالًا له من الصَّيدِ والنِّساءِ، وغير ذلك، وأصل (حرم): المنْع والتَّشديد .
شَعَائِرَ: وَاحِدُها شَعيرَة، وهي مَا جعَله الله تعالى عَلَمًا لطاعَتِه، والشَّعائِر: أعلامُ الحجِّ وأَعمالُه، ومشاعِرُ الحجِّ: مواضِعُ المناسِك .
الْهَدْيَ: مُختصٌّ- في هذا الموضِع- بما يُهْدَى إلى البَيتِ من الأنعامِ؛ قربةً إلى الله، والهَديَّة: كلُّ ما يُهدَى إلى ذِي مَوَدَّةٍ .
الْقَلَائِدَ: ما قُلِّد من الهَدْي، وكانوا يقلِّدونَ البعيرَ من لِحاءِ شَجرِ الحرمِ، فيأمنُ بذلك حيث سلَك، وأصل (قلد): الفَتْل، ويدلُّ على تعليقِ شيءٍ على شيءٍ، وَلَيِّه به .
آمِّينَ: قَاصِدينَ وعامِدِين إليه، جمْع آمٍّ، وأصل الأَمِّ: القصدُ المستقيم، أو التوجُّه نحو مقصودٍ .
فَضْلًا: عطاءً زائدًا؛ فأصلُ الفَضلِ الزِّيادةُ؛ وكلُّ عطيَّةٍ لا تلزَمُ مَن يُعطي يُقال لها: فضلٌ، والإفضال: الإحسان .
حَلَلْتُمْ: خَرجتُم من إحرامِكم، أو خرجتُم مِن الحرَمِ، وأصل الحَلِّ: حَلُّ العُقدةِ، وفَتْح الشَّيءِ .
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ: ولَا يَحمِلنَّكم، أو لا يَكْسِبنَّكم، وجَرَم أَيْ: كَسَبَ؛ لأنَّ الَّذي يَحوزُه فكأنَّه اقْتَطَعه، ويقال: جَرَمَ: إذا أَذْنَبَ وَاكْتَسَبَ الإِثمَ، ولا يكادُ يُقالُ في عامَّةِ كلامِهم للكسْبِ المحمودِ، وأصل (جرم) يدلُّ على القَطعِ .
شَنَآنُ: بَغضاءُ، أو شِدَّةُ البُغض والعداوة؛ يُقال: شَنِئْتُه، أي: تَقذَّرْتُه بُغضًا له
.
مشكل الإعراب:
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
غَيْرَ: منصوبٌ على أنَّه حالٌ، واختُلِف في صاحبِ الحال؛ فقيل: هو الضمير المجرور في لَكُمْ، وهذا قولُ الجمهورِ، وهو مِثْلُ قولِك: أُحِلَّ لك هذا الشَّيءُ لا مُفَرِّطًا فيه ولا مُتَعَدِّيًا، والمعنى: أُحِلَّت لكم بهيمةُ الأنعامِ إلَّا أن تُحِلُّوا الصَّيدَ في حالِ الإحرامِ؛ فإنَّه لا يحِلُّ لكم ذلك إذا كنتم مُحْرمينَ. وقيل: الضَّميرُ المجرورُ في عَلَيْكُمْ، أي: إلَّا ما يُتْلى عليكم حالَ انتفاءِ كونكم مُحِلِّين الصَّيدَ. وقيل: هو ضميرُ الجمعِ في أَوْفُوا، والتقديرُ: أوْفُوا بالعقودِ في حالِ انتفاءِ كونِكم مُحِلِّينَ الصيدَ وأنتم حُرُم
.
الصَّيْدِ: مجرورٌ لفظًا، منصوبٌ محلًّا من إضافةِ اسمِ الفاعِلِ إلى مفعولِه، وهو مَصدرٌ بمعنى المفعول، أي: الـمَصِيد، ويجوزُ أنْ يكون على بابِه هاهنا؛ أي: غَيرَ مُحلِّين الاصطيادَ في حالِ الإحرامِ .
قوله: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ: مبتدأٌ وخبر، والجملةُ في محلِّ نصبٍ حالٌ من الضَّميرِ المُسْتَكِنِّ في مُحِلِّي الصَّيدِ، كأنَّه قيل: أَحْلَلْنا لكم بعضَ الأنعام في حالِ امتناعِكم من الصيدِ وأنتم مُحْرِمون؛ لئلَّا تُحرجَ عليكم
.
المعنى الإجمالي :
أَمَرَ اللهُ تعالى المؤمنينَ أنْ يُتمُّوا العُهودَ التي بَيْنه وبَيْنهم، والعهودَ التي بينهم وبين الخَلقِ، والتي لا تُخالِف شَرْعَه، وأخبَرَهم تعالى أنَّه أحلَّ لهم الإبلَ والبقَرَ والغَنَمَ، إلَّا ما سيُقرأ عليهم تحريمُه منها، وهو ما بيَّنه في قولِه سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ...، كما يُستثنى أيضًا صَيدُ البَرِّ فيما لو كانوا داخلَ حدودِ الحرَمِ، أو كانوا مُحرِمينَ بحجٍّ أو عُمرةٍ، إنَّه سبحانه وتعالى يَحكُم بما شاءَ، ويَقضي بما أرادَ.
ثمَّ نَهى سبحانه وتعالى عِبادَه المؤمنين أنْ يَتعدَّوا حُدودَه بتحليلِهم حُرُماتِه التي أُمِروا بتعظيمِها، والتي منها شعائرُ الحجِّ، ولا يَنتهِكوا حُرمةَ الأشهُرِ الحُرُم بابتداءِ القِتال فيها، أو التلبُّسِ فيها بظُلمٍ أو ارتكابِ مُحرَّماتٍ، كما نهاهم عن انتهاكِ ما يُهدَى إلى الحَرَمِ من الأنعامِ؛ بأنْ يَذبَحوها قبلَ بلوغِها مَحِلَّها، أو يَمنعوها من الوصولِ إلى محِلِّها، أو يَنتهكوا الهَديَ التي تُجعَلُ القلائدُ في أعناقِها، ونَهاهم أنْ يستحِلُّوا قِتالَ مَن قصَد البيتَ الحرامَ طلبًا لفَضْلِ اللهِ ورِضوانِه، ثم أباح لهم الصَّيدَ بعد الانتهاءِ من إحرامِهم، وإذا خرجوا مِن الحرَمِ، ثم نهاهم جلَّ وعلا أنْ يَحمِلَهم بُغضُهم وكراهيتُهم لأقوامٍ منعوهم من الوُصولِ للمسجدِ الحرامِ، على أنْ يَعْتدوا عليهم، ويقتصُّوا منهم ظلمًا وعدوانًا، وأمَرَهم أنْ يتعاونوا على البِرِّ والتقوى، وألَّا يتعاوَنوا على الإثمِ والعُدوان، وأمَرَهم بتقوى الله؛ فإنَّه شديدُ العقابِ.
تفسير الآيتين:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، قوموا بإتمامِ وإكمالِ جميعِ العُهودِ التي بينكم وبين الخالِق سبحانه، وجميعِ العهودِ التي بينكم وبين المخلوقينَ؛ ما لم تُخالِفْ شَرْعَ اللهِ تعالى
.
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ.
أي: قد أحلَّ اللهُ تعالى لأجْلِكم- أيُّها المؤمنون- الإبلَ والبَقر والغنَم؛ فضلًا منه ورحمةً .
إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ.
أي: إلَّا ما سيُتلَى عليكم تحريمُه منها في قولِه سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ... [المائدة: 3] .
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
أي: ويُستثنى أيضًا مِن حِلِّ بهيمة الأنعامِ لكم صيدُها وأنتم في الحَرَم، أو وأنتم مُحرِمون بحَجٍّ أو عُمرةٍ .
إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
أي: إنَّ الله تعالى يَقضي في خَلْقِه ما يشاءُ، ومن ذلك تحليلُ وتحريمُ ما يشاءُ، وهو الحكيمُ في جميعِ ما يُقدِّره ويَشْرَعُه من أحكامٍ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا حرَّم الصيدَ على المُحرِم في الآيةِ الأولى، أكَّدَ ذلك بالنهيِ في هذه الآيةِ عن مخالفَةِ تكاليفِ الله تعالى ، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ.
أي: يا أيُّها المؤمنون، لا تَنتَهِكوا ما حرَّمَ الله تعالى عليكم، ولا تُضَيِّعوا فرائضَه، ومِن ذلك مناسِكُ الحجِّ .
وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ.
أي: ولا تَنتهِكوا حُرمةَ الأشهُرِ الحُرُم بابتداءِ القِتالِ فيها، وبغيرِ ذلك من أنواعِ الظُّلْم والمحرَّماتِ .
قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة: 36] .
وعن نُفَيعِ بنِ الحارثِ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ الزمانَ قد استدارَ كهيئَتِه يومَ خلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ؛ السَّنةُ اثنا عشرَ شهرًا، منها أربعةٌ حُرمٌ؛ ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القَعدةِ وذو الحِجةِ والمحَرَّمُ، ورجبُ مُضَرَ ، الذي بين جُمادى وشعبانَ )) .
وَلَا الْهَدْيَ.
أي: ولا تَنتهِكوا ما يُهدَى إلى الحَرَم من إبلٍ أو بقرٍ أو غنمٍ تقرُّبًا إلى الله تعالى، فلا تذبحوه قبلَ بلوغِه مَحِلَّه، ولا تَحُولوا بينه وبين الوصولِ إلى محِلِّه، بل عَظِّموه .
وَلَا الْقَلَائِدَ.
أي: ولا تَنتهِكوا أيضًا الهَدْيَ الذي تُجعَل له قلائدُ في عُنقِه؛ وكانت الهدْيُ تُقلَّدُ إظهارًا لشعائِرِ الله تعالى، وحملًا للنَّاسِ على الاقتداءِ، فتَبعَث مَن يراه على الإتيانِ بمثلِه، وتعليمًا لهم للسُّنَّة، وليُعْرَفَ أنه هديٌ فيُحْتَرَم .
وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا.
أي: ولا تستحلُّوا قِتالَ القاصدين إلى بيتِ الله تعالى الحرامِ، الذي مَن دخَلَه كان آمنًا، والحالُ أنَّهم طالبونَ فَضلَ الله تعالى بالتِّجارةِ والمكاسِبِ المباحَةِ، أو راغبونَ في رِضوانِه بالحجِّ والعُمرةِ والطَّواف بالبيت، والصَّلاة وغيرِها من أنواعِ العباداتِ، فلا تَصدُّوهم ولا تتعرَّضوا لهم بسوءٍ، ولا تُهينوهم، بل عظِّموا الزَّائرينَ لبيتِ الله عزَّ وجلَّ .
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا.
أي: وإذا فرَغْتُم مِن إحرامِكم بالحجِّ أو العُمرةِ وأحللتُم منه، وخرجتُم من الحَرَم، فلا حَرَج عليكم في اصطيادِ ما كان محرَّمًا عليكم صيدُه .
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا
القِراءاتُ ذاتُ الأَثَر في التَّفسيرِ:
في قوله تعالى: أَنْ صَدُّوكُمْ قِراءتان :
1- قِراءة أَنْ صَدُّوكُمْ بالفتْح على أنَّها عِلَّة للشَّنَآنِ، والمعنى: لا يَحْمِلَنَّكم بغضُكم لقومٍ على الاعتداءِ عليهم؛ لأجْلِ صَدِّهم إيَّاكم عن المسجدِ الحرامِ.
2- قِراءة إِنْ صَدُّوكُمْ بـ (إن) الشرطيَّة، والمعنى: لا يحملنَّكم بُغضُ قومٍ على الاعتداءِ عليهم، إنْ صدُّوكم عن المسجدِ الحرامِ.
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا.
أي: ولا يَحملنَّكم- أيُّها المؤمنون- بُغضُ قومٍ على أن تَعْتَدوا عليهم فتقتَصُّوا منهم ظلمًا؛ طلبًا للاشتفاءِ منهم؛ لأجْل أنْ منعوكم من الوصولِ إلى المسجِدِ الحرام؛ فإنَّ العبدَ عليه أن يلتزمَ أمْرَ الله تعالى، ويَسلُكَ طريقَ العَدْلِ، ولو اعتُدِيَ عليه .
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
أي: ولْيُعِنْ بعضُكم بعضًا- أيُّها المؤمنون- على فِعْل الطَّاعاتِ، وتَرْكِ المحرَّمات .
وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
أي: ولا يُعِنْ بعضُكم بعضًا- أيها المؤمنونَ- على اقترافِ المعاصي، وارْتِكابِ الظُّلم، والاعتداءِ على حقوقِ الخَلْق .
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: وامْتَثِلوا ما أمَرَكم اللهُ تعالى به واجتنِبوا ما نهاكم عنه؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ذو عِقابٍ شديدٍ على مَن عصاه، وتجرَّأَ على محارمِه
.
الفوائد التربوية:
1- وُجوبُ الوفاءِ بالعقود؛ لقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ؛ لأنَّ الأصلَ في الأمرِ أنَّه للوجوبِ لا سيَّما إذا كان متعلِّقًا بحقِّ الآخَرينَ، والعَقْدُ متعلِّقٌ بحقِّ الآخرين؛ لأنَّه إبرامُ شيءٍ بينك وبين الآخر
.
2- قولُ الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ فيه التنبيهُ على الانقيادِ لله تعالى في جميعِ تكاليفِه وأوامِرِه ونواهيه، فلا يُسألُ عن تَخصيصٍ ولا عن تفضيلٍ، ولا غيرِه .
3- الإشارةُ إلى أنَّه لا يحلُّ للإنسانِ أن يعترضَ على الأحكامِ الشرعيَّةِ؛ وجهُ ذلك: أنَّ الله تعالى ختَمَها بقوله: إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وذلك بعدَ أنْ ذكَرَ أنواعًا من الأحكامِ .
4- الإرشادُ إلى احترامِ أعظمِ المكانِ: الحَرَمِ، وأكْرَمِ الزَّمان: الشَّهرِ الحرامِ، وما لابَسَهما؛ قال الله تعالى: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الحَرَامَ .
5- تعظيمُ الشَّعائرِ؛ لأنَّ اللهَ أضافها إلى نفْسِه، في قوله: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ، والمضافُ يَشرُف ويَعظُمُ بحسَبِ المضافِ إليه .
6- جمَع بين التَّحْليَةِ والتَّخلِيَة في قوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؛ إذ إنَّ التَّعاوُنَ على البِرِّ والتقوى مِن أركانِ الهدايةِ الاجتماعيَّةِ في القرآن؛ لأنَّه يُوجِبُ على النَّاسِ إيجابًا دِينيًّا أن يُعِينَ بعضُهم بعضًا على كلِّ عملٍ من أعمالِ البرِّ التي تنفَعُ النَّاسَ أفرادًا وأقوامًا في دِينهم ودُنياهم، وكلِّ عَملٍ من أعمالِ التقوى التي يدفعونَ بها المفاسِدَ والمضارَّ عن أنفُسِهم، فجَمَعَ بذلك بين التحلِيَة والتخْلِيَة، ولكنَّه قدَّم التحلِيَة بالبرِّ، وأكَّدَ هذا الأمْرَ بالنَّهيِ عن ضدِّه؛ وهو التعاونُ على الإثمِ بالمعاصي وكلِّ ما يعوقُ عن البِرِّ والخيرِ، وعلى العُدوانِ الذي يُغْري الناسَ بعضَهم ببعضٍ، ويجعلُهم أعداءً متباغِضينَ يتربَّصُ بعضُهم الدوائِرَ ببعضٍ .
7- نَدَبَ اللهُ سبحانَه إلى التَّعاونِ على البِرِّ، وقَرَنَه بالتَّقوى له، فقال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ لأنَّ في التَّقوى رِضا اللهِ تعالى، وفي البِرِّ رِضا النَّاسِ، ومَن جَمَعَ بين رِضا الله تعالى ورِضا النَّاسِ؛ فقد تمَّتْ سَعادَتُه، وعَمَّتْ نِعمَتُه
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- وجوبُ الوفاءِ بالشُّروطِ المشترَطَةِ في العقدِ، فإذا عقَدَ رجلانِ بينهما عقدَ بيعٍ أو غيره، واشترطَا شروطًا، فالأصلُ وجوبُ الوفاءِ بالشُّروط؛ وذلك لأنَّ قولَه: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يشمَلُ الوفاءَ بالعقدِ نفْسِه، وبأوصافِه التي هي شروطُه، فإذا اشترَطَ المتعاقدانِ شرطًا، وحصَل نِزاعٌ في هذا الشَّرطِ، فالصوابُ أنَّ هذا الشرطَ يصحُّ حتى يُقيمَ المانِعُ دليلًا على المنعِ
.
2- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أنَّ جميعَ العقودِ حلالٌ؛ وجهُ ذلك: أنَّ اللهَ أمَرَ بالوفاءِ بها، واللهُ تعالى لا يأمُرُ بالوفاءِ بالفحشاءِ أبدًا، ولكنَّ هذا ليس على عمومِه؛ إذ يُستثْنَى منها ما حَرَّمه الشَّرعُ؛ كبيعِ الغَرَر، والبيعِ بالرِّبا، والقِمارِ، وما أشْبَهَ ذلك .
3- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أنَّ العقودَ تنعقِدُ بما دلَّ عليها مِن قولٍ أو فِعلٍ، بلفظٍ أو إشارةٍ أو كتابةٍ؛ وجْهُ ذلك أنَّ الله جلَّ وعلا أطلَقَ العقدَ، فكلُّ ما كان عقْدًا بين النَّاسِ فهو عقْدٌ .
4- قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ مُجمَلٌ؛ لأنَّ الإحْلالَ إنَّما يُضافُ إلى الأفعالِ، وهاهنا أُضيفَ إلى الذَّاتِ، فتعذَّر إجراؤُه على ظاهِرِه؛ فلا بُدَّ من إضمارِ فِعلٍ، وليس إضمارُ الأفعالِ أَوْلى من بعضٍ، فيَحتمِل أن يكون المرادُ إحلالَ الانتفاعِ بجِلْدِها، أو بعَظْمها، أو صُوفِها، أو لَحْمِها، أو المرادُ إحلالَ الانتفاعِ بالأكْلِ، فصارتِ الآيةُ مُجملةً، إلَّا أنَّ قولَه تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل: 5] دلَّ على أنَّ المرادَ بِقَوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إباحةُ الانتفاع ِمِن كلِّ هذه الوجوهِ، والله أعلم .
5- قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فيه تعظيمُ الإحرامِ، وأنَّه يحرُمُ على المُحْرِم الصَّيدُ .
6- تحريُم إحلالِ الشَّهرِ الحرامِ بالقتالِ، وكذلك أيضًا بالمعاصي؛ فإنَّها في هذه الأشهرِ الحُرُم أعظمُ من المعاصي في غيرها، قال تعالى: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ .
7- احترامُ الهَديِ وتحريمُ إحلالِه؛ لقوله: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ .
8- في قوله: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ حثٌّ على احترامِ الحُجَّاجِ والعُمَّارِ، وهذا يُفيدُ أنَّ العُدوانَ عليهم أشدُّ مِنَ العُدوانِ على غَيرِهم .
9- الإشارةُ إلى مِنَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ على هؤلاءِ الذين قَصَدوا البيتَ الحرامَ؛ وجْهُ ذلك أنَّ إضافةَ الربوبيَّةِ إليهم في قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا دليلٌ على عنايَتِه تبارك وتعالى بهم، ومن ذلك أنْ وفَّقَهم للحضورِ إلى المسجِدِ الحرامِ، فالربوبيَّة نوعان: عامَّة، وخاصَّة، وإليهما الإشارةُ في قوله تعالى: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف: 121- 122] ، فقوله: رَبِّ العَالِمِينَ، ربوبيَّة عامَّة، وقوله: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ربوبيَّة خاصَّة .
10- إثباتُ حُرْمة المسجِدِ الحرام؛ لقوله: أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أي: ذي الحرمةِ والتعظيمِ، وهو أوَّلُ بيتٍ وُضِع للنَّاس ليتعبَّدوا الله فيه
.
بلاغة الآيتين:
1- قوْلُه تعالى: أَوْفُوا بِالعُقُودِ: فيه تعريفُ (العقود) تعريفَ الجِنس؛ للاستغراقِ؛ فشَمِلَ العقودَ التي عاقَد المسلمونَ عليها ربَّهم، وشَمِل العقودَ التي عاقد المسلمون عليها المشركينَ، ويشمَلُ العقودَ التي يتعاقَدُها المسلمونَ بينهم
.
2- قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ تمهيدٌ لِمَا سَيرِدُ بَعدَها من المنهيَّات: كقولِه: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ، وفي الابتداءِ بذِكرِ بَعضِ المباحِ امتنانٌ وتأنيسٌ للمُسلِمين؛ ليتلقَّوا التكاليفَ بنفوسٍ مُطمئِنَّةٍ؛ فهي جملةٌ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ لأنَّها تصديرٌ للكلام بعد عنوانِه، وهو قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .
- وإضافة البهيمة إلى الأنعامِ للبيانِ مِن إضافةِ العامِّ للخاصِّ، وهي الإضافةُ التي بمعنى «مِن»، ومعناه: البَهيمةُ مِن الأنعام، وفائدتُها: الإشعارُ بعِلَّة الحُكم المشترَكة بين المضافينِ؛ كأنَّه قيل: أُحلَّت لكم البهيمةُ الشَّبيهةُ بالأنعامِ التي بُيِّن إحلالُها فيما سبَق، المماثِلَةُ لها في مَناطِ الحُكم .
- وفي آية أخرى: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [الحج: 30] ، فالفائدةُ في زِيادة لفظ (البهيمة) في هذه الآية: التأكيدُ؛ إذ المرادُ بالبهيمة وبالأنعام شيءٌ واحد .
- وتقديم الجارِّ والمجرور لَكُمْ على القائمِ مقام الفاعلِ بَهِيمَةُ؛ لإظهارِ العناية بالمقدَّم؛ لِمَا فيه من تَعجيلِ المسرَّةِ والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ، فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّرَ تبقى النَّفسُ مترَقِّبةً إلى ورودِه، فيتمكَّن عندها تَمكُّنًا زائدًا .
3- قوله: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ فيه: النَّهيُ عن إحلالِها؛ مبالغةً في النهيِ عن التعرُّضِ للهَدْي ، فلمَّا حرَّم الصيدَ على المُحرِم في الآية الأولى أكَّد ذلك بالنَّهي في هذه الآيةِ عن مخالفةِ تكاليفِ اللهِ تعالى .
- وإضافة قوله: شَعَائِرَ إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لتشريفِها، وتهويلِ الخَطْب في إحلالِها .
- وقوله: وَلَا الْقَلَائِدَ: عُطِفَت ذواتُ القلائِد مِن الهَدْي على الهَدْيِ؛ مبالغةً في التوصيةِ بها؛ لأنَّها أشرفُ الهَدْيِ، ويُحتَمَل أن يكون النَّهيُ عن التعرُّضِ لنفْسِ قَلائِدِ الهَدي؛ مبالغةً في النَّهيِ عن التعرُّضِ للهَدْي، على معنى: لا تُحِلُّوا قلائِدَها، فضلًا عن أن تُحِلُّوها .
4- قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا فيه: تنكيرُ قوله: فَضْلًا، ووَرِضْوَانًا؛ للتفخيمِ، وإضافةُ الربِّ إلى ضميرِ الآمِّينَ في قوله: رَبِّهِمْ؛ للإيماءِ إلى اقتصارِ التشريف عليهم، وحرمانِ المخاطَبين عنه، وعن نَيْلِ المبتغَى، وفي ذلك من تعليلِ النَّهيِ وتأكيدِه، والمبالغةِ في استنكارِ المنهيِّ عنه؛ ما لا يَخفَى .
5- قوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا فيه: تصريحٌ بمفهومِ قَولِه: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ لقَصْدِ تأكيدِ الإباحةِ .
6- قوله: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فيه: تأكيدٌ لمضمون قوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ لأنَّ الأمرَ بالشيءِ وإنْ كان يتضمَّن النهيَ عن ضدِّه، فالاهتمامُ بحُكم الضدِّ يَقتضي النهيَ عنه بخصوصِه .
7- قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ كرَّر الأمْر بالتقوى مُطلقةً فيه، وإنْ كان قد أمَر بها في قوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ تأكيدًا لأمْرِها، وإشارةً إلى أنَّها الحاملةُ على كلِّ خيرٍ .
8- قوله: إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فيه: تعريضٌ بالتَّهديدِ والوعيدِ ، مع ما فيه من تأكيدِ الخبرِ بـ (إنَّ)، واسميَّةِ الجملةِ.
=====3.
سُورةُ المائِدَةِ
الآية (3)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
غريب الكلمات:
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ: أي: رُفِع فيه الصَّوتُ بتسميَةِ غيرِ الله، أو ما ذُبِحَ لغيرِ الله، وأصْل (هلل): يَدلُّ على رفْعِ صوتٍ، ومنه قولهم: أهلَّ بالحجِّ: رفَع صوتَه بالتَّلبيَةِ
.
الْمُنْخَنِقَةُ: التي تموتُ خنقًا، وهو حبسُ النَّفَس، سواءٌ فعَل بها ذلك آدميٌّ، أو اتَّفق لها ذلك في حَجَرٍ أو شجرةٍ أو بحبلٍ أو نحوه، وأصل (خنق): يدلُّ على ضِيق .
الْمَوْقُوذَةُ: المقتولةُ بالضَّربِ، والوَقْذ: الإيلامُ بالضَّرْب، وأصْل (وقذ): يدلُّ على ضربٍ بخَشَب .
الْمُتَرَدِّيَةُ: الواقعةُ من جَبَلٍ أو حائطٍ، أو في بِئر؛ يُقال: تردَّى: إذا سقَط، وأصله يدلُّ على رمْيٍ أو ترامٍ، وما أشبهَ ذلك .
النَّطِيحَةُ: المنطوحةُ التي نطحتْها شاةٌ أو بقرةٌ فماتتْ .
ذَكَّيْتُمْ: ذبَحتُم، فقطعْتُم أوداجَه، وأنهَرْتم دمَه، وذكرتُم اسمَ الله تعالى إذا ذبَحْتُموه، وأصلُ الذَّكاة: تمامُ الشَّيْء .
النُّصُبِ: الحَجَر، أو الصَّنَم الذي يَذبحونَ عنده، أو يُنصَب للعبادةِ، وجمْعُه أنصابٌ، وقيل: النُّصُب جمعٌ مفردُه نَصِيبٌ، وأصلُ (نصب): يدلُّ على إقامةِ شيءٍ، وإهدافٍ في استواءٍ .
تَسْتَقْسِمُوا: تطلُبوا عِلمَ ما قُسِمَ لكم، والاستقسامُ بها: أن يُضربَ بها، ثم يُعمَلَ بما يَخْرُجُ فيها من أمْرٍ أو نهيٍ، وأُخِذ الاستقسامُ من القَسْم، وهو النَّصيبُ، كأنَّه طَلَبُ النَّصيبِ .
بِالْأَزْلَامِ: جمْعُ زَلَم وزُلَم، وهي القِداحُ التي كانوا يَضربونَ بها على المَيسرِ ويَستَقْسِمون بها، أو هي سِهامُ العربِ، وأصل (زلم): يدلُّ على نحافةٍ ودِقَّةٍ في مَلاسةٍ .
فِسْقٌ: خروجٌ عن حدودِ الشَّرع؛ من قولهم: فَسَق الرُّطَب، إذا خرَج عن قِشْرِه، والفُسُوق: الخروجُ من الطاعة إلى المعصِيَة، والخروجُ من الإيمانِ إلى الكُفرِ .
فَلَا تَخْشَوْهُمْ: فلا تَخافوهم، والخَشْيةُ: أكثرُ ما تكونُ عن عِلمٍ بما يُخشَى منه، وقيل: هي خوفٌ يشوبُه تعظيمٌ، وأصل خَشِيَ: فواتٌ بالكليَّةِ يدلُّ على خوفٍ وذُعْرٍ .
مَخْمَصَةٍ: أي: مجاعةٍ؛ مُشتقَّةٌ من خَمْصِ البَطن، أي: ضُمورِه، وأصلُ (خمص): يدلُّ على الضُّمْرِ والتَّطامُنِ .
مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ: مُنحرِفٍ، مائلٍ إلى ذلك متعمِّدًا، بأنْ يأكُلَ بعدَ زوالِ الضَّرورة، أو يأكُلَ فوقَ الشِّبَع، وأصلُ الجنف: الميلُ ميلًا ظاهِرًا، والعدولُ عن الحقِّ
.
المعنى الإجمالي:
يُبيِّن اللهُ تعالى لعبادِه المؤمنين أنَّه حرَّم عليهم أكْلَ ما مات من الحيوانِ دون ذَكاةٍ ولا اصطيادٍ، وحرَّم عليهم أكْلَ الدَّمِ المسفوحِ، ولحمِ الخنزيرِ، وأكْلَ ما ذُكِرَ عليه غيرُ اسمِ الله عند ذَبْحه، ثم ذَكَر سبحانه أنواعًا أُخرى مِن المحرَّمات: وهي ما يموت بالاختناقِ من البَهائم، وما ضُرِبَ بشيءٍ ثقيلٍ غيرِ محدَّدٍ حتى مات، والبهيمةُ التي تتردَّى من مكانٍ عالٍ فتموت نتيجةَ سقوطِها، والتي ماتتْ بسبب نطْحِ غيرِها لها، والتي عدَا عليها سَبُعٌ- كأسدٍ أو ذئبٍ وغيرهما- فماتتْ بذلك، إلَّا ما أمكَنَ تدارُكُه بالذَّكاةِ مِن هذه الأنواعِ، وكانت فيه حياةٌ، فإنَّه يجوز أكْلُه، كما حَرَّم عليهم سبحانه وتعالى ما ذُبِحَ عند الأوثان تقرُّبًا لها، وحرَّم عليهم أن يَطلُبوا عِلمَ ما قُسِمَ لهم، باستخدامِ الأقداحِ؛ كما يَفعل أهلُ الجاهليَّة، فإنَّ كلَّ ما سبق ممَّا حرَّمه الله خروجٌ عن طاعة الله إلى معصيته، ثم أخبَرَ تعالى أنَّ الكفَّار انقطعَ طمعُهم من أن يرتدَّ المؤمنونَ عن دِينهم يوم عرفةَ في حجَّةِ الوداعِ؛ يومَ نَزَلَت هذه الآيةُ؛ فلا يَنبغي للمسلمينَ أن يخافوهم، بل عليهم أن يخافوا اللهَ تعالى؛ فهو في هذا اليومِ أكْمَلَ للمؤمنين دِينَهم، وأَتَمَّ عليهم نِعمتَه، ورَضِيَ لهم دِينَ الإسلام دينًا يتقرَّبون به إلى الله، فمْن ألجأتْه الضرورةُ إلى أكْل شيءٍ من المحرَّماتِ التي ذَكَرَها الله في الآية، غيرَ مُريدٍ للحرامِ، فله تناوُلُ ما يدفع حاجتَه، واللهُ غفورٌ رحيمٌ.
تفسير الآية:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قال تعالى في أوَّل السُّورةِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ ثم ذكَر فيه استثناءَ أشياءَ تُتلَى عليهم في قَوْلِه: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ- ذَكَر هنا تلك الصُّورَ المستثناةَ من ذلك العمومِ
، فقال:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.
أي: حرَّم اللهُ تعالى عليكم- أيُّها المؤمنونَ- أكْلَ المَيْتَة، وهي: ما مات مِن الحيوان حتْفَ أنفِه، من غير ذكاةٍ شرعيَّة، ولا اصطيادٍ .
وَالدَّمُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ الدَّمِ المسفوحِ ، كالذي يخرُج عند الذَّكاةِ، أو يخرج عند فصْد العِرْقِ، وما أشبهَ ذلك .
قال تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام: 145] .
وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ.
أي: وحرَّم عليكم أكْلَ الخِنزيرِ؛ إنسيِّه ووحشيِّه، وظاهرِه وباطنِه؛ فجميعُ أجزائِه مُحرَّمٌ أَكْلُها .
وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ ما ذُبِحَ فذُكر عليه غيرُ اسم ِالله عزَّ وجلَّ .
وَالْمُنْخَنِقَةُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ ما يموتُ بالخَنقِ، سواءٌ بنفسها؛ كإدخالِها رأسَها في شيءٍ ضيِّقٍ، فتعجِز عن إخراجِه حتى تموتَ، أو بخنْقِ غيرِها لها .
وَالْمَوْقُوذَةُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ الموقوذةِ، وهي التي تُضرَب بشَيءٍ ثقيلٍ غير محدَّدٍ حتى تموتَ، كالتي تُضرَب بعصًا، أو حصًى، أو خَشبةٍ .
عن عَديِّ بن حاتمٍ الطائيِّ رضي الله عنه، قال: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إني أُرسِلُ الكِلابَ المُعلَّمةَ، فيُمْسِكْنَ عليَّ، وأذكرُ اسمَ اللهِ عليه؟ فقال: إذا أرسلتَ كلبَك المُعلَّمَ، وذكَرْتَ اسمَ اللهِ عليه، فكُلْ، قلتُ: وإنْ قتلْنَ؟ قال: وإنْ قتلْنَ! ما لم يَشرَكْها كلبٌ ليس معها، قلتُ له: فإنِّي أَرْمي بالمِعراضِ الصَّيدَ، فأصيبُ؟ فقال: إذا رَميتَ بالمعراضِ فخَرَق، فكُلْهُ، وإنْ أصابَه بعَرْضِه، فلا تأكُلْه )) .
وَالْمُتَرَدِّيَةُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ المتردِّيَة، وهي التي تَسقُط من موضعٍ عالٍ فتموتُ بذلك .
وَالنَّطِيحَةُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ المنطوحةِ، وهي التي ماتتْ بسبب نَطْحِ غيرِها لها .
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ التي عَدَا عليها سَبُعٌ، كالأسدِ أو الفهد أو النَّمِر وغيرها، فأكَلَ بعضَها فماتتْ بذلك .
إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ.
أي: إنَ أمكنَ تَداركُ المُنخَنِقةِ والموقوذةِ والمتردِّيةِ والنَّطيحةِ وما أكَلَ السَّبعُ- إنْ أمكن تَداركُها بذَكاةٍ شرعيَّة، وفيها حياةٌ مستقرَّة؛ فإنَّه يحِلُّ أكلُها .
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكلَ ما ذُبِحَ عند الأوثانِ تقربًا لها .
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ.
أي: وحرَّم عليكم- أيُّها المؤمنون- الاستقسامَ بالأزلامِ، وقد كانتِ العربُ في جاهليَّتِها يَتعاطَون ذلك، وهي عبارةٌ عن قِداحٍ ثلاثة، مكتوبٌ على أحدها: «افْعَلْ»، وعلى الآخر: «لا تفعَلْ»، والثالث ليس عليه شيءٌ. وقِيل: كان يُكتَب على الواحِدِ منها: «أَمَرني ربِّي»، وعلى الآخر: «نَهاني ربي»، والثالث ليس عليه شيء، فإذا أجالَها فطَلَع السَّهمُ الآمِرُ فَعَلَه، أو الناهي ترَكَه، وإنْ طلع الفارغُ أعاد الاستقسامَ، حتى يخرجَ أحدُ القَدَحين الآخَرَين فيعمل به .
ذَلِكُمْ فِسْقٌ.
أي: إنَّ سائرَ الأمورِ التي حرَّمها الله تعالى في هذه الآية- كأكْلِ المَيْتَة والدَّمِ ولحمِ الخنزير، والاستقسامِ بالأزلام، وغيرِ ذلك- خروجٌ عن طاعةِ الله تعالى إلى مَعصِيَته .
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ.
أي: الآنَ (والمرادُ باليومِ يومُ عَرفَةَ في حَجَّةِ الوداعِ) انقطَع طمَعُ الكفَّار والمشركينَ من أن ترتدُّوا عن دِينِكم- أيُّها المؤمنون .
فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.
أي: فلا تَخافُوا من المشركين، وخافوني .
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
أي: اليومَ (وهو يومُ عَرفةَ في حَجَّةِ الوداعِ) أكملتُ لكم دِينَ الإسلامِ- أيُّها المؤمنونَ .
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.
أي: وأتممْتُ عليكم نِعمتي- أيُّها المؤمنون- بإظهارِكم على المشركينَ، ونفْيِي إيَّاهم عن بلادِكم، وقطعي طمَعَهم في عودِكم إلى الشِّركِ، وإكمالِ دِينِكم .
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.
أي: واخترتُ واصطفيتُ لكم الإسلامَ دينًا، فكما ارتضيتُه لكم؛ فارْضَوْه أنتم لأنفُسِكم، وقوموا به والْزموه، ولا تتَّخذوا دِينًا سواه .
عن طارِقِ بنِ شِهابٍ، قال: (جاء رجلٌ مِن اليهودِ إِلى عُمرَ، فقال: يا أميرَ المُؤْمِنِينَ؛ آيةٌ في كِتابِكم تَقْرَؤونَها، لو علينا نَزَلتْ- مَعْشرَ اليهودِ- لَاتَّخَذْنا ذلك اليومَ عِيدًا، قال: وأيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] ، فقال عُمرُ: إِنِّي لَأعْلَمُ اليومَ الَّذي نَزَلَتْ فيه، والمكانَ الَّذي نزلَتْ فيه، نزلَتْ على رسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم بعَرفاتٍ في يومِ جُمُعَةٍ) .
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ.
أي: فمَن ألجأتْه الضرورةُ لأكْلِ شيءٍ من هذه المحرَّماتِ، التي ذَكَرها اللهُ تعالى في هذه الآيةِ .
غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ.
أي: غيرَ مُريدٍ لهذه المحرَّماتِ؛ بألَّا يأكُلَ حتى يُضطَرَّ، ولا يَزيدَ في الأكْلِ على كِفايتِه .
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: فله تناولُ ذلك، واللهُ غفورٌ له؛ لأنَّه تعالى يعلَمُ حاجةَ عبْدِه المضطرِّ، وافتقارَه إلى ذلك؛ فيتجاوزُ عن أكْلِ ما حرَّمَه، ورحيمٌ به حيثُ أباحَ له الأكْلَ في هذه الحالِ
.
الفوائد التربوية:
1- عِظَم خَطر الشِّرك، وأنَّه يؤثِّرُ حتى في الذبائح؛ لقوله: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ
.
2- تأثيرُ النيَّة في العملِ؛ لقوله: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ أي: للأصنامِ؛ فإنَّه يكون حرامًا حتى ولو ذُكِرَ اسمُ الله عليه؛ وذلك لتأثير النيَّة، وأنَّ النيَّةَ تؤثِّرُ حتى في حِلِّ الشيءِ وتحريمِه، وكذلك في قوله: غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ .
3- تحريمُ خَشية الكفَّارِ التي يترتَّب عليها المُداهنةُ في دِينِ الله؛ لقوله: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ .
4- التَّحريضُ بأكملِ ما يكونُ على التمسُّكِ بما شرَعَ اللهُ تعالى، وذلك في قولِه سبحانه: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ؛ لأنَّه قد حصَل لهم اليأسُ مِن دينِكم؛ فإذا صارَ الأمرُ كذلك فيجبُ عليكم ألَّا تَلْتَفِتوا إليهم وألَّا تخافوهم، وأنْ تُقبِلوا على طاعةِ الله عزَّ وجلَّ، والعملِ بشَرائعِه
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَدْ حرَّم الله الاستقسامَ بالأزلامِ في قوله: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ؛ لأنَّه من الخُرافاتِ والأوهامِ التي لا يَركَنُ إليها إلَّا مَن كان ضعيفَ العقل؛ يَفعلُ ما يَفعلُ من غير بيِّنةٍ ولا بصيرةٍ، ويترُك ما يترُك عن غير بيِّنةٍ ولا بصيرةٍ، ويَجعل نفْسَه أُلعوبةً للكَهَنَة والسَّدَنَة، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأْلَ فيه ولا شُؤْم، فلا غَرْوَ أنْ يُبطِلَ ذلك دِينُ العقْلِ والبصيرة والبرهان، كما أَبطَلَ التطيُّرَ
، والكِهانةَ ، والعِيافةَ ، والعِرافة ، وسائرَ خُرافات الجاهليَّة، ولا يَليق ذلك كلُّه إلَّا بجهلِ الوثنيَّةِ وأوهامِها .
2- قوله: ذَلِكُمْ فِسْقٌ المشارُ إليه كلُّ ما سبَق؛ لأنَّ القاعدةَ: أنَّه إذا أمكن أن يعودَ اسمُ الإشارةِ أو الضَّميرُ إلى كلِّ ما سبَق، حُمِلَ عليه .
3- قوله: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الفرق بين الخَشْيَةِ والخوف: أنَّ الخشية تكون عن عِلمٍ، والخوف لا يلزم أن يكونَ عن عِلمٍ، كذلك الخشيةُ تكون مِن عِظَمِ الْمَخْشِيِّ، وإنْ كان الخاشي قويًّا، لكنَّ الْمَخْشِيَّ يكون أقوى منه، والخوف لا يدلُّ على عِظَم الْمَخُوفِ، وإنَّما يدلُّ على ضَعْف الخائِفِ أمامَ مَن يَخاف منه وإنْ لم يكن قويًّا، وهذا فرقٌ واضِحٌ؛ فالطِّفل الذي له أربعُ سَنواتٍ يَخاف من الطِّفلِ الذي له ثمانِي سنواتٍ، مع أنَّ الثاني ضعيفٌ، لكنَّ الذي يَخشى مِن مَلِك أو صاحبِ سلطانٍ قويٍّ، هذا يُـقال: إنَّه خاشٍ .
4- قوْلُه تعالى: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ المرادُ من الدِّين دِينُ الإسلامِ، وإضافتُه إلى ضَميرِ المسلمين؛ لتشريفِهم بذلك ، وليَفْخروا ويعتزُّوا بتمسُّكِهم به، ويُدافِعوا عنه .
5- بيانُ نِعمة الله على هذه الأمَّة- وله الحمدُ والمِنَّة- بإكمالِ الدِّين؛ لقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، فهذه أكبَرُ نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ على هذه الأمَّةِ؛ حيث أكمَلَ تعالى لهم دينَهم، فلا يحتاجونَ إلى دينٍ غَيرِه، ولا إلى نبيٍّ غيرِ نَبيِّهم- صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليه؛ ولهذا جَعَله اللهُ خاتَمَ الأنبياءِ، وبعَثَه إلى الإنسِ والجِنِّ، فلا حلالَ إلَّا ما أحَلَّه، ولا حرامَ إلا ما حَرَّمه، ولا دِينَ إلا ما شَرَعه. وفيه بيانُ شرَفِ ذلك اليوم الذي أُكْمِلَ فيه الدِّينُ؛ لأنَّه لولا ذلك لم يكُن لقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فائدةٌ .
6- في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بيانُ أنَّ الدِّين كاملٌ، فكل مُتكلِّف يزعُمُ أنَّه لا بدَّ للنَّاسِ- في مَعرفةِ عقائدِهم وأحكامِهم - مِن معرفةِ علومٍ غيرِ عِلم الكتابِ والسُّنة، من عِلم الكلامِ وغيره؛ فهو جاهلٌ، مُبطِلٌ في دعواه، قد زعَم أنَّ الدِّين لا يكمُل إلَّا بما قالَه ودعا إليه، وهذا من أعظمِ الظُّلم والتَّجهيلِ لله ولرسولِه ، قال الإمامُ مالِكُ بنُ أنسٍ: (مَن أحدَثَ في هذه الأمَّةِ شيئًا لم يكُنْ عليه سَلَفُها؛ فقد زعم أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم خان الرِّسالةَ؛ لأنَّ اللهَ يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، فما لم يكُنْ يومَئذٍ دِينًا؛ فلا يكونُ اليومَ دِينًا) .
7- قوْلُه تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا فيه إشارةٌ لى أنَّ نَسْخَ الأحكامِ قد انتهى، وأنَّ هذا الدِّين دينٌ أبديٌّ؛ لأنَّ الشيءَ المختار المدَّخر لا يكونُ إلَّا أَنْفَسَ ما أُظْهِرَ من الأديانِ، والأَنفَسُ لا يُبطِلُه شيءٌ؛ إذ ليس بعده غايةٌ .
8- أفاد قولُه: فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بعد قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ حُكمًا شرعيًّا، وهو أنَّه تعالى غفَر للمضطرِّ الذنبَ بتناوُلِ هذا المحرَّم، ورحمِه بإباحتِه له، فالأحكامِ تؤخَذُ من أسماء الله عزَّ وجلَّ؛ لا سيَّما المتعدِّيَة، فلا بدَّ أن يكونَ لها أثرٌ، كما في قوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 34] يعني: إذا تاب قُطَّاعُ الطريق قبل القُدرَةِ عليهم سقَطَ عنهم الحدُّ
.
بلاغة الآية:
1- قوله: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ: خصَّ المنخنقةَ وما عُطفِ عليها مِن الْمَيتاتِ بالذِّكر- مع كونِها داخلةً في عمومِ الْمَيتةِ بالمعنى الشَّرعي-؛ لأنَّ بعضَ العربِ في الجاهليَّةِ كانوا يأكلونَها، ولئلَّا يغترَّ أحدٌ باستباحةِ بعضِ أهلِ الجاهليَّةِ لها، ولئلَّا يشتَبِهَ فيها بعضُ النَّاسِ؛ لأنَّ لِمَوتها سببًا معروفًا
.
2- قوْلُه تعالى: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ما ذُبِح على النُّصُبِ جزءٌ مِمَّا أُهِلَّ به لغيرِ اللهِ، لكن خُصَّ بالذِّكر بَعدَ جِنسِه؛ لشُهرةِ الأَمْرِ، وتَعظيمِ النُّفوسِ له ، ولإزالة وَهمِ مَن توهَّم أنه قد يَحِلُّ بقصْدِ تعظيمِ البيتِ الحرامِ إذا لم يُذكَرِ اسمُ غيرِ اللهِ عليه .
3- قوله: ذَلِكُمْ فِسْقٌ: اعتراضٌ وقَعَ بين آيةِ المحرَّماتِ المتقدِّمة، وبين آية الرُّخصة الآتية: وهي قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ، وفائدتُه تأكيدُ معنى التحريمِ، وكذلك ما بعده الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ...؛ لأنَّ تحريمَ هذه الخبائِثِ من جُملة الدِّين الكامِلِ والنِّعمةِ التامَّة، والإسلامِ المنعوتِ بالرِّضا دونَ غيرِه من المِلَل .
4- قوْلُه تعالى: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ أفاد مفادَ صِيغةِ الحصر، ولو قيل: (فإيَّاي فاخشون) لجرَى على الأكثر في مقامِ الحَصْر، ولكن عدَل إلى جُملَتَي نفيٍ وإثباتٍ؛ لأنَّ مفاد كِلتا الجملتينِ مقصودٌ، فلا يَحْسُن طيُّ إحداهما، وهذا من الدَّواعي الصَّارِفَة عن صيغةِ الحَصْر إلى الإتيان بصِيغتَيْ إثبات ونفي
=====4.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (4 - 5)
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ
غريب الكلمات:
الْجَوَارِحِ: أي: الصَّوائِدِ أو الكَواسِبِ- كالكِلابِ والفُهودِ، والصُّقورِ وأشباهِها- وهي ما صِيدَ به من سِباعِ البَهائِمِ والطَّير، أو كِلابِ الصَّيد، وأصلُ الاجتراح: الاكتسابُ
.
مُكَلِّبِينَ: أي: أصحابَ ضَوارٍ وكلابٍ، وَالمُكَلِّبُ: الذي يعلِّم الكلبَ، ويُقال: رجلٌ مُكلِّبٌ وكَلَّابٌ، أي: صاحبُ صيدٍ بالكِلابِ .
الْمُحْصَنَاتُ: ذواتُ الأزواجِ، والمحصناتُ أيضًا: الحرائرُ وإنْ لم يَكُنَّ مزوَّجاتٍ، والعفائفُ، فهي مُحْصَنَة، إما بعفَّتها، أو تزوُّجها، أو بمانِعٍ مِن شَرَفِها وحُرِّيَّتِها، وأصلُ الحِصن: الحِفظُ والحياطةُ والحِرز .
مُحْصِنِينَ: أي: متزوِّجين وأعفَّاءَ بالنِّكاحِ، وأصلُ الحِصن: الحِفظُ والحِياطةُ والحِرز .
مُسَافِحِينَ: جمْعُ مسافِح، وهو الزَّاني، أو المجاهِر بالزِّنا، الذي يَصبُّ ماءَه حيث اتُّفِقَ، مِن سَفَحْتُ القِربةَ: إذا صَببْتَها، وسُمِّي الزِّنا سفاحًا؛ لأنَّه يُسافَحُ فيه، أي: يَصُبُّ الرَّجلُ النُّطفةَ وتَصُبُّ المرأةُ النُّطفةَ، وأصل (سفح): يدلُّ على إراقةِ شيءٍ .
أَخْدَانٍ: جمْع خِدْن، وهو الزَّاني سرًّا، أو مُصاحِبٌ وصَديق، أو خليلٌ في السِّرِّ، ويُطلَقُ كذلك على الحبيبِ والرَّفيق، وأكثرُ ذلك يُستعملُ فيمَن يصاحبُ بشهوةٍ؛ يُقال: خِدْنُ المرأةِ وخَدينُها، وأصل (خدن): المصاحَبة .
حَبِطَ: أي: بطَلَ؛ فالحَبَط: البُطلانُ والألَم، وأصلُه: أن تُكثِرَ الدابَّةُ أكلًا حتى يَنتفخَ بطنُها فتموتَ
.
مشكل الإعراب:
مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ.
مُكَلِّبِينَ: منصوبةٌ، حالٌ مِن فاعل عَلَّمْتُمْ، والتَّقدير: علَّمتُم الجَورِاحَ حالَ كونِكم مُؤدِّبينَ ومدرِّبين ومُعوِّدينَ لها على كيفيَّة الصَّيدِ.
تُعَلِّمُونَهُنَّ: فعلٌ وفاعلٌ ومفعولٌ، والجملةُ مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب، أو تكون في محلِّ نَصْبٍ، على أنها حالٌ ثانيةٌ من فاعِل عَلَّمْتُمْ، أو حالٌ من الضَّميرِ المستترِ في مُكَلِّبِينَ فتكونُ حالًا من حالٍ، وتُسمَّى المتداخِلَةَ، وعلى كلا التقديرينِ فهي حالٌ مؤكِّدةٌ؛ لأنَّ معناها مفهومٌ مِن عَلَّمْتُمْ ومِن مُكَلِّبِينَ
.
المعنى الإجمالي:
يقولُ الله تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إنَّ أصحابَك يسألونَك عمَّا يُباحُ لهم أكْلُه من الأطعمةِ، ثم أمَرَه أن يُجيبَهم: أنَّ اللهَ أحلَّ لهم أكْلَ الطيِّباتِ، وأباحَ لهم أكْلَ ما اصطادوه عن طريقِ ما يَصيدُ بِنابِه أو مِخلَبِه من السِّباعِ والطُّيورِ، كالكِلاب والصُّقورِ، إذا عَلَّموها ودَرَّبوها على طريقةِ الصَّيد، يُعلِّمونها ممَّا امتنَّ اللهُ عليهم من العِلم بآدابِ الصَّيد، فلْيَأكلوا ممَّا أمسكْنَه لأجْلِهم؛ ولْيَذكروا اسمَ الله عليها عندَ إرسالها للصَّيد، ولْيتَّقوا اللهَ؛ فإنَّه سريعُ الحسابِ. ثم أخبَرَ تعالى عن بعضِ مظاهرِ إسباغِ نِعمِه وإكمالِ دِينه، وتيسيرِ شَرعِه، ومن ذلك أنَّه سبحانه أحل لأهلِ الكِتاب من اليهودِ والنَّصارى ذبائِحَ المسلمين؛ فلهم أن يطْعِموهم مِنها وأحلَّ للمسلمين التمتُّعَ بالطيِّباتِ، وأحلَّ لهم أكْلَ ذبائِحِ أهلِ الكِتاب من اليهودِ والنَّصارى ونِكاحَ الحرائرِ العفيفاتِ من المؤمناتِ، والحرائر العفيفاتِ من الكتابيَّات، إذا أعْطَوهُنَّ مُهورَهنَّ، في حالِ كون الأزواجِ أعِفَّاء بالنكاح، غير مُعلِنين بالزِّنا، ولا متَّخذين عشيقاتٍ يزنون بهن في السرِّ، فكما شرط العفة عن الزنا في النساء كذلك شرطها في الرجال، وأَخْبَر الله تعالى أنَّ مَن كفَر به، وكَفَر بما يجبُ الإيمانُ به؛ فقد حَبِطَ عمَلُه، وتوعَّده بأنَّه في الآخِرة من الهالِكينَ
تفسير الآيتين:
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4).
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى ما حرَّمه في الآيةِ المتقدِّمةِ من الخبائثِ الضارَّة لمُتناوِلِها- إمَّا في بدَنِه، أو في دِينه، أو فيهما- واستثنى ما استَثْناه في حالةِ الضرورةِ
- شرَع في بيانِ ما أحلَّه لهم ، فقال تعالى:
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ.
أي: يسألُكَ أصحابُك- يا محمَّد- ما الذي أُبيحَ لهم أكْلُه من الأطعِمَةِ ؟
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ.
أي: قلْ يا محمَّدُ: أُبيحَ لكم أكْلُ الطيِّباتِ، وهي الحلالُ الذي أَذِنَ لكم ربُّكم في أكْلِه من كلِّ ما فيه نفعٌ أو لذَّة، من غيرِ ضَررٍ بالبدنِ ولا بالعَقلِ .
وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ.
أي: وأُبيحَ لكم أيضًا أكْلُ ما اصطادَه لكم سِباعُ البَهائِم والطَّيرِ-كالكِلاب والصُّقور وغيرها- التي علَّمتموها؛ مُؤدِّبينَ لها ومُدرِّبين إيَّاها على كيفيَّةِ اقتناصِ الصَّيدِ .
تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ.
أي: تُؤدِّبون الجوارحَ، وتُدَرِّبونَهنَّ على طلبِ الصَّيدِ لكم، ممَّا منَّ الله تعالى به عليكم من العِلم بآدابِ الصَّيدِ، وذلك كأنْ يسترْسِلَ الجارحُ إذا أُرْسِلَ، ويَنزجرَ إذا زُجِرَ .
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ.
أي: فكُلوا- أيُّها الناس- ممَّا أمسكتْ جوارحُكم من الصَّيدِ لأجلِكم .
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ.
أي: واذكُروا اسمَ الله عندَ إرسالِ الجارِح .
عن عَدِيِّ بن حاتمٍ الطائيِّ رضي لله عنه، أنه قال: ((يا رسولَ اللهِ، إنِّي أُرسِلُ كَلبي وأُسَمِّي، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إذا أَرْسَلْتَ كلَبَك وسمَّيتَ، فأخَذ فقتَل فأكَل فلا تأكُلْ، فإنَّما أمسَك على نَفْسِه، قُلتُ: إني أُرْسِلُ كلبي فأجِدُ معَه كلبًا آخَرَ، لا أدري أيُّهما أخَذَه؟ فقال: لا تأكُلْ؛ فإنَّما سمَّيْتَ على كلبِكَ ولم تُسَمِّ على غيرِه )) .
وَاتَّقُوا اللهَ.
أي: امتثِلوا ما أمَرَكم اللهُ تعالى به، واجتنِبوا ما نهاكم عنه .
إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
أي: إنَّ الله سبحانه سريعُ الإحْصاءِ لأعمالِ عبادِه، سريعُ المجازاةِ لهم، يُحاسِبُ الخلائقَ يومَ القيامةِ على أعمالِهم في مدَّةٍ وجيزٍة جدًّا، وإن حسابَه عزَّ وجلَّ قريبٌ؛ لسرعةِ انقضاءِ الدُّنيا .
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أخبَرَ الله تعالى في الآيَةِ المتقدِّمةِ أنَّه أحلَّ الطيِّباتِ، وكان المقصودُ من ذِكره الإخبارَ عن هذا الحُكم، ثم أعاد ذِكرَه في هذه الآيةِ، والغَرضُ من ذِكره أنَّه قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فبَيَّن أنَّه كما أكملَ الدِّين وأتَمَّ النِّعمةَ في كلِّ ما يَتعلَّق بالدِّين، فكذلك أتمَّ النِّعمةَ في كلِّ ما يتعلَّق بالدُّنيا .
وأيضًا لَمَّا كان أهلُ الكتابِ في الأصل أهلَ توحيدٍ، ثم سَرَتْ إليهم نزَغَاتُ الشِّركِ ممَّن دخَل في دِينهم من المشركين، ولم يُشدِّدوا في الفصلِ بينهم وبين ماضيهم، وكان هذا مَظِنَّةَ التشديدِ في مُؤاكلةِ أهلِ الكتابِ ومُناكَحَتِهم، كما شدَّد في أكْلِ ذَبائحِ مشركي العربِ ونِكاح نسائِهم- بيَّن اللهُ في هذه الآيةِ ألَّا نُعامِلَ أهلَ الكتابِ معاملةَ المشركينَ في ذلك، فأحلَّ لنا مؤاكلتَهم، ونِكاحَ نسائِهم ، فقال:
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ.
أي: اليومَ أباح اللهُ تعالى لكم- أيُّها المؤمنون- الحلالَ من الذَّبائِحِ والأطعمةِ ممَّا ليس بضارٍّ ولا مُستقذَرٍ، دون الخبيثِ منها .
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ.
أي: وذبائحُ أهلِ الكتابِ من اليهودِ والنَّصارى حلالٌ لكم- أيُّها المؤمنون- أكْلُها .
وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ.
أي: وذبائِحُكم- أيُّها المؤمنونَ- حلالٌ لليهودِ والنَّصارى؛ فلكم أن تُطْعِموهم مِن ذبائحِكم .
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ.
أي: وأحلَّ لكم- أيُّها المؤمنون- نِكاحَ الحرائرِ العفيفاتِ من النِّساءِ المؤمناتِ .
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ.
أي: وأحلَّ لكم- أيُّها المؤمنون- أيضًا نِكاحَ الحرائرِ العفيفاتِ من نِساء اليهودِ والنَّصارى .
إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
أي: إذا أعطيتُم مَن نَكحتُم- من مُحصناتِكم ومُحصناتِهم- مُهورَهنَّ .
مُحْصِنِينَ.
أي: حالةَ كونِكم مُحْصِنِينَ لنِسائكم؛ بسببِ حفِظكم لفروجِكم عن غَيرِهنَّ، وعفَّتِكم عن الزِّنا .
غَيْرَ مُسَافِحِينَ.
أي: ولستُم كذلك بالزُّناة المُعلِنين بالزِّنا، الذين يَزنون بأيِّ امرأةٍ كانت، ولا يردُّون أنفُسَهم عمَّن جاءَهم .
وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ.
أي: ولا مِن ذوي العَشيقاتِ الذين لا يَفعلون الفاحشةَ إلَّا خُفيَةً معهنَّ .
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.
أي: ومَن كفَر بالله تعالى وما يجبُ الإيمانُ به، فقد بطَلَ ثوابُ عملِه الذي كان يَعملُه في الدُّنيا، إنْ مات على كُفرِه .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 217] .
وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
أي: وهو في الآخِرةِ من الهالِكين، الذين خَسِروا أنفُسَهم وأموالَهم وأهليهم يومَ القيامَةِ، وحصَلوا على الشَّقاوةِ الأبديَّة
.
الفوائد التربوية:
1- حِرصُ الصَّحابة رضي الله عنهم على العِلم؛ لقوله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ، ومِن هنا نَعرفُ أنَّ ما لم يَسألِ الصحابةُ عنه ممَّا يرِدُ السؤال عنه في عصرِنا من أمورِ الغيبِ، فالسؤال عنه بدعةٌ؛ لأنَّنا نعلم أنه لو كان هناك خيرٌ في العلم به لأَلْهَم الله الصحابةَ أن يسألوا عنه؛ حتى يَتبيَّنَ الأمرُ
.
2- قولُ الله تعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ (تعلمونهنَّ) المقصود منه المبالغةُ في اشتراطِ التَّعليمِ، أي: أن يكون مَن يُعلِّم الجوارحَ نِحريرًا في عِلمه، مُدرَّبًا فيه، فقيهًا عالِمًا بالشَّرائط المعتبرَة في الشَّرع لحِلِّ الصيد، ففيه فائدةٌ جليلةٌ، وهي أنَّ على كلِّ طالبٍ لشيءٍ ألَّا يأخذَه إلَّا مِن أجَلِّ العلماءِ به، وأشدِّهم درايةً له، وأغوصِهم على لَطائِفِه
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ أنَّ التَّحليلَ والتحريمَ ليس إلى العِباد، بل هو إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وقد حذَّرَنا اللهُ عزَّ وجلَّ من أن نُحلِّل أو نحرِّم بأهوائِنا، فقال: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ [النحل: 116] ، وأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا يستقلُّ بالتحليلِ أو التَّحريمِ، وجه ذلك: أنَّ الرسولَ لم يُجِبْهم، ولكنَّ الله تعالى أجابَهم، فقال: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
.
2- أنَّ كلَّ ما أحلَّه اللهُ تعالى فهو طيِّب؛ نافعٌ للبَدَن ونافعٌ للقلب، ونافعٌ للفَرْد ونافعٌ للمجتمع؛ لقوله: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وأيضًا نأخُذ من المفهومِ أنَّ كلَّ ما حرَّمه الله تعالى فهو خبيثٌ .
3- قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ نصَّ في هذه الآيةِ ونظائِرِها على إباحةِ المستلذَّات والطيِّبات، فصار هذا أصلًا كبيرًا، وقانونًا مرجوعًا إليه في معرفةِ ما يَحِلُّ ويَحرُم من الأطعمةِ؛ فالطيِّباتُ وصفٌ للأطعمة قُرِن به حُكمُ التحليلِ؛ فدلَّ على أنَّ الطيِّبَ علَّةُ التحليلِ، وأفاد أنَّ الحرامَ ضدُّه، وهو الخبائثُ .
4- في قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ لُطْفُ اللهِ بعباده ورَحمتُه بهم؛ حيث وسَّعَ عليهم طُرُقَ الحلالِ .
5- جوازُ اقتناءِ كَلب الصَّيدِ، مع أنَّ اقتناءَ الكلب مُحرَّمٌ؛ لأنَّ مِن لازِمِ إباحةِ صَيده وتَعليمِه جوازَ اقتنائِه، وطهارةَ ما أصابه فمُ الكلْبِ من الصَّيد؛ لأنَّ الله أباحه ولم يذكُرْ له غَسلًا؛ فدلَّ على طهارَتِه؛ قال تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ .
6- في قوله تعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ فضيلةُ العِلم، وأنَّ الجارِحَ المـُعلَّم- بسبب العِلم- يُباحُ صيدُه، والجاهل بالتَّعليمِ لا يُباح صيدُه .
7- أنَّ الاشتغالَ بتعليمِ الكلبِ أو الطَّيرِ أو نحوهما، ليس مذمومًا، وليس من العبَثِ والباطِلِ، بل هو أمرٌ مقصودٌ؛ لأنَّه وسيلةٌ لحِلِّ صيدِه والانتفاعِ به، يُؤخَذ ذلك مِنْ قَوْلِه تعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ .
8- قوله: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ الجوارحُ يَدخُل فيها كلُّ ما يُمكنُ الاصطيادُ به، كالفهدِ والسِّباعِ والعُقابِ والصَّقرِ وغيرها؛ فهذه كلُّها جوارحُ، وإنَّما عبَّر بقوله: مُكَلِّبِينَ؛ لأنَّ المكلِّبَ هو مُؤدِّبُ الجوارحِ ومُعلِّمُها أنْ تصطادَ لصاحبِها، وأصلُ (كلب) يدلُّ على تَعلُّقِ الشَّيءِ بالشَّيءِ في شِدَّةٍ وشِدَّةِ جَذْبٍ، ومِن ذلك: الكَلْبُ. وإنما اشتُقَّ اسمُ (مُكلِّبِين) مِن الكَلْبِ؛ لأنَّ التأديبَ أكثرُ ما يكونُ في الكِلاب؛ فاشتُقَّ منه هذا اللفظُ لكثرتِه في جِنسِه. وأيضًا لأنَّ كلَّ سَبُع فإنَّه يُسمَّى كلبًا. أو يكون قوله: مُكَلِّبِينَ مأخوذًا مِن الكَلَب الذي هو بمعنى الضَّراوةِ والحِرص على الشيء، ولو فُرِض أنَّ المذكور في هذه الآية إباحةُ الصيدِ بالكلْبِ فقط؛ فتخصيصُه بالذِّكرِ لا يَنفي حِلَّ غيره؛ بدليلِ أنَّ الاصطيادَ بالرَّمْي ووضْعِ الشَّبكةِ جائزٌ، وهو غيرُ مذكورٍ في الآيةِ .
9- قطعُ ما يُوجِبُ الإعجابَ بالنَّفْس؛ لأنَّ قوله: تُعَلِّمُونَهُنَّ فيه إسنادُ التعليمِ إلى البَشرِ، فقدْ يُزهَى الإنسانُ بنفْسِه ويغترُّ ويُعجَب؛ فلهذا قال الله عزَّ وجلَّ: مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ؛ إشارةً إلى أنَّ عِلمَك الذي تُعلِّمه إيَّاهنَّ مَصدُره مِن عندِ الله عزَّ وجلَّ .
10- قوله: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ، فيه توسعةُ الله عزَّ وجلَّ على عبادِه في أسبابِ الرِّزقِ، فقد رَخَّص في الصيد بالجارحةِ؛ لأنَّه يشقُّ على الإنسانِ أن يصطادَ الصيدَ بنفسِه في كلِّ وقتٍ وحينٍ؛ لأنَّ المصيدَ ربَّما يكون مَثلًا في جبالٍ أو في سهولٍ أو في أوديةٍ، ولا يستطيعُ أن يَصيدَه بنفسِه .
11- أنَّه يجوزُ أكْلُ ما صادَه الجارحُ، سواء قتَلَه الجارحُ أم لا، قال سبحانه: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وإنْ أدركَه صاحِبُه، وفيه حياةٌ مستقرَّة، فإنَّه لا يُباحُ إلَّا بتذكيتِه .
12- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أنَّ الأصلَ في الأطعمَةِ الحِلُّ، ومن الأدلَّة أيضًا قولُه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] ، فالأصلُ الحِلُّ، ومَن ادَّعى في شيءٍ التحريمَ لزِمَه الدليلُ على ذلك .
13- أنَّ مَن سِوى اليهودِ والنَّصارى لا تَحِلُّ ذَبيحتُهم؛ كالمجوسِ والوثنيِّين والشيوعيِّين والمشركينَ ومَن أشبَهَهم؛ يُؤخَذُ ذلِك من مفهومِ قولِه: الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ .
14- حِلُّ المحصَنات من أهلِ الكتابِ كحِلِّ المحصَناتِ من المؤمنات؛ لأنَّ الله قال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ؛ فالله يُبيِّن أنَّ المحْصَناتِ من المؤمناتِ والمحصناتِ من الذين أُوتُوا الكتابَ سواءٌ في الحِلِّ، ولكنْ لا يلزَمْ من تساويهنَّ في الحِلِّ أن يتساوَيْنَ في الإقدامِ عليهنَّ، قد يكون الشيءُ حلالًا، ولكن نقول: الأفضلُ ألَّا تُقْدِمَ عليه .
15- أنَّ المهرَ بمنزلةِ الأُجرةِ؛ لقوله: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ، وتقييدُ الحِلِّ بإيتاءِ الأُجورِ؛ لتأكيدِ وُجوبها، والحثِّ على ما هُوَ الأَوْلى .
16- أنَّ المقصودَ الأعظمَ من النِّكاح هو الإحصانُ؛ لقوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ .
17- الإشارةُ إلى أنَّه يَنبغي إعلانُ النِّكاحِ؛ لأنَّه قال: غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ، والأَخدانُ الأخلَّاءُ في السِّرِّ .
18- أنَّ الاستمتاعَ بالنِّساءِ ينقسِمُ إلى أقسامٍ في قوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ: تحصين، وسِفاح، واتِّخاذ أخدان، والفرقُ بينها: أنَّ الأوَّل: عَقْد شرعيٌّ، والثاني: زِنًا مُعلَن، والثالث: زِنًا سِرِّيٌّ .
19- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ، ومِنْ قَوْلِه: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ طهارةُ بدَنِ الكافر؛ لأنَّه لا بدَّ أن يلامسَ الطَّعامَ، وأيضًا في النِّكاحِ لا بدَّ أن يكونَ مِنَ الزَّوجِ مع زوجته الكتابيَّة ما يَقتضي التنجيسَ لو كانت نجِسةً، وفي الآيةِ أيضًا دليلٌ على أنَّ آنيتَهم طاهرةٌ، إلَّا ما عُلِم نجاستُه منها؛ كأواني المسلمينَ .
20- أنَّ الإماءَ مِن أهل الكتابِ لا يُبَاح للمسلمِ الزواجُ بهنَّ ولو خاف العنَتَ؛ دليله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، أمَّا الإماءُ من المؤمنات فيحلُّ للمسلمِ الزواجُ بهنَّ عند الضَّرورةِ على حسَب ما ورد في سورة النساءِ مِنْ قَوْلِه: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء: 25] .
21- قول الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ جملةٌ معترِضَةٌ بين الجُمل، والمقصود التنبيهُ على أنَّ إباحةَ تزوُّجِ نِساءِ أهلِ الكتابِ لا يَقتضي تزكيةً لحالِهم .
22- قولُ الله تعالى: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ تسميةُ المهرِ بالأجْرِ يدلُّ على أنَّ الصَّداقَ لا يَتقدَّرُ، كما أنَّ أقلَّ الأجرِ لا يتقدَّر في الإجاراتِ .
23- ذَكَر الله تعالى حِلَّ المُحصَنات من المؤمناتِ في أثناءِ إباحةِ طعامِ أهلِ الكتاب وإباحةِ تزوُّجِ نسائهم فقال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ؛ إيماءً إلى أنهنَّ أَوْلى بالمؤمنينَ من مُحصَناتِ أهلِ الكِتاب
.
بلاغة الآيتين:
1- قوله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ: عبَّر بالمضارِعِ في قوله: يَسْأَلُونَكَ؛ للدَّلالةِ على تجدُّد السُّؤالِ، أي: تكرُّره، أو توقُّع تكرُّره
.
2- قوله: وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ:
- تذييلٌ عامٌّ خُتمت به آية الصَّيد، وهو عامُّ المناسَبةِ .
- وقوله: إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ جملة خبريَّة مؤكَّدة بـإِنَّ، والغرضُ منها التخويفُ من اجتنابِ التقوى، وأنَّ مَن لم يتَّقِ الله، فـإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي: إنَّ الله تعالى سيُحاسِبكم على أعمالِكم، وقوله: سَرِيعُ الْحِسَابِ يتضمَّن سُرعةَ التنفيذِ من وجهٍ، وسرعةَ الوقتِ من وجهٍ آخَرَ .
- وإظهارُ الاسمِ الجليلِ (الله) في موقعِ الإضمار؛ لتربيةِ المهابة، وتعليلِ الحُكمِ .
3- قوله: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ: فيه تَكرارُ (اليوم) للتأكيدِ، وهذا بناءً على أنَّ المرادَ بالأيَّامِ الثلاثةِ وقتٌ واحدٌ ، وفائدةُ إعادةِ ذِكر إحلالِ الطيِّباتِ: التنبيهُ بإتمامِ النِّعمةِ فيما يَتعلَّق بالدُّنيا .
=====5.
سُورةُ المائِدَةِ
الآية (6)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
غريب الكلمات:
الْمَرَافِقِ: جمْع مِرْفَق، وهو مَوْصِلُ الذِّراعِ في العَضُد، وسُمِّي مِرفقًا؛ لأنَّه يُستراحُ في الاتِّكاءِ عليه؛ يُقال: ارتفق الرَّجُل: إذا اتَّكأ على مِرفقِه في جُلوسِه
.
جُنُبًا: أي: إنْ أصابتْكم الجَنابة؛ سُمِّيت الجنابةُ بذلك؛ لكونِها سببًا لتجنُّب الصلاةِ في حُكم الشَّرعِ، وأصل (جنب): البُعد .
الْغَائِطِ: هو كنايةٌ عن قَضاءِ الحاجةِ؛ والغائطُ المطمئِنُّ من الأرضِ، وجُعِلَ كنايةً عن قضاءِ الحاجةِ؛ لأنَّهم كانوا إذا أرادوا قَضاءَ الحاجةِ أتَوْا غائطًا من الأرضِ، ففَعلوا ذلِك فيه؛ فقِيل لكلِّ مَن قضَى حاجتَه: مُتغوِّط، وأُطْلِقَ الغائطُ على العَذِرَة نفْسِها. وأصْل (غوط): يدلُّ على اطمئنانٍ وغورٍ .
فَتَيَمَّمُوا: اقصِدوا وتَعمَّدوا، وأصلُ التيمُّم: قصْدُ الشيء وتعمُّده .
صَعِيدًا: ترابًا، والصَّعيد: الغُبار الذي يَصعَد؛ من الصُّعود، ويُطلق أيضًا على وجْه الأرض .
حَرَجٍ: أي: ضِيق وإثم، وأصل الحرَج: تجمُّع الشيء وضيقُه
.
مشكل الإعراب:
قوله: وَأَرْجُلَكُمْ: قُرِئ بالنَّصب والجرِّ؛ فعلى قِراءةِ النَّصْب تكون معطوفةً على الوجوه والأيدي في فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ؛ أي: فاغْسلوا وجوهَكم وأيديَكم وأرجلَكم. وقيل: هي معطوفةٌ على موضِع بِرُؤوسِكُمْ، والأوَّل أقوى؛ لأنَّ العطفَ على اللفظ أقوى من العَطف على الموضِع. وأمَّا على قِراءة الجرِّ- وهي مشهورةٌ كشهرة النَّصب- فإنَّها تُعرَب على الجوارِ؛ فتكون معطوفةً على بِرُؤوسِكُمْ في الإعرابِ، والحُكم مختلفٌ؛ فالرؤوسُ ممسوحةٌ، والأرجلُ مغسولةٌ، ويُمكِنُ أنْ تكونَ مَعطوفةً على بِرُؤُوسِكُمْ لفظًا ومعنًى، أي: إعرابًا وحُكمًا، ويُحمَل مَسْحُ الأَرْجُلِ على بَعضِ الأحوالِ، وهو لُبْسُ الخُفِّ، وقيل غيرُ ذلك
.
المعنى الإجمالي:
يَأمُر اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنين إذا أرادوا القيامَ إلى الصَّلاةِ أن يَغسِلوا وجوهَهم، وأيديَهم من أطرافِ الأصابِعِ إلى المِرفقينِ، وأن يَمْسحوا جميعَ الرأسِ، ويَغسِلوا أرجلَهم مِن أطرافِ الأصابِعِ إلى الكَعبينِ، ويأمُرهم سبحانه- إنْ أصابتْهم جَنابةٌ- أن يَغتسِلوا إذا ما أرادوا القيامَ إلى الصَّلاة، وإنْ كانوا مَرْضَى يتعذَّرُ عليهم استعمالُ الماء، أو مُسافرين، أو قَضَى أحدهم حاجتَه من بولٍ أو غائط، أو لامَس النِّساءَ، ولم يجدْ ماءً لِيتطهَّرَ به، فلْيقصدْ وجهَ الأرضِ الطاهرَ النَّظيفَ، ولْيَمْسح منه وجهَه وكفَّيه، ثم أخبر تعالى أنَّه شرَع هذه الأحكامَ حتى لا يجعلَ الناسَ في عُسرٍ وحَرَجٍ، فالله سبحانه يُريد أن يُطهِّر عبادَه ظاهرًا بما شرَعه من الوضوءِ والغُسل والتيمُّم، وباطنًا بتكفيرِ السيِّئات، ويُريدُ سبحانه أن يُتِمَّ نِعمتَه على عبادِه بإكمالِ الشَّرائِعِ، وتسهيلها عليهم؛ لعلَّهم يَشْكُرونَه على ذلِك.
تفسير الآية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا افتتَح اللهُ تعالى السُّورةَ بالأمْرِ بإيفاءِ العهودِ، وذكَر تحليلًا وتحريمًا في المطعَمِ والمنكَحِ، واستقصى ذلك، وكان النوعانِ معاملاتٍ دُنيويَّةً بين النَّاس بعضِهم من بعضٍ، استطرَد منها إلى المعاملاتِ الأُخرويَّة التي هي بين العبدِ وربِّه سبحانه وتعالى، ولَمَّا كان أفضلُ الطاعاتِ بعد الإيمانِ الصَّلاةَ، والصلاةُ لا تُمكن إلَّا بالطَّهارةِ، بدأَ بالطَّهارةِ
.
وأيضًا قد افتتَحَ الله سبحانه السورةَ بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ؛ والعهد نوعان: عهدُ الربوبيَّةِ من الله، وعهد العبوديَّة من العباد، فقدَّم الوفاءَ بعهد الربوبيَّة والكَرَم، ولَمَّا كانت منافِعُ الدُّنيا محصورةً في نوعينِ: لذَّات المطعم، ولذات المنكَح، فاستقصى سبحانَه في بيان ما يَحِلُّ ويَحرُم من المطاعِم والمناكِحِ، ولَمَّا كانت الحاجةُ إلى المطعومِ فوقَ الحاجَةِ إلى المنكوحِ، لا جرَم قدَّمَ بيانَ المطعوم على المنكوح، وعندَ تمامِ البيان كأنَّه يقول: قد وفيتُ بعهدِ الربوبيَّة فيما يُطلَب في الدُّنيا من المنافِعِ واللذَّات، فاشتغِلْ أنت في الدُّنيا بالوفاءِ بعهدِ العبوديَّة، فلمَّا كان أعظمُ الطَّاعاتِ بعد الإيمان الصلاةَ، ولا يمكن إقامتُها إلَّا بالطَّهارةِ لا جرَم بدأَ الله تعالى بذِكر شرائِطِ الوضوء .
وأيضًا لَمَّا ذَكَرَ ما يتعلَّق بالمطعَم والمنكَحِ، وكان الحَدَثان (الأصغر والأكبر) اللَّذان هما سببُ الطَّهارتين هما أثَرُ الطَّعامِ والنِّكاحِ، فلولا الطعامُ لَمَا كان الغائطُ الموجِبُ للوضوء، ولولا النكاحُ لَمَا كانت ملامسةُ النِّساءِ الموجِبة للغُسل ؛ لذا قال سبحانه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، إذا أردتُم القيامَ إلى الصَّلاةِ .
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ.
أي: فاغْسلوا الوجهَ، وهو ما تحصُلُ به المواجهةُ، من مَنابِتِ شَعرِ الرَّأس المعتاد، إلى ما انحدَر من اللَّحيينِ والذَّقن طولًا، ومِن الأُذنِ إلى الأُذُن عَرضًا .
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ.
أي: واغْسِلوا اليدَ كاملةً مِن أطرافِ الأصابِعِ إلى المِرفَقِ- وهو مِفْصلُ العَضُد مِن الذِّراع- مع غَسْلِه .
وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ.
أي: وامْسَحوا جميعَ الرأسِ .
عن عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ رضي الله عنه، أنَّه قال في وصْفِ وُضوءِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((... ثم مَسَحَ رأسَه بيدَيه، فأَقبلَ بهما وأَدْبرَ، بدَأ بمُقَدَّمِ رأسِه حتى ذهبَ بهما إلى قَفاه، ثم ردَّهُما إلى المكانِ الذي بدَأَ منه... )) .
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
القِراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفسيرِ:
في قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ قراءتان:
1- قِراءةُ وَأَرْجُلَكُمْ بالنَّصب عطفًا على الوُجُوهِ والأيدي في قولِه تعالى: اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ؛ فالواجبُ غَسلُها إذا كانت مكشوفةً .
2- قراءة وَأَرْجُلِكُمْ بالجَرِّ عطفًا على (رُؤُوسِكم ) في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ، والمسحُ في كلامِ العَرَبِ يكون غسلًا، ويكون مَسحًا باليَدِ، والأَخْبارُ جاءت بغَسْلِ الأَرْجُلِ ومَسْحِ الرُّؤُوسِ، أو يكون الخفضُ حَمْلًا على العَامِل الأَقْرَبِ للجِوَارِ، ومِن أهْلِ العِلْمِ مَن حَمَلَ قراءةَ الجرِّ على مَسْحِ القَدَمينِ إذا كان عليهما الخُفَّانِ .
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
أي: واغْسِلوا الرِّجلَ كاملةً من أطرافِ الأصابعِ إلى الكَعب- وهو العَظْمُ الناتئُ عند مِفصَل السَّاق والقَدَم- مع غَسْله، إذا كانت مكشوفةً، وامسحوا على الخُفِّ إذا كانت مستورةً به .
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا.
أي: وإنْ أصابتْكم جنابةٌ فاغتسلوا قبل أن تَقوموا إلى الصَّلاةِ .
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى.
أي: وإنْ كُنتم ذَوي مَرَضٍ، يتعذَّرُ معه استعمالُ الماءِ .
أَوْ عَلَى سَفَرٍ.
أي: وإنْ كُنتم مسافرينَ .
أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ.
أي: أو كنتُم مُحْدِثينَ؛ الحدَثَ الأصغرَ .
أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ.
أي: أو جامعتُم النِّساءَ .
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا.
أي: إنْ حصَلَتْ إحدى الحالاتِ السَّابقِ ذِكرُها- كالسَّفرِ- ففقدتُم الماءَ، فعليكم بقَصدِ وجهِ الأرضِ الطَّاهرِ النَّظيفِ .
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ.
أي: فامْسَحوا مِن هذا الصَّعيدِ الطيِّبِ الوجهَ والكفَّينِ .
مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ.
أي: لا يُريدُ الله تعالى بما فرَض عليكم من هذه الأحكامِ أن تَقَعُوا في الضِّيقِ والعُسرِ .
وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ.
أي: ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُريد أن يُطهِّركم بما فرَض عليكم من وضوءٍ أو غُسلٍ أو تيمُّمٍ، فتتطهَّروا ظاهرًا طهارةً حسيَّة لأبدانِكم، وتتطهَّروا طهارةً معنويَّةً بتكفيرِ سيِّئاتِكم، ومَحوِ خطيئاتِكم .
وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ.
أي: ويُريد ربُّكم سبحانه أيضًا إتمامَ نِعمَتِه عليكم ببيانِ شرائِعِ دِينه، وتيسيرها لعِبادِه .
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أي: كي تَشكُروا الله تعالى- بقلوبِكم وألسنتِكم وجوارحِكم- على نِعَمِه عليكم
.
الفوائد التربوية:
1- أنَّ الطَّهارةَ من مُقتضياتِ الإيمانِ؛ كأنَّه قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لإيمانِكم افعلوا كذا وكذا؛ ومِن ثَمَّ فإنَّ الإيمانَ يَزيد بالطَّهارةِ، وضوءًا كانتْ أو غُسلًا أو تيمُّمًا؛ لأنَّها إذا كانت من مُقتضياتِه لَزِم أن يَزيدَ بزيادتِها، ويَنقُصَ بنُقصانها، وأنَّ الإخلالَ بها منافٍ لكمالِ الإيمانِ
.
2- التَّكنِيَة عمَّا يُستقبحُ ذِكرُه؛ لقولِه: مِنَ الْغَائِطِ وقوله: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ .
3- الإشارةُ إلى أنَّه يَنبغي لقاضي الحاجةِ أن يَستترَ حتى يتوارى عن النَّاسِ؛ وجهُه قوله تعالى: مِنَ الْغَائِطِ، فالغائط هو المكان المطمَئِنُّ الهابطُ من الأرض، كانوا ينتابونه لقضاءِ الحاجة، ليستتروا به عن النَّاس .
4- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وفي قراءةٍ أخرى وَأَرْجُلِكُمْ بالكسرِ، أنَّها جُرَّتْ مُنَبِّهَةً على عدمِ الإسرافِ باستعمالِ الماء؛ لأنَّها مظنَّةٌ لصبِّ الماءِ كثيرًا، فعُطِفَتْ على الممسوح؛ لا لتُمْسَحَ، ولكِنْ لِيُنَبَّهَ على وجوبِ الاقتصادِ في صبِّ الماءِ عليها؛ وأنَّ مِن سُنَنِ الوضوءِ الاقتصادَ في الماء .
5- التَّرغيبُ في التَّزكيةِ والتطهيرِ؛ يُرشِدُ إلى ذلك قولُه تعالى: وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، أي: يُكْمِل نِعمةَ الإسلام بزِيادَةِ أحكامِه الرَّاجِعَة إلى التَّزكيةِ والتَّطهيرِ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- وجوبُ استيعابِ الوَجْهِ بالغسْلِ؛ لقوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
.
2- وجوب غَسلِ الأيدي من أطرافِ الأصابِعِ إلى المرافِقِ؛ لقوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ .
3- وجوبُ غَسلِ الرِّجل إلى الكَعبينِ، والكعبانِ داخلانِ في الغَسْل؛ لقوله: إِلَى الْكَعْبَيْنِ .
4- قولُ الله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ الفصلُ بالمسحِ بين المغسولاتِ مُعْلِمٌ بوجوبِ الترتيبِ .
5- التَّثليثُ في أعمالِ الوضوءِ سُنَّةٌ لا واجب، إنَّما الواجب هو المرَّة الواحدةُ، والدَّليلُ عليه أنَّه تعالى أَمَر بالغَسْل، فقال: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وماهيَّةُ الغسل تَدخُل في الوجودِ بالمرَّةِ الواحدةِ .
6- حِكمةُ الشَّرع في التَّطهيرِ؛ حيث كان الاقتصارُ على أربعةِ أعضاءٍ في الحدَثِ الأصغَرِ؛ لأنَّ هذه الأعضاءَ هي غالبًا أدواتُ العَمَل وآلاتُ العمل، فالبَطشُ باليد، والمشيُ بالرِّجْل، والبَصرُ والشمُّ والكلامُ في الوجه، والسَّمعُ والتخيُّل والتفكيرُ في الرَّأس، فشُرع تطهيرُ هذه الأعضاء الأربعة؛ أمَّا في الجنابة فشُرِعَ للإنسانَ أنْ يُطهِّرَ جميعَ بدنه؛ وذلك لأنَّ الجَنابة تُخلخِلُ البدنَ كلَّه، ولهذا يَضعُف الإنسانُ إذا حصَلت منه الجَنابةُ، ويُؤمَرُ إذا أراد أن يعودَ أن يغتسلَ فإنْ لم يُمْكِنْه فليتوضَّأ .
7- في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا: جاء المخاطَب جماعة، والخبر بصِيغة الإفراد؛ حيث لم يقُل: (إن كنتم جُنُبِين)، بل قال: جُنُبًا؛ لأنَّ كلمة (جنب) في اللُّغة الفصحى يستوي فيها المفردُ والاثنان والجَماعةُ .
8- في قوله تعالى: فَاطَّهَرُوا أنَّ الغُسْلَ لجميعِ البَدن؛ لأنَّه أطْلَقَ ولم يخصَّ الأعضاءَ كما في الوضوء .
9- أنَّه لا يُشتَرَط في الغُسل ترتيبٌ، وأنَّ المغتَسِل لو بدأَ مِن أسفلِ بدنِه أو مِن وَسَط بَدَنِه أو من أعلى بَدَنِه وعمَّه بالماءِ؛ كان ذلك مُجزئًا؛ لأن الله تعالى قال: فَاطَّهَّرُوا ولم يُفَصِّلْ .
10- أنَّ غُسْلَ الجَنابة تُستباحُ به الصَّلاة، وأنَّه لا يجبُ الوضوءُ معه؛ وجهُ الدَّلالة: أنَّ الله قال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا، ولم يذكر وضوءًا حتى لو لم يَنوِ إلَّا رَفْعَ الحدَث الأكبرِ، فإنَّه يُجزِئه؛ لعمومِ الآية .
11- أنَّ التيمُّم جائزٌ في الحدَثِ الأصغر وفي الحَدَثِ الأكبر؛ لأنَّ الآيةَ واضحةٌ؛ قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا، ثم قال: عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ذَكَرَ الله تعالى التيمُّمَ بعد الوضوءِ وبعد الغُسْلِ من الجنابَةِ، فيكون في ذلك دليلٌ على أنَّ مَن عليه غُسلُ الجنابةِ إذا لم يَجِدِ الماءَ، فإنَّه يتيمَّمُ ويُصلِّي .
12- أنَّه لا يجب التطهُّرُ بغيرِ الماء، يعني: لو كان مع الإنسانِ نبيذٌ أو شايٌ أو لَبن، فإنَّه لا يتطهَّر به؛ لأنَّ اللهَ جَعَل آلةَ الطَّهارةِ هي الماءُ؛ فقال تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً .
13- قولُ الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً يدلُّ على أنَّه كلَّما بقِيَ اسمُ الماءِ المطلَق كان طاهرًا طَهورًا .
14- أنَّ الماءَ ما دام يُطلَق عليه اسمُ الماءِ، فإنَّه مُطهِّرٌ ولو تغيَّر بشيءٍ طاهرٍ؛ لعمومِ الآية: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ومَاءً نَكِرةٌ في سِياقِ النَّفي؛ فما دام اسمُ الماءِ باقيًا، فإنَّه يجبُ التطهُّرُ به، ولو مع التغيُّرِ .
15- وجوبُ طَلَبِ الماءَ؛ لقوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً، أي: في الأماكِنِ القريبةِ منه التي لا يَلحَقُه حرَجٌ بطلب الماءِ فيها، وإذا تيقَّنَ عَدَمَ وجود الماءِ حَوْلَه، فلا يجِبُ عليه البحثُ عند كلِّ صلاةٍ؛ لأنَّ هذا عبَثٌ ومنافٍ للحِكمة، ومنافٍ للشَّرْع .
16- قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا فيه أنَّ الدينَ يسرٌ، سواء كان مِن أصلِ المشروعاتِ، أو إذا وُجِد سببٌ للرُّخصةِ؛ لأنَّ المشقَّةَ تجلبُ التيسيرَ، لكنها لا تُسقطُ الواجبَ إلا في حدودِ الشَّرع .
17- قوْلُه تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فيه أنَّه لا بدَّ في التيمُّمِ من النيَّة؛ فقوله: فَتَيَمَّمُوا أي: اقْصِدوا، فالتيمُّم عبارةٌ عن القَصْدِ .
18- استُدلَّ بقولِه: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا على جوازِ التيمُّمِ من الصَّعيدِ الذي على ظَهْرِ الأرض أيًّا كان، سواءٌ كان هذا الصَّعيدُ رمليًّا أو حجريًّا أو سبخةً، أو يابسًا أو رطبًا، يعني: نديًّا، المهمُّ أنَّه يُسمَّى صعيدًا .
19- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا أنَّه لا بدَّ أن يكونَ الصَّعيدُ الذي يُتَيمَّم منه طيِّبًا وهو الطَّاهِرُ، وضِدُّه النَّجس، وعلى هذا فلا يصحُّ التيمُّمُ على أرض متنجِّسةٍ .
20- وجوبُ استيعابِ الوَجهِ بالمسْحِ في التيمُّمِ؛ لقوله: بِوُجُوهِكُمْ وهو شاملٌ لجميع الوجه، ومِن ثَمَّ يجبُ أن نُنبِّهَ بعضَ العامَّة الذين إذا تَيمَّموا مَسَحوا الأنفَ وما حوله، وترَكوا الباقِيَ؛ فيُقال: هذا لا شكَّ أنَّه لا يُجزِئُ؛ لأنَّ الآية صريحةٌ؛ فقد قال تعالى: بِوُجُوهِكُمْ أي: كلَّها .
21- قوله: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ فيه رفْعُ الحرَجِ عن هذه الأمَّةِ، وهو تارةً يكون برفْعِ المشروعِ بالكليَّةِ، وتارةً بتخفيفِه، وتارةً بفِعل بدَلِه .
22- قولُ الله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أصلٌ كبيرٌ في الشَّرعِ، وهو أنَّ الأصْلَ في المضارِّ ألَّا تكونَ مشروعةً .
23- إثباتُ الحِكمةِ في شَرْع الله؛ وجهُ ذلك: التعليلُ في قوله تعالى: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، وهذا الذي دلَّ عليه الكتابُ والسُّنة من وجوهٍ لا تُحصَى- أنَّ الله سبحانه وتعالى حكيمٌ في كلِّ ما يَخلُق، وفي كلِّ ما يَشرَع؛ ومِن ثَمَّ فيجبُ الاستسلامُ لقضاءِ الله الشرعيِّ والكونيِّ .
24- أنَّ الطَّهارةَ بأقسامِها الثلاثة- الغُسل والوضوء والتيمُّم- نعمةٌ من الله عزَّ وجلَّ على العبادِ؛ لقوله: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، ولا شكَّ أنَّها نِعمةٌ، ومَن رأى فضائِلَ الوضوءِ وما يُكفِّر من الذُّنوبِ، عَرَف نِعمةَ الله عزَّ وجلَّ بهذا، وكذلك الغُسْلُ من الجَنابة، ولا سيَّما في أيَّام الشِّتاءِ وأيَّامِ المشقَّةِ .
25- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ قال فيه بعضُهم: دلَّت هذه الآيةُ على سَبعةِ أصولٍ، كُلُّها مَثْنَى: طهارتانِ: الوُضوءُ والغُسل، ومُطَهِّران: الماءُ والتُّراب، وحُكْمان: المسحُ والغَسل، وموجِبان: الحَدَثُ والجَنابةُ، ومُبيحانِ: المَرَضُ والسَّفَرُ، وكنايتان: الغائِطُ والمُلامَسةُ، وكَرَامتان: تطهيرُ الذُّنوبِ، وإتمامُ النِّعمةِـ .
26- قولُه: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (لعلَّ) هنا للتَّعليلِ، وليست للترجِّي؛ لأنَّ الرجاءَ طلبُ ما فيه عُسر، والله عزَّ وجلَّ لا يتأتَّى في حقِّه ذلك؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ سهْلٌ عليه، فتكون (لعلَّ) هنا للتعليلِ
.
بلاغة الآية:
1- قوله: إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلَاةِ، أي: إذا أردْتُم القيامَ إلى الصَّلاةِ؛ ففيه: جوازُ التَّعبيرِ عن إرادةِ الفِعل بالفِعل؛ لأنَّ الفعلَ يوجدُ بقُدرةِ الفاعِلِ عليه وإرادَتِه له، وهو قَصْدُه إليه وميلُه وخُلوصُه؛ وذلك لأنَّ الفِعْلَ مسبَّبٌ عن القُدرةِ والإرادة، فأُقيمَ المسبَّبُ مقامَ السَّبَب؛ للملابسةِ بينهما، ولإيجازِ الكلامِ ونحوه، والتَّنبيهِ على أنَّ مَن أراد العبادةَ ينبغي أن يبادِرَ إليها، بحيث لا ينفكُّ الفعلُ عن الإرادةِ، ويَجوزُ أنْ يكونَ المرادُ: إذا قَصَدْتم الصَّلاةَ؛ لأنَّ التوجُّهَ إلى الشَّيءِ والقيامَ إليه قَصْدٌ له
.
2- قوله: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ فيه كنايةٌ حَسَنَةٌ؛ فالمجيءُ من الغائِط- وهو المطمئنُّ أو المنخفِض من الأرض- كنايةٌ عن الحدَثِ .
3- قوله: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ: فيه التعبيرُ عن نفْي الفِعلِ بنفي الإرادةِ له؛ فالإرادةُ هنا كنايةٌ عن نفْي الجَعْلِ؛ لأنَّ المريدَ الذي لا غالبَ له لا يَحُولُ دون إرادَتِه عائِقٌ .
====6.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (7 - 11)
ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
غريب الكلمات:
مِيثَاقَهُ: الميثاقُ هو العقدُ المؤكَّدُ بيمينٍ وعهدٍ، أو العهدُ المُحكَم، وأَصْلُ (وثق): العقدُ والإحكامُ
.
كُونُوا قَوَّامِينَ: قَوَّامِينَ جمعٌ، مفردُه (قوَّام)، بناءُ مبالغةٍ مِن (قائمٍ)، أي: ليتكررْ منكم القيامُ، وأصلُ (قوم): مراعاةُ الشيءِ وحِفظُه .
شُهَدَاءَ: جمع شهيد، والشَّهادة قولٌ صادرٌ عن عِلمٍ حصَل بمشاهدةِ بصيرةٍ أو بصَرٍ .
بِالْقِسْطِ: بالعدلِ، وأصلُ (قسط) يدلُّ على مَعنيينِ متضادَّينِ: العدلِ، والجَوْرِ؛ يُقال: أَقسَط: إذا عدَل. وقَسَط: إذا جارَ وظَلَم .
شَنَآنُ: شِدَّةُ البُغض والعداوة؛ يُقال: شَنِئتُه، أي: تَقذَّرْتُه بغضًا له .
الْجَحِيمِ: النَّار، وأصْل (جحم): عِظَم الحرارة وشِدَّتها .
يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ: يَمدُّوا إليكم أيديَهم بالصَّوْلةِ والضَّرب، وأصل (بسط): امتدادُ الشَّيءِ، في عَرْض أو غير عَرْض
.
مشكل الإعراب:
قولُه تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
وَعَدَ: فِعلٌ يَتعدَّى لمفعولَينِ؛ أولهما الَّذِينَ، والثَّاني مَحذوفٌ، وجملةُ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ جملةٌ اسميَّةٌ وقعَتْ بيانًا للوعدِ، كأنَّه قال: قَدَّم لهم وعْدًا، فقيل: أيُّ شيءٍ وَعَدَه لهم؟ فقال: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ؛ وعليه فهي مُفسِّرةٌ لمفعولِ وَعَدَ الثاني المحذوفِ، لا محلَّ لها من الإعرابِ. وقيل: إنَّ جملةَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ منصوبةٌ بقولٍ محذوفٍ؛ كأنَّه قيل: وَعَدَهم وقال: لهم مَغفِرةٌ. وقيل: الوعدُ جارٍ مجرَى القولِ؛ لأنَّه ضَرْبٌ منه، وهو واقعٌ على الجملةِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ؛ فهي منصوبةٌ به؛ كأنَّه قيل: وعَدَهم هذا القَولَ
.
المعنى الإجمالي :
يَأمُر اللهُ المؤمنينَ أن يَذكُروا نعمتَه عليهم، والعهْدَ الذي أخَذَه عليهم بمبايعةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ على متابعَتِه، ونُصْرَتِه، والقيامِ بدِينه والدَّعوةِ إليه؛ حيث الْتَزموا بذلك العهدِ حينها، وقالوا: سمِعْنا وأطَعْنا، ثم أمَرَهم بتقواه عزَّ وجلَّ؛ فإنَّه عليمٌ بكلِّ ما تُكِنُّه الصُّدورُ.
ويأمُر اللهُ المؤمنينَ كذلِك بأنْ يقوموا بحقِّ اللهِ تعالى في كلِّ ما يَلْزَمُهم القيامُ به مخلِصينَ له، وأنْ يُلازِموا العدلَ في شَهادَتِهم، ولا يَحمِلَنَّهم بُغضُهم وكراهِيَتُهم لقومٍ على ألَّا يَعدِلوا، بل عليهم مُلازمةُ العدلِ؛ فإنَّه أقربُ لتحقيقِ كمالِ التَّقوى، ولْيتَّقوا الله؛ فإنَّ الله خبيرٌ بما يعملونَ.
ثم يُخبر تعالى أنَّه وعَدَ المؤمنين الذين يَعملون الأعمالَ الصالحةَ بأنَّ لهم مغفرةً لذنوبهم، وثوابًا كبيرًا، وهو الجنَّة، وأمَّا الذين كَفروا وكذَّبوا بآياتِه فهمُ أصحابُ النارِ المُلازِمون لها.
ثم أَمَر اللهُ المؤمنينَ أن يَذكُروا نِعمتَه عليهم، حين هَمَّ بعضُ أعدائِهم بالبَطْشِ بهم، فصرَفَهم اللهُ عنهم، وحالَ بينهم وبين ما يُريدونَه بهم من سوءٍ، وختَم الآيةَ بالأمرِ بتقواه، وأن يَعتَمِدوا عليه وحْدَه سبحانه وتعالى.
تفسير الآيات:
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر التَّكاليفَ في الآياتِ السَّابِقةِ من بدايةِ السُّورةِ، أرْدَفَه بما يُوجِبُ عليهم القَبولَ والانقيادَ، وذلك من وجهينِ: الأوَّل: كَثرةُ نِعَمِ الله عليهم؛ لأنَّ كثرةَ النِّعَمِ تُوجِبَ على المُنعَمِ عليه الاشتغالَ بخدمةِ المُنعِم، والانقيادَ لأوامِرِه ونواهيه. والوجه الثاني: في السَّبب الموجِبِ للانقيادِ للتَّكاليفِ، وهو الميثاقُ الذي واثقَكم به
، فقال:
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ.
أي: واذْكروا- أيُّها المؤمنونَ- نِعمَ اللهِ تعالى عليكم، فتَذكَّروها بقُلوبِكم وألسِنَتِكم، ومنها نِعمةُ الهدايةِ للإسلامِ .
وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ.
أي: واذكُروا أيضًا- أيُّها المؤمنونَ- عَهدَه الذي عاهَدَكم به بمبايعةِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ على مُتابعتِه ومُناصَرتِه ومُؤازَرَتِه، والقيامِ بدِينه، وتبليغِه .
قال تعالى: وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الحديد: 8] .
إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.
أي: حيث التَزَمْتُم بهذا العَهْدِ بإعلانِ السَّمعِ والطَّاعة، فقلتم: سَمِعْنا ما دَعوتَنا به- أيُّها الرسولُ الكريمُ- من الآياتِ القرآنيَّةِ والكونيَّةِ، سَمْعَ فَهمٍ وإذعانٍ وانقيادٍ، وأطَعْنا ما أمَرْتَنا به، واجتَنَبْنا ما نهيتَنا عنه .
عن جُنادَةَ بنِ أبي أُميَّةَ، قال: دَخَلْنا على عُبادةَ بنِ الصَّامتِ وهو مريضٌ، قُلنا: أصلحَك اللهُ، حَدِّثْ بحديثٍ ينفعُك اللهُ به، سَمِعْتَه مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، قال: ((دَعانا النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ فبَايعْناه، فقال فيما أَخَذَ علينا: أنْ بايَعَنا علىالسَّمْعِ والطَّاعةِ، في مَنْشَطِنا ومَكْرَهِنا ، وعُسْرِنا ويُسْرِنا، وأَثَرةٍ علينا ، وأنْ لا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، إلَّا أنْ تَرَوْا كُفرًا بَواحًا عندكم من اللهِ فيه برهانٌ )) .
وَاتَّقُوا اللهَ.
أي: وامتَثِلوا ما أَمَرَكم اللهُ تعالى به، واجتَنِبوا ما نهاكم عنه في جميعِ أَحْوالِكم .
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
أي: إنَّه يعلمُ ما يتخالَجُ في الضَّمائِرِ والسَّرائِرِ، وما تَنطوي عليه القُلوبُ من الأَفْكارِ والخواطِرِ؛ فاحذروا أن يَطَّلِعَ من قُلُوبِكم على أمرٍ لا يرضاه، كأنْ تُضْمِروا عدَمَ الوفاءِ بميثاقِ اللهِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حَثَّ على الانقيادِ للتَّكاليفِ، وهي مع كَثْرَتِها محصورةٌ في نوعينِ: التَّعظيم لأمْرِ الله، وهذا ذَكَرَه في قوله: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ، ثم أعْقَبَه بذكْرِ النَّوعِ الثَّاني وهو الشَّفقَةُ على خَلْقِ الله ، فقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، كونوا بمُقتَضَى إيمانِكم ذَوي قِيامٍ بالحقِّ للهِ تعالى وَحْدَه، لا رِياءً ولا سُمْعةً، ولا لنيلِ غَرَضٍ من أغراضِ الدُّنْيا .
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ.
أي: وكونوا أيضًا شُهَدَاءَ بالعَدْلِ، ولا تَجُوروا في أَحْكامِكم على القَريبِ والبَعيدِ، والصَّدِيقِ والعَدُوِّ .
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألَّا تَعْدِلُوا.
أي: ولا يَحْمِلنَّكم عداوةُ قومٍ وبُغضُهم على ألَّا تَعْدِلوا في حُكْمِكم فيهم، فتَجورُوا عليهم .
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى.
أي: عليكم بالعَدْلِ- أيُّها المؤمنونَ- مع كلِّ أحدٍ، فاستعمالُ العَدْلِ أقرَبُ إلى التَّقْوى الكاملةِ .
وَاتَّقُوا اللهَ.
أي: امتَثِلوا ما أمَرَكم اللهُ تعالى به، واجتَنِبوا ما نهاكم عنه، ومِن ذلك القيامُ بالعَدْلِ، وترْكُ الجَورِ .
إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو وَحْدَه العالِمُ ببواطنِ ما تَعمَلونَه- أيُّها المؤمنونَ- مِن خَيْرٍ أو شرٍّ ومُجازيكم بها .
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ أوامِرَ ونواهيَ، ذكَر وعْدَه مَن اتَّبَعَ أوامرَه واجتَنَبَ نواهيَه .
وأيضا لَمَّا كان الأَمْرُ بالتَّقْوى ممَّا حُتِمَ على الإطلاقِ، بعدَ بيانِ أنَّ العدْلَ هو أقربُ ما يُتَّقَى به عقابُ اللهِ في الدُّنيا والآخِرَة؛ لأنَّه قِوامُ الصَّلاحِ للأفرادِ، والإصلاحِ في الأقوامِ، ولَمَّا عُلِّل هذا الأمرُ المطلَقُ بأنَّ الله خبيرٌ بدقائِقِ الأعمالِ وخَفاياها، وكان هذا التعليلُ يُشيرُ إلى جزاءِ العاملينَ المُتَّقينَ وغَيْرِ المتَّقينَ- قال عزَّ وجلَّ في بيانِ الجزاءِ العامِّ :
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ.
أي: وعَدَ اللهُ عزَّ وجلَّ- الذي لا يُخلِفُ الميعاد- المؤمنينَ الذين عَمِلوا الأَعْمالَ الصَّالِحات مخلصين للهِ تعالى فيها، ومُتابعين شريعَتَه، وَعَدَهم بسَتْرِ ذُنُوبِهم، والتَّجاوُزِ عن مؤاخَذَتِهم بها .
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
أي: ولهم ثوابٌ كبيرٌ، وعطاءٌ جزيلٌ غيرُ محدودٍ، وهو الجَنَّةُ .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ثوابَ المؤمنينَ العاملينَ للصَّالحاتِ، ثنَّى بذِكر مَن يُقابِلُهم وما لهم من العقابِ ؛ فقال:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10).
أي: وأمَّا الكُفَّارُ المكذِّبونَ بالأدلَّةِ الدالَّةِ على الحقِّ، فهُم أهلُ نارِ الجحيمِ الملازِمونَ لها، لا يَخرجُون منها أَبَدًا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ.
أي: يا مَعْشَرَ المؤمنينَ، تذكَّروا ما أنعمَ اللهُ تعالى به عليكم بقُلوبِكم وألْسِنَتِكم؛ لأجْلِ القيامِ بواجِبِ شُكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ على ذلك .
إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ.
أي: حيث أنعمَ اللهُ تعالى عليكم، بأنْ ردَّ كيدَ أعدائِكم الذين همَّوا بالبَطْشِ بكم، فصَرَفَهم وحَجزَهم عنكم، وحالَ بينهم وبين ما أرادُوه بكم؛ فلم يَسْتَطيعوا أن يَنالُوكم بسُوءٍ .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح: 24] .
وَاتَّقُوا اللهَ.
أي: وافْعلوا ما أمرَكَم اللهُ تعالى به، واجتَنِبوا ما نَهاكم عنه .
وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
مُناسَبَتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى إِنعامَه عليهم بكفِّ أَيدِي أعدائِهم عنهم، وردِّ كَيْدِهم في نُحورِهم- أَمَرَهم بما يَستعينونَ به على الانْتِصارِ على عَدُوِّهم، وعلى جميعِ أُمُورِهم ، فقال:
وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
أي: وعلى اللهِ تعالى وحْدَه دونَ غيره، فلْيعتمِدِ المؤمنونَ الَّذين آمنوا باللهِ تعالى وبكلِّ ما يَجِبُ عليهم الإيمانُ به، فليعتمدوا عليه في جَلْبِ منافِعِهم ودَفْعِ مَضَارِّهم، ممَّا يتعلَّقُ بِشُؤونِ الدُّنيا والآخِرَةِ؛ ثِقةً به عزَّ وجلَّ، وتفويضًا إليه
.
الفوائد التربوية:
1- الحثُّ على التأمُّلِ في نِعَمِ الله تعالى؛ نبَّه على ذلك قولُه: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ
.
2- تهديدُ مَن خَرَجَ عن التَّقوى، بقوله تعالى: إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، يعني أنَّه لا بدَّ أن تكونَ التَّقوى مبنيَّةً على صَلاحِ القَلْبِ، وليست مُجرَّدَ قَوْلٍ باللِّسانِ، ويُكرِّرُ اللهُ عزَّ وجلَّ التَّقوى في آياتٍ كثيرة؛ لأنَّها في الحقيقَةِ عليها مدارُ الإِسلامِ، فإذا اتَّقى الإنسانُ ربَّه فسوف يقومُ بدِينِ الله تعالى على ما يُريدُ اللهُ جلَّ وعلا .
3- وجوبُ الإخلاصِ لله عزَّ وجلَّ في الشَّهادَةِ؛ لقولِه: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وقال في آيةٍ أخرى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق: 2] ، ومِن ثَمَّ فلا يكونُ هناك محاباةٌ لقريبٍ أو صَدِيقٍ، ولن يَحمِلَك بُغضُك لشَخْصٍ على أنْ لا تشْهَد له ما دُمتَ مُخلِصًا لله تعالى بالشَّهادَةِ .
4- وجوبُ الشَّهادَةِ بالقِسْطِ ولو كنتَ كارهًا؛ دلَّ على ذلِك قولُه تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ؛ لأنَّ بعضَ النَّاسِ قد تحمِلُه كراهةُ أن يتَضَرَّرَ الشَّخصُ على كِتمانِ الشَّهادَةِ .
5- أمَرَ اللهُ تعالى جميعَ الخَلْقِ بأنْ لا يُعامِلُوا أحدًا إلَّا على سَبيلِ العَدْلِ والإنصافِ، وترْكِ المَيْلِ والظُّلْمِ والاعتِسافِ؛ قال تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى .
6- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى أنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ منها ما يَبعُدُ عن التَّقوى، ومنها ما يَقرُبُ، ويَنبني على تفاضُلِ الأَعمالِ، وتفاضُلُ الأعمالِ قد دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ والعَقْلُ، وأنَّ الأعمالَ تَتَفاوتُ، والعُمَّال يتفاوَتون أيضًا، ويُستَفادُ أيضًا أنَّ الإيمانَ يَزيدُ وكذلك ينقُصُ .
7- أنَّ الإيمان وحْدَه لا يَكفي، بل لا بدَّ مِن عَمَلٍ؛ ولهذا قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؛ ولهذا فالَّذينَ يُركِّزون على العقيدةِ، فيقولون: عَقِيدتُنا سليمةٌ والحمدُ لله، ولا يَتعرَّضون للعَمَلِ؛ عندهم قُصورٌ، بل لا بدَّ مع العقيدَةِ مِن عَمَلٍ صالحٍ .
8- وُجوبُ تقوى الله عزَّ وجلَّ عند ذِكْرِ النِّعَمِ؛ حتى لا يَطغى الإنسانُ، ويرتفعَ ويَرْبأَ بنفْسِه؛ لقوله: وَاتَّقُوا اللهَ .
9- وجوبُ التوكُّلِ على الله عزَّ وجلَّ، وأنَّه من الإيمانِ؛ لقوله: وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، فوجَّه الأمرَ إلى المؤمنينَ؛ لأنَّهم هم أَهْلُ التوكُّلِ، ولأنَّ ترْكَ التوكُّلِ على الله نَقْصٌ في الإيمانِ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ولم يقُل: (نعم الله)؛ لأنَّه ليس المقصودُ منه التأمُّلَ في أعدادِ نِعَمِ الله، بل المقصودُ منه التأمُّلُ في جِنْسِ نِعَمِ الله؛ لأنَّ هذا الجِنْسَ جنسٌ لا يَقْدِرُ غيرُ اللهِ عليه
.
2- أنَّه يجبُ على الإنْسانِ أنْ يَذكرَ الميثاقَ الذي واثَقَ اللهَ عليه، وهو العَهْدُ بالسَّمْعِ والطَّاعَةِ المذكورُ في قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، ويُستَفادُ مِنَ الآيةِ أنَّ السَّمْعَ المجرَّدَ لا يُغني شيئًا، فلا بدَّ أن يكونَ سمعًا واستجابَةً، فأمَّا مجرَّدُ السَّمْعِ فلا؛ وذلك لِقَوْلِه: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا .
3- في قوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ إشارةٌ إلى التَّعظيمِ لأَمْرِ اللهِ .
4- ممَّا يُستَفادُ مِن قَوْلِه سبحانَه: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى: أنَّ هناك فَرْقًا بين المساواةِ والعَدْلِ، وأكثَرُ ما ورد في القرآنِ هو نفْيُ المساواةِ، مع إثباتِ العَدْلِ؛ قال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم: 35 - 36] ، وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] .
5- تأكيدُ الأَمْرِ بالعَدْلِ مع الأعداءِ، والشَّهادةُ لهم به في قَوْلِه تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى يُفيدُ وجوبَه مع غَيْرِهم من الأَولياءِ بالأَوْلى .
6- من اللَّطائِفِ في قولِه تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... وقولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ في المؤمنينَ جاءتِ الجملةُ فِعليَّةً متضمِّنةً الوعدَ بالماضي الذي هو دليلٌ على الوُقوعِ، فأنْفُسُهم متشوِّقةٌ لِمَا وُعِدُوا به، مُتشوِّفةٌ إليه، مبتهجةٌ طولَ الحياةِ بهذا الوَعْدِ الصَّادِقِ. وفي الكافرينَ جاءت الجملةُ اسميَّةً دالَّةً على ثُبوتِ هذا الحُكْمِ لهم، وأنَّهم أصحابُ النَّارِ؛ فهم دائمونَ في عذابٍ؛ إذ حَتَّمَ لهم أنَّهم أصحابُ الجحيمِ، ولم يأتِ بصورةِ الوعيدِ، فكان يكونُ الرجاءُ لهم في ذلك .
7- قولُه: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ: فيه: تقديرُ محذوفٍ، أي: عَمِلُوا الأعمالَ الصَّالحات، ويكون العملُ صالحًا إذا تَضمَّن أمرينِ؛ الأوَّل: الإخلاصُ للهِ كما في قوله: فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر: 2] ، والثاني: المتابعةُ لشريعةِ اللهِ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: ((مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمْرُنا؛ فهو رَدٌّ )) .
8- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ تفضُّلُ اللهِ عزَّ وجلَّ على عبادِه؛ حيث جعَل الثوابَ بمنزلَةِ الأَجْر، كأنَّ العامِلَ أجيرٌ إذا وَفَّى العَمَلَ أُعْطِيَ أَجْرَه، مع أنَّ المِنَّةَ لله عزَّ وجلَّ أولًا وآخِرًا .
9- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَأَجْرٌ عَظِيمٌ عِظَمُ ثَوابِ المؤمنينَ العاملينَ الصَّالحاتِ؛ حيث عظَّمَه الله عزَّ وجلَّ، وتعظيمُ العَظيمِ للشَّيءِ يدلُّ على أنَّه عَظيمٌ عَظَمةً لا يتخيَّلُها الإنسانُ ولا يتصوَّرها، وهو كذلك .
10- أنَّ القرآنَ الكريمَ مَثانٍ؛ إذا ذَكَر أهْلَ العَمَلِ الصَّالح ذكَرَ أهلَ العَمَلِ السيِّئِ؛ كما قال سبحانه: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ثم ثَنَّى بعدها بقولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وفائدَةُ ذلك: أنْ لا يَغلِبَ جانبُ الرَّجاءِ أو جانبُ الخَوْفِ .
11- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أنَّ الكُفْرَ قد يَصحَبُه التَّكذيبُ، وقد لا يَصحَبُه؛ ولهذا أحيانًا يَذكُرُ اللهُ الكُفْرَ فقط؛ مثل قولِه تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131] ، وأحيانًا يَذكُرُ التَّكذيبَ فقط؛ قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [الزمر: 32] ، وأحيانًا يَقْرِن بينهما؛ وذلك لأنَّ كلًّا منهما قد يكونُ وَحْده مُوجِبًا للخُلُودِ في النَّارِ، فإذا اجتمعَا جميعًا، صار ذلك أشدَّ وأعظمَ، والعياذُ بالله .
12- قوله: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا: المرادُ بالآياتِ هنا الآياتُ الشرعيَّةُ والكونيَّة ؛ فمَن أنكَرَ ربوبيَّةَ الله وخَلْقَه للمَخلوقاتِ، وتصرُّفَه في الكَوْنِ، فهذا مكذِّبٌ بالآياتِ الكونيَّةِ، وقد يُقِرُّ بذلك، لكنَّه يكْفُرُ، ويُكَذِّبُ بالآياتِ الشرعيَّةِ، ويُعْرِضُ عن طاعَةِ اللهِ .
13- أنَّ الخلودَ في النَّار ليس إلَّا للكُفَّارِ؛ فقَوْلُه تعالى: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يُفيدُ الحصرَ، والمصاحَبةُ تقتضي الملازَمَة، كما يُقال: أصحابُ الصَّحراءِ، أي: الملازِمونَ لها .
14- قال تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الآية، أمَرَ الله تعالى أن نَذكُرَ نِعْمَتَه، لا مِن أجْلِ مجرَّدِ الذِّكْرِ والخَبَر، ولكن للقيامِ بشُكْرِ هذه النِّعمَةِ؛ لأنَّه لا يَكفي مجرَّدُ أن أقولَ: إنَّ اللهَ سلَّمَني من العدوِّ، أو إنَّ اللهَ نصَرني على العَدُوِّ، هذا لا يَكفي، لا بدَّ أن يكونَ ذلك شُكرًا لله عزَّ وجلَّ، فإنْ كان شكرًا بأنْ كان الإنسانُ يتحدَّثُ بنِعمةِ اللهِ ثناءً على الله، فهذا من الشُّكر .
15- أنَّه يجِبُ على الإنسانِ أن يَذكُرَ نِعمَةَ اللهِ عليه في جَلْبِ المنافِعِ ودَفْعِ المضارِّ؛ وَجْهُ ذلك: أمْرُ اللهِ جلَّ وعلا بذِكْرِ نِعَمِه بكفِّ أيدي الأعداءِ عنَّا في قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ .
16- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أنَّ كفَّ الأذى والضَّرَر من النِّعَمِ، وهو كذلك، وكثيرٌ من النَّاسِ يظنُّونَ أنَّ النِّعَمَ هي الإيجادُ، وهذا قصورٌ؛ النِّعمَةُ: إمَّا إيجادُ معدومٍ، وإمَّا كفُّ موجودٍ؛ ولهذا يُشْكَرُ اللهُ عزَّ وجلَّ على هذا وهذا .
17- من فوائِدِ هذا التذكيرِ للمتأخِّرينَ في قَوْلِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ترغيبُهم في التأسِّي بسلَفِهم في القيامِ بما جاء به الدِّينُ؛ من الحقِّ والعَدْلِ، والبرِّ والإحسانِ، واحتمالِ الجُهدِ، والصَّبرِ على المشاقِّ في هذه السَّبيلِ، وهي سبيلُ اللهِ، وهذا هو المعنى العامُّ للجِهادِ في سبيلِ اللهِ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا إِذْ في قولِه: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ظرفٌ لـوَاثَقَكُمْ بِهِ، أو ظرفٌ لمحذوفٍ وقَع حالًا منَ الضَّميرِ المجرورِ في بِهِ أو مِنْ مِيثَاقَهُ، أي: كائنًا وقتَ قَولِكم: سَمِعْنا وأطَعْنا، وفائدةُ التقييدِ به تأكيدُ وجوبِ مراعاتِه بتذكيرِ قَبُولهم، والتزامِهم بالمحافَظَةِ عليه
.
2- قوله: وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ: جملةُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ اعتراضٌ تذييليٌّ للتَّحذير مِن إضمارِ المعاصي، ومِن تَوهُّمِ أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ إلَّا ما يبدو منهم، وتعليلٌ للأمْرِ بالاتِّقاءِ؛ فحرف (إنَّ) أفاد أنَّ الجملة عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَها على الأُسلُوبِ المقرَّرِ في البلاغَةِ .
- وإظهارُ الاسْمِ الجليلِ اللَّه في موقِع الإضمارِ؛ لتربيةِ المهابَةِ، وتعليلِ الحُكم، وتقويَةِ استقلالِ الجُملة .
3- قوله: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى: فيه تأكيدٌ شديدٌ على أمْرِ العَدْلِ؛ فقولُه: اعْدِلُوا تأكيدٌ ثانٍ؛ حيث قد نَهاهم أولًا أنْ تحمِلَهم الضَّغائِنُ على ترْك العَدْلِ، ثم أمَرَهم بقَوْلِه: اعْدِلُوا؛ فصرَّحَ لهم بالأَمْرِ بالعَدْلِ؛ تأكيدًا وتشديدًا، ثم استأنَفَ فذَكَرَ لهم وجْهَ الأمْرِ بالعَدْلِ، وهو قَوْلُه: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، أي: العَدْلُ أقربُ إلى التقوى، وأَدْخَلُ في مناسَبَتِها. أو أقربُ إلى التَّقوى؛ لكونِه لُطفًا فيها، وفيه تنبيهٌ عظيمٌ على أنَّ وجودَ العَدْلِ مع الكفَّارِ الذين هم أعداءُ اللهِ إذا كان بهذه الصِّفَةِ من القُوَّةِ؛ فما الظنُّ بوجوبِه مع المؤمنينَ الذين هم أولياؤُه وأحِبَّاؤُه ؟!
4- قوله: إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ جملةٌ تتَضَمَّنُ التهديدَ بمخالفَةِ التَّقوى، وقولُه: إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ الخبيرُ أدقُّ من العليمِ؛ لأنَّ الخبيرَ من الخُبْر وهو العِلْمُ ببواطنِ الأَمْرِ؛ ولذلك سُمِّيَتِ المزارعةُ مخابرةً؛ وسُمِّي الزَّارِعُ خبيرًا؛ لأنَّه يدسُّ الحَبَّ في الأَرْضِ فيَختفي، فالخبيرُ هو العليمُ بخفايا الأُمورِ .
5- قوله: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ: فيه بيانٌ للوعْدِ بعدَ تمامِ الكلامِ قبْلَه، كأنَّه قال: قدَّمَ لهم وعْدًا، فقِيل: أيُّ شَيءٍ وعَدَه لهم؟ فقيل: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ؛ فجُملةُ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ مُبيِّنةٌ لجُملةِ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؛ فاستُغْنِيَ بالبَيانِ عن المفعولِ الثَّانِي، فصارَ التَّقديرُ: وعَدَ اللهُ الذين آمنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ مَغفرةً وأجرًا عَظيمًا لهم، وإنَّما عدَلَ عن هذا النَّظْمِ لِمَا في إثباتِ المغفرةِ لهم بطَريقِ الجُملةِ الاسميَّةِ من الدَّلالةِ على الثَّباتِ والتقرُّرِ .
6- قوله: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ: فيه قصرٌ: وهو إمَّا قَصْرٌ ادِّعائيٌّ؛ لأنهم لَمَّا كانوا أحقَّ النَّاسِ بالجحيمِ، وكانوا خالدينَ فيه، جُعلوا كالمنفردينَ به، أو هو قصرٌ حقيقيٌّ إذا كانت إضافةُ أَصْحَابُ مُؤذِنةً بمزيدِ الاختصاصِ بالشَّيءِ كما في مُرادفِها، وهو ذُو كذا، كما في قوله: وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران: 4] ؛ فيكون وجهُ هذا الاختصاصِ أنَّهم الباقونَ في الجحيمِ أبدًا .
7- قوله: فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ إظهارُ أَيْدِيَهُمْ في موقِعِ الإضْمارِ؛ لزِيادَةِ التَّقريرِ، أي: مَنَعَ أيديَهم أنْ تُمَدَّ إليكم عَقِيبَ همِّهِم بذلك، لا أنَّه كفَّها عنكم بعدَما مدُّوها إليكم .
8- قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ:
جملةُ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ تذييلٌ مقرِّرٌ لمَا قَبْلَهُ .
- وفيه تقديمُ المتعلِّقِ عَلَى اللهِ على المتعلَّقِ به: فلْيَتَوَكَّلِ؛ لإفادةِ الحَصْرِ، أي: ينبغي أن يتوكَّل المؤمنونَ على اللهِ فقط، لا على غَيْرِه .
- وإظهارُ الاسْمِ الجليلِ اللَّهِ في مَوْقِعِ الإضمارِ؛ لتعليلِ الحُكْمِ، وتقويَةِ استقلالِ الجُملَةِ التذييليَّةِ .
- وإيثارُ صيغَةِ أمْرِ الغائبِ وإسنادُها إلى المؤمنينَ- حيثُ جاء الأَمْرُ بالتوكُّلِ بصِيغَةِ الغائِبِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وليس بصِيغَةِ الخِطابِ، فلم يقُلْ: (تَوكَّلوا) بعد قولِه: وَاتَّقُوا- لإيجابِ التوكُّلِ على المُخاطَبينَ بالطَّريقِ البُرْهانيِّ، وللإيذانِ بأنَّ ما وُصِفُوا به عند الخِطابِ مِن وَصْفِ الإيمان داعٍ إلى مَا أُمِرُوا بهِ من التَّوَكُّل والتَّقْوى؛ وازعٌ عن الإخلالِ بهما، ولأجلِ الفاصِلَةِ، وإشعارًا بالغَلبةِ، وإفادةً لعُمومِ وصْفِ الإيمانِ . وهذا أيضًا التفاتٌ من الخِطابِ إلى الغَيبةِ.
=====7.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (12 - 14)
ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ
غريب الكلمات:
نَقِيبًا: ضَمينًا وأمينًا، وشاهدًا، أو كفيلًا، وسُمِّيَ نقيبًا؛ لأنَّه يَعْلَمُ دخيلةَ أمْرِ القَوْمِ، ويَعْلَم مناقِبَهم
.
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: أي: نَصَرْتُموهم وأَعَنْتُموهم وقوَّيتُموهم، أو عَظَّمْتُموهم، والتَّعزيرُ: النُّصْرةُ معَ التَّعظيمِ .
وَأَقْرَضْتُمُ: أي: أنْفَقْتُم في سبيلِ الله، والقَرْضُ: ما يُدفَعُ من المالِ بشَرْط ردِّ بَدلِه، وأَصْلُ القَرْضِ: القَطْعُ؛ ومنه سُمِّيَ القَرْض؛ فكأنَّه شيءٌ قد قَطَعْتَه مِن مالِكَ .
سَوَاءَ السَّبِيلِ: أي: قَصْدَ الطَّريقِ ووَسَطه، والسَّواء: الوَسَطُ، والسَّبيلُ الطَّريق .
نَقْضِهِمْ: أي: نَبْذِهم إيَّاه بعدَ القَبولِ به، وتَرْكِهم العَمَلَ به، وأَصْلُ النَّقْضِ ضِدُّ الإِبرامِ: وهو فكُّ تركيبِ الشَّيءِ وردُّه إلى ما كان عليه أوَّلًا؛ فنَقْضُ البِناءِ: هَدْمُه، ونَقْضُ المبرَم: حلُّه .
لَعَنَّاهُمْ: طَرَدْناهم وأَبْعَدْناهم مِن رَحْمَتِنا، واللَّعْنُ: الطَّرْدُ والإبعادُ على سبيلِ السَّخَطِ .
خَائِنَةٍ: خِيانةٍ، أو جماعةٍ خائنةٍ منهم، أو خائنة بمعنى خائِن، كما يقال: رَجُلٌ طاغِيَة .
نَصَارَى: جمْع نصرانٍ ونصرانة، قيل: هو منسوبٌ إلى قريةِ نَصرة أو نصرانة، وهي قريةٌ نَزَلها عيسى عليه السَّلامُ، وقيل: كلمة النَّصارى في الأصل مأخوذةٌ مِنْ قَوْلِه: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ، ثم صار لازِمًا لهم بعدَ نَسْخِ شَريعَتِهم، وأصل (نصر): يدلُّ على إتيانِ خَيْرٍ وإيتائِه .
حَظًّا: نصيبًا مقدَّرًا، وَأصل (حظظ): النَّصِيبُ وَالْجَدُّ .
فَأَغْرَيْنَا: هيَّجْنَا، أو أَلْزَمْنا، مِن غَرِيَ بكذا، أي: لَهِجَ به ولَصِقَ، وأصلُ ذلك من الغِراء، وهو ما يُلْصَقُ به
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِر تعالى أنَّه أخَذَ على مَن تقدَّمَ مِن أَسْلافِ اليَهودِ عهدًا مؤكَّدًا، وأقام عليهم اثْنَي عَشَرَ رئيسًا، يَتلقَّى كلُّ رئيسٍ ممَّن تحتَه المبايعةَ على السَّمْعِ والطَّاعةِ والوفاءِ بعَهْدِ الله تعالى، ويتولَّى توجيهَهم وحثَّهم على القِيامِ به، ومُطالَبَتَهم بذلك، ويُخْبِر تعالى أنَّه قال لبني إسرائيلَ: إنَّه معهم، لَئِنْ قاموا بما واثقَهم عليه، وذلك بأداءِ الصَّلاةِ كما ينبغي، ودَفْعِ الزَّكاة لمن يستحِقُّها، والإيمانِ برُسُلِ الله، ونَصْرِهم على أعدائِهم، والإنفاقِ في سبيلِ اللهِ تعالى ابتغاءَ رِضاه، فإنْ قاموا بذلك، فسيعفو اللهُ عن ذُنُوبِهم، وسيُدْخِلُهم جنَّاتٍ تَجْري الأنهارُ تحت أَشْجارِها وقُصورِها، ومَن كفَر وخالَفَ ذلك الميثاقَ، فقد ضلَّ وغَوَى عن الطَّرِيقِ القَويمِ.
ثم أَخْبَرَ تعالى أنَّه- بسببِ عَدَمِ وفائِهم بِعَهْدِهم، ونَقْضِهم الميثاَق- طَرَدَهم مِن رَحْمَتِه، وجعَلَ قُلُوبَهم قاسيةً غليظةً لا تتأثَّرُ بالمواعِظِ، ولا خيرَ فيها؛ يُبدِّلونَ كلامَ الله في التَّوراة، وتركوا قَدْرًا كبيرًا مما ذُكِّرُوا به من الوَحْيِ متعمِّدينَ، ثم خاطَبَ اللهُ نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه لا يزالُ يَكْتَشِفُ من اليهودِ المكرَ والخديعةَ، والغَدْرَ والخيانَةَ، إلَّا قليلًا منهم؛ يُوفون بِعُهودِهم التي يُبْرِمونها، ثم أَمرَه أن يَعْفوَ عن إساءَةِ هؤلاءِ القَوْمِ، وأنْ يُعْرِضَ عنهم؛ إنَّ الله يُحِبُّ المحسنينَ.
ثم بيَّن تعالى أنَّه أَخَذَ أيضًا العَهْدَ والميثاقَ مِن الذين ادَّعَوْا أنَّهم نَصَارى بأنْ يُطِيعُوا اللهَ، ويتَّبِعوا رُسلَه، فتَرَكوا قَدْرًا كبيرًا مما ذُكِّروا به مِنَ الوَحْيِ متعمِّدينَ، فعاقبَهم الله أنْ جعَل بينهم التباغُضَ والكراهيةَ والشِّقاقَ إلى يوم القيامَةِ، وسوف يُخْبِرهم سبحانه في ذلك اليَوْمِ بما كانوا يَفْعَلونه في الدُّنيا، وسيُعاقِبُهم عليه.
تفسير الآيات:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14).
مُناسَبَةُ الآياتِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنينَ بالوَفاءِ بعَهْدِه ومِيثاقِه، الذي أَخَذَه عليهم على لِسانِ عَبْدِه ورسولِه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأَمَرَهم بالقيامِ بالحقِّ والشَّهادَةِ بالعَدْلِ، وذكَّرَهم نِعَمَه عليهم الظَّاهِرةَ والباطِنَةَ، فيما هداهم له من الحقِّ والهُدى؛ شرَعَ يُبَيِّنُ لهم كيف أخَذَ العُهودَ والمواثيقَ على مَن كان قَبْلَهم مِن أَهْلِ الكِتابينِ: اليهودِ والنَّصارى
، فقال تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
في هذه الآيَةِ وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ناسَبَ ذِكْرُ ميثاقِ بني إسرائيلَ عَقِبَ ذِكْرِ ميثاقِ المُسلمينَ مِنْ قَوْلِه: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ؛ تحذيرًا من أنْ يكونَ ميثاقُ المسلمينَ كمِيثاقِهم، ولكي يؤدِّيَ المسلمونَ مِن جانبِهم ما استُحْفِظُوا عليه، ويتَّقُوا أن يَنقُضُوا ميثاقَهم معه ، فقال تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
أي: قد أَخَذْنا على مَن تَقَدَّمَ مِن أَسْلافِ اليهودِ عَهدًا ثقيلًا مؤكَّدًا وغليظًا .
وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا.
أي: وأقَمْنا عليهم اثْنَي عَشَرَ رئيسًا، موكولًا إليهم مُهِمَّةُ تَلقِّي مبايعَةِ مَن تَحْتَهم على السَّمْعِ والطَّاعَةِ؛ وفاءً بعهد الله تعالى، ومُهِمَّةُ تَوجيهِهم وحثِّهم على القيامِ به، ومُطالَبَتِهم به .
وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ.
أي: وقال اللهُ تعالى لبني إسرائيلَ: إنِّي مَعَكم بالحِفْظِ والعَوْنِ، والنَّصْرِ والتَّأييدِ .
ثم ذَكَر اللهُ عزَّ وجلَّ ما وَاثَقَهم عليه ، فقال:
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ.
أي: واللهِ إنْ أدَّيتُم- يا مَعْشَرَ بني إسرائيلَ- الصَّلاةَ على نحوٍ مُستقيمٍ ظاهرًا وباطنًا، ودَفَعْتُم الزكاةَ إلى مُستحِقِّيها كما أَمرْتُكم .
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي.
أي: وإنْ صَدَّقْتُم رُسُلي فيما جَاؤُوكُمْ به مِنَ الوَحْيِ، وأَقرَرْتُم وأَذْعَنْتُم وانْقَدْتُم لهم، دونَ تفريقٍ بينهم، ومنهم محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ.
أي: وإنْ نَصَرْتُموهم على أَعْدائِهم .
كما قال اللهُ تعالى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 8-9].
وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا.
أي: وإنْ أَنْفَقْتُم في سبيلِ الله تعالى عن إخلاصٍ وصِدْقٍ؛ ابتغاءَ مَرْضاةِ الكريمِ الوهَّابِ، واحتسابًا لجزيلِ الأَجْرِ والثَّوابِ .
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ.
أي: لَئِنْ قُمْتُم بهذه الأُمُورِ التي افتَرَضْتُها عليكم، لأُغَطِّيَنَّ بعَفْوِي عنكم على ذُنوبَكم التي سَلَفَتْ منكم، ولا أُؤَاخِذُكم بها .
وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: وسأُدخِلُكم يومَ القيامَةِ جنَّاتٍ تَجري فيها الأنهارُ مِن تحت أَشْجارِها وقُصُورها .
فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ.
أي: فمَن خالَف هذا الميثاقَ المؤكَّدَ وجَحَدَه، فقد عَدَلَ عن طَريقِ الحقِّ الواضِحِ، وتاهَ عن الصِّراطِ المُستقيمِ .
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13).
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ.
أي: فبِسَبَبِ عَدَمِ وفاءِ اليَهودِ بالعَهْدِ المؤكَّدِ الذي أُخِذَ عليهم؛ طَرَدْناهم مِنْ رَحْمَتِنا، وأَبْعَدْناهم عن الحقِّ والهُدى .
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً.
القراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفْسيرِ:
في قَوْلِه تعالى: قَاسِيَةً قِراءتانِ :
1- قَسِيَّةً بتَشْديدِ الياءِ من غير ألِفٍ، على وَزْنِ (فعيل)؛ للمبالغَةِ، وقيل: لإفادَةِ معنى التَّكريرِ، وهذا أبلغُ في الذَّمِّ والمَدْح من (فاعل)، وقيل: (قَسِيَّة)، أي: رَدِيئة، فتكون القُلُوبُ القَسِيَّةُ هي التي لَيْسَتْ بخالصةِ الإيمانِ، أي قد خالَطَها كُفْرٌ، فهي فاسِدَةٌ .
2- قَاسِيَةً بالأَلِف وتخفيفِ الياءِ، اسمُ فاعِلٍ مِن قَسَا يَقْسُو، والقلوبُ القاسِيَةُ هي الغَلِيظةُ البائِنَةُ عن الإيمانِ، والتي نُزِعَت منها الرَّحمةُ والرَّأفة .
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً.
أي: وبِسَبَب عَدَمِ وفائِهم بالعَهْدِ المؤكَّدِ الذي أُخِذَ عليهم، عاقَبْناهم أيضًا بأنْ جَعَلْنا قُلُوبَهم ملازِمةً لصِفَةِ القَسْوَةِ والغِلْظَةِ، مَنزوعًا منها الخَيْرُ، وإذا ما اتَّعَظوا؛ فإنَّه لا تُجْدِي فيهم المواعِظُ، وإذا تُلِيَتْ عليهم الآياتُ؛ فإنَّهم لا يَنْتَفِعونَ بها، فلا يُرغِّبُهم تشويقٌ، ولا يُرَهِّبُهم تخويفٌ .
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
أي: إنَّ قَسْوَةَ قُلوبِهم جَعَلَتْهم يُحرِّفونَ كلامَ ربِّهم في التَّوراةِ التي أَنْزَلَها على نبيِّهم مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فتأوَّلوا كلامَه على غَيْرِ ما أَنْزَلَه، وحَمَلُوه على غيرِ مُرادِه، وقالوا عليه ما لم يَقُلْه تعالى وتَقدَّسَ .
وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
أي: ونَسُوا نصيبًا مِن وَحْيِ الله تعالى، فضاعَ منهم، كما أنَّهم أَهْمَلوا- وتَركوا عن عَمْدٍ- نصيبًا منه، فلم يَعْمَلوا به؛ رَغبةً عنه، فضيَّعوا أمْرَ اللهِ عزَّ وجلَّ .
وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
أي: ولا تزالُ- يا محمَّدُ- تكتَشِفُ وتشاهِدُ مِنَ اليَهودِ شيئًا ممَّا هم مُسْتَمِرُّونَ عليه مِنَ المَكْرِ والغَدْرِ، والخيانَةِ والخَديعةِ لك ولأصحابِك، إلَّا قليلًا من اليَهودِ قد سَلِموا من ذلك؛ فهم يُوفُونَ بِمَا عُوهِدُوا عليه .
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ.
أي: فتَجَاوَزْ- يا محمَّدُ- عن أولئك القَوْمِ، ولا تُؤاخِذْهم على ذلِك، وأَعْرِضْ عنهم .
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
أي: إنَّما أَمَرْناك بالعَفْوِ والصَّفْحِ عن أولئك القَوْمِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّ عبادَه المُحسنينَ، الذين مِن إِحْسَانِهم العفوُ والصَّفحُ عمَّن أَسَاءَ إليهم .
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) .
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ.
أي: وأَخَذْنا مِنَ الَّذينَ ادَّعَوْا أنَّهم نَصَارى يَنصرُون الحقَّ، ويتَّبِعُونَ المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ عليه السلام؛ أخَذْنا عليهم العُهُودَ والمواثيقَ على طاعَتِي واتِّباعِ رُسُلِي .
فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
أي: فنَسُوا نَصيبًا مِن وَحْيِ اللهِ تعالى، فضاع منهم، كما أنَّهم أَهْمَلوا- وتَرَكوا عن عمدٍ- نصيبًا منه، فلمْ يعملوا به؛ رغبةً عنه، فضيَّعوا أَمْرَ اللهِ سبحانه .
فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أي: لَمَّا ترَكَ هؤلاء النَّصارى الوَفَاءَ بعهْدِي، عاقَبْناهم بأنْ جَعَلْنا بينهم الشِّقاقَ والعَدَاءَ والتباغُضَ؛ بالأَهواءِ التي حدَثتْ بينهم، واختلافِهم في قَوْلِهم في المسيحِ، فتَسَلَّط بعضُهم على بعضٍ، فكَفَّرَ بَعْضُهم بعضًا، ولعَن بَعْضُهم بعضًا، ولا يزالونَ كذلك إلى قِيامِ السَّاعَةِ .
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
أي: وسوف يُخْبِرُهم اللهُ عزَّ وجلَّ- عند وُرودِهم عليه في مَعادِهم- بما كانوا يَعْمَلونه في الدُّنيا مِنْ نَقْضِهم ميثاقَه، ونَكْثِهم عَهْدَه، فيُعاقِبُهم على ذلك بحَسَبِ استحقاقِهم
.
الفوائد التربوية:
1- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا أنَّه ينبغي للنَّاسِ أن يتَّخِذوا نُقَبَاءَ يرجعونَ إليهم في أُمُورِهم؛ عند النِّزاع يكونونَ مُصلِحين، وعند الإِشكالِ يكونون مُوَضِّحينَ، وما أشبهَ ذلك
.
2- في قَوْلِه تعالى: إِنِّي مَعَكُمْ هذه المعيَّةُ دَلالةٌ على عِظَمِ الاعتناءِ والنُّصْرةِ، فمَن كان اللهُ معه، فلا شَيءَ إذنْ ضِدُّه، ومهما يكُنْ ضِدَّه من شيءٍ، فهو هباءٌ لا وُجودَ في الحقيقةِ له ولا أَثَرَ، ومَن كان اللهُ معه فلن يَضِلَّ طريقَه، ومَن كان اللهُ معه فلنْ يَقْلقَ ولن يَشقَى؛ فإنَّ قُرْبَه من الله يُطَمْئِنُه ويُسْعِدُه، وعلى الجملةِ فمَن كانَ الله معه فقد ضَمِن، وقد وصَلَ، وما له زِيادةٌ يَستزيدُها على هذا المقامِ الكريمِ .
3- وُجوبُ نُصْرَةِ الرُّسُلِ؛ لقوله: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ، فنُصْرَتُهم في حياتهم أن يكونَوا معهم في الجهادِ والدِّفاعِ، وغير ذلك، ونُصْرَتُهم بعد وَفاتِهم أن يَنصُروا شَرَائِعَهم ويُقِيمُوها بين النَّاسِ، فواجِبٌ علينا نحن الآن أن نَنْصُرَ شريعةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ .
4- أنَّه يُبْدَأُ بالنَّجاةِ مِنَ المرْهوبِ قبل بيانِ حُصُولِ المَطْلوبِ؛ لِقَوْلِه: لأَكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأَدْخِلَنَّكُمْ، وهو شاهدٌ لِمَا اشْتَهَرَ عند العُلماءِ أنَّ التَّخْلِيَةَ قَبل التَّحْلِيَة، أي: إزالةُ الشَّوائِبِ والعوائِقِ قبل أن يَحصُلَ المَطْلوبُ .
5- قَوْله: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ فيه أنَّ المؤمِنَ اهتدى إلى سواءِ السَّبيلِ؛ أي: وَسَطَها دُونَ حافَتَيْها، وجهُ ذلك: أنَّه إذا ثَبَتَ في حُكم الكافِرِ ضلالُ سواءِ السَّبيلِ، فَيَثْبُتُ ضدُّ حُكْمِه للمُؤْمِنِ؛ وذلك لأنَّه إذا تضادَّتِ الأَعْمالُ تضادَّتِ الجزاءاتُ .
6- يُستَفادُ من قوله تعالى: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً أنَّ للقُلوبِ أحوالًا: قسوةً ولينًا، وأنَّه كلَّما عصى الإنسانُ ربَّه قَسَا قلبُه، وعلى العكس: كلَّما أطاعَ الإنسانُ ربَّه لانَ قلبُه، وما أكثرَ الذين يَطلُبون أن تلينَ قلوبُهم، ويسألونَ ما هو الدواءُ لقَسْوَةِ القَلْبِ؟ فالجوابُ أنَّ الدَّواءَ لقَسْوَةِ القلب: كثرةُ طاعَةِ الله عزَّ وجلَّ ، والإكثارُ مِن الذِّكْرِ، وقراءةُ القرآنِ بتدبُّر.
7- أنَّ المعاصِيَ سببٌ لقلَّة فَهْم كلام الله عزَّ وجلَّ، أو للعُدْوانِ في فَهمِه؛ لقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ، وتحريف الكَلِم عن مواضعه: إمَّا أن يكون سببُه الجهلَ وفَقْدَ العِلم، وإمَّا أن يكون سببُه الاستكبارَ والعدوان، فالمعاصِي سببٌ لعَدَمِ الأخْذِ بالنُّصوصِ، وسببٌ لتَحْريفِها .
8- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه تعالى: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أنَّ قسوةَ القلبِ، وتحريفَ الكَلِمِ عن مواضعه، ونِسيانَ ما ذُكِّرَ به الإنسانُ؛ مِن خصالِ اليهودِ، وإذا كانتْ من خِصالِهم، فالواجبُ على الإنسانِ أن يبتَعِدَ عنها، وأن يَفِرَّ منها فِرارَه مِنَ الأَسَدِ .
9- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ حُسْنُ معامَلَةِ الإسلام لعدوِّه، وذلك حين أَمَرَ اللهُ بالعفو عنهم والصَّفْحِ، ولا سيَّما إذا ظَهَرَ النَّصْرُ لنا، فحينئذٍ يأتي دورُ العَفْوِ؛ لأنَّ العَفْوَ الحقيقيَّ الذي يُمدَحُ عليه صاحِبُه، هو: العَفْوُ مع القُدْرَةِ، أمَّا العَفْوُ مع العَجْزِ، فهذا ليس بِعَفْوٍ، ولا يُحمَدُ عليه الإنسانُ .
10- قوله: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ هذا كالتَّعليلِ لِمَا سبَق مِنْ قَوْلِه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، أي: إنَّما أَمَرْناك بالعَفْوِ والصَّفْحِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يحبُّ المحسنينَ، وفيه أيضًا أنَّه إذا كان اللهُ يُحِبُّ ذلك فلا ينبغي التأخُّرُ في العَمَلِ به، وفيه الحثُّ على الإِحْسانِ ومَكارِمِ الأخلاقِ الجالِبةِ لحبِّ الله تعالى .
11- أنَّ عدَمَ المؤاخَذةِ على الذَّنبِ من الإحسانِ؛ لقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
12- أنَّ إضاعةَ حقِّ اللهِ مِن أسبابِ إلْقاءِ العَداوةِ والبَغْضِاءِ بين الناس، بمعنى أنَّك متى وجدْتَ عداوةً وبَغْضاءَ بين النَّاس، فهذا بسببِ إعراضِهم عن دِين اللهِ؛ لقوله: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا، فالفاءُ في فَأَغْرَيْنَا للسَّبَبيَّةِ، والعكْسُ يكون بالعَكْسِ، بمعنى أنَّ النَّاسَ إذا قاموا بِطاعَةِ اللهِ واتَّفَقوا عليها، فإنَّ اللهَ يُلقي بينهم المودَّةَ والمحبَّةَ والولايةَ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- أنَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ مفروضةٌ على الأُمَمِ السَّابقة؛ لِقَوْلِه: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، فالصَّلواتُ والزَّكوات مفروضةٌ، لكن لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِها مفروضةً أن تكونَ مماثِلَةً لِمَا وجَبَ علينا في الكيفيَّةِ والوَقْتِ والمقدار
.
2- بيانُ فَضْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ على العِبادِ؛ حيث إنَّه يُعْطِيهم الرِّزْقَ، ثمَّ يقولُ تعالى: وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا، وهو المُعطي أولًا، والمثيبُ ثانيًا؛ لقوله: وَأَقْرَضْتُمُ، والحكمةُ في التَّعبيرِ عن الإِنْفاقِ في سبيلِ الله بالقَرْضِ، أنَّ اللهَ جعَلَ الإنفاقَ في سبيلِه بمنزلَةِ القَرْضِ الذي يَلْزَم المُستَقْرِضَ أنْ يُوَفِّيَه .
3- قوْلُه تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ إشارةٌ إلى إزالةِ العِقابِ، وقولُه: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ إشارةٌ إلى إيصالِ الثَّوابِ؛ فجَمَعَ لهم بين حصولِ المحبوبِ بالجَنَّةِ وما فيها من النَّعيمِ، واندفاعِ المكروهِ بتكفيرِ السيِّئاتِ، ودفْعِ ما يترتَّبُ عليها من العُقوباتِ .
4- أنَّ نعيمَ الجنَّة نعيمٌ للنَّفْسِ والقَلْب، والسَّمْعِ والبصر، وكلِّ شيءٍ، وذلك حينما ذكَر أنَّ هذه الجَنَّاتِ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وهذا لا شَكَّ أنه يُطْرِبُ السَّمْعَ، فحفيفُ جَريانِ النَّهْرِ يُطْرِبُ السَّمع؛ ولهذا تَجِدُ الإنسانَ يقِفُ عند الشلَّالاتِ متمتِّعًا بالاستماعِ إليها، وكذلك النَّظَر أيضًا، وكذلك القَلْبُ، والنَّفْسُ تستريحُ .
5- في هذه الآيَةِ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ لطيفةٌ جليلةٌ، وهي أنَّ الضلالَ بعدَ الإيمانِ أظهَرُ وأعظَمُ؛ لأنَّ الكُفْرَ إنَّما عَظُم قُبْحُه لِعِظم النِّعْمَةِ المكفورةِ، فإذا زادتِ النعمةُ زاد قُبحُ الكُفرِ، وبَلَغ النِّهايةَ القُصْوى .
6- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ التَّنبيهُ على أنَّ الغالِبَ أنَّ وَسَطَ السَّبيلِ والطَّريقِ هو الحقُّ؛ لأنَّ سَوَاءَ بمعنى وَسَط؛ كَقَوْله تعالى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55] ، أي: في وسَطِها ومستَقَرِّها، وهذا هو الغالِبُ؛ أنَّ ما تَطرَّفَ عن الوَسَطِ، فهو ضلالٌ .
7- قوْلُه تعالى: ونَسُوا حَظًّا: عبَّر بالماضي نَسُوا؛ لأنَّ النِّسيانَ لا يتجَدَّدُ، فإذا حَصَلَ مضى، حتى يذكِّرَه مذكِّرٌ .
8- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا أنَّ النِّسيانَ يأتي لمعنيينِ: الأوَّل: النِّسيان العَمليُّ، ومعناه التَّرْك، والثَّاني: النسيانُ العِلميُّ، وهو النسيان بعدَ الذِّكْر، والمرادُ مِنَ الآيَةِ كِلاهما .
9- أنَّ هؤلاء قد أُقيمَتْ عليهم الحُجَّة، ولكنَّهم ترَكوا العَمَلَ بعد إقامَةِ الحُجَّةُ؛ لقوله: مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ .
10- أنَّ خِيانةَ اليَهودِ لا تزالُ باقيةً؛ لِقَوْلِه: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ، وفي ذلك تسليةٌ له صلَّى الله عليه وسلَّمَ ، وإرشادٌ للمُسلمين في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ألَّا يَنخْدِعوا بهم.
11- إثباتُ المحبَّةِ لله تعالى؛ لقوله: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، ومحبَّةُ الله عزَّ وجلَّ ثابتةٌ بالكِتابِ والسُّنة وإجماعِ السَّلَفِ .
12- إقامةُ الحُجَّة على الخَصمِ بما يَدَّعيه؛ لقوله: قَالُوا إِنَّا نَصَارَى؛ لأنَّه تقدَّم أنَّ الحِكمةَ مِنْ قَوْلِه: قَالُوا إِنَّا نَصَارَى دون قَوْلِه: (ومِن النَّصارى)؛ لإقامَةِ الحُجَّة عليهم بما ادَّعوه، فهم يَدَّعون أنَّهم نصارى، ومع ذلك نَسُوا حظًّا ممَّا ذُكِّروا به؛ فقد سَمَّوا أنفُسَهم بهذا الاسْمِ؛ ادِّعاءً لنُصرةِ الله تعالى، فبيَّن اللهُ تعالى أنَّهم يَدَّعونَ هذه الصِّفَةَ، ولكنَّهم ليسوا موصوفينَ بها عند الله تعالى، ولم يُحقِّقُوها في حياتهم واقعًا .
13- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ وكذلك من قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وقَوْلِه: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ، أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لم يُغْفِل أُمَّةً من الميثاقِ الذي أخَذَه عليهم؛ فأخَذَ الميثاقَ على اليهودِ، وأخَذَه على النَّصارى، وأخَذَه على هذه الأُمَّة؛ بل أخَذَه على جميعِ بني آدمَ .
14- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ التفريقُ بين العَداوَةِ والبَغضاءِ، العداوة: ضِدُّها الوَلاية، والبَغضاء: ضدُّها المحبَّةُ، وهناك فرقٌ بين حبيبٍ ليس وليًّا وبين حبيبٍ هو وَلِيٌّ، وبين بغيضٍ ليس عدوًّا، وبغيضٍ هو عدوٌّ؛ لأنَّ البَغيضَ قد يَعتدي عليك فيكون بذلك بَغيضًا عدوًّا، وقد لا يَعتدي عليك، ولكن يَكْرَهُك فقط، فلا يكون عدوًّا .
15- الردُّ على الجبريَّة؛ لقوله: يَصْنَعُونَ، فأضافَ الفعلَ إليهم، والأَصْلُ أنَّ الفِعْلَ إذا أُضيف إلى أحدٍ، فإنَّه قائمٌ به، مختار له، والجَبْرية يقولون: إنَّ الإنسانَ مجبَرٌ على عَمَلِه، حتى في الحرَكاتِ الإراديَّةِ، يقولون: هو مُجبَر، حتى لو أراد الإنسانُ أن يأكلَ أو يشربَ، يقولون: هو مُجبَرٌ على ذلك، ولا شكَّ أنَّ قَوْلَهم هذا يُخالِفُ المحسوسَ والمعقولَ والمنقولَ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ...
- قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فيه تأكيدُ الخَبَرِ الفِعلي والاهتمامُ به؛ فـ(قَدْ)؛ للاهتمام به، والقَسَمُ الذي دلَّت عليه هذه اللَّامُ الموطِّئة يُفيدُ أنَّ اللهَ تعالى قد أخَذ العهد الموثَّقَ على بني إسرائيلَ لَيَعْمَلُنَّ بالتَّوراةِ التي شرَعها لهم؛ لإفادَةِ تأكيدِ هذا الأَمْرِ وتحقيقِه، والاهتمامِ بما رُتِّب عليه؛ لأنَّ الرَّسولَ قد عُلِّمَه بالوَحْيِ الإلهيِّ، وإنْ لم يَطَّلِعْ على تَوْراتهِم، ولا على شَيءٍ من تاريخِهم
.
- وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ: ذكَر الله سبحانه نَفْسَه بالغَيبة؛ تعظيمًا وتكبيرًا له جلَّ وعلا، وَجْهُه أنَّه لم يقُل: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا)، وهذا كما يقول الملكُ لجنوده: إنَّ المَلِك يأمرُكم أن تَفْعلوا كذا، لا يقول: إنِّي آمُرُكم، فإظهارُ الاسْمِ الجليل (اللهُ)؛ لتربيةِ المهابة، وتفخيمِ الميثاقِ، وتهويلِ الخَطْبِ في نَقْضِه، مع ما فيه من رِعاية حقِّ الاستئنافِ المُستدعِي للانقطاعِ عمَّا قَبْلَه .
2- وقوله: وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا: فيه التفاتٌ، حيث عبَّر بقوله: بَعَثْنَا بعد وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ، ولم يقل: (وأَخَذْتُ)؛ للجَريِ على سَنَنِ الكِبْرياءِ، وقيل: لأنَّ البَعْثَ كان بواسِطَة موسى عليه السَّلام ، فمِن أساليبِ البلاغة الانتقالُ من أسلوبٍ إلى آخَرَ؛ لتنبيهِ المخاطَب، ولا شكَّ أنَّ تغيُّر الأسلوبِ يُوجِبُ الانتباهَ .
- وفيه: تقديمُ الجارِّ والمجرورِ مِنْهُمُ على المفعولِ الصَّريحِ اثْنَي عَشَرَ؛ للاهتمامِ بالمقدَّم، والتَّشويقِ إلى المُؤَخَّر .
3- وقوله: وَقَالَ اللهُ فيه: التفاتٌ أيضًا؛ حيث لم يقُل: (وقُلْنَا) كما قال وَبَعَثْنَا، وفائدتُه: تربيةُ المهابةِ، وتأكيدُ ما يتضمَّنُه الكلامُ مِنَ الوَعْدِ .
4- قوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي فيه: تقديمُ الصَّلاةِ والزَّكاةِ على الإيمانِ؛ تشريفًا لهما، وقد عُلِمَ وتَقرَّر أنَّه لا ينفعُ عَمَلٌ إلَّا بالإيمانِ ، وأخَّرَ الإيمانَ بالرُّسُلِ عن إقامِ الصَّلاة وإيتاءِ الزكاة، مع أنَّه مقدَّمٌ عليهما؛ لأنَّ اليهودَ كانوا مُقرِّينَ بأنَّه لا بدَّ في حُصولِ النَّجاة من إقامِ الصَّلاةِ وإيتاء الزكاة، إلَّا أنَّهم كانوا مُصِرِّين على تكذيبِ بعضِ الرُّسُل، فذَكَر أنَّ بعدَ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا بدَّ من الإيمانِ بجميعِ الرُّسُل؛ حتى يحصُلَ المقصودُ، وإلَّا لم يكُن لإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزكاة تأثيرٌ في حُصولِ النَّجاة بدونِ الإيمانِ بجميع الرُّسُل .
5- قوله: وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فيه: تخصيصُ الإنفاقِ (الإقراض) بالذِّكْرِ؛ تنبيهًا على شَرفِه وعُلُوِّ مَرتَبَتِه .
- وفائدةُ إعادَةِ قَوْلِه: وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا بالرَّغمِ من أنَّه داخلٌ تحتَ إيتاءِ الزَّكاة؛ لأنَّ المرادَ بالزكاةِ الواجبةُ وبالقرضِ الصَّدقةُ المندوبةُ، وخصَّها تنبيهًا على شَرفِها، وقد نبَّه على الصَّدقاتِ المَندوبَةِ بذِكْرها فيما يترتَّبُ على المجموعِ تشريفًا وتعظيمًا لمَوْقِعِها من النَّفْعِ المتعدِّي .
6- قوله: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ: فيه إيجازٌ بديعٌ، وبيانُ ذلِك: أنَّ العَداوةَ والبغضاءَ اسمانِ لمعنَيينِ مِن جِنسِ الكَراهيةِ الشَّديدةِ؛ فهُمَا ضِدَّانِ للمحبَّةِ، وظاهِرُ عطفِ أَحدِ الاسمينِ على الآخَرِ في القُرآنِ أنَّهما ليسَا من الأسماءِ المترادِفةِ؛ لأنَّ التزامَ العَطفِ بهذا الترتيبِ يَبعُد أنْ يكونَ لمجرَّدِ التأكيد؛ فإذا كان كذلك لم يَصِحَّ اجتماعُ مَعنيي العَداوةِ والبغضاءِ في موصوفٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ؛ فيتعيَّن أنَ يكونَ إلقاؤُهما بينهما على معنى التَّوزيعِ، أي: أغَرْينا العداوةَ بين بعضٍ منهم والبغضاءَ بين بعضٍ آخَرَ؛ فوقَع في هذا النظم إيجازٌ بديعٌ؛ لأنَّه يرجِع إلى الاعتمادِ على عِلْمِ المخاطَبين بعدَم استقامةِ اجتماعِ المعْنَيَيْنِ في موصوفٍ واحدٍ؛ إذ إنَّ بين مَعْنَيَيِ العداوة والبغضاءِ التضادَّ والتبايُنَ؛ فالعداوةُ كراهيةٌ تَصدُر عن صاحِبِها: معاملةٌ بجَفاء، أو قطيعةٌ، أو إضرارٌ؛ لأنَّ العداوةَ مشتقَّةٌ من العَدْوِ، وهو التجاوُز والتباعُدُ. وأمَّا البغضاءُ فهي شدَّةُ البُغْضِ والكراهية، غيرَ مصحوبةٍ بعَدْوٍ، فهي مُضْمَرَةٌ في النَّفْسِ .
7- قوله: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى: خبرٌ فيه توبيخٌ لهم وزجرٌ عمَّا ادَّعَوْه مِن أنَّهم ناصِرو دِينِ الله وأنبيائِه؛ إذ جَعَل ذلك منهم مُجرَّدَ دَعوى لا حقيقة .
- وفيه تعريضٌ؛ حيث يُفيدُ لفظُ قَالُوا بطريقِ التَّعريضِ الكِنائيِّ أنَّ هذا القولَ غيرُ مُوَفًّى به، وأنَّه يَجِبُ أن يُوفَّى به .
8- قوله: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ: فيه تأكيدُ الكلامِ وتمكينُه في النَّفْسِ بذِكر (مَا) .
9- قوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ التعبيرُ بصِيغة المضارِعِ في قوله: يُحَرِّفُونَ؛ للدَّلالة على التجدُّدِ والاستِمْرارِ .
- والجملةُ استئنافٌ لِبَيانِ قَسْوةِ قلوبِهم؛ فإنَّه لا قسوةَ أشدُّ من تغييرِ كلامِ الله سبحانه وتعالى والافتراءِ عليه ، وقيل: حالٌ من مفعول لَعَنَّاهُمْ، أي: لعنَّاهم حالَ كونِهم محرِّفين الكَلِم .
10- قوله: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ: فيه تأكيدُ الوعيدِ بذِكْرِ كلمةِ (سَوْفَ). والالتفاتُ إلى ذِكر الاسمِ الجليلِ (الله)؛ لتربيةِ المهابَةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ؛ لتشديدِ الوعيدِ بعذابِ الآخِرَةِ .
8.======
سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان ( 15 - 16)
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ
غريب الكلمات:
سُبُلَ السَّلَامِ: طُرُقَ السَّلامَة، أو طُرُقَ الجَنَّة، أو طُرُقَ الله، وهي دِينُه
.
المعنى الإجمالي:
يُوجِّه اللهُ الخِطابَ إلى أهْلِ الكتابِ منَ اليهودِ والنصارى مُبيِّنًا لهم أنَّه قد بعَث إليهم رَسُولَه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم الذي يَعرِفونَ أوصافَه في كتُبِهم، يُظْهِرُ كثيرًا ممَّا كانوا يُخْفُونه عن النَّاسِ، ويوضِّحُ ما حرَّفوا وبدَّلوا مِن كلامِ الله، ويَتْرُكُ كثيرًا ممَّا غيَّروه وكَتَموه ممَّا لا فائدةَ مِن بيانه وذِكْرِه، ثم ذَكَّرَهم تعالى بأنَّه قد جاءَهم من اللهِ كتابٌ عظيمٌ، وهو القرآنُ الكريمُ، وهو نورٌ يُستضاءُ به في ظُلُماتِ الجَهْلِ والغَواية، ويبيِّن للخَلْقِ كلَّ ما يحتاجونَه من أمورِ دِينِهم ودُنياهم، ويُرشِدُ اللهُ به مَن أرادَ الوصولَ إلى رِضاه جلَّ وعلا، فيوفِّقُهم لسُلُوكِ طُرُقِ النَّجاةِ والأمْن والسَّلامَةِ في الدُّنيا والآخِرَةِ، حتى يَبلُغوا الجَنَّةَ؛ دارَ السَّلامِ، ويُخرجُهم من ظُلُماتِ الكُفْرِ والمعاصي إلى نورِ الإيمانِ والطَّاعة بمشيئَتِه سبحانه، ويَهديهم إلى الطَّريقِ القَويمِ، وهو دِينُه الحَنيفُ.
تفسير الآيتين:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى عن اليَهُودِ والنَّصارى نقْضَ العَهْدِ دَعاهم بعد ذلك إلى الإيمانِ بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ
فقال:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا.
أي: يا أيُّها اليهودُ والنَّصارى- يا من تَعلمونَ مِن التَّوراةِ والإنجيلِ صِفاتِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وثُبوتَ بَعْثتِه- ها قد أتاكم مُحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ.
أي: جاءَكم يُظْهِرُ كثيرًا ممَّا كنتم تَكتُمونَه عن النَّاسِ، ويُوضِّحُ ما بدَّلْتُموه وحرَّفْتُموه وأوَّلْتُموه على غيرِ وَجْهِه المُرادِ.
وممَّا كانوا يُخفونَ مِنْ أَحْكامِ التَّوراةِ: رجْمُ الزَّاني المحصَن، ومِن ذلك: ما أخفاه اليهودُ من صِفاتِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ في كتابِهم، وإنكارُهم أنَّهم يَعرفونَ أنَّه هو الرسولُ المُنتظَرُ، ومن ذلك: كتْمُ النَّصارى بِشارةَ عيسى ابنِ مريمَ لهم بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.
أي: ويَترُك ذِكرَ كثيرٍ ممَّا كَتَمْتموه وغيَّرْتُموه ممَّا لا فائدةَ في بيانِه، ولا ذِكْره .
قال تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام: 91] .
قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ.
أي: قد جاءَكم- يا أهلَ التَّوراةِ والإنجيلِ- مِنَ اللهِ تعالى القرآنُ العظيمُ، الذي نزَل على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ نورٌ يُستضاءُ به في ظُلماتِ الجَهالة، وعَمَايَةِ الضَّلالة، ويُنيرُ لكم به معالمَ الهِدايَةِ، وهو نورٌ في قلوبِ أَهْلِه المتَّبِعِينَ له، ونورٌ في وُجُوههم، ونورٌ في قُبُورِهم، ونورٌ لهم يومَ القيامَةِ، وهو كتابٌ يُبيِّنُ للخَلْقِ كلَّ ما يحتاجونَ إليه من أُمُورِ دِينِهم ودُنياهم .
يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16).
يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ.
أي: يُرشِدُ اللهُ عزَّ وجلَّ ويُسدِّدُ بهذا القرآنِ العظيمِ، مَن ابتغى بلوغَ مَرْضاةِ الله تعالى فأَقْبَل عليه، وأسلمَ وآمَنَ بالله ربًّا، وبمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ نبيًّا، فيُرْشِدُه ويوفِّقُه إلى اتِّباع شرائعِ الإسلامِ، التي فيها النَّجاةُ والأمنُ والسَّلامةُ في الدُّنيا والآخِرة، حتى يَستقرَّ في الجَنَّةِ؛ دارِ السَّلامِ، المنزَّهةِ عن كلِّ آفةٍ، والمُؤمَّنَةِ مِن كلِّ مَخافةٍ .
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ.
أي: ويُخْرِجُ مَن اتَّبَعَ رِضوانَه، وهَدَاه سُبُلَ السَّلامِ، مِن ظُلُماتِ الكُفرِ والشِّركِ والمعاصِي، إلى نورِ الإيمانِ واليقينِ والطَّاعَةِ بمشيئةِ الله عزَّ وجلَّ .
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أي: ويُرشِدُهم ويُسدِّدُهم إلى طريقٍ لا اعوجاجَ فيه، وهو دِينُ اللهِ القَويمُ
.
الفوائد التربوية:
1- أنَّه كلَّما اتَّبَعَ الإنسانُ ما يُرْضي اللهَ، ازدادَ معرفةً بشريعةِ اللهِ؛ لِقَوْلِه: يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ، وعلى العَكْسِ؛ فمَن أعْرَضَ عن رِضوانِ الله، فإنَّه لا يُهدَى سُبُلَ الله؛ لأنَّه ليس أهلًا للهِدايةِ
.
2- يُستَفاد مِن قَوْلِه سبحانه: سُبُلَ السَّلَامِ أنَّ مَن سلكَ سَبيلَ الشريعةِ فقد سَلِم سلامةً مُطلَقةً؛ في عقيدَتِه، وأعمالِه، وجزائِه؛ لأنَّ هذا المسلكَ سيؤدِّي به إلى دارِ السَّلامِ التي يدعو اللهُ تعالى إليها؛ كما قال عزَّ وجلَّ: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: 25] .
3- أنَّه كلَّما تمسَّكَ الإنسانُ بشريعةِ الله هداه اللهُ تعالى؛ لقوله: وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ فالمعاصي سببٌ للزَّيْغِ، والطَّاعةُ والامتثالُ سببٌ للهِدايَةِ والرَّشَد، وهذا له أمثلةٌ كثيرة في القرآنِ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ عبَّر بالمضارِعِ في يُبَيِّنُ إشارةً إلى أنَّ دِينَه وبيانَه لا ينقَطِعُ أصلًا بحِفْظِ كِتابِه، فكلَّما دَرَسَتْ سُنَّةٌ قيَّضَ الله عالِمًا يردُّ النَّاسَ إليها بالكِتابِ المعْجِز القائِمِ أبدًا؛ فلذلك لا يحتاجُ الأمْرُ إلى نبيٍّ مجدِّدٍ إلَّا عند الفِتنَةِ التي لا يُطيقُها العلماءُ، وهي فتنةُ الدَّجَّالِ ويأجوجَ ومَأْجوجَ
، وينزلُ عيسى عليه السَّلامُ حاكمًا بشريعةِ الإسلامِ، لا نبيًّا برسالةٍ مستقلةٍ، وشريعةٍ ناسخةٍ .
2- قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ: هم اليهودُ والنَّصارى، أضافَهم اللهُ تعالى إلى الكِتابِ، وسمَّاهم أهلًا له؛ لإقامةِ الحُجَّةِ عليهم ونَفْيِ العُذْرِ؛ فعندهم علمُ معرفةٍ؛ ويعرِفونَ الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم كما يعرِفون أبناءَهم .
3- رِفْعةُ شأنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ وذلك لِقَوْلِه: رَسُولُنَا، فإنَّ إضافةَ رِسالَتِه إلى الله لا شكَّ أنَّها شَرَفٌ، وكلُّ ما يُضافُ إلى الله فهو شَرَفٌ .
4- أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ مُرسَلٌ إلى أهلِ الكتابِ؛ لِقَوْلِه: قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا، وهو كذلك، فهو مُرْسَلٌ إليهم بالقرآنِ والسُّنةِ وإجماعِ المسلمين .
5- أنَّ أهلَ الكتابِ أهلُ كِتمانٍ للعِلم؛ لقوله: كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ، وأنَّ مَن كتَم العِلْمَ مِن هذه الأمَّة ففيه شَبَهٌ باليهودِ والنَّصارى؛ لأنَّ هذا هو دَأْبُهم؛ فمَن كتَم فقد شابَههم في أَقْبَحِ خَصلة- والعياذُ بالله- وهي كتمانُ ما جاءَهم مِنَ العِلْم .
6- قوْلُه تعالى: ممَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ... في هذه الآيَةِ دلالةٌ على صِحَّةِ نُبوَّةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ إعلامَه بما يُخفونَ مِن كِتابِهم- وقد أخْفَى النَّصارى التوحيدَ، وأخفى اليهودُ كثيرًا من أحكامِ الشَّريعةِ كرَجْمِ الزَّاني، وتحريمِ الرِّبا كافَّةً، كما أَخْفَوا جميعًا خبرَ بَعْثةِ النبيِّ الأميِّ- وهو أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يَكتُب ولا يَصْحَبُ القرَّاءَ؛ دلالةٌ على أنَّه إنما يُعلِّمُه اللهُ تعالى
7- قوله: سُبُلَ السَّلَامِ لم يَقُلْ: (سَبِيْلَ السَّلام)، مع أنَّ التعبيرَ الغالب أنه يُعبَّر عن طَريقِ الإسلامِ بالإفراد، وعن طُرُقِ الضلال بالجَمْع، لكن هنا لَمَّا قال: اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ تعيَّن أن يكونَ المرادُ بالسُّبُل هنا شرائعَ الإسلامِ؛ لأنَّه إذا كان متَّبِعًا لرضوان الله فقدِ اهتدى وأسلَمَ وآمَن، لكنَّ الإسلامَ له شرائعُ وله سُبلٌ؛ فلهذا قال: سُبُلَ السَّلَامِ، وإضافةُ السُّبل إلى السَّلام من بابِ إضافةِ الشيءِ إلى مُسبَّبِه؛ أي: السُّبلُ التي يَحصُل بها السَّلامُ، فالسَّلام مِن كل شيءٍ، والسَّلامُ من النَّار، والسَّلام من الزيغ، والسَّلام من الشُّبهات، يعني تشمَلُ كلَّ معنًى تحتمِلُه كلمة السَّلام، أمَّا الإسلامُ جملةً فهو سبيلٌ واحد .
8- إثباتُ الرِّضا لله تعالى؛ لقوله: يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ، فالرِّضوانُ بمعنى الرِّضا أو الرِّضا الكثيرِ، والرِّضا: صِفةٌ فعليَّة من صِفاتِ الله عزَّ وجلَّ، تتعلَّق بمشيئته ولها سببٌ، وسببُها عملُ العبدِ بتوفيقِ الله .
9- قوله تعالى: وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ فيه الردُّ على القَدَريَّة الذين يقولون: إنَّ اللهَ لا علاقةَ له بفِعل العَبْدِ .
10- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ أنَّ الشَّريعةَ نورٌ، وهي كذلك؛ هي نورٌ لا شكَّ، ولا يُحِسُّ بذلك إلَّا مَن آتاه الله تعالى إيمانًا ويقينًا كاملًا، وكلَّما كَمُل الإيمانُ ازدادَ الإنسانُ نورًا، وتَبيَّنَ له نورُ الشَّريعة .
11- قوْلُه تعالى: وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لفظة صِرَاطٍ مُفرَدةٌ؛ لأنَّ الحقَّ واحدٌ لِذَاتِه، ومُتَّفِقٌ من جميعِ جِهاتِه، وأمَّا الباطِلُ ففيه كثرةٌ، وكلُّها مُعْوَجَّة
.
بلاغة الآيتين:
1- قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ: فيه التفاتٌ إلى خِطابِ الفَريقينِ- اليهودِ والنَّصارى
، ووحَّد الكِتاب مع أنَّ لكلِّ فريقٍ كِتابًا؛ لأنَّه أراد جِنسَ الكِتابِ .
2- قوله: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ: جملة مُستأنَفةٌ مسوقةٌ لبيانِ أنَّ فائدةَ مجيءِ الرَّسولِ ليستْ منحصرةً فيما ذُكِرَ .
- وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ مِنَ اللهِ على الفاعِلِ نُورٌ للمُسارَعَةِ إلى بيانِ كَوْنِ المجيءِ من جِهته العاليةِ، والتَّشويق إلى الجائي، ولأنَّ فيه نَوعَ تطويلٍ يُخِلُّ تقديمُه بتجاوُبِ أطرافِ النَّظْم الكريمِ، وتنكيرُ نُورٌ؛ للتَّفْخيمِ .
- وجملة قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ بدلٌ مِن جملة قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا بدل اشتمالٍ؛ لأنَّ مَجيءَ الرسولِ اشتمَل على مجيءِ الهُدى والقرآنِ؛ ولذلك فُصِلتْ عنها-أي: لم تُعطَفْ عليها بالواو- وأُعيدَ حرفُ قَدْ الدَّاخِلِ على الجُملةِ المبدَلِ منها؛ زيادةً في تحقيقِ مَضْمونِ جُملةِ البَدل؛ لأنَّ تعلُّقَ بَدَلِ الاشتمالِ بالمُبْدَل منه أضْعَفُ من تَعَلُّقِ البَدَلِ المطابِق .
3- قوله: يَهْدِي بِهِ اللهُ فيه: توحيدُ الضَّميرِ في قوله: بِهِ مع أنه عائِدٌ على نُورٌ وِكِتَابٌ مُبِينٌ؛ لأنَّ المرادَ بالنُّورِ والكِتابِ المبينِ واحدٌ: (القرآنُ)، أو لأنَّهما كواحدٍ في الحُكم؛ إذا كان النورُ غيرَ الكِتابِ المُبينِ .
- وتقديمُ الجارِّ والمجرور (بِه)؛ للاهتمامِ، وإظهارِ لفظ الجلالةِ (الله) في موضِع الإضمارِ؛ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بأمْر الهِدايةِ .
9.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (17 - 19)
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
غريب الكلمات:
عَلَى فَتْرَةٍ: على حِين فُتورٍ من الإرسالِ، وانقطاعِ الوَحْيِ، وأصل الفُتور: السكون بعد الحِدَّة، واللِّينُ بعدَ الشِّدَّة، والضَّعْف بعد القُوَّة
.
بَشِيرٍ: مُبشِّرٌ مَن أطاعَه، وأصلُ البُشرى: ظهورُ الشيءِ مع حُسنٍ وجمالٍ .
نَذِيرٍ: مُنذِرٌ مَن عصاه، وأصْلُ النِّذارةِ: التخويفُ
.
المعنى الإجمالي:
يُخبر تعالى مُقْسِمًا أنَّ النَّصارى- القائلين بأنَّ الله هو عيسى ابنُ مريمَ- قد كَفروا، وأمَرَ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يقولَ لهؤلاء النَّصارى على سبيلِ الإِنْكارِ والتَّوبيخ: من ذا الذي يملِكُ مِنْ أَمْرِ الله وإرادته شيئًا يَدْفَعُ به الهلاكَ عن المسيح ِوعن أمِّه وعن سائرِ أهلِ الأرضِ، إن أرادَ الله أن يُهْلِكَهم ويُبِيدَهم، لا أحدَ يَستطيع أنْ يدفع عن نفسِه الهلاكَ، فالجميعُ تحتَ قدرةِ اللهِ وإرادتِه وقهرِه، والمسيحُ وأمُّه في ذلك كسائرِ المخلوقاتِ، فدلَّ ذلك على بُطلانِ أُلُوهيَّة مَن سِوَى اللهِ تعالى، وللهِ وَحْدَه مُلكُ السَّمواتِ والأَرْضِ وما بينهما؛ يَخلُقُ ما يشاء، وهو على كلِّ شيءٍ قادرٌ، لا يُعْجِزُه شيءٌ.
ثم يُخبر تعالى أنَّ كلًّا مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى ادَّعَوْا أنَّهم في القُرْبِ من اللهِ بمنزلَةِ أبنائِه، وأحِبَّائِه، وأمَر نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يقولَ لهم: إنْ كنتم حقًّا كما تَدَّعُونَ مِن كَوْنِكم أبناءَ اللهِ وأحباءَه، فلِمَ يُعذِّبُكم بذُنُوبِكم التي تَقْتَرِفونها؟! فالأمْرُ ليس كما تَدَّعُونَ، بل أنتم بشرٌ ممَّن خَلَقَ الله، يَغفِرُ لِمَن يشاءُ، ويُعذِّبُ مَن يشاءُ سبحانه، فله مُلْكُ السَّمواتِ والأرض وما بينهما، وإليه سبحانه المرجِعُ والمصيرُ في الآخِرَةِ.
ثم وجَّه الله الخطابَ إلى أَهْلِ الكتابِ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى، أنَّه قد جاءَهم رَسولُه محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُوضِّحُ لهم الطريقَ القويمَ، والدِّين الحقَّ، في وقتٍ اشتدَّت الحاجةُ إليه بعد انقطاعٍ من الرُّسُلِ؛ أَرْسَلَه اللهُ تعالى حتى لا يكونَ لهم حُجَّةٌ فيقولوا: ما جاءَنا من بشيرٍ ولا نَذيرٍ، فقد جاءهم بشيرٌ ونذيرٌ هو محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، واللهُ على كلِّ شيء قادرٌ، لا يُعْجِزُه شيءٌ، ومن ذلك قُدرتُه على خَلْقِ عيسى عليه السَّلامُ من أمٍّ بلا أبٍ، وقدرتُه على إهلاكِه وأُمَّه وجميعَ مَن في الأرضِ.
تفسير الآيات:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى أخْذَ الميثاقِ على أهلِ الكِتابينِ، وأنَّهم لم يَقوموا به، بل نَقَضُوه، ذكَر أقوالَهم الشَّنيعةَ، فذكَر قول النَّصارى وردَّ عليهم
، فقال:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.
أي: أُقْسِمُ على أنَّ الذين ادَّعَوا أنَّ عيسى ابنَ مريمَ هو الله، قد كَفروا .
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.
أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ النَّصارى الجَهَلَةِ الذين افتَرَوْا عليَّ، وضلُّوا عن سواءِ السَّبيلِ بقَوْلِهم: إنَّ اللهَ هو المسيحُ ابنُ مريمَ، قل لهم: فمَن الذي يُطيقُ إذَنْ أن يَدْفَعَ مِن أَمْرِ اللهِ جلَّ وعزَّ شيئًا، فيردَّه إذا قَضَاه؟! فلو أراد أن يُهلِكَ المسيحَ ابنَ مريمَ بإعدامِه من الأَرْضِ وإعدامِ أمِّهِ مريمَ، وإعدامِ جميعِ مَن في الأَرْضِ من الخَلْقِ جميعًا؛ فمَن الذي يَقدِرُ على مَنْعِه وصَرفِه عن ذلك؟! وإذا كان المذكورونَ لا امتناعَ عندهم يمنَعُهم لو أرادَ اللهُ أن يُهْلِكَهم، ولا قُدْرَةَ لهم على ذلك- دلَّ على بُطلان إلهيَّةِ مَن لا يمتَنِعُ من الإهلاكِ، ولا في قوَّتِه شيءٌ من الفَكاكِ .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ.
أي: وللهِ عزَّ وجلَّ وَحْدَه أمرُ تدبيرِ جميعِ ما في السَّمواتِ وما في الأَرْضِ وما بينهما وتصريفِها؛ فهُم خَلقُه، مملوكونَ له مُدَبَّرون بأمْرِه، فيُهْلِك منهم ما يشاءُ، ويُبْقِي منهم ما يَشاء، ويُوجِدُ ما أراد حتى لو كان من أمٍّ بلا أبٍ، ويُعْدِمُ ما أراد، لا يمنَعُه من ذلك مانِعٌ، ولا يَدفَعُه عنه دافعٌ؛ يُنْفِذُ فيهم حُكْمَه، ويُمْضِي فيهم قضاءَه، ولن يقدِرَ على ذلك أحدٌ غيرُ الله الواحِدِ القهَّار؛ فكيف زَعَمْتُم- أيُّها النَّصارى- أنَّ المسيحَ إلهٌ، وهو لا يُطيقُ شيئًا من ذلك؟! وكيف يكونُ المملوكُ العبدُ إلهًا معبودًا؟! فهذا من أعظمِ المُحالِ .
وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: إنَّ المعبودَ الحقَّ جلَّ جلالُه هو القادرُ على كلِّ شيء؛ فلا يُعْجِزُه شيءٌ أرادَه، ولا يَغْلِبه شيءٌ طلبَه، ومن ذلك قُدْرَتُه على خَلْقِ عيسى عليه السَّلامُ من أمٍّ بلا أبٍ، وهو القادِرُ أيضًا على إهلاكِ المسيحِ وأمِّه ومن في الأرض جميعًا سبحانه وتعالى .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18).
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
أي: قال كلٌّ من اليهودِ والنَّصارى: نحن أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤه، في مَودَّته وإكرامِه وإعزازِه لنا، وحُنوِّه وعَطْفِه علينا .
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ.
أي: قلْ لهم- يا محمَّدُ- إنْ كان الأمرُ كما تَدَّعونَ مِن أنَّكم أبناءُ اللهِ تعالى وأحبَّاؤُه، فأخْبروني- إذنْ- لِمَ أَعَدَّ اللهُ لكم نارَ جهنَّم على كُفْرِكم وافترائِكم وذُنُوبِكم؛ فإنَّ الحبيبَ لا يُعذِّب حَبيبَه، وأنتم مُقرُّون أنَّه مُعذِّبُكم؟!
كما قال تعالى عنهم: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة: 80] .
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ.
أي: ليس الأمرُ كما زعمتُم أنَّكم أبناءُ اللهِ وأحباؤُه، بل أنتم خَلقٌ خَلَقَكم اللهُ مثلَما خَلَقَ سائرَ بني آدمَ .
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ.
أي: يُعامِلُكم كما يعامِلُ سائرَ البَشَرِ، فتجري عليكم بحِكْمَتِه أحكامُه الدَّائرةُ بينَ عَدْلِه وفَضْلِه، ولا تغترُّوا بتلك الأمانيِّ، وبمنازلِ أنبيائِكم وصالحي آبائِكم عندَ الباري؛ فإنَّهم إنما نالوا القُرْبَ منه بطاعتِه، واجتنابِ مَعْصِيَتِه، فجِدُّوا أنتم أيضًا في ذلك .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
أي: وللهِ عزَّ وجلَّ وحدَه أمْرُ تدبيرِ جميعِ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ وما بينهما وتَصريفِه، فهم خلقُه ومُلكُه، وإليه وحده سبحانه المرجعُ والمنقلَبُ في الآخرة، فأيُّ شيءٍ خصَّكم بهذه الفضيلةِ التي تَزْعُمونها، وأنتم مِن جُملةِ المماليك، ومِن جُملةِ مَن يرجِعُ إلى اللهِ في الدَّارِ الآخِرَةِ، فيُجازيكم بأعمالِكم، واعلموا- يا مَن تدَّعونَ أنَّكم أبناءُ الله وأحبَّاؤه- أنَّه إنْ عذَّبكم بذُنُوبِكم، لم يكُن لكم منه مانِعٌ، ولا لكم عنه دافِعٌ؛ لأنه لا نسَبَ بينه وبين أحدٍ فيُحابِيَه، فاتَّقوا غَضَبَه وعِقابَه، ولا تغترُّوا بالأمانيِّ وفَضائِلِ الآباءِ .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19).
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا.
أي: يا أيُّها اليهودُ والنَّصارى- الذين أنعمَ اللهُ عليكم بالتوراةِ والإنجيلِ، وتَعلمونَ منهما بَعثةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ- ها قدْ أتاكم محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ.
أي: جاءَ يُوضِّحُ لكم الحقَّ، ويُبيِّنُ كلَّ ما تحتاجون إليه من المطالِبِ الإلهيَّةِ، والأحكامِ الشَّرعيَّة، وذلك بعدَ شِدَّةِ حاجةٍ إليه، ومُضِيِّ زمنٍ طويلٍ بين إرسالِ عيسى عليه السَّلام وبَعثةِ محمَّدٍ خيرِ الأنامِ .
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بابنِ مريمَ؛ الأنبياءُ أولادُ عَلَّاتٍ ، وليس بَيني وبينَه نبيٌّ )) .
وعن عِياضِ بنِ حِمار المُجاشعيِّ، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال ذاتَ يومٍ في خُطْبَتِه: ((ألَا إنَّ ربِّي أمَرَني أنْ أُعلِّمَكم ما جَهِلتُم ممَّا عَلَّمني يَومِي هذا: كلُّ مالٍ نَحَلْتُه عبدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلقْتُ عِبادي حُنفاءَ كلَّهم، وإنَّهم أَتتْهم الشياطينُ فاجْتالَتْهم عن دِينِهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أَحللْتُ لهم، وأَمَرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلْطانًا، وإنَّ اللهَ نظَرَ إلى أهلِ الأرضِ، فمَقَتَهم عرَبَهم وعَجَمَهم، إلَّا بَقايَا من أهلِ الكتابِ، وقال: إنَّما بَعثتُك لأَبتلِيَكَ وَأبتليَ بك، وأنزلتُ عليكَ كتابًا لا يَغسِلُه الماءُ، تَقرؤُه نائمًا ويَقْظانَ، وإنَّ اللهَ أمَرَني أنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فقلتُ: رَبِّ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسَي فيَدَعُوه خُبْزَةً، قال: اسْتَخْرِجْهم كما اسْتَخرَجوكَ، واغْزُهم نُغْزِكَ ، وأَنفِقْ فسنُنفِقُ عليك، وابعثْ جَيشًا نَبعثْ خَمسةً مِثلَه، وقاتِلْ بمَن أطاعَكَ مَن عَصاكَ... )) الحديث .
أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ.
أي: أَرْسلناه إليكم؛ قَطْعًا لعُذركم؛ كي لا تَحتجُّوا قائلين بأنَّه لم يأتِنا رسولٌ منذ عهدٍ طويلٍ، يُبشِّر بالخيرِ مَن آمَن به وأطاعَه، ويُنذرُ بالشرِّ مَن كذَّبَ به وعَصاه .
فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ.
أي: فها قد جاءَكم هذا البَشيرُ والنَّذيرُ؛ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فالآن لا حُجَّةَ لكم، ولا عُذرَ بَقِيَ لديكم .
وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: لا يُعجِزُ اللهَ تعالى شيءٌ أرادَه، ولا يفوتُه شيءٌ طَلَبَه، ومن ذلك قُدْرَتُه على بَعْثِ الرُّسل وإنزال الكتُبِ، وإثابةِ المؤمنينَ المُطيعينَ، ومعاقبَةِ المكذِّبين العاصينَ
.
الفوائد التربوية:
1- أنَّه ينبغي أن يُنادَى المخاطَب بالوَصْفِ الذي يَقتضي أن يقومَ بما وُجِّه إليه؛ لقوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ وهذا موجودٌ في اللُّغة العربيَّة، فإذا كنتَ تُخاطِب مؤمنًا تقول: يا أيُّها المؤمِنُ، وإذا كنت تُخاطِب رجلًا تقول: يا أيها الرَّجُلُ، ومن فوائد ذلك: أولًا: توبيخُ هذا الرَّجُلُ إذا خالف؛ لأنَّه لا يَنبغي أن يُخالِفَ وهو متَّصِفٌ بهذه الصِّفة. ثانيًا: حثُّه على الموافقَةِ باعتباره هذا الوصفَ الذي اتَّصف به
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قوله: إِنَّ اللهَ هُوَ فيه فائدة لُغويَّة؛ إذ إنَّ (هو) ضميرُ فَصْل، وضميرُ الفَصل يُفيد ثلاثةَ أشياءَ: الأوَّل: الحَصْر، والثاني: التوكيد، والثالث: التمييزُ بين الصِّفة والخَبَر، وهذا الأخيرُ أحيانًا يُستغنَى عنه، ويُعرَفُ الخبر بدونه، لكن يُؤتى به، كقوله تعالى: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الشعراء: 40] ، وقوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ أكَّدوا تأكيدًا بهذا الضميرِ أنَّ الله هو المسيحُ ابنُ مريم
.
2- جوازُ انتسابِ الإنسانِ إلى أُمِّه إذا لم يكُن له أبٌ؛ لقوله: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ .
3- شِدَّة الردِّ على النَّصارى؛ حيث قال الله عزَّ وجلَّ: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا؛ إذ إنَّ اللهَ إذا أراد شيئًا فإنَّ الشَّرَفَ والجاه والرِّئاسة ولو في الدِّينِ لا تمنع ممَّا أرادَ الله؛ لأنَّ المسيحَ ابنَ مريمَ عليه الصَّلاة والسَّلام مِن أُولي العَزمِ من الرُّسُلِ .
4- قوله: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ... فيه الردُّ على أهلِ الباطِلِ بالأدلَّة السمعيَّة والعقليَّة .
5- أنَّه عند المناظرة يَنبغي أنْ تَبدأَ بأوَّل مَا يَحتجُّ به المناظِرُ، وتُبَيِّن أنَّه على خِلاف ما ناظَرَ عليه؛ ووجهُ ذلك: أنَّ الله بدَأَ بذِكر إهلاكِ المسيحِ وأُمِّه، الذي يعتقِدُ هؤلاءِ أنه إلهٌ، قال تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا .
6- يَنبغي في المُناظَرَةِ إبطالُ حُجَّةِ الخَصْمِ، ثم الإتيان بما يُثْبِتُ خلافَ قَوْلِه، فالله عز وجل قال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، فنقَض سبحانه دعواهم أن يكونوا أحِبَّةً وأبناءً بأمرين: الأمرُ الأوَّل: أنَّهم أذنبوا. والأمرُ الثاني: أنَّهم عُذِّبوا. فكيف يقولون أنَّهم أبناءُ الله وأحباؤُه، وهم يعْصونه ويُذنبون؟! ثم كيف يكونُ حبيبًا لهم وهو يعذِّبُهم؟! ثم احتجَّ الله عليهم بعدَ أن أَبْطَلَ حُجَّتهم، فقال: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَنْ خَلَقَ، أي: كسائرِ البَشَرِ .
7- لَمَّا بطَل مُدَّعى النَّصارى أُلوهيَّةَ عيسى عليه السَّلام على أتْقَنِ منهاجٍ وأخْصَرِه، وذلك في قولِه تعالى: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ حيث وصَفه بما هو في غايةِ الوضوحِ في بطلانِ قولِهم؛ لبعدِه عن رتبةِ الألوهيَّة في الحاجةِ إلى امرأة فقال: ابْنُ مَرْيَمَ فهو محتاجٌ إلى كفالتِها بما لها مِن الأمومةِ، وكان ربما دقَّ على بعضِ الأفهام ذلك- أَوضَحَه بِقَوْلِه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ دالًّا على أنَّ المسيحَ عليه السَّلامُ عبدٌ مملوكٌ للهِ .
8- أنَّ عذابَ اللهِ لبني إسرائيلَ- أي: لليهودِ والنَّصارى- لم ينقطعْ ولن ينقَطِعَ؛ لقوله: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، فلم يقُل: فلِمَ عذَّبَكم؛ ليُستَفاد بذلك أنَّ تَعذيبَ اللهِ تعالى لهم مستمرٌّ؛ لأنَّ الفِعل المضارِعَ يُفيد الاستمرارَ .
9- الاحترازُ عمَّا يُوهِمُ باطِلًا؛ حيث قال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، ولم يقُلْ: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ فقط؛ لأنَّه لو قالَها بدون أنْ يَقْرِنَها بقوله: بِذُنُوبِكُمْ لأَوْهَم أنَّ اللهَ تعالى يُعذِّب بغيرِ ذنبٍ .
10- قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فيه الإشارةُ إلى أنَّ ما بين السَّماءِ والأَرْضِ هو خَلقٌ عظيمٌ، حتى جعَلَه اللهُ عزَّ وجلَّ عديلًا، أو قَسيمًا للسَّمواتِ والأَرْضِ .
11- قوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ، وقَبْلَها قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فاختَلَفَ ختْمُ الآيتينِ، فقال في السَّابقَةِ: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ لأنَّ المقام مقامُ ردٍّ على الذين قالوا: إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، أمَّا هنا فالمقامُ مقامُ تهديدٍ ووعيدٍ، فقال: وَإِلَيْهِ المَصِيرُ أي: إليه وحْدَه المرجِعُ لا إلى غيرِه؛ فقد تقدَّمَ الخبر وَإِلَيْهِ، وتقديمُ الخبرِ يُفيد الحَصْرَ، إذَن: فليست المسألَةُ مسألةَ دَعْوى أنَّكم أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤه، وإنَّما المسألَةُ مسألةُ عملٍ؛ إمَّا سيِّئ وإمَّا حَسَن .
12- قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا فيه إقامةُ الحُجَّة على الأمَّةِ؛ حيث إنَّ محمدًا رسولُ الله، فهو حُجَّةٌ عليه الصَّلاة والسَّلام، فبمُجرَّد أنْ شَهِد اللهُ أنَّه رسولُه، كان ذلك حُجَّةً، وقد قال الله تعالى: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ [النساء: 166] .
13- أنه لا حظَّ للرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام في شيءٍ من الرُّبوبيَّة؛ لقَوْلِه: قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا، ووجه ذلك: أنَّه رسولٌ، والرَّسولُ لا يُمكن أن يكون شريكًا للمُرسِلِ فيما يختصُّ به .
14- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مُبَيِّنٌ للخَلْقِ، وأنَّه ليس فيما جاء به شيءٌ من الغُموضِ والإلغازِ؛ لقوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ، أمَّا غيرُ العربِ من أهل الكتاب فبيانُه يكونُ عن طريق التَّرجمة؛ ولهذا لم يَنتشرِ الإسلامُ في البلادِ الأعجميَّة إلا بواسِطَةِ التَّرجمة، وأنَّه إذا احتجْنا إلى معرفة اللُّغاتِ الأجنبيَّة لبيانِ الشريعة، كان ذلك ممَّا يُثابُ عليه؛ لأنَّ مِن صفاتِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه يُبيِّنُ للنَّاسِ بأيِّ وسيلةٍ، وعلى هذا فمَن تعلَّمَ اللُّغةَ غيرَ العربيَّة مِن أجلِ الدَّعوة إلى الله، كان مُثابًا على ذلك؛ لأنَّها وسيلةٌ لتبيينِ الشَّريعةِ ونَشْرِها .
15- رِسالةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كانتْ على فترةٍ من الرُّسُلِ؛ ليس بينه وبين عيسى رسولٌ؛ لقوله: عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وكلَّما طال زمنُ الرِّسالةِ صار الناسُ أشدَّ حاجةً إلى الرَّسولِ؛ ولهذا جعَل اللهُ ذلك مِنَّةً عُظمى على أهلِ الكتابِ؛ حيث جاءَهم على فترةٍ، ومِثْل هذا يكونُ أيضًا في الواقعِ المَحْسُوس، فالإنسانُ الذي يَشرَبُ الماءَ على عطشٍ أشدُّ شوقًا إلى الماءِ والحاجةِ إليه مِن إنسانٍ يَشْرَبُه على رِيٍّ .
16- إثباتُ الرِّسالاتِ السابقة للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلام؛ لقوله: عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ والظَّاهِرُ أنَّ هذا يُشيرُ إلى أنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ هو آخِرُ الأنبياءِ؛ لقوله: مِنَ الرُّسُلِ يعني ليس بعدَه رسولٌ، وهذا هو الذي صرَّحَ الله به في كتابِه في قوله: وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] ، وقد قال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ولم يقُل: (وخاتم المُرسَلين) مع أنَّه قال: رَسُولُ اللهِ؛ لأنَّه قد يكون نبيًّا ولا يكون رسولًا، ومحمَّدٌ رسولُ الله صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليه خاتَمُ الأنبياءِ والمُرسَلينَ .
17- رحمةُ الله تعالى بالخَلْقِ؛ حيث أَرْسَلَ الرُّسلَ؛ لئلَّا يكونَ لأحدٍ حجَّةٌ عليه سبحانه؛ لقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، ومِن ثَمَّ فمَن لم تَبْلُغْه الرسالةُ فإنَّه معذورٌ .
18- أنَّه لا حُجَّةَ للإنسان بالقَدَرِ على مخالفةِ الرُّسُلِ؛ لقوله تعالى: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ وَجْهُ الدَّلالة: لو كان لهم حقٌّ لم يرتفعْ بإرسالِ الرُّسل، وهو كذلك .
19- أنَّه متى احْتِيجَ إلى التوكيدِ، فلا عيبَ في التَّكرارِ؛ لقوله: فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ بعد قوله: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، ولهذا كان مِن آدابِ الخُطبةِ أنَّ الإنسانَ يُكرِّر في المواضع المهمَّة، وأنَّ هذا لا يُعَدُّ عِيًّا ولا يُعدُّ زيادةً .
20- ختَم الله عزَّ وجلَّ هذه الآيةَ بالقُدرَةِ في قوله: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ إشارةً إلى أنَّه تبارك وتعالى قادِرٌ على بَعْثِ الرُّسلِ، وقادرٌ على ألَّا يَبْعَثَهم، وأنَّ الأَمْرَ كلَّه بيدِه تبارك وتعالى
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا: فَمَنْ استفهامٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ، أي: لا يُوجَدُ أحدٌ يستطيعُ أن يردَّ إرادتَه؛ لأنَّه هو المالكُ لأمرِ الوجودِ كلِّه، ولا يملكُ أحدٌ مِن أمْرِه شيئًا يستطيعُ به أن يَصرِفَه عن عملٍ يُريدُه، أو يَحمِلَه على أمرٍ لا يُريدُه، أو يَستقِلَّ بعملٍ دونَه
، والفاءُ عاطفةٌ للاستفهامِ الإنكاريِّ على قَوْلِهم: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ؛ للدَّلالَةِ على أنَّ الإنكارَ ترتَّب على هذا القَوْلِ الشَّنيعِ؛ فهي للتَّعقيبِ الذِّكْرِيِّ .
- وتنكيرُ شَيْئًا للتَّقليلِ والتَّحقيرِ، ولَمَّا كان الاستفهامُ في قوله: فَمَنْ يَمْلِكُ بمعنى النَّفْيِ، كان نفيُ الشَّيءِ القليل مقتضيًا نفيَ الكثيرِ بطريق الأَوْلى .
2- قوله: إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فيه: عَطْفُ العامِّ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا على الخاصِّ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ؛ ليكونَا قد ذُكرَا مرَّتين: مرَّةً بالنصِّ عليهما، ومرَّة بالاندراجِ في العامِّ، وذلك على سبيلِ التَّوكيدِ والمبالَغَةِ في تعلُّق نَفاذِ الإرادةِ فيهما، وكذلك تأكيدُ عَجْزِ المسيحِ .
3- قوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: تذييلٌ فيه تعظيمُ شأنِ اللهِ تعالى، وردٌّ آخَرُ عليهم بأنَّ الله هو الذي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ، ومَلَكَ ما فيها من قَبْلِ أن يظهرَ المسيحُ؛ فالله هو الإلهُ حقًّا، وأنَّه يَخلُقُ ما يشاء، فهو الذي خَلَقَ المسيحَ خلقًا غيرَ معتادٍ؛ فكان مُوجِبَ ضلالِ مَن نَسَبَ له الأُلوهيَّةَ .
- وجملة: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا جملةٌ مؤكِّدةٌ لِقَوْلِه: إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ودالَّة على أنَّه إذا أراد فَعَلَ؛ لأنَّ مَن له ذلك المُلْك يَفعلُ في مُلْكِه ما يشاءُ .
4- قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فيه إيجازٌ: حيثُ إنَّ ظاهِرَ اللَّفظ: أنَّ جميعَ اليهودِ والنَّصارى قالوا عن جميعِهم ذلك، وليس كذلك، بل في الكلامِ لفٌّ وإيجازٌ. والمعنى: وقالت كلُّ فِرقةٍ من اليهودِ والنَّصارى عن نفْسها خاصَّةً: نحن أبناءُ الله وأحبَّاؤُه .
5- قوله: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ فيه: تعريضٌ أيضًا بأنَّ المسيحَ عليه السَّلام بَشَرٌ .
6- قوله: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ: فيه احتراسٌ؛ لأنَّه لَمَّا رتَّبَ على نَوَالِ العذاب إيَّاهم أنَّهم بشرٌ، دفَع توهُّمَ النَّصارى أنَّ البشريَّة مقتضيةٌ استحقاقَ العذابِ بوراثةِ تبعةِ خَطيئة آدَم، فقال: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، أي: مِن البَشَرِ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ .
7- قوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ: فيه إيثارُ الجملةِ الفعليَّة على غيرها؛ للدَّلالةِ على تجدُّدِ البيانِ .
8- قوله: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ: زِيادَةُ ذِكْرِ مِنْ في الفاعِلِ؛ للمبالغةِ في نفْي المجيء، وتَنكير بَشِيرٍ ونَذِيرٍ؛ للتَّقْليلِ .
9- قوله فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ التنوين في بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ؛ للتَّفخيمِ، أي: لا تَعتذِروا بذلك؛ فقد جاءَكم بشيرٌ أيُّ بشيرٍ، ونذيرٌ أيُّ نذيرٍ .
- قوله: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: اعتراضٌ تذييليٌّ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبْلَه، وإظهارُ الاسْمِ الجليلِوَاللَّهُ للتَّعليلِ، وتقويةِ استقلالِ الجُملةِ
.===============
سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (20 - 26)
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
غريب الكلمات:
الْمُقَدَّسَةَ: أي: المطهَّرةَ المُعظَّمة؛ فالتَّقديسُ: هو التَّطهيرُ والتَّعظيمُ
.
وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ: ولا تَرجِعوا مُدبِرين، والردُّ: صرْفُ الشيءِ بذاتِه، أو بحالةٍ من أحوالِه؛ يُقال: رَددتُه فارتدَّ، والارتدادُ والرِّدَّة: الرُّجوعُ في الطَّريقِ الذي جاء مِنه، ومنه قيل للكافرِ بعدَ إسلامِه: مُرتدٌّ. وأصْل الدُّبُر: آخِرُ الشَّيءِ وخَلفُه، وهو ضِدُّ القُبُل .
فَتَنْقَلِبُوا: أي: فتَرْجِعوا، والانقلابُ: الانصرافُ؛ يُقال لِمَن كانَ على شيءٍ ثُمَّ رجَع عنه: قدِ انقلَب على عَقِبه، وأَصْلُ (قلب): صرْفُ الشَّيءِ عن وجهٍ إلى وجهٍ، أو ردُّه من جِهةٍ إلى جِهةٍ .
جَبَّارِينَ: أقوياءَ عِظامَ الأجسامِ، وقيل: طوالًا؛ وُصِفوا بذلك لكثرتِهم وقُوَّتِهم، وعِظَم خَلْقِهم، وطولِ جُثَثِهم، وجبَّارون جمْع جبَّار، وهو القَهَّار، ويُطلَقُ على المتكبِّر المتعالي عن قَبولِ الحقِّ، والمتسلِّطِ، والقَتَّال، وأصلُ (جبر): جِنسٌ مِن العَظمةِ والعُلوِّ .
فَافْرُقْ: فافْصِل، مِن فرقتُ بين الشَّيئين: إذا فَصلْتَ بينهما، سواءٌ كان ذلك بفَصْلٍ يُدركُه البصرُ، أو بفَصْلٍ تُدركُه البصيرةُ، والفَرْق يُقاربُ الفَلْقَ، لكنَّ الفَلْقَ انشقاقٌ، والفَرْقَ انفصالٌ، وأصْل الفَرْق: الفصلُ والتمييزُ، والتَّزييلُ بين الشَّيئينِ .
الْفَاسِقِينَ: جمْعُ فاسِق، وهو الخارجُ مِنَ الشَّرعِ، والفاسقُ أعمُّ مِن الكافِر، والفُسوقُ: خروجٌ مِنَ الطَّاعةِ إلى المعصيةِ، وخروجٌ مِنَ الإيمانِ إلى الكُفرِ؛ فأصْلُ الفسوق: الخُروجُ، ومنه قولهم: فَسَقَتِ الرُّطبةُ، إذا خرَجتْ عن قِشْرتها .
يَتِيهُونَ: يَحارُونَ ويَضلُّونَ، ويَذهبون مُتحيِّرين؛ مِن تاه يَتيه: إذا تَحيَّر .
فَلَا تَأْسَ: فلا تَحْزنْ؛ يُقال: أَسِيتُ على كذا، أي: حَزِنْتُ، والأسى: الحُزن
.
مشكل الإعراب:
قوله: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا.
مِنَ الَّذِينَ: جارٌّ ومجرور في مَحلِّ رفْعٍ، صِفةٌ لـرَجُلَانِ.
وجُملة أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا: في محل رَفْعٍ، صِفةٌ ثانيةٌ لـرَجُلَانِ، وجِيء هنا بأَفصحِ الاستعمالينِ من كونِه قَدَّم الوصفَ بالجارِّ على الوَصفِ بالجُملةِ؛ لقُربه من المفردِ. وقيل: إنَّها جملة مُعترِضةٌ. وقيل: هي حالٌ من الضَّمير في يَخافونَ، أو حالٌ مِن رَجُلَانِ وجاءتِ الحالُ مِن النَّكرةِ؛ لتخصُّصِها بالوَصْفِ. أو حالٌ من الضَّميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ مِنَ الَّذِينَ؛ لوقوعِه صِفةً لموصوفٍ، وعلى أنَّها حالٌ، فلا بُدَّ مِن إضمارِ (قَدْ)، أي: قدْ أَنعمَ اللهُ عليهما
.
المعنى الإجمالي:
يقول اللهُ تعالى لنَبيِّه مُحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: واذكرْ- يا محمدُ- توجيهَ موسى عليه السَّلام لبني إسرائيلَ- على سبيلِ النُّصْحِ والإرشادِ- أنْ يتذكَّروا نِعمةَ اللهِ التي أنعمَ بها عليهم، بأنْ جعَلَ فيهم أنبياءَ، وجعَلَهم مُلوكًا، وآتاهم مِن النِّعمِ الدِّينيَّة والدُّنيويَّة ما لم يُعْطِه أحدًا مِن أهلِ زمانِهم.
وبعدَ هذا التذكيرِ بالنِّعَم نادَى موسى عليه السَّلامُ قومَه بني إسرائيل، وطَلَب منهم أنْ يَدخُلوا الأرضَ المقدَّسة، التي هي بيتُ المقدِسِ التي كتَبَها الله لهم، وأنْ يأخذوها من يدِ أعدائِهم، ونهاهُم عن التَّراجُعِ عن القِتالِ، والنُّكولِ عن الجِهاد؛ فإنَّ ذلك يؤدِّي إلى الخسرانِ في الدُّنيا والآخرةِ، فردُّوا عليه أنَّ في هذه البلدةِ قومًا أشداءَ أقوياءَ ضِخامًا؛ وأنَّه لا طاقةَ لهم بقِتالهم، وأنَّهم لن يَدخلوها ما دامَ هؤلاءِ موجودينَ فيها، وعلى تقديرِ خروجِهم منها فيمكنُ لهم أن يدخلُوها؛ ثم بيَّن الله تعالى أنَّ رجلَيْنِ منهم مؤمنَيْنِ يَخافانِ اللهَ، قدْ أنعم اللهُ عليهما بأنْ وفَّقهم لطاعتِه والخوفِ منه وحْدَه، وأنعَمَ عليهما أيضًا بالصَّبرِ واليقينِ، والرأيِ القويمِ، قد استنكَرا إحجامَ قومِهما عن الجهادِ، فقالَا لبني إسرائيل: إنَّه لا يحولُ بينكم وبينَ غَلَبةِ هؤلاءِ والنَّصرِ عليهم سوى دُخولِكم بابَ الأَرْضِ المقدَّسةِ، فإنْ دَخَلْتُموها انتصرتُم عليهم؛ فتوكَّلوا على اللهِ، واعتمِدوا عليه إنْ كنتُم مُؤمنينَ.
لكنَّ هذه النصيحةَ لم تَلْقَ قَبولًا من بني إسرائيلَ، وكرَّروا لنبيِّهم نفيَهم دخُولَ الأرضِ المقدَّسةِ أبدًا ما دام هؤلاءِ القومُ فيها، وقالوا لموسى عليه السَّلامُ: إذا كان دخولُ هذه الأرضِ يهمُّك أمرُه، فاذهبْ أنت وربُّك لقتالِ سكَّانِها الجبابرةِ، وأَخْرِجاهم منها.
عندَ ذلك توجَّه موسى عليه السَّلامُ إلى ربِّه يبثُّ إليه الشَّكوى، معتذرًا مِن عصيانِ قَوْمِه، وأنَّه لا يَستطيعُ أن يحمِلَ أحدًا على القِتالِ إلَّا نفْسَه وأخاه هارونَ، ودَعا اللهَ أن يَفصِلَ بينه وبين هؤلاءِ القومِ الفاسقينَ؛ فاستجابَ اللهُ دُعاءَه، وعاقبَهم بأنْ حرَّم عليهم دخولَ الأرضِ المقدَّسةِ أربعينَ سَنةً، يظلُّون ضائعينَ حائرينَ في الأرضِ، لا يَهتدون لطريقٍ، ولا يستقرُّونَ في مكانٍ، ونهى موسى عليه السَّلامُ أنْ يحزنَ عليهم جرَّاءَ تلك العقوبةِ التي استحقُّوها لخروجِهم عن طاعةِ اللهِ سبحانه.
تفسير الآيات:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أقام اللهُ تعالى الحُججَ على بني إسرائيلَ، وأثبتَ لهم رسالةَ نبيِّه محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودحَض شُبُهاتِهم، وأبطَلَ دعاويهم، ثمَّ لَمَّا لم يَزدْهم ذلك كلُّه إلا كُفرًا وعنادًا- بيَّن اللهُ تعالى في هذه الآياتِ واقعةً مِن وقائعِ أسلافِهم مع موسَى عليه السلامُ، وتمرُّدَهم عليه، وعِصيانَهم له، مع تذكيرِه إيَّاهم نِعمَ اللهِ عليهم؛ ليعلمَ الرَّسولُ بهذا أنَّ مكابرةَ الحقِّ ومعاندةَ الرُّسلِ خُلقٌ مِن أخلاقِهم الموروثةِ عن سلفِهم، وأنَّ هؤلاءِ الذين هم بحَضرةِ الرسولِ هم جارُونَ مجرَى أسلافِهم مع موسى عليه السَّلامُ؛ فيكونَ ذلك تسليةً له صلَّى الله عليه وسلم
.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
أي: واذْكر- يا محمَّدُ- حينَ خاطَبَ موسى عليه السَّلامُ بَنِي إسرائيل، أنْ اذكُروا- يا قومي- بقُلوبِكم وألسِنَتِكم نِعمَ اللهِ تعالى عليكُم؛ فإنَّ ذِكرَها داعٍ إلى القيامِ بشُكرِه عليها، وداعٍ إلى محبَّتِه عزَّ وجلَّ، ومُعِينٌ على عِبادتِه سُبحانَه وتعالى .
ثمَّ بيَّن تعالى هذه النِّعمَ، فقال :
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ.
أي: فاذْكُروا إنعامَ اللهِ تعالى عليكم بأنْ جعَلَ فيكم أنبياءَ يأتونَكم بوَحيِه، ويُخبرونَكم بآياتِه، كلَّما هلَكَ نبيٌّ قامَ فيكم نبيٌّ آخَرُ، مِن لَدُن إبراهيمَ عليه السَّلامُ وإلى مَن بَعدَه، حتَّى خُتِمُوا بعيسى عليه السَّلامُ .
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا.
قيلَ المعنى: جعَل لكم مِن غيرِكم خَدمًا وحَشَمًا، سَخَّرَهم ليَخدموكم .
وقيلَ المرادُ: مُلْكُ مَن مَلَك مِن بني إسرائيل؛ لأنَّ الملوكَ شرفٌ في الدُّنيا .
وقيل المعنى: صَيَّركم أحرارًا تَملِكون أمْرَكم ولا تُملَكونَ، بعدَ زوالِ استعبادِ عدوِّكم لكم، الذي كان يَقهَرُكم ويَستخْدِمُكم ، وقيلَ غيرُ ذلِك .
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ.
أي: ومَنحَكم اللهُ- يا معشرَ اليهودِ- مِن نِعَمِه الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، وكراماتِه العَلِيَّة، ما لم يُعطِهِ لأحدٍ سواكم مِن أهلِ زَمانِكم، فَفُقتُموهم شرفًا وفضلًا .
كما قال سُبحانَه: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الجاثية: 16] .
وكما قال عزَّ وجلَّ إخبارًا عن موسى لَمَّا قال قومُه: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف: 138-140] .
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَّر موسى عليه السَّلامُ بني إسرائيلَ بنِعَم اللهِ تعالى عليهم، وكان في طِيَّاتِ ذلك الحثُّ على الوفاءِ بما عاقَدوا اللهَ عليه من الطَّاعة- كان هذا كالتَّمهيدِ لطلبِ امتثالِهم للأمْرِ الذي تَضمَّنتْه هذه الآيةُ، بقِتال الجبَّارين؛ ليهيِّئَ نُفوسَهم إلى قَبولِ هذا الأمرِ العَظيمِ عليهم، وليوثِّقَهم بالنَّصرِ إنْ قاتلوا أعداءَهم .
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
أي: نادَى موسى عليه السَّلامُ بَني إسرائيل؛ أنْ جاهِدُوا- يا قومي- عَدُوَّكم حتَّى تدخُلوا الأرضَ المطهَّرةَ المعظَّمة- بيتَ المقدِس - وتُصبِحَ في مُلْككم؛ فقد قضَى اللهُ وقدَّرَ أنْ تكونَ لكم بعدَ أنْ تستنقِذوها مِن أيدي أعدائِكم .
وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ.
أي: ولا تَنكُلوا عن الجِهادِ، وتَرجِعوا القَهْقَرَى؛ فتَخْسَروا دُنياكم بما يَفوتُكم مِن نَصرٍ على الأعداءِ وفَتحٍ لبلادِكم، وتَخْسَروا آخرِتَكم بما يفوتُكم مِن ثوابٍ، وما تَستحقُّونه مِن عقابٍ .
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22).
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ.
أي: قالوا- جوابًا لطَلَبِه مُنادِين له باسمِه مُجرَّدًا مِن كلِّ ما يدلُّ على تقديرِه وإجلالِه-: يا موسى، في هذه البَلدةِ التي أمَرْتَنا بدخولها، وقِتالِ أهلِها أُناسٌ عَمالقةٌ، ذَوُو خِلقةٍ ضَخمةٍ، وأجسامٍ طويلةٍ، وقَوَّةٍ شديدةٍ؛ فلن نقدِرَ على مقاوَمَتِهم، ولا طاقةَ لنا بحربِهم؛ وهذا مِن ضَعْفِ قلوبِهم، وخَوَرِ نُفوسِهم، وعدمِ اهتمامهم بأمْرِ ربِّهم ورسولِهم .
وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا.
أي: ونحن نُؤكِّد جازِمينَ لك- يا موسى- بأنَّنا مُمتنِعونَ عن الدُّخولِ إليها مُطلقًا، ما دام يَسكُنها أولئك الجبَّارونَ، ولم يَخرجُوا منها .
فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ.
أي: فأمَّا إنِ افترَضْنا خروجَهم منها، ففي هذه الحالِ يُمكِنُنا الدخولُ إليها .
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23).
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا.
أي: لَمَّا نَكَل بنو إسرائيلَ عن طاعةِ اللهِ تعالى ومُتابعةِ رسولِه موسى عليه السَّلامُ، قال لهم رجلانِ ممَّن يَخافونَ اللهَ تعالى، قدْ أنعَمَ عليهما بالتوفيقِ لطاعتِه، والخوفِ منه وحْدَه سُبحانَه، فيقولانِ كلمةَ الحقِّ دون أنْ يخافَا في اللهِ تعالى لومةَ لائمٍ، وأنعمَ عليهما أيضًا بالصَّبرِ واليقينِ، والشَّجاعةِ وحَصافةِ الرَّأي .
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ.
أي: قالَا لقومِهم- استنهاضًا لهِمَمِهم، وتشجيعًا لهم على قِتال عدوِّهم-: ليس بَينَكم وبينَ نصْرِكم عليهم إلَّا مجرَّدُ دخولِ بابِ الأرضِ المقدَّسة التي يَستوطِنونها؛ فإنَّكم إنْ فعلتُم ذلك كانتِ الغلبةُ لكم عليهم .
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ هذانِ الرجلانِ قَومَهما بالأَخْذِ بـالأسبابِ النَّافعةِ، أرْشدَاهُم إلى ألَّا يَعتمِدوا على أنفُسِهم ، فقالَا:
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: فَوِّضُوا جميعَ أمورِكم إلى اللهِ تعالى وحْدَه، ومنها قِتالُ أعدائِكم، واعتمِدوا عليه اعتِمادًا تامًّا صادقًا، إنْ كان لديكُم إيمانٌ باللهِ تعالى وبصِدقِ وعْدِه .
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24).
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا.
أي: قال اليهودُ: إنَّا نرفُض- يا موسى- رفْضًا باتًّا ودائمًا، دخولَ تِلك المدينةِ التي يَسْكُنُها الجبَّارونَ ما دامُوا باقينَ فيها .
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ.
أي: ولكنِ امضِ- يا موسى- أنتَ وربُّك لقِتالِهم، أمَّا نحنُ فماكِثونَ في هذا المكانِ، ولنْ نَبرحَه معكَ للمضيِّ إليهم .
فلمَّا نَكَلَ بَنو إِسرائيل عنِ القِتالِ غَضِبَ عليهم موسى عليه السَّلامُ، فدعا عليهم، قال اللهُ تعالى عنه :
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) .
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي.
أي: قال موسى عليه السَّلامُ: يا ربِّ، لا أقدِرُ أنْ أحمِلَ أحدًا على طاعتِكَ إلَّا نفْسي وأخِي هارونَ .
فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ .
أي: فافْصِلْ بَينَنا وبينَ هؤلاءِ القومِ الخارجينَ عن طاعتِك، بحُكمٍ وقَضاءٍ مِنكَ تَقضيه فينا وفيهم، فتُبعِدَهم عنَّا .
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26).
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ .
أي: فأجاب اللهُ تعالى دُعاءَ موسى عليه السَّلامُ فقال: إنَّ عُقوبتَهم أنْ يُحرَّمَ عليهم دُخولُ الأرضِ المقدَّسةِ التي نَكَصوا عن دُخولِها، مُدَّةَ أربعين سَنةً يَظلُّون فيها ضائعينَ وحائرينَ في الأرضِ، لا يَهتدُونَ إلى طريقٍ، ولا يَبقَوْنَ مُطمئنِّينَ .
فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ .
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا عَلِم اللهُ تعالى أنَّ موسى عليه السَّلامُ في غايةِ الرَّحمةِ على الخَلْقِ- خُصوصًا قومَه- وأنَّه يَحزَنُ عليهم؛ قال تَعالى :
فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ .
أي: فلا تَحزنْ عليهم- يا موسى- ممَّا عاقَبَهم اللهُ تعالى به؛ فهُم يَستحقُّونَ هذه العقوبةَ؛ لخُروجِهم عن طاعةِ ربِّهم سُبحانَه
.
الفوائد التربوية:
1- أنَّ مَن رزَقَه اللهُ عِلمًا فقدْ أنْعمَ عليه نِعمةً عظيمةً، تحتاجُ إلى التذكُّرِ؛ لأنَّ نبيَّهم موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَكَّرَهم بهذه النِّعمة، مِن خلالِ تَذكيرِهم بنِعمةِ الأنبياءِ فيهم، فقال: يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ
.
2- يُستفادُ مِن قولِه: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أنَّه ينبغي للداعيةِ أن يُذكِّرَ مَن يُوجِّهُ إليهم الخطابَ بنِعَمِ الله عليه؛ لأنَّ تذكيرَهم بالنِّعَم يُوجِبُ لهم مَحبَّةَ اللهِ .
3- أنَّه كلَّما أَنعمَ اللهُ على عبدِه بنِعمةٍ وجَبَ عليه مِن السَّمعِ والطَّاعةِ ما لم يجبْ على غيرِه؛ لأمْرِه بدخولِ الأرضِ المقدَّسةِ، بعدَ ذِكرِ النِّعمِ مباشرةً؛ حيث قال: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ .
4- تقديمُ مقامِ العُلماءِ على الأمراءِ؛ لقوله: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ ثم قال: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، فبَدأَ بالعلماءِ؛ لأنَّهم ورثةُ الأنبياءِ، وذَكَر بَعدَهم الأُمَراء؛ لأنَّهم إمَّا يكونونَ مِن الملوكِ، أو مِن وَرثتِهم أو نُوَّابِهم أو ما أشبهَ ذلِك .
5- أنَّه ينبغي أن يُذَكَّر الإنسانُ بما خصَّه الله تعالى به مِن النِّعم؛ وذلك لقولِه: وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ .
6- يُستفادُ مِن قولِه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أنَّ الإيمانَ شرْطٌ في إخلاصِ التَّوكُّلِ على اللهِ عزَّ وجلَّ؛ إذ لا يَتوكَّلُ على اللهِ تمامَ التوكُّلِ إلَّا مَن كان عندَه إيمانٌ بما وعَدَ اللهُ به في قولِه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] .
7- أنَّه يَنبغي للدَّاعيةِ أنْ يَذكُرَ ما يُهيِّجُ النُّفوسَ ويُغريها بالقَبولِ؛ لأنَّه ذكَرَ في الآية أنَّ الأرضَ مُقدَّسةٌ؛ هذا الأوَّل، والثاني: أنَّ اللهَ كتَبَها لهم. والثالث: قولُه: ادْخُلُوا الأَرْضَ وكأنَّ هذه بشارةٌ بأنَّهم سيَنتصِرونَ، وسوفَ يَدخُلون الأرضَ؛ فالبِشارةُ مِن وجوهٍ ثلاثة .
8- أنَّه يَنبغي للدَّاعيةِ إلى الله أنْ يَذكُرَ عواقبَ السيِّئاتِ؛ مِن أجْلِ تَنفيرِ النُّفوسِ منها، وإنْ كانتِ الدَّعوةُ إلى اللهِ تعالى تَحصُل ببيانِ الحلالِ والحرامِ، لكن إذا ذَكَرَ التَّرغِيبَ والترهيبَ كان في ذلك حَفزٌ للنُّفوسِ على الامتثالِ؛ وجهُ ذلك أنَّ موسى قال لقومِه: فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ .
9- أنَّ التوكُّلَ على اللهِ عزَّ وجلَّ مِن أسبابِ النَّصرِ؛ لقولِ هذين الرَّجُلينِ: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا .
10- أنَّه ينبغي ألَّا يَعتمِدَ الإنسانُ على نفْسِه وعلى السَّببِ الحسِّي فقط؛ لقولِهما بعدَ أنْ وجَّهَا قومَهما إلى أنْ يَدخُلوا عليهم البابَ: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا .
11- أنَّ إفرادَ اللهِ بالتوكُّلِ مِنَ الإيمانِ؛ لقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وأنَّ نقْصَ التوكُّلِ على الله نقصٌ في الإيمانِ؛ لأنَّ ما رُتِّبَ على شيءٍ ازدادَ بزيادتِه ونَقَصَ بنَقْصِه .
12- جوازُ دُعاءِ الإنسانِ ربَّه عزَّ وجلَّ أن يَفصِلَ بينَه وبينَ أهلِ الفُسوقِ والفُجورِ؛ لقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، ويمكن أن يَتفرَّعَ على هذِه الفائدةِ جوازُ هِجرانِ الفَسَقةِ؛ لأنَّ الهجرَ مفارقةٌ .
13- أنَّ التخلِّيَ عن الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ مِن الفِسقِ؛ لقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ .
14- إرشادُ الإنسانِ ألَّا يَحزنَ على الفاسقِ؛ لأنَّه إذا بذَلَ جُهدَه فيما يجبُ مِنَ الدَّعوةِ، فإنَّ هِدايةَ الخَلْقِ ليستْ إليه، بل إلى اللهِ، فلا يحزنْ؛ ولهذا قال الله: فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 26]
.
الفوائد العامة واللطائف:
1- نِداءُ موسَى عليه السَّلامُ قومَه، في قولِه: يَا قَوْمِ يتضمَّن استعطافًا لهم؛ لأنَّه فرْقٌ بين أنْ يكونَ المخاطَبُ من قومِك أو مِن غيرِ قومِك
.
2- الإشارةُ إلى أنَّ وجودَ الأنبياءِ بين الناسِ مِن أكبرِ النِّعمِ، فقال: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ، ولا شكَّ أنَّ حاجةَ الناسِ إلى الأنبياءِ أعظمُ من حاجتِهم إلى الملوكِ، وإنْ كانوا يَحتاجونَ إليهم .
3- في قوله كَتَبَ اللهُ لَكُمْ فائدةٌ عظيمةٌ؛ وهي أنَّ القومَ وإنْ كانوا جبَّارين، إلَّا أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وعَدَ هؤلاءِ الضَّعفاءَ بأنَّ تِلك الأرضَ لهم، فإنْ كانوا مؤمنينَ مقرِّينَ بصِدقِ موسى عليه السَّلامُ عَلِموا قطعًا أنَّ اللهَ سيَنصرُهم ويُسلِّطهم عليهم؛ فحينئذٍ يُقدِمون على قِتالِهم مِن غَيرِ جُبنٍ ولا خوفٍ ولا هلَعٍ .
4- أنَّ الكتابةَ نوعانِ: شرعيَّةٌ، وقَدَريَّة؛ فالكتابةُ في قوله: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ بمعنى الكتابة القَدَريَّة، وتأتي غالبًا مقرونةً باللَّام، أما الكتابةُ الشَّرعيَّة فتأتي غالبًا لا دائمًا مقرونة بـ(على)؛ بدليل قوله: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ [الحشر:3] فالكتابةُ هنا: قَدَريَّة .
5- أنَّ بَني إسرائيلَ كانوا أحقَّ بأرضِ الشَّامِ من غيرِهم،؛ لقوله: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فهم أحقُّ الناسِ بها، وهي مكتوبةٌ لهم حِينَ كانوا مؤمنينَ؛ لا لأنَّهم مِن بني إسرائيلَ، ولا شكَّ أنَّهم في عَهدِ موسى هم أفضلُ أهلِ الأرض، وموسى عليه السَّلامُ يُخاطِبُ قومًا صدَّقُوا وآمَنوا به، وقدْ قال اللهُ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] ، إذن فقولُ بني إسرائيلَ: إنَّ هذه أرضُ الميعادِ، نقول: إنْ شاءَ اللهُ هي أرضُ ميعادِ هلاكِكم، أمَّا أنَّها أرضٌ لكم مكتوبةٌ شرعًا فلا، وأمَّا قَدَرًا فيُمكِن، لكنْ شرعًا ليس لهم فيها حقٌّ إطلاقًا؛ قال: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف: 128] ، فكما أنَّ اللهَ أَوْرَثَ بني إسرائيل بلادَ فِرعونَ وأرضَه؛ لأنَّهم كانوا مُسلِمينَ، فكذلك المسلمونَ المؤمنونَ بمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَرِثونَ بَنِي إسرائيلَ .
6- بَيانُ جفاءِ بني إسرائيلَ؛ وذلك أنَّ موسى عليه السَّلامُ كان يُخاطبهم بقولِه: يَا قَوْمِ بهذا اللَّفظِ، وهم يقولون: يَا مُوسَى، ولم يقولوا: يا نَبيَّ اللهِ، أو يا رسولَ الله، وهذا مِن جفائِهم وغِلَظ طَبائعِهم .
7- سوءُ ظنِّ بَني إسرائيلَ باللهِ؛ وذلك لأنَّ نبيَّهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وعَدَهم أنَّ اللهَ كتَبَ لهم الأرضَ المقدَّسةَ في قولِه: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، ولكنَّهم اعتَمَدوا على الأمْرِ الماديِّ، فقالوا: إنَّ فيها قومًا جبَّارينَ .
8- بعد أنْ قال قومُ موسى: وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا جاءَ تأكيدُ هذا المعنى بقولهم: فَإِنْ يَخْرُجُوا ولم يقولوا: (فإذا خرَجوا)، كأنَّهم يستبعدون خُروجَهم؛ لأنَّ (إنْ) الشَّرطيَّة: تتميَّز عن (إذا) بأنَّ (إنْ) يكونُ فِعلُ الشَّرطِ فيها حاصلًا وغيرَ حاصلٍ؛ فإنَّها للمَشكوكِ فيه، بلْ قد يكونُ مِنَ الأشياءِ المستحيلةِ، لكن (إذا) تكونُ للشَّرْطِ المَقطوعِ بوقُوعِه حَقيقةً أو حُكمًا .
9- بيان جُبنِ بَني إسرائيلَ؛ لقولِهم: لَنْ نَدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا، وهذا غايةُ ما يكون مِن الجُبن؛ لأنَّ الجبانَ هو الذي يقولُ: لا أدخُلُ البلدةَ أو القريةَ أو المدينةَ إلَّا إذا خرَجَ منها أهلُها، ثم أكَّدوا هذا الجُبنَ مرَّةً ثانيةً بقولِهم: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ .
10- أنَّ مَن غُزِيَ في عُقرِ دارِه فهو ذليلٌ، وهذا مَثَلٌ مشهورٌ: ما غُزِيَ قومٌ في عُقرِ دارِهم إلَّا ذَلُّوا؛ لقوله: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ، وأهل البلدِ مغلوبونَ .
11- لَمَّا كان يَعلمُ الرَّجُلانِ المذكورانِ في قولِه تعالى: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أنَّه لا بدَّ مِن دخولِهم عليهم، وإنْ تَقاعَسوا وإنْ طال المدَى؛ لأنَّ اللهَ وعَدَ بنَصرِهم عليهم ووعْده حقٌّ، عبَّرَا بأداةِ التحقيقِ (إذا) فقالا: فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ، ثم أكَّدا خَبرَهما إيقانًا بوعدِ الله فقالَا: فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ، أي: لأنَّ المَلِكَ معكم دُونَهم .
12- قولُه تعالى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ناسَب أوَّلُ الآيةِ آخِرَها؛ فبعدَ أنْ أمَرَ القومَ باتِّخاذِ الأسبابِ والوسائلِ أَمرَهم بالتَّوكُّل على اللهِ، والاعتمادِ على وعْدِه ونَصْرِه وخَبرِ رسولِه؛ ولذلك ذيَّلَا بقولهما: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؛ لأنَّ الشَّكَّ في صِدقِ الرَّسولِ مبطِلٌ للإيمانِ .
13- إصرارُ بني إسرائيلَ على المعصيةِ، وعلى الجُبن والخَوَرِ؛ لقولهم: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا، وهذا ظاهرٌ في أنَّهم مُصرُّونَ على معصيةِ نبيِّهم الذي قال لهم: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ .
14- الغَطرسةُ العظيمةُ في بني إسرائيلَ؛ حيث قالوا لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، حتَّى قولهم: «اذْهَبْ»- بهذه الصِّيغة كأنَّهم آمِرونَ لموسى- أيضًا فيه استعلاءٌ واستكبارٌ، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ يعني: ما رَجَوْه رجاءً وقالوا: ألَا تذهبُ يا رسولَ اللهِ، أو يا نبيَّ اللهِ، أو ما أشبهَ ذلك، وجه ثالثٌ مِن الغطرسة في قولهم: إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، أي: لا نَتحرَّكُ ولا نذهبُ معَكم، لم يقولوا مثلًا: إنَّنا رِدْءٌ لك نَحمِيكَ مِن ظَهرِك، وما أشبهَ ذلك! ففيها أيضًا مُنتهَى الغطرسةِ مِن بني إسرائيلَ .
15- في قولِه تَعالَى: إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ مواجهةٌ لنبيِّهم في هذا المقامِ الحرجِ الضيِّق، الذي قد دعَتِ الحاجةُ والضرورةُ فيه إلى نُصرةِ نبيِّهم، وإعزازِ أنفسِهم، وبهذا وأمثالِه يظهرُ التفاوتُ بين سائرِ الأُممِ وأُمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حيث قال الصحابةُ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- حين شاورَهم في القِتالِ يومَ «بدر» مع أنَّه لم يُحَتِّمْ عليهم-: يا رسولَ اللهِ، لو خُضتَ بِنا هذا البحرَ لخُضناهُ معَك، ولو بلغتَ بِنا بَرْكَ الغُمادِ ما تخلَّفَ عنك أحدٌ، ولا نقولُ كما قال قومُ موسى لموسى: اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكِنْ اذهبْ أنتَ وربُّك فقاتِلَا إنَّا مَعكُما مقاتلونَ، مِن بَينِ يَديكَ ومِن خَلْفِكَ، وعن يَمينِكَ وعن يَسارِكَ .
16- أنَّ التحريمَ يُطلَقُ على المنعِ القَدَريِّ؛ لقوله: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً؛ فاللهُ تعالى لم يُرِدْ أنَّه حرَّمَ عليهم دخولَها شَرْعًا، لكنْ قَدَرًا، والتحريمُ يكون كونيًّا، ويكون شرعيًّا، فمِن التحريمِ القدَريِّ الكونيِّ: قولُه تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص: 12] ، ومِن التحريمِ الشرعيِّ: قولُه تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ
[المائدة: 3] .
بلاغة الآيات:
1- قوله: وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (إِذْ) ظَرْفٌ في مَحلِّ نصْبٍ على أنَّه مَفعولٌ لفِعلٍ مُقدَّرٍ، أي: واذْكُرْ وقْتَ قولِ موسَى لقومِه ناصحًا لهم ومُستميلًا لهم بإضافتِهم إليه يَا قَوْمِ ...؛ فتوجَّه الأَمْرُ بالذِّكر إلى الوقتِ دونَ ما وقَعَ فيه مِن الحوادثِ، مع أنَّها المقصودةُ بالذَّات؛ للمبالغةِ في إيجابِ ذِكرِها؛ لأنَّ إيجابَ ذِكرِ الوقتِ إيجابٌ لذِكرِ ما وقَعَ فيه بالطريقِ البُرهانيِّ
.
2- وفي قوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا فيه- على أحدِ وُجوهِ التفسيرِ المذكورةِ-: تَشبيهٌ بليغٌ، حيث جعَلَهم كالملوكِ في تصرُّفِهم في أنفُسِهم، وسلامتِهم من العبوديَّةِ التي كانتْ عليهم للقِبط، أو استُعمل فِعل جَعَلَكُمْ في معنى الاستقبال، مِثل قوله: أَتَى أَمْرُ اللهِ [النحل: 1] ؛ قصدًا لتحقيقِ الخبر، فيكونُ الخبرُ بشارةً لهم بما سيكونُ لهم .
3- قوله: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ: كرَّر النِّداءَ الذي ابتدأَ به مَقالتَه، وهو النِّداءُ بـيَا قَوْمِ؛ اهتمامًا بشأنِ الأمرِ، ومبالغةً في حثِّهم على الامتثالِ به .
4- قوله: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا: فيه تأكيدٌ؛ حيثُ أكَّدوا الامتناعَ الثاني من الدُّخولِ بعدَ المحاورةِ أشدَّ توكيدٍ؛ دلَّ على شِدَّتِه في العربية بثَلاثةِ مؤكِّداتٍ: (إنَّ)، و (لن)، وكلمة (أبدًا)، حيثُ أكَّدوا نَفيَهم للإقدامِ عليهم بقولِهم: إِنَّا، وَعظَّموا تأكيدَهم بقولهم: لَنْ نَدْخُلَهَا، وزادوه تأكيدًا بقولِهم: أَبَدًا .
5- قوله: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ: فيه تصريحٌ بمَفهومِ الغايةِ التي في قولِه: وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا؛ لقصدِ تَأكيدِ الوَعدِ بدُخولِها إذا خلَتْ مِنَ الجبَّارينَ الذين فيها ؛ فأكَّدوا على دُخولهم إذا خرَج منها هؤلاءِ القومُ الجبَّارونَ بقولِهم: فَإِنَّا دَاخِلُونَ-فهو مُؤكَّد بـ(إنَّ) واسميَّةِ الجُملة- وهذا لا يَحتاجُ إلى توكيدٍ، لكن يَدلُّ على شِدَّةِ بلاهتِهم؛ لأنَّ المعروف أنَّه متى خلَتِ البلادُ مِن الأعداء فخرَجُوا منها، فالدُّخولُ في هذه الحالة لا يَحتاجُ إلى تأكيدٍ .
6- قوله: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا: فيه تعريضٌ؛ حيثُ يجوزُ أن يكونَ المرادُ بالخوفِ: الخوفَ مِن الله تعالى، أي: كان قولهما لقومِهما: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ ناشئًا عن خوفِهما مِن الله تعالى، فيكون تعريضًا بأنَّ الذين عَصَوهما لا يخافونَ اللهَ تعالى .
7- قوله: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ: فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَلَيْهِم على المفعولِ به البَابَ؛ للاهتمامِ بالمقدَّم .
10.=====
سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (27 - 32)
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ
غريب الكلمات:
نَبَأَ: النَّبَأُ: الخبرُ الذي له قَدرٌ، وفائدةٌ عظيمةٌ، ويَحصُل به علمٌ أو غَلَبَةُ ظنٍّ، وأَصْلُ (نبأ): الإتيانُ مِن مكانٍ إلى مكانٍ؛ وسُمِّيَ الخبرُ نبأً؛ لانتقالِه مِن مكانٍ إلى مكانٍ
.
قُرْبَانًا: ما يُتقرَّبُ به إلى اللهِ عزَّ وجلَّ مِن ذِبْحٍ أو غيرِه، وصارَ اسمًا للنَّسيكةِ التي هي الذَّبيحةُ، وأصلُ القُرب: خِلافُ البُعدِ .
بَسَطْتَ: مَدَدْتَ، والبَسطُ في الشيءِ: فتْحُه وتَوسعتُه، وقيل: إمدادُه في جميعِ جِهاتِه .
تَبُوءَ: أي: تَرجِعَ، أو تَنقلِبَ وتَنصرِفَ، ولا يُقال: (باء) إِلَّا بشَرٍّ، ويُقال: باءَ بكذا إذا أقرَّ بِه .
بِإِثْمِي: أي: بإثمِ قتْلي، والإثمُ والآثام: اسمٌ للأفعالِ المبطِّئةِ عن الثَّوابِ، أو الذَّنبِ الذي تُستَحقُّ العقوبةُ عليه، وأصل الإثم: البُطءُ والتأخُّر .
فَطَوَّعَتْ: سهَّلَتْ وزَيَّنتْ، أو طاوَعتْ وأعانَتْ، وأجابتْ وانقادَتْ، وأصْل الطَّوع: الانقيادُ والإصحابُ، ويَضادُّه الكُرهُ .
يَبْحَثُ: يَحْفِرُ، والبَحْثُ: طَلَبُ الشَّيءِ في التُّرابِ، ويُطلَقُ كذلك على الكَشفِ والطَّلبِ .
يُوَارِي: يَستُر، مِن واريتُ كذا: إذا سَترتَه .
يَا وَيْلَتَا: يا فَضيحَتَاه! والويلُ: كلمةُ دُعاءٍ بالهلاكِ والعذابِ، وتُطلَق كذلِك على حُلولِ الشرِّ، وتُستعمَلُ في التَّحسُّرِ، والويلةُ: الفَضيحةُ والبليَّةُ .
سَوْءَةَ أَخِي: السَّوْءةُ: العورةُ، وما لا يَجوزُ كَشْفُه مِن الجَسدِ، والمُرادُ هنا بَدَنُه وجيفتُه، وأَصْلُ (سوء): يدلُّ على القُبحِ .
النَّادِمِينَ: جمْعُ نادمٍ، وهو المتحسِّرُ مِن تغيُّر رأيٍ في أمْرٍ فائتٍ، مِن نَدِم: إذا تَفطَّنَ لشيءٍ قد كان .
بِالْبَيِّنَاتِ: جمْع بيِّنة، وهي: الدَّلالةُ الواضِحةُ؛ يُقال: بانَ الشيءُ وأبانَ، إذا اتَّضحَ وانكَشَف .
لَمُسْرِفُونَ: لمُفرِطون، والسَّرَف: تَجاوزُ الحدِّ في كلِّ فِعلٍ يَفعلُه الإنسانُ، وأصلُه: تَعدِّي الحدِّ، والإغفالُ للشَّيء أيضًا
.
المعنى الإجمالي:
يَأمرُ اللهُ تعالى نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَقصُصَ على اليهودِ وغيرِهم خبرَ ابنَي آدَمَ، وهو خبرٌ حقٌّ؛ إذ أخرجَ كلُّ أخٍ منهما شيئًا يتقرَّبُ به إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى، فقبِلَ الله قُربانَ أحدِهما، ولم يَقبَلْ مِن الآخَر، فحسَد الذي لم يَتقبَّلِ اللهُ قُربانَه أخاه، فتوعَّده بالقَتْلِ، فقال له أخوه: إنَّما يتقبَّلُ الله من المتَّقينَ، وقال له: إنْ مددْتَ إليَّ يدَك لتقتُلَني، فلنْ أمدَّ يَديَ إليك لأقتلَك، والَّذي يَمنعني مِن ذلِك هو خَوفي مِن اللهِ خالِق جميعِ الخلائقِ ومالِكها ومدبرها سُبحانَه ، وأنِّي أُريدُ أن تتحمَّلَ أنتَ إثمَ قتْلي مع إثمِ ما ارْتكبْتَه مِن قبلُ من المعاصِي، فتكون- بسببِ ذلك- من أصحابِ النار، وهذه هي عقوبةُ كلِّ ظالمٍ
فسهَّلتْ له نفْسُه قتْلَ أخيه فقتَلَه؛ فأصبح مِن الذين خَسِروا دُنياهم وآخِرتَهم، فلمَّا قتَلَه تحيَّر كيف يصنعُ بأخيه المقتولِ؟! حينها بعَثَ اللهُ غُرابًا يَحفِرُ في الأرضِ ويُثير الترابَ؛ ليشاهدَه القاتلُ، فيفطِنَ للطريقةِ التي مِن خلالها يُغطِّي بدنَ أخيه، فلام القاتلُ نفْسَه، وقال: عجبًا، كيف لم أَقدِرْ على فِعلِ ما فَعلَه هذا الغرابُ فأُغطِّيَ بدنَ أخي؟! فأصبحَ مِنَ النادمينَ.
ثم أَخبر تعالى أنَّه مِن أجلِ تِلك الجريمةِ التي ارتكبها ولدُ آدَمَ بقَتْلِه أخاه ظلمًا؛ حَكَمَ تعالى على بَني إسرائيل أنَّه مَن قتَلَ نفْسًا واحدةً دون أن تكونَ مُستحِقَّةً للقتْلِ- بسببِ قِصاصٍ أو فَسادٍ في الأرض- فهو بفِعْلِه ذلك مِثلُ مَن استحلَّ دِماءَ جميعِ النَّاس، ومَن أحياها فهو مِثلُ مَن أحيا الناسَ جميعًا، ولقدْ جاءتْ رسلُ اللهِ إلى بني إسرائيل بالبيِّناتِ، ثم إنَّ كثيرًا منهم بعدَ مَجيءِ رُسلِنا إليهم بالبيِّناتِ يَعملون المعاصي، ويرتكبون ما حرَّم اللهُ تعالى، مُنتهِكين حُدودَه..
تفسير الآيات:
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
المناسبةُ بينَ هذه القِصَّةِ والتي قَبلَها مُناسَبةُ تماثُلٍ ومُناسَبةُ تضادٍّ؛ فأمَّا التماثُلُ، فإنَّ في كِلتَيهما عدَمَ الرِّضا بما حَكَم الله تعالى؛ فإنَّ بني إسرائيل عصَوْا أمْرَ رسولِهم إيَّاهم بالدُّخولِ إلى الأرض المقدَّسةِ، وأحد ابنَيْ آدَمَ عصَى حُكمَ الله تعالى بعدَمِ قَبولِ قُربانِه؛ لأنَّه لم يكُنْ مِن المتَّقين، وفي كِلتَيهما جُرأةٌ على اللهِ بعدَ المعصية؛ فبنو إسرائيل قالوا: فاذْهَبْ أنتَ ورَبُّك، وابنُ آدَمَ قال: لأقتُلنَّ الذي تَقبَّل اللهُ مِنه. وأمَّا التضادُّ، فإنَّ في إحْديهما إقدامًا مذمومًا مِن ابنِ آدَمَ، وإحجامًا مذمومًا من بني إسرائيل، وإنَّ في إحْدَيهما اتفاقَ أَخوينِ هما موسى وأخوه على امتثالِ أمْرِ الله تعالى، وفي الأُخرى اختلاف أَخوينِ بالصَّلاحِ والفَسادِ
.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27).
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ.
أي: واقْصُصْ- يا محمَّدُ- خبَرَ ابنَي آدَمَ لصُلبِه على هؤلاءِ اليَهودِ وغيرِهم، بالصِّدقِ الثابِتِ الذي لا لَبْسَ فيه ولا كَذِبَ، ولا وَهْم ولا تَبديلَ، ولا زِيادةَ ولا نُقصانَ .
إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ.
أي: حين أَخرجَ كلُّ واحدٍ من الأخوينِ شيئًا؛ يُتقرَّبُ به مِنَ اللهِ تعالى، فقُبِلَ مِن أحدِهما دُونَ الآخَرِ .
قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ.
أي: فلمَّا قُبِلَ مِن أَحدِهما قُربانُه، ولم يُقبَلْ مِن الآخِرِ، وعَلِم الذي لم يُقبَلْ مِنه بذلِك، حسَدَ أخاه، فتوعَّدَه بالقتلِ .
قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
أي: ردَّ عليه أخوه بقَولِه:إنما يُتقبَّل الله العملَ ممَّن اتَّقى الله فيه؛ فعَمِلَه خالصًا لله، موافقًا لأمر الله؛ فمَن اتَّقاه في عَملٍ تقبَّله منه ، فأيُّ ذَنبٍ لي يُوجِبُ لك قتْلي، إلَّا أنِّي اتقيتُ اللهَ الذي تقواه واجبةٌ عليَّ وعليكَ؟! فكنْ أنتَ من المتقين حتَّى يُتقبَّلَ منك أيضًا .
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28).
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ.
أي: لو مَددتَ إليَّ يدَك مِن أجْلِ أنْ تَقتُلَني، فلنْ أُقابِلَك على صَنيعِك الفاسدِ بمِثلِه .
إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أي: لا أُريدُ أنْ أُقدِمَ على قتْلِك؛ لأنَّني أخافُ غضَبَ وعقابَ اللهِ، الَّذي نتوجَّه إليه وحْدَه بالعِبادة، والخالِق المالِك لجميعِ الخلائقِ ومُدبِّرها سُبحانَه .
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29).
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ.
أي: إنِّي أُريدُ أن ترجِعَ مُتحمِّلًا إثمَ قَتْلي، مع إثمِك الذي اكتسبتَه من مَعاصٍ سابقةٍ .
فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ.
أي: فتكونَ بذلِك مِن سُكَّانِ الجحيمِ الملازِمينَ لها، وهذا عقابُ كلِّ ظالمٍ .
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30).
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ.
أي: فسَوَّلتْ له نفْسُه وسَهَّلت عليه قتْلَ أخيه، الذي يَقتضي الشَّرعُ والطبعُ احترامَه والرأفةَ به، فاستجابَ لنَفْسِه الأمَّارةِ بالسُّوءِ، فقَتَلَ أخاه .
فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
فصارَ بقَتْلِ أخيه مِن الذين خابوا وخَسِروا دُنياهم وآخِرتَهم .
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((لا تُقتَلُ نفسٌ ظُلمًا، إلَّا كانَ على ابنِ آدمَ الأوَّلِ كِفلٌ من دَمِها ؛ لأنَّه أولُ مَن سَنَّ القَتْلَ )) .
ولَمَّا قتَل أخاه حارَ كيفَ يَصنعُ بأخيه المقتولِ ، قال تعالى:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31).
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ.
أي: فأَرسل اللهُ تعالى له غُرابًا يَحفِرُ في الأرضِ، ويُثير الترابَ- قيل: ليدفن غرابًا ميتًا -؛ ليشاهدَه القاتلُ، فيتفطَّنَ مِن خلال ذلِك إلى الطريقةِ التي يَستُرُ بها بدَنَ أخيه .
قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي.
أي: فقال القاتلُ حينئذٍ لائمًا وموبِّخًا لنَفْسِه: كيف لم أقْدِرْ على مِثلِ ما فعَلَه الغرابُ فأسترَ بذلِك بدَنَ أخِي ؟!
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.
أي: فصارَ نادمًا على قَتْلِه لأخيه .
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ(32).
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا.
أي: بسببِ جَريرةِ قتْلِ ابنِ آدَمَ أخاه ظُلمًا وعُدوانًا، حَكَمْنا على بني إسرائيلَ بأنَّه مَن تَجرَّأَ منهم فقتَل نفْسًا واحدةً بغير سببٍ مِن قِصاصٍ، أو فسادٍ في الأرضِ- فإنَّ النفسَ إذا قَتَلَت نفْسًا بغيرِ حقٍّ استحقَّتِ القتلَ بها قِصاصًا، وكذا إذا كان منها فسادٌ في الأرض كقَطعِ الطَّريقِ وإخافةِ السَّبيلِ- فهو مِثلُ مَن استحلَّ دِماءَ جميعِ النَّاسِ .
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.
أي: مَن حرَّم قتْلَ مَن حرَّم اللهُ تعالى قتْلَه، ولم يُقدِمْ على قتْلِه، فقدْ حَيِيَ الناسُ كلُّهم بسَلامتِهم منه .
وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: قدْ أتَى رُسلُنا بني إسرائيل ومعهم البراهينُ الظاهرةُ، والدلائلُ الواضحةُ، التي لا يَبقَى معها حُجَّةٌ لأحدٍ .
ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.
أي: ثمَّ إنَّ كثيرًا من بني إسرائيلَ بعدَ مَجيءِ رُسلِنا إليهم بالبيِّناتِ القاطعةِ للحُجَّة، الموجِبةِ للاستقامةِ؛ عاملونَ في الأرضِ بالمعاصي؛ مخالفةً للهُدَى واتِّباعًا للهَوَى، فارْتكبوا محارمَ الله تعالى، وانتهكوا حدودَه سُبحانَه بعدَ عِلْمِهم بها
.
الفوائد التربوية:
1- يُستفادُ مِن قولِه: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ أنَّه قد يشتركُ الرَّجُلانِ في عمل، ويكونُ بينهما مِن الفَرقِ كما بَينَ السَّماءِ والأرضِ؛ إمَّا في ردِّ عَملِ الثاني، وإمَّا في زيادةِ ثوابِ الأَوَّل، وإنْ لم يُحرَمِ الثاني مِن الثَّوابِ، وفي هذه القِصَّةِ أنَّ الثانيَ حُرِمَ مِنَ الثَّوابِ
.
2- أنَّه لا حرَجَ على الإنسانِ أنْ يُخبِرَ بوصفٍ محمودٍ إذا لم يَقصِدِ الفَخرَ، وإنَّما قَصَدَ مصلحةَ الغَيرِ؛ لقول هذا الذي تُقبِّلَ منه: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ؛ لأنَّ هذه الجملةَ تصلُحُ لأنْ يكونَ القائلُ يُريدُ أنْ يحُثَّ هذا على التَّقوى .
3- قوله: لَأَقْتُلَنَّكَ هذا القولُ- بهذا التأكيدِ المنبئِ عن الإصرارِ- ينبعثُ مِن غيرِ موجبٍ، اللهمَّ إلَّا ذلك الشُّعور الخبيث المُنكَر؛ شُعور الحسدِ الأَعْمَى الذي لا يَعمُر نفسًا طيِّبةً، وهذا الخُلقُ مذمومٌ في كلِّ شريعةٍ، وكان ممَّا حمَلَ الأخَ على قتْلِ أخيه حسَدُه على مزيَّةِ القَبولِ .
4- أنَّ الإنسان يَنبغي له إذا امتَنَع مِن شيءٍ محرَّم، أنْ يُبيِّنَ لصاحبِه أنَّه إنما امتَنَعَ لا عجزًا ولا خوفًا، ولكن للمعنى الذي مِن أجْلِه امتَنعَ، وذلك لقولِه: مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ .
5- أنَّ الخوفَ مِن الله هو أقوى الأسبابِ الرادعةِ عن مَعصيتِه؛ لقولِه: مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ .
6- يُستفادُ مِن قولِه: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ الحذرُ مِن النَّفسِ الأمَّارةِ بالسُّوء؛ لأنَّها قد تُطوِّعُ للإنسانِ أكبرَ المعاصي، فيجب على الإنسانِ أن يكونَ حازمًا بالنسبةِ لنفْسِه ويَقِظًا، فلا يَتَّبِعها فيما تُطوِّعُه له مِن معاصِي الله .
7- يُستفادُ مِن قولِه: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ أنَّ كلَّ إنسانٍ حسَدَ أخاه، وحاوَلَ أنْ يَحُولَ بينَه وبينَ التوفيقِ، فإنَّ الخَسارةَ ستعودُ على هذا الحاسدِ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- أهميَّةُ هذه القِصَّة؛ وجهُ ذلك: أنَّ اللهَ أمَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمرًا خاصًّا أنْ يَتلُوَها؛ فقال: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ
.
2- أنَّه ينبغي لنا أنْ نعرِفَ أخبارَ مَن سبَقَ، لا سيَّما فيما فيه مصلحةٌ؛ لنأخذَ منها العِبَرَ .
3- يُستفادُ مِن قولِه: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى- له الحُكمُ في القَبولِ والرَّدِّ؛ يَتقبَّلُ أو لا يَتقبَّل، ولكنْ مِن المعلومِ أنَّ اللهَ جعَلَ للقَبولِ ميزانًا، وجعَل للردِّ ميزانًا .
4- أنَّ الله سُبحانَه وتعالى موصوفٌ بصِفاتِ الأفعالِ؛ لقولِه: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا، ولقوله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ .
5- قولُه: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ على قولِ الخَوارجِ والمعتزلة لا تُقبل حَسنةٌ إلَّا ممَّن اتَّقاه مطلقًا، فلم يأتِ كبيرةً، وعند المرجئةِ إنَّما يَتقبَّل ممَّن اتَّقى الشِّرْك؛ فجَعَلوا أهلَ الكبائر داخلينَ في اسمِ المتَّقين، وعند أهل السُّنَّة والجماعة يُتقبَّل العملُ ممَّن اتَّقى الله فيه فعَمِلَه خالصًا لله، موافقًا لأمر الله؛ فمَن اتَّقاه في عَملٍ تقبَّله منه، وإنْ كان عاصيًا في غيرِه، ومَن لم يتَّقِه فيه لم يتقبَّلْه منه، وإنْ كان مطيعًا في غيرِه .
6- يُستفادُ من قولِه: إِنِّي أُرِيدُ إثباتُ الإرادةِ للعَبدِ، وأنَّ هذا معلومٌ منذ خُلِق البَشرِ، فيكونُ في ذلِك ردٌّ على الجَبريَّةِ الذين يقولون: إنَّ الإنسانَ ليس له إرادةٌ، وإنَّما يَفعَلُ الشيءَ قهرًا وجبرًا .
7- أنَّ مَن أُريد قتلُه ولم يُدافِعْ عن نَفْسِه خوفًا مِن الإثمِ ، فإنَّه لا حرَجَ عليه؛ لقوله: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ .
8- قولُه تَعالَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ يدلُّ على أنَّ اللهَ عزَّ ذِكرُه قد كان أمَرَ ونَهَى آدَمَ بعدْ أنْ أَهبطَه إلى الأرضِ، ووعَد وأَوْعَد، ولولا ذلِك ما قال المقتولُ للقاتلِ: فتكونَ مِن أصحابِ النارِ بقَتْلِك إيَّاي، ولا أخْبَره أنَّ ذلك جزاءُ الظَّالمين .
9- في قولِه تَعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ إن قيل: كيف يُعقَلُ أن يبوءَ القاتلُ بإثم المقتولِ مع أنَّه تعالى قال: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18] ، فالجواب: أنَّ المرادَ تحملُ إثْمَ قتلي وإثمِك الذي كان مِنك قبلَ قَتْلي، وهذا بحَذْفِ المضافِ، أو أن يكونَ المرادُ ترجِع إلى اللهِ بإثمِ قتْلي وإثمك الذي مِن أجْلِه لم يُتقبَّل قُربانُك .
10- إذا قيل: كيف جازَ أن يقولَ: إِنِّي أُرِيدَ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ مع أنَّه لا يجوزُ للمسلمِ أن يُريد من غيرِه أن يَعصيَ اللهَ؟ فالجواب من عِدَّة وجوه:
الأوَّل: أنَّ المعنى إنِّي أُريد أن تبوءَ بإثمِ قتْلي إنْ قتَلْتَني؛ لأنِّي لا أَقتُلك، فإنْ أنتَ قتلتَني فإنِّي مريدٌ أنْ تبوءَ بإثمِ مَعصيتِك اللهَ في قتْلِك إيَّاي، وهو إذا قتَلَه فهو لا محالةَ باءَ به في حُكمِ الله، فإرادتُه ذلك غيرُ موجِبةٍ له الدُّخولَ في الخطأ.
الثاني: أنَّ المراد: إنِّي أُريد أن تبوءَ بعقوبةِ قتْلي، ولا شكَّ أنه يجوزُ للمظلومِ أن يُريد مِن الله عقابَ ظالِمِه.
الثَّالث: أنَّه رُوِيَ أنَّ الظالم إذا لم يجِدْ يوم القيامة ما يُرضِي خَصمَه أُخِذ مِن سيِّئات المظلومِ وحُمِلَ على الظالم؛ فعلى هذا يجوزُ أن يُقال: إنِّي أُريدُ أن تبوءَ بإثمي في أنَّه يُحمَلُ عليك يومَ القيامة إذا لم تجِدْ ما يُرضيني، وبإثمِك في قتْلِك إيَّاي .
11- قولُه تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا... الآية، أصلٌ في دفنِ الميِّت .
12- أنَّ أفعالَ الحيوانِ كأفعالِ الإنسانِ؛ مخلوقةٌ للهِ وبإرادتِه؛ لقولِه تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ .
13- أنَّ الحيواناتِ قد تكونُ مُرشِدةً للبَشرِ كما في هذه القِصةِ؛ الغراب أرْشدَ ابنَ آدَمَ إلى أنْ يَحفِرَ لأخيه ويَدفنَه، وصارتْ سُنَّةَ البَشرِ إلى يومِنا هذا، إلَّا مَن ضلَّ عنِ الصِّراطِ المستقيمِ؛ لقولِه تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا .
14- يُستفادُ مِن قولِه: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا أنَّ الله سُبحانَه تعالى يُيسِّرُ للإنسانِ إذا ضاقتْ به الأرضُ ما لم يطرأْ له على بالٍ؛ فإنَّ هذا الرَّجُلَ ضاقتْ عليه الأرضُ؛ ماذا يَصنَعُ بأخيه الذي قتَلَه؟ إلى أن بعَث اللهُ هذا الغرابَ .
15- يُستفادُ مِن قولِه: كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ أنَّ الواجبَ في الدَّفْنِ ما تُوارَى به السَّوأةُ، أي: ما يُغطَّى به الجِسمُ، لكنَّ العلماء رحِمهم الله زادوا على ذلِك شرطًا لا بدَّ منه، وهو أن يكونَ الدفنُ مانعًا من وصولِ السِّباع إليه، ومن خروجِ رائحَتِه .
16- يُستفادُ مِن قولِه: كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ أنَّ بدَنَ الميِّتِ كلَّه عورةٌ؛ لأنَّ القبر يُواري البدنَ كلَّه؛ ولهذا قال العلماءُ رحمهم الله: إنَّ بدَنَ الميِّتِ كلَّه عورةٌ، لكن هذا بالنسبة إلى وجوبِ تَعميمِ الكفنِ لا بالنِّسبةِ للنَّظَرِ .
17- في قولِه تعالَى: كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ مَشهدٌ عظيمٌ؛ وهو مشهدُ أوَّلِ حَضارةٍ في البَشر، وهي مِن قَبيلِ طلبِ سَتْرِ المشاهِدِ المكروهةِ، وهو أيضًا مشهدُ أوَّلِ عِلمٍ اكْتَسبَه البشرُ بالتَّقليدِ وبالتَّجرِبةِ، وهو أيضًا مَشهدُ أوَّلِ مظاهرِ تلقِّي البشرِ معارفَه من عوالمَ أضعفَ منه، كما تَشبَّه الناسُ بالحيوانِ في الزِّينةِ، فلَبِسوا الجلودَ الحسنةَ الملوَّنة، وتَكلَّلوا بالرِّيشِ المُلوَّن، وبالزُّهورِ والحجارةِ الكريمةِ .
18- يُستفادُ مِن قَوْلِه: يَا وَيْلَتَى أنَّ فاعلَ المعصيةِ إذا لم يتُبْ فإنَّه يُجازَى بالخسرانِ والنَّدمِ، وضِيقِ النَّفْس .
19- قولُه تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ الظاهرُ أنَّ نَدمَه لم يكُن ندمَ التوبةِ، وإلَّا لقبِلَ اللهُ توبتَه، وإنَّما كان الندمَ الناشئَ من عدمِ جدوى فِعْلَتِه، وما أعقبَتْه له مِن تَعبٍ وعناءٍ وقلقٍ، ومصداقُ ذلك ما جاءَ في الصحيح: ((ما مِن نَفْسٍ تُقتَلُ ظُلمًا إلَّا كان على ابنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفلٌ مِن دَمِها؛ ذلك لأنَّه أَوَّلُ مَن سَنَّ القتلَ )) ، وقيل: حتى وإن كان ندمَ توبةٍ فلم يكن موفيًا شروطَه، فلم يقبلْ منه، أو نَدِمَ ولم يستمرَّ ندمُه، وقيل غير ذلك .
20- قولُه تَعالَى: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا فيه دليلٌ على أنَّ القتلَ يجوزُ بأحدِ أمرينِ: إمَّا أن يَقتُل نفْسًا بغيرِ حقٍّ متعمِّدًا في ذلك، فإنِّه يَحِلُّ قتْلُه، إنْ كان مُكلَّفًا مُكافِئًا، ليس بوالدٍ للمقتولِ، وإمَّا أنْ يكونَ مُفسِدًا في الأرض، بإفسادِه لأديانِ الناسِ أو أبدانِهم أو أموالِهم، كالكفَّارِ المرتدِّينَ والمحاربينَ، والدُّعاةِ إلى البِدعِ الذين لا ينكَفُّ شَرُّهم إلَّا بالقَتْلِ، وكذلك قُطَّاعُ الطريقِ ونحوُهم، ممَّن يَصولُ على الناس لقَتْلِهم، أو أخْذِ أموالِهم .
21- إثباتُ العلةِ للأحكامِ الشرعيَّة؛ لقوله: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وهذه مِن أقوى صِيَغ التَّعليلِ، وإثباتُ العلَّة والحكمةِ لا شكَّ أنَّها مِن كمالِ الله عزَّ وجلَّ، فاللهُ تعالى لا يُشرِّع شيئًا إلا لحكمةٍ، ولا يُقدِّر شيئًا إلا لحكمةٍ .
22- يُستفادُ مِن قولِه: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا أنَّ اللهَّ عزَّ وجلَّ ضاعَفَ العقوبةَ على كلِّ مَن قتَلَ نفسًا بغير نفْسٍ أو فسادٍ في الأرضِ؛ حيث جعَلَه كالذي قتَل الناسَ جميعًا .
23- يُستفادُ مِن قولِه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ... جوازُ تخصيصِ مُعيَّنٍ في الحُكم وإنْ كان عامًّا؛ لكونِه أكثرَ الناسِ عملًا به؛ وجْهُه أنَّ الله خصَّ هذه الكتابةَ على بني إسرائيل مع أنَّها عامَّة؛ لأنَّهم هم أكثرُ مَن انتَهَكوا حُرماتِ اللهِ عزَّ وجلَّ بقتْلِ النُّفوسِ .
24- يُستفادُ مِن قولِه: أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ، أنَّ الفسادَ في الأرض مبيحٌ لقتْل النَّفْس، ولكنَّه مقيَّدٌ بالأدلَّة الأخرى الدالَّةِ على أنَّه ليس كلُّ فسادٍ يُبيح قتْلَ النَّفسِ، بل منه ما يُبيحُ القتلَ، ومِنه ما يُبيح دونَه، فتُحمَل هذه الآيةُ على النُّصوصِ الدالَّة على التَّخصيصِ .
25- يُستفادُ مِن قولِه: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا أنَّ إنقاذَ المعصومِ كإنقاذِ جميعِ المعصومينَ؛ اعتبارًا بالجِنس، فمَن أنقَذَ معصومًا من هَلَكةٍ، فكأنَّما أنقذَ النَّاسَ جميعًا باعتبارِ الجِنس، كما أنَّ مَن كذَّب رسولًا، فكأنَّما كذَّب جميعَ الرُّسلِ .
26- قوله: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ رُسُلُنَا: الَّذين أرسلَهم اللهُ عزَّ وجلَّ، فأضافَ الرُّسلَ إليه؛ لأنَّه هو الذي أرْسلَهم، وربَّما نقول: وتشريفًا لهم؛ لأنَّ الرسولَ يَشْرُفُ بشرفِ مُرسِله، فاللهُ عزَّ وجلَّ شرَّفهم بإضافةِ رِسالتهم إليه جلَّ وعلا، وقد تأتي الرسالةُ مضافةً إلى المرسَل إليهم، مِثل قوله تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [الأعراف: 101] ، ولا تناقُضَ بينهما، فهم رسلُ اللهِ؛ لأنَّه هو الذي أرسلَهم، ورسلٌ إلى الخَلْق؛ لأنَّهم بلَّغوهم رسالاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
27- أنَّ مَن لم تَبْلُغْه الرسالةُ فهو معذورٌ؛ لقولِه: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ، وهذا لإقامةِ الحُجَّة عليهم، والنُّصوصُ في هذا واضحةٌ؛ قال الله تعالى:رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] .
28- يُستفادُ مِن قولِه: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ مَحبَّةُ اللهِ عزَّ وجلَّ للإعذارِ وإقامةِ الحُجَّةِ؛ حيثُ جعَل مع كلِّ رسولٍ آيةً بيِّنةً يُؤمِنُ على مِثلِها البشرُ، حتَّى لا يقولَ الناسُ: مَن قال: إنَّ هذا رسولٌ؟ أينَ البيِّنةُ على أنَّ هذا رسولٌ؟ فإذا جاءَ بالآياتِ البيِّناتِ قامتِ الحُجَّةُ .
29- يُستفادُ مِن قولِه: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ العلمُ بشراسةِ بني إسرائيلَ، وأنَّهم أهلُ الغَطْرسةِ والاستكبارِ والتَّكذيب، وأنَّ بني إسرائيلَ مع الرُّسلِ المبيِّنينَ لم يَهتدوا، بل كثيرٌ منهم- بعدَ هذا البيانِ، وبعدَ هؤلاءِ الرُّسلِ- مُسرِفونَ مُتجاوِزونَ للحدِّ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ:
- فيه إيجاز بالحذف، والتقدير: كأنَّه قال: لِمَ تقتلُني؟ قال: لأنَّ قُربانك صار مقبولًا، فقال: وما ذنبي؛ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
؟!
- وفيه تعريض؛ إذ المعنى: إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المتَّقين، لا مِن غَيرِهم، وإنَّما تقبَّلَ قُرباني، وردَّ قُربانَك لِمَا فينا من التَّقوى وعَدمِه، أي: إنما أُتِيتَ من قِبَلِ نفْسِك لا مِن قِبَلي؛ فلماذا تَقتُلني؟! ولم يُصرِّحْ بذلك؛ بل سَلَك مَسْلَكَ التَّعريضِ حَذَرًا من تهييجِ غَضَبِه، وحملًا له على التقوى، والإقلاعِ عمَّا نواه .
2- قوله: مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ: جملة اسميَّه مُصدَّرة بـ(ما) الحجازيَّة المفيدة لتأكيد النَّفي بما في خبرها بِباسِطٍ من الباء؛ للمبالغة في إظهار براءتِه عن بَسْطِ اليد، وللتبرِّي عن هذا الفِعل الشَّنيع رأسًا، والتحرُّز من أن يُوصَفَ به، ويُطلَق عليه .
3- قوله: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فيه تشبيهٌ؛ حيثُ شبَّه قَتْلَ أخيه بشيءٍ مُتعاصٍ عنه ولا يُطيعه؛ بسببِ معارضةِ التعقُّلِ والخشيةِ؛ وشُبِّهتْ داعيةُ القتْلِ في نفْسِ القاتِلِ بشخصٍ يُعِينُه، ويُذلِّلُ له القتْلَ المتعاصِي .
- وفيه: إطنابٌ حسَنٌ، وكان مقتضَى الإيجازِ أنْ يَحذف فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ، ويَقتصر على قولِه: فَقَتَلَهُ، لكن عدَلَ عن ذلك؛ لقصدِ تفظيعِ حالةِ القاتلِ في تصويرِ خواطرِه الشِّرِّيرة، وقَساوة قلبِه؛ إذْ حدَّثه بقَتْلِ مَن كان شأنُه الرحمةَ به والرِّفقَ .
4- قوله: أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ: الاستفهامُ فيه للإنكارِ والنَّفي .
5- قوله: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا فيه: تشبيهٌ تَمثيليٌّ، ومناطُ التَّشبيهِ اشتراكُ فِعلَي القتْلِ في هتْك حُرمةِ الدِّماءِ والتجرُّؤِ على الله، وتَشجيعِ النَّاس على القتلِ، والمقصودُ مِن تشبيهِ قتلِ النَّفسِ الواحدةِ بقتْلِ النُّفوسِ: المبالغةُ في تَعظيمِ أمرِ القَتْلِ العَمْدِ العُدوانِ، وتَفخيمُ شأنِه، يعني كما أنَّ قَتْلَ كلِّ الخَلقِ أمرٌ مُستعظَمٌ عند كلِّ أحدٍ، فكذلك يجبُ أن يكونَ قتلُ الإنسانِ الواحدِ مُستعظَمًا مَهِيبًا، فالمقصودُ مشاركتُهما في الاستعظامِ، لا بيانُ مشاركتِهما في مِقدارِ الاستعظامِ .
والتشبيهُ بين قاتِلِ النَّفسِ وقاتِل الكلِّ قد يَحصُل مِن ثلاث جِهاتٍ لا مِن جميعها. إحداها: القَوَد-القِصاص-؛ فإنَّه واحدٌ. والثانية: الوعيدُ؛ فقد وعَدَ اللهُ قاتلَ النَّفسِ بالخلودِ في النَّار. والثالثة: انتهاكُ الحُرمةِ؛ فإنَّ نفسًا واحدةً في ذلك وجميعَ الأنفسِ سواءٌ، والمنتهِك في واحدةٍ ملحوظٌ بعينِ مُنتَهِكِ الجميعِ .
6- قوله: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا فيه: تشبيهٌ؛ حيث شبَّه الواحدَ بالجميعِ وجعَل حُكمَه كحُكمِهم؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ يُدلَى بما يُدلَى به الآخرُ من الكرامةِ على الله، وثبوتِ الحُرمةِ، فإذا قُتِل فقدْ أُهينَ ما كَرُم على اللهِ، وهُتِكتْ حُرمتُه، وعلى العكس؛ فلا فرقَ إذَنْ بين الواحدِ والجميعِ في ذلك، والفائدةُ في ذِكْر ذلك هي: تعظيمُ قَتْل النَّفْسِ وإحيائِها في القلوبِ؛ ليشمئزَّ الناسُ عن الجَسارةِ عليها، ويَتراغَبوا في المحاماةِ على حُرمتِها؛ لأنَّ المتعرِّضَ لقَتْلِ النَّفسِ إذا تَصوَّرَ قتْلَها بصورةِ قتْلِ الناسِ جميعًا عَظُمَ ذلك عليه؛ فثبَّطَه، وكذلِك الذي أرادَ إحياءَها .
7- قوله: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ: تَذييلٌ لحُكمِ شَرْعِ القِصاصِ على بَني إسرائيلَ، وهو: خبرٌ مُستعمَلٌ في الكِنايةِ عن إعراضِهم عن الشَّريعة، وأنَّهم- مع ما شُدِّد عليهم في شأنِ القتلِ- لم يَزالوا يَقتُلون، كما أشْعَر به قولُه: بَعْدَ ذَلِك، أي: بعدَ أنْ جاءتْهم رسُلُنا بالبيِّناتِ، وحُذِف مُتعلِّق (مُسْرِفون)؛ لقَصدِ التَّعميمِ، والمرادُ: مُسرِفون في المفاسدِ التي مِنها قتْلُ الأنفسِ .
- وقوله: ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ: فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ فِي الْأَرْضِ على الخبرِ لَمُسْرِفُونَ؛ للاهتمامِ، وهو يُفيدُ زيادةَ تفظيعِ الإسرافِ فيها مع أهميَّةِ شأنها .
- وفيه مِن الفَصاحةِ: تأكيدُ الخبر؛ إذ الحاجةُ تدْعو إلى تَأكيدِ الخبرِ، والمقامُ يَدعو إلى توكيدِ الخبرِ، وإنْ كان المخبِرُ من أهلِ الصِّدق، حتَّى يَطمئنَّ المخاطَبُ، وقد أُكِّدَ هذا الخبرُ بمؤكِّدين، وهما: إِنَّ واللام في لَمُسْرِفُونَ .
11.===
سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (33 - 34)
ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ
غريب الكلمات:
يُصَلَّبُوا: يُعلَّقُوا، وتُشدَّ أَصلابُهم على خَشَبٍ للقَتْلِ
.
مِنْ خِلَافٍ: أي: يُخالَفُ بين الأيدي والأرْجُلِ في القَطعِ؛ فتُقطَعُ اليدُ اليُمنَى مع الرِّجلِ اليُسرى، والعكس .
يُنْفَوْا: أي: يُطْرَدوا، وقِيل: يُسجَنُوا ويُحبَسُوا؛ لأنَّ المحبوسَ بمنزلةِ المطرودِ مِن الدُّنيا، وأَصْلُ (نفي): الطَّردُ، وتَعريةُ شيءٍ مِن شيءٍ، وإبعادُه منه .
خِزْيٌ: هوانٌ وهلاكٌ، وأصل الخِزي: الإبعادُ
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ تعالى أنَّ جزاءَ مَن يُبارِزونَ اللهَ ورسوله بالعداوةِ، ويَعْتَدونَ على أحكامِ دِينِه، ويُفسِدون في الأرضِ بالكُفرِ وعَمَلِ المعاصي؛ مِن إخافةِ السُّبُل، ومِن قَطْعٍ للطُّرق، واغتصابٍ للأموالِ، وانتهاكٍ للحُرُماتِ- يُخبِرُ أنَّ جزاءَهم القَتْلُ، أو الصَلْبُ، أو أنْ تُقطَّعَ أيديهم اليُمنى مع الأَرْجُل اليُسرى، أو يُطْرَدوا مِن البلدِ الذي هم فيه إلى غَيرِه، تِلك العقوبةُ لهم ذُلٌّ وفضيحةٌ في الدنيا، ولهم في الآخِرة عذابٌ عظيمٌ؛ هو عذابُ جَهنَّم.
واسْتَثنى الله تعالى مِنهم مَن تاب، وترَكَ محاربةَ اللهِ ورسوله والسَّعيَ في الأرضِ بالفسادِ مِن قَبلِ أنْ يَقدِرَ عليهم أُولو الأمرِ، فإنْ أتوْا تائِبينَ نادمينَ، فاعلموا- أيُّها المؤمنون- أنَّ اللهَ غفورٌ؛ فلن يُؤاخِذَهم بذُنُوبهم لا في الدُّنيا ولا في الآخِرة، بلْ يَغفِرُها لهم، ورحيمٌ؛ إذ عفا عنهم، ورفَع عنهم العِقابَ.
تفسير الآيتين:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ في الآيةِ الأُولى تغليظَ الإثمِ في قَتْلِ النَّفسِ بغيرِ حقٍّ،، أتْبعَه ببيانِ الفسادِ الذي يُوجِبُ القتلَ؛ فإنَّ بعضَ ما يكون فسادًا في الأرضِ لا يُوجِبُ القتلَ، فقال
:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
أي: إنَّ جزاءَ مَن يُبارزونَ اللهَ تعالى ورسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالكُفرِ والعداوةِ، ويُضادُّونَ اللهَ ورسولَه بالاعتداءِ على أحكامِ الدِّين، فيفعلون المنهياتِ، ويَترُكون المأموراتِ على وجهِ الاستكبارِ والعِنادِ .
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا.
أي: ويُسارِعونَ في عمَلِ المعاصي في أرضِ الله؛ مِن إخافةِ سُبلِ المؤمنين، أو سُبلِ أهلِ ذِمَّتِهم، وقَطْعِ طُرُقهم، واغتصابِ أموالِهم، وانتهاكِ حُرَمِهم .
أَنْ يُقَتَّلُوا.
أي: جزاءُ أولئك الذين يَفعلونَ ذلك؛ القتلُ .
أَوْ يُصَلَّبُوا.
أي: أو يُوضَعَ الجناةُ مَشدودينَ على خَشبةٍ ونحوها؛ قيل: لقَتْلِهم، وقيل: بلْ يُصلَبوا بعدَ قتْلِهم، وقيل غيرُ ذلك .
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ.
أي: أو تُقطَّعَ أيديهم اليُمنَى وأَرْجُلهم اليُسرى؛ ويكونُ القطعُ في اليدِ مِن مَفْصِلِ الكفِّ مِن الذِّراع، ويكونُ القطعُ في الرِّجلِ من مَفْصِل القدَمِ من العَقبِ .
أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.
أي: أو يُطرَدُوا مِن البلدِ الذي هُم فيه إلى بلدٍ غيرِه .
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا.
أي: هذا الجزاءُ الذي جُوزُوا به؛ ذُلٌّ وعارٌ وفَضيحةٌ لهم في الدُّنيا .
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
أي: ولهم مع ذلك عذابٌ أُخْرويٌّ، وهو عذابُ جهنَّمَ .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34).
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ.
أي: ما عدَا مَن رجَعُوا إلى اللهِ تعالى، وكفُّوا عن مُحاربةِ اللهِ ورسولِه وعن سَعيهِم في الأرضِ بالفسادِ، فوَضَعوا السِّلاحَ، وكفُّوا عن قَطْعِ الطَّريقِ من تِلقاءِ أنفسِهم، قبلَ أن تَقْدِروا عليهم .
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: فاعْلَموا- أيُّها المؤمنون- أنَّ اللهَ تعالى غيرُ مُؤاخِذٍ مَن تاب منهم بذُنوبه، ولكنَّه يَسترُها، ويَتجاوزُ عن المؤاخذةِ بها، في الدُّنيا والآخِرة، فيُسقِطُ عنه ما وجَب عليه من عُقوباتٍ، وهو رحيمٌ به إذْ عفَا عنه، ورفَع ما عليه مِن عقابٍ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- يُستفادُ مِن قولِه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا... الآية: عِظمُ جريمةِ محاربةِ اللهِ ورسولِه، وأنَّ الإنسانَ إذا حاربَ الله ورسوله فإنَّه يُخشَى عليه؛ وذلك لعِظَمِ العقوبةِ، فإنَّ عِظَمَ العقوبةِ يدلُّ على عِظَم الجريمةِ
.
2- قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا... يقتضي وُجوبَ عِقابِ المحارِبين بما ذكر الله فيها، لأنَّ الحصرَ يفيدُ تأكيدَ النِّسبةِ .
3- يُفيدُ قولُه: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا... الآية: أنَّ اللهَ تعالى يُريدُ مِن عِبادِه أنْ يُطهِّروا الأرضَ مِن الفساد؛ ولذلك عاقَبَ الذين يَسعَونَ في الأرضِ فسادًا بهذه العقوبةِ العظيمةِ .
4- ممَّا تُفيدُه الآيةُ أنَّ قُطَّاعَ الطريقِ يُجمَعُ لهم بين العُقوبةِ في الدُّنيا والآخِرَةِ؛ لقولِه: ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
5- أنَّ هؤلاءِ المجرِمينَ مع عِظَمِ جُرمِهم إذا تابوا قبلَ القُدرةِ عليهم سقَطَ عنهم الحدُّ ، ويُؤخَذُ سقوطُ الحدِّ من قولِه تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
6- استُدلَّ بقولِه تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أنَّه إذا كانتِ التوبةُ قَبلَ القُدرةِ عليه تَمنَعُ من إقامةِ الحدِّ في الحَرابةِ؛ فغيرها مِن الحدودِ- إذا تاب مِن فِعلها قبلَ القُدرةِ عليه- مِن باب أَوْلى
.
بلاغة الآيتين:
1- قولُه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا...: كلامٌ مُستأنفٌ سِيقَ لبيانِ حُكمِ نوعٍ من أنواعِ القتلِ، وما يَتعلَّقُ به من الفسادِ بأَخْذ المالِ ونظائرِه، وتَعيينِ موجِبِه العاجلِ والآجلِ، إثرَ بيانِ عِظَمِ شأنِ القَتلِ بغيرِ حقٍّ في قولِه: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الْأَرْضِ...، وأُدرِجَ فيه بيانُ ما أُشيرَ إليه إجمالًا من الفَسادِ المبيحِ للقَتْل
.
2- قوله: أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعُ... التعبيرُ بصِيغة التفعُّل في هذه الأفعالِ؛ للمُبالغةِ في العُقوباتِ (القتل، والصلب، والقطع)، وقد قُصِد من المبالغةِ هنا إيقاعُه بدون لِين ولا رِفق؛ تشديدًا عليهم .
3- قوله تعالى: لَهُمْ خِزْيٌ فيه تقديمٌ وتأخيرٌ؛ ليفيدَ أنَّه خاصٌّ بهم دونَ الأفرادِ الذين يَعملونَ مِثلَ عَملِهم مِن غيرِ أن يكونوا مُحارِبينَ، ومُغترِّين بالقوَّةِ والعصبيَّة .
======12.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (35 - 37)
ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
غريب الكلمات:
وَابْتَغُوا: واطْلُبوا، مِن بغَى الشَّيءَ، أي: طَلبَه
.
الْوَسِيلَةَ: القُربَة، والزُّلفَى؛ يقال: تَوسَّل إليَّ بكذا، أي: تَقرَّب، وحقيقةُ الوَسيلَةِ إلى اللهِ تعالى: مُراعاةُ سَبيلِه بالعِلمِ والعِبادَةِ، وتحرِّي مكارمِ الشَّريعةِ، وأصلُ الوسيلةِ: التوصُّلُ إلى الشيءِ برغبةٍ .
لِيَفْتَدُوا بِهِ: لِيَتحامَوْا ببذلِه، والفِدَى والفِداء: حِفظُ الإنسانِ عنِ النائبةِ بما يَبذُلُه، والبَدَلُ من الشَّيءِ؛ صيانةً له، وأَصْلُ (فدي): جَعْلُ شَيءٍ مكانَ شَيءٍ حِمًى له
.
المعنى الإجمالي:
يَأمُرُ اللهُ المؤمنينَ بتَقواه، وطلَبِ القُربِ منه، والجهادِ في سَبيلِه؛ حتَّى يُفلِحوا بأنْ يَنجُوا ممَّا يخافون، ويَحصُلوا على ما يَطْمَعونَ، ويَسعَدوا سَعادةً أبديَّةً.
ثم أخبَرَ تعالى أنَّ الكُفَّارَ لو أنَّهم يَملِكونَ كلَّ ما في الأرضِ ومِثلَه معه، وأرادوا أنْ يُقدِّموه فِديةً مقابلَ تخلُّصِهم من عذابِ الآخِرِة؛ فلنْ يَتقبَّلَ اللهُ منهم ذلِك الفِداءَ، ولهم عذابٌ مؤلِم موجِع، يُريد هؤلاء الكفَّار أنْ يَخرُجوا من النَّارِ بعد أن ذاقوا عذابَها، ولن يَخرُجوا منها أبدًا، ولهم عذابٌ دائمٌ.
تفسير الآيات:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى جزاءَ مَن حارَبَ اللهَ ورسولَه، وسعَى في الأرضِ فسادًا من العقوباتِ الأربَعِ، والعذابِ العظيمِ المُعَدِّ لهم في الآخِرِة- أمَرَ المؤمنين بتقوى اللهِ، وابتغاءِ القُرباتِ إليه؛ فإنَّ ذلك هو المُنجِي من المحاربةِ، والعِقابِ المعَدِّ للمحارِبينَ
، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.
أي: يا مَعشرَ المؤمنين، امتثِلوا ما أمَرَكم اللهُ تعالى به، واجتَنِبوا ما نَهاكم عنه، واطْلُبوا القُربَ مِنه، والحظوةَ لديه بالعملِ بما يُرضيهِ عزَّ وجلَّ .
ثمَّ خصَّ- تبارَك وتعالى- مِن العباداتِ المقرِّبةِ إليه: الجهادَ في سَبيله؛ فهو مِن أَجلِّ الطَّاعاتِ، وأفضلِ القُرُبات، ومَن قامَ به، فهو على القيامِ بغيره أَحْرَى وأَوْلى ، فقال:
وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أي: وجاهِدوا- أيُّها المؤمنون- أعداءَ اللهِ تعالى؛ لإعلاءِ كلمتِه سُبحانَه بأموالِكم، وأنفسِكم، وألْسِنتِكم؛ كي تَنجُوا ممَّا تَرْهَبون، وتَظفَروا بما تَرْغَبون، وتُدركوا السَّعادةَ الأبديَّة في جَنَّاتِه .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تبارَك وتَعالَى عِبادَه المؤمنين أنْ يَتَّقوا اللهَ، ويَبْتغوا إليه الوسيلةَ، ويُجاهدوا في سَبيلِه، وبَيَّن عاقبةَ هذا بأنَّه الفلاحُ- بَيَّن عاقبةَ مَن لم يَقُمْ بذلك من الكفَّار، فقالَ تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ.
أي: لو كانَ للكُفَّارِ مُلكُ ما في الأرض كلِّها، ومَلَكوا ضِعْفَه معه .
لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أي: وأَرادوا أنْ يُقدِّموا ذلك كلَّه يومَ القِيامةِ فِديةً؛ ليتخلَّصوا بها مِن عذابِ الآخِرِة .
مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: لَمَـا تَقبَّل اللهُ تعالى منهم ذلِكَ الفِداءَ مهما بذَلُوا، وقدْ حقَّ عليهم عذابٌ مؤلمٌ، مُوجِع .
كما قال تَعالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91] .
وعن أنسِ بنِ مَالكٍ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((يُجاءُ بالكافرِ يومَ القِيامةِ فيُقالُ له: أَرأيتَ لو كان لك مِلءُ الأرضِ ذهبًا، أكُنتَ تَفتدي به؟ فيقولُ: نعمْ، فيُقالُ له: قدْ كُنتَ سُئِلتَ ما هو أيسرُ من ذلِك! )) .
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37).
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا.
أي: يُريدُ هؤلاءِ الذين كفَروا بربِّهم أنْ يَخرُجوا مِنَ النَّارِ بعدَ دُخولِها، ولكنْ أنَّى لهم ذلِك؟! فلن يَخرجُوا منها أبدًا .
كما قال عزَّ وجلَّ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 22] .
وقال تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 167] .
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ.
أي: ولهم عَذابٌ دائمٌ ثابتٌ، لا يزولُ عنهم، ولا يَنتقِلُ مطلقًا؛ فهم ماكثونَ فيه أبدًا
.
الفوائد التربوية:
1- توجيهُ النِّداءِ إلى المؤمنين في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يدلُّ على أنَّ امتثالَ الأمرِ الذي يَعقُبه من مقتضياتِ الإيمانِ، وأنَّ مُخالفتَه نقصٌ في الإيمانِ
.
2- يُستفادُ مِن قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ... أنَّه يَنبغي إغراءُ الشخصِ المخاطَبِ بما يَحملُه على الامتثالِ؛ لأنَّ وصْفَ الإنسانِ بالشيءِ الذي يَحملُه على الفِعلِ والامتثالِ لا شكَّ أنَّه يُغريه، ويَزيده نشاطًا، فنقول مثلًا: يا أيُّها الكريمُ، أكْرِمِ الضَّيفَ؛ فإن ذلك يكونُ دافعًا له على إكرامِ الضَّيف .
3- يُستفادُ مِن قولِه: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أنَّه كلَّما كانتِ العبادةُ تُقرِّبُ إلى اللهِ أكثرَ، كان الاهتمامُ بها أكثرَ؛ لأنَّ الحُكمَ يَدورُ مع عِلَّته، فإذا قيل: اسلكِ الطريقَ المقرِّبَ إلى اللهِ، فإنَّ مِنَ المعلومِ أنَّ ما يكون أقربَ أو أشدَّ تقريبًا فهو أَوْلى .
4- الإشارةُ إلى الإخلاصِ؛ لقوله: فِي سَبِيلِهِ حيث أضافَه إلى نفْسِه عزَّ وجلَّ؛ إشارةً إلى أنَّه يجبُ على الإنسانِ أنْ يكونَ جهادُه في سبيلِ اللهِ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ جملة اعتراضيَّة بين آياتِ وعيدِ المحاربينَ وأحكامِ جَزائهِم، وبين ما بَعدَه مِن قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وهذه عادةُ القُرآنِ في تخلُّل الأغراضِ بالموعظةِ، والترغيبِ والترهيبِ
.
2- لَمَّا أمَرَ الله بتَرْك ما لا يَنبغي بقولِه: اتَّقُوا اللَّهَ، وهو شاقٌّ ثقيلٌ على النَّفسِ، وأمر بفِعل ما يَنبغي، بقوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ، وكان الانقيادُ لذلك من أشقِّ الأشياءِ على النَّفسِ، وأشدِّها ثقلًا على الطَّبع؛ فلهذا السببِ أردفَ ذلك التكليفَ بقوله: وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
3- قوله: اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ فيه التَّنبيهُ إلى مَجامِع التَّكليفِ؛ فإنَّها محصورةٌ في نَوعينِ لا ثالثَ لهما؛ أحدُهما: ترْكُ المنهيَّات، وإليه الإشارةُ بقوله: اتَّقُوا اللَّهَ، وثانيهما: فِعْل المأموراتِ، وإليه الإشارةُ بقولِه تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ، ولَمَّا كان ترْكُ المنهيَّات مُقدَّمًا على فِعلِ المأموراتِ بالذَّاتِ؛ لا جرمَ قدَّمه تعالى عليه في الذِّكر؛ لأنَّ التَّرْكَ عبارةٌ عن بقاءِ الشَّيءِ على عَدمِه الأصليِّ، والفِعل هو الإيقاعُ والتَّحصيلُ، ولا شكَّ أنَّ عدَم جميعِ المحدَثاتِ سابقٌ على وجودِها، فكان التركُ قبلَ الفِعل لا محالةَ .
4- قولُه تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ معناه ابتغوا التقرُّبَ إلى الله، وليس المرادُ بالوسيلةِ ما هو معروفٌ عند المتأخِّرينَ، بأنْ يتَّخِذَ الإنسانُ وسائلَ في دُعائِه أو نحو ذلِك؛ فبعض المُحرِّفينَ قال: المرادُ بالوسيلةِ: الوليُّ أو النبيُّ، أو جاهُ النبيِّ أو جاهُ الوليِّ، وهذا تحريفٌ باطِلٌ .
5- يُستفادُ مِن قولِه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أنَّ مدارَ النَّجاةِ والفلاحِ على ما في نفْسِ الإنسانِ، لا على ما هو خارجٌ عنها، كما يَتوهَّم الكفَّارُ في أمْرِ الفِديةِ .
6- استدلَّ أهلُ السُّنة بقولِه تعالى: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ على أنَّ اللهَ تعالى يُخرِجُ مِن النَّارِ مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ مخلصًا؛ لأنَّه تعالى جعَل هذا المعنى مِن تهديداتِ الكفَّار، وأنواعِ ما خوَّفَهم به، ولولا أنَّ هذا المعنى يختصُّ بالكفَّارِ لَمَا كان لتخصيصِ الكفَّارِ به معنًى، ويُؤكِّده قولُه: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ، وهذا يُفيدُ الحصرَ، فكأنَّ المعنى: ولهم عذابٌ مقيمٌ لا لغيرِهم .
7- أنَّ الكفَّارَ الذين هم أهلُ النَّار لن يَخرُجوا منها البتةَ؛ لقولِه: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وهذا خبرٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، وخبرُ اللهِ حقٌّ .
8- قولُه تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ فيه إشارةٌ إلى ما هو لازِمٌ لهم في الدُّنيا والآخِرةِ مِن الآلامِ النَّفسيَّة: غمًّا وحَزَنًا، وقسوةً وظُلمةَ قَلْبٍ، وجَهلًا، فإنَّ للكُفرِ والمعاصي من الآلامِ العاجِلةِ الدَّائمةِ ما اللهُ به عليمٌ، ولهذا تجِدُ غالِبَ هؤلاء لا يُطيِّبونَ عَيشَهم إلَّا بما يُزيلُ العَقلَ، ويُلهي القَلبَ: مِن تناوُلِ مُسكِرٍ، أو رُؤيةِ مُلْهٍ، أو سَماعِ مُطرِبٍ، ونحوِ ذلك، وبإزاءِ ذلك قولُه في المؤمنين: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة: 71] فإنَّ اللهَ يُعَجِّلُ للمُؤمنينَ مِنَ الرَّحمةِ في قلوبِهم، وغيرِها بما يَجِدُونَه من حلاوةِ الإيمانِ، ويَذوقونَه مِن طَعمِه، وانشراحِ صُدورِهم للإسلامِ، إلى غير ذلك مِنَ السُّرورِ بالإيمانِ، والعِلمِ والعَمَلِ الصَّالحِ، بما لا يُمكِنُ وَصفُه
.
بلاغة الآيات:
1- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... فيه مِن البلاغة: استعمالُ ما يكونُ به التَّنبيهُ في الأمورِ الهامَّة؛ وجهُه: أنَّ اللهَ صدَّرَ هذِه الأوامرَ الثلاثةَ المهمَّة بالنِّداءِ
.
2- قوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ فيه: تقديمُ المجرورِ إِلَيْهِ على متعلَّقه الْوَسِيلَةَ للحصر، أي: لا تتوسَّلوا إلَّا إليه لا إلى غَيرِه؛ فيكون تعريضًا بالمشركين؛ لأنَّ المسلمينَ لا يُظنُّ بهم ما يَقتضي هذا الحصرَ .
3- قوله: جَمِيعًا فيه: توكيدٌ لـ (ما) الموصولة، في مَا فِي الْأَرْضِ .
4- قوله: لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ فيه: إيجازٌ بالحذفِ؛ حيثُ إنَّ في الكلامِ جملةً محذوفةً، والتقدير: وبَذَلوه وافتَدَوْا به ما تُقبِّلَ منهم؛ إذ لا يَترتَّبُ انتفاءُ التقبُّلِ على كَينونةِ ما في الأرض ومِثلِه معه، إنَّما يترتَّبُ على بذْلِ ذلك، أو الافتداءِ به .
5- قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ حالِهم في أثناءِ مُكابدةِ العذابِ، مَبنيٌّ على سُؤالٍ نشأ ممَّا قَبلَه؛ كأنَّه قِيلَ: فكيف يكونُ حالُهم؟ أو ماذا يَصنعونَ؟ فقيل يُرِيدُونَ... .
6- قوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا فيه: إيثارُ الجُملةِ الاسميَّةِ على الفِعليَّةِ، مع تصديرِها بـ(ما) الحِجازيَّةِ الدالَّةِ- بما في خبرِها مِن الباءِ- على تأكيدِ النَّفي، والمبالغةِ؛ لبيانِ كَمالِ سوءِ حالِهم باستمرارِ عَدمِ خُروجِهم منها؛ فإنَّ الجملةَ الاسميةَ الإيجابيَّةَ كما تُفيدُ- بمعونةِ المقامِ- دوامَ الثُّبوتِ، تُفيدُ السلبيةُ أيضًا بمعونتِه دوامَ النَّفيِ لا نفْيَ الدَّوامِ .
======13.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (38 - 40)
ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
غريب الكلمات:
نَكَالًا: أي: عُقوبةً وتنكيلًا، وعِبرةً وعِظَةً لِمَن وراءَهم، وأَصْلُ (نكل): المنعُ والامتناعُ؛ وسمِّي النَّكال؛ لأنَّه فعَلَ به ما يَمنعُه مِن المعاودةِ، ويَمنعُ غيرَه مِن إتيانِ مِثلِ صَنيعِه
.
المعنى الإجمالي:
يَأمرُ اللهُ تعالى بقَطْعِ يدِ السَّارقِ والسَّارقةِ مقابلَ ما اقترفاهُ مِن أخْذِ المالِ الحرامِ، وعقوبةً رادعةً مِن اللهِ تعالى لهما، وزَجرًا لغيرِهما عن الوقوعِ في هذا الجُرمِ الخَطير، واللهُ سُبحانَه عزيزٌ حكيمٌ.
فمَن تابَ مِنَ السَّرقةِ التي ظلَمَ بها نفْسَه وغيرَه، ورجَع إلى اللهِ وأصْلَحَ عَملَه؛ فإنَّ اللهَ يَقبَلُ توبتَه؛ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ.
ثم ذَكَرَ اللهُ تعالى ما يدلُّ على عظمةِ مُلكِه ونفاذِ أمرِه قائلًا: أَلَمْ تَعْلَمْ أيُّها المخاطَبُ أنَّ اللهَ تعالى هو مَن يملِكُ السَّمواتِ والأرضَ؛ يُعذِّب مَن يُريد، ويَغفِرُ لِمَن يُريد، وهو على كلِّ شيءٍ قادرٌ لا يُعجِزُه شيءٌ.
تفسير الآيات:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
في مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها وجهانِ:
الأوَّل: أنَّه تعالى لَمَّا أوجبَ في قوله: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ قَطْعَ الأيدي والأَرجُلِ عند أخْذِ المالِ على سَبيلِ المحارَبةِ؛ بَيَّن في هذه الآيةِ أنَّ أخْذَ المالِ على سبيلِ السَّرِقةِ يُوجِبُ قَطعَ الأَيدي فقط، وجاءتِ السُّنَّةُ بقَطْعِ الأَرجُلِ أيضًا في السَّرِقةِ
؛ إذِ السَّرقةُ أيضًا حِرابةٌ من حيثُ المعنى؛ لأنَّ فيها سعيًا بالفَسَادِ إلَّا أنَّ تِلك تكونُ على سبيلِ الشَّوْكةِ والظُّهورِ .
الثاني: أنَّه تعالى لَمَّا ذكَر تعظيمَ أمْرِ القتْلِ في قولِه: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا؛ ذكَر بعدَ هذا الجناياتِ التي تُبيحُ القَتْلَ والإيلامَ، فذكَر أولًا: قطْعَ الطَّريق، وثانيًا: أمْرَ السَّرِقةِ .
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا.
أي: ومَن سرَق- رجلًا كانَ أوِ امرأةً- فاقْطَعوا أيُّها النَّاسُ يدَه اليُمنى (فتُقطَعُ مِن مَفْصِل الكَفِّ) .
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا.
أي: جاءَ هذا الحُكمُ بالقطعِ مُجازاةً للسَّارقِ والسَّارقةِ على ما اكتسَباهُ من المالِ الحرامِ .
نَكَالًا مِنَ اللَّهِ.
أي: وجاءَ الحُكمُ بالقطعِ أيضًا عقوبةً رادعةً لهما على لُصوصيَّتِهما، وزجرًا لهما عنِ اعتيادِ هذا الجُرْم، وزجرًا لغيرِهما عن الإقدامِ عليه .
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
أي: واللهُ عزَّ وجلَّ ذو القَهرِ والغَلبةِ، العزيزُ في انتقامِه من هذا السَّارقِ وهذه السَّارقةِ، وغيرِهما من أهلِ معاصيه، وهو الحكيمُ في حُكمِه فيهم، وقَضائِه عليهم، وفي غيرِ ذلِك مِن أوامرِه ونَواهيهِ وشَرائعِه وأقدارِه؛ فحُكمُه في الجميعِ نافذٌ، وكلُّ شيءٍ يَضعُه في موضعِه اللَّائق .
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39).
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ.
أي: فمَن رجَعَ- بَعدَ سَرقتِه التي ظَلمَ بها نَفْسَه وغيرَه- إلى اللهِ تعالى، وأَصلحَ عمَلَه وما أفْسدَه بظُلمِه؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَقبَلُ توبتَه .
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى يَستُر ذُنوبَ عِبادِه، ويتجاوزُ عن مؤاخذتِهم بها، وهو رحيمٌ بهم، ومِن رحمتِه أنَّه يُوفِّقُهم للتوبةِ، ويَقبَلُها منهم .
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أَوْجبَ اللهُ تعالى قَطْعَ اليدِ، وعِقابَ الآخِرَةِ على السَّارقِ قبلَ التوبةِ، ثم ذَكَر أنَّه يَقبَلُ توبتَه إنْ تابَ- أَرْدَفَه سُبحانَه ببيانِ أنَّ له أنْ يَفعلَ ما يشاءُ، ويَحكُمَ ما يُريدُ؛ فيُعذِّبَ مَن يشاءُ، ويغفرَ لِمَن يشاءُ ، فقال:
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: ألَمْ تَعلَمْ أنَّ اللهَ تعالى هو المالكُ لجَميعِ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، وهو المَلِكُ المتصرِّفُ فيه بما يشاءُ سُبحانَه .
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ.
أي: يُعذِّبُ مَن يشاءُ مِن خَلقِه بعَدْلِه، ويَغفرُ لِمَن يشاءُ منهم بفَضْلِه؛ فكلُّ العبادِ ملْكُه وإليه أمْرُهم، ولا نَسبَ بينه وبين أحدٍ منهم فيُحابِيَه، وإنَّما يُعذِّبُ ويغفرُ بحسَبِ ما اقتضتْه حِكمتُه سُبحانَه .
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ قادِرٌ على كلِّ شيءٍ أرادَه، لا يُعجِزُه شيءٌ أبدًا، ومِن ذلك قُدرتُه على تعذيبِ مَن أراد تَعذيبَه مِن عبادِه، والغُفرانِ لمَن أرادَ أنْ يَغفرَ له منهم
.
الفوائد التربوية:
1- أنَّ فِعلَ المعاصي، وترْكَ الواجباتِ ظُلمٌ؛ لقولِه: مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ؛ وذلك أنَّ النَّفْسَ عندَ الإنسانِ أمانةٌ، يجبُ أن يَسعَى لها بما هو الأصلحُ والأنفعُ، فإذا خالفَ فهو ظالمٌ، خائنٌ للأمانةِ
.
2- حثُّ الإنسانِ على التوبةِ حتَّى لو ظَلَمَ؛ لقول اللهِ تعالى: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ واللهُ تعالى لم يقُلْ هذا لمجرَّدِ الخبرِ؛ بل لأجْلِ الحثِّ على التوبةِ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- مِن الحِكم في الابتداءِ بالسارقِ في قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وبالزانيةِ في قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور: 2] أنَّ السَّرِقةَ مبناها على القُوَّة والجَلَد والنَّشاط والجُرْأة، والرِّجالُ أخصُّ مِن النِّساء في هذا، فبدَأ بهم؛ ولذلك نجِد السُّرَّاقَ مِن الرجالِ أكثرَ مِن النِّساءِ، أمَّا الزِّنا فبالعكس؛ لأنَّ الزِّنا سِلعُ البَغايا- والعياذ بالله- فبدأ بالزَّانيةِ؛ لأنَّ أكثرَ ما يُوجد سببُه من النِّساءِ، ولأنَّ أثرَ الزِّنا يظهرُ عليها في الحبَل، وإزالةِ العُذرةِ؛ فهو في حقِّها أشنعُ، وقيل غير ذلك
.
2- ظاهرُ قولِه تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وجوبُ قطعِ أيديهما بأيِّ سرقةٍ، لكن السُّنَّة قَيَّدتْ عُمومَ هذه الآيةِ من عِدَّةِ أوجه :
منها: الحِرْز؛ فإنَّه لا بدَّ أنْ تكونَ السرقةُ مِن حِرْز، وحِرزُ كلِّ مالٍ: ما يُحفَظُ به عادةً، فلو سَرَق مِن غيرِ حِرْزٍ فلا قَطْعَ عليه.
ومنها: أنَّه لا بدَّ أن يكونَ المسروقُ نِصابًا، وهو رُبعُ دِينارٍ، أو ثلاثةُ دَراهمَ، أو ما يُساوي أحدَهما؛ فلو سرَقَ دونَ ذلك فلا قَطْعَ عليه.
ومنها: أنه يُشترط أيضًا أن يكونَ المسروقُ مالًا مُحتَرَمًا.
ومنها: اشتراطُ انتفاءِ الشُّبهة .
3- قوله: فَاقْطَعُوا استُدِلَّ بِه على أنَّه يجبُ على الأمَّةِ أن يَنصِبوا لأنفسِهم إمامًا معيَّنًا؛ لأنَّه تعالى أوجبَ بهذه الآيةِ إقامةَ الحدِّ على السُّرَّاقِ، فلا بدَّ من شخصٍ يكون مخاطَبًا بهذا الخِطابِ، وأجمعتِ الأُمَّةُ على أنَّه ليس لآحادِ الرعِيَّة إقامةُ الحدودِ على الأحرارِ الجُناةِ إلَّا الإمام، فلمَّا كان هذا تكليفًا جازمًا، ولا يُمكنُ الخروجُ من عُهدتِه إلَّا بوجودِه وجَبَ نصْبُه؛ لأنَّ ما لا يأتي الواجبُ إلَّا به، وكان مَقدورًا للمُكلَّف، فهو واجبٌ .
4- قَطعُ يدِ السَّارقِ والسَّارقةِ يكونُ لليُمنى، كما أجْمَع عليه العلماءُ، وفَسَّر ذلك قراءةُ عبدِالله بن مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه: (فاقْطَعوا أيمانَهما)، فالغالِبُ أنَّ الأخْذَ والإعطاءَ والسَّرِقةَ باليَمينِ؛ فنَاسَبَ أنْ تُقطَعَ اليُمنى دُونَ اليُسرَى، فتُقطَع اليدُ اليُمنى برُبعِ دِينارٍ؛ بعدَ دَرْء الشُّبُهاتِ المنصوصِ عليها في كتُبِ الفِقهِ .
5- جعَلَ اللهُ حدَّ السرقةِ قطعَ اليدِ؛ لتناوُلِها المالَ؛ لقولِه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، ولم يجعلْ حدَّ الزِّنا قَطْعَ الذَّكرِ معَ موافقةِ الفاحشةِ به؛ لأمورٍ: أحدها: أنَّ للسَّارقِ مِثلَ يَدِه التي قُطِعتْ، فإنِ انزجَرَ بها اعتاضَ بالباقيةِ، وليس للزَّاني مِثلُ ذَكرِه إذا قُطِع، ولم يَعتَضْ بغيرِه لو انزَجَر بقَطعِه. الثاني: أنَّ الحدَّ زجرٌ للمحدودِ ولغيرِه، وقطْعُ يدِ السارقِ ظاهرٌ، وقَطعُ الذَّكرِ في الزِّنا باطنٌ. الثالث: أنَّ قَطْعَ الذَّكرِ إبطالٌ للنَّسلِ، وليس في قطعِ اليدِ إبطالٌ للنَّسْل .
6- قوله: بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ فيه ردٌّ ظاهرٌ على الجبريَّة، ووجهٌ آخَرُ معنويٌّ، وهو: أنَّه لو كان السارقُ والسارقةُ مُجبرَينِ ما صحَّ أنْ يُعاقَبَا؛ لأنَّ المُجْبَرَ لا حُكمَ لفِعْله، حتَّى المُكرَهُ على الكُفرِ إذا كان قلبُه مُطمئنًّا بالإيمان، فإنَّه لا يَكفُرْ .
7- أنَّ الحدودَ كفَّارةٌ؛ لقوله: جَزَاءً بِمَا كَسَبَا ولا يُضاعِفُ اللهُ عليه الجزاءَ .
8- في قولِه تعالى: نَكَالًا مِنَ اللَّهِ توضيحٌ للحِكمةِ في إيجابِ الحدودِ، والنَّكالُ يكونُ للغيرِ؛ كما قال اللهُ تعالى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا [البقرة: 66] ، فإنَّ مَن عَلِمَ أنَّ يدَه سوف تُقطَعُ بالسَّرقةِ سوف يَنكُلُ عنها ولا يَسرِقُ .
9- حُسْن الخِتامِ في الآياتِ الكريمةِ، وأنَّها مطابِقةٌ تمامًا للأحكامِ التي خُتِمت بها، فالعِزَّة مِن معناها الغَلَبةُ، ولا شكَّ أنَّ إيجابَ قَطْعِ الأيدي يدلُّ على العِزَّةِ والغَلبةِ وكمالِ السُّلطة، كما أنَّ الحِكمةَ أيضًا تُنَاسِبُ القطعَ؛ لأنَّ فيها حُكمًا صارمًا، وفيها أيضًا حِكمةٌ بالغةٌ؛ فلذلك كانتِ الجملة: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مطابِقةً تمامًا لِمَا ذُكِر في الآية الكريمةِ مِن قطعِ يدِ السَّارق ، وقد رُوِيَ أنَّ بعضَ الأعرابِ سَمِع قارئًا يقرأُ: وَالسَّارِقُ والسَّارِقَةُ إلى آخِرها، وختَمَها بقوله: وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال: ما هذا كلامٌ فصيحٌ! فقيل له: ليس التلاوةُ كذلك، وإنَّما هيِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فقال: بخٍ بخٍ؛ عزَّ فحَكَم فقَطَع !
10- في قوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ردٌّ على كلِّ ناعقٍ يقولُ: إنَّ قطْعَ الأيدي وحشيَّةٌ، وأنَّ ذلك يستلزمُ أن يكونَ نصفُ الشَّعبِ أشلَّ، ليس له إلَّا يدٌ واحدةٌ؛ فيُقال: بل هذِه هي عينُ الحِكمةِ وعينُ الصَّوابِ؛ فاللهُ تعالى أَوجبَ قطْعَ يدِ السَّارقِ لحِكمتَينِ: ليطهِّرَ صاحبَها من هذه الرذيلةِ الدنيَّةِ الخبيثةِ، وكذلك ليردَعَ الناسَ عن أموالِ الناس؛ لأنَّ المالَ هو شَريانُ الحياةِ، وبه قِوامُ شُؤونِها، فأَمَرَ بقَطْع يد السَّارقِ؛ محافظةً على أموالِ المجتمَع؛ لأنَّه لو تُرِك النَّاسُ لحصلتِ الفوضى، وابتزازُ الأموالِ، والسَّطْوُ على الآمنينَ، فكان قطْعُ اليدِ لا شكَّ أنَّه هو الحِكمةُ .
11- الفائدةُ من ذِكر قوله: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ... بعدَ قوله: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا هي أنَّ السارقَ قدْ تُقطَعُ يدُه، ومعلومٌ أنَّ إقامةَ الحدِّ تُكفِّرُ ذنبَه، لكنَّه إذا كان في قَرارةِ نفْسِه يُريد أن يَسرِقَ إذا سَنحَتْ له الفُرصةُ، فهو في هذه الحال لم يتُبْ، فإنَّ الحدودَ كفارةٌ لِمَا مضَى، وأمَّا ما يبقَى في قلبِه من إرادةِ المعصيةِ، فلا بدَّ أن يتوبَ منها .
12- في قوله تعالى: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أن السارقَ إذا تابَ قبلَ القطعِ تابَ اللهُ عليه، واستُدلَّ بها على أنه يَسقطُ عنه الحدُّ؛ لأنَّ ذِكْرَ الغفورِ الرَّحيم في آخِرِ هذه الآيةِ يدلُّ على سقوطِ العقوبةِ عنه، والعقوبةُ المذكورةُ في هذه الآيةِ هي الحدُّ، فظاهِرُ الآيةِ يَقتضي سُقوطَها .
13- يقترنُ قولُه: غَفُورٌ رَحِيمٌ كثيرًا في القرآن؛ لأنَّ بالأوَّلِ زوالَ المكروهِ، وبالثاني حُصولَ المحبوبِ؛ فالأوَّلُ غفورٌ، يعني: للذُّنوبِ، والثاني رحيمٌ، يعني: أنَّه يُوصِلُ الخيرَ إلى عِبادِه بمُقتضَى رحمتِه سُبحانَه وتعالى
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا: فيه دفْعُ توهُّمٍ؛ حيث ذَكَر (السَّارِقَة) مع (السَّارِق)؛ لدفْع توهُّمِ أنْ يكونَ صِيغةُ التذكيرِ في السَّارِق قيدًا بحيث لا يُجرَى حدُّ السَّرِقةِ إلَّا على الرِّجال، وقد كانتِ العربُ لا يُقيمونَ للمرأةِ وَزْنًا؛ فلا يُجرونَ عليها الحدودَ، وهو الدَّاعي إلى ذِكر الأُنْثى في قولِه تعالى في سورة البقرة: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى
[البقرة: 178] .
2- قوله: جَزَاءً مصدرٌ مؤكِّدٌ لفِعلِه الذي يدلُّ عليه فَاقْطَعُوا، أي: فجازُوهما جزاءً ، على أحدِ الأوجهِ في الإعرابِ.
3- قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أكِّدت الجملةُ بـ(إنَّ)؛ مِن أجْلِ طُمأنينةِ العبدِ التائبِ بأنَّ توبتَه لن تَذهبَ سُدًى .
- وجاءَ بلفظتَيْ غَفُورٌ رَحِيمٌ على هيئةِ صِيغةِ المبالغةِ؛ للمُبالغةِ في وصْفِه بالمغفرةِ والرحمةِ؛ ولذلك يَقبلُ توبتَه، وهو تعليلٌ لِمَا قَبلَه .
- وإظهارُ الاسمِ الجليلِ اللَّهَ؛ للإشعارِ بعِلَّة الحُكم، وتَأييدِ استقلالِ الجُملةِ .
4- قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الاستفهامُ إنكاريٌّ لتقريرِ العِلم، والجملةُ استئنافٌ بيانيٌّ؛ جوابٌ لِمَن يسألُ عن انقلابِ حالِ السَّارقِ مِن العقابِ إلى المغفرةِ بعدَ التوبةِ، مع عِظمِ جُرْمِه: بأنَّ اللهَ هو المتصرِّفُ في السَّمواتِ والأرضِ وما فيهما؛ فهو العليمُ بمواضعِ العِقابِ، ومواضعِ العَفْوِ .
5- قوله: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ فيه: مناسبةٌ حسنةٌ؛ حيثُ قُدِّمُ التعذيبُ على المغفرةِ؛ لأنَّه في مُقابلةِ تَقدُّمِ السَّرِقةِ على التوبةِ، ولأنَّ الكلامَ هنا عن الحدودِ والعقوباتِ؛ فناسَب أن يُقدَّمَ التعذيبُ على المغفرةِ .
6- قوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيه: إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ- حيث قال: (والله)، ولم يقُلْ: (وهو)-؛ لإظهارِ كمالِ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والجملةُ تذييلٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبلها .
=======14.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (41 - 43)
ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ
غريب الكلمات:
الَّذِينَ هَادُوا: أَي: اليهود، وهَادَ فلان: إذا تحرَّى طَريقةَ اليَهُود في الدِّين؛ قيل: أَصْلُ (يَهُود) مِن: هُدْنَا إِلَيْكَ، أي: تُبْنَا، وكان اسمَ مَدحٍ، ثم صارَ بعدَ نَسْخِ شَريعتِهم لازمًا لهم، وإنْ لم يكُنْ فيه معنَى المدحِ، وقيل: كَانَتِ اليَهُود تُنْسَب إلى يَهوذا بنِ يَعْقُوبَ
.
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ: قابِلونَ ومُصغُونَ له بكثرةٍ، مبالغة مِن (سامِعون)، وأَصْلُ (سمع): إيناسُ الشيءِ بالأُذُن .
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ: مُطيعون لَهُم، أو عُيونٌ لهم، وجواسيسُ يَتجسَّسون لهُم الأخبارَ .
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ: يَقلِبونَ ويُغيِّرونَ ألْفاظَ التوراةِ، أو حدودَ اللهِ في التوراةِ، بإزالتِها وإثباتِ غيرِها، وأصْلُ التَّحريفِ والانحرافِ: إمالةُ الشَّيءِ والعدولُ به عن الاستقامةِ. والكَلِم جمع كلمة، وأَصْلُ (كلم): يدلُّ على نُطْقٍ مُفهِمٍ بالنَّظرِ إلى أحدِ مَدْلولَيهِ .
فِتْنَتَهُ: ضَلالتَه، وتُطلَقُ الفِتنةُ على الشِّرْكِ والكُفرِ، والشَّرِّ والعذابِ، وهي في الأصلِ: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحانُ، مأخوذة مِن الفَتْن: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودتُه من رَداءتِه .
خِزْيٌ: هوانٌ وهلاكٌ، وأصلُ الخِزي: الإبعادُ .
لِلسُّحْتِ: السُّحتُ هو الرِّشَا، أو كَسْبُ ما لا يَحِلُّ، أو كُلُّ مالٍ حَرَامٍ يَلزَمُ آكِلَه العارُ، وأصلُ (سحت): الاستِئصالُ، ومِنه سُمِّي المالُ الحرامُ سُحْتًا؛ لأنَّه لا بَقاءَ له .
بِالْقِسْطِ: بالعَدلِ، وأصْل القِسطِ يدلُّ على مَعنيين مُتضادَّينِ: العَدْلِ، والجَوْرِ؛ يُقال: أقْسَطَ: إذا عدَل، وقَسَطَ: إذا جارَ .
يَتَوَلَّوْنَ: يُعرِضونَ بعدَ الإقبالِ، فالفِعل (تولَّى) إذا عُدِّي بـ(عن) لفظًا أو تقديرًا- كما هنا- اقتَضى معنى الإعراضِ، وتركِ قربِه، وأصْلُ هذه المادَّة يدلُّ على القُرْب، سواءٌ من حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّينُ، أو الصَّداقةُ، أو النُّصرةُ، أو الاعتقادُ، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه
.
المعنى الإجمالي:
يقولُ اللهُ تعالى مُخاطِبًا نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لا يَحْزُنْك- يا محمدُ- الذين يُسارعونَ إلى الدُّخولِ في الكُفرِ؛ من المنافقينَ الذين أَظْهَروا الإيمانَ بألسِنَتِهم، بينما خلَتْ قلوبُهم منه، ومِنَ اليهودِ؛ فهؤلاء اليهود يُصغُونَ للكذبِ- الذي يَصدُرُ مِن أحبارِهم - بكثرةٍ، وهم يَخضعونَ لأوامرِ قومٍ آخرينَ مِنَ اليهود الذين أَعْرَضوا عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلا يأتونَ مجلسَه؛ هؤلاءِ المعرِضونَ عن مَجلسِك يُحرِّفونَ كلامَ اللهِ تعالى عن المعنى الذي يدلُّ عليه، ويتأوَّلونه على غيرِ تأويلِه مُتعمِّدِينَ، وهم يعلمون الحقَّ، ويقولون لأتْباعِهم: تَحاكَموا إلى محمَّدٍ، فإنْ حَكَم لكم بما يُوافِقُ أهواءَكم فاقْبلوه، وإنْ لم يَحكُم بذلك فلا تأخُذوا بحُكمِه..
ثم أخْبَر تعالى أنَّه مَن يُرِدْ أن يَفتنَه ويُضِلَّه فلنْ يملكَ له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن اللهِ شيئًا يَستنقذُه ممَّا أرادَه اللهُ له من الضَّلالةِ، وأمَّا أولئك اليهودُ الذين لا يَقبَلون من الحقِّ إلَّا ما وافَقَ هوًى لهم لم يُردِ اللهُ أنْ يُطهِّرَ قلوبَهم من الكُفرِ والشِّركِ؛ لهم في الحياةِ الدنيا ذلٌّ وهوانٌ، ولهم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ هو عذابُ النار.
هؤلاءِ اليهودُ سمَّاعونَ للباطل، مُستجيبونَ له، يأكلونَ المالَ الحرامَ بكثرةٍ، ثم أرشَدَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى أنَّهم إذا جاؤُوه يَحتكِمون إليه، فله أن يَحكُمَ بينهم إنْ شاء، أو يُعرِضَ عن الحُكم بينهم، وأخبره تعالى أنَّه إنْ يُعرِضْ عنهم فلن يَضرُّوه شيئًا، وإنِ اختار أنْ يحكُمَ بينهم فليَحْكُم بينهم بالعَدلِ، والله يحبُّ المتَّصفينَ بالعدلِ بينَ الناس في أحكامِهم.
ثم يقولُ اللهُ لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كيف يُنَصِّبك هؤلاءِ اليهودُ حَكمًا، وهم في حقيقةِ الأمر يُكذِّبونك، وعندهم كتابُ اللهِ التوراةُ فيها حُكمُ الله؟! لكنَّهم أعْرَضوا عنه، وطَلَبوا حُكمًا غيرَ ما عندهم؛ لعلَّه يُوافِقُ أهواءَهم، وَمَا أُولَئِكَ الذين هذا صنيعُهم؛ بالمؤمنينَ.
تفسير الآيات:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ سُبحانَه وتعالى بعضَ التكاليفِ والشَّرائعِ، ومنها أحكامُ الحِرابةِ والسَّرقة، وكان في ذِكرِ المحارِبينَ أنَّهم يُحارِبونَ اللهَ ورسولَه، ويَسعَون في الأرضِ فسادًا، وكان الله قد عَلِم مِن بعضِ الناسِ كونَهم متسارِعينَ إلى الكفرِ- لذا صبَّرَ رسولَه على تحمُّل ذلك، وأمَرَه تعالى ألَّا يحزنَ ولا يَهتمَّ بأمْرِ المنافقين وأمْرِ اليهودِ؛ مِن تعنُّتهم وتربُّصهم به وبمَن معه الدَّوائرَ، ونَصبِهم له حبائلَ المكروهِ، وما يَحدُث منهم من الفَسادِ في الأرض، ونصْب المحاربةِ للهِ ولرسولِه، وغير ذلك مِن الرَّذائِلِ الصادرةِ عنهم
.
وأيضًا لَمَّا تَقرَّرَ في الآيةِ السَّابقةِ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ، كان من غيرِ شكٍّ عِلةً لعدم الحزنِ على شيءٍ من أمْرِهم، ولا مِن أمْرِ غيرِهم ممَّن عصَى اللهَ في شيءٍ من هذه الأحكامِ .
سبَبُ النُّزولِ:
عنِ البَرَاءِ بن عازبٍ رضِيَ اللهُ عنه قال: ((مُرَّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيهوديٍّ محمَّمًا مجلودًا، فدَعاهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: هكَذا تَجِدون حدَّ الزاني في كِتابِكم؟ قالوا: نعَم، فدَعا رجلًا من عُلمائِهم، فقال: أَنشُدُك باللهِ الذي أنزلَ التوراةَ على موسى، أهكذا تَجِدون حدَّ الزَّاني في كتابِكُم؟ قال: لا، ولولا أنَّك نَشدْتَنِي بهذا لم أُخْبِرْكَ؛ نجدُه الرَّجمَ، ولكنَّهُ كثُرَ في أشرافِنا، فكنَّا إذا أخَذْنا الشَّريفَ ترَكْناهُ، وإذا أخَذْنا الضعيفَ أقَمْنا عليهِ الحدَّ! قلنا: تَعالَوْا فلنجتمعْ على شيٍء نُقيمُه على الشَّريفِ والوَضيعِ، فجعَلْنا التَّحميمَ والجلْدَ مكانَ الرَّجمِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللهمَّ إنِّي أولُ مَن أحيا أمْركَ إذْ أماتوهُ، فأمرَ بهِ فرُجِمَ، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قولِه: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ، يقول: ائتوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنْ أمَرَكم بالتَّحميمِ والجَلْدِ فخُذوه، وإنْ أَفتاكم بالرَّجمِ فاحْذروا، فأنزل اللهُ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ في الكُفَّارِ كلُّها )) .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ.
أي: لا تَجعلْ- يا محمَّدُ- هؤلاءِ المنافقين، الذين يَتسابقون إلى الكُفرِ، يُدْخِلُون الحزنَ على نفسِكَ بما يَفعلونَه .
مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ.
أي: الَّذين أَظهَروا الإيمانَ بألْسنتِهم، وقلوبُهم في الحقيقةِ خاويةٌ منه .
كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] .
وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا.
أي: ولا تَجعلِ الحُزْنَ يُصيبكَ أيضًا بسببِ اليهودِ .
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ.
أي: يُكثرونَ الإصغاءَ إلى الكَذِبِ الصادرِ مِن أحبارِهم ورُؤسائِهم، فيَحْفِلون به، ويَقبلونَه منهم، ومِن ذلك: تَقليدُهم في قولهم: إنَّ محمَّدًا ليس بنبيٍّ، وفي قولهم: إنَّ حُكمَ الزاني المحصَنِ في التوراة: التَّحميمُ والجَلْدُ، وليس الرَّجمَ .
قيل: المرادُ بهؤلاء المنافقونَ مِن اليهودِ، وقيلَ: المرادُ بهم اليهودُ فقط، وقيل: المنافقونَ واليهودُ .
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ.
أي: يَستجيبونَ لأوامرِ أقوامٍ آخَرين من الأحبارِ والرؤساءِ المُعرِضينَ عن الإتيانِ إلى مجلسِك- يا محمَّدُ .
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ.
أي: إنَّ هؤلاءِ القومَ الآخَرينَ مِن أحبارِ اليهودِ الذين يَتَّبِعُهم العامَّةُ، يَصرِفونَ كلامَ الله عن معناه الحقيقيِّ عمدًا، ويتأوَّلونه على غيرِ تأويلِه، وهم يَعلمون الحقَّ، فيقولون: المرادُ كذا وكذا، على خلافِ ما أرادَ اللهُ ورسولُه .
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا.
أي: إنَّ أولئك الأحبارَ الذين يَتَّبِعُهم العامَّةُ، يقولون لأتْباعِهم: تَحاكَمُوا إلى محمَّدٍ؛ فإنْ حَكَم لكم بما يُوافِقُ أهواءَكم فاقبلوا حُكمَه، وإنْ لم يحكُمْ لكم به فاحْذروا مِن قَبولِه، واتِّباعِه على ذلك ؛ ومن ذلك ما يَتعلَّقُ بحَدِّ الزَّاني .
ثم يقول الله تعالى مسلِّيًا لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلم، ومخفِّفًا عنه مِن ثِقَلِ حُزِنه على مسارعتِهم في الكُفْر :
وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
أي: إذا حتَّم اللهُ تعالى على أَحدٍ أنَّه لا يتوبُ مِن ضلالتِه، ولا يَرجِعُ عن غيِّه ممَّن هو أهلٌ لذلك؛ فلن تملكَ له- يا محمَّدُ- مِن اللهِ تعالى استنقاذًا ممَّا هو فيه من الحَيرةِ والضَّلالةِ، فليس بمقدورِكَ هدايتُه .
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ.
أي: إنَّ أولئك اليَهودَ الذين لا يَقبَلون من الحقِّ إلَّا ما وافَق أهواءَهم، لم يُرِدِ الله تعالى أن يُطهِّر قلوبَهم مِن دَنسِ الكُفرِ، ووسَخِ الشِّركِ وغير ذلك، بطهارةِ الإسلامِ، ونظافةِ الإيمانِ، فيتوبوا؛ فلذلك صَدَر منهم ما صَدَر .
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
أي: لهم في الحياةِ الدُّنيا ذلٌّ وهوانٌ، وفَضيحةٌ وعارٌ، ولهم في الآخِرة غضبُ الجبَّار، وعذابُ النَّار .
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) .
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ.
أي: إنَّ هؤلاء اليهودَ الذين وصفتُ لك- يا مُحمَّدُ- صِفتَهم؛ سمَّاعون للباطِلِ، مُستجيبونَ له، مِثل قولِ بعضِهم لبعضٍ: محمَّدٌ ليس بنبيٍّ، وكقول بعضهم: إنَّ حُكْمَ الزَّاني المحصَنِ في التوراة الجلدُ والتحميمُ، وغير ذلِك من الأباطيلِ .
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر سُبحانَه ما يَدخُلُ في آذانِهم وقلوبِهم مِنَ الكلامِ؛ أتْبَعَ ذلك بذِكرِ ما يَدخُلُ في أفواهِهم وبُطُونِهم من الطَّعامِ، وهما غذاءانِ خَبيثانِ ، فقال:
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.
أي: ومِن صفاتِهم أنهم كثيرًا ما يأكلونَ المالَ الحرامَ؛ كالرَّشاوى وغيرِها .
فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ.
أي: فإنْ أتاكَ هؤلاءِ اليهودُ- يا محمَّدُ- للاحتكامِ إليك، فلك أنْ تحكُمَ بينهم إنْ شئتَ، أو تَدعَ ذلك إنْ شئتَ، فالخيارُ إليك في ذلِك؛ فهم لا يَقصِدون بتَحاكُمهم إليك اتِّباعَ الحقِّ، بل يَطلُبون ما وافَقَ أهواءَهم .
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا.
أي: وإنْ تُعرِضْ- يا محمَّدُ- عن هؤلاءِ المحتكِمينَ إليك من اليهودِ، وتَخْتَرْ تَرْكَ الحُكم بينهم، فلن يَقدِروا على إلحاقِ أيِّ ضررٍ بك في أمْر دِينٍ ولا دُنيا .
وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.
أي: وإنِ اخترتَ الحُكمَ بينهم- يا محمَّدُ- فاحكمْ بينهم بالحقِّ والعدل، وإنْ كانوا في الحقيقةِ أعداءً وظَلَمةً، خارجينَ عن طريقِ العدل .
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى يحبُّ العادلينَ في حُكْمِهم بينَ النَّاس .
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ المُقسِطينَ عندَ الله على منابرَ مِن نورٍ، عن يَمينِ الرَّحمنِ عزَّ وجلَّ- وكِلتَا يديهِ يمينٌ- الذين يَعدِلونَ في حُكمهِم وأَهليهِم وما وَلُوا ) .
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43).
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ.
أي: كيف يَجعلُك هؤلاءِ اليهودُ- يا مُحمَّدُ- حَكَمًا بينهم وهم يُكذِّبونَك، وعندهم التوراةُ التي أُنزِلَتْ على موسى، والتي فيها حُكم اللهِ على ما يُريدون، ومِن ذلك حُكمُ الله فيها على الزاني المحصَن بالرَّجْمِ؟! ومع هذا أَعْرضوا عن حُكْمِها، وهم يَعلمون أنَّه الحقُّ، وطَلَبوا حُكمَ غيرِها؛ لاحتمالِ موافَقَتِه لأهوائِهم بظَنِّهم الفاسِدِ .
وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
أي: إنَّهم ليسوا مِن أهلِ الإيمانِ؛ فإنَّ ذلك ليس مِن صَنيعِهم ودأْبِهم، أمَّا هؤلاء فقد جَعَلوا آلهتَهم أهواءَهم، وجَعَلوا أحكامَ الشَّرْع تابعةً لها، ولو كانوا مؤمنِينَ عاملينَ بما يَقتضيهِ الإيمانُ لم يَعدِلوا عن حُكمِ اللهِ في التوراةِ التي بين أيديهم
.
الفوائد التربوية:
1- في قولِه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ تعليمٌ وتأديبٌ للمؤمنينَ ألَّا يُخاطِبوا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم باسْمِه، وأنْ يُخاطِبوه بوصْفِه
.
2- الإشارةُ إلى أنَّ المدارَ في الإيمانِ والصَّلاحِ والفسادِ، على القلبِ؛ لقوله: مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، وقولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ، فالإيمانُ باللِّسانِ ليس إيمانًا حتَّى يكونَ مبنيًّا على إيمانِ القَلبِ، وإلَّا فإنَّه لا يَنفعُ صاحبَه؛ فالإيمانُ محلُّه القلبُ . وفي الحديثِ: ((أَلَا وإنَّ في الجسدِ مضغةً، إذا صَلَحَت صَلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فَسَدَت فَسَدَ الجسدُ كلُّه )) .
3- يُستفادُ مِن قولِه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ أنَّ مَن حَرَّف الكلمَ عن مواضعِه من هذه الأمَّة ففيه شَبَهٌ مِن اليهود، فيَقتضي هذا التحذيرَ مِن تحريفِ الكَلِمِ عن مواضعِه؛ لئلَّا يقعَ الإنسانُ في مشابهةِ اليهودِ .
4- أنَّ التحريفَ المذموم، هو الذي يقعُ بعدَ معرفةِ الإنسان للحقِّ؛ لقولِه: مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ، وفي الآيَةِ الأخرى: عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة: 13] ، فهم يُريدون أن يُزيلوا الكلمَ عن مواضعِه، أمَّا الإنسانُ الذي تأوَّل بتأويلٍ سائغٍ؛ فإنَّه لا يُذمُّ، ولا يُعدُّ فِعلُه تحريفًا يأثَمُ به .
5- يُستفادُ مِن قولِه: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ذمُّ أولئك الذين لا يَقبلون مِن الحقِّ إلَّا ما وافَق أهواءَهم، وإذا لم يوافقْ أهواءَهم ذهَبوا يتطلَّبون الرُّخَصَ من هذه الأمَّة .
6- يُستفادُ مِن قولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أنَّه يَنبغي للإنسانِ أنْ يسألَ اللهَ دائمًا أن يُطهِّرَ قلبَه، وأنْ يَعتنيَ بأعمالِ القَلب، واعتناءُ المرء بأعمال القلب يجبُ أن يكونَ أشدَّ من اعتنائِه بعَملِ الجَسَد؛ لأنَّ عمَلَ الجسدِ يقعُ مِن كلِّ إنسانٍ؛ من مؤمنٍ ومنافقٍ، لكنَّ عمَلَ القلبِ هو المهمُّ .
7- أنه يجبُ على الإنسانِ المستدِلِّ أن ينظُرَ إلى النُّصوصِ مِن جميعِ الجوانِبِ، وذلك أنَّك إذا نظرتَ إلى قَوْلِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لقُلْتَ: إنَّ إرادةَ اللهِ تعالى لتطهيرِ القلب مجرَّدُ مشيئةٍ، لكن إذا قيَّدْتَها بالنُّصوصِ الأخرى عَرَفْتَ أنَّ عدمَ إرادةِ اللهِ تطهيرَ قلوبِ هؤلاء؛ لأنَّهم ليسوا أهلًا لذلك، كما قال اللهُ تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] .
8- يُستفادُ مِن قولِه: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ الوعيدُ لهؤلاء لعلَّهم يَرجِعون؛ فإنَّ الوعيدَ على المعصيةِ مِن أسباب العُدول عنها، بحيثُ لا يُقدِمُ عليها، وإذا أَقدمَ استعتَبَ وتاب .
9- يُستفادُ مِن قولِه: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ التحذيرُ من هذا الوصفِ القبيحِ، وهو الاستماعُ للكذب، أو نَقْلُ الكذب؛ لأنَّ اللهَ أكَّد بيانَ هذا الوصفِ القبيحِ من اليهود .
10- التحذيرُ من أكْل المالِ بالباطل؛ لقوله: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ، والله عزَّ وجلَّ لم يذكُرْ هذا الوصفَ إلَّا لنَحْذرَه .
11- يُستفادُ مِن قولِه: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أنَّ مَن اكتَسَب المالَ الحرامَ ففيه شَبَهٌ من اليَهود؛ فآكِلو الرِّبا مُشابِهونَ لليهود، وآكِلو الأموالِ بالغشِّ مشابِهون لليهود، وآكِلو الأموالِ بالحَلِف الكاذبِ مشابِهون لليهود؛ فكلُّ مَن اكتسب مالًا بغير حقٍّ بطريقٍ محرَّمٍ فهو مشابهٌ لليهود، كالرَّاشي والمرتشي، فالرِّشوة شائعةٌ في اليهودِ .
12- أنَّه لا يجوزُ للإنسان أن يُراعيَ في حُكمه قريبًا ولا صديقًا، ولا غنيًّا ولا فقيرًا؛ لقوله: بِالْقِسْطِ، وهذا يعني: أن يَنظُرَ إلى القضيةِ من حيث هي قضيةٌ، لا من حيثُ إنَّها قضيةُ فلانِ بن فلان .
13- يُستفادُ مِن قولِه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ الحثُّ على الإقساطِ، أي: العَدْلِ؛ وجْه ذلك: كونُ الله يُخبِرُ أنَّه يحبُّ المُقْسطين يتضمَّن الحثَّ على العَدْلِ، فهذا ليس مُجرَّدَ خَبَر، بل هو خبرٌ يُرادُ به الحثُّ والإغراءُ على العَدْل .
14- يُستفادُ مِن قولِه: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ أنَّ مَن استفتَى عالِمًا طلبًا للرُّخصةِ، ففيه شَبَهٌ من اليهودِ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- نِداؤه تعالى له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ هنا، وفي يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ويَا أَيُّهَا النَّبِيُّ في مواضعَ أخرى تشريفٌ وتعظيمٌ وتفخيمٌ لِقَدْرِه، ونادَى غيرَه من الأنبياء باسمِه، فقال: يَا آدَمُ اسْكُنْ [البقرة: 35] ، ويَا نُوحُ اهْبِطْ [هود: 48] ، يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات: 104- 105] ، يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ [الأعراف: 144] ، يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران: 55] ، يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ
[مريم: 12] .
2- تقويةُ قلبِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتسليتُه بقولِه: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ .
3- أنَّ النَّاسَ يَختلفونَ في الكُفرِ؛ فمِنهم مَن يُسارِع فيه بخُطًى حثيثة، ومنهم مَن هو دونَ ذلك؛ لأنَّه قَسَّم، فقال: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، يعني: وهناك أناسٌ لا يُسارِعون فيه، فالداعيةُ إلى الكفرِ مسارِعٌ فيه، وغيرُ الداعيةِ غيرُ مسارِعٍ .
4- قال تعالى هنا: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ، وفي آيةٍ أخرى قال: عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء: 46] ؛ لأنَّ آيةَ سورةِ النِّساءِ في وصْفِ اليهودِ كلِّهم، وتحريفِهم في التوراةِ، فهو تغييرُ كلامِ التوراةِ بكلامٍ آخَرَ عن جهْلٍ أو قصْدٍ، أو خطأٍ في تأويلِ معاني التَّوراةِ أو في ألفاظِها، فكان إبعادًا للكَلامِ عن مواضعِه، أي: إزالةً للكلامِ الأصليِّ سواءٌ عُوِّضَ بغيره أو لم يُعوِّض، وأمَّا هذه الآية ففي ذِكر طائفةٍ معيَّنةٍ أبطلوا العملَ بكلامٍ ثابتٍ في التَّوراة؛ إذ ألْغَوا حُكمَ الرَّجْمِ الثابتَ فيها دون تعويضِه بغيرِه من الكلامِ، فهذا أشدُّ جرأةً من التَّحريف الآخَر؛ فكان قوله: مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ أبلغَ في تحريفِ الكلامِ؛ لأنَّ لفظ (بعد) يَقتضي أنَّ مواضعَ الكلمِ مُستقرَّة، وأنَّه أبطلَ العملَ بها مع بقائِها قائمةً في كِتابِ التوراةِ .
5- أنَّ اليهودَ لا يَقْبَلون من الحقِّ إلَّا ما وافقَ أهواءَهم؛ لقوله: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا .
6- شِدَّةُ كَراهةِ أحبار اليهودِ للحقِّ؛ لقوله: وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا لم يقولوا: (فلا تأخذوه)، بل قالوا: فَاحْذَرُوا، وهذا أشدُّ وقعًا مِن قَوْلِهم: (فلا تأخذوه)، وكان مُقتضى المقابلة أن يُقال: وإنْ لم تؤتوه فلا تأخُذوه .
7- يُستفادُ من قولِه تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أنَّ الثيِّبَ الذِّميَّ يُرجَم، وهو مذهبُ الشافعيِّ رحمه الله؛ قال: لأنَّه صحَّ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنه أمَرَ برجْمِه، فإنْ كان الأمرُ برجْمِ الثيِّب الذميِّ مِن دِينِ الرسولِ فقد ثبَت المقصودُ، وإنْ كان إنَّما أمَرَ بذلك بناءً على ما ثبَتَ في شريعةِ موسى عليه السَّلامُ وجَب أن يكونَ ذلك مشروعًا في دِيننا، ويدلُّ عليه وجهان: الأول: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا أفتى على وَفقِ شريعةِ التَّوراةِ في هذه المسألةِ كان الاقتداءُ به في ذلك واجبًا، والثاني: أنَّ ما كان ثابتًا في شَرْعِ موسى عليه السَّلامُ، فالأصلُ بقاؤُه إلى طَرَيانِ النَّاسِخ، ولم يوجدْ في شَرْعِنا ما يدلُّ على نسْخ هذا الحُكمِ؛ فوجَب أنْ يكون باقيًا .
8- في قولِه تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ وأَولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ردٌّ على القَدَريَّة والمعتزلةِ، الذين يَنْفُون مشيئةَ اللهِ لأفعالِ العبادِ، فدلَّت الآيةُ على أنَّ الله تعالى غيرُ مريدٍ إسلامَ الكافِرِ إرادةً كونيَّة، وأنَّه لم يُطهِّرْ قلْبَه من الشكِّ والشِّرْكِ، ولو فعَلَ ذلك لآمَنَ .
9- عُتوُّ اليهودِ، وأنَّهم بعدَ أن يَتبيَّنَ لهم الحقُّ يتولَّوْن؛ لقوله: وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ؛ لأنَّ ثُمَّ تدلُّ على الترتيبِ والتَّراخي .
10- في قوله وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا نفي لضَرَرِه صلَّى الله عليه وسلَّم، لكنْ قد يُؤذونَه، فالأذيةُ لا يلزم منها الضررُ؛ فقد قال تعالى إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران: 176] ، وقال في الحديث القدسي: ((يا عِبادي، إنَّكم لن تَبلُغوا ضُرِّي فتضروني )) ، فنفَى أن يضرَّه أحدٌ، أمَّا الأذيَّة فقد أثبَتَها، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] ، وقوله في الحديثِ القُدسي: ((يُؤذِيني ابنُ آدَم؛ يسبُّ الدهر )) ، فالضرر منفيٌّ عن الله عزَّ وجلَّ، والأذيَّة ثابتةٌ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ لتهوينِ تألُّبِ المنافقينَ واليهودِ على الكَذِبِ والاضطرابِ في معاملةِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسوءِ طواياهم معه
.
- وفيه كنايةٌ في قوله: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ؛ حيث إنَّ نهيَه عن أنْ يحصُلَ له إحزانٌ مسنَدٌ إلى الَّذين يُسارِعونَ في الكُفرِ، والإحزانُ فِعلُ الذين يُسارِعون في الكُفر، والنهيُ عن فِعلِ الغيرِ إنَّما هو نهيٌ عن أسبابِه، أي: لا تجعلْهم يُحزِنونك، أي: لا تهتمَّ بما يَفعلونَ ممَّا شأنُه أن يُدخِلَ الحزنَ على نفْسِك .
2- قوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ فيه: تَكرار؛ تأكيدًا لِمَا قبله، وتمهيدًا لِمَا بعده، وتقريرًا للمعنى، ولإفادة اهتمامِ المتكلِّم به، وسَمَّاعُونَ من صِفات المبالغة ففيه كنايةٌ عن تفشِّي الكَذِب في جماعتِهم بَين سامعٍ ومختلِقٍ؛ لأنَّ كثرةَ السَّمع تستلزمُ كثرةَ القولِ .
3- قوله: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هذا التركيبُ يدلُّ على انتفاءِ الحِيلة في تحصيلِ أمرٍ ما، أي: لا تَقدِر على أقلِّ شيءٍ من الله، أي: لا تستطيعُ نَيْلَ شيءٍ من تيسيرِ اللهِ؛ لإزالةِ ضلالةِ هذا المفتون؛ لأنَّ مادَّةَ المِلْك تدلُّ على تمامِ القُدرةِ .
- وتنكيرُ شَيْئًا للتقليلِ والتحقيرِ، ويدلُّ على انتفاءِ مِلكِ الشيءِ القليلِ، ويَقتضي انتفاءَ مِلْك الشَّيء الكثيرِ بطَريقِ الأَوْلى .
4- قوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ فيه: إشارةٌ إلى المذكورين مِن المنافقين واليهودِ، وما في اسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ من معنى البُعد؛ للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الفسادِ .
5- قوله: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ: تَكرير لَهُمْ مع اتِّحادِ المرجع؛ لزيادةِ التقريرِ والتأكيدِ، وتنكيرُ خِزْيٌ للتفخيم ، مع ما يُفيد تقديمُ الجارِّ والمجرورِ لَهُمْ من القصرِ والحصرِ، وما يُفيده تنكيرُ عَذَابٌ مِن التَّفخيم والتهويل كذلك، ووصْفه بـعَظِيم بصِيغة المبالَغة.
6- قوله: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ الاستفهامُ للتعجُّب؛ إذْ مِنَ العجيبِ أنَّهم يَتركُونَ كتابَهم ويُحكِّمونك، وهم غيرُ مؤمنينَ بك، ثم يتولَّون بعدَ حُكمِك إذا لم يُرْضِهم، والجملةُ استئنافيَّة، مسوقةً لبيانِ أنَّ عندَهم ما يُغْنيهم عن التَّحكيم .
7- قوله: وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ تذييلٌ مُقرِّر لفحوى ما قَبْلَه، ووضْع اسم الإشارة أُولَئِكَ موضع ضميرهم (هُمْ)؛ للقصدِ إلى إحضارِهم في الذِّهن بما وُصِفوا به مِن القبائِح؛ إيماءً إلى عِلَّة الحُكم ، وأتى بـ «أولاء» مقرونةً بالكافِ الدالَّةِ على بُعدِ المشار إليه، وهذا لدنوِّ منزلتِهم وليس لعُلوِّها، يعني: ما هؤلاءِ المنحطُّون الذين نزلوا إلى أسفلِ السَّافلين بالمؤمنين، وأتَى بحَرْفِ الجرِّ في قوله: بِالْمُؤْمِنِينَ للتَّوكيدِ .
=======15.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (44 - 45)
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ
غريب الكلمات:
وَالرَّبَّانِيُّونَ: جمْع ربَّانيٍّ، مَنسوبٌ إلى الرَّبِّ أو إلى الرَّبَّان، وهو الجامِعُ إلى العِلمِ والفِقهِ البَصرَ بالسِّياسةِ، والتَّدبيرَ، والقيامَ بأُمورِ الرَّعيَّة وما يُصلحُهم في دُنياهم ودِينهم، ويَشمَلُ ذلك: العَالِمَ الحَكيمَ، والفَقيهَ التَّقيَّ العابِدَ، والمُعلِّمَ المُصلِحَ، والذي يُربِّي الناسَ بصِغارِ العِلمِ قَبل كِبارِه، وأصل (ربّ): يدلُّ على إصلاحِ الشَّيءِ والقِيامِ عليه ولُزومِه، وضمِّ الشَّيءِ للشَّيءِ
.
وَالْأَحْبَارُ: العُلماءُ، وهنا تَختصُّ بعُلماءِ اليهودِ من ولدِ هارون، جمْع حَبْر، وأَصْلُ (حبر): يدلُّ على الأثرِ في حُسنٍ وبهاءٍ .
اسْتُحْفِظُوا: استُودِعوا، والحِفظُ هو التَّعاهُدُ، وقلَّةُ الغَفْلة، ويُستعملُ في كلِّ تفقُّدٍ وتعهُّدٍ ورِعايةٍ، وهو نَقيضُ النِّسيانِ .
فَلَا تَخْشَوُا: الخَشيةُ: خوفٌ يَشوبُه تَعظيمٌ، وهي: أشدُّ مِن الخوفِ وأَخَصُّ مِنَه؛ فهي خوفٌ مَقرونٌ بمعرفةٍ، وأكْثرُ ما تكونُ الخَشْيةُ عن عِلمٍ بالمَخوفِ منه، وهي مأخوذةٌ مِن قولِهم: شَجرةٌ خاشيةٌ: أي يابسةٌ، وأَصْلُ (خشِي): يدلُّ على خَوفٍ وذُعْر .
قِصَاصٌ: وهو: مُقابلةُ الفِعل بمثلِه، وتتبُّع الدَّم بالقَوَدِ، كقَتْلِ القاتِل بَدلَ القَتيلِ، وأصلُ القَصِّ: تتبُّع الشَّيءِ والأَثَرِ، ومنه اشتُقَّ القِصاصُ في الجِراح؛ لأنَّه يُفعَل به مِثلُ فِعلِه بالأوَّل، فكأنَّه اقتصَّ أثَرَه .
كَفَّارَةٌ: الكفَّارة: ما يُغطِّي الإثمَ، وأصْل الكفر: السَّترُ والتَّغطية
.
المعنى الإجمالي:
يُخبرُ تعالى أنَّه أنزلَ التوراةَ مشتملةً على الهُدى والنُّور؛ يَحكمُ بها بين اليهود أنبياؤُهم الذين استَسلموا وخضَعوا للهِ تعالى، ويَحكُمُ بها أيضًا بينهم الربَّانيُّون والأحبار؛ وذلك لِكَونِهم مستأمَنينَ على كتابِ الله، مأمورينَ بتبليغِه، وشهداءَ عليه، ثم نهى اللهُ علماءَ اليهودِ أنْ يخافوا من النَّاسِ في تنفيذِ أحكامِه، بل يخافونه وحْدَه، ونهاهم عن أنْ يتركوا الحُكمَ بما في كتابِه مِن أجْلِ مَتاعِ الدُّنيا القليلِ الزائل، وأخبر أنَّ مَن لم يَحكُم بما أنْزَلَه تعالى فأولئك هم الكافِرون.
ثمَّ بيَّن تعالى أنَّه فرَض على اليهودِ في التَّوراة القصاصَ بأنْ تُقتَلَ النفسُ إذا قَتَلتْ نفسًا أخرى عَمْدًا بغير حقٍّ، وكذا العينُ مقابلَ العينِ، والأنفُ مقابلَ الأنفِ، والأذنُ مقابلَ الأُذُنِ، والسِّنُّ مقابلَ السِّنِّ، كما فرَض القِصاصَ في الجُرُوح؛ فللمجروحِ أن يقتصَّ بالمِثل ممَّن جرَحَه ظُلمًا، فمَن تنازَلَ عن حقِّه من القِصاصِ فيما سبَق فعَفَا عمَّن تَعدَّى عليه، فسيُكفِّر اللهُ ذنوبَه جزاءَ عَفْوِه عنه، وأخبَر تعالى أنَّ مَن لم يَحكُمْ بما أنزَلَه فأولئك هم الظَّالِمون.
تفسير الآيتين:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44).
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وصَف اللهُ عزَّ وجلَّ التوراةَ بأنَّ فيها حُكمَه سُبحانَه في قوله: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ وتضمَّن ذلك مدْحَ التَّوراةِ؛ صرَّح بذلك هنا، فأثْنى عليها وعلى الحاكمينَ بها، تأكيدًا لذمِّ اليهودِ في الإعراضِ عمَّا دعَتْ إليه مِن أصلٍ وفرعٍ، وتحذيرًا من مِثل حالِهم
، فقال:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ.
أي: نحنُ نزَّلنا التوراةَ على موسى عليه السَّلامُ، وفيها ما يَهدي إلى الحقِّ، وما يُستضاءُ به في ظُلماتِ الشَّهوات والشُّبهاتِ .
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا.
أي: يَحكُمُ بحُكمِ التوراةِ الأنبياءُ الكِرامُ سادةُ الأنامِ عليهم السَّلامُ، الذين استَسلَموا للهِ تعالى ظاهرًا وباطنًا، فيَحكُمون بها بينَ اليهودِ، لا يَخرُجون عن حُكْمِها، ولا يُبدِّلونها ولا يُحرِّفونها .
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
أي: ويَحكُمُ بالتَّوراةِ وأحكامِها أيضًا الرَّبَّانيُّونَ (وهم العلماءُ الحكماءُ العُبَّاد، الذين يُربُّون الناسَ بصغارِ العلمِ قبلَ كبارِه)، والأحبارُ (وهم العلماءُ الكبارُ ذَوو العلمِ الواسِع، المُحْكِمُون لعِلْمِهم)؛ وذلك لأنَّ اللهَ تعالى جعَلَهم أُمَناءَ على كِتابِه؛ استودَعهم إيَّاه، وأمَرَهم أن يُظْهِروه ويَعملوا به، وأوجب عليهم حِفظَه من الزِّيادةِ والنُّقصانِ والكِتمان .
وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ.
أي: شُهداءَ على أنَّه كتابُ الله، نزَل من عندِ اللهِ، وفيه حُكمُ الله، وهم مؤتَمَنون على تبليغِه، وحِفظِه من التَّبديلِ والتَّحريفِ والكِتمان، ومِن ذلك الحُكمُ برجْمِ الزاني المُحصَن، وإثباتُ أنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ هو الرسولُ المنتظَر المذكور في التوراةِ .
فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا قرَّرَ فيما سبَقَ أنَّ النبيِّين والربَّانيِّين والأحبارَ كانوا قائمينَ بإمضاءِ أحكامِ التَّوراةِ من غيرِ مبالاةٍ؛ خاطَب اليهودَ الذين كانوا في عصْر النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّمَ، ومنَعَهم مِنَ التَّحريفِ والتَّغييرِ ، فقال:
فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.
أي: فما دُمتُم قدِ استُحْفِظْتُم على كتابِ اللهِ تعالى- يا علماءَ اليهودِ - فلا تَخشَوُا النَّاسَ في تنفيذِ حُكمي وإمضائِه عليهم؛ فإنَّهم لا يَقدِرون على ضرِّكم ولا نَفعِكم إلَّا بإذني؛ فإنَّ الحفيظَ على الشَّيءِ، الأمينَ حقَّ الأمانةِ لا يَخشى أحدًا في القيامِ بوجهِ أمانتِه، ولكنَّه يَخشى الذي استأمنَه، فلا تُخِلُّوا بها استرضاءً لأهواءِ النَّاس- ككِتمانِ حُكم الرَّجمِ، الذي حَكَم به اللهُ تعالى في التوراةِ على الزاني المحصَن وتبديلِه بغيره، وكِتمانِ صِفةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ولكنِ اخْشَوني دون كلِّ أحدٍ مِن خَلقي، واقصُروا أنظارَكم على رِضاي؛ فإنَّ النفعَ والضرَّ بيدي، وخافوا عِقابي على كِتمانكم أو تبديلِكم ما استُحْفِظْتُم مِن كتابي .
وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا.
أي: ولا تَتركوا الحُكمَ بآياتِ كتابي- أيُّها العلماءُ- فتكتموا الحقَّ، وتُظهِروا الباطلَ؛ لأجْلِ متاعٍ قليلٍ، وعِوَضٍ خسيس- كطلب بقاءِ جاهٍ وسيادةٍ، أو طَلبِ مال يُبذَل رِشوةً .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا منَعَهم مِن خَشيةِ النَّاس، وأن يشتَرُوا بآياتِه ثمنًا قليلًا؛ أتْبعَه بالوعيدِ الشَّديدِ .
سبَبُ النُّزولِ:
عن البَراءِ بن عازبٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((مُرَّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيهوديٍّ محمَّمًا مجلودًا، فدَعاهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: هكَذا تَجِدون حدَّ الزاني في كِتابِكم؟ قالوا: نعَم، فدَعا رجلًا من عُلمائِهم، فقال: أَنشُدُك باللهِ الذي أنزلَ التوراةَ على موسى، أهكذا تَجِدون حدَّ الزَّاني في كتابِكُم؟ قال: لا، ولولا أنَّك نَشدْتَنِي بهذا لم أُخْبِرْكَ؛ نجدُه الرَّجمَ، ولكنَّهُ كثُرَ في أشرافِنا، فكنَّا إذا أخَذْنا الشَّريفَ تركْناهُ، وإذا أخَذْنا الضعيفَ أقَمْنا عليهِ الحدَّ! قلنا: تَعالَوْا فلنجتمعْ على شيءٍ نُقيمُه على الشَّريفِ والوَضيعِ، فجعَلْنا التَّحميمَ والجلْدَ مكانَ الرجمِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللهمَّ إنِّي أولُ مَن أحيا أمْركَ إذْ أماتوهُ، فأمرَ بهِ فرُجِمَ، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قولِه: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ، يقول: ائتوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنْ أمَرَكم بالتَّحميمِ والجَلدِ فخُذوه، وإنْ أَفتاكم بالرَّجمِ فاحْذروا، فأنزل اللهُ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ في الكُفارِ كلُّها )) .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.
أي: إنَّ الذين لم يَحكُموا بما أَنزلَ اللهُ تعالى في كِتابِه من اليهودِ وغيرِهم، فبدَّلوا حُكمَه، وكتَموا الحقَّ الذي أنزلَه في كتابِه، وحَكَموا بالباطل؛ هؤلاءِ همُ الكافرونَ .
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى في التوراةِ أَحْكَامَ حَدِّ الزِّنَى، وأنَّ حُكمَ الزاني المحصَن هو الرجمُ، وأنَّ اليهودَ غيَّروه وبدَّلوه- ذكر في هذه الآيةِ أنَّه تعالى بيَّن في التوراةِ أَحْكَامَ القِصَاصِ، لكنَّ اليهودَ غيَّروها أيضًا ، فقال تعالى:
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ.
أي: وفرَضْنا على اليهودِ في التَّوراةِ أنَّ النَّفس تُقتلُ قِصاصًا، إذا قَتلتْ نفسًا أخرى عَمْدًا بغير حقٍّ، وكذا العينُ تُفقَأُ بالعَينِ، والأنفُ تُجدعُ بالأنفِ، والأُذنُ تُقطَعُ بالأُذنِ، والسِّنُّ تُقلَعُ بالسنِّ، ويُقتصُّ للمجروحِ ممَّن جرَحه ظلمًا وعدوانًا بمِثل الجُرحِ الذي جرَحه .
وهذا من جملة أحكامِ التوراة، التي يَحكُم بها النبيُّون الذين أَسلموا للذين هادُوا، ويَحكُم بها الربَّانيُّون والأحبارُ، ومع ذلِك يُخالفُها اليهودُ عمدًا؛ فهُم بترْكِ حُكمِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بينهم أَحْرى وأَوْلى .
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ.
أي: فمَن تنازَلَ عمَّا وجَبَ له مِن حقٍّ بالقِصاص في النَّفْس، وما دونها من الأطرافِ والجُروحِ فعفَا عن الجاني، تُكفَّرُ عنه ذنوبُه؛ جزاءً لعَفْوه وتنازُلِه .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي: إنَّ الذين لم يَحكُموا بما أَنزلَ اللهُ تعالى في كتابِه من اليهودِ وغيرِهم، فبدَّلوا حُكمَه، وكتَموا الحقَّ الذي أَنزله في كتابِه، وحكَموا بالباطلِ في أحكامِ القِصاصِ وغيرِها، فهم ممَّن جارَ على حُكمِ اللهِ وتعدَّى حُدودَه، ووضَع فِعلَه في غَيرِ مَوضعِه الذي جعَله اللهُ تعالى له
.
الفوائد التربوية:
1- يُستفادُ مِن قولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ أنَّ العِبرةَ بالاهتداء بالدِّين، وأنَّه لا ينفعُ أهلَ الانتماءِ إليه إذا لم يُقيموه؛ إذ لا يَستفيدونَ من هِدايتِه ونورِه إلَّا بإقامتِه والعَمَلِ به، وأنَّ إيثارَ أهلِ الكتابِ أهواءَهم على هدايةِ دِينِهم هو الذي أعماهم عن نورِ القُرآنِ، والاهتداءِ به
.
2- أنَّ أهلَ العِلم ورثةُ الأنبياءِ في إظهارِ حُكمِ اللهِ والدَّعوةِ إلى شريعتِه؛ لقوله: وَالرَبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ، عطفًا على الأنبياءِ في قولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا .
3- الثَّناءُ على أهلِ العِلم، وأنَّهم هم حَفَظةُ شريعةِ الله؛ لقوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؛ فهم وَرَثةُ الأنبياءِ، وهم الذين يَلزمُهم الدَّعوةُ إلى الله على بصيرةٍ، ونشْرُ شريعةِ الله .
4- تحريمُ خَشيةِ الناس في إضاعةِ شريعةِ الله؛ لقوله: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ .
5- يُستفادُ مِن قولِه: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا أنَّ المنحرِفَ عن الدِّينِ وعن نشْر العِلم ينحرفُ لأحدِ سببينِ: السَّبب الأوَّل: خشيةُ النَّاسِ، والسبب الثاني: الطَّمعُ في الدُّنيا، وطلَبُ الدُّنيا والرِّئاسةِ والمالِ، وما أشْبَه ذلك .
6- في قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا نهيٌ عن جميعِ المكاسِبِ الخبيثةِ بالعِلم، والتحيُّل للدُّنيا بالدِّين، وهذا المعنى بعينه يتناول علماءَ هذه الأمَّة وحُكَّامَها
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- شرفُ التوراة؛ لقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ؛ حيث إنَّ اللهَ تعالى أنْزَلَها مِن عنده، لكنَّ المرادَ بالتوراة: التي لم تُغيَّرْ ولم تُبدَّلْ
.
2- أنَّ في التوراةِ هدًى ونورًا؛ لقوله: فِيهَا هُدًى وَنُورٌ، وكذلك في القرآنِ الكريمِ؛ قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة: 185] ، فالقرآن كلُّه هدًى وكلُّه نورٌ؛ قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء: 174] ، وفي هذه الآية قال الله تعالى في التوراة: فِيهَا هُدًى وَنُورٌ، وهذا التعبيرُ بينه وبينَ التعبيرِ القرآنيِّ بالنسبة للقرآن الكريم فرْقٌ عظيم؛ لأنَّ التوراةَ جُعِل فيها هدًى ونورٌ، والقرآن جَعَله هو الهُدى والنُّور .
3- قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ فذكَر أنَّ في التوراة نورًا، بينما قال في آيةٍ أخرى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء: 48] ، فوصَفَها بأنَّها ضياءٌ، والضياء: هو النورُ الذي يَحصُل فيه نوعُ حرارةٍ وإشراق، كضياءِ الشَّمس، بخِلافِ القمر؛ فإنَّه نورٌ محْضٌ، فيه إشراقٌ بغيرِ إحراقٍ؛ وذلك لأنَّ الغالبَ على شريعتِهم الضياءُ؛ لِما فيها من الآصارِ والأغلالِ والأثقالِ، ووَصَف شريعةَ محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنها نورٌ لِمَا فيها مِن الحنيفيَّة السَّمْحةِ؛ قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وِكِتَابٌ مُبِينٌ .
4- أنَّ التوراةَ أصلٌ للأنبياءِ مِن بني إسرائيل الذين جاؤوا من بعدِ موسى عليه وعليهم السَّلام؛ لقوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ .
5- وصْفُ الأنبياءِ بالإسلامِ؛ لقوله: النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، والمرادُ هنا: الاستسلامُ الظاهرُ والباطِنُ، وفيه الإشارةُ إلى شَرفِ الإسلامِ وفَضلِه؛ إذ كان دِينَ الأنبياءِ .
6- وجهُ وصفِ النبيِّينَ بقوله: الَّذِينَ أَسْلَمُوا مع أنَّ كلَّ نبيٍّ لا بدَّ أن يكونَ مسلمًا، أنَّه وصَفَهم بذلك على سَبيلِ المدحِ والثَّناءِ، لا على سبيلِ التَّفصيل والتَّوضيح؛ فإنَّ الأنبياءَ كلَّهم مسلِمون، وقيل: بل في ذلك إعظامُ صفةِ الإسلامِ بعِظَمِ موصوفِها وهم الأنبياءُ، وقيل: يُحتَمَل أن يكون المرادُ هو محمدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ وذلك لأنَّه حَكَم على اليهوديَّيْنِ بالرَّجم، وكان هذا حُكْمَ التَّوراةِ، وإنما ذُكِر بلفظِ الجَمْعِ النَّبِيُّونَ تعظيمًا له .
7- يُستفادُ مِن قولِه: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ أنَّه لا عُذرَ لليهود في الخروجِ عن شريعةِ الله؛ لأنَّ اللهَ تعالى قيَّض لهم الأنبياءَ الكثيرين يَحكُمون لهم بالتوراةِ، لكنَّهم عاندوا وكفروا .
8- مِن اللَّطائف: أنَّه جازَ التبديلُ على أهلِ التوراةِ، ولم يَجُزْ على أهلِ القُرآنِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال في أهلِ التوراة: وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فوكَل الحِفظَ إليهم، وقال في القرآنِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ، فتَعهَّد اللهُ بحِفظِه؛ فلم يَجُزِ التبديلُ على أهلِ القرآنِ .
9- في قولِه تعالى: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا لَمَّا قدَّم الخوفَ- لأنَّه أقوى تأثيرًا- أتْبعَه الطَّمَعَ، فقال: وَلَا تَشْتَرُوا، ولَمَّا كان الاشتراءُ معناه اللَّجاجة في أخْذِ شيءٍ بثمنٍ، وكان المُثْمَنُ أشرفَ مِن الثَّمنِ من حيثُ إنَّه المرغوبُ فيه- جعَل الآياتِ مُثْمنًا وإنِ اقترنَتْ بالباء، حتَّى يُفيدَ الكلامُ التعجُّبَ مِن الرغبة عنها، وأنَّها لا يصحُّ كونُها ثمنًا، فقال: بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا .
10- قوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ... الآية: استُدلَّ به على أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شرْعٌ لنا، إذا حُكي مُقرَّرًا ولم يُنسَخْ؛ حيثُ كان الحُكمُ عندنا على وَفقِها في الجناياتِ عندَ جميعِ الأئمَّة .
11- يُستفادُ مِن قولِه تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أنَّ القصاصَ ثابتٌ في النُّفوسِ، ولو اختَلفَ النَّاسُ في السِّنِّ والطُّولِ والقِصَر والعِلمِ والعَقْلِ والذَّكاء، وغير ذلك؛ وَجْه ذلك: العمومُ؛ ولهذا لو أنَّ رجلًا شابًّا عالِمًا كريمًا حسيبًا قتَلَ طفلًا في المهدِ، فإنَّه يُقتَلُ به؛ لأنَّه لا عِبرةَ بالاختلافِ في هذه الأشياءِ؛ وذلك للعمومِ .
12- الاقتصارُ على ذِكر هذه الأعضاءِ دونَ غيرِها مِن أعضاءِ الجسدِ؛ كاليدِ والرِّجلِ والإصبَع؛ لأنَّ القطعَ يكونُ غالبًا عندَ المضاربةِ بقصدِ قطْعِ الرَّقبةِ، فقد ينبو السيفُ عن قطعِ الرَّأس، فيُصيب بعضَ الأعضاءِ المتَّصلةِ به مِن عينٍ أو أنفٍ أو أُذُن أو سِنٍّ، وكذلك عندَ المصاولةِ؛ لأنَّ الوجهَ يُقابِلُ الصائلَ .
13- لا بدَّ من المماثَلَة في القِصاص؛ فاليُمنى باليُمنى، واليُسْرى باليُسرى؛ لأنَّ التعريفَ في قوله: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ يدلُّ على أنَّ الثانيَ هو الأوَّل، وهذا يَقتضي المماثلةَ، ولأنَّه جاء بالباءِ الدالَّة على البَدَل، والبَدل لا بدَّ أن يكون مُساويًا للمُبْدَل منه .
14- قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ فيه الحثُّ على العَفْوِ عن الجاني .
15- قال تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ المرادُ مِن التصدُّقِ العفوُ؛ لأنَّ العفوَ لَمَّا كان عن حقٍّ ثابتٍ بِيَدِ مُستحِقِّ الأخْذِ بالقِصاصِ، جَعَل إسقاطَه كالعطيَّةِ؛ ليشيرَ إلى فَرْطِ ثوابِه، وبذلك يَتبيَّنُ أنَّ معنى كفَّارَةٌ لَهُ أنَّه يُكفِّر عنه ذُنوبًا عظيمةً؛ لأجْلِ ما في هذا العَفْوِ من جَلْبِ القلوبِ، وإزالةِ الإِحَنِ، واستبقاءِ نُفوسِ وأعضاءِ الأمَّةِ .
16- قال اللهُ تعالى في الموضع الأوَّل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ؛ لأنَّ اليهود جَحَدوا حُكمَ اللهِ قصدًا منهم وعنادًا وعَمدًا، وقال في الموضعِ الثَّاني: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ؛ لأنَّهم لم يُنْصِفوا المظلومَ مِن الظَّالمِ في الأمْرِ الذي أمَر اللهُ بالعدلِ والتسويةِ بين الجميعِ فيه، فخالَفوا وظَلموا، وتَعدَّى بعضُهم على بعضٍ .
17- في قولِه تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ عاد سُبحانَه وتعالى فحذَّر مِن مخالفةِ حُكمِ اللهِ؛ ليُنَبِّهَ على أنَّ الترغيبَ في العفوِ لا يَقتضي الاستخفافَ بالحُكمِ، وإبطالَ العملِ به؛ لأنَّ حُكمَ القِصاصِ شُرِعَ لحِكَمٍ عظيمة: منها الزَّجرُ، ومنها جبرُ خاطرِ المعتدَى عليه، ومنها التَّفادي من ترصُّدِ المعتدَى عليهم للانتقامِ مِن المعتدينَ أو مِن أقوامِهم؛ فإبطالُ الحُكمِ بالقِصاصِ يُعطِّلُ هذه المصالحَ، وهو ظلمٌ؛ لأنَّه غمصٌ لحقِّ المُعتدَى عليه أو وليِّه، وأمَّا العفوُ عن الجاني فيُحقِّقُ جميعَ المصالحِ، ويَزيد مصلحةَ التحابُبِ؛ لأنَّه عن طِيبِ نفْسٍ، وقد تَغشى غباوةُ حُكَّام بني إسرائيل على أَفهامِهم، فيجعلوا إبطالَ الحُكمِ بمنزلةِ العَفْو، فهذا وجهُ إعادةِ التحذيرِ عقبَ استحبابِ العفو
.
بلاغة الآيتين:
1- قوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ كلامٌ مُستأنَفٌ سِيق لبيانِ عُلوِّ شأنِ التَّوراة، ووجوبِ مراعاةِ أحكامِها، وهو يَتضمَّنُ تعظيمَ التوراةِ وتَفخيمَ شأنِها
، وفيه التأكيد بـ(إنَّ) واسميَّةِ الجُملةِ.
2- قوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ:
- قوله: الَّذِينَ أَسْلَمُوا فيه: رفْعٌ لشأنِ المسلِمين، وتعريضٌ باليهود، وأنَّهم بمعْزِلٍ مِن الإسلامِ والاقتداءِ بدِينِ الأنبياءِ عليهم السَّلام .
- وقوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: فيه من البَلاغةِ ما يُعرف بالاحتباك؛ حيثُ ترَك أولًا ذِكْر بِمَا اسْتُحِفُظُوا؛ لدلالةِ ما ذُكر بعدَ ذلك عليه، وتَرَكَ ذِكْرَ الإسلامِ بعدَ ذلك؛ لدلالة ذِكْره أولًا عليه، والتقدير: (يَحكُم بها النبيُّون الذين أسْلَموا بما استُحفظوا... للذين هادوا، والربَّانيُّون والأحبارُ الذين أسْلَموا بِما استُحفظوا)، وإنَّما خصَّ الأوَّل بذِكرِ الإسلامِ؛ لأنَّ الأنبياءَ أحقُّ به، وهو داعٍ إلى الحِفظ قَطعًا، وخصَّ الثاني بالاستِحفاظ؛ لأنَّ الأتْباع أَوْلى به، وهو دالٌّ على الإسلام .
- وفي إبهامِ ذِكْرِ التوراةِ أولًا في قوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا، ثمَّ بيانِها ثانيًا بقولِه تعالى: مِنْ كِتَابِ اللهِ تَفخيمٌ وإجلالٌ لها ذاتًا وإضافةً، وتأكيدٌ لإيجابِ حفظِها والعَملِ بما فيها، وإيرادُها بعنوان (الكتاب)؛ للإيماءِ إلى إيجابِ حِفظِها عن التَّغييرِ من جِهة الكتابةِ .
3- قوله: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ فيه: التفاتٌ؛ إذ إنَّه خطابٌ لرؤساءِ اليهودِ وعُلمائهم- على هذا المعنى- بطَريقِ الالتفاتِ، وأمَّا حُكَّامُ المسلمين فيتناولُهم النهْيُ بطريقِ الدَّلالةِ دون العِبارةِ .
4- قوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ الجملة تذييلٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبلَها أبلغَ تقريرٍ، وتحذيرٌ عن الإخلالِ به أشدَّ تحذيرٍ؛ حيث علَّق فيه الحُكمَ بالكفرِ بمجرَّد ترْك الحُكمِ بما أنزل اللهُ تعالى؛ فكيف وقد انضمَّ إليه الحُكمُ بخِلافِه- لا سيَّما مع مباشرةِ ما نُهوا عنه من تحريفِه- ووضْعُ غيرِه موضِعَه، وادِّعاءُ أنَّه مِن عندِ الله؛ ليشتروا به ثمنًا قليلًا ؟!
- وجاءَ ضميرُ الفصلِ هُمْ؛ لإفادةِ الحَصرِ والتوكيدِ، وضميرُ الفصل له ثلاثُ فوائدَ، الأولى: إفادةُ الحَصْر، والثانية: التوكيدُ، والثالثة: التمييزُ بين الخبر والصِّفة؛ ولهذا سُمِّيَ ضميرَ فصْلٍ .
5- قوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ التعبيرُ بصِيغةِ التفعُّل في تَصَدَّقَ؛ للمُبالغة في الترغيبِ فيه .
6- قوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الجملةُ تذييلٌ مُقرِّرٌ لإيجابِ العملِ بالأَحْكامِ المذكورة
=============17.
.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (46 - 47)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ
غريب الكلمات:
وَقَفَّيْنَا: أي: أتْبَعْنا، وأَرْدَفْنا، مأخوذٌ من القَفا؛ يُقال: قَفَوْتُ الرجلَ: إذا سرتَ في أثَرِه
.
عَلَى آثَارِهِمْ: أي: على آثارِ الأنبياءِ، وأثَرُ الشيءِ: حُصولُ ما يدلُّ على وجودِه، وأَصْلُ (أثر): رَسْمُ الشَّيءِ الباقِي .
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ: لِمَا قبْلَه، أو لِمَا كان مُتقدِّمًا له من الإنجيلِ ونحوِه .
مَوْعِظَةً: الموعظةُ والوَعْظُ: التخويفُ، أو الزجْرُ المُقترِنُ بتَخويف، أو التَذكيرُ بالخَيرِ وما يَرِقُّ له القَلبُ، وقيل: ما يَدْعُو إلى الصَّلاحِ بطريقِ الرَّغبةِ والرَّهْبةِ؛ فالوَعْظُ هو الأمرُ أو النَّهيُ المقترِنُ بما يَحمِلُ على الامتِثالِ مِن التَّرغيبِ أو التَّرهيب
.
مشكل الإعراب:
قوله: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.
مُصَدِّقًا: منصوبٌ على أنَّه حالٌ مِن عِيسَى عليه السَّلام.
فِيهِ هُدًى: جملةٌ في مَحلِّ نَصبٍ، حالٌ مِنَ الْإِنْجِيلَ.
ومُصَدِّقًا: مَنصوبٌ عَطفًا على مَحلِّ فِيهِ هُدًى، والمعطوفُ على الحالِ حالٌ؛ فهي في حُكمِ الحال أيضًا مِن الْإِنْجِيلَ.
وَهُدًى وَمَوْعِظَةً: اسْمانِ مَعطوفانِ على وَمُصَدِّقًا؛ فهُما في حُكمِ الحالِ مِن الإِنْجِيلَ أيضًا، أي: وآتيناهُ الإنجيلَ هاديًا وواعظًا، أو مَعطوفانِ على مُصَدِّقًا الأُولى؛ فهُما في حُكمِ الحالِ مِن عِيسَى، أي: ذا هُدًى وذا مَوعظةٍ. ويَجوزُ أن يكونَ (هُدًى) مَفعولًا مِن أجلِه والعامِلُ فيه مُقدَّرٌ؛ كأنَّه قيل: وللهُدَى والموعظةِ آتيناهُ الإنجيلَ
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ تعالى أنَّه أَتْبعَ الأنبياءَ والمرسَلين- الذين يَحكُمون بالتوراةِ- بعِيسى ابنِ مريمَ عليه السَّلامُ، مُؤمِنًا بما في التوراةِ، ومُؤيِّدًا لها، وشاهدًا على أنَّ التوارةَ حقٌّ، وآتاه اللهُ الإنجيلَ فيه هدًى ونورٌ، شاهدًا وموافقًا لِمَا في التوارة، وبيانًا للحقِّ، وزاجرًا للمتَّقينَ عن ارتكابِ المحرَّماتِ والآثامِ.
ويأمر اللهُ سُبحانَه أنْ يَحكُمَ النصارى بما أنزَل في الإنجيل، فالله عز وجل أنزَله على عيسَى عليه السَّلام؛ ليُقيموه ويتحاكموا إليه، ويؤمنوا بجميعِ ما فيه، ومنه البشارةُ ببعثةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والأمرُ بالإيمانِ به واتباعِه، وأخْبَر تعالى أنَّ مَن لم يحكُمْ بما أَنزلَ اللهُ فأولئك هم الفاسِقون.
تفسير الآيتين:
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى أنَّ التوراةَ يَحكُم بها النَّبيُّون، ذكَر أنَّه قفَّاهم بعِيسى؛ تَنبيهًا على أنَّه من جُملةِ الأنبياء، وتنويهًا باسمِه، وتنزيهًا له عمَّا يدَّعيه اليهودُ فيه، وأنَّه من جملة مصدِّقي التوراةِ
، فقال:
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ.
أي: وأتْبَعْنا هؤلاءِ الأنبياءَ والمرسَلين، الذين يَحكُمون بالتَّوراة، بعيسى عليه السَّلامُ، فبعثناه عَقِبَهم نبيًّا رسولًا شاهدًا على أنَّ التوراة حقٌّ، مؤيِّدًا لها ومؤمنًا بها، وحاكِمًا بشريعتها فيما لم يَنسخْه الإنجيلُ .
وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ.
أي: وأَنزلْنا إليه كِتابَنا المسمَّى بالإنجيلِ، فيه هُدًى إلى الحقِّ، ونورٌ يُستضاءُ به من ظُلماتِ الشُّبهاتِ، وعمَى الجَهالةِ .
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ.
أي: مثبِتًا وشاهدًا وموافِقًا لها، ومشتمِلًا على أحكامِها، إلَّا ما نسخَه منها .
وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.
أي: وجعَلْنا الإنجيلَ هدًى وبيانًا للحقِّ، وزاجرًا عن ارتكابِ المحارم والمآثمِ للمتَّقينَ الذين يمتَثِلون ما أمرَ اللهُ تعالى به، ويجتَنِبون ما نهَى عنه؛ فهم الذين ينتفعونَ بالهدَى، ويتَّعظونَ بالمواعظِ، ويرتدعونَ عمَّا لا يَنبغي .
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47).
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ قراءتان :
1- وَلِيَحْكُمَ بجَعْل اللامِ لامَ (كي)، فالمعنى: أنَّ الله عزَّ وجلَّ أنزل الإنجيلَ؛ لكي يحكُمَ أهلُ الإنجيلِ بما فيه .
2- وَلْيَحْكُمْ بِجَعْل اللامِ (لامَ الأمر)، فالمعنى: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أَمَرَ أهْلَ الإنجيلِ بالحُكْمِ بما أنزَلَه في الإنجيلِ .
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ
أي: وآتَيْنا عيسى عليه السَّلامُ الإنجيلَ لِيَحْكُمَ أهلُ ملَّته به، فلْيؤمِنوا بجميعِ ما فيه، ولْيُقيموا ما أُمِرُوا به فيه، وممَّا فيه البشارةُ ببَعثةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والأمرُ بالإيمانِ به واتِّباعِه .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
أي: إنَّ الذين لم يَحكُموا بما أَنزلَ اللهُ تعالى في كِتابِه من النَّصارى وغَيرِهم، خارجونَ عن طاعةِ ربِّهم، تارِكونَ للحقِّ، مائِلونَ إلى الباطلِ
.
الفوائد التربوية:
الحثُّ على التقوى، وأنَّها سببٌ لكلِّ خيرٍ، ولكلِّ عِلمٍ؛ لقوله: وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، ولا شكَّ أنَّ التَّقوى: هي أساسُ العملِ؛ لأنَّ مَن لم يتَّقِ اللهَ لا يعمَل، ومَن اتقى الله عمِلَ بأوامرِ الله حسَبَ ما عنده من التَّقوى
، لذا خصَّ الهُدَى والموعظةَ بكونهما للمُتَّقينَ؛ لأنَّهم هم الذين يَنتفعونَ بهما، وكلَّما زادتِ التَّقوى في الإنسانِ زاد اتِّعاظُه بالكتُب السَّماويَّة
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- أنَّ عِيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ آخِرُ الأنبياءِ؛ لقوله: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وليس بعدَه نبيٌّ يقفوه إلَّا محمدُ بنُ عبد اللهِ الهاشميُّ القرشيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ ولهذا جعله قافيًا لمن سبَقَه، ولو كان هناك نبيٌّ بعدَ عيسَى عليه السلامُ لكان هو المقَفَّى
.
2- أنَّ مَن ليس له أبٌ يُنسَبُ إلى أمِّه؛ لقوله: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فنُسِبَ عيسى ابنُ مريم إلى أمِّه؛ لأنَّه ليس له أبٌ، ومن أمثلة الذي ليس له أب: أنْ يزنيَ رجلٌ بامرأةٍ فتأتي منه بولدٍ؛ فهنا الولدُ ليس للزاني، ومنها: أنْ يُلاعِنَ الرجلُ امرأتَه لاتِّهامِه إيَّاها بالزِّنا، ويَنتفي مِن وَلَدِها، فيقول: ليس الولدُ منِّي، فحينئذٍ يكون له أمٌّ وليس له أبٌ .
3- في نِسبة عيسى عليه السَّلامُ إلى أمِّه في قولِه: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إشارةٌ إلى أنَّه لا والدَ له؛ تكذيبًا لليهودِ فيما افْتَرَوه على أُمِّه مريمَ، وإشارةٌ إلى أنَّه عبدٌ مربوبٌ؛ تكذيبًا للنَّصارى في إضافتِهم بنوَّتَه إلى اللهِ سبحانَه وتعالَى، فهو عليه السَّلام ابْنُ أُمِّه مَرْيَمَ .
4- يُستفادُ مِن قولِه: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ التنويهُ بعظمةِ التوراة وفضلِها وشرَفِها؛ لأنَّه ذُكِر في هذه الآية: أنَّ عيسى مصدِّقٌ لِمَا بين يَدَيه من التوراة، وأنَّ الإنجيلَ أيضًا مصدِّقٌ لِمَا بين يديه من التوراةِ .
5- أنَّ الإنجيلَ مُنْزَلٌ من عند الله؛ لقوله: بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وهو صريحٌ جدًّا في قول الله تبارك وتعالى: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران: 3-4] ، وعلى هذا فيكونُ الإنجيلُ من كلامِ الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه نزَلَ مِن عنده، وهو كلامٌ مُوحًى، والكلامُ إذا أُضيفَ إلى المتكلِّمِ فهو كلامُه
.
بلاغة الآيتين:
1- قوله: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ في ذِكْرِ عَلَى آثَارِهِمْ تأكيدٌ لمدلولِ فِعل قَفَّيْنَا، وإفادةُ سُرعةِ التَّقْفِيَةِ
.
2- قوله: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ فيه: إيجازٌ بالحذفِ، والتقدير: وقُلْنا: ليَحكُمْ أهلُ الإنجيل؛ فيكونُ هذا إخبارًا عمَّا فُرِض عليهم في ذلِك الوقت من الحُكم بما تَضمَّنه الإنجيلُ، ثم حُذِف القول؛ لأنَّ ما قَبلَه مِنْ قَوْلِه: وَكَتَبْنَا وَقَفَّيْنَا يدلُّ عليه، وحَذْفُ القولِ كثيرٌ .
3- قوله: بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فيه: وضْعُ الموصولِ (ما) موضعَ الضَّميرِ (به) في قولِه: بِمَا؛ للتنبيهِ على عِلِّيَّةِ ما في حيِّزِ الصِّلةِ للحُكم، وفيه التفاتٌ بإظهارِ الاسمِ الجليلِ؛ لتربيةِ المهابةِ، والإشعارِ بعِلَّة الحُكم .
4- قوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ الجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون الجُملة السابقة، ومؤكِّدٌ لوجوبِ الامتثالِ بالأَمْرِ .
=============18..
سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (48 - 50)
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ
غريب الكلمات:
وَمُهَيْمِنًا: أي: شاهدًا ورَقيبًا، وأَمينًا ومؤتمَنًا، وحاكمًا
.
أَهْوَاءَهُمْ: جمْعَ هوًى: وهو مَيلُ النَّفسِ إلى الشَّهوةِ، وأصلُه: الخلوُّ والسقوطُ، ومنه قيل للآراء الزَّائفةِ: أهواءٌ .
شِرْعَةً: أي: سُنَّةً وطَريقَةً، والشَّرعُ: نهجُ الطريقِ الواضِح، وكُلُّ ما شُرِع فيه مِن شَيءٍ فهو شَريعةٌ، ومِنه الشِّرْعَةُ والشَّريعةُ: وهي الطريقةُ الظاهرةُ، ومنه قيل لشريعةِ الماءِ (نهر- أو واد) شريعة؛ لأنَّها أظهرُ طُرقِه إليه، وأصل (شرع): شيءٌ يُفتَح في امتدادٍ يكونُ فيه .
مِنْهَاجًا: طَرِيقًا وَاضحًا، والمنهاجُ: الطَّرِيقُ المستمرُّ، وأصل النَّهج: الطريقُ الواضِح .
لِيَبْلُوَكُمْ: أي: لِيَختبِرَكم ولِيَمتَحِنَكم، وأَصْلُ (بلي): الامتحانُ والاختبارُ، ويكون البلاءُ في الخيرِ والشرِّ .
الْجَاهِلِيَّةِ: نِسبةً إلى الجاهِل، والمرادُ بالجاهليَّة: ما كان في الفترةِ قبلَ الإسلامِ من الجَهلِ باللهِ ورسولِه وشرائعِ الدِّين- وقد يُوصَفُ بها مَن تَشبَّه ببعضِ أحوالِها- وأَصْلُ (جهل): خِلافُ العِلمِ، ويُطلَقُ الجهلُ على: خلوِّ النَّفْس من العِلم، وعلى اعتقادِ الشيءِ بخِلافِ ما هو عليه، وعلى فِعلِ الشيءِ بخِلافِ ما حقُّه أن يُفعَل، سواءٌ اعتَقَد فيه اعتقادًا صحيحًا أو فاسدًا .
يَبْغُونَ: أي: يَطلُبون، وأصل (بغي): طلَب الشَّيءَ .
يُوقِنُونَ: يَعلمُونَ عِلمًا مُتمكِّنًا في نفوسِهم، لا يمكن أن يَدخُلَه شكٌّ، وأصلُ اليقين: زوال الشكِّ
.
مشكل الإعراب:
1- قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا.
لِكُلٍّ: اللامُ فيها مُتعلِّقةٌ بـجَعَلْنَا، وتقديمُها عليه للتَّخصيص.
جَعَلْنَا: فِعلٌ وفاعلٌ، والفِعلُ (جَعَل) يَحتمِل أنْ يَتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ، أو يَتعدَّى لمفعولَينِ- كما سيأتي.
مِنْكُمْ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ وقَع صِفةً للاسْمِ المحذوفِ الذي عُوِّضَ عنه بتنوينِ العِوَضِ في كُلٍّ؛ أي: لكُلِّ أمَّةٍ مِنكم جَعَلْنا...، ولا ضَيرَ في توسُّط جَعَلْنَا بَينَ الصِّفة والموصوفِ، ونَظيرُه قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ... الآية [الأنعام: 14] ؛ لأنَّه فصَل بين الجلالةِ وصِفتِها بالعَملِ في المَفعولِ الأوَّل.
شِرْعَةً: مفعولٌ به لـجَعَلْنَا المتعدِّي لمفعولٍ واحد، ويَحتمل أنْ يكونَ الفِعلُ جَعَلْنَا متعدِّيًا لاثنينِ بمعنى (صَيَّرْنا)؛ فيكون لِكُلٍّ مَفعولًا ثانيًا مقدَّمًا، ويكون قوله: شِرْعةً مفعولًا أوَّلَ
.
2- قوله: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ.
أَنْ يَفْتِنُوكَ: مَصدرٌ مؤوَّل بالصَّريح (فِتنتهم إيَّاك)، وفي إعرابِه وجهان؛ الأوَّل: أنَّه مفعولٌ مِن أجلِه، أي: احْذَرهم مَخافةَ أَنْ يَفْتِنوك. والثاني: أنَّه بدلُ اشْتِمالٍ من المفعولِ؛ كأنَّه قال: واحْذَرْهُمْ فِتنتَهم؛ كقولك: أعجبَني زيدٌ عِلمُه
.
المعنى الإجمالي:
يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا له: أنزَلْنَا إليك القرآنَ بالحقِّ، شاهدًا بصِدْقِ الكتُبِ السَّماويَّة التي سبقَتْه، وأمينًا عليها، وحافظًا لها، مُشتمِلًا على ما اشتمَلَتْ عليه وزيادة، وناسخًا وحاكمًا عليها، وأمَرَه الله سُبحانَه بعدَها أن يَحكُم بين أهلِ الكتابِ وغيرِهم بما أنزَلَه اللهُ من القُرآن، ونهاه عن اتِّباعِ أهوائِهم التي تُعارِض ما جاءَه من الحقِّ، وقد جعَل اللهُ لكلِّ أهل مِلَّةٍ سبيلًا وسُنَّةً يتَّبِعونها، ولو شاءَ سُبحانَه لجعَلَ النَّاسَ جميعًا على شريعةٍ ومنهاجٍ واحدٍ، لكنَّ اللهَ جعَلَ الشَّرائِعَ مختلفةً ليختبرَ عبادَه، ثم أمَر تعالى بالمبادَرَةِ والمسابقةِ إلى فِعلِ الخيراتِ؛ فإنَّ المعادَ والمرجِعَ إليه، فيُخبِر العبادَ بالذي كانوا يَختلِفون فيه.
وأمَر اللهُ نبيَّه أن يَحكُمَ بينهم بما أنزَلَه إليه في القُرآنِ، ولا يَتَّبع أهواءَهم، ولْيكُنْ حَذِرًا منهم أن يَصدُّوه عن بعضِ ما أَنزلَ اللهُ إليه في كتابه، فإنْ أعرَضوا عما حَكَمَ به عليهم، فليعلمْ أنَّ سببَ تولِّيهم هي إرادةُ الله تعالى أن يُعاقِبَهم ببعضِ ما اقترفوه من ذنوبٍ، وأخبره تعالى أنَّ كثيرًا من النَّاسِ خارجونَ عن طاعةِ ربِّهم.
ثم يقولُ تعالى لنبيِّه: أيُريدُ هؤلاء اليهودُ وغيرُهم الأحكامَ المخالِفَةَ للحقِّ، المبنيَّة على الجهلِ والظُّلم؟! ثم بيَّن تعالى أنَّه لا أحدَ أحسنُ حُكمًا منه سُبحانَه، يَتبيَّن ذلك ويتَّضِحُ لِمَن أَيقنَ باللهِ تعالى وآمَنَ به.
تفسير الآيات:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى التوراةَ التي أنزَلَها على موسَى عليه السَّلامُ، ومدَحَها وأثْنَى عليها، وأمَر باتِّباعِها؛ حيثُ كانتْ سائغةَ الاتِّباعِ، وذكَر الإنجيلَ ومدَحَه، وأمَر أهْلَه بإقامَتِه واتِّباع ما فيه؛ شَرَع تعالى في ذِكرِ القرآنِ العظيم، ومكانِه من الكتُب التي قَبلَه، وهو الذي أنزلَه على عبدِه ورسولِه الكريمِ محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مُقرِّرًا لنبوَّته وكتابِه؛ لأنَّ اليهودَ والنَّصارى يُنكِرونَ نُبوَّتَه وكتابَه، وأنَّ حِكْمتَه تعالى اقتضَتْ تعدُّدَ الشَّرائعِ ومناهجِ الهداية؛ فتلك مُقدِّماتٌ ووسيلةٌ، وهذا هو المقصِدُ والنتيجة
، فقال:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ.
أي: وأَنزلْنا إليك- يا محمَّدُ- القرآنَ العظيمَ الذي نزولُه حقٌّ من عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، ونزلَ مُتضمِّنًا للحقِّ، فأخبارُه صِدْقٌ، وأحكامُه عَدلٌ، فلا كَذِبَ فيه ولا جَورَ، ولا ريبَ أنَّه مِن عندِ اللهِ تبارَك وتعالى .
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ.
أي: وأنزلْناه شاهدًا للكتُبِ الإلهيَّةِ السابقةِ بصِدقها، وموافقًا لها، ومطابِقًا لأخبارِها وأصولِ شرائعها، وفي وجودِه أيضًا دَلالةٌ على صِدقها؛ لأنَّها أَخبرتْ بنُزولِ القُرآن .
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ.
أي: وأنزلْناه أمينًا على الكتُبِ الإلهيَّة السابقة، حافظًا لها، مشتملًا على ما اشتملَتْ عليه الكتُبُ السَّابقَة وزيادة، وناسخًا لها، وحاكمًا عليها كلِّها، فما شهِد له القرآنُ منها بالصِّدقِ فهو مقبولٌ، وما شهِد له بالردِّ فهو مردودٌ، قد دخلَه التحريفُ والتبديلُ، وإلَّا فلو كان من عندَ اللهِ تعالى، لم يُخالِفْه .
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
أي: وما دام أنَّ هذه هي حالُ القرآن؛ فاحكمْ إذنْ- يا محمَّدُ- بينَ أهلِ الكتاب وغيرِهم بهذا القرآنِ العظيم، في كلِّ ما احتَكموا فيه إليك .
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.
أي: لا تَترُكَنَّ تحكيمَ كتابي بَينهم- يا محمَّدُ- متابعةً منك لأهوائِهم الفاسدةِ المعارِضةِ للحقِّ، فتحكمَ بها إرضاءً لهم بدلًا عن الحُكمِ بما أتاك من الحقِّ الذي هو أحقُّ أن يُحكمَ به .
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا.
أي: لكلِّ أهلِ ملَّةٍ منكم- أيُّها الأممُ- جعَلْنا سبيلًا تَسلُكونَه، وسنَّةً واضحةً تتَّبعونها .
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ.
أي: ولو شاء اللهُ لجَمَعَكم- أيُّها النَّاسُ- على دينٍ واحدٍ، وجعل شَرائِعَكم شريعةً واحدةً؛ لا يختلِفُ متأخِّرُها عن مُتقدِّمها، ولكنَّه تعالى خالَفَ بينها؛ لِيَختبرَكم وينظرَ كيف تَعملون ، فيبتلي كلَّ أُمَّةٍ بحسَب ما تَقتضيه حِكمتُه، ويُؤتي كلَّ أحدٍ ما يَليقُ به، وليحصلَ التنافسُ بين الأُمم؛ فكلُّ أمَّةٍ تحرِصُ على سَبْقِ غيرِها .
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا كان في الاختبارِ أعظمُ تهديدٍ في قوله: وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ سبَّب عنه قولَه: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ؛ ليحُثَّ على السَّبقِ للخَيرِ ؛ فقال تعالى:
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.
أي: فبادِروا- أيُّها الناسُ- إلى الطاعاتِ والأعمالِ الصالحاتِ، وسارِعوا إليها وَفقًا لشرعِه ونهْجِه الذي أنزلَه في كتابِه القرآنِ .
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا.
أي: معادُكم- أيُّها الناسُ- مِن جميعِ الأُمم، ومصيرُكم إلى الله تعالى وحْدَه يومَ القيامة .
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.
أي: فيُخبِرُكم بما اختلفتُم فيه من الحقِّ، وحينئذٍ يحصُلُ الفصلُ بالعدلِ، ويَتبيَّنُ المحِقُّ مِن المبطِلِ، ويُثابُ أهلُ الحقِّ، ويُعاقَبُ أهلُ الباطِلِ .
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كان الأمرُ بالحُكمِ فيما مضَى مِنْ قَوْلِه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ لكونِه مُسبَّبًا عمَّا قَبلَه من إنزالِ الكتابِ على الأحوالِ المذكورة؛ أعادَ الأمرَ به سُبحانَه مصرِّحًا بذلك لِذاتِه لا لشيءٍ آخَر؛ ليكونَ الأمرُ به مؤكَّدًا غايةَ التأكيدِ بالأمرِ به مرَّتين: مرَّةً لأنَّ اللهَ أمَرَ به، وأخرى لأنَّه على وَفْقِ الحِكمة، فقال تأكيدًا له وتنويهًا بعظيمِ شأنِه، ومحذِّرًا من الأعداءِ فيما يُلقُونه من الشُّبَه للصدِّ عنه :
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
أي: واحْكُمْ بينهم إذا تنازَعوا إليك- يا مُحمَّدُ- بحُكمِ الله تعالى الذي أنزلَه إليكَ في القرآنِ، ولا تَحكُمْ بما عندَهم .
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ.
أي: والْزمِ العملَ بالقرآنِ الذي أُنزِلَ إليك- يا محمَّدُ- ولا تتَّبعْ أهواءَ اليهودِ، ولا أهواءَ غيرِهم .
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ.
أي: وإيَّاك- يا محمَّد- والاغترارَ بهؤلاء الأعداءِ من اليهودِ وغيرِهم ممَّن يَحتكِمون إليك، فكنْ على حَذرٍ من أنْ يصدُّوك عن بعضِ ما أنزَلَ اللهُ تعالى إليك من أحكامِ القُرآنِ، فيَحْملوك على ترْكِ العملِ بها، واتِّباعِ أهوائِهم .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ.
أي: فإنْ أعرَضَ هؤلاءِ الذين يَحتكِمون إليك- يا محمَّدُ- من اليهودِ وغيرِهم عن العملِ بما حَكمتَ به عليهم، فاعلمْ أنَّهم لم يَتولَّوا عن حُكْمِك وقد قضيتَ بالحقِّ إلَّا بقَدَرِ اللهِ تعالى وحِكْمَتِه فيهم؛ مِن أجلِ أنَّه يُريدُ صرْفَهم عن الهُدى، وتعجيلَ عُقوبتِهم في الدنيا؛ لِمَا صدَرَ منهم من ذُنوبٍ اقتضتْ إضلالَهم ونَكالَهم .
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ.
أي: وإنَّ كثيرًا من الناسِ خارجونَ عن طاعةِ ربِّهم، مخالِفونَ للحقِّ، فالفِسْقُ طبيعةٌ لهم وسجيَّة .
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50).
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ.
أي: أفيَطلُبُ هؤلاءِ اليهودُ وغيرُهم الأحكامَ المخالِفةَ للحقِّ، المبنيَّةَ على الجهلِ والظُّلمِ، والتي وضَعَها الناسُ بلا مُستنَدٍ من شريعةِ اللهِ تعالى، بحسَب آرائِهم وأهوائِهم؛ أفيَطلُبون ذلك وعندهم كتابُ اللهِ فيه الهدى والنُّور، والعَدْلُ والحقُّ المُبِينُ الذي لا يجوزُ خِلافُه، ومع ذلِك يَعدِلون عنه ؟!
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
أي: لا أحدَ أحسنُ وأعدلُ مِن الله تعالى في حُكمِه، ولكنَّ ذلك يَتبيَّن لِمَن أيقنَ باللهِ تعالى وأسمائِه وصِفاتِه- ومن ذلك أنَّه أحكمُ الحاكِمينَ سُبحانَه- فعَرَف الفرقَ بين حُكمِه سُبحانَه وحُكمِ الجاهليَّة، وميَّز بإيقانِه ما في حُكمِ الله عزَّ وجلَّ من الحُسن، ودَفعَه يقينُه إلى العملِ به
.
الفوائد التربوية:
1- أنَّه يَنبغي لِمَن نهَى عن شيءٍ قبيحٍ أن يُبيِّنَ قُبْحَه، وأنْ يَنقُل النَّاسَ إلى ما هو خيرٌ منه؛ لقوله: عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ، فكأنه قال: لا تتَّبِعْ أهواءَهم، واتَّبِع ما جاءَك من الحقِّ
.
2- أنَّه يجِبُ على المسلمينَ أنْ تكونَ لهم شخصيَّةٌ قائمةٌ بعزَّة الإِسلامِ، وألَّا يكونوا أذنابًا لأعداءِ الله؛ لقوله: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ .
3- قولُه تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ موجَّهٌ مِن الله عزَّ وجلَّ إلى رسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، مع أنَّنا نعلمُ عِلمَ اليقينِ أنَّه لن يَفعلَ ذلك؛ لكن لِيَعتبرَ النَّاسُ أنَّه إذا كان محمَّدٌ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ينهاه ربُّه ومُرسِلُه عن اتِّباعِ أهوائِهم عمَّا جاءَه من الحقِّ، فكيف بغَيْرِه ؟!
4- يُستفادُ مِن قولِه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً أنَّه لا بدَّ لبني آدَمَ من الاختلافِ، وهذا هو الواقِعُ .
5- أنَّ الذنوبَ لها آثارٌ سيِّئة، مِن أعظمِها التولِّي عن دِينِ اللهِ وعمَّا أنزَلَ الله؛ فالإنسانُ كلَّما عصَى اللهَ ابتعَدَ عن قَبولِ الوحي والشَّريعةِ؛ ولهذا قال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ .
6- الحَذرُ الشَّديدُ مِن موافقةِ الكفَّارِ؛ لقولِه تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ .
7- أنَّ حُكمَ اللهِ أحسنُ الأحكامِ؛ لقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا، ويترتَّبُ على هذا أنَّ الإنسانَ إذا آمَن بأنَّ حُكمَ اللهِ أحسنُ الأحكامِ، استسلمَ لحُكمِ الله ورضِيَ به تمامًا، سواءٌ علِم الحِكمةَ أم لم يعلمْ، وهذا حقٌّ؛ فأيُّ إنسانٍ يرى أنَّ حُكمَ أحدٍ هو أحسنُ الأحكام فسوف ينقادُ له، ولا يُعارِض ولا يمانِع
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- الثَّناءُ على القرآن؛ لقوله: بِالْحَقِّ؛ لأنَّ جميعَ ما في القرآن حقٌّ، إنْ كان خبرًا فهو صِدْق، وإنْ كان قَصَصًا فهو نافعٌ، وإنْ كان أحكامًا فهو عَدْلٌ
.
2- القرآنُ مهيمِنٌ على الكتُبِ؛ لأنَّه الكتابُ الذي لا يصيرُ منسوخًا ألبتةَ، ولا يتطرَّقُ إليه التبديلُ والتحريفُ؛ على ما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ، وإذا كان كذلِك كانتْ شهادةُ القرآن على أنَّ التوراةَ والإنجيلَ والزبورَ حقٌّ وصدقٌ باقيةً أبدًا، فكانتْ حقيقةُ هذه الكتُبِ معلومةً أبدًا؛ قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ .
3- أنَّ القرآنَ ناسِخٌ لِمَا قبْلَه من الكتُب؛ لقوله: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ .
4- وجوبُ الحُكم بما أنزلَ اللهُ في القرآنِ إذا تحاكَم إلينا أهلُ الكتابِ؛ لقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وهذا الخطابُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لكن يَشمَلُ الأمَّةَ .
5- قال تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ولم يقُلْ: (شريعتهم أو نحوها)؛ لأنَّهم على هوًى، وليسوا على هُدًى، فكُفرُهم بما جاء به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن هوًى، ليس عن عقلٍ ولا عن شَرْعٍ .
6- يُستفادُ مِن قولِه: عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ أنَّ ما جاءَ به الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حقٌّ لا يُمكِنُ العدولُ عنه إلى غيرِه؛ لأنَّه لم يقل: (عمَّا جاءَك) أو (عمَّا نزَل) فقط، بل أضافَ: مِنَ الْحَقِّ .
7- أنَّ المرجِعَ إلى اللهِ تبارك وتعالى شَرْعًا وقدَرًا؛ لقولِه: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ فالمرجِعُ إلى اللهِ شرعًا؛ هو الذي يَحكُم بيننا، وقدَرًا؛ فإنَّ الأمرَ كما قال الله: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية: 25- 26] .
8- في قولِه تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ... هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ الخطأَ والنِّسيانَ جائزانِ على الرَّسولِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ، والتعمُّدُ في مِثل هذا غيرُ جائزٍ على الرَّسولِ، فلم يَبقَ إلَّا الخطأُ والنِّسيان .
9- وجوبُ الحَذرِ مِن اليهودِ والنَّصارى وغيرِهم؛ لقوله: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ .
10- في قوله تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ الإشارةُ إلى أنَّ مِن أكبرِ غاياتِ اليهودِ والنَّصارى أن يَفتِنوا المسلمينَ عمَّا أَنزلَ اللهُ إليهم، وإذا كانَ اللهُ تعالى قد تَكلَّمَ في هذا في عهدِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فالأمرُ في وقتِنا أشدُّ؛ لأنَّهم الآن يَرَوْن أنَّهم أقوى منَّا في المادَّةِ الحِسيَّة، فيكونُ حِرصُهم على صَدِّنا عن سبيلِ الله أشدَّ .
11- في قولِه: بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أبْهَم الذنوبَ؛ زيادةً في استدراجِهم وإضلالِهم، وتحذيرًا لهم من جميعِ مساوي أعمالِهم؛ لئلَّا يَعلموا عينَ الذنبِ الذي أُصيبوا به، فيحملَهم ذلك على الرجوعِ عنه، ويَصيرَ ذلك كالإلجاءِ .
12- يُستفادُ مِن قولِه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أنَّ كلَّ حُكمٍ مخالفٍ لحُكمِ الله فهو حُكمٌ جاهليٌّ .
13- يُستفادُ مِن قولِه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أن يُعارِضَ أحكامَ الشَّرع بعقلِه، هذا في العمليَّات الفقهيَّات، وفي العَقَديَّات العِلميَّات مِن باب أَوْلى؛ لأنَّه إذا كان لا يجوزُ للإنسان أن يُعارِضَ الشرعَ في الأمورِ العمليَّةِ التي يَدخُلها القياسُ، فالأمورُ العِلميَّةُ الخبريَّة من باب أَوْلى .
14- قولُه تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فيه الإنكارُ على من خَرَجَ عن حُكمِ اللهِ المُحكَم، المشتَمِل على كلِّ خيرٍ، النَّاهي عن كلِّ شَرٍّ، وعَدَلَ إلى ما سواه مِنَ الآراءِ والأهواءِ والاصطلاحاتِ، التي وضَعَها الرِّجالُ بلا مُستنَدٍ مِن شريعةِ اللهِ، كما كان أهلُ الجاهليَّةِ يحكُمونَ به من الضَّلالاتِ والجَهالات، مِمَّا يضعونَها بآرائِهم وأهوائِهم، وكما كان يحكُمُ به التَّتارُ مِنَ السِّياساتِ المَلَكيَّةِ المأخوذةِ عَن مَلِكِهم جنكيزخان، والتي اقتبَسَها مِن شرائِعَ شتَّى، من اليهوديَّةِ والنَّصرانيَّةِ والملَّةِ الإسلاميَّةِ، وفيها كثيرٌ مِنَ الأحكامِ أخَذَها من مجرَّدِ نَظَرِه وهواه، فصارَتْ في بَنِيه شَرعًا مُتَّبعًا، يُقَدِّمونها على الحُكمِ بكِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَن فعل ذلك فهو كافِرٌ يجِبُ قِتالُه، حتى يرجِعَ إلى حُكمِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يُحكِّمُ سواه في قليلٍ ولا كثيرٍ .
15- أنَّه لا يَعرِف حُسنَ أحكامِ اللهِ إلَّا مَن عنده يقينٌ، وكلَّما كان الإنسانُ أشدَّ يقينًا، كان بيانُ حُسنِ أحكامِ الله عنده أكثرَ وأشدَّ؛ لقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فيه: إظهارٌ في محلِّ الإضمار بقولِه: الْكِتَابَ؛ لبيانِ أهميَّته، وأنَّه المرجعُ والملاذُ والمعتصَم إذا حَزَبَ الأمرُ
.
- وفي قوله هنا: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ، وقوله عن التوراة: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ وقوله عن الإنجيل: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ... وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ، لطيفةٌ ومناسبةٌ حسنةٌ في كلِّ سِياق؛ فإنَّه لَمَّا ذكَر تعالى أنَّه أنزلَ التوراةَ فيها هدًى ونورٌ في قولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ لم يَذكُرْ مَن أَنزلها عليه؛ لاشتراكِ كلِّهم في أنَّها نزلتْ على موسى؛ فترَك ذِكْرَه للمَعرفةِ بذلك، ثم ذكَر عيسى وأنَّه آتاهُ الإنجيلَ في قولِه تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ، فذَكَره ليُقرُّوا أنَّه من جُملةِ الأنبياء؛ إذ اليهودُ تُنكِر نبوَّتَه، وإذا أنكرتْه أنكرتْ كِتابَه، فنصَّ تعالى عليه وعلى كِتابِه، ثمَّ ذكَر إنزالَ القُرآنِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذَكَر الكتابَ ومَن أَنزلَه، مُقرِّرًا لنبوَّته وكِتابِه؛ لأنَّ الطائفتَينِ يُنكرون نُبوَّتَه وكتابَه، وجاءَ هنا ذِكرُ المُنزَلِ إليه بكَافِ الخِطاب؛ لأنَّه أنصُّ على المقصودِ .
2- قوله: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ تعريفُ الكِتاب للجِنس؛ لأنَّه عنَى به جِنسَ الكتُبِ المنزلَة، ويجوزُ أن يُقال: هو للعَهد؛ لأنَّه لم يُرَدْ به ما يقعُ عليه اسمُ الكتاب على الإطلاقِ، وإنَّما أُريد نوعٌ معلومٌ منه، وهو ما أُنزِلَ من السماء سِوى القرآنِ ، وقيل: لَمَّا كانتِ الكتُبُ السَّماويَّة مِن شدَّةِ تَصادُقِها كالشيءِ الواحدِ عبَّر تعالى عنها بالمفردِ؛ فقال: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ .
3- قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وفيه: الخطابُ بطريق التلوينِ والالتفاتِ للنَّاس كافَّةً؛ ولكن ليس للموجودينَ خاصَّةً، بل للماضين أيضًا بطريق التَّغليبِ .
- وقوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا: فيه حذف، والتقدير: لكلِّ أمَّة منكم أيُّها النَّاس، أو لكلِّ نبيٍّ مِنكم أيُّها الأنبياءُ، وعلى هذا الوجهِ يكون فيه تنبيهٌ لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، أي: فاحفظْ شِرعتك ومِنهاجَك؛ لئلَّا تستزلَّك اليَهودُ وغيرُهم في شيءٍ منه .
- وهو كالتَّعليلِ للنَّهي؛ أي: إذا كانتْ أهواؤُهم في متابعةِ شريعتِهم أو عَوائدِهم؛ فدَعُوهم وما اعتادُوه، وتمسَّكوا بشَرعِكم .
- وعلى القولِ بأنَّ الشِّرعة والمنهاجِ عِبارتان عن معنًى واحدٍ- والمرادُ بهما الدِّين- فيكونُ فيه تكريرٌ بعطفِ أحدِ المترادفَينِ على الآخَر، أو ما هو قَريبٌ منه في المعنى؛ لقَصدِ التَّأكيد .
4- قوله: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا استئنافٌ في معنى التَّعليلِ؛ لأمْرِه تعالى باسْتِباقِ الخيراتِ؛ كأنَّه يقول: يَظهَرُ ثمرةُ استباقِ الخيراتِ والمبادرةِ إليها في وقتِ الرجوعِ إلى اللهِ تعالى ومُجازاتِه .
5- قوله: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فيه: إظهارُ الاسمِ الجليلِ اللَّهُ؛ لتأكيدِ الأمرِ بتهويلِ الخَطب .
6- قوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ: تأكيدٌ لِمَا تقدَّم مِن الأمرِ بذلك في الآيةِ السَّابقة، والنهيِ عن خِلافِه ، وكرَّر النهيَ عن اتِّباع أهوائِهم في قوله: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ؛ لشدَّةِ التحذير منها، ولأنَّ ذلك في مقامِ الحُكم والفتوى، وهو أوسعُ، وهذا في مقامِ الحُكم وحْدَه، وكلاهما يلزمُ فيه ألَّا يتَّبِعَ أهواءَهم المخالفةَ للحقِّ .
7- قوله: بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ يعنى: بذَنْبِ التَّولِّي عن حُكْمِ اللَّه، وإرادةِ خِلافِه، فوَضَعَ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ مَوضِعَ ذلك، وأرادَ أنَّ لهم ذُنوبًا جمَّةً كثيرةَ العددِ، وأنَّ هذا الذَّنبَ- مع عِظَمه- بعضُها وواحدٌ منها؛ وهذا الإبهام لتعظيمِ التولِّي، واستسرافِهم في ارتكابِه، وجَسامَته وفَداحةِ التطاوُلِ به؛ فما أخسرَ صفقتَهم، وما أبشعَ ما اقترَفوه! واستعمالُ (بعض) في الإبهامِ واردٌ كثيرًا في كلامِ العرب .
8- قوله: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ اعتراضٌ تذييليٌّ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبْلَه؛ ليَهُون عِندَه بَقاؤهم على ضَلالِهم؛ إذ هو عادَةُ أكثرِ النَّاس، وفيه كِنايةٌ عن كون أكْثرِ اليهودِ فاسِقين .
9- قوله: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ الاستفهامُ إنكاريٌّ، وتقديمُ المفعول أَفَحُكْمَ على فِعله يَبْغُونَ؛ للتخصيصِ المفيدِ لتأكيدِ الإنكارِ والتعجُّب ، ولإفادةِ الحَصرِ، يعني: كأنَّ هؤلاءِ لا يُريدون إلَّا الحُكمَ الجاهليَّ المبنيَّ على الجهلِ أو الجهالةِ .
10- قوله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فيه ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بـ(الإيغال) ، ونوعه: الإيغالُ التَّخييريُّ؛ إذ إنَّ المعنى قد تمَّ بقَولِه: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا، ولَمَّا احتاجَ الكلامُ إلى فاصلةٍ تُناسِبُ ما قَبلَها وما بَعدَها، أتتْ هذه الفاصلةُ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لتُفيدَ معنًى زائدًا، لولاها لم يَحصُل؛ وذلك أنَّه لا يَعلَمُ أنَّ حُكمَ الله أحسنُ مِن كلِّ حُكمٍ إلَّا مَن أَيقنَ أنَّه واحدٌ حكيمٌ عادلٌ، وعدَلَ عن قوله: (يَعْلمونَ) إلى قولِه: يُوقِنُونَ؛ ليكون عِلمُهم برَبِّهم عِلْمَ قَطعٍ ويقينٍ .
=============19.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (51 - 53)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ
غريب الكلمات:
أَوْلِيَاءَ: أي: أصدقاءَ ونُصراءَ، والوِلايةُ النُّصرةُ، وأَصْلُ (ولي) يدلُّ على القُرْب، سواء مِن حيث: المكان، أو النِّسبة، أو الدِّين، أو الصَّداقة، أو النُّصرة، أو الاعتقاد، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه
.
مَرَضٌ: أي: شكٌّ ونِفاقٌ، وأصلُ المرض: الفُتورُ، والخروجُ عن الاعتدالِ الخاصِّ بالإنسانِ .
أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ: أي: أنْ يَدورَ علينا الدَّهرُ بمكروهٍ فلا يُبايعونا، فنحتاج إليهم وإلى مُعاونتهم، وأَصْلُ (دور) يدلُّ على إحداقِ الشيءِ بالشيءِ مِن حَواليهِ .
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: أي: اجتَهَدوا في الحَلِفِ والأَيمانِ، أو هو كنايةٌ عن أغلظِ الأيمانِ، وأَصْلُ (جهد): المشقَّة. وأَيْمَانِهِمْ: جمْع يمين: وهو القَسَمُ والحَلِف
.
مشكل الإعراب:
قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ.
جَهْدَ: منصوبٌ، وفي نَصبِه ثلاثة أوجهٍ؛ الأوَّل: أنَّه مَصدرٌ مؤكِّدٌ، وناصبُه (أَقْسَمُوا) فهو مِن معناه لا مِن لَفظِه، والمعنى: أَقْسَموا إقْسامَ اجتهادٍ في اليَمين. الثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ من ضَميرِ (أَقْسَمُوا) على تأويلِ المَصْدَرِ باسْمِ الفاعِلِ، أي: جاهِدِينَ، والتَّقديرُ: وأقْسَموا باللهِ جاهِدينَ أنفُسَهم في أَيمانِهم؛ أي: بالغِينَ بها أقْصى الطَّاقَةِ، وإضافةُ جَهْدَ إلى أَيْمَانِهِمْ على هذا الوَجهِ إضافةٌ على مَعْنى (من)، أي: جَهدًا ناشِئًا عن أيمانِهم. الثالث: أنَّه منصوبٌ على المفعولِ المُطلَق الواقِعِ بدلًا مِن فِعْلِه، والفعلُ المُقَدَّر في مَوضِعِ الحالِ من ضَمير (أقْسموا)، والتقدير: أقسموا يَجْهَدون أيمانَهم جَهْدًا، وإضافة جَهْدَ إلى أَيْمَانِهِمْ على هذا الوجه من إضافةِ المصدرِ إلى مفعولِه
.
المعنى الإجمالي:
يَنهى اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنينَ عن مُناصرةِ اليهودِ والنَّصارَى وأخبَرَ أنَّ اليهودَ يوالي بعضُهم بعضًا، والنَّصارى يوالي بعضُهم بعضًا ويتناصرون فيما بينهم، ومَن يُناصِر اليهودَ والنصارى من المسلمين على إخوانه من المسلمين فإنَّه منهم؛ إنَّ الله لا يَهدي القومَ الظَّالمين بتولِّيهم هذا لأهلِ الكتابِ.
ثم قال اللهُ تعالى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ: فترى- يا محمَّدُ- المنافقينَ الذين في قلوبِهم شكٌّ ورِيبةٌ يُبادِرونَ إلى مُناصرةِ اليهودِ والنَّصارى ومُعاونتِهم؛ قائلين- ليُبرِّروا قُبحَ صَنيعهم-: إنَّما يُسارِعونَ في موالاتِهم خشيةَ أن تُصيبَهم دائرةٌ، كأنْ يكونَ لهؤلاء الكفَّارِ النصرُ على المسلمين، فيكون لهم أيادٍ عندَهم تنفعُهم حينَها، فردَّ اللهُ عليهم ذلك العُذرَ الواهيَ، فقال: لعلَّ اللهَ يأتي بالنَّصرِ على اليهودِ والنَّصارى وغيرِهم، أو يأتي بأمرٍ يكونُ فيه هلاكُ المنافقينَ، أو فَضحُهم، فيُصبِحَ هؤلاء المنافقون الموالونَ لليهودِ والنَّصارى على ما أسرُّوا في نفوسِهم نادمينَ.
ويقول المؤمنون- مُتعجِّبين مِن حالِ المنافقين بعدَ أنْ ظهرَ ما أسرُّوه في أنفُسِهم-: أهؤلاءِ الذين حلَفوا باللهِ كَذِبًا مؤكِّدينَ حَلِفَهم أنَّهم معنا في الإيمانِ والنُّصرةِ والمحبَّة؟! بطَلتْ أعمالُهم؛ فأصبحوا خاسِرينَ.
تفسير الآيات:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أخبرَ اللهُ عن اضطرابِ اليهود في دِينهم، ومحاولتِهم تضليلَ المسلمينَ، وتقليبَ الأمورِ للرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبَيَّن عِنادَهم وعداوتَهم لأهلِ هذا الدِّين في الآياتِ السابقةِ- تهيَّأت نُفوسُ المؤمنينَ لقَبولِ النَّهي عن موالاةِ أهلِ الكتابِ؛ لأنَّ الوَلايةَ تَنبني على الوِفاقِ والوِئام والصِّلةِ، وليس أولئك بأهلٍ لوَلاية المسلمينَ؛ لبُعدِ ما بينَ الأخلاقِ الدِّينيَّة، ولإضمارِهم الكيدَ للمسلمين، فأَقبلَ عليهم بالخِطابِ، فنهى مَن اتَّسم بالإيمانِ عن موالاتِهم
، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ إيَّاكم أنْ تُناصِروا اليهودَ والنَّصارى، أو تُعاوِنُوهم على غيرِهم .
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض.
أي: إنَّ بعضَ اليهودِ أولياءُ بعضٍ، وبعضَ النصارى أولياءُ بعضٍ؛ فأهلُ كلِّ ملَّةٍ يتناصرون ويتعاضَدونَ فيما بينهم، ويكونون يدًا واحدةً على مَنْ سِواهم .
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ.
أي: ومَن يتولَّ اليهودَ والنَّصارى، ويَنصُرْهم على المسلمين، ويُظاهِرْهم عليهم؛ رغبةً فيهم، ورِضًا بدِينهم، فهو مِن أهلِ دِينِهم وملَّتهم، وحُكمُه حُكمُهم .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
أي: إنَّ مَن يتولَّاهم منكم فهو مِن جُملةِ الظالمين الذين وَضَعَوا الولايَةَ في غيرِ مَوْضِعِها، ونَقَصوا أنفسَهم حقَّها بما ارتَكبوا مِن كفرٍ أو عِصيانٍ؛ فلا يُوفِّقُهم الله تعالى لاتِّباعِ الحقِّ .
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52).
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ.
أي: فتَرَى- يا محمَّدُ- الَّذين في قُلوبِهم شَكٌّ ونِفاقٌ يُسارعونَ في موالاةِ اليهودِ والنَّصارى، ومودَّتِهم ومصانَعتِهم .
يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ.
أي: يقولُ هؤلاء المنافقون: إنَّما نسارعُ في موالاةِ هؤلاء اليهودِ والنصارَى؛ خوفًا من أنْ تقعَ علينا نائبةٌ من نوائبِ الدَّهرِ فنَهلِكَ- كما لو لَحِقتْنا هزيمةٌ بظَفَرِ الكفَّارِ بالمسلمين- فتكونُ لنا أيادٍ عندَهم فتَنفَعُنا؛ لذا نتَّخذُهم أصدقاءَ نُحافظُ على صداقتهم؛ فننالُ منهم ما يُؤمِّلُ الصديقُ من صَديقِه .
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ.
أي: فلعلَّ اللهَ أن يأتيَ بالنَّصرِ الذي يُعزُّ به الإسلامَ وأهلَه على الكفَّارِ؛ من اليهود والنصارى وغيرِهم، أو يأتيَ بأمرٍ يكونُ فيه هلاكُ المنافقينَ بقَتْلهم، أو فَضْحِهم وبيانِ مَخازيهم .
فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ.
أي: فيُصبِحَ هؤلاءِ المنافِقون الذين والَوُا اليَهودَ والنَّصارَى على ما أضْمَروا في نُفوسِهم من موالاتهم نادِمين، فحين يأتي نصرُ اللهِ للمسلمين، ويُذِلُّ ويَقهرُ الكافِرينَ، لا تُجْدِي عنهم تلك الموالاةُ شيئًا، ولا تَدفعُ عنهم محذورًا، فيحصُلُ لهم من الغمِّ ما اللهُ تعالى به عليمٌ .
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53).
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ.
أي: ويقولُ المؤمنونُ متعجِّبين مِن حالِ أولئك القومِ بعدَ أن ظهَرَ ما أَضْمَروه، وتبيَّن ما أسرُّوه: أهؤلاءِ الذين حلَفوا لنا باللهِ، وأكَّدوا حَلِفَهم، وغلَّظوه بأنواعِ التأكيدات: أنَّهم معنا في الإيمانِ، وما يلزمُه من نُصرةٍ ومحبَّةٍ ؟!
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ.
أي: بطَلتْ أعمالُهم التي عَمِلوها في الدُّنيا، فلا ثوابَ لها ولا أجرَ، فخابتْ صفقَتُهم، وفاتَهم مقصودُهم، وحضرَهم الشقاءُ والعذابُ فهلَكوا
.
الفوائد التربوية:
1- تصدير الخِطاب بالنِّداء، في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ فيه بيانُ أهميَّة تجنُّبِ اتِّخاذِ الأولياءِ من اليهودِ والنَّصارى، وأنَّ تجنبَ ذلك مِن مقتَضَياتِ الإيمان، وأن اتِّخاذَهم أولياءَ يُوجِبُ نقصَ الإيمان، وربَّما يُوجِبُ محوَ الإيمانِ وزوالَه كلِّه؛ قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
.
2- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ بيانُ أنَّ النصارى واليهود وسائرَ الكفَّار بعضُهم أولياءُ بعضٍ في مضادَّة المسلمين- على أحد الأقوال في التفسير- ومِن ثَمَّ فيجبُ على المسلمين الحذرُ من أعدائِهم، وأن يَدَعُوا الخلافاتِ التي بينهم؛ حتى يكونوا يدًا واحدةً على أعدائِهم .
3- يُستفادُ من قولِه: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ أنَّه يجوزُ للمرءِ أن يُجري الكلامَ على سبيلِ التعجُّبِ فيمَن يستحقُّ العَجَب منه، ولا يُعدُّ ذلك مِن بابِ الغِيبة؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذكَر هذا عن المؤمنينَ، ولم يُنكِرْه عليهم
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قوله تعالى: لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ... الآية، فيه انقطاعُ الموالاةِ بينَ المسلمينَ والكفَّار، فلا توارُثَ بينهم ولا عَقل، ولا ولاية نكاحٍ
.
2- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تعليلٌ للوعيدِ في قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وبيانٌ لسببه؛ وهو أنَّ مَن يُوالي أعداءَ المؤمنين الذين نَصَبوا لهم الحربَ، وينصرُهم أو يستنصرُ بهم فهو ظالمٌ بوضْعه الوَلايةَ في غيرِ موضعها، ولن يَهتديَ مثلُه إلى الحقِّ والنَّجاة أبدًا ، إذا أصرَّ على ذلك.
3- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ أنَّ كلَّ مَن يُسارِعُ في موادَّةِ الكافرينَ وفي مناصرتِهم ففي قلبِه مَرَضٌ، ويَنبني على ذلك أنَّ هذا المَرَضَ ربَّما يتضاعَفُ حتى يصلَ إلى الكُفْر- والعياذُ باللهِ .
4- يُستفاد من قولِه: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ أنَّ الذين في قُلوبهم مرضٌ- وهم المنافِقون- يُسارِعونَ في مُوادَّةِ الكافِرين .
5- أنَّ مَن أشار على وُلاةِ الأمورِ بالمسارعةِ في موادَّة الكفَّارِ وفي مناصرتِهم، فإنَّ فيه شبهًا من هؤلاء المنافقينَ؛ لقوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ... .
6- ضعْفُ توكُّلِ المنافقينَ على اللهِ وأنَّهم إنَّما يتوكَّلون على الأمورِ المادِّيَّة التي يظنُّون فيها النصرَ؛ لقوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ .
7- بشارةُ المؤمنينَ بأنَّ الفتحَ والنَّصر سيكونُ لهم؛ لقوله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ؛ فـَعَسَى مِن الله واجبةٌ؛ لأنَّ الكريم إذا أطْمَعَ في خيرٍ فَعَلَه، فهو بمنزلةِ الوعدِ؛ لتعلُّقِ النَّفسِ به ورَجائِها له .
8- أنَّ المنافِقَ لا بدَّ أن يَفضحَه اللهُ؛ لقوله: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ .
9- تحذيرُ المنافقين ممَّا سيقعُ بهم مِن النَّدمِ على ما أسرُّوا في أنفسِهم؛ لقوله: فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ .
10- لَمَّا كان الإسرارُ لا يكون إلَّا لِمَا يُخشَى من إظهارِه فسادٌ، وكان يُطلَقُ على ما دار بين جماعةٍ خاصَّة على وجهِ الكِتمانِ عن غيرهم- بيَّن أنَّه أدقُّ من ذلك، وأنَّه على الحقيقةِ مَنَعَهم خوفُهم من غائلتِه وغِرَّته عندَهم أن يُبرزوه إلى الخارجِ، فقال: فِي أَنْفُسِهِمْ .
11- ممَّا يُستفادُ مِن الآياتِ: كذبُ المنافقين، وأنَّهم يُروِّجون باطلَهم ونفاقَهم بالأيمانِ؛ قال تعالى: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ .
12- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ أنَّ المنافقين يُقسِمون باللهِ ويُظهِرون تعظيمَ الله، كما أنَّهم يَذكُرون اللهَ ويُصلُّون ويتصدَّقون، لكنْ كلُّ هذا لا يَنفعُهم؛ فعَمَلُهم حابطٌ لعدمِ الإيمانِ في قلوبِهم .
13- أنَّ المنافقَ مهما ظنَّ من الرِّبحِ فإنَّه خاسرٌ؛ لقوله: فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ، ووجه ذلك: إنْ فضَحَه اللهُ في الدُّنيا تبيَّن وخَسِر، وصارَ مكروهًا عندَ الناس، وإنْ لم يَفضَحْه اللهُ في الدُّنيا ففي الآخِرة، وحينئذٍ لا يكونُ منتفعًا بدُنياه؛ لأنَّه خسِرَ الدُّنيا والآخِرة
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الجملةُ مستأنَفةٌ مَسوقةٌ لتعليلِ النَّهي، وتأكيدِ إيجابِ الاجتنابِ عن المنهيِّ عنه
.
2- قوله: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ الإجمالُ فيه مبالغةٌ في التَّحذيرِ مِن موالاتِهم في وقتِ نُزولِ الآيةِ، وفيه: تشبيهٌ بليغٌ، أي: فهو كواحدٍ منهم في استحقاقِ العذابِ- على أحدِ الوجوهِ في التفسيرِ .
3- قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تذييلٌ للنهي، وموقعُ الجملةِ يَقتضي أنَّ اليهودَ والنصارى مِن القومِ الظالِمينَ بطريقِ الكِناية .
4- قوله: يُسَارِعُونَ فِيهِمْ إيثارُ التعبيرِ بـفِيهِمْ على (إلى)؛ للمبالغةِ في بيانِ رغبتِهم فيها وتهالُكِهم عليها، فكلَّما سنَحتْ لهم فرصةٌ لتوثيقِ وَلائِهم وتأكيدِه ابتَدَروها؛ وللدَّلالةِ على أنَّهم مستقرُّون في الموالاةِ، وإنَّما مسارعتُهم من بعضِ مراتبها إلى بعضٍ آخَر منها، فهم يُسارِعونَ في أعمالِ موالاتِهم مسارعةَ الداخلِ في الشَّيء، الثابِتِ عليه، الرَّاغِبِ فيما يَزيدُه تمكُّنًا وثباتًا، كما في قوله تعالى: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [المؤمنون: 61] ، لا أنَّهم خارجُون عنها متوجِّهون إليها، كما في قوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: 133] .
5- قوله: أَهؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ... الاستفهامُ في أَهؤُلَاءِ مُستعمَل في التعجُّب مِن نفاقهم، والعجب هو قَسمُهم أنَّهم معهم، وقد دلَّ هذا التعجُّبُ على أنَّ المؤمنين يظهر لهم مِن حالِ المنافقينَ يومَ إتيانِ الفتْحِ ما يَفتضحُ به أمرُهم، فيعجبونَ مِن حَلِفهم على الإخلاصِ للمؤمنين .
6- قوله: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ فيه ما يُعرَف في البَلاغة بالإغرابِ والطرفة أو النوادر ، والآيةُ الكريمة مِن قسم لا يكون الإغرابُ في معناه ولا في ظاهرِ لفظِه، بل في تأويلِه، ففي هذه الآية قد يتوهَّم متوهِّمٌ أنَّ لفظة أَصْبَحُوا في الظَّاهر حشوٌ لا فائدةَ فيه؛ فإنَّ هؤلاءِ المُخبَرَ عنهم بالخُسران قد أمْسَوْا في مِثل ما أصبحوا، ومتى قلت: أصبح العسلُ حُلوًا، كانت لفظة (أصبح) زائدةً، من الحَشوِ الذي لا فائدةَ فيه؛ لأنَّه أمْسَى كذلك، والتأويل الذي تَحصُل به الفائدةُ الجليلة التي لولا مجيءُ (أصبح) لم تحصُلْ، هي: لَمَّا كان العليلُ الذي قد بات مُكابدًا آلامًا شديدةً تُعتبر حالُه عند الصَّباح، فإذا أصبح مُفيقًا مُستريحًا من تلك الآلام رُجِيَ له الخيرُ، وغلَب على الظَّنِّ بُرؤُه وإفاقتُه من ذلك المرض، وإذا أصبح كما أمْسَى تَعيَّن هلاكُه، بجَريانِ العادةِ بهيجانِ الإعلالِ في اللَّيل، وسُكونِه عند الصَّباح، وشُبِّهت حالُ الأشقياءِ بالعَليلِ الذي أَصبحَ من الألَم على ما أمْسى؛ فهو ممَّن يُيْئَس من إصلاحِه، وعلى هذا تكونُ لفظة فَأَصْبَحُوا قد أفادتْ معنًى حَسنًا جميلًا، وخرجَتْ عن كونِها حشوًا غيرَ مفيد، ولَمَّا أخبر الله سبحانه بأنه حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ عُلِم بالقطع أنَّهم أصبحوا خاسرينَ، فلفظة أَصْبَحُوا لا يَصلُح غيرُها في موضعها، ولا يتمُّ المعنى إلَّا بها ، وقيل: لَمَّا كانتِ المصيبةُ عند الإصباحِ أَعظمَ عبَّر به، وإنْ كان المرادُ التَّعميمَ .
===========20.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (54 - 56)
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ
غريب الكلمات :
يَرْتَدَّ: أي: يَرجِعْ مِن الإسلامِ إلى الكُفر، مِن الرِّدَّة والارتدادِ، والرِّدَّةُ تختصُّ بالكُفر، والارتداد يُستعمَلُ فيه وفي غَيرِه
.
أَذِلَّةٍ: أي: لَيِّنِين لهم، مِن قولهم: دابَّةٌ ذَلولٌ، أي: مُنقادةٌ ليِّنةٌ سهلةٌ، وأصلُ الذُّلِّ: الخُضوعُ والاستكانةُ واللِّين، وهو ضِدُّ العِز .
أَعِزَّةٍ: يُغالِبونَ الكفَّارَ ويمانعونهم، يُقال: عزَّه يعُزُّه عزًّا إذا غَلَبه؛ من العَزازِ: وهي الأرض الصُّلبة، وأصل العِزَّة: الشِّدَّة والقوَّة وأمثالهما مِن الغَلبة والقَهر .
فَضْلُ اللهِ: عطاؤُه، وأصلُ الفضل الزِّيادة؛ وكلُّ عطيةٍ لا تَلزمُ مَن يُعطِي، يُقال لها: فضلٌ، والإفضالُ: الإحسانُ .
حِزْبَ اللهِ: أي: أنصارَ اللهِ، أو جُنْدَه وجموعَه، والحزبُ: جماعةٌ فيها غِلَظ، وقيل: الحزب: الوليُّ، واشتقاقُه من قولهم: تحزَّب القومُ، أي: اجتَمَعوا، وأَصْلُ (حزب): يدلُّ على تجمُّعِ شيءٍ
.
المعنى الإجمالي:
يُبيِّن اللهُ سُبحانَه للمُؤمنين أنَّ مَن يَرجِعْ منهم عن دِينِه الحقِّ إلى الكُفر، فسوف يأتي اللهُ- عِوَضًا عمَّنِ ارتدَّ- بقومٍ خيرٍ منهم، مِن صفاتهم أنَّهم يحبُّهم اللهُ سبحانه وتعالى ويُحبُّونه، وأنهم رحماءُ بإخوانهم المؤمنين، مُتواضِعون لهم، أشدَّاءُ على الكافِرين، يُقاتلونَ في سبيلِ اللهِ ولإعلاء كلمته، وإعزازِ دينه، وأنَّهم في حِرصِهم على ما يُرضي اللهَ سبحانه لا يَخافون لومًا من أيِّ لائمٍ، ثم بيَّن تعالى أنَّ ما هم فيه مِن الصِّفاتِ الحميدة، والمناقِب الجَليلةِ المذكورةِ هي مِن فضْلِه جلَّ وعلا، وفضلُ اللهِ يُؤتيه مَن يشاء، وهو سبحانه واسعٌ عليمٌ.
ثم بَيَّن سبحانَه مَن تجِبُ موالاتُهم، بعدَ النَّهى عن تولِّى مَن تجبُ معاداتُهم، فقال: إنَّما وليُّكم الله- فلا ناصرَ لكم إلَّا هو سبحانه وتعالى، فهو المرجوُّ وحدَه في الشَّدائدِ- ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- الذي أخرجكم الله به مِن الكفرِ إلى الإيمانِ- والمؤمنونَ الذين يُقيمونَ الصَّلاةَ على وجهِها، ويُعطون الزكاةَ لمستحقِّيها، وهم خاضعونَ ذليلون للهِ، ثم بيَّن سبحانه حُسنَ عاقبةِ الذين يوالون اللهَ ورسولَه والمؤمنين بأنَّ مَن يتَّخذِ اللهَ ورسولَه والمؤمنينَ أولياءَ فإنَّه من أنصارِ الله، وأنصارُه عزَّ وجلَّ هم الغالِبون.
تفسير الآيات:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا نهَى تعالى عن موالاةِ اليهودِ والنَّصارى، وبيَّن أنَّ موالاتَهم مستدعيةٌ للارتدادِ عن الدِّين بقولِه: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وقوله: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ - شرَع في بيانِ حالِ المرتدِّين على الإطلاقِ
.
وأيضًا لـمَّا نهَى اللهُ تعالَى عن مُوالاةِ اليهودِ والنَّصارى، وأخبَر أنَّ فاعلَها منهم- عقَّب ذلك بالإشارةِ إلى أنَّ اتخاذَ اليهودِ والنَّصارى أولياءَ ذريعةٌ للارتدادِ، وأنبأَ المتردِّدين ضعفاءَ الإيمانِ بأنَّ الإسلامَ غنيٌّ عنهم، إن عزموا على الارتدادِ إلى الكُفْر ، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، مَن يرجِعْ منكم عن دِينِ الحقِّ إلى الباطلِ، فيُبدلْه بدخولِه في الكفرِ كأنْ يتهوَّدَ أو يتنصَّر .
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.
أي: فلن يَضرَّ اللهَ شيئًا، وإنَّما يضرُّ نفْسَه؛ فإنَّ الله تعالى سيأتي بدلًا من الَّذين ارتدُّوا بقومٍ خيرٍ منهم، أكملَ منهم أوصافًا، وأحسنَ أخلاقًا، وأقوى نفوسًا؛ أجلُّ صِفاتهم أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّهم، وأنَّهم يُحبُّونَه سبحانه وتعالى ، (كأبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، وأصحابِه الذين قاتلوا المرتدِّين) .
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
أي: ومِن صِفاتِهم أنَّهم رُحَماءُ بإخوانِهم المؤمنين، ذَوُو رأفةٍ ورفقٍ بهم، وشفقةٍ وحُنوٍّ عليهم، وتواضعٍ لهم .
كما قال سبحانه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] .
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ.
أي: ومِن صِفاتهم أيضًا أنَّهم أشدَّاءُ على الكافرينَ، ذَوُو قَسوةٍ وغِلظةٍ عليهم، يُظْهِرون للكفَّارِ القُوَّةَ والعِزَّةَ بما هم عليه من الدِّين .
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
أي: ومِن صِفاتهم أيضًا أنَّهم يُقاتلونَ أعداءَ اللهِ تعالى بأموالِهم وأنفسِهم وأقوالِهم وأفعالِهم؛ لتكونَ كلمتُه سبحانه هي العُليا، لا يردُّهم عن هذا المقصدِ رادٌّ، ولا يَصدُّهم عن هذا المطلبِ صادٌّ، بل يُقدِّمون رِضا ربِّهم، والخوفَ مِن لومِه على لومِ المخلوقين .
عن عُبادةَ بنِ الصَّامت رَضِيَ الله عنه، قال: (بايَعْنا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على السَّمْعِ والطاعةِ في المَنْشَطِ والمَكْرَهِ، وألَّا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، وأن نقومَ- أو نقولَ- بالحقِّ حيثُما كُنَّا، لا نَخافُ في اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ .
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا مدَحَهم اللهُ تعالى بما مَنَّ به عليهم مِنَ الصِّفاتِ الجليلةِ، والمناقِبِ العالِيَة، المستلزِمة لِمَا لم يُذكَرْ مِن أفعالِ الخيرِ- أخبرَ أنَّ هذا مِن فضلِه عليهم وإحسانِه؛ لئلَّا يُعجَبوا بأنفسِهم، ولِيَشكروا الذي مَنَّ عليهم بذلك؛ ليزيدَهم من فضلِه، وليعلمَ غيرُهم أنَّ فضلَ الله تعالى ليس عليه حجابٌ ، فقال تعالى:
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
أي: هذه الصِّفاتُ التي نَعتَهم بها اللهُ تبارك وتعالى؛ فضلٌ منه وإحسانٌ تَفضَّلَ به عليهم، وتوفيقٌ منه لهم، واللهُ يُؤتي فضلَه مَن يشاءُ مِن خلقِه، بما تَقتضيه حِكمتُه سبحانه .
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أي: واللهُ تعالى واسعٌ في جميعِ صِفاتِه، ومِن ذلك سَعةُ عَطائِه وفَضلِه وإحسانِه، عليمٌ بمَن يستحقُّ ذلك فيُعطِيه .
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهى اللهُ تعالى عن ولايةِ الكفَّارِ من اليهودِ والنَّصارى وغيرِهم، وذكَر مآلَ تولِّيهم أنَّه الخسرانُ المُبين- أخبر تعالى بمَن يجبُ ويتعيَّن تولِّيه، وذَكَر فائدةَ ذلك ومصلحَتَه ، فقال:
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا.
أي: ليس لكم- أيُّها المؤمنون- ناصرٌ إلَّا اللهُ تعالى ورسولُه عليه الصَّلاة والسَّلام والمؤمنون، فأمَّا اليهودُ والنَّصارى، فليسوا لكم بأولياءَ ولا نُصَراءَ .
كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 11]. وقال سبحانه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71] .
ثمَّ ذكَر اللهُ تعالى صِفاتِ المؤمنينَ الذين تَنبغي ولايتُهم، فقال عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ.
أي: وهم الذين اتَّصفوا- بالإضافةِ إلى إيمانِهم- بأداءِ الصَّلاةِ بشُروطِها وواجباتِها وأركانِها ومستحبَّاتها، وببَذْلِ الزكاةِ من أموالِهم، لأهلِها المستحقِّين لها .
وَهُمْ رَاكِعُونَ.
أي: ومِن صِفاتهم أيضًا: أنَّهم للهِ تعالى خاضِعون ذَليلون، وله مُنقادُون .
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56).
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا.
أي: أيُّ امرئٍ يتَّخذِ اللهَ تعالى ورسولَه وعِبادَه المؤمنينَ أولياءَ له .
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ.
أي: فإنَّه مِن أنصارِ اللهِ تعالى، وأنصارُه هم المُفْلِحون المنصورون، الذين لهم العاقبةُ في الدُّنيا والآخِرة
.
كما قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171- 173] .
الفوائد التربوية:
1- في قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ الثَّناءُ على مَن كان ذليلًا على المؤمنين، وهو الذي يَخفِضُ جناحَه لهم ويتطامَن ويتواضَع؛ فإنَّ هذه من الصفاتِ التي يحبُّها الله عزَّ وجلَّ، أما ترفُّعُ الإنسانِ على إخوانِه المسلمينَ فليس محمودًا عندَ اللهِ، بل ولا عندَ الخَلْق؛ وكلَّما ازدادَ الإيمان ازدادَ التواضع، وكلَّما ازدادَ العِلمُ ازدادَ التواضعُ
.
2- قال تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ... يُفهم من هذه الآياتِ أنَّ المؤمنَ يجبُ عليه ألَّا يَلينَ إلَّا في الوقتِ المناسِب للِّين، وألَّا يشتدَّ إلَّا في الوقتِ المناسب للشدَّة؛ لأنَّ اللِّينَ في مَحلِّ الشدَّةِ ضَعْفٌ وخَوَرٌ، والشدَّةَ في محلِّ اللِّين حُمقٌ وخَرَق، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
إذا قِيلَ حِلْمٌ قُلْ فلِلْحِلْمِ مَوضِعُ [ وحِلْمُ الفَتَى في غَيرِ مَوْضِعِه جَهْلُ ]
وفيها إيماءٌ إلى أنَّ صِفاتِهم تُسيِّرُها آراؤُهم الحصيفةُ؛ فلَيْسُوا مُندفِعين إلى فِعلٍ ما إلَّا عن بصيرةٍ، ولَيْسُوا ممَّن تنبعِثُ أخلاقُه عن سَجيَّةٍ واحدةٍ بأنْ يكون ليِّنًا في كلِّ حالٍ، وهذا هو معنى الخُلُق الأقوم، وهو الذي يكونُ في كلِّ حالٍ بما يُلائِم ذلك الحالَ .
3- قَوْلُه: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ فيه الثناءُ على عِزَّة النَّفسِ وقوَّة الشخصيةِ أمامَ الكفَّار، وأنْ نكونَ أعِزَّةً عليهم، نرى في أنفسنا العلوَّ عليهم، والظهورَ عليهم لا بذَواتِنا، ولكن بما معنا من الدِّين .
4- الإشارةُ إلى الإخلاصِ؛ لقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لأنَّ الجهاد- وهو القِتالُ- يحملُ عليه عِدَّةُ أسباب، والجهادُ المحمودُ هو الجهادُ في سبيلِ اللهِ .
5- أفاد قوله تعالى: وَهُمْ راكِعُونَ بعد قوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أنَّه لا بدَّ أنْ يقترنَ بهذه الأعمالِ الصالحةِ الذلُّ والخضوعُ للهِ عزَّ وجلَّ، بحيث يَشعرُ الإنسانُ أنَّه مُتعبِّدٌ للهِ خاضعٌ له، وهذا يَفوتُ كثيرًا من النَّاسِ؛ فيؤدِّي الواحدُ منهم العبادةَ على أنَّها مفروضةٌ عليه فقط، ولا يَشعُرُ بأنَّه متعبِّدٌ لله بذلك .
6- قوله: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ، لم يقُلْ عزَّ وجلَّ: (ومَن يتولَّ اللهَ ورسولَه والذِين آمنوا فإنَّه الغالب)، بل قال: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ؛ ليكون دالًّا على شَيئين: الشيء الأوَّل: أنَّ مَن تولَّى اللهَ ورسولَه والذين آمنوا فهو مِن حزبِ اللهِ. الشيء الثاني: إرادةُ العمومِ أنَّ حزبَ اللهِ لا بدَّ أن يكون غالبًا؛ لأنَّ دِينَ الله لا بدَّ أن يكون غالبًا، فالمتمسِّك بدِين الله؛ هو مِن حِزبِ الله، وهو غالبٌ ولا بدَّ، لكنَّ الغَلَبَة قد تكونُ في حالِ الحياةِ، وقدْ تكون بعدَ الموتِ؛ ولهذا نجِدُ الأئمَّةَ الذين لم يُقدَّرْ لهم أن يَظهروا ظهورًا كاملًا في حياتِهم؛ ظَهَروا ظهورًا كاملًا بعدَ وفاتِهم؛ كالإمام أحمد، وابن تيميَّة، وغيرِهما من العلماءِ والأئمَّة، الذين لَحِقَهم من الإهانةِ مِن وُلاةِ السُّوءِ ما لَحِقَهم، وكانتِ الغَلَبَةُ لهم؛ إمَّا في الحياةِ، وإمَّا بعدَ الممات .
7- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ أنَّ للهِ تعالى حِزبًا، وحزبُه الذي يُقابِلُ حَربَه؛ لأنَّ اللهَ له حِزبٌ وله حَرْبٌ، فمَن أقام على شريعتِه فهو حِزبُه، ومَن خالَفَ شريعتَه فهو حَربُه، فإعلانُ المخالفةِ حربٌ لله، لا سيَّما فيما نصَّ على أنه حربٌ لله عزَّ وجلَّ، كالرِّبا وقَطْع الطريقِ، وما أشبهها .
8- في قوله تعالى: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ بشارةٌ عظيمة لِمَن قام بأمْرِ الله وصارَ مِن حِزبِه وجُندِه، أنَّ له الغَلَبةَ، وإنْ أُديلَ عليه في بعض الأحيان لحِكمةٍ يُريدها الله تعالى، فآخِرُ أمرِه الغَلَبةُ والانتصارُ، ومَن أصدقُ من الله قيلًا
؟!
الفوائد العلمية واللطائف:
1- التَّحذيرُ مِن الرِّدَّة؛ لقوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ...
.
2- يُستفادُ من قولِه: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أنَّ الله غنيٌّ عن العِباد؛ فلو ارتدَّ قومٌ جاء الله بقومٍ آخرينَ؛ كما قال الله: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .
3- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ... مِن أدلِّ الدَّلائلِ على فسادِ مذهبِ الإماميَّة مِن الرَّوافضِ؛ فمذهبُهم أنَّ الذين أقرُّوا بخِلافة أبي بكرٍ وإمامَتِه كلهم كَفَروا وصاروا مرتدِّينَ، فنقول: لو كان كذلك لجاءَ اللهُ تعالى بقومٍ يُحارِبونهم ويَقهرونهم ويردُّونهم إلى الدِّين الحقِّ؛ بدليل قوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ... إلى آخِر الآية، وكلمةُ (مَن) في معرضِ الشَّرْط للعمومِ، فلو كان الذين نَصَّبوا أبا بكر للخلافةِ قد ارتدُّوا لوجَبَ بحُكم الآيةِ أنْ يأتيَ اللهُ بقومٍ يقهرونهم، ويُبطِلون مَذهبَهم، ولَمَّا لم يكُنِ الأمرُ كذلك، بل الأمرُ بالضدِّ؛ فإنَّ الروافضَ هم المقهورونَ المَمْنوعونَ عن إظهارِ مَقالاتِهم الباطلةِ أبدًا منذ كانوا- عَلِمْنا فسادَ مَقالتِهم ومذهبِهم، وهذا كلامٌ ظاهرٌ لِمَن أَنصَفَ .
4- أنَّ المرتدِّين مَبغوضونَ عندَ اللهِ؛ لقوله: فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ .
5- قوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ... مِن الكائناتِ التي أخْبَر عنها في القرآنِ قبلَ كونِها، وقد وقَع المخبَرُ به على وَفْقِها، فيكون معجزًا .
6- إثباتُ أفعالِ اللهِ الاختياريَّة، يعني: التي يَفعلُها سُبحانَه باختياره؛ لقوله: فَسَوْفَ يَأتِي وسوف: للمُستقبَل .
7- إثباتُ المحبَّةِ مِن اللهِ وللهِ؛ مِن اللهِ في قوله: يُحِبُّهُمْ، وللهِ في قوله: وَيُحِبُّونَهُ، وهذه الآية جمَعتْ بين محبَّة اللهِ لعبادِه الصالحين، ومحبَّةِ العبادِ الصالحين للهِ .
8- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ أنَّه يَنبغي للإنسانِ ألَّا تأخذَه في اللهِ لومةُ لائمٍ؛ فما دام على حقٍّ، فلا يُهمَّنَّه أحدٌ؛ لأنَّه لا بدَّ لكلِّ عابدٍ من عدوٍّ، لكن ذلك مع وجوبِ الحِكمة؛ لأنَّ التهوُّرَ يَحصُل منه انعكاسُ المقصودِ .
9- قولُه: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فيه أنَّ خوفَ الملامةِ ليس عذرًا في تركِ أمرٍ شرعيٍّ .
10- يُستفادُ من قولِه: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ أنَّ الوصفَ بالمحبَّة، والذلَّة، والعِزَّة، والمجاهَدة، وانتفاءِ خوفِ اللائمة- حصَل بفضلِ الله تعالى، وهذا يدلُّ على أنَّ طاعاتِ العبادِ مخلوقةٌ للهِ تعالى .
11- قال تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ، ولم يقُل: (أولياؤكم) للتنبيهِ على أنَّ الولايةَ للهِ على الأصالةِ، ولرسولِه وللمؤمنينَ على التَّبَع؛ إذ التقديرُ: إنَّما وليُّكم اللهُ وكذا رسولُه والمؤمنونَ، ولو قيل: (إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا) لم يكُن في الكلامِ أصلٌ وتبَعٌ .
12- يُستفادُ من قولِه: وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ فضيلةُ الصَّلاةِ؛ لأنَّ الصَّلاةَ دائمًا في المقدِّمة، فهي أفضلُ العبادات بعدَ التوحيدِ، والشهادةِ بالرِّسالة .
13- يُستفادُ من قولِه: وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أنَّ مرتبةَ الزكاةِ في دِينِ الإسلامِ بعدَ مرتبةِ الصَّلاةِ، وهكذا في الآياتِ الكريمةِ وفي الأحاديثِ النبويَّة؛ تأتي الزكاةُ بعد الصَّلاةِ .
14- لَمَّا كان لقَبُ الَّذِينَ آمَنُوا يشملُ كلَّ مَن أسلمَ في الظاهرِ، وصَفَ هؤلاء الأولياءَ بقولِه: وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، أي: دون المنافقين الذين قالوا آمنَّا بأفواهِهم، ولم تُؤمنْ قلوبُهم، والذين يأتون بصورةِ الصَّلاةِ دون رُوحِها ومعناها، فإذا قاموا إليها قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142] .
15- الثَّناءُ التامُّ على رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى المؤمنين، وأنَّ تولِّيَهم من أسبابِ الغَلَبَة، أمَّا تولي اللهِ فهو شأنٌ فوقَ ذلك؛ لقوله: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ جملةٌ معترِضة بين ما قَبلَها وبين قوله: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ دعَت لاعتراضِها مناسبةُ الإنذارِ في قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
.
2- قوله: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ
- فيه مناسَباتٌ حَسنةٌ لطيفةٌ في التَّقديمِ والتَّأخيرِ؛ حيث قَدَّمَ مَحبَّةَ اللهِ تعالى لهم يُحِبُّهُمْ على مَحبَّتهم له وَيُحِبُّونَهُ؛ لشَرفِ مَحبَّةِ الله لهم، وسَبْقِها على مَحبَّتهم إيَّاه. وقدَّمَ الوَصْفَ بالمحبَّةِ مِنهم ولهم على وَصْفِهم بأذلَّةٍ على المؤمِنِين، وأَعِزَّة على الكافِرين؛ لأنَّهما ناشِئتانِ عن المحَبَّتَينِ. ولَمَّا كان الوصفُ الذي بَينَ المؤمِن وربِّه أشرفَ مِن الوصفِ الذي بَينَ المؤمِن والمؤمِن؛ لِذَا قدَّم قولَه: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ على قولِه: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وقدَّمَ وَصْفَهم المتعلِّقَ بالمؤمِنينَ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ على وصْفِهم المتعلِّقِ بالكافرينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ؛ لأنَّ المتعلِّقَ بالمؤمِنينَ آكَدُ وألزَمُ من المتعلِّقِ بالكافِرين، ولشَرفِ المؤمنِ أيضًا .
- ووقَعَ الوَصفُ في جانبِ المحبَّةِ بالجُملةِ الفِعليَّة يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ؛ لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ، وهو مُناسبٌ؛ فإنَّ محبَّتهم للهِ تعالى تُجَدِّدُ طاعاتِه وعبادتَه كلَّ وقتٍ، ومَحبَّةُ اللهِ إيَّاهم تُجَدِّدُ ثوابَه وإنعامَه عليهم كلَّ وقتٍ، بَيْنمَا وقَع الوَصفُ في جانبِ التواضُعِ للمُؤمنين والغِلظة على الكافِرينَ بالاسمِ الدالِّ على المبالَغةِ؛ دَلالَةً على ثُبوتِ ذلك واستقرارِه، وأنَّه عزيزٌ فيهم؛ فالاسمُ يدلُّ على الثُّبوتِ والاستقرارِ .
- ولَمَّا كان ذلُّهم هذا إنَّما هو الرِّفقُ ولِينُ الجانبِ لا الهوانُ، كان في الحقيقةِ عِزًّا، فأشارَ إليه بحَرْفِ الاستعلاءِ (على)، في قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ ففيه مناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث جاء التعبير بـعَلَى وليس باللام، فلم يقل: (أذلَّة للمؤمنين)؛ لأنَّه قد ضُمِّن الذُّلُّ معنى الشَّفقة والحُنوِّ والعطَف، مُبيِّنًا أنَّ تواضُعَهم عن علوِّ منصبٍ وشرفٍ، كأنَّه قيل: عاطِفين عليهم على وجْه التَّذلُّلِ والتواضُع، أو: أنَّهم مع شَرفِهم وعلوِّ طبقتِهم وفضلِهم علَى المؤمنينَ خافِضونَ لهم أجنِحَتَهم .
3- وقوله: وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فيه: تعريضٌ بالمنافقين؛ فإنَّهم كانوا إذا خرَجوا في جيشِ المسلمين خافوا أولياءَهم اليهودَ، فلا يكادون يَعمَلون شيئًا يَلحَقُهم فيه لَوْمٌ من جِهَتِهم .
- وفي تنكيرِ لَوْمَةَ لَائِمٍ مبالغةٌ، كأنَّه قيل: لا يَخافون شيئًا قطُّ مِن لومٍ أحدٍ من اللُّوَّام ، ولَوْمَة للمرَّة الواحدةِ من اللَّومِ، وهي نَكِرةٌ في سياقِ النفي؛ فَتَعُمُّ؛ فهم لا يَخافون جميعَ أنواعِ اللَّومِ مِن جميعِ اللَّائِمين .
4- قوله: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ تذييلٌ، وفيه إشارةٌ إلى ما تقدَّمَ من الأوصافِ الجليلةِ، والتعبيرُ باسم الإشارةِ ذَلِكَ وما فيه من معنى البُعد؛ للإيذانِ ببُعد منزلتِها في الفَضلِ .
5- قوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مُقرِّر لِمَا قبله، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ اللهُ في موضِع الإضمار؛ للإشعارِ بالعِلَّة، وتأكيدِ استقلالِ الجُملةِ الاعتراضيَّة .
- وقوله: وَاسِعٌ عَلِيمٌ الواسِع فيه إشارةٌ إلى كَمالِ القُدرة، والعليمُ فيه إشارةٌ إلى كمالِ العِلمِ، وجاء على صِيغة (فعيل)؛ للمبالغة في وصْفه بالعِلم بجميعِ الأشياء التي مِن جُملتِها مَن هو أهلٌ للفضل والتوفيق؛ فلمَّا أخبر الله تعالى أنَّه سيجيء بأقوامٍ هذا شأنُهم وصِفتُهم، أكَّد ذلك بأنَّه كاملُ القُدرةِ؛ فلا يَعجِزُ عن هذا الموعودِ، كاملُ العلم؛ فيمتنع دخولُ الخُلفِ في أخبارِه ومواعيدِه .
6- قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ فيه: وضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمَر- حيث لم يقُل: (فإنَّهم هم الغالبون)- وفائدة وضْع الظاهرِ موضعَ المضمَرِ هنا الإضافةُ إلى اللهِ تعالى، فيُشرَّفون بذلك، ويَصيرون بذلِك أعلامًا، وفيه تنبيهٌ على البُرهان عليه، فكأنَّه قيل: ومَن يتولَّ هؤلاءِ فهم حزبُ اللهِ، وحزبُ اللهِ هم الغالبون؛ ففيه تنويهٌ بذِكرهم، وتَعظيمٌ لشأنِهم، وترغيبٌ في ولايتِهم، وتعريضٌ لِمَن يُوالي غيرَ هؤلاء بأنَّه حزبُ الشَّيطانِ .
============21.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (57 - 61)
ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ
غريب الكلمات:
هُزُوًا: أي: سُخريًّا واستِهزاءً وتلعبًا
.
تَنْقِمُونَ: تَكْرَهُونَ وتُنكِرون وتَعيبون، مِن نَقِمْتُ الشَّيءَ: إذا أنكرْتَه، إمَّا باللِّسانِ، وإمَّا بالعقوبةِ، وأَصْلُ (نقم): يدلُّ على إنكارِ شيءٍ وعَيبِه .
أُنَبِّئُكُمْ: أُخْبِرُكم، والنَّبأ: الخبرُ الذي له قَدرٌ، وفائدةٌ عظيمةٌ، ويحصُل به علمٌ أو غَلَبَةُ ظنٍّ، وأَصْلُ (نبأ): الإتيانُ من مكانٍ إلى مكانٍ؛ وسُمِّي الخبَرُ نبأً لانتقالِه من مكانٍ إلى مكانٍ .
مَثُوبَةً: أي: جزاءً ثابتًا، أو ثوابًا، وهو عبارةٌ عن المنفعةِ الخالِصةِ المقرونةِ بالتعظيمِ، والمثوبةُ مختصَّةٌ بالخيرِ؛ كما أنَّ العقوبةَ مختصَّةٌ بالشرِّ .
لَعَنَهُ: طَردَه وأبْعَدَه، واللَّعْن: الطردُ والإبعادُ على سَبيل السَّخطِ .
الطَّاغُوتَ: الطَّاغُوتُ هو كُلُّ ذِي طُغْيَانٍ عَلَى الله، فكلُّ مَعْبُودٍ مِن دُونِ الله إذا لم يَكُنْ كارِهًا لذلك: طاغوتٌ؛ إنَسانًا كان ذلك المعبودُ، أو شَيْطانًا، أو وَثنًا، أو صَنَمًا كَائِنًا ما كان من شيءٍ، والمُطاعُ في معصيةِ اللَّهِ طاغوتٌ، وكذلك السَّاحِرُ والكاهِنُ، واشتقاقُه من الطُّغْيان: وهو الظُّلْم والبغْيُ، يقال طَغَا فُلانٌ يَطْغَى: إذا عَدا قَدْرَه فتجاوَز حَدَّه
.
مشكل الإعراب:
1- قوله: لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ
وَالْكُفَّارَ: قُرِئ بالنَّصب وبالجرِّ؛ فعلى النَّصب فهو عطفٌ على الَّذِينَ المنصوبة في قوله: لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا...، أي: لا تَتَّخِذوا المُسْتَهْزئينَ ولا الكُفَّار أولياءَ؛ فيَخرُجون مِن الوَصفِ بالهزُء واللَّعبِ. وعلى الجرِّ فهو عَطفٌ على الَّذِينَ المجرورةِ في قولِه: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا؛ ومعناها: أنَّه نَهاهُم أن يَتَّخِذوا المُستهزئينَ أولياءَ، وبيَّنَ أنَّ المُستهزئينَ صِنفانِ: أهلُ كِتابٍ مُتقَدِّمٍ؛ وهم اليَهودُ والنَّصارى، وكُفَّارٌ عبَدَةُ أوثانٍ؛ فيكونونَ موصوفينَ باللَّعب والهزء، كما وُصِف به الَّذين أُوتوا الكِتابَ؛ والمعنيانِ صَحيحانِ
.
2- قوله: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ: أُنَبِّئُكُمْ فِعلٌ وفاعِلٌ، والكاف مَفعولٌ أوَّلُ، وبِشَرٍّ جارٌّ ومَجرورٌ، وهو في مَحلِّ نَصبٍ مَفعولٌ ثانٍ لـ(أُنَبِّئ) .
مَنْ لَعَنَهُ اللهُ: مَنْ: موصولةٌ بمَعْنَى الذي، وقد حَمَلَ على لفظِها فأفرَدَ في قوله: لَعَنَهُ وعَلَيْهِ، ثمَّ حَمَل على معناها فجَمَع في قوله: مِنْهُمُ القِرَدَةَ. ويجوزُ في إعرابِ مَنْ: أنْ يكونَ في محلِّ رفْع على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، أي: هو مَن لَعَنه اللهُ. ويجوز أنْ يكون مَن في موضِعِ جرٍّ على البَدلِ مِن لَفْظِ بِشَرٍّ بدَلَ الشَّيءِ من الشَّيء، والتقدير: (أَؤُنَبِّئُكُمْ بِمَنْ لَعَنَهُ اللهُ). ويجوزُ أنْ يكونَ في مَوضِع نصْبٍ على البَدلِ مِن مَحلِّ قولِه: بِشَرٍّ؛ إذ محلُّه النَّصبُ، أو في مَوضِع نَصْبٍ بفِعلٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه أُنبِّئُكم، أي: أُعرِّفكم مَن لَعَنَه اللهُ
.
المعنى الإجمالي:
يَنهَى اللهُ تعالى المؤمنينَ عن اتِّخاذِ أعدائِهم حُلفاءَ وأنصارًا وأعوانًا، الذين مِن صِفاتهم أنَّهم يَستهزِئونَ بشعائرِ الدِّينِ القويم ويَحتقرونها؛ مِن اليهودِ والنصارى وغيرِهم من الكفَّارِ، ثم يَأمُرُهم بتقواه في ذلك، إنْ كانوا حقًّا مؤمنينَ.
ثم يُخبِرُ اللهُ تعالى المؤمنين عن بعض مظاهرِ استهزاءِ هؤلاء الأعداءِ بالدِّين، فهم إذا سمِعوا الأَذانَ يُنادَى للصَّلاةِ اتَّخذَها هؤلاءِ الكفارُ من اليهودِ والنصارى، والمشركين سُخريةً ولعبًا؛ وذلك لكونِهم قومًا لا يَعقلونَ.
ثم يَأمُرُ اللهُ نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ لأهلِ الكتابِ: يا أهلَ الكتابِ إنَّكم بمعاداتِكم لنا، وحَرْبِكم علينا، ما تَكْرَهون منَّا، ولا تَعِيبونَ علينا إلا إيمانَنا باللهِ، وبالقرآنِ الذي أُنزِل علينا، وإيمانَنا بما أُنْزِلَ مِن قبلُ كالتَّوراةِ والإِنجيلِ، وأنَّ أكثرَكم فاسقونَ.
ويأمُرُ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَقولَ لهم أيضًا: هل أُخْبِرُكم- يا معشرَ اليهودِ والنَّصارى- بِشَرٍّ جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا مَن طردَهم اللهُ مِن رَحْمتِه، وأنزل عليهم غضبَه، ومسخَ بعضَهم إلى قرودٍ وخنازيرَ، وجعَل منهم مَن عَبَدَ الطاغوتَ؛ هؤلاء المذكورون بهذه الخصال القبيحة هم شرٌّ منزلةً في الدُّنيا والآخِرة مما تظنونه بنا .
ثم يُخبرُ اللهُ الذين آمنوا أنَّ المنافقين من اليهودِ إذا أَتَوهم قالوا لهم كَذِبًا: إنَّهم آمنوا، والحقيقة أنـَّهم متمسِّكون بكُفرِهم، قد دخلوا بكُفرِهم عليكم، وخرَجوا به كما قد دَخَلوا، لم ينفعْهم ما يَسمَعونه عندَكم من العِلم والمواعِظ، واللهُ تعالى هو أعلمُ بما يُسرُّونه ويُخفونَه.
تفسير الآيات:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ.
أي: لا تتَّخذوا- أيُّها المؤمنونَ- الَّذين يَستهزِئون بشعائرِ دِينكم، ويَرمُقونها بعينِ الاحتقارِ والسُّخرية، ويعتقدونها ضَربًا من الَّلهوِ والعبثِ في نظرِهم الفاسدِ؛ مِن اليهودِ والنَّصارى ومن سائرِ الكفَّارِ والمشركين- لا تتَّخذوا هؤلاءِ ولا هؤلاءِ أنصارًا لكم وحُلفاءَ وأعوانًا
.
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا نهَى الله تعالى المؤمنين عن اتِّخاذِ أهلِ الكتابِ والكفَّار أولياءَ، أمَرَهم بتقواه؛ فإنَّها هي الحاملةُ على امتثالِ الأوامرِ، واجتنابِ النواهي، أي: اتَّقوا اللهَ في موالاة الكفَّار، ثم نبَّه على الوصفِ الحاملِ على التقوى، وهو الإيمانُ ، فقال تعالى:
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: امتَثِلوا ما أمَرَكم اللهُ تعالى به، واجتنِبوا ما نهاكم عنه، ومن ذلك ترْكُ اتِّخاذِ هؤلاءِ الأعداءِ لكم ولدِينِكم أولياءَ، إنْ كنتم مؤمنين حقًّا بشَرْعِ اللهِ عزَّ وجلَّ الذي اتَّخذَه هؤلاءِ هُزُوًا ولعبًا .
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حَكَى اللهُ تعالى في الآيةِ الأُولى عن أهلِ الكِتابِ والكفَّارِ أنَّهم اتَّخذوا دِينَ المسلمين هُزوًا ولعبًا، ذكَر هاهنا بَعضَ ما يتَّخِذونه مِن هذا الدِّينِ هُزوًا ولعبًا ، فقال:
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا.
أي: وإذا أذَّنْتُم للصَّلاة- أيُّها المؤمنون- سَخِرَ منها هؤلاءِ الكفَّارُ من اليهود والنصارى والمشركين، واعتقدوها ضَربًا من الَّلهوِ والعبثِ .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ.
أي: إنَّما تقَعُ منهم السُّخريةُ بالصَّلاةِ، ويَتَّخذونُها لَعبًا؛ لعدمِ عَقلِهم، ولجهلِهم العظيمِ بربِّهم، وبمعاني عِبادَتِه وحَقيقةِ شرائِعِه، وإلَّا فلو كانتْ لهم عقولٌ راشدةٌ لعظَّموا هذه العبادةَ العظيمةَ .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حَكَى تعالى عنهم في الآيةِ السَّابقةِ أنَّهم اتَّخذوا دِينَ الإسلامِ هُزوًا ولَعِبًا، أمَرَ بسؤالهم: ما الذي تَنقِمون من هذا الدِّينِ، وما الذي تَجِدون فيه ممَّا يوجِبُ اتخاذَه هُزوًا ولعبًا ؟! فقال تعالى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59).
أي: قلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ الذين اتَّخذوا دِينَكم هزوًا ولعبًا من أهل الكِتابِ: يا معشرَ اليهودِ والنَّصارى، ما لكم علينا مِن مطعَنٍ أو عيبٍ إلَّا إيمانُنا باللهِ تعالى وبالقرآنِ الذي أُنزِلَ إلينا وبالكتُبِ الإلهيَّة السابقةِ التي أُنْزِلَت مِن قبلنا، وإلَّا إيمانُنا بأنَّ أكثرَكم خارجونَ عن طاعةِ اللهِ العظيم، ناكِبون عن الطَّريق المستقيم؛ فهل يُعدُّ هذا عيبًا؟! وكيف تَعيبوننا بهذا الذي هو أوجبُ الواجباتِ، وأعظمُ المهمَّات ؟!
كما قال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [البروج: 8-9] .
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بكَّتَ اللهُ اليهودَ والنصارَى، وأقامَ الحُجَّة على هُزْئهم ولَعِبِهم بما تقدَّم، انتقَل عزَّ وجلَّ إلى ما هو أشدُّ تبكيتًا وتشنيعًا عليهم، بما فيه مِن التذكيرِ بسوءِ حالهم مع أنبيائهم، وما كان من جزائِهم على فِسقِهم، وتمرُّدِهم بأشدِّ ما جازَى اللهُ تعالى به الفاسقينَ الظَّالِمين لأنفسِهم، وهو اللَّعنُ والغَضَب، والمسخُ الصوريُّ أو المعنويُّ، وعبادةُ الطاغوتِ .
وأيضًا لَمَّا ذكَر أنَّ أهلَ الكتابِ يعيبونَ المسلمينَ بالإيمانِ باللهِ ورُسُلِه- ذكَر عيوبَ أهلِ الكتابِ في مقابلةِ ذلك ردًّا عليهم ، فقال:
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ.
أي: قل- يا محمَّدُ- هل أنبِّئكم يا أهلَ الكتابِ بشرٍّ عندَ اللهِ مِن الذي نَقَمتُم فيه علينا ثوابًا وجزاءً ؟
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ.
أي: هو مَن طَردَه اللهُ تعالى وأَبْعَدَه مِن رَحمتِه، وأحلَّ عليه غضبَه .
وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ.
أي: ومَسَخَ بعضَهم إلى قردةٍ وخنازيرَ؛ خِزيًا ونكالًا في الدُّنيا .
وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قولِه تعالى: عَبَدَ قِراءتان:
1- عَبُدَ بجَعْل عَبُد اسمًا مُفردًا ليس بجَمْع، على وزن (فَعُل)، الذي يُفيدُ معنى المبالغةِ والكثرةِ؛ فالعَبُدُ هو المبالِغُ في العُبوديةِ المنتهِي فيها؛ كما يُقال: فَطُن وحَذُر، للبليغِ في الفِطنة والحَذَر، فيكون (وَعَبُدَ) اسمًا مُضافًا إلى الطَّاغوتِ، وهو منصوبٌ عطفًا على القِرَدَةَ ، وقيل: إنَّ (عَبُد) جمْع (عَبْد)، أي: خَدَمًا للطَّاغوتِ .
2- عَبَدَ بجَعْل عَبَدَ فعلًا ماضيًا عطفًا على لَعَنَهُ اللهُ ونُصِبَ الطَّاغُوتَ بِه .
وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
أي: ومَن عبَدوا الطَّاغوتَ، (وهو كلُّ ما تجاوزَ به العبدُ حَدَّه مِن معبودٍ أو مَتبوعٍ أو مطاعٍ ورضِي بذلك) .
أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
أي: هؤلاءِ الذين وصَفَهم اللهُ تعالى هُم في الحَقيقةِ شرٌّ مكانًا ومنزلةً في الدُّنيا والآخِرة عند اللهِ تعالى مِنَ المؤمنين؛ الذين نَقَمتُم عليهم إيمانَهم باللهِ وبما أُنزل إليهم وبما أُنزل مِن قَبلِهم، وهم أيضًا أشدُّ بُعدًا عن الطَّريقِ القويم .
وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61).
وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ.
أي: وإذا جاءَكم- أيُّها المؤمنون- هؤلاءِ المنافقون من اليهودِ ، قالوا لكم بألسنتِهم كذبًا ومكرًا: آمنَّا، والحالُ أنَّهم دخلوا وهم مُقيمونَ على كُفْرِهم الذي تَنطوي عليه قلوبُهم .
وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ.
أي: وقدْ خرَجوا بالكُفرِ مِن عندِكم كما دَخَلوا به عليكم، لم يَرجِعوا بمجيئِهم إليكم عن كُفرِهم الكامِنِ فيهم، فلم يَنتفعوا بما قد سَمِعوا منكم من العِلم، ولا نجعتْ فيهم المواعظُ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ.
أي: واللهُ عالمٌ بما انطوتْ عليه قلوبُهم، وإنْ أظهروا للناسِ خلافَ ذلك؛ فإنَّ عالمَ الغيبِ والشَّهادة أعلمُ بهم منهم، وسيُجازيهم على ذلك
.
الفوائد التربوية:
1- التَّحذيرُ التَّامُّ مِن اتِّخاذِ أهلِ الكتابِ والكفَّارِ أولياءَ، وذلك بإثارة الحميَّة والغَيرةِ في قوله: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا؛ لأنَّ أيَّ إنسانٍ يشعرُ بأنَّ شخصًا يَهْزَأُ به في دِينه ويقول: هذا الدِّين لعبٌ لا فائدةَ منه؛ لا شكَّ أنَّه سيثورُ
.
2- أنَّ العِلمَ قد يكون وبالًا على صاحبِه؛ لقوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فإنَّ هؤلاءِ أُعطُوا العِلْمَ، ووُصِفَ لهم الرسولُ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم في التَّوراة والإنجيل وصفًا يَجعلهم يَعرِفونه كما يَعرِفون أبناءَهم، ومع ذلك لم ينفعْهم هذا العلمُ .
3- أنَّ الإيمانَ الحقيقيَّ مُقتضٍ للتَّقْوى؛ لقوله: وَاتَّقُوا اللّ&