الأربعاء، 17 يناير 2024

5. سورة المائدة {ج1.}



5. سورة المائدة {ج1.}
سُورةُ المائِدَةِ
 
مقدمة السورة
أسماء السورة:


سُمِّيتْ هذه السُّورةُ الكريمةُ، سُورةَ المَائدة
.
فعَن جُبَيرِ بنِ نُفَيرٍ، قال: (حَجَجتُ فدخلتُ على عائشةَ رضِي اللهُ عنها، فقالَت لي: يا جُبَيرُ، تقرأُ المائدةَ؟ فقُلتُ: نَعم، فقالَت: أمَا إنَّها آخِرُ سُورةٍ نزَلَتْ...)

.
فضائل السورة وخصائصها:

1- سُورةُ المَائدةِ مِن السَّبعِ الطِّوالِ التي أُوتِيَها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مكانَ التَّوراةِ:
فعَن واثلةَ بنِ الأَسقَعِ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((أُعطِيتُ مَكانَ التَّوراةِ السَّبعَ الطِّوالَ، وأُعطيتُ مَكانَ الزَّبورِ المِئِينَ، وأُعطيتُ مَكانَ الإنجيلِ المثانيَ، وفضِّلتُ بالمفَصَّلِ ))
.
2- مِن خَصائصِ هذِه السُّورةِ: أنَّها مِن آخِرِ ما نزَلَ مِنَ القُرآنِ :
فعَن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو رضِي اللهُ عنهما، قالَ: (آخِرُ سُورةٍ أُنزِلَت سورَةُ المائدةِ) .
وعن جُبَيرِ بنِ نُفَيرٍ، أن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، قالت له: (يا جُبَيرُ، تَقرَأُ المائدةَ؟ فقال: نَعَم، قالتْ: أمَا إنَّها آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَت) .
3- مِن خَصائِصِها: أنَّها أجمعُ سُورةٍ في القُرآنِ لفُروعِ الشَّرائعِ، وذُكِر فيها مِن التَّحليلِ والتحريمِ والإيجابِ ما لم يُذكَرْ في غيرِها

.
بيان المكي والمدني :

سُورةُ المَائدةِ سُورةٌ مدَنيَّة، نزلَتْ بعدَ الهِجرةِ، ونقَل الإجماعَ على ذلِك عددٌ من المفسِّرينَ

.
مقاصد السورة :

مِن أَهمِّ المقاصدِ التي تَضمَّنَتْها سورةُ المائدةِ:
1- التَّأكيدُ على حِفظِ العُهودِ والمواثيقِ والوفاءِ بها

2- بيانُ الكَثيرِ من الأحكامِ الشَّرعيَّةِ .
3- تَنظيمُ العَلاقاتِ بينَ المسلمينَ وغَيرِهم

.
موضوعات السورة :

مِن أَبرزِ الموضوعاتِ التي تناولَتْها سورةُ المائدةِ:
1- تقريرُ العَقيدةِ الصَّحيحةِ، والاهتمامُ بأمورِ التَّوحيدِ، وتَصحيحُ الكثيرِ مِن المعتقَداتِ الباطلةِ، والتذكيرُ بيومِ القيامةِ.
2- تقريرُ أنَّ الحُكمَ للهِ تعالى وحدَه، وأنَّه لا حُكمَ أحسنُ مِن حُكمِ الله تعالى، مع بيانِ وجوبِ الحُكمِ بما أَنزلَ اللهُ تعالى، وإلغاءِ حُكْم الجاهليَّة وتقبيحِه.
3- التأكيدُ على عقيدةِ الولاءِ والبراء، والتشديدُ على تولِّي المؤمنين، مع التحذيرِ غايةَ التحذيرِ من تولِّي أهلِ الكُفر، وبيانِ أنَّ الذين في قلوبِهم مرضٌ هم المسارِعونَ في تَوَلِّيهم.
4- تنظيمُ علاقاتِ المُسلمينَ مع غيرِهم، خاصَّةً اليهودَ والنَّصارى.
5- بيانُ كثيرٍ من الأحكامِ الشَّرعيَّة وتوضيحُها؛ فمِن ذلك: الأحكامُ الشَّرعيَّة المتعلِّقة بالعباداتِ والمعاملاتِ؛ كأحكامِ العُقود، والذَّبائح، والصَّيد، والإِحرام، ونِكاح الكتابيَّات، والرِّدَّة، وأحكامِ الطَّهارة، وحَدِّ السَّرِقة، وحدِّ البَغي والإفسادِ في الأرضِ (الحِرابة)، وتحريمِ الخَمْر والميسرِ، وكَفَّارة اليَمين، والنَّهي عن قَتْلِ الصَّيدِ في الإِحرام، والوَصيَّةِ عندَ الموتِ؛ إلى غيرِ ذلك.
6- اشتملتْ سورةُ المائدةِ على بعضِ القِصصِ، ومِن ذلك قِصَّةُ بني إِسرائيلَ مع موسى عليه السلامُ، وقِصَّة ابنَيْ آدَم، وقِصة المائدة.
7- بيانُ أحوالِ أهلِ الكتابِ، ونقضِهم للعهودِ وتحريفِهم للكتبِ المنزَّلةِ، ومناقشةُ بعض عقائدِهم الزَّائفةِ؛ من نسبةِ الولدِ إلى الله، وإنكار رِسالةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إلى غير ذلِك من عقائدِهم الباطِلة.



====2.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (1 - 2)
ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ
غريب الكلمات:

أَوْفُوا: أدُّوا مع التَّمامِ، وأصلُ الوفاء: تمامُ الشَّيءِ، وإتمامُ العَهدِ، والقيامُ بمقتضاه، وإكمالُ الشَّرط
.
بِالْعُقُودِ: بالعُهودِ الموثَّقَةِ، وأصل (عقد) يدلُّ على: شَدٍّ، وشِدَّةِ وُثوقٍ .
بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ: الإبلُ والبَقَر والغَنَم، والبَهِيمَةُ: كلُّ ما استَبْهَم عن الجَوابِ، أي: استَغلَق، وما لا نُطْقَ له؛ وإنما قيل للأنعامِ: بَهيمة؛ لأنَّها أبهمتْ عن أن تُميِّزَ، والأنعامُ: أصلُها الإبل، ثم استُعمِلَتْ للبقرِ والغَنَم، وأصل كلمة (نعم): يدلُّ على تَرفُّهٍ، وطِيبِ عَيشٍ، وصلاحٍ .
الصَّيْدِ: أي: الاصطياد، والصَّيد: هو تناولُ ما يُظفَر به، أو ما كان مُمتنِعًا ولم يكُن له مالكٌ، وكان حلالًا أكْلُه، وأصلُه: ركوبُ الشَّيءِ رأسَه، ومُضيُّه غيرَ ملتفِتٍ ولا مائلٍ .
حُرُمٌ: مُحرِمونَ، جمْع حَرامٍ، وهو بمَعْنَى مُحرِم، مِن: أَحْرم الرَّجلُ بالحجِّ؛ لأنَّه يَحرُم عليه ما كان حلالًا له من الصَّيدِ والنِّساءِ، وغير ذلك، وأصل (حرم): المنْع والتَّشديد .
شَعَائِرَ: وَاحِدُها شَعيرَة، وهي مَا جعَله الله تعالى عَلَمًا لطاعَتِه، والشَّعائِر: أعلامُ الحجِّ وأَعمالُه، ومشاعِرُ الحجِّ: مواضِعُ المناسِك .
الْهَدْيَ: مُختصٌّ- في هذا الموضِع- بما يُهْدَى إلى البَيتِ من الأنعامِ؛ قربةً إلى الله، والهَديَّة: كلُّ ما يُهدَى إلى ذِي مَوَدَّةٍ .
الْقَلَائِدَ: ما قُلِّد من الهَدْي، وكانوا يقلِّدونَ البعيرَ من لِحاءِ شَجرِ الحرمِ، فيأمنُ بذلك حيث سلَك، وأصل (قلد): الفَتْل، ويدلُّ على تعليقِ شيءٍ على شيءٍ، وَلَيِّه به .
آمِّينَ: قَاصِدينَ وعامِدِين إليه، جمْع آمٍّ، وأصل الأَمِّ: القصدُ المستقيم، أو التوجُّه نحو مقصودٍ .
فَضْلًا: عطاءً زائدًا؛ فأصلُ الفَضلِ الزِّيادةُ؛ وكلُّ عطيَّةٍ لا تلزَمُ مَن يُعطي يُقال لها: فضلٌ، والإفضال: الإحسان .
حَلَلْتُمْ: خَرجتُم من إحرامِكم، أو خرجتُم مِن الحرَمِ، وأصل الحَلِّ: حَلُّ العُقدةِ، وفَتْح الشَّيءِ .
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ: ولَا يَحمِلنَّكم، أو لا يَكْسِبنَّكم، وجَرَم أَيْ: كَسَبَ؛ لأنَّ الَّذي يَحوزُه فكأنَّه اقْتَطَعه، ويقال: جَرَمَ: إذا أَذْنَبَ وَاكْتَسَبَ الإِثمَ، ولا يكادُ يُقالُ في عامَّةِ كلامِهم للكسْبِ المحمودِ، وأصل (جرم) يدلُّ على القَطعِ .
شَنَآنُ: بَغضاءُ، أو شِدَّةُ البُغض والعداوة؛ يُقال: شَنِئْتُه، أي: تَقذَّرْتُه بُغضًا له

.
مشكل الإعراب:

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
غَيْرَ: منصوبٌ على أنَّه حالٌ، واختُلِف في صاحبِ الحال؛ فقيل: هو الضمير المجرور في لَكُمْ، وهذا قولُ الجمهورِ، وهو مِثْلُ قولِك: أُحِلَّ لك هذا الشَّيءُ لا مُفَرِّطًا فيه ولا مُتَعَدِّيًا، والمعنى: أُحِلَّت لكم بهيمةُ الأنعامِ إلَّا أن تُحِلُّوا الصَّيدَ في حالِ الإحرامِ؛ فإنَّه لا يحِلُّ لكم ذلك إذا كنتم مُحْرمينَ. وقيل: الضَّميرُ المجرورُ في عَلَيْكُمْ، أي: إلَّا ما يُتْلى عليكم حالَ انتفاءِ كونكم مُحِلِّين الصَّيدَ. وقيل: هو ضميرُ الجمعِ في أَوْفُوا، والتقديرُ: أوْفُوا بالعقودِ في حالِ انتفاءِ كونِكم مُحِلِّينَ الصيدَ وأنتم حُرُم
.
الصَّيْدِ: مجرورٌ لفظًا، منصوبٌ محلًّا من إضافةِ اسمِ الفاعِلِ إلى مفعولِه، وهو مَصدرٌ بمعنى المفعول، أي: الـمَصِيد، ويجوزُ أنْ يكون على بابِه هاهنا؛ أي: غَيرَ مُحلِّين الاصطيادَ في حالِ الإحرامِ .
قوله: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ: مبتدأٌ وخبر، والجملةُ في محلِّ نصبٍ حالٌ من الضَّميرِ المُسْتَكِنِّ في مُحِلِّي الصَّيدِ، كأنَّه قيل: أَحْلَلْنا لكم بعضَ الأنعام في حالِ امتناعِكم من الصيدِ وأنتم مُحْرِمون؛ لئلَّا تُحرجَ عليكم

.
المعنى الإجمالي :

أَمَرَ اللهُ تعالى المؤمنينَ أنْ يُتمُّوا العُهودَ التي بَيْنه وبَيْنهم، والعهودَ التي بينهم وبين الخَلقِ، والتي لا تُخالِف شَرْعَه، وأخبَرَهم تعالى أنَّه أحلَّ لهم الإبلَ والبقَرَ والغَنَمَ، إلَّا ما سيُقرأ عليهم تحريمُه منها، وهو ما بيَّنه في قولِه سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ...، كما يُستثنى أيضًا صَيدُ البَرِّ فيما لو كانوا داخلَ حدودِ الحرَمِ، أو كانوا مُحرِمينَ بحجٍّ أو عُمرةٍ، إنَّه سبحانه وتعالى يَحكُم بما شاءَ، ويَقضي بما أرادَ.
ثمَّ نَهى سبحانه وتعالى عِبادَه المؤمنين أنْ يَتعدَّوا حُدودَه بتحليلِهم حُرُماتِه التي أُمِروا بتعظيمِها، والتي منها شعائرُ الحجِّ، ولا يَنتهِكوا حُرمةَ الأشهُرِ الحُرُم بابتداءِ القِتال فيها، أو التلبُّسِ فيها بظُلمٍ أو ارتكابِ مُحرَّماتٍ، كما نهاهم عن انتهاكِ ما يُهدَى إلى الحَرَمِ من الأنعامِ؛ بأنْ يَذبَحوها قبلَ بلوغِها مَحِلَّها، أو يَمنعوها من الوصولِ إلى محِلِّها، أو يَنتهكوا الهَديَ التي تُجعَلُ القلائدُ في أعناقِها، ونَهاهم أنْ يستحِلُّوا قِتالَ مَن قصَد البيتَ الحرامَ طلبًا لفَضْلِ اللهِ ورِضوانِه، ثم أباح لهم الصَّيدَ بعد الانتهاءِ من إحرامِهم، وإذا خرجوا مِن الحرَمِ، ثم نهاهم جلَّ وعلا أنْ يَحمِلَهم بُغضُهم وكراهيتُهم لأقوامٍ منعوهم من الوُصولِ للمسجدِ الحرامِ، على أنْ يَعْتدوا عليهم، ويقتصُّوا منهم ظلمًا وعدوانًا، وأمَرَهم أنْ يتعاونوا على البِرِّ والتقوى، وألَّا يتعاوَنوا على الإثمِ والعُدوان، وأمَرَهم بتقوى الله؛ فإنَّه شديدُ العقابِ.
تفسير الآيتين:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، قوموا بإتمامِ وإكمالِ جميعِ العُهودِ التي بينكم وبين الخالِق سبحانه، وجميعِ العهودِ التي بينكم وبين المخلوقينَ؛ ما لم تُخالِفْ شَرْعَ اللهِ تعالى
.
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ.
أي: قد أحلَّ اللهُ تعالى لأجْلِكم- أيُّها المؤمنون- الإبلَ والبَقر والغنَم؛ فضلًا منه ورحمةً .
إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ.
أي: إلَّا ما سيُتلَى عليكم تحريمُه منها في قولِه سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ... [المائدة: 3] .
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
أي: ويُستثنى أيضًا مِن حِلِّ بهيمة الأنعامِ لكم صيدُها وأنتم في الحَرَم، أو وأنتم مُحرِمون بحَجٍّ أو عُمرةٍ .
إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
أي: إنَّ الله تعالى يَقضي في خَلْقِه ما يشاءُ، ومن ذلك تحليلُ وتحريمُ ما يشاءُ، وهو الحكيمُ في جميعِ ما يُقدِّره ويَشْرَعُه من أحكامٍ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا حرَّم الصيدَ على المُحرِم في الآيةِ الأولى، أكَّدَ ذلك بالنهيِ في هذه الآيةِ عن مخالفَةِ تكاليفِ الله تعالى ، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ.
أي: يا أيُّها المؤمنون، لا تَنتَهِكوا ما حرَّمَ الله تعالى عليكم، ولا تُضَيِّعوا فرائضَه، ومِن ذلك مناسِكُ الحجِّ .
وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ.
أي: ولا تَنتهِكوا حُرمةَ الأشهُرِ الحُرُم بابتداءِ القِتالِ فيها، وبغيرِ ذلك من أنواعِ الظُّلْم والمحرَّماتِ .
قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة: 36] .
وعن نُفَيعِ بنِ الحارثِ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ الزمانَ قد استدارَ كهيئَتِه يومَ خلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ؛ السَّنةُ اثنا عشرَ شهرًا، منها أربعةٌ حُرمٌ؛ ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القَعدةِ وذو الحِجةِ والمحَرَّمُ، ورجبُ مُضَرَ ، الذي بين جُمادى وشعبانَ )) .
وَلَا الْهَدْيَ.
أي: ولا تَنتهِكوا ما يُهدَى إلى الحَرَم من إبلٍ أو بقرٍ أو غنمٍ تقرُّبًا إلى الله تعالى، فلا تذبحوه قبلَ بلوغِه مَحِلَّه، ولا تَحُولوا بينه وبين الوصولِ إلى محِلِّه، بل عَظِّموه .
وَلَا الْقَلَائِدَ.
أي: ولا تَنتهِكوا أيضًا الهَدْيَ الذي تُجعَل له قلائدُ في عُنقِه؛ وكانت الهدْيُ تُقلَّدُ إظهارًا لشعائِرِ الله تعالى، وحملًا للنَّاسِ على الاقتداءِ، فتَبعَث مَن يراه على الإتيانِ بمثلِه، وتعليمًا لهم للسُّنَّة، وليُعْرَفَ أنه هديٌ فيُحْتَرَم .
وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا.
أي: ولا تستحلُّوا قِتالَ القاصدين إلى بيتِ الله تعالى الحرامِ، الذي مَن دخَلَه كان آمنًا، والحالُ أنَّهم طالبونَ فَضلَ الله تعالى بالتِّجارةِ والمكاسِبِ المباحَةِ، أو راغبونَ في رِضوانِه بالحجِّ والعُمرةِ والطَّواف بالبيت، والصَّلاة وغيرِها من أنواعِ العباداتِ، فلا تَصدُّوهم ولا تتعرَّضوا لهم بسوءٍ، ولا تُهينوهم، بل عظِّموا الزَّائرينَ لبيتِ الله عزَّ وجلَّ .
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا.
أي: وإذا فرَغْتُم مِن إحرامِكم بالحجِّ أو العُمرةِ وأحللتُم منه، وخرجتُم من الحَرَم، فلا حَرَج عليكم في اصطيادِ ما كان محرَّمًا عليكم صيدُه .
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا
القِراءاتُ ذاتُ الأَثَر في التَّفسيرِ:
في قوله تعالى: أَنْ صَدُّوكُمْ قِراءتان :
1- قِراءة أَنْ صَدُّوكُمْ بالفتْح على أنَّها عِلَّة للشَّنَآنِ، والمعنى: لا يَحْمِلَنَّكم بغضُكم لقومٍ على الاعتداءِ عليهم؛ لأجْلِ صَدِّهم إيَّاكم عن المسجدِ الحرامِ.
2- قِراءة إِنْ صَدُّوكُمْ بـ (إن) الشرطيَّة، والمعنى: لا يحملنَّكم بُغضُ قومٍ على الاعتداءِ عليهم، إنْ صدُّوكم عن المسجدِ الحرامِ.
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا.
أي: ولا يَحملنَّكم- أيُّها المؤمنون- بُغضُ قومٍ على أن تَعْتَدوا عليهم فتقتَصُّوا منهم ظلمًا؛ طلبًا للاشتفاءِ منهم؛ لأجْل أنْ منعوكم من الوصولِ إلى المسجِدِ الحرام؛ فإنَّ العبدَ عليه أن يلتزمَ أمْرَ الله تعالى، ويَسلُكَ طريقَ العَدْلِ، ولو اعتُدِيَ عليه .
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
أي: ولْيُعِنْ بعضُكم بعضًا- أيُّها المؤمنون- على فِعْل الطَّاعاتِ، وتَرْكِ المحرَّمات .
وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
أي: ولا يُعِنْ بعضُكم بعضًا- أيها المؤمنونَ- على اقترافِ المعاصي، وارْتِكابِ الظُّلم، والاعتداءِ على حقوقِ الخَلْق .
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: وامْتَثِلوا ما أمَرَكم اللهُ تعالى به واجتنِبوا ما نهاكم عنه؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ذو عِقابٍ شديدٍ على مَن عصاه، وتجرَّأَ على محارمِه

.
الفوائد التربوية:

1- وُجوبُ الوفاءِ بالعقود؛ لقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ؛ لأنَّ الأصلَ في الأمرِ أنَّه للوجوبِ لا سيَّما إذا كان متعلِّقًا بحقِّ الآخَرينَ، والعَقْدُ متعلِّقٌ بحقِّ الآخرين؛ لأنَّه إبرامُ شيءٍ بينك وبين الآخر
.
2- قولُ الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ فيه التنبيهُ على الانقيادِ لله تعالى في جميعِ تكاليفِه وأوامِرِه ونواهيه، فلا يُسألُ عن تَخصيصٍ ولا عن تفضيلٍ، ولا غيرِه .
3- الإشارةُ إلى أنَّه لا يحلُّ للإنسانِ أن يعترضَ على الأحكامِ الشرعيَّةِ؛ وجهُ ذلك: أنَّ الله تعالى ختَمَها بقوله: إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وذلك بعدَ أنْ ذكَرَ أنواعًا من الأحكامِ .
4- الإرشادُ إلى احترامِ أعظمِ المكانِ: الحَرَمِ، وأكْرَمِ الزَّمان: الشَّهرِ الحرامِ، وما لابَسَهما؛ قال الله تعالى: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الحَرَامَ .
5- تعظيمُ الشَّعائرِ؛ لأنَّ اللهَ أضافها إلى نفْسِه، في قوله: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ، والمضافُ يَشرُف ويَعظُمُ بحسَبِ المضافِ إليه .
6- جمَع بين التَّحْليَةِ والتَّخلِيَة في قوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؛ إذ إنَّ التَّعاوُنَ على البِرِّ والتقوى مِن أركانِ الهدايةِ الاجتماعيَّةِ في القرآن؛ لأنَّه يُوجِبُ على النَّاسِ إيجابًا دِينيًّا أن يُعِينَ بعضُهم بعضًا على كلِّ عملٍ من أعمالِ البرِّ التي تنفَعُ النَّاسَ أفرادًا وأقوامًا في دِينهم ودُنياهم، وكلِّ عَملٍ من أعمالِ التقوى التي يدفعونَ بها المفاسِدَ والمضارَّ عن أنفُسِهم، فجَمَعَ بذلك بين التحلِيَة والتخْلِيَة، ولكنَّه قدَّم التحلِيَة بالبرِّ، وأكَّدَ هذا الأمْرَ بالنَّهيِ عن ضدِّه؛ وهو التعاونُ على الإثمِ بالمعاصي وكلِّ ما يعوقُ عن البِرِّ والخيرِ، وعلى العُدوانِ الذي يُغْري الناسَ بعضَهم ببعضٍ، ويجعلُهم أعداءً متباغِضينَ يتربَّصُ بعضُهم الدوائِرَ ببعضٍ .
7- نَدَبَ اللهُ سبحانَه إلى التَّعاونِ على البِرِّ، وقَرَنَه بالتَّقوى له، فقال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ لأنَّ في التَّقوى رِضا اللهِ تعالى، وفي البِرِّ رِضا النَّاسِ، ومَن جَمَعَ بين رِضا الله تعالى ورِضا النَّاسِ؛ فقد تمَّتْ سَعادَتُه، وعَمَّتْ نِعمَتُه

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- وجوبُ الوفاءِ بالشُّروطِ المشترَطَةِ في العقدِ، فإذا عقَدَ رجلانِ بينهما عقدَ بيعٍ أو غيره، واشترطَا شروطًا، فالأصلُ وجوبُ الوفاءِ بالشُّروط؛ وذلك لأنَّ قولَه: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يشمَلُ الوفاءَ بالعقدِ نفْسِه، وبأوصافِه التي هي شروطُه، فإذا اشترَطَ المتعاقدانِ شرطًا، وحصَل نِزاعٌ في هذا الشَّرطِ، فالصوابُ أنَّ هذا الشرطَ يصحُّ حتى يُقيمَ المانِعُ دليلًا على المنعِ
.
2- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أنَّ جميعَ العقودِ حلالٌ؛ وجهُ ذلك: أنَّ اللهَ أمَرَ بالوفاءِ بها، واللهُ تعالى لا يأمُرُ بالوفاءِ بالفحشاءِ أبدًا، ولكنَّ هذا ليس على عمومِه؛ إذ يُستثْنَى منها ما حَرَّمه الشَّرعُ؛ كبيعِ الغَرَر، والبيعِ بالرِّبا، والقِمارِ، وما أشْبَهَ ذلك .
3- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أنَّ العقودَ تنعقِدُ بما دلَّ عليها مِن قولٍ أو فِعلٍ، بلفظٍ أو إشارةٍ أو كتابةٍ؛ وجْهُ ذلك أنَّ الله جلَّ وعلا أطلَقَ العقدَ، فكلُّ ما كان عقْدًا بين النَّاسِ فهو عقْدٌ .
4- قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ مُجمَلٌ؛ لأنَّ الإحْلالَ إنَّما يُضافُ إلى الأفعالِ، وهاهنا أُضيفَ إلى الذَّاتِ، فتعذَّر إجراؤُه على ظاهِرِه؛ فلا بُدَّ من إضمارِ فِعلٍ، وليس إضمارُ الأفعالِ أَوْلى من بعضٍ، فيَحتمِل أن يكون المرادُ إحلالَ الانتفاعِ بجِلْدِها، أو بعَظْمها، أو صُوفِها، أو لَحْمِها، أو المرادُ إحلالَ الانتفاعِ بالأكْلِ، فصارتِ الآيةُ مُجملةً، إلَّا أنَّ قولَه تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل: 5] دلَّ على أنَّ المرادَ بِقَوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إباحةُ الانتفاع ِمِن كلِّ هذه الوجوهِ، والله أعلم .
5- قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فيه تعظيمُ الإحرامِ، وأنَّه يحرُمُ على المُحْرِم الصَّيدُ .
6- تحريُم إحلالِ الشَّهرِ الحرامِ بالقتالِ، وكذلك أيضًا بالمعاصي؛ فإنَّها في هذه الأشهرِ الحُرُم أعظمُ من المعاصي في غيرها، قال تعالى: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ .
7- احترامُ الهَديِ وتحريمُ إحلالِه؛ لقوله: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ .
8- في قوله: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ حثٌّ على احترامِ الحُجَّاجِ والعُمَّارِ، وهذا يُفيدُ أنَّ العُدوانَ عليهم أشدُّ مِنَ العُدوانِ على غَيرِهم .
9- الإشارةُ إلى مِنَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ على هؤلاءِ الذين قَصَدوا البيتَ الحرامَ؛ وجْهُ ذلك أنَّ إضافةَ الربوبيَّةِ إليهم في قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا دليلٌ على عنايَتِه تبارك وتعالى بهم، ومن ذلك أنْ وفَّقَهم للحضورِ إلى المسجِدِ الحرامِ، فالربوبيَّة نوعان: عامَّة، وخاصَّة، وإليهما الإشارةُ في قوله تعالى: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف: 121- 122] ، فقوله: رَبِّ العَالِمِينَ، ربوبيَّة عامَّة، وقوله: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ربوبيَّة خاصَّة .
10- إثباتُ حُرْمة المسجِدِ الحرام؛ لقوله: أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أي: ذي الحرمةِ والتعظيمِ، وهو أوَّلُ بيتٍ وُضِع للنَّاس ليتعبَّدوا الله فيه

.
بلاغة الآيتين:

1- قوْلُه تعالى: أَوْفُوا بِالعُقُودِ: فيه تعريفُ (العقود) تعريفَ الجِنس؛ للاستغراقِ؛ فشَمِلَ العقودَ التي عاقَد المسلمونَ عليها ربَّهم، وشَمِل العقودَ التي عاقد المسلمون عليها المشركينَ، ويشمَلُ العقودَ التي يتعاقَدُها المسلمونَ بينهم
.
2- قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ تمهيدٌ لِمَا سَيرِدُ بَعدَها من المنهيَّات: كقولِه: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ، وفي الابتداءِ بذِكرِ بَعضِ المباحِ امتنانٌ وتأنيسٌ للمُسلِمين؛ ليتلقَّوا التكاليفَ بنفوسٍ مُطمئِنَّةٍ؛ فهي جملةٌ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ لأنَّها تصديرٌ للكلام بعد عنوانِه، وهو قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .
- وإضافة البهيمة إلى الأنعامِ للبيانِ مِن إضافةِ العامِّ للخاصِّ، وهي الإضافةُ التي بمعنى «مِن»، ومعناه: البَهيمةُ مِن الأنعام، وفائدتُها: الإشعارُ بعِلَّة الحُكم المشترَكة بين المضافينِ؛ كأنَّه قيل: أُحلَّت لكم البهيمةُ الشَّبيهةُ بالأنعامِ التي بُيِّن إحلالُها فيما سبَق، المماثِلَةُ لها في مَناطِ الحُكم .
- وفي آية أخرى: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [الحج: 30] ، فالفائدةُ في زِيادة لفظ (البهيمة) في هذه الآية: التأكيدُ؛ إذ المرادُ بالبهيمة وبالأنعام شيءٌ واحد .
- وتقديم الجارِّ والمجرور لَكُمْ على القائمِ مقام الفاعلِ بَهِيمَةُ؛ لإظهارِ العناية بالمقدَّم؛ لِمَا فيه من تَعجيلِ المسرَّةِ والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ، فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّرَ تبقى النَّفسُ مترَقِّبةً إلى ورودِه، فيتمكَّن عندها تَمكُّنًا زائدًا .
3- قوله: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ فيه: النَّهيُ عن إحلالِها؛ مبالغةً في النهيِ عن التعرُّضِ للهَدْي ، فلمَّا حرَّم الصيدَ على المُحرِم في الآية الأولى أكَّد ذلك بالنَّهي في هذه الآيةِ عن مخالفةِ تكاليفِ اللهِ تعالى .
- وإضافة قوله: شَعَائِرَ إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لتشريفِها، وتهويلِ الخَطْب في إحلالِها .
- وقوله: وَلَا الْقَلَائِدَ: عُطِفَت ذواتُ القلائِد مِن الهَدْي على الهَدْيِ؛ مبالغةً في التوصيةِ بها؛ لأنَّها أشرفُ الهَدْيِ، ويُحتَمَل أن يكون النَّهيُ عن التعرُّضِ لنفْسِ قَلائِدِ الهَدي؛ مبالغةً في النَّهيِ عن التعرُّضِ للهَدْي، على معنى: لا تُحِلُّوا قلائِدَها، فضلًا عن أن تُحِلُّوها .
4- قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا فيه: تنكيرُ قوله: فَضْلًا، ووَرِضْوَانًا؛ للتفخيمِ، وإضافةُ الربِّ إلى ضميرِ الآمِّينَ في قوله: رَبِّهِمْ؛ للإيماءِ إلى اقتصارِ التشريف عليهم، وحرمانِ المخاطَبين عنه، وعن نَيْلِ المبتغَى، وفي ذلك من تعليلِ النَّهيِ وتأكيدِه، والمبالغةِ في استنكارِ المنهيِّ عنه؛ ما لا يَخفَى .
5- قوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا فيه: تصريحٌ بمفهومِ قَولِه: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ لقَصْدِ تأكيدِ الإباحةِ .
6- قوله: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فيه: تأكيدٌ لمضمون قوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ لأنَّ الأمرَ بالشيءِ وإنْ كان يتضمَّن النهيَ عن ضدِّه، فالاهتمامُ بحُكم الضدِّ يَقتضي النهيَ عنه بخصوصِه .
7- قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ كرَّر الأمْر بالتقوى مُطلقةً فيه، وإنْ كان قد أمَر بها في قوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ تأكيدًا لأمْرِها، وإشارةً إلى أنَّها الحاملةُ على كلِّ خيرٍ .
8- قوله: إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فيه: تعريضٌ بالتَّهديدِ والوعيدِ ، مع ما فيه من تأكيدِ الخبرِ بـ (إنَّ)، واسميَّةِ الجملةِ.


=====3.


سُورةُ المائِدَةِ
الآية (3)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
غريب الكلمات:

أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ: أي: رُفِع فيه الصَّوتُ بتسميَةِ غيرِ الله، أو ما ذُبِحَ لغيرِ الله، وأصْل (هلل): يَدلُّ على رفْعِ صوتٍ، ومنه قولهم: أهلَّ بالحجِّ: رفَع صوتَه بالتَّلبيَةِ
.
الْمُنْخَنِقَةُ: التي تموتُ خنقًا، وهو حبسُ النَّفَس، سواءٌ فعَل بها ذلك آدميٌّ، أو اتَّفق لها ذلك في حَجَرٍ أو شجرةٍ أو بحبلٍ أو نحوه، وأصل (خنق): يدلُّ على ضِيق .
الْمَوْقُوذَةُ: المقتولةُ بالضَّربِ، والوَقْذ: الإيلامُ بالضَّرْب، وأصْل (وقذ): يدلُّ على ضربٍ بخَشَب .
الْمُتَرَدِّيَةُ: الواقعةُ من جَبَلٍ أو حائطٍ، أو في بِئر؛ يُقال: تردَّى: إذا سقَط، وأصله يدلُّ على رمْيٍ أو ترامٍ، وما أشبهَ ذلك .
النَّطِيحَةُ: المنطوحةُ التي نطحتْها شاةٌ أو بقرةٌ فماتتْ .
ذَكَّيْتُمْ: ذبَحتُم، فقطعْتُم أوداجَه، وأنهَرْتم دمَه، وذكرتُم اسمَ الله تعالى إذا ذبَحْتُموه، وأصلُ الذَّكاة: تمامُ الشَّيْء .
النُّصُبِ: الحَجَر، أو الصَّنَم الذي يَذبحونَ عنده، أو يُنصَب للعبادةِ، وجمْعُه أنصابٌ، وقيل: النُّصُب جمعٌ مفردُه نَصِيبٌ، وأصلُ (نصب): يدلُّ على إقامةِ شيءٍ، وإهدافٍ في استواءٍ .
تَسْتَقْسِمُوا: تطلُبوا عِلمَ ما قُسِمَ لكم، والاستقسامُ بها: أن يُضربَ بها، ثم يُعمَلَ بما يَخْرُجُ فيها من أمْرٍ أو نهيٍ، وأُخِذ الاستقسامُ من القَسْم، وهو النَّصيبُ، كأنَّه طَلَبُ النَّصيبِ .
بِالْأَزْلَامِ: جمْعُ زَلَم وزُلَم، وهي القِداحُ التي كانوا يَضربونَ بها على المَيسرِ ويَستَقْسِمون بها، أو هي سِهامُ العربِ، وأصل (زلم): يدلُّ على نحافةٍ ودِقَّةٍ في مَلاسةٍ .
فِسْقٌ: خروجٌ عن حدودِ الشَّرع؛ من قولهم: فَسَق الرُّطَب، إذا خرَج عن قِشْرِه، والفُسُوق: الخروجُ من الطاعة إلى المعصِيَة، والخروجُ من الإيمانِ إلى الكُفرِ .
فَلَا تَخْشَوْهُمْ: فلا تَخافوهم، والخَشْيةُ: أكثرُ ما تكونُ عن عِلمٍ بما يُخشَى منه، وقيل: هي خوفٌ يشوبُه تعظيمٌ، وأصل خَشِيَ: فواتٌ بالكليَّةِ يدلُّ على خوفٍ وذُعْرٍ .
مَخْمَصَةٍ: أي: مجاعةٍ؛ مُشتقَّةٌ من خَمْصِ البَطن، أي: ضُمورِه، وأصلُ (خمص): يدلُّ على الضُّمْرِ والتَّطامُنِ .
مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ: مُنحرِفٍ، مائلٍ إلى ذلك متعمِّدًا، بأنْ يأكُلَ بعدَ زوالِ الضَّرورة، أو يأكُلَ فوقَ الشِّبَع، وأصلُ الجنف: الميلُ ميلًا ظاهِرًا، والعدولُ عن الحقِّ

.
المعنى الإجمالي:

يُبيِّن اللهُ تعالى لعبادِه المؤمنين أنَّه حرَّم عليهم أكْلَ ما مات من الحيوانِ دون ذَكاةٍ ولا اصطيادٍ، وحرَّم عليهم أكْلَ الدَّمِ المسفوحِ، ولحمِ الخنزيرِ، وأكْلَ ما ذُكِرَ عليه غيرُ اسمِ الله عند ذَبْحه، ثم ذَكَر سبحانه أنواعًا أُخرى مِن المحرَّمات: وهي ما يموت بالاختناقِ من البَهائم، وما ضُرِبَ بشيءٍ ثقيلٍ غيرِ محدَّدٍ حتى مات، والبهيمةُ التي تتردَّى من مكانٍ عالٍ فتموت نتيجةَ سقوطِها، والتي ماتتْ بسبب نطْحِ غيرِها لها، والتي عدَا عليها سَبُعٌ- كأسدٍ أو ذئبٍ وغيرهما- فماتتْ بذلك، إلَّا ما أمكَنَ تدارُكُه بالذَّكاةِ مِن هذه الأنواعِ، وكانت فيه حياةٌ، فإنَّه يجوز أكْلُه، كما حَرَّم عليهم سبحانه وتعالى ما ذُبِحَ عند الأوثان تقرُّبًا لها، وحرَّم عليهم أن يَطلُبوا عِلمَ ما قُسِمَ لهم، باستخدامِ الأقداحِ؛ كما يَفعل أهلُ الجاهليَّة، فإنَّ كلَّ ما سبق ممَّا حرَّمه الله خروجٌ عن طاعة الله إلى معصيته، ثم أخبَرَ تعالى أنَّ الكفَّار انقطعَ طمعُهم من أن يرتدَّ المؤمنونَ عن دِينهم يوم عرفةَ في حجَّةِ الوداعِ؛ يومَ نَزَلَت هذه الآيةُ؛ فلا يَنبغي للمسلمينَ أن يخافوهم، بل عليهم أن يخافوا اللهَ تعالى؛ فهو في هذا اليومِ أكْمَلَ للمؤمنين دِينَهم، وأَتَمَّ عليهم نِعمتَه، ورَضِيَ لهم دِينَ الإسلام دينًا يتقرَّبون به إلى الله، فمْن ألجأتْه الضرورةُ إلى أكْل شيءٍ من المحرَّماتِ التي ذَكَرَها الله في الآية، غيرَ مُريدٍ للحرامِ، فله تناوُلُ ما يدفع حاجتَه، واللهُ غفورٌ رحيمٌ.
تفسير الآية:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قال تعالى في أوَّل السُّورةِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ ثم ذكَر فيه استثناءَ أشياءَ تُتلَى عليهم في قَوْلِه: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ- ذَكَر هنا تلك الصُّورَ المستثناةَ من ذلك العمومِ
، فقال:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.
أي: حرَّم اللهُ تعالى عليكم- أيُّها المؤمنونَ- أكْلَ المَيْتَة، وهي: ما مات مِن الحيوان حتْفَ أنفِه، من غير ذكاةٍ شرعيَّة، ولا اصطيادٍ .
وَالدَّمُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ الدَّمِ المسفوحِ ، كالذي يخرُج عند الذَّكاةِ، أو يخرج عند فصْد العِرْقِ، وما أشبهَ ذلك .
قال تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام: 145] .
وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ.
أي: وحرَّم عليكم أكْلَ الخِنزيرِ؛ إنسيِّه ووحشيِّه، وظاهرِه وباطنِه؛ فجميعُ أجزائِه مُحرَّمٌ أَكْلُها .
وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ ما ذُبِحَ فذُكر عليه غيرُ اسم ِالله عزَّ وجلَّ .
وَالْمُنْخَنِقَةُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ ما يموتُ بالخَنقِ، سواءٌ بنفسها؛ كإدخالِها رأسَها في شيءٍ ضيِّقٍ، فتعجِز عن إخراجِه حتى تموتَ، أو بخنْقِ غيرِها لها .
وَالْمَوْقُوذَةُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ الموقوذةِ، وهي التي تُضرَب بشَيءٍ ثقيلٍ غير محدَّدٍ حتى تموتَ، كالتي تُضرَب بعصًا، أو حصًى، أو خَشبةٍ .
عن عَديِّ بن حاتمٍ الطائيِّ رضي الله عنه، قال: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إني أُرسِلُ الكِلابَ المُعلَّمةَ، فيُمْسِكْنَ عليَّ، وأذكرُ اسمَ اللهِ عليه؟ فقال: إذا أرسلتَ كلبَك المُعلَّمَ، وذكَرْتَ اسمَ اللهِ عليه، فكُلْ، قلتُ: وإنْ قتلْنَ؟ قال: وإنْ قتلْنَ! ما لم يَشرَكْها كلبٌ ليس معها، قلتُ له: فإنِّي أَرْمي بالمِعراضِ الصَّيدَ، فأصيبُ؟ فقال: إذا رَميتَ بالمعراضِ فخَرَق، فكُلْهُ، وإنْ أصابَه بعَرْضِه، فلا تأكُلْه )) .
وَالْمُتَرَدِّيَةُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ المتردِّيَة، وهي التي تَسقُط من موضعٍ عالٍ فتموتُ بذلك .
وَالنَّطِيحَةُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ المنطوحةِ، وهي التي ماتتْ بسبب نَطْحِ غيرِها لها .
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ التي عَدَا عليها سَبُعٌ، كالأسدِ أو الفهد أو النَّمِر وغيرها، فأكَلَ بعضَها فماتتْ بذلك .
إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ.
أي: إنَ أمكنَ تَداركُ المُنخَنِقةِ والموقوذةِ والمتردِّيةِ والنَّطيحةِ وما أكَلَ السَّبعُ- إنْ أمكن تَداركُها بذَكاةٍ شرعيَّة، وفيها حياةٌ مستقرَّة؛ فإنَّه يحِلُّ أكلُها .
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكلَ ما ذُبِحَ عند الأوثانِ تقربًا لها .
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ.
أي: وحرَّم عليكم- أيُّها المؤمنون- الاستقسامَ بالأزلامِ، وقد كانتِ العربُ في جاهليَّتِها يَتعاطَون ذلك، وهي عبارةٌ عن قِداحٍ ثلاثة، مكتوبٌ على أحدها: «افْعَلْ»، وعلى الآخر: «لا تفعَلْ»، والثالث ليس عليه شيءٌ. وقِيل: كان يُكتَب على الواحِدِ منها: «أَمَرني ربِّي»، وعلى الآخر: «نَهاني ربي»، والثالث ليس عليه شيء، فإذا أجالَها فطَلَع السَّهمُ الآمِرُ فَعَلَه، أو الناهي ترَكَه، وإنْ طلع الفارغُ أعاد الاستقسامَ، حتى يخرجَ أحدُ القَدَحين الآخَرَين فيعمل به .
ذَلِكُمْ فِسْقٌ.
أي: إنَّ سائرَ الأمورِ التي حرَّمها الله تعالى في هذه الآية- كأكْلِ المَيْتَة والدَّمِ ولحمِ الخنزير، والاستقسامِ بالأزلام، وغيرِ ذلك- خروجٌ عن طاعةِ الله تعالى إلى مَعصِيَته .
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ.
أي: الآنَ (والمرادُ باليومِ يومُ عَرفَةَ في حَجَّةِ الوداعِ) انقطَع طمَعُ الكفَّار والمشركينَ من أن ترتدُّوا عن دِينِكم- أيُّها المؤمنون .
فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.
أي: فلا تَخافُوا من المشركين، وخافوني .
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
أي: اليومَ (وهو يومُ عَرفةَ في حَجَّةِ الوداعِ) أكملتُ لكم دِينَ الإسلامِ- أيُّها المؤمنونَ .
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.
أي: وأتممْتُ عليكم نِعمتي- أيُّها المؤمنون- بإظهارِكم على المشركينَ، ونفْيِي إيَّاهم عن بلادِكم، وقطعي طمَعَهم في عودِكم إلى الشِّركِ، وإكمالِ دِينِكم .
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.
أي: واخترتُ واصطفيتُ لكم الإسلامَ دينًا، فكما ارتضيتُه لكم؛ فارْضَوْه أنتم لأنفُسِكم، وقوموا به والْزموه، ولا تتَّخذوا دِينًا سواه .
عن طارِقِ بنِ شِهابٍ، قال: (جاء رجلٌ مِن اليهودِ إِلى عُمرَ، فقال: يا أميرَ المُؤْمِنِينَ؛ آيةٌ في كِتابِكم تَقْرَؤونَها، لو علينا نَزَلتْ- مَعْشرَ اليهودِ- لَاتَّخَذْنا ذلك اليومَ عِيدًا، قال: وأيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] ، فقال عُمرُ: إِنِّي لَأعْلَمُ اليومَ الَّذي نَزَلَتْ فيه، والمكانَ الَّذي نزلَتْ فيه، نزلَتْ على رسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم بعَرفاتٍ في يومِ جُمُعَةٍ) .
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ.
أي: فمَن ألجأتْه الضرورةُ لأكْلِ شيءٍ من هذه المحرَّماتِ، التي ذَكَرها اللهُ تعالى في هذه الآيةِ .
غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ.
أي: غيرَ مُريدٍ لهذه المحرَّماتِ؛ بألَّا يأكُلَ حتى يُضطَرَّ، ولا يَزيدَ في الأكْلِ على كِفايتِه .
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: فله تناولُ ذلك، واللهُ غفورٌ له؛ لأنَّه تعالى يعلَمُ حاجةَ عبْدِه المضطرِّ، وافتقارَه إلى ذلك؛ فيتجاوزُ عن أكْلِ ما حرَّمَه، ورحيمٌ به حيثُ أباحَ له الأكْلَ في هذه الحالِ

.
الفوائد التربوية:

1- عِظَم خَطر الشِّرك، وأنَّه يؤثِّرُ حتى في الذبائح؛ لقوله: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ
.
2- تأثيرُ النيَّة في العملِ؛ لقوله: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ أي: للأصنامِ؛ فإنَّه يكون حرامًا حتى ولو ذُكِرَ اسمُ الله عليه؛ وذلك لتأثير النيَّة، وأنَّ النيَّةَ تؤثِّرُ حتى في حِلِّ الشيءِ وتحريمِه، وكذلك في قوله: غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ .
3- تحريمُ خَشية الكفَّارِ التي يترتَّب عليها المُداهنةُ في دِينِ الله؛ لقوله: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ .
4- التَّحريضُ بأكملِ ما يكونُ على التمسُّكِ بما شرَعَ اللهُ تعالى، وذلك في قولِه سبحانه: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ؛ لأنَّه قد حصَل لهم اليأسُ مِن دينِكم؛ فإذا صارَ الأمرُ كذلك فيجبُ عليكم ألَّا تَلْتَفِتوا إليهم وألَّا تخافوهم، وأنْ تُقبِلوا على طاعةِ الله عزَّ وجلَّ، والعملِ بشَرائعِه

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَدْ حرَّم الله الاستقسامَ بالأزلامِ في قوله: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ؛ لأنَّه من الخُرافاتِ والأوهامِ التي لا يَركَنُ إليها إلَّا مَن كان ضعيفَ العقل؛ يَفعلُ ما يَفعلُ من غير بيِّنةٍ ولا بصيرةٍ، ويترُك ما يترُك عن غير بيِّنةٍ ولا بصيرةٍ، ويَجعل نفْسَه أُلعوبةً للكَهَنَة والسَّدَنَة، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأْلَ فيه ولا شُؤْم، فلا غَرْوَ أنْ يُبطِلَ ذلك دِينُ العقْلِ والبصيرة والبرهان، كما أَبطَلَ التطيُّرَ
، والكِهانةَ ، والعِيافةَ ، والعِرافة ، وسائرَ خُرافات الجاهليَّة، ولا يَليق ذلك كلُّه إلَّا بجهلِ الوثنيَّةِ وأوهامِها .
2- قوله: ذَلِكُمْ فِسْقٌ المشارُ إليه كلُّ ما سبَق؛ لأنَّ القاعدةَ: أنَّه إذا أمكن أن يعودَ اسمُ الإشارةِ أو الضَّميرُ إلى كلِّ ما سبَق، حُمِلَ عليه .
3- قوله: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الفرق بين الخَشْيَةِ والخوف: أنَّ الخشية تكون عن عِلمٍ، والخوف لا يلزم أن يكونَ عن عِلمٍ، كذلك الخشيةُ تكون مِن عِظَمِ الْمَخْشِيِّ، وإنْ كان الخاشي قويًّا، لكنَّ الْمَخْشِيَّ يكون أقوى منه، والخوف لا يدلُّ على عِظَم الْمَخُوفِ، وإنَّما يدلُّ على ضَعْف الخائِفِ أمامَ مَن يَخاف منه وإنْ لم يكن قويًّا، وهذا فرقٌ واضِحٌ؛ فالطِّفل الذي له أربعُ سَنواتٍ يَخاف من الطِّفلِ الذي له ثمانِي سنواتٍ، مع أنَّ الثاني ضعيفٌ، لكنَّ الذي يَخشى مِن مَلِك أو صاحبِ سلطانٍ قويٍّ، هذا يُـقال: إنَّه خاشٍ .
4- قوْلُه تعالى: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ المرادُ من الدِّين دِينُ الإسلامِ، وإضافتُه إلى ضَميرِ المسلمين؛ لتشريفِهم بذلك ، وليَفْخروا ويعتزُّوا بتمسُّكِهم به، ويُدافِعوا عنه .
5- بيانُ نِعمة الله على هذه الأمَّة- وله الحمدُ والمِنَّة- بإكمالِ الدِّين؛ لقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، فهذه أكبَرُ نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ على هذه الأمَّةِ؛ حيث أكمَلَ تعالى لهم دينَهم، فلا يحتاجونَ إلى دينٍ غَيرِه، ولا إلى نبيٍّ غيرِ نَبيِّهم- صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليه؛ ولهذا جَعَله اللهُ خاتَمَ الأنبياءِ، وبعَثَه إلى الإنسِ والجِنِّ، فلا حلالَ إلَّا ما أحَلَّه، ولا حرامَ إلا ما حَرَّمه، ولا دِينَ إلا ما شَرَعه. وفيه بيانُ شرَفِ ذلك اليوم الذي أُكْمِلَ فيه الدِّينُ؛ لأنَّه لولا ذلك لم يكُن لقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فائدةٌ .
6- في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بيانُ أنَّ الدِّين كاملٌ، فكل مُتكلِّف يزعُمُ أنَّه لا بدَّ للنَّاسِ- في مَعرفةِ عقائدِهم وأحكامِهم - مِن معرفةِ علومٍ غيرِ عِلم الكتابِ والسُّنة، من عِلم الكلامِ وغيره؛ فهو جاهلٌ، مُبطِلٌ في دعواه، قد زعَم أنَّ الدِّين لا يكمُل إلَّا بما قالَه ودعا إليه، وهذا من أعظمِ الظُّلم والتَّجهيلِ لله ولرسولِه ، قال الإمامُ مالِكُ بنُ أنسٍ: (مَن أحدَثَ في هذه الأمَّةِ شيئًا لم يكُنْ عليه سَلَفُها؛ فقد زعم أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم خان الرِّسالةَ؛ لأنَّ اللهَ يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، فما لم يكُنْ يومَئذٍ دِينًا؛ فلا يكونُ اليومَ دِينًا) .
7- قوْلُه تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا فيه إشارةٌ لى أنَّ نَسْخَ الأحكامِ قد انتهى، وأنَّ هذا الدِّين دينٌ أبديٌّ؛ لأنَّ الشيءَ المختار المدَّخر لا يكونُ إلَّا أَنْفَسَ ما أُظْهِرَ من الأديانِ، والأَنفَسُ لا يُبطِلُه شيءٌ؛ إذ ليس بعده غايةٌ .
8- أفاد قولُه: فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بعد قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ حُكمًا شرعيًّا، وهو أنَّه تعالى غفَر للمضطرِّ الذنبَ بتناوُلِ هذا المحرَّم، ورحمِه بإباحتِه له، فالأحكامِ تؤخَذُ من أسماء الله عزَّ وجلَّ؛ لا سيَّما المتعدِّيَة، فلا بدَّ أن يكونَ لها أثرٌ، كما في قوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 34] يعني: إذا تاب قُطَّاعُ الطريق قبل القُدرَةِ عليهم سقَطَ عنهم الحدُّ

.
بلاغة الآية:

1- قوله: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ: خصَّ المنخنقةَ وما عُطفِ عليها مِن الْمَيتاتِ بالذِّكر- مع كونِها داخلةً في عمومِ الْمَيتةِ بالمعنى الشَّرعي-؛ لأنَّ بعضَ العربِ في الجاهليَّةِ كانوا يأكلونَها، ولئلَّا يغترَّ أحدٌ باستباحةِ بعضِ أهلِ الجاهليَّةِ لها، ولئلَّا يشتَبِهَ فيها بعضُ النَّاسِ؛ لأنَّ لِمَوتها سببًا معروفًا
.
2- قوْلُه تعالى: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ما ذُبِح على النُّصُبِ جزءٌ مِمَّا أُهِلَّ به لغيرِ اللهِ، لكن خُصَّ بالذِّكر بَعدَ جِنسِه؛ لشُهرةِ الأَمْرِ، وتَعظيمِ النُّفوسِ له ، ولإزالة وَهمِ مَن توهَّم أنه قد يَحِلُّ بقصْدِ تعظيمِ البيتِ الحرامِ إذا لم يُذكَرِ اسمُ غيرِ اللهِ عليه .
3- قوله: ذَلِكُمْ فِسْقٌ: اعتراضٌ وقَعَ بين آيةِ المحرَّماتِ المتقدِّمة، وبين آية الرُّخصة الآتية: وهي قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ، وفائدتُه تأكيدُ معنى التحريمِ، وكذلك ما بعده الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ...؛ لأنَّ تحريمَ هذه الخبائِثِ من جُملة الدِّين الكامِلِ والنِّعمةِ التامَّة، والإسلامِ المنعوتِ بالرِّضا دونَ غيرِه من المِلَل .
4- قوْلُه تعالى: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ أفاد مفادَ صِيغةِ الحصر، ولو قيل: (فإيَّاي فاخشون) لجرَى على الأكثر في مقامِ الحَصْر، ولكن عدَل إلى جُملَتَي نفيٍ وإثباتٍ؛ لأنَّ مفاد كِلتا الجملتينِ مقصودٌ، فلا يَحْسُن طيُّ إحداهما، وهذا من الدَّواعي الصَّارِفَة عن صيغةِ الحَصْر إلى الإتيان بصِيغتَيْ إثبات ونفي


=====4.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (4 - 5)
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ
غريب الكلمات:

الْجَوَارِحِ: أي: الصَّوائِدِ أو الكَواسِبِ- كالكِلابِ والفُهودِ، والصُّقورِ وأشباهِها- وهي ما صِيدَ به من سِباعِ البَهائِمِ والطَّير، أو كِلابِ الصَّيد، وأصلُ الاجتراح: الاكتسابُ
.
مُكَلِّبِينَ: أي: أصحابَ ضَوارٍ وكلابٍ، وَالمُكَلِّبُ: الذي يعلِّم الكلبَ، ويُقال: رجلٌ مُكلِّبٌ وكَلَّابٌ، أي: صاحبُ صيدٍ بالكِلابِ .
الْمُحْصَنَاتُ: ذواتُ الأزواجِ، والمحصناتُ أيضًا: الحرائرُ وإنْ لم يَكُنَّ مزوَّجاتٍ، والعفائفُ، فهي مُحْصَنَة، إما بعفَّتها، أو تزوُّجها، أو بمانِعٍ مِن شَرَفِها وحُرِّيَّتِها، وأصلُ الحِصن: الحِفظُ والحياطةُ والحِرز .
مُحْصِنِينَ: أي: متزوِّجين وأعفَّاءَ بالنِّكاحِ، وأصلُ الحِصن: الحِفظُ والحِياطةُ والحِرز .
مُسَافِحِينَ: جمْعُ مسافِح، وهو الزَّاني، أو المجاهِر بالزِّنا، الذي يَصبُّ ماءَه حيث اتُّفِقَ، مِن سَفَحْتُ القِربةَ: إذا صَببْتَها، وسُمِّي الزِّنا سفاحًا؛ لأنَّه يُسافَحُ فيه، أي: يَصُبُّ الرَّجلُ النُّطفةَ وتَصُبُّ المرأةُ النُّطفةَ، وأصل (سفح): يدلُّ على إراقةِ شيءٍ .
أَخْدَانٍ: جمْع خِدْن، وهو الزَّاني سرًّا، أو مُصاحِبٌ وصَديق، أو خليلٌ في السِّرِّ، ويُطلَقُ كذلك على الحبيبِ والرَّفيق، وأكثرُ ذلك يُستعملُ فيمَن يصاحبُ بشهوةٍ؛ يُقال: خِدْنُ المرأةِ وخَدينُها، وأصل (خدن): المصاحَبة .
حَبِطَ: أي: بطَلَ؛ فالحَبَط: البُطلانُ والألَم، وأصلُه: أن تُكثِرَ الدابَّةُ أكلًا حتى يَنتفخَ بطنُها فتموتَ

.
مشكل الإعراب:

مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ.
مُكَلِّبِينَ: منصوبةٌ، حالٌ مِن فاعل عَلَّمْتُمْ، والتَّقدير: علَّمتُم الجَورِاحَ حالَ كونِكم مُؤدِّبينَ ومدرِّبين ومُعوِّدينَ لها على كيفيَّة الصَّيدِ.
تُعَلِّمُونَهُنَّ: فعلٌ وفاعلٌ ومفعولٌ، والجملةُ مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب، أو تكون في محلِّ نَصْبٍ، على أنها حالٌ ثانيةٌ من فاعِل عَلَّمْتُمْ، أو حالٌ من الضَّميرِ المستترِ في مُكَلِّبِينَ فتكونُ حالًا من حالٍ، وتُسمَّى المتداخِلَةَ، وعلى كلا التقديرينِ فهي حالٌ مؤكِّدةٌ؛ لأنَّ معناها مفهومٌ مِن عَلَّمْتُمْ ومِن مُكَلِّبِينَ

.
المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إنَّ أصحابَك يسألونَك عمَّا يُباحُ لهم أكْلُه من الأطعمةِ، ثم أمَرَه أن يُجيبَهم: أنَّ اللهَ أحلَّ لهم أكْلَ الطيِّباتِ، وأباحَ لهم أكْلَ ما اصطادوه عن طريقِ ما يَصيدُ بِنابِه أو مِخلَبِه من السِّباعِ والطُّيورِ، كالكِلاب والصُّقورِ، إذا عَلَّموها ودَرَّبوها على طريقةِ الصَّيد، يُعلِّمونها ممَّا امتنَّ اللهُ عليهم من العِلم بآدابِ الصَّيد، فلْيَأكلوا ممَّا أمسكْنَه لأجْلِهم؛ ولْيَذكروا اسمَ الله عليها عندَ إرسالها للصَّيد، ولْيتَّقوا اللهَ؛ فإنَّه سريعُ الحسابِ. ثم أخبَرَ تعالى عن بعضِ مظاهرِ إسباغِ نِعمِه وإكمالِ دِينه، وتيسيرِ شَرعِه، ومن ذلك أنَّه سبحانه أحل لأهلِ الكِتاب من اليهودِ والنَّصارى ذبائِحَ المسلمين؛ فلهم أن يطْعِموهم مِنها وأحلَّ للمسلمين التمتُّعَ بالطيِّباتِ، وأحلَّ لهم أكْلَ ذبائِحِ أهلِ الكِتاب من اليهودِ والنَّصارى ونِكاحَ الحرائرِ العفيفاتِ من المؤمناتِ، والحرائر العفيفاتِ من الكتابيَّات، إذا أعْطَوهُنَّ مُهورَهنَّ، في حالِ كون الأزواجِ أعِفَّاء بالنكاح، غير مُعلِنين بالزِّنا، ولا متَّخذين عشيقاتٍ يزنون بهن في السرِّ، فكما شرط العفة عن الزنا في النساء كذلك شرطها في الرجال، وأَخْبَر الله تعالى أنَّ مَن كفَر به، وكَفَر بما يجبُ الإيمانُ به؛ فقد حَبِطَ عمَلُه، وتوعَّده بأنَّه في الآخِرة من الهالِكينَ
تفسير الآيتين:

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4).
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى ما حرَّمه في الآيةِ المتقدِّمةِ من الخبائثِ الضارَّة لمُتناوِلِها- إمَّا في بدَنِه، أو في دِينه، أو فيهما- واستثنى ما استَثْناه في حالةِ الضرورةِ
- شرَع في بيانِ ما أحلَّه لهم ، فقال تعالى:
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ.
أي: يسألُكَ أصحابُك- يا محمَّد- ما الذي أُبيحَ لهم أكْلُه من الأطعِمَةِ ؟
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ.
أي: قلْ يا محمَّدُ: أُبيحَ لكم أكْلُ الطيِّباتِ، وهي الحلالُ الذي أَذِنَ لكم ربُّكم في أكْلِه من كلِّ ما فيه نفعٌ أو لذَّة، من غيرِ ضَررٍ بالبدنِ ولا بالعَقلِ .
وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ.
أي: وأُبيحَ لكم أيضًا أكْلُ ما اصطادَه لكم سِباعُ البَهائِم والطَّيرِ-كالكِلاب والصُّقور وغيرها- التي علَّمتموها؛ مُؤدِّبينَ لها ومُدرِّبين إيَّاها على كيفيَّةِ اقتناصِ الصَّيدِ .
تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ.
أي: تُؤدِّبون الجوارحَ، وتُدَرِّبونَهنَّ على طلبِ الصَّيدِ لكم، ممَّا منَّ الله تعالى به عليكم من العِلم بآدابِ الصَّيدِ، وذلك كأنْ يسترْسِلَ الجارحُ إذا أُرْسِلَ، ويَنزجرَ إذا زُجِرَ .
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ.
أي: فكُلوا- أيُّها الناس- ممَّا أمسكتْ جوارحُكم من الصَّيدِ لأجلِكم .
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ.
أي: واذكُروا اسمَ الله عندَ إرسالِ الجارِح .
عن عَدِيِّ بن حاتمٍ الطائيِّ رضي لله عنه، أنه قال: ((يا رسولَ اللهِ، إنِّي أُرسِلُ كَلبي وأُسَمِّي، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إذا أَرْسَلْتَ كلَبَك وسمَّيتَ، فأخَذ فقتَل فأكَل فلا تأكُلْ، فإنَّما أمسَك على نَفْسِه، قُلتُ: إني أُرْسِلُ كلبي فأجِدُ معَه كلبًا آخَرَ، لا أدري أيُّهما أخَذَه؟ فقال: لا تأكُلْ؛ فإنَّما سمَّيْتَ على كلبِكَ ولم تُسَمِّ على غيرِه )) .
وَاتَّقُوا اللهَ.
أي: امتثِلوا ما أمَرَكم اللهُ تعالى به، واجتنِبوا ما نهاكم عنه .
إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
أي: إنَّ الله سبحانه سريعُ الإحْصاءِ لأعمالِ عبادِه، سريعُ المجازاةِ لهم، يُحاسِبُ الخلائقَ يومَ القيامةِ على أعمالِهم في مدَّةٍ وجيزٍة جدًّا، وإن حسابَه عزَّ وجلَّ قريبٌ؛ لسرعةِ انقضاءِ الدُّنيا .
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أخبَرَ الله تعالى في الآيَةِ المتقدِّمةِ أنَّه أحلَّ الطيِّباتِ، وكان المقصودُ من ذِكره الإخبارَ عن هذا الحُكم، ثم أعاد ذِكرَه في هذه الآيةِ، والغَرضُ من ذِكره أنَّه قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فبَيَّن أنَّه كما أكملَ الدِّين وأتَمَّ النِّعمةَ في كلِّ ما يَتعلَّق بالدِّين، فكذلك أتمَّ النِّعمةَ في كلِّ ما يتعلَّق بالدُّنيا .
وأيضًا لَمَّا كان أهلُ الكتابِ في الأصل أهلَ توحيدٍ، ثم سَرَتْ إليهم نزَغَاتُ الشِّركِ ممَّن دخَل في دِينهم من المشركين، ولم يُشدِّدوا في الفصلِ بينهم وبين ماضيهم، وكان هذا مَظِنَّةَ التشديدِ في مُؤاكلةِ أهلِ الكتابِ ومُناكَحَتِهم، كما شدَّد في أكْلِ ذَبائحِ مشركي العربِ ونِكاح نسائِهم- بيَّن اللهُ في هذه الآيةِ ألَّا نُعامِلَ أهلَ الكتابِ معاملةَ المشركينَ في ذلك، فأحلَّ لنا مؤاكلتَهم، ونِكاحَ نسائِهم ، فقال:
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ.
أي: اليومَ أباح اللهُ تعالى لكم- أيُّها المؤمنون- الحلالَ من الذَّبائِحِ والأطعمةِ ممَّا ليس بضارٍّ ولا مُستقذَرٍ، دون الخبيثِ منها .
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ.
أي: وذبائحُ أهلِ الكتابِ من اليهودِ والنَّصارى حلالٌ لكم- أيُّها المؤمنون- أكْلُها .
وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ.
أي: وذبائِحُكم- أيُّها المؤمنونَ- حلالٌ لليهودِ والنَّصارى؛ فلكم أن تُطْعِموهم مِن ذبائحِكم .
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ.
أي: وأحلَّ لكم- أيُّها المؤمنون- نِكاحَ الحرائرِ العفيفاتِ من النِّساءِ المؤمناتِ .
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ.
أي: وأحلَّ لكم- أيُّها المؤمنون- أيضًا نِكاحَ الحرائرِ العفيفاتِ من نِساء اليهودِ والنَّصارى .
إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
أي: إذا أعطيتُم مَن نَكحتُم- من مُحصناتِكم ومُحصناتِهم- مُهورَهنَّ .
مُحْصِنِينَ.
أي: حالةَ كونِكم مُحْصِنِينَ لنِسائكم؛ بسببِ حفِظكم لفروجِكم عن غَيرِهنَّ، وعفَّتِكم عن الزِّنا .
غَيْرَ مُسَافِحِينَ.
أي: ولستُم كذلك بالزُّناة المُعلِنين بالزِّنا، الذين يَزنون بأيِّ امرأةٍ كانت، ولا يردُّون أنفُسَهم عمَّن جاءَهم .
وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ.
أي: ولا مِن ذوي العَشيقاتِ الذين لا يَفعلون الفاحشةَ إلَّا خُفيَةً معهنَّ .
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.
أي: ومَن كفَر بالله تعالى وما يجبُ الإيمانُ به، فقد بطَلَ ثوابُ عملِه الذي كان يَعملُه في الدُّنيا، إنْ مات على كُفرِه .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 217] .
وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
أي: وهو في الآخِرةِ من الهالِكين، الذين خَسِروا أنفُسَهم وأموالَهم وأهليهم يومَ القيامَةِ، وحصَلوا على الشَّقاوةِ الأبديَّة

.
الفوائد التربوية:

1- حِرصُ الصَّحابة رضي الله عنهم على العِلم؛ لقوله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ، ومِن هنا نَعرفُ أنَّ ما لم يَسألِ الصحابةُ عنه ممَّا يرِدُ السؤال عنه في عصرِنا من أمورِ الغيبِ، فالسؤال عنه بدعةٌ؛ لأنَّنا نعلم أنه لو كان هناك خيرٌ في العلم به لأَلْهَم الله الصحابةَ أن يسألوا عنه؛ حتى يَتبيَّنَ الأمرُ
.
2- قولُ الله تعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ (تعلمونهنَّ) المقصود منه المبالغةُ في اشتراطِ التَّعليمِ، أي: أن يكون مَن يُعلِّم الجوارحَ نِحريرًا في عِلمه، مُدرَّبًا فيه، فقيهًا عالِمًا بالشَّرائط المعتبرَة في الشَّرع لحِلِّ الصيد، ففيه فائدةٌ جليلةٌ، وهي أنَّ على كلِّ طالبٍ لشيءٍ ألَّا يأخذَه إلَّا مِن أجَلِّ العلماءِ به، وأشدِّهم درايةً له، وأغوصِهم على لَطائِفِه

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ أنَّ التَّحليلَ والتحريمَ ليس إلى العِباد، بل هو إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وقد حذَّرَنا اللهُ عزَّ وجلَّ من أن نُحلِّل أو نحرِّم بأهوائِنا، فقال: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ [النحل: 116] ، وأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا يستقلُّ بالتحليلِ أو التَّحريمِ، وجه ذلك: أنَّ الرسولَ لم يُجِبْهم، ولكنَّ الله تعالى أجابَهم، فقال: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
.
2- أنَّ كلَّ ما أحلَّه اللهُ تعالى فهو طيِّب؛ نافعٌ للبَدَن ونافعٌ للقلب، ونافعٌ للفَرْد ونافعٌ للمجتمع؛ لقوله: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وأيضًا نأخُذ من المفهومِ أنَّ كلَّ ما حرَّمه الله تعالى فهو خبيثٌ .
3- قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ نصَّ في هذه الآيةِ ونظائِرِها على إباحةِ المستلذَّات والطيِّبات، فصار هذا أصلًا كبيرًا، وقانونًا مرجوعًا إليه في معرفةِ ما يَحِلُّ ويَحرُم من الأطعمةِ؛ فالطيِّباتُ وصفٌ للأطعمة قُرِن به حُكمُ التحليلِ؛ فدلَّ على أنَّ الطيِّبَ علَّةُ التحليلِ، وأفاد أنَّ الحرامَ ضدُّه، وهو الخبائثُ .
4- في قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ لُطْفُ اللهِ بعباده ورَحمتُه بهم؛ حيث وسَّعَ عليهم طُرُقَ الحلالِ .
5- جوازُ اقتناءِ كَلب الصَّيدِ، مع أنَّ اقتناءَ الكلب مُحرَّمٌ؛ لأنَّ مِن لازِمِ إباحةِ صَيده وتَعليمِه جوازَ اقتنائِه، وطهارةَ ما أصابه فمُ الكلْبِ من الصَّيد؛ لأنَّ الله أباحه ولم يذكُرْ له غَسلًا؛ فدلَّ على طهارَتِه؛ قال تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ .
6- في قوله تعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ فضيلةُ العِلم، وأنَّ الجارِحَ المـُعلَّم- بسبب العِلم- يُباحُ صيدُه، والجاهل بالتَّعليمِ لا يُباح صيدُه .
7- أنَّ الاشتغالَ بتعليمِ الكلبِ أو الطَّيرِ أو نحوهما، ليس مذمومًا، وليس من العبَثِ والباطِلِ، بل هو أمرٌ مقصودٌ؛ لأنَّه وسيلةٌ لحِلِّ صيدِه والانتفاعِ به، يُؤخَذ ذلك مِنْ قَوْلِه تعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ .
8- قوله: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ الجوارحُ يَدخُل فيها كلُّ ما يُمكنُ الاصطيادُ به، كالفهدِ والسِّباعِ والعُقابِ والصَّقرِ وغيرها؛ فهذه كلُّها جوارحُ، وإنَّما عبَّر بقوله: مُكَلِّبِينَ؛ لأنَّ المكلِّبَ هو مُؤدِّبُ الجوارحِ ومُعلِّمُها أنْ تصطادَ لصاحبِها، وأصلُ (كلب) يدلُّ على تَعلُّقِ الشَّيءِ بالشَّيءِ في شِدَّةٍ وشِدَّةِ جَذْبٍ، ومِن ذلك: الكَلْبُ. وإنما اشتُقَّ اسمُ (مُكلِّبِين) مِن الكَلْبِ؛ لأنَّ التأديبَ أكثرُ ما يكونُ في الكِلاب؛ فاشتُقَّ منه هذا اللفظُ لكثرتِه في جِنسِه. وأيضًا لأنَّ كلَّ سَبُع فإنَّه يُسمَّى كلبًا. أو يكون قوله: مُكَلِّبِينَ مأخوذًا مِن الكَلَب الذي هو بمعنى الضَّراوةِ والحِرص على الشيء، ولو فُرِض أنَّ المذكور في هذه الآية إباحةُ الصيدِ بالكلْبِ فقط؛ فتخصيصُه بالذِّكرِ لا يَنفي حِلَّ غيره؛ بدليلِ أنَّ الاصطيادَ بالرَّمْي ووضْعِ الشَّبكةِ جائزٌ، وهو غيرُ مذكورٍ في الآيةِ .
9- قطعُ ما يُوجِبُ الإعجابَ بالنَّفْس؛ لأنَّ قوله: تُعَلِّمُونَهُنَّ فيه إسنادُ التعليمِ إلى البَشرِ، فقدْ يُزهَى الإنسانُ بنفْسِه ويغترُّ ويُعجَب؛ فلهذا قال الله عزَّ وجلَّ: مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ؛ إشارةً إلى أنَّ عِلمَك الذي تُعلِّمه إيَّاهنَّ مَصدُره مِن عندِ الله عزَّ وجلَّ .
10- قوله: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ، فيه توسعةُ الله عزَّ وجلَّ على عبادِه في أسبابِ الرِّزقِ، فقد رَخَّص في الصيد بالجارحةِ؛ لأنَّه يشقُّ على الإنسانِ أن يصطادَ الصيدَ بنفسِه في كلِّ وقتٍ وحينٍ؛ لأنَّ المصيدَ ربَّما يكون مَثلًا في جبالٍ أو في سهولٍ أو في أوديةٍ، ولا يستطيعُ أن يَصيدَه بنفسِه .
11- أنَّه يجوزُ أكْلُ ما صادَه الجارحُ، سواء قتَلَه الجارحُ أم لا، قال سبحانه: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وإنْ أدركَه صاحِبُه، وفيه حياةٌ مستقرَّة، فإنَّه لا يُباحُ إلَّا بتذكيتِه .
12- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أنَّ الأصلَ في الأطعمَةِ الحِلُّ، ومن الأدلَّة أيضًا قولُه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] ، فالأصلُ الحِلُّ، ومَن ادَّعى في شيءٍ التحريمَ لزِمَه الدليلُ على ذلك .
13- أنَّ مَن سِوى اليهودِ والنَّصارى لا تَحِلُّ ذَبيحتُهم؛ كالمجوسِ والوثنيِّين والشيوعيِّين والمشركينَ ومَن أشبَهَهم؛ يُؤخَذُ ذلِك من مفهومِ قولِه: الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ .
14- حِلُّ المحصَنات من أهلِ الكتابِ كحِلِّ المحصَناتِ من المؤمنات؛ لأنَّ الله قال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ؛ فالله يُبيِّن أنَّ المحْصَناتِ من المؤمناتِ والمحصناتِ من الذين أُوتُوا الكتابَ سواءٌ في الحِلِّ، ولكنْ لا يلزَمْ من تساويهنَّ في الحِلِّ أن يتساوَيْنَ في الإقدامِ عليهنَّ، قد يكون الشيءُ حلالًا، ولكن نقول: الأفضلُ ألَّا تُقْدِمَ عليه .
15- أنَّ المهرَ بمنزلةِ الأُجرةِ؛ لقوله: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ، وتقييدُ الحِلِّ بإيتاءِ الأُجورِ؛ لتأكيدِ وُجوبها، والحثِّ على ما هُوَ الأَوْلى .
16- أنَّ المقصودَ الأعظمَ من النِّكاح هو الإحصانُ؛ لقوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ .
17- الإشارةُ إلى أنَّه يَنبغي إعلانُ النِّكاحِ؛ لأنَّه قال: غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ، والأَخدانُ الأخلَّاءُ في السِّرِّ .
18- أنَّ الاستمتاعَ بالنِّساءِ ينقسِمُ إلى أقسامٍ في قوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ: تحصين، وسِفاح، واتِّخاذ أخدان، والفرقُ بينها: أنَّ الأوَّل: عَقْد شرعيٌّ، والثاني: زِنًا مُعلَن، والثالث: زِنًا سِرِّيٌّ .
19- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ، ومِنْ قَوْلِه: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ طهارةُ بدَنِ الكافر؛ لأنَّه لا بدَّ أن يلامسَ الطَّعامَ، وأيضًا في النِّكاحِ لا بدَّ أن يكونَ مِنَ الزَّوجِ مع زوجته الكتابيَّة ما يَقتضي التنجيسَ لو كانت نجِسةً، وفي الآيةِ أيضًا دليلٌ على أنَّ آنيتَهم طاهرةٌ، إلَّا ما عُلِم نجاستُه منها؛ كأواني المسلمينَ .
20- أنَّ الإماءَ مِن أهل الكتابِ لا يُبَاح للمسلمِ الزواجُ بهنَّ ولو خاف العنَتَ؛ دليله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، أمَّا الإماءُ من المؤمنات فيحلُّ للمسلمِ الزواجُ بهنَّ عند الضَّرورةِ على حسَب ما ورد في سورة النساءِ مِنْ قَوْلِه: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء: 25] .
21- قول الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ جملةٌ معترِضَةٌ بين الجُمل، والمقصود التنبيهُ على أنَّ إباحةَ تزوُّجِ نِساءِ أهلِ الكتابِ لا يَقتضي تزكيةً لحالِهم .
22- قولُ الله تعالى: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ تسميةُ المهرِ بالأجْرِ يدلُّ على أنَّ الصَّداقَ لا يَتقدَّرُ، كما أنَّ أقلَّ الأجرِ لا يتقدَّر في الإجاراتِ .
23- ذَكَر الله تعالى حِلَّ المُحصَنات من المؤمناتِ في أثناءِ إباحةِ طعامِ أهلِ الكتاب وإباحةِ تزوُّجِ نسائهم فقال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ؛ إيماءً إلى أنهنَّ أَوْلى بالمؤمنينَ من مُحصَناتِ أهلِ الكِتاب

.
بلاغة الآيتين:

1- قوله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ: عبَّر بالمضارِعِ في قوله: يَسْأَلُونَكَ؛ للدَّلالةِ على تجدُّد السُّؤالِ، أي: تكرُّره، أو توقُّع تكرُّره
.
2- قوله: وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ:
- تذييلٌ عامٌّ خُتمت به آية الصَّيد، وهو عامُّ المناسَبةِ .
- وقوله: إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ جملة خبريَّة مؤكَّدة بـإِنَّ، والغرضُ منها التخويفُ من اجتنابِ التقوى، وأنَّ مَن لم يتَّقِ الله، فـإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي: إنَّ الله تعالى سيُحاسِبكم على أعمالِكم، وقوله: سَرِيعُ الْحِسَابِ يتضمَّن سُرعةَ التنفيذِ من وجهٍ، وسرعةَ الوقتِ من وجهٍ آخَرَ .
- وإظهارُ الاسمِ الجليلِ (الله) في موقعِ الإضمار؛ لتربيةِ المهابة، وتعليلِ الحُكمِ .
3- قوله: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ: فيه تَكرارُ (اليوم) للتأكيدِ، وهذا بناءً على أنَّ المرادَ بالأيَّامِ الثلاثةِ وقتٌ واحدٌ ، وفائدةُ إعادةِ ذِكر إحلالِ الطيِّباتِ: التنبيهُ بإتمامِ النِّعمةِ فيما يَتعلَّق بالدُّنيا .


=====5.


سُورةُ المائِدَةِ
الآية (6)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
غريب الكلمات:

الْمَرَافِقِ: جمْع مِرْفَق، وهو مَوْصِلُ الذِّراعِ في العَضُد، وسُمِّي مِرفقًا؛ لأنَّه يُستراحُ في الاتِّكاءِ عليه؛ يُقال: ارتفق الرَّجُل: إذا اتَّكأ على مِرفقِه في جُلوسِه
.
جُنُبًا: أي: إنْ أصابتْكم الجَنابة؛ سُمِّيت الجنابةُ بذلك؛ لكونِها سببًا لتجنُّب الصلاةِ في حُكم الشَّرعِ، وأصل (جنب): البُعد .
الْغَائِطِ: هو كنايةٌ عن قَضاءِ الحاجةِ؛ والغائطُ المطمئِنُّ من الأرضِ، وجُعِلَ كنايةً عن قضاءِ الحاجةِ؛ لأنَّهم كانوا إذا أرادوا قَضاءَ الحاجةِ أتَوْا غائطًا من الأرضِ، ففَعلوا ذلِك فيه؛ فقِيل لكلِّ مَن قضَى حاجتَه: مُتغوِّط، وأُطْلِقَ الغائطُ على العَذِرَة نفْسِها. وأصْل (غوط): يدلُّ على اطمئنانٍ وغورٍ .
فَتَيَمَّمُوا: اقصِدوا وتَعمَّدوا، وأصلُ التيمُّم: قصْدُ الشيء وتعمُّده .
صَعِيدًا: ترابًا، والصَّعيد: الغُبار الذي يَصعَد؛ من الصُّعود، ويُطلق أيضًا على وجْه الأرض .
حَرَجٍ: أي: ضِيق وإثم، وأصل الحرَج: تجمُّع الشيء وضيقُه

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَأَرْجُلَكُمْ: قُرِئ بالنَّصب والجرِّ؛ فعلى قِراءةِ النَّصْب تكون معطوفةً على الوجوه والأيدي في فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ؛ أي: فاغْسلوا وجوهَكم وأيديَكم وأرجلَكم. وقيل: هي معطوفةٌ على موضِع بِرُؤوسِكُمْ، والأوَّل أقوى؛ لأنَّ العطفَ على اللفظ أقوى من العَطف على الموضِع. وأمَّا على قِراءة الجرِّ- وهي مشهورةٌ كشهرة النَّصب- فإنَّها تُعرَب على الجوارِ؛ فتكون معطوفةً على بِرُؤوسِكُمْ في الإعرابِ، والحُكم مختلفٌ؛ فالرؤوسُ ممسوحةٌ، والأرجلُ مغسولةٌ، ويُمكِنُ أنْ تكونَ مَعطوفةً على بِرُؤُوسِكُمْ لفظًا ومعنًى، أي: إعرابًا وحُكمًا، ويُحمَل مَسْحُ الأَرْجُلِ على بَعضِ الأحوالِ، وهو لُبْسُ الخُفِّ، وقيل غيرُ ذلك

.
المعنى الإجمالي:

يَأمُر اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنين إذا أرادوا القيامَ إلى الصَّلاةِ أن يَغسِلوا وجوهَهم، وأيديَهم من أطرافِ الأصابِعِ إلى المِرفقينِ، وأن يَمْسحوا جميعَ الرأسِ، ويَغسِلوا أرجلَهم مِن أطرافِ الأصابِعِ إلى الكَعبينِ، ويأمُرهم سبحانه- إنْ أصابتْهم جَنابةٌ- أن يَغتسِلوا إذا ما أرادوا القيامَ إلى الصَّلاة، وإنْ كانوا مَرْضَى يتعذَّرُ عليهم استعمالُ الماء، أو مُسافرين، أو قَضَى أحدهم حاجتَه من بولٍ أو غائط، أو لامَس النِّساءَ، ولم يجدْ ماءً لِيتطهَّرَ به، فلْيقصدْ وجهَ الأرضِ الطاهرَ النَّظيفَ، ولْيَمْسح منه وجهَه وكفَّيه، ثم أخبر تعالى أنَّه شرَع هذه الأحكامَ حتى لا يجعلَ الناسَ في عُسرٍ وحَرَجٍ، فالله سبحانه يُريد أن يُطهِّر عبادَه ظاهرًا بما شرَعه من الوضوءِ والغُسل والتيمُّم، وباطنًا بتكفيرِ السيِّئات، ويُريدُ سبحانه أن يُتِمَّ نِعمتَه على عبادِه بإكمالِ الشَّرائِعِ، وتسهيلها عليهم؛ لعلَّهم يَشْكُرونَه على ذلِك.
تفسير الآية:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا افتتَح اللهُ تعالى السُّورةَ بالأمْرِ بإيفاءِ العهودِ، وذكَر تحليلًا وتحريمًا في المطعَمِ والمنكَحِ، واستقصى ذلك، وكان النوعانِ معاملاتٍ دُنيويَّةً بين النَّاس بعضِهم من بعضٍ، استطرَد منها إلى المعاملاتِ الأُخرويَّة التي هي بين العبدِ وربِّه سبحانه وتعالى، ولَمَّا كان أفضلُ الطاعاتِ بعد الإيمانِ الصَّلاةَ، والصلاةُ لا تُمكن إلَّا بالطَّهارةِ، بدأَ بالطَّهارةِ
.
وأيضًا قد افتتَحَ الله سبحانه السورةَ بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ؛ والعهد نوعان: عهدُ الربوبيَّةِ من الله، وعهد العبوديَّة من العباد، فقدَّم الوفاءَ بعهد الربوبيَّة والكَرَم، ولَمَّا كانت منافِعُ الدُّنيا محصورةً في نوعينِ: لذَّات المطعم، ولذات المنكَح، فاستقصى سبحانَه في بيان ما يَحِلُّ ويَحرُم من المطاعِم والمناكِحِ، ولَمَّا كانت الحاجةُ إلى المطعومِ فوقَ الحاجَةِ إلى المنكوحِ، لا جرَم قدَّمَ بيانَ المطعوم على المنكوح، وعندَ تمامِ البيان كأنَّه يقول: قد وفيتُ بعهدِ الربوبيَّة فيما يُطلَب في الدُّنيا من المنافِعِ واللذَّات، فاشتغِلْ أنت في الدُّنيا بالوفاءِ بعهدِ العبوديَّة، فلمَّا كان أعظمُ الطَّاعاتِ بعد الإيمان الصلاةَ، ولا يمكن إقامتُها إلَّا بالطَّهارةِ لا جرَم بدأَ الله تعالى بذِكر شرائِطِ الوضوء .
وأيضًا لَمَّا ذَكَرَ ما يتعلَّق بالمطعَم والمنكَحِ، وكان الحَدَثان (الأصغر والأكبر) اللَّذان هما سببُ الطَّهارتين هما أثَرُ الطَّعامِ والنِّكاحِ، فلولا الطعامُ لَمَا كان الغائطُ الموجِبُ للوضوء، ولولا النكاحُ لَمَا كانت ملامسةُ النِّساءِ الموجِبة للغُسل ؛ لذا قال سبحانه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، إذا أردتُم القيامَ إلى الصَّلاةِ .
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ.
أي: فاغْسلوا الوجهَ، وهو ما تحصُلُ به المواجهةُ، من مَنابِتِ شَعرِ الرَّأس المعتاد، إلى ما انحدَر من اللَّحيينِ والذَّقن طولًا، ومِن الأُذنِ إلى الأُذُن عَرضًا .
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ.
أي: واغْسِلوا اليدَ كاملةً مِن أطرافِ الأصابِعِ إلى المِرفَقِ- وهو مِفْصلُ العَضُد مِن الذِّراع- مع غَسْلِه .
وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ.
أي: وامْسَحوا جميعَ الرأسِ .
عن عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ رضي الله عنه، أنَّه قال في وصْفِ وُضوءِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((... ثم مَسَحَ رأسَه بيدَيه، فأَقبلَ بهما وأَدْبرَ، بدَأ بمُقَدَّمِ رأسِه حتى ذهبَ بهما إلى قَفاه، ثم ردَّهُما إلى المكانِ الذي بدَأَ منه... )) .
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
القِراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفسيرِ:
في قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ قراءتان:
1- قِراءةُ وَأَرْجُلَكُمْ بالنَّصب عطفًا على الوُجُوهِ والأيدي في قولِه تعالى: اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ؛ فالواجبُ غَسلُها إذا كانت مكشوفةً .
2- قراءة وَأَرْجُلِكُمْ بالجَرِّ عطفًا على (رُؤُوسِكم ) في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ، والمسحُ في كلامِ العَرَبِ يكون غسلًا، ويكون مَسحًا باليَدِ، والأَخْبارُ جاءت بغَسْلِ الأَرْجُلِ ومَسْحِ الرُّؤُوسِ، أو يكون الخفضُ حَمْلًا على العَامِل الأَقْرَبِ للجِوَارِ، ومِن أهْلِ العِلْمِ مَن حَمَلَ قراءةَ الجرِّ على مَسْحِ القَدَمينِ إذا كان عليهما الخُفَّانِ .
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
أي: واغْسِلوا الرِّجلَ كاملةً من أطرافِ الأصابعِ إلى الكَعب- وهو العَظْمُ الناتئُ عند مِفصَل السَّاق والقَدَم- مع غَسْله، إذا كانت مكشوفةً، وامسحوا على الخُفِّ إذا كانت مستورةً به .
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا.
أي: وإنْ أصابتْكم جنابةٌ فاغتسلوا قبل أن تَقوموا إلى الصَّلاةِ .
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى.
أي: وإنْ كُنتم ذَوي مَرَضٍ، يتعذَّرُ معه استعمالُ الماءِ .
أَوْ عَلَى سَفَرٍ.
أي: وإنْ كُنتم مسافرينَ .
أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ.
أي: أو كنتُم مُحْدِثينَ؛ الحدَثَ الأصغرَ .
أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ.
أي: أو جامعتُم النِّساءَ .
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا.
أي: إنْ حصَلَتْ إحدى الحالاتِ السَّابقِ ذِكرُها- كالسَّفرِ- ففقدتُم الماءَ، فعليكم بقَصدِ وجهِ الأرضِ الطَّاهرِ النَّظيفِ .
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ.
أي: فامْسَحوا مِن هذا الصَّعيدِ الطيِّبِ الوجهَ والكفَّينِ .
مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ.
أي: لا يُريدُ الله تعالى بما فرَض عليكم من هذه الأحكامِ أن تَقَعُوا في الضِّيقِ والعُسرِ .
وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ.
أي: ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُريد أن يُطهِّركم بما فرَض عليكم من وضوءٍ أو غُسلٍ أو تيمُّمٍ، فتتطهَّروا ظاهرًا طهارةً حسيَّة لأبدانِكم، وتتطهَّروا طهارةً معنويَّةً بتكفيرِ سيِّئاتِكم، ومَحوِ خطيئاتِكم .
وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ.
أي: ويُريد ربُّكم سبحانه أيضًا إتمامَ نِعمَتِه عليكم ببيانِ شرائِعِ دِينه، وتيسيرها لعِبادِه .
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أي: كي تَشكُروا الله تعالى- بقلوبِكم وألسنتِكم وجوارحِكم- على نِعَمِه عليكم

.
الفوائد التربوية:

1- أنَّ الطَّهارةَ من مُقتضياتِ الإيمانِ؛ كأنَّه قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لإيمانِكم افعلوا كذا وكذا؛ ومِن ثَمَّ فإنَّ الإيمانَ يَزيد بالطَّهارةِ، وضوءًا كانتْ أو غُسلًا أو تيمُّمًا؛ لأنَّها إذا كانت من مُقتضياتِه لَزِم أن يَزيدَ بزيادتِها، ويَنقُصَ بنُقصانها، وأنَّ الإخلالَ بها منافٍ لكمالِ الإيمانِ
.
2- التَّكنِيَة عمَّا يُستقبحُ ذِكرُه؛ لقولِه: مِنَ الْغَائِطِ وقوله: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ .
3- الإشارةُ إلى أنَّه يَنبغي لقاضي الحاجةِ أن يَستترَ حتى يتوارى عن النَّاسِ؛ وجهُه قوله تعالى: مِنَ الْغَائِطِ، فالغائط هو المكان المطمَئِنُّ الهابطُ من الأرض، كانوا ينتابونه لقضاءِ الحاجة، ليستتروا به عن النَّاس .
4- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وفي قراءةٍ أخرى وَأَرْجُلِكُمْ بالكسرِ، أنَّها جُرَّتْ مُنَبِّهَةً على عدمِ الإسرافِ باستعمالِ الماء؛ لأنَّها مظنَّةٌ لصبِّ الماءِ كثيرًا، فعُطِفَتْ على الممسوح؛ لا لتُمْسَحَ، ولكِنْ لِيُنَبَّهَ على وجوبِ الاقتصادِ في صبِّ الماءِ عليها؛ وأنَّ مِن سُنَنِ الوضوءِ الاقتصادَ في الماء .
5- التَّرغيبُ في التَّزكيةِ والتطهيرِ؛ يُرشِدُ إلى ذلك قولُه تعالى: وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، أي: يُكْمِل نِعمةَ الإسلام بزِيادَةِ أحكامِه الرَّاجِعَة إلى التَّزكيةِ والتَّطهيرِ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- وجوبُ استيعابِ الوَجْهِ بالغسْلِ؛ لقوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
.
2- وجوب غَسلِ الأيدي من أطرافِ الأصابِعِ إلى المرافِقِ؛ لقوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ .
3- وجوبُ غَسلِ الرِّجل إلى الكَعبينِ، والكعبانِ داخلانِ في الغَسْل؛ لقوله: إِلَى الْكَعْبَيْنِ .
4- قولُ الله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ الفصلُ بالمسحِ بين المغسولاتِ مُعْلِمٌ بوجوبِ الترتيبِ .
5- التَّثليثُ في أعمالِ الوضوءِ سُنَّةٌ لا واجب، إنَّما الواجب هو المرَّة الواحدةُ، والدَّليلُ عليه أنَّه تعالى أَمَر بالغَسْل، فقال: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وماهيَّةُ الغسل تَدخُل في الوجودِ بالمرَّةِ الواحدةِ .
6- حِكمةُ الشَّرع في التَّطهيرِ؛ حيث كان الاقتصارُ على أربعةِ أعضاءٍ في الحدَثِ الأصغَرِ؛ لأنَّ هذه الأعضاءَ هي غالبًا أدواتُ العَمَل وآلاتُ العمل، فالبَطشُ باليد، والمشيُ بالرِّجْل، والبَصرُ والشمُّ والكلامُ في الوجه، والسَّمعُ والتخيُّل والتفكيرُ في الرَّأس، فشُرع تطهيرُ هذه الأعضاء الأربعة؛ أمَّا في الجنابة فشُرِعَ للإنسانَ أنْ يُطهِّرَ جميعَ بدنه؛ وذلك لأنَّ الجَنابة تُخلخِلُ البدنَ كلَّه، ولهذا يَضعُف الإنسانُ إذا حصَلت منه الجَنابةُ، ويُؤمَرُ إذا أراد أن يعودَ أن يغتسلَ فإنْ لم يُمْكِنْه فليتوضَّأ .
7- في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا: جاء المخاطَب جماعة، والخبر بصِيغة الإفراد؛ حيث لم يقُل: (إن كنتم جُنُبِين)، بل قال: جُنُبًا؛ لأنَّ كلمة (جنب) في اللُّغة الفصحى يستوي فيها المفردُ والاثنان والجَماعةُ .
8- في قوله تعالى: فَاطَّهَرُوا أنَّ الغُسْلَ لجميعِ البَدن؛ لأنَّه أطْلَقَ ولم يخصَّ الأعضاءَ كما في الوضوء .
9- أنَّه لا يُشتَرَط في الغُسل ترتيبٌ، وأنَّ المغتَسِل لو بدأَ مِن أسفلِ بدنِه أو مِن وَسَط بَدَنِه أو من أعلى بَدَنِه وعمَّه بالماءِ؛ كان ذلك مُجزئًا؛ لأن الله تعالى قال: فَاطَّهَّرُوا ولم يُفَصِّلْ .
10- أنَّ غُسْلَ الجَنابة تُستباحُ به الصَّلاة، وأنَّه لا يجبُ الوضوءُ معه؛ وجهُ الدَّلالة: أنَّ الله قال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا، ولم يذكر وضوءًا حتى لو لم يَنوِ إلَّا رَفْعَ الحدَث الأكبرِ، فإنَّه يُجزِئه؛ لعمومِ الآية .
11- أنَّ التيمُّم جائزٌ في الحدَثِ الأصغر وفي الحَدَثِ الأكبر؛ لأنَّ الآيةَ واضحةٌ؛ قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا، ثم قال: عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ذَكَرَ الله تعالى التيمُّمَ بعد الوضوءِ وبعد الغُسْلِ من الجنابَةِ، فيكون في ذلك دليلٌ على أنَّ مَن عليه غُسلُ الجنابةِ إذا لم يَجِدِ الماءَ، فإنَّه يتيمَّمُ ويُصلِّي .
12- أنَّه لا يجب التطهُّرُ بغيرِ الماء، يعني: لو كان مع الإنسانِ نبيذٌ أو شايٌ أو لَبن، فإنَّه لا يتطهَّر به؛ لأنَّ اللهَ جَعَل آلةَ الطَّهارةِ هي الماءُ؛ فقال تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً .
13- قولُ الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً يدلُّ على أنَّه كلَّما بقِيَ اسمُ الماءِ المطلَق كان طاهرًا طَهورًا .
14- أنَّ الماءَ ما دام يُطلَق عليه اسمُ الماءِ، فإنَّه مُطهِّرٌ ولو تغيَّر بشيءٍ طاهرٍ؛ لعمومِ الآية: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ومَاءً نَكِرةٌ في سِياقِ النَّفي؛ فما دام اسمُ الماءِ باقيًا، فإنَّه يجبُ التطهُّرُ به، ولو مع التغيُّرِ .
15- وجوبُ طَلَبِ الماءَ؛ لقوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً، أي: في الأماكِنِ القريبةِ منه التي لا يَلحَقُه حرَجٌ بطلب الماءِ فيها، وإذا تيقَّنَ عَدَمَ وجود الماءِ حَوْلَه، فلا يجِبُ عليه البحثُ عند كلِّ صلاةٍ؛ لأنَّ هذا عبَثٌ ومنافٍ للحِكمة، ومنافٍ للشَّرْع .
16- قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا فيه أنَّ الدينَ يسرٌ، سواء كان مِن أصلِ المشروعاتِ، أو إذا وُجِد سببٌ للرُّخصةِ؛ لأنَّ المشقَّةَ تجلبُ التيسيرَ، لكنها لا تُسقطُ الواجبَ إلا في حدودِ الشَّرع .
17- قوْلُه تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فيه أنَّه لا بدَّ في التيمُّمِ من النيَّة؛ فقوله: فَتَيَمَّمُوا أي: اقْصِدوا، فالتيمُّم عبارةٌ عن القَصْدِ .
18- استُدلَّ بقولِه: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا على جوازِ التيمُّمِ من الصَّعيدِ الذي على ظَهْرِ الأرض أيًّا كان، سواءٌ كان هذا الصَّعيدُ رمليًّا أو حجريًّا أو سبخةً، أو يابسًا أو رطبًا، يعني: نديًّا، المهمُّ أنَّه يُسمَّى صعيدًا .
19- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا أنَّه لا بدَّ أن يكونَ الصَّعيدُ الذي يُتَيمَّم منه طيِّبًا وهو الطَّاهِرُ، وضِدُّه النَّجس، وعلى هذا فلا يصحُّ التيمُّمُ على أرض متنجِّسةٍ .
20- وجوبُ استيعابِ الوَجهِ بالمسْحِ في التيمُّمِ؛ لقوله: بِوُجُوهِكُمْ وهو شاملٌ لجميع الوجه، ومِن ثَمَّ يجبُ أن نُنبِّهَ بعضَ العامَّة الذين إذا تَيمَّموا مَسَحوا الأنفَ وما حوله، وترَكوا الباقِيَ؛ فيُقال: هذا لا شكَّ أنَّه لا يُجزِئُ؛ لأنَّ الآية صريحةٌ؛ فقد قال تعالى: بِوُجُوهِكُمْ أي: كلَّها .
21- قوله: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ فيه رفْعُ الحرَجِ عن هذه الأمَّةِ، وهو تارةً يكون برفْعِ المشروعِ بالكليَّةِ، وتارةً بتخفيفِه، وتارةً بفِعل بدَلِه .
22- قولُ الله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أصلٌ كبيرٌ في الشَّرعِ، وهو أنَّ الأصْلَ في المضارِّ ألَّا تكونَ مشروعةً .
23- إثباتُ الحِكمةِ في شَرْع الله؛ وجهُ ذلك: التعليلُ في قوله تعالى: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، وهذا الذي دلَّ عليه الكتابُ والسُّنة من وجوهٍ لا تُحصَى- أنَّ الله سبحانه وتعالى حكيمٌ في كلِّ ما يَخلُق، وفي كلِّ ما يَشرَع؛ ومِن ثَمَّ فيجبُ الاستسلامُ لقضاءِ الله الشرعيِّ والكونيِّ .
24- أنَّ الطَّهارةَ بأقسامِها الثلاثة- الغُسل والوضوء والتيمُّم- نعمةٌ من الله عزَّ وجلَّ على العبادِ؛ لقوله: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، ولا شكَّ أنَّها نِعمةٌ، ومَن رأى فضائِلَ الوضوءِ وما يُكفِّر من الذُّنوبِ، عَرَف نِعمةَ الله عزَّ وجلَّ بهذا، وكذلك الغُسْلُ من الجَنابة، ولا سيَّما في أيَّام الشِّتاءِ وأيَّامِ المشقَّةِ .
25- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ قال فيه بعضُهم: دلَّت هذه الآيةُ على سَبعةِ أصولٍ، كُلُّها مَثْنَى: طهارتانِ: الوُضوءُ والغُسل، ومُطَهِّران: الماءُ والتُّراب، وحُكْمان: المسحُ والغَسل، وموجِبان: الحَدَثُ والجَنابةُ، ومُبيحانِ: المَرَضُ والسَّفَرُ، وكنايتان: الغائِطُ والمُلامَسةُ، وكَرَامتان: تطهيرُ الذُّنوبِ، وإتمامُ النِّعمةِـ .
26- قولُه: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (لعلَّ) هنا للتَّعليلِ، وليست للترجِّي؛ لأنَّ الرجاءَ طلبُ ما فيه عُسر، والله عزَّ وجلَّ لا يتأتَّى في حقِّه ذلك؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ سهْلٌ عليه، فتكون (لعلَّ) هنا للتعليلِ

.
بلاغة الآية:

1- قوله: إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلَاةِ، أي: إذا أردْتُم القيامَ إلى الصَّلاةِ؛ ففيه: جوازُ التَّعبيرِ عن إرادةِ الفِعل بالفِعل؛ لأنَّ الفعلَ يوجدُ بقُدرةِ الفاعِلِ عليه وإرادَتِه له، وهو قَصْدُه إليه وميلُه وخُلوصُه؛ وذلك لأنَّ الفِعْلَ مسبَّبٌ عن القُدرةِ والإرادة، فأُقيمَ المسبَّبُ مقامَ السَّبَب؛ للملابسةِ بينهما، ولإيجازِ الكلامِ ونحوه، والتَّنبيهِ على أنَّ مَن أراد العبادةَ ينبغي أن يبادِرَ إليها، بحيث لا ينفكُّ الفعلُ عن الإرادةِ، ويَجوزُ أنْ يكونَ المرادُ: إذا قَصَدْتم الصَّلاةَ؛ لأنَّ التوجُّهَ إلى الشَّيءِ والقيامَ إليه قَصْدٌ له
.
2- قوله: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ فيه كنايةٌ حَسَنَةٌ؛ فالمجيءُ من الغائِط- وهو المطمئنُّ أو المنخفِض من الأرض- كنايةٌ عن الحدَثِ .
3- قوله: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ: فيه التعبيرُ عن نفْي الفِعلِ بنفي الإرادةِ له؛ فالإرادةُ هنا كنايةٌ عن نفْي الجَعْلِ؛ لأنَّ المريدَ الذي لا غالبَ له لا يَحُولُ دون إرادَتِه عائِقٌ .


====6.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (7 - 11)
ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
غريب الكلمات:

مِيثَاقَهُ: الميثاقُ هو العقدُ المؤكَّدُ بيمينٍ وعهدٍ، أو العهدُ المُحكَم، وأَصْلُ (وثق): العقدُ والإحكامُ
.
كُونُوا قَوَّامِينَ: قَوَّامِينَ جمعٌ، مفردُه (قوَّام)، بناءُ مبالغةٍ مِن (قائمٍ)، أي: ليتكررْ منكم القيامُ، وأصلُ (قوم): مراعاةُ الشيءِ وحِفظُه .
شُهَدَاءَ: جمع شهيد، والشَّهادة قولٌ صادرٌ عن عِلمٍ حصَل بمشاهدةِ بصيرةٍ أو بصَرٍ .
بِالْقِسْطِ: بالعدلِ، وأصلُ (قسط) يدلُّ على مَعنيينِ متضادَّينِ: العدلِ، والجَوْرِ؛ يُقال: أَقسَط: إذا عدَل. وقَسَط: إذا جارَ وظَلَم .
شَنَآنُ: شِدَّةُ البُغض والعداوة؛ يُقال: شَنِئتُه، أي: تَقذَّرْتُه بغضًا له .
الْجَحِيمِ: النَّار، وأصْل (جحم): عِظَم الحرارة وشِدَّتها .
يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ: يَمدُّوا إليكم أيديَهم بالصَّوْلةِ والضَّرب، وأصل (بسط): امتدادُ الشَّيءِ، في عَرْض أو غير عَرْض

.
مشكل الإعراب:

قولُه تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
وَعَدَ: فِعلٌ يَتعدَّى لمفعولَينِ؛ أولهما الَّذِينَ، والثَّاني مَحذوفٌ، وجملةُ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ جملةٌ اسميَّةٌ وقعَتْ بيانًا للوعدِ، كأنَّه قال: قَدَّم لهم وعْدًا، فقيل: أيُّ شيءٍ وَعَدَه لهم؟ فقال: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ؛ وعليه فهي مُفسِّرةٌ لمفعولِ وَعَدَ الثاني المحذوفِ، لا محلَّ لها من الإعرابِ. وقيل: إنَّ جملةَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ منصوبةٌ بقولٍ محذوفٍ؛ كأنَّه قيل: وَعَدَهم وقال: لهم مَغفِرةٌ. وقيل: الوعدُ جارٍ مجرَى القولِ؛ لأنَّه ضَرْبٌ منه، وهو واقعٌ على الجملةِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ؛ فهي منصوبةٌ به؛ كأنَّه قيل: وعَدَهم هذا القَولَ

.
المعنى الإجمالي :

يَأمُر اللهُ المؤمنينَ أن يَذكُروا نعمتَه عليهم، والعهْدَ الذي أخَذَه عليهم بمبايعةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ على متابعَتِه، ونُصْرَتِه، والقيامِ بدِينه والدَّعوةِ إليه؛ حيث الْتَزموا بذلك العهدِ حينها، وقالوا: سمِعْنا وأطَعْنا، ثم أمَرَهم بتقواه عزَّ وجلَّ؛ فإنَّه عليمٌ بكلِّ ما تُكِنُّه الصُّدورُ.
ويأمُر اللهُ المؤمنينَ كذلِك بأنْ يقوموا بحقِّ اللهِ تعالى في كلِّ ما يَلْزَمُهم القيامُ به مخلِصينَ له، وأنْ يُلازِموا العدلَ في شَهادَتِهم، ولا يَحمِلَنَّهم بُغضُهم وكراهِيَتُهم لقومٍ على ألَّا يَعدِلوا، بل عليهم مُلازمةُ العدلِ؛ فإنَّه أقربُ لتحقيقِ كمالِ التَّقوى، ولْيتَّقوا الله؛ فإنَّ الله خبيرٌ بما يعملونَ.
ثم يُخبر تعالى أنَّه وعَدَ المؤمنين الذين يَعملون الأعمالَ الصالحةَ بأنَّ لهم مغفرةً لذنوبهم، وثوابًا كبيرًا، وهو الجنَّة، وأمَّا الذين كَفروا وكذَّبوا بآياتِه فهمُ أصحابُ النارِ المُلازِمون لها.
ثم أَمَر اللهُ المؤمنينَ أن يَذكُروا نِعمتَه عليهم، حين هَمَّ بعضُ أعدائِهم بالبَطْشِ بهم، فصرَفَهم اللهُ عنهم، وحالَ بينهم وبين ما يُريدونَه بهم من سوءٍ، وختَم الآيةَ بالأمرِ بتقواه، وأن يَعتَمِدوا عليه وحْدَه سبحانه وتعالى.
تفسير الآيات:

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر التَّكاليفَ في الآياتِ السَّابِقةِ من بدايةِ السُّورةِ، أرْدَفَه بما يُوجِبُ عليهم القَبولَ والانقيادَ، وذلك من وجهينِ: الأوَّل: كَثرةُ نِعَمِ الله عليهم؛ لأنَّ كثرةَ النِّعَمِ تُوجِبَ على المُنعَمِ عليه الاشتغالَ بخدمةِ المُنعِم، والانقيادَ لأوامِرِه ونواهيه. والوجه الثاني: في السَّبب الموجِبِ للانقيادِ للتَّكاليفِ، وهو الميثاقُ الذي واثقَكم به
، فقال:
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ.
أي: واذْكروا- أيُّها المؤمنونَ- نِعمَ اللهِ تعالى عليكم، فتَذكَّروها بقُلوبِكم وألسِنَتِكم، ومنها نِعمةُ الهدايةِ للإسلامِ .
وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ.
أي: واذكُروا أيضًا- أيُّها المؤمنونَ- عَهدَه الذي عاهَدَكم به بمبايعةِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ على مُتابعتِه ومُناصَرتِه ومُؤازَرَتِه، والقيامِ بدِينه، وتبليغِه .
قال تعالى: وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الحديد: 8] .
إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.
أي: حيث التَزَمْتُم بهذا العَهْدِ بإعلانِ السَّمعِ والطَّاعة، فقلتم: سَمِعْنا ما دَعوتَنا به- أيُّها الرسولُ الكريمُ- من الآياتِ القرآنيَّةِ والكونيَّةِ، سَمْعَ فَهمٍ وإذعانٍ وانقيادٍ، وأطَعْنا ما أمَرْتَنا به، واجتَنَبْنا ما نهيتَنا عنه .
عن جُنادَةَ بنِ أبي أُميَّةَ، قال: دَخَلْنا على عُبادةَ بنِ الصَّامتِ وهو مريضٌ، قُلنا: أصلحَك اللهُ، حَدِّثْ بحديثٍ ينفعُك اللهُ به، سَمِعْتَه مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، قال: ((دَعانا النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ فبَايعْناه، فقال فيما أَخَذَ علينا: أنْ بايَعَنا علىالسَّمْعِ والطَّاعةِ، في مَنْشَطِنا ومَكْرَهِنا ، وعُسْرِنا ويُسْرِنا، وأَثَرةٍ علينا ، وأنْ لا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، إلَّا أنْ تَرَوْا كُفرًا بَواحًا عندكم من اللهِ فيه برهانٌ )) .
وَاتَّقُوا اللهَ.
أي: وامتَثِلوا ما أَمَرَكم اللهُ تعالى به، واجتَنِبوا ما نهاكم عنه في جميعِ أَحْوالِكم .
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
أي: إنَّه يعلمُ ما يتخالَجُ في الضَّمائِرِ والسَّرائِرِ، وما تَنطوي عليه القُلوبُ من الأَفْكارِ والخواطِرِ؛ فاحذروا أن يَطَّلِعَ من قُلُوبِكم على أمرٍ لا يرضاه، كأنْ تُضْمِروا عدَمَ الوفاءِ بميثاقِ اللهِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حَثَّ على الانقيادِ للتَّكاليفِ، وهي مع كَثْرَتِها محصورةٌ في نوعينِ: التَّعظيم لأمْرِ الله، وهذا ذَكَرَه في قوله: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ، ثم أعْقَبَه بذكْرِ النَّوعِ الثَّاني وهو الشَّفقَةُ على خَلْقِ الله ، فقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، كونوا بمُقتَضَى إيمانِكم ذَوي قِيامٍ بالحقِّ للهِ تعالى وَحْدَه، لا رِياءً ولا سُمْعةً، ولا لنيلِ غَرَضٍ من أغراضِ الدُّنْيا .
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ.
أي: وكونوا أيضًا شُهَدَاءَ بالعَدْلِ، ولا تَجُوروا في أَحْكامِكم على القَريبِ والبَعيدِ، والصَّدِيقِ والعَدُوِّ .
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألَّا تَعْدِلُوا.
أي: ولا يَحْمِلنَّكم عداوةُ قومٍ وبُغضُهم على ألَّا تَعْدِلوا في حُكْمِكم فيهم، فتَجورُوا عليهم .
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى.
أي: عليكم بالعَدْلِ- أيُّها المؤمنونَ- مع كلِّ أحدٍ، فاستعمالُ العَدْلِ أقرَبُ إلى التَّقْوى الكاملةِ .
وَاتَّقُوا اللهَ.
أي: امتَثِلوا ما أمَرَكم اللهُ تعالى به، واجتَنِبوا ما نهاكم عنه، ومِن ذلك القيامُ بالعَدْلِ، وترْكُ الجَورِ .
إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو وَحْدَه العالِمُ ببواطنِ ما تَعمَلونَه- أيُّها المؤمنونَ- مِن خَيْرٍ أو شرٍّ ومُجازيكم بها .
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ أوامِرَ ونواهيَ، ذكَر وعْدَه مَن اتَّبَعَ أوامرَه واجتَنَبَ نواهيَه .
وأيضا لَمَّا كان الأَمْرُ بالتَّقْوى ممَّا حُتِمَ على الإطلاقِ، بعدَ بيانِ أنَّ العدْلَ هو أقربُ ما يُتَّقَى به عقابُ اللهِ في الدُّنيا والآخِرَة؛ لأنَّه قِوامُ الصَّلاحِ للأفرادِ، والإصلاحِ في الأقوامِ، ولَمَّا عُلِّل هذا الأمرُ المطلَقُ بأنَّ الله خبيرٌ بدقائِقِ الأعمالِ وخَفاياها، وكان هذا التعليلُ يُشيرُ إلى جزاءِ العاملينَ المُتَّقينَ وغَيْرِ المتَّقينَ- قال عزَّ وجلَّ في بيانِ الجزاءِ العامِّ :
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ.
أي: وعَدَ اللهُ عزَّ وجلَّ- الذي لا يُخلِفُ الميعاد- المؤمنينَ الذين عَمِلوا الأَعْمالَ الصَّالِحات مخلصين للهِ تعالى فيها، ومُتابعين شريعَتَه، وَعَدَهم بسَتْرِ ذُنُوبِهم، والتَّجاوُزِ عن مؤاخَذَتِهم بها .
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
أي: ولهم ثوابٌ كبيرٌ، وعطاءٌ جزيلٌ غيرُ محدودٍ، وهو الجَنَّةُ .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ثوابَ المؤمنينَ العاملينَ للصَّالحاتِ، ثنَّى بذِكر مَن يُقابِلُهم وما لهم من العقابِ ؛ فقال:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10).
أي: وأمَّا الكُفَّارُ المكذِّبونَ بالأدلَّةِ الدالَّةِ على الحقِّ، فهُم أهلُ نارِ الجحيمِ الملازِمونَ لها، لا يَخرجُون منها أَبَدًا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ.
أي: يا مَعْشَرَ المؤمنينَ، تذكَّروا ما أنعمَ اللهُ تعالى به عليكم بقُلوبِكم وألْسِنَتِكم؛ لأجْلِ القيامِ بواجِبِ شُكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ على ذلك .
إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ.
أي: حيث أنعمَ اللهُ تعالى عليكم، بأنْ ردَّ كيدَ أعدائِكم الذين همَّوا بالبَطْشِ بكم، فصَرَفَهم وحَجزَهم عنكم، وحالَ بينهم وبين ما أرادُوه بكم؛ فلم يَسْتَطيعوا أن يَنالُوكم بسُوءٍ .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح: 24] .
وَاتَّقُوا اللهَ.
أي: وافْعلوا ما أمرَكَم اللهُ تعالى به، واجتَنِبوا ما نَهاكم عنه .
وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
مُناسَبَتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى إِنعامَه عليهم بكفِّ أَيدِي أعدائِهم عنهم، وردِّ كَيْدِهم في نُحورِهم- أَمَرَهم بما يَستعينونَ به على الانْتِصارِ على عَدُوِّهم، وعلى جميعِ أُمُورِهم ، فقال:
وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
أي: وعلى اللهِ تعالى وحْدَه دونَ غيره، فلْيعتمِدِ المؤمنونَ الَّذين آمنوا باللهِ تعالى وبكلِّ ما يَجِبُ عليهم الإيمانُ به، فليعتمدوا عليه في جَلْبِ منافِعِهم ودَفْعِ مَضَارِّهم، ممَّا يتعلَّقُ بِشُؤونِ الدُّنيا والآخِرَةِ؛ ثِقةً به عزَّ وجلَّ، وتفويضًا إليه

.
الفوائد التربوية:

1- الحثُّ على التأمُّلِ في نِعَمِ الله تعالى؛ نبَّه على ذلك قولُه: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ
.
2- تهديدُ مَن خَرَجَ عن التَّقوى، بقوله تعالى: إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، يعني أنَّه لا بدَّ أن تكونَ التَّقوى مبنيَّةً على صَلاحِ القَلْبِ، وليست مُجرَّدَ قَوْلٍ باللِّسانِ، ويُكرِّرُ اللهُ عزَّ وجلَّ التَّقوى في آياتٍ كثيرة؛ لأنَّها في الحقيقَةِ عليها مدارُ الإِسلامِ، فإذا اتَّقى الإنسانُ ربَّه فسوف يقومُ بدِينِ الله تعالى على ما يُريدُ اللهُ جلَّ وعلا .
3- وجوبُ الإخلاصِ لله عزَّ وجلَّ في الشَّهادَةِ؛ لقولِه: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وقال في آيةٍ أخرى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق: 2] ، ومِن ثَمَّ فلا يكونُ هناك محاباةٌ لقريبٍ أو صَدِيقٍ، ولن يَحمِلَك بُغضُك لشَخْصٍ على أنْ لا تشْهَد له ما دُمتَ مُخلِصًا لله تعالى بالشَّهادَةِ .
4- وجوبُ الشَّهادَةِ بالقِسْطِ ولو كنتَ كارهًا؛ دلَّ على ذلِك قولُه تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ؛ لأنَّ بعضَ النَّاسِ قد تحمِلُه كراهةُ أن يتَضَرَّرَ الشَّخصُ على كِتمانِ الشَّهادَةِ .
5- أمَرَ اللهُ تعالى جميعَ الخَلْقِ بأنْ لا يُعامِلُوا أحدًا إلَّا على سَبيلِ العَدْلِ والإنصافِ، وترْكِ المَيْلِ والظُّلْمِ والاعتِسافِ؛ قال تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى .
6- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى أنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ منها ما يَبعُدُ عن التَّقوى، ومنها ما يَقرُبُ، ويَنبني على تفاضُلِ الأَعمالِ، وتفاضُلُ الأعمالِ قد دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ والعَقْلُ، وأنَّ الأعمالَ تَتَفاوتُ، والعُمَّال يتفاوَتون أيضًا، ويُستَفادُ أيضًا أنَّ الإيمانَ يَزيدُ وكذلك ينقُصُ .
7- أنَّ الإيمان وحْدَه لا يَكفي، بل لا بدَّ مِن عَمَلٍ؛ ولهذا قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؛ ولهذا فالَّذينَ يُركِّزون على العقيدةِ، فيقولون: عَقِيدتُنا سليمةٌ والحمدُ لله، ولا يَتعرَّضون للعَمَلِ؛ عندهم قُصورٌ، بل لا بدَّ مع العقيدَةِ مِن عَمَلٍ صالحٍ .
8- وُجوبُ تقوى الله عزَّ وجلَّ عند ذِكْرِ النِّعَمِ؛ حتى لا يَطغى الإنسانُ، ويرتفعَ ويَرْبأَ بنفْسِه؛ لقوله: وَاتَّقُوا اللهَ .
9- وجوبُ التوكُّلِ على الله عزَّ وجلَّ، وأنَّه من الإيمانِ؛ لقوله: وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، فوجَّه الأمرَ إلى المؤمنينَ؛ لأنَّهم هم أَهْلُ التوكُّلِ، ولأنَّ ترْكَ التوكُّلِ على الله نَقْصٌ في الإيمانِ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ولم يقُل: (نعم الله)؛ لأنَّه ليس المقصودُ منه التأمُّلَ في أعدادِ نِعَمِ الله، بل المقصودُ منه التأمُّلُ في جِنْسِ نِعَمِ الله؛ لأنَّ هذا الجِنْسَ جنسٌ لا يَقْدِرُ غيرُ اللهِ عليه
.
2- أنَّه يجبُ على الإنْسانِ أنْ يَذكرَ الميثاقَ الذي واثَقَ اللهَ عليه، وهو العَهْدُ بالسَّمْعِ والطَّاعَةِ المذكورُ في قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، ويُستَفادُ مِنَ الآيةِ أنَّ السَّمْعَ المجرَّدَ لا يُغني شيئًا، فلا بدَّ أن يكونَ سمعًا واستجابَةً، فأمَّا مجرَّدُ السَّمْعِ فلا؛ وذلك لِقَوْلِه: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا .
3- في قوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ إشارةٌ إلى التَّعظيمِ لأَمْرِ اللهِ .
4- ممَّا يُستَفادُ مِن قَوْلِه سبحانَه: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى: أنَّ هناك فَرْقًا بين المساواةِ والعَدْلِ، وأكثَرُ ما ورد في القرآنِ هو نفْيُ المساواةِ، مع إثباتِ العَدْلِ؛ قال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم: 35 - 36] ، وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] .
5- تأكيدُ الأَمْرِ بالعَدْلِ مع الأعداءِ، والشَّهادةُ لهم به في قَوْلِه تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى يُفيدُ وجوبَه مع غَيْرِهم من الأَولياءِ بالأَوْلى .
6- من اللَّطائِفِ في قولِه تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... وقولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ في المؤمنينَ جاءتِ الجملةُ فِعليَّةً متضمِّنةً الوعدَ بالماضي الذي هو دليلٌ على الوُقوعِ، فأنْفُسُهم متشوِّقةٌ لِمَا وُعِدُوا به، مُتشوِّفةٌ إليه، مبتهجةٌ طولَ الحياةِ بهذا الوَعْدِ الصَّادِقِ. وفي الكافرينَ جاءت الجملةُ اسميَّةً دالَّةً على ثُبوتِ هذا الحُكْمِ لهم، وأنَّهم أصحابُ النَّارِ؛ فهم دائمونَ في عذابٍ؛ إذ حَتَّمَ لهم أنَّهم أصحابُ الجحيمِ، ولم يأتِ بصورةِ الوعيدِ، فكان يكونُ الرجاءُ لهم في ذلك .
7- قولُه: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ: فيه: تقديرُ محذوفٍ، أي: عَمِلُوا الأعمالَ الصَّالحات، ويكون العملُ صالحًا إذا تَضمَّن أمرينِ؛ الأوَّل: الإخلاصُ للهِ كما في قوله: فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر: 2] ، والثاني: المتابعةُ لشريعةِ اللهِ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: ((مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمْرُنا؛ فهو رَدٌّ )) .
8- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ تفضُّلُ اللهِ عزَّ وجلَّ على عبادِه؛ حيث جعَل الثوابَ بمنزلَةِ الأَجْر، كأنَّ العامِلَ أجيرٌ إذا وَفَّى العَمَلَ أُعْطِيَ أَجْرَه، مع أنَّ المِنَّةَ لله عزَّ وجلَّ أولًا وآخِرًا .
9- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَأَجْرٌ عَظِيمٌ عِظَمُ ثَوابِ المؤمنينَ العاملينَ الصَّالحاتِ؛ حيث عظَّمَه الله عزَّ وجلَّ، وتعظيمُ العَظيمِ للشَّيءِ يدلُّ على أنَّه عَظيمٌ عَظَمةً لا يتخيَّلُها الإنسانُ ولا يتصوَّرها، وهو كذلك .
10- أنَّ القرآنَ الكريمَ مَثانٍ؛ إذا ذَكَر أهْلَ العَمَلِ الصَّالح ذكَرَ أهلَ العَمَلِ السيِّئِ؛ كما قال سبحانه: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ثم ثَنَّى بعدها بقولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وفائدَةُ ذلك: أنْ لا يَغلِبَ جانبُ الرَّجاءِ أو جانبُ الخَوْفِ .
11- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أنَّ الكُفْرَ قد يَصحَبُه التَّكذيبُ، وقد لا يَصحَبُه؛ ولهذا أحيانًا يَذكُرُ اللهُ الكُفْرَ فقط؛ مثل قولِه تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131] ، وأحيانًا يَذكُرُ التَّكذيبَ فقط؛ قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [الزمر: 32] ، وأحيانًا يَقْرِن بينهما؛ وذلك لأنَّ كلًّا منهما قد يكونُ وَحْده مُوجِبًا للخُلُودِ في النَّارِ، فإذا اجتمعَا جميعًا، صار ذلك أشدَّ وأعظمَ، والعياذُ بالله .
12- قوله: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا: المرادُ بالآياتِ هنا الآياتُ الشرعيَّةُ والكونيَّة ؛ فمَن أنكَرَ ربوبيَّةَ الله وخَلْقَه للمَخلوقاتِ، وتصرُّفَه في الكَوْنِ، فهذا مكذِّبٌ بالآياتِ الكونيَّةِ، وقد يُقِرُّ بذلك، لكنَّه يكْفُرُ، ويُكَذِّبُ بالآياتِ الشرعيَّةِ، ويُعْرِضُ عن طاعَةِ اللهِ .
13- أنَّ الخلودَ في النَّار ليس إلَّا للكُفَّارِ؛ فقَوْلُه تعالى: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يُفيدُ الحصرَ، والمصاحَبةُ تقتضي الملازَمَة، كما يُقال: أصحابُ الصَّحراءِ، أي: الملازِمونَ لها .
14- قال تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الآية، أمَرَ الله تعالى أن نَذكُرَ نِعْمَتَه، لا مِن أجْلِ مجرَّدِ الذِّكْرِ والخَبَر، ولكن للقيامِ بشُكْرِ هذه النِّعمَةِ؛ لأنَّه لا يَكفي مجرَّدُ أن أقولَ: إنَّ اللهَ سلَّمَني من العدوِّ، أو إنَّ اللهَ نصَرني على العَدُوِّ، هذا لا يَكفي، لا بدَّ أن يكونَ ذلك شُكرًا لله عزَّ وجلَّ، فإنْ كان شكرًا بأنْ كان الإنسانُ يتحدَّثُ بنِعمةِ اللهِ ثناءً على الله، فهذا من الشُّكر .
15- أنَّه يجِبُ على الإنسانِ أن يَذكُرَ نِعمَةَ اللهِ عليه في جَلْبِ المنافِعِ ودَفْعِ المضارِّ؛ وَجْهُ ذلك: أمْرُ اللهِ جلَّ وعلا بذِكْرِ نِعَمِه بكفِّ أيدي الأعداءِ عنَّا في قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ .
16- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أنَّ كفَّ الأذى والضَّرَر من النِّعَمِ، وهو كذلك، وكثيرٌ من النَّاسِ يظنُّونَ أنَّ النِّعَمَ هي الإيجادُ، وهذا قصورٌ؛ النِّعمَةُ: إمَّا إيجادُ معدومٍ، وإمَّا كفُّ موجودٍ؛ ولهذا يُشْكَرُ اللهُ عزَّ وجلَّ على هذا وهذا .
17- من فوائِدِ هذا التذكيرِ للمتأخِّرينَ في قَوْلِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ترغيبُهم في التأسِّي بسلَفِهم في القيامِ بما جاء به الدِّينُ؛ من الحقِّ والعَدْلِ، والبرِّ والإحسانِ، واحتمالِ الجُهدِ، والصَّبرِ على المشاقِّ في هذه السَّبيلِ، وهي سبيلُ اللهِ، وهذا هو المعنى العامُّ للجِهادِ في سبيلِ اللهِ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا إِذْ في قولِه: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ظرفٌ لـوَاثَقَكُمْ بِهِ، أو ظرفٌ لمحذوفٍ وقَع حالًا منَ الضَّميرِ المجرورِ في بِهِ أو مِنْ مِيثَاقَهُ، أي: كائنًا وقتَ قَولِكم: سَمِعْنا وأطَعْنا، وفائدةُ التقييدِ به تأكيدُ وجوبِ مراعاتِه بتذكيرِ قَبُولهم، والتزامِهم بالمحافَظَةِ عليه
.
2- قوله: وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ: جملةُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ اعتراضٌ تذييليٌّ للتَّحذير مِن إضمارِ المعاصي، ومِن تَوهُّمِ أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ إلَّا ما يبدو منهم، وتعليلٌ للأمْرِ بالاتِّقاءِ؛ فحرف (إنَّ) أفاد أنَّ الجملة عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَها على الأُسلُوبِ المقرَّرِ في البلاغَةِ .
- وإظهارُ الاسْمِ الجليلِ اللَّه في موقِع الإضمارِ؛ لتربيةِ المهابَةِ، وتعليلِ الحُكم، وتقويَةِ استقلالِ الجُملة .
3- قوله: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى: فيه تأكيدٌ شديدٌ على أمْرِ العَدْلِ؛ فقولُه: اعْدِلُوا تأكيدٌ ثانٍ؛ حيث قد نَهاهم أولًا أنْ تحمِلَهم الضَّغائِنُ على ترْك العَدْلِ، ثم أمَرَهم بقَوْلِه: اعْدِلُوا؛ فصرَّحَ لهم بالأَمْرِ بالعَدْلِ؛ تأكيدًا وتشديدًا، ثم استأنَفَ فذَكَرَ لهم وجْهَ الأمْرِ بالعَدْلِ، وهو قَوْلُه: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، أي: العَدْلُ أقربُ إلى التقوى، وأَدْخَلُ في مناسَبَتِها. أو أقربُ إلى التَّقوى؛ لكونِه لُطفًا فيها، وفيه تنبيهٌ عظيمٌ على أنَّ وجودَ العَدْلِ مع الكفَّارِ الذين هم أعداءُ اللهِ إذا كان بهذه الصِّفَةِ من القُوَّةِ؛ فما الظنُّ بوجوبِه مع المؤمنينَ الذين هم أولياؤُه وأحِبَّاؤُه ؟!
4- قوله: إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ جملةٌ تتَضَمَّنُ التهديدَ بمخالفَةِ التَّقوى، وقولُه: إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ الخبيرُ أدقُّ من العليمِ؛ لأنَّ الخبيرَ من الخُبْر وهو العِلْمُ ببواطنِ الأَمْرِ؛ ولذلك سُمِّيَتِ المزارعةُ مخابرةً؛ وسُمِّي الزَّارِعُ خبيرًا؛ لأنَّه يدسُّ الحَبَّ في الأَرْضِ فيَختفي، فالخبيرُ هو العليمُ بخفايا الأُمورِ .
5- قوله: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ: فيه بيانٌ للوعْدِ بعدَ تمامِ الكلامِ قبْلَه، كأنَّه قال: قدَّمَ لهم وعْدًا، فقِيل: أيُّ شَيءٍ وعَدَه لهم؟ فقيل: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ؛ فجُملةُ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ مُبيِّنةٌ لجُملةِ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؛ فاستُغْنِيَ بالبَيانِ عن المفعولِ الثَّانِي، فصارَ التَّقديرُ: وعَدَ اللهُ الذين آمنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ مَغفرةً وأجرًا عَظيمًا لهم، وإنَّما عدَلَ عن هذا النَّظْمِ لِمَا في إثباتِ المغفرةِ لهم بطَريقِ الجُملةِ الاسميَّةِ من الدَّلالةِ على الثَّباتِ والتقرُّرِ .
6- قوله: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ: فيه قصرٌ: وهو إمَّا قَصْرٌ ادِّعائيٌّ؛ لأنهم لَمَّا كانوا أحقَّ النَّاسِ بالجحيمِ، وكانوا خالدينَ فيه، جُعلوا كالمنفردينَ به، أو هو قصرٌ حقيقيٌّ إذا كانت إضافةُ أَصْحَابُ مُؤذِنةً بمزيدِ الاختصاصِ بالشَّيءِ كما في مُرادفِها، وهو ذُو كذا، كما في قوله: وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران: 4] ؛ فيكون وجهُ هذا الاختصاصِ أنَّهم الباقونَ في الجحيمِ أبدًا .
7- قوله: فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ إظهارُ أَيْدِيَهُمْ في موقِعِ الإضْمارِ؛ لزِيادَةِ التَّقريرِ، أي: مَنَعَ أيديَهم أنْ تُمَدَّ إليكم عَقِيبَ همِّهِم بذلك، لا أنَّه كفَّها عنكم بعدَما مدُّوها إليكم .
8- قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ:
جملةُ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ تذييلٌ مقرِّرٌ لمَا قَبْلَهُ .
- وفيه تقديمُ المتعلِّقِ عَلَى اللهِ على المتعلَّقِ به: فلْيَتَوَكَّلِ؛ لإفادةِ الحَصْرِ، أي: ينبغي أن يتوكَّل المؤمنونَ على اللهِ فقط، لا على غَيْرِه .
- وإظهارُ الاسْمِ الجليلِ اللَّهِ في مَوْقِعِ الإضمارِ؛ لتعليلِ الحُكْمِ، وتقويَةِ استقلالِ الجُملَةِ التذييليَّةِ .
- وإيثارُ صيغَةِ أمْرِ الغائبِ وإسنادُها إلى المؤمنينَ- حيثُ جاء الأَمْرُ بالتوكُّلِ بصِيغَةِ الغائِبِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وليس بصِيغَةِ الخِطابِ، فلم يقُلْ: (تَوكَّلوا) بعد قولِه: وَاتَّقُوا- لإيجابِ التوكُّلِ على المُخاطَبينَ بالطَّريقِ البُرْهانيِّ، وللإيذانِ بأنَّ ما وُصِفُوا به عند الخِطابِ مِن وَصْفِ الإيمان داعٍ إلى مَا أُمِرُوا بهِ من التَّوَكُّل والتَّقْوى؛ وازعٌ عن الإخلالِ بهما، ولأجلِ الفاصِلَةِ، وإشعارًا بالغَلبةِ، وإفادةً لعُمومِ وصْفِ الإيمانِ . وهذا أيضًا التفاتٌ من الخِطابِ إلى الغَيبةِ.


=====7.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (12 - 14)
ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ
غريب الكلمات:

نَقِيبًا: ضَمينًا وأمينًا، وشاهدًا، أو كفيلًا، وسُمِّيَ نقيبًا؛ لأنَّه يَعْلَمُ دخيلةَ أمْرِ القَوْمِ، ويَعْلَم مناقِبَهم
.
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: أي: نَصَرْتُموهم وأَعَنْتُموهم وقوَّيتُموهم، أو عَظَّمْتُموهم، والتَّعزيرُ: النُّصْرةُ معَ التَّعظيمِ .
وَأَقْرَضْتُمُ: أي: أنْفَقْتُم في سبيلِ الله، والقَرْضُ: ما يُدفَعُ من المالِ بشَرْط ردِّ بَدلِه، وأَصْلُ القَرْضِ: القَطْعُ؛ ومنه سُمِّيَ القَرْض؛ فكأنَّه شيءٌ قد قَطَعْتَه مِن مالِكَ .
سَوَاءَ السَّبِيلِ: أي: قَصْدَ الطَّريقِ ووَسَطه، والسَّواء: الوَسَطُ، والسَّبيلُ الطَّريق .
نَقْضِهِمْ: أي: نَبْذِهم إيَّاه بعدَ القَبولِ به، وتَرْكِهم العَمَلَ به، وأَصْلُ النَّقْضِ ضِدُّ الإِبرامِ: وهو فكُّ تركيبِ الشَّيءِ وردُّه إلى ما كان عليه أوَّلًا؛ فنَقْضُ البِناءِ: هَدْمُه، ونَقْضُ المبرَم: حلُّه .
لَعَنَّاهُمْ: طَرَدْناهم وأَبْعَدْناهم مِن رَحْمَتِنا، واللَّعْنُ: الطَّرْدُ والإبعادُ على سبيلِ السَّخَطِ .
خَائِنَةٍ: خِيانةٍ، أو جماعةٍ خائنةٍ منهم، أو خائنة بمعنى خائِن، كما يقال: رَجُلٌ طاغِيَة .
نَصَارَى: جمْع نصرانٍ ونصرانة، قيل: هو منسوبٌ إلى قريةِ نَصرة أو نصرانة، وهي قريةٌ نَزَلها عيسى عليه السَّلامُ، وقيل: كلمة النَّصارى في الأصل مأخوذةٌ مِنْ قَوْلِه: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ، ثم صار لازِمًا لهم بعدَ نَسْخِ شَريعَتِهم، وأصل (نصر): يدلُّ على إتيانِ خَيْرٍ وإيتائِه .
حَظًّا: نصيبًا مقدَّرًا، وَأصل (حظظ): النَّصِيبُ وَالْجَدُّ .
فَأَغْرَيْنَا: هيَّجْنَا، أو أَلْزَمْنا، مِن غَرِيَ بكذا، أي: لَهِجَ به ولَصِقَ، وأصلُ ذلك من الغِراء، وهو ما يُلْصَقُ به

.
المعنى الإجمالي:

يُخبِر تعالى أنَّه أخَذَ على مَن تقدَّمَ مِن أَسْلافِ اليَهودِ عهدًا مؤكَّدًا، وأقام عليهم اثْنَي عَشَرَ رئيسًا، يَتلقَّى كلُّ رئيسٍ ممَّن تحتَه المبايعةَ على السَّمْعِ والطَّاعةِ والوفاءِ بعَهْدِ الله تعالى، ويتولَّى توجيهَهم وحثَّهم على القِيامِ به، ومُطالَبَتَهم بذلك، ويُخْبِر تعالى أنَّه قال لبني إسرائيلَ: إنَّه معهم، لَئِنْ قاموا بما واثقَهم عليه، وذلك بأداءِ الصَّلاةِ كما ينبغي، ودَفْعِ الزَّكاة لمن يستحِقُّها، والإيمانِ برُسُلِ الله، ونَصْرِهم على أعدائِهم، والإنفاقِ في سبيلِ اللهِ تعالى ابتغاءَ رِضاه، فإنْ قاموا بذلك، فسيعفو اللهُ عن ذُنُوبِهم، وسيُدْخِلُهم جنَّاتٍ تَجْري الأنهارُ تحت أَشْجارِها وقُصورِها، ومَن كفَر وخالَفَ ذلك الميثاقَ، فقد ضلَّ وغَوَى عن الطَّرِيقِ القَويمِ.
ثم أَخْبَرَ تعالى أنَّه- بسببِ عَدَمِ وفائِهم بِعَهْدِهم، ونَقْضِهم الميثاَق- طَرَدَهم مِن رَحْمَتِه، وجعَلَ قُلُوبَهم قاسيةً غليظةً لا تتأثَّرُ بالمواعِظِ، ولا خيرَ فيها؛ يُبدِّلونَ كلامَ الله في التَّوراة، وتركوا قَدْرًا كبيرًا مما ذُكِّرُوا به من الوَحْيِ متعمِّدينَ، ثم خاطَبَ اللهُ نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه لا يزالُ يَكْتَشِفُ من اليهودِ المكرَ والخديعةَ، والغَدْرَ والخيانَةَ، إلَّا قليلًا منهم؛ يُوفون بِعُهودِهم التي يُبْرِمونها، ثم أَمرَه أن يَعْفوَ عن إساءَةِ هؤلاءِ القَوْمِ، وأنْ يُعْرِضَ عنهم؛ إنَّ الله يُحِبُّ المحسنينَ.
ثم بيَّن تعالى أنَّه أَخَذَ أيضًا العَهْدَ والميثاقَ مِن الذين ادَّعَوْا أنَّهم نَصَارى بأنْ يُطِيعُوا اللهَ، ويتَّبِعوا رُسلَه، فتَرَكوا قَدْرًا كبيرًا مما ذُكِّروا به مِنَ الوَحْيِ متعمِّدينَ، فعاقبَهم الله أنْ جعَل بينهم التباغُضَ والكراهيةَ والشِّقاقَ إلى يوم القيامَةِ، وسوف يُخْبِرهم سبحانه في ذلك اليَوْمِ بما كانوا يَفْعَلونه في الدُّنيا، وسيُعاقِبُهم عليه.
تفسير الآيات:

وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14).
مُناسَبَةُ الآياتِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنينَ بالوَفاءِ بعَهْدِه ومِيثاقِه، الذي أَخَذَه عليهم على لِسانِ عَبْدِه ورسولِه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأَمَرَهم بالقيامِ بالحقِّ والشَّهادَةِ بالعَدْلِ، وذكَّرَهم نِعَمَه عليهم الظَّاهِرةَ والباطِنَةَ، فيما هداهم له من الحقِّ والهُدى؛ شرَعَ يُبَيِّنُ لهم كيف أخَذَ العُهودَ والمواثيقَ على مَن كان قَبْلَهم مِن أَهْلِ الكِتابينِ: اليهودِ والنَّصارى
، فقال تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
في هذه الآيَةِ وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ناسَبَ ذِكْرُ ميثاقِ بني إسرائيلَ عَقِبَ ذِكْرِ ميثاقِ المُسلمينَ مِنْ قَوْلِه: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ؛ تحذيرًا من أنْ يكونَ ميثاقُ المسلمينَ كمِيثاقِهم، ولكي يؤدِّيَ المسلمونَ مِن جانبِهم ما استُحْفِظُوا عليه، ويتَّقُوا أن يَنقُضُوا ميثاقَهم معه ، فقال تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
أي: قد أَخَذْنا على مَن تَقَدَّمَ مِن أَسْلافِ اليهودِ عَهدًا ثقيلًا مؤكَّدًا وغليظًا .
وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا.
أي: وأقَمْنا عليهم اثْنَي عَشَرَ رئيسًا، موكولًا إليهم مُهِمَّةُ تَلقِّي مبايعَةِ مَن تَحْتَهم على السَّمْعِ والطَّاعَةِ؛ وفاءً بعهد الله تعالى، ومُهِمَّةُ تَوجيهِهم وحثِّهم على القيامِ به، ومُطالَبَتِهم به .
وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ.
أي: وقال اللهُ تعالى لبني إسرائيلَ: إنِّي مَعَكم بالحِفْظِ والعَوْنِ، والنَّصْرِ والتَّأييدِ .
ثم ذَكَر اللهُ عزَّ وجلَّ ما وَاثَقَهم عليه ، فقال:
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ.
أي: واللهِ إنْ أدَّيتُم- يا مَعْشَرَ بني إسرائيلَ- الصَّلاةَ على نحوٍ مُستقيمٍ ظاهرًا وباطنًا، ودَفَعْتُم الزكاةَ إلى مُستحِقِّيها كما أَمرْتُكم .
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي.
أي: وإنْ صَدَّقْتُم رُسُلي فيما جَاؤُوكُمْ به مِنَ الوَحْيِ، وأَقرَرْتُم وأَذْعَنْتُم وانْقَدْتُم لهم، دونَ تفريقٍ بينهم، ومنهم محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ.
أي: وإنْ نَصَرْتُموهم على أَعْدائِهم .
كما قال اللهُ تعالى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 8-9].
وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا.
أي: وإنْ أَنْفَقْتُم في سبيلِ الله تعالى عن إخلاصٍ وصِدْقٍ؛ ابتغاءَ مَرْضاةِ الكريمِ الوهَّابِ، واحتسابًا لجزيلِ الأَجْرِ والثَّوابِ .
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ.
أي: لَئِنْ قُمْتُم بهذه الأُمُورِ التي افتَرَضْتُها عليكم، لأُغَطِّيَنَّ بعَفْوِي عنكم على ذُنوبَكم التي سَلَفَتْ منكم، ولا أُؤَاخِذُكم بها .
وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: وسأُدخِلُكم يومَ القيامَةِ جنَّاتٍ تَجري فيها الأنهارُ مِن تحت أَشْجارِها وقُصُورها .
فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ.
أي: فمَن خالَف هذا الميثاقَ المؤكَّدَ وجَحَدَه، فقد عَدَلَ عن طَريقِ الحقِّ الواضِحِ، وتاهَ عن الصِّراطِ المُستقيمِ .
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13).
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ.
أي: فبِسَبَبِ عَدَمِ وفاءِ اليَهودِ بالعَهْدِ المؤكَّدِ الذي أُخِذَ عليهم؛ طَرَدْناهم مِنْ رَحْمَتِنا، وأَبْعَدْناهم عن الحقِّ والهُدى .
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً.
القراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفْسيرِ:
في قَوْلِه تعالى: قَاسِيَةً قِراءتانِ :
1- قَسِيَّةً بتَشْديدِ الياءِ من غير ألِفٍ، على وَزْنِ (فعيل)؛ للمبالغَةِ، وقيل: لإفادَةِ معنى التَّكريرِ، وهذا أبلغُ في الذَّمِّ والمَدْح من (فاعل)، وقيل: (قَسِيَّة)، أي: رَدِيئة، فتكون القُلُوبُ القَسِيَّةُ هي التي لَيْسَتْ بخالصةِ الإيمانِ، أي قد خالَطَها كُفْرٌ، فهي فاسِدَةٌ .
2- قَاسِيَةً بالأَلِف وتخفيفِ الياءِ، اسمُ فاعِلٍ مِن قَسَا يَقْسُو، والقلوبُ القاسِيَةُ هي الغَلِيظةُ البائِنَةُ عن الإيمانِ، والتي نُزِعَت منها الرَّحمةُ والرَّأفة .
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً.
أي: وبِسَبَب عَدَمِ وفائِهم بالعَهْدِ المؤكَّدِ الذي أُخِذَ عليهم، عاقَبْناهم أيضًا بأنْ جَعَلْنا قُلُوبَهم ملازِمةً لصِفَةِ القَسْوَةِ والغِلْظَةِ، مَنزوعًا منها الخَيْرُ، وإذا ما اتَّعَظوا؛ فإنَّه لا تُجْدِي فيهم المواعِظُ، وإذا تُلِيَتْ عليهم الآياتُ؛ فإنَّهم لا يَنْتَفِعونَ بها، فلا يُرغِّبُهم تشويقٌ، ولا يُرَهِّبُهم تخويفٌ .
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
أي: إنَّ قَسْوَةَ قُلوبِهم جَعَلَتْهم يُحرِّفونَ كلامَ ربِّهم في التَّوراةِ التي أَنْزَلَها على نبيِّهم مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فتأوَّلوا كلامَه على غَيْرِ ما أَنْزَلَه، وحَمَلُوه على غيرِ مُرادِه، وقالوا عليه ما لم يَقُلْه تعالى وتَقدَّسَ .
وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
أي: ونَسُوا نصيبًا مِن وَحْيِ الله تعالى، فضاعَ منهم، كما أنَّهم أَهْمَلوا- وتَركوا عن عَمْدٍ- نصيبًا منه، فلم يَعْمَلوا به؛ رَغبةً عنه، فضيَّعوا أمْرَ اللهِ عزَّ وجلَّ .
وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
أي: ولا تزالُ- يا محمَّدُ- تكتَشِفُ وتشاهِدُ مِنَ اليَهودِ شيئًا ممَّا هم مُسْتَمِرُّونَ عليه مِنَ المَكْرِ والغَدْرِ، والخيانَةِ والخَديعةِ لك ولأصحابِك، إلَّا قليلًا من اليَهودِ قد سَلِموا من ذلك؛ فهم يُوفُونَ بِمَا عُوهِدُوا عليه .
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ.
أي: فتَجَاوَزْ- يا محمَّدُ- عن أولئك القَوْمِ، ولا تُؤاخِذْهم على ذلِك، وأَعْرِضْ عنهم .
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
أي: إنَّما أَمَرْناك بالعَفْوِ والصَّفْحِ عن أولئك القَوْمِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّ عبادَه المُحسنينَ، الذين مِن إِحْسَانِهم العفوُ والصَّفحُ عمَّن أَسَاءَ إليهم .
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) .
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ.
أي: وأَخَذْنا مِنَ الَّذينَ ادَّعَوْا أنَّهم نَصَارى يَنصرُون الحقَّ، ويتَّبِعُونَ المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ عليه السلام؛ أخَذْنا عليهم العُهُودَ والمواثيقَ على طاعَتِي واتِّباعِ رُسُلِي .
فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
أي: فنَسُوا نَصيبًا مِن وَحْيِ اللهِ تعالى، فضاع منهم، كما أنَّهم أَهْمَلوا- وتَرَكوا عن عمدٍ- نصيبًا منه، فلمْ يعملوا به؛ رغبةً عنه، فضيَّعوا أَمْرَ اللهِ سبحانه .
فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أي: لَمَّا ترَكَ هؤلاء النَّصارى الوَفَاءَ بعهْدِي، عاقَبْناهم بأنْ جَعَلْنا بينهم الشِّقاقَ والعَدَاءَ والتباغُضَ؛ بالأَهواءِ التي حدَثتْ بينهم، واختلافِهم في قَوْلِهم في المسيحِ، فتَسَلَّط بعضُهم على بعضٍ، فكَفَّرَ بَعْضُهم بعضًا، ولعَن بَعْضُهم بعضًا، ولا يزالونَ كذلك إلى قِيامِ السَّاعَةِ .
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
أي: وسوف يُخْبِرُهم اللهُ عزَّ وجلَّ- عند وُرودِهم عليه في مَعادِهم- بما كانوا يَعْمَلونه في الدُّنيا مِنْ نَقْضِهم ميثاقَه، ونَكْثِهم عَهْدَه، فيُعاقِبُهم على ذلك بحَسَبِ استحقاقِهم

.
الفوائد التربوية:

1- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا أنَّه ينبغي للنَّاسِ أن يتَّخِذوا نُقَبَاءَ يرجعونَ إليهم في أُمُورِهم؛ عند النِّزاع يكونونَ مُصلِحين، وعند الإِشكالِ يكونون مُوَضِّحينَ، وما أشبهَ ذلك
.
2- في قَوْلِه تعالى: إِنِّي مَعَكُمْ هذه المعيَّةُ دَلالةٌ على عِظَمِ الاعتناءِ والنُّصْرةِ، فمَن كان اللهُ معه، فلا شَيءَ إذنْ ضِدُّه، ومهما يكُنْ ضِدَّه من شيءٍ، فهو هباءٌ لا وُجودَ في الحقيقةِ له ولا أَثَرَ، ومَن كان اللهُ معه فلن يَضِلَّ طريقَه، ومَن كان اللهُ معه فلنْ يَقْلقَ ولن يَشقَى؛ فإنَّ قُرْبَه من الله يُطَمْئِنُه ويُسْعِدُه، وعلى الجملةِ فمَن كانَ الله معه فقد ضَمِن، وقد وصَلَ، وما له زِيادةٌ يَستزيدُها على هذا المقامِ الكريمِ .
3- وُجوبُ نُصْرَةِ الرُّسُلِ؛ لقوله: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ، فنُصْرَتُهم في حياتهم أن يكونَوا معهم في الجهادِ والدِّفاعِ، وغير ذلك، ونُصْرَتُهم بعد وَفاتِهم أن يَنصُروا شَرَائِعَهم ويُقِيمُوها بين النَّاسِ، فواجِبٌ علينا نحن الآن أن نَنْصُرَ شريعةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ .
4- أنَّه يُبْدَأُ بالنَّجاةِ مِنَ المرْهوبِ قبل بيانِ حُصُولِ المَطْلوبِ؛ لِقَوْلِه: لأَكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأَدْخِلَنَّكُمْ، وهو شاهدٌ لِمَا اشْتَهَرَ عند العُلماءِ أنَّ التَّخْلِيَةَ قَبل التَّحْلِيَة، أي: إزالةُ الشَّوائِبِ والعوائِقِ قبل أن يَحصُلَ المَطْلوبُ .
5- قَوْله: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ فيه أنَّ المؤمِنَ اهتدى إلى سواءِ السَّبيلِ؛ أي: وَسَطَها دُونَ حافَتَيْها، وجهُ ذلك: أنَّه إذا ثَبَتَ في حُكم الكافِرِ ضلالُ سواءِ السَّبيلِ، فَيَثْبُتُ ضدُّ حُكْمِه للمُؤْمِنِ؛ وذلك لأنَّه إذا تضادَّتِ الأَعْمالُ تضادَّتِ الجزاءاتُ .
6- يُستَفادُ من قوله تعالى: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً أنَّ للقُلوبِ أحوالًا: قسوةً ولينًا، وأنَّه كلَّما عصى الإنسانُ ربَّه قَسَا قلبُه، وعلى العكس: كلَّما أطاعَ الإنسانُ ربَّه لانَ قلبُه، وما أكثرَ الذين يَطلُبون أن تلينَ قلوبُهم، ويسألونَ ما هو الدواءُ لقَسْوَةِ القَلْبِ؟ فالجوابُ أنَّ الدَّواءَ لقَسْوَةِ القلب: كثرةُ طاعَةِ الله عزَّ وجلَّ ، والإكثارُ مِن الذِّكْرِ، وقراءةُ القرآنِ بتدبُّر.
7- أنَّ المعاصِيَ سببٌ لقلَّة فَهْم كلام الله عزَّ وجلَّ، أو للعُدْوانِ في فَهمِه؛ لقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ، وتحريف الكَلِم عن مواضعه: إمَّا أن يكون سببُه الجهلَ وفَقْدَ العِلم، وإمَّا أن يكون سببُه الاستكبارَ والعدوان، فالمعاصِي سببٌ لعَدَمِ الأخْذِ بالنُّصوصِ، وسببٌ لتَحْريفِها .
8- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه تعالى: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أنَّ قسوةَ القلبِ، وتحريفَ الكَلِمِ عن مواضعه، ونِسيانَ ما ذُكِّرَ به الإنسانُ؛ مِن خصالِ اليهودِ، وإذا كانتْ من خِصالِهم، فالواجبُ على الإنسانِ أن يبتَعِدَ عنها، وأن يَفِرَّ منها فِرارَه مِنَ الأَسَدِ .
9- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ حُسْنُ معامَلَةِ الإسلام لعدوِّه، وذلك حين أَمَرَ اللهُ بالعفو عنهم والصَّفْحِ، ولا سيَّما إذا ظَهَرَ النَّصْرُ لنا، فحينئذٍ يأتي دورُ العَفْوِ؛ لأنَّ العَفْوَ الحقيقيَّ الذي يُمدَحُ عليه صاحِبُه، هو: العَفْوُ مع القُدْرَةِ، أمَّا العَفْوُ مع العَجْزِ، فهذا ليس بِعَفْوٍ، ولا يُحمَدُ عليه الإنسانُ .
10- قوله: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ هذا كالتَّعليلِ لِمَا سبَق مِنْ قَوْلِه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، أي: إنَّما أَمَرْناك بالعَفْوِ والصَّفْحِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يحبُّ المحسنينَ، وفيه أيضًا أنَّه إذا كان اللهُ يُحِبُّ ذلك فلا ينبغي التأخُّرُ في العَمَلِ به، وفيه الحثُّ على الإِحْسانِ ومَكارِمِ الأخلاقِ الجالِبةِ لحبِّ الله تعالى .
11- أنَّ عدَمَ المؤاخَذةِ على الذَّنبِ من الإحسانِ؛ لقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
12- أنَّ إضاعةَ حقِّ اللهِ مِن أسبابِ إلْقاءِ العَداوةِ والبَغْضِاءِ بين الناس، بمعنى أنَّك متى وجدْتَ عداوةً وبَغْضاءَ بين النَّاس، فهذا بسببِ إعراضِهم عن دِين اللهِ؛ لقوله: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا، فالفاءُ في فَأَغْرَيْنَا للسَّبَبيَّةِ، والعكْسُ يكون بالعَكْسِ، بمعنى أنَّ النَّاسَ إذا قاموا بِطاعَةِ اللهِ واتَّفَقوا عليها، فإنَّ اللهَ يُلقي بينهم المودَّةَ والمحبَّةَ والولايةَ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- أنَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ مفروضةٌ على الأُمَمِ السَّابقة؛ لِقَوْلِه: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، فالصَّلواتُ والزَّكوات مفروضةٌ، لكن لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِها مفروضةً أن تكونَ مماثِلَةً لِمَا وجَبَ علينا في الكيفيَّةِ والوَقْتِ والمقدار
.
2- بيانُ فَضْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ على العِبادِ؛ حيث إنَّه يُعْطِيهم الرِّزْقَ، ثمَّ يقولُ تعالى: وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا، وهو المُعطي أولًا، والمثيبُ ثانيًا؛ لقوله: وَأَقْرَضْتُمُ، والحكمةُ في التَّعبيرِ عن الإِنْفاقِ في سبيلِ الله بالقَرْضِ، أنَّ اللهَ جعَلَ الإنفاقَ في سبيلِه بمنزلَةِ القَرْضِ الذي يَلْزَم المُستَقْرِضَ أنْ يُوَفِّيَه .
3- قوْلُه تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ إشارةٌ إلى إزالةِ العِقابِ، وقولُه: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ إشارةٌ إلى إيصالِ الثَّوابِ؛ فجَمَعَ لهم بين حصولِ المحبوبِ بالجَنَّةِ وما فيها من النَّعيمِ، واندفاعِ المكروهِ بتكفيرِ السيِّئاتِ، ودفْعِ ما يترتَّبُ عليها من العُقوباتِ .
4- أنَّ نعيمَ الجنَّة نعيمٌ للنَّفْسِ والقَلْب، والسَّمْعِ والبصر، وكلِّ شيءٍ، وذلك حينما ذكَر أنَّ هذه الجَنَّاتِ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وهذا لا شَكَّ أنه يُطْرِبُ السَّمْعَ، فحفيفُ جَريانِ النَّهْرِ يُطْرِبُ السَّمع؛ ولهذا تَجِدُ الإنسانَ يقِفُ عند الشلَّالاتِ متمتِّعًا بالاستماعِ إليها، وكذلك النَّظَر أيضًا، وكذلك القَلْبُ، والنَّفْسُ تستريحُ .
5- في هذه الآيَةِ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ لطيفةٌ جليلةٌ، وهي أنَّ الضلالَ بعدَ الإيمانِ أظهَرُ وأعظَمُ؛ لأنَّ الكُفْرَ إنَّما عَظُم قُبْحُه لِعِظم النِّعْمَةِ المكفورةِ، فإذا زادتِ النعمةُ زاد قُبحُ الكُفرِ، وبَلَغ النِّهايةَ القُصْوى .
6- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ التَّنبيهُ على أنَّ الغالِبَ أنَّ وَسَطَ السَّبيلِ والطَّريقِ هو الحقُّ؛ لأنَّ سَوَاءَ بمعنى وَسَط؛ كَقَوْله تعالى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55] ، أي: في وسَطِها ومستَقَرِّها، وهذا هو الغالِبُ؛ أنَّ ما تَطرَّفَ عن الوَسَطِ، فهو ضلالٌ .
7- قوْلُه تعالى: ونَسُوا حَظًّا: عبَّر بالماضي نَسُوا؛ لأنَّ النِّسيانَ لا يتجَدَّدُ، فإذا حَصَلَ مضى، حتى يذكِّرَه مذكِّرٌ .
8- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا أنَّ النِّسيانَ يأتي لمعنيينِ: الأوَّل: النِّسيان العَمليُّ، ومعناه التَّرْك، والثَّاني: النسيانُ العِلميُّ، وهو النسيان بعدَ الذِّكْر، والمرادُ مِنَ الآيَةِ كِلاهما .
9- أنَّ هؤلاء قد أُقيمَتْ عليهم الحُجَّة، ولكنَّهم ترَكوا العَمَلَ بعد إقامَةِ الحُجَّةُ؛ لقوله: مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ .
10- أنَّ خِيانةَ اليَهودِ لا تزالُ باقيةً؛ لِقَوْلِه: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ، وفي ذلك تسليةٌ له صلَّى الله عليه وسلَّمَ ، وإرشادٌ للمُسلمين في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ألَّا يَنخْدِعوا بهم.
11- إثباتُ المحبَّةِ لله تعالى؛ لقوله: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، ومحبَّةُ الله عزَّ وجلَّ ثابتةٌ بالكِتابِ والسُّنة وإجماعِ السَّلَفِ .
12- إقامةُ الحُجَّة على الخَصمِ بما يَدَّعيه؛ لقوله: قَالُوا إِنَّا نَصَارَى؛ لأنَّه تقدَّم أنَّ الحِكمةَ مِنْ قَوْلِه: قَالُوا إِنَّا نَصَارَى دون قَوْلِه: (ومِن النَّصارى)؛ لإقامَةِ الحُجَّة عليهم بما ادَّعوه، فهم يَدَّعون أنَّهم نصارى، ومع ذلك نَسُوا حظًّا ممَّا ذُكِّروا به؛ فقد سَمَّوا أنفُسَهم بهذا الاسْمِ؛ ادِّعاءً لنُصرةِ الله تعالى، فبيَّن اللهُ تعالى أنَّهم يَدَّعونَ هذه الصِّفَةَ، ولكنَّهم ليسوا موصوفينَ بها عند الله تعالى، ولم يُحقِّقُوها في حياتهم واقعًا .
13- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ وكذلك من قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وقَوْلِه: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ، أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لم يُغْفِل أُمَّةً من الميثاقِ الذي أخَذَه عليهم؛ فأخَذَ الميثاقَ على اليهودِ، وأخَذَه على النَّصارى، وأخَذَه على هذه الأُمَّة؛ بل أخَذَه على جميعِ بني آدمَ .
14- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ التفريقُ بين العَداوَةِ والبَغضاءِ، العداوة: ضِدُّها الوَلاية، والبَغضاء: ضدُّها المحبَّةُ، وهناك فرقٌ بين حبيبٍ ليس وليًّا وبين حبيبٍ هو وَلِيٌّ، وبين بغيضٍ ليس عدوًّا، وبغيضٍ هو عدوٌّ؛ لأنَّ البَغيضَ قد يَعتدي عليك فيكون بذلك بَغيضًا عدوًّا، وقد لا يَعتدي عليك، ولكن يَكْرَهُك فقط، فلا يكون عدوًّا .
15- الردُّ على الجبريَّة؛ لقوله: يَصْنَعُونَ، فأضافَ الفعلَ إليهم، والأَصْلُ أنَّ الفِعْلَ إذا أُضيف إلى أحدٍ، فإنَّه قائمٌ به، مختار له، والجَبْرية يقولون: إنَّ الإنسانَ مجبَرٌ على عَمَلِه، حتى في الحرَكاتِ الإراديَّةِ، يقولون: هو مُجبَر، حتى لو أراد الإنسانُ أن يأكلَ أو يشربَ، يقولون: هو مُجبَرٌ على ذلك، ولا شكَّ أنَّ قَوْلَهم هذا يُخالِفُ المحسوسَ والمعقولَ والمنقولَ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ...
- قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فيه تأكيدُ الخَبَرِ الفِعلي والاهتمامُ به؛ فـ(قَدْ)؛ للاهتمام به، والقَسَمُ الذي دلَّت عليه هذه اللَّامُ الموطِّئة يُفيدُ أنَّ اللهَ تعالى قد أخَذ العهد الموثَّقَ على بني إسرائيلَ لَيَعْمَلُنَّ بالتَّوراةِ التي شرَعها لهم؛ لإفادَةِ تأكيدِ هذا الأَمْرِ وتحقيقِه، والاهتمامِ بما رُتِّب عليه؛ لأنَّ الرَّسولَ قد عُلِّمَه بالوَحْيِ الإلهيِّ، وإنْ لم يَطَّلِعْ على تَوْراتهِم، ولا على شَيءٍ من تاريخِهم
.
- وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ: ذكَر الله سبحانه نَفْسَه بالغَيبة؛ تعظيمًا وتكبيرًا له جلَّ وعلا، وَجْهُه أنَّه لم يقُل: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا)، وهذا كما يقول الملكُ لجنوده: إنَّ المَلِك يأمرُكم أن تَفْعلوا كذا، لا يقول: إنِّي آمُرُكم، فإظهارُ الاسْمِ الجليل (اللهُ)؛ لتربيةِ المهابة، وتفخيمِ الميثاقِ، وتهويلِ الخَطْبِ في نَقْضِه، مع ما فيه من رِعاية حقِّ الاستئنافِ المُستدعِي للانقطاعِ عمَّا قَبْلَه .
2- وقوله: وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا: فيه التفاتٌ، حيث عبَّر بقوله: بَعَثْنَا بعد وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ، ولم يقل: (وأَخَذْتُ)؛ للجَريِ على سَنَنِ الكِبْرياءِ، وقيل: لأنَّ البَعْثَ كان بواسِطَة موسى عليه السَّلام ، فمِن أساليبِ البلاغة الانتقالُ من أسلوبٍ إلى آخَرَ؛ لتنبيهِ المخاطَب، ولا شكَّ أنَّ تغيُّر الأسلوبِ يُوجِبُ الانتباهَ .
- وفيه: تقديمُ الجارِّ والمجرورِ مِنْهُمُ على المفعولِ الصَّريحِ اثْنَي عَشَرَ؛ للاهتمامِ بالمقدَّم، والتَّشويقِ إلى المُؤَخَّر .
3- وقوله: وَقَالَ اللهُ فيه: التفاتٌ أيضًا؛ حيث لم يقُل: (وقُلْنَا) كما قال وَبَعَثْنَا، وفائدتُه: تربيةُ المهابةِ، وتأكيدُ ما يتضمَّنُه الكلامُ مِنَ الوَعْدِ .
4- قوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي فيه: تقديمُ الصَّلاةِ والزَّكاةِ على الإيمانِ؛ تشريفًا لهما، وقد عُلِمَ وتَقرَّر أنَّه لا ينفعُ عَمَلٌ إلَّا بالإيمانِ ، وأخَّرَ الإيمانَ بالرُّسُلِ عن إقامِ الصَّلاة وإيتاءِ الزكاة، مع أنَّه مقدَّمٌ عليهما؛ لأنَّ اليهودَ كانوا مُقرِّينَ بأنَّه لا بدَّ في حُصولِ النَّجاة من إقامِ الصَّلاةِ وإيتاء الزكاة، إلَّا أنَّهم كانوا مُصِرِّين على تكذيبِ بعضِ الرُّسُل، فذَكَر أنَّ بعدَ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا بدَّ من الإيمانِ بجميعِ الرُّسُل؛ حتى يحصُلَ المقصودُ، وإلَّا لم يكُن لإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزكاة تأثيرٌ في حُصولِ النَّجاة بدونِ الإيمانِ بجميع الرُّسُل .
5- قوله: وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فيه: تخصيصُ الإنفاقِ (الإقراض) بالذِّكْرِ؛ تنبيهًا على شَرفِه وعُلُوِّ مَرتَبَتِه .
- وفائدةُ إعادَةِ قَوْلِه: وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا بالرَّغمِ من أنَّه داخلٌ تحتَ إيتاءِ الزَّكاة؛ لأنَّ المرادَ بالزكاةِ الواجبةُ وبالقرضِ الصَّدقةُ المندوبةُ، وخصَّها تنبيهًا على شَرفِها، وقد نبَّه على الصَّدقاتِ المَندوبَةِ بذِكْرها فيما يترتَّبُ على المجموعِ تشريفًا وتعظيمًا لمَوْقِعِها من النَّفْعِ المتعدِّي .
6- قوله: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ: فيه إيجازٌ بديعٌ، وبيانُ ذلِك: أنَّ العَداوةَ والبغضاءَ اسمانِ لمعنَيينِ مِن جِنسِ الكَراهيةِ الشَّديدةِ؛ فهُمَا ضِدَّانِ للمحبَّةِ، وظاهِرُ عطفِ أَحدِ الاسمينِ على الآخَرِ في القُرآنِ أنَّهما ليسَا من الأسماءِ المترادِفةِ؛ لأنَّ التزامَ العَطفِ بهذا الترتيبِ يَبعُد أنْ يكونَ لمجرَّدِ التأكيد؛ فإذا كان كذلك لم يَصِحَّ اجتماعُ مَعنيي العَداوةِ والبغضاءِ في موصوفٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ؛ فيتعيَّن أنَ يكونَ إلقاؤُهما بينهما على معنى التَّوزيعِ، أي: أغَرْينا العداوةَ بين بعضٍ منهم والبغضاءَ بين بعضٍ آخَرَ؛ فوقَع في هذا النظم إيجازٌ بديعٌ؛ لأنَّه يرجِع إلى الاعتمادِ على عِلْمِ المخاطَبين بعدَم استقامةِ اجتماعِ المعْنَيَيْنِ في موصوفٍ واحدٍ؛ إذ إنَّ بين مَعْنَيَيِ العداوة والبغضاءِ التضادَّ والتبايُنَ؛ فالعداوةُ كراهيةٌ تَصدُر عن صاحِبِها: معاملةٌ بجَفاء، أو قطيعةٌ، أو إضرارٌ؛ لأنَّ العداوةَ مشتقَّةٌ من العَدْوِ، وهو التجاوُز والتباعُدُ. وأمَّا البغضاءُ فهي شدَّةُ البُغْضِ والكراهية، غيرَ مصحوبةٍ بعَدْوٍ، فهي مُضْمَرَةٌ في النَّفْسِ .
7- قوله: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى: خبرٌ فيه توبيخٌ لهم وزجرٌ عمَّا ادَّعَوْه مِن أنَّهم ناصِرو دِينِ الله وأنبيائِه؛ إذ جَعَل ذلك منهم مُجرَّدَ دَعوى لا حقيقة .
- وفيه تعريضٌ؛ حيث يُفيدُ لفظُ قَالُوا بطريقِ التَّعريضِ الكِنائيِّ أنَّ هذا القولَ غيرُ مُوَفًّى به، وأنَّه يَجِبُ أن يُوفَّى به .
8- قوله: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ: فيه تأكيدُ الكلامِ وتمكينُه في النَّفْسِ بذِكر (مَا) .
9- قوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ التعبيرُ بصِيغة المضارِعِ في قوله: يُحَرِّفُونَ؛ للدَّلالة على التجدُّدِ والاستِمْرارِ .
- والجملةُ استئنافٌ لِبَيانِ قَسْوةِ قلوبِهم؛ فإنَّه لا قسوةَ أشدُّ من تغييرِ كلامِ الله سبحانه وتعالى والافتراءِ عليه ، وقيل: حالٌ من مفعول لَعَنَّاهُمْ، أي: لعنَّاهم حالَ كونِهم محرِّفين الكَلِم .
10- قوله: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ: فيه تأكيدُ الوعيدِ بذِكْرِ كلمةِ (سَوْفَ). والالتفاتُ إلى ذِكر الاسمِ الجليلِ (الله)؛ لتربيةِ المهابَةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ؛ لتشديدِ الوعيدِ بعذابِ الآخِرَةِ .


8.======


سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان ( 15 - 16)
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ
غريب الكلمات:

سُبُلَ السَّلَامِ: طُرُقَ السَّلامَة، أو طُرُقَ الجَنَّة، أو طُرُقَ الله، وهي دِينُه

.
المعنى الإجمالي:

يُوجِّه اللهُ الخِطابَ إلى أهْلِ الكتابِ منَ اليهودِ والنصارى مُبيِّنًا لهم أنَّه قد بعَث إليهم رَسُولَه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم الذي يَعرِفونَ أوصافَه في كتُبِهم، يُظْهِرُ كثيرًا ممَّا كانوا يُخْفُونه عن النَّاسِ، ويوضِّحُ ما حرَّفوا وبدَّلوا مِن كلامِ الله، ويَتْرُكُ كثيرًا ممَّا غيَّروه وكَتَموه ممَّا لا فائدةَ مِن بيانه وذِكْرِه، ثم ذَكَّرَهم تعالى بأنَّه قد جاءَهم من اللهِ كتابٌ عظيمٌ، وهو القرآنُ الكريمُ، وهو نورٌ يُستضاءُ به في ظُلُماتِ الجَهْلِ والغَواية، ويبيِّن للخَلْقِ كلَّ ما يحتاجونَه من أمورِ دِينِهم ودُنياهم، ويُرشِدُ اللهُ به مَن أرادَ الوصولَ إلى رِضاه جلَّ وعلا، فيوفِّقُهم لسُلُوكِ طُرُقِ النَّجاةِ والأمْن والسَّلامَةِ في الدُّنيا والآخِرَةِ، حتى يَبلُغوا الجَنَّةَ؛ دارَ السَّلامِ، ويُخرجُهم من ظُلُماتِ الكُفْرِ والمعاصي إلى نورِ الإيمانِ والطَّاعة بمشيئَتِه سبحانه، ويَهديهم إلى الطَّريقِ القَويمِ، وهو دِينُه الحَنيفُ.
تفسير الآيتين:

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى عن اليَهُودِ والنَّصارى نقْضَ العَهْدِ دَعاهم بعد ذلك إلى الإيمانِ بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ
فقال:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا.
أي: يا أيُّها اليهودُ والنَّصارى- يا من تَعلمونَ مِن التَّوراةِ والإنجيلِ صِفاتِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وثُبوتَ بَعْثتِه- ها قد أتاكم مُحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ.
أي: جاءَكم يُظْهِرُ كثيرًا ممَّا كنتم تَكتُمونَه عن النَّاسِ، ويُوضِّحُ ما بدَّلْتُموه وحرَّفْتُموه وأوَّلْتُموه على غيرِ وَجْهِه المُرادِ.
وممَّا كانوا يُخفونَ مِنْ أَحْكامِ التَّوراةِ: رجْمُ الزَّاني المحصَن، ومِن ذلك: ما أخفاه اليهودُ من صِفاتِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ في كتابِهم، وإنكارُهم أنَّهم يَعرفونَ أنَّه هو الرسولُ المُنتظَرُ، ومن ذلك: كتْمُ النَّصارى بِشارةَ عيسى ابنِ مريمَ لهم بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.
أي: ويَترُك ذِكرَ كثيرٍ ممَّا كَتَمْتموه وغيَّرْتُموه ممَّا لا فائدةَ في بيانِه، ولا ذِكْره .
قال تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام: 91] .
قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ.
أي: قد جاءَكم- يا أهلَ التَّوراةِ والإنجيلِ- مِنَ اللهِ تعالى القرآنُ العظيمُ، الذي نزَل على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ نورٌ يُستضاءُ به في ظُلماتِ الجَهالة، وعَمَايَةِ الضَّلالة، ويُنيرُ لكم به معالمَ الهِدايَةِ، وهو نورٌ في قلوبِ أَهْلِه المتَّبِعِينَ له، ونورٌ في وُجُوههم، ونورٌ في قُبُورِهم، ونورٌ لهم يومَ القيامَةِ، وهو كتابٌ يُبيِّنُ للخَلْقِ كلَّ ما يحتاجونَ إليه من أُمُورِ دِينِهم ودُنياهم .
يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16).
يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ.
أي: يُرشِدُ اللهُ عزَّ وجلَّ ويُسدِّدُ بهذا القرآنِ العظيمِ، مَن ابتغى بلوغَ مَرْضاةِ الله تعالى فأَقْبَل عليه، وأسلمَ وآمَنَ بالله ربًّا، وبمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ نبيًّا، فيُرْشِدُه ويوفِّقُه إلى اتِّباع شرائعِ الإسلامِ، التي فيها النَّجاةُ والأمنُ والسَّلامةُ في الدُّنيا والآخِرة، حتى يَستقرَّ في الجَنَّةِ؛ دارِ السَّلامِ، المنزَّهةِ عن كلِّ آفةٍ، والمُؤمَّنَةِ مِن كلِّ مَخافةٍ .
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ.
أي: ويُخْرِجُ مَن اتَّبَعَ رِضوانَه، وهَدَاه سُبُلَ السَّلامِ، مِن ظُلُماتِ الكُفرِ والشِّركِ والمعاصِي، إلى نورِ الإيمانِ واليقينِ والطَّاعَةِ بمشيئةِ الله عزَّ وجلَّ .
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أي: ويُرشِدُهم ويُسدِّدُهم إلى طريقٍ لا اعوجاجَ فيه، وهو دِينُ اللهِ القَويمُ

.
الفوائد التربوية:

1- أنَّه كلَّما اتَّبَعَ الإنسانُ ما يُرْضي اللهَ، ازدادَ معرفةً بشريعةِ اللهِ؛ لِقَوْلِه: يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ، وعلى العَكْسِ؛ فمَن أعْرَضَ عن رِضوانِ الله، فإنَّه لا يُهدَى سُبُلَ الله؛ لأنَّه ليس أهلًا للهِدايةِ
.
2- يُستَفاد مِن قَوْلِه سبحانه: سُبُلَ السَّلَامِ أنَّ مَن سلكَ سَبيلَ الشريعةِ فقد سَلِم سلامةً مُطلَقةً؛ في عقيدَتِه، وأعمالِه، وجزائِه؛ لأنَّ هذا المسلكَ سيؤدِّي به إلى دارِ السَّلامِ التي يدعو اللهُ تعالى إليها؛ كما قال عزَّ وجلَّ: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: 25] .
3- أنَّه كلَّما تمسَّكَ الإنسانُ بشريعةِ الله هداه اللهُ تعالى؛ لقوله: وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ فالمعاصي سببٌ للزَّيْغِ، والطَّاعةُ والامتثالُ سببٌ للهِدايَةِ والرَّشَد، وهذا له أمثلةٌ كثيرة في القرآنِ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- قوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ عبَّر بالمضارِعِ في يُبَيِّنُ إشارةً إلى أنَّ دِينَه وبيانَه لا ينقَطِعُ أصلًا بحِفْظِ كِتابِه، فكلَّما دَرَسَتْ سُنَّةٌ قيَّضَ الله عالِمًا يردُّ النَّاسَ إليها بالكِتابِ المعْجِز القائِمِ أبدًا؛ فلذلك لا يحتاجُ الأمْرُ إلى نبيٍّ مجدِّدٍ إلَّا عند الفِتنَةِ التي لا يُطيقُها العلماءُ، وهي فتنةُ الدَّجَّالِ ويأجوجَ ومَأْجوجَ
، وينزلُ عيسى عليه السَّلامُ حاكمًا بشريعةِ الإسلامِ، لا نبيًّا برسالةٍ مستقلةٍ، وشريعةٍ ناسخةٍ .
2- قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ: هم اليهودُ والنَّصارى، أضافَهم اللهُ تعالى إلى الكِتابِ، وسمَّاهم أهلًا له؛ لإقامةِ الحُجَّةِ عليهم ونَفْيِ العُذْرِ؛ فعندهم علمُ معرفةٍ؛ ويعرِفونَ الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم كما يعرِفون أبناءَهم .
3- رِفْعةُ شأنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ وذلك لِقَوْلِه: رَسُولُنَا، فإنَّ إضافةَ رِسالَتِه إلى الله لا شكَّ أنَّها شَرَفٌ، وكلُّ ما يُضافُ إلى الله فهو شَرَفٌ .
4- أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ مُرسَلٌ إلى أهلِ الكتابِ؛ لِقَوْلِه: قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا، وهو كذلك، فهو مُرْسَلٌ إليهم بالقرآنِ والسُّنةِ وإجماعِ المسلمين .
5- أنَّ أهلَ الكتابِ أهلُ كِتمانٍ للعِلم؛ لقوله: كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ، وأنَّ مَن كتَم العِلْمَ مِن هذه الأمَّة ففيه شَبَهٌ باليهودِ والنَّصارى؛ لأنَّ هذا هو دَأْبُهم؛ فمَن كتَم فقد شابَههم في أَقْبَحِ خَصلة- والعياذُ بالله- وهي كتمانُ ما جاءَهم مِنَ العِلْم .
6- قوْلُه تعالى: ممَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ... في هذه الآيَةِ دلالةٌ على صِحَّةِ نُبوَّةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ إعلامَه بما يُخفونَ مِن كِتابِهم- وقد أخْفَى النَّصارى التوحيدَ، وأخفى اليهودُ كثيرًا من أحكامِ الشَّريعةِ كرَجْمِ الزَّاني، وتحريمِ الرِّبا كافَّةً، كما أَخْفَوا جميعًا خبرَ بَعْثةِ النبيِّ الأميِّ- وهو أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يَكتُب ولا يَصْحَبُ القرَّاءَ؛ دلالةٌ على أنَّه إنما يُعلِّمُه اللهُ تعالى
7- قوله: سُبُلَ السَّلَامِ لم يَقُلْ: (سَبِيْلَ السَّلام)، مع أنَّ التعبيرَ الغالب أنه يُعبَّر عن طَريقِ الإسلامِ بالإفراد، وعن طُرُقِ الضلال بالجَمْع، لكن هنا لَمَّا قال: اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ تعيَّن أن يكونَ المرادُ بالسُّبُل هنا شرائعَ الإسلامِ؛ لأنَّه إذا كان متَّبِعًا لرضوان الله فقدِ اهتدى وأسلَمَ وآمَن، لكنَّ الإسلامَ له شرائعُ وله سُبلٌ؛ فلهذا قال: سُبُلَ السَّلَامِ، وإضافةُ السُّبل إلى السَّلام من بابِ إضافةِ الشيءِ إلى مُسبَّبِه؛ أي: السُّبلُ التي يَحصُل بها السَّلامُ، فالسَّلام مِن كل شيءٍ، والسَّلامُ من النَّار، والسَّلام من الزيغ، والسَّلام من الشُّبهات، يعني تشمَلُ كلَّ معنًى تحتمِلُه كلمة السَّلام، أمَّا الإسلامُ جملةً فهو سبيلٌ واحد .
8- إثباتُ الرِّضا لله تعالى؛ لقوله: يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ، فالرِّضوانُ بمعنى الرِّضا أو الرِّضا الكثيرِ، والرِّضا: صِفةٌ فعليَّة من صِفاتِ الله عزَّ وجلَّ، تتعلَّق بمشيئته ولها سببٌ، وسببُها عملُ العبدِ بتوفيقِ الله .
9- قوله تعالى: وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ فيه الردُّ على القَدَريَّة الذين يقولون: إنَّ اللهَ لا علاقةَ له بفِعل العَبْدِ .
10- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ أنَّ الشَّريعةَ نورٌ، وهي كذلك؛ هي نورٌ لا شكَّ، ولا يُحِسُّ بذلك إلَّا مَن آتاه الله تعالى إيمانًا ويقينًا كاملًا، وكلَّما كَمُل الإيمانُ ازدادَ الإنسانُ نورًا، وتَبيَّنَ له نورُ الشَّريعة .
11- قوْلُه تعالى: وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لفظة صِرَاطٍ مُفرَدةٌ؛ لأنَّ الحقَّ واحدٌ لِذَاتِه، ومُتَّفِقٌ من جميعِ جِهاتِه، وأمَّا الباطِلُ ففيه كثرةٌ، وكلُّها مُعْوَجَّة

.
بلاغة الآيتين:

1- قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ: فيه التفاتٌ إلى خِطابِ الفَريقينِ- اليهودِ والنَّصارى
، ووحَّد الكِتاب مع أنَّ لكلِّ فريقٍ كِتابًا؛ لأنَّه أراد جِنسَ الكِتابِ .
2- قوله: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ: جملة مُستأنَفةٌ مسوقةٌ لبيانِ أنَّ فائدةَ مجيءِ الرَّسولِ ليستْ منحصرةً فيما ذُكِرَ .
- وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ مِنَ اللهِ على الفاعِلِ نُورٌ للمُسارَعَةِ إلى بيانِ كَوْنِ المجيءِ من جِهته العاليةِ، والتَّشويق إلى الجائي، ولأنَّ فيه نَوعَ تطويلٍ يُخِلُّ تقديمُه بتجاوُبِ أطرافِ النَّظْم الكريمِ، وتنكيرُ نُورٌ؛ للتَّفْخيمِ .
- وجملة قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ بدلٌ مِن جملة قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا بدل اشتمالٍ؛ لأنَّ مَجيءَ الرسولِ اشتمَل على مجيءِ الهُدى والقرآنِ؛ ولذلك فُصِلتْ عنها-أي: لم تُعطَفْ عليها بالواو- وأُعيدَ حرفُ قَدْ الدَّاخِلِ على الجُملةِ المبدَلِ منها؛ زيادةً في تحقيقِ مَضْمونِ جُملةِ البَدل؛ لأنَّ تعلُّقَ بَدَلِ الاشتمالِ بالمُبْدَل منه أضْعَفُ من تَعَلُّقِ البَدَلِ المطابِق .
3- قوله: يَهْدِي بِهِ اللهُ فيه: توحيدُ الضَّميرِ في قوله: بِهِ مع أنه عائِدٌ على نُورٌ وِكِتَابٌ مُبِينٌ؛ لأنَّ المرادَ بالنُّورِ والكِتابِ المبينِ واحدٌ: (القرآنُ)، أو لأنَّهما كواحدٍ في الحُكم؛ إذا كان النورُ غيرَ الكِتابِ المُبينِ .
- وتقديمُ الجارِّ والمجرور (بِه)؛ للاهتمامِ، وإظهارِ لفظ الجلالةِ (الله) في موضِع الإضمارِ؛ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بأمْر الهِدايةِ .


9.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (17 - 19)
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
غريب الكلمات:

عَلَى فَتْرَةٍ: على حِين فُتورٍ من الإرسالِ، وانقطاعِ الوَحْيِ، وأصل الفُتور: السكون بعد الحِدَّة، واللِّينُ بعدَ الشِّدَّة، والضَّعْف بعد القُوَّة
.
بَشِيرٍ: مُبشِّرٌ مَن أطاعَه، وأصلُ البُشرى: ظهورُ الشيءِ مع حُسنٍ وجمالٍ .
نَذِيرٍ: مُنذِرٌ مَن عصاه، وأصْلُ النِّذارةِ: التخويفُ

.
المعنى الإجمالي:

يُخبر تعالى مُقْسِمًا أنَّ النَّصارى- القائلين بأنَّ الله هو عيسى ابنُ مريمَ- قد كَفروا، وأمَرَ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يقولَ لهؤلاء النَّصارى على سبيلِ الإِنْكارِ والتَّوبيخ: من ذا الذي يملِكُ مِنْ أَمْرِ الله وإرادته شيئًا يَدْفَعُ به الهلاكَ عن المسيح ِوعن أمِّه وعن سائرِ أهلِ الأرضِ، إن أرادَ الله أن يُهْلِكَهم ويُبِيدَهم، لا أحدَ يَستطيع أنْ يدفع عن نفسِه الهلاكَ، فالجميعُ تحتَ قدرةِ اللهِ وإرادتِه وقهرِه، والمسيحُ وأمُّه في ذلك كسائرِ المخلوقاتِ، فدلَّ ذلك على بُطلانِ أُلُوهيَّة مَن سِوَى اللهِ تعالى، وللهِ وَحْدَه مُلكُ السَّمواتِ والأَرْضِ وما بينهما؛ يَخلُقُ ما يشاء، وهو على كلِّ شيءٍ قادرٌ، لا يُعْجِزُه شيءٌ.
ثم يُخبر تعالى أنَّ كلًّا مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى ادَّعَوْا أنَّهم في القُرْبِ من اللهِ بمنزلَةِ أبنائِه، وأحِبَّائِه، وأمَر نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يقولَ لهم: إنْ كنتم حقًّا كما تَدَّعُونَ مِن كَوْنِكم أبناءَ اللهِ وأحباءَه، فلِمَ يُعذِّبُكم بذُنُوبِكم التي تَقْتَرِفونها؟! فالأمْرُ ليس كما تَدَّعُونَ، بل أنتم بشرٌ ممَّن خَلَقَ الله، يَغفِرُ لِمَن يشاءُ، ويُعذِّبُ مَن يشاءُ سبحانه، فله مُلْكُ السَّمواتِ والأرض وما بينهما، وإليه سبحانه المرجِعُ والمصيرُ في الآخِرَةِ.
ثم وجَّه الله الخطابَ إلى أَهْلِ الكتابِ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى، أنَّه قد جاءَهم رَسولُه محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُوضِّحُ لهم الطريقَ القويمَ، والدِّين الحقَّ، في وقتٍ اشتدَّت الحاجةُ إليه بعد انقطاعٍ من الرُّسُلِ؛ أَرْسَلَه اللهُ تعالى حتى لا يكونَ لهم حُجَّةٌ فيقولوا: ما جاءَنا من بشيرٍ ولا نَذيرٍ، فقد جاءهم بشيرٌ ونذيرٌ هو محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، واللهُ على كلِّ شيء قادرٌ، لا يُعْجِزُه شيءٌ، ومن ذلك قُدرتُه على خَلْقِ عيسى عليه السَّلامُ من أمٍّ بلا أبٍ، وقدرتُه على إهلاكِه وأُمَّه وجميعَ مَن في الأرضِ.
تفسير الآيات:

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى أخْذَ الميثاقِ على أهلِ الكِتابينِ، وأنَّهم لم يَقوموا به، بل نَقَضُوه، ذكَر أقوالَهم الشَّنيعةَ، فذكَر قول النَّصارى وردَّ عليهم
، فقال:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.
أي: أُقْسِمُ على أنَّ الذين ادَّعَوا أنَّ عيسى ابنَ مريمَ هو الله، قد كَفروا .
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.
أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ النَّصارى الجَهَلَةِ الذين افتَرَوْا عليَّ، وضلُّوا عن سواءِ السَّبيلِ بقَوْلِهم: إنَّ اللهَ هو المسيحُ ابنُ مريمَ، قل لهم: فمَن الذي يُطيقُ إذَنْ أن يَدْفَعَ مِن أَمْرِ اللهِ جلَّ وعزَّ شيئًا، فيردَّه إذا قَضَاه؟! فلو أراد أن يُهلِكَ المسيحَ ابنَ مريمَ بإعدامِه من الأَرْضِ وإعدامِ أمِّهِ مريمَ، وإعدامِ جميعِ مَن في الأَرْضِ من الخَلْقِ جميعًا؛ فمَن الذي يَقدِرُ على مَنْعِه وصَرفِه عن ذلك؟! وإذا كان المذكورونَ لا امتناعَ عندهم يمنَعُهم لو أرادَ اللهُ أن يُهْلِكَهم، ولا قُدْرَةَ لهم على ذلك- دلَّ على بُطلان إلهيَّةِ مَن لا يمتَنِعُ من الإهلاكِ، ولا في قوَّتِه شيءٌ من الفَكاكِ .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ.
أي: وللهِ عزَّ وجلَّ وَحْدَه أمرُ تدبيرِ جميعِ ما في السَّمواتِ وما في الأَرْضِ وما بينهما وتصريفِها؛ فهُم خَلقُه، مملوكونَ له مُدَبَّرون بأمْرِه، فيُهْلِك منهم ما يشاءُ، ويُبْقِي منهم ما يَشاء، ويُوجِدُ ما أراد حتى لو كان من أمٍّ بلا أبٍ، ويُعْدِمُ ما أراد، لا يمنَعُه من ذلك مانِعٌ، ولا يَدفَعُه عنه دافعٌ؛ يُنْفِذُ فيهم حُكْمَه، ويُمْضِي فيهم قضاءَه، ولن يقدِرَ على ذلك أحدٌ غيرُ الله الواحِدِ القهَّار؛ فكيف زَعَمْتُم- أيُّها النَّصارى- أنَّ المسيحَ إلهٌ، وهو لا يُطيقُ شيئًا من ذلك؟! وكيف يكونُ المملوكُ العبدُ إلهًا معبودًا؟! فهذا من أعظمِ المُحالِ .
وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: إنَّ المعبودَ الحقَّ جلَّ جلالُه هو القادرُ على كلِّ شيء؛ فلا يُعْجِزُه شيءٌ أرادَه، ولا يَغْلِبه شيءٌ طلبَه، ومن ذلك قُدْرَتُه على خَلْقِ عيسى عليه السَّلامُ من أمٍّ بلا أبٍ، وهو القادِرُ أيضًا على إهلاكِ المسيحِ وأمِّه ومن في الأرض جميعًا سبحانه وتعالى .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18).
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
أي: قال كلٌّ من اليهودِ والنَّصارى: نحن أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤه، في مَودَّته وإكرامِه وإعزازِه لنا، وحُنوِّه وعَطْفِه علينا .
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ.
أي: قلْ لهم- يا محمَّدُ- إنْ كان الأمرُ كما تَدَّعونَ مِن أنَّكم أبناءُ اللهِ تعالى وأحبَّاؤُه، فأخْبروني- إذنْ- لِمَ أَعَدَّ اللهُ لكم نارَ جهنَّم على كُفْرِكم وافترائِكم وذُنُوبِكم؛ فإنَّ الحبيبَ لا يُعذِّب حَبيبَه، وأنتم مُقرُّون أنَّه مُعذِّبُكم؟!
كما قال تعالى عنهم: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة: 80] .
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ.
أي: ليس الأمرُ كما زعمتُم أنَّكم أبناءُ اللهِ وأحباؤُه، بل أنتم خَلقٌ خَلَقَكم اللهُ مثلَما خَلَقَ سائرَ بني آدمَ .
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ.
أي: يُعامِلُكم كما يعامِلُ سائرَ البَشَرِ، فتجري عليكم بحِكْمَتِه أحكامُه الدَّائرةُ بينَ عَدْلِه وفَضْلِه، ولا تغترُّوا بتلك الأمانيِّ، وبمنازلِ أنبيائِكم وصالحي آبائِكم عندَ الباري؛ فإنَّهم إنما نالوا القُرْبَ منه بطاعتِه، واجتنابِ مَعْصِيَتِه، فجِدُّوا أنتم أيضًا في ذلك .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
أي: وللهِ عزَّ وجلَّ وحدَه أمْرُ تدبيرِ جميعِ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ وما بينهما وتَصريفِه، فهم خلقُه ومُلكُه، وإليه وحده سبحانه المرجعُ والمنقلَبُ في الآخرة، فأيُّ شيءٍ خصَّكم بهذه الفضيلةِ التي تَزْعُمونها، وأنتم مِن جُملةِ المماليك، ومِن جُملةِ مَن يرجِعُ إلى اللهِ في الدَّارِ الآخِرَةِ، فيُجازيكم بأعمالِكم، واعلموا- يا مَن تدَّعونَ أنَّكم أبناءُ الله وأحبَّاؤه- أنَّه إنْ عذَّبكم بذُنُوبِكم، لم يكُن لكم منه مانِعٌ، ولا لكم عنه دافِعٌ؛ لأنه لا نسَبَ بينه وبين أحدٍ فيُحابِيَه، فاتَّقوا غَضَبَه وعِقابَه، ولا تغترُّوا بالأمانيِّ وفَضائِلِ الآباءِ .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19).
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا.
أي: يا أيُّها اليهودُ والنَّصارى- الذين أنعمَ اللهُ عليكم بالتوراةِ والإنجيلِ، وتَعلمونَ منهما بَعثةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ- ها قدْ أتاكم محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ.
أي: جاءَ يُوضِّحُ لكم الحقَّ، ويُبيِّنُ كلَّ ما تحتاجون إليه من المطالِبِ الإلهيَّةِ، والأحكامِ الشَّرعيَّة، وذلك بعدَ شِدَّةِ حاجةٍ إليه، ومُضِيِّ زمنٍ طويلٍ بين إرسالِ عيسى عليه السَّلام وبَعثةِ محمَّدٍ خيرِ الأنامِ .
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بابنِ مريمَ؛ الأنبياءُ أولادُ عَلَّاتٍ ، وليس بَيني وبينَه نبيٌّ )) .
وعن عِياضِ بنِ حِمار المُجاشعيِّ، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال ذاتَ يومٍ في خُطْبَتِه: ((ألَا إنَّ ربِّي أمَرَني أنْ أُعلِّمَكم ما جَهِلتُم ممَّا عَلَّمني يَومِي هذا: كلُّ مالٍ نَحَلْتُه عبدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلقْتُ عِبادي حُنفاءَ كلَّهم، وإنَّهم أَتتْهم الشياطينُ فاجْتالَتْهم عن دِينِهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أَحللْتُ لهم، وأَمَرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلْطانًا، وإنَّ اللهَ نظَرَ إلى أهلِ الأرضِ، فمَقَتَهم عرَبَهم وعَجَمَهم، إلَّا بَقايَا من أهلِ الكتابِ، وقال: إنَّما بَعثتُك لأَبتلِيَكَ وَأبتليَ بك، وأنزلتُ عليكَ كتابًا لا يَغسِلُه الماءُ، تَقرؤُه نائمًا ويَقْظانَ، وإنَّ اللهَ أمَرَني أنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فقلتُ: رَبِّ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسَي فيَدَعُوه خُبْزَةً، قال: اسْتَخْرِجْهم كما اسْتَخرَجوكَ، واغْزُهم نُغْزِكَ ، وأَنفِقْ فسنُنفِقُ عليك، وابعثْ جَيشًا نَبعثْ خَمسةً مِثلَه، وقاتِلْ بمَن أطاعَكَ مَن عَصاكَ... )) الحديث .
أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ.
أي: أَرْسلناه إليكم؛ قَطْعًا لعُذركم؛ كي لا تَحتجُّوا قائلين بأنَّه لم يأتِنا رسولٌ منذ عهدٍ طويلٍ، يُبشِّر بالخيرِ مَن آمَن به وأطاعَه، ويُنذرُ بالشرِّ مَن كذَّبَ به وعَصاه .
فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ.
أي: فها قد جاءَكم هذا البَشيرُ والنَّذيرُ؛ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فالآن لا حُجَّةَ لكم، ولا عُذرَ بَقِيَ لديكم .
وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: لا يُعجِزُ اللهَ تعالى شيءٌ أرادَه، ولا يفوتُه شيءٌ طَلَبَه، ومن ذلك قُدْرَتُه على بَعْثِ الرُّسل وإنزال الكتُبِ، وإثابةِ المؤمنينَ المُطيعينَ، ومعاقبَةِ المكذِّبين العاصينَ

.
الفوائد التربوية:

1- أنَّه ينبغي أن يُنادَى المخاطَب بالوَصْفِ الذي يَقتضي أن يقومَ بما وُجِّه إليه؛ لقوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ وهذا موجودٌ في اللُّغة العربيَّة، فإذا كنتَ تُخاطِب مؤمنًا تقول: يا أيُّها المؤمِنُ، وإذا كنت تُخاطِب رجلًا تقول: يا أيها الرَّجُلُ، ومن فوائد ذلك: أولًا: توبيخُ هذا الرَّجُلُ إذا خالف؛ لأنَّه لا يَنبغي أن يُخالِفَ وهو متَّصِفٌ بهذه الصِّفة. ثانيًا: حثُّه على الموافقَةِ باعتباره هذا الوصفَ الذي اتَّصف به

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- قوله: إِنَّ اللهَ هُوَ فيه فائدة لُغويَّة؛ إذ إنَّ (هو) ضميرُ فَصْل، وضميرُ الفَصل يُفيد ثلاثةَ أشياءَ: الأوَّل: الحَصْر، والثاني: التوكيد، والثالث: التمييزُ بين الصِّفة والخَبَر، وهذا الأخيرُ أحيانًا يُستغنَى عنه، ويُعرَفُ الخبر بدونه، لكن يُؤتى به، كقوله تعالى: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الشعراء: 40] ، وقوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ أكَّدوا تأكيدًا بهذا الضميرِ أنَّ الله هو المسيحُ ابنُ مريم
.
2- جوازُ انتسابِ الإنسانِ إلى أُمِّه إذا لم يكُن له أبٌ؛ لقوله: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ .
3- شِدَّة الردِّ على النَّصارى؛ حيث قال الله عزَّ وجلَّ: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا؛ إذ إنَّ اللهَ إذا أراد شيئًا فإنَّ الشَّرَفَ والجاه والرِّئاسة ولو في الدِّينِ لا تمنع ممَّا أرادَ الله؛ لأنَّ المسيحَ ابنَ مريمَ عليه الصَّلاة والسَّلام مِن أُولي العَزمِ من الرُّسُلِ .
4- قوله: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ... فيه الردُّ على أهلِ الباطِلِ بالأدلَّة السمعيَّة والعقليَّة .
5- أنَّه عند المناظرة يَنبغي أنْ تَبدأَ بأوَّل مَا يَحتجُّ به المناظِرُ، وتُبَيِّن أنَّه على خِلاف ما ناظَرَ عليه؛ ووجهُ ذلك: أنَّ الله بدَأَ بذِكر إهلاكِ المسيحِ وأُمِّه، الذي يعتقِدُ هؤلاءِ أنه إلهٌ، قال تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا .
6- يَنبغي في المُناظَرَةِ إبطالُ حُجَّةِ الخَصْمِ، ثم الإتيان بما يُثْبِتُ خلافَ قَوْلِه، فالله عز وجل قال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، فنقَض سبحانه دعواهم أن يكونوا أحِبَّةً وأبناءً بأمرين: الأمرُ الأوَّل: أنَّهم أذنبوا. والأمرُ الثاني: أنَّهم عُذِّبوا. فكيف يقولون أنَّهم أبناءُ الله وأحباؤُه، وهم يعْصونه ويُذنبون؟! ثم كيف يكونُ حبيبًا لهم وهو يعذِّبُهم؟! ثم احتجَّ الله عليهم بعدَ أن أَبْطَلَ حُجَّتهم، فقال: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَنْ خَلَقَ، أي: كسائرِ البَشَرِ .
7- لَمَّا بطَل مُدَّعى النَّصارى أُلوهيَّةَ عيسى عليه السَّلام على أتْقَنِ منهاجٍ وأخْصَرِه، وذلك في قولِه تعالى: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ حيث وصَفه بما هو في غايةِ الوضوحِ في بطلانِ قولِهم؛ لبعدِه عن رتبةِ الألوهيَّة في الحاجةِ إلى امرأة فقال: ابْنُ مَرْيَمَ فهو محتاجٌ إلى كفالتِها بما لها مِن الأمومةِ، وكان ربما دقَّ على بعضِ الأفهام ذلك- أَوضَحَه بِقَوْلِه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ دالًّا على أنَّ المسيحَ عليه السَّلامُ عبدٌ مملوكٌ للهِ .
8- أنَّ عذابَ اللهِ لبني إسرائيلَ- أي: لليهودِ والنَّصارى- لم ينقطعْ ولن ينقَطِعَ؛ لقوله: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، فلم يقُل: فلِمَ عذَّبَكم؛ ليُستَفاد بذلك أنَّ تَعذيبَ اللهِ تعالى لهم مستمرٌّ؛ لأنَّ الفِعل المضارِعَ يُفيد الاستمرارَ .
9- الاحترازُ عمَّا يُوهِمُ باطِلًا؛ حيث قال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، ولم يقُلْ: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ فقط؛ لأنَّه لو قالَها بدون أنْ يَقْرِنَها بقوله: بِذُنُوبِكُمْ لأَوْهَم أنَّ اللهَ تعالى يُعذِّب بغيرِ ذنبٍ .
10- قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فيه الإشارةُ إلى أنَّ ما بين السَّماءِ والأَرْضِ هو خَلقٌ عظيمٌ، حتى جعَلَه اللهُ عزَّ وجلَّ عديلًا، أو قَسيمًا للسَّمواتِ والأَرْضِ .
11- قوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ، وقَبْلَها قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فاختَلَفَ ختْمُ الآيتينِ، فقال في السَّابقَةِ: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ لأنَّ المقام مقامُ ردٍّ على الذين قالوا: إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، أمَّا هنا فالمقامُ مقامُ تهديدٍ ووعيدٍ، فقال: وَإِلَيْهِ المَصِيرُ أي: إليه وحْدَه المرجِعُ لا إلى غيرِه؛ فقد تقدَّمَ الخبر وَإِلَيْهِ، وتقديمُ الخبرِ يُفيد الحَصْرَ، إذَن: فليست المسألَةُ مسألةَ دَعْوى أنَّكم أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤه، وإنَّما المسألَةُ مسألةُ عملٍ؛ إمَّا سيِّئ وإمَّا حَسَن .
12- قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا فيه إقامةُ الحُجَّة على الأمَّةِ؛ حيث إنَّ محمدًا رسولُ الله، فهو حُجَّةٌ عليه الصَّلاة والسَّلام، فبمُجرَّد أنْ شَهِد اللهُ أنَّه رسولُه، كان ذلك حُجَّةً، وقد قال الله تعالى: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ [النساء: 166] .
13- أنه لا حظَّ للرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام في شيءٍ من الرُّبوبيَّة؛ لقَوْلِه: قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا، ووجه ذلك: أنَّه رسولٌ، والرَّسولُ لا يُمكن أن يكون شريكًا للمُرسِلِ فيما يختصُّ به .
14- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مُبَيِّنٌ للخَلْقِ، وأنَّه ليس فيما جاء به شيءٌ من الغُموضِ والإلغازِ؛ لقوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ، أمَّا غيرُ العربِ من أهل الكتاب فبيانُه يكونُ عن طريق التَّرجمة؛ ولهذا لم يَنتشرِ الإسلامُ في البلادِ الأعجميَّة إلا بواسِطَةِ التَّرجمة، وأنَّه إذا احتجْنا إلى معرفة اللُّغاتِ الأجنبيَّة لبيانِ الشريعة، كان ذلك ممَّا يُثابُ عليه؛ لأنَّ مِن صفاتِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه يُبيِّنُ للنَّاسِ بأيِّ وسيلةٍ، وعلى هذا فمَن تعلَّمَ اللُّغةَ غيرَ العربيَّة مِن أجلِ الدَّعوة إلى الله، كان مُثابًا على ذلك؛ لأنَّها وسيلةٌ لتبيينِ الشَّريعةِ ونَشْرِها .
15- رِسالةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كانتْ على فترةٍ من الرُّسُلِ؛ ليس بينه وبين عيسى رسولٌ؛ لقوله: عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وكلَّما طال زمنُ الرِّسالةِ صار الناسُ أشدَّ حاجةً إلى الرَّسولِ؛ ولهذا جعَل اللهُ ذلك مِنَّةً عُظمى على أهلِ الكتابِ؛ حيث جاءَهم على فترةٍ، ومِثْل هذا يكونُ أيضًا في الواقعِ المَحْسُوس، فالإنسانُ الذي يَشرَبُ الماءَ على عطشٍ أشدُّ شوقًا إلى الماءِ والحاجةِ إليه مِن إنسانٍ يَشْرَبُه على رِيٍّ .
16- إثباتُ الرِّسالاتِ السابقة للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلام؛ لقوله: عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ والظَّاهِرُ أنَّ هذا يُشيرُ إلى أنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ هو آخِرُ الأنبياءِ؛ لقوله: مِنَ الرُّسُلِ يعني ليس بعدَه رسولٌ، وهذا هو الذي صرَّحَ الله به في كتابِه في قوله: وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] ، وقد قال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ولم يقُل: (وخاتم المُرسَلين) مع أنَّه قال: رَسُولُ اللهِ؛ لأنَّه قد يكون نبيًّا ولا يكون رسولًا، ومحمَّدٌ رسولُ الله صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليه خاتَمُ الأنبياءِ والمُرسَلينَ .
17- رحمةُ الله تعالى بالخَلْقِ؛ حيث أَرْسَلَ الرُّسلَ؛ لئلَّا يكونَ لأحدٍ حجَّةٌ عليه سبحانه؛ لقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، ومِن ثَمَّ فمَن لم تَبْلُغْه الرسالةُ فإنَّه معذورٌ .
18- أنَّه لا حُجَّةَ للإنسان بالقَدَرِ على مخالفةِ الرُّسُلِ؛ لقوله تعالى: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ وَجْهُ الدَّلالة: لو كان لهم حقٌّ لم يرتفعْ بإرسالِ الرُّسل، وهو كذلك .
19- أنَّه متى احْتِيجَ إلى التوكيدِ، فلا عيبَ في التَّكرارِ؛ لقوله: فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ بعد قوله: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، ولهذا كان مِن آدابِ الخُطبةِ أنَّ الإنسانَ يُكرِّر في المواضع المهمَّة، وأنَّ هذا لا يُعَدُّ عِيًّا ولا يُعدُّ زيادةً .
20- ختَم الله عزَّ وجلَّ هذه الآيةَ بالقُدرَةِ في قوله: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ إشارةً إلى أنَّه تبارك وتعالى قادِرٌ على بَعْثِ الرُّسلِ، وقادرٌ على ألَّا يَبْعَثَهم، وأنَّ الأَمْرَ كلَّه بيدِه تبارك وتعالى

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا: فَمَنْ استفهامٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ، أي: لا يُوجَدُ أحدٌ يستطيعُ أن يردَّ إرادتَه؛ لأنَّه هو المالكُ لأمرِ الوجودِ كلِّه، ولا يملكُ أحدٌ مِن أمْرِه شيئًا يستطيعُ به أن يَصرِفَه عن عملٍ يُريدُه، أو يَحمِلَه على أمرٍ لا يُريدُه، أو يَستقِلَّ بعملٍ دونَه
، والفاءُ عاطفةٌ للاستفهامِ الإنكاريِّ على قَوْلِهم: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ؛ للدَّلالَةِ على أنَّ الإنكارَ ترتَّب على هذا القَوْلِ الشَّنيعِ؛ فهي للتَّعقيبِ الذِّكْرِيِّ .
- وتنكيرُ شَيْئًا للتَّقليلِ والتَّحقيرِ، ولَمَّا كان الاستفهامُ في قوله: فَمَنْ يَمْلِكُ بمعنى النَّفْيِ، كان نفيُ الشَّيءِ القليل مقتضيًا نفيَ الكثيرِ بطريق الأَوْلى .
2- قوله: إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فيه: عَطْفُ العامِّ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا على الخاصِّ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ؛ ليكونَا قد ذُكرَا مرَّتين: مرَّةً بالنصِّ عليهما، ومرَّة بالاندراجِ في العامِّ، وذلك على سبيلِ التَّوكيدِ والمبالَغَةِ في تعلُّق نَفاذِ الإرادةِ فيهما، وكذلك تأكيدُ عَجْزِ المسيحِ .
3- قوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: تذييلٌ فيه تعظيمُ شأنِ اللهِ تعالى، وردٌّ آخَرُ عليهم بأنَّ الله هو الذي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ، ومَلَكَ ما فيها من قَبْلِ أن يظهرَ المسيحُ؛ فالله هو الإلهُ حقًّا، وأنَّه يَخلُقُ ما يشاء، فهو الذي خَلَقَ المسيحَ خلقًا غيرَ معتادٍ؛ فكان مُوجِبَ ضلالِ مَن نَسَبَ له الأُلوهيَّةَ .
- وجملة: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا جملةٌ مؤكِّدةٌ لِقَوْلِه: إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ودالَّة على أنَّه إذا أراد فَعَلَ؛ لأنَّ مَن له ذلك المُلْك يَفعلُ في مُلْكِه ما يشاءُ .
4- قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فيه إيجازٌ: حيثُ إنَّ ظاهِرَ اللَّفظ: أنَّ جميعَ اليهودِ والنَّصارى قالوا عن جميعِهم ذلك، وليس كذلك، بل في الكلامِ لفٌّ وإيجازٌ. والمعنى: وقالت كلُّ فِرقةٍ من اليهودِ والنَّصارى عن نفْسها خاصَّةً: نحن أبناءُ الله وأحبَّاؤُه .
5- قوله: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ فيه: تعريضٌ أيضًا بأنَّ المسيحَ عليه السَّلام بَشَرٌ .
6- قوله: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ: فيه احتراسٌ؛ لأنَّه لَمَّا رتَّبَ على نَوَالِ العذاب إيَّاهم أنَّهم بشرٌ، دفَع توهُّمَ النَّصارى أنَّ البشريَّة مقتضيةٌ استحقاقَ العذابِ بوراثةِ تبعةِ خَطيئة آدَم، فقال: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، أي: مِن البَشَرِ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ .
7- قوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ: فيه إيثارُ الجملةِ الفعليَّة على غيرها؛ للدَّلالةِ على تجدُّدِ البيانِ .
8- قوله: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ: زِيادَةُ ذِكْرِ مِنْ في الفاعِلِ؛ للمبالغةِ في نفْي المجيء، وتَنكير بَشِيرٍ ونَذِيرٍ؛ للتَّقْليلِ .
9- قوله فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ التنوين في بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ؛ للتَّفخيمِ، أي: لا تَعتذِروا بذلك؛ فقد جاءَكم بشيرٌ أيُّ بشيرٍ، ونذيرٌ أيُّ نذيرٍ .
- قوله: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: اعتراضٌ تذييليٌّ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبْلَه، وإظهارُ الاسْمِ الجليلِوَاللَّهُ للتَّعليلِ، وتقويةِ استقلالِ الجُملةِ

.===============










سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (20 - 26)
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
غريب الكلمات:

الْمُقَدَّسَةَ: أي: المطهَّرةَ المُعظَّمة؛ فالتَّقديسُ: هو التَّطهيرُ والتَّعظيمُ
.
وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ: ولا تَرجِعوا مُدبِرين، والردُّ: صرْفُ الشيءِ بذاتِه، أو بحالةٍ من أحوالِه؛ يُقال: رَددتُه فارتدَّ، والارتدادُ والرِّدَّة: الرُّجوعُ في الطَّريقِ الذي جاء مِنه، ومنه قيل للكافرِ بعدَ إسلامِه: مُرتدٌّ. وأصْل الدُّبُر: آخِرُ الشَّيءِ وخَلفُه، وهو ضِدُّ القُبُل .
فَتَنْقَلِبُوا: أي: فتَرْجِعوا، والانقلابُ: الانصرافُ؛ يُقال لِمَن كانَ على شيءٍ ثُمَّ رجَع عنه: قدِ انقلَب على عَقِبه، وأَصْلُ (قلب): صرْفُ الشَّيءِ عن وجهٍ إلى وجهٍ، أو ردُّه من جِهةٍ إلى جِهةٍ .
جَبَّارِينَ: أقوياءَ عِظامَ الأجسامِ، وقيل: طوالًا؛ وُصِفوا بذلك لكثرتِهم وقُوَّتِهم، وعِظَم خَلْقِهم، وطولِ جُثَثِهم، وجبَّارون جمْع جبَّار، وهو القَهَّار، ويُطلَقُ على المتكبِّر المتعالي عن قَبولِ الحقِّ، والمتسلِّطِ، والقَتَّال، وأصلُ (جبر): جِنسٌ مِن العَظمةِ والعُلوِّ .
فَافْرُقْ: فافْصِل، مِن فرقتُ بين الشَّيئين: إذا فَصلْتَ بينهما، سواءٌ كان ذلك بفَصْلٍ يُدركُه البصرُ، أو بفَصْلٍ تُدركُه البصيرةُ، والفَرْق يُقاربُ الفَلْقَ، لكنَّ الفَلْقَ انشقاقٌ، والفَرْقَ انفصالٌ، وأصْل الفَرْق: الفصلُ والتمييزُ، والتَّزييلُ بين الشَّيئينِ .
الْفَاسِقِينَ: جمْعُ فاسِق، وهو الخارجُ مِنَ الشَّرعِ، والفاسقُ أعمُّ مِن الكافِر، والفُسوقُ: خروجٌ مِنَ الطَّاعةِ إلى المعصيةِ، وخروجٌ مِنَ الإيمانِ إلى الكُفرِ؛ فأصْلُ الفسوق: الخُروجُ، ومنه قولهم: فَسَقَتِ الرُّطبةُ، إذا خرَجتْ عن قِشْرتها .
يَتِيهُونَ: يَحارُونَ ويَضلُّونَ، ويَذهبون مُتحيِّرين؛ مِن تاه يَتيه: إذا تَحيَّر .
فَلَا تَأْسَ: فلا تَحْزنْ؛ يُقال: أَسِيتُ على كذا، أي: حَزِنْتُ، والأسى: الحُزن

.
مشكل الإعراب:

قوله: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا.
مِنَ الَّذِينَ: جارٌّ ومجرور في مَحلِّ رفْعٍ، صِفةٌ لـرَجُلَانِ.
وجُملة أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا: في محل رَفْعٍ، صِفةٌ ثانيةٌ لـرَجُلَانِ، وجِيء هنا بأَفصحِ الاستعمالينِ من كونِه قَدَّم الوصفَ بالجارِّ على الوَصفِ بالجُملةِ؛ لقُربه من المفردِ. وقيل: إنَّها جملة مُعترِضةٌ. وقيل: هي حالٌ من الضَّمير في يَخافونَ، أو حالٌ مِن رَجُلَانِ وجاءتِ الحالُ مِن النَّكرةِ؛ لتخصُّصِها بالوَصْفِ. أو حالٌ من الضَّميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ مِنَ الَّذِينَ؛ لوقوعِه صِفةً لموصوفٍ، وعلى أنَّها حالٌ، فلا بُدَّ مِن إضمارِ (قَدْ)، أي: قدْ أَنعمَ اللهُ عليهما

.
المعنى الإجمالي:

يقول اللهُ تعالى لنَبيِّه مُحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: واذكرْ- يا محمدُ- توجيهَ موسى عليه السَّلام لبني إسرائيلَ- على سبيلِ النُّصْحِ والإرشادِ- أنْ يتذكَّروا نِعمةَ اللهِ التي أنعمَ بها عليهم، بأنْ جعَلَ فيهم أنبياءَ، وجعَلَهم مُلوكًا، وآتاهم مِن النِّعمِ الدِّينيَّة والدُّنيويَّة ما لم يُعْطِه أحدًا مِن أهلِ زمانِهم.
وبعدَ هذا التذكيرِ بالنِّعَم نادَى موسى عليه السَّلامُ قومَه بني إسرائيل، وطَلَب منهم أنْ يَدخُلوا الأرضَ المقدَّسة، التي هي بيتُ المقدِسِ التي كتَبَها الله لهم، وأنْ يأخذوها من يدِ أعدائِهم، ونهاهُم عن التَّراجُعِ عن القِتالِ، والنُّكولِ عن الجِهاد؛ فإنَّ ذلك يؤدِّي إلى الخسرانِ في الدُّنيا والآخرةِ، فردُّوا عليه أنَّ في هذه البلدةِ قومًا أشداءَ أقوياءَ ضِخامًا؛ وأنَّه لا طاقةَ لهم بقِتالهم، وأنَّهم لن يَدخلوها ما دامَ هؤلاءِ موجودينَ فيها، وعلى تقديرِ خروجِهم منها فيمكنُ لهم أن يدخلُوها؛ ثم بيَّن الله تعالى أنَّ رجلَيْنِ منهم مؤمنَيْنِ يَخافانِ اللهَ، قدْ أنعم اللهُ عليهما بأنْ وفَّقهم لطاعتِه والخوفِ منه وحْدَه، وأنعَمَ عليهما أيضًا بالصَّبرِ واليقينِ، والرأيِ القويمِ، قد استنكَرا إحجامَ قومِهما عن الجهادِ، فقالَا لبني إسرائيل: إنَّه لا يحولُ بينكم وبينَ غَلَبةِ هؤلاءِ والنَّصرِ عليهم سوى دُخولِكم بابَ الأَرْضِ المقدَّسةِ، فإنْ دَخَلْتُموها انتصرتُم عليهم؛ فتوكَّلوا على اللهِ، واعتمِدوا عليه إنْ كنتُم مُؤمنينَ.
لكنَّ هذه النصيحةَ لم تَلْقَ قَبولًا من بني إسرائيلَ، وكرَّروا لنبيِّهم نفيَهم دخُولَ الأرضِ المقدَّسةِ أبدًا ما دام هؤلاءِ القومُ فيها، وقالوا لموسى عليه السَّلامُ: إذا كان دخولُ هذه الأرضِ يهمُّك أمرُه، فاذهبْ أنت وربُّك لقتالِ سكَّانِها الجبابرةِ، وأَخْرِجاهم منها.
عندَ ذلك توجَّه موسى عليه السَّلامُ إلى ربِّه يبثُّ إليه الشَّكوى، معتذرًا مِن عصيانِ قَوْمِه، وأنَّه لا يَستطيعُ أن يحمِلَ أحدًا على القِتالِ إلَّا نفْسَه وأخاه هارونَ، ودَعا اللهَ أن يَفصِلَ بينه وبين هؤلاءِ القومِ الفاسقينَ؛ فاستجابَ اللهُ دُعاءَه، وعاقبَهم بأنْ حرَّم عليهم دخولَ الأرضِ المقدَّسةِ أربعينَ سَنةً، يظلُّون ضائعينَ حائرينَ في الأرضِ، لا يَهتدون لطريقٍ، ولا يستقرُّونَ في مكانٍ، ونهى موسى عليه السَّلامُ أنْ يحزنَ عليهم جرَّاءَ تلك العقوبةِ التي استحقُّوها لخروجِهم عن طاعةِ اللهِ سبحانه.
تفسير الآيات:

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أقام اللهُ تعالى الحُججَ على بني إسرائيلَ، وأثبتَ لهم رسالةَ نبيِّه محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودحَض شُبُهاتِهم، وأبطَلَ دعاويهم، ثمَّ لَمَّا لم يَزدْهم ذلك كلُّه إلا كُفرًا وعنادًا- بيَّن اللهُ تعالى في هذه الآياتِ واقعةً مِن وقائعِ أسلافِهم مع موسَى عليه السلامُ، وتمرُّدَهم عليه، وعِصيانَهم له، مع تذكيرِه إيَّاهم نِعمَ اللهِ عليهم؛ ليعلمَ الرَّسولُ بهذا أنَّ مكابرةَ الحقِّ ومعاندةَ الرُّسلِ خُلقٌ مِن أخلاقِهم الموروثةِ عن سلفِهم، وأنَّ هؤلاءِ الذين هم بحَضرةِ الرسولِ هم جارُونَ مجرَى أسلافِهم مع موسى عليه السَّلامُ؛ فيكونَ ذلك تسليةً له صلَّى الله عليه وسلم
.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
أي: واذْكر- يا محمَّدُ- حينَ خاطَبَ موسى عليه السَّلامُ بَنِي إسرائيل، أنْ اذكُروا- يا قومي- بقُلوبِكم وألسِنَتِكم نِعمَ اللهِ تعالى عليكُم؛ فإنَّ ذِكرَها داعٍ إلى القيامِ بشُكرِه عليها، وداعٍ إلى محبَّتِه عزَّ وجلَّ، ومُعِينٌ على عِبادتِه سُبحانَه وتعالى .
ثمَّ بيَّن تعالى هذه النِّعمَ، فقال :
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ.
أي: فاذْكُروا إنعامَ اللهِ تعالى عليكم بأنْ جعَلَ فيكم أنبياءَ يأتونَكم بوَحيِه، ويُخبرونَكم بآياتِه، كلَّما هلَكَ نبيٌّ قامَ فيكم نبيٌّ آخَرُ، مِن لَدُن إبراهيمَ عليه السَّلامُ وإلى مَن بَعدَه، حتَّى خُتِمُوا بعيسى عليه السَّلامُ .
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا.
قيلَ المعنى: جعَل لكم مِن غيرِكم خَدمًا وحَشَمًا، سَخَّرَهم ليَخدموكم .
وقيلَ المرادُ: مُلْكُ مَن مَلَك مِن بني إسرائيل؛ لأنَّ الملوكَ شرفٌ في الدُّنيا .
وقيل المعنى: صَيَّركم أحرارًا تَملِكون أمْرَكم ولا تُملَكونَ، بعدَ زوالِ استعبادِ عدوِّكم لكم، الذي كان يَقهَرُكم ويَستخْدِمُكم ، وقيلَ غيرُ ذلِك .
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ.
أي: ومَنحَكم اللهُ- يا معشرَ اليهودِ- مِن نِعَمِه الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، وكراماتِه العَلِيَّة، ما لم يُعطِهِ لأحدٍ سواكم مِن أهلِ زَمانِكم، فَفُقتُموهم شرفًا وفضلًا .
كما قال سُبحانَه: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الجاثية: 16] .
وكما قال عزَّ وجلَّ إخبارًا عن موسى لَمَّا قال قومُه: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف: 138-140] .
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَّر موسى عليه السَّلامُ بني إسرائيلَ بنِعَم اللهِ تعالى عليهم، وكان في طِيَّاتِ ذلك الحثُّ على الوفاءِ بما عاقَدوا اللهَ عليه من الطَّاعة- كان هذا كالتَّمهيدِ لطلبِ امتثالِهم للأمْرِ الذي تَضمَّنتْه هذه الآيةُ، بقِتال الجبَّارين؛ ليهيِّئَ نُفوسَهم إلى قَبولِ هذا الأمرِ العَظيمِ عليهم، وليوثِّقَهم بالنَّصرِ إنْ قاتلوا أعداءَهم .
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
أي: نادَى موسى عليه السَّلامُ بَني إسرائيل؛ أنْ جاهِدُوا- يا قومي- عَدُوَّكم حتَّى تدخُلوا الأرضَ المطهَّرةَ المعظَّمة- بيتَ المقدِس - وتُصبِحَ في مُلْككم؛ فقد قضَى اللهُ وقدَّرَ أنْ تكونَ لكم بعدَ أنْ تستنقِذوها مِن أيدي أعدائِكم .
وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ.
أي: ولا تَنكُلوا عن الجِهادِ، وتَرجِعوا القَهْقَرَى؛ فتَخْسَروا دُنياكم بما يَفوتُكم مِن نَصرٍ على الأعداءِ وفَتحٍ لبلادِكم، وتَخْسَروا آخرِتَكم بما يفوتُكم مِن ثوابٍ، وما تَستحقُّونه مِن عقابٍ .
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22).
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ.
أي: قالوا- جوابًا لطَلَبِه مُنادِين له باسمِه مُجرَّدًا مِن كلِّ ما يدلُّ على تقديرِه وإجلالِه-: يا موسى، في هذه البَلدةِ التي أمَرْتَنا بدخولها، وقِتالِ أهلِها أُناسٌ عَمالقةٌ، ذَوُو خِلقةٍ ضَخمةٍ، وأجسامٍ طويلةٍ، وقَوَّةٍ شديدةٍ؛ فلن نقدِرَ على مقاوَمَتِهم، ولا طاقةَ لنا بحربِهم؛ وهذا مِن ضَعْفِ قلوبِهم، وخَوَرِ نُفوسِهم، وعدمِ اهتمامهم بأمْرِ ربِّهم ورسولِهم .
وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا.
أي: ونحن نُؤكِّد جازِمينَ لك- يا موسى- بأنَّنا مُمتنِعونَ عن الدُّخولِ إليها مُطلقًا، ما دام يَسكُنها أولئك الجبَّارونَ، ولم يَخرجُوا منها .
فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ.
أي: فأمَّا إنِ افترَضْنا خروجَهم منها، ففي هذه الحالِ يُمكِنُنا الدخولُ إليها .
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23).
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا.
أي: لَمَّا نَكَل بنو إسرائيلَ عن طاعةِ اللهِ تعالى ومُتابعةِ رسولِه موسى عليه السَّلامُ، قال لهم رجلانِ ممَّن يَخافونَ اللهَ تعالى، قدْ أنعَمَ عليهما بالتوفيقِ لطاعتِه، والخوفِ منه وحْدَه سُبحانَه، فيقولانِ كلمةَ الحقِّ دون أنْ يخافَا في اللهِ تعالى لومةَ لائمٍ، وأنعمَ عليهما أيضًا بالصَّبرِ واليقينِ، والشَّجاعةِ وحَصافةِ الرَّأي .
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ.
أي: قالَا لقومِهم- استنهاضًا لهِمَمِهم، وتشجيعًا لهم على قِتال عدوِّهم-: ليس بَينَكم وبينَ نصْرِكم عليهم إلَّا مجرَّدُ دخولِ بابِ الأرضِ المقدَّسة التي يَستوطِنونها؛ فإنَّكم إنْ فعلتُم ذلك كانتِ الغلبةُ لكم عليهم .
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ هذانِ الرجلانِ قَومَهما بالأَخْذِ بـالأسبابِ النَّافعةِ، أرْشدَاهُم إلى ألَّا يَعتمِدوا على أنفُسِهم ، فقالَا:
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: فَوِّضُوا جميعَ أمورِكم إلى اللهِ تعالى وحْدَه، ومنها قِتالُ أعدائِكم، واعتمِدوا عليه اعتِمادًا تامًّا صادقًا، إنْ كان لديكُم إيمانٌ باللهِ تعالى وبصِدقِ وعْدِه .
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24).
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا.
أي: قال اليهودُ: إنَّا نرفُض- يا موسى- رفْضًا باتًّا ودائمًا، دخولَ تِلك المدينةِ التي يَسْكُنُها الجبَّارونَ ما دامُوا باقينَ فيها .
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ.
أي: ولكنِ امضِ- يا موسى- أنتَ وربُّك لقِتالِهم، أمَّا نحنُ فماكِثونَ في هذا المكانِ، ولنْ نَبرحَه معكَ للمضيِّ إليهم .
فلمَّا نَكَلَ بَنو إِسرائيل عنِ القِتالِ غَضِبَ عليهم موسى عليه السَّلامُ، فدعا عليهم، قال اللهُ تعالى عنه :
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) .
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي.
أي: قال موسى عليه السَّلامُ: يا ربِّ، لا أقدِرُ أنْ أحمِلَ أحدًا على طاعتِكَ إلَّا نفْسي وأخِي هارونَ .
فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ .
أي: فافْصِلْ بَينَنا وبينَ هؤلاءِ القومِ الخارجينَ عن طاعتِك، بحُكمٍ وقَضاءٍ مِنكَ تَقضيه فينا وفيهم، فتُبعِدَهم عنَّا .
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26).
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ .
أي: فأجاب اللهُ تعالى دُعاءَ موسى عليه السَّلامُ فقال: إنَّ عُقوبتَهم أنْ يُحرَّمَ عليهم دُخولُ الأرضِ المقدَّسةِ التي نَكَصوا عن دُخولِها، مُدَّةَ أربعين سَنةً يَظلُّون فيها ضائعينَ وحائرينَ في الأرضِ، لا يَهتدُونَ إلى طريقٍ، ولا يَبقَوْنَ مُطمئنِّينَ .
فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ .
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا عَلِم اللهُ تعالى أنَّ موسى عليه السَّلامُ في غايةِ الرَّحمةِ على الخَلْقِ- خُصوصًا قومَه- وأنَّه يَحزَنُ عليهم؛ قال تَعالى :
فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ .
أي: فلا تَحزنْ عليهم- يا موسى- ممَّا عاقَبَهم اللهُ تعالى به؛ فهُم يَستحقُّونَ هذه العقوبةَ؛ لخُروجِهم عن طاعةِ ربِّهم سُبحانَه

.
الفوائد التربوية:

1- أنَّ مَن رزَقَه اللهُ عِلمًا فقدْ أنْعمَ عليه نِعمةً عظيمةً، تحتاجُ إلى التذكُّرِ؛ لأنَّ نبيَّهم موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَكَّرَهم بهذه النِّعمة، مِن خلالِ تَذكيرِهم بنِعمةِ الأنبياءِ فيهم، فقال: يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ
.
2- يُستفادُ مِن قولِه: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أنَّه ينبغي للداعيةِ أن يُذكِّرَ مَن يُوجِّهُ إليهم الخطابَ بنِعَمِ الله عليه؛ لأنَّ تذكيرَهم بالنِّعَم يُوجِبُ لهم مَحبَّةَ اللهِ .
3- أنَّه كلَّما أَنعمَ اللهُ على عبدِه بنِعمةٍ وجَبَ عليه مِن السَّمعِ والطَّاعةِ ما لم يجبْ على غيرِه؛ لأمْرِه بدخولِ الأرضِ المقدَّسةِ، بعدَ ذِكرِ النِّعمِ مباشرةً؛ حيث قال: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ .
4- تقديمُ مقامِ العُلماءِ على الأمراءِ؛ لقوله: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ ثم قال: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، فبَدأَ بالعلماءِ؛ لأنَّهم ورثةُ الأنبياءِ، وذَكَر بَعدَهم الأُمَراء؛ لأنَّهم إمَّا يكونونَ مِن الملوكِ، أو مِن وَرثتِهم أو نُوَّابِهم أو ما أشبهَ ذلِك .
5- أنَّه ينبغي أن يُذَكَّر الإنسانُ بما خصَّه الله تعالى به مِن النِّعم؛ وذلك لقولِه: وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ .
6- يُستفادُ مِن قولِه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أنَّ الإيمانَ شرْطٌ في إخلاصِ التَّوكُّلِ على اللهِ عزَّ وجلَّ؛ إذ لا يَتوكَّلُ على اللهِ تمامَ التوكُّلِ إلَّا مَن كان عندَه إيمانٌ بما وعَدَ اللهُ به في قولِه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] .
7- أنَّه يَنبغي للدَّاعيةِ أنْ يَذكُرَ ما يُهيِّجُ النُّفوسَ ويُغريها بالقَبولِ؛ لأنَّه ذكَرَ في الآية أنَّ الأرضَ مُقدَّسةٌ؛ هذا الأوَّل، والثاني: أنَّ اللهَ كتَبَها لهم. والثالث: قولُه: ادْخُلُوا الأَرْضَ وكأنَّ هذه بشارةٌ بأنَّهم سيَنتصِرونَ، وسوفَ يَدخُلون الأرضَ؛ فالبِشارةُ مِن وجوهٍ ثلاثة .
8- أنَّه يَنبغي للدَّاعيةِ إلى الله أنْ يَذكُرَ عواقبَ السيِّئاتِ؛ مِن أجْلِ تَنفيرِ النُّفوسِ منها، وإنْ كانتِ الدَّعوةُ إلى اللهِ تعالى تَحصُل ببيانِ الحلالِ والحرامِ، لكن إذا ذَكَرَ التَّرغِيبَ والترهيبَ كان في ذلك حَفزٌ للنُّفوسِ على الامتثالِ؛ وجهُ ذلك أنَّ موسى قال لقومِه: فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ .
9- أنَّ التوكُّلَ على اللهِ عزَّ وجلَّ مِن أسبابِ النَّصرِ؛ لقولِ هذين الرَّجُلينِ: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا .
10- أنَّه ينبغي ألَّا يَعتمِدَ الإنسانُ على نفْسِه وعلى السَّببِ الحسِّي فقط؛ لقولِهما بعدَ أنْ وجَّهَا قومَهما إلى أنْ يَدخُلوا عليهم البابَ: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا .
11- أنَّ إفرادَ اللهِ بالتوكُّلِ مِنَ الإيمانِ؛ لقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وأنَّ نقْصَ التوكُّلِ على الله نقصٌ في الإيمانِ؛ لأنَّ ما رُتِّبَ على شيءٍ ازدادَ بزيادتِه ونَقَصَ بنَقْصِه .
12- جوازُ دُعاءِ الإنسانِ ربَّه عزَّ وجلَّ أن يَفصِلَ بينَه وبينَ أهلِ الفُسوقِ والفُجورِ؛ لقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، ويمكن أن يَتفرَّعَ على هذِه الفائدةِ جوازُ هِجرانِ الفَسَقةِ؛ لأنَّ الهجرَ مفارقةٌ .
13- أنَّ التخلِّيَ عن الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ مِن الفِسقِ؛ لقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ .
14- إرشادُ الإنسانِ ألَّا يَحزنَ على الفاسقِ؛ لأنَّه إذا بذَلَ جُهدَه فيما يجبُ مِنَ الدَّعوةِ، فإنَّ هِدايةَ الخَلْقِ ليستْ إليه، بل إلى اللهِ، فلا يحزنْ؛ ولهذا قال الله: فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 26]

.
الفوائد العامة واللطائف:

1- نِداءُ موسَى عليه السَّلامُ قومَه، في قولِه: يَا قَوْمِ يتضمَّن استعطافًا لهم؛ لأنَّه فرْقٌ بين أنْ يكونَ المخاطَبُ من قومِك أو مِن غيرِ قومِك
.
2- الإشارةُ إلى أنَّ وجودَ الأنبياءِ بين الناسِ مِن أكبرِ النِّعمِ، فقال: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ، ولا شكَّ أنَّ حاجةَ الناسِ إلى الأنبياءِ أعظمُ من حاجتِهم إلى الملوكِ، وإنْ كانوا يَحتاجونَ إليهم .
3- في قوله كَتَبَ اللهُ لَكُمْ فائدةٌ عظيمةٌ؛ وهي أنَّ القومَ وإنْ كانوا جبَّارين، إلَّا أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وعَدَ هؤلاءِ الضَّعفاءَ بأنَّ تِلك الأرضَ لهم، فإنْ كانوا مؤمنينَ مقرِّينَ بصِدقِ موسى عليه السَّلامُ عَلِموا قطعًا أنَّ اللهَ سيَنصرُهم ويُسلِّطهم عليهم؛ فحينئذٍ يُقدِمون على قِتالِهم مِن غَيرِ جُبنٍ ولا خوفٍ ولا هلَعٍ .
4- أنَّ الكتابةَ نوعانِ: شرعيَّةٌ، وقَدَريَّة؛ فالكتابةُ في قوله: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ بمعنى الكتابة القَدَريَّة، وتأتي غالبًا مقرونةً باللَّام، أما الكتابةُ الشَّرعيَّة فتأتي غالبًا لا دائمًا مقرونة بـ(على)؛ بدليل قوله: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ [الحشر:3] فالكتابةُ هنا: قَدَريَّة .
5- أنَّ بَني إسرائيلَ كانوا أحقَّ بأرضِ الشَّامِ من غيرِهم،؛ لقوله: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فهم أحقُّ الناسِ بها، وهي مكتوبةٌ لهم حِينَ كانوا مؤمنينَ؛ لا لأنَّهم مِن بني إسرائيلَ، ولا شكَّ أنَّهم في عَهدِ موسى هم أفضلُ أهلِ الأرض، وموسى عليه السَّلامُ يُخاطِبُ قومًا صدَّقُوا وآمَنوا به، وقدْ قال اللهُ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] ، إذن فقولُ بني إسرائيلَ: إنَّ هذه أرضُ الميعادِ، نقول: إنْ شاءَ اللهُ هي أرضُ ميعادِ هلاكِكم، أمَّا أنَّها أرضٌ لكم مكتوبةٌ شرعًا فلا، وأمَّا قَدَرًا فيُمكِن، لكنْ شرعًا ليس لهم فيها حقٌّ إطلاقًا؛ قال: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف: 128] ، فكما أنَّ اللهَ أَوْرَثَ بني إسرائيل بلادَ فِرعونَ وأرضَه؛ لأنَّهم كانوا مُسلِمينَ، فكذلك المسلمونَ المؤمنونَ بمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَرِثونَ بَنِي إسرائيلَ .
6- بَيانُ جفاءِ بني إسرائيلَ؛ وذلك أنَّ موسى عليه السَّلامُ كان يُخاطبهم بقولِه: يَا قَوْمِ بهذا اللَّفظِ، وهم يقولون: يَا مُوسَى، ولم يقولوا: يا نَبيَّ اللهِ، أو يا رسولَ الله، وهذا مِن جفائِهم وغِلَظ طَبائعِهم .
7- سوءُ ظنِّ بَني إسرائيلَ باللهِ؛ وذلك لأنَّ نبيَّهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وعَدَهم أنَّ اللهَ كتَبَ لهم الأرضَ المقدَّسةَ في قولِه: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، ولكنَّهم اعتَمَدوا على الأمْرِ الماديِّ، فقالوا: إنَّ فيها قومًا جبَّارينَ .
8- بعد أنْ قال قومُ موسى: وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا جاءَ تأكيدُ هذا المعنى بقولهم: فَإِنْ يَخْرُجُوا ولم يقولوا: (فإذا خرَجوا)، كأنَّهم يستبعدون خُروجَهم؛ لأنَّ (إنْ) الشَّرطيَّة: تتميَّز عن (إذا) بأنَّ (إنْ) يكونُ فِعلُ الشَّرطِ فيها حاصلًا وغيرَ حاصلٍ؛ فإنَّها للمَشكوكِ فيه، بلْ قد يكونُ مِنَ الأشياءِ المستحيلةِ، لكن (إذا) تكونُ للشَّرْطِ المَقطوعِ بوقُوعِه حَقيقةً أو حُكمًا .
9- بيان جُبنِ بَني إسرائيلَ؛ لقولِهم: لَنْ نَدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا، وهذا غايةُ ما يكون مِن الجُبن؛ لأنَّ الجبانَ هو الذي يقولُ: لا أدخُلُ البلدةَ أو القريةَ أو المدينةَ إلَّا إذا خرَجَ منها أهلُها، ثم أكَّدوا هذا الجُبنَ مرَّةً ثانيةً بقولِهم: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ .
10- أنَّ مَن غُزِيَ في عُقرِ دارِه فهو ذليلٌ، وهذا مَثَلٌ مشهورٌ: ما غُزِيَ قومٌ في عُقرِ دارِهم إلَّا ذَلُّوا؛ لقوله: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ، وأهل البلدِ مغلوبونَ .
11- لَمَّا كان يَعلمُ الرَّجُلانِ المذكورانِ في قولِه تعالى: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أنَّه لا بدَّ مِن دخولِهم عليهم، وإنْ تَقاعَسوا وإنْ طال المدَى؛ لأنَّ اللهَ وعَدَ بنَصرِهم عليهم ووعْده حقٌّ، عبَّرَا بأداةِ التحقيقِ (إذا) فقالا: فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ، ثم أكَّدا خَبرَهما إيقانًا بوعدِ الله فقالَا: فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ، أي: لأنَّ المَلِكَ معكم دُونَهم .
12- قولُه تعالى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ناسَب أوَّلُ الآيةِ آخِرَها؛ فبعدَ أنْ أمَرَ القومَ باتِّخاذِ الأسبابِ والوسائلِ أَمرَهم بالتَّوكُّل على اللهِ، والاعتمادِ على وعْدِه ونَصْرِه وخَبرِ رسولِه؛ ولذلك ذيَّلَا بقولهما: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؛ لأنَّ الشَّكَّ في صِدقِ الرَّسولِ مبطِلٌ للإيمانِ .
13- إصرارُ بني إسرائيلَ على المعصيةِ، وعلى الجُبن والخَوَرِ؛ لقولهم: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا، وهذا ظاهرٌ في أنَّهم مُصرُّونَ على معصيةِ نبيِّهم الذي قال لهم: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ .
14- الغَطرسةُ العظيمةُ في بني إسرائيلَ؛ حيث قالوا لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، حتَّى قولهم: «اذْهَبْ»- بهذه الصِّيغة كأنَّهم آمِرونَ لموسى- أيضًا فيه استعلاءٌ واستكبارٌ، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ يعني: ما رَجَوْه رجاءً وقالوا: ألَا تذهبُ يا رسولَ اللهِ، أو يا نبيَّ اللهِ، أو ما أشبهَ ذلك، وجه ثالثٌ مِن الغطرسة في قولهم: إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، أي: لا نَتحرَّكُ ولا نذهبُ معَكم، لم يقولوا مثلًا: إنَّنا رِدْءٌ لك نَحمِيكَ مِن ظَهرِك، وما أشبهَ ذلك! ففيها أيضًا مُنتهَى الغطرسةِ مِن بني إسرائيلَ .
15- في قولِه تَعالَى: إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ مواجهةٌ لنبيِّهم في هذا المقامِ الحرجِ الضيِّق، الذي قد دعَتِ الحاجةُ والضرورةُ فيه إلى نُصرةِ نبيِّهم، وإعزازِ أنفسِهم، وبهذا وأمثالِه يظهرُ التفاوتُ بين سائرِ الأُممِ وأُمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حيث قال الصحابةُ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- حين شاورَهم في القِتالِ يومَ «بدر» مع أنَّه لم يُحَتِّمْ عليهم-: يا رسولَ اللهِ، لو خُضتَ بِنا هذا البحرَ لخُضناهُ معَك، ولو بلغتَ بِنا بَرْكَ الغُمادِ ما تخلَّفَ عنك أحدٌ، ولا نقولُ كما قال قومُ موسى لموسى: اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكِنْ اذهبْ أنتَ وربُّك فقاتِلَا إنَّا مَعكُما مقاتلونَ، مِن بَينِ يَديكَ ومِن خَلْفِكَ، وعن يَمينِكَ وعن يَسارِكَ .
16- أنَّ التحريمَ يُطلَقُ على المنعِ القَدَريِّ؛ لقوله: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً؛ فاللهُ تعالى لم يُرِدْ أنَّه حرَّمَ عليهم دخولَها شَرْعًا، لكنْ قَدَرًا، والتحريمُ يكون كونيًّا، ويكون شرعيًّا، فمِن التحريمِ القدَريِّ الكونيِّ: قولُه تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص: 12] ، ومِن التحريمِ الشرعيِّ: قولُه تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ

[المائدة: 3] .
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (إِذْ) ظَرْفٌ في مَحلِّ نصْبٍ على أنَّه مَفعولٌ لفِعلٍ مُقدَّرٍ، أي: واذْكُرْ وقْتَ قولِ موسَى لقومِه ناصحًا لهم ومُستميلًا لهم بإضافتِهم إليه يَا قَوْمِ ...؛ فتوجَّه الأَمْرُ بالذِّكر إلى الوقتِ دونَ ما وقَعَ فيه مِن الحوادثِ، مع أنَّها المقصودةُ بالذَّات؛ للمبالغةِ في إيجابِ ذِكرِها؛ لأنَّ إيجابَ ذِكرِ الوقتِ إيجابٌ لذِكرِ ما وقَعَ فيه بالطريقِ البُرهانيِّ
.
2- وفي قوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا فيه- على أحدِ وُجوهِ التفسيرِ المذكورةِ-: تَشبيهٌ بليغٌ، حيث جعَلَهم كالملوكِ في تصرُّفِهم في أنفُسِهم، وسلامتِهم من العبوديَّةِ التي كانتْ عليهم للقِبط، أو استُعمل فِعل جَعَلَكُمْ في معنى الاستقبال، مِثل قوله: أَتَى أَمْرُ اللهِ [النحل: 1] ؛ قصدًا لتحقيقِ الخبر، فيكونُ الخبرُ بشارةً لهم بما سيكونُ لهم .
3- قوله: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ: كرَّر النِّداءَ الذي ابتدأَ به مَقالتَه، وهو النِّداءُ بـيَا قَوْمِ؛ اهتمامًا بشأنِ الأمرِ، ومبالغةً في حثِّهم على الامتثالِ به .
4- قوله: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا: فيه تأكيدٌ؛ حيثُ أكَّدوا الامتناعَ الثاني من الدُّخولِ بعدَ المحاورةِ أشدَّ توكيدٍ؛ دلَّ على شِدَّتِه في العربية بثَلاثةِ مؤكِّداتٍ: (إنَّ)، و (لن)، وكلمة (أبدًا)، حيثُ أكَّدوا نَفيَهم للإقدامِ عليهم بقولِهم: إِنَّا، وَعظَّموا تأكيدَهم بقولهم: لَنْ نَدْخُلَهَا، وزادوه تأكيدًا بقولِهم: أَبَدًا .
5- قوله: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ: فيه تصريحٌ بمَفهومِ الغايةِ التي في قولِه: وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا؛ لقصدِ تَأكيدِ الوَعدِ بدُخولِها إذا خلَتْ مِنَ الجبَّارينَ الذين فيها ؛ فأكَّدوا على دُخولهم إذا خرَج منها هؤلاءِ القومُ الجبَّارونَ بقولِهم: فَإِنَّا دَاخِلُونَ-فهو مُؤكَّد بـ(إنَّ) واسميَّةِ الجُملة- وهذا لا يَحتاجُ إلى توكيدٍ، لكن يَدلُّ على شِدَّةِ بلاهتِهم؛ لأنَّ المعروف أنَّه متى خلَتِ البلادُ مِن الأعداء فخرَجُوا منها، فالدُّخولُ في هذه الحالة لا يَحتاجُ إلى تأكيدٍ .
6- قوله: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا: فيه تعريضٌ؛ حيثُ يجوزُ أن يكونَ المرادُ بالخوفِ: الخوفَ مِن الله تعالى، أي: كان قولهما لقومِهما: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ ناشئًا عن خوفِهما مِن الله تعالى، فيكون تعريضًا بأنَّ الذين عَصَوهما لا يخافونَ اللهَ تعالى .
7- قوله: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ: فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَلَيْهِم على المفعولِ به البَابَ؛ للاهتمامِ بالمقدَّم .



10.=====


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (27 - 32)
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ
غريب الكلمات:

نَبَأَ: النَّبَأُ: الخبرُ الذي له قَدرٌ، وفائدةٌ عظيمةٌ، ويَحصُل به علمٌ أو غَلَبَةُ ظنٍّ، وأَصْلُ (نبأ): الإتيانُ مِن مكانٍ إلى مكانٍ؛ وسُمِّيَ الخبرُ نبأً؛ لانتقالِه مِن مكانٍ إلى مكانٍ
.
قُرْبَانًا: ما يُتقرَّبُ به إلى اللهِ عزَّ وجلَّ مِن ذِبْحٍ أو غيرِه، وصارَ اسمًا للنَّسيكةِ التي هي الذَّبيحةُ، وأصلُ القُرب: خِلافُ البُعدِ .
بَسَطْتَ: مَدَدْتَ، والبَسطُ في الشيءِ: فتْحُه وتَوسعتُه، وقيل: إمدادُه في جميعِ جِهاتِه .
تَبُوءَ: أي: تَرجِعَ، أو تَنقلِبَ وتَنصرِفَ، ولا يُقال: (باء) إِلَّا بشَرٍّ، ويُقال: باءَ بكذا إذا أقرَّ بِه .
بِإِثْمِي: أي: بإثمِ قتْلي، والإثمُ والآثام: اسمٌ للأفعالِ المبطِّئةِ عن الثَّوابِ، أو الذَّنبِ الذي تُستَحقُّ العقوبةُ عليه، وأصل الإثم: البُطءُ والتأخُّر .
فَطَوَّعَتْ: سهَّلَتْ وزَيَّنتْ، أو طاوَعتْ وأعانَتْ، وأجابتْ وانقادَتْ، وأصْل الطَّوع: الانقيادُ والإصحابُ، ويَضادُّه الكُرهُ .
يَبْحَثُ: يَحْفِرُ، والبَحْثُ: طَلَبُ الشَّيءِ في التُّرابِ، ويُطلَقُ كذلك على الكَشفِ والطَّلبِ .
يُوَارِي: يَستُر، مِن واريتُ كذا: إذا سَترتَه .
يَا وَيْلَتَا: يا فَضيحَتَاه! والويلُ: كلمةُ دُعاءٍ بالهلاكِ والعذابِ، وتُطلَق كذلِك على حُلولِ الشرِّ، وتُستعمَلُ في التَّحسُّرِ، والويلةُ: الفَضيحةُ والبليَّةُ .
سَوْءَةَ أَخِي: السَّوْءةُ: العورةُ، وما لا يَجوزُ كَشْفُه مِن الجَسدِ، والمُرادُ هنا بَدَنُه وجيفتُه، وأَصْلُ (سوء): يدلُّ على القُبحِ .
النَّادِمِينَ: جمْعُ نادمٍ، وهو المتحسِّرُ مِن تغيُّر رأيٍ في أمْرٍ فائتٍ، مِن نَدِم: إذا تَفطَّنَ لشيءٍ قد كان .
بِالْبَيِّنَاتِ: جمْع بيِّنة، وهي: الدَّلالةُ الواضِحةُ؛ يُقال: بانَ الشيءُ وأبانَ، إذا اتَّضحَ وانكَشَف .
لَمُسْرِفُونَ: لمُفرِطون، والسَّرَف: تَجاوزُ الحدِّ في كلِّ فِعلٍ يَفعلُه الإنسانُ، وأصلُه: تَعدِّي الحدِّ، والإغفالُ للشَّيء أيضًا

.
المعنى الإجمالي:

يَأمرُ اللهُ تعالى نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَقصُصَ على اليهودِ وغيرِهم خبرَ ابنَي آدَمَ، وهو خبرٌ حقٌّ؛ إذ أخرجَ كلُّ أخٍ منهما شيئًا يتقرَّبُ به إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى، فقبِلَ الله قُربانَ أحدِهما، ولم يَقبَلْ مِن الآخَر، فحسَد الذي لم يَتقبَّلِ اللهُ قُربانَه أخاه، فتوعَّده بالقَتْلِ، فقال له أخوه: إنَّما يتقبَّلُ الله من المتَّقينَ، وقال له: إنْ مددْتَ إليَّ يدَك لتقتُلَني، فلنْ أمدَّ يَديَ إليك لأقتلَك، والَّذي يَمنعني مِن ذلِك هو خَوفي مِن اللهِ خالِق جميعِ الخلائقِ ومالِكها ومدبرها سُبحانَه ، وأنِّي أُريدُ أن تتحمَّلَ أنتَ إثمَ قتْلي مع إثمِ ما ارْتكبْتَه مِن قبلُ من المعاصِي، فتكون- بسببِ ذلك- من أصحابِ النار، وهذه هي عقوبةُ كلِّ ظالمٍ
فسهَّلتْ له نفْسُه قتْلَ أخيه فقتَلَه؛ فأصبح مِن الذين خَسِروا دُنياهم وآخِرتَهم، فلمَّا قتَلَه تحيَّر كيف يصنعُ بأخيه المقتولِ؟! حينها بعَثَ اللهُ غُرابًا يَحفِرُ في الأرضِ ويُثير الترابَ؛ ليشاهدَه القاتلُ، فيفطِنَ للطريقةِ التي مِن خلالها يُغطِّي بدنَ أخيه، فلام القاتلُ نفْسَه، وقال: عجبًا، كيف لم أَقدِرْ على فِعلِ ما فَعلَه هذا الغرابُ فأُغطِّيَ بدنَ أخي؟! فأصبحَ مِنَ النادمينَ.
ثم أَخبر تعالى أنَّه مِن أجلِ تِلك الجريمةِ التي ارتكبها ولدُ آدَمَ بقَتْلِه أخاه ظلمًا؛ حَكَمَ تعالى على بَني إسرائيل أنَّه مَن قتَلَ نفْسًا واحدةً دون أن تكونَ مُستحِقَّةً للقتْلِ- بسببِ قِصاصٍ أو فَسادٍ في الأرض- فهو بفِعْلِه ذلك مِثلُ مَن استحلَّ دِماءَ جميعِ النَّاس، ومَن أحياها فهو مِثلُ مَن أحيا الناسَ جميعًا، ولقدْ جاءتْ رسلُ اللهِ إلى بني إسرائيل بالبيِّناتِ، ثم إنَّ كثيرًا منهم بعدَ مَجيءِ رُسلِنا إليهم بالبيِّناتِ يَعملون المعاصي، ويرتكبون ما حرَّم اللهُ تعالى، مُنتهِكين حُدودَه..
تفسير الآيات:

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
المناسبةُ بينَ هذه القِصَّةِ والتي قَبلَها مُناسَبةُ تماثُلٍ ومُناسَبةُ تضادٍّ؛ فأمَّا التماثُلُ، فإنَّ في كِلتَيهما عدَمَ الرِّضا بما حَكَم الله تعالى؛ فإنَّ بني إسرائيل عصَوْا أمْرَ رسولِهم إيَّاهم بالدُّخولِ إلى الأرض المقدَّسةِ، وأحد ابنَيْ آدَمَ عصَى حُكمَ الله تعالى بعدَمِ قَبولِ قُربانِه؛ لأنَّه لم يكُنْ مِن المتَّقين، وفي كِلتَيهما جُرأةٌ على اللهِ بعدَ المعصية؛ فبنو إسرائيل قالوا: فاذْهَبْ أنتَ ورَبُّك، وابنُ آدَمَ قال: لأقتُلنَّ الذي تَقبَّل اللهُ مِنه. وأمَّا التضادُّ، فإنَّ في إحْديهما إقدامًا مذمومًا مِن ابنِ آدَمَ، وإحجامًا مذمومًا من بني إسرائيل، وإنَّ في إحْدَيهما اتفاقَ أَخوينِ هما موسى وأخوه على امتثالِ أمْرِ الله تعالى، وفي الأُخرى اختلاف أَخوينِ بالصَّلاحِ والفَسادِ
.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27).
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ.
أي: واقْصُصْ- يا محمَّدُ- خبَرَ ابنَي آدَمَ لصُلبِه على هؤلاءِ اليَهودِ وغيرِهم، بالصِّدقِ الثابِتِ الذي لا لَبْسَ فيه ولا كَذِبَ، ولا وَهْم ولا تَبديلَ، ولا زِيادةَ ولا نُقصانَ .
إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ.
أي: حين أَخرجَ كلُّ واحدٍ من الأخوينِ شيئًا؛ يُتقرَّبُ به مِنَ اللهِ تعالى، فقُبِلَ مِن أحدِهما دُونَ الآخَرِ .
قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ.
أي: فلمَّا قُبِلَ مِن أَحدِهما قُربانُه، ولم يُقبَلْ مِن الآخِرِ، وعَلِم الذي لم يُقبَلْ مِنه بذلِك، حسَدَ أخاه، فتوعَّدَه بالقتلِ .
قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
أي: ردَّ عليه أخوه بقَولِه:إنما يُتقبَّل الله العملَ ممَّن اتَّقى الله فيه؛ فعَمِلَه خالصًا لله، موافقًا لأمر الله؛ فمَن اتَّقاه في عَملٍ تقبَّله منه ، فأيُّ ذَنبٍ لي يُوجِبُ لك قتْلي، إلَّا أنِّي اتقيتُ اللهَ الذي تقواه واجبةٌ عليَّ وعليكَ؟! فكنْ أنتَ من المتقين حتَّى يُتقبَّلَ منك أيضًا .
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28).
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ.
أي: لو مَددتَ إليَّ يدَك مِن أجْلِ أنْ تَقتُلَني، فلنْ أُقابِلَك على صَنيعِك الفاسدِ بمِثلِه .
إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أي: لا أُريدُ أنْ أُقدِمَ على قتْلِك؛ لأنَّني أخافُ غضَبَ وعقابَ اللهِ، الَّذي نتوجَّه إليه وحْدَه بالعِبادة، والخالِق المالِك لجميعِ الخلائقِ ومُدبِّرها سُبحانَه .
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29).
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ.
أي: إنِّي أُريدُ أن ترجِعَ مُتحمِّلًا إثمَ قَتْلي، مع إثمِك الذي اكتسبتَه من مَعاصٍ سابقةٍ .
فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ.
أي: فتكونَ بذلِك مِن سُكَّانِ الجحيمِ الملازِمينَ لها، وهذا عقابُ كلِّ ظالمٍ .
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30).
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ.
أي: فسَوَّلتْ له نفْسُه وسَهَّلت عليه قتْلَ أخيه، الذي يَقتضي الشَّرعُ والطبعُ احترامَه والرأفةَ به، فاستجابَ لنَفْسِه الأمَّارةِ بالسُّوءِ، فقَتَلَ أخاه .
فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
فصارَ بقَتْلِ أخيه مِن الذين خابوا وخَسِروا دُنياهم وآخِرتَهم .
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((لا تُقتَلُ نفسٌ ظُلمًا، إلَّا كانَ على ابنِ آدمَ الأوَّلِ كِفلٌ من دَمِها ؛ لأنَّه أولُ مَن سَنَّ القَتْلَ )) .
ولَمَّا قتَل أخاه حارَ كيفَ يَصنعُ بأخيه المقتولِ ، قال تعالى:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31).
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ.
أي: فأَرسل اللهُ تعالى له غُرابًا يَحفِرُ في الأرضِ، ويُثير الترابَ- قيل: ليدفن غرابًا ميتًا -؛ ليشاهدَه القاتلُ، فيتفطَّنَ مِن خلال ذلِك إلى الطريقةِ التي يَستُرُ بها بدَنَ أخيه .
قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي.
أي: فقال القاتلُ حينئذٍ لائمًا وموبِّخًا لنَفْسِه: كيف لم أقْدِرْ على مِثلِ ما فعَلَه الغرابُ فأسترَ بذلِك بدَنَ أخِي ؟!
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.
أي: فصارَ نادمًا على قَتْلِه لأخيه .
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ(32).
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا.
أي: بسببِ جَريرةِ قتْلِ ابنِ آدَمَ أخاه ظُلمًا وعُدوانًا، حَكَمْنا على بني إسرائيلَ بأنَّه مَن تَجرَّأَ منهم فقتَل نفْسًا واحدةً بغير سببٍ مِن قِصاصٍ، أو فسادٍ في الأرضِ- فإنَّ النفسَ إذا قَتَلَت نفْسًا بغيرِ حقٍّ استحقَّتِ القتلَ بها قِصاصًا، وكذا إذا كان منها فسادٌ في الأرض كقَطعِ الطَّريقِ وإخافةِ السَّبيلِ- فهو مِثلُ مَن استحلَّ دِماءَ جميعِ النَّاسِ .
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.
أي: مَن حرَّم قتْلَ مَن حرَّم اللهُ تعالى قتْلَه، ولم يُقدِمْ على قتْلِه، فقدْ حَيِيَ الناسُ كلُّهم بسَلامتِهم منه .
وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: قدْ أتَى رُسلُنا بني إسرائيل ومعهم البراهينُ الظاهرةُ، والدلائلُ الواضحةُ، التي لا يَبقَى معها حُجَّةٌ لأحدٍ .
ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.
أي: ثمَّ إنَّ كثيرًا من بني إسرائيلَ بعدَ مَجيءِ رُسلِنا إليهم بالبيِّناتِ القاطعةِ للحُجَّة، الموجِبةِ للاستقامةِ؛ عاملونَ في الأرضِ بالمعاصي؛ مخالفةً للهُدَى واتِّباعًا للهَوَى، فارْتكبوا محارمَ الله تعالى، وانتهكوا حدودَه سُبحانَه بعدَ عِلْمِهم بها

.
الفوائد التربوية:

1- يُستفادُ مِن قولِه: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ أنَّه قد يشتركُ الرَّجُلانِ في عمل، ويكونُ بينهما مِن الفَرقِ كما بَينَ السَّماءِ والأرضِ؛ إمَّا في ردِّ عَملِ الثاني، وإمَّا في زيادةِ ثوابِ الأَوَّل، وإنْ لم يُحرَمِ الثاني مِن الثَّوابِ، وفي هذه القِصَّةِ أنَّ الثانيَ حُرِمَ مِنَ الثَّوابِ
.
2- أنَّه لا حرَجَ على الإنسانِ أنْ يُخبِرَ بوصفٍ محمودٍ إذا لم يَقصِدِ الفَخرَ، وإنَّما قَصَدَ مصلحةَ الغَيرِ؛ لقول هذا الذي تُقبِّلَ منه: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ؛ لأنَّ هذه الجملةَ تصلُحُ لأنْ يكونَ القائلُ يُريدُ أنْ يحُثَّ هذا على التَّقوى .
3- قوله: لَأَقْتُلَنَّكَ هذا القولُ- بهذا التأكيدِ المنبئِ عن الإصرارِ- ينبعثُ مِن غيرِ موجبٍ، اللهمَّ إلَّا ذلك الشُّعور الخبيث المُنكَر؛ شُعور الحسدِ الأَعْمَى الذي لا يَعمُر نفسًا طيِّبةً، وهذا الخُلقُ مذمومٌ في كلِّ شريعةٍ، وكان ممَّا حمَلَ الأخَ على قتْلِ أخيه حسَدُه على مزيَّةِ القَبولِ .
4- أنَّ الإنسان يَنبغي له إذا امتَنَع مِن شيءٍ محرَّم، أنْ يُبيِّنَ لصاحبِه أنَّه إنما امتَنَعَ لا عجزًا ولا خوفًا، ولكن للمعنى الذي مِن أجْلِه امتَنعَ، وذلك لقولِه: مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ .
5- أنَّ الخوفَ مِن الله هو أقوى الأسبابِ الرادعةِ عن مَعصيتِه؛ لقولِه: مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ .
6- يُستفادُ مِن قولِه: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ الحذرُ مِن النَّفسِ الأمَّارةِ بالسُّوء؛ لأنَّها قد تُطوِّعُ للإنسانِ أكبرَ المعاصي، فيجب على الإنسانِ أن يكونَ حازمًا بالنسبةِ لنفْسِه ويَقِظًا، فلا يَتَّبِعها فيما تُطوِّعُه له مِن معاصِي الله .
7- يُستفادُ مِن قولِه: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ أنَّ كلَّ إنسانٍ حسَدَ أخاه، وحاوَلَ أنْ يَحُولَ بينَه وبينَ التوفيقِ، فإنَّ الخَسارةَ ستعودُ على هذا الحاسدِ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- أهميَّةُ هذه القِصَّة؛ وجهُ ذلك: أنَّ اللهَ أمَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمرًا خاصًّا أنْ يَتلُوَها؛ فقال: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ
.
2- أنَّه ينبغي لنا أنْ نعرِفَ أخبارَ مَن سبَقَ، لا سيَّما فيما فيه مصلحةٌ؛ لنأخذَ منها العِبَرَ .
3- يُستفادُ مِن قولِه: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى- له الحُكمُ في القَبولِ والرَّدِّ؛ يَتقبَّلُ أو لا يَتقبَّل، ولكنْ مِن المعلومِ أنَّ اللهَ جعَلَ للقَبولِ ميزانًا، وجعَل للردِّ ميزانًا .
4- أنَّ الله سُبحانَه وتعالى موصوفٌ بصِفاتِ الأفعالِ؛ لقولِه: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا، ولقوله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ .
5- قولُه: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ على قولِ الخَوارجِ والمعتزلة لا تُقبل حَسنةٌ إلَّا ممَّن اتَّقاه مطلقًا، فلم يأتِ كبيرةً، وعند المرجئةِ إنَّما يَتقبَّل ممَّن اتَّقى الشِّرْك؛ فجَعَلوا أهلَ الكبائر داخلينَ في اسمِ المتَّقين، وعند أهل السُّنَّة والجماعة يُتقبَّل العملُ ممَّن اتَّقى الله فيه فعَمِلَه خالصًا لله، موافقًا لأمر الله؛ فمَن اتَّقاه في عَملٍ تقبَّله منه، وإنْ كان عاصيًا في غيرِه، ومَن لم يتَّقِه فيه لم يتقبَّلْه منه، وإنْ كان مطيعًا في غيرِه .
6- يُستفادُ من قولِه: إِنِّي أُرِيدُ إثباتُ الإرادةِ للعَبدِ، وأنَّ هذا معلومٌ منذ خُلِق البَشرِ، فيكونُ في ذلِك ردٌّ على الجَبريَّةِ الذين يقولون: إنَّ الإنسانَ ليس له إرادةٌ، وإنَّما يَفعَلُ الشيءَ قهرًا وجبرًا .
7- أنَّ مَن أُريد قتلُه ولم يُدافِعْ عن نَفْسِه خوفًا مِن الإثمِ ، فإنَّه لا حرَجَ عليه؛ لقوله: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ .
8- قولُه تَعالَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ يدلُّ على أنَّ اللهَ عزَّ ذِكرُه قد كان أمَرَ ونَهَى آدَمَ بعدْ أنْ أَهبطَه إلى الأرضِ، ووعَد وأَوْعَد، ولولا ذلِك ما قال المقتولُ للقاتلِ: فتكونَ مِن أصحابِ النارِ بقَتْلِك إيَّاي، ولا أخْبَره أنَّ ذلك جزاءُ الظَّالمين .
9- في قولِه تَعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ إن قيل: كيف يُعقَلُ أن يبوءَ القاتلُ بإثم المقتولِ مع أنَّه تعالى قال: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18] ، فالجواب: أنَّ المرادَ تحملُ إثْمَ قتلي وإثمِك الذي كان مِنك قبلَ قَتْلي، وهذا بحَذْفِ المضافِ، أو أن يكونَ المرادُ ترجِع إلى اللهِ بإثمِ قتْلي وإثمك الذي مِن أجْلِه لم يُتقبَّل قُربانُك .
10- إذا قيل: كيف جازَ أن يقولَ: إِنِّي أُرِيدَ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ مع أنَّه لا يجوزُ للمسلمِ أن يُريد من غيرِه أن يَعصيَ اللهَ؟ فالجواب من عِدَّة وجوه:
الأوَّل: أنَّ المعنى إنِّي أُريد أن تبوءَ بإثمِ قتْلي إنْ قتَلْتَني؛ لأنِّي لا أَقتُلك، فإنْ أنتَ قتلتَني فإنِّي مريدٌ أنْ تبوءَ بإثمِ مَعصيتِك اللهَ في قتْلِك إيَّاي، وهو إذا قتَلَه فهو لا محالةَ باءَ به في حُكمِ الله، فإرادتُه ذلك غيرُ موجِبةٍ له الدُّخولَ في الخطأ.
الثاني: أنَّ المراد: إنِّي أُريد أن تبوءَ بعقوبةِ قتْلي، ولا شكَّ أنه يجوزُ للمظلومِ أن يُريد مِن الله عقابَ ظالِمِه.
الثَّالث: أنَّه رُوِيَ أنَّ الظالم إذا لم يجِدْ يوم القيامة ما يُرضِي خَصمَه أُخِذ مِن سيِّئات المظلومِ وحُمِلَ على الظالم؛ فعلى هذا يجوزُ أن يُقال: إنِّي أُريدُ أن تبوءَ بإثمي في أنَّه يُحمَلُ عليك يومَ القيامة إذا لم تجِدْ ما يُرضيني، وبإثمِك في قتْلِك إيَّاي .
11- قولُه تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا... الآية، أصلٌ في دفنِ الميِّت .
12- أنَّ أفعالَ الحيوانِ كأفعالِ الإنسانِ؛ مخلوقةٌ للهِ وبإرادتِه؛ لقولِه تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ .
13- أنَّ الحيواناتِ قد تكونُ مُرشِدةً للبَشرِ كما في هذه القِصةِ؛ الغراب أرْشدَ ابنَ آدَمَ إلى أنْ يَحفِرَ لأخيه ويَدفنَه، وصارتْ سُنَّةَ البَشرِ إلى يومِنا هذا، إلَّا مَن ضلَّ عنِ الصِّراطِ المستقيمِ؛ لقولِه تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا .
14- يُستفادُ مِن قولِه: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا أنَّ الله سُبحانَه تعالى يُيسِّرُ للإنسانِ إذا ضاقتْ به الأرضُ ما لم يطرأْ له على بالٍ؛ فإنَّ هذا الرَّجُلَ ضاقتْ عليه الأرضُ؛ ماذا يَصنَعُ بأخيه الذي قتَلَه؟ إلى أن بعَث اللهُ هذا الغرابَ .
15- يُستفادُ مِن قولِه: كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ أنَّ الواجبَ في الدَّفْنِ ما تُوارَى به السَّوأةُ، أي: ما يُغطَّى به الجِسمُ، لكنَّ العلماء رحِمهم الله زادوا على ذلِك شرطًا لا بدَّ منه، وهو أن يكونَ الدفنُ مانعًا من وصولِ السِّباع إليه، ومن خروجِ رائحَتِه .
16- يُستفادُ مِن قولِه: كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ أنَّ بدَنَ الميِّتِ كلَّه عورةٌ؛ لأنَّ القبر يُواري البدنَ كلَّه؛ ولهذا قال العلماءُ رحمهم الله: إنَّ بدَنَ الميِّتِ كلَّه عورةٌ، لكن هذا بالنسبة إلى وجوبِ تَعميمِ الكفنِ لا بالنِّسبةِ للنَّظَرِ .
17- في قولِه تعالَى: كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ مَشهدٌ عظيمٌ؛ وهو مشهدُ أوَّلِ حَضارةٍ في البَشر، وهي مِن قَبيلِ طلبِ سَتْرِ المشاهِدِ المكروهةِ، وهو أيضًا مشهدُ أوَّلِ عِلمٍ اكْتَسبَه البشرُ بالتَّقليدِ وبالتَّجرِبةِ، وهو أيضًا مَشهدُ أوَّلِ مظاهرِ تلقِّي البشرِ معارفَه من عوالمَ أضعفَ منه، كما تَشبَّه الناسُ بالحيوانِ في الزِّينةِ، فلَبِسوا الجلودَ الحسنةَ الملوَّنة، وتَكلَّلوا بالرِّيشِ المُلوَّن، وبالزُّهورِ والحجارةِ الكريمةِ .
18- يُستفادُ مِن قَوْلِه: يَا وَيْلَتَى أنَّ فاعلَ المعصيةِ إذا لم يتُبْ فإنَّه يُجازَى بالخسرانِ والنَّدمِ، وضِيقِ النَّفْس .
19- قولُه تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ الظاهرُ أنَّ نَدمَه لم يكُن ندمَ التوبةِ، وإلَّا لقبِلَ اللهُ توبتَه، وإنَّما كان الندمَ الناشئَ من عدمِ جدوى فِعْلَتِه، وما أعقبَتْه له مِن تَعبٍ وعناءٍ وقلقٍ، ومصداقُ ذلك ما جاءَ في الصحيح: ((ما مِن نَفْسٍ تُقتَلُ ظُلمًا إلَّا كان على ابنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفلٌ مِن دَمِها؛ ذلك لأنَّه أَوَّلُ مَن سَنَّ القتلَ )) ، وقيل: حتى وإن كان ندمَ توبةٍ فلم يكن موفيًا شروطَه، فلم يقبلْ منه، أو نَدِمَ ولم يستمرَّ ندمُه، وقيل غير ذلك .
20- قولُه تَعالَى: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا فيه دليلٌ على أنَّ القتلَ يجوزُ بأحدِ أمرينِ: إمَّا أن يَقتُل نفْسًا بغيرِ حقٍّ متعمِّدًا في ذلك، فإنِّه يَحِلُّ قتْلُه، إنْ كان مُكلَّفًا مُكافِئًا، ليس بوالدٍ للمقتولِ، وإمَّا أنْ يكونَ مُفسِدًا في الأرض، بإفسادِه لأديانِ الناسِ أو أبدانِهم أو أموالِهم، كالكفَّارِ المرتدِّينَ والمحاربينَ، والدُّعاةِ إلى البِدعِ الذين لا ينكَفُّ شَرُّهم إلَّا بالقَتْلِ، وكذلك قُطَّاعُ الطريقِ ونحوُهم، ممَّن يَصولُ على الناس لقَتْلِهم، أو أخْذِ أموالِهم .
21- إثباتُ العلةِ للأحكامِ الشرعيَّة؛ لقوله: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وهذه مِن أقوى صِيَغ التَّعليلِ، وإثباتُ العلَّة والحكمةِ لا شكَّ أنَّها مِن كمالِ الله عزَّ وجلَّ، فاللهُ تعالى لا يُشرِّع شيئًا إلا لحكمةٍ، ولا يُقدِّر شيئًا إلا لحكمةٍ .
22- يُستفادُ مِن قولِه: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا أنَّ اللهَّ عزَّ وجلَّ ضاعَفَ العقوبةَ على كلِّ مَن قتَلَ نفسًا بغير نفْسٍ أو فسادٍ في الأرضِ؛ حيث جعَلَه كالذي قتَل الناسَ جميعًا .
23- يُستفادُ مِن قولِه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ... جوازُ تخصيصِ مُعيَّنٍ في الحُكم وإنْ كان عامًّا؛ لكونِه أكثرَ الناسِ عملًا به؛ وجْهُه أنَّ الله خصَّ هذه الكتابةَ على بني إسرائيل مع أنَّها عامَّة؛ لأنَّهم هم أكثرُ مَن انتَهَكوا حُرماتِ اللهِ عزَّ وجلَّ بقتْلِ النُّفوسِ .
24- يُستفادُ مِن قولِه: أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ، أنَّ الفسادَ في الأرض مبيحٌ لقتْل النَّفْس، ولكنَّه مقيَّدٌ بالأدلَّة الأخرى الدالَّةِ على أنَّه ليس كلُّ فسادٍ يُبيح قتْلَ النَّفسِ، بل منه ما يُبيحُ القتلَ، ومِنه ما يُبيح دونَه، فتُحمَل هذه الآيةُ على النُّصوصِ الدالَّة على التَّخصيصِ .
25- يُستفادُ مِن قولِه: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا أنَّ إنقاذَ المعصومِ كإنقاذِ جميعِ المعصومينَ؛ اعتبارًا بالجِنس، فمَن أنقَذَ معصومًا من هَلَكةٍ، فكأنَّما أنقذَ النَّاسَ جميعًا باعتبارِ الجِنس، كما أنَّ مَن كذَّب رسولًا، فكأنَّما كذَّب جميعَ الرُّسلِ .
26- قوله: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ رُسُلُنَا: الَّذين أرسلَهم اللهُ عزَّ وجلَّ، فأضافَ الرُّسلَ إليه؛ لأنَّه هو الذي أرْسلَهم، وربَّما نقول: وتشريفًا لهم؛ لأنَّ الرسولَ يَشْرُفُ بشرفِ مُرسِله، فاللهُ عزَّ وجلَّ شرَّفهم بإضافةِ رِسالتهم إليه جلَّ وعلا، وقد تأتي الرسالةُ مضافةً إلى المرسَل إليهم، مِثل قوله تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [الأعراف: 101] ، ولا تناقُضَ بينهما، فهم رسلُ اللهِ؛ لأنَّه هو الذي أرسلَهم، ورسلٌ إلى الخَلْق؛ لأنَّهم بلَّغوهم رسالاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
27- أنَّ مَن لم تَبْلُغْه الرسالةُ فهو معذورٌ؛ لقولِه: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ، وهذا لإقامةِ الحُجَّة عليهم، والنُّصوصُ في هذا واضحةٌ؛ قال الله تعالى:رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] .
28- يُستفادُ مِن قولِه: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ مَحبَّةُ اللهِ عزَّ وجلَّ للإعذارِ وإقامةِ الحُجَّةِ؛ حيثُ جعَل مع كلِّ رسولٍ آيةً بيِّنةً يُؤمِنُ على مِثلِها البشرُ، حتَّى لا يقولَ الناسُ: مَن قال: إنَّ هذا رسولٌ؟ أينَ البيِّنةُ على أنَّ هذا رسولٌ؟ فإذا جاءَ بالآياتِ البيِّناتِ قامتِ الحُجَّةُ .
29- يُستفادُ مِن قولِه: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ العلمُ بشراسةِ بني إسرائيلَ، وأنَّهم أهلُ الغَطْرسةِ والاستكبارِ والتَّكذيب، وأنَّ بني إسرائيلَ مع الرُّسلِ المبيِّنينَ لم يَهتدوا، بل كثيرٌ منهم- بعدَ هذا البيانِ، وبعدَ هؤلاءِ الرُّسلِ- مُسرِفونَ مُتجاوِزونَ للحدِّ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ:
- فيه إيجاز بالحذف، والتقدير: كأنَّه قال: لِمَ تقتلُني؟ قال: لأنَّ قُربانك صار مقبولًا، فقال: وما ذنبي؛ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
؟!
- وفيه تعريض؛ إذ المعنى: إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المتَّقين، لا مِن غَيرِهم، وإنَّما تقبَّلَ قُرباني، وردَّ قُربانَك لِمَا فينا من التَّقوى وعَدمِه، أي: إنما أُتِيتَ من قِبَلِ نفْسِك لا مِن قِبَلي؛ فلماذا تَقتُلني؟! ولم يُصرِّحْ بذلك؛ بل سَلَك مَسْلَكَ التَّعريضِ حَذَرًا من تهييجِ غَضَبِه، وحملًا له على التقوى، والإقلاعِ عمَّا نواه .
2- قوله: مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ: جملة اسميَّه مُصدَّرة بـ(ما) الحجازيَّة المفيدة لتأكيد النَّفي بما في خبرها بِباسِطٍ من الباء؛ للمبالغة في إظهار براءتِه عن بَسْطِ اليد، وللتبرِّي عن هذا الفِعل الشَّنيع رأسًا، والتحرُّز من أن يُوصَفَ به، ويُطلَق عليه .
3- قوله: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فيه تشبيهٌ؛ حيثُ شبَّه قَتْلَ أخيه بشيءٍ مُتعاصٍ عنه ولا يُطيعه؛ بسببِ معارضةِ التعقُّلِ والخشيةِ؛ وشُبِّهتْ داعيةُ القتْلِ في نفْسِ القاتِلِ بشخصٍ يُعِينُه، ويُذلِّلُ له القتْلَ المتعاصِي .
- وفيه: إطنابٌ حسَنٌ، وكان مقتضَى الإيجازِ أنْ يَحذف فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ، ويَقتصر على قولِه: فَقَتَلَهُ، لكن عدَلَ عن ذلك؛ لقصدِ تفظيعِ حالةِ القاتلِ في تصويرِ خواطرِه الشِّرِّيرة، وقَساوة قلبِه؛ إذْ حدَّثه بقَتْلِ مَن كان شأنُه الرحمةَ به والرِّفقَ .
4- قوله: أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ: الاستفهامُ فيه للإنكارِ والنَّفي .
5- قوله: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا فيه: تشبيهٌ تَمثيليٌّ، ومناطُ التَّشبيهِ اشتراكُ فِعلَي القتْلِ في هتْك حُرمةِ الدِّماءِ والتجرُّؤِ على الله، وتَشجيعِ النَّاس على القتلِ، والمقصودُ مِن تشبيهِ قتلِ النَّفسِ الواحدةِ بقتْلِ النُّفوسِ: المبالغةُ في تَعظيمِ أمرِ القَتْلِ العَمْدِ العُدوانِ، وتَفخيمُ شأنِه، يعني كما أنَّ قَتْلَ كلِّ الخَلقِ أمرٌ مُستعظَمٌ عند كلِّ أحدٍ، فكذلك يجبُ أن يكونَ قتلُ الإنسانِ الواحدِ مُستعظَمًا مَهِيبًا، فالمقصودُ مشاركتُهما في الاستعظامِ، لا بيانُ مشاركتِهما في مِقدارِ الاستعظامِ .
والتشبيهُ بين قاتِلِ النَّفسِ وقاتِل الكلِّ قد يَحصُل مِن ثلاث جِهاتٍ لا مِن جميعها. إحداها: القَوَد-القِصاص-؛ فإنَّه واحدٌ. والثانية: الوعيدُ؛ فقد وعَدَ اللهُ قاتلَ النَّفسِ بالخلودِ في النَّار. والثالثة: انتهاكُ الحُرمةِ؛ فإنَّ نفسًا واحدةً في ذلك وجميعَ الأنفسِ سواءٌ، والمنتهِك في واحدةٍ ملحوظٌ بعينِ مُنتَهِكِ الجميعِ .
6- قوله: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا فيه: تشبيهٌ؛ حيث شبَّه الواحدَ بالجميعِ وجعَل حُكمَه كحُكمِهم؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ يُدلَى بما يُدلَى به الآخرُ من الكرامةِ على الله، وثبوتِ الحُرمةِ، فإذا قُتِل فقدْ أُهينَ ما كَرُم على اللهِ، وهُتِكتْ حُرمتُه، وعلى العكس؛ فلا فرقَ إذَنْ بين الواحدِ والجميعِ في ذلك، والفائدةُ في ذِكْر ذلك هي: تعظيمُ قَتْل النَّفْسِ وإحيائِها في القلوبِ؛ ليشمئزَّ الناسُ عن الجَسارةِ عليها، ويَتراغَبوا في المحاماةِ على حُرمتِها؛ لأنَّ المتعرِّضَ لقَتْلِ النَّفسِ إذا تَصوَّرَ قتْلَها بصورةِ قتْلِ الناسِ جميعًا عَظُمَ ذلك عليه؛ فثبَّطَه، وكذلِك الذي أرادَ إحياءَها .
7- قوله: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ: تَذييلٌ لحُكمِ شَرْعِ القِصاصِ على بَني إسرائيلَ، وهو: خبرٌ مُستعمَلٌ في الكِنايةِ عن إعراضِهم عن الشَّريعة، وأنَّهم- مع ما شُدِّد عليهم في شأنِ القتلِ- لم يَزالوا يَقتُلون، كما أشْعَر به قولُه: بَعْدَ ذَلِك، أي: بعدَ أنْ جاءتْهم رسُلُنا بالبيِّناتِ، وحُذِف مُتعلِّق (مُسْرِفون)؛ لقَصدِ التَّعميمِ، والمرادُ: مُسرِفون في المفاسدِ التي مِنها قتْلُ الأنفسِ .
- وقوله: ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ: فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ فِي الْأَرْضِ على الخبرِ لَمُسْرِفُونَ؛ للاهتمامِ، وهو يُفيدُ زيادةَ تفظيعِ الإسرافِ فيها مع أهميَّةِ شأنها .
- وفيه مِن الفَصاحةِ: تأكيدُ الخبر؛ إذ الحاجةُ تدْعو إلى تَأكيدِ الخبرِ، والمقامُ يَدعو إلى توكيدِ الخبرِ، وإنْ كان المخبِرُ من أهلِ الصِّدق، حتَّى يَطمئنَّ المخاطَبُ، وقد أُكِّدَ هذا الخبرُ بمؤكِّدين، وهما: إِنَّ واللام في لَمُسْرِفُونَ .


11.===


سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (33 - 34)
ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ
غريب الكلمات:

يُصَلَّبُوا: يُعلَّقُوا، وتُشدَّ أَصلابُهم على خَشَبٍ للقَتْلِ
.
مِنْ خِلَافٍ: أي: يُخالَفُ بين الأيدي والأرْجُلِ في القَطعِ؛ فتُقطَعُ اليدُ اليُمنَى مع الرِّجلِ اليُسرى، والعكس .
يُنْفَوْا: أي: يُطْرَدوا، وقِيل: يُسجَنُوا ويُحبَسُوا؛ لأنَّ المحبوسَ بمنزلةِ المطرودِ مِن الدُّنيا، وأَصْلُ (نفي): الطَّردُ، وتَعريةُ شيءٍ مِن شيءٍ، وإبعادُه منه .
خِزْيٌ: هوانٌ وهلاكٌ، وأصل الخِزي: الإبعادُ

.
المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ جزاءَ مَن يُبارِزونَ اللهَ ورسوله بالعداوةِ، ويَعْتَدونَ على أحكامِ دِينِه، ويُفسِدون في الأرضِ بالكُفرِ وعَمَلِ المعاصي؛ مِن إخافةِ السُّبُل، ومِن قَطْعٍ للطُّرق، واغتصابٍ للأموالِ، وانتهاكٍ للحُرُماتِ- يُخبِرُ أنَّ جزاءَهم القَتْلُ، أو الصَلْبُ، أو أنْ تُقطَّعَ أيديهم اليُمنى مع الأَرْجُل اليُسرى، أو يُطْرَدوا مِن البلدِ الذي هم فيه إلى غَيرِه، تِلك العقوبةُ لهم ذُلٌّ وفضيحةٌ في الدنيا، ولهم في الآخِرة عذابٌ عظيمٌ؛ هو عذابُ جَهنَّم.
واسْتَثنى الله تعالى مِنهم مَن تاب، وترَكَ محاربةَ اللهِ ورسوله والسَّعيَ في الأرضِ بالفسادِ مِن قَبلِ أنْ يَقدِرَ عليهم أُولو الأمرِ، فإنْ أتوْا تائِبينَ نادمينَ، فاعلموا- أيُّها المؤمنون- أنَّ اللهَ غفورٌ؛ فلن يُؤاخِذَهم بذُنُوبهم لا في الدُّنيا ولا في الآخِرة، بلْ يَغفِرُها لهم، ورحيمٌ؛ إذ عفا عنهم، ورفَع عنهم العِقابَ.
تفسير الآيتين:

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ في الآيةِ الأُولى تغليظَ الإثمِ في قَتْلِ النَّفسِ بغيرِ حقٍّ،، أتْبعَه ببيانِ الفسادِ الذي يُوجِبُ القتلَ؛ فإنَّ بعضَ ما يكون فسادًا في الأرضِ لا يُوجِبُ القتلَ، فقال
:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
أي: إنَّ جزاءَ مَن يُبارزونَ اللهَ تعالى ورسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالكُفرِ والعداوةِ، ويُضادُّونَ اللهَ ورسولَه بالاعتداءِ على أحكامِ الدِّين، فيفعلون المنهياتِ، ويَترُكون المأموراتِ على وجهِ الاستكبارِ والعِنادِ .
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا.
أي: ويُسارِعونَ في عمَلِ المعاصي في أرضِ الله؛ مِن إخافةِ سُبلِ المؤمنين، أو سُبلِ أهلِ ذِمَّتِهم، وقَطْعِ طُرُقهم، واغتصابِ أموالِهم، وانتهاكِ حُرَمِهم .
أَنْ يُقَتَّلُوا.
أي: جزاءُ أولئك الذين يَفعلونَ ذلك؛ القتلُ .
أَوْ يُصَلَّبُوا.
أي: أو يُوضَعَ الجناةُ مَشدودينَ على خَشبةٍ ونحوها؛ قيل: لقَتْلِهم، وقيل: بلْ يُصلَبوا بعدَ قتْلِهم، وقيل غيرُ ذلك .
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ.
أي: أو تُقطَّعَ أيديهم اليُمنَى وأَرْجُلهم اليُسرى؛ ويكونُ القطعُ في اليدِ مِن مَفْصِلِ الكفِّ مِن الذِّراع، ويكونُ القطعُ في الرِّجلِ من مَفْصِل القدَمِ من العَقبِ .
أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.
أي: أو يُطرَدُوا مِن البلدِ الذي هُم فيه إلى بلدٍ غيرِه .
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا.
أي: هذا الجزاءُ الذي جُوزُوا به؛ ذُلٌّ وعارٌ وفَضيحةٌ لهم في الدُّنيا .
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
أي: ولهم مع ذلك عذابٌ أُخْرويٌّ، وهو عذابُ جهنَّمَ .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34).
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ.
أي: ما عدَا مَن رجَعُوا إلى اللهِ تعالى، وكفُّوا عن مُحاربةِ اللهِ ورسولِه وعن سَعيهِم في الأرضِ بالفسادِ، فوَضَعوا السِّلاحَ، وكفُّوا عن قَطْعِ الطَّريقِ من تِلقاءِ أنفسِهم، قبلَ أن تَقْدِروا عليهم .
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: فاعْلَموا- أيُّها المؤمنون- أنَّ اللهَ تعالى غيرُ مُؤاخِذٍ مَن تاب منهم بذُنوبه، ولكنَّه يَسترُها، ويَتجاوزُ عن المؤاخذةِ بها، في الدُّنيا والآخِرة، فيُسقِطُ عنه ما وجَب عليه من عُقوباتٍ، وهو رحيمٌ به إذْ عفَا عنه، ورفَع ما عليه مِن عقابٍ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- يُستفادُ مِن قولِه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا... الآية: عِظمُ جريمةِ محاربةِ اللهِ ورسولِه، وأنَّ الإنسانَ إذا حاربَ الله ورسوله فإنَّه يُخشَى عليه؛ وذلك لعِظَمِ العقوبةِ، فإنَّ عِظَمَ العقوبةِ يدلُّ على عِظَم الجريمةِ
.
2- قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا... يقتضي وُجوبَ عِقابِ المحارِبين بما ذكر الله فيها، لأنَّ الحصرَ يفيدُ تأكيدَ النِّسبةِ .
3- يُفيدُ قولُه: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا... الآية: أنَّ اللهَ تعالى يُريدُ مِن عِبادِه أنْ يُطهِّروا الأرضَ مِن الفساد؛ ولذلك عاقَبَ الذين يَسعَونَ في الأرضِ فسادًا بهذه العقوبةِ العظيمةِ .
4- ممَّا تُفيدُه الآيةُ أنَّ قُطَّاعَ الطريقِ يُجمَعُ لهم بين العُقوبةِ في الدُّنيا والآخِرَةِ؛ لقولِه: ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
5- أنَّ هؤلاءِ المجرِمينَ مع عِظَمِ جُرمِهم إذا تابوا قبلَ القُدرةِ عليهم سقَطَ عنهم الحدُّ ، ويُؤخَذُ سقوطُ الحدِّ من قولِه تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
6- استُدلَّ بقولِه تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أنَّه إذا كانتِ التوبةُ قَبلَ القُدرةِ عليه تَمنَعُ من إقامةِ الحدِّ في الحَرابةِ؛ فغيرها مِن الحدودِ- إذا تاب مِن فِعلها قبلَ القُدرةِ عليه- مِن باب أَوْلى

.
بلاغة الآيتين:

1- قولُه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا...: كلامٌ مُستأنفٌ سِيقَ لبيانِ حُكمِ نوعٍ من أنواعِ القتلِ، وما يَتعلَّقُ به من الفسادِ بأَخْذ المالِ ونظائرِه، وتَعيينِ موجِبِه العاجلِ والآجلِ، إثرَ بيانِ عِظَمِ شأنِ القَتلِ بغيرِ حقٍّ في قولِه: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الْأَرْضِ...، وأُدرِجَ فيه بيانُ ما أُشيرَ إليه إجمالًا من الفَسادِ المبيحِ للقَتْل
.
2- قوله: أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعُ... التعبيرُ بصِيغة التفعُّل في هذه الأفعالِ؛ للمُبالغةِ في العُقوباتِ (القتل، والصلب، والقطع)، وقد قُصِد من المبالغةِ هنا إيقاعُه بدون لِين ولا رِفق؛ تشديدًا عليهم .
3- قوله تعالى: لَهُمْ خِزْيٌ فيه تقديمٌ وتأخيرٌ؛ ليفيدَ أنَّه خاصٌّ بهم دونَ الأفرادِ الذين يَعملونَ مِثلَ عَملِهم مِن غيرِ أن يكونوا مُحارِبينَ، ومُغترِّين بالقوَّةِ والعصبيَّة .


======12.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (35 - 37)
ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
غريب الكلمات:

وَابْتَغُوا: واطْلُبوا، مِن بغَى الشَّيءَ، أي: طَلبَه
.
الْوَسِيلَةَ: القُربَة، والزُّلفَى؛ يقال: تَوسَّل إليَّ بكذا، أي: تَقرَّب، وحقيقةُ الوَسيلَةِ إلى اللهِ تعالى: مُراعاةُ سَبيلِه بالعِلمِ والعِبادَةِ، وتحرِّي مكارمِ الشَّريعةِ، وأصلُ الوسيلةِ: التوصُّلُ إلى الشيءِ برغبةٍ .
لِيَفْتَدُوا بِهِ: لِيَتحامَوْا ببذلِه، والفِدَى والفِداء: حِفظُ الإنسانِ عنِ النائبةِ بما يَبذُلُه، والبَدَلُ من الشَّيءِ؛ صيانةً له، وأَصْلُ (فدي): جَعْلُ شَيءٍ مكانَ شَيءٍ حِمًى له

.
المعنى الإجمالي:

يَأمُرُ اللهُ المؤمنينَ بتَقواه، وطلَبِ القُربِ منه، والجهادِ في سَبيلِه؛ حتَّى يُفلِحوا بأنْ يَنجُوا ممَّا يخافون، ويَحصُلوا على ما يَطْمَعونَ، ويَسعَدوا سَعادةً أبديَّةً.
ثم أخبَرَ تعالى أنَّ الكُفَّارَ لو أنَّهم يَملِكونَ كلَّ ما في الأرضِ ومِثلَه معه، وأرادوا أنْ يُقدِّموه فِديةً مقابلَ تخلُّصِهم من عذابِ الآخِرِة؛ فلنْ يَتقبَّلَ اللهُ منهم ذلِك الفِداءَ، ولهم عذابٌ مؤلِم موجِع، يُريد هؤلاء الكفَّار أنْ يَخرُجوا من النَّارِ بعد أن ذاقوا عذابَها، ولن يَخرُجوا منها أبدًا، ولهم عذابٌ دائمٌ.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى جزاءَ مَن حارَبَ اللهَ ورسولَه، وسعَى في الأرضِ فسادًا من العقوباتِ الأربَعِ، والعذابِ العظيمِ المُعَدِّ لهم في الآخِرِة- أمَرَ المؤمنين بتقوى اللهِ، وابتغاءِ القُرباتِ إليه؛ فإنَّ ذلك هو المُنجِي من المحاربةِ، والعِقابِ المعَدِّ للمحارِبينَ
، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.
أي: يا مَعشرَ المؤمنين، امتثِلوا ما أمَرَكم اللهُ تعالى به، واجتَنِبوا ما نَهاكم عنه، واطْلُبوا القُربَ مِنه، والحظوةَ لديه بالعملِ بما يُرضيهِ عزَّ وجلَّ .
ثمَّ خصَّ- تبارَك وتعالى- مِن العباداتِ المقرِّبةِ إليه: الجهادَ في سَبيله؛ فهو مِن أَجلِّ الطَّاعاتِ، وأفضلِ القُرُبات، ومَن قامَ به، فهو على القيامِ بغيره أَحْرَى وأَوْلى ، فقال:
وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أي: وجاهِدوا- أيُّها المؤمنون- أعداءَ اللهِ تعالى؛ لإعلاءِ كلمتِه سُبحانَه بأموالِكم، وأنفسِكم، وألْسِنتِكم؛ كي تَنجُوا ممَّا تَرْهَبون، وتَظفَروا بما تَرْغَبون، وتُدركوا السَّعادةَ الأبديَّة في جَنَّاتِه .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تبارَك وتَعالَى عِبادَه المؤمنين أنْ يَتَّقوا اللهَ، ويَبْتغوا إليه الوسيلةَ، ويُجاهدوا في سَبيلِه، وبَيَّن عاقبةَ هذا بأنَّه الفلاحُ- بَيَّن عاقبةَ مَن لم يَقُمْ بذلك من الكفَّار، فقالَ تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ.
أي: لو كانَ للكُفَّارِ مُلكُ ما في الأرض كلِّها، ومَلَكوا ضِعْفَه معه .
لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أي: وأَرادوا أنْ يُقدِّموا ذلك كلَّه يومَ القِيامةِ فِديةً؛ ليتخلَّصوا بها مِن عذابِ الآخِرِة .
مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: لَمَـا تَقبَّل اللهُ تعالى منهم ذلِكَ الفِداءَ مهما بذَلُوا، وقدْ حقَّ عليهم عذابٌ مؤلمٌ، مُوجِع .
كما قال تَعالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91] .
وعن أنسِ بنِ مَالكٍ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((يُجاءُ بالكافرِ يومَ القِيامةِ فيُقالُ له: أَرأيتَ لو كان لك مِلءُ الأرضِ ذهبًا، أكُنتَ تَفتدي به؟ فيقولُ: نعمْ، فيُقالُ له: قدْ كُنتَ سُئِلتَ ما هو أيسرُ من ذلِك! )) .
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37).
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا.
أي: يُريدُ هؤلاءِ الذين كفَروا بربِّهم أنْ يَخرُجوا مِنَ النَّارِ بعدَ دُخولِها، ولكنْ أنَّى لهم ذلِك؟! فلن يَخرجُوا منها أبدًا .
كما قال عزَّ وجلَّ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 22] .
وقال تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 167] .
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ.
أي: ولهم عَذابٌ دائمٌ ثابتٌ، لا يزولُ عنهم، ولا يَنتقِلُ مطلقًا؛ فهم ماكثونَ فيه أبدًا

.
الفوائد التربوية:

1- توجيهُ النِّداءِ إلى المؤمنين في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يدلُّ على أنَّ امتثالَ الأمرِ الذي يَعقُبه من مقتضياتِ الإيمانِ، وأنَّ مُخالفتَه نقصٌ في الإيمانِ
.
2- يُستفادُ مِن قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ... أنَّه يَنبغي إغراءُ الشخصِ المخاطَبِ بما يَحملُه على الامتثالِ؛ لأنَّ وصْفَ الإنسانِ بالشيءِ الذي يَحملُه على الفِعلِ والامتثالِ لا شكَّ أنَّه يُغريه، ويَزيده نشاطًا، فنقول مثلًا: يا أيُّها الكريمُ، أكْرِمِ الضَّيفَ؛ فإن ذلك يكونُ دافعًا له على إكرامِ الضَّيف .
3- يُستفادُ مِن قولِه: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أنَّه كلَّما كانتِ العبادةُ تُقرِّبُ إلى اللهِ أكثرَ، كان الاهتمامُ بها أكثرَ؛ لأنَّ الحُكمَ يَدورُ مع عِلَّته، فإذا قيل: اسلكِ الطريقَ المقرِّبَ إلى اللهِ، فإنَّ مِنَ المعلومِ أنَّ ما يكون أقربَ أو أشدَّ تقريبًا فهو أَوْلى .
4- الإشارةُ إلى الإخلاصِ؛ لقوله: فِي سَبِيلِهِ حيث أضافَه إلى نفْسِه عزَّ وجلَّ؛ إشارةً إلى أنَّه يجبُ على الإنسانِ أنْ يكونَ جهادُه في سبيلِ اللهِ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ جملة اعتراضيَّة بين آياتِ وعيدِ المحاربينَ وأحكامِ جَزائهِم، وبين ما بَعدَه مِن قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وهذه عادةُ القُرآنِ في تخلُّل الأغراضِ بالموعظةِ، والترغيبِ والترهيبِ
.
2- لَمَّا أمَرَ الله بتَرْك ما لا يَنبغي بقولِه: اتَّقُوا اللَّهَ، وهو شاقٌّ ثقيلٌ على النَّفسِ، وأمر بفِعل ما يَنبغي، بقوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ، وكان الانقيادُ لذلك من أشقِّ الأشياءِ على النَّفسِ، وأشدِّها ثقلًا على الطَّبع؛ فلهذا السببِ أردفَ ذلك التكليفَ بقوله: وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
3- قوله: اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ فيه التَّنبيهُ إلى مَجامِع التَّكليفِ؛ فإنَّها محصورةٌ في نَوعينِ لا ثالثَ لهما؛ أحدُهما: ترْكُ المنهيَّات، وإليه الإشارةُ بقوله: اتَّقُوا اللَّهَ، وثانيهما: فِعْل المأموراتِ، وإليه الإشارةُ بقولِه تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ، ولَمَّا كان ترْكُ المنهيَّات مُقدَّمًا على فِعلِ المأموراتِ بالذَّاتِ؛ لا جرمَ قدَّمه تعالى عليه في الذِّكر؛ لأنَّ التَّرْكَ عبارةٌ عن بقاءِ الشَّيءِ على عَدمِه الأصليِّ، والفِعل هو الإيقاعُ والتَّحصيلُ، ولا شكَّ أنَّ عدَم جميعِ المحدَثاتِ سابقٌ على وجودِها، فكان التركُ قبلَ الفِعل لا محالةَ .
4- قولُه تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ معناه ابتغوا التقرُّبَ إلى الله، وليس المرادُ بالوسيلةِ ما هو معروفٌ عند المتأخِّرينَ، بأنْ يتَّخِذَ الإنسانُ وسائلَ في دُعائِه أو نحو ذلِك؛ فبعض المُحرِّفينَ قال: المرادُ بالوسيلةِ: الوليُّ أو النبيُّ، أو جاهُ النبيِّ أو جاهُ الوليِّ، وهذا تحريفٌ باطِلٌ .
5- يُستفادُ مِن قولِه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أنَّ مدارَ النَّجاةِ والفلاحِ على ما في نفْسِ الإنسانِ، لا على ما هو خارجٌ عنها، كما يَتوهَّم الكفَّارُ في أمْرِ الفِديةِ .
6- استدلَّ أهلُ السُّنة بقولِه تعالى: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ على أنَّ اللهَ تعالى يُخرِجُ مِن النَّارِ مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ مخلصًا؛ لأنَّه تعالى جعَل هذا المعنى مِن تهديداتِ الكفَّار، وأنواعِ ما خوَّفَهم به، ولولا أنَّ هذا المعنى يختصُّ بالكفَّارِ لَمَا كان لتخصيصِ الكفَّارِ به معنًى، ويُؤكِّده قولُه: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ، وهذا يُفيدُ الحصرَ، فكأنَّ المعنى: ولهم عذابٌ مقيمٌ لا لغيرِهم .
7- أنَّ الكفَّارَ الذين هم أهلُ النَّار لن يَخرُجوا منها البتةَ؛ لقولِه: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وهذا خبرٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، وخبرُ اللهِ حقٌّ .
8- قولُه تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ فيه إشارةٌ إلى ما هو لازِمٌ لهم في الدُّنيا والآخِرةِ مِن الآلامِ النَّفسيَّة: غمًّا وحَزَنًا، وقسوةً وظُلمةَ قَلْبٍ، وجَهلًا، فإنَّ للكُفرِ والمعاصي من الآلامِ العاجِلةِ الدَّائمةِ ما اللهُ به عليمٌ، ولهذا تجِدُ غالِبَ هؤلاء لا يُطيِّبونَ عَيشَهم إلَّا بما يُزيلُ العَقلَ، ويُلهي القَلبَ: مِن تناوُلِ مُسكِرٍ، أو رُؤيةِ مُلْهٍ، أو سَماعِ مُطرِبٍ، ونحوِ ذلك، وبإزاءِ ذلك قولُه في المؤمنين: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة: 71] فإنَّ اللهَ يُعَجِّلُ للمُؤمنينَ مِنَ الرَّحمةِ في قلوبِهم، وغيرِها بما يَجِدُونَه من حلاوةِ الإيمانِ، ويَذوقونَه مِن طَعمِه، وانشراحِ صُدورِهم للإسلامِ، إلى غير ذلك مِنَ السُّرورِ بالإيمانِ، والعِلمِ والعَمَلِ الصَّالحِ، بما لا يُمكِنُ وَصفُه

.
بلاغة الآيات:

1- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... فيه مِن البلاغة: استعمالُ ما يكونُ به التَّنبيهُ في الأمورِ الهامَّة؛ وجهُه: أنَّ اللهَ صدَّرَ هذِه الأوامرَ الثلاثةَ المهمَّة بالنِّداءِ
.
2- قوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ فيه: تقديمُ المجرورِ إِلَيْهِ على متعلَّقه الْوَسِيلَةَ للحصر، أي: لا تتوسَّلوا إلَّا إليه لا إلى غَيرِه؛ فيكون تعريضًا بالمشركين؛ لأنَّ المسلمينَ لا يُظنُّ بهم ما يَقتضي هذا الحصرَ .
3- قوله: جَمِيعًا فيه: توكيدٌ لـ (ما) الموصولة، في مَا فِي الْأَرْضِ .
4- قوله: لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ فيه: إيجازٌ بالحذفِ؛ حيثُ إنَّ في الكلامِ جملةً محذوفةً، والتقدير: وبَذَلوه وافتَدَوْا به ما تُقبِّلَ منهم؛ إذ لا يَترتَّبُ انتفاءُ التقبُّلِ على كَينونةِ ما في الأرض ومِثلِه معه، إنَّما يترتَّبُ على بذْلِ ذلك، أو الافتداءِ به .
5- قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ حالِهم في أثناءِ مُكابدةِ العذابِ، مَبنيٌّ على سُؤالٍ نشأ ممَّا قَبلَه؛ كأنَّه قِيلَ: فكيف يكونُ حالُهم؟ أو ماذا يَصنعونَ؟ فقيل يُرِيدُونَ... .
6- قوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا فيه: إيثارُ الجُملةِ الاسميَّةِ على الفِعليَّةِ، مع تصديرِها بـ(ما) الحِجازيَّةِ الدالَّةِ- بما في خبرِها مِن الباءِ- على تأكيدِ النَّفي، والمبالغةِ؛ لبيانِ كَمالِ سوءِ حالِهم باستمرارِ عَدمِ خُروجِهم منها؛ فإنَّ الجملةَ الاسميةَ الإيجابيَّةَ كما تُفيدُ- بمعونةِ المقامِ- دوامَ الثُّبوتِ، تُفيدُ السلبيةُ أيضًا بمعونتِه دوامَ النَّفيِ لا نفْيَ الدَّوامِ .


======13.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (38 - 40)
ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
غريب الكلمات:

نَكَالًا: أي: عُقوبةً وتنكيلًا، وعِبرةً وعِظَةً لِمَن وراءَهم، وأَصْلُ (نكل): المنعُ والامتناعُ؛ وسمِّي النَّكال؛ لأنَّه فعَلَ به ما يَمنعُه مِن المعاودةِ، ويَمنعُ غيرَه مِن إتيانِ مِثلِ صَنيعِه

.
المعنى الإجمالي:

يَأمرُ اللهُ تعالى بقَطْعِ يدِ السَّارقِ والسَّارقةِ مقابلَ ما اقترفاهُ مِن أخْذِ المالِ الحرامِ، وعقوبةً رادعةً مِن اللهِ تعالى لهما، وزَجرًا لغيرِهما عن الوقوعِ في هذا الجُرمِ الخَطير، واللهُ سُبحانَه عزيزٌ حكيمٌ.
فمَن تابَ مِنَ السَّرقةِ التي ظلَمَ بها نفْسَه وغيرَه، ورجَع إلى اللهِ وأصْلَحَ عَملَه؛ فإنَّ اللهَ يَقبَلُ توبتَه؛ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ.
ثم ذَكَرَ اللهُ تعالى ما يدلُّ على عظمةِ مُلكِه ونفاذِ أمرِه قائلًا: أَلَمْ تَعْلَمْ أيُّها المخاطَبُ أنَّ اللهَ تعالى هو مَن يملِكُ السَّمواتِ والأرضَ؛ يُعذِّب مَن يُريد، ويَغفِرُ لِمَن يُريد، وهو على كلِّ شيءٍ قادرٌ لا يُعجِزُه شيءٌ.
تفسير الآيات:

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
في مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها وجهانِ:
الأوَّل: أنَّه تعالى لَمَّا أوجبَ في قوله: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ قَطْعَ الأيدي والأَرجُلِ عند أخْذِ المالِ على سَبيلِ المحارَبةِ؛ بَيَّن في هذه الآيةِ أنَّ أخْذَ المالِ على سبيلِ السَّرِقةِ يُوجِبُ قَطعَ الأَيدي فقط، وجاءتِ السُّنَّةُ بقَطْعِ الأَرجُلِ أيضًا في السَّرِقةِ
؛ إذِ السَّرقةُ أيضًا حِرابةٌ من حيثُ المعنى؛ لأنَّ فيها سعيًا بالفَسَادِ إلَّا أنَّ تِلك تكونُ على سبيلِ الشَّوْكةِ والظُّهورِ .
الثاني: أنَّه تعالى لَمَّا ذكَر تعظيمَ أمْرِ القتْلِ في قولِه: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا؛ ذكَر بعدَ هذا الجناياتِ التي تُبيحُ القَتْلَ والإيلامَ، فذكَر أولًا: قطْعَ الطَّريق، وثانيًا: أمْرَ السَّرِقةِ .
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا.
أي: ومَن سرَق- رجلًا كانَ أوِ امرأةً- فاقْطَعوا أيُّها النَّاسُ يدَه اليُمنى (فتُقطَعُ مِن مَفْصِل الكَفِّ) .
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا.
أي: جاءَ هذا الحُكمُ بالقطعِ مُجازاةً للسَّارقِ والسَّارقةِ على ما اكتسَباهُ من المالِ الحرامِ .
نَكَالًا مِنَ اللَّهِ.
أي: وجاءَ الحُكمُ بالقطعِ أيضًا عقوبةً رادعةً لهما على لُصوصيَّتِهما، وزجرًا لهما عنِ اعتيادِ هذا الجُرْم، وزجرًا لغيرِهما عن الإقدامِ عليه .
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
أي: واللهُ عزَّ وجلَّ ذو القَهرِ والغَلبةِ، العزيزُ في انتقامِه من هذا السَّارقِ وهذه السَّارقةِ، وغيرِهما من أهلِ معاصيه، وهو الحكيمُ في حُكمِه فيهم، وقَضائِه عليهم، وفي غيرِ ذلِك مِن أوامرِه ونَواهيهِ وشَرائعِه وأقدارِه؛ فحُكمُه في الجميعِ نافذٌ، وكلُّ شيءٍ يَضعُه في موضعِه اللَّائق .
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39).
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ.
أي: فمَن رجَعَ- بَعدَ سَرقتِه التي ظَلمَ بها نَفْسَه وغيرَه- إلى اللهِ تعالى، وأَصلحَ عمَلَه وما أفْسدَه بظُلمِه؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَقبَلُ توبتَه .
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى يَستُر ذُنوبَ عِبادِه، ويتجاوزُ عن مؤاخذتِهم بها، وهو رحيمٌ بهم، ومِن رحمتِه أنَّه يُوفِّقُهم للتوبةِ، ويَقبَلُها منهم .
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أَوْجبَ اللهُ تعالى قَطْعَ اليدِ، وعِقابَ الآخِرَةِ على السَّارقِ قبلَ التوبةِ، ثم ذَكَر أنَّه يَقبَلُ توبتَه إنْ تابَ- أَرْدَفَه سُبحانَه ببيانِ أنَّ له أنْ يَفعلَ ما يشاءُ، ويَحكُمَ ما يُريدُ؛ فيُعذِّبَ مَن يشاءُ، ويغفرَ لِمَن يشاءُ ، فقال:
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: ألَمْ تَعلَمْ أنَّ اللهَ تعالى هو المالكُ لجَميعِ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، وهو المَلِكُ المتصرِّفُ فيه بما يشاءُ سُبحانَه .
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ.
أي: يُعذِّبُ مَن يشاءُ مِن خَلقِه بعَدْلِه، ويَغفرُ لِمَن يشاءُ منهم بفَضْلِه؛ فكلُّ العبادِ ملْكُه وإليه أمْرُهم، ولا نَسبَ بينه وبين أحدٍ منهم فيُحابِيَه، وإنَّما يُعذِّبُ ويغفرُ بحسَبِ ما اقتضتْه حِكمتُه سُبحانَه .
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ قادِرٌ على كلِّ شيءٍ أرادَه، لا يُعجِزُه شيءٌ أبدًا، ومِن ذلك قُدرتُه على تعذيبِ مَن أراد تَعذيبَه مِن عبادِه، والغُفرانِ لمَن أرادَ أنْ يَغفرَ له منهم

.
الفوائد التربوية:

1- أنَّ فِعلَ المعاصي، وترْكَ الواجباتِ ظُلمٌ؛ لقولِه: مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ؛ وذلك أنَّ النَّفْسَ عندَ الإنسانِ أمانةٌ، يجبُ أن يَسعَى لها بما هو الأصلحُ والأنفعُ، فإذا خالفَ فهو ظالمٌ، خائنٌ للأمانةِ
.
2- حثُّ الإنسانِ على التوبةِ حتَّى لو ظَلَمَ؛ لقول اللهِ تعالى: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ واللهُ تعالى لم يقُلْ هذا لمجرَّدِ الخبرِ؛ بل لأجْلِ الحثِّ على التوبةِ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- مِن الحِكم في الابتداءِ بالسارقِ في قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وبالزانيةِ في قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور: 2] أنَّ السَّرِقةَ مبناها على القُوَّة والجَلَد والنَّشاط والجُرْأة، والرِّجالُ أخصُّ مِن النِّساء في هذا، فبدَأ بهم؛ ولذلك نجِد السُّرَّاقَ مِن الرجالِ أكثرَ مِن النِّساءِ، أمَّا الزِّنا فبالعكس؛ لأنَّ الزِّنا سِلعُ البَغايا- والعياذ بالله- فبدأ بالزَّانيةِ؛ لأنَّ أكثرَ ما يُوجد سببُه من النِّساءِ، ولأنَّ أثرَ الزِّنا يظهرُ عليها في الحبَل، وإزالةِ العُذرةِ؛ فهو في حقِّها أشنعُ، وقيل غير ذلك
.
2- ظاهرُ قولِه تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وجوبُ قطعِ أيديهما بأيِّ سرقةٍ، لكن السُّنَّة قَيَّدتْ عُمومَ هذه الآيةِ من عِدَّةِ أوجه :
منها: الحِرْز؛ فإنَّه لا بدَّ أنْ تكونَ السرقةُ مِن حِرْز، وحِرزُ كلِّ مالٍ: ما يُحفَظُ به عادةً، فلو سَرَق مِن غيرِ حِرْزٍ فلا قَطْعَ عليه.
ومنها: أنَّه لا بدَّ أن يكونَ المسروقُ نِصابًا، وهو رُبعُ دِينارٍ، أو ثلاثةُ دَراهمَ، أو ما يُساوي أحدَهما؛ فلو سرَقَ دونَ ذلك فلا قَطْعَ عليه.
ومنها: أنه يُشترط أيضًا أن يكونَ المسروقُ مالًا مُحتَرَمًا.
ومنها: اشتراطُ انتفاءِ الشُّبهة .
3- قوله: فَاقْطَعُوا استُدِلَّ بِه على أنَّه يجبُ على الأمَّةِ أن يَنصِبوا لأنفسِهم إمامًا معيَّنًا؛ لأنَّه تعالى أوجبَ بهذه الآيةِ إقامةَ الحدِّ على السُّرَّاقِ، فلا بدَّ من شخصٍ يكون مخاطَبًا بهذا الخِطابِ، وأجمعتِ الأُمَّةُ على أنَّه ليس لآحادِ الرعِيَّة إقامةُ الحدودِ على الأحرارِ الجُناةِ إلَّا الإمام، فلمَّا كان هذا تكليفًا جازمًا، ولا يُمكنُ الخروجُ من عُهدتِه إلَّا بوجودِه وجَبَ نصْبُه؛ لأنَّ ما لا يأتي الواجبُ إلَّا به، وكان مَقدورًا للمُكلَّف، فهو واجبٌ .
4- قَطعُ يدِ السَّارقِ والسَّارقةِ يكونُ لليُمنى، كما أجْمَع عليه العلماءُ، وفَسَّر ذلك قراءةُ عبدِالله بن مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه: (فاقْطَعوا أيمانَهما)، فالغالِبُ أنَّ الأخْذَ والإعطاءَ والسَّرِقةَ باليَمينِ؛ فنَاسَبَ أنْ تُقطَعَ اليُمنى دُونَ اليُسرَى، فتُقطَع اليدُ اليُمنى برُبعِ دِينارٍ؛ بعدَ دَرْء الشُّبُهاتِ المنصوصِ عليها في كتُبِ الفِقهِ .
5- جعَلَ اللهُ حدَّ السرقةِ قطعَ اليدِ؛ لتناوُلِها المالَ؛ لقولِه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، ولم يجعلْ حدَّ الزِّنا قَطْعَ الذَّكرِ معَ موافقةِ الفاحشةِ به؛ لأمورٍ: أحدها: أنَّ للسَّارقِ مِثلَ يَدِه التي قُطِعتْ، فإنِ انزجَرَ بها اعتاضَ بالباقيةِ، وليس للزَّاني مِثلُ ذَكرِه إذا قُطِع، ولم يَعتَضْ بغيرِه لو انزَجَر بقَطعِه. الثاني: أنَّ الحدَّ زجرٌ للمحدودِ ولغيرِه، وقطْعُ يدِ السارقِ ظاهرٌ، وقَطعُ الذَّكرِ في الزِّنا باطنٌ. الثالث: أنَّ قَطْعَ الذَّكرِ إبطالٌ للنَّسلِ، وليس في قطعِ اليدِ إبطالٌ للنَّسْل .
6- قوله: بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ فيه ردٌّ ظاهرٌ على الجبريَّة، ووجهٌ آخَرُ معنويٌّ، وهو: أنَّه لو كان السارقُ والسارقةُ مُجبرَينِ ما صحَّ أنْ يُعاقَبَا؛ لأنَّ المُجْبَرَ لا حُكمَ لفِعْله، حتَّى المُكرَهُ على الكُفرِ إذا كان قلبُه مُطمئنًّا بالإيمان، فإنَّه لا يَكفُرْ .
7- أنَّ الحدودَ كفَّارةٌ؛ لقوله: جَزَاءً بِمَا كَسَبَا ولا يُضاعِفُ اللهُ عليه الجزاءَ .
8- في قولِه تعالى: نَكَالًا مِنَ اللَّهِ توضيحٌ للحِكمةِ في إيجابِ الحدودِ، والنَّكالُ يكونُ للغيرِ؛ كما قال اللهُ تعالى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا [البقرة: 66] ، فإنَّ مَن عَلِمَ أنَّ يدَه سوف تُقطَعُ بالسَّرقةِ سوف يَنكُلُ عنها ولا يَسرِقُ .
9- حُسْن الخِتامِ في الآياتِ الكريمةِ، وأنَّها مطابِقةٌ تمامًا للأحكامِ التي خُتِمت بها، فالعِزَّة مِن معناها الغَلَبةُ، ولا شكَّ أنَّ إيجابَ قَطْعِ الأيدي يدلُّ على العِزَّةِ والغَلبةِ وكمالِ السُّلطة، كما أنَّ الحِكمةَ أيضًا تُنَاسِبُ القطعَ؛ لأنَّ فيها حُكمًا صارمًا، وفيها أيضًا حِكمةٌ بالغةٌ؛ فلذلك كانتِ الجملة: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مطابِقةً تمامًا لِمَا ذُكِر في الآية الكريمةِ مِن قطعِ يدِ السَّارق ، وقد رُوِيَ أنَّ بعضَ الأعرابِ سَمِع قارئًا يقرأُ: وَالسَّارِقُ والسَّارِقَةُ إلى آخِرها، وختَمَها بقوله: وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال: ما هذا كلامٌ فصيحٌ! فقيل له: ليس التلاوةُ كذلك، وإنَّما هيِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فقال: بخٍ بخٍ؛ عزَّ فحَكَم فقَطَع !
10- في قوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ردٌّ على كلِّ ناعقٍ يقولُ: إنَّ قطْعَ الأيدي وحشيَّةٌ، وأنَّ ذلك يستلزمُ أن يكونَ نصفُ الشَّعبِ أشلَّ، ليس له إلَّا يدٌ واحدةٌ؛ فيُقال: بل هذِه هي عينُ الحِكمةِ وعينُ الصَّوابِ؛ فاللهُ تعالى أَوجبَ قطْعَ يدِ السَّارقِ لحِكمتَينِ: ليطهِّرَ صاحبَها من هذه الرذيلةِ الدنيَّةِ الخبيثةِ، وكذلك ليردَعَ الناسَ عن أموالِ الناس؛ لأنَّ المالَ هو شَريانُ الحياةِ، وبه قِوامُ شُؤونِها، فأَمَرَ بقَطْع يد السَّارقِ؛ محافظةً على أموالِ المجتمَع؛ لأنَّه لو تُرِك النَّاسُ لحصلتِ الفوضى، وابتزازُ الأموالِ، والسَّطْوُ على الآمنينَ، فكان قطْعُ اليدِ لا شكَّ أنَّه هو الحِكمةُ .
11- الفائدةُ من ذِكر قوله: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ... بعدَ قوله: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا هي أنَّ السارقَ قدْ تُقطَعُ يدُه، ومعلومٌ أنَّ إقامةَ الحدِّ تُكفِّرُ ذنبَه، لكنَّه إذا كان في قَرارةِ نفْسِه يُريد أن يَسرِقَ إذا سَنحَتْ له الفُرصةُ، فهو في هذه الحال لم يتُبْ، فإنَّ الحدودَ كفارةٌ لِمَا مضَى، وأمَّا ما يبقَى في قلبِه من إرادةِ المعصيةِ، فلا بدَّ أن يتوبَ منها .
12- في قوله تعالى: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أن السارقَ إذا تابَ قبلَ القطعِ تابَ اللهُ عليه، واستُدلَّ بها على أنه يَسقطُ عنه الحدُّ؛ لأنَّ ذِكْرَ الغفورِ الرَّحيم في آخِرِ هذه الآيةِ يدلُّ على سقوطِ العقوبةِ عنه، والعقوبةُ المذكورةُ في هذه الآيةِ هي الحدُّ، فظاهِرُ الآيةِ يَقتضي سُقوطَها .
13- يقترنُ قولُه: غَفُورٌ رَحِيمٌ كثيرًا في القرآن؛ لأنَّ بالأوَّلِ زوالَ المكروهِ، وبالثاني حُصولَ المحبوبِ؛ فالأوَّلُ غفورٌ، يعني: للذُّنوبِ، والثاني رحيمٌ، يعني: أنَّه يُوصِلُ الخيرَ إلى عِبادِه بمُقتضَى رحمتِه سُبحانَه وتعالى

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا: فيه دفْعُ توهُّمٍ؛ حيث ذَكَر (السَّارِقَة) مع (السَّارِق)؛ لدفْع توهُّمِ أنْ يكونَ صِيغةُ التذكيرِ في السَّارِق قيدًا بحيث لا يُجرَى حدُّ السَّرِقةِ إلَّا على الرِّجال، وقد كانتِ العربُ لا يُقيمونَ للمرأةِ وَزْنًا؛ فلا يُجرونَ عليها الحدودَ، وهو الدَّاعي إلى ذِكر الأُنْثى في قولِه تعالى في سورة البقرة: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى
[البقرة: 178] .
2- قوله: جَزَاءً مصدرٌ مؤكِّدٌ لفِعلِه الذي يدلُّ عليه فَاقْطَعُوا، أي: فجازُوهما جزاءً ، على أحدِ الأوجهِ في الإعرابِ.
3- قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أكِّدت الجملةُ بـ(إنَّ)؛ مِن أجْلِ طُمأنينةِ العبدِ التائبِ بأنَّ توبتَه لن تَذهبَ سُدًى .
- وجاءَ بلفظتَيْ غَفُورٌ رَحِيمٌ على هيئةِ صِيغةِ المبالغةِ؛ للمُبالغةِ في وصْفِه بالمغفرةِ والرحمةِ؛ ولذلك يَقبلُ توبتَه، وهو تعليلٌ لِمَا قَبلَه .
- وإظهارُ الاسمِ الجليلِ اللَّهَ؛ للإشعارِ بعِلَّة الحُكم، وتَأييدِ استقلالِ الجُملةِ .
4- قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الاستفهامُ إنكاريٌّ لتقريرِ العِلم، والجملةُ استئنافٌ بيانيٌّ؛ جوابٌ لِمَن يسألُ عن انقلابِ حالِ السَّارقِ مِن العقابِ إلى المغفرةِ بعدَ التوبةِ، مع عِظمِ جُرْمِه: بأنَّ اللهَ هو المتصرِّفُ في السَّمواتِ والأرضِ وما فيهما؛ فهو العليمُ بمواضعِ العِقابِ، ومواضعِ العَفْوِ .
5- قوله: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ فيه: مناسبةٌ حسنةٌ؛ حيثُ قُدِّمُ التعذيبُ على المغفرةِ؛ لأنَّه في مُقابلةِ تَقدُّمِ السَّرِقةِ على التوبةِ، ولأنَّ الكلامَ هنا عن الحدودِ والعقوباتِ؛ فناسَب أن يُقدَّمَ التعذيبُ على المغفرةِ .
6- قوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيه: إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ- حيث قال: (والله)، ولم يقُلْ: (وهو)-؛ لإظهارِ كمالِ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والجملةُ تذييلٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبلها .


=======14.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (41 - 43)
ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ
غريب الكلمات:

الَّذِينَ هَادُوا: أَي: اليهود، وهَادَ فلان: إذا تحرَّى طَريقةَ اليَهُود في الدِّين؛ قيل: أَصْلُ (يَهُود) مِن: هُدْنَا إِلَيْكَ، أي: تُبْنَا، وكان اسمَ مَدحٍ، ثم صارَ بعدَ نَسْخِ شَريعتِهم لازمًا لهم، وإنْ لم يكُنْ فيه معنَى المدحِ، وقيل: كَانَتِ اليَهُود تُنْسَب إلى يَهوذا بنِ يَعْقُوبَ
.
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ: قابِلونَ ومُصغُونَ له بكثرةٍ، مبالغة مِن (سامِعون)، وأَصْلُ (سمع): إيناسُ الشيءِ بالأُذُن .
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ: مُطيعون لَهُم، أو عُيونٌ لهم، وجواسيسُ يَتجسَّسون لهُم الأخبارَ .
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ: يَقلِبونَ ويُغيِّرونَ ألْفاظَ التوراةِ، أو حدودَ اللهِ في التوراةِ، بإزالتِها وإثباتِ غيرِها، وأصْلُ التَّحريفِ والانحرافِ: إمالةُ الشَّيءِ والعدولُ به عن الاستقامةِ. والكَلِم جمع كلمة، وأَصْلُ (كلم): يدلُّ على نُطْقٍ مُفهِمٍ بالنَّظرِ إلى أحدِ مَدْلولَيهِ .
فِتْنَتَهُ: ضَلالتَه، وتُطلَقُ الفِتنةُ على الشِّرْكِ والكُفرِ، والشَّرِّ والعذابِ، وهي في الأصلِ: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحانُ، مأخوذة مِن الفَتْن: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودتُه من رَداءتِه .
خِزْيٌ: هوانٌ وهلاكٌ، وأصلُ الخِزي: الإبعادُ .
لِلسُّحْتِ: السُّحتُ هو الرِّشَا، أو كَسْبُ ما لا يَحِلُّ، أو كُلُّ مالٍ حَرَامٍ يَلزَمُ آكِلَه العارُ، وأصلُ (سحت): الاستِئصالُ، ومِنه سُمِّي المالُ الحرامُ سُحْتًا؛ لأنَّه لا بَقاءَ له .
بِالْقِسْطِ: بالعَدلِ، وأصْل القِسطِ يدلُّ على مَعنيين مُتضادَّينِ: العَدْلِ، والجَوْرِ؛ يُقال: أقْسَطَ: إذا عدَل، وقَسَطَ: إذا جارَ .
يَتَوَلَّوْنَ: يُعرِضونَ بعدَ الإقبالِ، فالفِعل (تولَّى) إذا عُدِّي بـ(عن) لفظًا أو تقديرًا- كما هنا- اقتَضى معنى الإعراضِ، وتركِ قربِه، وأصْلُ هذه المادَّة يدلُّ على القُرْب، سواءٌ من حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّينُ، أو الصَّداقةُ، أو النُّصرةُ، أو الاعتقادُ، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه

.
المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالى مُخاطِبًا نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لا يَحْزُنْك- يا محمدُ- الذين يُسارعونَ إلى الدُّخولِ في الكُفرِ؛ من المنافقينَ الذين أَظْهَروا الإيمانَ بألسِنَتِهم، بينما خلَتْ قلوبُهم منه، ومِنَ اليهودِ؛ فهؤلاء اليهود يُصغُونَ للكذبِ- الذي يَصدُرُ مِن أحبارِهم - بكثرةٍ، وهم يَخضعونَ لأوامرِ قومٍ آخرينَ مِنَ اليهود الذين أَعْرَضوا عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلا يأتونَ مجلسَه؛ هؤلاءِ المعرِضونَ عن مَجلسِك يُحرِّفونَ كلامَ اللهِ تعالى عن المعنى الذي يدلُّ عليه، ويتأوَّلونه على غيرِ تأويلِه مُتعمِّدِينَ، وهم يعلمون الحقَّ، ويقولون لأتْباعِهم: تَحاكَموا إلى محمَّدٍ، فإنْ حَكَم لكم بما يُوافِقُ أهواءَكم فاقْبلوه، وإنْ لم يَحكُم بذلك فلا تأخُذوا بحُكمِه..
ثم أخْبَر تعالى أنَّه مَن يُرِدْ أن يَفتنَه ويُضِلَّه فلنْ يملكَ له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن اللهِ شيئًا يَستنقذُه ممَّا أرادَه اللهُ له من الضَّلالةِ، وأمَّا أولئك اليهودُ الذين لا يَقبَلون من الحقِّ إلَّا ما وافَقَ هوًى لهم لم يُردِ اللهُ أنْ يُطهِّرَ قلوبَهم من الكُفرِ والشِّركِ؛ لهم في الحياةِ الدنيا ذلٌّ وهوانٌ، ولهم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ هو عذابُ النار.
هؤلاءِ اليهودُ سمَّاعونَ للباطل، مُستجيبونَ له، يأكلونَ المالَ الحرامَ بكثرةٍ، ثم أرشَدَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى أنَّهم إذا جاؤُوه يَحتكِمون إليه، فله أن يَحكُمَ بينهم إنْ شاء، أو يُعرِضَ عن الحُكم بينهم، وأخبره تعالى أنَّه إنْ يُعرِضْ عنهم فلن يَضرُّوه شيئًا، وإنِ اختار أنْ يحكُمَ بينهم فليَحْكُم بينهم بالعَدلِ، والله يحبُّ المتَّصفينَ بالعدلِ بينَ الناس في أحكامِهم.
ثم يقولُ اللهُ لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كيف يُنَصِّبك هؤلاءِ اليهودُ حَكمًا، وهم في حقيقةِ الأمر يُكذِّبونك، وعندهم كتابُ اللهِ التوراةُ فيها حُكمُ الله؟! لكنَّهم أعْرَضوا عنه، وطَلَبوا حُكمًا غيرَ ما عندهم؛ لعلَّه يُوافِقُ أهواءَهم، وَمَا أُولَئِكَ الذين هذا صنيعُهم؛ بالمؤمنينَ.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ سُبحانَه وتعالى بعضَ التكاليفِ والشَّرائعِ، ومنها أحكامُ الحِرابةِ والسَّرقة، وكان في ذِكرِ المحارِبينَ أنَّهم يُحارِبونَ اللهَ ورسولَه، ويَسعَون في الأرضِ فسادًا، وكان الله قد عَلِم مِن بعضِ الناسِ كونَهم متسارِعينَ إلى الكفرِ- لذا صبَّرَ رسولَه على تحمُّل ذلك، وأمَرَه تعالى ألَّا يحزنَ ولا يَهتمَّ بأمْرِ المنافقين وأمْرِ اليهودِ؛ مِن تعنُّتهم وتربُّصهم به وبمَن معه الدَّوائرَ، ونَصبِهم له حبائلَ المكروهِ، وما يَحدُث منهم من الفَسادِ في الأرض، ونصْب المحاربةِ للهِ ولرسولِه، وغير ذلك مِن الرَّذائِلِ الصادرةِ عنهم
.
وأيضًا لَمَّا تَقرَّرَ في الآيةِ السَّابقةِ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ، كان من غيرِ شكٍّ عِلةً لعدم الحزنِ على شيءٍ من أمْرِهم، ولا مِن أمْرِ غيرِهم ممَّن عصَى اللهَ في شيءٍ من هذه الأحكامِ .
سبَبُ النُّزولِ:
عنِ البَرَاءِ بن عازبٍ رضِيَ اللهُ عنه قال: ((مُرَّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيهوديٍّ محمَّمًا مجلودًا، فدَعاهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: هكَذا تَجِدون حدَّ الزاني في كِتابِكم؟ قالوا: نعَم، فدَعا رجلًا من عُلمائِهم، فقال: أَنشُدُك باللهِ الذي أنزلَ التوراةَ على موسى، أهكذا تَجِدون حدَّ الزَّاني في كتابِكُم؟ قال: لا، ولولا أنَّك نَشدْتَنِي بهذا لم أُخْبِرْكَ؛ نجدُه الرَّجمَ، ولكنَّهُ كثُرَ في أشرافِنا، فكنَّا إذا أخَذْنا الشَّريفَ ترَكْناهُ، وإذا أخَذْنا الضعيفَ أقَمْنا عليهِ الحدَّ! قلنا: تَعالَوْا فلنجتمعْ على شيٍء نُقيمُه على الشَّريفِ والوَضيعِ، فجعَلْنا التَّحميمَ والجلْدَ مكانَ الرَّجمِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللهمَّ إنِّي أولُ مَن أحيا أمْركَ إذْ أماتوهُ، فأمرَ بهِ فرُجِمَ، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قولِه: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ، يقول: ائتوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنْ أمَرَكم بالتَّحميمِ والجَلْدِ فخُذوه، وإنْ أَفتاكم بالرَّجمِ فاحْذروا، فأنزل اللهُ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ في الكُفَّارِ كلُّها )) .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ.
أي: لا تَجعلْ- يا محمَّدُ- هؤلاءِ المنافقين، الذين يَتسابقون إلى الكُفرِ، يُدْخِلُون الحزنَ على نفسِكَ بما يَفعلونَه .
مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ.
أي: الَّذين أَظهَروا الإيمانَ بألْسنتِهم، وقلوبُهم في الحقيقةِ خاويةٌ منه .
كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] .
وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا.
أي: ولا تَجعلِ الحُزْنَ يُصيبكَ أيضًا بسببِ اليهودِ .
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ.
أي: يُكثرونَ الإصغاءَ إلى الكَذِبِ الصادرِ مِن أحبارِهم ورُؤسائِهم، فيَحْفِلون به، ويَقبلونَه منهم، ومِن ذلك: تَقليدُهم في قولهم: إنَّ محمَّدًا ليس بنبيٍّ، وفي قولهم: إنَّ حُكمَ الزاني المحصَنِ في التوراة: التَّحميمُ والجَلْدُ، وليس الرَّجمَ .
قيل: المرادُ بهؤلاء المنافقونَ مِن اليهودِ، وقيلَ: المرادُ بهم اليهودُ فقط، وقيل: المنافقونَ واليهودُ .
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ.
أي: يَستجيبونَ لأوامرِ أقوامٍ آخَرين من الأحبارِ والرؤساءِ المُعرِضينَ عن الإتيانِ إلى مجلسِك- يا محمَّدُ .
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ.
أي: إنَّ هؤلاءِ القومَ الآخَرينَ مِن أحبارِ اليهودِ الذين يَتَّبِعُهم العامَّةُ، يَصرِفونَ كلامَ الله عن معناه الحقيقيِّ عمدًا، ويتأوَّلونه على غيرِ تأويلِه، وهم يَعلمون الحقَّ، فيقولون: المرادُ كذا وكذا، على خلافِ ما أرادَ اللهُ ورسولُه .
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا.
أي: إنَّ أولئك الأحبارَ الذين يَتَّبِعُهم العامَّةُ، يقولون لأتْباعِهم: تَحاكَمُوا إلى محمَّدٍ؛ فإنْ حَكَم لكم بما يُوافِقُ أهواءَكم فاقبلوا حُكمَه، وإنْ لم يحكُمْ لكم به فاحْذروا مِن قَبولِه، واتِّباعِه على ذلك ؛ ومن ذلك ما يَتعلَّقُ بحَدِّ الزَّاني .
ثم يقول الله تعالى مسلِّيًا لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلم، ومخفِّفًا عنه مِن ثِقَلِ حُزِنه على مسارعتِهم في الكُفْر :
وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
أي: إذا حتَّم اللهُ تعالى على أَحدٍ أنَّه لا يتوبُ مِن ضلالتِه، ولا يَرجِعُ عن غيِّه ممَّن هو أهلٌ لذلك؛ فلن تملكَ له- يا محمَّدُ- مِن اللهِ تعالى استنقاذًا ممَّا هو فيه من الحَيرةِ والضَّلالةِ، فليس بمقدورِكَ هدايتُه .
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ.
أي: إنَّ أولئك اليَهودَ الذين لا يَقبَلون من الحقِّ إلَّا ما وافَق أهواءَهم، لم يُرِدِ الله تعالى أن يُطهِّر قلوبَهم مِن دَنسِ الكُفرِ، ووسَخِ الشِّركِ وغير ذلك، بطهارةِ الإسلامِ، ونظافةِ الإيمانِ، فيتوبوا؛ فلذلك صَدَر منهم ما صَدَر .
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
أي: لهم في الحياةِ الدُّنيا ذلٌّ وهوانٌ، وفَضيحةٌ وعارٌ، ولهم في الآخِرة غضبُ الجبَّار، وعذابُ النَّار .
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) .
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ.
أي: إنَّ هؤلاء اليهودَ الذين وصفتُ لك- يا مُحمَّدُ- صِفتَهم؛ سمَّاعون للباطِلِ، مُستجيبونَ له، مِثل قولِ بعضِهم لبعضٍ: محمَّدٌ ليس بنبيٍّ، وكقول بعضهم: إنَّ حُكْمَ الزَّاني المحصَنِ في التوراة الجلدُ والتحميمُ، وغير ذلِك من الأباطيلِ .
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر سُبحانَه ما يَدخُلُ في آذانِهم وقلوبِهم مِنَ الكلامِ؛ أتْبَعَ ذلك بذِكرِ ما يَدخُلُ في أفواهِهم وبُطُونِهم من الطَّعامِ، وهما غذاءانِ خَبيثانِ ، فقال:
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.
أي: ومِن صفاتِهم أنهم كثيرًا ما يأكلونَ المالَ الحرامَ؛ كالرَّشاوى وغيرِها .
فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ.
أي: فإنْ أتاكَ هؤلاءِ اليهودُ- يا محمَّدُ- للاحتكامِ إليك، فلك أنْ تحكُمَ بينهم إنْ شئتَ، أو تَدعَ ذلك إنْ شئتَ، فالخيارُ إليك في ذلِك؛ فهم لا يَقصِدون بتَحاكُمهم إليك اتِّباعَ الحقِّ، بل يَطلُبون ما وافَقَ أهواءَهم .
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا.
أي: وإنْ تُعرِضْ- يا محمَّدُ- عن هؤلاءِ المحتكِمينَ إليك من اليهودِ، وتَخْتَرْ تَرْكَ الحُكم بينهم، فلن يَقدِروا على إلحاقِ أيِّ ضررٍ بك في أمْر دِينٍ ولا دُنيا .
وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.
أي: وإنِ اخترتَ الحُكمَ بينهم- يا محمَّدُ- فاحكمْ بينهم بالحقِّ والعدل، وإنْ كانوا في الحقيقةِ أعداءً وظَلَمةً، خارجينَ عن طريقِ العدل .
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى يحبُّ العادلينَ في حُكْمِهم بينَ النَّاس .
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ المُقسِطينَ عندَ الله على منابرَ مِن نورٍ، عن يَمينِ الرَّحمنِ عزَّ وجلَّ- وكِلتَا يديهِ يمينٌ- الذين يَعدِلونَ في حُكمهِم وأَهليهِم وما وَلُوا ) .
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43).
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ.
أي: كيف يَجعلُك هؤلاءِ اليهودُ- يا مُحمَّدُ- حَكَمًا بينهم وهم يُكذِّبونَك، وعندهم التوراةُ التي أُنزِلَتْ على موسى، والتي فيها حُكم اللهِ على ما يُريدون، ومِن ذلك حُكمُ الله فيها على الزاني المحصَن بالرَّجْمِ؟! ومع هذا أَعْرضوا عن حُكْمِها، وهم يَعلمون أنَّه الحقُّ، وطَلَبوا حُكمَ غيرِها؛ لاحتمالِ موافَقَتِه لأهوائِهم بظَنِّهم الفاسِدِ .
وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
أي: إنَّهم ليسوا مِن أهلِ الإيمانِ؛ فإنَّ ذلك ليس مِن صَنيعِهم ودأْبِهم، أمَّا هؤلاء فقد جَعَلوا آلهتَهم أهواءَهم، وجَعَلوا أحكامَ الشَّرْع تابعةً لها، ولو كانوا مؤمنِينَ عاملينَ بما يَقتضيهِ الإيمانُ لم يَعدِلوا عن حُكمِ اللهِ في التوراةِ التي بين أيديهم

.
الفوائد التربوية:

1- في قولِه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ تعليمٌ وتأديبٌ للمؤمنينَ ألَّا يُخاطِبوا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم باسْمِه، وأنْ يُخاطِبوه بوصْفِه
.
2- الإشارةُ إلى أنَّ المدارَ في الإيمانِ والصَّلاحِ والفسادِ، على القلبِ؛ لقوله: مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، وقولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ، فالإيمانُ باللِّسانِ ليس إيمانًا حتَّى يكونَ مبنيًّا على إيمانِ القَلبِ، وإلَّا فإنَّه لا يَنفعُ صاحبَه؛ فالإيمانُ محلُّه القلبُ . وفي الحديثِ: ((أَلَا وإنَّ في الجسدِ مضغةً، إذا صَلَحَت صَلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فَسَدَت فَسَدَ الجسدُ كلُّه )) .
3- يُستفادُ مِن قولِه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ أنَّ مَن حَرَّف الكلمَ عن مواضعِه من هذه الأمَّة ففيه شَبَهٌ مِن اليهود، فيَقتضي هذا التحذيرَ مِن تحريفِ الكَلِمِ عن مواضعِه؛ لئلَّا يقعَ الإنسانُ في مشابهةِ اليهودِ .
4- أنَّ التحريفَ المذموم، هو الذي يقعُ بعدَ معرفةِ الإنسان للحقِّ؛ لقولِه: مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ، وفي الآيَةِ الأخرى: عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة: 13] ، فهم يُريدون أن يُزيلوا الكلمَ عن مواضعِه، أمَّا الإنسانُ الذي تأوَّل بتأويلٍ سائغٍ؛ فإنَّه لا يُذمُّ، ولا يُعدُّ فِعلُه تحريفًا يأثَمُ به .
5- يُستفادُ مِن قولِه: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ذمُّ أولئك الذين لا يَقبلون مِن الحقِّ إلَّا ما وافَق أهواءَهم، وإذا لم يوافقْ أهواءَهم ذهَبوا يتطلَّبون الرُّخَصَ من هذه الأمَّة .
6- يُستفادُ مِن قولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أنَّه يَنبغي للإنسانِ أنْ يسألَ اللهَ دائمًا أن يُطهِّرَ قلبَه، وأنْ يَعتنيَ بأعمالِ القَلب، واعتناءُ المرء بأعمال القلب يجبُ أن يكونَ أشدَّ من اعتنائِه بعَملِ الجَسَد؛ لأنَّ عمَلَ الجسدِ يقعُ مِن كلِّ إنسانٍ؛ من مؤمنٍ ومنافقٍ، لكنَّ عمَلَ القلبِ هو المهمُّ .
7- أنه يجبُ على الإنسانِ المستدِلِّ أن ينظُرَ إلى النُّصوصِ مِن جميعِ الجوانِبِ، وذلك أنَّك إذا نظرتَ إلى قَوْلِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لقُلْتَ: إنَّ إرادةَ اللهِ تعالى لتطهيرِ القلب مجرَّدُ مشيئةٍ، لكن إذا قيَّدْتَها بالنُّصوصِ الأخرى عَرَفْتَ أنَّ عدمَ إرادةِ اللهِ تطهيرَ قلوبِ هؤلاء؛ لأنَّهم ليسوا أهلًا لذلك، كما قال اللهُ تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] .
8- يُستفادُ مِن قولِه: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ الوعيدُ لهؤلاء لعلَّهم يَرجِعون؛ فإنَّ الوعيدَ على المعصيةِ مِن أسباب العُدول عنها، بحيثُ لا يُقدِمُ عليها، وإذا أَقدمَ استعتَبَ وتاب .
9- يُستفادُ مِن قولِه: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ التحذيرُ من هذا الوصفِ القبيحِ، وهو الاستماعُ للكذب، أو نَقْلُ الكذب؛ لأنَّ اللهَ أكَّد بيانَ هذا الوصفِ القبيحِ من اليهود .
10- التحذيرُ من أكْل المالِ بالباطل؛ لقوله: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ، والله عزَّ وجلَّ لم يذكُرْ هذا الوصفَ إلَّا لنَحْذرَه .
11- يُستفادُ مِن قولِه: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أنَّ مَن اكتَسَب المالَ الحرامَ ففيه شَبَهٌ من اليَهود؛ فآكِلو الرِّبا مُشابِهونَ لليهود، وآكِلو الأموالِ بالغشِّ مشابِهون لليهود، وآكِلو الأموالِ بالحَلِف الكاذبِ مشابِهون لليهود؛ فكلُّ مَن اكتسب مالًا بغير حقٍّ بطريقٍ محرَّمٍ فهو مشابهٌ لليهود، كالرَّاشي والمرتشي، فالرِّشوة شائعةٌ في اليهودِ .
12- أنَّه لا يجوزُ للإنسان أن يُراعيَ في حُكمه قريبًا ولا صديقًا، ولا غنيًّا ولا فقيرًا؛ لقوله: بِالْقِسْطِ، وهذا يعني: أن يَنظُرَ إلى القضيةِ من حيث هي قضيةٌ، لا من حيثُ إنَّها قضيةُ فلانِ بن فلان .
13- يُستفادُ مِن قولِه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ الحثُّ على الإقساطِ، أي: العَدْلِ؛ وجْه ذلك: كونُ الله يُخبِرُ أنَّه يحبُّ المُقْسطين يتضمَّن الحثَّ على العَدْلِ، فهذا ليس مُجرَّدَ خَبَر، بل هو خبرٌ يُرادُ به الحثُّ والإغراءُ على العَدْل .
14- يُستفادُ مِن قولِه: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ أنَّ مَن استفتَى عالِمًا طلبًا للرُّخصةِ، ففيه شَبَهٌ من اليهودِ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- نِداؤه تعالى له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ هنا، وفي يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ويَا أَيُّهَا النَّبِيُّ في مواضعَ أخرى تشريفٌ وتعظيمٌ وتفخيمٌ لِقَدْرِه، ونادَى غيرَه من الأنبياء باسمِه، فقال: يَا آدَمُ اسْكُنْ [البقرة: 35] ، ويَا نُوحُ اهْبِطْ [هود: 48] ، يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات: 104- 105] ، يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ [الأعراف: 144] ، يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران: 55] ، يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ
[مريم: 12] .
2- تقويةُ قلبِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتسليتُه بقولِه: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ .
3- أنَّ النَّاسَ يَختلفونَ في الكُفرِ؛ فمِنهم مَن يُسارِع فيه بخُطًى حثيثة، ومنهم مَن هو دونَ ذلك؛ لأنَّه قَسَّم، فقال: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، يعني: وهناك أناسٌ لا يُسارِعون فيه، فالداعيةُ إلى الكفرِ مسارِعٌ فيه، وغيرُ الداعيةِ غيرُ مسارِعٍ .
4- قال تعالى هنا: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ، وفي آيةٍ أخرى قال: عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء: 46] ؛ لأنَّ آيةَ سورةِ النِّساءِ في وصْفِ اليهودِ كلِّهم، وتحريفِهم في التوراةِ، فهو تغييرُ كلامِ التوراةِ بكلامٍ آخَرَ عن جهْلٍ أو قصْدٍ، أو خطأٍ في تأويلِ معاني التَّوراةِ أو في ألفاظِها، فكان إبعادًا للكَلامِ عن مواضعِه، أي: إزالةً للكلامِ الأصليِّ سواءٌ عُوِّضَ بغيره أو لم يُعوِّض، وأمَّا هذه الآية ففي ذِكر طائفةٍ معيَّنةٍ أبطلوا العملَ بكلامٍ ثابتٍ في التَّوراة؛ إذ ألْغَوا حُكمَ الرَّجْمِ الثابتَ فيها دون تعويضِه بغيرِه من الكلامِ، فهذا أشدُّ جرأةً من التَّحريف الآخَر؛ فكان قوله: مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ أبلغَ في تحريفِ الكلامِ؛ لأنَّ لفظ (بعد) يَقتضي أنَّ مواضعَ الكلمِ مُستقرَّة، وأنَّه أبطلَ العملَ بها مع بقائِها قائمةً في كِتابِ التوراةِ .
5- أنَّ اليهودَ لا يَقْبَلون من الحقِّ إلَّا ما وافقَ أهواءَهم؛ لقوله: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا .
6- شِدَّةُ كَراهةِ أحبار اليهودِ للحقِّ؛ لقوله: وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا لم يقولوا: (فلا تأخذوه)، بل قالوا: فَاحْذَرُوا، وهذا أشدُّ وقعًا مِن قَوْلِهم: (فلا تأخذوه)، وكان مُقتضى المقابلة أن يُقال: وإنْ لم تؤتوه فلا تأخُذوه .
7- يُستفادُ من قولِه تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أنَّ الثيِّبَ الذِّميَّ يُرجَم، وهو مذهبُ الشافعيِّ رحمه الله؛ قال: لأنَّه صحَّ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنه أمَرَ برجْمِه، فإنْ كان الأمرُ برجْمِ الثيِّب الذميِّ مِن دِينِ الرسولِ فقد ثبَت المقصودُ، وإنْ كان إنَّما أمَرَ بذلك بناءً على ما ثبَتَ في شريعةِ موسى عليه السَّلامُ وجَب أن يكونَ ذلك مشروعًا في دِيننا، ويدلُّ عليه وجهان: الأول: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا أفتى على وَفقِ شريعةِ التَّوراةِ في هذه المسألةِ كان الاقتداءُ به في ذلك واجبًا، والثاني: أنَّ ما كان ثابتًا في شَرْعِ موسى عليه السَّلامُ، فالأصلُ بقاؤُه إلى طَرَيانِ النَّاسِخ، ولم يوجدْ في شَرْعِنا ما يدلُّ على نسْخ هذا الحُكمِ؛ فوجَب أنْ يكون باقيًا .
8- في قولِه تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ وأَولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ردٌّ على القَدَريَّة والمعتزلةِ، الذين يَنْفُون مشيئةَ اللهِ لأفعالِ العبادِ، فدلَّت الآيةُ على أنَّ الله تعالى غيرُ مريدٍ إسلامَ الكافِرِ إرادةً كونيَّة، وأنَّه لم يُطهِّرْ قلْبَه من الشكِّ والشِّرْكِ، ولو فعَلَ ذلك لآمَنَ .
9- عُتوُّ اليهودِ، وأنَّهم بعدَ أن يَتبيَّنَ لهم الحقُّ يتولَّوْن؛ لقوله: وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ؛ لأنَّ ثُمَّ تدلُّ على الترتيبِ والتَّراخي .
10- في قوله وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا نفي لضَرَرِه صلَّى الله عليه وسلَّم، لكنْ قد يُؤذونَه، فالأذيةُ لا يلزم منها الضررُ؛ فقد قال تعالى إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران: 176] ، وقال في الحديث القدسي: ((يا عِبادي، إنَّكم لن تَبلُغوا ضُرِّي فتضروني )) ، فنفَى أن يضرَّه أحدٌ، أمَّا الأذيَّة فقد أثبَتَها، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] ، وقوله في الحديثِ القُدسي: ((يُؤذِيني ابنُ آدَم؛ يسبُّ الدهر )) ، فالضرر منفيٌّ عن الله عزَّ وجلَّ، والأذيَّة ثابتةٌ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ لتهوينِ تألُّبِ المنافقينَ واليهودِ على الكَذِبِ والاضطرابِ في معاملةِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسوءِ طواياهم معه
.
- وفيه كنايةٌ في قوله: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ؛ حيث إنَّ نهيَه عن أنْ يحصُلَ له إحزانٌ مسنَدٌ إلى الَّذين يُسارِعونَ في الكُفرِ، والإحزانُ فِعلُ الذين يُسارِعون في الكُفر، والنهيُ عن فِعلِ الغيرِ إنَّما هو نهيٌ عن أسبابِه، أي: لا تجعلْهم يُحزِنونك، أي: لا تهتمَّ بما يَفعلونَ ممَّا شأنُه أن يُدخِلَ الحزنَ على نفْسِك .
2- قوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ فيه: تَكرار؛ تأكيدًا لِمَا قبله، وتمهيدًا لِمَا بعده، وتقريرًا للمعنى، ولإفادة اهتمامِ المتكلِّم به، وسَمَّاعُونَ من صِفات المبالغة ففيه كنايةٌ عن تفشِّي الكَذِب في جماعتِهم بَين سامعٍ ومختلِقٍ؛ لأنَّ كثرةَ السَّمع تستلزمُ كثرةَ القولِ .
3- قوله: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هذا التركيبُ يدلُّ على انتفاءِ الحِيلة في تحصيلِ أمرٍ ما، أي: لا تَقدِر على أقلِّ شيءٍ من الله، أي: لا تستطيعُ نَيْلَ شيءٍ من تيسيرِ اللهِ؛ لإزالةِ ضلالةِ هذا المفتون؛ لأنَّ مادَّةَ المِلْك تدلُّ على تمامِ القُدرةِ .
- وتنكيرُ شَيْئًا للتقليلِ والتحقيرِ، ويدلُّ على انتفاءِ مِلكِ الشيءِ القليلِ، ويَقتضي انتفاءَ مِلْك الشَّيء الكثيرِ بطَريقِ الأَوْلى .
4- قوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ فيه: إشارةٌ إلى المذكورين مِن المنافقين واليهودِ، وما في اسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ من معنى البُعد؛ للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الفسادِ .
5- قوله: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ: تَكرير لَهُمْ مع اتِّحادِ المرجع؛ لزيادةِ التقريرِ والتأكيدِ، وتنكيرُ خِزْيٌ للتفخيم ، مع ما يُفيد تقديمُ الجارِّ والمجرورِ لَهُمْ من القصرِ والحصرِ، وما يُفيده تنكيرُ عَذَابٌ مِن التَّفخيم والتهويل كذلك، ووصْفه بـعَظِيم بصِيغة المبالَغة.
6- قوله: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ الاستفهامُ للتعجُّب؛ إذْ مِنَ العجيبِ أنَّهم يَتركُونَ كتابَهم ويُحكِّمونك، وهم غيرُ مؤمنينَ بك، ثم يتولَّون بعدَ حُكمِك إذا لم يُرْضِهم، والجملةُ استئنافيَّة، مسوقةً لبيانِ أنَّ عندَهم ما يُغْنيهم عن التَّحكيم .
7- قوله: وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ تذييلٌ مُقرِّر لفحوى ما قَبْلَه، ووضْع اسم الإشارة أُولَئِكَ موضع ضميرهم (هُمْ)؛ للقصدِ إلى إحضارِهم في الذِّهن بما وُصِفوا به مِن القبائِح؛ إيماءً إلى عِلَّة الحُكم ، وأتى بـ «أولاء» مقرونةً بالكافِ الدالَّةِ على بُعدِ المشار إليه، وهذا لدنوِّ منزلتِهم وليس لعُلوِّها، يعني: ما هؤلاءِ المنحطُّون الذين نزلوا إلى أسفلِ السَّافلين بالمؤمنين، وأتَى بحَرْفِ الجرِّ في قوله: بِالْمُؤْمِنِينَ للتَّوكيدِ .

=======15.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (44 - 45)
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ
غريب الكلمات:

وَالرَّبَّانِيُّونَ: جمْع ربَّانيٍّ، مَنسوبٌ إلى الرَّبِّ أو إلى الرَّبَّان، وهو الجامِعُ إلى العِلمِ والفِقهِ البَصرَ بالسِّياسةِ، والتَّدبيرَ، والقيامَ بأُمورِ الرَّعيَّة وما يُصلحُهم في دُنياهم ودِينهم، ويَشمَلُ ذلك: العَالِمَ الحَكيمَ، والفَقيهَ التَّقيَّ العابِدَ، والمُعلِّمَ المُصلِحَ، والذي يُربِّي الناسَ بصِغارِ العِلمِ قَبل كِبارِه، وأصل (ربّ): يدلُّ على إصلاحِ الشَّيءِ والقِيامِ عليه ولُزومِه، وضمِّ الشَّيءِ للشَّيءِ
.
وَالْأَحْبَارُ: العُلماءُ، وهنا تَختصُّ بعُلماءِ اليهودِ من ولدِ هارون، جمْع حَبْر، وأَصْلُ (حبر): يدلُّ على الأثرِ في حُسنٍ وبهاءٍ .
اسْتُحْفِظُوا: استُودِعوا، والحِفظُ هو التَّعاهُدُ، وقلَّةُ الغَفْلة، ويُستعملُ في كلِّ تفقُّدٍ وتعهُّدٍ ورِعايةٍ، وهو نَقيضُ النِّسيانِ .
فَلَا تَخْشَوُا: الخَشيةُ: خوفٌ يَشوبُه تَعظيمٌ، وهي: أشدُّ مِن الخوفِ وأَخَصُّ مِنَه؛ فهي خوفٌ مَقرونٌ بمعرفةٍ، وأكْثرُ ما تكونُ الخَشْيةُ عن عِلمٍ بالمَخوفِ منه، وهي مأخوذةٌ مِن قولِهم: شَجرةٌ خاشيةٌ: أي يابسةٌ، وأَصْلُ (خشِي): يدلُّ على خَوفٍ وذُعْر .
قِصَاصٌ: وهو: مُقابلةُ الفِعل بمثلِه، وتتبُّع الدَّم بالقَوَدِ، كقَتْلِ القاتِل بَدلَ القَتيلِ، وأصلُ القَصِّ: تتبُّع الشَّيءِ والأَثَرِ، ومنه اشتُقَّ القِصاصُ في الجِراح؛ لأنَّه يُفعَل به مِثلُ فِعلِه بالأوَّل، فكأنَّه اقتصَّ أثَرَه .
كَفَّارَةٌ: الكفَّارة: ما يُغطِّي الإثمَ، وأصْل الكفر: السَّترُ والتَّغطية

.
المعنى الإجمالي:

يُخبرُ تعالى أنَّه أنزلَ التوراةَ مشتملةً على الهُدى والنُّور؛ يَحكمُ بها بين اليهود أنبياؤُهم الذين استَسلموا وخضَعوا للهِ تعالى، ويَحكُمُ بها أيضًا بينهم الربَّانيُّون والأحبار؛ وذلك لِكَونِهم مستأمَنينَ على كتابِ الله، مأمورينَ بتبليغِه، وشهداءَ عليه، ثم نهى اللهُ علماءَ اليهودِ أنْ يخافوا من النَّاسِ في تنفيذِ أحكامِه، بل يخافونه وحْدَه، ونهاهم عن أنْ يتركوا الحُكمَ بما في كتابِه مِن أجْلِ مَتاعِ الدُّنيا القليلِ الزائل، وأخبر أنَّ مَن لم يَحكُم بما أنْزَلَه تعالى فأولئك هم الكافِرون.
ثمَّ بيَّن تعالى أنَّه فرَض على اليهودِ في التَّوراة القصاصَ بأنْ تُقتَلَ النفسُ إذا قَتَلتْ نفسًا أخرى عَمْدًا بغير حقٍّ، وكذا العينُ مقابلَ العينِ، والأنفُ مقابلَ الأنفِ، والأذنُ مقابلَ الأُذُنِ، والسِّنُّ مقابلَ السِّنِّ، كما فرَض القِصاصَ في الجُرُوح؛ فللمجروحِ أن يقتصَّ بالمِثل ممَّن جرَحَه ظُلمًا، فمَن تنازَلَ عن حقِّه من القِصاصِ فيما سبَق فعَفَا عمَّن تَعدَّى عليه، فسيُكفِّر اللهُ ذنوبَه جزاءَ عَفْوِه عنه، وأخبَر تعالى أنَّ مَن لم يَحكُمْ بما أنزَلَه فأولئك هم الظَّالِمون.
تفسير الآيتين:

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44).
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وصَف اللهُ عزَّ وجلَّ التوراةَ بأنَّ فيها حُكمَه سُبحانَه في قوله: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ وتضمَّن ذلك مدْحَ التَّوراةِ؛ صرَّح بذلك هنا، فأثْنى عليها وعلى الحاكمينَ بها، تأكيدًا لذمِّ اليهودِ في الإعراضِ عمَّا دعَتْ إليه مِن أصلٍ وفرعٍ، وتحذيرًا من مِثل حالِهم
، فقال:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ.
أي: نحنُ نزَّلنا التوراةَ على موسى عليه السَّلامُ، وفيها ما يَهدي إلى الحقِّ، وما يُستضاءُ به في ظُلماتِ الشَّهوات والشُّبهاتِ .
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا.
أي: يَحكُمُ بحُكمِ التوراةِ الأنبياءُ الكِرامُ سادةُ الأنامِ عليهم السَّلامُ، الذين استَسلَموا للهِ تعالى ظاهرًا وباطنًا، فيَحكُمون بها بينَ اليهودِ، لا يَخرُجون عن حُكْمِها، ولا يُبدِّلونها ولا يُحرِّفونها .
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
أي: ويَحكُمُ بالتَّوراةِ وأحكامِها أيضًا الرَّبَّانيُّونَ (وهم العلماءُ الحكماءُ العُبَّاد، الذين يُربُّون الناسَ بصغارِ العلمِ قبلَ كبارِه)، والأحبارُ (وهم العلماءُ الكبارُ ذَوو العلمِ الواسِع، المُحْكِمُون لعِلْمِهم)؛ وذلك لأنَّ اللهَ تعالى جعَلَهم أُمَناءَ على كِتابِه؛ استودَعهم إيَّاه، وأمَرَهم أن يُظْهِروه ويَعملوا به، وأوجب عليهم حِفظَه من الزِّيادةِ والنُّقصانِ والكِتمان .
وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ.
أي: شُهداءَ على أنَّه كتابُ الله، نزَل من عندِ اللهِ، وفيه حُكمُ الله، وهم مؤتَمَنون على تبليغِه، وحِفظِه من التَّبديلِ والتَّحريفِ والكِتمان، ومِن ذلك الحُكمُ برجْمِ الزاني المُحصَن، وإثباتُ أنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ هو الرسولُ المنتظَر المذكور في التوراةِ .
فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا قرَّرَ فيما سبَقَ أنَّ النبيِّين والربَّانيِّين والأحبارَ كانوا قائمينَ بإمضاءِ أحكامِ التَّوراةِ من غيرِ مبالاةٍ؛ خاطَب اليهودَ الذين كانوا في عصْر النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّمَ، ومنَعَهم مِنَ التَّحريفِ والتَّغييرِ ، فقال:
فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.
أي: فما دُمتُم قدِ استُحْفِظْتُم على كتابِ اللهِ تعالى- يا علماءَ اليهودِ - فلا تَخشَوُا النَّاسَ في تنفيذِ حُكمي وإمضائِه عليهم؛ فإنَّهم لا يَقدِرون على ضرِّكم ولا نَفعِكم إلَّا بإذني؛ فإنَّ الحفيظَ على الشَّيءِ، الأمينَ حقَّ الأمانةِ لا يَخشى أحدًا في القيامِ بوجهِ أمانتِه، ولكنَّه يَخشى الذي استأمنَه، فلا تُخِلُّوا بها استرضاءً لأهواءِ النَّاس- ككِتمانِ حُكم الرَّجمِ، الذي حَكَم به اللهُ تعالى في التوراةِ على الزاني المحصَن وتبديلِه بغيره، وكِتمانِ صِفةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ولكنِ اخْشَوني دون كلِّ أحدٍ مِن خَلقي، واقصُروا أنظارَكم على رِضاي؛ فإنَّ النفعَ والضرَّ بيدي، وخافوا عِقابي على كِتمانكم أو تبديلِكم ما استُحْفِظْتُم مِن كتابي .
وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا.
أي: ولا تَتركوا الحُكمَ بآياتِ كتابي- أيُّها العلماءُ- فتكتموا الحقَّ، وتُظهِروا الباطلَ؛ لأجْلِ متاعٍ قليلٍ، وعِوَضٍ خسيس- كطلب بقاءِ جاهٍ وسيادةٍ، أو طَلبِ مال يُبذَل رِشوةً .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا منَعَهم مِن خَشيةِ النَّاس، وأن يشتَرُوا بآياتِه ثمنًا قليلًا؛ أتْبعَه بالوعيدِ الشَّديدِ .
سبَبُ النُّزولِ:
عن البَراءِ بن عازبٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((مُرَّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيهوديٍّ محمَّمًا مجلودًا، فدَعاهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: هكَذا تَجِدون حدَّ الزاني في كِتابِكم؟ قالوا: نعَم، فدَعا رجلًا من عُلمائِهم، فقال: أَنشُدُك باللهِ الذي أنزلَ التوراةَ على موسى، أهكذا تَجِدون حدَّ الزَّاني في كتابِكُم؟ قال: لا، ولولا أنَّك نَشدْتَنِي بهذا لم أُخْبِرْكَ؛ نجدُه الرَّجمَ، ولكنَّهُ كثُرَ في أشرافِنا، فكنَّا إذا أخَذْنا الشَّريفَ تركْناهُ، وإذا أخَذْنا الضعيفَ أقَمْنا عليهِ الحدَّ! قلنا: تَعالَوْا فلنجتمعْ على شيءٍ نُقيمُه على الشَّريفِ والوَضيعِ، فجعَلْنا التَّحميمَ والجلْدَ مكانَ الرجمِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللهمَّ إنِّي أولُ مَن أحيا أمْركَ إذْ أماتوهُ، فأمرَ بهِ فرُجِمَ، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قولِه: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ، يقول: ائتوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنْ أمَرَكم بالتَّحميمِ والجَلدِ فخُذوه، وإنْ أَفتاكم بالرَّجمِ فاحْذروا، فأنزل اللهُ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ في الكُفارِ كلُّها )) .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.
أي: إنَّ الذين لم يَحكُموا بما أَنزلَ اللهُ تعالى في كِتابِه من اليهودِ وغيرِهم، فبدَّلوا حُكمَه، وكتَموا الحقَّ الذي أنزلَه في كتابِه، وحَكَموا بالباطل؛ هؤلاءِ همُ الكافرونَ .
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى في التوراةِ أَحْكَامَ حَدِّ الزِّنَى، وأنَّ حُكمَ الزاني المحصَن هو الرجمُ، وأنَّ اليهودَ غيَّروه وبدَّلوه- ذكر في هذه الآيةِ أنَّه تعالى بيَّن في التوراةِ أَحْكَامَ القِصَاصِ، لكنَّ اليهودَ غيَّروها أيضًا ، فقال تعالى:
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ.
أي: وفرَضْنا على اليهودِ في التَّوراةِ أنَّ النَّفس تُقتلُ قِصاصًا، إذا قَتلتْ نفسًا أخرى عَمْدًا بغير حقٍّ، وكذا العينُ تُفقَأُ بالعَينِ، والأنفُ تُجدعُ بالأنفِ، والأُذنُ تُقطَعُ بالأُذنِ، والسِّنُّ تُقلَعُ بالسنِّ، ويُقتصُّ للمجروحِ ممَّن جرَحه ظلمًا وعدوانًا بمِثل الجُرحِ الذي جرَحه .
وهذا من جملة أحكامِ التوراة، التي يَحكُم بها النبيُّون الذين أَسلموا للذين هادُوا، ويَحكُم بها الربَّانيُّون والأحبارُ، ومع ذلِك يُخالفُها اليهودُ عمدًا؛ فهُم بترْكِ حُكمِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بينهم أَحْرى وأَوْلى .
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ.
أي: فمَن تنازَلَ عمَّا وجَبَ له مِن حقٍّ بالقِصاص في النَّفْس، وما دونها من الأطرافِ والجُروحِ فعفَا عن الجاني، تُكفَّرُ عنه ذنوبُه؛ جزاءً لعَفْوه وتنازُلِه .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي: إنَّ الذين لم يَحكُموا بما أَنزلَ اللهُ تعالى في كتابِه من اليهودِ وغيرِهم، فبدَّلوا حُكمَه، وكتَموا الحقَّ الذي أَنزله في كتابِه، وحكَموا بالباطلِ في أحكامِ القِصاصِ وغيرِها، فهم ممَّن جارَ على حُكمِ اللهِ وتعدَّى حُدودَه، ووضَع فِعلَه في غَيرِ مَوضعِه الذي جعَله اللهُ تعالى له

.
الفوائد التربوية:

1- يُستفادُ مِن قولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ أنَّ العِبرةَ بالاهتداء بالدِّين، وأنَّه لا ينفعُ أهلَ الانتماءِ إليه إذا لم يُقيموه؛ إذ لا يَستفيدونَ من هِدايتِه ونورِه إلَّا بإقامتِه والعَمَلِ به، وأنَّ إيثارَ أهلِ الكتابِ أهواءَهم على هدايةِ دِينِهم هو الذي أعماهم عن نورِ القُرآنِ، والاهتداءِ به
.
2- أنَّ أهلَ العِلم ورثةُ الأنبياءِ في إظهارِ حُكمِ اللهِ والدَّعوةِ إلى شريعتِه؛ لقوله: وَالرَبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ، عطفًا على الأنبياءِ في قولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا .
3- الثَّناءُ على أهلِ العِلم، وأنَّهم هم حَفَظةُ شريعةِ الله؛ لقوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؛ فهم وَرَثةُ الأنبياءِ، وهم الذين يَلزمُهم الدَّعوةُ إلى الله على بصيرةٍ، ونشْرُ شريعةِ الله .
4- تحريمُ خَشيةِ الناس في إضاعةِ شريعةِ الله؛ لقوله: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ .
5- يُستفادُ مِن قولِه: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا أنَّ المنحرِفَ عن الدِّينِ وعن نشْر العِلم ينحرفُ لأحدِ سببينِ: السَّبب الأوَّل: خشيةُ النَّاسِ، والسبب الثاني: الطَّمعُ في الدُّنيا، وطلَبُ الدُّنيا والرِّئاسةِ والمالِ، وما أشْبَه ذلك .
6- في قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا نهيٌ عن جميعِ المكاسِبِ الخبيثةِ بالعِلم، والتحيُّل للدُّنيا بالدِّين، وهذا المعنى بعينه يتناول علماءَ هذه الأمَّة وحُكَّامَها

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- شرفُ التوراة؛ لقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ؛ حيث إنَّ اللهَ تعالى أنْزَلَها مِن عنده، لكنَّ المرادَ بالتوراة: التي لم تُغيَّرْ ولم تُبدَّلْ
.
2- أنَّ في التوراةِ هدًى ونورًا؛ لقوله: فِيهَا هُدًى وَنُورٌ، وكذلك في القرآنِ الكريمِ؛ قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة: 185] ، فالقرآن كلُّه هدًى وكلُّه نورٌ؛ قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء: 174] ، وفي هذه الآية قال الله تعالى في التوراة: فِيهَا هُدًى وَنُورٌ، وهذا التعبيرُ بينه وبينَ التعبيرِ القرآنيِّ بالنسبة للقرآن الكريم فرْقٌ عظيم؛ لأنَّ التوراةَ جُعِل فيها هدًى ونورٌ، والقرآن جَعَله هو الهُدى والنُّور .
3- قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ فذكَر أنَّ في التوراة نورًا، بينما قال في آيةٍ أخرى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء: 48] ، فوصَفَها بأنَّها ضياءٌ، والضياء: هو النورُ الذي يَحصُل فيه نوعُ حرارةٍ وإشراق، كضياءِ الشَّمس، بخِلافِ القمر؛ فإنَّه نورٌ محْضٌ، فيه إشراقٌ بغيرِ إحراقٍ؛ وذلك لأنَّ الغالبَ على شريعتِهم الضياءُ؛ لِما فيها من الآصارِ والأغلالِ والأثقالِ، ووَصَف شريعةَ محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنها نورٌ لِمَا فيها مِن الحنيفيَّة السَّمْحةِ؛ قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وِكِتَابٌ مُبِينٌ .
4- أنَّ التوراةَ أصلٌ للأنبياءِ مِن بني إسرائيل الذين جاؤوا من بعدِ موسى عليه وعليهم السَّلام؛ لقوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ .
5- وصْفُ الأنبياءِ بالإسلامِ؛ لقوله: النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، والمرادُ هنا: الاستسلامُ الظاهرُ والباطِنُ، وفيه الإشارةُ إلى شَرفِ الإسلامِ وفَضلِه؛ إذ كان دِينَ الأنبياءِ .
6- وجهُ وصفِ النبيِّينَ بقوله: الَّذِينَ أَسْلَمُوا مع أنَّ كلَّ نبيٍّ لا بدَّ أن يكونَ مسلمًا، أنَّه وصَفَهم بذلك على سَبيلِ المدحِ والثَّناءِ، لا على سبيلِ التَّفصيل والتَّوضيح؛ فإنَّ الأنبياءَ كلَّهم مسلِمون، وقيل: بل في ذلك إعظامُ صفةِ الإسلامِ بعِظَمِ موصوفِها وهم الأنبياءُ، وقيل: يُحتَمَل أن يكون المرادُ هو محمدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ وذلك لأنَّه حَكَم على اليهوديَّيْنِ بالرَّجم، وكان هذا حُكْمَ التَّوراةِ، وإنما ذُكِر بلفظِ الجَمْعِ النَّبِيُّونَ تعظيمًا له .
7- يُستفادُ مِن قولِه: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ أنَّه لا عُذرَ لليهود في الخروجِ عن شريعةِ الله؛ لأنَّ اللهَ تعالى قيَّض لهم الأنبياءَ الكثيرين يَحكُمون لهم بالتوراةِ، لكنَّهم عاندوا وكفروا .
8- مِن اللَّطائف: أنَّه جازَ التبديلُ على أهلِ التوراةِ، ولم يَجُزْ على أهلِ القُرآنِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال في أهلِ التوراة: وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فوكَل الحِفظَ إليهم، وقال في القرآنِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ، فتَعهَّد اللهُ بحِفظِه؛ فلم يَجُزِ التبديلُ على أهلِ القرآنِ .
9- في قولِه تعالى: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا لَمَّا قدَّم الخوفَ- لأنَّه أقوى تأثيرًا- أتْبعَه الطَّمَعَ، فقال: وَلَا تَشْتَرُوا، ولَمَّا كان الاشتراءُ معناه اللَّجاجة في أخْذِ شيءٍ بثمنٍ، وكان المُثْمَنُ أشرفَ مِن الثَّمنِ من حيثُ إنَّه المرغوبُ فيه- جعَل الآياتِ مُثْمنًا وإنِ اقترنَتْ بالباء، حتَّى يُفيدَ الكلامُ التعجُّبَ مِن الرغبة عنها، وأنَّها لا يصحُّ كونُها ثمنًا، فقال: بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا .
10- قوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ... الآية: استُدلَّ به على أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شرْعٌ لنا، إذا حُكي مُقرَّرًا ولم يُنسَخْ؛ حيثُ كان الحُكمُ عندنا على وَفقِها في الجناياتِ عندَ جميعِ الأئمَّة .
11- يُستفادُ مِن قولِه تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أنَّ القصاصَ ثابتٌ في النُّفوسِ، ولو اختَلفَ النَّاسُ في السِّنِّ والطُّولِ والقِصَر والعِلمِ والعَقْلِ والذَّكاء، وغير ذلك؛ وَجْه ذلك: العمومُ؛ ولهذا لو أنَّ رجلًا شابًّا عالِمًا كريمًا حسيبًا قتَلَ طفلًا في المهدِ، فإنَّه يُقتَلُ به؛ لأنَّه لا عِبرةَ بالاختلافِ في هذه الأشياءِ؛ وذلك للعمومِ .
12- الاقتصارُ على ذِكر هذه الأعضاءِ دونَ غيرِها مِن أعضاءِ الجسدِ؛ كاليدِ والرِّجلِ والإصبَع؛ لأنَّ القطعَ يكونُ غالبًا عندَ المضاربةِ بقصدِ قطْعِ الرَّقبةِ، فقد ينبو السيفُ عن قطعِ الرَّأس، فيُصيب بعضَ الأعضاءِ المتَّصلةِ به مِن عينٍ أو أنفٍ أو أُذُن أو سِنٍّ، وكذلك عندَ المصاولةِ؛ لأنَّ الوجهَ يُقابِلُ الصائلَ .
13- لا بدَّ من المماثَلَة في القِصاص؛ فاليُمنى باليُمنى، واليُسْرى باليُسرى؛ لأنَّ التعريفَ في قوله: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ يدلُّ على أنَّ الثانيَ هو الأوَّل، وهذا يَقتضي المماثلةَ، ولأنَّه جاء بالباءِ الدالَّة على البَدَل، والبَدل لا بدَّ أن يكون مُساويًا للمُبْدَل منه .
14- قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ فيه الحثُّ على العَفْوِ عن الجاني .
15- قال تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ المرادُ مِن التصدُّقِ العفوُ؛ لأنَّ العفوَ لَمَّا كان عن حقٍّ ثابتٍ بِيَدِ مُستحِقِّ الأخْذِ بالقِصاصِ، جَعَل إسقاطَه كالعطيَّةِ؛ ليشيرَ إلى فَرْطِ ثوابِه، وبذلك يَتبيَّنُ أنَّ معنى كفَّارَةٌ لَهُ أنَّه يُكفِّر عنه ذُنوبًا عظيمةً؛ لأجْلِ ما في هذا العَفْوِ من جَلْبِ القلوبِ، وإزالةِ الإِحَنِ، واستبقاءِ نُفوسِ وأعضاءِ الأمَّةِ .
16- قال اللهُ تعالى في الموضع الأوَّل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ؛ لأنَّ اليهود جَحَدوا حُكمَ اللهِ قصدًا منهم وعنادًا وعَمدًا، وقال في الموضعِ الثَّاني: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ؛ لأنَّهم لم يُنْصِفوا المظلومَ مِن الظَّالمِ في الأمْرِ الذي أمَر اللهُ بالعدلِ والتسويةِ بين الجميعِ فيه، فخالَفوا وظَلموا، وتَعدَّى بعضُهم على بعضٍ .
17- في قولِه تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ عاد سُبحانَه وتعالى فحذَّر مِن مخالفةِ حُكمِ اللهِ؛ ليُنَبِّهَ على أنَّ الترغيبَ في العفوِ لا يَقتضي الاستخفافَ بالحُكمِ، وإبطالَ العملِ به؛ لأنَّ حُكمَ القِصاصِ شُرِعَ لحِكَمٍ عظيمة: منها الزَّجرُ، ومنها جبرُ خاطرِ المعتدَى عليه، ومنها التَّفادي من ترصُّدِ المعتدَى عليهم للانتقامِ مِن المعتدينَ أو مِن أقوامِهم؛ فإبطالُ الحُكمِ بالقِصاصِ يُعطِّلُ هذه المصالحَ، وهو ظلمٌ؛ لأنَّه غمصٌ لحقِّ المُعتدَى عليه أو وليِّه، وأمَّا العفوُ عن الجاني فيُحقِّقُ جميعَ المصالحِ، ويَزيد مصلحةَ التحابُبِ؛ لأنَّه عن طِيبِ نفْسٍ، وقد تَغشى غباوةُ حُكَّام بني إسرائيل على أَفهامِهم، فيجعلوا إبطالَ الحُكمِ بمنزلةِ العَفْو، فهذا وجهُ إعادةِ التحذيرِ عقبَ استحبابِ العفو

.
بلاغة الآيتين:

1- قوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ كلامٌ مُستأنَفٌ سِيق لبيانِ عُلوِّ شأنِ التَّوراة، ووجوبِ مراعاةِ أحكامِها، وهو يَتضمَّنُ تعظيمَ التوراةِ وتَفخيمَ شأنِها
، وفيه التأكيد بـ(إنَّ) واسميَّةِ الجُملةِ.
2- قوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ:
- قوله: الَّذِينَ أَسْلَمُوا فيه: رفْعٌ لشأنِ المسلِمين، وتعريضٌ باليهود، وأنَّهم بمعْزِلٍ مِن الإسلامِ والاقتداءِ بدِينِ الأنبياءِ عليهم السَّلام .
- وقوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: فيه من البَلاغةِ ما يُعرف بالاحتباك؛ حيثُ ترَك أولًا ذِكْر بِمَا اسْتُحِفُظُوا؛ لدلالةِ ما ذُكر بعدَ ذلك عليه، وتَرَكَ ذِكْرَ الإسلامِ بعدَ ذلك؛ لدلالة ذِكْره أولًا عليه، والتقدير: (يَحكُم بها النبيُّون الذين أسْلَموا بما استُحفظوا... للذين هادوا، والربَّانيُّون والأحبارُ الذين أسْلَموا بِما استُحفظوا)، وإنَّما خصَّ الأوَّل بذِكرِ الإسلامِ؛ لأنَّ الأنبياءَ أحقُّ به، وهو داعٍ إلى الحِفظ قَطعًا، وخصَّ الثاني بالاستِحفاظ؛ لأنَّ الأتْباع أَوْلى به، وهو دالٌّ على الإسلام .
- وفي إبهامِ ذِكْرِ التوراةِ أولًا في قوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا، ثمَّ بيانِها ثانيًا بقولِه تعالى: مِنْ كِتَابِ اللهِ تَفخيمٌ وإجلالٌ لها ذاتًا وإضافةً، وتأكيدٌ لإيجابِ حفظِها والعَملِ بما فيها، وإيرادُها بعنوان (الكتاب)؛ للإيماءِ إلى إيجابِ حِفظِها عن التَّغييرِ من جِهة الكتابةِ .
3- قوله: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ فيه: التفاتٌ؛ إذ إنَّه خطابٌ لرؤساءِ اليهودِ وعُلمائهم- على هذا المعنى- بطَريقِ الالتفاتِ، وأمَّا حُكَّامُ المسلمين فيتناولُهم النهْيُ بطريقِ الدَّلالةِ دون العِبارةِ .
4- قوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ الجملة تذييلٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبلَها أبلغَ تقريرٍ، وتحذيرٌ عن الإخلالِ به أشدَّ تحذيرٍ؛ حيث علَّق فيه الحُكمَ بالكفرِ بمجرَّد ترْك الحُكمِ بما أنزل اللهُ تعالى؛ فكيف وقد انضمَّ إليه الحُكمُ بخِلافِه- لا سيَّما مع مباشرةِ ما نُهوا عنه من تحريفِه- ووضْعُ غيرِه موضِعَه، وادِّعاءُ أنَّه مِن عندِ الله؛ ليشتروا به ثمنًا قليلًا ؟!
- وجاءَ ضميرُ الفصلِ هُمْ؛ لإفادةِ الحَصرِ والتوكيدِ، وضميرُ الفصل له ثلاثُ فوائدَ، الأولى: إفادةُ الحَصْر، والثانية: التوكيدُ، والثالثة: التمييزُ بين الخبر والصِّفة؛ ولهذا سُمِّيَ ضميرَ فصْلٍ .
5- قوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ التعبيرُ بصِيغةِ التفعُّل في تَصَدَّقَ؛ للمُبالغة في الترغيبِ فيه .
6- قوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الجملةُ تذييلٌ مُقرِّرٌ لإيجابِ العملِ بالأَحْكامِ المذكورة
=============17.
.

سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (46 - 47)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ
غريب الكلمات:

وَقَفَّيْنَا: أي: أتْبَعْنا، وأَرْدَفْنا، مأخوذٌ من القَفا؛ يُقال: قَفَوْتُ الرجلَ: إذا سرتَ في أثَرِه
.
عَلَى آثَارِهِمْ: أي: على آثارِ الأنبياءِ، وأثَرُ الشيءِ: حُصولُ ما يدلُّ على وجودِه، وأَصْلُ (أثر): رَسْمُ الشَّيءِ الباقِي .
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ: لِمَا قبْلَه، أو لِمَا كان مُتقدِّمًا له من الإنجيلِ ونحوِه .
مَوْعِظَةً: الموعظةُ والوَعْظُ: التخويفُ، أو الزجْرُ المُقترِنُ بتَخويف، أو التَذكيرُ بالخَيرِ وما يَرِقُّ له القَلبُ، وقيل: ما يَدْعُو إلى الصَّلاحِ بطريقِ الرَّغبةِ والرَّهْبةِ؛ فالوَعْظُ هو الأمرُ أو النَّهيُ المقترِنُ بما يَحمِلُ على الامتِثالِ مِن التَّرغيبِ أو التَّرهيب

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.
مُصَدِّقًا: منصوبٌ على أنَّه حالٌ مِن عِيسَى عليه السَّلام.
فِيهِ هُدًى: جملةٌ في مَحلِّ نَصبٍ، حالٌ مِنَ الْإِنْجِيلَ.
ومُصَدِّقًا: مَنصوبٌ عَطفًا على مَحلِّ فِيهِ هُدًى، والمعطوفُ على الحالِ حالٌ؛ فهي في حُكمِ الحال أيضًا مِن الْإِنْجِيلَ.
وَهُدًى وَمَوْعِظَةً: اسْمانِ مَعطوفانِ على وَمُصَدِّقًا؛ فهُما في حُكمِ الحالِ مِن الإِنْجِيلَ أيضًا، أي: وآتيناهُ الإنجيلَ هاديًا وواعظًا، أو مَعطوفانِ على مُصَدِّقًا الأُولى؛ فهُما في حُكمِ الحالِ مِن عِيسَى، أي: ذا هُدًى وذا مَوعظةٍ. ويَجوزُ أن يكونَ (هُدًى) مَفعولًا مِن أجلِه والعامِلُ فيه مُقدَّرٌ؛ كأنَّه قيل: وللهُدَى والموعظةِ آتيناهُ الإنجيلَ

.
المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّه أَتْبعَ الأنبياءَ والمرسَلين- الذين يَحكُمون بالتوراةِ- بعِيسى ابنِ مريمَ عليه السَّلامُ، مُؤمِنًا بما في التوراةِ، ومُؤيِّدًا لها، وشاهدًا على أنَّ التوارةَ حقٌّ، وآتاه اللهُ الإنجيلَ فيه هدًى ونورٌ، شاهدًا وموافقًا لِمَا في التوارة، وبيانًا للحقِّ، وزاجرًا للمتَّقينَ عن ارتكابِ المحرَّماتِ والآثامِ.
ويأمر اللهُ سُبحانَه أنْ يَحكُمَ النصارى بما أنزَل في الإنجيل، فالله عز وجل أنزَله على عيسَى عليه السَّلام؛ ليُقيموه ويتحاكموا إليه، ويؤمنوا بجميعِ ما فيه، ومنه البشارةُ ببعثةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والأمرُ بالإيمانِ به واتباعِه، وأخْبَر تعالى أنَّ مَن لم يحكُمْ بما أَنزلَ اللهُ فأولئك هم الفاسِقون.
تفسير الآيتين:

وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى أنَّ التوراةَ يَحكُم بها النَّبيُّون، ذكَر أنَّه قفَّاهم بعِيسى؛ تَنبيهًا على أنَّه من جُملةِ الأنبياء، وتنويهًا باسمِه، وتنزيهًا له عمَّا يدَّعيه اليهودُ فيه، وأنَّه من جملة مصدِّقي التوراةِ
، فقال:
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ.
أي: وأتْبَعْنا هؤلاءِ الأنبياءَ والمرسَلين، الذين يَحكُمون بالتَّوراة، بعيسى عليه السَّلامُ، فبعثناه عَقِبَهم نبيًّا رسولًا شاهدًا على أنَّ التوراة حقٌّ، مؤيِّدًا لها ومؤمنًا بها، وحاكِمًا بشريعتها فيما لم يَنسخْه الإنجيلُ .
وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ.
أي: وأَنزلْنا إليه كِتابَنا المسمَّى بالإنجيلِ، فيه هُدًى إلى الحقِّ، ونورٌ يُستضاءُ به من ظُلماتِ الشُّبهاتِ، وعمَى الجَهالةِ .
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ.
أي: مثبِتًا وشاهدًا وموافِقًا لها، ومشتمِلًا على أحكامِها، إلَّا ما نسخَه منها .
وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.
أي: وجعَلْنا الإنجيلَ هدًى وبيانًا للحقِّ، وزاجرًا عن ارتكابِ المحارم والمآثمِ للمتَّقينَ الذين يمتَثِلون ما أمرَ اللهُ تعالى به، ويجتَنِبون ما نهَى عنه؛ فهم الذين ينتفعونَ بالهدَى، ويتَّعظونَ بالمواعظِ، ويرتدعونَ عمَّا لا يَنبغي .
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47).
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ قراءتان :
1- وَلِيَحْكُمَ بجَعْل اللامِ لامَ (كي)، فالمعنى: أنَّ الله عزَّ وجلَّ أنزل الإنجيلَ؛ لكي يحكُمَ أهلُ الإنجيلِ بما فيه .
2- وَلْيَحْكُمْ بِجَعْل اللامِ (لامَ الأمر)، فالمعنى: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أَمَرَ أهْلَ الإنجيلِ بالحُكْمِ بما أنزَلَه في الإنجيلِ .
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ
أي: وآتَيْنا عيسى عليه السَّلامُ الإنجيلَ لِيَحْكُمَ أهلُ ملَّته به، فلْيؤمِنوا بجميعِ ما فيه، ولْيُقيموا ما أُمِرُوا به فيه، وممَّا فيه البشارةُ ببَعثةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والأمرُ بالإيمانِ به واتِّباعِه .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
أي: إنَّ الذين لم يَحكُموا بما أَنزلَ اللهُ تعالى في كِتابِه من النَّصارى وغَيرِهم، خارجونَ عن طاعةِ ربِّهم، تارِكونَ للحقِّ، مائِلونَ إلى الباطلِ

.
الفوائد التربوية:

الحثُّ على التقوى، وأنَّها سببٌ لكلِّ خيرٍ، ولكلِّ عِلمٍ؛ لقوله: وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، ولا شكَّ أنَّ التَّقوى: هي أساسُ العملِ؛ لأنَّ مَن لم يتَّقِ اللهَ لا يعمَل، ومَن اتقى الله عمِلَ بأوامرِ الله حسَبَ ما عنده من التَّقوى
، لذا خصَّ الهُدَى والموعظةَ بكونهما للمُتَّقينَ؛ لأنَّهم هم الذين يَنتفعونَ بهما، وكلَّما زادتِ التَّقوى في الإنسانِ زاد اتِّعاظُه بالكتُب السَّماويَّة

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- أنَّ عِيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ آخِرُ الأنبياءِ؛ لقوله: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وليس بعدَه نبيٌّ يقفوه إلَّا محمدُ بنُ عبد اللهِ الهاشميُّ القرشيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ ولهذا جعله قافيًا لمن سبَقَه، ولو كان هناك نبيٌّ بعدَ عيسَى عليه السلامُ لكان هو المقَفَّى
.
2- أنَّ مَن ليس له أبٌ يُنسَبُ إلى أمِّه؛ لقوله: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فنُسِبَ عيسى ابنُ مريم إلى أمِّه؛ لأنَّه ليس له أبٌ، ومن أمثلة الذي ليس له أب: أنْ يزنيَ رجلٌ بامرأةٍ فتأتي منه بولدٍ؛ فهنا الولدُ ليس للزاني، ومنها: أنْ يُلاعِنَ الرجلُ امرأتَه لاتِّهامِه إيَّاها بالزِّنا، ويَنتفي مِن وَلَدِها، فيقول: ليس الولدُ منِّي، فحينئذٍ يكون له أمٌّ وليس له أبٌ .
3- في نِسبة عيسى عليه السَّلامُ إلى أمِّه في قولِه: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إشارةٌ إلى أنَّه لا والدَ له؛ تكذيبًا لليهودِ فيما افْتَرَوه على أُمِّه مريمَ، وإشارةٌ إلى أنَّه عبدٌ مربوبٌ؛ تكذيبًا للنَّصارى في إضافتِهم بنوَّتَه إلى اللهِ سبحانَه وتعالَى، فهو عليه السَّلام ابْنُ أُمِّه مَرْيَمَ .
4- يُستفادُ مِن قولِه: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ التنويهُ بعظمةِ التوراة وفضلِها وشرَفِها؛ لأنَّه ذُكِر في هذه الآية: أنَّ عيسى مصدِّقٌ لِمَا بين يَدَيه من التوراة، وأنَّ الإنجيلَ أيضًا مصدِّقٌ لِمَا بين يديه من التوراةِ .
5- أنَّ الإنجيلَ مُنْزَلٌ من عند الله؛ لقوله: بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وهو صريحٌ جدًّا في قول الله تبارك وتعالى: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران: 3-4] ، وعلى هذا فيكونُ الإنجيلُ من كلامِ الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه نزَلَ مِن عنده، وهو كلامٌ مُوحًى، والكلامُ إذا أُضيفَ إلى المتكلِّمِ فهو كلامُه

.
بلاغة الآيتين:

1- قوله: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ في ذِكْرِ عَلَى آثَارِهِمْ تأكيدٌ لمدلولِ فِعل قَفَّيْنَا، وإفادةُ سُرعةِ التَّقْفِيَةِ
.
2- قوله: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ فيه: إيجازٌ بالحذفِ، والتقدير: وقُلْنا: ليَحكُمْ أهلُ الإنجيل؛ فيكونُ هذا إخبارًا عمَّا فُرِض عليهم في ذلِك الوقت من الحُكم بما تَضمَّنه الإنجيلُ، ثم حُذِف القول؛ لأنَّ ما قَبلَه مِنْ قَوْلِه: وَكَتَبْنَا وَقَفَّيْنَا يدلُّ عليه، وحَذْفُ القولِ كثيرٌ .
3- قوله: بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فيه: وضْعُ الموصولِ (ما) موضعَ الضَّميرِ (به) في قولِه: بِمَا؛ للتنبيهِ على عِلِّيَّةِ ما في حيِّزِ الصِّلةِ للحُكم، وفيه التفاتٌ بإظهارِ الاسمِ الجليلِ؛ لتربيةِ المهابةِ، والإشعارِ بعِلَّة الحُكم .
4- قوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ الجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون الجُملة السابقة، ومؤكِّدٌ لوجوبِ الامتثالِ بالأَمْرِ .


=============18..



سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (48 - 50)
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ
غريب الكلمات:

وَمُهَيْمِنًا: أي: شاهدًا ورَقيبًا، وأَمينًا ومؤتمَنًا، وحاكمًا
.
أَهْوَاءَهُمْ: جمْعَ هوًى: وهو مَيلُ النَّفسِ إلى الشَّهوةِ، وأصلُه: الخلوُّ والسقوطُ، ومنه قيل للآراء الزَّائفةِ: أهواءٌ .
شِرْعَةً: أي: سُنَّةً وطَريقَةً، والشَّرعُ: نهجُ الطريقِ الواضِح، وكُلُّ ما شُرِع فيه مِن شَيءٍ فهو شَريعةٌ، ومِنه الشِّرْعَةُ والشَّريعةُ: وهي الطريقةُ الظاهرةُ، ومنه قيل لشريعةِ الماءِ (نهر- أو واد) شريعة؛ لأنَّها أظهرُ طُرقِه إليه، وأصل (شرع): شيءٌ يُفتَح في امتدادٍ يكونُ فيه .
مِنْهَاجًا: طَرِيقًا وَاضحًا، والمنهاجُ: الطَّرِيقُ المستمرُّ، وأصل النَّهج: الطريقُ الواضِح .
لِيَبْلُوَكُمْ: أي: لِيَختبِرَكم ولِيَمتَحِنَكم، وأَصْلُ (بلي): الامتحانُ والاختبارُ، ويكون البلاءُ في الخيرِ والشرِّ .
الْجَاهِلِيَّةِ: نِسبةً إلى الجاهِل، والمرادُ بالجاهليَّة: ما كان في الفترةِ قبلَ الإسلامِ من الجَهلِ باللهِ ورسولِه وشرائعِ الدِّين- وقد يُوصَفُ بها مَن تَشبَّه ببعضِ أحوالِها- وأَصْلُ (جهل): خِلافُ العِلمِ، ويُطلَقُ الجهلُ على: خلوِّ النَّفْس من العِلم، وعلى اعتقادِ الشيءِ بخِلافِ ما هو عليه، وعلى فِعلِ الشيءِ بخِلافِ ما حقُّه أن يُفعَل، سواءٌ اعتَقَد فيه اعتقادًا صحيحًا أو فاسدًا .
يَبْغُونَ: أي: يَطلُبون، وأصل (بغي): طلَب الشَّيءَ .
يُوقِنُونَ: يَعلمُونَ عِلمًا مُتمكِّنًا في نفوسِهم، لا يمكن أن يَدخُلَه شكٌّ، وأصلُ اليقين: زوال الشكِّ

.
مشكل الإعراب:

1- قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا.
لِكُلٍّ: اللامُ فيها مُتعلِّقةٌ بـجَعَلْنَا، وتقديمُها عليه للتَّخصيص.
جَعَلْنَا: فِعلٌ وفاعلٌ، والفِعلُ (جَعَل) يَحتمِل أنْ يَتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ، أو يَتعدَّى لمفعولَينِ- كما سيأتي.
مِنْكُمْ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ وقَع صِفةً للاسْمِ المحذوفِ الذي عُوِّضَ عنه بتنوينِ العِوَضِ في كُلٍّ؛ أي: لكُلِّ أمَّةٍ مِنكم جَعَلْنا...، ولا ضَيرَ في توسُّط جَعَلْنَا بَينَ الصِّفة والموصوفِ، ونَظيرُه قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ... الآية [الأنعام: 14] ؛ لأنَّه فصَل بين الجلالةِ وصِفتِها بالعَملِ في المَفعولِ الأوَّل.
شِرْعَةً: مفعولٌ به لـجَعَلْنَا المتعدِّي لمفعولٍ واحد، ويَحتمل أنْ يكونَ الفِعلُ جَعَلْنَا متعدِّيًا لاثنينِ بمعنى (صَيَّرْنا)؛ فيكون لِكُلٍّ مَفعولًا ثانيًا مقدَّمًا، ويكون قوله: شِرْعةً مفعولًا أوَّلَ
.
2- قوله: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ.
أَنْ يَفْتِنُوكَ: مَصدرٌ مؤوَّل بالصَّريح (فِتنتهم إيَّاك)، وفي إعرابِه وجهان؛ الأوَّل: أنَّه مفعولٌ مِن أجلِه، أي: احْذَرهم مَخافةَ أَنْ يَفْتِنوك. والثاني: أنَّه بدلُ اشْتِمالٍ من المفعولِ؛ كأنَّه قال: واحْذَرْهُمْ فِتنتَهم؛ كقولك: أعجبَني زيدٌ عِلمُه

.
المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا له: أنزَلْنَا إليك القرآنَ بالحقِّ، شاهدًا بصِدْقِ الكتُبِ السَّماويَّة التي سبقَتْه، وأمينًا عليها، وحافظًا لها، مُشتمِلًا على ما اشتمَلَتْ عليه وزيادة، وناسخًا وحاكمًا عليها، وأمَرَه الله سُبحانَه بعدَها أن يَحكُم بين أهلِ الكتابِ وغيرِهم بما أنزَلَه اللهُ من القُرآن، ونهاه عن اتِّباعِ أهوائِهم التي تُعارِض ما جاءَه من الحقِّ، وقد جعَل اللهُ لكلِّ أهل مِلَّةٍ سبيلًا وسُنَّةً يتَّبِعونها، ولو شاءَ سُبحانَه لجعَلَ النَّاسَ جميعًا على شريعةٍ ومنهاجٍ واحدٍ، لكنَّ اللهَ جعَلَ الشَّرائِعَ مختلفةً ليختبرَ عبادَه، ثم أمَر تعالى بالمبادَرَةِ والمسابقةِ إلى فِعلِ الخيراتِ؛ فإنَّ المعادَ والمرجِعَ إليه، فيُخبِر العبادَ بالذي كانوا يَختلِفون فيه.
وأمَر اللهُ نبيَّه أن يَحكُمَ بينهم بما أنزَلَه إليه في القُرآنِ، ولا يَتَّبع أهواءَهم، ولْيكُنْ حَذِرًا منهم أن يَصدُّوه عن بعضِ ما أَنزلَ اللهُ إليه في كتابه، فإنْ أعرَضوا عما حَكَمَ به عليهم، فليعلمْ أنَّ سببَ تولِّيهم هي إرادةُ الله تعالى أن يُعاقِبَهم ببعضِ ما اقترفوه من ذنوبٍ، وأخبره تعالى أنَّ كثيرًا من النَّاسِ خارجونَ عن طاعةِ ربِّهم.
ثم يقولُ تعالى لنبيِّه: أيُريدُ هؤلاء اليهودُ وغيرُهم الأحكامَ المخالِفَةَ للحقِّ، المبنيَّة على الجهلِ والظُّلم؟! ثم بيَّن تعالى أنَّه لا أحدَ أحسنُ حُكمًا منه سُبحانَه، يَتبيَّن ذلك ويتَّضِحُ لِمَن أَيقنَ باللهِ تعالى وآمَنَ به.
تفسير الآيات:

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى التوراةَ التي أنزَلَها على موسَى عليه السَّلامُ، ومدَحَها وأثْنَى عليها، وأمَر باتِّباعِها؛ حيثُ كانتْ سائغةَ الاتِّباعِ، وذكَر الإنجيلَ ومدَحَه، وأمَر أهْلَه بإقامَتِه واتِّباع ما فيه؛ شَرَع تعالى في ذِكرِ القرآنِ العظيم، ومكانِه من الكتُب التي قَبلَه، وهو الذي أنزلَه على عبدِه ورسولِه الكريمِ محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مُقرِّرًا لنبوَّته وكتابِه؛ لأنَّ اليهودَ والنَّصارى يُنكِرونَ نُبوَّتَه وكتابَه، وأنَّ حِكْمتَه تعالى اقتضَتْ تعدُّدَ الشَّرائعِ ومناهجِ الهداية؛ فتلك مُقدِّماتٌ ووسيلةٌ، وهذا هو المقصِدُ والنتيجة
، فقال:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ.
أي: وأَنزلْنا إليك- يا محمَّدُ- القرآنَ العظيمَ الذي نزولُه حقٌّ من عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، ونزلَ مُتضمِّنًا للحقِّ، فأخبارُه صِدْقٌ، وأحكامُه عَدلٌ، فلا كَذِبَ فيه ولا جَورَ، ولا ريبَ أنَّه مِن عندِ اللهِ تبارَك وتعالى .
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ.
أي: وأنزلْناه شاهدًا للكتُبِ الإلهيَّةِ السابقةِ بصِدقها، وموافقًا لها، ومطابِقًا لأخبارِها وأصولِ شرائعها، وفي وجودِه أيضًا دَلالةٌ على صِدقها؛ لأنَّها أَخبرتْ بنُزولِ القُرآن .
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ.
أي: وأنزلْناه أمينًا على الكتُبِ الإلهيَّة السابقة، حافظًا لها، مشتملًا على ما اشتملَتْ عليه الكتُبُ السَّابقَة وزيادة، وناسخًا لها، وحاكمًا عليها كلِّها، فما شهِد له القرآنُ منها بالصِّدقِ فهو مقبولٌ، وما شهِد له بالردِّ فهو مردودٌ، قد دخلَه التحريفُ والتبديلُ، وإلَّا فلو كان من عندَ اللهِ تعالى، لم يُخالِفْه .
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
أي: وما دام أنَّ هذه هي حالُ القرآن؛ فاحكمْ إذنْ- يا محمَّدُ- بينَ أهلِ الكتاب وغيرِهم بهذا القرآنِ العظيم، في كلِّ ما احتَكموا فيه إليك .
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.
أي: لا تَترُكَنَّ تحكيمَ كتابي بَينهم- يا محمَّدُ- متابعةً منك لأهوائِهم الفاسدةِ المعارِضةِ للحقِّ، فتحكمَ بها إرضاءً لهم بدلًا عن الحُكمِ بما أتاك من الحقِّ الذي هو أحقُّ أن يُحكمَ به .
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا.
أي: لكلِّ أهلِ ملَّةٍ منكم- أيُّها الأممُ- جعَلْنا سبيلًا تَسلُكونَه، وسنَّةً واضحةً تتَّبعونها .
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ.
أي: ولو شاء اللهُ لجَمَعَكم- أيُّها النَّاسُ- على دينٍ واحدٍ، وجعل شَرائِعَكم شريعةً واحدةً؛ لا يختلِفُ متأخِّرُها عن مُتقدِّمها، ولكنَّه تعالى خالَفَ بينها؛ لِيَختبرَكم وينظرَ كيف تَعملون ، فيبتلي كلَّ أُمَّةٍ بحسَب ما تَقتضيه حِكمتُه، ويُؤتي كلَّ أحدٍ ما يَليقُ به، وليحصلَ التنافسُ بين الأُمم؛ فكلُّ أمَّةٍ تحرِصُ على سَبْقِ غيرِها .
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا كان في الاختبارِ أعظمُ تهديدٍ في قوله: وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ سبَّب عنه قولَه: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ؛ ليحُثَّ على السَّبقِ للخَيرِ ؛ فقال تعالى:
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.
أي: فبادِروا- أيُّها الناسُ- إلى الطاعاتِ والأعمالِ الصالحاتِ، وسارِعوا إليها وَفقًا لشرعِه ونهْجِه الذي أنزلَه في كتابِه القرآنِ .
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا.
أي: معادُكم- أيُّها الناسُ- مِن جميعِ الأُمم، ومصيرُكم إلى الله تعالى وحْدَه يومَ القيامة .
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.
أي: فيُخبِرُكم بما اختلفتُم فيه من الحقِّ، وحينئذٍ يحصُلُ الفصلُ بالعدلِ، ويَتبيَّنُ المحِقُّ مِن المبطِلِ، ويُثابُ أهلُ الحقِّ، ويُعاقَبُ أهلُ الباطِلِ .
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كان الأمرُ بالحُكمِ فيما مضَى مِنْ قَوْلِه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ لكونِه مُسبَّبًا عمَّا قَبلَه من إنزالِ الكتابِ على الأحوالِ المذكورة؛ أعادَ الأمرَ به سُبحانَه مصرِّحًا بذلك لِذاتِه لا لشيءٍ آخَر؛ ليكونَ الأمرُ به مؤكَّدًا غايةَ التأكيدِ بالأمرِ به مرَّتين: مرَّةً لأنَّ اللهَ أمَرَ به، وأخرى لأنَّه على وَفْقِ الحِكمة، فقال تأكيدًا له وتنويهًا بعظيمِ شأنِه، ومحذِّرًا من الأعداءِ فيما يُلقُونه من الشُّبَه للصدِّ عنه :
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
أي: واحْكُمْ بينهم إذا تنازَعوا إليك- يا مُحمَّدُ- بحُكمِ الله تعالى الذي أنزلَه إليكَ في القرآنِ، ولا تَحكُمْ بما عندَهم .
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ.
أي: والْزمِ العملَ بالقرآنِ الذي أُنزِلَ إليك- يا محمَّدُ- ولا تتَّبعْ أهواءَ اليهودِ، ولا أهواءَ غيرِهم .
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ.
أي: وإيَّاك- يا محمَّد- والاغترارَ بهؤلاء الأعداءِ من اليهودِ وغيرِهم ممَّن يَحتكِمون إليك، فكنْ على حَذرٍ من أنْ يصدُّوك عن بعضِ ما أنزَلَ اللهُ تعالى إليك من أحكامِ القُرآنِ، فيَحْملوك على ترْكِ العملِ بها، واتِّباعِ أهوائِهم .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ.
أي: فإنْ أعرَضَ هؤلاءِ الذين يَحتكِمون إليك- يا محمَّدُ- من اليهودِ وغيرِهم عن العملِ بما حَكمتَ به عليهم، فاعلمْ أنَّهم لم يَتولَّوا عن حُكْمِك وقد قضيتَ بالحقِّ إلَّا بقَدَرِ اللهِ تعالى وحِكْمَتِه فيهم؛ مِن أجلِ أنَّه يُريدُ صرْفَهم عن الهُدى، وتعجيلَ عُقوبتِهم في الدنيا؛ لِمَا صدَرَ منهم من ذُنوبٍ اقتضتْ إضلالَهم ونَكالَهم .
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ.
أي: وإنَّ كثيرًا من الناسِ خارجونَ عن طاعةِ ربِّهم، مخالِفونَ للحقِّ، فالفِسْقُ طبيعةٌ لهم وسجيَّة .
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50).
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ.
أي: أفيَطلُبُ هؤلاءِ اليهودُ وغيرُهم الأحكامَ المخالِفةَ للحقِّ، المبنيَّةَ على الجهلِ والظُّلمِ، والتي وضَعَها الناسُ بلا مُستنَدٍ من شريعةِ اللهِ تعالى، بحسَب آرائِهم وأهوائِهم؛ أفيَطلُبون ذلك وعندهم كتابُ اللهِ فيه الهدى والنُّور، والعَدْلُ والحقُّ المُبِينُ الذي لا يجوزُ خِلافُه، ومع ذلِك يَعدِلون عنه ؟!
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
أي: لا أحدَ أحسنُ وأعدلُ مِن الله تعالى في حُكمِه، ولكنَّ ذلك يَتبيَّن لِمَن أيقنَ باللهِ تعالى وأسمائِه وصِفاتِه- ومن ذلك أنَّه أحكمُ الحاكِمينَ سُبحانَه- فعَرَف الفرقَ بين حُكمِه سُبحانَه وحُكمِ الجاهليَّة، وميَّز بإيقانِه ما في حُكمِ الله عزَّ وجلَّ من الحُسن، ودَفعَه يقينُه إلى العملِ به

.
الفوائد التربوية:

1- أنَّه يَنبغي لِمَن نهَى عن شيءٍ قبيحٍ أن يُبيِّنَ قُبْحَه، وأنْ يَنقُل النَّاسَ إلى ما هو خيرٌ منه؛ لقوله: عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ، فكأنه قال: لا تتَّبِعْ أهواءَهم، واتَّبِع ما جاءَك من الحقِّ
.
2- أنَّه يجِبُ على المسلمينَ أنْ تكونَ لهم شخصيَّةٌ قائمةٌ بعزَّة الإِسلامِ، وألَّا يكونوا أذنابًا لأعداءِ الله؛ لقوله: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ .
3- قولُه تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ موجَّهٌ مِن الله عزَّ وجلَّ إلى رسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، مع أنَّنا نعلمُ عِلمَ اليقينِ أنَّه لن يَفعلَ ذلك؛ لكن لِيَعتبرَ النَّاسُ أنَّه إذا كان محمَّدٌ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ينهاه ربُّه ومُرسِلُه عن اتِّباعِ أهوائِهم عمَّا جاءَه من الحقِّ، فكيف بغَيْرِه ؟!
4- يُستفادُ مِن قولِه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً أنَّه لا بدَّ لبني آدَمَ من الاختلافِ، وهذا هو الواقِعُ .
5- أنَّ الذنوبَ لها آثارٌ سيِّئة، مِن أعظمِها التولِّي عن دِينِ اللهِ وعمَّا أنزَلَ الله؛ فالإنسانُ كلَّما عصَى اللهَ ابتعَدَ عن قَبولِ الوحي والشَّريعةِ؛ ولهذا قال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ .
6- الحَذرُ الشَّديدُ مِن موافقةِ الكفَّارِ؛ لقولِه تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ .
7- أنَّ حُكمَ اللهِ أحسنُ الأحكامِ؛ لقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا، ويترتَّبُ على هذا أنَّ الإنسانَ إذا آمَن بأنَّ حُكمَ اللهِ أحسنُ الأحكامِ، استسلمَ لحُكمِ الله ورضِيَ به تمامًا، سواءٌ علِم الحِكمةَ أم لم يعلمْ، وهذا حقٌّ؛ فأيُّ إنسانٍ يرى أنَّ حُكمَ أحدٍ هو أحسنُ الأحكام فسوف ينقادُ له، ولا يُعارِض ولا يمانِع

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- الثَّناءُ على القرآن؛ لقوله: بِالْحَقِّ؛ لأنَّ جميعَ ما في القرآن حقٌّ، إنْ كان خبرًا فهو صِدْق، وإنْ كان قَصَصًا فهو نافعٌ، وإنْ كان أحكامًا فهو عَدْلٌ
.
2- القرآنُ مهيمِنٌ على الكتُبِ؛ لأنَّه الكتابُ الذي لا يصيرُ منسوخًا ألبتةَ، ولا يتطرَّقُ إليه التبديلُ والتحريفُ؛ على ما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ، وإذا كان كذلِك كانتْ شهادةُ القرآن على أنَّ التوراةَ والإنجيلَ والزبورَ حقٌّ وصدقٌ باقيةً أبدًا، فكانتْ حقيقةُ هذه الكتُبِ معلومةً أبدًا؛ قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ .
3- أنَّ القرآنَ ناسِخٌ لِمَا قبْلَه من الكتُب؛ لقوله: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ .
4- وجوبُ الحُكم بما أنزلَ اللهُ في القرآنِ إذا تحاكَم إلينا أهلُ الكتابِ؛ لقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وهذا الخطابُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لكن يَشمَلُ الأمَّةَ .
5- قال تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ولم يقُلْ: (شريعتهم أو نحوها)؛ لأنَّهم على هوًى، وليسوا على هُدًى، فكُفرُهم بما جاء به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن هوًى، ليس عن عقلٍ ولا عن شَرْعٍ .
6- يُستفادُ مِن قولِه: عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ أنَّ ما جاءَ به الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حقٌّ لا يُمكِنُ العدولُ عنه إلى غيرِه؛ لأنَّه لم يقل: (عمَّا جاءَك) أو (عمَّا نزَل) فقط، بل أضافَ: مِنَ الْحَقِّ .
7- أنَّ المرجِعَ إلى اللهِ تبارك وتعالى شَرْعًا وقدَرًا؛ لقولِه: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ فالمرجِعُ إلى اللهِ شرعًا؛ هو الذي يَحكُم بيننا، وقدَرًا؛ فإنَّ الأمرَ كما قال الله: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية: 25- 26] .
8- في قولِه تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ... هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ الخطأَ والنِّسيانَ جائزانِ على الرَّسولِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ، والتعمُّدُ في مِثل هذا غيرُ جائزٍ على الرَّسولِ، فلم يَبقَ إلَّا الخطأُ والنِّسيان .
9- وجوبُ الحَذرِ مِن اليهودِ والنَّصارى وغيرِهم؛ لقوله: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ .
10- في قوله تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ الإشارةُ إلى أنَّ مِن أكبرِ غاياتِ اليهودِ والنَّصارى أن يَفتِنوا المسلمينَ عمَّا أَنزلَ اللهُ إليهم، وإذا كانَ اللهُ تعالى قد تَكلَّمَ في هذا في عهدِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فالأمرُ في وقتِنا أشدُّ؛ لأنَّهم الآن يَرَوْن أنَّهم أقوى منَّا في المادَّةِ الحِسيَّة، فيكونُ حِرصُهم على صَدِّنا عن سبيلِ الله أشدَّ .
11- في قولِه: بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أبْهَم الذنوبَ؛ زيادةً في استدراجِهم وإضلالِهم، وتحذيرًا لهم من جميعِ مساوي أعمالِهم؛ لئلَّا يَعلموا عينَ الذنبِ الذي أُصيبوا به، فيحملَهم ذلك على الرجوعِ عنه، ويَصيرَ ذلك كالإلجاءِ .
12- يُستفادُ مِن قولِه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أنَّ كلَّ حُكمٍ مخالفٍ لحُكمِ الله فهو حُكمٌ جاهليٌّ .
13- يُستفادُ مِن قولِه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أن يُعارِضَ أحكامَ الشَّرع بعقلِه، هذا في العمليَّات الفقهيَّات، وفي العَقَديَّات العِلميَّات مِن باب أَوْلى؛ لأنَّه إذا كان لا يجوزُ للإنسان أن يُعارِضَ الشرعَ في الأمورِ العمليَّةِ التي يَدخُلها القياسُ، فالأمورُ العِلميَّةُ الخبريَّة من باب أَوْلى .
14- قولُه تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فيه الإنكارُ على من خَرَجَ عن حُكمِ اللهِ المُحكَم، المشتَمِل على كلِّ خيرٍ، النَّاهي عن كلِّ شَرٍّ، وعَدَلَ إلى ما سواه مِنَ الآراءِ والأهواءِ والاصطلاحاتِ، التي وضَعَها الرِّجالُ بلا مُستنَدٍ مِن شريعةِ اللهِ، كما كان أهلُ الجاهليَّةِ يحكُمونَ به من الضَّلالاتِ والجَهالات، مِمَّا يضعونَها بآرائِهم وأهوائِهم، وكما كان يحكُمُ به التَّتارُ مِنَ السِّياساتِ المَلَكيَّةِ المأخوذةِ عَن مَلِكِهم جنكيزخان، والتي اقتبَسَها مِن شرائِعَ شتَّى، من اليهوديَّةِ والنَّصرانيَّةِ والملَّةِ الإسلاميَّةِ، وفيها كثيرٌ مِنَ الأحكامِ أخَذَها من مجرَّدِ نَظَرِه وهواه، فصارَتْ في بَنِيه شَرعًا مُتَّبعًا، يُقَدِّمونها على الحُكمِ بكِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَن فعل ذلك فهو كافِرٌ يجِبُ قِتالُه، حتى يرجِعَ إلى حُكمِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يُحكِّمُ سواه في قليلٍ ولا كثيرٍ .
15- أنَّه لا يَعرِف حُسنَ أحكامِ اللهِ إلَّا مَن عنده يقينٌ، وكلَّما كان الإنسانُ أشدَّ يقينًا، كان بيانُ حُسنِ أحكامِ الله عنده أكثرَ وأشدَّ؛ لقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فيه: إظهارٌ في محلِّ الإضمار بقولِه: الْكِتَابَ؛ لبيانِ أهميَّته، وأنَّه المرجعُ والملاذُ والمعتصَم إذا حَزَبَ الأمرُ
.
- وفي قوله هنا: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ، وقوله عن التوراة: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ وقوله عن الإنجيل: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ... وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ، لطيفةٌ ومناسبةٌ حسنةٌ في كلِّ سِياق؛ فإنَّه لَمَّا ذكَر تعالى أنَّه أنزلَ التوراةَ فيها هدًى ونورٌ في قولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ لم يَذكُرْ مَن أَنزلها عليه؛ لاشتراكِ كلِّهم في أنَّها نزلتْ على موسى؛ فترَك ذِكْرَه للمَعرفةِ بذلك، ثم ذكَر عيسى وأنَّه آتاهُ الإنجيلَ في قولِه تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ، فذَكَره ليُقرُّوا أنَّه من جُملةِ الأنبياء؛ إذ اليهودُ تُنكِر نبوَّتَه، وإذا أنكرتْه أنكرتْ كِتابَه، فنصَّ تعالى عليه وعلى كِتابِه، ثمَّ ذكَر إنزالَ القُرآنِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذَكَر الكتابَ ومَن أَنزلَه، مُقرِّرًا لنبوَّته وكِتابِه؛ لأنَّ الطائفتَينِ يُنكرون نُبوَّتَه وكتابَه، وجاءَ هنا ذِكرُ المُنزَلِ إليه بكَافِ الخِطاب؛ لأنَّه أنصُّ على المقصودِ .
2- قوله: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ تعريفُ الكِتاب للجِنس؛ لأنَّه عنَى به جِنسَ الكتُبِ المنزلَة، ويجوزُ أن يُقال: هو للعَهد؛ لأنَّه لم يُرَدْ به ما يقعُ عليه اسمُ الكتاب على الإطلاقِ، وإنَّما أُريد نوعٌ معلومٌ منه، وهو ما أُنزِلَ من السماء سِوى القرآنِ ، وقيل: لَمَّا كانتِ الكتُبُ السَّماويَّة مِن شدَّةِ تَصادُقِها كالشيءِ الواحدِ عبَّر تعالى عنها بالمفردِ؛ فقال: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ .
3- قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وفيه: الخطابُ بطريق التلوينِ والالتفاتِ للنَّاس كافَّةً؛ ولكن ليس للموجودينَ خاصَّةً، بل للماضين أيضًا بطريق التَّغليبِ .
- وقوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا: فيه حذف، والتقدير: لكلِّ أمَّة منكم أيُّها النَّاس، أو لكلِّ نبيٍّ مِنكم أيُّها الأنبياءُ، وعلى هذا الوجهِ يكون فيه تنبيهٌ لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، أي: فاحفظْ شِرعتك ومِنهاجَك؛ لئلَّا تستزلَّك اليَهودُ وغيرُهم في شيءٍ منه .
- وهو كالتَّعليلِ للنَّهي؛ أي: إذا كانتْ أهواؤُهم في متابعةِ شريعتِهم أو عَوائدِهم؛ فدَعُوهم وما اعتادُوه، وتمسَّكوا بشَرعِكم .
- وعلى القولِ بأنَّ الشِّرعة والمنهاجِ عِبارتان عن معنًى واحدٍ- والمرادُ بهما الدِّين- فيكونُ فيه تكريرٌ بعطفِ أحدِ المترادفَينِ على الآخَر، أو ما هو قَريبٌ منه في المعنى؛ لقَصدِ التَّأكيد .
4- قوله: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا استئنافٌ في معنى التَّعليلِ؛ لأمْرِه تعالى باسْتِباقِ الخيراتِ؛ كأنَّه يقول: يَظهَرُ ثمرةُ استباقِ الخيراتِ والمبادرةِ إليها في وقتِ الرجوعِ إلى اللهِ تعالى ومُجازاتِه .
5- قوله: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فيه: إظهارُ الاسمِ الجليلِ اللَّهُ؛ لتأكيدِ الأمرِ بتهويلِ الخَطب .
6- قوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ: تأكيدٌ لِمَا تقدَّم مِن الأمرِ بذلك في الآيةِ السَّابقة، والنهيِ عن خِلافِه ، وكرَّر النهيَ عن اتِّباع أهوائِهم في قوله: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ؛ لشدَّةِ التحذير منها، ولأنَّ ذلك في مقامِ الحُكم والفتوى، وهو أوسعُ، وهذا في مقامِ الحُكم وحْدَه، وكلاهما يلزمُ فيه ألَّا يتَّبِعَ أهواءَهم المخالفةَ للحقِّ .
7- قوله: بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ يعنى: بذَنْبِ التَّولِّي عن حُكْمِ اللَّه، وإرادةِ خِلافِه، فوَضَعَ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ مَوضِعَ ذلك، وأرادَ أنَّ لهم ذُنوبًا جمَّةً كثيرةَ العددِ، وأنَّ هذا الذَّنبَ- مع عِظَمه- بعضُها وواحدٌ منها؛ وهذا الإبهام لتعظيمِ التولِّي، واستسرافِهم في ارتكابِه، وجَسامَته وفَداحةِ التطاوُلِ به؛ فما أخسرَ صفقتَهم، وما أبشعَ ما اقترَفوه! واستعمالُ (بعض) في الإبهامِ واردٌ كثيرًا في كلامِ العرب .
8- قوله: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ اعتراضٌ تذييليٌّ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبْلَه؛ ليَهُون عِندَه بَقاؤهم على ضَلالِهم؛ إذ هو عادَةُ أكثرِ النَّاس، وفيه كِنايةٌ عن كون أكْثرِ اليهودِ فاسِقين .
9- قوله: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ الاستفهامُ إنكاريٌّ، وتقديمُ المفعول أَفَحُكْمَ على فِعله يَبْغُونَ؛ للتخصيصِ المفيدِ لتأكيدِ الإنكارِ والتعجُّب ، ولإفادةِ الحَصرِ، يعني: كأنَّ هؤلاءِ لا يُريدون إلَّا الحُكمَ الجاهليَّ المبنيَّ على الجهلِ أو الجهالةِ .
10- قوله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فيه ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بـ(الإيغال) ، ونوعه: الإيغالُ التَّخييريُّ؛ إذ إنَّ المعنى قد تمَّ بقَولِه: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا، ولَمَّا احتاجَ الكلامُ إلى فاصلةٍ تُناسِبُ ما قَبلَها وما بَعدَها، أتتْ هذه الفاصلةُ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لتُفيدَ معنًى زائدًا، لولاها لم يَحصُل؛ وذلك أنَّه لا يَعلَمُ أنَّ حُكمَ الله أحسنُ مِن كلِّ حُكمٍ إلَّا مَن أَيقنَ أنَّه واحدٌ حكيمٌ عادلٌ، وعدَلَ عن قوله: (يَعْلمونَ) إلى قولِه: يُوقِنُونَ؛ ليكون عِلمُهم برَبِّهم عِلْمَ قَطعٍ ويقينٍ .


=============19.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (51 - 53)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ
غريب الكلمات:

أَوْلِيَاءَ: أي: أصدقاءَ ونُصراءَ، والوِلايةُ النُّصرةُ، وأَصْلُ (ولي) يدلُّ على القُرْب، سواء مِن حيث: المكان، أو النِّسبة، أو الدِّين، أو الصَّداقة، أو النُّصرة، أو الاعتقاد، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه
.
مَرَضٌ: أي: شكٌّ ونِفاقٌ، وأصلُ المرض: الفُتورُ، والخروجُ عن الاعتدالِ الخاصِّ بالإنسانِ .
أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ: أي: أنْ يَدورَ علينا الدَّهرُ بمكروهٍ فلا يُبايعونا، فنحتاج إليهم وإلى مُعاونتهم، وأَصْلُ (دور) يدلُّ على إحداقِ الشيءِ بالشيءِ مِن حَواليهِ .
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: أي: اجتَهَدوا في الحَلِفِ والأَيمانِ، أو هو كنايةٌ عن أغلظِ الأيمانِ، وأَصْلُ (جهد): المشقَّة. وأَيْمَانِهِمْ: جمْع يمين: وهو القَسَمُ والحَلِف

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ.
جَهْدَ: منصوبٌ، وفي نَصبِه ثلاثة أوجهٍ؛ الأوَّل: أنَّه مَصدرٌ مؤكِّدٌ، وناصبُه (أَقْسَمُوا) فهو مِن معناه لا مِن لَفظِه، والمعنى: أَقْسَموا إقْسامَ اجتهادٍ في اليَمين. الثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ من ضَميرِ (أَقْسَمُوا) على تأويلِ المَصْدَرِ باسْمِ الفاعِلِ، أي: جاهِدِينَ، والتَّقديرُ: وأقْسَموا باللهِ جاهِدينَ أنفُسَهم في أَيمانِهم؛ أي: بالغِينَ بها أقْصى الطَّاقَةِ، وإضافةُ جَهْدَ إلى أَيْمَانِهِمْ على هذا الوَجهِ إضافةٌ على مَعْنى (من)، أي: جَهدًا ناشِئًا عن أيمانِهم. الثالث: أنَّه منصوبٌ على المفعولِ المُطلَق الواقِعِ بدلًا مِن فِعْلِه، والفعلُ المُقَدَّر في مَوضِعِ الحالِ من ضَمير (أقْسموا)، والتقدير: أقسموا يَجْهَدون أيمانَهم جَهْدًا، وإضافة جَهْدَ إلى أَيْمَانِهِمْ على هذا الوجه من إضافةِ المصدرِ إلى مفعولِه

.
المعنى الإجمالي:

يَنهى اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنينَ عن مُناصرةِ اليهودِ والنَّصارَى وأخبَرَ أنَّ اليهودَ يوالي بعضُهم بعضًا، والنَّصارى يوالي بعضُهم بعضًا ويتناصرون فيما بينهم، ومَن يُناصِر اليهودَ والنصارى من المسلمين على إخوانه من المسلمين فإنَّه منهم؛ إنَّ الله لا يَهدي القومَ الظَّالمين بتولِّيهم هذا لأهلِ الكتابِ.
ثم قال اللهُ تعالى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ: فترى- يا محمَّدُ- المنافقينَ الذين في قلوبِهم شكٌّ ورِيبةٌ يُبادِرونَ إلى مُناصرةِ اليهودِ والنَّصارى ومُعاونتِهم؛ قائلين- ليُبرِّروا قُبحَ صَنيعهم-: إنَّما يُسارِعونَ في موالاتِهم خشيةَ أن تُصيبَهم دائرةٌ، كأنْ يكونَ لهؤلاء الكفَّارِ النصرُ على المسلمين، فيكون لهم أيادٍ عندَهم تنفعُهم حينَها، فردَّ اللهُ عليهم ذلك العُذرَ الواهيَ، فقال: لعلَّ اللهَ يأتي بالنَّصرِ على اليهودِ والنَّصارى وغيرِهم، أو يأتي بأمرٍ يكونُ فيه هلاكُ المنافقينَ، أو فَضحُهم، فيُصبِحَ هؤلاء المنافقون الموالونَ لليهودِ والنَّصارى على ما أسرُّوا في نفوسِهم نادمينَ.
ويقول المؤمنون- مُتعجِّبين مِن حالِ المنافقين بعدَ أنْ ظهرَ ما أسرُّوه في أنفُسِهم-: أهؤلاءِ الذين حلَفوا باللهِ كَذِبًا مؤكِّدينَ حَلِفَهم أنَّهم معنا في الإيمانِ والنُّصرةِ والمحبَّة؟! بطَلتْ أعمالُهم؛ فأصبحوا خاسِرينَ.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أخبرَ اللهُ عن اضطرابِ اليهود في دِينهم، ومحاولتِهم تضليلَ المسلمينَ، وتقليبَ الأمورِ للرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبَيَّن عِنادَهم وعداوتَهم لأهلِ هذا الدِّين في الآياتِ السابقةِ- تهيَّأت نُفوسُ المؤمنينَ لقَبولِ النَّهي عن موالاةِ أهلِ الكتابِ؛ لأنَّ الوَلايةَ تَنبني على الوِفاقِ والوِئام والصِّلةِ، وليس أولئك بأهلٍ لوَلاية المسلمينَ؛ لبُعدِ ما بينَ الأخلاقِ الدِّينيَّة، ولإضمارِهم الكيدَ للمسلمين، فأَقبلَ عليهم بالخِطابِ، فنهى مَن اتَّسم بالإيمانِ عن موالاتِهم
، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ إيَّاكم أنْ تُناصِروا اليهودَ والنَّصارى، أو تُعاوِنُوهم على غيرِهم .
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض.
أي: إنَّ بعضَ اليهودِ أولياءُ بعضٍ، وبعضَ النصارى أولياءُ بعضٍ؛ فأهلُ كلِّ ملَّةٍ يتناصرون ويتعاضَدونَ فيما بينهم، ويكونون يدًا واحدةً على مَنْ سِواهم .
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ.
أي: ومَن يتولَّ اليهودَ والنَّصارى، ويَنصُرْهم على المسلمين، ويُظاهِرْهم عليهم؛ رغبةً فيهم، ورِضًا بدِينهم، فهو مِن أهلِ دِينِهم وملَّتهم، وحُكمُه حُكمُهم .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
أي: إنَّ مَن يتولَّاهم منكم فهو مِن جُملةِ الظالمين الذين وَضَعَوا الولايَةَ في غيرِ مَوْضِعِها، ونَقَصوا أنفسَهم حقَّها بما ارتَكبوا مِن كفرٍ أو عِصيانٍ؛ فلا يُوفِّقُهم الله تعالى لاتِّباعِ الحقِّ .
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52).
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ.
أي: فتَرَى- يا محمَّدُ- الَّذين في قُلوبِهم شَكٌّ ونِفاقٌ يُسارعونَ في موالاةِ اليهودِ والنَّصارى، ومودَّتِهم ومصانَعتِهم .
يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ.
أي: يقولُ هؤلاء المنافقون: إنَّما نسارعُ في موالاةِ هؤلاء اليهودِ والنصارَى؛ خوفًا من أنْ تقعَ علينا نائبةٌ من نوائبِ الدَّهرِ فنَهلِكَ- كما لو لَحِقتْنا هزيمةٌ بظَفَرِ الكفَّارِ بالمسلمين- فتكونُ لنا أيادٍ عندَهم فتَنفَعُنا؛ لذا نتَّخذُهم أصدقاءَ نُحافظُ على صداقتهم؛ فننالُ منهم ما يُؤمِّلُ الصديقُ من صَديقِه .
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ.
أي: فلعلَّ اللهَ أن يأتيَ بالنَّصرِ الذي يُعزُّ به الإسلامَ وأهلَه على الكفَّارِ؛ من اليهود والنصارى وغيرِهم، أو يأتيَ بأمرٍ يكونُ فيه هلاكُ المنافقينَ بقَتْلهم، أو فَضْحِهم وبيانِ مَخازيهم .
فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ.
أي: فيُصبِحَ هؤلاءِ المنافِقون الذين والَوُا اليَهودَ والنَّصارَى على ما أضْمَروا في نُفوسِهم من موالاتهم نادِمين، فحين يأتي نصرُ اللهِ للمسلمين، ويُذِلُّ ويَقهرُ الكافِرينَ، لا تُجْدِي عنهم تلك الموالاةُ شيئًا، ولا تَدفعُ عنهم محذورًا، فيحصُلُ لهم من الغمِّ ما اللهُ تعالى به عليمٌ .
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53).
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ.
أي: ويقولُ المؤمنونُ متعجِّبين مِن حالِ أولئك القومِ بعدَ أن ظهَرَ ما أَضْمَروه، وتبيَّن ما أسرُّوه: أهؤلاءِ الذين حلَفوا لنا باللهِ، وأكَّدوا حَلِفَهم، وغلَّظوه بأنواعِ التأكيدات: أنَّهم معنا في الإيمانِ، وما يلزمُه من نُصرةٍ ومحبَّةٍ ؟!
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ.
أي: بطَلتْ أعمالُهم التي عَمِلوها في الدُّنيا، فلا ثوابَ لها ولا أجرَ، فخابتْ صفقَتُهم، وفاتَهم مقصودُهم، وحضرَهم الشقاءُ والعذابُ فهلَكوا

.
الفوائد التربوية:

1- تصدير الخِطاب بالنِّداء، في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ فيه بيانُ أهميَّة تجنُّبِ اتِّخاذِ الأولياءِ من اليهودِ والنَّصارى، وأنَّ تجنبَ ذلك مِن مقتَضَياتِ الإيمان، وأن اتِّخاذَهم أولياءَ يُوجِبُ نقصَ الإيمان، وربَّما يُوجِبُ محوَ الإيمانِ وزوالَه كلِّه؛ قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
.
2- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ بيانُ أنَّ النصارى واليهود وسائرَ الكفَّار بعضُهم أولياءُ بعضٍ في مضادَّة المسلمين- على أحد الأقوال في التفسير- ومِن ثَمَّ فيجبُ على المسلمين الحذرُ من أعدائِهم، وأن يَدَعُوا الخلافاتِ التي بينهم؛ حتى يكونوا يدًا واحدةً على أعدائِهم .
3- يُستفادُ من قولِه: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ أنَّه يجوزُ للمرءِ أن يُجري الكلامَ على سبيلِ التعجُّبِ فيمَن يستحقُّ العَجَب منه، ولا يُعدُّ ذلك مِن بابِ الغِيبة؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذكَر هذا عن المؤمنينَ، ولم يُنكِرْه عليهم

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- قوله تعالى: لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ... الآية، فيه انقطاعُ الموالاةِ بينَ المسلمينَ والكفَّار، فلا توارُثَ بينهم ولا عَقل، ولا ولاية نكاحٍ
.
2- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تعليلٌ للوعيدِ في قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وبيانٌ لسببه؛ وهو أنَّ مَن يُوالي أعداءَ المؤمنين الذين نَصَبوا لهم الحربَ، وينصرُهم أو يستنصرُ بهم فهو ظالمٌ بوضْعه الوَلايةَ في غيرِ موضعها، ولن يَهتديَ مثلُه إلى الحقِّ والنَّجاة أبدًا ، إذا أصرَّ على ذلك.
3- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ أنَّ كلَّ مَن يُسارِعُ في موادَّةِ الكافرينَ وفي مناصرتِهم ففي قلبِه مَرَضٌ، ويَنبني على ذلك أنَّ هذا المَرَضَ ربَّما يتضاعَفُ حتى يصلَ إلى الكُفْر- والعياذُ باللهِ .
4- يُستفاد من قولِه: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ أنَّ الذين في قُلوبهم مرضٌ- وهم المنافِقون- يُسارِعونَ في مُوادَّةِ الكافِرين .
5- أنَّ مَن أشار على وُلاةِ الأمورِ بالمسارعةِ في موادَّة الكفَّارِ وفي مناصرتِهم، فإنَّ فيه شبهًا من هؤلاء المنافقينَ؛ لقوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ... .
6- ضعْفُ توكُّلِ المنافقينَ على اللهِ وأنَّهم إنَّما يتوكَّلون على الأمورِ المادِّيَّة التي يظنُّون فيها النصرَ؛ لقوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ .
7- بشارةُ المؤمنينَ بأنَّ الفتحَ والنَّصر سيكونُ لهم؛ لقوله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ؛ فـَعَسَى مِن الله واجبةٌ؛ لأنَّ الكريم إذا أطْمَعَ في خيرٍ فَعَلَه، فهو بمنزلةِ الوعدِ؛ لتعلُّقِ النَّفسِ به ورَجائِها له .
8- أنَّ المنافِقَ لا بدَّ أن يَفضحَه اللهُ؛ لقوله: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ .
9- تحذيرُ المنافقين ممَّا سيقعُ بهم مِن النَّدمِ على ما أسرُّوا في أنفسِهم؛ لقوله: فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ .
10- لَمَّا كان الإسرارُ لا يكون إلَّا لِمَا يُخشَى من إظهارِه فسادٌ، وكان يُطلَقُ على ما دار بين جماعةٍ خاصَّة على وجهِ الكِتمانِ عن غيرهم- بيَّن أنَّه أدقُّ من ذلك، وأنَّه على الحقيقةِ مَنَعَهم خوفُهم من غائلتِه وغِرَّته عندَهم أن يُبرزوه إلى الخارجِ، فقال: فِي أَنْفُسِهِمْ .
11- ممَّا يُستفادُ مِن الآياتِ: كذبُ المنافقين، وأنَّهم يُروِّجون باطلَهم ونفاقَهم بالأيمانِ؛ قال تعالى: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ .
12- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ أنَّ المنافقين يُقسِمون باللهِ ويُظهِرون تعظيمَ الله، كما أنَّهم يَذكُرون اللهَ ويُصلُّون ويتصدَّقون، لكنْ كلُّ هذا لا يَنفعُهم؛ فعَمَلُهم حابطٌ لعدمِ الإيمانِ في قلوبِهم .
13- أنَّ المنافقَ مهما ظنَّ من الرِّبحِ فإنَّه خاسرٌ؛ لقوله: فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ، ووجه ذلك: إنْ فضَحَه اللهُ في الدُّنيا تبيَّن وخَسِر، وصارَ مكروهًا عندَ الناس، وإنْ لم يَفضَحْه اللهُ في الدُّنيا ففي الآخِرة، وحينئذٍ لا يكونُ منتفعًا بدُنياه؛ لأنَّه خسِرَ الدُّنيا والآخِرة

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الجملةُ مستأنَفةٌ مَسوقةٌ لتعليلِ النَّهي، وتأكيدِ إيجابِ الاجتنابِ عن المنهيِّ عنه
.
2- قوله: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ الإجمالُ فيه مبالغةٌ في التَّحذيرِ مِن موالاتِهم في وقتِ نُزولِ الآيةِ، وفيه: تشبيهٌ بليغٌ، أي: فهو كواحدٍ منهم في استحقاقِ العذابِ- على أحدِ الوجوهِ في التفسيرِ .
3- قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تذييلٌ للنهي، وموقعُ الجملةِ يَقتضي أنَّ اليهودَ والنصارى مِن القومِ الظالِمينَ بطريقِ الكِناية .
4- قوله: يُسَارِعُونَ فِيهِمْ إيثارُ التعبيرِ بـفِيهِمْ على (إلى)؛ للمبالغةِ في بيانِ رغبتِهم فيها وتهالُكِهم عليها، فكلَّما سنَحتْ لهم فرصةٌ لتوثيقِ وَلائِهم وتأكيدِه ابتَدَروها؛ وللدَّلالةِ على أنَّهم مستقرُّون في الموالاةِ، وإنَّما مسارعتُهم من بعضِ مراتبها إلى بعضٍ آخَر منها، فهم يُسارِعونَ في أعمالِ موالاتِهم مسارعةَ الداخلِ في الشَّيء، الثابِتِ عليه، الرَّاغِبِ فيما يَزيدُه تمكُّنًا وثباتًا، كما في قوله تعالى: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [المؤمنون: 61] ، لا أنَّهم خارجُون عنها متوجِّهون إليها، كما في قوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: 133] .
5- قوله: أَهؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ... الاستفهامُ في أَهؤُلَاءِ مُستعمَل في التعجُّب مِن نفاقهم، والعجب هو قَسمُهم أنَّهم معهم، وقد دلَّ هذا التعجُّبُ على أنَّ المؤمنين يظهر لهم مِن حالِ المنافقينَ يومَ إتيانِ الفتْحِ ما يَفتضحُ به أمرُهم، فيعجبونَ مِن حَلِفهم على الإخلاصِ للمؤمنين .
6- قوله: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ فيه ما يُعرَف في البَلاغة بالإغرابِ والطرفة أو النوادر ، والآيةُ الكريمة مِن قسم لا يكون الإغرابُ في معناه ولا في ظاهرِ لفظِه، بل في تأويلِه، ففي هذه الآية قد يتوهَّم متوهِّمٌ أنَّ لفظة أَصْبَحُوا في الظَّاهر حشوٌ لا فائدةَ فيه؛ فإنَّ هؤلاءِ المُخبَرَ عنهم بالخُسران قد أمْسَوْا في مِثل ما أصبحوا، ومتى قلت: أصبح العسلُ حُلوًا، كانت لفظة (أصبح) زائدةً، من الحَشوِ الذي لا فائدةَ فيه؛ لأنَّه أمْسَى كذلك، والتأويل الذي تَحصُل به الفائدةُ الجليلة التي لولا مجيءُ (أصبح) لم تحصُلْ، هي: لَمَّا كان العليلُ الذي قد بات مُكابدًا آلامًا شديدةً تُعتبر حالُه عند الصَّباح، فإذا أصبح مُفيقًا مُستريحًا من تلك الآلام رُجِيَ له الخيرُ، وغلَب على الظَّنِّ بُرؤُه وإفاقتُه من ذلك المرض، وإذا أصبح كما أمْسَى تَعيَّن هلاكُه، بجَريانِ العادةِ بهيجانِ الإعلالِ في اللَّيل، وسُكونِه عند الصَّباح، وشُبِّهت حالُ الأشقياءِ بالعَليلِ الذي أَصبحَ من الألَم على ما أمْسى؛ فهو ممَّن يُيْئَس من إصلاحِه، وعلى هذا تكونُ لفظة فَأَصْبَحُوا قد أفادتْ معنًى حَسنًا جميلًا، وخرجَتْ عن كونِها حشوًا غيرَ مفيد، ولَمَّا أخبر الله سبحانه بأنه حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ عُلِم بالقطع أنَّهم أصبحوا خاسرينَ، فلفظة أَصْبَحُوا لا يَصلُح غيرُها في موضعها، ولا يتمُّ المعنى إلَّا بها ، وقيل: لَمَّا كانتِ المصيبةُ عند الإصباحِ أَعظمَ عبَّر به، وإنْ كان المرادُ التَّعميمَ .


===========20.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (54 - 56)
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ
غريب الكلمات :

يَرْتَدَّ: أي: يَرجِعْ مِن الإسلامِ إلى الكُفر، مِن الرِّدَّة والارتدادِ، والرِّدَّةُ تختصُّ بالكُفر، والارتداد يُستعمَلُ فيه وفي غَيرِه
.
أَذِلَّةٍ: أي: لَيِّنِين لهم، مِن قولهم: دابَّةٌ ذَلولٌ، أي: مُنقادةٌ ليِّنةٌ سهلةٌ، وأصلُ الذُّلِّ: الخُضوعُ والاستكانةُ واللِّين، وهو ضِدُّ العِز .
أَعِزَّةٍ: يُغالِبونَ الكفَّارَ ويمانعونهم، يُقال: عزَّه يعُزُّه عزًّا إذا غَلَبه؛ من العَزازِ: وهي الأرض الصُّلبة، وأصل العِزَّة: الشِّدَّة والقوَّة وأمثالهما مِن الغَلبة والقَهر .
فَضْلُ اللهِ: عطاؤُه، وأصلُ الفضل الزِّيادة؛ وكلُّ عطيةٍ لا تَلزمُ مَن يُعطِي، يُقال لها: فضلٌ، والإفضالُ: الإحسانُ .
حِزْبَ اللهِ: أي: أنصارَ اللهِ، أو جُنْدَه وجموعَه، والحزبُ: جماعةٌ فيها غِلَظ، وقيل: الحزب: الوليُّ، واشتقاقُه من قولهم: تحزَّب القومُ، أي: اجتَمَعوا، وأَصْلُ (حزب): يدلُّ على تجمُّعِ شيءٍ

.
المعنى الإجمالي:

يُبيِّن اللهُ سُبحانَه للمُؤمنين أنَّ مَن يَرجِعْ منهم عن دِينِه الحقِّ إلى الكُفر، فسوف يأتي اللهُ- عِوَضًا عمَّنِ ارتدَّ- بقومٍ خيرٍ منهم، مِن صفاتهم أنَّهم يحبُّهم اللهُ سبحانه وتعالى ويُحبُّونه، وأنهم رحماءُ بإخوانهم المؤمنين، مُتواضِعون لهم، أشدَّاءُ على الكافِرين، يُقاتلونَ في سبيلِ اللهِ ولإعلاء كلمته، وإعزازِ دينه، وأنَّهم في حِرصِهم على ما يُرضي اللهَ سبحانه لا يَخافون لومًا من أيِّ لائمٍ، ثم بيَّن تعالى أنَّ ما هم فيه مِن الصِّفاتِ الحميدة، والمناقِب الجَليلةِ المذكورةِ هي مِن فضْلِه جلَّ وعلا، وفضلُ اللهِ يُؤتيه مَن يشاء، وهو سبحانه واسعٌ عليمٌ.
ثم بَيَّن سبحانَه مَن تجِبُ موالاتُهم، بعدَ النَّهى عن تولِّى مَن تجبُ معاداتُهم، فقال: إنَّما وليُّكم الله- فلا ناصرَ لكم إلَّا هو سبحانه وتعالى، فهو المرجوُّ وحدَه في الشَّدائدِ- ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- الذي أخرجكم الله به مِن الكفرِ إلى الإيمانِ- والمؤمنونَ الذين يُقيمونَ الصَّلاةَ على وجهِها، ويُعطون الزكاةَ لمستحقِّيها، وهم خاضعونَ ذليلون للهِ، ثم بيَّن سبحانه حُسنَ عاقبةِ الذين يوالون اللهَ ورسولَه والمؤمنين بأنَّ مَن يتَّخذِ اللهَ ورسولَه والمؤمنينَ أولياءَ فإنَّه من أنصارِ الله، وأنصارُه عزَّ وجلَّ هم الغالِبون.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا نهَى تعالى عن موالاةِ اليهودِ والنَّصارى، وبيَّن أنَّ موالاتَهم مستدعيةٌ للارتدادِ عن الدِّين بقولِه: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وقوله: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ - شرَع في بيانِ حالِ المرتدِّين على الإطلاقِ
.
وأيضًا لـمَّا نهَى اللهُ تعالَى عن مُوالاةِ اليهودِ والنَّصارى، وأخبَر أنَّ فاعلَها منهم- عقَّب ذلك بالإشارةِ إلى أنَّ اتخاذَ اليهودِ والنَّصارى أولياءَ ذريعةٌ للارتدادِ، وأنبأَ المتردِّدين ضعفاءَ الإيمانِ بأنَّ الإسلامَ غنيٌّ عنهم، إن عزموا على الارتدادِ إلى الكُفْر ، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، مَن يرجِعْ منكم عن دِينِ الحقِّ إلى الباطلِ، فيُبدلْه بدخولِه في الكفرِ كأنْ يتهوَّدَ أو يتنصَّر .
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.
أي: فلن يَضرَّ اللهَ شيئًا، وإنَّما يضرُّ نفْسَه؛ فإنَّ الله تعالى سيأتي بدلًا من الَّذين ارتدُّوا بقومٍ خيرٍ منهم، أكملَ منهم أوصافًا، وأحسنَ أخلاقًا، وأقوى نفوسًا؛ أجلُّ صِفاتهم أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّهم، وأنَّهم يُحبُّونَه سبحانه وتعالى ، (كأبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، وأصحابِه الذين قاتلوا المرتدِّين) .
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
أي: ومِن صِفاتِهم أنَّهم رُحَماءُ بإخوانِهم المؤمنين، ذَوُو رأفةٍ ورفقٍ بهم، وشفقةٍ وحُنوٍّ عليهم، وتواضعٍ لهم .
كما قال سبحانه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] .
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ.
أي: ومِن صِفاتهم أيضًا أنَّهم أشدَّاءُ على الكافرينَ، ذَوُو قَسوةٍ وغِلظةٍ عليهم، يُظْهِرون للكفَّارِ القُوَّةَ والعِزَّةَ بما هم عليه من الدِّين .
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
أي: ومِن صِفاتهم أيضًا أنَّهم يُقاتلونَ أعداءَ اللهِ تعالى بأموالِهم وأنفسِهم وأقوالِهم وأفعالِهم؛ لتكونَ كلمتُه سبحانه هي العُليا، لا يردُّهم عن هذا المقصدِ رادٌّ، ولا يَصدُّهم عن هذا المطلبِ صادٌّ، بل يُقدِّمون رِضا ربِّهم، والخوفَ مِن لومِه على لومِ المخلوقين .
عن عُبادةَ بنِ الصَّامت رَضِيَ الله عنه، قال: (بايَعْنا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على السَّمْعِ والطاعةِ في المَنْشَطِ والمَكْرَهِ، وألَّا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، وأن نقومَ- أو نقولَ- بالحقِّ حيثُما كُنَّا، لا نَخافُ في اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ .
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا مدَحَهم اللهُ تعالى بما مَنَّ به عليهم مِنَ الصِّفاتِ الجليلةِ، والمناقِبِ العالِيَة، المستلزِمة لِمَا لم يُذكَرْ مِن أفعالِ الخيرِ- أخبرَ أنَّ هذا مِن فضلِه عليهم وإحسانِه؛ لئلَّا يُعجَبوا بأنفسِهم، ولِيَشكروا الذي مَنَّ عليهم بذلك؛ ليزيدَهم من فضلِه، وليعلمَ غيرُهم أنَّ فضلَ الله تعالى ليس عليه حجابٌ ، فقال تعالى:
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
أي: هذه الصِّفاتُ التي نَعتَهم بها اللهُ تبارك وتعالى؛ فضلٌ منه وإحسانٌ تَفضَّلَ به عليهم، وتوفيقٌ منه لهم، واللهُ يُؤتي فضلَه مَن يشاءُ مِن خلقِه، بما تَقتضيه حِكمتُه سبحانه .
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أي: واللهُ تعالى واسعٌ في جميعِ صِفاتِه، ومِن ذلك سَعةُ عَطائِه وفَضلِه وإحسانِه، عليمٌ بمَن يستحقُّ ذلك فيُعطِيه .
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهى اللهُ تعالى عن ولايةِ الكفَّارِ من اليهودِ والنَّصارى وغيرِهم، وذكَر مآلَ تولِّيهم أنَّه الخسرانُ المُبين- أخبر تعالى بمَن يجبُ ويتعيَّن تولِّيه، وذَكَر فائدةَ ذلك ومصلحَتَه ، فقال:
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا.
أي: ليس لكم- أيُّها المؤمنون- ناصرٌ إلَّا اللهُ تعالى ورسولُه عليه الصَّلاة والسَّلام والمؤمنون، فأمَّا اليهودُ والنَّصارى، فليسوا لكم بأولياءَ ولا نُصَراءَ .
كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 11]. وقال سبحانه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71] .
ثمَّ ذكَر اللهُ تعالى صِفاتِ المؤمنينَ الذين تَنبغي ولايتُهم، فقال عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ.
أي: وهم الذين اتَّصفوا- بالإضافةِ إلى إيمانِهم- بأداءِ الصَّلاةِ بشُروطِها وواجباتِها وأركانِها ومستحبَّاتها، وببَذْلِ الزكاةِ من أموالِهم، لأهلِها المستحقِّين لها .
وَهُمْ رَاكِعُونَ.
أي: ومِن صِفاتهم أيضًا: أنَّهم للهِ تعالى خاضِعون ذَليلون، وله مُنقادُون .
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56).
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا.
أي: أيُّ امرئٍ يتَّخذِ اللهَ تعالى ورسولَه وعِبادَه المؤمنينَ أولياءَ له .
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ.
أي: فإنَّه مِن أنصارِ اللهِ تعالى، وأنصارُه هم المُفْلِحون المنصورون، الذين لهم العاقبةُ في الدُّنيا والآخِرة

.
كما قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171- 173] .
الفوائد التربوية:

1- في قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ الثَّناءُ على مَن كان ذليلًا على المؤمنين، وهو الذي يَخفِضُ جناحَه لهم ويتطامَن ويتواضَع؛ فإنَّ هذه من الصفاتِ التي يحبُّها الله عزَّ وجلَّ، أما ترفُّعُ الإنسانِ على إخوانِه المسلمينَ فليس محمودًا عندَ اللهِ، بل ولا عندَ الخَلْق؛ وكلَّما ازدادَ الإيمان ازدادَ التواضع، وكلَّما ازدادَ العِلمُ ازدادَ التواضعُ
.
2- قال تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ... يُفهم من هذه الآياتِ أنَّ المؤمنَ يجبُ عليه ألَّا يَلينَ إلَّا في الوقتِ المناسِب للِّين، وألَّا يشتدَّ إلَّا في الوقتِ المناسب للشدَّة؛ لأنَّ اللِّينَ في مَحلِّ الشدَّةِ ضَعْفٌ وخَوَرٌ، والشدَّةَ في محلِّ اللِّين حُمقٌ وخَرَق، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
إذا قِيلَ حِلْمٌ قُلْ فلِلْحِلْمِ مَوضِعُ [ وحِلْمُ الفَتَى في غَيرِ مَوْضِعِه جَهْلُ ]
وفيها إيماءٌ إلى أنَّ صِفاتِهم تُسيِّرُها آراؤُهم الحصيفةُ؛ فلَيْسُوا مُندفِعين إلى فِعلٍ ما إلَّا عن بصيرةٍ، ولَيْسُوا ممَّن تنبعِثُ أخلاقُه عن سَجيَّةٍ واحدةٍ بأنْ يكون ليِّنًا في كلِّ حالٍ، وهذا هو معنى الخُلُق الأقوم، وهو الذي يكونُ في كلِّ حالٍ بما يُلائِم ذلك الحالَ .
3- قَوْلُه: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ فيه الثناءُ على عِزَّة النَّفسِ وقوَّة الشخصيةِ أمامَ الكفَّار، وأنْ نكونَ أعِزَّةً عليهم، نرى في أنفسنا العلوَّ عليهم، والظهورَ عليهم لا بذَواتِنا، ولكن بما معنا من الدِّين .
4- الإشارةُ إلى الإخلاصِ؛ لقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لأنَّ الجهاد- وهو القِتالُ- يحملُ عليه عِدَّةُ أسباب، والجهادُ المحمودُ هو الجهادُ في سبيلِ اللهِ .
5- أفاد قوله تعالى: وَهُمْ راكِعُونَ بعد قوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أنَّه لا بدَّ أنْ يقترنَ بهذه الأعمالِ الصالحةِ الذلُّ والخضوعُ للهِ عزَّ وجلَّ، بحيث يَشعرُ الإنسانُ أنَّه مُتعبِّدٌ للهِ خاضعٌ له، وهذا يَفوتُ كثيرًا من النَّاسِ؛ فيؤدِّي الواحدُ منهم العبادةَ على أنَّها مفروضةٌ عليه فقط، ولا يَشعُرُ بأنَّه متعبِّدٌ لله بذلك .
6- قوله: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ، لم يقُلْ عزَّ وجلَّ: (ومَن يتولَّ اللهَ ورسولَه والذِين آمنوا فإنَّه الغالب)، بل قال: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ؛ ليكون دالًّا على شَيئين: الشيء الأوَّل: أنَّ مَن تولَّى اللهَ ورسولَه والذين آمنوا فهو مِن حزبِ اللهِ. الشيء الثاني: إرادةُ العمومِ أنَّ حزبَ اللهِ لا بدَّ أن يكون غالبًا؛ لأنَّ دِينَ الله لا بدَّ أن يكون غالبًا، فالمتمسِّك بدِين الله؛ هو مِن حِزبِ الله، وهو غالبٌ ولا بدَّ، لكنَّ الغَلَبَة قد تكونُ في حالِ الحياةِ، وقدْ تكون بعدَ الموتِ؛ ولهذا نجِدُ الأئمَّةَ الذين لم يُقدَّرْ لهم أن يَظهروا ظهورًا كاملًا في حياتِهم؛ ظَهَروا ظهورًا كاملًا بعدَ وفاتِهم؛ كالإمام أحمد، وابن تيميَّة، وغيرِهما من العلماءِ والأئمَّة، الذين لَحِقَهم من الإهانةِ مِن وُلاةِ السُّوءِ ما لَحِقَهم، وكانتِ الغَلَبَةُ لهم؛ إمَّا في الحياةِ، وإمَّا بعدَ الممات .
7- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ أنَّ للهِ تعالى حِزبًا، وحزبُه الذي يُقابِلُ حَربَه؛ لأنَّ اللهَ له حِزبٌ وله حَرْبٌ، فمَن أقام على شريعتِه فهو حِزبُه، ومَن خالَفَ شريعتَه فهو حَربُه، فإعلانُ المخالفةِ حربٌ لله، لا سيَّما فيما نصَّ على أنه حربٌ لله عزَّ وجلَّ، كالرِّبا وقَطْع الطريقِ، وما أشبهها .
8- في قوله تعالى: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ بشارةٌ عظيمة لِمَن قام بأمْرِ الله وصارَ مِن حِزبِه وجُندِه، أنَّ له الغَلَبةَ، وإنْ أُديلَ عليه في بعض الأحيان لحِكمةٍ يُريدها الله تعالى، فآخِرُ أمرِه الغَلَبةُ والانتصارُ، ومَن أصدقُ من الله قيلًا

؟!
الفوائد العلمية واللطائف:

1- التَّحذيرُ مِن الرِّدَّة؛ لقوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ...
.
2- يُستفادُ من قولِه: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أنَّ الله غنيٌّ عن العِباد؛ فلو ارتدَّ قومٌ جاء الله بقومٍ آخرينَ؛ كما قال الله: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .
3- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ... مِن أدلِّ الدَّلائلِ على فسادِ مذهبِ الإماميَّة مِن الرَّوافضِ؛ فمذهبُهم أنَّ الذين أقرُّوا بخِلافة أبي بكرٍ وإمامَتِه كلهم كَفَروا وصاروا مرتدِّينَ، فنقول: لو كان كذلك لجاءَ اللهُ تعالى بقومٍ يُحارِبونهم ويَقهرونهم ويردُّونهم إلى الدِّين الحقِّ؛ بدليل قوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ... إلى آخِر الآية، وكلمةُ (مَن) في معرضِ الشَّرْط للعمومِ، فلو كان الذين نَصَّبوا أبا بكر للخلافةِ قد ارتدُّوا لوجَبَ بحُكم الآيةِ أنْ يأتيَ اللهُ بقومٍ يقهرونهم، ويُبطِلون مَذهبَهم، ولَمَّا لم يكُنِ الأمرُ كذلك، بل الأمرُ بالضدِّ؛ فإنَّ الروافضَ هم المقهورونَ المَمْنوعونَ عن إظهارِ مَقالاتِهم الباطلةِ أبدًا منذ كانوا- عَلِمْنا فسادَ مَقالتِهم ومذهبِهم، وهذا كلامٌ ظاهرٌ لِمَن أَنصَفَ .
4- أنَّ المرتدِّين مَبغوضونَ عندَ اللهِ؛ لقوله: فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ .
5- قوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ... مِن الكائناتِ التي أخْبَر عنها في القرآنِ قبلَ كونِها، وقد وقَع المخبَرُ به على وَفْقِها، فيكون معجزًا .
6- إثباتُ أفعالِ اللهِ الاختياريَّة، يعني: التي يَفعلُها سُبحانَه باختياره؛ لقوله: فَسَوْفَ يَأتِي وسوف: للمُستقبَل .
7- إثباتُ المحبَّةِ مِن اللهِ وللهِ؛ مِن اللهِ في قوله: يُحِبُّهُمْ، وللهِ في قوله: وَيُحِبُّونَهُ، وهذه الآية جمَعتْ بين محبَّة اللهِ لعبادِه الصالحين، ومحبَّةِ العبادِ الصالحين للهِ .
8- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ أنَّه يَنبغي للإنسانِ ألَّا تأخذَه في اللهِ لومةُ لائمٍ؛ فما دام على حقٍّ، فلا يُهمَّنَّه أحدٌ؛ لأنَّه لا بدَّ لكلِّ عابدٍ من عدوٍّ، لكن ذلك مع وجوبِ الحِكمة؛ لأنَّ التهوُّرَ يَحصُل منه انعكاسُ المقصودِ .
9- قولُه: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فيه أنَّ خوفَ الملامةِ ليس عذرًا في تركِ أمرٍ شرعيٍّ .
10- يُستفادُ من قولِه: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ أنَّ الوصفَ بالمحبَّة، والذلَّة، والعِزَّة، والمجاهَدة، وانتفاءِ خوفِ اللائمة- حصَل بفضلِ الله تعالى، وهذا يدلُّ على أنَّ طاعاتِ العبادِ مخلوقةٌ للهِ تعالى .
11- قال تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ، ولم يقُل: (أولياؤكم) للتنبيهِ على أنَّ الولايةَ للهِ على الأصالةِ، ولرسولِه وللمؤمنينَ على التَّبَع؛ إذ التقديرُ: إنَّما وليُّكم اللهُ وكذا رسولُه والمؤمنونَ، ولو قيل: (إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا) لم يكُن في الكلامِ أصلٌ وتبَعٌ .
12- يُستفادُ من قولِه: وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ فضيلةُ الصَّلاةِ؛ لأنَّ الصَّلاةَ دائمًا في المقدِّمة، فهي أفضلُ العبادات بعدَ التوحيدِ، والشهادةِ بالرِّسالة .
13- يُستفادُ من قولِه: وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أنَّ مرتبةَ الزكاةِ في دِينِ الإسلامِ بعدَ مرتبةِ الصَّلاةِ، وهكذا في الآياتِ الكريمةِ وفي الأحاديثِ النبويَّة؛ تأتي الزكاةُ بعد الصَّلاةِ .
14- لَمَّا كان لقَبُ الَّذِينَ آمَنُوا يشملُ كلَّ مَن أسلمَ في الظاهرِ، وصَفَ هؤلاء الأولياءَ بقولِه: وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، أي: دون المنافقين الذين قالوا آمنَّا بأفواهِهم، ولم تُؤمنْ قلوبُهم، والذين يأتون بصورةِ الصَّلاةِ دون رُوحِها ومعناها، فإذا قاموا إليها قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142] .
15- الثَّناءُ التامُّ على رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى المؤمنين، وأنَّ تولِّيَهم من أسبابِ الغَلَبَة، أمَّا تولي اللهِ فهو شأنٌ فوقَ ذلك؛ لقوله: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ جملةٌ معترِضة بين ما قَبلَها وبين قوله: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ دعَت لاعتراضِها مناسبةُ الإنذارِ في قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
.
2- قوله: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ
- فيه مناسَباتٌ حَسنةٌ لطيفةٌ في التَّقديمِ والتَّأخيرِ؛ حيث قَدَّمَ مَحبَّةَ اللهِ تعالى لهم يُحِبُّهُمْ على مَحبَّتهم له وَيُحِبُّونَهُ؛ لشَرفِ مَحبَّةِ الله لهم، وسَبْقِها على مَحبَّتهم إيَّاه. وقدَّمَ الوَصْفَ بالمحبَّةِ مِنهم ولهم على وَصْفِهم بأذلَّةٍ على المؤمِنِين، وأَعِزَّة على الكافِرين؛ لأنَّهما ناشِئتانِ عن المحَبَّتَينِ. ولَمَّا كان الوصفُ الذي بَينَ المؤمِن وربِّه أشرفَ مِن الوصفِ الذي بَينَ المؤمِن والمؤمِن؛ لِذَا قدَّم قولَه: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ على قولِه: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وقدَّمَ وَصْفَهم المتعلِّقَ بالمؤمِنينَ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ على وصْفِهم المتعلِّقِ بالكافرينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ؛ لأنَّ المتعلِّقَ بالمؤمِنينَ آكَدُ وألزَمُ من المتعلِّقِ بالكافِرين، ولشَرفِ المؤمنِ أيضًا .
- ووقَعَ الوَصفُ في جانبِ المحبَّةِ بالجُملةِ الفِعليَّة يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ؛ لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ، وهو مُناسبٌ؛ فإنَّ محبَّتهم للهِ تعالى تُجَدِّدُ طاعاتِه وعبادتَه كلَّ وقتٍ، ومَحبَّةُ اللهِ إيَّاهم تُجَدِّدُ ثوابَه وإنعامَه عليهم كلَّ وقتٍ، بَيْنمَا وقَع الوَصفُ في جانبِ التواضُعِ للمُؤمنين والغِلظة على الكافِرينَ بالاسمِ الدالِّ على المبالَغةِ؛ دَلالَةً على ثُبوتِ ذلك واستقرارِه، وأنَّه عزيزٌ فيهم؛ فالاسمُ يدلُّ على الثُّبوتِ والاستقرارِ .
- ولَمَّا كان ذلُّهم هذا إنَّما هو الرِّفقُ ولِينُ الجانبِ لا الهوانُ، كان في الحقيقةِ عِزًّا، فأشارَ إليه بحَرْفِ الاستعلاءِ (على)، في قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ ففيه مناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث جاء التعبير بـعَلَى وليس باللام، فلم يقل: (أذلَّة للمؤمنين)؛ لأنَّه قد ضُمِّن الذُّلُّ معنى الشَّفقة والحُنوِّ والعطَف، مُبيِّنًا أنَّ تواضُعَهم عن علوِّ منصبٍ وشرفٍ، كأنَّه قيل: عاطِفين عليهم على وجْه التَّذلُّلِ والتواضُع، أو: أنَّهم مع شَرفِهم وعلوِّ طبقتِهم وفضلِهم علَى المؤمنينَ خافِضونَ لهم أجنِحَتَهم .
3- وقوله: وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فيه: تعريضٌ بالمنافقين؛ فإنَّهم كانوا إذا خرَجوا في جيشِ المسلمين خافوا أولياءَهم اليهودَ، فلا يكادون يَعمَلون شيئًا يَلحَقُهم فيه لَوْمٌ من جِهَتِهم .
- وفي تنكيرِ لَوْمَةَ لَائِمٍ مبالغةٌ، كأنَّه قيل: لا يَخافون شيئًا قطُّ مِن لومٍ أحدٍ من اللُّوَّام ، ولَوْمَة للمرَّة الواحدةِ من اللَّومِ، وهي نَكِرةٌ في سياقِ النفي؛ فَتَعُمُّ؛ فهم لا يَخافون جميعَ أنواعِ اللَّومِ مِن جميعِ اللَّائِمين .
4- قوله: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ تذييلٌ، وفيه إشارةٌ إلى ما تقدَّمَ من الأوصافِ الجليلةِ، والتعبيرُ باسم الإشارةِ ذَلِكَ وما فيه من معنى البُعد؛ للإيذانِ ببُعد منزلتِها في الفَضلِ .
5- قوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مُقرِّر لِمَا قبله، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ اللهُ في موضِع الإضمار؛ للإشعارِ بالعِلَّة، وتأكيدِ استقلالِ الجُملةِ الاعتراضيَّة .
- وقوله: وَاسِعٌ عَلِيمٌ الواسِع فيه إشارةٌ إلى كَمالِ القُدرة، والعليمُ فيه إشارةٌ إلى كمالِ العِلمِ، وجاء على صِيغة (فعيل)؛ للمبالغة في وصْفه بالعِلم بجميعِ الأشياء التي مِن جُملتِها مَن هو أهلٌ للفضل والتوفيق؛ فلمَّا أخبر الله تعالى أنَّه سيجيء بأقوامٍ هذا شأنُهم وصِفتُهم، أكَّد ذلك بأنَّه كاملُ القُدرةِ؛ فلا يَعجِزُ عن هذا الموعودِ، كاملُ العلم؛ فيمتنع دخولُ الخُلفِ في أخبارِه ومواعيدِه .
6- قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ فيه: وضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمَر- حيث لم يقُل: (فإنَّهم هم الغالبون)- وفائدة وضْع الظاهرِ موضعَ المضمَرِ هنا الإضافةُ إلى اللهِ تعالى، فيُشرَّفون بذلك، ويَصيرون بذلِك أعلامًا، وفيه تنبيهٌ على البُرهان عليه، فكأنَّه قيل: ومَن يتولَّ هؤلاءِ فهم حزبُ اللهِ، وحزبُ اللهِ هم الغالبون؛ ففيه تنويهٌ بذِكرهم، وتَعظيمٌ لشأنِهم، وترغيبٌ في ولايتِهم، وتعريضٌ لِمَن يُوالي غيرَ هؤلاء بأنَّه حزبُ الشَّيطانِ .


============21.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (57 - 61)
ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ
غريب الكلمات:

هُزُوًا: أي: سُخريًّا واستِهزاءً وتلعبًا
.
تَنْقِمُونَ: تَكْرَهُونَ وتُنكِرون وتَعيبون، مِن نَقِمْتُ الشَّيءَ: إذا أنكرْتَه، إمَّا باللِّسانِ، وإمَّا بالعقوبةِ، وأَصْلُ (نقم): يدلُّ على إنكارِ شيءٍ وعَيبِه .
أُنَبِّئُكُمْ: أُخْبِرُكم، والنَّبأ: الخبرُ الذي له قَدرٌ، وفائدةٌ عظيمةٌ، ويحصُل به علمٌ أو غَلَبَةُ ظنٍّ، وأَصْلُ (نبأ): الإتيانُ من مكانٍ إلى مكانٍ؛ وسُمِّي الخبَرُ نبأً لانتقالِه من مكانٍ إلى مكانٍ .
مَثُوبَةً: أي: جزاءً ثابتًا، أو ثوابًا، وهو عبارةٌ عن المنفعةِ الخالِصةِ المقرونةِ بالتعظيمِ، والمثوبةُ مختصَّةٌ بالخيرِ؛ كما أنَّ العقوبةَ مختصَّةٌ بالشرِّ .
لَعَنَهُ: طَردَه وأبْعَدَه، واللَّعْن: الطردُ والإبعادُ على سَبيل السَّخطِ .
الطَّاغُوتَ: الطَّاغُوتُ هو كُلُّ ذِي طُغْيَانٍ عَلَى الله، فكلُّ مَعْبُودٍ مِن دُونِ الله إذا لم يَكُنْ كارِهًا لذلك: طاغوتٌ؛ إنَسانًا كان ذلك المعبودُ، أو شَيْطانًا، أو وَثنًا، أو صَنَمًا كَائِنًا ما كان من شيءٍ، والمُطاعُ في معصيةِ اللَّهِ طاغوتٌ، وكذلك السَّاحِرُ والكاهِنُ، واشتقاقُه من الطُّغْيان: وهو الظُّلْم والبغْيُ، يقال طَغَا فُلانٌ يَطْغَى: إذا عَدا قَدْرَه فتجاوَز حَدَّه

.
مشكل الإعراب:

1- قوله: لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ
وَالْكُفَّارَ: قُرِئ بالنَّصب وبالجرِّ؛ فعلى النَّصب فهو عطفٌ على الَّذِينَ المنصوبة في قوله: لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا...، أي: لا تَتَّخِذوا المُسْتَهْزئينَ ولا الكُفَّار أولياءَ؛ فيَخرُجون مِن الوَصفِ بالهزُء واللَّعبِ. وعلى الجرِّ فهو عَطفٌ على الَّذِينَ المجرورةِ في قولِه: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا؛ ومعناها: أنَّه نَهاهُم أن يَتَّخِذوا المُستهزئينَ أولياءَ، وبيَّنَ أنَّ المُستهزئينَ صِنفانِ: أهلُ كِتابٍ مُتقَدِّمٍ؛ وهم اليَهودُ والنَّصارى، وكُفَّارٌ عبَدَةُ أوثانٍ؛ فيكونونَ موصوفينَ باللَّعب والهزء، كما وُصِف به الَّذين أُوتوا الكِتابَ؛ والمعنيانِ صَحيحانِ
.
2- قوله: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ: أُنَبِّئُكُمْ فِعلٌ وفاعِلٌ، والكاف مَفعولٌ أوَّلُ، وبِشَرٍّ جارٌّ ومَجرورٌ، وهو في مَحلِّ نَصبٍ مَفعولٌ ثانٍ لـ(أُنَبِّئ) .
مَنْ لَعَنَهُ اللهُ: مَنْ: موصولةٌ بمَعْنَى الذي، وقد حَمَلَ على لفظِها فأفرَدَ في قوله: لَعَنَهُ وعَلَيْهِ، ثمَّ حَمَل على معناها فجَمَع في قوله: مِنْهُمُ القِرَدَةَ. ويجوزُ في إعرابِ مَنْ: أنْ يكونَ في محلِّ رفْع على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، أي: هو مَن لَعَنه اللهُ. ويجوز أنْ يكون مَن في موضِعِ جرٍّ على البَدلِ مِن لَفْظِ بِشَرٍّ بدَلَ الشَّيءِ من الشَّيء، والتقدير: (أَؤُنَبِّئُكُمْ بِمَنْ لَعَنَهُ اللهُ). ويجوزُ أنْ يكونَ في مَوضِع نصْبٍ على البَدلِ مِن مَحلِّ قولِه: بِشَرٍّ؛ إذ محلُّه النَّصبُ، أو في مَوضِع نَصْبٍ بفِعلٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه أُنبِّئُكم، أي: أُعرِّفكم مَن لَعَنَه اللهُ

.
المعنى الإجمالي:

يَنهَى اللهُ تعالى المؤمنينَ عن اتِّخاذِ أعدائِهم حُلفاءَ وأنصارًا وأعوانًا، الذين مِن صِفاتهم أنَّهم يَستهزِئونَ بشعائرِ الدِّينِ القويم ويَحتقرونها؛ مِن اليهودِ والنصارى وغيرِهم من الكفَّارِ، ثم يَأمُرُهم بتقواه في ذلك، إنْ كانوا حقًّا مؤمنينَ.
ثم يُخبِرُ اللهُ تعالى المؤمنين عن بعض مظاهرِ استهزاءِ هؤلاء الأعداءِ بالدِّين، فهم إذا سمِعوا الأَذانَ يُنادَى للصَّلاةِ اتَّخذَها هؤلاءِ الكفارُ من اليهودِ والنصارى، والمشركين سُخريةً ولعبًا؛ وذلك لكونِهم قومًا لا يَعقلونَ.
ثم يَأمُرُ اللهُ نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ لأهلِ الكتابِ: يا أهلَ الكتابِ إنَّكم بمعاداتِكم لنا، وحَرْبِكم علينا، ما تَكْرَهون منَّا، ولا تَعِيبونَ علينا إلا إيمانَنا باللهِ، وبالقرآنِ الذي أُنزِل علينا، وإيمانَنا بما أُنْزِلَ مِن قبلُ كالتَّوراةِ والإِنجيلِ، وأنَّ أكثرَكم فاسقونَ.
ويأمُرُ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَقولَ لهم أيضًا: هل أُخْبِرُكم- يا معشرَ اليهودِ والنَّصارى- بِشَرٍّ جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا مَن طردَهم اللهُ مِن رَحْمتِه، وأنزل عليهم غضبَه، ومسخَ بعضَهم إلى قرودٍ وخنازيرَ، وجعَل منهم مَن عَبَدَ الطاغوتَ؛ هؤلاء المذكورون بهذه الخصال القبيحة هم شرٌّ منزلةً في الدُّنيا والآخِرة مما تظنونه بنا .
ثم يُخبرُ اللهُ الذين آمنوا أنَّ المنافقين من اليهودِ إذا أَتَوهم قالوا لهم كَذِبًا: إنَّهم آمنوا، والحقيقة أنـَّهم متمسِّكون بكُفرِهم، قد دخلوا بكُفرِهم عليكم، وخرَجوا به كما قد دَخَلوا، لم ينفعْهم ما يَسمَعونه عندَكم من العِلم والمواعِظ، واللهُ تعالى هو أعلمُ بما يُسرُّونه ويُخفونَه.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ.
أي: لا تتَّخذوا- أيُّها المؤمنونَ- الَّذين يَستهزِئون بشعائرِ دِينكم، ويَرمُقونها بعينِ الاحتقارِ والسُّخرية، ويعتقدونها ضَربًا من الَّلهوِ والعبثِ في نظرِهم الفاسدِ؛ مِن اليهودِ والنَّصارى ومن سائرِ الكفَّارِ والمشركين- لا تتَّخذوا هؤلاءِ ولا هؤلاءِ أنصارًا لكم وحُلفاءَ وأعوانًا
.
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا نهَى الله تعالى المؤمنين عن اتِّخاذِ أهلِ الكتابِ والكفَّار أولياءَ، أمَرَهم بتقواه؛ فإنَّها هي الحاملةُ على امتثالِ الأوامرِ، واجتنابِ النواهي، أي: اتَّقوا اللهَ في موالاة الكفَّار، ثم نبَّه على الوصفِ الحاملِ على التقوى، وهو الإيمانُ ، فقال تعالى:
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: امتَثِلوا ما أمَرَكم اللهُ تعالى به، واجتنِبوا ما نهاكم عنه، ومن ذلك ترْكُ اتِّخاذِ هؤلاءِ الأعداءِ لكم ولدِينِكم أولياءَ، إنْ كنتم مؤمنين حقًّا بشَرْعِ اللهِ عزَّ وجلَّ الذي اتَّخذَه هؤلاءِ هُزُوًا ولعبًا .
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حَكَى اللهُ تعالى في الآيةِ الأُولى عن أهلِ الكِتابِ والكفَّارِ أنَّهم اتَّخذوا دِينَ المسلمين هُزوًا ولعبًا، ذكَر هاهنا بَعضَ ما يتَّخِذونه مِن هذا الدِّينِ هُزوًا ولعبًا ، فقال:
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا.
أي: وإذا أذَّنْتُم للصَّلاة- أيُّها المؤمنون- سَخِرَ منها هؤلاءِ الكفَّارُ من اليهود والنصارى والمشركين، واعتقدوها ضَربًا من الَّلهوِ والعبثِ .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ.
أي: إنَّما تقَعُ منهم السُّخريةُ بالصَّلاةِ، ويَتَّخذونُها لَعبًا؛ لعدمِ عَقلِهم، ولجهلِهم العظيمِ بربِّهم، وبمعاني عِبادَتِه وحَقيقةِ شرائِعِه، وإلَّا فلو كانتْ لهم عقولٌ راشدةٌ لعظَّموا هذه العبادةَ العظيمةَ .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حَكَى تعالى عنهم في الآيةِ السَّابقةِ أنَّهم اتَّخذوا دِينَ الإسلامِ هُزوًا ولَعِبًا، أمَرَ بسؤالهم: ما الذي تَنقِمون من هذا الدِّينِ، وما الذي تَجِدون فيه ممَّا يوجِبُ اتخاذَه هُزوًا ولعبًا ؟! فقال تعالى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59).
أي: قلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ الذين اتَّخذوا دِينَكم هزوًا ولعبًا من أهل الكِتابِ: يا معشرَ اليهودِ والنَّصارى، ما لكم علينا مِن مطعَنٍ أو عيبٍ إلَّا إيمانُنا باللهِ تعالى وبالقرآنِ الذي أُنزِلَ إلينا وبالكتُبِ الإلهيَّة السابقةِ التي أُنْزِلَت مِن قبلنا، وإلَّا إيمانُنا بأنَّ أكثرَكم خارجونَ عن طاعةِ اللهِ العظيم، ناكِبون عن الطَّريق المستقيم؛ فهل يُعدُّ هذا عيبًا؟! وكيف تَعيبوننا بهذا الذي هو أوجبُ الواجباتِ، وأعظمُ المهمَّات ؟!
كما قال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [البروج: 8-9] .
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بكَّتَ اللهُ اليهودَ والنصارَى، وأقامَ الحُجَّة على هُزْئهم ولَعِبِهم بما تقدَّم، انتقَل عزَّ وجلَّ إلى ما هو أشدُّ تبكيتًا وتشنيعًا عليهم، بما فيه مِن التذكيرِ بسوءِ حالهم مع أنبيائهم، وما كان من جزائِهم على فِسقِهم، وتمرُّدِهم بأشدِّ ما جازَى اللهُ تعالى به الفاسقينَ الظَّالِمين لأنفسِهم، وهو اللَّعنُ والغَضَب، والمسخُ الصوريُّ أو المعنويُّ، وعبادةُ الطاغوتِ .
وأيضًا لَمَّا ذكَر أنَّ أهلَ الكتابِ يعيبونَ المسلمينَ بالإيمانِ باللهِ ورُسُلِه- ذكَر عيوبَ أهلِ الكتابِ في مقابلةِ ذلك ردًّا عليهم ، فقال:
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ.
أي: قل- يا محمَّدُ- هل أنبِّئكم يا أهلَ الكتابِ بشرٍّ عندَ اللهِ مِن الذي نَقَمتُم فيه علينا ثوابًا وجزاءً ؟
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ.
أي: هو مَن طَردَه اللهُ تعالى وأَبْعَدَه مِن رَحمتِه، وأحلَّ عليه غضبَه .
وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ.
أي: ومَسَخَ بعضَهم إلى قردةٍ وخنازيرَ؛ خِزيًا ونكالًا في الدُّنيا .
وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قولِه تعالى: عَبَدَ قِراءتان:
1- عَبُدَ بجَعْل عَبُد اسمًا مُفردًا ليس بجَمْع، على وزن (فَعُل)، الذي يُفيدُ معنى المبالغةِ والكثرةِ؛ فالعَبُدُ هو المبالِغُ في العُبوديةِ المنتهِي فيها؛ كما يُقال: فَطُن وحَذُر، للبليغِ في الفِطنة والحَذَر، فيكون (وَعَبُدَ) اسمًا مُضافًا إلى الطَّاغوتِ، وهو منصوبٌ عطفًا على القِرَدَةَ ، وقيل: إنَّ (عَبُد) جمْع (عَبْد)، أي: خَدَمًا للطَّاغوتِ .
2- عَبَدَ بجَعْل عَبَدَ فعلًا ماضيًا عطفًا على لَعَنَهُ اللهُ ونُصِبَ الطَّاغُوتَ بِه .
وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
أي: ومَن عبَدوا الطَّاغوتَ، (وهو كلُّ ما تجاوزَ به العبدُ حَدَّه مِن معبودٍ أو مَتبوعٍ أو مطاعٍ ورضِي بذلك) .
أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
أي: هؤلاءِ الذين وصَفَهم اللهُ تعالى هُم في الحَقيقةِ شرٌّ مكانًا ومنزلةً في الدُّنيا والآخِرة عند اللهِ تعالى مِنَ المؤمنين؛ الذين نَقَمتُم عليهم إيمانَهم باللهِ وبما أُنزل إليهم وبما أُنزل مِن قَبلِهم، وهم أيضًا أشدُّ بُعدًا عن الطَّريقِ القويم .
وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61).
وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ.
أي: وإذا جاءَكم- أيُّها المؤمنون- هؤلاءِ المنافقون من اليهودِ ، قالوا لكم بألسنتِهم كذبًا ومكرًا: آمنَّا، والحالُ أنَّهم دخلوا وهم مُقيمونَ على كُفْرِهم الذي تَنطوي عليه قلوبُهم .
وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ.
أي: وقدْ خرَجوا بالكُفرِ مِن عندِكم كما دَخَلوا به عليكم، لم يَرجِعوا بمجيئِهم إليكم عن كُفرِهم الكامِنِ فيهم، فلم يَنتفعوا بما قد سَمِعوا منكم من العِلم، ولا نجعتْ فيهم المواعظُ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ.
أي: واللهُ عالمٌ بما انطوتْ عليه قلوبُهم، وإنْ أظهروا للناسِ خلافَ ذلك؛ فإنَّ عالمَ الغيبِ والشَّهادة أعلمُ بهم منهم، وسيُجازيهم على ذلك

.
الفوائد التربوية:

1- التَّحذيرُ التَّامُّ مِن اتِّخاذِ أهلِ الكتابِ والكفَّارِ أولياءَ، وذلك بإثارة الحميَّة والغَيرةِ في قوله: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا؛ لأنَّ أيَّ إنسانٍ يشعرُ بأنَّ شخصًا يَهْزَأُ به في دِينه ويقول: هذا الدِّين لعبٌ لا فائدةَ منه؛ لا شكَّ أنَّه سيثورُ
.
2- أنَّ العِلمَ قد يكون وبالًا على صاحبِه؛ لقوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فإنَّ هؤلاءِ أُعطُوا العِلْمَ، ووُصِفَ لهم الرسولُ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم في التَّوراة والإنجيل وصفًا يَجعلهم يَعرِفونه كما يَعرِفون أبناءَهم، ومع ذلك لم ينفعْهم هذا العلمُ .
3- أنَّ الإيمانَ الحقيقيَّ مُقتضٍ للتَّقْوى؛ لقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
4- يُستفادُ من قولِه: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ تعظيمُ الصَّلاةِ حيث يُنادَى لها، وحتى يَعلمَ الناسُ دُخولَ وقتِها؛ فيُصلُّوا ويحضُروا إنْ كانوا ممَّن يجِبُ عليهم الحضورُ للجماعة .
5- أنَّ القيام بالصَّلاة دليلٌ على كمالِ العقل، وأنَّ مَن لم يهتمَّ بها فإنَّ ذلك دليلٌ على نقْصِ عقلِه؛ لقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ فتكونُ إقامةُ الصلاةِ مِن تمامِ العقولِ، والتهاونُ بها مِن نقصِ العقولِ، كما أنَّه نقصٌ في الدِّينِ .
6- أنَّه ينبغي للمؤمِنِ أن يكونَ صريحًا، فلا يُداهِن؛ لقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، وهذه مقابلةٌ صريحةٌ بوصفهم بالفِسْق .
7- أنَّ العِبرةَ إنَّما تكون بالمنزلةِ عندَ الله لا عند النَّاس؛ لقوله: مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ، ويتفرَّع على هذا: أنَّه يَنبغي لنا ألَّا ننظُرَ إلى منزلتنا عند النَّاسِ، وإنما ننظُرُ إلى منزلتِنا عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وإذا صحَّحنا ذلك كفانا اللهُ مؤونةَ النَّاسِ .
8- يُستفادُ مِن قَوْلِه: وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ التَّحذيرُ مِن المنافقين؛ لأنَّ اللهَ لم يَقصَّ علينا قَصَصَهم أو حالَهم إلَّا لنحْذرَ، لا لنعلمَ فقط .
9- أنَّه ليس لنا أن نَحكُمَ إلَّا بما ظهَر؛ لقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ؛ لأنَّ اللهَ لم يُخبِرْنا إلَّا لنحذرَ، ولو أنَّنا بَقِينا على ما يَبدو لنا لكانَ هؤلاءِ مؤمنينَ حسَبَ ما يقولون، لكنَّ اللهَ أخبَرَنا بهذا لنحذرَهم .
10- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ تحذيرُ المرءِ مِن أن يُبطِنَ في قلبِه ما يُخالِفُ لسانَه، وهذه مسألةٌ يجب علينا أن نُعالِجَ أنفسَنا منها، احذرْ أن تُضمرَ في قلبِك ما يُخالِفُ ما تَنطِقُ به بلسانِك، أو تفعله بجوارحِك؛ يجب أن تُصفِّيَ القلبَ أوَّلًا، وتُطهِّر القلبَ، ثم بعدَ ذلك تَبني أعمالَك على حسَبِ هذه التصفيةِ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا إظهارُ عداوةِ هؤلاءِ الكفَّار من أهل الكتاب والكفَّار للإسلام، وأنَّ عداوَتَهم ظاهرةٌ
.
2- مشروعيَّةُ النِّداءِ للصَّلاةِ؛ لقوله: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، والنداء يعني الأذانَ، ففيه دلالةٌ على ثُبوتِ الأذانِ بنصِّ الكتابِ لا بالمنامِ وحْدَه .
3- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ أنَّه إذا كان النِّداءُ للصَّلاة مشروعًا، كان عبادةً يتقرَّب به المنادي إلى اللهِ، وهو كذلك، فالأذانُ مِن أفضلِ الأعمالِ .
4- قوله تعالى: اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا أصلٌ في تكفيرِ المُستهزئ بشيءٍ من الشَّريعةِ .
5- في قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ سؤال: كيف يَنقِم اليهودُ على المسلمين مع كونِ أكثرِ اليهودِ فاسقين؟ والجواب من وجوه:
الأوَّل: قوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ تخصيصٌ لهم بالفِسق، فيدلُّ على سبيلِ التعريض أنَّهم لم يتَّبعوهم على فِسقهم، فكان المعنى: وما تَنقِمون منَّا إلَّا أنَّ آمنَّا، وما فسَقْنا مثلَكم.
الثاني: لَمَّا ذكَر تعالى ما يَنقِمُ اليهودُ عليهم مِن الإيمانِ بجميعِ الرُّسل، وليس ذلك ممَّا يُنقَم، ذكَر في مقابله فِسقَهم، وهو ممَّا يُنقَم، ومِثل هذا حسنٌ في الازدواج؛ يقول القائل: هل تنقم منِّي إلَّا أني عفيفٌ وأنك فاجرٌ، وأنِّي غنيٌّ وأنت فقيرٌ، فيَحسُن ذلك لإتمامِ المعنى على سبيلِ المقابلة.
والثَّالث: أنْ يكونَ الواو بمعنى (مع)، أي: وما تَنقِمون منَّا إلَّا الإيمانَ بالله مع أنَّ أكثرَكم فاسقون، فإنَّ أحدَ الخَصمين إذا كان موصوفًا بالصفات الذميمةِ، واكتسب الثاني شيئًا كثيرًا من الصِّفات الحميدة، كان اكتسابُه للصفات الحميدة مع كونِ خصمِه مكتسِبًا للصفات الذَّميمة أشدَّ تأثيرًا في وقوعِ البُغض والحسَد في قلبِ الخَصم.
والرابع: أن يكونَ على تقديرِ حذْفِ المضافِ، أي: واعتقاد أنَّكم فاسقون.
الخامس: أن يكونَ التقدير: وما تنقمون منَّا إلَّا بأنْ آمنَّا بالله وبأنَّ أكثرَكم فاسقون، يعني بسبب فسِقكِم نَقَمتُمُ الإيمانَ علينا.
السادس: يجوز أن يكون تعليلًا معطوفًا على تعليلٍ محذوف، كأنَّه قيل: وما تَنقِمون منَّا إلَّا الإيمانَ؛ لقلَّة إنصافِكم، ولأجْلِ أنَّ أكثرَكم فاسقون .
6- يُستفاد مِنْ قَوْلِه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ فضيلةُ هذه الأمَّة، وأنَّ هذه الأمَّةَ لها فَضلٌ ومَزيةٌ على الأُمم السَّابقة؛ لأنَّها تؤمنُ بالله وما أُنْزِلَ إليها وما أُنْزِلَ من قبلُ، وهذا لا يوجدُ في أممٍ آخرين؛ لا يُوجد إلَّا في هذه الأُمَّة .
7- قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ النبأ إنما يُرادُ به الشيءُ المهمُّ العظيمُ؛ كما قال تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ [ص: 67] ، بخلاف الخَبَر، الذي قد يكونُ في أمورٍ تافهةٍ، لكنَّ النبَأَ لا يكون إلَّا في أمورٍ مهمَّة؛ ولعلَّ ذلك- واللهُ أعلم- لأنَّ أحد اشتقاقاتِه مِن النَّبْوَة، والنَّبوة: بمعنى الارتفاعِ .
8- في قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ... الآية، قد يتساءَلُ متسائلٌ: المثوبةُ مختصَّةٌ بالإحسان؛ فكيف جاءتْ في الإساءةِ؟ فالجواب: أنَّ هذا مِن الكلامِ الذي يُقصَد به الاستهزاءُ الزائد في غَيظِ المستهْزَأِ به كما يقول الرجلُ لعدوِّه: أبْشِرْ بقتْلِ ذُرِّيَّتِك ونهْبِ مالك! فهي على سبيلِ التهكُّم، أو لأنَّ المثوبةَ هنا وُضِعتْ موضِعَ عُقوبة .
9- مسَخ بعضَهم إلى قِرَدةٍ وخنازيرَ، كما في قوله: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ لما لنوعَيِ القِردةِ والخنازيرِ مِن الخسَّة والحَقارة، وما لهما في صدورِ الدَّهماءِ والخاصَّة من القُبحِ والتشويهِ، وشَناعةِ المنظَر، ونذالَة النَّفْس، وحقارة القَدْر، ووضاعة الطَّبْع، وقُبح الصوتِ، ودناءةِ الهمَّة، ممَّا ليس لغيرِهما مِن سائرِ أنواع الحيوانِ .
10- لا نَسْلَ لِمَن مُسِخوا قردةً وخنازيرَ ، فعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، ((أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، القردةُ والخنازيرُ، هي ممَّا مُسِخَ؟ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يُهلِكْ قومًا، أو يُعذِّب قومًا، فيجعل لهم نَسلًا، وإنَّ القردةَ والخنازيرَ كانوا قبلَ ذلك )) .
11- أنَّ اسمَ التَّفضيل قد يقَعُ بين شيئين لا يَشترِكان في أصلِ المعنى، فيكون المرادُ به مطلقَ الاتصاف، لا معنى التفضيل؛ لقوله سبحانه: أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ؛ لأنَّ المعنى: بأشرَّ مِن ذلك، وكذلك في الخَيرِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان: 24] ، ولا خيرَ في مستقرِّ أهلِ النارِ . وقيل: إنَّ مكان هؤلاء في الآخرة شرٌّ وأضلُّ من مكان المؤمنين في الدنيا؛ لِمَا يَلحقُهم فيها من الشرِّ والضلال الحاصلِ لهم بالهموم الدنيويَّة، كسماع الأذى وغيرِه، أو أنَّ ذلك على سبيلِ التنزُّلِ والتسليمِ للخَصمِ على زعْمِه إلزامًا بالحُجَّة ؛ فيكون فيه إخراجُ الكلامِ على حسَبِ قولِهم واعتقادِهم؛ لأنَّهم لَمَّا حَكموا بأنَّ دينَ الإسلام شرٌّ، فقيل لهم: هَبُوا الأمرَ كذلك، ولكنْ لَعنةُ الله تعالى وغضبُه، والإبعادُ عن رحمتِه، والطردُ من ساحة رِضاه، ومَسْخُ الصورةِ إلى أقبحِ أنواعِ الحيوانِ وأرذَلِه، شرٌّ مِن ذلك الذي تَزعُمون أنَّه شرٌّ .
12- إثباتُ الغَضبِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ لقوله: وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وهو من الصِّفات الفعليَّة .
13- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أنَّ كلَّ مَن عبدَ غيرَ الله فقد عبدَ الطاغوت، يعني: عبَد عِبادةَ الطاغوت، يعني الطغيانَ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ
- الجُملةُ استئنافيَّة، جاءتْ لتأكيدِ بَعضِ مضمونِ الكلامِ الذي قَبْلَها
.
- وقد رتَّب النَّهيَ عن موالاتِهم على اتِّخاذهم دِينَهم هزوًا ولعبًا؛ إيماءً إلى العلَّة، وتنبيهًا على أنَّ مَن هذا شأنُه بعيدٌ عن الموالاةِ، جديرٌ بالمعاداةِ والبغضاءِ .
2- قوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فيه: بيانٌ للمُستهزئين، والتعرُّض لعنوانِ إيتاءِ الكِتابِ؛ لبيانِ كَمالِ شَناعتِهم، وغايةِ ضلالتِهم؛ لأنَّ إيتاءَ الكتابِ وازعٌ لهم عن الاستهزاءِ بالدِّين المؤسَّسِ على الكتابِ المصدِّقِ لكتابِهم .
3- قوله: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا... هذه الآيةُ كالتوكيدِ للآيةِ قَبلَها .
- وفيه: بيانٌ لاستهزائِهم بحُكم خاصٍّ من أَحكامِ الدِّينِ، بعدَ بيان استهزائِهم بالدِّين على الإطلاقِ؛ إظهارًا لكَمالِ شَقاوتِهم .
4- قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ:
- في هذه الآيةِ نوعٌ طَريفٌ مِن البَلاغة، وهو توكيدُ المدحِ بما يُشبِه الذمَّ ، وهو ذائعُ الشُّهرة، ولكنَّه قَليلُ الأمثلةِ، ومنه هذه الآيةِ؛ فإنَّ الاستثناءَ بعدَ الاستفهامِ الجاري مَجرَى التوبيخِ على ما عابوا به المؤمنين مِن الإيمان يُوهِم بأنْ يأتي بعدَ الاستفهامِ ما يجب أن يُنقَمَ على فاعِلِه بما يُذَمُّ به، فلمَّا أتى بعد الاستفهامِ ما يُوجِبُ مدْحَ فاعِلِه، كان الكلامُ متضَمِّنًا تأكيدَ المدحِ بما يُشْبِه الذمَّ؛ فكأنَّه قال: أنتُم لا تَعيبونَ علينا شيئًا هو عيبٌ، بل تَعيبونَ علينا شيئًا هو كمالٌ، وهو الإيمانُ باللهِ وبما أُنزل إلَيْنا !
- وفي قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أمرٌ لرَسولِ الله بطريقِ تلوينِ الخِطابِ حيثُ قال: قُلْ مُخاطبًا الرَّسول، بعدَ نهي المؤمنينَ عن تولِّي المستهزئينَ، في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا... [المائدة: 84- 85] فأمَرَه أنْ يُخاطِبَهم، ويُبيِّن أنَّ الدِّينَ مُنزَّهٌ عَمَّا يُصحِّح صدورَ ما صدَر عنهم من الاستهزاءِ، ويُظهِرُ لهم سَببَ ما ارتكبوه، ويُلْقِمهم الحجرَ! أي: قُلْ لأولئك الفَجَرةِ .
- والاستفهامُ في قوله: هَلْ تَنْقِمُونَ إنكاريٌّ وتعجُّبي؛ فالإنكارُ دلَّ عليه الاستثناءُ، والتعجُّبُ دلَّ عليه أنَّ مفعولاتِ تَنْقِمُونَ كلَّها محامِدُ لا يحقُّ نَقمُها، أي: لا تجِدون شيئًا تنقِمونه غير ما ذُكِر .
5- قوله: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ...
- فيه عرْضُ الخِطابِ بصِيغةِ الاستفهام هَلْ أُنَبِّئُكُمْ؛ لأنَّ ذلك أمكَنُ في النَّفْسِ، وأحضَرُ للقلب .
6- قوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ فيه: وضْعُ الاسمِ الجليلِ اللَّهُ موضعَ الضَّمير؛ لتربيةِ المهابةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ، وتهويلِ أمْر اللَّعن وما تبِعه، والموصول مَنْ عبارةٌ عن المخاطبَين؛ حيث أبعدَهم اللهُ تعالى من رحمتِه، وسَخِط عليهم بكُفرِهم وانهماكِهم في المعاصي بعدَ وضوحِ الآياتِ .
7- قوله: أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ جُعِلتِ الشَّرارةُ للمَكانِ، وهي لأهْلِه؛ ليكونَ أبلغَ في الدَّلالةِ على شَرارتِهم؛ ففي قوله: شَرٌّ مَكَانًا مبالغةٌ ليستْ في قولِ: (أولئك شرٌّ وأضلُّ)؛ لدخولِه في بابِ الكِنايةِ .
- واسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ عبارةٌ عمَّن ذُكِرت صفاتُهم الخبيثةُ، وما فيه مِن معنى البُعد؛ للإيذانِ ببُعدِ مَنْزلتِهم في الشَّرارةِ .
8- قوله: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ: أفاد دخولُ قَدْ- مع إفادتِها تقريبَ الماضي مِن الحالِ؛ ليصحَّ أن يقعَ حالًا لِمَا فيها من التوقُّع-: أنَّ أمارةَ النِّفاقِ كانتْ لائحةً عليهم .
9- قوله: وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِه فيه تأكيد وصْفِهم بالكُفر بتَكرار المسنَدِ إليه وَهُمْ؛ تَنْبيهًا على تحقُّقهم بالكُفْر، وتماديهم عليه؛ وأنَّ رُؤيةَ الرَّسولِ- إن كان الخطاب في جَاؤُوكُمْ للرسول- لم تُجْدِ معهم، ولم يتأثَّروا لها، وكذلك إنْ كان ضميرُ الخطاب في: وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا للمؤمنين؛ كان يَنبغي لهم أن يُؤمنوا ظاهرًا وباطنًا لِمَا يرونَ مِن المؤمنين من التصديقِ للرَّسولِ، والاعتمادِ على الله تعالى، والرَّغبة في الآخرة، والزُّهد في الدُّنيا، وهذه حالُ مَن ينبغي موافقتُه؛ فكان يَنبغي لهم ألَّا يَخرُجوا بالكفر؛ لأنَّ رُؤيتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كافيةٌ في الإيمانِ، ألَا ترى إلى قولِ بعضِهم حين رأى الرسولَ: علمتُ أنَّ وجْهَه ليس بوجهِ كذَّابٍ، مع ما يَظهَرُ لهم مِن خوارقِ الآياتِ، وباهِرِ الدَّلالاتِ، فكان المناسبُ أنَّهم وإنْ كانوا دخلوا بالكفر ألَّا يَخرُجوا به، بل يخرجون بالرسولِ مُؤمنِينَ ظاهرًا وباطنًا، وكان ينبغي إذْ شاهدوهم أن يَتَّبعوهم على دِينهم، وأن يكونَ إيمانُهم بالقولِ موافقًا لاعتقاد قلوبِهم . وفيه- مع تأكيد إضافةِ الكُفرِ إليهم- نفْيُ أن يكونَ من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك فِعلٌ .
10- قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ خبرٌ الغرضُ منه المبالغةُ فيما في قلوبِهم من الجدِّ والاجتهادِ في المكرِ بالمسلمين، والكيدِ بهم، والبُغض والعداوةِ لهم ، وفيه: وعيدٌ شديدٌ لهم؛ فعِلمُه محيطٌ بهم وسَيجزيهم عليه .

==========22.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (62 - 64)
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ
غريب الكلمات:

مَغْلُولَةٌ: مُمسِكَةٌ مُنقبِضةٌ عن العَطاء، وأصل الغَلَلِ: تدرُّعُ الشيءِ وتوسُّطه، ويدلُّ على تَخلُّلِ شيءٍ، وثَباتِ شيءٍ، كالشَّيءِ يُغرَز؛ يقال: غَلَل الشَّيءَ في الشَّيءِ، إذا أثْبَتَه فيه، كأنَّه غَرَزَه
.
مَبْسُوطَتَانِ: أي: مَمدوتانِ بالبَذلِ والإعطاءِ، وأَرزاقِ عِبادِه، وأقواتِ خَلْقِه، وأَصْلُ (بسط): يدلُّ على امتدادِ الشَّيءِ، في عَرْض أو غيرِ عَرْض .
طُغْيَانًا: أي: مُجاوزةً للحدِّ في العِصيان .
الْعَدَاوَةَ: أي: اختلافَ القلوبِ والنِّيَّات والتباعُد بها، والعَداوةُ أخصُّ من البَغضاء؛ لأنَّ كلَّ عَدوٍّ مبغِضٌ، وقد يُبغَض مَن ليس بعدوٍّ، مأخوذةٌ مِن عَدْوَتي الجَبل، وهما طَرَفاه؛ سُمِّيَا بذلك لبُعد ما بينهما، وقيل: مِن عدا، أي: ظَلَم .
وَالْبَغْضَاءَ: أي: البُغضَ، وهو نفارُ النَّفسِ عن الشيءِ الذي تَرغَبُ عنه، وأصلُ البُغض: خلافُ الحبِّ

.
المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ترى- يا محمَّدُ- كثيرًا من اليهودِ يُبادرونَ إلى ارْتِكابِ المعاصي، والاعتداءِ على حقوقِ الخَلْقِ، وأكْلِ الأموالِ بالباطِلِ؛ لَبِئسَ هذا العملُ الذي يعملونه! هلَّا يَنهاهم الربَّانيُّون منهم، وأحبارُهم عن قولِهم الإثمَ وأكْلِهم المالَ الحرامَ! لبئسَ هذا الصنيعُ مِن هؤلاءِ العلماءِ في ترْكهم نهيَ اليهودِ عن أفعالِهم المنكَرة!
ثمَّ يُخبِرُ تعالى عن اليهودِ- قاتلَهم اللهُ- أنَّهم وصَفوا اللهَ تعالى بالبُخل، وزَعَموا أنَّ يدَه مقبوضةٌ عن الإنفاقِ، تعالى اللهُ عن ذلِك علوًّا كبيرًا، فردَّ عليهم سبحانه قائلًا: قُبِضتْ أيديهم، وطُرِدُوا من رحمةِ اللهِ بما قالوه من كذب وافتراءٍ؛ فالأمْر ليس كما زعَمُوا، بل يداه مبسوطتانِ بالبذلِ والعطاءِ، يُنفِقُ كما أراد.
ثمَّ أخبر اللهُ نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ ما أنزله إليه مِن القرآن، إذا سمعه اليهودُ سيَزيدُهم تجاوزًا لحدودِ اللهِ وكُفرًا، وأخبر عزَّ وجلَّ أنَّه جَعَل بين اليهودِ عَداوةً وتباغضًا، ولا يزال ذلك مُستمرًّا بينهم إلى يَومِ القيامةِ، وأنَّهم كلَّما أرادوا إشعالَ حَربٍ؛ أطفأَها اللهُ سُبحانَه، وأنَّ اليهودَ يُسارعون في نشْرِ الفسادِ في الأرض، واللهُ سُبحانَه لا يحبُّ المفسِدين.
تفسير الآيات:

وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62).
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ .
أي: وتُبصِر- يا محمَّدُ- كثيرًا من هؤلاءِ اليهودِ يَتسابَقون في ارتكابِ معاصِي اللهِ لا يَتحاشَوْنَ شيئًا منها، ويُبادرون إلى تعدِّي حدودِه؛ ممَّا أحلَّ لهم وحرَّمَ عليهم، ومن ذلك: الاعتداءُ على حقوقِ المخلوقين، وأكْلُ الأموالِ بالباطلِ، كالرَّشاوَى التي يتلقَّوْنَها
.
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
أي: واللهِ لَبِئسَ العملُ ما كانَ هؤلاءِ اليهودُ يَعملونه في مسارعتِهم في الإثمِ والعُدوانِ، وأكْلِهم السُّحتَ .
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63).
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ .
أي: هلَّا يَنهاهم الربانيُّون (وهم العلماءُ الحُكماءُ العُبَّاد الذين يُربُّون الناسَ بصغارِ العلمِ قبلَ كبارِه)، والأحبارُ (وهم العلماءُ الكبارُ ذَوو العلمِ الواسِع، المحكِمُون لعِلمهم) عنِ الوقوعِ في الكذبِ والزُّورِ؛ ومِن ذلك قولُهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وأكْل المالِ الحرامِ، كالرِّشوة! .
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ .
أي: واللهِ لَبِئسَ الصَّنيعُ ما كان يَصنعُه هؤلاءِ الربَّانيُّونَ والأحبارُ في ترْكهم نهيَ كثيرٍ من اليهودِ- الذين يُسارِعونَ في الإثمِ والعدوانِ وأكْلِ السُّحتِ- عن تعاطِي ذلك .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ.
أي: وقالتِ اليهودُ- عليهم مِن الله ما يستحقُّون-: إنَّ اللهَ يَبخَلُ علينا، ويَحبِسُ عطاءَه، ويَقبِضُ خيرَه عنَّا، تعالى اللهُ عمَّا قال أعداءُ اللهِ عُلوًّا كبيرًا .
ثم قال اللهُ تعالى على وجه الإخبارِ :
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا.
أي: قُبِضتْ أيديهم عن العَطاءِ والخَيرِ والإحسانِ، وطُرِدوا من رَحمةِ اللهِ تعالى؛ وهذا الغَلُّ لأَيديهم، ولَعْنُهم؛ جَزاءٌ لهم بسَببِ ما قالوه مِن كُفرٍ وافتراءٍ على اللهِ عزَّ وجلَّ .
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ.
أي: ليسَ الأمرُ كما يَزعُمون، بل يداه سبحانه مبسوطتانِ بالبذلِ والعطاء، غير مقبوضتَينِ، فهو الواسعُ الفضلِ، الجزيلُ العطاءِ، لكنَّه يُعطي ويمنعُ بحسَبِ ما تَقتضيه حِكمتُه سبحانه .
كما قال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] .
وعن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: ((إِنَّ يَمِينَ اللهِ مَلأى، لا يَغيضُها نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، أَرَأَيْتُم ما أَنْفَق مُنْذُ خَلَق السَّمَواتِ والأرْضَ ، فإِنَّه لم يَنْقُصْ ما في يَمينِه )) .
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا.
أي: إنَّ كثيرًا من هؤلاءِ اليهودِ- يا محمَّدُ- يَزدادون بسماعِهم القرآنَ العظيمَ تجاوُزًا لحُدودِ اللهِ تعالى، وكفرًا بالحقِّ .
كما قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 124-125] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82] .
وقال سُبحانَه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] .
وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أي: وجعَلْنا بين اليهودِ عداءً لبعضِهم بأفعالِهم، وتباغضًا بينَهم بقلوبِهم، ولا يزالونَ كذلك إلى وقوعِ القِيامة .
كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ.
أي: كلَّما عقَدَ اليهودُ أسبابًا وأمورًا لحربِ أعدائِهم أبْطَلَها اللهُ عزَّ وجلَّ، فانحلَّ عزْمُهم، وكلَّما أقاموا حَرْبًا ردَّ اللهُ تعالى كَيدَهم في نُحورِهم، فانْخَذلوا وانْهَزموا .
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا.
أي: ويُسارِعونَ ويَجتهِدون في اكتسابِ الفسادِ بالكُفرِ، وعمَلِ المعاصي، ومحاربةِ الإسلامِ وأهلِه، ونشْر الباطِل، وغير ذلك من الأعمالِ الفاسِدة .
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
أي: واللهُ تعالى لا يُحبُّ هؤلاءِ؛ لأنَّهم مُفسِدونَ، ولا يحبُّ كلَّ مُفسدٍ من اليهودِ وغيرِهم، بل يُبغضهم، وسيُجازِيهم على ذلك

.
الفوائد التربوية:

1- أنَّ مَن سارَعَ في الإثمِ والعُدوانِ وأكْل السُّحت ففيه شَبَهٌ من اليهود؛ لقولِه: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ
.
2- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ التحذيرُ مِن الكسْبِ المحرَّم؛ وجهه: أنَّ اللهَ سمَّاه سُحتًا؛ فاحْذرْ أن تخسرَ الدُّنيا والآخِرةَ بأكْلِ المحرَّم .
3- أنَّه لا حرَجَ أنْ نذُمَّ الأفعالَ المكروهةَ بقَطْعِ النَّظرِ عن فاعِليها؛ لقولِه تعالى: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
4- عِظمُ مسؤوليَّة المربِّين والعلماءِ؛ لقوله: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَبَّانِيُّونَ، فجعَلَ اللهُ اللومَ على الربانيِّين والأحبارِ؛ لأنَّهم لم يقوموا بما أوجبَ اللهُ عليهم مِن نَهْيِ هؤلاءِ عن قولِهم الإثمَ وأكْلِهم السُّحتَ، فيجبُ على العُلماءِ أن يُبيِّنوا الحقَّ بقطْع النَّظرِ عن مكانتِهم الشخصيَّة، حتى لو فُرِض أنهم أُهينوا أو أُذلُّوا بسببِ ذلك، فالعاقبةُ لهم؛ لقوله تعالى: إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49] .
5- قوله تعالى: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ فيه توبيخُ العُلماءِ التَّاركينَ للأمرِ بالمَعروفِ، والنَّهيِ عن المنكرِ؛ فليَفتَحِ العُلماءُ لهذه الآيةِ مَسامِعَهم، ويُفرِجُوا لها عن قُلوبِهم؛ فإنَّها قد جاءَتْ بما فيه البَيانُ الشَّافي لهم: بأنَّ كَفَّهم عن المعاصي مع تَرْكِ إنكارِهم على أهلِها؛ لا يُسمِنُ ولا يُغني مِن جُوعٍ، بل هم أشَدُّ حالًا، وأعظَمُ وبالًا مِنَ العُصاةِ، فرَحِمَ اللهُ عالِمًا قام بما أوجَبَه اللهُ عليه مِن فريضةِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَر؛ فهو أعظَمُ ما افتَرَضه اللهُ عليه، وأوجَبُ ما أوجَبَ عليه النُّهوضُ به

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- عبَّر بالأكْلِ في قولِه: وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ؛ لأنَّه هو الغالبُ؛ ولأنَّ أعْلى ما يمكن أن ينتفعَ به الإنسانُ بالمالِ هو الأكلُ؛ لأنه يُغذِّي البَدن ويُنمِّيه، بخلاف اللِّباسِ والمساكِن والنِّكاح؛ فعبَّر به لهذا الوجهِ
.
2- قوله: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ فيه دلالةٌ على كونِ الكفِّ فِعلًا؛ فترك الربانيِّين والأحبارِ نهيَهم عن قولِ الإثمِ وأكْلِ السُّحتِ سمَّاه اللهُ جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة صُنعًا، في قوله: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، أي: وهو تركُهم النهيَ المذكورَ، والصنع أخصُّ مِن مُطلقِ الفِعلِ؛ فصراحةُ دَلالةِ هذه الآيةِ الكَريمةِ على أنَّ الترْكَ فِعلٌ في غايةِ الوُضوحِ .
3- بيانُ عُدوانِ اليهودِ، وأنَّهم يُصرِّحون بالعدوانِ والاعتداءِ، حتى في حقِّ الخالِقِ عزَّ وجلَّ؛ لقولِهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ .
4- يُستفادُ من قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أنَّ اليهودَ يُقرُّون بصِفات اللهِ عزَّ وجلَّ الحقيقيَّة؛ لأنَّه لا يُقال: يدُ أحدٍ مغلولةٌ إلَّا لِمَن له يدٌ .
5- يُستفادُ من قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ الإشارةُ إلى حِرصِ اليهودِ على المالِ؛ وجه الدَّلالة: أنَّهم لم يَحملْهم على هذا القولِ إلَّا الجشعُ والطمعُ .
6- في قوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا لم يُبيِّن اللهُ عزَّ وجلَّ مَن اللاعِنُ؛ لإفادةِ العُمومِ؛ أنَّ اللهَ يَلعَنُهم ويَلعنُهم اللاعِنون أيضًا .
7- قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا.... الآية أصلٌ في تكفيرِ مَن صدَر منه في جانبِ الباري تعالى ما يُؤذِنُ بنقْصٍ .
8- إثباتُ اليدينِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ لقوله سبحانه: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ .
9- كثرةُ عطاءِ اللهِ وَجُودِه؛ لقوله: مَبْسُوطَتَانِ لا يُمكن أن تُقبضَا بالنسبةِ للعطاء، وأنَّ عطاءَ اللهِ ومَنْعَه تابعٌ لمشيئتِه؛ لقولِه: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ .
10- قال تعالى: أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وقوله: مِنْ رَبِّكَ مُتعلِّق بـأُنْزِلَ، وإنَّما قَيَّدَ إنزالَ القُرآنِ بكونِه مِن الرَّبِّ تعالى؛ ليدلَّ على أنَّ القُرآنَ نزَلَ مِنه سُبحانَه لا مِن غَيرِه من مَخلوقاتِه، وأنَّ نُزولَ القرآنِ ليسَ كنُزول غيرِه، فقَدْ فرَّق اللهُ تعالى بين ما نَزَّله منه وما نَزَّله مِن بعضِ المخلوقاتِ كالمطرِ، بأنْ قال: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الرعد: 17] ، فذَكَر المطرَ في غيرِ موضعٍ، وأخبر أنَّه نَزَّلَه مِن السَّماء، وأخبَر بتنزيل مُطلَق في مِثل قوله: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد: 25] ، وأمَّا القرآنُ فأَخْبَر أنَّه مَنزَّلٌ منه، وقد قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102] ، وروحُ القُدسِ هو جبريلُ؛ فبَيَّن أنَّ جِبريلَ نزَّلَه مِنَ اللهِ لا مِن هواه ولا مِن لَوحٍ ولا مِن غيرِ ذلك، وكذلك سائرُ آياتِ القرآنِ فقدْ بَيَّن في غير موضِعٍ أنَّه مُنزَّلٌ مِن الله، كقوله: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1] ؛ فمَن قال: إنَّ القرآنَ مُنزَّلٌ مِن بعضِ المخلوقاتِ كاللَّوحِ أو الهواء، فهو مُفتَرٍ على الله، مُكذِّبٌ لكتاب الله، مُتَّبعٌ لغير سبيل المؤمنين .
11- تحريمُ الفَسادِ في الأَرضِ؛ لقوله: لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، وهكذا كلُّ شيءٍ نفَى اللهُ مَحبَّته فإنَّه حرامٌ؛ فالفسادُ في الأرضِ حرامٌ .
12- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أنَّ الشيء إذا ثبَت لوصفٍ، ثبَت ضدُّه لضدِّ ذلك الوَصف، فعلى هذا نقول: إذا كان اللهُ لا يحبُّ المفسِدين، فإنَّه يحبُّ المصلِحين .
13- عنايةُ اللهِ عزَّ وجلَّ بالرسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ وذلك بقوله: مِنْ رَبِّكَ؛ فإنَّ هذه الربوبيَّةَ خاصَّةٌ، تَقتضي العنايةَ التامَّةَ والأقْوى والأشدَّ .
14- أنَّ اللهَ تعالى ألْقَى العَداوةَ والبَغضاءَ بين اليهود؛ لقوله: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ؛ ولهذا قال الله تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: 14] ، ولذلك هم أحزابٌ شتَّى، وحتى داخلَ الحزبِ الواحدِ مُتفرِّقون؛ لأنَّهم لا يُمكن أن يجتمِعوا وقد ألْقَى اللهُ بينهم العداوةَ والبغضاءَ، فاجتماعُهم الآن ليس لأنَّهم متحابُّون متآلِفون، لكنَّهم اجتمعوا لهدفٍ واحدٍ ومصلحةٍ واحدةٍ ضدَّ عدوٍّ واحدٍ للجميع، وهذا الاجتماعُ لا شكَّ أنَّه اجتماعٌ ظاهريٌّ فقط، مقصودٌ لغيرِه، وليس مقصودًا لذاتِه .
15- قال تعالى: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ في هذا الخَبرِ الإيماءُ إلى أنَّ اللهَ عاقبَهم في الدُّنيا على بُغضِهم المسلمين، بأنْ ألْقَى البغضاءَ بين بعضِهم وبعضٍ؛ فهو جزاءٌ من جِنس العملِ، وهو تسليةٌ للرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ألَّا يُهمَّه أمرُ عداوتِهم له؛ فإنَّ البغضاءَ سجيَّتُهم حتى بينَ أقوامِهم، وأنَّ هذا الوصفَ دائمٌ لهم، شأنُ الأوصافِ التي عَمِيَ أصحابُها عن مُداواتِها بالتخلُّق الحسَنِ .
16- لَمَّا كان الإخبارُ باجتماعِ كَلمتِهم على شقاوةِ الكفرِ- في قوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا- ربَّما أحْدَث خوفًا من كيدِهم، نفَى ذلك بقوله: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، ولَمَّا كانتِ العداوةُ ربَّما زالتْ بزوالِ السَّبب، أفاد أنَّها لازمةٌ لا تنفكُّ بقوله: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
17- في قولِه تعالى: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ سُمِّي ذلك اليَومُ الآخِرُ بيومِ القِيامة لوجوهٍ ثلاثة؛ الوجه الأوَّل: أنَّ الناس يقومون فيه مِن قُبورِهم لربِّ العالَمِين. الوجه الثاني: أنَّه يُقامُ فيه العدلُ. والثالث: أنَّه يُقام فيه الأشهادُ؛ تُستشهَدُ الرُّسلُ، ثم الأُممُ، ثم الجلودُ والأعضاءُ، ويَتبيَّن الأمرُ وينكشِف، ويَظهرُ ما في الصُّدور؛ فلذلك سُمِّي يومَ القيامةِ .
18- البُشرى التامَّة للمسلمين بأنَّ اليهود لن تقومَ لهم قائمةٌ في الحروب؛ لأنَّهم: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ولم ينالوا بها مقصودَهم، وإنْ كانوا قد يَنالون بعضَ الشيء، لكنَّهم لن ينالوا المقصودَ الذي يُريدونه بإشعالِ نارِ الحربِ .
19- إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّة للهِ عزَّ وجلَّ؛ لقولِه: أَطْفَأَهَا، وإطفاؤُها يكون بعدَ إيقادِها، وهذا فعلٌ مُتجدِّد .
20- محبَّةُ اليهودِ للفسادِ في الأرضِ، وسَعيُهم في ذلك سعيًا حثيثًا؛ لقوله: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- قوله: يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ... عبَّر هنا بلفظ (المسارعة)- مع أن أكثرَ استِعمالِه يكونُ في الخَيرِ- ولم يُعبِّر بلفظ (العجلة) مع أنه يكون في الشَّرِّ في الأغلب؛ قيل: للإشارة إلى أنَّ هذه المعاصي كأنها عِندَهم مِن قَبيل الطاعاتِ؛ فلذلك يُسارِعونَ فيها، أو إلى أنَّهم كانوا يُقدِمون على هذه المنكراتِ كأنَّهم مُحقُّون فيها
.
- وقال تعالى: يُسَارِعُونَ فِي ولم يقُل: (يُسارعون إلى)؛ ذلك لأنَّ المسارعَ إلى الشيءِ يكون خارجًا عنه، فيُقبِلُ عليه بسرعةٍ، وهؤلاءِ غارقونَ في الإثمِ والعُدوان، وإنَّما يُسارِعون في جزئيَّات وقائعِهما، كلَّما قدَروا على إثمٍ أو عُدوانٍ ابْتَدَروه .
- وقوله: يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ خَصَّ الْعُدْوَانَ والسُّحْتَ بالذِّكر مع اندراجِهما في الإثمِ، وهو يَتناولُ جميعَ المعاصي والمنهيَّات؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذينِ النَّوعينِ أعظمُ أنواعِ المعصية، وللمبالغةِ في التَّقبيح .
2- قولِه تعالى: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُون
- قوله: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ... فيه تَحضيضٌ مُرادٌ منه هنا التَّوبيخُ والتَّنديمُ لعُلمائِهم على سُكوتِهم عنِ النَّهيِ عن معاصِي اللهِ تعالى .
- وفي قوله تعالى: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ اقتَصَر في تَوبيخِ الرَّبَّانيِّين على تَرْك نَهيهِم عن قَولِ الإثمِ وأكْلِ السُّحتِ، ولم يَذكُر العُدوانَ؛ إيماءً إلى أنَّ العُدوانَ يَزجُرهم عنه المسلِمون، ولا يَلتجِئون في زَجْرِهم إلى غيرهم؛ لأنَّ الاعتِمادَ في النُّصرةِ على غير المجنيِّ عليه ضَعفٌ .
3- قوله: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقوله: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ: فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ فإنَّه لَمَّا ذكَر قوله: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ... ختَم بقولِه: يَعْمَلُونَ، ولَمَّا ذَكَر قولَه: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ... ختَم بقولِه: يَصْنَعُونَ؛ وذلك لأنَّ في الأُولى مَعاصِي العوامِّ، وهي مِن قبيلِ ما يَحصُل بالطَّبعِ؛ لأنَّه اندفاعٌ مع الشَّهوةِ بلا بَصيرةٍ، أمَّا الثانيةُ فهي مَعصيةُ العلماءِ بترْك النَّهيِ عن المنكَرِ والأمرِ بالمعروفِ، وهذا مِن قَبيلِ الصناعة المتكلَّفة لفائدةٍ للصانعِ فيها، يلتمسها ممَّن يَصنَعُ له؛ فما ترَكَ العلماءُ النهيَ عن المنكَرِ وهم يعلمون ما أَخَذ اللهُ عليهم من الميثاقِ، إلَّا تكلُّفًا لإرضاءِ النَّاس، وتحاميًا لتَنفيرِهم منهم؛ فهو إيثارٌ لرِضا النَّاسِ على رِضوانِ اللهِ وثَوابِه، والأقربُ أن يكونَ يَصْنَعُونَ مِن الصُّنع، لا مِن الصِّناعة، وهو العَملُ الذي يُقدِّمه المرءُ لغيرِه يُرضيه به ، والصُّنع أيضًا عَملُ الإنسان بعدَ تدرُّب فيه، وتَروٍّ وتحرِّي إجادةٍ؛ ولذلك ذُمَّ به خَواصُّهم (الربَّانيُّون والأحْبار)، ولأنَّ ترْكَ الحِسْبةِ أقبحُ من مُواقعةِ المعصية؛ لأنَّ النفسَ تلتذُّ بها وتَميل إليها، ولا كذلك تركُ الإنكارِ عليها، فكان جديرًا بأبلغِ الذمِّ .
- والجمْع بين صِيغتي الماضي كَانُوا والمستقبل يَصْنَعُونَ؛ للدِّلالةِ على الاستمرارِ .
4- قوله: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ فيه: تمثيلٌ وكنايةٌ حسَنة؛ حيث عبَّر بإيقادِ النار عن إظهارِ الحقدِ والكيدِ والمكرِ بالمؤمنين والاغتيالِ والقتالِ، فشبَّه به حالَ التهيُّؤ للحربِ والاستعدادِ لها، والحزامةِ في أمرها، بحالِ مَن يُوقِدُ النارَ لحاجةٍ بها فتنطفئ، وعبَّر بإطفائِها عن صَرْفِ الله عنهم ذلك، وتفرُّقِ آرائهم، وحلِّ عزائمِهم، وتفرُّق كلمتِهم، وإلقاءِ الرُّعبِ في قلوبِهم؛ فشبَّه حالَ انحلالِ عزمِهم، أو انهزامِهم وسُرعة ارتدادِهم عنها، وإحجامِهم عن مقاتلةِ أعدائِهم، بحالِ مَن انطفأتْ نارُه التي أوقدَها .
5- قوله: وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ فيه: بيانُ فظاعةِ سوءِ أدبِ اليهود؛ حيث عبَّروا عن إمساكِ الإحسانِ بأنَّه صادرٌ من مقهورٍ على الإمساكِ؛ فإنَّ لفظةَ مَغْلُولَةٌ تدلُّ على القَهر؛ إذ لا يغلُّ إلَّا المقهورُ .
6- قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ: ثُنيِّت اليدُ هنا، بالرغمِ مِن كونها أتتْ مفردةً في قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ؛ ليكونَ ردُّ قولهم وإنكارُه أبلغَ وأدلَّ على إثباتِ غاية السَّخاءِ له، ونفْي البُخل عنه سبحانه؛ وذلك أنَّ غاية ما يبذله السخيُّ بماله مِن نفْسه، وأنْ يُعطيه بيديه جميعًا .
7- قوله: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ جملةٌ مستأنَفَة واردةٌ لتأكيدِ كمالِ جُودِه، وللتنبيهِ على سرِّ ما ابتُلوا به من الضِّيقِ الذي اتَّخذوه- من غايةِ جهلِهم وضلالِهم- ذَريعةً إلى الاجتراءِ على الله بهذه المقالة الشنيعة، والمعنى أنَّ ذلك ليس لقصورٍ في فيضِه، بل لأنَّ إنفاقَه تابعٌ لمشيئتِه، المبنيَّةِ على الحِكَمِ، التي عليَها يدورُ أمرُ المعاشِ والمعادِ، ففي قوله: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ دلالةٌ على أنَّه لا ينفقُ إلَّا على مقتضى الحِكمةِ والمصلحةِ .
8- قوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ... جُملةٌ واقعةٌ في جَوابِ القَسمِ؛ وعليه فالجُملةُ مُؤكَّدةٌ بثَلاثةِ مؤكِّدات: القَسَم المقدَّر تقديره: (وَاللَّهِ)، واللام، ونُون التَّوكيد؛ وإنَّما أكَّد اللهُ ذلك لأهميَّتِه، ولئلَّا يُنكِرَ مُنكِرٌ أنْ يكونَ النازلُ شِفاءً لِمَا في الصُّدور- وهو القرآن- يَزيدُ هؤلاءِ طُغيانًا وكفرًا .
- وفيه تقديمُ المفعولِ كَثِيرًا على الفاعِلِ مَا- بمعنى الذي-؛ للاعتناءِ به، وتخصيصُ الكثيرِ منهم بهذا الحُكمِ؛ لأنَّ بعضَهم ليس كذلك .
- وتأخيرُ قولِه: مِنْ رَبِّكَ عن إِلَيْكَ مع أنَّ حقَّه أن يَتقدَّم؛ لاقتِضاءِ المقامِ الاهتمامَ ببيانِ المنتهي؛ لأنَّ مدارَ زِيادةِ طُغيانِهم وكُفرِهم هو النُّزولُ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، كما في قولِه تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [النمل: 60] .
- والتعرُّض لعنوانِ الرُّبوبيَّة مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في قوله: رَبِّكَ؛ لتشريفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .


=======23.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (65 - 68)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
غريب الكلمات:

مُقْتَصِدَةٌ: عادلةٌ غيرُ غاليةٍ ولا مُقصِّرةٍ، أو مؤمنةٌ، والاقتصادُ: الاستواءُ في العملِ من غيرِ إفراطٍ ولا تفريطٍ
.
سَاءَ: أي: قَبُحَ، والسُّوء: اسمٌ جامعٌ للآفاتِ، ثم استُعمِلَ في كلِّ ما يُستقبَحُ، وهو أيضًا كلُّ ما يغمُّ الإنسانَ .
يَعْصِمُكَ: يَمنَعُك، وأصلُ العِصمةِ: المنعُ- ومنه يُقال: عَصَمَه الطَّعامُ؛ أي: منَعَه من الجوعِ-، والإمساكُ والملازمةُ .
تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ: أي: تُوفُّوا حُقوقَهما بالعِلمِ والعَملِ؛ وإِقَامَةُ الشيء: توفية حقِّه .
فَلَا تَأْسَ: أي: لا تَحزَنْ؛ يُقال: أسيتُ على كذا، أي: حزنتُ، فأنا آسَى أسًى، والأَسى: الحُزنُ

.
المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالى: لو آمَن أهلُ الكِتابِ من اليهودِ والنَّصارى حقًّا، واتَّقَوا ربَّهم سبحانه؛ لَمَحَا اللهُ عنهم ما اقتَرفوه من سيِّئاتٍ، ولأدخَلَهم في الآخرة جنات ينعمون فيها بأنواع النعيم، ولو عمِلوا بما في التوراةِ والإنجيلِ والقرآنِ، لأفاض عليهم بركاتِ رِزقه، وعمَّهم الخيرُ مِن كلِّ جهةٍ؛ بأن يُرسِلَ عليهم المطرَ من السَّماء، ويُخْرِجَ لهم الثمراتِ من الأرضِ، ثمَّ أخبَر تعالى أنَّ مِن أهلِ الكتابِ جماعةً مستقيمةً على طريق الحقِّ، قائمةً بالواجبِ الذي كُتِب عليها، مقتصرةً عليه، وأنَّ كثيرًا منهم قدْ أساؤوا العملَ.
ثم أمَر اللهُ تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُبلِّغَ كلَّ ما أنزلَه إليه، فإنْ لم يفعلْ ذلك، فما امتثل أمْرَه عزَّ وجلَّ بتبليغِ رِسالتِه، وطَمْأنَه سبحانه بأنَّه سيَمْنَعُه مِن الناسِ؛ فلا ينبغي أن يَثْنِيَه عن إبلاغِ شريعةِ اللهِ خوفُه من المخلوقينَ؛ إنَّ اللهَ لا يَهدي القومَ الكافرينَ. وأمَرَه أيضًا أنْ يقولَ لأهلِ الكتابِ: إنَّهم ليسوا على شيءٍ ممَّا يَدَّعون أنَّهم عليه من الدِّينِ، حتى يَعملوا بالتوراةِ والإنجيلِ والقرآنِ، وأخْبَره تعالى أنَّ كثيرًا من اليهود يَزدادون بسماعِ القرآن تجاوزًا لحدودِ اللهِ وكفرًا، فلا تحزنْ- يا نبيَّ اللهِ- على القومِ الكافرين.
تفسير الآيات:

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بالَغَ اللهُ تعالى في ذمِّ أهلِ الكتابِ، وفي تَهجينِ طريقتِهم؛ بَيَّن أنَّهم لو آمَنوا واتَّقَوْا لوجَدوا سعاداتِ الآخرةِ والدُّنيا
.
وأيضًا لَمَّا أثبتَ بقولِه: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا أنَّهم كانوا كَفرةً قبلَ إتيانِ هذا الرسولِ عليه السَّلامُ، وكرَّر ما أعَدَّه لهم من الخِزْي الدائمِ على نحوِ ما أخبَرَهم به كتابُهم؛ وعَظَهم ورَجَّاهم سبحانه؛ لئلَّا يَيْئسوا من رَوحِ اللهِ على عادةٍ منه في رحمتِه لعبادِه، ورأفتِه بهم ، فقال تعالى:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا.
أي: ولو أنَّ أهلَ التَّوراةِ والإنجيلِ آمَنوا حقًّا بكلِّ ما يجبُ الإيمانُ به- ومِن ذلك: الإيمانُ باللهِ تعالى وبرسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وفَعَلوا ما أمَرَهم اللهُ تعالى به، واجتَنبوا ما نهاهم عنه .
لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ.
أي: لَمَحوْنا عنهم ذُنوبَهم، ولو كانتْ ما كانت، فغطَّيْنا عليها، ولم نَفْضَحْهم بها .
وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
أي: ولأدْخلناهم في الآخِرةِ جَنَّاتٍ تَنعَمُ فيها قلوبُهم وأبدانُهم بأنواعِ النَّعيم، ممَّا تَشتهيه الأنفسُ، وتلَذُّ الأعينُ .
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا رغَّبهم اللهُ تعالى في الآيةِ السَّابقةِ في مَوعودِ الآخِرةِ؛ مِن تَكفيرِ السيِّئاتِ، وإدخالِهم الجَنَّة- رغَّبهم عقبَ ذلك في موعودِ الدُّنيا؛ ليجمَعَ لهم بين خَيْرَيِ الدُّنيا والآخِرَةِ ، فقال تعالى:
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ.
أي: ولو أنَّ اليهودَ والنَّصارى عمِلوا بما في التوراةِ والإنجيلِ، وعَمِلوا بالقُرآنِ الذي أُنزِلَ إليهم مِن اللهِ تعالى، فصدَّقوا به، وامْتَثلوا أوامرَه واجتنبوا نواهيَه .
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ.
أي: لأدرَّ اللهُ تعالى عليهم الرِّزقَ؛ بأنْ يُرسِلَ عليهم المطرَ من السَّماءِ، ويُخرِجَ لهم الثَّمراتِ من الأرضِ .
كما قال سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96] .
وكإِخْبارِه تعالى عن نُوحٍ عليه السَّلام أنَّه قالَ لقَومِه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10- 12] .
مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ.
مناسبتُها لما قبلَها:
لَمَّا كان ما مضى قبلَ هذه الآيةِ مِن ذمِّ أهلِ الكتابِ ربَّما أَفْهَم أنَّه لِكُلِّهم، قال- مستأنفًا جوابًا لِمَن يسألُ عن ذلك :
مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ.
أي: مِن أهلِ الكِتابِ جَماعةٌ قائمةٌ بالواجبِ الذي عليها، فتَمتثِلُ ما أُمرَتْ به، وتجتنِبُ ما نُهيَتْ عنه، بلا زيادةٍ على ذلِك ولا نَقصٍ .
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ.
أي: وكثيرٌ من اليَهودِ والنَّصارى قدْ أساؤوا العملَ .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا قال تعالى: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر... وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وعَلِم أنَّ مَن أُريدتْ سَعادتُه يُؤمِنُ ولا بدَّ، ومَن أُريدتْ شقاوتُه لا يُؤمِنُ أصلًا، وكان ذلك ربَّما أدَّى إلى الفُتورِ عن الإبلاغ؛ لذا أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه بالإبلاغِ وحثَّه عليه .
وأيضًا لَمَّا حَكَى اللهُ تعالى في الآياتِ السَّابقةِ ما كان عليه أعداءُ الإسلامِ- سواء مِن أهل الكتاب من اليهودِ والنَّصارى، أو مِن المنافقين- مِن دَسائسَ، ومِن استهزاءٍ بتعاليمِ الإسلامِ، ومِن حِقْدٍ على المؤمنين، ومِن سوءِ أدبٍ مع الله، وكان الفريقان متظاهرَين على الرسول صلى الله عليه وسلم: فريق مجاهر، وفريق متستر- أتبَعه بتوجيهِ نِداءٍ إلى الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأمَرَه فيه بأنْ يَمضِي في تبليغِ رِسالتِه إلى النَّاسِ، دون أن يَلتفِتَ إلى مكرِ الماكرين، أو حِقْد الحاقِدين؛ فإنَّه سبحانه قد حماهُ وعَصَمه منهم ، فقال:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.
أي: يا محمَّدُ، أبلِغْ جميعَ ما أَرسلَك اللهُ تعالى به، فلا تترُكْ ولا تكتُمْ شيئًا منه .
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها قالت: ((مَن حدَّثكَ أنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَتَم شيئًا ممَّا أُنزِلَ عليه فقَدَ كذَبَ؛ واللهُ يقولُ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ الآية)) .
وعنها رضِي اللهُ عنها، قالت: ((ولوْ كانَ محمَّدٌ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ كاتِمًا شيئًا ممَّا أُنْزِلَ علَيهِ، لَكَتمَ هذِهِ الآيةَ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37] )) .
وعن جابرٍ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال في حَجَّة الوداع: ((تركتُ فيكم ما لَنْ تَضِلُّوا بعدَه إنِ اعتصمتُم به: كتابَ اللهِ، وأنتُم تُسألونَ عنِّي، فما أنتُم قائلونَ؟ قالوا: نَشهَدُ أنَّكَ قد بلغْتَ وأدَّيتَ ونَصحْتَ، فقال بإِصبَعِه السبَّابةِ، يَرفعُها إلى السَّماءِ، ويَنكتُها إلى الناسِ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ! ثلاثَ مراتٍ )) .
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ.
أي: وإنْ لم تُؤدِّ إلى الناسِ جميعَ ما أُرْسِلتَ به، فما امتثلتَ أمْرَه .
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
أي: بلِّغْ أنتَ رِسالةَ اللهِ تعالى، واحْرِصْ على تَبليغِها، ولا يَثْنِيَنَّكَ عن ذلِك خوفٌ من المخلوقينَ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يَحفَظُك، ويمنعُ أعداءَك مِن أن ينالوكَ بسوءٍ، أو أن يَضرُّوك بشيءٍ .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.
أي: بلِّغْ أنتَ؛ فما عليكَ إلَّا البَلاغ، واللهُ تعالى لا يُوفِّقُ للحقِّ الكافرينَ المصرِّين على كُفْرِهم؛ بسببِ كُفرِهم، وإعراضِهم عنِ الهُدى والحقِّ .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ *وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس: 96- 97] .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمَر اللهُ تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتبليغِ، سواءٌ طابَ للسَّامعِ أو ثَقُل عليه، أمَرَه أنْ يَقولَ لأهلِ الكِتابِ هذا الكلامَ، وإنْ كان ممَّا يَشقُّ عليهم جدًّا ، فقال:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ.
أي: قل يا مُحمَّدُ: يا أهلَ التَّوراةِ والإنجيلِ، لستُم على شيءٍ ممَّا تَدَّعون أنَّكم عليه من الدِّين، إلى أنْ تُؤمِنوا حقًّا- معشرَ اليهودِ- بالتوراةِ، ومَعشرَ النَّصارى بالإنجيلِ، وتَعمَلوا بما فيهما- ومِن ذلك اتِّباعُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وحتى تُؤمِنوا بالقرآنِ أيضًا وتَعمَلوا به؛ فقد جاءَ مِن ربِّكم الذي أنعمَ عليكم بإنزالِه؛ فالواجبُ عليكم أن تَقومُوا بشُكرِ اللهِ تعالى على ذلِك بأنْ تُؤمِنوا بالقرآنِ وتَتَّبِعوه .
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا.
أي: إنَّ كثيرًا مِن هؤلاءِ اليَهودِ والنَّصارى- يا محمَّدُ- يَزدادونَ بسَماعِهم القرآنَ العظيمَ تجاوزًا لحدودِ اللهِ تعالى، وكُفرًا بالحقِّ .
كما قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 124، 125].
وقال عزَّ وجلَّ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82].
وقال سبحانه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] .
فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
أي: فلا تحزنْ- يا محمَّدُ- على هؤلاءِ الكفَّارِ مِن اليهودِ والنَّصارى الذين كذَّبوك، وردُّوا رِسالتَك، وإنَّما أدِّ ما عليك، وبلِّغِ الرسالةَ

.
الفوائد التربوية:

1- قولُه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ بالرغمِ مِن أنَّ الإيمانَ وحْدَه سببٌ مستقلٌّ لتكفيرِ السيِّئات، وإعطاءِ الحَسنات، إلَّا أنَّه ضَمَّ شَرطًا آخَرَ، وهو التقوى؛ لأنَّ المرادَ من الإيمانِ تحقيقُ التقوى والطاعة، لا لغرضٍ آخَر من الأغراضِ العاجلةِ، كما يفعله المنافِقون
.
2- أنَّ التائبَ مِن الذَّنبِ يُثاب ثَوابَينِ: ثواب الدُّنيا، وثواب الآخرة: أمَّا ثواب الآخِرة؛ فلقولِه: لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وأمَّا ثواب الدُّنيا؛ فلقوله: لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ .
3- يُستفادُ من قولِه: لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أنَّه يجوزُ ترغيبُ النُّفوسِ البَشريَّة في فِعل الطاعاتِ بما يُذكَر من ثوابِ الدُّنيا، وعلى هذا فلو أنَّ إنسانًا عمِلَ عملًا صالحًا يُريد أن يَنالَ حُسنَ الدُّنيا والآخِرة، فإنَّه لا يُلامُ؛ لأنَّه لو كان هناك لَوْمٌ، ما ذَكَر اللهُ سبحانه وتعالى ما يَحصُل من ثوابِ الدُّنيا؛ يَبقَى ذِكرُه شبيهًا باللفظِ الذي ليس له معنًى، وعلى العكسِ مِن هذا المحرَّماتُ، تجِدُ أنَّ الله تعالى جعَلَ لها روادعَ تَردَعُ عنها؛ حتى لا يَفعلَها الإنسانُ، فتجد الرجلَ قد يترُكُ الزِّنا مثلًا خوفًا من العقوبةِ، ولولا هذا لَمَا كان للعقوبةِ فائدةٌ .
4- يُستفادُ من قولِه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وجوبُ إبلاغِ الشَّريعةِ على أهلِ العِلم؛ وجه ذلك: أنَّ العلماءَ وَرَثةُ الأنبياءِ، وإذا كانوا ورثةَ الأنبياءِ وجَبَ عليهم أن يَقوموا بحقِّ الإرثِ، فيُبلِّغوا ما علِموا مِن شريعةِ اللهِ وجوبًا؛ إمَّا بالقولِ وإمَّا بالفِعل، إمَّا بالكتابةِ وإمَّا بالإشارة؛ بأيِّ وسيلةٍ، يجب عليهم أن يُبلِّغوا ما أُنزِلَ إلى الرسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام .
5- الإشارةُ إلى أنَّ القلوبَ بِيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّ أفعالَ الخَلقِ تابعةٌ لإرادةِ الله؛ لقوله: يَعْصِمُكَ؛ لأنَّ عِصمةَ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم من الناس تنقسِمُ إلى قِسمين: إمَّا عدَم الإرادة: بأنْ يصرفَ اللهُ القلوبَ عن قتْلِه، وإمَّا بالعجزِ: بأنْ يُحاولَ الفاعلُ ولكن يَعجِز .
6- يُستفادُ من قولِه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أنَّ العبرةَ للمُسلمِ في الآيةِ أنْ يعلمَ أنَّ المسلِمينَ لا يكونونَ على شيءٍ يُعتدُّ به مِن أمْرِ الدِّين حتى يُقيموا القرآنَ، وما أُنزِلَ إليهم مِن ربِّهم فيه، ويهتدوا بهدايتِه؛ فحُجَّةُ اللهِ على جميعِ عِبادِه واحدةٌ، فإذا كان اللهُ تعالى لا يَقبَلُ مِن أهلِ الكِتاب قَبْلَنا تلك التقاليدَ التي صَدَّتْهم عمَّا عندَهم مِن وحيِ اللهِ تعالى على ما كان قد طرَأَ عليه من التَّحريفِ بالزِّيادةِ والنُّقصانِ، فألَّا يَقْبَلَ منَّا مِثلَ ذلك مع حِفظه لكتابِنا أَوْلى

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- قُدِّم الإيمانُ في قوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ؛ لأنَّه أساسُ جميعِ الأعمال، فقدَّمه إعلامًا بأنَّه لا نجاةَ لأحدٍ إلَّا بتصديقِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
.
2- كمالُ عدْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّ كلَّ مَن آمَن واتَّقى ولو بَعدَ الكفرِ والعنادِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يتوبُ عليه؛ لقولِه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ .
3- قولُه سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ فيه دلالةٌ على سَعةِ رَحمةِ اللهِ تعالى، وفتْحِه بابَ التوبةِ لكلِّ عاصٍ، وإنْ عَظُمتْ معاصيه، وبلَغتْ مبالغَ سيِّئاتِ اليهودِ والنَّصارى .
4- إنَّ الإسلامَ يَهدِم ما قَبْلَه من السيِّئاتِ وإنْ جَلَّتْ وعَظُمتْ؛ قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ .
5- يُفيدُ قولُه تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أنَّ الكتابيَّ لا يَدخُل الجنَّةَ ما لم يُسلِمْ .
6- إثباتُ أفعالِ اللهِ سبحانه وتعالى الاختياريَّةِ؛ لقوله: لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ؛ لأنَّ هذا التَّكفيرَ يكونُ بعدَ إيمانِهم وتَقواهم، فيكونُ فيه دليلٌ على إثباتِ أفعالِ اللهِ الاختياريَّة؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ يَفعَلُ ما يشاءُ في أيِّ وقتٍ، وعلى أيِّ كيفيَّةٍ .
7- أنَّ الجزاءَ يكونُ بالنَّجاةِ من المرهوبِ، وحُصولِ المطلوب؛ يشيرُ إلى الأوَّل قولُه: لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ، وإلى الثاني قولُه: وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ؛ فالأوَّل به النجاةُ من المرهوبِ، والثاني فيه حُصولُ المطلوبِ .
8- أنَّ إقامةَ الشريعةِ في كلِّ زمان سببٌ لكلِّ خير؛ لقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ... إلى آخره .
9- أنَّه يجب على أهلِ الكتابِ أنْ يُقيموا القرآنَ، كما يجبُ أنْ يُقيموا التوراةَ والإنجيل؛ لقولِه: وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وهو كذلِك؛ ولهذا نقولُ لأهلِ الكتابِ الذين يَدَّعون أنَّهم مؤمِنون باللهِ واليومِ الآخِر: إنَّكم إنْ لم تؤمنوا بالرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ما نفَعَكم ذلك الإيمانُ؛ لأنَّكم لم تُتِمُّوا إيمانَكم .
10- إقامةُ الدَّليلِ على أهلِ الكِتاب أنَّه يلزمُهم أنْ يُؤمِنوا بالقرآنِ؛ لقوله: وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ؛ فإنَّ لازمَ كونِه ربًّا لهم أنْ يقوموا بأمْرِه، ويَلْتَزِموا بحُكمِه؛ لأنَّه ربٌّ، والربُّ لا بدَّ له من مربوبٍ، وهو سبحانه وتعالى السيِّدُ؛ والإنسانُ عبدٌ؛ فلا بدَّ أنْ يقوموا بمقتضى هذه الرُّبوبيَّة، فيُؤمنوا بما أَنزلَ اللهُ تعالى على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم .
11- انقسامُ أهلِ الكِتابِ إلى قِسمين: قِسمٍ مُقتصدٍ؛ قائمٍ بالواجبِ، تاركٍ للمُحرَّمِ، ولكن ليس عندَهم سَبْقٌ إلى الخيرات، وقِسمٍ آخَر: سيِّئٍ مُسيءٍ في عملِه؛ إمَّا بترْك الواجباتِ، وإمَّا بفِعل المحرَّماتِ؛ لقوله: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ .
12- في قوله: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ جعَلَ أعْلى مقاماتِ أهلِ الكتابِ الاقتصادَ، وهو أوسطُ مَقاماتِ هذه الأمَّة، وفوق ذلك رتبةُ السَّابقينَ؛ كما في قولِه تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا... [فاطر: 32- 33] ؛ فدلَّ على فَضْلِ هذه الأمَّةِ على غيرِها من الأُمَم.
13- التعبيرُ في قولِه: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ بالعملِ؛ لأنَّهم يَزعُمون أنَّه لا يَصدُرُ منهم إلَّا عن عِلمٍ، وهم الذين حرَّفوا الكلمَ عن مواضعِه، وارْتَكبوا العظائمَ في عداوةِ اللهِ ورسولِه .
14- يُستفادُ مِن تصديرِ الخطابِ بالنِّداءِ في قوله: يَا أَيُّهَا الدلالةُ على الاهتمامِ بالخطابِ والعنايةِ به، كذلك قولُه تعالى: مِنْ رَبِّكَ .
15- قوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ وصَفَه بالرِّسالةِ إشارةً إلى أنَّ هذا الوصفَ مقتضاه- وإنْ لم يُؤمَرْ بالإبلاغِ- أنْ يكون مُبلِّغًا .
16- قوله: مِنْ رَبِّكَ فيه عنايةُ الله عزَّ وجلَّ بالرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، والإشارة إلى أنَّ كونَه مربوبًا لله عزَّ وجلَّ يستلزمُ أن يُبلِّغ، وأيضًا لأنَّ رُبوبيةَ اللهِ عزَّ وجلَّ لرسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رُبوبيَّةٌ خاصَّة .
17- شِدَّةُ تأكيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ على إبلاغِ شَريعتِه؛ لأنَّ هذه الجملةَ: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ شديدةٌ جدًّا؛ ممَّا يدلُّ على أنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يَرضَى لعِبادِه أن يتركوا شريعتَه غيرَ مبلَّغةٍ .
18- أنَّ كتْمَ شيءٍ من الشريعةِ كَكَتْم جميعِها؛ لقوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ .
19- عنايةُ اللهِ تعالى بالرسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في عِصمتِه من الناسِ؛ لقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .
20- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أنَّ مَن عَلِمَ اللهُ تعالى منه الكفرَ فإنَّه لا يُهدَى ولا يُوفَّق؛ فتكون هذه الآية كقولِه تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .
21- أنَّه لا تتمُّ إقامةُ التوراةِ والإنجيلِ إلَّا بإقامةِ القرآن؛ لأنَّ اللهَ اشترَط ثلاثةَ أشياء: حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ فمَن ادَّعى أنَّه مُقيمٌ للتوراةِ وهو كافرٌ بالإنجيل، قلنا: هذا غيرُ صحيحٍ، ودعواه باطلةٌ، ومَن ادَّعى أنَّه مؤمنٌ بالإنجيلِ ولم يُؤمِن بالقرآنِ، قلنا: هذه دَعوَى باطلةٌ .
22- أنَّه يلزمُ مَن أقرَّ بالربوبيَّةِ أنْ يُقرَّ بالألوهيَّةِ والشريعةِ؛ لقوله: مِنْ رَبِّكُمْ يعني: مِن ربِّكم الذي لا تُنكِرون رُبوبيَّتَه، وإذا كنتم لا تُنكِرون رُبوبيَّتَه لزِمَكم أن تَقوموا بأمْرِه .
23- قوله: وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ فيه إضافةُ ربوبيَّة اللهِ للكافرين، لكنْ هذه الإضافةُ ليستْ إضافةَ تشريفٍ، ولكنَّها إضافةٌ لإقامةِ الحُجَّة عليهم؛ لأنَّه إذا كان اللهُ هو ربَّكم، لزِمكم أن تقيموا ما أَنزَل إليكم منه؛ لأنَّه ربُّكم وسيِّدكم وإلهُكم .
24- يُستفادُ من قولِه: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا أنَّ كثيرًا مِن أهلِ الكتابِ لا يَزدادون بالقُرآنِ إلَّا طُغيانًا وكفرًا؛ إمَّا بالتكذيبِ، وإمَّا بالعِصيانِ، ويُـفهَم منه أيضًا أنَّ بَعضَهم لا يَزيدُه طغيانًا وكفرًا، بل لا يَزيده إلَّا إيمانًا .
25- العدلُ في كلامِ اللهِ وعدمُ المجازفةِ؛ لقوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ ولم يقُل: (كلهم)؛ لأنَّ الواقعَ أنَّ بعضَهم يزدادُ بالقرآن إيمانًا .
26- جوازُ توكيدِ الكلامِ بما يُثبت صِدقَه، وإنْ كان في الأصلِ صِدقًا؛ لقوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ، مع أنَّ خبر الله وإنْ لم يكُن مؤكَّدًا فهو صدقٌ بلا شكٍّ، ووجهُ تأكيده: أنَّه قد يُستغرَبُ أن يكونَ هذا القرآنُ الذي هو هدًى للناس لا يَزيد هؤلاءِ إلا طغيانًا وكفرًا، فلمَّا كان هذا محلَّ استغرابٍ، أكَّده اللهُ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ تأكيدَ الكلامِ إذا كان صادرًا من صادقٍ لا بدَّ أن يكون له سببٌ، وإلَّا لكان التوكيدُ لغوًا .
27- أنَّ الكفرَ يَزيد ويَنقُص، وجهه: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، وفيه دليلٌ على أنَّ الإيمانَ يَزيد ويَنقُص؛ لأنَّ الكفرَ إذا كان يَزيدُ ويَنقُص فبإزائِه الإيمانُ؛ فلا بدَّ أن يكون مِثلَه يَزيدُ ويَنقُص، والذي عليه أهلُ السُّنَّة والجماعة أنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُص، سواء بالأقوالِ أو بالأفعالِ أو باليَقينِ .
28- الفَرْقُ بين نِسبةِ إنزالِ القُرآنِ إلى الرَّسولِ في قوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، ونِسبة إنزالِه إليهم في أوَّل الآيةِ في قولِه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، هو أنَّ خِطابهم بإنزالِ القرآنِ إليهم يُراد به أنَّهم مخاطَبون به، ومَدْعوُّون إليه، وأمَّا إسنادُ إنزالِه إلى الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فليس لإفادةِ أنَّه أُوحي إليه فقط، بل يُشعر مع ذلك بأنَّ إنزالَه إليه سببٌ لطُغيانهم وكُفرهم، وأنَّهم لم يَكفُروا به لأجْلِ إنكارِهم لعقائدِه وآدابِه وشرائعِه، أو استقباحِهم، بل لعَداوةِ الرَّسولِ الذي أُنزِلَ إليه، وعداوةِ قومِه العربِ. وقيل: إنَّه يُفيد براءتَهم منه، وأنَّه لا حظَّ لهم فيه

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ: ذَكَرَ اليهودَ والنَّصارى بقوله: أَهْلَ الْكِتَابِ تأكيدًا للتشنيعِ؛ فإنَّ أهليَّةَ الكتاب تُوجِبُ إيمانَهم به، وإقامتَهم له لا محالةَ، فكفرُهم به وعدمُ إقامتِهم له، وهم أهلُه، أقبحُ مِن كلِّ قبيحٍ، وأشنعُ من كلِّ شَنيعٍ
.
- وتَكريرُ اللَّامِ في وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ؛ لتأكيدِ الوعدِ .
- وفيه: تعريضٌ؛ حيثُ عقَّب نَهيَهم وذمَّهم بدَعوتِهم للخيرِ .
2- قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ:
في هذه الآيةِ حذفانِ بَليغانِ: الأوَّل: حذْفُ المضافِ في قوله: أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، والمرادُ أحكامُ التوراةِ والإنجيلِ وحُدودُهما، وما انطوى تحتَهما من حِكَمٍ بالِغة، وعِبَر شائِعة. والثاني: حذفُ المفعولِ به في قوله تعالى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ؛ لقصْدِ التَّعميم، أو للقصدِ إلى نَفْسِ الفِعل، كَما في قَولِه: (فُلانٌ يُعطي ويَمنَعُ) بعد (أو للقصدِ إلى نَفْسِ الفِعل) .
3- قوله: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ فيه: إيجازٌ بالحذفِ؛ حيث حُذِف مُتعلِّقُ بَلِّغْ؛ لقصدِ العموم، أي: بلِّغْ ما أُنزِلَ إليك جميعَ مَن يحتاجُ إلى معرفتِه، وهو جميعُ الأمَّة .
4- قوله تعالى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ يُفيد المبالغةَ التامَّة، يعني: أنَّه لا يُمكنُ أن يُوصَفَ ترْكُ التبليغِ بتهديدٍ أعظمَ من أنَّه تَرْكُ التبليغِ، فكان ذلك تنبيهًا على غايةِ التهديدِ والوعيدِ .
5- قوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ أتَى بصيغة المضارِع في يَعْصِمُكَ؛ لأنَّ المضارع يدلُّ على الديمومةِ والاستمرارِ .
6- قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ فيه: تعليلٌ لعِصمتِه تعالى له صلَّى الله عليه وسلَّم، وإيماءٌ إلى أنَّ سبَبَ عَدَمِ هِدايَتِهم هو كُفْرُهم.
- وإيرادُ الآية الكريمةِ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ... في تَضاعيفِ الآياتِ الواردةِ في حقِّ أهل الكتاب؛ لأنَّ الكلَّ قوارعُ يَسوءُ الكفَّارَ سماعُها، ويَشُقُّ على الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم مشافَهَتُهم بها، وخصوصًا ما يَتْلُوها من النصِّ النَّاعي عليهم كمالَ ضلالتِهم .
7- قوله: لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ تنكيرُ شَيْءٍ يُفيد التَّقليلَ والتحقيرَ، أي: لستُم على شيءٍ يُعتدُّ به حتى تُقيموا أحكامَ التوراةِ والإنجيلِ، وفي هذا التعبيرِ من التَّحقيرِ والتصغيرِ ما لا غايةَ وراءَه .
8- قوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا جملةٌ مُستأنَفةٌ مبيِّنةٌ لشِدَّةِ شَكيمتِهم، وغُلوِّهم في المكابرةِ والعنادِ، وعدمِ إفادةِ التبليغِ نفعًا، وتصديرُها بالقَسَم- الذي دلَّت عليه اللامُ في (لَيَزِيدَنَّ)-؛ لتأكيد مضمونِها، وتحقيقِ مدلولِها، ونِسبةُ الإنزالِ إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع نِسبتِه فيما مرَّ إليهم؛ للإنباءِ عن انسلاخِهم عن تِلك النِّسبة .
9- قوله: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فيه: إقامةُ الظاهرِ مَقامَ المضمَر- حيثُ قال: عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، ولم يقُل: (عَلَيهم)- وفائدتُه: التنبيهُ على العِلَّة الموجِبةِ لعدمِ التأسُّف .


======24.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (69 - 71)
ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
غريب الكلمات:

الصَّابِئُونَ: هم قومٌ لا دِينَ لهم، وإنَّما بَقُوا على فِطرتِهم، يَقولون: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وليس لهم دِينٌ مُقرَّرٌ لهم يتَّبعونَه، وقِيل: هم قومٌ يَعبُدون المَلائكةَ، وقيل: هم طائفةٌ مِن أهلِ الكِتابِ، والصَّابِئون جمْعُ صابِئ، وهو الخارجُ من دِينِه إلى دِينٍ آخَرَ، وأصلُه: الخُروجُ؛ يُقال: صَبأتِ النُّجُومُ، إذا خرجتْ من مطالِعِها
.
تَهْوَى: تميلُ، والهوى: ميلُ النَّفسِ إلى الشَّهوةِ، وأصلُه: الخلوُّ والسُّقوط، ومنه قِيلَ للآراء الزَّائِفة: أهواءٌ .
فِتْنَةٌ: أي: شرٌّ وعذابٌ، وتُطلَق الفِتنةُ أيضًا على الضَّلال والشِّرْك والكُفر، والفِتنةُ في الأصلِ: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحانُ، مأخوذةٌ من الفَتْن: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جَودتُه مِن رَداءتِه .
فَعَمُوا: أي: لم يَعْمَلوا بما سَمِعوا، فصارُوا كالعُمْيِ، والعَمَى يُقال في افتِقادِ البَصرِ والبَصيرةِ .
وصَمُّوا: أي: لم يُصْغوا إلى الحقِّ، فصاروا كالصُّمِّ، والصَّمَمُ: فقدانُ حاسَّةِ السَّمع، وبه يُوصَفُ مَن لا يُصغِي إلى الحقِّ، ولا يَقبلُه، وأصلُه: الصَّلَابةُ، وقيل: السَّدُّ

.
مشكل الإعراب:

1- قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
الصَّابِئونَ: مَرفوعٌ على أنَّه مُبتَدأٌ، وخبرُه محذوفٌ؛ لدَلالةِ خَبَرِ إنَّ عليه- وهو جُملةُ الشَّرطِ وجوابِه كما سيأتي- والنيَّةُ به التأخيرُ؛ والتقديرُ: إنَّ الذينَ آمَنُوا والذين هادُوا والنَّصارى مَنْ آمَنَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ... إلى آخِرِه، والصَّابئونَ كذلِك، وقوله: وَالصَّابِئُونَ مع خَبَرِه المحذوفِ (كَذلِك) جُملةٌ اسميَّةٌ مَعطوفةٌ على جُملة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الاستئنافيَّة؛ فلا محلَّ لها مِن الإعرابِ، كما لا مَحلَّ للتي عُطِفَتْ عليها. وَقيلَ: إنَّه مرفوعٌ عطفًا على محلِّ اسمِ (إنَّ): الَّذِينَ؛ لأنَّه قبلَ دُخُولِها مرفوعٌ بالابتداءِ. وقِيل غيرُ ذلك.
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ: مَن اسمُ شَرْطٍ، وهو في محلِّ رفعٍ مُبتدأٌ، وجملة آمَنَ خَبَر مَنْ، وجملة فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ جوابُ الشَّرْطِ، وجملةُ الشَّرْطِ وجوابِه في محلِّ رفْع خبر إنَّ، والرابطُ مُقدَّر، أي: مِنهم
.
2- قوله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ.
وَحَسِبُوا: فِعلٌ وفاعلٌ، وفِعل (حَسِب) يأتي بمعنى الشَّكِّ، ويأتي بمعنى اليَقين.
أَلَّا تَكُونَ: أَلَّا مُكوَّنةٌ من (أنْ) و(لا)، وتَكُونَ فِعلٌ مُضارِعٌ تامٌّ بمعنى تَقَع أو تُصِيب، وقدْ قُرِئَ بالنَّصبِ والرَّفع؛ فعَلى قِراءة النَّصبِ؛ فـ(أَنْ) مَصدريَّةٌ ناصبةٌ للفِعل، و تَكُونَ منصوبٌ بها، وعلى هذا ففِعلُ حَسِبُوا بمعنى الظَّنِّ والشَّكِّ. وفِتْنَةٌ: فاعِلُ تَكُونَ، والتَّقديرُ: ظَنُّوا ألَّا يَقَعَ مِنَ الله عزَّ وجَلَّ ابتلاءٌ واختِبارٌ بالشَّدائدِ. أو: لا تُصيبُهم فتنةٌ نتيجةَ فِعلِهم المذكورِ في الآيةِ السَّابقة.
وعلى قِراءةِ (تَكُونُ) بالرَّفع، فـ(أَنْ) هي المخفَّفةُ مِن الثَّقيلةِ، واسمُها ضَميرُ الشأنِ محذوفٌ، والتقديرُ: أنَّه، و(لَا) نافيةٌ، وتَكُونُ فِعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ، وهو تامٌّ أيضًا، وفِتْنَةٌ فاعلُه، وجُمل (تَكُونُ فِتْنَةٌ) في مَحلِّ رفْعٍ خبَرُ (أنْ)؛ فهي مُفسِّرةٌ لضَميرِ الشأنِ، وعلى هذا ففِعل (حَسِب) هنا لليَقينِ لا للظَّنِّ والشَّكِّ ، وعلى كِلَا التَّقديرينِ فإنَّ (أَنْ) وما بَعدَها سَدَّ مَسدَّ مَفعولَيْ حَسِبُوا

.
المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى أنَّ المسلمين مِن أمَّة محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واليهودَ قبلَ نسْخِ دِينهم، والصَّابئة الحُنفاءَ الذين بقُوا على فِطرتِهم بتوحيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، محرِّمين للظلمِ والفواحِشِ، وغير ذلك، ولم يتقيَّدوا بمِلَّةٍ ولا نِحلةٍ، والنَّصارى قَبلَ نَسْخِ دِينهم؛ هؤلاءِ الأصنافُ الأربعةُ مَن آمَن منهم باللهِ واليومِ الآخِرِ وعمِلَ عَملًا صالحًا، فلا خوفٌ عليهم ممَّا يَستقبِلونه، ولا هم يَحزنون على ما يُخلِّفونه.
ثمَّ أخْبَر تعالى أنَّه أخَذَ العَهدَ المؤكَّدَ من بَني إسرائيل بالإيمانِ باللهِ تعالى والقيامِ بما أَوْجبَه عليهم، وأرسلَ إليهم بذلِك رُسلَه، لكنَّهم قابلوا ذلك بأنَّهم كلَّما جاءَهم رسولٌ بما لا يُوافِقُ أهواءَهم ورغباتِهم، كذَّبوا بعضًا من المرسَلين، وقتَلوا آخَرين.
وظنُّوا ألَّا تَحيقَ بهم فِتنةٌ وعُقوباتٌ وشرٌّ نتيجةَ ما فعلوه؛ فاستمرُّوا على طُغيانهم، فعَمُوا عن رؤيةِ الحقِّ، وصَمُّوا عن سماعِه، ثم تابَ اللهُ عليهم، ثم بعدَ ذلك رجَعَ كثيرٌ منهم لحالتِهم السيِّئةِ الأولى، وعادُوا لضلالِهم السَّابقِ، فعَمُوا مُجدَّدًا عن رؤيةِ الحقِّ، وصمُّوا عن سَماعِه، واللهُ مطَّلِعٌ على جميعِ أعمالِهم، وسيُجازيهم عليها.
تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ أهلَ الكِتابِ ليسُوا على شيءٍ ما لم يُؤمِنوا؛ بَيَّن أنَّ هذا الحُكمَ عامٌّ في الكلِّ، وأنَّه لا يَحصُلُ لأحدٍ فضيلةٌ ولا مَنقَبَةٌ إلَّا إذا آمَن باللهِ واليومِ الآخِرِ، وعَمِلَ صالحًا
.
وأيضًا لَمَّا كان ما مَضَى في هذِه السُّورةِ غالبًا في فَضائحِ أهلِ الكتابِ لا سيَّما اليهود، وبيانِ أنَّهم عَضُّوا على الكُفرِ، ومَرَدُوا على الجَحدِ، وتمرَّنوا على البُهت، وعَتَوْا عن أوامرِ الله- أخْبَر أنَّ البابَ مفتوحٌ لهم ولغيرِهم من جميعِ أهلِ المِلل، وأنَّه إذا أَخْلَصوا أُذِن في دُخولِهم، ونُودِي بقَبولِهم ، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى.
أي: إنَّ المسلمين- وهم أمَّةُ محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- واليهودَ قَبل نَسْخِ دِينهم، وقبلَ تحريفِه، والصَّابئين- وهم فِرقٌ؛ منها: الصَّابئة الحُنفاءُ، الذين بَقُوا على فِطرتِهم بتوحيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وتحريم الظُّلمِ والفواحِش، وغيرِ ذلك، من غير تَقيُّدٍ بمِلَّة ولا نِحلة، ودون أنْ يُحدِثوا كُفرًا- والنَّصارى قَبلَ نَسْخ دِينهم، وقبل تحريفِه .
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا.
أي: مَن آمَن مِن أتْباعِ هذه المِللِ باللهِ تعالى حقًّا، وآمَن بالمعادِ والجزاءِ يومَ الدِّين، وعمِلَ عملًا صالحًا، بأنْ يكون خالصًا لله تعالى، مُوافقًا لشريعتِه التي وجَبَ عليه اتِّباعُها .
وهذا الحُكمُ بينَ هذه الطَّوائفِ مِن حيثُ هي؛ فكلُّ مَن اتَّبع رسولَه المرسَلَ إليه في زَمانِه- قَبل بَعثةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ- فهو على هُدًى ونجاةٍ، فأمَّا بعدَ بَعثةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فلا يُعدُّ مُؤمنًا مَن لم يُؤمنْ برِسالتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولم يَعملْ بمقتضاها .
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
أي: فلا خَوفٌ عليهم ممَّا يَستقبِلونه، ولا هُم يَحزنونَ على ما يُخلِّفونَه .
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كانتِ البِشارةُ في الآيةِ السابقةِ مُوجِبةً للدُّخولِ في الإيمانِ، والتعجُّبِ ممَّن لم يُسارعْ إليه، وكان أكثرُ أهلِ الكتابِ إنَّما يُسارِعون في الكُفرِ، كان الحالُ مقتضيًا لتذكُّرِ ما مضَى مِن أخْذِ الميثاقِ عليهم، وزِيادةِ العَجَبِ منهم مع ذلِك، فأعادَ سبحانه الإخبارَ به مؤكِّدًا له؛ تحقيقًا لأمْره، وتفخيمًا لشأنه، مُلتفِتًا مع التذكيرِ بأوَّلِ قَصصِهم في هذه السُّورةِ إلى أوَّلِ السُّورةِ أَوْفُوا بِالعُقُودِ [المائدة: 1] ، فقال:
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا.
أي: واللهِ لقدْ أخَذْنا على اليهودِ عهدًا ثَقيلًا مؤكَّدًا، بالإيمانِ باللهِ تعالى وتوحيدِه، والقيامِ بما أوجبَه عليهم، وأَرسَلْنا إليهم بذلك رُسلًا، يَتَوالَون عليهم بالدَّعوة، ويتعاهدونهم بالتوجيهِ، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [المائدة: 12] .
كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ.
أي: كلَّما أتاهم رسولٌ مِن أولئك الرُّسلِ الكِرامِ عليهم السَّلام، بما لا تَشتهيه نُفوسُهم، ولا يُوافق رَغباتِهم، نقَضوا تلك العُهودَ والمواثيقَ، وعانَدوا تِلك الرُّسلَ وعادَوْهم، فقاموا بتكذيبِ بعضِهم، وقتَلوا بعضًا آخَرين .
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71).
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ.
أي: وظنَّ بنو إسرائيلَ ألَّا يترتَّبَ- جرَّاءَ ما كانوا يَفعلونَ مِن نَقضِ المواثيقِ، وتكذيبِ رُسلِ الله تعالى وقتْلهم- شرٌّ وعُقوباتٌ تَحيقُ بهم .
فَعَمُوا وَصَمُّوا.
أي: فترتَّبَ على ظنِّهم الفاسدِ هذا: أنِ استمرُّوا على طُغيانهم، فَعَمُوا عن رُؤيةِ الحقِّ، وَصَمُّوا عن سَماعِه، فلا يَسمعونَ حقًّا، ولا يَهتدُون إليه .
ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
أي: ثمَّ وفَّقهم اللهُ تعالى للتَّوبةِ، وقَبِلَها منهم، ورفَعَ عنهم الفتنةَ التي عاقَبَهم بها، فأنابوا ورَجَعوا عمَّا كانوا عليه من الهَوى إلى الهُدَى .
ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ.
أي: ثمَّ بعدَ توبةِ اللهِ تعالى عليهم، واستنقاذِهم من الهَلَكةِ لم يَستمرَّ كثيرٌ منهم على التَّوبةِ، فانقلبوا إلى حالِهم القبيحةِ الأولى، وعادوا إلى ضلالِهم القديمِ، فعَمُوا مجدَّدًا عن رؤيةِ الحقِّ، وصمُّوا عن سماعِه .
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى مُطَّلعٌ على جميعِ أَعمالِهم لا يَخفَى عليه شيءٌ منها، ويُجازِيهم عليها يومَ القيامةِ

.
الفوائد التربوية:

1- يُستفادُ من قولِه: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أنَّ ثواب اللهَ عزَّ وجلَّ لا يَنبني على حَسَبٍ ولا نَسبٍ، وإنَّما يَنبني على الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ؛ كما قال اللهُ تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
[الحجرات: 13] .
2- يُستفادُ من قولِه: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ التَّحذيرُ ممَّا فعلتْ بنو إسرائيلَ مِن تكذيبِ الرُّسلِ والعُدوانِ عليهم؛ لأنَّ اللهَ لم يقُصَّ قَصصَ الأنبياءِ وقَومِهم للعِلمِ بالتَّاريخِ فقط؛ بل للاعتبارِ بها؛ كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأِوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف: 111] .
3- الحذرُ مِن هوى النَّفْس، وأنَّ هوى النَّفْسِ قد يؤدِّي إلى الهلاكِ، وإلى فِعْلِ ما يَقبُحُ شرعًا وعقلًا؛ لقوله: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا .
4- التحذيرُ مِن الأمنِ مِن مَكْرِ اللهِ، وأنَّ ذلك مِن خُلُقِ اليهودِ؛ وذلك بأنْ يأمنَ الإنسانُ مِن مكرِ الله، ويظنَّ أنَّ معصيتَه لا يَعقبُها عقابٌ؛ لقوله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ .
5- أنَّ الله تعالى قد يتوبُ على المرءِ بعدَ عَمَاهُ وصَمَمِه؛ لقوله: ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بعدَ أنْ ذكَر أنَّهم عَمُوا وصمُّوا .
6- الحذرُ مِن بَطَرِ النِّعمةِ بالعَوْدِ إلى الفُسوقِ والكُفرانِ؛ لأنَّ اللهَ هدَّدَهم بقولِه: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- يُستفادُ مِن قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى أنَّه يَنبغي التعبيرُ عن اليهودِ بـ(اليهود) وعن النَّصارى بـ(النَّصارى)؛ لأنَّ ذلك استخدامُ القُرآنِ واستعمالُه
.
2- قال تعالى في سُورةِ البَقرة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:63] ، وهنا قال في سورةِ المائدة: وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى؛ فإنَّ النصارى أفضلُ مِن الصَّابئين، فلمَّا قُدِّموا عليهم نصبَ لفظ (الصَّابئين)، ولكن (الصَّابئون) أقدمُ في الزَّمان فقُدِّموا هاهنا؛ لتقدُّمِ زمنِهم، ورُفِعَ اللَّفظ؛ ليكونَ ذلك عَطفًا على المحلِّ؛ فإنَّ المعطوفَ على المحلِّ مرتبتُه التأخيرُ؛ ليُشعِرَ أنَّهم مؤخَّرون في المرتبةِ، وإنْ قُدِّموا في الزمنِ واللَّفظ .
3- يُستفادُ مِن قولِه: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا أنَّه مِن رحمةِ اللهِ تبارَك وتعالى بعبادِه أنَّه لم يَكِلْهم سبحانه وتعالى إلى ما عَلِموه بفِطَرِهم، بل أرسلَ إليهم الرُّسلَ؛ لتؤكِّدَ ذلك .
4- أنَّ المتكلِّمين الذين بنَوا أصولَ عَقيدتِهم على العقلِ فيهم شَبَهٌ من اليهود؛ لقوله: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا إلى آخِرِه؛ فإنَّهم إذا أتاهم النصُّ بما لا يَرَون كذَّبوه إنِ استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، أو حرَّفوه إنْ لم يستطيعوا إلى ذلِك سبيلًا؛ لأنَّهم يرون مرجعَ ما أخبَر الله به عن نفْسِه العقلَ، فإذا جاءَ النصُّ بما لا يَهْوَونَ حسَبَ عقولهم كذَّبوه وأَنكروه .
5- في قولِه تعالى: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ لطيفةٌ جليلةٌ؛ حيث بُدِئ بالعَمى لأنَّ أوَّلَ ما يَعرِض للمُعرِض عن الشَّرائعِ أنْ لا يُبصِر مَن أتاه بها مِن عند الله، ثم لو أبْصَره لم يَسمَعْ كلامَه، فعرَض لهم الصَّممُ عن كلامِه، ولَمَّا كانوا قبلَ ذلك على طريقِ الهدايةِ، ثم عرَضَ لهم الضَّلالُ، نُسِبَ الفعلُ إليهم وأُسْنِد لهم، فقال: عَمُوا وَصَمُّوا، ولم يقُلْ سبحانَه وتعالى: (فأَعْماهُم اللهُ وأصمَّهم)

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى فيه: تقديمٌ وتأخير- على أحدِ أوجهِ الإعرابِ في الآية-، كأنَّه قيل: إنَّ الذين آمنوا والذين هادُوا والنَّصارى حُكمُهم كذا، والصَّابِئون كذلك، وفائدتُه: التنبيهُ على أنَّ الصَّابئين يُتابُ عليهم إنْ صَحَّ مِنهم الإيمانُ والعَملُ الصَّالح؛ فما الظنُّ بغَيرِهم
؟!
2- قوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فيه: تكريرٌ؛ حيث قال في أوَّل الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثم قال في آخِرها: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وفي هذا التكريرِ فائدتان؛ الأولى: أنَّ المنافقين كانوا يَزعُمون أنَّهم مؤمنونَ، فالفائدةُ في هذا التكريرِ إخراجُهم عن وعْدِ عدمِ الخوفِ، وعدمِ الحُزن. الفائدة الثَّانية: أنَّه تعالى أطْلَقَ لفْظَ الإيمان، والإيمان يَدخُلُ تحتَه أقسامٌ، وأشرفُها الإيمانُ باللهِ واليومِ الآخِر، فكانتِ الفائدةُ في الإعادةِ التنبيهَ على أنَّ هذينِ القِسمينِ أشرفُ أقسامِ الإيمانِ .
3- قوله: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا استئنافٌ عادَ به الكلامُ على أحوالِ اليهودِ وجَراءتِهم على اللهِ وعلى رُسلِه، وفيه: تعريضٌ باليأس مِن هَديهِم بما جاء به محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، وبأنَّ ما قابَلوا به دَعوتَه ليس بِدْعًا منهم، بل ذلك دأْبُهم جيلًا بعدَ جيلٍ .
4- قوله: فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ: عبَّر أوَّلًا بالفِعلِ الماضي كَذَّبُوا لتقريرِ الأمْرِ الواقِع، ثمَّ عبَّر بالفِعل المضارِعِ يَقْتُلُونَ على حِكايةِ الحالِ الماضية؛ استفظاعًا للقتْلِ، واستحضارًا لتِلك الحالِ الشَّنيعةِ؛ للتعجُّب منها، وللتَّنبيهِ على أنَّ ذلك دَيْدنُهم المستمِرُّ؛ ففيه تصويرُ جُرمِ القَتلِ الشَّنيع، واستحضارُ هَيئتِه المنكَرَة كأنَّه واقعٌ في الحال؛ للمبالغة في النَّعيِ عليهم، والتوبيخِ لهم؛ فقد أفادت الآيةُ أنَّهم بلغوا من الفسادِ، واتِّباعِ أهوائهم مبلغًا كبيرًا، حتى لم يَعُدْ يؤثِّر في قلوبِهم وعْظُ الرسل وهديُهم، بل صارَ يُغريهم بزيادةِ الكُفر والتكذيبِ، وقتْل أولئك الهُداةِ الأخيارِ، وفيه إشارةٌ إلى استمرارِ قتْلِهم للأنبياءِ، وأنه أصبح دَيدنَهم المستمرَّ؛ لأنَّ الفعلَ المضارع يدلُّ على الاستمرارِ. أو يكونُ الفِعل المضارع يَقْتُلُونَ حالًا على حقيقتِه؛ لأنَّهم حاوَلَوْا قتْلَ نَبيِّنا مُحمَّدٍ عليه أفضلُ الصلاةُ والسَّلام؛ فيكونُ في هذا- والله أعلم- إشارةٌ إلى أنَّهم لا يَزالون يَقتُلون الأنبياءَ حتى آخِرهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهو محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم. وفي التعبيرِ بالفِعلِ المضارِعِ يَقْتُلُونَ أيضًا مُحافظةٌ على رُؤوس الآي الكريمةِ .
- وقوله: فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ أيضًا فيه نوعٌ مِنَ الالتِفات، وهو التفاتٌ مِن الإخبارِ بالفِعل الماضي إلى الإخبارِ بالفِعلِ المضارع، وهذا مِن أدقِّ الأمورِ، ولا يُتاحُ في الاستعمالِ إلَّا للعارفِ برموزِ الفصاحةِ والبلاغةِ .
- وتقديمُ المفعولِ فَرِيقًا في الموضعَينِ؛ للاهتِمامِ به، وتشويقِ السَّامعِ إلى ما فَعَلوا به لا للقَصر ؛ فقدَّم المفعولَ هنا؛ لأنَّ التقديمَ إنَّما يكونُ لشِدَّة العنايةِ؛ فالتكذيبُ والقتلُ وإنْ كانَا مُنكَرينِ إلَّا أنَّ تكذيبَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وقتلهم أقبحُ، فكان التقديمُ لهذه الفائدةِ .
5- قوله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فيه: إيجازٌ بديعٌ؛ لأنَّه ثَمَّةَ مجرورٌ مُقدَّرٌ دالٌّ عليه السِّياق، أي: ظنُّوا ألَّا تَنزِلَ بِهم مَصائبُ في الدنيا، فأَمِنوا عِقابَ الله في الدنيا، بعد أن استخفُّوا بعذاب الآخِرة، وتوهَّموا أنَّهم ناجون منه؛ لأنَّهم أبناءُ اللهِ وأحباؤه، وأنَّهم لن تمسَّهم النارُ إلَّا أيامًا معدودة؛ فمِن بديع إيجاز القرآن أنْ أوْمَأَ إلى سُوءِ اعتقادِهم في جزاءِ الآخِرة، وأنَّهم نبَذوا الفِكرةَ فيه ظِهريًّا، وأنَّهم لا يُراقبون اللهَ في ارْتِكابِ القبائحِ، وإلى سوءِ غَفلتِهم عن فِتنة الدُّنيا، وأنَّهم ضالُّون في كِلا الأمْرَينِ .
- وعطَف فَعَمُوا على حَسِبُوا بالفاءِ؛ للدَّلالةِ على تَرتيبِ ما بعدَها على ما قَبْلَها، أي: أمِنوا بأسَ الله تعالى، فتمادَوا في فُنونِ الغَيِّ والفساد، وعمُوا عن الدِّينِ بعدما هداهم الرُّسل إلى معالِمه الظَّاهرة، وبيَّنوا لهم مناهِجَه الواضِحَة .
- وعطَفَ قولَه: فَعَمُوا وَصَمُّوا الأوَّل بالفاءِ، وعَطَفَ قولَه: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا الثاني بـ(ثم)، وهو معنًى حَسَنٌ؛ ففي العَطفِ بالفاءِ دليلٌ على أنَّهم عَقيبَ الحُسبانِ، حصَل لهم العَمى والصَّمم من غيرِ تراخٍ، وفي العطف بـثُمَّ دليلٌ على أنَّهم تَمادَوْا في الضلالِ زمانًا إلى أنْ تابَ اللهُ عليهم .
- وأَسْنَدَ الفِعلَ الحسَنَ الشَّريفَ تَابَ في قوله: ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إلى نَفْسِه سُبحانَه، ولم يقُل: (تَابُوا)؛ إظهارًا للاعتناءِ بهم، ولُطفِه تعالى بِهم. وأَسْندَ الفِعلَينِ عَمُوا وَصَمُّوا إليهم، بخِلافِ قولِه: فَأَصَمَّهُمْ وَأْعَمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد: 23] ؛ لأنَّ هذا فيمَن لم يَسْبِقْ له هِدايةٌ .
6- قوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ: الجُملةُ تذييلٌ أُشيرَ به إلى بُطلانِ حُسبانِهم المذكورِ، ووقوعِ العذابِ مِن حيثُ لم يَحتسِبوا؛ إشارةً إجماليَّةً اكتُفيَ بها تعويلًا على ما فُصِّل نوعَ تفصيلٍ في سورة بني إسرائيل، والتقدير: حسِبوا ألَّا يُصيبَهم عذابٌ ففَعلوا ما فعَلوا من الجناياتِ العظيمةِ المستوجبةِ لأشدِّ العقوباتِ، واللهُ بصيرٌ بتفاصيلِها؛ فكيفَ لا يُؤاخِذُهم بها، ومِن أينَ لهم ذلِك الحسبانُ الباطلُ ؟!
- وناسَب ختْمُ الآيةِ بهذه الجُملةِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ المشتمِلةِ على بَصِير؛ إذ تَقدَّم قبلَه فَعَمُوا .
- وقوله: يَعْمَلُونَ جاءَ على صِيغةِ المضارعِ لحِكايةِ الحالِ الماضية؛ استحضارًا لصورَتِها الفَظيعة، ورِعايةً للفَواصِل ؛ ففائدةُ التعبيرِ بقولِه: يَعْمَلُونَ بمعنى الماضي، استحضارُ صُورةِ أعمالِهم في ماضيهم، وتمثيلُها لهم ولغيرِهم في حاضرِهم، وإنَّما تَحسُنُ هذه النكتةُ في العملِ المعيَّنِ المهمِّ الذي يُراد التذكيرُ به بعدَ وقوعِه، بجَعْل الزمنِ الحاضرِ مرآةً للزمنِ الغابرِ، ولا يظهرُ هذا الحُسن في الأعمالِ المطلَقةِ المُبهمَةِ .


=======25.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (72 - 77)
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
غريب الكلمات:

وَمَأْوَاهُ: مَصِيرُه الَّذِي يَأوي إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَصِيرُ فِيهِ؛ يُقال: أَوى إلى كذا، أي: انضمَّ إليه يأوي أويًا ومأوًى، وأصْله: التَّجمُّع
.
لَيَمَسَّنَّ: ليُصيبَنَّ، والمسُّ يُقال في كلِّ ما يَنال الإنسانَ مِن أذًى .
صِدِّيقَةٌ: كَثُر منها الصِّدقُ والتَّصدِيقُ، والصِّدِّيقُ يُقال لِمَن لا يَكذبُ قطُّ، وقيل لِمَن لا يَتأتَّى منه الكذبُ؛ لتعوُّدِه الصِّدقَ، وقيل لِمَن صدَقَ بقوله واعتقادِه وحقَّق صِدقَه بفِعلِه، وأَصْلُ (صدق) يدلُّ على قوَّةٍ في الشيءِ قولًا كان أو غيرَه .
يُؤْفَكُونَ: أي: يُصرَفون عن الحقِّ، ويعدلون عنه؛ يُقال: أفِكَ الرجلُ عن كذا: إذا عدَلَ عنه، والإفك: كلُّ مصروفٍ عن وجهِه الذي يحقُّ أن يكونَ عليه، وأَصْلُ (أفك): يدلُّ على قلبِ الشيءِ، وصرْفِه عن جِهتِه .
لَا تَغْلُوا: أي: لا تُجاوِزوا الحدَّ المسموحَ لكم به، ولا تَرتفِعوا عن الحقِّ، أو لا تَزيدوا ولا تُفرِطوا فيه، والغلوُّ: الإفراطُ والزيادةُ، ومجاوزةُ الحدِّ المسموحِ به .
ضَلُّوا: عَدَلُوا عن الطريقِ المستقيم؛ فالضَّلالُ: خِلافُ الهُدى، وضَياعُ الشَّيءِ وذَهابُه في غيرِ حقِّه .
أَضَلُّوا: أَوْقَعوا النَّاسَ في الضَّلالِ .
سَوَاءِ السَّبِيلِ: أي: قصْدِ الطريقِ ووسَطِه

.
مشكل الإعراب:

1- قوله: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ.
مِنْ إِلَهٍ: مِن صِلةٌ في المبتدأِ لوجودِ الشَّرطين، وهما كونُ الكلامِ منفيًّا، وتنكيرُ المجرورِ بها. وإلهٍ مُبتدأٌ مجرورٌ لفظًا بـمِنْ، مرفوعٌ محلًّا.
إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ: إِلَهٌ مرفوعٌ على أنَّه بدلٌ مِن مَحلِّ إِلَهٍ؛ لأنَّه مَرفوعٌ محلًّا، مَجرورٌ لَفْظًا بـمِنْ الاستغراقيَّة، والتَّقديرُ: وما إلهٌ مُستَحِقٌّ للعبادَةِ إلَّا إلهٌ متَّصِفٌ بالوحدانيَّةِ
.
2- قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ.
غَيْرَ الْحَقِّ: غَيْرَ مَنصوبٌ، وفي نَصْبِه أوجُهٌ؛ منها: أنَّه نائِبٌ عن المفعولِ المُطْلَق؛ لأنَّه نَعْتٌ لِمَصدرٍ محذوفٍ؛ أي: لا تَغْلُوا في دِينِكم غُلُوًّا غيرَ الحَقِّ. ومنها: أنَّه مَنصوبٌ على الحالِ مِن ضَميرِ الفاعِلِ (واو الجماعة) في تَغْلُوا أي: لا تَغْلوا مُجاوِزينَ الحَقَّ. وقيل غيرُ ذلك

.
المعنى الإجمالي:

يؤكِّدُ اللهُ تعالى كُفْرَ النَّصارى، الذين جعَلوا اللهَ تعالى هو المسيحَ عيسى عليه السَّلامُ، وقدْ قال المسيحُ عيسى لبني إسرائيلَ: اعبُدوا اللهَ وحْدَه؛ فهو ربِّي وربُّكم؛ إنَّه مَن يَعبُد مع اللهِ غيرَه، فقدْ حرَّم عليه اللهُ دُخولَ الجَنَّةِ، ومُستقَرُّه النارُ، وليس لِمَن ظلَمَ نفْسَه بالشِّركِ من نصيرٍ يمنعُه من عذابِ اللهِ، أو يُنقِذُه منه.
كما يُؤكِّدُ سبحانه كُفرَ الَّذين زعَموا من النَّصارى أنَّ عيسى وأمَّه إِلَهانِ مع اللهِ تعالى، فجعلوه جلَّ وعلا ثالثَهم، تعالى اللهُ عن ذلِك! فما من معبودٍ بحقٍّ سواه، ثم بيَّن سبحانه سوءَ عاقبةِ هؤلاءِ الضَّالينَ الذين قالوا ما قالوا، وأنَّه إن لم يرجعْ هؤلاءِ عن هذه المقولةِ الكُفْريَّةِ، والفِريةِ العظيمةِ، فسيُصيبُ الذين كفروا منهم- بتمسُّكهم بِها- عذابٌ مؤلِم مُوجِعٌ، وبعدَ هذا التَّرهيبِ الشَّديدِ للكافرينَ مِن العَذابِ الأليمِ، فتَح لهم سبحانه بابَ رحمتِه؛ حيثُ رغَّبَهم في الإيمانِ، وحضَّهم على التَّوبةِ والاستغفارِ؛ فإنَّ الله سبحانه غفورٌ رحيمٌ.
ثم بَيَّن تعالى حقيقةَ المسيحِ وأُمِّه؛ فهما ليسَا كما زعَم هؤلاءِ الكَفَرةُ مِن النَّصارى، بل المسيحُ هو ابنُ مريمَ، وهو رسولٌ مِن رُسُلِ اللهِ كسائرِ عِبادِ اللهِ المرسَلينَ الذين كانوا مِن قَبلِه، وأمُّه صِدِّيقةٌ، كانَا يأكلانِ الطعامَ، ويَحتاجانِ للتغذيةِ كغيرهما مِن بني آدَمَ، فانظرْ- يا محمَّدُ- كيف يُبيِّن اللهُ لهم الأدلَّةَ والحُجج، ثم انظرْ كيف يُصرَفون عن الحقِّ، ويَضِلُّون عن هذه الأدلَّةِ الواضحة، وقلْ- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ الكَفَرةِ من النَّصارى مُنكرًا عليهم: أَتعبُدونَ غيرَ اللهِ ممَّن لا يَملِك لكم ضرًّا ولا نفعًا، واللهُ هو السَّميعُ العليمُ؟!
وأمَرَ اللهُ سبحانه نبيَّه أن ينهاهم عن الغُلوِّ الباطِلِ في دِينِهم، وألَّا يَتَّبِعوا أهواءَ أكابرِهم ورُهبانِهم الجَهَلةِ الذين ضلُّوا من قبلُ، وأضلُّوا كثيرًا غيرَهم، وانحرَفوا عن الطَّريقِ المستقيمِ.
تفسير الآيات:

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا تَكلَّم اللهُ عن اليهودِ في الآياتِ السَّابقةِ، شرَعَ في الكلامِ هاهنا عن النَّصارى
فقال تعالى:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.
أي: لقد كفَر النَّصارى الَّذين جعَلوا اللهَ تعالى هو عَبْدَه ورسولَه المسيحَ عِيسى ابنَ مريمَ عليه السَّلام، الذي خلَقَه الله عزَّ وجلَّ بشرًا مثلَهم معروفًا نَسبُه وأصلُه .
وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.
والحالُ أنَّ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد ناداهم أنِ اعبدوا- يا بني إسرائيلَ- اللهَ المستحِقَّ وحْدَه للعِبادة، الذي أنا وأنتم عبيدٌ له مَربُوبون؛ فهو مالكُنا وخالقُنا، ومُدبِّرُ أمورِنا جميعًا سبحانَه وتعالى .
إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ.
أي: إنَّ مَنْ يقَعْ في شَرَك الشِّركِ، فيَعبُد معَ اللهِ تعالى غيرَه، فحرامٌ عليه دخولُ الجَنَّةِ في الآخِرَة، وإنَّما تكونُ النارُ مقامَه الذي يستحقُّه، ودارَه التي يَأوِي إليها .
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ.
أي: ولَيس لِمَن ظلَمَ نفْسَه بشِركِه باللهِ تعالى، ولا لأيِّ ظالمٍ كان، أيُّ ناصرٍ يمنعُ عنه عذابَ اللهِ تعالى، أو يُنقِذُه منه .
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73).
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ.
أي: كفَر النَّصارَى الَّذين جعَلوا المسيحَ وأُمَّه إلهيْنِ مع اللهِ سبحانه، فجَعَلوا اللهَ تعالى وتقدَّس ثالثَهم .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] .
ثمَّ ردَّ اللهُ تعالى عليهم هذا القولَ الباطلَ ، فقال عزَّ وجلَّ:
وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ.
أي: ليسَ لكم- أيُّها الناسُ- معبودٌ بحقٍّ إلَّا معبودٌ واحدٌ غيرُ متعدِّدٍ، مُتَّصفٌ بكلِّ صِفةِ كمالٍ، مُنزَّهٌ عن كلِّ عيبٍ ونقص؛ ومنها: أنَّه ليس بوالدٍ لشيءٍ، ولا مولودٍ منه، بل هو خالقُ كلِّ والدٍ ومولودٍ، سبحانه .
كما قال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون: 91] .
وقال عزَّ وجلَّ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء: 22] .
وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: وإنْ لم يَكُفَّ قائلو هذه المقالةِ الكُفريةِ عن القولِ بهذه الفِريةِ واعتقادِها، ليُصيبَنَّ مَن استمرَّ على كُفرِه منهم- بالتمسُّكِ بها- عذابٌ مؤلِمٌ، موجِعٌ لقلوبِهم وأبدانِهم في الآخِرة .
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا تَوعَّدَهم اللهُ تعالى، أعْقبَ الوعيدَ بالتَّرغيبِ في الهدايةِ ، فقال سبحانه:
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ.
أي: هلَّا أنابوا إلى اللهِ تعالى، ورَجَعوا عمَّا كانوا يقولونَه مِن الشِّركِ والافتراءِ، إلى ما يُحبُّه اللهُ عزَّ وجلَّ ويَرضاه؛ مِن الإيمانِ به وتوحيدِه، والإقرارِ بأنَّ عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه، ويَطلُبونَ منه سبحانه المغفرةَ ؟
كما قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] .
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: واللهُ تعالى أهلٌ لأنْ يتوبوا إليه ويَستغفِروه؛ فإنَّهم إنْ فعَلوا تابَ عليهم وغفَر لهم؛ لأنَّه غفورٌ يَستُر ذنوبَ عِبادِه، ويتجاوزُ عن مؤاخَذَتِهم بها. رحيمٌ بهم، ومِن رحمتِه أنْ يَعرِض عليهم التوبةَ إليه، ويَقبَلَها منهم .
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75).
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.
أي: ليس الأمرُ كما قال هؤلاءِ الكفرةُ في المسيحِ عليه السَّلام، بل الحقُّ أنَّه ابنُ مريمَ التي ولدتْه ولادةَ الأمَّهات لأبنائهنَّ، كغيرِه من البَشَرِ، وهو للهِ تعالى رسولٌ مثلُ سائرِ عبادِه المـُرسَلين، الذين كانوا قبلَه ثم مَضَوا، فهذه غايتُه ومَبْلَغُ أمْرِه، وليس هو اللهَ ولا ابنَ الله، كما يَزعُمون .
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ.
أي: وأمُّ المسيحِ مَريمُ عليها السَّلام صادقةٌ، مُصدِّقةٌ بآياتِ الله، مؤمنةٌ بعيسَى عليه السلام، مُصدِّقةٌ له، قد صدَّقت قولَها بفعلِها، وهذا أعْلى مقاماتِها .
فإذا كان عيسى عليه السَّلامُ مِن جنسِ الرُّسلِ مِن قَبلِه، وأُمُّه صِدِّيقة؛ فكيف يتَّخذُهما النَّصارى إلهينِ مع الله سبحانه؟! تعالى عمَّا يقولون عُلوًّا كبيرًا .
كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ.
أي: كانَا محتاجَينِ إلى التغذيةِ بالطَّعامِ، وإلى خُروجِه منهما، كغيرِهما من بني آدَمَ، وليسَا بإلهينِ كما زعَم النَّصارى؛ إذ لو كانَا كذلك حقًّا لاستَغْنيَا عن الطعامِ؛ فالمفتقرُ إلى الغذاءِ قِوامُه بغيرِه، وفي قوامِه بغيرِه وحاجتِه إلى ما يُقيمه دليلٌ ظاهرٌ على عَجْزِه، والعاجزُ لا يكونُ ربًّا، بل مربوبٌ؛ فإنَّ الإلهَ الحقَّ مُستغنٍ عن غيرِه، كما وصَفَ اللهُ تعالى نفْسَه بقولِه: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [الأنعام: 14] .
انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ.
أي: انظُرْ- يا محمَّدُ- نظرَ تدبُّرٍ وإقرارٍ؛ كيف نُورِدُ لهؤلاءِ الكفرةِ الأدلَّةَ والحُججَ المجلِّيةَ للحقِّ، الموضِّحةَ لبُطلانِ ما يَفتُرون على ربِّهم .
ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
أي: ثم انظُرْ- يا محمَّدُ- كَرَّةً أخرى نظرَ تعجُّبٍ وإنكارٍ؛ كيف يُصرَفونَ عن الحقِّ فيَضلُّون مع هذه البراهينِ الجليَّةِ التي لا تَدَعُ مجالًا للشكِّ؟! ومِن أينَ يتطرَّقُ إليهم الصرفُ عن الاعتقادِ الحقِّ، بعدَ هذا البيانِ البالغِ غايةَ الوضوح ؟!
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن تعالى بدَليلِ النَّقلِ والعقلِ انتفاءَ الإلهيَّةِ عن عِيسى عليه السَّلام، وكان قد توعَّدَ مَن زعَم ذلك، ثمَّ استَدْعاهم للتوبةِ، وطلبِ الغُفرانِ- أنكرَ عليهم، ووبَّخهم مِن وجهٍ آخرَ، وهو عجزُ عِيسى عليه السلام، وعدَمُ اقتدارِه على دفْعِ أيِّ ضررٍ، وجَلْبِ أيِّ نفْعٍ، وأنَّ مَن كانَ لا يَدفَعُ عن نفْسِه حريٌّ ألَّا يَدفعَ عنكُم ، فقال:
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا.
أي: قلْ- يا محمَّدُ- منكرًا على هؤلاءِ الكَفَرةِ مِن النصارى وغيرِهم: أتَعبدُونَ سوى اللهِ- الذي يَملِكُ ضرَّكم ونَفْعَكم- شيئًا لا يَقدِرُ على إلحاقِ أيِّ ضَررٍ بكم، ولا جَلْبِ أيِّ نفعٍ لكم ؟!
وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
أي: واللهُ عزَّ وجلَّ هو السَّميعُ لكلِّ شيءٍ، ومِن ذلِك أقوالُكم، العليمُ بكلِّ شيءٍ، ومِن ذلك أعمالُكم، فلِمَ عَدلْتُم عن إفرادِه سبحانه بالألوهيَّة، إلى تأليهِ مَن ليستْ هذه صِفتَه؟! فإنَّ الكاملَ الذي هذِه أوصافُه هو الإلهُ الحقُّ الذي يستحقُّ أنْ يُعبدَ وحْدَه .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77).
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ.
أي: قلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ النَّصارى الذين آتاهُم اللهُ تعالى كتابًا ينطِقُ بالحقِّ: لا تُفْرِطوا فيما تَدينون به مِنَ الحقِّ في أمْرِ المسيحِ عليه السَّلام، ولا تُطْرُوا هذا الذي أُمرتُم بتعظيمِه فتُبالِغوا في شأنِه، وتَتعَدَّوْا فيه الحقَّ إلى الباطِلِ، فتُخرِجوه عن حيِّزِ النبوَّةِ إلى مقامِ الألوهيَّةِ .
وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
أي: ولا تَنقادُوا للأهواءِ المخالفةِ للحقِّ الصادرةِ مِن أكابرِكم ورُهبانِكم الجَهَلةِ الذين كانوا مِن قبلِكم ، وقد ابتَدعوا بِدَعًا بدَّلوا بها شَرْعَ المسيحِ عليه السَّلام، فحادوا عن طريقِ الهُدى، وصَرَفوا عنه كثيرًا من الناسِ، وانحرَفوا عنِ الصِّراطِ المستقيمِ المعتَدِلِ، الذي ليس فيه غلوٌّ ولا تفريطٌ

.
قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50] .
الفوائد التربوية:

1- أنَّ إقرارَ الإنسانِ على غيرِه غيرُ مَقبولٍ؛ لأنَّهم ادَّعوا أنَّ اللهَ هو المسيحُ، وعيسى ابنُ مريمَ أنكَرَ ذلك، فقال: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ؛ فأنا لستُ إلهًا تَعبدونني، بل أنا وأنتم على حدٍّ سواءٍ، كلُّنا مربوبون للهِ عزَّ وجلَّ
.
2- الاستدلالُ الملزِم للخَصم، وأنَّه يَنبغي للإنسانِ عند المجادلةِ أنْ يتَّبعَ أوضحَ الأدلَّةِ وأشدَّها إلزامًا للخَصم؛ لقوله: اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لم يقل: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، قال: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إلزامًا لهم بعبادتِه؛ لأنَّهم مُقرُّون بالربوبيَّة، وهذا كقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] ، فقال: اعبُدوا ربَّكم إلزامًا لهم بالعبادةِ؛ لأنَّ اللهَ هو الذي خلَقَهم، وهو الذي يَحكُم فيهم ويَحكُم بينهم .
3- فتْحُ بابِ التوبةِ لكلِّ مَن أساءَ وإنْ عظُمت إساءتُه؛ لقوله: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا... الآية، فالله تعالى حكَى عنهم الكُفرَ، مع ذلِك عرَض عليهم أنْ ينتهوا عمَّا يقولون .
4- يُستفادُ من قولِه: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ الاستدلالُ بالأوضحِ الأجْلَى دون الأَخْفى؛ لأنَّ أكْلَهما للطعامِ أمرٌ لا يُنكَر، لكن لو جِيء بأدلَّةٍ عقليَّةٍ أخرى ربَّما يكونُ فيها جدلٌ، لكنَّ الاستدلالَ بالمحسوسِ أبلغُ من الاستدلالِ بالمعقولِ؛ لأنَّ المعقولَ يمكن فيه الجدلُ، لكنَّ المحسوسَ لا يمكن فيه الجدلُ .
5- قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ، إذا نُهي أهلُ الكتاب عن الغُلوِّ، والغلوُّ في ذاتِه مَفسدةٌ، فكذلِك يُنهى غيرُهم؛ ولهذا حذَّرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الغُلوِّ في الدِّين، وحذَّر من الغُلوِّ فيه نفْسِه .
6- أنَّ الذي يَحمِلُ الإنسانَ على الضلالِ هو الهوى، وإلَّا لو كان الإنسانُ يقول بالعدل، ويَحكُم بالقِسط، ما ضلَّ عن الصِّراطِ المستقيم، لكن يَغلِبه هواه حتى يضلَّ؛ ولهذا قال: وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا، ثم بَيَّنَ ضلالَهم بقولِه: وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- قوله: لَقَدْ كَفَرَ... جاءَ مؤكَّدًا بثلاثةِ مؤكِّدات: القسَمُ المقدَّر، واللام، و(قَدْ)، على عادةِ اللِّسانِ العربيِّ في تأكيدِ ما يستحقُّ التأكيد، وإلَّا فخبرُ اللهِ عزَّ وجلَّ حقٌّ، ثم إنَّ هذا أيضًا، أي: قوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ ليس خبرًا مجرَّدًا، بل هو خبرٌ وحُكم؛ فقد حَكَم عليهم بالكُفرِ؛ لقولهم: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فهو مؤكَّد؛ لئلَّا يُعارِضَ معارِضٌ فيقول: ليس هذا بكُفرٍ
.
2- أنَّ أحكامَ القُرآنِ الكريم يُؤتَى بها غالبًا بحُكمٍ عامٍّ مَنُوطٍ بالعلَّة، بمعنى: لو شاءَ الله تعالى لقال: لقدْ كفَر النَّصارَى، لكنَّه قال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ سواءٌ كانوا من بني إسرائيلَ الذين هم النَّصارى أو مِن غيرِهم .
3- أنَّه لا كُفرَ إلَّا بعدَ قِيامِ الحُجَّةِ بِناءً على أنَّ الواو في قوله: وَقَالَ الْمَسِيحُ حاليَّةٌ، يعني: أنَّهم كفَروا، وقدْ بُيِّنَ لهم الأمرُ .
4- لَمَّا كانتْ دعوى الاتِّحادِ أشدَّ في الكفرِ، وأنْفى للإلهِ مِن دعوى التثليث، قدَّمها الله تعالى، فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، ثم قال بعدَها في الآيةِ التالية: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ .
5- في قولِه تعالى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أمرُ المسيحِ لهم بأداءِ الحقِّ لأهلِه مُذكِّرًا لهم بعظمتِه بقوله: اعْبُدُوا اللهَ، ثم ذكَّرهم بإحسانِه، وأنَّه وإيَّاهم في ذلِك سواء، فقال مقدِّمًا لِمَا يتعلَّقُ به؛ لأنَّه أهمُّ لإنكارهم له رَبِّي وَرَبَّكُمْ .
6- يُستفادُ من قولِه: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إقامةُ الحُجَّةِ على أهلِ الشِّركِ؛ حيثُ أشركوا بالله مع أنَّه ربُّهم، وأنَّ الأصنامَ ليس لها شأنٌ في الربوبيَّةِ إطلاقًا؛ فهي لا تَسمعُ ولا تُبصِرُ، ولا تَنفع ولا تَضرُّ، كما قال تعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل: 21] .
7- أنَّه لا حظَّ لعيسى في الأُلوهيَّةِ والرُّبوبيَّة، ولا حقَّ له فيهما؛ لقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ هذا في الألوهيَّةِ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ وهذا في الرُّبوبيَّة، وكذلك غيرُه من الرسلِ وغيرُه من الناسِ، وبهذا نَعرِفُ ضلالَ أولئك القومِ الذين يدَّعون أنَّ أولياءَهم هم الذين يُدبِّرون الكونَ، وهم الذين يُصرِّفونَه، وأنَّهم على ضَلالٍ مبينٍ .
8- قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ذكَر العِبادةَ ثمَّ ذكَر الرُّبوبيَّة؛ إشارةً إلى أنَّ الربوبيَّة تستلزمُ الأُلوهيَّةَ، أي: إنَّ توحيدَ الرُّبوبيَّةِ يستلزمُ توحيدَ الألوهيَّة، فمَن أقرَّ للهِ عزَّ وجلَّ بالرُّبوبيَّة لزِمَه أن يُقرَّ بالعبادةِ؛ لأنَّ الربَّ يجبُ أن يكونَ معبودًا؛ لأنَّ له الأمرَ وله الحُكم، فإذا كان كذلك يجبُ أن يُعبَدَ كما شرَع .
9- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ أنَّ عِقابَ الفُسَّاقِ لا يكون مخلَّدًا؛ لأنَّه تعالى جعَل أعظمَ أنواعِ الوعيدِ والتهديدِ في حقِّ المشركينَ، وهو أنَّ الله تعالى حرَّم عليهم الجنَّةَ ومأواهم النَّار، وأنَّه ليس لهم ناصرٌ يَنصرُهم، ولا شافعٌ يَشفَعُ لهم، فلو كان حالُ الفُسَّاقِ من المؤمنين كذلك لَمَا بقِي لتهديدِ المشركين على شِركهم بهذا الوعيدِ فائدةٌ .
10- أنَّه لا مأوى للخَلقِ إلَّا أحدُ أمرين: إمَّا الجنَّة، وإمَّا النار، ليس هناك شيءٌ وسطٌ؛ لقولِه: فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ .
11- لَمَّا كان المنعُ مِن دار السُّعداءِ مُفهِمًا لكونه في دارِ الأشقياء، صرَّحَ به فقال: وَمَأْوَاهُ، أي: محلُّ سُكناه النَّارُ، ولَمَّا جرَتْ عادةُ الدنيا بأنَّ مَن نزَلَ به ضيمٌ يَسعى في الخَلاصِ منه بأنصارِه وأعوانِه، نفَى ذلك سبحانه مُظهِرًا للوصفِ المقتضي لشَقائِهم تعليلًا وتعميمًا، فقال: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لا بفِداءٍ ولا بشفاعةٍ .
12- الإشارةُ إلى أنَّ الشِّركَ ظلمٌ؛ لقوله: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ وقد جاءَ ذلك صريحًا في القرآنِ الكريم، فقال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .
13- فائدةُ جمْعِ الأنصارِ في قوله: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ- مع كونِ النَّكِرة المفردةِ تُفيدُ العمومَ في سِياقِ النَّفيِ- هي التَّنبيهُ على كونِ النَّصارى كانوا يتَّكِلونَ على كثيرٍ مِن الرُّسلِ والقِدِّيسينَ؛ إذ كانتْ وثنيةُ الشَّفاعةِ قدْ فشَتْ فيهم، وإنْ لم تكُن من أصلِ دِينِهم .
14- أنَّ الظالِمينَ لا ناصِرَ لهم؛ لقوله: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، و(مِن) هنا حرفُ جرٍّ جاء لإفادةِ العمومِ والتوكيد؛ فإنْ قال قائل: كيفَ يَستقيمُ هذا النفيُ المؤكَّد مع أنَّ الكفَّارَ قد يُنصَرون، والمشركين قدْ يُنصَرون؟ الجواب: أنَّ هذا نصرٌ مؤقَّتٌ؛ ليبتليَ اللهُ به المؤمنين، وليس نصرًا دائمًا؛ قال الله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر: 51] ، وقال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة: 166] ، وقال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف: 38] ، ولا يُمكِن أنْ يتناصرَ الكفَّارُ في دفْعِ العذاب عنهم يومَ القِيامة، وحينئذٍ فلا إشكالَ .
15- أَبطلَ اللهُ قولهم: إنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ بقوله: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ، وهذا خبرٌ مِن أصدقِ المخبِرينَ، خبَرٌ مؤكَّد بحَرفِ الجرِّ الزائدِ وبالحَصْر، وطريقُ الحصرِ النفيُ والإثبات، وهذا الحصرُ مؤكَّد بـ«من» الزائدة، وكلُّ الحروفِ الزائدة مؤكِّدة .
16- إثباتُ عدْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه لا يُعذِّبُ إلَّا مَن استمرَّ على كُفرِه ومعصيتِه؛ لقوله: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
17- التَّحذيرُ البليغُ من الاستمرارِ على الكفرِ والشِّركِ، وأنَّ مَن استمرَّ عليه فله العذابُ الأليمُ؛ لقولِه: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
18- في قوله: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ بعد قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ.... عَذَابٌ أَلِيمٌ بيانُ لُطفِ اللهِ تعالى بعِبادِه؛ حيث صدَّر دَعوتَهم إلى التوبةِ بالعَرضِ الذي هو غايةُ اللُّطفِ واللِّين؛ فمع هذه الفِريةِ العُظمَى والوقوعِ في جنابِ اللهِ جلَّ وعلا بهذا الأمْرِ الهائلِ العظيمِ، فاللهُ مع هذا يَستعطِفُهم ويَتلطَّفُ بهم للتوبةِ أحسنَ استعطافٍ وألْطفَه .
19- في قولِه تعالى: ... وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ استدلالٌ على فسادِ قولِ النصارى بألوهيَّة عيسى وأُمِّه، وبيانُه مِن وجهين: الأوَّل: أنَّ عيسى عليه السلامُ له أمٌّ، وكلُّ مَن له أُمٌّ فقدْ حَدَث بعدَ أنْ لم يكُنْ، وكلُّ من كان كذلك كان مخلوقًا لا إلهًا، والثاني: أنَّ عيسى وأمَّه كانا محتاجَيْنِ إلى الطَّعامِ، والإلهُ الحقُّ غنيٌّ عن جميعِ الأشياء .
20- ممَّا يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا أنَّ الهوى لا يكاد يُذكَرُ إلَّا في موضعِ الشرِّ، فلا يكاد يُقال: فلان يَهوى الخيرَ، إنَّما يُقال: يريدُ الخيرَ ويُحبُّه، وقيل: سُمِّيَ الهوى هوًى؛ لأنَّه يَهوِي بصاحبِه إلى النَّارِ .
21- قولُه: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا فيه الردُّ على الجبْريَّةِ الذين قالوا: إنَّ ضلالَ الإنسانِ لا يُنسَبُ إليه، وإنَّه مَجبورٌ عليه، ولا اختيارَ له فيه؛ لأنَّ الآيةَ صريحةٌ بأنهم ضلُّوا وأضلُّوا .
22- إثباتُ الأسبابِ؛ لقوله: وَأَضَلُّوا فإنَّ هذا إضلالٌ ليس عن قوَّةٍ وإجبارٍ وإكراهٍ، لكنَّه عن سببٍ، يُزيِّنون به الباطلَ حتى يُضلُّوا به غيرَهم .
23- أنَّ الدِّينَ الصَّحيحَ وسَطٌ بين الغالي فيه والجافي عنه؛ لقوله: وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، أي: عن مُستقِيمِ السَّبيلِ، الذي ليس فيه غُلوٌّ ولا تفريطٌ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ استئنافٌ ابتدائيٌّ، وفيه: شروعٌ في تفصيلِ قَبائحِ النَّصارى، وإبطالِ أقوالهم الفاسدةِ بعدَ تفصيلِ قبائحِ اليهودِ
.
2- قوله: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ على القَوْلِ بأنَّ هذه الجملةَ حِكاية لكلامٍ صدَر من عيسى عليه السَّلام، فتكون تعليلًا للأمْر بعبادَةِ الله، ووقوع إنَّ في مِثل هذا المقامِ تُغني غَناءَ فاءِ التفريعِ، وتُفيد التَّعليل، وفي حكايتِه تَعريضٌ بأنَّ قولَهم ذلك قد أوْقَعهم في الشِّرْكِ، وإنْ كانوا يظنُّون أنَّهم اجتنبوه؛ حذرًا من الوقوعِ فيما حذَّر منه المَسيحُ؛ لأنَّ الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ أرادوا الاتِّحادَ باللهِ، وأنَّه هو هو. وعلى القول بأنَّ الجملةَ من كلامِ اللهِ تعالى فهو تذييلٌ لإثباتِ كُفْرِهم، وزيادةُ تنبيهٍ على بُطلانِ معتقدِهم، وتعريضٌ بهم بأنَّهم قد أشْركوا باللهِ مِن حيثُ أرادوا التوحيدَ، والضمير المقترن بـ(إنَّ) ضميرُ الشَّأنِ يدلُّ على العِناية بالخبرِ الواردِ بعدَه .
3- قوله: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ: خبَرٌ، المرادُ منه الوعيدُ والتهديدُ، وهذا مِن بابِ التَّحذيرِ؛ فالجُملةُ هنا استئنافيَّةٌ للتَّحذيرِ .
- وفيه: إظهارُ الاسمِ الجَليلِ اللَّهُ في مقامِ الإضمارِ؛ لتهويلِ الأمرِ، وتربيةِ المهابةِ .
4- قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ:
- قوله: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ فيه: تأكيدٌ أنَّه لا يكونُ إلهٌ في الوُجودِ مستحِقٌّ للعبادَةِ إلَّا إلهٌ واحدٌ مَوصوفٌ بالوحدانيَّة، مُتعالٍ عن قَبول الشَّرِكةِ، وأكَّد ذلك بزيادةِ مِن الاستغراقيَّة التي تُؤكِّد عمومَ النَّفْي ، وحَصْرِ إلهيَّتِه- بأداتَيِ الحصْرِ (ما) و(إلَّا)- في صِفة الوحدانيَّة؛ فانتفى التثليثُ المحكيُّ عنهم .
- وعبَّر بالمضارعِ في قولِه: يَنْتَهُوا؛ لأنَّه المناسِبُ للانتهاءِ؛ إذ الانتهاءُ إنَّما يكونُ عن شيءٍ مستمرٍّ، وناسَب التعبيرُ بالماضي في قولِه قَالُوا مع قولِه لَقَدْ كَفَرَ؛ لأنَّ الكُفرَ حصَلَ بقولِهم ذلك ابتداءً من الزَّمنِ الماضي .
- وأكَّد الوعيدَ بلامِ القَسَم في قَوْلِه: لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ...؛ ردًّا لاعتقادِهم أنَّهم لا تَمسُّهم النارُ؛ لأنَّ صَلْبَ عيسى كان كفَّارةً عن خَطايا بني آدَمَ .
- وفي قوله: لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إقامةُ الظَّاهرِ مقامَ المضمَرِ- حيثُ لم يقُلْ: (وليمسنَّهم)- وفائدتُه: تكريرُ الشَّهادةِ عليهم بالكُفرِ في قولِه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا...، وفيه فائدةٌ أخرى، وهي: الإعلامُ أنَّهم بمكانٍ مِن الكُفرِ، أي: ليمسنَّ الذين كَفروا من النَّصارى خاصَّةً نوعٌ شديدُ الألمِ من العَذابِ .
5- قوله: أَفَلَا يَتُوبُونَ إلى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ الاستفهامُ فيه؛ قيل: معناهُ الإنكارُ والتعجُّبُ مِن إصرارِهم؛ كيفَ لا يَتوبونَ ويَستغفِرون مِن هذه المَقالةِ الشَّنعاءِ؟! والإنكارُ هنا إنكارٌ للواقِعِ منهم لا إنكارُ الوقوعِ؛ فمدارُ الإنكارِ والتعجُّبِ عَدَمُ الانتهاءِ، وعَدمُ التَّوبةِ معًا. وقيل: معنى هذا الاستفهامِ الأمرُ والتَّحضيضُ؛ لأنَّ المفهومَ مِن الصِّيغةِ طَلبُ التَّوبةِ والحثُّ عليها، فمعناه: تُوبوا إلى اللهِ واستغفِرُوه مِن ذَنبِكم .
6- قوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ جملةٌ حاليَّةٌ مِن فاعِل يَسْتَغْفِرُونَهُ، وهي مؤكِّدةٌ للإنكارِ والتعجُّبِ من إصْرارِهم على الكُفرِ، وعدمِ مُسارعتِهم إلى الاستغفارِ، أي: والحالُ أنَّه تعالى مبالِغٌ في المغفرةِ، فيَغفرُ لهم عندَ استغفارِهم، ويَمنحُهم من فضلِه؛ فكيف لا تُوجَدُ التوبةُ مِن هذا الذَّنبِ، وطَلبُ المغفرةِ، والمسؤولُ منه ذلك مُتَّصفٌ بالغُفرانِ التامِّ، والرحمةِ الواسعةِ لهؤلاء وغيرِهم ؟!
7- قوله: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ استئنافٌ لتبيانِ وصْفِ المسيحِ في نَفْسِ الأمرِ، ووصْفِ أمِّه؛ زيادةً في إبطالِ مُعتقَدِ النصارى إلهيَّةَ المسيحِ، وإلهيةَ أمِّه .
8- قوله: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ جاءَ قولُه: صِدِّيقَةٌ على بِناءٍ مِن أبنيةِ المبالَغةِ (فِعِّيل)؛ للدَّلالةِ على مُبالغَتِها في الصِّدْقِ والتَّصديقِ .
9- قوله: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ قِيل: فيه كنايةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ كنَّى عن قَضاءِ الحاجةِ بأكْلِ الطَّعامِ، وقصَدَ مِن ذلك أنَّهما- صلواتُ اللهِ عليهما- بَشَرٌ، فاكتفَى بذِكرِ أكْلِ الطَّعامِ عن كلِّ هذا؛ لأنَّهما منه مُسبَّبانِ؛ إذ لا بدَّ للآكلِ منهما، لكن استُقبِح في المخاطَبِ ذِكرُ الغائطِ فكنَّى به عنه؛ تهذيبًا وتصوُّنًا، وهذا مِن غريبِ الكناياتِ في اللُّغة العربيَّة، وفيها أيضًا تشنيعٌ وبشاعةٌ على مَن اتَّخذهما آلهةً . وقيل: بلْ هو على حَقيقتِه، ويَكفِي حاجتُهما إلى الطعامِ دَلالةً على بشريَّتِهما؛ إذ هذه الحاجةُ من أقوى الدلائلِ على أنَّه ليس بإلهٍ؛ فلا حاجةَ إلى الكنايةِ .
10- قوله: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
- الجُملة استئنافٌ للتعجُّب مِن حالِ الذين ادَّعَوُا الإلهيَّةَ لعيسى عليه السلامُ .
- والتكريرُ في قوله: ثُمَّ انْظُرْ بعد قوله: انْظُرْ؛ للدَّلالةِ على الاهتمامِ بالنَّظر والتدبُّر، وإن اختلفتِ النَّظرتانِ؛ فالأُولى متعلِّقة بكيفيَّةِ إيضاحِ اللهِ لخَلْقِه الآياتِ، والثانية متعلِّقةٌ بانصرافِهم عنها، وصُدوفِهم عن التأمُّلِ في مراميها وأهدافِها؛ إذ تكريرُ الأمرِ بالنظرِ للمبالغةِ في التعجُّب، وثُمَّ لإظهارِ ما بين العجبينِ من التفاوتِ، أي: إنَّ بيانَنا للآياتِ أمرٌ بديعٌ في بابه، بالغٌ لأقاصي الغاياتِ القاصية من التحقيق والإيضاح، وإعراضَهم عنها- مع انتفاءِ ما يُصحِّحه بالمرَّةِ، وتعاضُد ما يُوجِب قَبولَها- أعجبُ وأبدعُ .
11- قوله: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فيه: استفهامٌ غرضُه التوبيخُ والإنكارُ؛ فإنَّه لَمَّا بيَّن تعالى انتفاءَ الإلهيَّة عن عيسى، وكان قدْ توعَّدَهم، ثمَّ استدعاهم للتوبةِ وطلَبِ الغفرانِ- أنكرَ عليهم، ووبَّخهم من وجهٍ آخر، وهو عجزُه وعدمُ اقتدارِه على دفْع أيِّ ضررٍ، وجَلْب أيِّ نفعٍ، وأنَّ مَن كان لا يدفَعُ عن نفْسِه حريٌّ ألَّا يدفعَ عنكم .
- وتقديمُ قولِه تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ على قولِه تعالى: مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا؛ للاهتمامِ بالمقدَّم، والتشويقِ إلى المؤخَّر، والاسمُ الموصول مَا عبارةٌ عن عيسى عليه السلام، وإيثارُه على كلمة مَنْ؛ لتحقيقِ ما هو المرادُ من كونِه بمعزلٍ من الألوهيَّة رأسًا ببيانِ انتظامِه عليه السَّلام في سِلْكِ الأشياءِ التي لا قُدرةَ لها على شيءٍ أصلًا، وهو عليه السَّلامُ وإنْ كان يملِك ذلك بتمليكِه تعالى إيَّاه، لكنَّه لا يملكُه مِن ذاتِه، ولا يملك مِثلَ ما يضرُّ به اللهُ تعالى من البلايا والمصائِبِ، وما ينفعُ به من الصحَّةِ والسَّعةِ .
- وتقديمُ الضَّرِّ على النَّفع في قولِه: ضَرًّا وَلَا نَفْعًا من بابِ تقديمِ الأهمِّ؛ لأنَّ التحرُّزَ عنه أهمُّ من تحرِّي النفعِ، ولأنَّ أدْنى درجاتِ التأثيرِ دفْعُ الشرِّ، ثم جلْبُ الخيرِ .
12- قوله: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ حالٌ من فاعل أَتَعْبُدُونَ وفيه تأكيدٌ للإنكار والتوبيخ، وتقريرٌ للإلزامِ والتَّبكيت، والرَّابط هو الواو، أي: تُشركون بالله تعالى ما لا يَقدِرُ على شيءٍ مِن ضرِّكم ونَفْعِكم، والحالُ أنَّ الله تعالى هو المختصُّ بالإحاطةِ التامَّة بجميعِ المسموعاتِ والمعلوماتِ، التي مِن جُملتها ما أنتُم عليه من الأقوالِ الباطِلَة، والعقائدِ الزائغَةِ، والأعمالِ السيِّئة، وبالقُدرة الباهِرة على جميعِ المقدوراتِ، التي مِن جُملتها مضارُّكم ومنافعُكم في الدُّنيا والآخرة .
13- قوله: قلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ
- فيه تلوينُ الخِطاب وتَوجيهٌ له إلى أهلِ الكتابِ بطَريقِ الالتفاتِ على لِسانِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعدَ إبطالِ مسالكهم؛ للمبالغةِ في زَجْرِهم عمَّا سلَكوه مِن المسلك الباطِلِ، وإرشادِهم إلى الطَّريقِ الحقِّ الذي يُرضي اللهَ تعالى .
- وتَنكيرُ قَوْمٍ تحقيرًا لهم .
- وفيه تَكرارُ وصْفِ أهلِ الكتابِ بالضَّلالِ؛ وأنَّهم ضلُّوا قديمًا في دِينِهم مِن قَبلِ مجيءِ الإسلامِ، وأضلُّوا كثيرًا مِن أتْباعِهم، ثمَّ أكَّد ذلك بتَكرار قولِه: وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وأنَّهم ضلُّوا بعد ذلك عن الإسلامِ .

======26.



سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (78 - 81)
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
مشكل الإعراب:

قوله: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
أَنْ سَخِطَ: أنْ: حرفٌ مَصدريٌّ ناصِبٌ، وسَخِطَ: فِعلٌ ماضٍ تَعلَّق به الجارُّ والمجرورُ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ سَخِطَ: مَصدرٌ مؤوَّلٌ، ومحلُّه الرفْع على أنَّه مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وخبرُه المقدَّمُ جملةُ الفِعلِ الجامِدِ (بِئْسَ)، والتقديرُ: سَخَطُ اللهِ عليهم بِئَسَ ما قدَّمتْه لهم أنفُسُهم. وقيل: أَنْ سَخِطَ: مَصْدر مُؤَوَّلٌ في محَلِّ رفعٍ خَبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه (هو)، والتقديرُ: بِئَسَ ما قدَّمتْه لهم أنفُسُهم هو سَخَطُ اللهِ. وقيل غير ذلك

.
المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّه لَعَن كفَّارَ بني إسرائيلَ بأنْ طرَدَهم مِن رَحمتِه على لِسانِ نَبيَّينِ كَريمينِ؛ هما داودُ وعيسى عليهما السَّلامُ، وذلك بسببِ عِصيانِهم لخالقِهم، واعتدائِهم على حُقوقِ العِبادِ، ثمَّ فسَّر سبحانه عِصيانَهم وعُدوانَهم بأنَّهم كانوا لا يَنهَى بعضُهم بعضًا عن ارتكابِ المعاصِي والموبِقات، لبئسَ فِعلًا تَركُهم التَّناهي عن المعاصِي.
ثمَّ يحَكِي الله تعالى ما كان يقومُ به اليهودُ في العَهْدِ النبويِّ من تحالفٍ مع المشركين ضدَّ المسلمين، وأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يرَى كثيرًا من اليهودِ يُوالونَ الكفَّارَ والمشركين، ولبِئسَ الشيء الذي قدَّمته لهم أنفسُهم ليوم المعاد هو ما استحقُّوا به سَخطَ اللهِ عز وجل عليهم، وفي عَذابِ جهنَّمَ هم خالدونَ، ولو أنَّ اليهودَ يُؤمِنون باللهِ تعالى حقًّا وبمحمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبالقرآنِ الكريمِ، ما والَوُا الكفَّارَ، ولكنَّ كثيرًا منهم فاسِقونَ.
تفسير الآيات:

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ سبحانَه في الآيةِ السابقَةِ أنَّهم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، دلَّل على ذلِك بلَعْنِهم مِن أنبيائِهم
، فقال:
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى قد طَرَدَ كُفَّارَ بني إسرائيلَ، وأَبْعدَهم عن رَحمتِه بدَعوةِ نبيَّيْهِ داودَ وعِيسى عليهم بذلِك .
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ.
أي: إنَّ ذلِك اللَّعنَ قدْ وقَع عليهم بسببِ عِصيانهم للهِ تعالى، وظُلمِهم لعبادِه .
ثم بَيَّن اللهُ تعالى حالَهم فيما كانوا يَعتمِدونَه في زَمانِهم، مِن عُدوانٍ ومعاصٍ أحَلَّتْ بهم الْمَثُلاتِ، وأوقعتْ بهم العُقوباتِ ، فقال سبحانه:
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79).
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ.
أي: كان لا يَنهى بعضُهم بعضًا عن رُكوبِ المعاصِي وارتكابِ المُحرَّمات .
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.
أي: واللهِ بِئسَ الشَّيءُ الذي كانوا يَفعلونَه، وهو ترْكُهم النَّهيَ عن معاصِي اللهِ تعالى .
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وصَفَ اللهُ تعالى أسلافَهم بما تَقدَّمَ بأنَّهم كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وأخْبَرَ أنهم كانوا يُقرُّون المنكراتِ، ودلَّل على ذلك بأمرٍ ظاهرٍ منهم، فوصَف الحاضرينَ منهم بأنَّهم يَتولَّوْن الكفَّارَ وعبدةَ الأوثانِ ، فقال:
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
أي: ترَى- يا مُحمَّدُ - كثيرًا من اليهودِ يتَّخذون الكفَّارَ والمشركين أولياءَ لهم .
لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ.
أي: واللهِ بِئسَ الشَّيءُ الذي قدَّمتْه لهم أنفسُهم لِمَعادِهم في الآخِرة، بموالاتِهم الكافرينَ والمشركين، وهو سَخَطُ اللهِ تعالى عَليهم سَخَطًا مُستمرًّا إلى يَومِ القِيامةِ؛ الذي يَنتقلونَ فيه إلى عذابٍ أبديٍّ .
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كانَ تولِّيهم الكفَّارَ قدْ يكون دليلًا على كُفرِهم؛ لقوله: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أكَّدَ ذلك الكُفرَ بقوله: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ.... .
فقال تعالى:
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ.
أي: ولوْ أنَّ اليهودَ آمنوا حقًّا باللهِ تعالى وبمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبالقرآنِ العظيمِ، لَمَا جعَلوا الكفَّارَ أولياءَ لهم مِن دون المؤمنين؛ فإنَّ الإيمانَ بذلِك يُوجِبُ على العَبدِ موالاةَ ربِّه سبحانه وأوليائِه المؤمنين، وبُغضَ أعدائِه الكافِرين ومعاداتَهم .
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ.
أي: ولكنَّ كثيرًا مِن هؤلاءِ أهلُ خُروجٍ عن الإيمانِ بما يجِبُ عليهم الإيمانُ به إلى الكُفرِ به، وعن طاعةِ اللهِ تعالى إلى مَعصيتِه سبحانه

.
الفوائد التربوية:

1- يُستفادُ من قولِه تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.... كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ أنَّ السُّكوتَ عن المنكَرِ مع القُدرةِ موجِبٌ للعقوبة؛ لِمَا فيه من المفاسدِ العظيمة، التي منها:
أولًا: أنَّ مجرَّدَ السُّكوت فِعلُ معصيةٍ، وإنْ لم يباشرْها السَّاكتُ؛ فإنَّه- كما يجبُ اجتنابُ المعصيةِ- يجبُ الإنكارُ على مَن فعَلَ المعصيةَ، وعدمُ الإنكارِ يدلُّ على التهاوُنِ بالمعاصي، وقِلَّةِ الاكتراثِ بها.
ثانيًا: أنَّ ذلك يُجرِّئ العصاةَ والفَسَقةَ على الإكثارِ من المعاصي إذا لم يُردَعوا عنها، فيزدادُ الشرُّ، وتعظُم المصيبةُ الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، ويكون لهم الشوكةُ والظهور، ثم بعدَ ذلك يَضعُف أهلُ الخيرِ عن مُقاومةِ أهلِ الشرِّ؛ حتى لا يَقدِروا على ما كانوا يَقدِرون عليه أوَّلًا.
ثالثًا: أنَّ في ترْكِ الإنكارِ للمُنكَر اندِراسَ العِلم، وكثرةَ الجَهل؛ فإنَّ المعصية- مع تكرُّرِها وصُدورِها من كثيرٍ من الأشخاص، وعدَم إنكارِ أهلِ الدِّين والعِلم لها- يُظَنُّ أنَّها ليستْ بمعصية، وربَّما ظنَّ الجاهلُ أنَّها عبادةٌ مُستحسَنةٌ، وأيُّ مفسدةٍ أعظمُ مِن اعتقادِ ما حرَّم اللهُ حلالًا، وانقلابِ الحقائقِ على النُّفوسِ، ورؤيةِ الباطل حقًّا؟!
رابعًا: أنَّ السكوت على معصيةِ العاصين، ربَّما يُزيِّن المعصيةَ في صُدورِ النَّاسِ، ويقتدي بعضُهم ببعضٍ؛ فالإنسانُ مُولَع بالاقتداءِ بأضرابِه وبَني جِنسِه
.
2- يُستفادُ من قولِه تعالى: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ .
3- التَّحذيرُ من موالاةِ الكافرينَ؛ لقوله: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ...، وموالاةُ الكافرين أنواعٌ كثيرة، منها ما يصِلُ إلى الكُفرِ، ومنها ما هو دون ذلك

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- أنَّ تَرْكَ التَّناهي عن المنكَرِ سببٌ لِلَعنةِ اللهِ للعَبدِ وطَرْدِه وإبعادِه من رَحمتِه، والعياذُ باللهِ؛ لقوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ... كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ
.
2- قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قد تقرَّر في غير موضعٍ مِن القرآنِ ما جرَى في مُدَّة موسى عليه السَّلامُ مِن كُفرِ بعضِهم وعُتوِّهم، وكذلك أمرُهم مع محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم كان مشاهدًا في وقتِ نُزولِ القرآن، فخَصَّت هذه الآيةُ داودَ وعيسى؛ إعلامًا بأنَّهم لُعِنوا في الكتُبِ الأربعةِ، وأنَّهم قدْ لُعِنوا على لِسانِ غيرِ موسى ومحمَّد عليهما السَّلامُ .
3- أنَّ مِن بني إسرائيلَ قبل مَبعَث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مَن هو كافرٌ، ومنهم مَن هو مؤمنٌ؛ لقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وهذا هو الواقعُ؛ فإنَّ منهم مؤمنِين، كالحواريِّين لعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، وكالقومِ الذين اختارَهم موسى سَبعينَ رجلًا، وغير ذلك .
4- أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يَظلِمُ الناسَ شيئًا، وأنَّه لا يُعاقِبُ أحدًا بعقوبةٍ إلَّا بذنبٍ؛ لقولِه: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ .
5- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ الإخبارُ بفُشُوِّ المنكراتِ فيهم، وانتشارِ مَفاسدِها بينهم؛ لأنَّ وجودَ العِلَّة يَقتضي وجودَ المعلولِ، ولولا استمرارُ وقوعِ المنكرات لَمَا صحَّ أن يكونَ تركُ التناهي شأنًا من شؤونِ القومِ، ودأْبًا من دُؤوبهم .
6- قال تعالى: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ أطْلَق على ترْكِ التناهي لفظَ الفِعل في قوله: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مع أنَّه ترْكٌ؛ لأنَّ السُّكوتَ على المنكَرِ لا يَخلو من إظهارِ الرِّضا به والمشاركةِ فيه ، وعلى القولِ بأنَّ التركَ فعلٌ، فلا يحتاجُ لهذا التَّوجيهِ.
7- في قولِه تعالى: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ما يدلُّ على سُوءِ ما عليه بعضُ المسلمين في إعراضِهم عن بابِ التَّناهي عن المناكيرِ، وقِلَّة اهتمامِهم به؛ كأنَّه ليس مِن مِلَّةِ الإسلامِ في شَيءٍ مَع ما يَتْلُونَ مِن كلامِ اللَّهِ، وما فيه مِنَ المبالغاتِ في بابِ الأمرِ بالمعروفِ، والنهيِ عن المنكَرِ .
8- الردُّ على الجَبريَّة؛ لقوله: قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ، وقوله أيضًا: يَتَوَلَّوْنَ .
9- إثباتُ صِفة السَّخَطِ للهِ عزَّ وجلَّ على ما يَليقُ بكَمالِه وجَلالِه؛ لقوله: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .
10- أنَّ اتِّخاذَ الكافرينَ أولياءَ مُنافٍ للإيمانِ باللهِ ورسولِه وكتابِه؛ لقوله: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ .
11- الاستدلالُ بالمحسوسِ على المعقولِ، وإن شئتَ فقُل: بالمشاهَدِ على الخفيِّ؛ لقوله: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وجه ذلك: أنَّ الإيمانَ في القلبِ، ولا أحدَ يَعلمُ عن الإيمانِ الذي في القَلبِ، لكنَّ الآثارَ تدلُّ عليه، والأثَر الذي دلَّنا على أنَّهم لم يُؤمنوا هنا، هو تولِّي الكفَّارِ، واتِّخاذهم أولياءَ .
12- أنَّ الفِسقَ يُطلقُ على الكفرِ؛ لقولِه: وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ، ودليلُ ذلِك أيضًا قولُه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأوَاهُمْ النَّارُ [السجدة: 20] ، في مقابلِ الذين آمنوا، وإذا جاءَ الفسقُ في مقابلِ الإيمانِ، والوعيدُ في مقابل الوعدِ؛ فالمراد به الكفرُ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ... جملةٌ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا فيها تخلُّص بديعٌ؛ لتخصيصِ اليهودِ بإلقاءِ اللَّوْم عليهم، وذِكرهم بالسُّوء دون النَّصارى
.
- وجاء التَّعبير بحرف الجرِّ (على) في قوله: عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ بدلًا من باءِ الملابسة؛ لإظهارِ تمكُّنِ الملابسةِ، وقصْدِ المبالغةِ فيها، أي: لُعِنوا بلسانِ داودَ، أي: بكلامِه المُلابسِ للِسانِه .
2- قوله: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ الجملةُ مستأنَفة واقعةٌ موقعَ الجوابِ عمَّا نشَأ مِن الكلامِ، كأنَّه قيل: بأيِّ سببٍ وقعَ ذلك؟ فقيل: ذلك اللعنُ الهائلُ الفظيعُ بسببِ عِصيانِهم واعتدائِهم المستمرِّ، كما يُفيدُه الجمعُ بين صِيغتي الماضي والمستقبَل .
- و(ما) في قوله بِمَا عَصَوْا مصدرية، أي: بعصيانهم وكونهم معتدِين، فعدل عن التعبيرِ بالمصدرين إلى التعبيرِ بالفِعلين مع (ما) المصدريَّة؛ ليُفيدَ الفعلانِ معنى تجدُّدِ العصيان، واستمرارِ الاعتداءِ منهم، ولتفيد صِيغةُ المضيِّ أنَّ ذلك أمرٌ قديم فيهم، وصيغةُ المضارع أنَّه متكرِّرُ الحدوث، وإنما عبَّر في جانبِ العصيانِ بالماضي فقال: عَصَوْا؛ لأنَّه تَقرَّر فلم يقبلِ الزيادة، وعبَّر في جانبِ الاعتداءِ بالمضارع فقال: يَعْتَدُونَ؛ لأنَّه مستمرٌّ؛ فإنَّهم اعتدَوْا على محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتكذيبِ والمنافقةِ، ومحاولةِ الفَتْكِ والكيدِ .
- وإيثارُ اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ على الضَّمير- حيث لم يقُل: (هو بما عصوا)-؛ للتَّنبيهِ على كَمالِ ظهورِه، وامتيازِه عن نظائرِه، وانتظامِه بسببِه في سلكِ الأمورِ المشاهَدة، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بكَمالِ فظاعتِه، وبُعدِ درجتِه في الشَّناعةِ والهولِ .
- وقوله: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فيه تأكيدٌ على سَببِ اللَّعنِ، أي: ذلك اللَّعنُ كان بسَببِ عِصيانهم وعُدوانِهم، وذُكِر هذا على سَبيلِ التوكيدِ، مع أنَّه قد فُهِمَ سَببُ اللَّعنةِ بإسنادِها إلى مَن تَعلَّقَ به الوصفُ الدالُّ على العِليَّة، وهو الَّذِينَ كَفَرُوا .
- وفي قولِه: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ خَصَّ العُدوانَ بالذِّكر مع أنَّه مِن المعاصِي؛ لكونِ العُدوانِ أَشدَّ وأقبحَ مِن مُجرَّدِ المعصيةِ .
3- قوله: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ:
- قوله: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ فيه تَوبيخٌ لهم، حيثُ تَضمَّنَ الإخبارَ بأَمرينِ قَبيحينِ، أحدُهما: أنَّهم كانوا يَفعلون المناكِير، والآخَر: أنَّهم كانوا تارِكين للنَّهْيِ عنها، أي: عن أمثالِها في المستقبَل، وأفادَ قوله: فَعَلُوهُ، التَّصريحَ بوقوعِ المُنكراتِ منهم، ولو لم يُذكَر قولُه: فَعَلُوهُ لكان المصرَّحُ به فقط هو تَرْكَ النَّهيِ عن المنكَر عند استِحقاقِ النَّهيِ؛ فانتظَمَ ثُبوتُ الأمرينِ جميعًا على أَخصرِ وجهٍ وأَبْلغِه .
- وأفادَ تنكيرُ مُنْكَرٍ في سياقِ النفيِ بيانَ إغراقِهم في عدمِ المبالاةِ .
- وقوله: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ خبرٌ فيه تعجُّبٌ من سُوء فِعلهم، وفيه تأكيدٌ بالقَسم؛ فاللام في لَبِئْسَ رابطةٌ في جوابِ قَسَمٍ مَحذوفٍ، أي: أُقسم لَبِئسَ ما كانوا يفعلون- يعني: مِن ارتكاب المعاصي والعُدوان .

=======26.



سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (82 - 86)
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ
غريب الكلمات:

قِسِّيسِينَ: جمْع قِسِّيس، وهو العالمُ العابِدُ مِن رُؤوس النَّصارى، على وزْن فِعِّيل، مِن: قَسَسْت الشَّيْء وقَصَصْته إِذا تتبَّعْته؛ وسُمِّي القِسِّيسُ بهذا لتتبُّعه كِتابَه، وآثارَ مَعَانِيه، وأصل (قسس): تتبُّع الشَّيء وطلبُه
.
رُهْبَانًا: رُهبانُ النَّصارَى هم المبالِغونَ في الْعِبَادَة، والانقطاعِ عَن النَّاس، جمْع رَاهِبٍ، وهو الذي يَرهَبُ اللهَ، أي: يخافه، وأصل (رهب): يدلُّ على خَوفٍ .
تَفِيضُ: تَسيل، وأصل (فيض): يدُلُّ على جَرَيانِ الشَّيءِ بِسُهولةٍ .
فَأَثَابَهُمُ: أي: فَجازَاهم، والإثابةُ: ما يرجِعُ للإنسانِ من ثوابٍ، وتُستعمَل في المحبوبِ والمكروهِ .
الْجَحِيمِ: أي: النَّارِ، والجحيمُ أيضًا الجَمر، والجُحْمَة: شدَّةُ تأجُّج النَّار، وأصْل (جحم): عِظَمُ الحرارة وشِدَّتها

.
المعنى الإجمالي:

يقول اللهُ تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَتجِدَنَّ اليهودَ والمشركينَ أشدَّ الناسِ بُغضًا وكراهيةً وعداوةً للمؤمِنين، ولتَجِدَنَّ النَّصارى أقربَ الناسِ مودَّةً للمؤمنينَ من أهلِ الأديانِ المخالِفةِ للإسلامِ؛ والسَّببُ أنَّ منهم عُلماءَ وعُبَّادًا، وأنَّهم لا يَستكبرون.
وإذا سَمِعوا القرآنَ الكريم ترَى أعيُنَهم تَسيلُ دمعًا؛ لأنَّهم عرَفوا أنَّ ما يُتلى عليهم هو الحقُّ؛ يقولون: ربَّنا آمنَّا، فاكتبْنا مع محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأمَّتِه.
ويقولُ هؤلاء النَّصارى: وأيُّ مانعٍ يمنعُنا مِن الإيمانِ باللهِ، وبما جاءنا على لسانِ رسولِه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم مِن قرآنٍ يهدي إلى الرُّشدِ، ونحن نطمَعُ بسبب إيمانِنا أن يُدخِلَنا ربُّنا مع القومِ الصَّالحين، فجزاهم اللهُ بما قالوا من الإيمانِ، ونَطَقوا من الحقِّ، جنَّاتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ، ماكثينَ فيها أبدًا، وذلك جزاءُ مَن أحسَنَ في عِبادة ربِّه، وكان مُحْسنًا إلى الخَلقِ، وأمَّا مَن كفَر وكذَّب بآياتِ اللهِ تعالى، فأولئك سكَّانُ نارِ جهنَّمَ، الملازِمونَ لها.
تفسير الآيات:

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى مِن أحوالِ أهلِ الكِتاب من اليهودِ والنَّصارى ما ذكَرَه في الآياتِ السَّابقةِ؛ ذكَرَ في هذه الآيةِ أنَّ اليهودَ في غايةِ العداوةِ مع المسلمينَ؛ ولذلك جعَلَهم قُرَناءَ للمشركينَ في شِدَّة العداوةِ، بل نبَّه على أنَّهم أشدُّ في العداوةِ من المشركينَ مِن جِهة أنَّه قَدَّم ذِكرَهم على ذِكْر المشرِكينَ
فقال تعالى:
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا.
أي: لَتجِدَنَّ- يا محمَّدُ- أعظمَ النَّاسِ عداوةً للمُؤمنينَ وأكثرَهم سعيًا في إلحاقِ الضَّررِ بهم؛ لشِدَّة بُغضِهم وبَغيِهم وحسَدِهم لهم؛ اليهودَ والمشركينَ .
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى.
أي: ولَتجِدَنَّ- يا محمَّد- أقربَ النَّاسِ وِدادًا لأهلِ الإيمانِ مِن أهل المِلَلِ المخالِفةِ للإسلامِ، النَّصارى .
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى التفاوتَ الحاصِلَ بين اليهودِ والنَّصارى، فقال في حقِّ اليهودِ: أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً، وقال في حقِّ النَّصارى: أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً أعْقبَ ذلك بعِلَّة هذا التَّفاوتِ ، فقال سبحانه:
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.
أي: قرُبَتْ مودَّتُهم للمؤمنين مِن أجْلِ أنَّ منهم علماءَ وعُبَّادًا- فالعبادةُ تُلَطِّف القلبَ وتُرقِّقه- كما أنَّهم يَتواضعونَ للحقِّ إذا عرَفوه، ولا يَستكبِرون عن قَبولِه، والانقيادِ إليه إذا تَبيَّنوه .
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83).
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ.
أي: وإذَا سَمِعوا ، ما أُنزِل إلى مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن القرآنِ الكريمِ يُتْلَى .
تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ.
أي: ترَى أعينَهم قد امتلأتْ دُموعًا فتسيلُ منها؛ وذلك لأنَّهم عرَفوا أنَّ الذي يُتلَى عليهم مِن كِتاب اللهِ تعالى حقٌّ، ومِن ذلك: بَعْثةُ النبيِّ الموعودِ به- محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- الذي خبرُه من جُملةِ الحقِّ الذي جاءَ به عيسى عليه السلامُ، والنبيُّون مِن قَبلِه .
وفي حديثِ بَدْءِ الوحيِ عن عائشةَ رضي الله عنها: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لَمَّا رجَعَ إلى خَديجةَ يرجُفُ فؤادُهُ، انطلقتْ به إلى وَرقةَ بنِ نوفلٍ- وكان رجلًا تنصَّرَ يَقرأُ الإنجيلَ بالعربيَّةِ- فقال وَرَقةُ: ماذا ترَى؟ فأخبرَهُ، فقال ورقةُ: هذا الناموسُ الذي أَنزلَ اللهُ على موسى، وإنْ أدركني يَومُكَ أنصُرْكَ نصرًا مؤزَّرًا )) .
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ.
أي: والحالُ أنَّهم يقولون: يا ربَّنا، آمنَّا بالحقِّ؛ فلأجْلِ هذا الإيمانِ اجْعَلْنا مع محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأُمَّتِه، وأَثبِتْنا معهم في عِدادهم؛ فهم الذين يَشهَدون للهِ تعالى بالتوحيدِ، ولرُسلِه بالرِّسالة، وصحَّةِ ما جاؤُوا به، وأنَّهم بلَّغوا أُممَهم، ويَشهَدون على الأُممِ السَّابقة بالتصديقِ أو التَّكذيب ، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] .
وقال تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 52-53] .
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ(84).
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ.
أي: قال هؤلاءِ النَّصارى الذين أسْلَموا: وما الذي يَمنعُنا من الإيمانِ بالله تعالى، وما أتانا مِن الحقِّ، الذي لا يَقبَلُ الشكَّ والرَّيبَ ؟!
كما قال عزَّ وجلَّ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران: 199] .
وقال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص: 52- 53] .
وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ.
أي: ونحنُ نَطمعُ بإيمانِنا أن يُدخِلَنا ربُّنا مع المؤمنِين بالله، المُطيعين له، جَنَّتَه يومَ القيامة .
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85).
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: فجَزاهم اللهُ تعالى بما تَفوَّهوا به من الإيمانِ، ونَطقوا به من الحقِّ في قولِهم: رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ... مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ جنَّاتٍ تَجري الأنهارُ من تحتِ أشجارِها وقُصورِها، وهم ماكثونَ فيها على الدَّوام .
ولَمَّا كانتِ اللَّذةُ لا تَكمُل إلَّا بالدَّوامِ، قال تعالى :
خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: ماكثينَ فيها على الدَّوام، لا يخْرُجون منها، ولا يُحوَّلونَ عنها .
وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ.
أي: هذا الذي جَزيتُ به أولئك القومَ من الخُلودِ في الجنَّاتِ، جزاءُ كلِّ مُحسِنٍ في عِبادة الله تعالى، أو مُحسنٍ إلى عِبادِه .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى في آخِرِ الآيةِ السَّابقة أنَّ ما أثابَ به أولئك النَّصارى، الذين آمنوا بالرَّسولِ الأعظمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، هو جزاءُ جميعِ المحسِنين عندَه، الذين آمنوا كإيمانِهم، وخشَعوا للحقِّ كخُشُوعهم- عقَّب عليه بذِكْر جزاءِ الـمُسيئينَ إلى أَنفُسهم بالكُفْر والتكذيبِ؛ على سُنَّةِ القرآن في الجَمْع بين الوعدِ والوعيدِ ، فقال تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86).
أي: وأمَّا الكُفَّارُ والمكذِّبون بآياتنا فإنَّهم سُكَّانُ النَّارِ الشَّديدةِ التأجُّجِ والحرارةِ، الملازِمون لها

.
الفوائد التربوية :

1- أنَّ قُربَ مودَّة النصارى للمُؤمنين له أسبابٌ؛ منها: أنَّ منهم قِسِّيسين ورهبانًا، فيُستفادُ من هذا: أنَّ العِلم نافعٌ حتَّى لغَيْرِ المسلمين، وكذلك العبادةُ تُرقِّق القلبَ، وتُزيلُ ما فيه من الجَفاء والغِلْظة، فالرَّاهِبُ إنَّما سلَك هذا الطريقَ، يُريد رضا الله، أمَّا الأوَّلُ فيُؤخَذ مِنْ قَوْلِه: بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ، وأمَّا الثاني فيُؤخَذُ مِنْ قَوْلِه: وَرُهْبَانًا
.
2- أنَّ مِن أسباب قَبول الحقِّ والمودَّة للمؤمنين التواضُعَ؛ لِقَوْلِه: وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ؛ حيث إنَّ الاستكبارَ سببٌ لردِّ الحقِّ، والتواضُع سببٌ لقَبُولِه، فالمتواضِعَ أقربُ إلى الخيرِ من المستكبِر، وأقربُ إلى سماعِ الحقِّ منه .
3- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ فضيلةُ هؤلاء القومِ الذين يُؤمنون بالرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلام، وأنَّهم إذا سمِعوا ما أُنزِلَ إلى الرَّسولِ ترَى أعينَهم تَفيضُ من الدَّمع، ولا شكَّ أنَّ فَيْضَها من الدَّمعِ دليلٌ على الإيمانِ والتَّصديق والتأثُّر؛ لأنَّ الإنسانَ كلَّما آمَن ازداد خُشوعًا، فالإيمانُ كلَّما قوِيَ صارَ المؤمنُ كأنَّما يُشاهِدُ الشيءَ بعينه، فيَزدادُ إيمانًا وخشوعًا وبكاءً .
4- أنَّ تأثُّرَ هؤلاء إنَّما كان بسببِ مَعرفتِهم الحقَّ؛ ولهذا قال: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، والإنسانُ كلَّما عَلِمَ بالحقِّ ازداد إيمانُه به، وازداد تأثُّرُه به .
5- قَوْلُه تعالى: يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا... فيه الثَّناءُ على هؤلاء الذين آمنوا بما أُنزِلَ على الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، بأنَّهم يُعْلنونَ الإيمانَ، ولا يُخفونَه؛ فالمؤمِنُ حقًّا يُعلِنُ إيمانَه، لا سيَّما إذا كانوا قِسِّيسين ورُهبانًا؛ لأنَّهم قدوةٌ للنَّاسِ .
6- يَنبغي للإنسانِ أن يَدفعَ اللَّومَ عن نفْسِه، ولا يُبْقِي عِرْضَه لعِبادِ الله يَعملونَ ما يَشاؤون فيه؛ لِقَوْلِه: وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ، ولهذا أصْلٌ من السُّنَّة؛ فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ لَمَّا قام يَقلِبُ إحْدى زوجاتِه، وهي صَفيَّةُ رضي الله عنها، بعدَ أنْ بَقِيَتْ عنده قام يَقْلِبُها ، فمرَّ به رجلانِ من الأنصارِ، فلمَّا رأيَا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معه أهلُه خَجِلَا وسارَا بسرعةٍ، فقال لهما: ((على رِسْلِكما! إنَّها صفيَّةُ بنتُ حُيَيٍّ، فقالا: سبحانَ الله، سبحانَ الله!- يعني: لا يُمكن أنْ يقَعَ في قُلوبِنا شيءٌ- فقال لهما: إنَّ الشيطانَ يَجري مِن ابنِ آدَمَ مجرَى الدَّمِ، وإنِّي خَشيتُ أنْ يَقذِفَ في قُلوبِكما شرًّا- أو قال:- شيئًا )) .
7- أنَّ الإنسانَ لا يَنبغي أن يُعجَبَ بعملِه؛ فيشهدَ لنَفْسه أنَّه من أهل الجَّنَّة؛ لقولهم: وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا، ولم يَجزِموا بذلك؛ ولهذا مهما يعمَل الإنسانُ مِن عملٍ صالح مبنيٍّ على الإيمان فلا يُزكِّ نفْسَه؛ لا يَدري فلعلَّ هناك سرًّا في القلبِ لا يَشعُر به - أعاذنا الله مِن النِّفاق- قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((وإنَّ الرَّجُلَ ليَعْملُ بعملِ أهلِ الجَنَّة فيما يَبدو للنَّاسِ، وهو مِن أهلِ النَّارِ )) .
8- أنَّه يَنبغي اختيارُ الرَّفيقِ الصَّالح؛ لِقَوْلِه: وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، وهذا أمرٌ دلَّت عليه السُّنَّةُ دلالةً صريحةً؛ فإنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((مَثَلُ الجَليسِ الصَّالحِ كحَامِلِ المِسكِ؛ إمَّا أنْ يَبيعكَ أو يُحذِيَك، أو تَجِدَ منه رائحةً طيِّبة )) .
9- الحثُّ على الإحسانِ؛ لِقَوْلِه: وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ؛ الإحسانُ في عِبادَة اللهِ والإحسانُ إلى عِبادِ الله؛ قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((وَلا تَحْقِرَنَّ من المعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلقَى أخاكَ بوجهٍ طَلْقٍ )) .
10- في قوله تعالى: وَذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ بشارةٌ مِن الله لِمَن قام بالإيمانِ قولًا وعملًا، والإحسانُ أعْلى درجاتِ الإيمانِ والإسلامِ، واللهُ جلَّ جلالُه قد شَهِد لهذا الفَريقِ من النَّاسِ أنَّه مِن المحسنين، وهي التي فسَّرها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقَوْلِه: ((أنْ تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تَراه، فإنْ لم تَكُنْ تراه فإنَّه يَراك )) ، ولا إخلاصَ ولا عِلمَ أرفعُ مِن هذه الرُّتبة .
11- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ أنَّه ينبغي للواعظِ ألَّا تكونَ موعظتُه للنَّاسِ بالترغيب دائمًا أو بالترهيبِ دائمًا؛ لأنَّه إنْ أدام الترغيبَ أوْقَعَهم في الأمْن مِن مَكْرِ الله، وإنْ أدام الترهيبَ أوْقَعَهم في القُنوطِ مِن رحمةِ الله؛ فالواعِظُ في الحقيقةِ كالطَّبيب، إنْ أعْطَى جرعةً زائدةً هلَك المريضُ، وإنْ نقَصَ لم يَبرأِ المريضُ، فلا بدَّ للواعظِ أنْ يُراعِيَ الأحوالَ، لا يَقتصِر على الترغيبِ دائمًا، ولا على الترهيبِ دائمًا، فمِن النَّاسِ مَنِ الأَوْلى في حقِّه التَّرغيبُ، ومِن النَّاس مَنِ الأَوْلى في حَقِّه التَّرهيبُ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ذكَر المشركينَ مع اليهودِ لمناسبةِ اجتماعِ الفريقَينِ على عداوةِ المسلمينَ؛ فقد ألَّف بينَ اليهودِ والمشركينَ بُغْضُ الإسلامِ؛ فاليهودُ للحسَدِ على مجيءِ النُّبوة مِن غيرِهم، والمشرِكون لحَسَدِهم النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم على نُبُوَّتِه، وحَسَدِهم المسلمين على أنْ سبَقُوهم بالاهتداءِ إلى الدِّين الحقِّ، ونَبْذِ الباطِل، وكذا الكِبْرُ والأنَفَةُ لدى الفريقينِ
.
2- أنَّ عداوةَ هؤلاءِ اليهودِ والمشركين ظاهرةٌ؛ لقوله سبحانه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً، لكنَّ الظُّهورَ والخَفاءَ أمرانِ نِسبيَّان، بمعنى أنَّ بعضَ الناسِ يَظهَرُ له ما يَخفَى على آخَر، وبعضُ الناس يَخفى عليه ما يَظهَرُ للآخَر، لكن مَن سَبَر الأمورَ ونظَر باعتبارٍ تَبيَّن له ذلك .
3- أنَّ الكفَّار يتفاوتونَ في العداوةِ للمُسلمينَ؛ لِقَوْلِه: أَشَدَّ و(أشد) اسمُ تفضيلٍ، يدلُّ على أنَّ هؤلاءِ الأعداءَ يختلفون، وهو كذلك، هذا هو الواقِعُ . واللهُ تعالى ذَكَرَ طَرَفينِ في مُعاملةِ المسلمين، وبَينَ الطَّرَفينِ فِرَقٌ مُتفاوتَةٌ في بُغضِ المسلمين؛ مِثل: المجوس، وعبَدَة الأوثان، والمُعَطِّلة .
4- أنَّ كلَّ حُكْم له سببٌ، وهذا مُطَّرِد؛ فكلُّ حُكمٍ شرعيٍّ أو قدَريٍّ له سببٌ، لكن مِن الأسباب ما يُعلَم، ومِن الأسبابِ ما لا يُعلَم؛ لأنَّ الله تعالى لم يُطلِعْنا على كلِّ شيءٍ؛ قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ... إلى آخِرِه .
5- في قولِه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا كيفَ مدَحَهم اللهُ تعالى بذلِك مع قولِه: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد: 27] ؟
قيل: إن ذلكَ ممدوحٌ في مُقابلةِ طريقةِ اليهودِ في القَسَاوةِ والغِلظة، ولا يلزم مِن هذا القَدْر ِكونُه ممدوحًا على الإطلاقِ .
6- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ حُسْنُ تعليمِ اللهِ عزَّ وجلَّ في كِتابِه العزيزِ؛ لأنَّه إذا ذكَر الحُكْمَ ذكَرَ العِلَّةَ أحيانًا؛ فهنا ذكَر حُكمًا قَدَريًّا، وهو قُربُ النَّصارى من مودَّة المسلمين، وذكَر له عِلَّةً ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ.... كذلك ذكَر الله تعالى أحكامًا شرعيَّة كثيرةً مقرونةً بالحِكمَةِ منها؛ ومِن ذلك قولُه تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة: 222] .
7- التنويهُ بالرَّسولِ محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِقَوْلِه: الرَّسُولِ؛ لأنَّ (أل) هنا للعهدِ الذِّهني، يعني كونَه رسولًا معلومًا لا يَخفى على أحدٍ .
8- اعترافُ الأُمم بأنَّ هذه الأمَّةَ هي الشَّاهدةُ على الأُمَمِ؛ لِقَوْلِه: مَعَ الشَّاهِدِينَ، وهم أمَّةُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] .
9- مِنْ في قوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَحتملُ أن يكونَ صلةً، أي: (تجري تحتَها الْأَنْهَارُ)، ويحتمَلُ أن يكونَ المرادُ أنَّ ماءَها مِنها لا يجري إليها مِن موضعٍ آخرَ، فيقالُ: هذا النهرُ منبعُه مِن أين؟ يقال: مِن عِين كذا، مِن تحتِ جبلِ كذا .
10- قول الله تعالى: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يَقتضِي تخصيصَ الكفَّار بالدَّوام فيه؛ لأنَّ هذه الصِّيغةَ تُفيدُ الحصر، أي: أولئك أصحابُ الجحيمِ لا غيرُهم، والمُصاحِبُ للشيءِ هو الملازمُ له الذي لا ينفكُّ عنه

.
بلاغة الآيات:

1- قَوْلُه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا جملةٌ مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ لتقريرِ ما قَبْلَها مِن قبائحِ اليهودِ، وعَراقتِهم في الكُفْر، وسائرِ أحوالِهم الشَّنيعة، التي مِن جُملتها موالاتُهم للمشركينَ، وأُكِّدتْ الجملةُ بالتوكيدِ القَسَمي؛ اعتناءً ببيانِ تحقُّق مضمونِها؛ فاللامُ في قوله: لَتَجِدَنَّ لامُ القَسم ويُقصَد منها التأكيدُ، وزادتْه نونُ التوكيدِ تأكيدًا
.
- وفي جَعْلِ اليهودِ قُرَناءَ للمُشركينِ بيانٌ لشدَّةِ عداوةِ اليهودِ للمُؤمنين، وتقديمُهم في الذِّكرِ على المشركين: إشعارٌ وتَنبيهٌ على تقدُّمِ اليهودِ في العداوةِ على الَّذين أشْركوا، كما أنَّ في تقديمِهم عليهم في قولِه تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة: 96] إيذانًا بتقدُّمِهم عليهم في الحِرصِ .
- وقد أُعيدَ الموصولُ مع صِلتِه لِلَّذِينَ آمَنُوا في قوله: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا؛ رَوْمًا لزيادةِ التَّوضيحِ والبيانِ .
2- قولُه: تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ فيه: مبالغةٌ في التَّمييزِ، وهي مِن أبلغِ التراكيب؛ لأنَّ الترقيةَ فيه تَترقَّى ثلاثَ مراتبَ، فالأُولى: فاضَ دَمْعُ عينِه، والثانية في تحويلِ الفاعِل تمييزًا: فاضتْ عينُه دَمْعًا، والثالثة: في إبرازِ التَّمييزِ في صورةِ التعليلِ كما في الآية تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ؛ فأفادَ إلى جانبِ التمييزِ التعليلَ .
3- قَوْلُه: وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ فيه: استفهامُ إنكارٍ واستبعادٍ لانتفاءِ الإيمانِ مع قيامِ موجبِه والدَّاعي له، وهو الطَّمعُ في إنعامِ اللَّهِ عليهم بصُحبةِ الصَّالحينَ .
4- قَوْلُه: وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فيه: إيجازٌ بالحَذْفِ؛ حيثُ إنَّ تقديرَ الآية: ونَطْمع أنْ يُدخِلَنا ربُّنا مع القومِ الصَّالحينَ جنَّتَه ودارَ رِضوانه، إلَّا أنَّه حَسُن الحذفِ؛ لكونه معلومًا .
5- قَوْلُه: وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ التعبيرُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ، وما فيه من مَعنَى البُعد؛ للدَّلالةِ على علوِّ مرتبة هذا الجزاءِ .
6- قَوْلُه: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ التعبيرُ باسم الإشارةِ أُولَئِكَ وما فيه من معنى البُعد؛ للإشارةِ إلى بُعدِهم في السُّفولِ .

========27.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (87 - 89)
ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ
غريب الكلمات:

بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ: الأيمانُ اللَّاغيةُ هي التي لا يَقصِدها الحالفُ، بل تَجرِي على لِسانه عادةً من غير تَعقيدٍ ولا تأكيدٍ
. واللَّغْو: ما يَجري في الكلامِ على غيرِ عَقْدٍ ولا قصْدٍ، ويُطلق اللَّغوُ على الباطِل من الكَلامِ . والْأَيْمَان: جمْع يمينٍ، وهو القَسَم، وأصلُه مِن اليُمْن، أي: البركة، سمَّاها اللهُ تعالى بذلِك؛ لأنَّها تَحفَظُ الحُقوقَ .
عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ: وثَّقتُموها باللَّفظِ مع العزمِ عليها، والعقدُ: الجمْعُ بين أطرافِ الشَّيء، وأصلُ (عقد): يَدلُّ على شَدٍّ، وشِدَّةِ وُثوقٍ .
أَوْسَطِ: أي: أَعْدَل، في المقدارِ، أو في الجِنس، أو في القِلَّة والكَثرةِ، وأصل (وسط) يَدُلُّ عَلَى العَدْلِ والنِّصْفِ .
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ: أي: إعتاقُها؛ يُقال: حررتُ المملوك، أي: أعْتَقْته، وأصل (حرر): ما خالَف العُبوديَّة، وما بَرِئَ من العيبِ والنَّقْص، والرقبةُ تُطلَقُ على الإنسانِ المملوكِ

.
مشكل الإعراب:

قوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
فَصِياَمُ: الفاءُ رابطةٌ في جَوابِ الشَّرْطِ (مَنْ)، و(صِيام) مرفوعٌ، على أنَّه مبتدأٌ لخبرٍ محذوف، والتقديرُ: فعَليهِ صِيامُ ثلاثةِ أيَّام، أو على أنَّه خبَرٌ لمبتدأ محذوفٍ، والتقدير: فواجبُه صِيامُ ثلاثةِ أيَّام، أو مرفوعٌ على أنَّه فاعلٌ لفِعلٍ محذوفٍ، والتقدير: فيَجِبُ عليه صيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ

.
المعنى الإجمالي:

يَنهى اللهُ المؤمنين أن يُحرِّموا على أنفُسِهم طيِّباتٍ أحلَّها لهم، ويَنهاهم أنْ يَتجاوَزوا حُدودَه تعالى فيما أحلَّه لهم، أو حرَّمه عليهم؛ فإنَّ اللهَ تعالى لا يُحبُّ مَن يَتعدَّى حُدودَه.
كما يَأمرُهم سبحانه أنْ يأكلوا مِن الرِّزقِ الحلالِ الطيِّبِ الذي رزقَهم إيَّاه، وتفضَّل عليهم به، وأن يتَّقوا اللهَ الذي آمَنوا به.
ثم يُخبر الله جلَّ وعلا أنَّه لا يُؤاخِذُ على اللَّغْوِ في اليمينِ، وهو ما يجري على الألْسِنَةِ بدونِ قصدٍ، لكنَّ مُؤاخذتَه تعالى على ما عُقِدَ العزمُ عليه، وقُصِدَ من الأيمانِ، فإذا ما حنَث أحدٌ في أيمانٍ معقودةٍ فكفَّارةُ ذلك أنْ يُطعِمَ عَشَرةَ مساكينَ، طعامًا وسَطًا بين الجيِّد والرَّديءِ ممَّا يُطعِمُ أهلَه منه، أو كسوةُ عَشَرةِ مَساكينَ، أو عِتقُ رَقَبةٍ مؤمنةٍ، فمَن لم يجِدْ ما يكفِّرُ به مِن إطعامٍ أو كساءٍ أو تحريرِ رقبةٍ فعليه حينئذٍ صِيامُ ثلاثةِ أيَّام تكفِّر يمينَه، فهذه الخِصالُ المذكورةُ هي كفَّارةُ الأَيْمانِ المعقودة. ثمَّ أمَر الله عِبادَه بأنْ يَحفظوا أيمانَهم بتَرْك الحَلِف كذبًا، وترْك الإكثارِ من الحَلِف، وعدَم الحِنْث في اليَمينِ إلَّا إذا كان خيرًا، فإذا حنثوا فيها كفَّروا كفَّارةَ اليمينِ، فبذلك تُحفَظُ أيمانُهم، كذلك يُوضِّحُ اللهُ آياتِه لعِبادِه؛ ليَشْكُروه سبحانَه على ذلك.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا تَقدَّم الثناءُ على القِسِّيسين والرُّهبان، وكان مِن سُنَّتِهم المبالغةُ في الزُّهدِ، وقدْ أحْدَثوا رهبانيَّةً من الانقطاعِ عن التَّزُّوجِ، وعن أكْلِ اللُّحومِ، وكثيرٍ من الطيِّبات وغير ذلك- نبَّه اللهُ تعالى المؤمنينَ على أنَّ الثناءَ على الرُّهبان والقِسِّيسين بما لهم مِن الفَضائِلِ لا يَقتضي اطِّرادَ الثناءِ على جميعِ أحوالِهم الرهبانيَّة
، فقال عزَّ وجلَّ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، لا تَحكُموا بالحُرمةِ على ما أباحه اللهُ تعالى لكم من مَلذَّاتٍ تَشتهيها النُّفوسُ مِن مناكِحَ ومطاعِمَ ومشارِبَ وغيرِها، فلا تردُّوا نِعمتَه عليكم بعدَمِ قَبولِها، واعتقادِ تَحريمِها، فتَجمعوا بذلك بين الكَذِب على الله تعالى، وكُفرِ نِعمتِه .
قال الله تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل: 116] .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، قال: ((جاءَ ثلاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيوتِ أزواجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسأَلونَ عن عِبادةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا أُخْبِروا كأنَّهم تَقالُّوها ، فقالوا: أين نحنُ مِنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قدْ غفَر اللهُ له ما تَقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر، قال أحدُهم: أمَّا أنا فإنِّي أُصلِّي اللَّيلَ أبدًا، وقال آخَرُ: أنا أصومُ الدَّهرَ ولا أُفطِرُ، وقال آخَرُ: أنا أَعتزِلُ النِّساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا، فجاءَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أنتمُ الذين قُلتُم كذا وكذا؟ أمَا واللهِ إنِّي لَأخشاكم للهِ وأتْقاكم له، لكنِّي أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأرقُدُ، وأتزوَّجُ النِّساءَ؛ فمَن رغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي )) .
وعن سَعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: ((أرادَ عُثمانُ بنُ مَظعونٍ أنْ يَتبتَّلَ ، فنهاه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولو أجازَ له ذلِك لاختَصَيْنا )) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال له: ((أَلمْ أُخبَرْ أنَّكَ تقومُ اللَّيلَ وتصومُ النَّهارَ؟ قلتُ: إنِّي أفعلُ ذلك، قال: فإنَّك إذا فعلتَ ذلِك، هَجَمَتْ عَيناكَ، ونَفِهَتْ نَفْسُكَ! لِعينِكَ حقٌّ، ولنَفْسِكَ حقٌّ، ولأهلِكَ حقٌّ؛ قُمْ ونَمْ، وصُمْ وأفطِرْ )) .
وعن أبي جُحَيفةَ وهْبِ بنِ عبدِ الله السُّوَائِيِّ، قال: ((آخَى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين سَلمانَ وأبي الدَّرداءِ، فزارَ سَلمانُ أبا الدَّرداءِ، فرأَى أُمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً ، فقال لها: ما شأنُكِ؟ قالتْ: أخوك أبو الدَّرداءِ ليس له حاجةٌ في الدُّنيا، فجاءَ أبو الدَّرداءِ، فصَنَع له طعامًا، فقال: كُلْ، قال: فإنِّي صائمٌ، قال: ما أنا بآكِلٍ حتى تأكُلَ، قال: فأكَل، فلمَّا كان اللَّيلُ ذهَب أبو الدَّرداءِ يَقومُ، قال: نَمْ، فنامَ، ثم ذهَبَ يَقومُ، فقال: نَمْ، فلمَّا كان مِن آخِرِ اللَّيلِ، قال سَلمانُ: قُمِ الآنَ، فَصلَّيَا، فقالَ له سَلمانُ: إنَّ لربِّك عليك حقًّا، ولنفْسِك عليك حقًّا، ولأهلِك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأتَى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَر ذلك له، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صَدَق سَلمانُ )) .
وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
أي: ولا تُجاوِزوا حدودَ الله تعالى فيما أَحلَّ لكم وحَرَّم عليكم؛ فإنَّ الله تعالى لا يُحبُّ مَن يَتعدَّى حدودَه سُبحانَه .
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88).
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا.
أي: وكُلوا- أيُّها المؤمنونَ- مِن رِزق اللهِ تعالى الذي ساقَه إليكم، ويَسَّره لكم في حالِ كونِه حلالًا، غيرَ خَبيثٍ .
كما قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31] .
وقال أيضًا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] .
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.
أي: واجْعَلوا بينكم وبين غضَبِ الله تعالى وعذابِه حاجزًا يَقيكم مِن ذلك بامتثالِ ما أمَرَ به، واجتنابِ ما نَهَى عنه، ومِن ذلك اعتداءُ حدودِه؛ فإنَّ إيمانَكم باللهِ عزَّ وجلَّ يُوجِبُ عليكم تقواه .
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قال تعالى: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ...؛ وكان التحريمُ يقعُ في غالِبِ الأحوالِ بأيمانٍ معزومةٍ، أو بأيمانٍ تَجري على اللِّسان لقصدِ تأكيدِ الكلامِ، أو تجري بسبب غضبٍ، عقَّب الله تعالى ذلك بقوله :
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ.
أي: لا يُعاقِبُكم اللهُ تعالى بكفَّارةٍ تَلزمُكم في الدُّنيا، ولا بعُقوبةٍ تَحُلُّ بِكم في الآخِرة، على الأيْمانِ التي صدَرَتْ منكم على وجهِ اللَّغْو، وهي الأيْمانُ التي حلَف بها المُقسِمُ مِن غير نيَّةٍ ولا قَصْدٍ، أو عقَدَها يظنُّ صِدْقَ نفْسِه، فبان الأمرُ بخِلافِ ما ظنَّه .
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ قراءات:
1- عَاقَدْتُمُ، أي: تَعاهدتُم، وتحالفتُم، وهو فعلٌ مِن اثنين .
2- عَقَدْتُمُ- بتَخفيفِ القافِ-، أي: أوْجَبْتُم، فالمعنى: أوجبتموها على أنْفُسِكم، وعَزَمتْ عليها قلوبُكم، وهذا يدلُّ على أنَّه أراد به عقْدَ مرَّةٍ واحدة؛ لأنَّ مَن حَلَف مرَّةً واحدةً لَزِمَه البِرُّ أو الكفَّارة .
3- عَقَّدْتُمُ- بتشديد القاف-، أي: وَكَّدتُم، فالتَّشديدُ يدلُّ على كثرةِ الفِعل؛ فهو يدلُّ على توكيدِ اليمينِ بالحَلِفِ على الشيءِ مرارًا .
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ.
أي: ولكن يُعاقِبُكم اللهُ تعالى بما عقدتُم العزمَ عليه، وقَصدتموه مِن الأيْمان .
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ.
أي: كفَّارةُ ما حَنِثْتُم فيه من اليمينِ المعقودةِ؛ إطعامُ عَشَرةِ مَحاويجَ ليس لدَيهم ما يَكفِيهم، مِن صِنفٍ وَسَطٍ بين الجيِّد والرَّديء، ممَّا تُطعمون أَهْلِيكم .
أَوْ كِسْوَتُهُمْ.
أي: وإمَّا كسوةُ عَشرةِ مَساكين .
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ.
أي: أو فكُّ عبدٍ مُؤمنٍ مِن أَسْرِ العُبوديَّة .
فمَتَى فعَل واحدًا مِن هذه الثلاثةِ التي هو مخيَّرٌ فيها، فقدِ انحلَّتْ يمينُه .
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
أي: فمَن لم يَقْدِرْ على التَّكفيرِ عن يمينِه بواحدةٍ مِن هذه الخِصالِ الثَّلاث، فعليه أنْ يَعدِلَ إلى الصِّيامِ، فيصومَ ثلاثةَ أيَّام .
ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ.
أي: هذا الذي ذَكرتُه لكم مِن الخِصالِ الأربعِ (الإطعام، والكسوة، وتحرير رَقبة، والصِّيام)، يُكفِّرُ ما حَنِثتُم فيه من الأيمانِ المعقودةِ .
وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ.
أي: واحْفَظوا- أيُّها المؤمنون- أيمانَكم عن الحَلِف باللهِ تعالى كَذِبًا، وعن كثرةِ الحَلِف، وعن الحِنْثِ فيها- إلَّا إنْ كان الحِنثُ خَيرًا- وعن ترْكِ الكفَّارة إذا لزِمَتْكُم .
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أي: كمَا أوضحَ اللهُ تعالى لكم كفَّارةَ أيمانِكم، فإنَّه يُوضِّحُ لكم أيضًا آياتِه الشرعيَّةَ، وأعلامَ دينِه؛ لتَشْكُروه سبحانَه على ذلك حيثُ علَّمكم ما لم تَكونوا تَعلمُون

.
الفوائد التربوية :

1- تَصديرُ الخِطابِ بالنِّداء في قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يدلُّ على أهميَّته؛ لأنَّ النِّداءَ يَستلزمُ انتباهَ المخاطَب، وإصدار الخِطابِ بوصْفِ الإيمان يدلُّ على أنَّ ما سيُذكَر مِن خِصال الإيمان، وأنَّ مُخالفتَه نقْصٌ في الإيمانِ، ثم إنَّ فيه إغراءً للامتثالِ؛ لأنَّك إذا وصفْتَ شخصًا بوصْفٍ لتأمُرَه أو تنهاه، فهذا من بابِ الإغراءِ بهذا الوَصْفِ؛ ولذلك تقولُ لشخصٍ: أنتَ رجلٌ؛ كيف تفعل كذا وكذا؟! فقولك: أنت رجل، يَعني: مُقتضى الرُّجولةِ ألَّا تَفعَلَ، وتقول: يا فلان، أنت كريمٌ، وهذا سائلٌ، يعني: فأَعْطِه
.
2- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ النَّهي إنَّما هو عن تحريمِ ذلك على النَّفْس، أمَّا ترْك تناوُلِ بعضِ ذلك في بعضِ الأوقاتِ من غيرِ التزامٍ، ولقصدِ التربية للنَّفس على التصبُّرِ على الحِرمانِ عند عدم الوِجدانِ، فلا بأسَ به بمقدارِ الحاجةِ إليه في رِياضة النَّفسِ. وكذلك الإعراضُ عن كثيرٍ مِن الطيِّبات للتطلُّعِ إلى ما هو أعْلى؛ من عِبادةٍ أو شُغلٍ بعملٍ نافعٍ، وهو أعْلى الزُّهْدِ، وقد كان ذلك سُنَّةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وخاصَّةٍ مِن أصحابِه، وهي حالةٌ تُناسِبُ مرتبتَه، ولا تتناسَبُ مع بعض مراتبِ النَّاس، فالتطلُّعُ إليها تعسيرٌ، وهو مع ذلك كان يتناولُ الطيِّباتِ دون تشوُّفٍ ولا تَطلُّعٍ، وفي تناولها شُكرٌ لله تعالى .
3- قال تعالى: وكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ولم يقُل تعالى: (وكلوا ما رزقكم الله)، وكلمة (مِن) للتبعيض، فكأنَّه قال: اقتَصِروا في الأكْل على البعضِ، واصْرِفوا البقيَّةَ إلى الصَّدَقات والخَيْرات؛ لأنَّه إرشادٌ إلى ترْك الإسرافِ، كما قال: وَلَا تُسْرِفُوا [الأنعام: 141] .
4- قَوْلُه تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ يدلُّ على أنَّه تعالى قد تكفَّلَ برِزقِ كلِّ أحد؛ فإنَّه لو لم يَتكفَّلْ برِزقه لَمَا قال: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وإذا تكفَّل اللهُ برِزقه وجَبَ ألَّا يُبالَغَ في الطَّلبِ، وأنْ يُعوَّلَ على وعْدِ الله تعالى وإحسانِه؛ فإنَّه أكرمُ مِن أن يُخلِفَ الوعدَ .
5- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: حَلَالًا طَيِّبًا أنَّ ذلك القيد طَيِّبًا هو قيدٌ مُحذِّر ممَّا فيه شُبهةٌ؛ تنبيهًا على الوَرَع، ويكون معنى طِيبه تيقُّنَ حِلِّه، فيكون بحيث تتوفَّر الدَّواعي على تناوُله دِينًا تَوفُّرَها على تناوُلِ ما هو نهايةٌ في اللَّذةِ شهوةً وطبعًا، وأنْ يكون مُخرِجًا لِمَا تَعافُه النَّفسُ ممَّا أخَذَ في الفساد من الأطعمةِ؛ لئلَّا يضرَّ .
6- أنَّ الإيمانَ بالله عزَّ وجلَّ مستلزِمٌ لتقواه؛ لِقَوْلِه: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ، أي: فلإيمانِكم يَلزمُكم التقوى، فالإيمانُ الحقيقيُّ مستلزِمٌ للتقوى، فمَن لم يَتَّقِ اللهَ، فهو إمَّا فاقدٌ للإيمانِ بالكليَّة، وإمَّا ناقصُ الإيمانِ .
7- قَوْلُه تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ في الأمْر بالتَّقوى في هذا المقامِ جمْعٌ بينَ حقوقِ الرُّوحِ والجَسد، وفيها دفْعٌ لِمَن قد يَستشكِل قائلًا: إنَّ الدِّينَ شُرِع لتزكيَةِ النُّفُوس، والتمتُّعُ بالشَّهواتِ واللذَّات يُنافي التزكيةَ، وإنِ اقُتصِرَ فيه على المباحاتِ؛ فكيف يكون الاستمتاعُ بالطيِّباتِ مطلوبًا شرعًا؟!
ووَجْهُ ذلِك الدَّفعِ: أنَّ تزكيةَ الأنفُس إنَّما تكونُ بإيقافِها عندَ حدِّ الاعتدالِ، واجتنابِ التَّفريطِ والإفراط، وقد خلَق اللهُ الإنسانَ مركَّبًا من رُوحٍ مَلكيَّة وجَسَد حيوانيٍّ، فلم يجعلْه مَلَكًا مَحضًا، ولا حيوانًا مَحضًا، وسخَّر له بهذه المزيَّة جميعَ ما في عالَمِه الذي يعيش فيه مِن الموادِّ والقُوى والأحياء، وجعَل مِن سُنَّته في خلْقه أنَّه تكونُ سلامةُ البدن وصحَّتُه من أسباب سلامةِ العقلِ وسائرِ قُوى النَّفْس؛ ولذلك حرَّم عليه ما يضرُّ بجَسَده، كما حرَّم عليه ما يضرُّ برُوحِه وعقلِه، فالتمتُّعُ بالطيِّبات من غيرِ إسرافٍ ولا اعتداءٍ لحدودِ الله وسُننِ فِطرته هو الذي يُؤدَّى به حقُّ الجَسدِ وحقُّ الرُّوح، ويُستعان به على أداءِ حُقوق اللهِ وحُقوقِ خَلْقه، فإنْ صَحِبَتْه التقوى فيه وفي غيرِه تتمَّ التزكيةُ المطلوبةُ .
8- قولُه تعالى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ، وفي سورةِ البقرة: بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] ، فيه دليلٌ على أنَّ العِبرة بما في القُلوب، وهذا كقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى )) ، ويَنبني عليه مسائلُ كثيرةٌ في الأيمانِ والطَّلاقِ والبيوع والأوقافِ وغيرِها .
9- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ أنَّه ينبغي تقليلُ الأيمانِ، وحِفظُ اليمينِ عن الحِنْث، هذا إذا لم يكُنْ حلَف بيمينِه على ترْكِ مندوبٍ أو فِعْلٍ مَكروهٍ، فإنْ حلَف على ترْك مندوبٍ أو فِعل مكروهٍ، فالأفضلُ أنْ يَحنثَ في يَمينِه، ويُكَفِّرَ ويأتيَ الذي هو خيرٌ؛ لحديث أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((مَن حلَف على يمينٍ فرَأى غيرَها خيرًا منها، فليأتِ الذي هو خيرٌ، وليُكَفِّرْ عن يمينِهِ )) .
10- أنَّ العِلم مِن نِعَم الله التي يجبُ علينا شُكرُها؛ لأنَّ بيانَ الآياتِ به يَعلمُ الإنسانُ آياتِ الله، فإذا كان اللهُ يُبيِّنها لِنَشْكُرَه عليها، دلَّ ذلك على أنَّ العِلمَ بالشريعةِ وبآياتِ الله نعمَةٌ يجب على الإنسانِ أنْ يَشكُرَها؛ لقول الله تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قولِه تعالى: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ تنبيهٌ لفُقهاءِ الأمَّة على الاحترازِ في القولِ بتحريم شيءٍ لم يَقُمِ الدليلُ على تحريمِه، أو كان دليلُه غيرَ بالغٍ قوَّةَ دليلِ النَّهي الواردِ في هذه الآيَةِ
.
2- الإشارةُ إلى مِنَّة اللهِ تبارَك وتعالى على عِبادِه بما أحلَّ لهم؛ لِقَوْلِه: طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، ولو شاءَ اللهُ عزَّ وجلَّ لحرَّم علينا طيباتٍ أُحِلَّت لنا، كما حرَّم ذلك على بني إسرائيلَ؛ حيث قال الله عزَّ وجلَّ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] ، وتحريمُ الطيِّباتِ الشرعيُّ بسببِ الظُّلمِ مِثلُه التحريمُ القَدَريُّ بسبب الظُّلم؛ فإنَّ الإنسانَ قد يُحرَم الطيِّباتِ تحريمًا قدريًّا كالمريضِ الذي يمتنعُ مِن أكلِ اللحمِ؛ لأنَّه يزيدُه مرضًا، وكما يمنعُ اللهُ نباتَ الأرضِ بسببِ المَعاصي، فهذا تحريمٌ قدريٌّ .
3- ذهَب بعضُ العُلماء إلى أنَّ مَن حرَّم مأكلًا أو مَشربًا أو شيئًا من الأشياءِ، فإنَّه يجب عليه بذلك كفَّارةُ يمينٍ، كما إذا الْتزمَ ترْكَه باليمينِ، فكذلك يُؤاخَذُ بمجرَّد تحريمِه على نفْسِه إلزامًا له بما الْتَزَمه؛ فإنَّه لَمَّا ذكَر هذا الحُكم لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ عقَّبه بالآيةِ المبيِّنة لتَكفيرِ اليَمينِ؛ فدلَّ على أنَّ هذا مُنَزَّلٌ منزلةَ اليمينِ في اقتضاءِ التَّكفير، وَكَمَا فِي قَوْلِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التَّحْرِيم: 1]، ثمَّ قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ... [التَّحْرِيم: 2] واللهُ تعالى أعلم .
4- خَصَّ الله الأكلَ بالذِّكْرِ في قولِه: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ؛ بعدَ أنْ قال: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ...؛ لأنَّ مُعظَمَ ما حرَّمه الناسُ على أنفُسِهم هو المآكِلُ .
5- إثباتُ المحبَّة للهِ عزَّ وجلَّ؛ لِقَوْلِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ؛ لأنَّ نفيَه محبَّةَ المعتدِين يدلُّ على ثُبوتِ أصل المَحبَّة، ولو كان لا يُحبُّ مُطلقًا لم يكن لنَفْيِ محبَّته للمعتدينَ فائدةٌ .
6- في قولِه تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا أمْرُ الإنسانِ بالأكْلِ ممَّا رزَقَ اللهُ، وضدُّه عدمُ الأكْل، وعدمُ الأكلِ ممَّا رزَق اللهُ ثلاثةُ أقسام: الأوَّل: أن يَترُك الأكلَ مع خوفِ الهلاك إذا لم يأكُلْ، فهنا تركُ الأكْلِ حرامٌ؛ لأنَّه يجبُ على الإنسانِ أن يُنقِذَ نفْسَه. الثاني: إذا كان ليس به ضرورةٌ للأكْلِ لكن يحتاجُ إلى الأكْلِ لتقويةِ البَدنِ، فهنا الأكلُ مُستحَبٌّ؛ لأنَّه لو ترَكَه لم يَهلِك، لكنَّه في حاجةٍ، نقول له: لا تمنعْ نفْسَك. الثالث: أن يَترُكَ الأكلَ تنزُّهًا، فهذا يُنهَى عنه، ويُقال: كُلْ ممَّا أباحَ اللهُ لك .
7- سَعةُ حِلم اللهِ وعَفْوِه؛ لِقَوْلِه: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ حيث نفَى المؤاخَذةَ عن اللَّغْو في الأيمانِ؛ وذلك لكثرةِ تَكرارِها، ومَشقَّةِ التحرُّزِ منها، وهذا بناءً على أنَّ المرادَ بها: الأيمانُ التي لا تُقصَد، والتي تكونُ في عَرَضِ الحديثِ .
8- قال تعالى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ... احتجَّ الشافعيُّ رضِي اللهُ عنه بآيةِ سورة البقرةِ: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 225] مع هذه الآيةِ على وجوبِ الكَفَّارةِ في اليمينِ الغَموسِ، قال: إنَّه تعالى ذَكَر في آية البقرة: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وقال في آية المائدة: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ وعقْدُ اليمين محتمِلٌ لأنْ يكونَ المرادُ منه عقدَ القلبِ به، ولِأنْ يكونَ المرادُ به العَقدَ الذي يُضادُّ الحَلَّ، فلمَّا ذكر في آيَةِ البقرة قولَه: بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ عَلِمْنَا أنَّ المرادَ من ذلك العَقْدِ هو عقدُ القَلْبِ، وأيضًا ذَكَر المؤاخذةَ في آية البقرة، ولم يُبيِّن أنَّ تلك المؤاخذةَ ما هي، وبَيَّنها هنا في آيةِ المائدة بقوله: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ..؛ فبَيَّن أنَّ المؤاخذةَ هي الكفَّارة، فكلُّ واحدةٍ من هاتين الآيتينِ مُجمَلةٌ من وجهٍ، مُبيَّنة من وجهٍ آخَر، فصارتْ كلُّ واحدةٍ منهما مُفسِّرةً للأخرى مِن وَجْهٍ، وحصَل من كلِّ واحدةٍ منهما أنَّ كلَّ يمينٍ ذُكِر على سبيلِ الجِدِّ وربْط القَلْبِ، فالكفَّارةُ واجبةٌ فيه، واليمينُ الغموسُ كذلِك؛ فكانتِ الكفَّارةُ واجبةً فيها .
9- أنَّه لا يَنبغي الحِنثُ إلَّا إذا كان خيرًا؛ لقوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ والكفَّارةُ لا تكون إلَّا في مقابلةِ ذَنبٍ أو ما يُشبِهه؛ ولهذا قال في آخِر الآيةِ: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ .
10- قُدِّمَ الإطعامُ على العِتْقِ في قولِه تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مع أنَّ العِتْقَ أفضلُ لا محالةَ؛ وذلك لأمور:
منها: أنَّ المقصودَ منه التنبيهُ على أنَّ هذه الكفَّارةَ وجبتْ على التخييرِ لا على الترتيب؛ لأنَّها لو وجبتْ على الترتيب لوَجبتِ البَداءةُ بالأَغْلَظِ.
ومنها: قُدِّمَ الإطعامُ لأنَّه أسهلُ، ولِكَوْن الطعامِ أعمَّ وُجودًا، والمقصودُ منه التنبيهُ على أنَّه تعالى يُراعي التخفيفَ والتسهيلَ في التكاليف .
11- في قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ رقِي مِن الأدْنى إلى الأعلى، فالإطعامُ أيسرُ من الكسوة، كما أنَّ الكسوة أيسرُ مِن العِتْق .
12- أنَّ الإطعامَ مُطلَقٌ لا يُشترَطُ فيه التمليكُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يقُلْ: (فللمساكين)، لو قال: (فللمساكين) لكان يُشترَطُ فيه التمليكُ، كما قال في الزكاة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة: 60] ، وإنَّما قال: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ؛ وذلك لأنَّ الطعامَ يُنتفعُ به مرَّةً واحدةً، فلا يُشترط فيه التمليكُ، أمَّا الكسوة فيُشترط فيها التمليكُ، وإلَّا لكان تُعِيرُه الثوبَ ثم تأخُذُه منه .
13- أنَّه لو أطعمَ مَن يأكلُ الطَّعامَ - ولو كان صغيرًا - كفَى؛ لِقَوْلِه: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ .
14- في قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لو قارنتَ بين إطعامِ عَشَرةِ مساكين وكِسوتهم وعِتق الرَّقبة، لوجدتَ الفَرْقَ كبيرًا، لكنْ للهِ الحِكمة فيما يَشْرَع؛ فلا يُمكن أن يَعترِضَ مُعترِضٌ على حُكْمِه .
15- تمامُ عدلِ الله عزَّ وجلَّ في إيجابِ الأوسَطِ؛ لِقَوْلِه: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ فالواجب على الإنسانِ هو الوَسَط؛ فالزكاةُ مثلًا على صاحِب الغَنَم الواجبُ الوَسَط، والزكاة في الثِّمار الواجبُ الوَسَطُ، فإنَّه لو أوْجَب الأكملَ والأعلى، لكان في هذا ضرَرٌ على المعطِي، ولو أوجَبَ الأدْنى لكان فيه ضررٌ على الـمُعطَى، أي: المدفوع إليه، فالوسطُ ليس فيه حَيفٌ لا على مَن يجِبُ عليه، ولا عَلى مَن يجبُ له، وهذا لا شكَّ أنَّه من العدالةِ .
16- وجوبُ الإنفاقِ على الأهلِ؛ لِقَوْلِه: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ يعني: كأنَّ هذا أمرٌ مُقرَّر؛ أنَّ الرجل يُطعِم أهلَه، وهذا لا شكَّ فيه؛ أنَّه يجب على الرجلِ أن يُنفقَ على أهلِه؛ قال الله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء: 34] .
17- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: أَوْ كِسْوَتُهُمْ أنَّ الكِسْوةَ مُطلقةٌ، فما سُمِّي كِسْوةً حصَل به الإجزاءُ، وهذا يختلفُ باختلافِ الأحوالِ والأزمانِ والأماكنِ والأُمم .
18- قولُه تعالى: إِذَا حَلَفْتُمْ فيه دقيقةٌ، وهي التنبيهُ على أنَّ تقديمَ الكفَّارةِ قبلَ اليمينِ لا يجوزُ، وأمَّا بعدَ اليمينِ وقبل الحِنث فإنَّه يجوزُ .
19- أنَّ تقديرَ العباداتِ كمِّيةً ونوعًا وكيفيَّةً موكولٌ إلى الشَّرْعِ؛ لِقَوْلِه: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ؛ ولذلك لا يَتقابَلُ أو لا يَتساوى إطعامُ عَشَرةِ مَساكينَ مع صِيام ثلاثةِ أيَّام، فكفَّارة الظِّهارِ الواجبُ فيها صيامُ شَهرينِ متتابعينِ، فإنْ لم يجد فإطعامُ سِتِّينَ مِسكينًا، فجاءَ إطعامُ كلِّ فقيرٍ يُقابل صيامَ يومٍ، لكن هنا يختلفُ الوضع، ولعلَّ السبب- والله أعلمُ - أنَّه في كَفَّارة الظِّهار الإطعامُ بدلٌ عن الصيامِ، فمن لم يستطعِ الصيامَ أطعَمَ، وإذا كان بدلًا عن الصِّيام، فالحُكم أنَّ صومَ كلِّ يوم يُطعِمُ عنه مِسكينًا، كما في العاجِزِ عن الصِّيام عجزًا لا يُرجَى زَوالُه، فإنَّه يُطعِمُ عن كلِّ يومٍ مسكينًا، أمَّا في كفَّارةِ اليمينِ وفِديةِ الأذى، فليس الأمرُ كذلك؛ لأنَّ الأمرَ فيهما على التخييرِ، فكلٌّ من خِصال الكفَّارة نوع ٌمستقلٌّ بنفْسِه .
20- أنَّ الله سبحانه وتعالى بَيَّنَ لعبادِه من آياته كلَّ ما يحتاجون إليه؛ لِقَوْلِه: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ .
21- ممَّا يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ محبَّةُ الله تعالى للشُّكرِ؛ حيث بَيَّنَ الآياتِ لعِبادِه من أجْل أنْ يَشكُروه .
22- تعليلُ أحكامِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّها مقرونةٌ بالحِكمة؛ لأنَّ قَوْلَه: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ للتعليلِ، والتعليلُ يُفيد الحِكمةَ؛ فجميعُ أفعالِ اللهِ وأحكامِ اللهِ كلُّها لحِكمةٍ، لكنْ منها ما يُعلَم، ومنها ما لا يُعلَم

.
بلاغة الآيات:

1- قَوْلُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ:
- قَوْلُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الجملةُ تعليلٌ لِمَا قَبْلَها مِنْ قَوْلِه: وَلَا تَعْتَدُوا
، وهي أيضًا جملةٌ تذييليَّة للتي قَبْلَها؛ للتحذيرِ مِن كلِّ اعتداءٍ .
2- قَوْلُه: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ وَاتَّقُوا اللَّهَ فيه: تأكيدٌ للتَّوصيةِ بما أمَرَ به، وزادَه تأكيدًا بقوله: الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ؛ لأنَّ الإيمانَ به يُوجِبُ التقوى في الانتهاءِ إلى ما أمَر، وعمَّا نهى عنه .
3- قَوْلُه: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة:
- قَوْلُه: تَحْرِيرُ رَقَبَة، أي: فتحريرُ الإنسانِ كلِّه؛ ففيه تَسميةُ الكُلِّ (الإنسان) بالجُزءِ (الرَّقبة)؛ وخُصَّتِ الرَّقبةُ مِن الإنسان؛ إذ هو العُضوُ الذي فيه يكونُ الغُلُّ والتُّوثُّقُ غالبًا من الحيوانِ؛ فهو موضعُ الـمِلكِ فأُضيفَ التحريرُ إليها .
4- قَوْلُه: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ الكفَّارة مبالَغَةٌ في (كفر)، بمعنى ستَر وأزال، وقد جاءتْ فيها دَلالتانِ على المبالغةِ، هما التضعيفُ والتاء الزائدة، كتاء (نسَّابة) و(علَّامة)، والعربُ تجمعُ بينهما غالبًا .


======28.



سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (90 - 93)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ
غريب الكلمات:

الْمَيْسِرُ: القِمار؛ مِن قولهم: يَسَرَ، إذا ضَرَب بالقِداحِ، وأصلُ (يسر): يَدُلُّ على انْفِتاحِ شَيءٍ وخِفَّتِه
.
الْأَنْصَابُ: جمْع نُصُب، وهو: حَجرٌ أو صَنمٌ يَذبحون عندَه، أو يُنصَبُ للعبادةِ، وأصل (نصب): يدلُّ على إقامةِ شيءٍ، وإهدافٍ في استواءٍ .
الْأَزْلَامُ: أي: القِداحُ التي كانوا يَضربون بها، ثم يعملون بما يخرجُ فيها مِن أمرٍ أو نهيٍ، أو التي يَضربون بها على الميسرِ، أو هي سِهامُ العَرَب، مفردها: زلَم .
رِجْسٌ: أي: قذَرٌ مُنْتِن، وأصل (رجس): يدلُّ على اختلاطٍ .
الشَّيْطَانِ: إبليسَ؛ وكلُّ عاتٍ مُتمرِّدٍ مِن الجنِّ والإنسِ والدوابِّ: شيطانٌ، وأصلُه من (شطَن) إذا تباعَد؛ وذلك لبُعدِه عن الخيرِ أو رَحمةِ اللهِ تعالى. وقيل: أصله مِن (شَيَط) إذا احترَق .
يَصُدَّكُمْ: أي: يَصرِفَكم ويَمنعَكم، والصدُّ: الإعراضُ والعدولُ، ويُطلَق أيضًا على الانصرافِ عن الشيءِ والامتناعِ عنه، وأصل (صدد): صرَف ومنَع .
جُنَاحٌ: إثمٌ؛ سُمِّي الإثمُ بذلك لِمَيلِه عن طريقِ الحقِّ؛ فأصل (جنح): مال وتَعدَّى

.
المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ اللهُ تعالى لعبادِه المؤمنين أنَّ الخَمْرَ والقِمار، وما يُنصَب لعبادةِ غيرِ الله، والقِدَاحَ التي يُضرَب بها؛ ليُعملَ بما يخرجُ فيها مِن أمرٍ أو نهْيٍ، ويُعرف عن طريقِها ما قُسِم للإنسانِ مِن خيرٍ أو شرٍّ؛ هذه الأربعةُ أمورٌ مستقذَرةٌ ينأى عنها العُقلاءُ، وتَعافُها النُّفوس؛ فهي مِن تزيينِ الشيطان، فيجبُ عليهم الابتعادُ عنها واجتنابُها؛ حتى يُفلحوا؛ فالشيطانُ الرجيمُ يُريد بتَزْيينِه هذه المُنكَرَاتِ أن يُوقِعَ بينهم العداءَ والتباغُضَ، ويثيرَ في نفوسِهم الأحقادَ؛ بسببِ تعاطي الخمرِ والقِمار، فإنَّ مَن سَكِر، اختلَّ عقلُه، فربَّما تسلَّط على أذَى النَّاس في أنفسِهم وأموالِهم، وربَّما بلَغ به ذلك إلى القتلِ، ومَن قامَرَ فربَّما خَسِر مالَه، فلم يبقَ له شيءٌ، فيشتد حِقْدُه على مَن أخَذ مالَه. كما يريدُ الشيطانُ أيضًا أن يَصدَّهم عن ذِكْرِ الله وعن الصَّلاة، إذا تبيَّن لهم هذا فهلَّا انتَهَوْا عن تلك الأمورِ المستقبَحةِ.
ثم يأمرُ اللهُ عِبادَه المؤمنين أن يُطيعوه جلَّ وعلا، ويُطيعوا رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأن يَحذَروا مِن المخالَفةِ لأمْرِ اللهِ ورسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلام، فإنْ أعْرَضوا عن الطَّاعةِ فلْيَعلموا أنَّما على الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ البلاغُ عن الله تعالى، وأمَّا عقوبةُ مَن تولَّى وحسابُه فعلى الله عزَّ وجلَّ وَحْدَه.
ثم يُبَيِّنُ تعالى أنَّه ليس على الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحاتِ إثمٌ فيما شَرِبوا وأكَلوا ممَّا حرَّم الله تعالى إذا فَعَلوا ذلك قَبل نُزولِ تحريمِه أو قَبْل مَعْرِفَتِهم بتحريمِه، إذا ما اجتنَبوا ما حرَّمَ اللهُ، وآمَنوا به، وعمِلوا الصالحاتِ، ثم استمرُّوا على اجتنابِ ما حرَّم تعالى، وعلى الإيمانِ به، ثم استمرُّوا على اجتنابِ ما حرَّم اللهُ تعالى؛ حتى بَلَغوا مَرتبةَ الإحسانِ، واللهُ تعالى يحبُّ المحسنينَ في عِبادتِه، والذين يُحسِنون إلى عِبادِه.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أحلَّ اللهُ عزَّ وجلَّ الطيِّباتِ حرَّم الخبائثَ الْمُفْضيةَ إلى مفاسدَ؛ ولَمَّا كان الخمرُ والميسِرُ مِن جملةِ الأُمورِ المستطابةِ في جاهليَّتهم؛ بيَّن أنَّهما غيرُ داخِلَينِ في المحلَّلات، والميْسِرُ كان وسيلة للكسْبِ والأكْل؛ فكانتْ هذه الآيةُ كالاحتراسِ عمَّا قد يُساءُ تأويلُه مِن قَوْلِه سبحانه: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
، فقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، إنَّ الخمرَ والقِمارَ وما نُصِبَ لعبادةِ غيرِ الله تعالى، والأزلامَ التي يُسْتَقْسَم بها، كما كانتِ العربُ في جاهليَّتِها يَتعاطَون ذلك، وهي عبارةٌ عن قِداح ثلاثةٍ، مكتوبٌ على أحدِها: «افْعَل»، وعلى الآخَر: «لا تفعل»، والثَّالث ليس عليه شيءٌ، وقِيل: كان يُكتَب على الواحدِ منها: «أَمَرني ربِّي»، وعلى الآخَر: «نَهاني ربِّي»، والثالث ليس عليه شيءٌ، فإذا أجالَها فطَلَع السَّهمُ الآمِرُ فَعَلَه، أو النَّاهي ترَكَه، وإنْ طلَعَ الفارغُ أعاد الاستقسامَ، حتى يَخرُجَ أحدُ القَدَحينِ الآخَرَينِ فيَعملَ به .
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.
أي: إنَّ تلك الأشياءَ ما هي إلا خُبثٌ ونَتَنٌ وأمورٌ مُستقذَرَة، يَنبغي أن تَعافَها النُّفوسُ، وهي مِن تزيينِ الشيطان، ووحْيِه إليكم؛ ليُرغِّبَكم في إتيانِها وتعاطيها .
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أي: فابْتَعِدوا عن هذا الرِّجْس؛ كيما تَظْفَروا بما تَطلُبون، وتَنجوا ممَّا تَرهَبُون .
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى باجتنابِ الخمرِ والميسرِ، عقَّب بذِكر نوعينِ من المفسدةِ التي تترتَّبُ على تعاطيها وارتكابها: الأول: ما يتعلَّق بالدُّنيا، وهو قوله: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، والثاني ما يَتعلَّق بالدِّين وهو قولُه تعالى: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ .
سَببُ النُّزولِ:
عن مُصعَبِ بنِ سَعدٍ، عن أبيه، أنَّه قال: أتيتُ على نفرٍ مِنَ الأنصارِ والمهاجرينَ، فقالوا: تعالَ نُطْعِمْك، ونَسْقِك خمرًا، وذلك قبل أنْ تُحرَّم الخمرُ، قال: فأتيتُهم في حَشٍّ- والحَشُّ البُستانُ - فإذا رأسُ جَزورٍ مشويٌّ عندهم، وزِقٌّ مِن خَمْر، قال: فأكلتُ وشَرِبْتُ معهم، قال: فذكرتُ الأنصارَ والمهاجرينَ عندهم، فقُلْتُ: المهاجرون خيرٌ من الأنصارِ، قال فأخَذَ رجلٌ أحدَ لَحْيَيِ الرَّأْسِ فضَربَني به، فجرَح بأنفي، فأتيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخبرتُه، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ فيَّ- يعني: نفْسَه - شأنَ الخمرِ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة: 90] .
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ.
أي: إنَّما يُريدُ لكم الشيطانُ- عن طَريقِ شُربِ الخمرِ وتَعاطِي القِمار- أن يُعاديَ بعضُكم بعضًا بأفعالِهم، ويُبغضَ بعضُكم بعضًا بقلوبِهم، فيُشتِّت أمرَكم بعد تأليفِ الله تعالى بين قلوبِكم .
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ.
أي: ويُريدُ الشيطانُ أنْ يَصرِفَكم بغَلَبةِ هذه الخمرِ على عُقولِكم، وباشتغالِكم بهذا الميسِرِ عن ذِكرِ الله تعالى بألسِنَتِكم وجوارحِكم وقُلوبِكم، وعن الصَّلاةِ التي بها فلاحُكم .
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بَيَّن تعالى اشتمالَ شُرْبِ الخمرِ واللَّعِب بالميسرِ على هذه المفاسِدِ العظيمةِ في الدِّين ، قال تعالى:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
أي: فهلْ تَمتنِعون عن تِلك القبائحِ بعدَ هذا البيانِ الجليِّ والموعظةِ البليغة ؟
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان الخَمْرُ والميسرُ مألوفًا لهم، محبوبًا عندهم، وكان تركُ المألوفِ أمَرَّ مِن ضَرْبِ السُّيوف؛ أكَّد دعوتَهم إلى اجتنابِه، مُحذِّرًا من المخالفةِ بقولِه :
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا.
أي: وأطيعوا اللهَ تعالى، وأطيعوا رسولَه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بفِعلِ الأوامرِ، واجتنابِ النَّواهي؛ ومِن ذلك اجتنابُ تلك القَبائحِ، واحذروا من مَعصيةِ اللهِ تعالى، ومَعْصِيةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
أي: فإنْ أنتم أعرضتُم عن طاعةِ الله تعالى وطاعةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فاعْلَموا إذنْ أنَّه ليس على مَن أرسَلْناه إليكم سِوى إبلاغِكم رسالةَ ربِّكم بجَلاءٍ ووُضُوحٍ، وأمَّا إيقاعُ العقابِ بكم إذا تولَّيْتم عنها، فعلى الله تعالى وحْدَه .
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93).
سَببُ النُّزول:
عن أنسٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنتُ ساقِيَ القومِ في مَنزلِ أبي طَلحةَ، وكان خمرُهم يومئذٍ الفَضيخَ فأمَر رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مناديًا يُنادي: ألَا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمت، قال: فقال لي أبو طَلحةَ: اخرُجْ فأهرِقْها. فخرَجْتُ فهَرَقْتُها فجرَتْ في سِكَكِ المدينةِ، فقال بعضُ القَوْمِ: قد قُتِل قومٌ وهي في بُطونِهم؛ فأنزَلَ اللهُ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا الآيَةَ)) .
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا.
أي: ليس على المؤمنينِ الذين يَعملون الأعمالَ الصالحة؛ إثمٌ فيما شَرِبوا وأَكَلوا ممَّا حرَّمَ الله تعالى قبلَ نُزولِ تحريمِه ومعرفتِه، وذلك كالخمرِ التي كانوا يَشربونها، والقِمارِ الذي كانوا يَتعاطَوْنه .
إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
أي: يُنفَى عنهم الإثمُ بشَرْط أن يَجتنبوا ما حرَّم اللهُ تعالى، ومِن ذلك ما حرَّمَ عليهم من مَطعوماتٍ، ويُؤمنوا باللهِ تعالى إيمانًا صحيحًا، يَدعوهم إلى اكتسابِ الأعمالِ الصَّالحات .
ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا.
أي: ثم استمرُّوا على اجتنابِ ما حُرِّم عليهم، وثَبَتوا واستمرُّوا على الإيمانِ به سبحانه، دون أن يُغيِّروا أو يُبدِّلوا .
ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا.
أي: ثمَّ داوَمُوا على اجتنابِ المحرَّماتِ، حتى دعاهم ذلك إلى بُلوغِ الإحسانِ في فِعل الطَّاعاتِ .
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
أي: والله تعالى يحِبُّ المحسنِينَ في عِبادتِه، الذين يَعبُدونه سبحانه كأنَّهم يَرونَه، المحسنِين في نَفْعِ عِبادِه

.
الفوائد التربوية:

1- بَدْؤُه تعالى الكلامَ بهذا الوَصْفِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يدلُّ على أنَّ العملَ به تَصديقًا أو امتثالًا من مقتضياتِ الإيمانِ، كذلك أيضًا: يدلُّ على أنَّ مخالفتَه، أو الشكَّ فيه، أو تكذيبَه منافٍ للإيمانِ؛ إمَّا لأصلِه أو لكمالِه، وثالثًا: أنَّ في هذا إغراءً للمخاطَب، كأنَّه يقول: إنْ كنتَ مؤمنًا فاستمعْ وامتثِلْ
.
2- يَكفي أنْ يعلمَ المؤمنُ أنَّ شيئًا ما مِن عملِ الشَّيطانِ؛ لينْفِرَ منه حسُّه، وتَشمئزَّ منه نفْسُه، ويَبعُدَ عنه من خوفٍ ويتَّقيَه! فالشيطانُ عدوُّ الإنسانِ القديمُ؛ لذا قال تعالى: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فتَعاطي هذه المحرَّماتِ بتسويلٍ من الشيطان، فكأنَّ الذي عمِلَها وتعاطاها هو الشَّيطانُ، وفي ذلِك تنفيرٌ لمتعاطيها بأنَّه مَن عَمِلَ عَمَلَ الشيطانِ، فهو شيطانٌ، وذلك ممَّا تأباه النُّفوسُ، ولم يكتفِ بذلك ذمًّا لهذا العَمَل، بل وفي هذه اللَّحظة يَصدُر النَّهيُ مصحوبًا كذلك بالإطماعِ في الفَلاح، وهي لمسةٌ أخرى من لمساتِ الإيحاءِ النفسيِّ العميقِ، فقال: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
3- قَوْلُه تعالى: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فيه بيانُ أنَّه لا مَعصيةَ أعظمُ وأقبحُ من معصيةٍ تُدنِّس صاحبَها، وتجعلُه من أهل الخُبثِ، وتُوقِعُه في أعمالِ الشَّيطانِ وشِباكه، فينقادُ له كما تنقادُ البهيمةُ الذليلةُ لراعيها، وتَحولُ بين العبدِ وبين فلاحِه، وتُوقِعُ العداوةَ والبغضاءَ بين المؤمنين، وتصدُّ عن ذِكر اللهِ وعن الصَّلاة؟ فهل فوقَ هذه المفاسدِ شيءٌ أكبرُ منها ؟!
4- فضيلةُ الصَّلاةِ لتَخصيصِها بالذِّكر مِن بين ذِكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لِقَوْلِه: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وهذا يدلُّ على شَرَفِها وفَضلِها على غيرِها .
5- أنَّ كَلَّ ما صدَّ عن ذِكرِ الله فهو مِن أوامرِ الشَّيطانِ؛ لِقَوْلِه: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وذِكرُ الله تبارك وتعالى يكونُ بالقلبِ واللِّسان والجوارحِ، فكلُّ ما صدَّك عن ذِكرِ اللهِ من هذه الأشياءِ، فهو من أوامِر الشيطانِ وإراداتِه .
6- أنَّ كلَّ ما وقَع في قلبك مِن التثاقُل عن الصَّلاة، فاعلمْ أنَّه من الشَّيطانِ، ومرادِ الشيطان؛ لِقَوْلِه: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ .
7- في قولِه تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ الحضُّ على ترْكِ هذه الخبائثِ، والإقلاعِ عنها؛ لأنَّ العاقِلَ إذا نظَر إلى بعضِ تِلك المفاسدِ انزجَر عنها وكفَّتْ نفْسُه، ولم يَحتَجْ إلى وعْظٍ كثيرٍ، ولا زجرٍ بليغٍ .
8- في قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بيانُ أنَّ طاعةَ الله وطاعةَ رسولِه واحدةٌ، فمَن أطاعَ الله فقدْ أطاعَ الرسولَ، ومَن أطاع الرسولَ فقد أطاع اللهَ، وذلك شاملٌ للقِيامِ بما أمَر اللهُ به ورسولُه من الأعمال والأقوالِ، الظاهرةِ والباطِنة، الواجبةِ والمستحبَّةِ، المتعلِّقة بحقوقِ اللهِ وحقوقِ خَلْقِه، والانتهاءِ عمَّا نهى الله ورسولُه عنه كذلك .
9- أنَّ تولِّيَ الناسِ عمَّا يدعو إليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يضرُّه، ولا يُلامُ عليه؛ لِقَوْلِه: فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ؛ لأنَّه إذا كان ليس عليه إلَّا البلاغُ، فإنَّه لن يضرَّه تولِّيهم ولا يُلام عليه، ويتفرَّع على ذلك: أنَّ الداعيةَ إلى الله في وقتِنا وفيما قبْلَه لا يضرُّه ألَّا يَقبلَ الناسُ منه؛ لأنَّه أدَّى الواجبَ، ويَنبغي أن يُفَرِّحَ نفْسَه بأنَّه أدَّى الواجِبَ، وألَّا يحزنَ بعدم قبولِهم دعوتَه؛ لأنَّ الله تعالى قال للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] ، لكن ربَّما نقول: يحزنُ لعدمِ قَبولِ الشَّريعة، لا لعدمِ قبولِهم منه، والفرقُ بين هذا وهذا واضحٌ .
10- وجوبُ الرُّجوعِ إلى قولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِقَوْلِه: فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قام بالواجِب، فعلينا- نحن- أن نقومَ بالواجِبِ .
11- قَوْلُه تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، فيه ثناءٌ من الله، وحَمْدٌ لأحوال مَن يتَّصِفون بهذه الصِّفات: الإيمانِ والتقوى والإحسان، وهذا مدعاةٌ لتحرِّيها والاتصافِ بها .
12- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا القيودُ الشَّديدة في نفْيِ الإثمِ عمَّن أكَل أو شَرِب في مأكولِه ومَشروبِه، والتقوى ذُكرتْ في الآيةِ ثلاثَ مرَّات، والإيمانُ مرَّتين، والإحسانُ مرَّة، قيودٌ شديدة عظيمة؛ فينبغي الحَذَر من أنْ يكون في المطعومِ إثمٌ .
13- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا أنَّ مَن أكَلَ حلالًا بكسْبٍ حرامٍ فعليه الإثمُ؛ لأنَّه لم يتَّقِ اللهَ في كسْبِه، ولا بدَّ أن يتَّقيَ اللهَ عزَّ وجلَّ، وإذا كان الشيءُ المحرَّمُ مُعَيَّنًا فيكون الآكِلُ كالكاسِب، مثل: أنْ أعرفَ أنَّ هذه الشَّاةَ التي ذبَحَها إكرامًا لي قد سرقَها من فلانٍ، فهذه حرامٌ عليَّ أنْ آكُلَها .
14- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا فضيلةُ الإحسانِ إلى الخَلْق والإحسانِ في عِبادةِ الخالِق؛ فالإحسانُ إلى الخَلْق أن تبذُلَ جاهَك، تبذل مالَك، تبذل خِدمتك، تبذل منفعتَك البدنيَّة، والإحسانُ في عبادة الخالِقِ فسَّره أعلمُ الناسِ بمعناه، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: ((أنْ تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإنْ لم تكُن تراه فإنَّه يَراك ))

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- أطْلقَ اللهُ عزَّ وجلَّ الإيمانَ في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ولم يَذكُر ما يُؤمَن به؛ لأنَّ ذلك معلومٌ، وقد سأل جِبريلُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنه؛ أي: عن الإيمانِ، فقال: ((أنْ تُؤمِنَ بالله، وملائكتِه، وكُتُبه، ورُسلِه، واليومِ الآخِر، والقَدَرِ خيرِه وشرِّه ))
.
2- قَوْلُه: إِنَّمَا الْخَمْرُ... يُستفادُ منه تحريمُ الخمرِ مِن أيِّ شيءٍ كان، سواءٌ من العِنب أو مِن الرُّطَب، أو مِن الشَّعير، أو مِن البُرِّ، أو من أيِّ شيءٍ؛ لعمومِ الآيَةِ .
3- قولُه تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ... يُستفادُ من الآيَةِ تحريمُ الميسرِ قليلِه وكثيرِه؛ للعموم، حتى لو كانتِ المغالَبةُ بقِرشٍ واحدٍ، ولو يَسيرًا؛ لأنَّنا نقول: قليلُ الميسرِ الذي لا يُجحِف بمالِ الإنسانِ، ولا يُهتمُّ به، كقليلِ الخمرِ الذي إذا كان قليلًا لم يُسْكِر، وإذا كان كثيرًا أسْكَر، ولا شكَّ أنَّ المغالَبَةَ إذا كانتْ في شيءٍ يسيرٍ تجرُّ إلى المغالبةِ في شيءٍ كثيرٍ، ويُستثنَى من ذلك ما مَصلحتُه أعْلَى مِن مفسَدَتِه، وذلك في ثلاثةِ أشياءَ بَيَّنَها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ فقال: ((لا سَبَقَ إلَّا في نصْلٍ أو خُفٍّ أو حافِرٍ )) - السَّبَق بفَتْح الباءِ- هو: العِوَضُ المأخوذِ على السَّبْقِ- بسكون الباء-، والنَّصل: السِّهام، والخُف: البعير، والحافِر: الفرس- وإنَّما استثنى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ ذلك؛ لأنَّ بها يقومُ الجهادُ في سَبيلِ الله الذي به إعلاءُ كلمةِ الله، وهذه مصلحةٌ عظيمةٌ؛ فإذا رُخِّص للنَّاسِ في أخْذ العِوَضِ عليها، كَثُرَ تسابُقُهم فيها .
4- قَوْلُه تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فيه نصٌّ صريحٌ في أنَّ كلَّ مُسْكِرٍ حرامٌ؛ وذلك لأنَّه قال بعده: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فرتَّب النَّهيَ عن شُرْب الخمرِ على كونِ الخَمْرِ مشتملةً على تلك المفاسِد، ومِن المعلومِ في بَدائِهِ العقولِ أنَّ تلك المفاسدَ إنَّما تَولَّدتْ مِن كونِها مؤثِّرةً في السُّكْر، وهذا يُفيد القطعَ بأنَّ عِلَّة قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ هي كونُ الخمرِ مُؤثِّرةً في الإسكارِ، وإذا ثبَت هذا وجبَ القطعُ بأنَّ كلَّ مُسكِرٍ حرامٌ .
5- للقرآنِ الكريمِ طريقةٌ في بيان العِلل؛ فتارةً يَتقدَّم بيانُ العِلَّة، وتارةً يتأخَّر، يعني: إذا ذَكَر الله حُكمًا، وذَكَر له عِلَّةً، فتارةً يَذكُر العِلة قَبلُ ثم يَبني عليها الحُكمَ، وتارةً يَذكُرُ الحُكمَ ثم يأتي بالعِلَّةِ، حسَبَ ما تَقتضيه الحالُ وقرائنُ السِّياقِ، فهنا ذَكَر العِلَّة قبلَ الحُكم، وهي: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ .
6- تحريمُ الأصنامِ؛ لقولِه تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ فالأنصابُ: ما يُنصب ليُعبدَ مِن دون الله، وهو يعمُّ كلَّ ما اتُّخِذَ صَنمًا من أيِّ مادةٍ كان؛ لأنَّ الآيةَ مُطلَقةٌ .
7- في قولِه تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ حُذِفَ المتعلَّق لإفادةِ العُموم، فلمْ يَخُصَّ سبحانه وتعالى الاجتنابَ بنَوعٍ من أنواعِ الانتفاعِ؛ فيُحمَل على العُموم، ويكون المعنى: اجتَنِبوا بَيعَه، وشُرْبَه، وإهداءَه، وتخليلَه، وهِبتَه، وغيرَ ذلك .
8- رحمةُ اللهِ تبارَك وتعالَى بعِبادِه الَّذين خَلَقَهم لعِبادتِه؛ حيثُ حذَّرهم مِن كلِّ ما فيه ضَررٌ؛ لِقَوْلِه: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
9- إثباتُ الإرادةِ للشَّيطانِ؛ لِقَوْلِه: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ، والله تعالى يقول: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة: 34] ، وقد جادَلَ ربَّه عن إرادةٍ .
10- في قولِه تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ اقتصرتِ الآيةُ على تبيينِ مفاسِدِ شُرْبِ الخمرِ وتعاطي الميسِر، دون تَبْيينِ ما في عِبادَةِ الأنصابِ والاستقسامِ بالأزلامِ من الفَسادِ؛ وذلك لأنَّ إقلاعَ المسلمينَ عنهما قد تَقرَّر قَبلَ هذه الآيةِ مِن حِين الدُّخولِ في الإسلامِ؛ لأنَّهما من مآثِر عَقائدِ الشِّركِ، ولأنَّه ليس في النُّفوسِ ما يُدافِعُ الوازعَ الشرعيَّ عنهما بخِلافِ الخَمْر والميسِرِ؛ فإنَّ ما فيهما من اللَّذَّات التي تُزجِي بالنُّفوسِ إلى تَعاطيهما قد يُدافِع الوزاعَ الشرعيَّ؛ فلذلك أكَّد النهيَ عنهما أشدَّ ممَّا أكَّد النهيَ عن الأنصابِ والأزلامِ .
11- لَمَّا كانتِ العداوةُ قد تزولُ أسبابُها، ذكَر ما يَنشَأُ عنها ممَّا إذا استحكَم تعسَّر، أو تَعذَّر زوالُه، فقال: وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي: في تعاطيهما؛ لأنَّ الخَمْرَ تُزيل العَقْلَ، فيزول المانعُ من إظهارِ الكامِنِ من الضَّغائن والمحاسَدة، فربَّما أدَّى ذلك إلى حروبٍ طويلةٍ، وأمورٍ مَهولة، والميسِرُ يُذهِبُ المالَ، فيُوجِبُ ذلك الحقدَ على مَن سَلَبه مالَه، ونغَّص عليه أحوالَه .
12- كراهةُ اللهِ تبارك وتعالى للعداوةِ والبغضاءِ بين المسلمينَ؛ لأنَّ قولَه: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلى آخِره، فهذا تحذيرٌ ليس بعدَه تحذيرٌ؛ وذلك لأنَّ الله تعالى أمَرَ بالاجتماعِ ونهَى عن التفرُّقِ، فقال جلَّ وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] .
13- في قولِه تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ناسَب العطفُ في وَأَطِيعُوا على معنى قولِه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؛ إذ تضمَّن هذا معنى الأمْر، وهو قوله (فَانْتَهُوا) .
14- أنَّ طاعةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مستقلَّة، بمعنى: أنَّه إذا أمَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشيءٍ، لا نقول: هل يوجدُ في القرآن هذا الأمرُ أو لا يوجد، بل طاعتُه مستقلَّةٌ؛ وجْه ذلك: أنَّه أعادَ الفِعلَ فقال: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وإعادة الفِعل تدلُّ على أنَّ طاعةَ الرَّسول مستقلَّةٌ، بمعنى: أنَّنا لا نحتاجُ إلى شاهدٍ مِن القرآنِ فيما أمَرَ به الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم .
15- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يمتازُ عن غيرِه بالرِّسالةِ، والرِّسالةُ من أشرفِ الأوصافِ التي يتَّصِفُ بها العبدُ؛ لِقَوْلِه: الرَّسُولَ، ولا شكَّ أنَّ الرسولَ يَفضُل ويَشرُف بحسَبِ منزلةِ مُرسِله .
16- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَستطيعُ أنْ يَهدِيَ أحدًا؛ لأنَّه بلَّغَ البلاغَ المبينَ، ومع ذلك حصَلتِ المخالفةُ والتولِّي

.
بلاغة الآيات:

1- قَوْلُه: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ... فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
أكَّد تحريمَ الخمرِ والمَيْسِر في هذه الآية الكريمة بأنواعٍ مِن المؤكِّداتِ
:
منها: تصديرُ الجملة بقوله: إِنَّمَا، والقصرُ المستفادُ مِنْ قَوْلِه: إِنَّمَا هو قصرُ مَوصوفٍ على صِفةٍ، أي: إنَّ هذه الأربعةَ المذكوراتِ مقصورةٌ على الاتِّصافِ بالرِّجسِ، لا تتجاوزُه إلى غيرِه، وهو قصرٌ ادِّعائيٌّ؛ للمبالغةِ في عدَم الاعتدادِ بما عدَا صِفةَ الرِّجس من صِفات هذه الأربعةِ.
ومنها: أنَّ اللهَ تعالى جَعَل الخمرَ والميسِرَ رجسًا، وكلمةُ الرِّجْس تدلُّ على منتهى القُبح والخبث؛ ولذلك أُطلِقَت على الأوثانِ؛ فهي أسوأُ مفهومًا من كلمةِ الخبيثِ، وقد عُلِم مِن عِدَّة آياتٍ أنَّ اللهَ أحلَّ الطيِّباتِ، وحرَّم الخبائثَ.
ومنها: أنَّه قرَنَهما بالأصنامِ والأزلامِ التي هي مِن أعمالِ الوثنيَّة، وخُرافاتِ الشِّرك، وسمَّاهما رجسًا، وجعَلهما من عملِ الشيطانِ؛ تنبيهًا على أنَّ الاشتغالَ بهما شرٌّ خالصٌ أو غالبٌ، ولِمَا يَنشأُ عنهما من الشُّرور والطُّغيانِ، ولا يكون عَملُ الشيطانِ إلَّا موجِبًا لسَخطِ الرَّحمنِ؛ فالشَّيطان لا يَأتي منه إلَّا الشرُّ البَحْتُ.
ومنها: أنَّه أمَرَ بالاجتِنابِ عن عينِهما، وجَعْلُ الأمْرِ بترَكِهما مِن مادَّة الاجتنابِ أبلغُ مِن التَّرْكِ؛ لأنَّه يُفيدُ الأمرَ بالتَّرْكِ مع البُعدِ عن المتروكِ بأنْ يكونَ التاركُ في جانبٍ بعيدٍ عن جانبِ المتروك؛ وغالِبُ ما جاءَ في القُرآنِ من التَّعبيرِ بالاجتنابِ جاء في الشِّركِ والطَّاغوتِ الذي يَشملُ الشِّركَ والأوثانَ وسائرَ مَصادرِ الطُّغيان، والكبائرِ عامَّةً، وقَولِ الزُّور الذي هُو مِن أكبرِها؛ قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج: 30] ، وقال: وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ، كما قال: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا [الزمر: 17] ، وقال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم: 32] .
ومنها: أنَّه جعَلَ الاجتنابَ من الفَلاح، وإذا كان الاجتنابُ فلاحًا ومرجاةً له، دَلَّ ذلك على أنَّ ارتِكابَهما مِن الخُسرانِ والخَيبةِ، في الدُّنيا والآخِرة.
ومنها: أنَّه ذكَر ما يَنتج منهما مِن الوَبال، وهو وقوعُ التعادِي والتباغُض من أصحابِ الخمر والميسِر، فجعَلَهما مثارًا للعداوةِ والبغضاء، وهما شرُّ المفاسدِ الدُّنيويَّة المتعدِّيةِ إلى أنواعٍ من المعاصِي في الأموالِ والأعراضِ والأنفُس؛ ولذلك سُمِّيتِ الخمرُ أمَّ الخبائثِ وأمَّ الفواحِش.
ومنها: أنَّه جعَلهما صادَّينِ عن ذِكرِ اللهِ وعن الصَّلاةِ، وهما رُوحُ الدِّينِ وعِمادُه، وزادُ المؤمِنِ وعَتادُه.
ومنها: الأمْر بالانتهاءِ عنهما بصِيغة الاستفهامِ المقرونِ بفاءِ السببيَّة فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
ولم يُؤكَّدْ تحريمُ شيءٍ في القرآنِ مِثلَ هذا التأكيدِ ولا قريبًا منه؛ وحِكمتُه: شدَّةُ افتتانِ الناسِ بشُربِ الخمرِ، وكذا الميسِرُ، وتأوُّلُهم كلَّ ما يُمكن تطرُّقُ الاحتمالِ إليه من أحكامِ الأديانِ التي تُخالِفُ أهواءَهم، كما أوَّلت اليهودُ أحكامَ التوراةِ في تَحريمِ أكْلِ أمْوالِ النَّاسِ بالباطِلِ كالرِّبا وغيرِه، وكما استحلَّ بعضُ فُسَّاقِ المسلمين شُربَ بَعضِ الخمورِ بتَسميتِها بغيرِ اسمِها؛ إذ قالوا: هذا نَبيذٌ لا يُسكِرُ إلَّا الكثيرُ منه، وقد أحلَّ ما دون القدْرِ المُسْكِرِ منه فلان وفلان، يقولون ذلك فيما هو خمرٌ لا حَظَّ لهم مِن شُرْبِه إلَّا السُّكْرُ.
- وفي قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ مناسبةٌ حسنةٌ مِن حيثُ تَرتيبُها في الذِّكرِ؛ فإنَّه لَمَّا كانتِ الخَمرُ غايةً في الحَمْلِ على إتلافِ المال، قرَن بِها ما يَليها في ذلك، وهو القِمار، ولَمَّا كان الميسِرُ مَفسدةَ المالِ، قرَنَ به مفسدةَ الدِّينِ، وهي الأنصابُ، ولَمَّا كان تَعظيمُ الأنصابِ شِركًا جليًّا إنْ عُبِدت، وخفيًّا إنْ ذُبِحَ عليها دون عِبادةٍ، قرَن بها نوعًا من الشِّرك الخفيِّ، وهو الاستقسامُ بالأزلامِ، ثم أمَرَ باجتنابِ الكُلِّ إشارةً وعبارةً على أتمِّ وجْهٍ، فقال: رِجْسٌ، أي: قذَرٌ أهلٌ لأنْ يُبعَدَ عنه بكلِّ اعتبارٍ حتى عن ذِكره، سواء كان عيْنًا أو معنًى، وسواء كانتِ الرجسيَّةُ في الحسِّ أو المعْنَى .
2- قَوْلُه: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ خصَّ الْخَمْر وَالْمَيْسِر بإعادةِ الذِّكر، وشرْحِ ما فيهما مِن الوَبالِ، بعدَما جمَعَ الخمرَ والميسرَ مع الأنصابِ والأزلامِ أولًا، ثم أفردَهما آخِرًا؛ تَنبيهًا على أنَّهما المقصودُ بالبيانِ ، ولأنَّ الخِطابَ مع المؤمنين، وإنَّما نهاهم عمَّا كانوا يَتعاطَوْنه مِن شُرْبِ الخَمرِ واللَّعِب بالميسِر، وذَكَر الأنصابَ والأزلامَ لتأكيدِ تحريمِ الخمرِ والميسِر، وإظهارِ أنَّ هذه الأربعةَ متقاربةٌ في القُبح والمفسَدَة، وأَنَّ ذلك جميعًا من أعمالِ الجاهليَّةِ وأهلِ الشِّرك؛ فوجَبَ اجتنابُه بأسْرِه .
3- قَوْلُه: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فيه: تخصيصُ الصَّلاةِ بالإفرادِ مع دُخولها في ذِكْرِ اللهِ؛ للتعظيمِ، والإشعارِ بأنَّ الصادَّ عنها كالصادِّ عن الإيمانِ؛ لأنَّها عمادُه، كأنَّه قيل: وعن الصَّلاةِ خصوصًا .
- وكرَّر الجارَّ في قوله: وَعَنِ الصَّلَاةِ تأكيدًا للأمْرِ، وتغليظًا في التَّحذيرِ .
4- قَوْلُه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ هذا الاستفهامُ مِن أبلغِ ما يُنهَى عنه، كأنَّه قيل: قد تُلِيَ عليكم ما فيهما من المفاسِدِ الدُّنيويَّة والدِّينيَّة التي تُوجِبُ الانتهاءَ؛ فهل أنتم منتهونَ أم باقون على حَالِكم مع عِلْمِكم بتلك المفاسِدِ؟! وهذا استفهامُ ذمٍّ معناه الأمرُ، أي: انْتَهُوا، ومعناه: اتركوا وانتقِلوا عنه إلى غيرِه ، فأكَّد النهيَ عنها بأنْ أوْرَدَه بصِيغةِ الاستفهامِ؛ فهو أبلغُ في الزَّجزِ من صِيغةِ الأمْرِ التي هي «انتهُوا» .
- وفي هذا الاستفهامِ كِنايةٌ عن التَّحذيرِ مِن انتفاءِ وقوعِ المستَفْهَم عنه، أي: التَّحذيرِ مِن عَدمِ الانتهاءِ ؛ فقدْ أعْظَمَ التهديدَ بهذا الاستفهامِ والجملةِ الاسميَّةِ الدالَّة على الثَّبات .
5- قَوْلُه: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا
فيه تكرارُ قوله: وَأَطِيعُوا على سَبيلِ التأكيدِ .
- حُذِفَ المفعولُ مِن كلمةِ وَاحْذَرُوا؛ للتحذيرِ من مَعصيةِ اللهِ ورسولِه، وهو أشدُّ وقعًا من ذِكر مَفعولِها؛ لأنَّه أبلغُ في التَّخويفِ؛ لأنَّ المتكلِّمَ مقتصِرٌ عليها دونَ مُتعلِّقاتها .
6- قَوْلُه: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ خبرٌ فيه من الوعيدِ البالغِ ما لا خفاءَ به؛ إذ تضمَّنَ أنَّ العقابَ إنَّما يتولَّاه المرسِلُ لا الرَّسولُ؛ فما كُلِّفَ الرسولُ من الأمْرِ غيرَ التبليغِ .
- وقوله: عَلَى رَسُولِنَا في إضافةِ الرسول إلى ضميرِ الجلالة إشارةٌ إلى تعظيمِ جانبِ هذه الرِّسالة، وإقامة لمعذرتِه في التبليغِ بأنَّه رسولٌ من القادِر على كلِّ شيءٍ، فلو شاءَ مُرسِلُه لهدَى المُرسَلَ إليهم، فإذا لم يَهتدوا فليس ذلك لتقصيرٍ من الرسولِ .
7- قَوْلُه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا
فِيمَا طَعِمُوا، أي: في طعمِ الَّذي طَعِموه، ومِن فصاحةِ القُرآن: إيرادُ فِعل طَعِمُوا هنا؛ لأنَّ المرادَ نفيُ التَّبِعَةِ عمَّن شَرِبوا الخمرَ وأكلوا لحمَ الميسرِ قبلَ نزولِ آيَةِ تَحريمهما؛ فإنَّ أصْلَ معنى طعموا أنَّه بمعنى أَكَلوا، و(طَعِم) يأتي بمعنى (ذاق)، كما في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة: 249] ، أي: ومَن لم يَذُقْه، بقرينةِ قوله: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ [البقرة: 249] ويُقال: وجدتُ في الماءِ طَعْمَ التراب، ويقال: تَغيَّر طعمُ الماء، أي: أسِنَ، فاسْتُعْمِلَ اللَّفظُ في معنييه، أو هو مِنْ أُسلوبِ التَّغليبِ .
8- قَوْلُه: إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا فيه: تَكرارُ هذه الجُمل على سبيلِ المبالغةِ والتوكيدِ في هذه الصِّفات، والتأكيدِ والمبالغةِ في الحثِّ على الإيمانِ والتَّقوى، ولا ينافي التأكيدَ العطفُ بـثُمَّ ؛ فإنَّ حَرْفَ ثُمَّ الدالَّ على التَّراخي الرُّتبي فيه إيماءٌ إلى الازديادِ في التقوى وآثارِ الإيمان ، ويحتمل أنْ يكون هذا التكريرُ باعتبارِ الأوقاتِ الثلاثة، أو باعتبارِ الحالات الثَّلاث: استعمالُ الإنسانِ التقوى والإيمانَ بينه وبين نفْسِه، وبَينَه وبينَ الناس، وبَيْنه وبينَ الله تعالى؛ ولذلك بدَّل بالإيمانِ الإحسانَ في الكرَّة الثالثة؛ إشارةً إلى ما قاله عليه الصَّلاة والسَّلام في تفسيره، أو باعتبارِ المراتبِ الثلاثِ: المبدأ، والوسط، والمنتهَى، أو باعتبار ما يَتَّقي؛ فإنَّه ينبغي أن يترُكَ المحرَّماتِ توقِّيًا من العقاب، والشُّبهاتِ تحرُّزًا عن الوقوعِ في الحرام، وبعضَ المباحات تَحفُّظًا للنَّفْس عن الخِسَّة، وتهذيبًا لها عن دَنسِ الطَّبيعة .
- قَوْلُه: ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا فيه تقديمُ الاتِّقاءِ على الإيمان؛ إمَّا للاعتناء به، أو لأنَّه الذي يدلُّ على التحريمِ الحادثِ الذي هو المؤمَنُ بِه، وللإشارةِ إلى أنَّ الإيمانَ هو أصلُ التقوى .


=====29.



سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (94 - 96)
ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
غريب الكلمات:

النَّعَمِ: أي: الإبل والبَقر والغَنَم، وأصلُ (نعم): يدلُّ على ترفُّه وطِيب عَيشٍ وصلاحٍ
.
ذَوَا عَدْلٍ: أي: عَدلانِ بيِّنَا العدالةِ، والعدالةُ هي الاستقامةُ على طريقِ الحقِّ بالاجتنابِ عمَّا هو محظورٌ دِينًا، وأصل (عدل): يدلُّ على استواءٍ .
هَدْيًا: جمْع هَدْيَةٍ، وهو هنا مختصٌّ بما يُهدَى إلى البيتِ مِن الأنعامِ، وأصلُ (هدي): يدلُّ على مَا أُهدِيَ مِن هَديَّةٍ إلى ذي مودَّةٍ، ويدلُّ على التَّقدُّمِ للإرشادِ .
عَدْلُ ذَلِكَ: أي: مِثلُه، أو مَا يُعادلُه، وأصلُ (عدل): يدلُّ على استواءٍ .
وَبَالَ أَمْرِهِ: أي: جزاءَ ذَنبِه، أو ثِقْلَ فِعلِه، أو عاقبةَ أمْره مِن الشرِّ، والوَبَال: الوخامةُ، وسوءُ العاقبة، وأصل (وبل): يدلُّ على شِدَّةٍ في شيءٍ، وتجمُّع .
مَا سَلَفَ: أي: الذي مضَى وتَقدَّم، والسَّلفُ: المتقدِّم، وأصل (سلف): يدلُّ على تقدُّم وسَبْق .
صَيْدُ الْبَحْرِ: أي: ما صِيدَ من السَّمكِ، والصيدُ هنا يُرادُ به المَصيدُ، أو: ما يُصطادُ منه طريًّا .
وَلِلسَّيَّارَةِ: أي: المسافِرين، وأصلُ (سير): يدلُّ على مُضيٍّ وجريانٍ .
تُحْشَرُونَ: تُجمَعون وتُساقون، والحشرُ: الجمْعُ مع سَوْقٍ، أو الجمعُ بكثرةٍ، وكلُّ جمْعٍ حشْرٌ، والحشر أيضًا: البعثُ والانبعاثُ

.
مشكل الإعراب:

قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ.
فَجَزَاءٌ: مرفوعٌ مُنوَّن، على أنَّه مبتدأٌ لخبرٍ محذوفٍ، والتقدير: فعليه جزاءٌ، ويجوز أنْ يكونَ جَزَاءٌ خبرًا لمبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: فالواجبُ جزاءٌ، ويجوز أنْ يكون فاعلًا بفِعلٍ محذوف، أي: فيلزمه أو يجبُ عليه جزاءٌ. ومِثْلُ: بمعنى (مماثِل)، وهي مرفوعةٌ صفةٌ لـجَزَاءٌ، ويجوزُ أن تكون بدلًا منه. ومِنَ النَّعَمِ متعلِّقٌ بمحذوفٍ، حالٌ من ضمير المفعول المحذوف؛ أي: ما قَتَلَهُ من النَّعَم. أو في محلِّ رفْع صِفة ثانية لـجَزَاءٌ.
وقُرِئ جَزَاءُ بالرَّفْعِ من غيرِ تنوينٍ على إضافتِه إلى مِثلِ، وإعراب (جَزَاءُ) على هذه القِراءة كما سبَق، لكن: مِثْلِ مجرورةٌ على أنَّها مضاف إليها، وهي في حُكم الزَّائدة؛ لأنَّ الذي يجِبُ به الجزاءُ هو المقتولُ لا مِثلُه، وهذا كقولِه تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ [البقرة: 137] أي: بما آمنتُم به، وكقولهم: مِثلي لا يقولُ ذلك، أي: أنا لا أقولُ ذلِك. ومِنَ النَّعَمِ جارٌّ ومجرور في محلِّ نصْبٍ، حالٌ من الضمير في قَتَلَ؛ لأنَّ المقتولَ يكون من النَّعَم، أو يكونُ الجارُّ والمجرور متعلقًا بنَفْسِ الجزاء.
ومَا قَتَلَ: مَا يجوزُ أنْ تكون موصولةً اسميَّة، أو نكرةً موصوفةً، والعائد محذوف- على كِلا التَّقديرَينِ - أي: مِثل الذي قتَله مِن النَّعم، أو مِثل شيءٍ قتَلَه من النَّعَم
.
قوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا.
هَدْيًا: منصوبٌ على أنَّه حالٌ من الهاء في بِهِ، فيكون بمعنى مَهْدِيٍّ، أو منصوبٌ على المصدر- أي: إنَّه مفعولٌ مُطلَق لفِعل محذوفٍ-، أي: يُهديه هَدْيًا، وقيل غير ذلك.
أَوْ كَفَّارَةٌ: بالرَّفْع والتنوينِ، على أنَّه معطوفٌ على فجَزَاءٌ، أي: أو عليه كفَّارةٌ. وطَعَامُ: مرفوعٌ على البَدل مِن كفَّارة. وصِيَامًا منصوبٌ على التمييز .
قوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ.
مَتَاعًا لَكُمْ: مَتَاعًا منصوبٌ على المصدر- مفعول مُطلَق- لأنَّ قوله: أُحِلَّ لَكُمْ بمعنى: أَمْتَعْتُكم به إمتاعًا، أو منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ من أجْلِه، أي: أُحِلَّ لكم تمتيعًا لكم. ولَكُمْ صِفة لـمَتَاعًا- على القول بأنَّ مَتَاعًا مصدرٌ. وعلى القول بأنَّ مَتَاعًا مفعولٌ لأجْله، فيكون لَكُمْ مُتعلِّقًا بفعلٍ محذوف، أي: أَعْني لكم

.
المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ الله تعالى عِبادَه المؤمنينَ أنَّه سيختبرُهم في حالِ إحرامِهم ببعضٍ مِن الصيدِ المحرَّم، الذي يستطيعون أخْذَه بأيديهم أو رِماحِهم؛ وذلك حتَّى يَعلمَ اللهُ مَن يَخافُه حالَ كَوْنِه لا يَرَى اللهَ عَزَّ وجَلَّ، ومَن يَخشاهُ في حالِ غِيابِه عن النَّاسِ، ثم توعَّد مَن اعتدَى متجاوزًا ما حدَّه اللهُ بعدَ حُكمِ تحريم الصَّيدِ عند التلبُّسِ بالإحرامِ، فخالَف شرْعَ اللهِ في ذلك؛ توعَّدَه بأنَّ له عذابًا مؤلِمًا مُوجِعًا.
ثمَّ نهى اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنينَ عن قَتْلِ الصَّيدِ وهُم مُحْرِمون، أو كانوا داخِلَ الحرمِ، وبيَّن أنَّ مَن قتَلَ الصيدَ قاصدًا ذلك، فيجبُ عليه أنْ يذبَحَ مِثلَه مِن بهيمةِ الأنعامِ، يُقدِّر ذلك المِثْلَ الواجبَ اثنانِ عَدْلانِ من المؤمنينَ، ويَنبغي أن يَصلَ هذا الهديُ الواجبُ على قاتلِ الصَّيدِ إلى الحَرمِ؛ ليُذبحَ هناك، ويُوزَّع لحْمُه على مساكينِه. أو يكفِّر قاتلُ الصيدِ عمَّا اقتَرفَه من ذنبٍ بإطعامِ مساكينَ. أو يصوم ما يُعادلُ الإطعامَ، بأنْ يكون مقابلَ إطعامِ كلِّ مِسكينٍ صِيامُ يومٍ؛ ليذوقَ مَن قتَل الصيدَ- وهو مُحرِمٌ بعدَ تحريمِه- عقوبةَ ما اقترفَه مِن ذنبٍ. ثم ذكَر اللهُ مَظْهرًا مِن مظاهرِ رحمتِه بعبادِه؛ وهو أنَّه عفا الله عمَّا مضى مِن قبلِ التَّحريمِ، فلم يؤاخِذْهم عليه، أمَّا مَن عاود فِعلَ ذلك بعد أنْ بَلَغه التحريمُ؛ فإنَّ اللهَ تعالى ينتقمُ منه، ويعاقِبُه عقابًا شديدًا، فهو سبحانه عزيزٌ ذو انتقامٍ.
وبعدَ أنْ ذَكَر اللهُ حُكمَ صَيدِ البَرِّ بيَّن أنَّ صيدَ البحرِ وطعامَه حلالٌ حتى للمُحرِم- وصيدُ البَحر ما أُخِذ حيًّا، وطعامُه ما لَفَظَه البحرُ ميتًا، أو طفَا عليه أو انْحسَر عنه- أحلَّ الله تعالى ذلك؛ منفعةً لعبادِه في حالِ إقامَتِهم وحالِ سَفَرِهم، وأوضَحَ اللهُ سبحانه أنَّ صيدَ البَرِّ حرامٌ على عِبادِه حالَ إحرامِهم، فلْيتَّقوا اللهَ في كُلِّ أحوالِهم؛ فهو الذي إليه يُحشَرونَ وإليه مَرْجِعُهم فيجازيهم على أعمالِهم.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَرَهم اللهُ تعالى ألَّا يُحرِّموا الطيِّباتِ، أخرج منها ما حرَّمَه في حالٍ دون حال، وهو حال الصيد
، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ.
أي: يا أيُّها المؤمنون، لَيَختبِرنَّكم اللهُ تعالى، ويَمتحِنَنَّ إيمانَكم ببعضِ الصَّيد المحرَّمِ الذي تَقدِرونَ على أخْذِه بأيديكم ورِماحِكم، وذلك حالَ إحرامِكم بحَجٍّ أو عُمرةٍ .
لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ.
أي: أقامَ اللهُ تعالى هذا الابتلاءَ؛ ليَعلمَ عِلمًا ظاهرًا للخَلْقِ، يَترتَّبُ عليه الثوابُ والعِقابُ، مَن يخافُ اللهَ تعالى ولم يَرَهُ، ومَن يَخافُ اللهَ تعالى في حالِ غِيابِه عن النَّاسِ، فيُطيع ربَّه عزَّ وجلَّ، ويَجتنب معصيتَه سرًّا وجهرًا، وهو لا يَراه ولا يُعايِنُه .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك: 12] .
فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
أي: فمَن تجاوَزَ حدَّ اللهِ عزَّ وجلَّ بعدَ حُكمِ تحريمِ الصَّيدِ عليه حالَ إحرامِه، فخالَفَ شرْعَ اللهِ تعالى في ذلك؛ فله عذابٌ مؤلِمٌ مُوجِع .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ .
أي: يا أيُّها المؤمنون، إيَّاكم أن تَقْتُلوا صيدَ البَرِّ وأنتم مُحْرِمون بحجٍّ أو عمرةٍ ، أو كنتم داخِلَ منطقةِ الحَرَم .
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ.
أي: وكلُّ مَن قتَلَ منكم صَيدًا، مُتعمِّدًا قتْلَه، فيجبُ عليه أنْ يَذبحَ مِثلَه من بهيمةِ الأنعامِ: الإبلِ، والبقر، والغَنم ، ويَتصدَّقَ به عِوضًا عمَّا قَتَله .
يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ .
أي: يُقدِّرُ ذلك الجزاءَ الواجبَ، اثنانِ عدلانِ منكم- أيُّها المؤمنون- من ذوي الاستقامةِ والمروءةِ ، يَعرِفان الحُكمَ، ووجهَ الشَّبَهِ .
هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ.
أي: هذا الهدْيُ يَنبغي أنْ يكونَ واصلًا إلى الحرَمِ، فيُذبحَ فيه، ويُوزَّعَ لحْمُه على مساكينِه .
أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ.
أي: وله- عوضًا عن ذَبْحِ الهَدْي المماثِل- أنْ يكفِّرَ عن ذَنبِه بإطعامِ مساكينَ .
أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا.
أي: وله أيضًا أنْ يَختارَ للجزاءِ صِيامَ ما يُعادِلُ إطعامَ المساكينِ، فيصومَ عن إطعامِ كلِّ مِسكينٍ يومًا .
لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ.
أي: أوْجَبْنا الجزاءَ المذكور على قاتِلِ الصَّيدِ المنهيِّ عن قتلِه؛ ليذوقَ عقوبةَ ذَنبِه الذي ارتكبَه بإلزامِه بما يُتعِبُه، ويشقُّ عليه .
عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ.
أي: تجاوزَ اللهُ تعالى عن قتْلِكم الصيدَ، وأنتم حُرُمٌ، قبلَ تحريمِ ذلك عليكم، فلا يُؤاخِذكم به .
وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ.
أي: ومَن فعل ذلك بعد تحريمِه، وبُلوغِ الحُكم الشرعيِّ إليه، فإنَّ الله تعالى يَأخُذُه بعقوبةٍ .
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ.
أي: واللهُ تعالى مَنيعٌ في سُلطانه، غالبٌ على أمْرِه، لا يَقهرُه قاهرٌ، ولا يَمنعُه من الانتقامِ مانعٌ، ذو معاقبةٍ لِمَن عصاه سبحانه .
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كانَ الصيدُ يشملُ الصيدَ البَرِّيَّ والبَحريَّ، استَثْنى تعالى الصيدَ البحريَّ، فذَكَر في الآياتِ الماضيةِ حُكمَ صيدِ البَرِّ للمُحْرِم، وذكر هنا حُكمَ صيدِ البَحرِ ، فقال:
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ.
أي: أباحَ الله تعالى لكم مُطلقًا في حالِ حِلِّكم وحَرَمِكم- أيُّها المؤمنون- أكْلَ صيدِ البحرِ، وهو ما أخذتُموه من حيواناتِه حيًّا، وطعام البحرِ، وهو ميتتُه التي لفَظَها أو طفَتْ عليه، أو انحسر عنها .
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ.
أي: منفعةً لكم- أيُّها المخاطَبون- فتنتفعون به أكْلًا وبَيعًا، ومنفعةً أيضًا للمسافرينَ يَتزوَّدونَ به في سَفرِهم، ويَجلِبونه بضاعةً إلى الأمصارِ في تَرحالِهم .
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا .
أي: وحرَّم اللهُ تعالى عليكم- أيُّها المؤمنون- أخْذَ الحيوانِ البريِّ في حالِ إحرامِكم .
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ .
أي: واتَّقوه سبحانه بفِعلِ ما أمَر، وترْكِ ما نَهى، واستَعِينوا على تقواه بعِلمِكم أنَّكم إليه راجعونَ، فيُجازِيكم في آخرتِكم ثوابًا أو عقابًا على ما قدَّمتُم في دُنياكم

.
الفوائد التربوية:

1- في قوله تعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ بيانُ امتحانِ اللهِ تبارَك وتعالى لعبادِه بتيسيرِ أسبابِ المعصية لهم؛ ليعلمَ مَن يخافُه بالغيبِ ومَن لا يخافُه إلَّا في العلانِيَة، ووجهُه من الآية ظاهِر
.
2- قَوْلُه تعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فيه الحذرُ مِن الوقوعِ في المعصيةِ، وإن تيسَّرتْ أسبابُها، ومعرفةُ أنَّ ذلك امتحانٌ مِن الله ، فقد يكونُ التيسيرُ هو عينَ الابتلاءِ؛ ليعلمَ اللهُ مَن يخافُه في السرِّ، حيثُ لا يراه أحدٌ من النَّاس؛ إذ إنَّ هذا الصيدَ في مُكنتِهم وسهْلُ الأخْذ؛ فالخائفُ لا يَصيدُ، وغيرُ الخائفِ يَصيدُ .
3- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فيه أنَّ اجتنابَ قتْلِ الصيدِ مِن مقتَضَياتِ الإيمانِ؛ وجهُ ذلك: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وجَّه الخطابَ بهذا النهيِ إلى المؤمنين، ودلَّ على أنَّ قتْلَ الصَّيدِ مُنافٍ لكمالِ الإيمانِ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَوْلُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ... فيه فضلٌ عظيمٌ لهذه الأمَّة، وأنَّها تَفضُل سائرَ الأُمَمِ، وعلى رأسهم الأمَّةُ اليهوديَّة، وفيه أيضًا فضيلةُ الصَّحابة رضي الله عنهم، الذين هم مُقَدَّمُ هذه الأمَّةِ، فقد امتحن اللهُ تعالى أصحابَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عُمرةِ الحُديبِيَةِ بالصيدِ وهم مُحرِمون، فهيَّأ لهم جميعَ أنواعِ الصيدِ من الوُحوش والطَّير، مِن كِبارِها وصِغارها، ولم يَعتَدِ رجلٌ منهم، ولم يَصِدْ في الإحرام، كما بيَّنه الله تعالى بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ... فخافوا اللهَ عزَّ وجلَّ وعظَّموا محارمَه، فلم ينتهكوها أو يتحيَّلوا عليها، أمَّا بنو إسرائيلَ فقد ابتلاهم اللهُ بصيدٍ، وهو صيدُ السَّمكِ، كما قال تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ [الأعراف: 163] فحَدَاهم الطَّمَعُ في أكْلِ الحُوتِ إلى أنِ اعْتَدَوْا في السَّبتِ، فكانوا يجعلون شِباكًا في يومِ الجُمعة، ثم يأخذون السَّمكَ أو الحيتانَ يومَ الأحَدِ، فمَسَخَهم اللهُ قِرَدةً
.
2- قَوْلُه: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ابتلاءُ تكليفٍ ونهْيٍ، كما دلَّ عليه تعلُّقُه بأمْرٍ ممَّا يُفعَل؛ فهو ليس كالابتلاءِ في قوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ... [البقرة: 155] ، وإنَّما أخبَرَهم بهذا على وجْهِ التَّحذير؛ فالابتلاءُ مُستقبَلٌ؛ لأنَّه لا يَتحقَّقُ معنى الابتلاءِ إلَّا مِن بعدِ النهي والتَّحذيرِ، ووجودُ نونِ التوكيدِ يُعيِّن المضارعَ للاستقبالِ؛ فالمستقبل هو الابتلاءُ، وأمَّا الصَّيدُ ونوالُ الأيدي والرِّماحِ فهو حاضِرٌ .
3- جاءتْ (مِن) في قولِه: مِنَ الصَّيْدِ للتبعيضِ؛ وذلك مِن وجهينِ: الأوَّل: أنَّ المرادَ صيدُ البَرِّ دون البَحر، والثاني: صيدُ الإحرامِ دون صيدِ الإحلالِ .
4- خصَّ اللهُ الأيديَ بالذِّكرِ في قولِه تعالى: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ؛ لأنَّها أعظمُ تصرُّفًا في الاصطيادِ، وفيها تدخُلُ الجوارحُ والحِبالاتُ وما عُمِل باليدِ مِن فِخاخٍ وشِباكٍ، وخصَّ الرِّماح بالذِّكْرِ، فقال: وَرِمَاحُكُمْ؛ لأنَّها أعظمُ ما يُجرحُ به الصَّيدُ، وفيها يدخلُ السَّهمُ ونحوه . وقيل: عَبَّر بالأَيدي والرِّماح؛ ليشملَ الصَّيدَ القريبَ والبعيدَ؛ فبَعضٌ من الصَّيدِ يُتناوَلُ بالأيدي لقُرب غِشيانِه حتَّى تَتمكَّن منه اليدُ، وبعضٌ منه يُنال بالرِّماح لبُعده وتَفرُّقه؛ فلا يُوصَل إليه إلَّا بالرُّمح . وقيل: عَبَّر بقوله: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ؛ للدَّلالةِ على غَايةِ قُرْبِ الصَّيدِ، حتى لو شَاؤوا لتناوَلوه بأَيديهم؛ فنَهاهم اللهُ أنْ يَقْرَبوه، وهذا لتَحقيقِ وقوعِ الابتلاءِ بِالصَّيْدِ؛ إذ ابتلاهَم بما يَغشاهُم في رِحالهم، ويَتمكَّنون مِن أخْذِه بالأيدي والرِّماح سرًّا وجهرًا؛ لتظهرَ طاعةُ مَن يُطيع منهم في سِرِّه وجَهْرِه .
5- يُؤخَذُ من لفظ الصَّيْدِ أنَّه لا بدَّ أن يكون وحشيًّا؛ لأنَّ الإنسيَّ ليس بِصَيْدٍ، وأن يكون مأكولًا؛ فإنَّ غيرَ المأكولِ لا يُصادُ، ولا يُطلَق عليه اسمُ الصَّيد .
6- في سِياق قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ إشكالٌ، وهو أنَّه قد نرَى في ظاهرِ الآية أنَّها تدلُّ على تجدُّدِ العِلم للهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه قال: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ، ثم قال: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ، وهو جلَّ وعلا عالمٌ بذلك قبلَ أنْ يخلُقَ هذا، وقد قدَّر مقاديرَ الخلائِقِ قبلَ خلْق السَّمواتِ والأرضِ بخَمسينَ ألفَ سَنةٍ، والجوابُ عن هذا الإشكال: أنَّ عِلمَ الله تعالى بالشيءِ قبلَ وقوعِه علمٌ بأنَّه سيقَعُ، وعِلمه بعدَ وقوعه عِلمٌ بأنَّه واقعٌ، وفرْقٌ بين كونِ الشيءِ معلومًا قبلَ أن يقعَ، ومعلومًا بعدَ أن يقَعَ؛ فالعلمُ الأوَّلُ لا يترتَّبُ عليه جزاءٌ بالنِّسبةِ للعبدِ، والعِلم الثاني: يترتَّبُ عليه جزاءٌ ، فمعنى لِيَعْلَمَ اللَّهُ أنْ يعلمَ عِلمًا ظاهرًا للخَلْقِ يترتَّب عليه الثوابُ والعقابُ .
7- مِن مِنَنِ اللهِ تعالى على عبادِه: أنْ أخبرَهم ببعضِ ما سيَبْتَليهم به؛ ليُطيعوه ويُقدِموا على بصيرةٍ، ويَهلِكَ من هلَك عن بيِّنةٍ، ويحيا من حيَّ عن بيِّنةٍ، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ .
8- أفاد قولُه: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ أنهم يتمكَّنون من صيدِه؛ ليتمَّ بذلك الابتلاءُ، وإلَّا فلو كان غيرَ مقدورٍ عليه بيدٍ ولا رُمحٍ، لم يبقَ للابتلاءِ فائدةٌ .
9- قَوْلُه تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ثناءٌ على الذين يَخافون اللهَ؛ فقدْ أثنى عليهم بصِدق الإيمانِ وتنَوُّرِ البصيرة؛ فإنَّهم خافوه ولم يَرَوْا عظمتَه وجلالَه، ونعيمَه وثوابَه، ولكنَّهم أيقَنوا بذلك عن صِدْقِ استدلالٍ .
10- يُستفادُ من مجموعِ الآيتين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ... ويَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ النهيُ عن الاصطيادِ، والنهيُ عن قتْلِ الصيدِ، والظَّاهِرُ عمومُ الصَّيدِ، وقد خُصَّ هذا العمومُ بصيدِ البَرِّ؛ لِقَوْلِه: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ .
11- حرَّم اللهُ تعالى الصيدَ في حالينِ: حال كَوْن الصائِد مُحرِمًا، وحال كون الصيدِ مِن صيدِ الحرَم ولو كان الصائدُ حلالًا، والحكمةُ في ذلك أنَّ الله تعالى عظَّمَ شأنَ الكعبةِ من عَهدِ إبراهيمَ عليه السَّلام، وأمَرَه بأنْ يتَّخذَ لها حرَمًا كما كان الملوكُ يتَّخذونَ الحِمَى، فكان بيتُ اللهِ وحِماه- وهو حَرَمُ البَيْتِ- مُحتَرمًا بأقْصى ما يُعدُّ حُرمةً وتعظيمًا؛ فلذلك شرَع اللهُ حَرَمًا للبيتِ واسعًا، وجعَل الله البيتَ أمْنًا للنَّاس، ووسَّع ذلك الأمنَ حتى شَمِلَ الحيوانَ العائِشَ في حَرمِه، بحيث لا يرَى الناسُ للبيتِ إلَّا أمنًا للعائذِ به وبحَرَمِه .
12- يُستفادُ من قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ التصريحُ بالنَّهي عن قتْلِ الصيدِ في حالِ الإحرامِ، والنَّهيُ عن قتْلِه يشملُ النهيَ عن مُقدِّمات القتْلِ، وعن المشاركةِ في القَتْلِ، والدَّلالةِ عليه، والإعانةِ على قتْله؛ حتى إنَّ مِن تمام ذلك أنَّه يُنهَى الْمُحْرِمَ عن أكْلِ ما قُتِل أو صِيدَ لأجْلِه؛ وهذا كلُّه تعظيمٌ لهذا النُّسُكِ العظيمِ .
13- ممَّا يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ تعظيمُ الإحرامِ وتعظيمُ الحَرَم؛ أما تعظيمُ الإحرامِ: فإنَّ منْعَ الْمُحْرِم من الصَّيد يعني احترامَ النُّسُك وعدَمَ اللَّهو وعدَم التَّرَف؛ لأنَّه لو أُبيح للمُحْرِم أن يَصطادَ لتلهَّى عن النُّسُك؛ ولهذا قال الله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] ، كلُّ هذا لأجْلِ أنْ يَتفرَّغَ الإنسانُ قلبًا وقالَبًا لِما هو مُتلبِّسٌ به من النُّسُك. وأمَّا حَرَمُ مكَّة فظاهرٌ أيضًا أنَّ في الآيةِ دليلًا على تعظيمِه وحُرمتِه؛ لأنَّ الحرمَ آمنٌ كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] ، وقال عزَّ وجلَّ: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين: 3] ، هذا البلدُ آمِنٌ فيه الآدميُّون والحيوانُ والأشجارُ؛ ولذلك يَحرُمُ صيدُه، ويحرُمُ قَطْعُ شجرِه إلَّا الميِّت، ويَحرُم القتالُ فيه، كما قال عزَّ وجلَّ: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [البقرة: 191] .
14- حرَّمَ الله تعالى الصَّيدَ على الْمُحْرِم بقولِه: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1] ، وقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة: 2] ، وبقولِه هنا: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وكرَّر ذلك تغليظًا لحُكمِه .
15- أنَّ ما صادَه المحْرِمُ مَيتةٌ؛ لا يحلُّ أكْلُه لا له ولا لغَيْره، سواءٌ قتَلَه بالسَّهم، أو أمْسَكه وذبَحه؛ فإنَّه مَيْتة؛ لِقَوْلِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وجه الدَّلالةِ: أنَّ الله عبَّر عن صَيدِه بقَتْله، ومعلومٌ أنَّ القَتْل ليس ذَكاةً؛ فيدلُّ هذا على أنَّ ما قَتلَه المُحْرِمُ من الصيودِ فهو مَيتةٌ .
16- تقييدُ القتْلِ بالعَمدِ في قولِه تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ. خَرَجَ به المخطِئُ، فمَن لم يتعمَّدْ فقتَل خطأً، بأنْ كان ناسيًا لإحرامِه، أو رَماه ظانًّا أنَّه ليس بصيدٍ، فإذا هو صيدٌ، أو عدَل سهمُه الذي رماه لغيرِ صيدٍ فأصابَ صيدًا، فلا جزاءَ عليه ولا إثمَ ، فالجزاءُ إنَّما يلزم المتعمِّدَ، والقاعدةُ: أنَّه لا مؤاخذةَ مع الجهلِ والنِّسيانِ، وكذلك الإكراهُ، وهي قاعدةٌ عظيمةٌ في الشَّريعة الإسلاميَّة، ولا يجوزُ أن نُخْرِجَ منها أيَّ شيءٍ إلَّا بدليلٍ .
17- قال سبحانه وتعالى: فَجَزَاءٌ سمَّى اللهُ الكفَّارةَ هنا جزاءً؛ لأنَّ فيها تأديبًا وعقوبةً، وقد دلَّنا على أنَّ مَقْصِدَ التَّشريع في ذلك هو العقوبةُ؛ قولُه عقِبَه: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ .
18- يُؤخذُ من قولِه تعالى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أنَّه لو اجتَمَع مُحرِمونَ في صَيدٍ لم يجبْ عليهم إلَّا جزاءٌ واحِدٌ .
19- أَوْ في قوله: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ وقولِه: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ تَقتضي تخييرَ قاتِلِ الصيدِ في أحدِ الثلاثَةِ المذكورةِ، وكذلك كلُّ أمَرٍ وقَعَ بـ (أو) في القرآنِ، فهو من الواجِبِ المخيَّر، والقولُ بالتَّخييرِ هو قولُ الجمهورِ .
20- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه تعالى: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أنَّ العَدْلينِ ذَكَرانِ، فلا يَحكُم فيه امرأتانِ، وإن اتَّصَفَتا بالعدالةِ .
21- وصف ذَوَا عَدْلٍ بقولِه: مِنْكُمْ أي: من المسلمينَ؛ للتحذير من متابعةِ ما كان لأهلِ الجاهليَّةِ مِن عَمَلٍ في صيدِ الحَرَمِ؛ فلعلَّهم يدَّعُونَ معرفةً خاصَّةً بالجزاءِ .
22- استُدِلَّ بقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ على إثباتِ القياسِ؛ لأنَّه تعالى فرَضَ تعيينَ المِثل إلى اجتهادِ النَّاسِ .
23- أنَّ جزاءَ الصَّيد لا بدَّ أن يصِلَ إلى الحَرَمِ، ويُذبَحَ هناك؛ لِقَوْلِه: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، فلو قُدِّرَ أنَّ إنسانًا أَحْرَمَ مِن ذي الحُليفَةِ وقتَل صيدًا في بَدْرٍ، فإنَّه يجبُ عليه أن يَجزي هذا الصيدَ في مكَّةَ ولا بدَّ .
24- ممَّا يُستفادُ من التَّصريحِ بالكعبة في قوله: بَالِغَ الْكَعْبَةِ الزِّيادةُ في التعظيمِ، والإعلامُ بأنَّها هي المقصودَةُ بالذاتِ بالزِّيارة والعمارةِ .
25- أنَّ هؤلاءِ المساكينَ لا يُحْصَرونَ بعددٍ معيَّنٍ، بل له أن يُطْعِمَ ثلاثةً أو عشَرةً أو عشرينَ أو ثلاثينَ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى أطلَقَ، فقال: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ وأقلُّهم ثلاثةٌ .
26- اسْتُدِلَّ بقَوْلِه تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ على جوازِ التعزيرِ بالمالِ؛ لأنَّ هذا القاتِلَ أُلزِمَ بهذه الفِدْيةِ؛ ليذوقَ وبالَ أمْرِه، فهو نوعٌ من التَّعزيرِ .
27- قَوْلُه: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ فيه رحمةُ الله عزَّ وجلَّ بهذه الأمَّة؛ حيث خيَّرها بين قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وبين ما بَعدَه، فقال: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا و(أو) للتَّخييرِ .
28- إنَّما سمَّى الله تعالى ما أوْجَبه على مَن قتَل صيدَ البَرِّ وهو مُحْرِمٌ وَبالًا في قولِه: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ؛ لأنَّه خيَّره بينَ ثلاثةِ أشياءَ؛ اثنانِ منها يوجِبَان تنقيصَ المالِ، وهو ثقيلٌ على الطَّبْعِ، وهما الجزاءُ بالمِثل والإطعامُ، والثَّالثُ يُوجِبُ إيلامَ البَدَنِ، وهو الصَّومُ، وذلك أيضًا يَثقُل على الطَّبعِ؛ وذلك حتى يُحترزَ عن قتْلِ الصَّيدِ في الحرمِ، وفي حالِ الإحرامِ .
29- لا يُوصَفُ الله تعالى بالانتقامِ وصفًا مُطلقًا، ولا يُسمَّى بالمنتقِم، وقولُه: ذُو انْتِقَامٍ لا يدلُّ على أنَّه وصفٌ مُطلَقٌ لله؛ لأنَّ الله تعالى قيَّدَ الانتقامَ بالمجرمين، فقال تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السجدة: 22] ، فنُقيِّد ما قيَّده اللهُ عزَّ وجلَّ وأيضًا فقوله: ذُو انْتِقَامٍ وصف لـعزيزٌ وهو الذي لا يحتاج إلى ناصرٍ، فوُصِف بذلك؛ لأنَّ من صِفاته الحِكمةَ، وهي تَقتضي الانتقامَ من المُفْسِد؛ لتكونَ نتائجُ الأعمالِ على وَفْقِها .
30- أنَّ جميعَ حيوانِ البحرِ حلالٌ؛ لِقَوْلِه: صَيْدُ الْبَحْرِ والإضافةُ تقتضي العمومَ، فيشملُ كلَّ ما في البحرِ مِن سَمَكٍ وحيتانٍ، صغيرٍ وكبيرٍ مشابهٍ للإنسانِ، أو مشابهٍ للذِّئابِ، أو مشابهٍ للخنزيرِ، أو غير ذلك .
31- استدلَّ جمهورُ العلماءِ على حِلِّ مَيتةِ البحرِ بقولِه تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ وطعامُه يشملُ ما مات فيه .
32- حِلُّ صيدِ البحرِ للمُحِلِّين والمحرِمينَ؛ لِقَوْلِه: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا .
33- أنَّه لو وُجِد ماءٌ فيه سمكٌ داخلَ حدودِ الحرَمِ فإنَّ الظاهِرَ أنَّه يكونُ حلالًا؛ لعمومِ قوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ، ثم قال: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا .
34- من حِكمةِ الله عزَّ وجلَّ في حِلِّ صيدِ البحرِ دون صيدِ البَرِّ؛ لأنَّ الأوَّل تناوُلُه سَهْلٌ، ولا يلهو به الإنسانُ، كما يلهو به في صيدِ البَرِّ، بخلافِ صيدِ البرِّ الذي يتلهَّى الإنسانُ به وينسابُ وراءَه، ثم إنَّ صيدَ البحرِ صيدٌ خفيٌّ في باطنِ المياه؛ فلا يكونُ كالصَّيْدِ الظَّاهِرِ على سطحِ الأَرْضِ .
35- الإشارةُ إلى جوازِ ادِّخارِ لحمِ البَحْرِ؛ لِقَوْلِه: وَلِلسَّيَّارَةِ يعني: السَّائرينَ في السَّفر، ومِثل ذلك لحمُ صيد البرِّ في غيرِ الإحرامِ، لكن يُشترَطُ في ذلك ألَّا يصلَ إلى حدِّ الضَّررِ، فإنْ وصَلَ إلى حدِّ الضَّرَر بأنْ أَنتنَ، وقَبُحتْ رائحتُه، وخِيفَ على الإنسانِ منه، صار إمَّا مَكروهًا وإمَّا حرامًا؛ لقولِ الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] ، وقوله: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] .
36- لَمَّا كان الاصطيادُ بحَشْرِ المصيدِ إلى حيثُ يَعجِز عن الخلاصِ منه، وكانتْ حالةُ الإحرامِ أشبهَ شيءٍ بحالةِ الحَشرِ في التجرُّدِ عن المخيطِ، والإعراضِ عن الدنيا وتمتُّعاتِها، ختَم الآيةَ بقولِه عطفًا على ما تقديرُه: فلا تأكلوا شيئًا منه في حالِ إحرامكم، وَاتَّقُوا اللهَ، أي: الذي له الأمرُ كلُّه في ذلك وفي غيرِه من الاصطياد وغيرِه؛ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ؛ ليكونَ العَرْضُ عليه نُصْبَ أَعْيُنِكم، فتكونوا مواظبِينَ على طاعتِه مُحترِزينَ عن مَعصيتِه

.
بلاغة الآيات:

1- قَوْلُه: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ فيه: التأكيدُ باللَّامِ، ونونِ التَّوكيدِ، في قوله: لَيَبْلُوَنَّكُمُ التي تُعيِّن المضارعَ للاستقبالِ
.
- وقوله: بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنكيرُ بِشَيءٍ؛ للتَّقليلِ والتَّصْغيرِ ، وعَبَّر بـمِن التي للتَّبعيض، أي: بشَيءٍ غيرِ كثيرٍ. وقيل: تَنكيرُ بِشَيْءٍ هنا للتنويعِ لا للتَّحقيرِ .
2- قَوْلُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لبيانِ الإجمالِ الواقِعِ في قولِه تعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ... .
3- قولُه: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ فيه: إيجازٌ بديع؛ لأنَّ شأنَ جواب الشَّرطِ إذا كان فِعلًا ألَّا تدخلَ عليه الفاءُ الرابطة؛ لاستغنائِه عن الرَّبط بمجرَّدِ الاتِّصالِ الفِعلي، ودخولُ الفاءِ على الفعلِ يقعُ في كلامِهم على خلافِ الغالِبِ؛ لقصدِ الدَّلالةِ على الاختصاصِ، أو التَّقوِّي، والتقدير: (فَهو ينتقمُ الله منه)؛ لقصدِ الاختصاصِ للمبالغةِ في شِدَّةِ ما يناله، حتى كأنه لا يَنالُ غيرَه، أو لقصدِ التقوِّي، أي: تأكيدِ حصولِ هذا الانتقامِ .
4- قَوْلُه: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ تذييلٌ، وفي هذه الجملة تَذكارٌ بنِقَمِ الله وتخويفٌ .
- ولَمَّا كان قاتلُ صيدِ البَرِّ مُنتهكًا لحُرمةِ الإحرامِ والحَرَم، وكان التَّقديرُ: فاللهُ قادرٌ عليه، عَطَفَ على ذلك ما اقتَضاه المقامُ مِن الإتيانِ بالاسمِ العَظيم (اللَّه) ووصْفِ العزَّةِ، فقال: وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ .
5- قَوْلُه: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ... استئنافٌ بيانيٌّ نشأَ عن قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُم؛ فإنَّه اقتَضى تحريمَ قتْلِ الصَّيدِ على المحْرِم، وجَعَلَ جزاءَ فِعْلِه هدْيَ مِثلِ ما قتَل مِن النَّعَم، فكان السامعُ بحيث يسألُ عن صيدِ البَحرِ؛ فبيَّن اللهُ للناس حُكمَ صيدِ البحرِ وأبقاه على الإباحةِ .
6- قَوْلُه: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا فيه: زيادةُ تأكيدٍ لتحريمِ الصَّيدِ؛ تصريحًا بمفهومِ قولِه: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، ولبيانِ أنَّ مُدَّةَ التحريمِ مُدَّةُ كونِهم حُرُمًا .
7- قَوْلُه: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيه: تنبيهٌ وتهديدٌ جاءَ عقيبَ تحليلٍ وتحريمٍ، وناسَب ذِكرُ الحشْر؛ إذ فيه يَظهَرُ مَن أطاع وعصَى ؛ ففي إجراءِ الوَصفِ بالموصولِ الَّذِي وتِلك الصِّلة إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تذكيرٌ بأنَّ المرجِعَ إلى الله؛ ليُعِدَّ الناسُ ما استطاعوا من الطاعةِ لذلك اللِّقاء .
- وقوله: الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ قدَّم الجارَّ والمجرورِ في قوله: إِلَيْهِ على عاملِه، وهو قولُه: تُحْشَرُونَ؛ لفائدتين: فائدة معنويَّة، وفائدة لفظيَّة؛ فالفائدةُ المعنويَّة: الحصرُ، وهذه قاعدةٌ معروفة عند البلاغيِّين والأصوليِّين: أنَّه إذا قُدِّمَ ما حقُّه التأخيرُ، فإنَّه يُفيد الحصرَ. والفائدةُ اللفظيَّة: مناسبةُ رُؤوسِ الآياتِ

=========


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (97 - 100)
ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
غريب الكلمات:

قِيَامًا: أي: قِوامًا لهم، يقومُ به معاشُهم ومعادُهم، ودِينهم ودُنياهم وأمْنُهم، وأصلُ (قوم): مراعاةُ الشيءِ والحفظُ له، والانتصابُ والعزمُ
.
وَالْقَلَائِدَ: أي: ما قُلِّد من الهَدْيِ، وكانوا يُقلِّدون البعيرَ مِن لِحاءِ شَجرِ الحرَمِ، فيأمَن بذلك حيثُ سلك، والقَلْد الفَتْل، وأصل (قلد): يدلُّ على تعليقِ شيءٍ على شيءٍ ولَيِّه به، وعلى حَظٍّ وَنَصِيبٍ .
أُولِي الْأَلْبَابِ: أي: أصحاب العُقولِ السَّليمة، ومفرد ألباب: لُبٍّ، وأصل اللُّبِّ: الخُلوصُ والجودةُ، والشَّيءُ المنتقى

.
مشكل الإعراب:

قوله: ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا.
ذَلِكَ: اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ في محلِّ رفْعٍ، على أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوف، والتقدير: الأمرُ ذلك، أو الحُكمُ الذي حَكمْناه ذلِك لا غيرُه، أو يكون مبتدأً وخبرُه محذوفٌ، والتقدير: ذلك الحُكمُ هو الحقُّ لا غيرُه. ويجوز أنْ يكون في محلِّ نصْب على أنَّه مفعولٌ به لفِعل مُقدَّر يدلُّ عليه السِّياقُ، وبه تتعَلَّقُ اللَّامُ فيلِتَعْلَمُوا، والتقدير: شَرَعْنا ذلِك لتعلموا. وقيل: ذَلِكَ: إشارةٌ إلى الجَعْلِ المأخوذِ مِن قَوْلِه:جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ ولامُ التَّعليل في لِتَعْلَمُوامتعَلِّقَةٌ بـ جَعَلَ، وتوسُّطُ اسمِ الإشارةِ بينهما هنا شَبيهٌ بتوسُّطِ ضَميرِ الفَصْلِ؛ فلذلك كان الكلامُ شَبيهًا بالمستأنَفِ، وليس هو بمُستأنَفٍ، فلم يكُن في هذا الكَلامِ شيءٌ جَديدٌ غيرُ التَّعليلِ، والمعنى: جَعَلَ اللهُ الكعبةَ قيامًا للنَّاسِ؛ لتَعْلَموا أنَّ اللهَ يَعْلَمُ... إلخ

.
المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّه جعَل الكعبةَ البيتَ الحرامَ قِوامًا للنَّاس، تقومُ به مَصالحُهم الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، وكذلك الشهرُ الحرامُ، والهَديُ الذي يُساقُ إلى الحرمِ من بهيمةِ الأنعامِ؛ وخصوصًا ما يُقلَّد منه، كلُّ ذلك جعَلَه الله ممَّا تقومُ به مصالحُ النَّاسِ؛ ذلك من أجْلِ أنْ يَعلمَ النَّاسُ أنَّه تعالى يَعلمُ ما في السَّموات والأرض، ومِن ذلك عِلمُه بما يَصلُح لعبادِه في دِينهم ودُنياهم، وأنَّ الله بكلِّ شيءٍ عليمٌ.
ثم خوَّف الله تعالى مِن عقابِه، ورغَّب في ثوابِه، فأمَرَ النَّاسَ أنْ يَعلموا أنَّه عزَّ وجلَّ شديدٌ عِقابُه إذا أَنْزلَه بمَن عصاه، وأنَّه غفورٌ يَستُرُ ذنوبَ مَن تاب إليه، ويَتجاوز عن المؤاخذةِ عليها، رحيمٌ سبحانه بعبادِه.
ثمَّ أخْبَر تعالى أنَّه ما على رسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلَّا أداءُ الرِّسالة التي أُرْسِلَ بها، وأنَّه ما قصَّر في أدائِها، وأنَّ الله تعالى يَعلمُ ما يُعْلِنُ الخَلقُ وما يُسرُّونه، وسيُجازيهم على أعمالِهم.
ثم أمَر الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ للنَّاس: إنَّه لا يَستوي الخبيثُ والطيِّب، ولو أُعْجبَ المرءُ بكثرةِ الخبيث، فاتَّقوا اللهَ يا أصحابَ العقولِ السَّليمة؛ لعلَّكم تَظْفَرون بما تَطلبونُه وتَرجُونه، وتنجونَ ممَّا تَحذرونه في دُنياكم وآخِرتِكم.
تفسير الآيات:

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حرَّم اللهُ تعالى في الآيةِ المتقدِّمةِ الاصطيادَ على الـمُحرِم، وبيَّن أنَّ الحرمَ كما أنَّه سببٌ لأَمْنِ الوحشِ والطير، فكذلك هو سببٌ لأمْن النَّاسِ عن الآفاتِ والمخافاتِ، وسببٌ لحصولِ الخيراتِ والسَّعادات في الدُّنيا والآخِرة
، فقال سبحانه:
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ.
أي: صيَّر اللهُ تعالى حرَمَه قِوامًا للنَّاس، تقومُ به مصالحُ دِينهم، من صلاةٍ وحجٍّ وعمرةٍ، وغير ذلك، وتقومُ به أيضًا مصالحُ دُنياهم؛ بما يُجبَى إليها من ثمراتِ كلِّ شيءٍ رزقًا من عند اللهِ تبارَك وتعالى، وبما يَحصُل فيه مِن الأمْنِ، وبما يَحصُل فيه مِن اجتماعٍ للمسلمينَ، فيتعارَفون، ويتعاونون، ويتشاورونَ في مصالحِهم الدِّينيَّة والدُّنيويَّة .
وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى ما به القوامُ من المكان، أتْبعَه ذلِك مِن الزمانِ ، فقال:
وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ.
أي: وصَيَّرَ اللهُ تعالى الأشهُرَ الحُرمَ قِوامًا للناسِ، تقومُ فيها مصالحُهم بما جَعَل الله تعالى فيها من الأمْنِ بتحريمِ القِتال والظُّلمِ فيها .
وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ.
أي: صيَّرَ اللهُ تعالى الهدْيَ الذي يُهدَى إلى الحرمِ مِن إبلٍ أو بقرٍ أو غنمٍ تقرُّبًا إلى اللهِ تعالى، والقلائدَ- وهي الهَدْيُ الذي تُجعَلُ له قلائدُ في عُنقه؛ إظهارًا لشعائرِ الله تعالى، ولغيرِ ذلِك من أسباب - صيَّرها الله سبحانه قِوامًا للنَّاس في دِينِهم بالثوابِ الذي يَنالونه مِن الله تعالى، وفي دُنياهم بالبيعِ والشِّراءِ والأكْل والانتفاعِ بالجلودِ، وغير ذلك .
ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: إنَّ تصييرَه سبحانه الكعبةَ البيتَ الحرامَ والشَّهرَ الحرامَ والهديَ والقلائدَ قيامًا لكم- أيُّها الناس- كي تَعلموا أنَّ الله سبحانه يَعلمُ جميعَ ما في السَّموات وجميعَ ما في الأرض، ومِن ذلك عِلمُه بما يَصلُحُ لكم مِن مصالحَ دِينيَّةٍ ودُنيويَّة .
وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: ولِتَعلموا أيضًا أنَّه لا يَخفى عليه شيءٌ، ومِن ذلك أعمالُكم، فيُجازيكم بها .
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى أنواعَ رَحمتِه بعِبادِه، ذكَر بعدَه أنَّه شديدُ العِقاب؛ لأنَّ الإيمانَ لا يتمُّ إلَّا بالرَّجاء والخوف، ثم ذكَر عَقيبَه ما يدلُّ على الرحمةِ، وهو كونُه غفورًا رحيمًا، وذلك يدلُّ على أنَّ جانبَ الرَّحمة أغلبُ؛ لأنَّه تعالى ذَكَر فيما قَبلُ أنواعَ رحمتِه وكرمِه، ثم ذكَرَ أنَّه شديدُ العقابِ، ثم ذكَرَ عقيبه وصْفَينِ من أوصافِ الرَّحمةِ، وهو كونه غفورًا رحيمًا ، قال تعالى:
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: اعْلموا- أيُّها الناس- أنَّ ربَّكم شديدُ الأخْذِ بالذنبِ إذا عاقَب مَن عصاه .
وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: واعْلَموا أيضًا أنَّه يَستُر ذُنوبَ مَن تاب إليه مِن عِبادِه، ويتجاوزُ عن مؤاخذتِه بها، رحيمٌ سبحانه، ومِن رحمتِه بعبادِه أنَّه لا يُكلِّفهم ما يشقُّ عليهم، وأنَّه يقبلُ توبتَهم إذا تابوا إليه .
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لمَّا تقدَّم الترغيبُ والترهيبُ أخبَر تعالى أنَّه كلَّف رسولَه بالتبليغِ، وهو توصيلُ الأحكامِ إلى أُمَّته، وهذا فيه تشديدٌ على إيجابِ القيامِ بما أمَر به تعالى، وأنَّ الرَّسولَ قد فرَغ ممَّا وجَب عليه مِن التبليغِ، وقامتْ عليه الحجَّةُ، ولزِمتْكم الطاعةُ، فلا عذرَ لكم في التفريطِ .
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ.
ليسَ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي أرْسلناه إليكم- أيُّها الناسُ- سوى أداءِ رِسالتِنا إليكم، وأمَّا ما عدَا ذلك فليس له مِن الأمرِ شيءٌ .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ.
أي: إنَّ أعمالَكم ليستْ مُوكَلةً إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنَّما الذي يُجازيكم بها هو اللهُ تعالى وحْدَه، الذي يَعلمُ جميعَ ما تُظْهرونَه، وجميعَ ما تُخفونه .
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا زجَر عن المعصيةِ ورغَّب في الطَّاعة بقولِه: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ثم أتْبعَه بالتكليفِ بقولِه: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ، ثمَّ أتْبعَه بالتَّرغيبِ في الطاعةِ والتنفيرِ عن المعصيةِ بقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ، أتْبعَه بنوعٍ آخَرَ من الترغيبِ في الطاعةِ والتنفيرِ عن المعصيةِ ، فقال قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ....
وأيضًا لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنَّ عقابَه شديدٌ لِمَن عصَى، وأنَّه غفورٌ رحيمٌ لِمَن أطاع؛ بيَّن أنَّه لا يستوي المطيعُ والعاصي، وإنْ كان من العُصاةِ والكفَّار كثرةٌ؛ فلا تَمنعُه كثرتُهم من عقابِهم ، فقال تعالى:
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.
أي: قلْ- يا محمَّد- للنَّاس: لا يَستوي الخبيثُ والطيِّب من كلِّ شيءٍ؛ مِن أشخاصٍ وأعمالٍ وغيرِ ذلك، فلا يَستوي المؤمنُ والكافرُ، ولا تَستوي الطاعةُ والمعصيةُ، ولا يَستوي الحلالُ والحرام .
وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ.
أي: فلا تَعجبنَّ- أيُّها الإنسانُ- مِن كثرةِ الخبيث مِن أيِّ شيءٍ كان، فلا تُعجبْك كثرةُ مَن يَعصي الله؛ فإنَّ الفلاحَ لأهلِ الطاعةِ وإنْ قلُّوا، والقليلُ الحلالُ النافع خيرٌ من الكثيرِ الحرام الضارِّ .
قال تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة: 221] .
فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أي: يا أصحابَ العقولِ الصَّحيحةِ الرَّاشدة، اتَّقوا اللهَ سبحانه بامتثالِ ما أمرَكم به، واجتنابِ ما نهاكم عنه؛ كي تَظفَروا بما تَأمُلون، وتَنجُوا ممَّا تَحذرون في الدُّنيا والآخِرة

.
الفوائد التربوية:

1- إثباتُ الحِكمةِ في أحكامِ الله عزَّ وجلَّ؛ لِقَوْلِه: ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا، واللامُ هنا للتعليلِ، ومِن أسماءِ الله تبارك وتعالى: الحكيم، وهو الذي يَضعُ الأشياءَ في مواضعِها، ويتفرَّع على هذه الفائدةِ العظيمة: أنْ نُؤمِن بأنَّ كلَّ ما شرَعه الله أو فَعَلَه الله فهو لحِكمةٍ، وحينئذٍ لا يَلْزَمُنا أن نَبحثَ عن الحِكمةِ، أو نتمحَّلَ حِكمةً بَعيدةً قد تكون غيرَ مرادةٍ لله عزَّ وجلَّ، إنْ تَبيَّنتْ لنا الحكمةُ بسُهولة، فلا شكَّ أنَّ هذا مِن نِعمةِ الله، ويَزيد الإنسانَ طُمأنينةً، وإنْ لم تَتبيَّن فإنَّنا نعلمُ أنَّها لحكمةٍ، لكنَّ عُقولَنا قاصرةٌ عن إدراك حِكمةِ الله عزَّ وجلَّ في كلِّ ما شرَع
.
2- الحثُّ على معرفةِ صِفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لِقَوْلِه: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ، فينبغي البحثُ عن صِفاتِ اللهِ تبارَك وتعالى، سواءٌ الصِّفاتُ التي ليس لها أسماءٌ، أو الصِّفات التي تَتضمَّنها الأسماءُ؛ لأنَّه كلَّما ازدادتْ المعرفةُ بأسماءِ الله وصِفاته ازداد اليقين .
3- التَّحذيرُ مِن مخالفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وتَرْكِ مراقَبَتِه سبحانه؛ وَجْهُه: إثباتُ العِلم في قولِه: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ يَهمُّ بمعصية، سواء كانتْ ترْكَ واجبٍ، أو فِعلَ مُحرَّمٍ إذا أَيقنَ أنَّ اللهَ عالمٌ به، فإنَّه يَخافُ ويُمسِك .
4- في قولِه تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يأمُر الله عِبادَه أنْ يكونَ هذان العِلمانِ موجودَينِ في قُلوبهم على وجهِ الجزم واليقين، فيَعلموا أنَّه شديدُ العقابِ العاجِلِ والآجِل على مَن عصاه، وأنَّه غفورٌ رحيمٌ لِمَن تاب إليه وأطاعَه، فيُثمِرَ لهم هذا العلمُ الخوفَ من عِقابِه، والرَّجاءَ لمغفرتِه وثوابِه، فيَعملوا على ما يَقتضيه الخوفُ والرَّجاء .
5- ممَّا يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ أنَّ أهل العِلم الذين هم وَرَثةُ الأنبياء إذا بَلَّغوا بَرِئتْ ذِمَّتُهم .
6- أنَّه لا يَنبغي للإنسانِ أن يَعتبرَ أو يغترَّ بالكثرةِ، وإنَّما يَعتبر بالكيفِ لا بالكمِّ؛ لِقَوْلِه: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ .
7- تفريعُ قَوْلِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ على قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ مُؤذِنٌ بأنَّ اللهَ يُريد منَّا إعمالَ النَّظَرِ في تمييزِ الخبيثِ مِن الطيِّب، والبحثَ عن الحقائِقِ، وعدمَ الاغترارِ بالمظاهرِ الخلَّابة الكاذِبة؛ فإنَّ الأمرَ بالتقوى يستلزمُ الأمرَ بالنظر في تمييزِ الأفعالِ؛ حتى يُعرفَ ما هو تقوى دون غيرِه .
8- خَصَّ أُولي الألبابِ بالذِّكر في آخِرِ الآية في قولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بعدَ مخاطبةِ كلِّ مُكلَّفٍ في صدرِها؛ لأنَّ أهلَ البصيرةِ والرَّويَّةِ من العقلاءِ هم الذين يَعتبِرون بعواقبِ الأمورِ التي تدلُّ عليها أوائلُها ومُقدِّماتُها، بعد التأمُّلِ في حقيقتِها وصِفاتها، فلا يُصرُّون على الغرورِ بكثرةِ الخبيثِ بعدَ التنبيهِ والتَّذكيرِ، وأمَّا الأغرارُ والغافلون الذين لم يُمرِّنوا عقولَهم على الاستقلالِ في النَّظر، والاعتبارِ بالتجارِب، فلا يُفيدُهم وعظُ واعظٍ، ولا تذكيرُ مُذكِّر، بل لا يَعتبِرون بما يَرون بأعينِهم، ويَسمعون بآذانِهم من حوادثِ الأغنياءِ الذين ذهبَتْ أموالُهم الكثيرةُ المجموعةُ من الحرامِ، ولا مِن عواقبِ الأُممِ والدُّول التي اضمحلَّتْ كثرتُها العاطلةُ مِن فضيلتَيِ العلمِ والنِّظامِ، وكيف ورِثَ هؤلاء وأولئك مَن كانوا أقلَّ مالًا ورجالًا؛ إذ كانوا أفضلَ أخلاقًا وأعمالًا؛ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] .
9- أنَّ الذين يُخاطَبون بالتَّقوى وبمِثل هذه الأحكامِ العظيمةِ هم أصحابُ العقولِ؛ لِقَوْلِه: يَا أُولِي الأَلْبَابِ، والمرادُ بالعقولِ هنا: عقولُ الرُّشْد لا عقولُ الإدراك

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه تعالى: جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ... تعظيمُ شأنِ الكعبة، حيث جعَلها قيامًا للنَّاسِ، تقوم بها أمورُ دِينهم ودُنياهم، هذه الكعبةُ التي حُرِّمت أرضُ الحَرَمِ لأجْل تعظيمِها، ويُستفادُ أيضًا التذكيرُ بنعمة الله على سُكَّانه بما جعَل لهم من الأمْنِ في عَلائقِها وشعائرِها
.
2- كانتِ الكعبةُ قِيامًا للناسِ وهم العربُ؛ إذ كانتْ سببَ اهتدائِهم إلى التوحيدِ واتِّباع الحَنِيفيَّة، واستبْقَتْ لهم بقيَّةً من تلك الحنيفيَّة في مُدَّة جاهليَّتِهم كلِّها، لم يَعْدَموا عوائدَ نفْعِها، فلمَّا جاء الإسلامُ كان الحجُّ إليها من أفضلِ الأعمال، وبه تُكفَّرُ الذنوبُ، فكانتِ الكعبةُ من هذا قيامًا للنَّاس في أمورِ أُخراهم بمقدارِ ما يَتمسَّكون به ممَّا جُعِلَتِ الكعبةُ له قيامًا؛ قال تعالى: جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ .
3- في قولِه تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ناسَب ذِكرُ اللهِ تعالى أنَّه جعَلَ الكعبةَ البيتَ الحرامَ قِيامًا للناس ذِكْرَ الشَّهرِ الحرامِ والهَدْيِ والقلائِد؛ لأنَّ هذه الثلاثةَ إنَّما صارتْ سببًا لقِوامِ المعيشة؛ لانتسابِها إلى البيتِ الحرام، فكانَ ذلك دليلًا على عَظمةِ هذا البيتِ وغايةِ شَرفِه .
4- في قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ خصَّ اللهُ القلائدَ بالذِّكر هنا، ووجْهُ تخصيصِها- وإنْ كانتْ هي مِن أقلِّ آثارِ الحجِّ- التنبيهُ على أنَّ جميعَ علائقِ الكعبةِ فيها قيامٌ للنَّاس، حتى أدْنَى العلائِقِ، وهي القلائدُ، فكيف بما عَداها؛ ولأنَّ القلائدَ أيضًا لا يخلو عنها هديٌ مِن الهدايا .
5- تعظيمُ الأشهرِ الحُرم؛ لِقَوْلِه: وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وأنَّها قيامٌ للناس، وتعظيمُها جاءَ في القرآن والسُّنة؛ قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التوبة: 36] ، وكذلك جاءَ في السُّنة، كما قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُقرِّرًا ذلك: ((إنَّ دِماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حَرامٌ كحُرْمةِ، يَومِكم هذا في، شَهرِكم هذا، في بلدِكم هذا )) .
6- تعظيمُ الهدْي والترغيبُ فيه؛ لِقَوْلِه: وَالْهَدْيَ يعني: أنَّ الله جعَلَه قيامًا للناس، والهَدْيُ غيرُ مرتبطٍ بالنُّسُك؛ إذ يجوزُ للإنسان أن يَبعثَ الهديَ إلى مكَّة وإنْ كان في بلدِه، كما كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَفعلُ .
7- مشروعيَّة القلائِد؛ لِقَوْلِه: وَالْقَلَائِدَ وجه ذلك: أنَّ فيها إظهارًا لشعائرِ الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ كلَّ مَن رأى هذه النَّعَمَ المقلَّدةَ، عرَف أنَّها هديٌ، فعظَّمها واحترَمَها .
8- تَكرارُ الثَّناء على اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الله كرَّر عمومَ عِلمه بقولِه: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، ثم أكَّد العمومَ بما هو أعمُّ بقوله: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ لأنَّ هذا يعمُّ ما في السَّموات وما في الأرض ممَّا يكون بعدَ فَناءِ السَّماء والأرض .
9- قال تعالى هنا: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وقال في موضعٍ آخَر: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحِجْر: 49- 50]؛ فجَعَل الرحمةَ صِفةً له مذكورةً في أسمائِه الحُسنى، وأمَّا العذابُ والعقابُ، فجَعَلَهما من مَفعولاتِه غيرَ مَذكورَينِ في أسمائِه .
10- لَمَّا ذَكَر تعالى أنواعَ رحمتِه لعبادِه، ذكَر بعدَه شِدَّة العقابِ فقال: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ؛ لأنَّ الإيمانَ لا يتمُّ إلَّا بالرَّجاءِ والخوفِ .
11- أنَّه ليس على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يُجبِرَ الناسَ على أنْ يَهتدوا؛ لِقَوْلِه: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ، ويُؤيِّد هذا آياتٌ كثيرةٌ؛ منها: قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] .
12- قَوْلُه: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ بيانٌ لوظيفةِ الرَّسول في إثرِ بيانِ كونِ الجزاءِ بيدِ اللهِ العليم بكلِّ شيء، فالرسولُ من حيثُ هو رسولُ الله، ليس عليه إلَّا تبليغُ رسالةِ مَن أرسله؛ فهو لا يعلمُ جميعَ ما يُبديه المكلَّفون من الأعمالِ والأقوالِ، وما يَكتُمونه منها، فيكون أهلًا لحِسابِهم وجزائِهم على أعمالِهم، وإنَّما يعلم ذلك اللهُ وحْدَه .
13- الردُّ على الجبريَّة الذين يقولون: إنَّ الإنسانَ ليس له إرادةٌ، وهذا مأخوذٌ مِنْ قَوْلِه: تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ؛ فالإنسانُ يُريد أن يُبْديَ، ويُريد أن يَكتُم، وهذا هو إثباتُ الإرادةِ للعَبدِ .
14- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ أنَّه لا يستوي الخبيثُ والطيِّبُ عند اللهِ عزَّ وجلَّ ولا عندَ أصحابِ العُقول، وهذا في مراتبِهم عندَ الله، وعند ذوي العُقول، أمَّا فيما يَعملون من أمورِ الدُّنيا، فإنَّه قد يكونُ الخبيثُ أكثرَ من الطَّيِّب عملًا، كما هو مُشاهَدٌ الآن؛ فإنَّ الدولَ الكافرةَ أقدمُ مِن الدُّوَل المسلِمة فيما يتعلَّق بأمورِ الدنيا

.
بلاغة الآيات:

1- قَوْلُه: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّه يَحصُل به جوابٌ عمَّا يَخطُر في نفْس السَّامعِ مِن البحثِ عن حِكمةِ تحريم الصَّيدِ في الحرم، وفي حالِ الإحرام، بأنَّ ذلك من تعظيمِ شأنِ الكعبةِ التي حُرِّمتْ أرضُ الحَرَم لأجْل تَعظيمها، وتذكيرٌ بنعمة الله على سُكَّانه بما جعَلَ لهم من الأمْن في علائقِها وشعائرِها
.
- وقوله: الْبَيْتَ الْحَرَامَ بيانٌ للكعبة؛ قُصِد من هذا البيان التنويهُ والتعظيمُ؛ إذ شأنُ البيانِ أن يكونَ مُوضِّحًا للمبيَّن بأنْ يكون أشهرَ مِن المبيَّن، ولَمَّا كان اسمُ الكعبةِ مساويًا للبيت الحرامِ في الدَّلالةِ على هذا البيت، فقد عبَّر به عن الكعبةِ في قوله: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَاَمَ [المائدة: 2] ، فتعيَّن أنَّ ذِكرَ البيانِ للتَّعظيم .
2- قَوْلُه: ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
- قوله: ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا... مرتبطٌ بالكلامِ الذي قبْلَه بواسطة لام التَّعليل في قوله: لِتَعْلَمُوا، وتوسُّط اسمِ الإشارة ذَلِكَ بين الكلامَين؛ لزيادةِ الرَّبطِ، مع التنبيهِ على تعظيمِ المشارِ إليه، وهو الجَعْلُ المأخوذ مِنْ قَوْلِه: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ .
- وقَوْلُه: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيه تعميمٌ إثْرَ التَّخصيصِ الذي في قولِه: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ للتأكيدِ ، مع مَا فيه مِن تأكيدِ الخبرِ بـ (أنَّ) واسميَّة الجُملة.
3- قَوْلُه: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ استئنافٌ ابتدائيٌّ، وتذييلٌ لِمَا سبَق من حظْر الصَّيد للمُحرِم وإباحةِ صيدِ البحرِ، والامتنانِ بما جَعَل للكعبةِ مِن النِّعم عليهم، وافتتاح الجُملة بـاعْلَمُوا للاهتمامِ بمضمونها .
- وفيه: وعيدٌ لِمَن انتهك محارِمَه أو أصرَّ عليها، ووعدٌ لِمَن أقْلعَ عنه .
- وفيه مناسبةٌ حسنةٌ؛ حيث قال هنا: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وقال في موضعٍ آخَر: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر: 49-50] ، وبَينهما فرقٌ؛ فهذه الآية هنا ذُكرتْ عقيبَ أحكامٍ عظيمة قد يُخلُّ بها المرءُ؛ فقُدِّم فيها جانبُ التَّهديدِ، وأمَّا في آية الحِجر؛ فقولُه: نَبِّئْ أمرٌ من الله إلى الرسولِ بأنْ يُنبِّئَ الخلقَ، وقدَّم الوصفَ بالمغفرةِ والرَّحمةِ على العذابِ الأليم؛ لأنَّ المقصودَ الإخبارُ عن صفةِ الله عزَّ وجلَّ، فقدَّم الجانبَ الذي فيه اللُّطفُ والإحسان .
4- قَوْلُه: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ
جملةٌ معترِضة ذُيِّل بها التعريضُ بالوعيدِ والوعْد، والقَصرُ المستفاد هنا من (ما) و(إلَّا) ليس بحقيقيٍّ؛ لأنَّ على الرسولِ أمورًا أُخَرَ غير البَلاغ مثل التعبُّد لله تعالى، والخروجِ إلى الجهاد، والتكاليفِ التي كلَّفه الله بها، مِثْل قيامِ اللَّيل؛ فتعيَّن أنَّ معنى القصر: ما عليه إلَّا البلاغ، أي: دون إلجائِكم إلى الإيمانِ؛ فالقصرُ إضافيٌّ، فلا يُنافي أنَّ على الرسولِ أشياءَ كثيرةً .
5- قَوْلُه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ فيه: تعريضٌ بالوعيدِ والوعد؛ تذكيرًا بأنَّه لا يَخفَى عليه شيءٌ من أعمالِهم؛ ظاهرِها وباطِنها؛ ففيه تهديدٌ بأنَّه تعالى مُطَّلِع على حالِ العبدِ ظاهرًا وباطنًا؛ فهو مُجازيه على ذلِك ثوابًا أو عقابًا، والمقصودُ مِنْ قَوْلِه: ما تُبْدُونَ التَّعميمُ والشُّمول ، وهو تحذيرٌ للمُبَلَّغِينَ من المخالفةِ؛ فإنَّ إخبارَه بعِلمه بعدَ أنْ قال: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ فيه التهديدُ والوعيدُ على مَن خالَفَ .
6- قَوْلُه: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ: تصديرُ الحُكم بـ قُلْ يدلُّ على العنايةِ به؛ وذلك لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان مأمورًا أن يقولَ جميعَ القرآنِ للنَّاس ويُبلِّغه، لكن إذا نُصَّ على شيءٍ معيَّنٍ، دلَّ هذا على أخصِّيَّتِه؛ فهو كالتَّخصيصِ بعدَ التَّعميم .
- ولعلَّ نكتةَ تقديمِ الخبيثِ في الذِّكْرِ هي كونُ السِّياقِ للاهتمامِ بإزالةِ شُبهة المغترِّينَ بكثرتِه؛ ولذلك قال: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ .


=========30.


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (101 - 105)
ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ
غريب الكلمات:

تَسُؤْكُمْ: أي: تَحْزُنْكم وتَغُمَّكم، والسوءُ مصدرُ ساء، وهو اسمٌ جامعٌ للآفات، ويُستعملُ في كلِّ ما يُستقبَحُ، وهو أيضًا كلُّ ما يغمُّ الإنسانَ
.
بَحِيرَةٍ: هي الناقةُ التي إذا نُتِجتْ خَمسةَ أَبطُنٍ شقُّوا أُذُنَها، وحُرِّمتْ على النِّساءِ، ويُمنَح دَرُّها للطواغيتِ؛ فلا يَحْلُبها أحدٌ مِن النَّاس، والبَحيرة الفَعيلةِ، مِن قول القائل: بحرتُ أُذن هذه النَّاقةِ إذا شَقَّها، وأصل (بحر): يدلُّ على الانبساطِ والسَّعَة .
سَائِبَةٍ: السَّائبةُ هي الأُنثَى من النَّعَم الَّتي كان يُسيِّبهُا الكُفَّارُ لطَواغيتِهم؛ فلا يُحمَل عليها شيءٌ، أو التي تُسيَّب في المرعَى؛ فلا تُردُّ عن حَوضٍ ولا عَلفٍ، وكان الواحدُ مِنهم يُسيِّبها بنَذْرٍ؛ إنْ سُلِّم مِن مَرضٍ، أو بُلِّغ مَنزلَه أنْ يَفعَلَ ذلك، وأصل (سيب): يدلُّ على استِمرارِ شيءٍ وذَهابِه .
وَصِيلَةٍ: الوَصيلةُ هي: الأُنثى من النَّعَمِ إذا ولَدَتْ سَبعةَ أَبطُنٍ، نظَروا؛ فإنْ كان السَّابعُ ذَكَرًا ذُبِح، فأَكَل مِنه الرِّجالُ والنِّساءُ، وإنْ كان أُنثى تُرِكتْ، وإنْ كان ذَكرًا وأُنثى قالوا: قد وَصَلَتْ أخاها، فلم تُذبَح بَدَفْعِها عنه الذَّبحَ، وكانتْ لحومُها حَرامًا على النِّساءِ، ولبَنُ الأُنثى حَرامًا على النِّساءِ إلَّا أنْ يَموتَ منهما شيءٌ فيأكلَه الرِّجالُ والنِّساءُ .
حَامٍ: الحامِي هو: الفَحلُ من النَّعَمِ إذا نُتجَ مِن صُلبِه عَشرة أبطُنٍ، كان يُقال: حمَى ظَهرَه؛ فيَتركونَه للطَّواغيتِ، ويُحمَى مِن الحَمْلِ والُّركوبِ عليه والانتفاعِ به؛ بسَببِ تتابُعِ الأولاد مِن ضِرابِه، وأصل (حمي) يدلُّ على الدَّفْعِ والمَنْعِ

.
المعنى الإجمالي:

يَنهَى اللهُ عِبادَه المؤمنين عن السُّؤالِ عن أشياءَ لو بانَ لهم جوابُها لساءَهم ذلك، وشقَّ عليهم، ولكنَّهم إنْ سألوا عن أشياءَ بعدَ نُزولِ القرآنِ عليهم بها، فهنا قدْ وافَق سؤالُهم مَحلَّه، فيُبيَّن لهم ما سَألوا عنه، والله تعالى قد عفا عمَّا كان مِن مسألتِهم قبلَ النَّهي؛ فهو سبحانه غفورٌ حليمٌ.
ثم أَخبر تعالى أنَّه قد كان أناسٌ ممَّن سَبَقوا سألوا هذه المسائلَ المنهيَّ عنها، فأُجيبوا عنها، لكنَّهم أصْبَحوا بسببِ الخوضِ فيها، والتفتيشِ عنها كافرينَ.
ثم نفَى اللهُ أن يكونَ أَذِنَ في شيءٍ ممَّا يفعله الكفَّارُ بالأنعامِ ممَّا ابتدعوه، فهو سبحانه لم يَشْرَع لهم البحيرةَ ولا السَّائبةَ ولا الوصيلةَ ولا الحامِيَ، وهي حيواناتٌ حرَّم أهلُ الجاهليةِ أكلَها والانتفاعَ بها مِن عندِ أنفسِهم بدونِ علمٍ أو برهانٍ، فهؤلاء الكفَّار يَفْترون على الله الكذبَ، وأكثرُهم لا يعقلون.
وإذا ما قيل لهؤلاء الكفَّارِ: تعالَوا إلى كتابِ اللهِ وإلى رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ليتَّضحَ لكم دِينُ الله ويتبيَّن لكم شَرْعُه، كان جوابُهم أنَّهم يَكفيهم ما وَجدوا عليه آباءَهم من قبلُ، وكيف يكون ذلك مع أنَّ آباءَهم جَهَلةٌ لا يَعلمون شيئًا، وضُلَّالٌ لا يهتدونَ؟!
ثم يُبيِّن الله لعبادِه المؤمنين أنَّهم إنِ استقاموا كما أُمِروا، فإنَّه لا يَضرُّهم مَن سَلَك سبيلَ الضلالةِ؛ فإليه سبحانه وتعالى مرجعُهم، فيُخبرهم بما كانوا يَفعلون.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قال تعالى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ صارَ التقديرُ كأنَّه قال: ما بلَّغه الرسولُ إليكم فخُذوه، وكونوا مُنقادِين له، وما لم يُبلِّغْه الرسولُ إليكم فلا تَسْألوا عنه، ولا تَخوضوا فيه؛ فإنَّكم إنْ خُضْتُم فيما لا تَكليفَ فيه عليكم فربَّما جاءَكم بسببِ ذلك الخوضِ الفاسدِ من التكاليفِ ما يَثقُل عليكم ويشُقُّ عليكم
.
سَببُ النُّزولِ:
عن أنسِ بنِ مالكٍ رضِي اللهُ عنه، قال: ((بلَغ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أصحابِه شيءٌ، فخَطَب فقال: عُرِضَتْ عليَّ الجَنَّةُ والنار، فلمْ أرَ كاليومِ في الخيرِ والشرِّ، ولو تَعلمونَ ما أعلمُ لضَحِكتُم قليلًا ولبَكَيتُم كثيرًا! قال: فما أتَى على أصحابِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومٌ أشدُّ منه، قال: غطَّوْا رُؤوسَهم ولهم خَنينٌ ، قال: فقام عُمَرُ فقال: رَضِينا باللهِ ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمَّدٍ نبيًّا. قال: فقام ذاك الرجلُ، فقال: من أبي؟ قال: أبوك فلان. فنَزَلَت : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة: 101] )) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.
أي: لا تَسألوا- أيُّها المؤمنون- عن أشياءَ لو أُظْهِر جوابُها لكم لساءَكم وشقَّ عليكم .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((أيُّها النَّاسُ، قد فَرَض اللهُ عليكم الحجَّ فحُجُّوا، فقال رجلٌ: أكُلَّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟ فسكَت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: لو قلتُ: نعمْ، لوجبَت، ولَمَا استطعتُم، ثم قال: ذَروني ما تركتُكم؛ فإنَّما هلَك مَن كان قبلكم بكثرةِ سؤالِهِم واختلافِهِم على أنبيائِهم، فإذا أمرتُكم بِشَيٍء فَأْتُوا منهُ ما استطعتُم، وإذا نهيتُكم عن شيٍء فدَعوهُ )) .
وعن سَعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضِي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ أعظمَ المسلِمين في المسلِمين جُرمًا: مَن سألَ عن شيءٍ لم يُحرَّم على المسلمينَ، فحُرِّم عليهم مِن أجْلِ مسألَتِه )) .
وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا منَع اللهُ تعالى من السُّؤال في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، أوْهَم اللفظُ أنَّ جميعَ أنواعِ السؤالِ ممنوعٌ منه، فأتْبعَه بما ليس داخلًا في النهي ، فقال تعالى:
وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ.
أي: ولكنَّكم إنْ سألتُم عن أشياءَ بعدَ نُزولِ القرآنِ عليكم بها، كالسُّؤالِ عن آيةٍ أَشكلتْ، أو حُكمٍ خَفِيَ وجهُهُ عليكم وغير ذلك، فهنا قدْ وافَق سؤالُكم مَحلَّه، فيُبيَّن لكم ما سَألتم عنه .
عَفَا اللَّهُ عَنْهَا.
قيل: المعنى: عفا الله عمَّا كان منكم مِن سؤالٍ عن تلك الأشياءِ التي نهاكم اللهُ تعالى عن السُّؤال عنها، فلا يُعاقِبُكم عليها .
وقيل: المرادُ أنَّ اللهَ تعالى وإنْ نهاكم عن المسألةِ إلَّا أنَّه عفا عنكم السؤالَ حين يَنزِلُ القرآنُ، فأذِنَ لكم بذلك .
وقيل: المرادُ أنَّ ما لم يَذكُرْه الله تعالى في كتابِه فهو ممَّا عفا عنه، وأباحه لكم؛ فاسكُتوا أنتم عنه كما سكَتَ عنه سبحانه .
وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
أي: واللهُ تعالى غفورٌ يستُر ذُنوبَ عِبادِه، ويتجاوَزُ عن مؤاخذتِهم بها، وهو الحليمُ سبحانه فلا يُعاجِلُ عِبادَه بالعقوبةِ، كما قال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45] .
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102).
أي: قد سألَ هذه المسائلَ المنهيَّ عنها أناسٌ سَبقوكم، فأُجيبوا عنها لكنَّهم لم يُؤمنوا بها، ولم يَعمَلوا بها؛ لأنَّهم لم يَسألوا عنها على وجهِ الاسترشادِ، بل على وجهِ التعنُّتِ والعِناد، فصاروا بسببِها كفَّارًا .
عن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((ذَروني ما تركتُكم؛ فإنَّما هلَك مَن كان قَبلَكم بكثرةِ سؤالِهِم واختلافِهِم على أنبيائِهم، فإذا أمرتُكم بشيٍء فأتُوا منهُ ما استطعْتُم، وإذا نهيتُكم عن شيٍء فدَعُوه )) .
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا منَع اللهُ تعالى الناسَ مِن البَحثِ عن أمورٍ لم يُكلَّفوا بالبحْثِ عنها، كذلك منَعَهم من التزامِ أُمورٍ لم يُكلَّفوا بالتزامِها، ولَمَّا كان الكفَّارُ يُحرِّمونَ على أنفسهم الانتفاعَ بهذه الحيوانات، وإنْ كانوا في غايةِ الحاجةِ إلى الانتفاعِ بها؛ بَيَّن الله تعالى أنَّ ذلك باطلٌ ، فقال تعالى:
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ .
أي: لم يأذنِ اللهُ تعالى مطلقًا بأنْ يُفعَل بالأنعامِ شيءٌ ممَّا ابتدَعَه الكفَّار، فلم يَشرَعْ لهم البحيرةَ: وهي ناقةٌ يشقُّون أُذُنها، ثم يُحرِّمون رُكوبَها ويَرَونَها محترَمَةً. ولا السَّائبةَ: وهي ناقةٌ، أو بقرةٌ، أو شاة، تُسيَّب وتُخلَّى؛ فلا تُركَبُ ولا يُحمَل عليها، ولا تُؤكَل ولا يُنتفَع منها بشيءٍ. ولا الوصيلةَ: وهي التي تُحرَّم أو تُجعل لآلهتهم. ولا الحاميَ: وهو جملٌ يُحمَى ظهرُه عن الركوب والحَمْل .
وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.
أي: لم يَشرعِ اللهُ هذه الأشياءَ، وليستْ هي عندَه بقُربةٍ، ولكن الكُفَّار هم الذين يَفعلون ذلك بغيرِ دليلٍ، ويَفتُرون على اللهِ تعالى الكَذِبَ .
وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ .
أي: وأكثرُ هؤلاءِ الكفَّار لا يَملِكون عَقْلًا صحيحًا راشدًا، وإنَّما يَنساقونَ إلى تلك الشرائعِ الباطلةِ بجهلِهم، متَّبعين في ذلك أكابرَهم .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حرَّموا هذه الأشياءَ مِنْ قَوْلِه: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ اضطُرُّوا إلى تحليلِ المَيتةِ، فحرَّموا الطيِّبَ، وأحلُّوا الخبيثَ! ولَمَّا اتَّخذوه دِينًا، واعتَقدُوه شَرعًا، ومضَى عليه أسلافُهم، دَعَتْهم الحظوظُ والأَنَفَةُ من نِسبةِ آبائهم إلى الضَّلالِ، والشهادةِ عليهم بالسَّفهِ إلى الإصرارِ عليه، وعَدَمِ الرجوعِ عنه بعدَ انكشافِ قبحِه، وبيانِ شناعتِه، فقال تعالى دالًّا على خِتام الآية التي قَبْلها مِن عَدَمِ عَقْلِهم :
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ.
أي: وإذا قِيل لهؤلاءِ الذين وقَعوا في تحريمِ ما أحلَّ الله تعالى: هلَمُّوا وأقْبِلُوا إلى كتابِ الله عزَّ وجلَّ وإلى رسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام؛ ليتبيَّنَ لكم شَرعُ اللهِ سبحانه، وما أوجبَه وما حرَّمه، وبُطلانُ ما ابتدَعتُم .
قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا.
أي: قالوا جوابًا على مَن دَعاهم إلى ذلك: يَكفينا ما وجَدْنا عليه مَن قَبْلَنا مِن الآباءِ والأجدادِ مِن طرائقَ ساروا عليها، ونحن لهم تبَعٌ في ذلك .
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ.
أي: أيتَّبِعون آباءَهم حتى لو كانوا على هذه الحالِ التي لا يَستحقُّون أنْ يُتَّبعوا فيها؛ إذ لا يَحمِلون عِلمًا بشريعةِ الله تعالى، ولا يَعمَلون على وَفْقِها عمَلًا صالحًا؛ فكيفَ يتَّبعونَهم ومِثْلُهم لا يصلُحُ أنْ يُقتدَى بهم ؟!
كما قال سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170] .
وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ* وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان: 20-21] .
وقال جلَّ وعلا: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات: 69-70] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان المانِعُ لهم من قَبولِ الهُدى كونَ ذلك تسفيهًا لآبائهم؛ فيعود ضررًا عليهم يُسبُّون به على زَعْمهم، أعْلمَ اللهُ المؤمنينَ أنَّ مخالفةَ الغيرِ في قَبول الهُدى لا تضرُّهم أصلًا، بأنْ عقَّبَ آيةَ الإنكارِ عليهم في التقيُّد بآبائهم لمتابعتِهم لهم في الكُفرِ بهذه الآيةِ .
أيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى مكابرةَ المشركينَ وإعراضَهم عن دعوةِ الخير بقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أعْقَبه بتعليمِ المسلمين حدودَ انتهاءِ المناظَرَةِ والمجادلةِ إذا ظهرتِ المكابرةُ، وعُذْرِ المسلمين بكِفايةِ قِيامِهم بما افترَض اللهُ عليهم من الدَّعوة إلى الخيرِ، فأعْلَمَهم أنَّ على الدَّاعي بذْلَ جُهدِه، وأنَّه ليس مسؤولًا إذا لم يُصغِ المدعوُّ إلى الدَّعوة، كما قال تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56] .
وأيضًا لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنواعَ التَّكاليفِ والشرائعِ والأحكامِ، ثم قال: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ، إلى قولِه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فكأنَّه تعالى قال: إنَّ هؤلاء الجُهَّالَ مع ما تقدَّم مِن أنواع المبالغةِ في الإعذارِ والإنذارِ والترغيبِ والترهيبِ لم يَنتفعوا بشيءٍ منه، بل بقُوا مُصرِّين على جَهلِهم، مُجدِّين على جَهالاتِهم وضلالتِهم؛ فلا تُبالوا- أيُّها المؤمنون- بجهالتِهم وضلالتِهم، بل كونوا مُنقادِينَ لتكاليفِ اللهِ، مُطيعينَ لأوامرِه ونواهيه، فلا يضرُّكم ضلالتُهم وجهالتُهم؛ فلهذا قال :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ.
أي: يا أيُّها المؤمنون ألْزِموا أنفسَكم العملَ بطاعةِ الله تعالى، وترْكَ معصيتِه؛ فإنَّه لا يَضرُّكم مَن سلَك غيرَ سبيلِ الحقِّ، إذا أنتم استقمتُم على صراطِ الله تعالى فآمنتُم بربِّكم وأطعْتُموه، ومِن ذلك: قِيامُكم بواجبِ أمْرِ الناسِ بالمعروفِ، ونهيهِم عن المنكرِ، ولا ضيرَ عليكم بعدَ ذلك إنْ تمادَوْا في غيِّهم وضلالِهم، ما دُمتُم قد أدَّيْتُم حقَّ الله تعالى فيهم .
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: إنَّ مآلَكم في الآخرةِ إلى الله تعالى وحْدَه، وسوف يُخبرُكم بما قدَّمتموه في الدُّنيا من خيرٍ أو شرٍّ؛ فإنَّه لا يَخفَى عليه شيءٌ من أعمالِكم، ويُجازيكم عليها ثوابًا أو عقابًا

.
الفوائد التربوية:

1- أنَّ ممَّا يُنافي كمالَ الإيمان أنْ يسألَ الإنسانُ عن شيءٍ لم يُكلَّفْ به؛ لِقَوْلِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا..
.
2- ممَّا يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ أنَّ الإنسانَ قد يَسُوؤه ما شرَعه الله عزَّ وجلَّ من إيجابٍ أو تحريمٍ، ولكنَّ المؤمِنَ وإنْ كرِه ذلك بطبيعتِه، لا يَكرهُه من حيثُ كونُه شرعًا لله عزَّ وجلَّ .
3- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ضربُ الأمثالِ بالأمم السَّابقين؛ حتى نقتنِعَ بأنَّه لا يَنبغي لنا أن نَسْألَ؛ لأنَّ غيرَنا سألَ وكفَر .
4- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ أنَّ الإنسانَ لا يَنبغي أن يتعرَّض لِمَا قد يكونُ مِحنةً عليه .
5- قَوْلُه: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ... فيه دلالةٌ على أنَّ الإنسانَ قد يقعُ في شَرْعِه لنفْسِه على الخبيثِ دون الطيِّبِ؛ وذلك لأنَّ الكفَّارَ شَرَعوا لأنفسِهم هذا، وظنُّوا أنَّه من محاسنِ الأعمال، فإذا هو ممَّا لا يَعبأُ الله به، بل ممَّا يُعذِّب عليه؛ لكونه أوقعَهم فيما كانوا مُعترِفينَ بأنَّه أقبحُ القبائِحِ وهو الكَذِب، بل في أقبحِ أنواعِه، وهو الكذبُ على مَلِك الملوك، ثم صارَ لهم دِينًا، وصاروا أرسخَ الناسِ فيه، وهو عينُ الكُفْر .
6- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ خطرُ الإفتاء، وأنَّ الإنسانَ قد يُفتي بالشيءِ فيكون ممَّن افترى على الله كذبًا .
7- ذمُّ أولئك الذين يقولونَ بلا عِلمٍ، وأنَّهم قد فَقَدوا عُقولَهم؛ لِقَوْلِه: وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وصدَق اللهُ عزَّ وجلَّ؛ كلُّ إنسانٍ يُقدِم على الفتوى بالتَّحليلِ أو التَّحريم أو الإيجاب بدون عِلمٍ فهو غيرُ عاقلٍ، وإنْ ظنَّ أنه صارَ إمامًا فإنَّه غيرُ عاقلٍ، وسيَفْضَحه اللهُ عزَّ وجلَّ إمَّا في الدُّنيا وإمَّا في الآخِرةِ، يعني: قد يُمهِل اللهُ له، ويكون إمامًا في وقتٍ ما؛ لغفلةِ الناسِ وعدمِ العلماء، ولكنَّ النَّتيجة أنَّه سوف يكون مخذولًا، والعياذُ بالله .
8- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ أنَّ التحرِّيَ في الإفتاءِ مِنَ العَقْلِ، ولقد كان السلفُ الصَّالح يَتدافعون الإفتاءَ، ويُؤجِّلونَ المُستفتيَ .
9- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أنَّ كلَّ مَن أتى بشريعةٍ ليستْ مِن عندِ الله فإنَّه يَصدُقُ أن نقول: إنَّه افتَرى على اللهِ الكذِبَ، لكنْ مَن اجتهدَ وبذَل الوُسْعَ للوصولِ إلى الحقِّ، وحَكَمَ بغير الصَّواب، فإنَّه لا يُقال: إنَّه افتَرى على الله كذبًا، بل يُقال: إنَّه اجتهَدَ وأخطَأَ، وله أجرٌ واحدٌ، وهذا- والحمدُ لله- مِن سَعةِ رحمةِ الله عزَّ وجلَّ .
10- أنَّ العوامَّ يُوجَّهون ويُرشَدونَ ويُدْعَون إلى الكتابِ والسُّنَّة؛ لِقَوْلِه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا وأبَهم القائلَ إمَّا لكثرةِ القائلينَ، وإمَّا لاختلافِ مراتِبِهم؛ لأنَّ كثرةَ القائلين تُوجِبُ أنَّ الإنسانَ ينصاعُ، والمرتبة العُليا تُوجِبُ أيضًا أنَّ الإنسانَ ينصاعُ ويأتي .
11- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أنَّ مَن تعصَّب لقولِ إمامٍ والْتزمَه، وأصرَّ عليه مع عِلْمِه بمخالفةِ قوله للكتابِ والسُّنَّة، ففيه شَبَهٌ من هؤلاء الكفَّار؛ لأنَّه إذا قيل له: تعالَ إلى ما أنزَلَ اللهُ وإلى الرسولِ قال: حسبي إمامي؛ فيكون فيه شَبهٌ من هؤلاء الكفَّارِ .
12- وجوبُ الرُّجوعِ إلى ما جاءَ في الكِتاب والسُّنة؛ لأنَّ الله أنكَرَ على هؤلاءِ الذين قالوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا .
13- لا يجوزُ تركُ اتِّباعِ ما أنزل الله، واتباعِ رسلِه، وتقليدُ مَن لا علمَ عنده صحيحٌ، ولا عقلٌ رجيحٌ، وإنَّما يجوزُ الاقتداءُ بالعالمِ المهتدي، الذي يبني قولَه على الحجَّة والدليلِ، قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ .
14- أنَّ إصلاحَ النَّفْس والعنايةَ بها مِن مُقتضياتِ الإيمانِ؛ لِقَوْلِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ .
15- المقصودُ مِنْ قَوْلِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ... بعدَ قولِه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا بيانُ أنَّه لا يَنبغي للمؤمنينَ أن يتشبَّهوا بهم في هذه الطريقةِ الفاسِدةِ، بل ينبغي أن يكونوا مُصِرِّين على دِينهم، وأنْ يَعلَموا أنَّه لا يضرُّهم جهلُ أولئك الجاهِلين إذا كانوا راسِخينَ في دِينهم، ثابِتينَ فيه .
16- أنَّ الإنسانَ لا يُحاسَب على حديثِ النَّفْسِ؛ لِقَوْلِه: فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وحديثُ النَّفْسِ ليس عملًا؛ ودليلُ ذلك قولُ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إنَّ اللهَ تجاوزَ عن أمَّتي ما حدَّثت به أنفُسَها ما لم تعمَلْ أو تتكلَّم )) ، ولكن إذا ركَن الإنسانُ إلى حديثِ النَّفْس واطمأنَّ إليه واعتقدَه، فحينئذٍ يكونُ قد عمِل عملًا قلبيًّا لا جوارحيًّا

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- دفْعُ التَّعارُضِ بين قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وقولِه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ الأنبياء: 7] حيث ذكَر كراهةَ السؤالِ والنهيَ عنه في الموضِع الأوَّل، وأمَر بالسُّؤالِ في الموضِع الثاني، فالجوابُ عن ذلك:
أنَّ الأوَّل المنهيَّ عنه هو سؤالُ الأشياءِ التي إذا بُيِّنَتْ لهم ساءتْهم وأحزنَتْهم بخلافِ سُؤال الاسترشادِ والتَّعلُّم مما تدعو الحاجةُ إليه في أمورِ الدِّين والدُّنيا، فهو محمودٌ قد أمرَ الله به، وأَذِن بالسُّؤالِ عنه
.
2- قدَّم قولَه: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ على قولِه: وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ؛ لفائدة الزَّجرِ عن السُّؤالِ؛ فإنَّه قدَّم لهم أنَّ سؤالَهم عن أشياءَ متَى ظهرتْ أساءتْهم؛ قبلَ أنْ يُخبِرَهم بأنَّهم إنْ سألوا عنها، بدَتْ لهم لينزجِروا .
3- أنَّ ما سكَت اللهُ عنه فهو عَفْوٌ؛ لِقَوْلِه: عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ .
4- البِناءُ على الأصلِ في بَراءة الذِّمَّةِ؛ لِقَوْلِه: عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، فالأصلُ عدمُ شَغلِ الذِّمَّة بإيجابٍ أو تحريمٍ .
5- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ أنَّ مَن قَبْلَنا كانوا يَسألون، ولكن يَهلِكون بالسُّؤال، ويُؤيِّدُ هذا قولُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديثِ الصحيحِ عمَّن سبَقَنا: ((إنَّما أَهْلَك الذين مِن قبلكم كثرةُ مَسائِلِهم واختلافُهم على أنبيائِهم )) ؛ يسألون ثم يختلِفونَ عليهم، ولا يُوافِقونَهم .
6- إنْ قيل: كيف قال: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْياءَ ثم قال: قَدْ سَأَلَهَا ولم يقُلْ: (قد سأَل عنها)؟ فالجوابُ: أنَّ الضميرَ في: سَأَلَها ليس براجعٍ إلى أَشْيَاءَ حتَّى تجبَ تعديتُه بـ(عن)، وإنَّما هو راجعٌ إلى المسألةِ التي دلَّ عليها لا تَسْأَلُوا يعنى: قد سأَل قومٌ هذه المسألةَ مِن الأوَّلين، ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها أى: بمرجوعِها أو بسببِها كافِرِينَ وذلك أنَّ بنى إسرائيلَ كانوا يستفتون أنبياءَهم عن أشياءَ، فإذا أُمِروا بها تركوها فهلكوا ، وقيل غير ذلك .
7- إطلاقُ الجَعْل على التَّشريع؛ لِقَوْلِه: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ .
8- حُسنُ الجدال في القرآنِ الكريم؛ حيث أقام الحُجَّة على هؤلاء الذين: قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا بأنَّ آباءَهم لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ فهم ضالُّونَ في عِلمهم وفي عَمَلِهم .
9- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ أنَّ ضَلالَ مَن يضِلُّ لا يترتَّبُ عليه ضررُ المهتدي، يعني: الضَّررَ المعيَّن الشَّخصي، وأمَّا الضررُ العامُّ، وهي العقوبةُ العامَّة فهذه قد تكونُ، وقد لا تكونُ أيضًا إن كانوا ينهَوْنَ عن السُّوءِ؛ فاللهُ تعالى لَمَّا أخَذَ مَن أخَذَ من الأممِ السابقةِ نجَّى أنبياءَه ومَن معهم

.
بلاغة الآيات:

1- قَوْلُه: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ اعتراضٌ تذييليٌّ مُقرِّر لعفوِه تعالى، ومجيءُ الوصفَيْنِ غَفُورٌ رَحِيمٌ على صيغة المبالغَةِ؛ للمبالغة في وصْفِه بمغفرةِ الذُّنوبِ، والإغضاءِ عن المعاصي؛ ولذلك عفا عنكم، ولم يُؤاخِذْكم بعقوبةِ ما فرَط منكم
.
2- قَوْلُه: قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ استئنافٌ بيانيٌّ، جوابُ سؤالٍ يُثيرُه النهيُ عن السؤال ثمَّ الإذنُ فيه في حِين يُنزَّل القرآنُ؛ أنْ يقول سائلٌ: إنْ كان السؤالُ في وقتِ نزولِ القرآنِ، وإنَّ بعضَ الأسئلةِ يسوءُ جوابُه قومًا؛ فهل الأَوْلى تركُ السؤال أو إلقاؤه؟ فأُجيب بتفصيلِ أمْرِها بأنَّ أمثالَها قد كانتْ سببًا في كُفر قومٍ قبلَ المسلمين .
- وقوله: قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ، أي: سألوا هذه المسألةَ لكنْ لا عينَها، بل مثلَها في كونها محظورةً ومستتْبِعةً للوبال، وعدمُ التصريح بالمِثل- حيث لم يقُلْ: سأل مِثلَها قومٌ- للمبالغةِ في التَّحذيرِ .
- (ثُمَّ) في قوله: ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ للترتيبِ الرُّتبي، كشأنها في عطْفِ الجُمَل؛ فإنَّها لا تُفيد فيه تراخِي الزَّمانِ، وإنَّما تُفيد تراخي مَضمونِ الجملة المعطوفة في تصوُّر المتكلِّم عن تصوُّر مضمونِ الجملةِ المعطوفِ عليها؛ فتدلُّ على أنَّ الجملة المعطوفة لم يكُن يُترقَّبُ حُصولُ مضمونِها حتَّى فاجأَ المتكلِّمَ .
- وفِعْلُ أَصْبَحُوا مستعمَلٌ بمعنى صاروا، وهو في هذا الاستعمالِ مُشْعِرٌ بمصيرٍ عاجِلٍ لا ترَيُّثَ فيه؛ لأنَّ الصَّباحَ أَوَّلُ أوقاتِ الانتشارِ للأَعمالِ .
3- قَوْلُه: مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ فيه: الإغراقُ في النَّفي بقوله: مِنْ بَحِيرَةٍ، ثم تأكيد النَّفي بإعادةِ حَرْفِ النَّفي (لا)، فقال: وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ .
4- قَوْلُه: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ الواو في (أوَلَوْ) للعطفِ على شرطيَّةٍ أُخرى مقدَّرة قبلها، والتقدير: أحَسْبُهم ذلك، أو أيقولون هذا القولَ لو لم يكُن آبَاؤُهم لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا من الدِّين، ولا يَهتُدون للصَّوابِ ولَوْ كانوا لا يعلمون... إلخ ، وما في (لو) مِن معنى الامتناعِ والاستبعادِ إنَّما هو بالنَّظَر إلى زَعْمهم لا إلى نفْسِ الأمْرِ، وفائدتُه: المبالغةُ في الإنكارِ والتعجُّب ببيانِ أنَّ ما قالوه موجِبٌ للإنكارِ والتعجُّب، إذا كان كونُ آبائِهم جَهلةً ضالِّين في حيِّز الاحتمالِ البعيد؛ فكيف إذا كانَ ذلك واقعًا لا ريبَ فيه ؟!
5- قَوْلُه: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ خبرٌ فيه: وعدٌ ووعيدٌ للفريقين، وتنبيهٌ على أنَّ أحدًا لا يُؤاخَذُ بذنبِ غيرِه





=========31.=


سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (106 - 108)
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ
غريب الكلمات:

شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ: الشَّهادةُ قولٌ صادرٌ عن عِلمٍ حَصَل بمشاهدةِ بصيرةٍ أو بَصرٍ، وأَصْلٌ (شهد): يَدُلُّ على حُضورٍ وعِلْمٍ وإعلامٍ
.
الْوَصِيَّةِ: الوصيةُ هي: التقدُّمُ إلى الغيرِ بما يَعملُ به مُقترنًا بوعظٍ؛ من قولهم: أرضٌ واصِيَة: مُتَّصلِةُ النباتِ قد امتلأتْ منه، ووصيتُ الشيءَ: وصلتُه، وأصل (وصي) يدلُّ على وصلِ شيءٍ بشيء .
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ: أي: ذهبتُم فيها؛ للتجارِة وغيرِها من السَّفَر، وأصلُ الضَّربِ معروفٌ، وتُستعارُ منه مَعانٍ كثيرةٌ .
تَحْبِسُونَهُمَا: تُوقفونهما، وأصلُ الحبس: المنعُ مِن الانبعاثِ .
عُثِرَ: أي: ظَهَر، واطُّلِع منهما، وأصل (عثر): الوقوعُ على الشيءِ والسُّقوط عليه، ثم يُستعمَلُ ذلك في كلِّ واقعٍ على شَيءٍ كان عنه خَفيَّا، ويُتجوَّز به فيمَن يَطَّلِع على أمْرٍ مِن غيرِ طَلبِه، وإنَّما قِيل (عُثِرَ) مِن الاطِّلاعِ على الشَّيءِ؛ لأنَّ كلَّ عاثرٍ فلا بدَّ أن يَنظُرَ إلى موضِعِ عَثْرتِه .
اسْتَحَقَّا إِثْمًا أي: استوجبَا جنايةً باليمينِ الكاذبةِ التي أقدَمَا عليها وحَلفَا بها؛ يُقال: استحقَّ فلانٌ الأمرَ: استوْجَبَه، وحقَّ الشيءُ إذا وجَب وثبَت .
أَدْنَى: أي: أقربُ، والدُّنُو: القُربُ بالذَّات أو بالحُكم، ويُستعمَلُ في المكانِ والزَّمان والمنزِلة

.
مشكل الإعراب:

1- قَوْلُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ
.
شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ.
شهادةُ مرفوعةٌ على الابتِداءِ. وخَبَرُها اثْنَانِ على نِيَّةِ حَذفِ مُضافٍ، والتَّقديرُ: شهادةُ اثنينِ؛ لأنَّ الشَّهادةَ لا تكونُ هي الـ اثنانِ. وقيل: شَهَادَةُ مبتدأٌ أيضًا، ولَكِنْ خبَرها مَحذوفٌ يَدُلُّ عليه سياقُ الكَلامِ، والتَّقديرُ: فيما فُرِضَ عليكم أن يَشهَدَ اثنانِ، و اثْنَانِ على هذا فاعِلُ المَصدَرِ الذي هو شَهَادَةُ. وبَيْنِكُمْ مضافٌ إليه مجرور مِن بابِ الاتِّساعِ في الظُّروفِ.
وإِذَا على هَذَينِ الوَجهينِ ظرفٌ لـ شَهَادَةُ أي: ليَشْهَدْ وقتَ حُضورِ أماراتِ الموتِ. و حِينَ بدلٌ من إِذَا، أو ظَرْفٌ لـ حَضَرَ، أي: حينَ حضَر أماراتُ الموتِ. وذَوَا صفةٌ لـ اثْنَانِ، أي: صاحِبَا عَدلٍ، وكذلك مِنْكُمْ صِفةٌ ثانِيةٌ. آخَرَانِ مرفوعٌ عطفًا على اثنانِ على تقديرِ حذْفِ مضافٍ أيضًا، تقديرُه: أو شهادَةُ آخرَينِ، ومِنْ غَيْرِكُمْ صِفةٌ لـآخَرَانِ.
إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ: إِنْشرطيَّةٌ. أَنْتُمْ: فاعلٌ لفِعلٍ محذوفٍ يُفَسِّرُه المذكورُ. وضَرَبْتُمْ تفسيرٌ للفِعلِ المحذوفِ؛ فلا محلَّ له مِنَ الإعرابِ، وجوابُ الشَّرطِ محذوفٌ يدلُّ عليه قولُه تعالى: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ، والتَّقديرُ: إنْ ضَرَبْتُم في الأرْضِ فلْيَشهَدِ اثنانِ منكم أو مِنْ غيركم، أو التَّقديرُ: فأَشْهِدُوا آخَرَينِ مِن غيرِكم.تَحْبِسُونَهُمَا: جملةُ استئنافيَّةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وهو أَوْلى مِنَ القَولِ بكَونِها صِفَةً لـآخَرَانِ؛ لِمَا يتَرَتَّبُ عليه مِنَ الفَصلِ بكلامٍ طَويلٍ بينَ الصِّفةِ ومَوصوفِها. فَيُقْسِمَانِ: الفاءُ عاطِفةٌ، والجملةُ معطوفةٌ على تَحْبِسُونَهُمَا، فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا: شرطٌ، وجوابُه محذوفٌ تقديرُه: إنِ ارْتَبْتُم فيهما فحَلِّفوهما، وهذا الشَّرطُ وجوابُه المقدَّرُ مُعتَرِضٌ بين القَسَمِ فَيُقْسِمَانِ لأنَّه يقومُ مقامَ اليَمينِ، وجوابِه: لَا نَشْتَرِي، وليسَتْ هذه الآيةُ مِمَّا اجتمَعَ فيه شَرْطٌ وقَسَمٌ فأُجيبَ سابقُهما. والهاء في بِهِ تعودُ على تَحريفِ الشَّهادةِ، أو القَسَم. وثَمَنًا مفعولُ نَشْتَرِي، ولا حَذْفَ فيه؛ لأنَّ الثَّمنَ يُشترَى كما يُشترَى به، وقيل: التَّقديرُ: ذا ثمنٍ، فحُذِفَ المُضافُ وأُقيمَ المُضافُ إليه مَقامَه.
وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى جملةٌ امتناعِيَّةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، واسمُ كان مُضَمرٌ فيها يعودُ على المَشهودِ له: أي: لا نَشْتري به ثمنًا في كُلِّ حالٍ، ولو كانَ الحالُ كونَ المشهودِ له ذا قرابةٍ. وَلَا نَكْتُمُ معطوفٌ على جوابِ القَسَمِ لَا نَشْتَرِي؛ فلا مَحَلَّ له مِنَ الإعرابِ. إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ جملةٌ استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإعراب. وقيل غيرُ ذلك في توجيهِ هذه الآيةِ .
2- قَوْلُه تعالى: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا: عُثِرَ: فِعلٌ مبنيٌّ لِمَا لم يُسمَّ فاعلُه. وعَلَى أَنَّهُمَا: في محلِّ رفْعٍ نائِبُ الفاعِلِ، أي: فإنِ اطُّلِعَ على استحقاقِهما الإِثمَ.
فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ : فآخَرَانِ مرفوعٌ على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٌ، أي: فالشَّاهِدانِ آخَرانِ، والفاءُ رابطةٌ في جوابِ الشَّرطِ، دخلَتْ على الجُملةِ الاسميَّة، ويَقُومَانِ و مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ كِلاهما في محلِّ رفعٍ صفةٌ لـ آخَرَانِ.الْأَوْلَيَانِ فاعِلُ اسْتَحَقَّ مرفوعٌ، والمفعولُ محذوفٌ، أي: وصيَّتَهما. وقيلَ غيرُ ذلك .
- وقُرِئ (اسْتُحِقَّ) بالبناءِ للمفعولِ، والْأَوْلَيَانِ نائب فاعِل على تقديرِ حذْفِ مضافٍ، تقديرُه: مِن الَّذين استُحِقَّ عليهم إثْمُ الأَوْلَيينِ، أو انتدابُ الأَوْلَيينِ. وقيل: مرفوع (استُحِقَّ) ضميرُ الإيصاءِ أو المالِ أو الإثمِ، والْأَوْلَيَانِ بدلٌ مِنَ الضَّميرِ في يَقُومَانِ والتَّقديرُ: فيقومُ الأَوْلَيانِ، أو خَبَرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: (هما الأوليان)؛ لأنَّه لَمَّا قال: فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا فكأنَّه قيل: ومَنْ هُما؟ فقيل: الأَوْلَيَانِ.
وقُرِئَ: (اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوَّلِينَ)، ومرفوعُ (استُحِقَّ) ضميرُ الإيصاءِ أو المالِ أو الإثمِ، كما تقدَّمَ في القِراءةِ السَّابقةِ، و (الْأَوَّلِينَ) مجرورٌ نعتٌ لـ (الَّذينَ استُحِقَّ عَلَيهم) أو بدلٌ مِنَ الضَّميرِ في عليهم، أو منصوبٌ على المَدحِ .
3- ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا: أَنْ يَأْتُوا مَصدرٌ مُؤوَّلٌ في محلِّ نصْبٍ على نَزْعِ الخافِضِ، أي: إلى أنْ يأتوا

.
المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى المؤمنين أنَّه إذا حضرتْ مُقدِّماتُ الموتِ أحدًا منهم، فليكتُبْ وصيَّتَه ولْيَشهَدْ عليها اثنانِ من المؤمنينَ العدولِ، وفي حالِ كان على سَفرٍ وحضَرَه أجَلُه، فلْيَشهدْ آخرانِ مِن غيرِ مِلَّة الإسلامِ إذا لم يُوجدِ العَدْلانِ من المؤمنينَ، فيُوقِفُ المسلمون الشاهدَينِ اللَّذينِ من غيرِ مِلَّتهم بعدَ صلاةِ العَصْرِ، ويَجعلانِهما يَحلِفان باللهِ- إنْ شكُّوا في شَهادتِهما، وظهرتْ لهم منهما رِيبةٌ- أنَّهما لا يَبغيانِ بحَلِفهما عرَضًا من الدُّنيا حتى يَكذِبَا فيها، وأنَّهما لا يُحابيانِ أحدًا ولو كان مِن قَرابتِهما، وأنَّهما لا يَكتُمانِ شهادةَ الله عندهما، وأنَّهما إنْ فَعَلَا شيئًا من ذلك فإنَّهما يكونان بذلك مِن المذنِبين العاصِين.
فإنْ ظهَر أنَّهما كاذبانِ بأنْ خانَا في أداءِ أمانةِ الميِّت، أو بدَّلَا في وصيَّته، فاستوجَبَا بأيمانِهما الكاذبةِ الإثمَ، فعندها يقومُ مَقامَهما اثنانِ من أولياءِ الميِّت المستحقِّينَ للتَّرِكة، ويكونانِ من أَوْلى مَن يَرِثُ الميِّتَ، فيحلفانِ بالله أنَّ شهادتهما أحقُّ مِن الشَّهادة التي شهِدها اللذَّانِ من غيرِ المسلمين، التي كذَبَا فيها وخانَا، وأنَّها أصحُّ منها وأثبتُ، وأنَّهما ما تَعَدَّيَا الحقَّ في الشهادةِ والإخبارِ عن خِيانةِ هذينِ الشاهدَينِ، وأنَّهما إنْ كذَبا عليهما فإنَّهما إذَنْ من الظَّالمينَ.
ثم يُخبرُ تعالى أنَّ ذلك التحليفَ للشَّاهدَينِ إذا استُريب في أمرِهما، أقربُ لإتيانهما بالشهادةِ على وجهِها الصَّحيحِ بلا كَذِبٍ ولا خيانةٍ، وأمَر اللهُ سبحانه العبادَ بأنْ يتَّقوه، ويَسمعوا ما يُؤمَرون به، فيَعمَلوا على وَفْقِه، وأخبَرَ أنَّه تعالى لا يُوفِّق الفاسقين للحقِّ.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قال الله تعالى في آخِر الآية السابقةِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فذكَر أنَّ مرجِعَنا إليه بعدَ الموتِ، وأنَّه يُحاسِبُنا ويُجازينا، ناسَب أنْ يُرشِدَنا في أَثَرِ ذلك إلى الوصيَّةِ قبلَ الموت، وإلى العنايةِ بالإشهادِ عليها؛ لئلَّا تضيعَ
.
وأيضًا لَمَّا قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ كان في ذلك تنفيرٌ عن الضُّلَّالِ، واستبعادٌ عن أنْ يُنتفعَ بهم في شيءٍ من أمور المؤمنينَ من شهادةٍ أو غيرِها، فأخبَرَ تعالى بمشروعيَّة شهادتِهم أو الإيصاءِ إليهم في السَّفَر .
سَببُ النُّزول:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: ((خرَج رجلٌ من بَني سَهْمٍ مع تَمِيمٍ الدَّاريِّ وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهْميُّ بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلمَّا قدِمَا بتَرِكتِه فقَدُوا جَامًا مِن فِضَّةٍ مُخَوَّصًا من ذَهبٍ ، فأَحْلَفهما رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثم وُجِد الجامُ بمكَّةَ، فقالوا: ابْتعْناهُ من تميمٍ وعديٍّ، فقام رجلانِ من أوليائه، فحلَفَا: لَشهادتُنا أحقُّ من شهادتِهما، وإنَّ الجامَ لِصَاحبِهم، قال: وفيهم نزلتْ هذه الآيةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ)) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، إذا حضَر أحدَكم مُقدِّماتُ الموتِ وعلاماتُه، فكتَب وصيَّتَه، فلْيَشهدْ عليها اثنانِ من المؤمنين، مِن ذَوي الاستقامةِ والمروءة .
أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ.
أي: أو ليَشهدْ على الوصيةِ آخَرانِ من غيرِ أهل مِلَّتكم- أيُّها المؤمنون- سواءٌ من اليهود أو النَّصارى أو غيرِهم، إنْ لم يوجدْ ذَوَا عدلٍ منكم، وفي حالِ سَفَرِكم، وإيقانِكم بحضورِ أجلِكم .
تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى.
أي: فتُوقفونَ الشاهدَينِ اللَّذيْنِ من غيرِكم بعدَ صلاةِ العَصْرِ، وتَجْعلونَهما يحلفانِ بالله تعالى، إنْ شكَكتُم في شهادتِهما، وظهرتْ لكم منهما رِيبةٌ في أنهَّما قد خانَا، فيحلفانِ حينئذٍ باللهِ تعالى أنَّا لا نَبغِي بحَلِفنا هذا عَرَضًا من الدُّنيا فنكذبَ في شَهادتِنا، ولا نُحابي أحدًا، ولو كان المشهودُ عليه من أقربائِنا .
عن الشَّعبيِّ: ((أنَّ رجلًا حضرتْه الوفاةُ بدَقُوقَاءَ ، فلم يجِدْ أحدًا من المسلمين يُشْهِدُهُ على وصيَّته، فأَشْهَد رجُلينِ من أهل الكِتاب، فقدِما بتركتِه إلى أبي موسى الأشعريِّ، فأخبراه، فقال الأشعريُّ: هذا أمرٌ لم يكُنْ بعد الذي كان في عهدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأحْلَفهما بعدَ صلاةِ العَصْرِ باللهِ ما خانَا، ولا كَذَبَا، ولا بدَّلَا، وإنَّها لتَرِكَتُه، ثم أجاز شهادتَهما )) .
وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ.
أي: ولا نُخفي عنكم الشَّهادةَ التي حمَّلَنا اللهُ تعالى إيَّاها على الوصيَّة، بتحريفِها أو تبديلِها، أو كِتمانِها بالكلِّيةِ؛ فإنَّا إنْ فعَلْنا شيئًا من ذلك وقَعْنا في الإثمِ مع الواقعينَ فيه .
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107).
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا.
أي: فإنْ ظهَر أنَّهما كاذبانِ، فوُجِدَ أنَّهما قد خانَا مِن مالِ الميِّت شيئًا، أو بدَّلَا وصيَّتَه، فاستوجبَا بأيمانِهما الكاذبةِ إثمًا .
فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ ثلاثُ قِراءات:
1- اسْتَحَقَّ بِفَتْح التَّاء والحاء، والْأَوْلَيَانِ مُثنَّى (أَوْلى)، رُفع بـاسْتَحَقَّ على أنَّه فاعِلٌ .
2- اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوَّلِينَ، ومرفوع اسْتُحِقَّ ضميرُ الإيصاءِ أو الوَصِيَّةِ أو المالِ، أو الإثْمِ. والْأَوَّلِينَ جمْع (أوَّل)، أي: المتقدِّم ذِكرُهم، أي: مِن الأوَّلِين الذين استُحِقَّ عليهم الإيصاءُ أو الإثمُ .
3- اسْتُحِقَّ بِضَمِّ التَّاء وكَسْرِ الحاءِ على البِناءِ للمَفعولِ، والْأَوْلَيَانِ مرفوعٌ بـ استُحِقَّ على أنَّه نائِبٌ عَنِ الفاعِلِ .
فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ.
أي: فحينئذٍ يقومُ مقامَهما اثنانِ مِن أولياءِ الميِّتِ المستحقِّينَ للتركةِ، ولْيَكونا مِن أَوْلى مَن يَرِثُ هذا الميِّتَ الذي شُهِدَ على وصيَّتِه .
فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
أي: فيَحلفانِ بأنَّ شهادتَنا أحقُّ مِن شهادتهما التي كذَبَا فيها وخانَا، وهي أصحُّ وأثبَتُ، وما تجاوَزْنا الحقَّ في شهادتِنا، وإخبارِنا عن خيانتِهما؛ فإنَّا إنْ كذَبْنا عليهما نكونُ في عدادِ الظَّالمين، ونقتطعُ بذلك أموالَ النَّاس بغيرِ حقٍّ .
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108).
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا.
أي: هذا الفِعلُ- مِن تحليفِ الشاهدَينِ إذا استُريب بهما- أقربُ لأن يَصْدُقوا في شهادتِهم، ويُقيموها على الوجهِ الصَّحيح، فلا يَكذِبوا ولا يَخونوا .
أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ.
أي: أو يَخافَ هؤلاءِ الشهودُ ألَّا تُقبلَ أيمانُهم إنْ ظهَرَ كذِبُهم وخيانتُهم، فتُرَدَّ الأيمانُ إلى الورثةِ، فيَحلِفونَ ويستحقُّون ما يَدَّعون، ويُفتضَح أمرُ شهودِ الوصيةِ بين النَّاس .
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا.
أي: واتَّقوا اللهَ تعالى في جميعِ أُمورِكم، ومن ذلك: ترْكُ الحلِفِ بالله تعالى كذبًا، واجتنابُ خيانةِ الأمانةِ وغير ذلك، واسمَعوا ما يُقال لكم فاعْمَلوا به .
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
أي: واللهُ تعالى لا يُوفِّق للحقِّ الخارِجينَ عن طاعتِه، واتِّباعِ شريعتِه

.
الفوائد التربوية:

1- في قوله تعالى: وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ تعظيمُ أمْرِ الشَّهادةِ؛ حيث أضافَها تعالى إلى نفْسِه، وأنَّه يجبُ الاعتناءُ بها، والقيامُ بها بالقِسطِ
.
2- أنَّ الأصلَ في النَّاس أنْ يكونوا أُمَناءَ، وفي المُؤتمَنِ أن يكون أمينًا، وأنْ يكونَ ما يقولُه في أمْر الأمانةِ مقبولًا؛ ولذلك قال: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فأفادتْ أداةُ الشرط (إِنْ) أنَّ الأصل في هذا ألَّا يقع، وأنَّه إنْ وقَع كان شاذًّا، وأفاد فِعلُ عُثِرَ المبنيُّ للمفعولِ أنَّ هذا الشذوذَ إنْ وقَع فشأنُه أنْ يُطَلَّعَ عليه بالمصادفةِ والاتِّفاقِ، لا بالبحثِ وتتبُّع العَثَراتِ .
3- أنَّ المدَّعَى عليه لا يجزمُ ببطلانِ شهادةِ الشاهدِ التي تَبيَّن أنَّ فيها شيئًا من الخَلَلِ؛ لِقَوْلِه: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا بهذا اللَّفظِ، ولم يقل: (باطلةٌ)، لكنَّ قوله: أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا يستلزمُ أن تكونَ مردودةً، وأنَّ القولَ قولُ المدَّعَى عليه .
4- الختمُ بقولِه تعالى: وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ فيه دلالةٌ على استقباحِ الظُّلْم والتبرُّؤِ منه

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ مشروعيَّةُ الوصيَّة والحثُّ عليها، وتأكيدُ أَمْرِها، وعدمُ التَّهاوُن فيها بشواغلِ السَّفَر وإن قُصِرَت فيه الصلاةُ، وأُبيحَ فيه الإفطارُ في رمضانَ، وأنَّه يَنبغي لِمَن حضَرَه الموتُ وعندهُ ما يُوصِي به أنْ يُوصِيَ
.
2- أنَّ الوصيَّة مُعتبَرَةٌ، ولو كان الإنسانُ قد وصَل إلى مُقدِّماتِ الموتِ وعلاماتِه، ما دامَ عَقْلُه ثابتًا؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ .
3- أنَّه يَنبغي الإشهادُ على الوصيَّةِ؛ لِقَوْلِه: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ، وظاهرُ الآية الكريمة: أنَّه لا بدَّ من رجُلينِ؛ لِقَوْلِه: اثْنَانِ واثنان عددٌ للمُذكَّر، لكن هذه الآية تُقيَّدُ بآية البقرة، وهي قوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة: 282] .
4- أنَّه يُشترطُ في الإشهادِ أنْ يكونَ الشاهدانِ ذَوَيْ عدْلٍ؛ لِقَوْلِه: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ، ولكن إذا لم يُوجد عدلٌ ووُجِد فاسقٌ مأمونٌ؛ فهل يقوم مقامَ العَدْلِ؟ اختار بعضُ أهل العِلمِ أنَّه يقوم مقامَ العَدْلِ، وأنَّ اشتراط العدالةِ إنَّما هو عند التحمُّلِ، بمعنى: أنَّك إذا أردتَ أن تُشهِدَ فلا تُشهِد إلَّا عدلينِ، أمَّا عند أداءِ الشَّهادَةِ فالضروراتُ لها أحكامٌ، فإذا لم نجِدْ مَن يَشهد إلَّا هذينِ الفاسقَينِ، لكنَّهما في الأمانة موثوقانِ، فإنَّنا نَقبل شهادتَهما، وهذا هو الصَّواب؛ أنَّ العدالةَ شَرْطٌ مع الإمكانِ، وأمَّا إذا لم يُمكن فإنَّه تُقْبَل شهادةُ الفاسقِ بشَرْط أن يكون ثقةً، وكم مِن إنسانٍ يكونُ فاسقًا في عِبادتِه لكنَّه أمينٌ في شهادته! ونعلم أنَّنا لو اتَّبَعْنا اشتراطَ العدالة في أداء الشَّهادة، مُعتبرِينَ الشُّروط التي ذَكرَها الفقهاءُ في العدالة، أنَّ كثيرًا من الحقوق سوف تضيعُ؛ لأنَّ كثيرًا من الناس ليسُوا على الاستقامةِ التي ذَكرَها الفقهاءُ رحِمَهم الله .
5- جوازُ شهادةِ الكافر إذا عُدِمَ المسلمُ، سواء كان يهوديًّا أو نصرانيًّا أو بوذيًّا أو شيوعيًّا، أيًّا كان؛ لِقَوْلِه: مِنْ غَيْرِكُمْ ، والضروراتُ قد تُبيح المحظوراتِ؛ لأنَّ المسلمَ إذا قَرُب أجلُه في الغُربة، ولم يجدْ مسلمًا يُشهِده على نفْسِه، ولم تكن شهادةُ الكفَّار مقبولةً، فإنَّه يَضيع أكثرُ مهمَّاته؛ فإنَّه ربَّما وجبتْ عليه زَكَواتٌ وكفَّارات، وما أدَّاها .
6- في قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ بيانُ أنَّ جوازَ الاستشهاد بآخَرينَ من غيرِ المسلِمين مشروطٌ بما إذا كان المستشهِدُ مسافرًا ضاربًا في الأَرْض، وحضرتْ علاماتُ نُزولِ الموتِ به .
7- جوازُ سفرِ المسلمِ مع الكافرِ إذا لم يكُن محذورٌ؛ لقوله تعالى: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ .
8- قَوْلُه تعالى: مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةٍ إشارةٌ إلى تحليفِ الشَّاهدينِ في جمْعٍ من النَّاسِ .
9- شرعيَّة اختيارِ الأوقاتِ التي تُؤثِّر في قلوبِ الشُّهود ومُقْسِمي الأيمانِ، ويُرجى أن يَصدُقوا ويَبَرُّوا فيها؛ لِقَوْلِه: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ .
10- الغرضُ من التحليفِ بعدَ إقامة الصَّلاةِ في قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ هو أن الصَّلاة مُعظَّمة، والإنسانُ يخاف أنْ يَشهدَ بباطلٍ بعد هذه الصَّلاةِ التي ذَكَرها اللهُ عزَّ وجلَّ، إضافة إلى أنَّ الصلاةَ تَنهى عن الفحشاءِ والمنكَر؛ فكان احترازُ الحالفِ عن الكذبِ في ذلك الوقت أتمَّ وأكملَ، والله أعلم .
11- التغليظُ على الحالِفِ بصيغةِ اليمينِ، بأنْ يقول فيه ما يُرجَى أنْ يكون رادعًا للحالفِ عن الكَذِبِ كالألفاظِ التي وردَتْ في قَوْلِه: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ، وأشدُّ منها ما ورَدَ في شهادةِ اللِّعانِ .
12- أنَّه لا يُحلَف بغيرِ الله؛ لِقَوْلِه: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ، فلو أُقسِم بغيرِ الله حتى بمَن يُعَظَّم عندَهم كالمسيح مثلًا، فإنَّها لا تُقبَل ولا يُعتدُّ بها .
13- أنَّ إقسامَ الشاهدَينِ لا يلزم إلَّا عند الارتيابِ في شهادتِهما؛ لِقَوْلِه: إِنِ ارْتَبْتُمْ. وأنَّ للقاضي أن يُحلِّفَ الشاهدَينِ عند الارتياب في شهادتِهما؛ فالحُكم يدور مع عِلَّته؛ لأنَّنا لم نُحَلِّفْهما بالله إلَّا عند الارتياب، لا لكونهما من الكفَّارِ .
14- أن يكونَ صفةُ الإقسامِ على هذا: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ، والصواب أنَّه يَكفي المعنى؛ لأنَّ هذا اللفظ لا يُتعبَّد به؛ حتى نقولَ: لا يمكن أن يُغيَّر، بل عبَّر الله عزَّ وجلَّ عن المعنى بهذا اللَّفْظِ، إذنْ: فالمرجعُ إلى المعنى .
15- الإشارةُ إلى أنَّ للقرابةِ تأثيرًا في المَيلِ والعاطفة؛ لقولهما: وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وهذا شيءٌ فِطْريٌّ معروف، وقد أشارَ الله تبارك وتعالى إلى هذا في قوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [التوبة: 113] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء: 135] .
16- إضافةُ الشَّهادة إلى (الله) في قوله: وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ؛ لأنَّه هو الآمرُ بها وبحِفظها، وألَّا تُكتَم، ولا تُضَيَّع، كذلك أضافَها إلى الله تشريفًا لها، وتعظيمًا لأمرِها .
17- الإشارةُ إلى أنَّ الإِرْثَ يكون للأَوْلى فالأَوْلى؛ لِقَوْلِه: الأَوْلَيَانِ وقد جاء الحديثُ مقرِّرًا ذلك؛ فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ألْحِقوا الفرائضَ بأهلِها، فما بقِيَ فلِأَوْلى رجُلٍ ذَكرٍ )) .
18- أنَّه إذا احتِيجَ في الشَّهادةِ أو في القَسَم إلى إثباتٍ ونفيٍ، فلا بدَّ مِن ذِكرِ الإثبات والنَّفي، فقولهما- يعني الأَوليَينِ-: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا هذا إثباتٌ، وَمَا اعْتَدَيْنَا هذا نفيٌ، فإذا احتِيجَ إلى ذلك فلا بدَّ مِن ذِكر النفيِ والإثبات؛ حتى تكونَ الشهادةُ خالصةً .
19- أنَّ ردَّ الأَوْليَينِ لشهادَةِ الشَّاهدَينِ على سبيلِ الاعتداء أعظمُ اعتداءً مِن تغييرِ الشهادة من الشاهدَينِ؛ وجهُ ذلك أنَّه في تغييرِ الشَّهادةِ من الشَّاهدَينِ، قال: إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ، وهنا قال: إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ .
20- أنَّه كلَّما كان الشيءُ أقربَ إلى استنتاجِ الصوابِ والحقِّ في الشهادة فهو أَوْلى أن يُتَّبَع، لِقَوْلِه: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا؛ لأنَّ الإنسانَ إذا فَهِم أنَّ مِن ورائِه أناسًا سيقومون بردِّ شهادتِه والإقسامِ على بُطلانها، فلا بدَّ أن يتحرَّى الصدقَ فيما يشهدُ به .
21- أنَّ اللهَ سبحانه أخْبَر بأنَّه لا يَهدي القومَ الفاسقينَ، أي: الخارجينَ عن طاعتِه، وخَبَر الله صِدقٌ، لكنْ يُشكِل على هذا أنَّ الواقِعَ أنَّ الله قد يَهدي الفاسقينَ، وقد يَهدي الكافرينَ؛ فكيف نجمع بين الواقِعِ وهذا الخبرِ الصادِق؟ الجَمْع أن نقول: إنَّ قولَه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، أي: الذين كتَب اللهُ عليهم الفِسقَ، وأمَّا مَن كتَب عليه أن يؤمِنَ فيُؤمن ولا بدَّ، ولكنَّ الفائدة مِن هذا- أي: مِن إطلاقِ قولِه: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ- الإشارةُ إلى أنَّ عدمَ هِدايةِ الله للقَوْمِ الفاسقين؛ لأنَّهم اختاروا الفِسقَ، كما قال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

[الصف: 5] .
بلاغة الآيات:

1- قَوْلُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ الأحكامِ المتعلِّقة بأمور دُنياهم إثرَ بيانِ الأحوالِ المتعلِّقة بأمورِ دِينهم، وتصديرُه بحرفَيِ النِّداءِ والتنبيهِ يَا أَيُّهَا؛ لإظهارِ كمالِ العنايةِ بمضمونِه
.
2- قَوْلُه: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فيه: التفاتٌ من الغَيبة إلى الخِطاب، ولو جرَى على لفظ: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ لكان التركيب: (إنْ هو ضرَبَ في الأرض فأصابتْه مصيبةُ الموت)، وإنما جاءَ الالتفات جمعًا؛ لأنَّ قوله: أَحَدَكُم معناه: إذا حضرَ كلَّ واحد منكم الموتُ ، وقيل: بل ليس فيه التفاتٌ؛ لأنَّ الخطابَ جارٍ على أسلوبِ الخِطاب الأوَّل مِنْ قَوْلِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ... إلى آخِره .
3- قَوْلُه: إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
- قوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ اعتراضٌ يفيد اختصاص القَسَم بحال الارتياب .
- وقَوْلُه: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا فيه كنايةٌ عن استبدال عَرَضٍ من الدُّنيا، وهو على حَذْف مضاف، أي: لا نَشْتَري ذا ثَمَن؛ لأنَّ الثَّمنَ لا يُشترى، ولا يَصِحُّ أن يكونَ لَا نَشْتَرِي هنا بمعنى لا نبيع، وإنْ كان ذلك صحيحًا في اللُّغة .
- وقَوْلُه: وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى فيه حذْفُ جوابِ لَوْ؛ ثقةً بدَلالةِ ما سبَق عليه، أي: ولو كانَ ذا قربى لا نَشتري به ثمنًا .
- وخصَّ اللهُ (ذا القُربى) بالذِّكر؛ لأنَّ الميلَ إليهم أتمُّ، والمداهنةَ بسببهم أعظمُ .
- وأيضًا في قولِه: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى تأكيدُ تَبَرُّئِهما من الحَلِف كذبًا، ومبالغةٌ في التنزُّه عنه، كأنَّهما قالا: لا نأخُذُ لأنفسِنا بدلًا مِن حُرمةِ اسمِه تعالى مالًا، ولو انضمَّ إليه رعايةُ جانب الأقرباء؛ فكيف إذا لم يكُنْ كذلك ؟!
4- في قوله تعالى: فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ.... إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ ناسبَ ختْمُ ما أقْسم عليه شاهدَا الزُّورِ بقولِه: لَمِنَ الآثِمِينَ؛ لأنَّ عدَمَ مطابقة يمينهما للواقِع وكَتْمَهما الشهادةَ يجرَّانِ إليهما الإثمَ، وفي قوله: وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ناسَب ذِكْرُ الظلمِ هنا قولَهما: وَمَا اعْتَدَيْنَا؛ لأنَّ الاعتداءَ والظُّلم متقارِبان .
5- ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ: إنَّما جمَع الضَّمائرَ هنا في يَأْتُوا وما بعدَه، وإن كان السابق مثنًّى، فلم يُثنِّها كما سَبَق؛ لأنَّه حُكمٌ يعمُّ الشُّهودَ كلَّهم؛ فإنَّه لا يعودُ إلى الشَّاهِدَينِ بخُصوصيَّتهما، بل إلى النَّاسِ الشُّهودِ، والتقدير: ذلك أدْنَى أنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ فيَشْهَدوا بالحقِّ خوفَ الفضيحةِ في ردِّ اليمينِ على المدَّعِي. وقيل: هو عائدٌ على الشَّاهِدَينِ باعتبارِ الصِّنفِ والنَّوعِ
===========
.
سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (109 - 110)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
غريب الكلمات:

بِرُوحِ الْقُدُسِ: أي: جبريلَ عليه السَّلام، سُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه يأتي بما فيه حياةُ القلوبِ، وأصل القُدس الطَّهارةُ
.
الْمَهْدِ: أي: مَضْجَعِ الصَّبيِّ فِي رَضاعِه، وما يُهيَّأ له، وأصلُه: التَّوطئةُ للشَّيءِ، وتَسهيلُه .
وَكَهْلًا: أي: ابن ثلاثين سَنةً، والكَهْل: الذي انتهَى شبابُه، ومَن وَخَطَه الشيبُ، والكهولةُ فوقَ الغلومة، ودونَ الشَّيخوخةِ، وأصل (كهل): القوَّة في الشَّيءِ، أو اجتماع الجِبلَّة .
وَالْحِكْمَةَ: أي: الفِقه، وتُطلَق الحِكمةُ على إصابةِ الحقِّ بالعِلم والعَمَل، وأصل (حكم): المنْع، والإحكامُ هو الفصلُ والتمييزُ، والفَرْقُ والتَّحديد الذي به يتحقَّقُ الشيءُ ويحصُل إتقانُه؛ ولهذا دخَل فيه معنى المنْع كما دخَل في الحدِّ، فالمنعُ جزءُ معناه لا جميعُ معناه، والحِكمة اسمٌ للعَقل، وإنَّما سُمِّي حِكمة؛ لأنَّه يمنع صاحبَه من الجَهل .
وَتُبْرِئُ: وتَشْفِي، أصلُه من البُرء والبَراء والتبرِّي: وهو التفصِّي ممَّا يُكرَه مجاورتُه، والتباعُدُ من الشَّيءِ ومُزايلتُه، والمقصودُ هنا: السَّلامة من السُّقم .
الْأَكْمَهَ: الذي يُولَد أعْمَى، أو هو الذي يُولَد مَطموسَ العين، وقيل: هو الأعْمَى مطلقًا .
الْأَبْرَصَ: الذي به مرضُ البَرَصِ، وهو مرضٌ معروفٌ يُصيب الجِلدَ، وهو لمعةٌ تُخالِفُ سائرَ لونِ الجلد .
بِالْبَيِّنَاتِ: جمْع بيِّنة، وهي: الدَّلالة الواضحة؛ يُقال: بانَ الشَّيء وأبان، إذا اتَّضح وانْكشَف

.
المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى عن بعضِ ما سيَجري يومَ القيامةِ؛ إذ يجمع سبحانه الرُّسلَ، فيسألُهم عن الذي أجابتْهم به أُممُهم حينَ بلَّغوهم دعوةَ الحقِّ، فيجيبُ الرُّسلُ بأنَّهم لا عِلْمَ لهم، وأنَّ اللهَ سبحانَه هو علَّامُ الغُيوبِ.
ويخبِرُ اللهُ تعالى أيضًا عن قولِه لعيسَى عليه السلامُ: يا عيسى ابنَ مريمَ، اذكُرْ نِعَمِي عليك وعلى والدتِك؛ إذ أعنْتُك وقوَّيتُك بجبريلَ عليه السَّلام، تُكلِّمُ الناسَ في صِغَرك وفي كِبَرك، وإذ علَّمتُك الكِتابةَ، والفَهمَ ومعرفةَ أسرارِ الشَّرعِ، وعلَّمتُك التوراةَ والإنجيلَ، وإذ تَصنَعُ من الطِّين كهيئةِ طائرٍ بإذني، فتنفخُ فيما صنعتَه من الطِّين، فيكونُ طيرًا ذا رُوحٍ بإذني، وتَشفِي مَن يُولَد أعْمَى، وتَشفِي مَن به داءُ البَرَصِ بإذني، وتُخرِجُ الموتى من قُبورِهم أحياءً بإذني، وإذ صددْتُ بني إسرائيلَ عنك وقد أرادوا قتْلَك لَمَّا جِئتَهم بالبيِّناتِ؛ فقال الكافرونَ منهم: ما هذا الذي أتيتَ به إلَّا سحرٌ واضحٌ ظاهرٌ.
تفسير الآيتين:

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أخْبَر تعالى بالحُكم في شاهِدَيِ الوصيَّة، وأمَر بتَقْوى اللهِ، والسَّمعِ والطَّاعة، ذكَّر بهذا اليومِ المَهُولِ المخوفِ، وهو يومُ القيامةِ فجَمَع بذلك بين فَضيحةِ الدُّنيا، وعقوبةِ الآخِرة لِمَن حرَّف الشهادةَ، ولِمَن لم يتَّقِ اللهَ ولم يَسمعْ
.
وأيضًا لَمَّا كان من عادةِ القُرآنِ الكريمِ أنَّه إذا ذَكَر أنواعًا كثيرةً من الشَّرائع والتَّكاليف والأحكامِ، أتْبَعَها إمَّا بالإلهيَّات، وإمَّا بشَرْحِ أحوالِ الأنبياء، أو بشَرْحِ أحوال القيامة؛ ليصير ذلك مؤكِّدًا لِمَا تَقدَّم ذِكرُه من التكاليف والشَّرائع، فلا جرمَ لَمَّا ذكَر فيما تَقدَّم أنواعًا كثيرة من الشَّرائعِ أتْبَعَها بوصْفِ أحوالِ القيامةِ أولًا، ثمَّ ذِكْرِ أحوالِ عيسى عليه السَّلامُ ، فقال تعالى:
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ.
أي: اذكرْ يومَ يَجمَعُ الله تعالى جميعَ رُسُلِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلام يومَ القيامة، فيسألُهم: ما الذي أجابتْكم به أُممُكم حين دَعوتُموهم إلى الحقِّ ؟
كما قالَ تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] .
قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ .
أي: قال الرُّسُلُ الكِرامُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام: لا عِلْمَ لنا، ولا يَخفَى عليك يا ربَّنا ما عِندنا من عِلمِ ذلك وغيرِه؛ فأنت العَليمُ ببواطن الخَلْق، والمطَّلِعُ على كلِّ شيءٍ .
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان الغَرَضُ من قولِه تعالى للرُّسلِ: مَاذَا أُجِبْتُمْ توبيخَ مَن تمرَّدَ مِن أُمَمِهم، وكان أشدَّ الأممِ افتقارًا إلى التوبيخِ والملامةِ النَّصارى الذين يَزعُمون أنَّهم أتْباعُ عيسى عليه السَّلام؛ لأنَّ طَعْنَ سائرِ الأُمَم كان مقصورًا على الأنبياءِ، وطَعْنَ هؤلاء المَلاعِين تعدَّى إلى جلالِ الله وكِبريائِه؛ حيث وصَفُوه بما لا يَليقُ بعاقلٍ أن يصفَ الإلهَ به، وهو اتِّخاذُ الزوجةِ والولدِ؛ فلا جرَمَ ذَكَر اللهُ تعالى أنَّه يُعدِّد أنواعَ نِعَمه على عيسى بحضرةِ الرُّسُلِ واحدةً فواحدةً، والمقصودُ منه توبيخُ النصارى وتقريعُهم على سوءِ مَقالتِهم؛ فإنَّ كلَّ واحدةٍ مِن تلك النِّعَم المعدودة على عيسى تدلُّ على أنَّه عبدٌ وليس بإلهٍ ، فقال تعالى:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ.
أي: اذْكُرْ حين نادَى الله تعالى عيسى عليه السَّلام قائلًا له: اذكُرْ ما أَجريتُه عليكَ وعلى والدتِك مِنَ النِّعَم .
ثمَّ شرَع اللهُ تعالى يُفصِّل تِلك النِّعمَ، فقال :
إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ.
أي: حيثُ قوَّيتُك بجبريلَ عليه السَّلامُ، وأعنْتُك به .
تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا.
أي: تدْعُو النَّاسَ إلى اللهِ تعالى في حالِ صِغَرِك وكِبَرِك .
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ.
أي: واذكُرْ- يا عيسى- أيضًا نِعمَتي عليك إذْ علَّمتُك الخطَّ والكتابةَ ، والفَهمَ ومعرفةَ أسرارِ الشَّرع، وعلَّمتُك التوراةَ والإنجيل .
وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ثلاث قراءات:
1- ... كَهَيْئَةِ الطَّائرِ... فَتَكُونُ طَائرًا، أي: إنَّه كان يَخُلق واحدًا ثمَّ واحدًا .
2- ... كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ... فَتَكُونُ طَائرًا أي: تُقدِّر هيئةً كهيئةِ الطَّير، فتكونُ الهيئةُ طائرًا، أي: كلُّ هَيئةٍ تُقدِّرها تكونُ واحدًا مِن الطَّير .
3- ... كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ... فَتَكُونُ طَيْرًا، أي: إنَّ الله تعالى أذِنَ له أن يَخلُقَ طيرًا كثيرةً، ولم يكن يَخلُقُ واحدًا فقط .
وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي.
أي: تُصوِّر الطِّينَ، وتَصنَعُ منه هيئةَ طائرٍ بإذني، فتنفخُ في تِلك الصُّورةِ التي شكَّلتَها، فتكونُ طائرًا ذا رُوحٍ بإذني .
وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي.
أي: وتَشْفِي مَن يُولَد أعْمى، ومَن به داءُ البَرَص الذي يُصيب الجِلدَ بإذنِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وتُخرجُ الموتَى من قُبورِهم أحياءً بإذنِ الله تبارَك وتعالى .
وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.
مُناسَبَتُها لِمَا قَبْلَها:
بعدَ أن ذكَر اللهُ سبحانَه بعضَ ما أعطاه لعيسَى عليه السَّلام مِن معجزاتٍ فيها مِن المنافعِ، أتْبَعها بذكرِ ما دفَع عنه مِن مضارَّ ، فقال:
وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: واذكُرْ- يا عيسى- أيضًا نِعمتي عليك، في صدِّي بني إسرائيلَ عنك، وقدْ همُّوا بقتْلِك حين جِئتَهم بالحُججِ والبَراهينِ على رِسالتِك، فحَفِظتُك منهم وعصَمتُك .
فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: سِحْرٌ قِراءتان :
1- قِراءة سَاحِرٌ- بالألِف على أنَّه اسمُ فاعلٍ- إشارةً إلى عِيسى عليه السَّلام .
2- قِراءة سِحْرٌ- مِن غيرِ ألِفٍ على أنَّه مصدرٌ- إشارةً إلى ما جاءَ به عيسى عليه السَّلام من البيِّنات، أي: ما هذا الَّذي جاءَ به من الآياتِ الخَوارقِ إلَّا سِحرٌ .
فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
أي: فقال كفَّارُ بني إسرائيلَ: ما هذا إلَّا ساحرٌ ظاهرٌ ذُو سِحرٍ جليٍّ

.
الفوائد التربوية:

1- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ أنَّه يجبُ على الإنسانِ أنْ يَتذكَّرَ هذا اليومَ العظيمَ؛ لينظرَ ماذا أجابتْ به الرُّسُلُ، وهو يومُ القِيامة حين يُجمَعُ الرُّسُل ويُسأَلون
.
2- التَّنصيصُ على النِّعمة بالعِلم والشَّرعِ والحِكمة، وأنَّها أخصُّ من مطلَق النِّعمة؛ لأنَّ مُطلَق النِّعمة سبَقَ في قَوْلِه تعالى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ أما العِلمُ فخصَّه بقوله: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ، وعلى هذا فيجبُ على طالبِ العِلم أنْ يَشكُرَ اللهَ تعالى على نِعمتِه عليه؛ حيث خصَّه بالعِلم الذي حَرَمَهُ كثيرًا من النَّاسِ، وإذا منَّ اللهُ عليه بالعِبادةِ والدَّعوة إلى الله صارَ نِعمةً فوقَ نِعمةٍ؛ مِمَّا يدعوه إلى المُثابرةِ والصبرِ على ما هو عليه مِن طلبِ العِلم، وازديادِ العبادةِ، وقوَّة الدَّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ .
3- في قَوْلِه: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ تذكيرُ الله سبحانه وتعالى عِبادَه بنِعَمِه عليهم، وهذا جاءَ في القرآنِ في غيرِ ما موضعٍ، مِثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [فاطر: 3] ، أحيانًا يكون عامًّا كهذه الآية، وأحيانًا يكون خاصًّا؛ مثل قوله: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الأعراف: 86] ، وما أشبه ذلك؛ وإنَّما يُذكِّر اللهُ العبادَ بالنِّعمة من أجْلِ وجوبِ شُكرها؛ لأنَّ وجوبَ شُكر المنعِم ثابتٌ سَمْعًا وعقلًا، أمَّا السَّمع فمملوءٌ به القرآنُ؛ كقولِه تعالى: وَاشْكُرُوا لِي [البقرة: 152] ، وقوله: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة: 172] ، وأمَّا عَقْلًا: فلأنَّه ليس من المروءةِ أن تُقابَل النِّعمةُ بالإساءةِ والكُفر؛ فشُكْرُ المنعِم إذنْ واجبٌ سمعًا وعقلًا .
4- أنَّ اللهَ يُدافِعُ عن المؤمنينَ، وأنَّ كَفَّ الأذَى عن الإنسانِ مِن نِعمةِ اللهِ عليه؛ لقولِه تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ؛ ولهذا امتنَّ اللهُ به على المؤمنينَ، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38] ، فكلَّما كان الإنسانُ أشدَّ إيمانًا بالله عزَّ وجلَّ دفَعَ اللهُ عنه، وتسليطُ بعضِ الناس عليه بالإيذاءِ ما هو إلَّا كتسليطِ المَرَضِ على الرُّسُلِ والأنبياءِ من باب رِفعةِ الدَّرجاتِ، وإلَّا فلا شكَّ أنَّ هناك أئمَّةً مِن هذه الأمَّة أُوذُوا أشدَّ الإيذاء، بل الرُّسُلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام يُؤذَوْنَ؛ كما قال الله عزَّ وجلَّ: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الأنعام: 34] ، لكنْ هذا من باب رِفعةِ الدَّرجاتِ .
5- تشجيعُ الدَّاعي إلى اللهِ عزَّ وجل الذي يأتي بالآياتِ البيِّناتِ؛ فإنَّه عُرضةٌ للإيذاءِ لِقَوْلِه: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، فكلُّ إنسانٍ يَدْعو إلى اللهِ، ويأتي بالبراهينِ والأدلَّة، لا بدَّ أنْ يُسلَّطَ عليه مَن يُسلَّطُ، ولكنَّ اللهَ تعالى بقُوَّتِه وقُدرتِه يَصرِفُ عنه

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ معرفةُ تمامِ قُدرة اللهِ تبارَك وتعالى؛ وذلك بجَمْعِه الرُّسُلَ في ذلك الموقِف العظيمِ، الذي يَختلطُ فيه الآدميُّون والوُحوشُ والسِّباعُ والإبلُ وغيرها، فيَجمَعُ اللهُ سبحانه وتعالى الرُّسلَ بقُدرتِه وإذْنِه
.
2- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ فضيلةُ الرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام؛ حيث إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَعتني بهم هذا الاعتناءَ، حتى إنَّه يسألُهم يومَ القيامَةِ في هذا المشهَدِ العظيمِ: ماذا أُجِيبوا؟ تكريمًا لهم، وإظهارًا لإبلاغِهم الرِّسالةَ .
3- لَمَّا كان ممَّا لا يَخفى أصلًا أنَّهم أُجيبوا، ولا يقعُ فيه نزاعٌ، ولا يتعلَّقُ بالسُّؤال عنه غرضٌ، تجاوزَ السُّؤالَ إلى الاستفهامِ مِن نوعِ الإجابةِ، فقال: مَاذَا أُجِبْتُمْ أي: أيَّ إجابةٍ أجابَكم مَن أُرْسِلْتم إليهم؟ إجابةَ طاعةٍ، أو إجابةَ معصيةٍ .
4- في قَوْلِه تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ دليلٌ على جوازِ إطلاق لفْظ العلَّام على الله سبحانه، كما جاز إطلاقُ لفظِ الخلَّاقِ عليه، أما العلَّامة؛ فإنَّهم أجمعوا على أنَّه لا يجوزُ إطلاقها في حقِّه تعالى .
5- قدْ يُتوهَّمُ التعارُضُ بين ظاهِرِ قَوْلِه تعالى: قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وهو يدلُّ على أنَّ الأنبياءَ لا يَشهدون لأُممهم، وبَيْنَ قَوْلِه تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] ، وفيه أنَّ الأنبياءَ يشهدون على أُممهم. والجَمْعُ بينهما من وجوهٍ:
الوجه الأوَّل: أنَّهم إنَّما قالوا: لَا عِلْمَ لَنَا؛ لأنَّك تعلَمُ ما أَظهروا وما أضمروا، ونحن لا نعلم إلَّا ما أَظهروا؛ فعِلمُك فيهم أنْفَذُ مِن عِلْمِنا؛ فلهذا المعنى نَفَوُا العِلْمَ عن أنفُسِهم؛ لأنَّ عِلمَهم عندَ الله كَلَا علمٍ.
الوجه الثَّاني: أنَّهم قالوا: لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا أنْ عَلِمْنا جوابَهم لنا وقتَ حياتِنا، ولا نعلمُ ما كان منهم بعدَ وفاتِنا، والجزاءُ والثوابُ إنَّما يحصُلانِ على الخاتمةِ، وذلك غيرُ معلومٍ لنا.
الوجه الثَّالث: أنَّ الحاصِلَ عندَ كلِّ أحدٍ مِن حالِ الغيرِ إنَّما هو الظنُّ لا العِلْم؛ فالأنبياءُ قالوا: لَا عِلْمَ لَنَا البتةَ بأحوالِهم، إنَّما الحاصلُ عندنا مِن أحوالهم هو الظنُّ، والظنُّ كان مُعتَبرًا في الدُّنيا؛ لأنَّ الأحكامَ في الدُّنيا كانت مبنيَّةً على الظنِّ، وأمَّا الآخرَة فلا التفاتَ فيها إلى الظنِّ؛ لأنَّ الأحكامَ في الآخرة مبنيَّةٌ على حقائِقِ الأشياء، وبواطنِ الأمورِ؛ فلهذا السببِ قالوا: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ولم يذكروا البتةَ ما معهم من الظنِّ؛ لأنَّ الظنَّ لا عِبرةَ به في القيامَةِ.
الوجه الرابع: أنَّهم لَمَّا علِموا أنَّه سبحانه وتعالى عالمٌ لا يَجهل، حكيمٌ لا يَسْفَه، عادلٌ لا يَظلِم، علِموا أنَّ قولَهم لا يُفيد خيرًا، ولا يدفعُ شرًّا، فرأوا أنَّ الأدبَ في السُّكوتِ، وفي تفويضِ الأَمْرِ إلى عدلِ الحيِّ القيومِ الذي لا يموتُ .
6- جوازُ نسبَةِ الإنسان إلى أمِّه إذا لم يكُن له أبٌ؛ لِقَوْلِه: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ .
7- شرع الله في قوله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى... إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ في تعديدِ نِعَمه على عيسى عليه السلام، لكن قولُ الكفَّارِ في حقِّه: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ليس من النِّعَمِ؛ فكيف ذكَره هاهنا؟
والجواب: أنَّ مِن الأمثال المشهورة: أنَّ كلَّ ذي نِعمة محسودٌ؛ وطَعْنُ الكفَّارِ في عيسى عليه السلام بهذا الكلام يَدلُّ على أنَّ نِعَم اللهِ في حقِّه كانتْ عظيمةً، فحَسُنَ ذِكرُه عند تعديدِ النِّعَم .
8- قَوْلُه تعالى: اذْكُرْ فائدةُ هذا الذِّكر إسماعُ الأممِ ما خَصَّه به تعالى من الكرامةِ، وتأكيدُ حُجَّته على جاحدِه .
9- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ أنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام يجب عليهم الشُّكرُ، كما يجب على مَن أُرسِلَ إليهم؛ لأنَّ اللهَ أمَر عيسى أنْ يذكُرَ نِعمتَه عليه وعلى أُمِّه، والأنبياءُ أشدُّ الناسِ قِيامًا بشُكرِ النِّعمة .
10- فضيلةُ جبريلَ عليه السَّلامُ؛ لقوله تعالى: إِذْ أَيَّدْتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وأنَّه يُؤيِّد الأنبياءَ والرُّسُل .
11- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: بِإِذْنِي أنَّ المسيحَ لم يُعطَ هذه القوَّةَ دائمًا، بل كانتْ هذه الآيةُ كغيرها لا تقَعُ إلَّا بإذنٍ من الله، وتأييدٍ مِن لَدُنْه .
12- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ إطلاقُ لفظ الخَلْق على ما صنَعَه المخلوق، فلو صنعْتَ بابًا، تقول: خلقتُ بابًا، ويدلُّ لهذا قولُ الله تبارَك وتعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 14] ، والفرق بين خَلْق الخالِقِ، وخَلْق المخلوقِ: أنَّ خَلْقَ الخالق إيجادٌ مِن عدَمٍ على ما يُريد اللهُ عزَّ وجلَّ؛ قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران: 6] ، أمَّا خَلْق المخلوقِ: فهو تحويلُ مخلوقِ الله إلى صِفةٍ أخرى، وإلَّا فالأصلُ من الله عزَّ وجلَ؛ وذلك كأن يجعلَ مِن الذَّهب حُليًّا، أما أن يجعلَ من الحجرِ ذهبًا فلا يستطيعُ ذلك أحدٌ .
13- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أنَّه سبحانه وتعالى يَختارُ مِن الآيات أشدَّها إعجازًا؛ فإنَّه لم يَمُنَّ على عيسى بأنْ يخلُقَ أرنبًا أو قِطًّا أو ما أشبَهَ ذلك، بل طائرًا؛ لأنَّ الطيرانَ في الجوِّ أبلغُ من المشي على الأرض، فاختارَ اللهُ له أن يَخلُق طائرًا، يعني: على صورةِ الطَّير .
14- ممَّا يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي أنَّ النَّفْخَ له تأثيرٌ في الأجسادِ إذا أراد الله عزَّ وجلَّ أن يُؤثِّرَ؛ لأنَّه نَفَخَ في الطيرِ الذي صنَعَه فصارَ طائرًا كما في القِراءة الأخرى، لَمَّا نفخَ فيه صارَ حيوانًا من الطيور، ثمَّ طار لتحقُّقِ أنَّه دخلَتْه الرُّوحُ، ومِن ثَمَّ جاءتِ القراءةُ على المريض عن طريقِ النَّفْثِ، والنَّفْث يتضمَّن نفخًا وريقًا، وهذا مؤثِّرٌ بإذنِ الله عزَّ وجلَّ .
15- ممَّا يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي أنَّه لا يُمكن لأيِّ بشرٍ مهما أُوتيَ أن يحصُلَ له مرادُه إلَّا بإذنِ الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ كلَّ جملةٍ أو كلَّ كلمةٍ قيَّدها الله تعالى بإذنه؛ لئلَّا يدَّعِيَ مُدَّعٍ أنَّ الخَلْقَ لهم استقلالٌ في أفعالِهم، فيكون لهذه الفائدةِ فرعٌ، وهو الردُّ على القَدَريَّة، والقَدَرِيَّة هم الذين يقولون: إنَّ الإنسانَ مستقِلٌّ بعملِه، أي يخلُقُ فعلَه بنفسِه، فيأكُلُ ويَشرَبُ، ويَدخُل ويَخرُج، ويتحرَّك ويَسكُن، بإرادةٍ تامَّة ليس لله تعالى فيها تعلُّقٌ، وهذا يعني: إثباتَ خالقٍ مع الله عزَّ وجلَّ، أو إثباتَ مُوجِدٍ للحوادثِ مع الله عزَّ وجلَّ .
16- قَوْلُه: بِإِذْنِي فيه إثباتُ إذنِ الله، والإذنُ المضافُ إلى الله عزَّ وجلَّ ينقسِمُ إلى قِسمين: إذنٍ كونيٍّ قدريٍّ، وإذنٍ شرعيٍّ تعبُّديٍّ؛ مثالُ الإذنِ الكونيِّ: هذه الآيةُ: تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي، ومثالُ الإِذْن الشرعيِّ: قولُ الله تبارك وتعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] ؛ إذ إنَّه مكَّنَ لهؤلاء مِن أنْ يَشْرَعوا لأقوامِهم ما لم يأذنْ به اللهُ، ومكَّن لأقوامٍ أن يَتعبَّدوا بهذه الشريعةِ البِدعيَّة، لكنْ شرعًا لا، والفائدةُ مِن معرفة القِسْمينِ: أنْ نؤمِنَ بأنَّ ما أذِنَ اللهُ فيه قَدَرًا فلا بدَّ من وقوعِه، وما لم يأذنْ به فلا يمكن وقوعُه، أمَّا شرعًا: فما أذِن اللهُ فيه شرعًا فقدْ يقَعُ وقدْ لا يقَعُ، وما لم يأذنْ فيه فقد يقَعُ وقد لا يقعُ، هذا هو الفرقُ .
17- في قوله: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي عطَفَ التذكيرَ بإبراءِ الأَكْمَهِ والأبرَصِ على ما قَبْلَه مباشرةً فلم يبدأْ بـإذ، وبُدِئ بـإذ للتذكيرِ بإخراجِ الموتى، فكان عطفًا على قوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ، ولعلَّ نكتةَ ذلك أنَّ إبراءَ الأكْمَهِ والأَبْرَصِ مِن جِنس شفاءِ المرضِ الذي قد يقعُ بعضُ أفرادِه على أيدي غيرِ الأنبياءِ المرسَلين، ولا سيَّما مَن يظنُّ المرضى فيهم الصَّلاحَ والولايةَ، فلمَّا كان كذلك ذُكِرَ بالتَّبع لإحياءِ الصُّورة من الطَّيرِ، ولَمَّا كان إحياءُ الموتى أعظمَ منه جُعِل نعمةً مستقلَّةً فقُرِنَ بـإِذْ، والمرادُ بالأكمهِ والأبرصِ والموتَى الجِنسُ

.
بلاغة الآيتين:

1- قَوْلُه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ
- فيه إظهارُ الاسمِ الجليلِ اللَّهُ في موضِع الإضمارِ؛ لتربيةِ المهابة، وتشديدِ التهويلِ
.
- وتخصيصُ الرُّسلِ بالذِّكر ليس لاختصاصِ الجَمْعِ بهم دون الأُمَمِ، كيف لا وذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] ، وقد قال اللهُ تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء: 71] ؟! بل لإبانةِ شرَفِهم وأصالتِهم، والإيذانِ بعدمِ الحاجةِ إلى التَّصريحِ بجَمْع غيرِهم بناءً على ظهورِ كونِهم أتباعًا لهم، ولإظهارِ سُقوطِ منزلتِهم، وعدمِ لياقتِهم بالانتظامِ في سِلْكِ جمْع الرُّسُل، كيف لا وَهُم عليهم السلامُ يُجمَعون على وجهِ الإجلالِ، وأولئك يُسحَبون على وجوهِهم بالأغلالِ ؟!
2- قَوْلُه: مَاذَا أُجِبْتُمْ هذا السُّؤالُ لتوبيخِ قَومِهم وأُمَمِهم؛ لتقومَ الحُجَّةُ عليهم، ويَبتدِئ حسابُهم، كما أنَّ سؤالَ الموءودةِ لتَوبيخِ الوائِدِ .
3- قَوْلُه: قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا استئنافٌ مَبنيٌّ على سؤالٍ نشأ مِن سَوْقِ الكلام؛ كأنَّه قيل: فماذا يقولُ الرُّسُلُ عليهم السَّلام هنالك؟ فقيل: يقولون: لَا عِلْمَ لَنَا .
- والتعبيرُ بصيغَةِ الماضي قَالُوا عن المستقبلِ؛ للدَّلالة على التقرُّر والتحقُّق، كما في قوله: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ [الأعراف: 44] ، ونظائرها؛ فعبَّر بالماضي عن المستقبلِ؛ لتحقُّقِ وقوعِه حتى كأنَّه وقَع .
4- قَوْلُه: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فيه: تعليل لذلك، أي فتَعْلَم ما أجابوا وأظهروا لنا، وما لم نَعْلَمْه مما أضمروه في قلوبهم، وفيه إظهارٌ للشَّكَاة، وردٌّ للأمر إلى عِلمه تعالى بما لَقُوا مِن قِبَلِهم من الخطوب، وكابَدُوا من الكروب .
5- قَوْلُه: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ...
- فيه تفصيلٌ بعد إجمال؛ حيث شرَع في بيان ما جرَى بَيْنَه تعالى وبين واحدٍ مِن الرُّسُل المجموعِينَ من المفاوضةِ على التفصيلِ، إثرَ بيانِ ما جرَى بينه تعالى وبين الكلِّ على وجهِ الإجمالِ، وتَخصيصُ شأنِ عيسى عليه السَّلام بالبيانِ تفصيلًا مِن بين شؤونِ سائرِ الرُّسُلِ عليهم السَّلام- مع دَلالتِها على كمالِ هوْلِ ذلك اليومِ، ونهاية سوءِ حال المكذِّبين بالرُّسُل-؛ لأنَّ شأنَه عليه السَّلامُ متعلِّقٌ بكِلَا الفَريقينِ مِن أهلِ الكِتابِ الذين نُعِيَتْ عليهم في السُّورةِ الكريمةِ جِناياتُهم؛ فتفصيلُه أعظمُ عليهم، وأجْلَبُ لحَسرتِهم وندامتِهم، وأَفَتُّ في أعضادِهم، وأدْخَلُ في صَرْفِهم عن غيِّهم وعنادِهم ، فقد وقع الاختلافُ بين طائفتَيِ اليهودِ والنَّصارى فيه إفراطًا وتفريطًا؛ هذه تجعله إلهًا، وهذه تجعله كاذبًا .
- والتعبيرُ بصِيغة الماضِي دُون المستقبَل في قوله: إِذْ قَالَ اللَّهُ...؛ للدَّلالة على تحقُّقِ الوقوعِ، وعلى قُربِ القيامةِ حتى كأنَّها قد قامتْ ووقَعَتْ؛ وكلُّ آتٍ قريبٌ؛ قال الله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] ، وقيل: لأنَّه ورَدَ على حِكاية الحالِ؛ كقولِه تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ [سبأ: 51] وغيره من الآيات، كلُّها خرَج على سبيلِ الحكايةِ عن الحالِ .
- وإظهارُ الاسمِ الجَليل اللَّهُ في مقامِ الإضمارِ؛ للمبالغة في التهويلِ .
6- في قوله تعالى: نِعْمَتِي أضاف اللهُ النِّعمةَ إليه؛ تنبيهًا على عِظَمها .
7- قَوْلُه: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ خُصَّ التوراةُ والإنجيلُ بالذِّكر ممَّا تناوله الكتابُ والحِكمة- على القولِ بأنَّ المرادَ بالكِتابِ والحِكمةِ جِنسُ الكِتاب والحِكمة، فيدخل فيهما التوراةُ والإنجيل- إظهارًا لشَرفِهما .
8- قَوْلُه: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
- فيه التعبيرُ بالمضارعِ عن أفعالٍ مضَتْ (تَخْلُقُ - فَتَنْفُخُ - فَتَكُونُ - وَتُبْرِئُ - تُخْرِجُ)؛ لتصويرِ ذلك الماضِي، وتمثيلِه حاضرًا في الذِّهْن، كأنَّه حاضرٌ في الخارِجِ، لا لإفادةِ الاستمرارِ؛ فإنَّه فِعْلٌ مضَى، والكلامُ تذكيرٌ به كما وقَع إذ وقَع .
وفي هذه الآيةِ مناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قال هنا في سورةِ المائدة: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي، وقال تعالى في سورةِ آل عمرانَ: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 49] ، فخُصَّتْ آيةُ المائدةِ بتأنيثِ الضميرِ والفِعل فِيهَا فَتَكُونُ، وخُصَّتْ آيةُ آل عِمران بتذكيرِ الضميرِ والفِعل فِيهِ فَيَكُونُ، مع أنَّ المذكورَ في الموضعين كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، وهو صالحٌ لأنْ يَعودَ الضميرُ إليه مُذكَّرًا أو مُؤنَّثًا، فيُرادُ (مِثلَ هيئةِ الطَّير)، وهو مُذكَّر، أو يُرادُ (هيئةً كهيئةِ الطَّيرِ)، وهي مُؤنَّثة؛ وذلك أنَّ الآيةَ في سورةِ المائدةِ المخصوصةِ بتأنيثِ الضَّميرِ العائدِ إلى ما يَخلُقه، هي في ذِكر ما عَدَّد اللهُ مِنَ النِّعمِ على عِيسى عليه السَّلام، وما أَصْحَبَه إيَّاه من المُعجِزات، وأَظهرَ على يدِه مِنَ الآيات، وابْتداؤُها: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ... إلى قولِه تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي، والإشارةُ في هذِه الآيةِ ليستْ إلى أوَّلِ ما يُبدِيه لبَنِي إسرائيلَ مِن ذلك مُحتجًّا به عليهم، وإنَّما هي إلى جميعِ ما أَذِنَ اللهُ تعالى في كونِه دَلالةً على صِدقِه، مِن قَبيلِ الصُّوَرِ التي يُصوِّرها من الطِّينِ على هيئةِ الطَّيرِ، وذلك جمعُ التأنيث أَوْلَى به.
وذُكِّرَ الضَّميرُ في فِيهِ مِن آلِ عِمرانَ؛ لأنَّه في سِياقِ إخبارٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ عن عيسى- على نبيِّنا وعليه السَّلامُ- وقولِه عليه السَّلامُ لبَني إسرائيلَ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: آخُذُ مِن الطِّينِ ما أُصوِّرُ منه صورةً على هيئةِ الطيرِ في تَركيبِه، فأنفخُ فيه، فينقلبُ حيوانًا لحمًا، قد رُكِّبَ عظْمًا وخالَط دمًا، واكتسَى ريِشًا وجَناحًا كالطَّائرِ الحيِّ، والقصدُ في هذا المكانِ إلى ذِكر ما تقومُ به حُجَّتُه عليهم، وذلك أوَّلَ ما يُصوَّرُ الطِّينُ على هيئةِ الطير، ويكون واحدًا تلزمُ به الحُجَّة، فالتذكيرُ أَوْلَى به .
- وقيل: إنَّ قوله: فَتَنْفُخُ فِيهَا الضَّميرُ فيه للكافِ في قولِه: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ؛ لأنَّها صِفةُ الهَيئةِ التي كان يَخلُقها عيسى ويَنفُخُ فيها، ولا يَرجِعُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها؛ لأنَّها ليستْ مِن خَلْقِه ولا نَفْخِه في شيءٍ، والكافُ تُؤنَّثُ بحَسَبِ المعنى؛ لدَلالتِها على الهيئةِ التي هي مِثلُ هيئةِ الطَّير، وتُذكَّرُ بحَسَبِ الظَّاهرِ، وإذا كان كذلِك جازَ أنْ يقَعَ الضَّميرُ عنها تارةً على وجه التذكيرِ، وأخرى على وجهِ التأنيثِ؛ وأمَّا وجهُ تخصيصِ كلٍّ مِن الموضعَينِ بالواردِ فيه؛ فمِن وجهين:
الوَجهُ الأوَّل: أنَّ الترتيبَ الذي استقرَّ عليه القرآنُ في سُوَرِه وآياتِه أصلٌ مُراعًى، وعودَة الضَّميرِ على اللَّفظِ، وما يَرجِعُ إليه أَوْلى، وعَوْدَته على المعنى ثانٍ عن ذلِك، وكِلا التَّعبيرينِ عالٍ فصيحٌ، فعادَ في آيةِ آل عِمران على الكافِ؛ لأنَّها تُعاقِب (مِثل)، وهو مُذكَّر، فهذا لحْظٌ لفظيٌّ، ثم عادَ فى آيةِ المائدةِ إلى الكافِ من حيثُ هي في المعنى صِفةٌ؛ لأنَّ المِثل صِفةٌ في التقديرِ المعنويِّ، فحصَلَ مراعاةُ المعنى ثانيًا على ما يجبُ كما ورد في قوله تعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [الأحزاب: 31] بِعَودةِ الضَّميرِ في يَقْنُتْ مُذكَّرًا رَعْيًا لِلَفْظ مَنْ، ثم قال: وَتَعْمَلْ بالتاءِ رَعيًا للمعنى، وهو كثيرٌ، ورَعْيُ اللَّفظِ في ذلك هو الأَوْلَى، فجرَى في آيةِ آل عِمران على ذلِك؛ لأنَّها مُتقدِّمةٌ في الترتيبِ، وجرَى في آيةِ المائدةِ على ما هو ثانٍ؛ إذ هي ثانيةٌ في التَّرتيبِ، وذلك على ما يجبُ.
الوجه الثاني: وهو أنَّه قد ورَدَ قبل ضميرِ آيةِ آل عِمران مِن لَدُنْ قوله تعالى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ... إلى قولِه: فَأَنْفُخُ فِيه [آل عمران: 44- 49] نحوٌ مِن عِشرينَ ضَميرًا مِنَ ضمائرِ المذكَّرِ، فورَدَ الضميرُ في قوله: فَأَنْفُخُ فِيهِ ضميرَ مُذكَّرٍ ليُناسِبَ ما تَقدَّمه، ويُشاكِلَ الأكثرَ الواردَ قَبْلَه. أمَّا آيةُ المائدةِ فمُفْتتَحَةٌ بقوله تعالى: اذْكُرْ نِعْمَتي عَلَيْكَ وخَلْقُه الطائرَ ونفخُه فيه مِن أَجلِّ نِعَمِه تعالى عليه؛ لتأييدِه بذلك، فناسَبَ ذلك تأنيثَ الضَّمير، ولم تَكثُرِ الضمائرُ هنا ككثرتِها هناك، فجاءَ كلٌّ مِنَ الآيتَينِ على أتمِّ مُناسبةٍ ، وقيل غير ذلك .
- جاء هنا بِإِذْنِي أربعَ مرَّات عقيبَ أربعِ جُمَل؛ لأنَّ هذا موضعُ ذِكر النِّعمة، والامتنانِ بها، فناسَب الإسهاب .
- وعبَّر هنا في آية المائدة بقوله: بِإِذْنِي مُضافًا إلى ضَميرِه سبحانه فى أَربعةِ مواضعَ مع وَجازةِ الكلامِ، وتقارُب ألفاظِ الآية، وقد جرَى هذا الغرضُ في آيةِ آلِ عِمران، فورَد فيها ذلك في موضعينِ خاصَّةً مُضافًا إلى اسمِه سبحانه؛ حيث قال: فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 49] ؛ لأنَّ آيةَ آلِ عِمرانَ إخبارٌ وبِشارةٌ لمريمَ بما مَنَح لابنِها عيسى عليه السَّلام، وبمقالِه عليه السَّلامُ لبني إسرائيلَ تعريفًا برِسالتِه، وتحدِّيًا بمعجزاتِه، وتبريئًا مِن دَعوى الاستبدادِ، أو الانفرادِ بِقُدرةٍ في مقاله: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ... إلى قَوْلِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 49] إلى ما بَعْدَه، ولم تتضمَّنْ هذه الآيةُ غيرَ البِشارةِ والإعلامِ.
وأمَّا آيةُ المائدة فقُصِد بها غيرُ هذا، وبُنِيَتْ على تَوبيخِ النصارَى، وتعنيفِهم في مقالِهم في عيسى عليه السَّلامُ؛ فوَرَدتْ متضمِّنةً عَدَّه سبحانه إنعامَه على نبيِّه عيسى عليه السَّلامُ على طريقةٍ تُجارِي العتْبَ، وليس بعَتْبٍ، وذلك كقولِ القائلِ لعبدِه الأحبِّ إليه المتبرِّئِ مِن عصيانِه- ولكلامِ الله سبحانه المثلُ الأعلَى -: ألم أفعَلْ لك كذا؟ ألم أُعْطِكَ كذا؟ ويعدِّد عليه نعمًا ثم يقول: أَفَعَلَ لك ذلك غَيري؟ هل أحسَنْتَ إلى فلانٍ إلَّا بما أعطيتُك؟ فيقصدُ السَّيِّدُ بهذا قطعَ تخيُّل مَن ظنَّ أنَّ ما كان مِن هذا العبدِ مِن إحسانٍ إلى أحدٍ أنَّ ذلك مِن قِبَلِ نفسِه، وليس مِن قِبَل سيِّده، فإذا قرَّره السيدُ على هذا، واعترف العبدُ بأنَّ ذلك كما قال السيِّدُ، انقطعَتْ حجةُ مَن ظنَّ خلافَه، وتوهَّم استقلالَ العبدِ، فعلى هذا النحوِ- واللهُ أعلم- وردت الآيةُ الكريمةُ؛ لذلك تكرَّر فيها ما تَكرَّر مع الآياتِ قولُه تعالى: بِإِذْنِي وتكرَّر ذلك أربعَ مرَّاتٍ عقبَ أربعِ آياتٍ ممَّا خُصَّ به عليه السَّلامُ مِن خَلْقِ الطيرِ، والنَّفخِ فيه فيَحيَا، وإبراءِ الأكْمَهِ والأبرصِ، وإحياءِ الموتَى.
وهي مِن الآياتِ التي ضلَّ بسببِها مَن ضَلَّ مِن النَّصارَى، وحمَلَتْهم على قولِهم بالتثليثِ، تعالى الله عمَّا يقولون عُلوًّا كبيرًا؛ فأعْلمَ اللهُ سبحانه وتعالى أنَّ تلك الآياتِ بإذنِه، وأكَّد ذلك تأكيدًا يرفَعُ توهُّمَ حوْلٍ أو قُوَّةٍ لغيرِ اللهِ سبحانه، أو استبدادٍ ممَّن ظنَّه، ونزَّه نبيَّه عيسى عليه السلامُ عن نِسبةِ شَيءٍ من ذلك لنَفْسِه مُستقلًّا بإيجادِه، أو ادِّعاءِ فِعلِ شيءٍ إلَّا بقُدرةِ ربِّه سبحانه وإذْنِه، وبرَّأه مِن شَنيعِ مقالَتِهم؛ فآيةُ آلِ عمران بشارةٌ وإخبارٌ لمريم، وآيةُ المائدةِ واردةٌ فيما يقولُه سبحانه لعيسى عليه السَّلامُ توبيخًا للنَّصارى، فلمَّا اختلَفَ القصدانِ اختلفتِ العبارتانِ .

==========

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (111 - 115)
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
غريب الكلمات:

أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ: أي: قَذَفتُ في قلوبِهم، ويُطلَقُ الوحيُ والإيحاءُ على إلْقاءِ المعنى إلى صاحبِه، والإلهامِ، والإشارةِ والكِتابة؛ وأصلُ الوَحْي: يدُّل على إلْقاءِ عِلمٍ في إخفاءٍ، وكلُّ ما ألْقَيتَه إلى غَيرِك حتَّى عَلِمَه فهو وَحْيٌ كيف كانَ
.
و الْحَوَارِيِّينَ: جمْع حوارِيٍّ، وهمْ أصفياءُ عِيسى عليه السَّلام، وشِيعتُه وناصِرُوه، وخُلاصةُ أصحابِه، وشاعَ استعمالُه في الَّذين خَلَصوا، وَأَخْلصُوا فِي التَّصْدِيق بالأنبياءِ ونُصرتِهم؛ قيل: سُمُّوا بذلك؛ لأنَّهم كانوا يُحوِّرون الثِّياب، أي: يُبيِّضونَها، واشتقاقُهُ من حُرْتُ الثوبَ، أي: أَخْلَصْتُ بياضَه بالغَسْلِ، ومنه يُقال للدَّقيق الأبيضِ النَّقيِّ: حُوَّارَى. وقيل: اشتقاقُه مِن: حارَ يحورُ: إذا رجَع، فكأنَّهم الرَّاجعونَ إلى اللهِ، وقيل: هو مُشتَقٌّ مِن نقاءِ القَلْبِ وخُلوصِه وصِدْقه .
عِيدًا: أي: يَومًا نُعظِّمه، ونَعبُد اللهَ ونُصلِّي له فيه، وهو اليومُ الذي نزَلَتْ فيه المائدةُ، والعيد: كلُّ ما يُعاوِدُ الإنسانَ مرَّةً بَعدَ أُخْرَى، وأصل (عود): يدلُّ على تَثنيةٍ في الأمْرِ، ومنه العيدُ؛ لأنَّه يَعودُ كلَّ عامٍ، أو لأنَّه يُعادُ إليه أو لأنَّه اعتِيدَ

.
المعنى الإجمالي:

يُذكِّر اللهُ تعالى نبيَّه عيسى عليه السَّلامُ ممتنًّا عليه بما يَسَّر له مِن أتْباعٍ، وأنَّه ألْهمَ سبحانه وتعالى الحواريِّينَ- وهم الخُلَّص من أصحابِ عيسى عليه السَّلامُ- أن يُؤمِنوا به عزَّ وجلَّ وبرسولِه عيسى عليه السلامُ، فأَعْلنوا إيمانَهم، واستشهدوه على أنَّهم مُسلِمونَ.
ثم يُذكِّر اللهُ سبحانه عيسى عليه السَّلام أيضًا حين قال له الحواريُّون: هل يفعل ربُّك إذا سألتَه أن يُنزِّل علينا مائدةَ طعامٍ من السَّماءِ، فأمَرَهم عيسى عليه السَّلام أن يتَّقوا اللهَ ولا يَطلُبوا هذا الأمرَ إنْ كانوا حقًّا مؤمنينَ. فأجابوه أنَّهم يُريدون أنْ يأكُلوا منها؛ لتَطمئِنَّ قلوبُهم، ويعلموا يَقينًا أنَّ عيسى صادقٌ فيما جاءَ به، ويكونوا شهودًا على هذه الآيةِ التي نزلتْ مِن الله، ويُبلِّغوها لِمَن لم يَشهَدْها، حينَها دعَا عيسى ربَّه أنْ يُنَزِّلَ عليهم مائدةً من السَّماء؛ تكونُ عيدًا لهم ولِمَن بعدَهم، وعلامةً وبُرهانًا منه تعالى تدلُّ على وحدانيَّتِه، وعلى صِدق ما جاء به عيسى، وأنْ يَرزُقَهم تعالى وهو خيرُ الرَّازقينَ. فأجابَ اللهُ سبحانه أنَّه مُنزِّلها عليهم، لكنْ مَن كفَرَ بعد إنزالِ هذه الآيةِ فإنَّه تعالى سيُعذِّبُه عذابًا شديدًا، لا يُعذِّبُه أحدًا من العالَمِين.
تفسير الآيات:

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111).
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي.
أي: واذْكر أيضًا- يا عيسى- إذ يسَّرْتُ لك أتْباعًا وأنصارًا، فألهمتُ الخُلَّصَ مِن أصحابِك، وألقيتُ في قلوبِهم الإيمانَ بي وبرسولي
.
قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ.
أي: قال الحواريُّون: آمنَّا بما وجَب علينا اعتقادُه بقلوبِنا، واشهدْ علينا بأنَّنا خاضِعونَ لله تعالى، طائِعون له بأعمالِنا .
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قِراءتان:
1- قراءة (تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ) على الخِطاب من الحواريِّين لعيسى عليه السلام، يعني: هل تَقدِر يا عيسى، أنْ تَسألَ ربَّك، وكان الأَصْلُ على هذه القِراءَةِ (هَلْ تستطيعُ سؤالَ رَبِّك)، فحُذِفَ المضافُ (سُؤالَ)، وأُقيمَ المضافُ إليه (رَبِّك) مُقامَه؛ فأخَذَ إعرابَه فنُصِبَ .
2- قِراءة يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ، أي: هلْ يَفعلُ ربُّك؟ فلَفْظُه لفظُ الاستفهامِ، ومعناه معنى الطَّلبِ والسُّؤالِ .
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ.
أي: اذكرْ حين قال الحواريُّون طلبًا لزيادةِ اطمئنانِ قُلوبِهم: يا عيسى ابنَ مريمَ، هل يفعَلُ ربُّك إذا سألتَه أن يُنزِّلَ علينا مائدةَ طعامٍ من السَّماءِ ؟
قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: قالَ عيسى عليه السَّلامُ للحواريِّين: الْزَموا التَّقوى، ولا تَسألُوا هذا الأمرَ إنْ كنتُم مؤمنينَ حقًّا، وإذا كنتُم كذلك فما حاجتُكم إلى هذه المعجزةِ ؟!
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113).
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا.
أي: قال الحواريُّون: إنَّما أَرَدْنا مِن سؤالِك ذلك، التشرُّفَ بالأكلِ مِن تلك المائدةِ، فنعلمُ يقينًا قدرةَ الله على كلِّ شيء، وتسكُن بذلك قلوبُنا، ويَستقرُّ إيمانُها .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] .
وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ.
أي: ونعلمَ يقينًا صِدقَك يا عيسى، وصِدقَ ما جئتَ به، ونشهدَ على أنَّ المائدةَ آيةٌ من عند الله عزَّ وجلَّ، وحُجَّةٌ لنا نُبلِّغها مَن لم يَشهَدْها .
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114).
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا.
أي: دعَا عيسى عليه السَّلامُ ربَّه سبحانه مستجيبًا لطلبِ الحواريِّين، فقال: اللهمَّ ربَّنا، أنزِلْ علينا مائدةَ طعامٍ من السَّماء، نتَّخِذُ وقتَ نزولها عيدًا نَعبُدك فيه، ونتذكَّرُها نحن ومَن بعدَنا .
وَآيَةً مِنْكَ.
أي: وتكونُ حجَّةً وعلامةً منك، يا ربِّ، على عبادِك، دالَّةً على وحدانيَّتِك وصِفاتِك، وعلى صِدْقِ ما جئتُ به .
وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
أي: وأعْطِنا مِن عِندِك؛ فإنَّك يا ربِّ، خيرُ مَن يُعطي؛ فلا أحدَ أكرمُ منك .
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115).
أي: قال اللهُ تبارَك وتعالى: إنِّي مُنزِّلها عليكم فمُطعِمكُموها، ولكن مَن وقَعَ منكم في الكفرِ بعدَ إنزالي هذه الآيةَ العظيمةَ، فإنِّي أُوقِعُ عليه عذابًا شديدًا، لا أُعذِّبُه أحدًا من عالَمِي زمانِه

.
الفوائد التربوية:

1- قَوْلُه تعالى: هَلْ يَسْتَطِيعُ يدلُّ على التلطُّف والتأدُّب في السُّؤالِ، كما هو مناسبٌ لأهل الإيمانِ الخالِصِ، ليس شكًّا في قُدرةِ الله تعالى، ولكنَّهم سألوا آيةً لزيادَةِ اطمئنانِ قلوبِهم بالإيمانِ، بأن ينتقِلوا من الدَّليل العقليِّ إلى الدَّليلِ المحسوس؛ فإنَّ النفوسَ بالمحسوسِ آنَسُ، كما لم يكن سؤالُ إبراهيمَ بقوله: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة: 260] شكًّا في الحالِ
.
2- في قوله تعالى: اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أمْرٌ بملازمة التَّقوى، وعدمِ تزلزلِ الإيمان؛ ولذلك جاءَ بـ إنْ المفيدة للشكِّ في الإيمانِ؛ ليعلمَ الداعي إلى ذلك السؤالِ خشيةَ أنْ يكونَ نشأَ لهم عن شكٍّ في صِدْقِ رَسولِهم، فسألوا معجزةً يَعلمون بها صِدقَه بعدَ أن آمنوا به، وهو قريبٌ من قوله تعالى لإبراهيمَ المحكيِّ في قوله: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [البقرة: 260] ، أي: ألم تكُن غنيًّا عن طَلَبِ الدَّليل المحسوس؛ فالمرادُ بالتقوى في كلامِ عيسى ما يَشملُ الإيمانَ وفروعَه .
3- أنَّه يَنبغي للإنسانِ في حالِ الدُّعاء أنْ يذكُر هذينِ المعنيَيْنِ: الألوهيَّةَ والربوبيَّةَ؛ لِقَوْلِه: اللَّهُمَّ رَبَّنَا؛ لأنَّ هذا نوعٌ من التوسُّل؛ يتوسَّلُ الإنسانُ بألوهيَّةِ الله عزَّ وجلَّ وربوبيَّتِه

.
الفوائد العلمية واللطائف :

1- إثباتُ وحيِ الله عزَّ وجلَّ؛ لِقَوْلِه: وَإِذْ أَوْحَيْتُ، ووحيُ الله ينقسِمُ إلى قِسمين: وحيُ شرْعٍ، وهو لا يكون إلَّا للأنبياءِ والرُّسُل، ووحيُ إلهامٍ كما في قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7] ، وقولِه تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [النحل: 68] ، فالأوَّل يتعلَّق بالشَّرعِ، والثاني يتعلَّقُ بالكَوْنِ
.
2- في قوله تعالى: أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ قدَّم اللهُ تعالى ذِكْرَ الإيمانِ على الإسلامِ؛ لأنَّ الإيمانَ صِفةُ القلْبِ، والإسلامَ عبارةٌ عن الانقيادِ والخُضوعِ في الظَّاهِرِ، يعني: آمِنوا بقلوبِـكم، وانَقادُوا بظواهِرِكم .
3- أنَّ الإيمانَ باللهِ لا يتمُّ إلَّا بالإيمانِ برسولِه؛ لِقَوْلِه: أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي .
4- جوازُ حذْفِ المعلوم؛ حيث قالوا: آمَنَّا ولم يقولوا: بكَ وبرسولِك؛ لأنَّ هذا معلومٌ، فالمُطلَق يُحمَل على المقيَّدِ إذا كان معلومًا، فإذا عقَد الإنسانُ عَقْدًا، وذكَر عند الإيجابِ شُروطًا، فقال الآخَرُ: قبلتُ البيعَ منك؛ مثال ذلك قال: بعتُك هذا البيتَ على أن أسكُنَ فيه سَنةً، فقال: قبلتُ البيعَ؛ هل يَثْبُت الشَّرطُ؟ نعمْ يَثبُت؛ لأنَّ قبولَه البيعَ، يعني القَبولَ بهذا الشَّرطِ، وإنْ لم يُذْكَر، لكنَّه معلومٌ من السِّياقِ .
5- جوازُ استثباتِ الشيءِ بالإشهادِ عليه؛ لِقَوْلِه: واشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ .
6- قَوْلُه: آمَنَّا واشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ، استُدلَّ به على أنَّ الإيمانَ هو الإسلامُ، ولكنَّ هذا القولَ على إطلاقِه فيه نظرٌ، والصوابُ أنَّ الإسلامَ إذا أُفرِدَ دخَل فيه الإيمانُ، وإذا ذُكِرَ مع الإيمانِ صارَ له معنًى آخَرُ، ويدلُّ لهذا التفصيلِ قولُ الله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ، يعني: لم يدخُلْ لكن قريبًا يدخُلُ؛ لأنَّ (لَمَّا) تُفيدُ النَّفيَ مع قُربِ المنفيِّ، وتُخَرَّج هذه الآيةُ بناءً على ذلك بأنَّهم جمَعوا بين الإيمانِ والإسلامِ، فيكون الإيمانُ في القلوبِ، والإسلامُ في الجوارحِ، يعني: أنَّهم آمنوا وانقادُوا انقيادًا تامًّا لأوامرِ اللهِ ورسولِه .
7- في قولِه تعالى: قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ أتتْ هذه المعاطيفُ مُرتَّبةً ترتيبًا لطيفًا؛ وذلك أنَّهم لا يأكلونَ منها إلَّا بعدَ مُعاينةِ نُزولِها، فيجتمع على العِلم بها حاسَّةُ الرؤيةِ وحاسَّةُ الذَّوق؛ قال تعالى: نَأْكُلَ مِنْهَا فبذلِك يزولُ عن القَلْب قلقُ الاضطراب، ويَسكُنُ إلى ما عاينَه الإنسانُ وذاقَه وتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا، وباطمئنانِ القلبِ يَحصُلُ العلمُ الضروريُّ بصِدقِ مَن كانتِ المعجزةُ على يديه؛ إذ جاءت طِبْقَ ما سألَ وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا .
8- قَوْلُه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ هذه مُتعلِّقة بقولِه: اتَّقُوا اللَّهَ؛ لأنَّ الإيمانَ يَحمِلُ على التقوى، وهي شرطٌ في قوله: اتَّقُوا اللَّهَ .
9- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ أنَّ وقوعَ الشيءِ يُعطي يقينًا أكثرَ من الخبرِ به .
10- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه تعالى: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ أنَّ عيسى ابنَ مريمَ مُفْتقرٌ إلى الله تعالى وإلى عطائِه، وكذلك الأنبياءُ عليهم الصَّلاة والسَّلام؛ فإنَّهم جميعًا لا يَستطيعون أنْ يأتوا بكلِّ ما يُطلَب منهم، وأنَّهم كغيرهم؛ مُفتقِرون إلى الله، يَسألونَه ويَلجؤُون إليه، فعيسى عليه السلام يُنادي: يا أللهُ، يا ربَّنا، إنَّني أَدْعوك أنْ تُنَزِّلَ علينا مائدةً من السَّماء، تَعمُّنا بالخير والفرحةِ كالعيد، فتكون لنا عيدًا لأوَّلنا وآخِرنا، وأنَّ هذا من رِزقِك، فارزقْنا وأنت خيرُ الرازقين؛ فهو إذَنْ يعرف أنَّه عبدٌ، وأنَّ الله ربُّه، ويَنبني على هذه الفائدةِ بطلانُ دعوى النَّصارى: أنَّه إلههُم .
11- في قوله تعالى: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ سأل عيسى عليه السَّلام نزولَها وأنْ تكونَ لهاتين المصلحتَينِ: مصلحة الدِّين، بأن تكونَ آيةً، ومصلحة الدنيا، وهي أنْ تكونَ رزقًا .
12- أنَّ ما جاء على خِلاف المعهودِ وكان خارقًا للعادة فهو آيةٌ؛ لِقَوْلِه: وَآيَةً مِنْكَ وجهُ ذلك أنَّه لم يُعْهَد أنَّ المائدة تَنْزلُ من السَّماء عِيانًا يُشاهدُها النَّاسُ، فيكونُ نزولُها- ولا سيَّما أنَّه بطَلَبٍ بعد اقتراحٍ- آيةً ودليلًا على صِدْق مَن تَكلَّم بالرِّسالة .
13- في قولِه تعالى: وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ إطلاقُ الرِّزق على غيرِ الله عزَّ وجلَّ؛ بمعنى: أنَّه يَصِحُّ أنْ نَصِفَ غيرَ الله بأنَّه رازقٌ؛ لأنَّ الرِّزْق بمعنى: العطاء، ولكنَّ الرِّزقَ الأكمَل والأَوفى هو رِزقُ الله تبارك وتعالى .
14- إثباتُ الكلامِ لله عزَّ وجلَّ؛ لِقَوْلِه: قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ، وأنَّ كلامَه تعالى بحرفٍ وصوتٍ؛ لأنَّه تعالى قال قولًا وصَل إليه، ولا يُمكن أنْ يصلَ إليه إلَّا بصوتٍ، وأنَّ كلامَ الله تبارك وتعالى بحرفٍ، بل بحروفٍ متتابعةٍ؛ لأنَّ اللهَ قال: إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ وهذه حروفٌ متتابعةٌ لا إشكالَ فيها .
15- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ خطَرُ طلبِ الآياتِ من الأُمَم، وأنَّه إذا جاءتِ الآياتُ المطلوبةُ فقد عرَّضوا أنفُسَهم للهلاكِ، ففيه وعيدٌ وتهديدٌ مِن الله بهلاكِ مَن يكذِّبُ بعدَ المعجزة؛ حتى لا يُصبحَ طلبُ الخوارقِ تسليةً ولهْوًا، وحتى لا يَمضِيَ الذين يَكفُرون بعدَ البرهانِ المفحِم دون جزاءٍ رادعٍ، وقد ذكَر أهلُ العِلم رحمهم الله أنَّه متى طَلبتِ الأمَّةُ آيةً معيَّنةً وحصَلت لهم؛ حقَّ عليهم العذابُ ، وفيه أتمُّ زاجرٍ لهذه الأمَّة عن اقتراحِ الآياتِ .
16- قَوْلُه تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ فيه تحذيرٌ لهم من الوقوعِ في الكُفْر بعد الإيمان؛ إعلامًا بأهميَّةِ الإيمانِ عند الله تعالى، فجعَل جزاءَ إجابتِه إيَّاهم ألَّا يعودُوا إلى الكُفرِ؛ فإنْ عادوا عُذِّبوا عذابًا أشدَّ من عذابِ سائرِ الكفَّار؛ لأنَّهم تَعاضَدَ لديهم دليلُ العقلِ والحِسِّ؛ فلم يَبقَ لهم عُذْرٌ .
17- إثباتُ أنَّ العذابَ له أَعْلى وله أَدْنى؛ لِقَوْلِه: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فهذا دليلٌ على أنَّ العذابَ يتفاوتُ من شخصٍ لآخَر، وتفاوُتُ العذابِ أسبابُه كثيرة؛ منها: قلَّة الدَّاعي إلى الذنبِ؛ فإنَّ قلَّة الدَّاعي إلى الذَّنب تُوجِبُ شِدَّةَ العقوبةِ عليه، وانظرْ إلى قولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ثلاثةٌ لا يُكلِّمهم الله يومَ القيامةِ، ولا يُزكِّيهم- وفي روايةٍ: ولا ينظرُ إليهم- ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، وملِكٌ كذَّابٌ، وعائِلٌ مستكبرٌ )) .
18- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ أنَّ كُفرَ مَن رأوا الآياتِ ليس ككُفرِ مَن لم يَرَوْها؛ فالأوَّل أعظمُ، أي: مَن رأى الآياتِ؛ لأنَّ مَن رأى الآياتِ فقد رآها عينَ اليقينِ، ومَن نُقِلَتْ إليه فقدْ عَلِمَها عِلمَ اليقين، أي: بواسطةٍ

.
بلاغة الآيات:

1- قَوْلُه: أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي في إيرادِ اللهِ تعالى لعِيسى عليه السَّلام بعنوانِ الرِّسالة وَبِرَسُولِي تَنْبيهٌ على كيفيَّةِ الإيمانِ به عليه السَّلام، كأنَّه قيل: آمِنوا بوحدانيَّتي في الأُلوهيَّة والرُّبوبيَّة، وبرِسالة رسولي، ولا تُزيلوه عن حيِّزه حطًّا ولا رَفعًا
، مع ما في الإضافةِ مِن التَّشريفِ له.
2- قَوْلُه: قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ
استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من سَوقِ الكلام، كأنَّه قيل: فماذا قالوا حِينَ أُوحيَ إليهم ذلك؟ فقيل: قالوا: آمنَّا... .
- وفيه مناسبة حسَنةٌ، حيث ثبتَتْ النونُ في آية المائدة هنا في قوله: بِأَنَّنَا، وحُذفت من بِأَنَّا في آية آل عِمران في قوله: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 52] ؛ تخفيفًا، وكِلاهما جائز، والإثباتُ هو الأصل، ووجهُ تخصيصِ كلٍّ من الموضعين بما ورد فيه: أنَّ آية المائدة لَمَّا ورد فيها التفصيلُ فيما يجبُ الإيمانُ به، وذلك قوله: أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي فجاءَ على أتمِّ عبارةٍ في المطلوب وأوفاها، ناسَب ذلك ورود أَنَّنَا على أوْفَى الحالين، وهو الورود على الأصل. وقيل: لَمَّا كان الإيمانُ باطنًا فلا بدَّ في إثباتِه من دليلٍ ظاهر، وكان في سِياقِ عدِّ النِّعم، والطواعيةِ لوحيِ الملِك الأعظمِ دلُّوا عليه بتمامِ الانقيادِ، ناسَبَ المقامَ زيادةُ التأكيدِ بإثبات النون الثالثةِ في قولِهم: وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا بخِلاف آل عمران.
- وأيضًا قال تعالى في آل عمران: آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ... [آل عمران: 52] ، وقال هنا في المائدة: آمَنَّا وَاشْهَدْ... [المائدة: 111] دون قوله: بِاللَّهِ؛ لأنَّه لَمَّالم يقعْ إفصاحٌ بهذا التفصيلِ في آيةِ آل عمران؛ حيث قال: قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ، فلم يقع فيها (وَبِرَسُولِهِ)؛ إيجازًا للعِلم به وشهادةِ السِّياق، ولأنَّه تقدَّم ذِكر اللهِ فقطْ في آل عمران، وهنا في المائدة جاء قَالُوا آمَنَّا فلم يَتقيَّد بلفظ الجلالةِ؛ إذ قد تقدَّم وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي؛ فناسَب ما في آل عمران الإيجازَ، كما ناسَب الإتمامُ في آيةِ المائدةِ الإتمامَ، وجاء كلٌّ على ما يجب، ولو قُدِّر ورودُ العكسِ لَمَا ناسَب، والله سبحانه أعلمُ بما أراد .
3- قَوْلُه: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى... كلامٌ مستأنفٌ لبيانِ بعضِ ما جرَى بين عيسى عليه السَّلام وقومِه، وهو منقطِعٌ عمَّا قبله بدليلِ الإظهارِ في موقِع الإضمارِ- حيث قال: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ، ولم يقل: (قالوا)- وإِذْ منصوبةٌ بفعل مُضمَر، تقديره: اذْكُر، وخُوطِبَ به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِطَريقِ تلوينِ الخطابِ والالتفاتِ .
- وابْتدأَ الحواريُّون خِطابَهم عيسى بندائِه باسمِه؛ للدَّلالة على أنَّ ما سيقولونَه أمرٌ فيه اقتراحٌ وكُلْفةٌ له، وكذلك شأنُ مَن يُخاطِب مَن يَتجشَّم منه كُلْفةً أن يُطيلَ خِطابَه؛ طلبًا لإقبالِ سمْعِه إليه؛ ليكون أوْعَى للمقصودِ .
4- قَوْلُه: رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا فيه: تقديمُ الظرفِ عَلَيْنَا على المفعولِ: مَائِدَةً للاهتمامِ بالمقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المؤخَّر .
- وأسندَ ذلك إلى المائدةِ في قَوْله: تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأنَّ شَرفَ اليومِ مُستعارٌ مِن شرَفِها .
5- قَوْلُه: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تذييلٌ جارٍ مجرَى التَّعليل، أي: خيرُ مَن يرزقُ؛ لأنَّه خالقُ الأرزاقِ، ومُعطيها بلا عِوَضٍ .
6- قَوْلُه: إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ التعبيرُ عن الجوابِ بصِيغة التَّفعيل مُنَزِّلُهَا، المُنْبِئَةِ عن التكثيرِ، مع كونِ الدُّعاءِ منه عليه السَّلام بصيغة الإفعال أَنْزِلْ؛ لإظهارِ كمال اللُّطفِ والإحسانِ، مع ما فيه مِن مراعاةِ ما وقَع في عِبارة السَّائلين يُنَزِّل .
- وفي تصديرِ الجُملةِ بكلمة التحقيق (إنَّ) وجعْل خبرها اسمًا (مُنزِّل) تحقيقٌ للوعد، وإيذانٌ بأنَّه تعالى مُنْجِزٌ له لا محالةَ، مِن غير صارفٍ يُثْنيه، ولا مانعٍ يلويه
============

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (116 - 120)
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﰤ
غريب الكلمات:

تَوَفَّيْتَنِي: أي: قبَضْتَني إليك؛ يُقال: تَوَفَّيْتُ الشيءَ واستوفيتُه: إذا أخذتَه كلَّه حتى لم تتركْ منه شيئًا، واستيفاءُ الشيءِ استقصاؤُه كلِّه، ومنه يُقال للميِّت: توفَّاه اللهُ، وأصل (وفي): يدلُّ على إكمالٍ وإتمام
.
الرَّقِيبَ: أي: الحافظَ، والعالمَ، والمطَّلِعَ، وأصل (رقب): انتصابٌ لمراعاةِ شيءٍ

.
مشكل الإعراب:

قوله: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.
يَوْمُ: قُرِئَ بالرَّفْعِ والنَّصب، وهو مُعرَبٌ على القَوْلِ المُختارِ؛ لأنَّه مُضافٌ إلى مُعرَب، فبَقِيَ على حَقِّه من الإعرابِ؛ فعلى قِراءة الرَّفع فهو خبرٌ لـهَذَا. وعلى قِراءة النصبِ فهو منصوبٌ على أنَّه ظرفٌ للخبرِ المحذوفِ، أي: هذا يقَعُ أو يكونُ يَومَ يَنفعُ. وقيل: إنَّ «يَوْمَ» مبنيٌّ في مَوضِعِ رفعٍ خَبرُ هَذَا، ولكنَّه بُنِيَ على الفتْح؛ لإضافَتِه إلى الفِعلِ، وجُملة هَذَا يَوْمُ.. مَقولُ القولِ في مَحلِّ نصْبٍ

.
المعنى الإجمالي:

يُذكِّرُ اللهُ تعالى بقولِه لعِيسى عليه السَّلام يَومَ القيامة بحَضرةِ النَّصارى؛ توبيخًا لهم: يا عيسى ابنَ مريم، هل أنتَ أَمَرْتَ الناسَ أن يَجعلوك وأمَّك معبودَينِ، تُعْبَدانِ مِن دون اللهِ تعالى؟ فيُجيبُ عيسى عليه السَّلام: أُنزِّهُك يا ربِّ، عن كلِّ ما لا يَليق بك؛ لا يَنبغي لي أنْ أقولَ ما ليس لي بحقٍّ، إنْ كنتُ قلتُه فأنت تعلمُه؛ فإنَّه لا يَخفى عليك شيءٌ، فأنت تَعلمُ ما أُضْمِرُه في نفْسي، ولا أعلمُ ما تُخْفيه في نفْسِك؛ إنَّك أنتَ علَّامُ الغيوب. ما قلتُ لهم إلَّا ما أمَرْتَني به أن يَعبدُوك؛ فإنَّك ربِّي وربُّهم، وكنتُ شاهدًا على أعمالِهم حينَ كنتُ بينهم، فلمَّا قبَضْتَني برَفْعي إلى السَّماء حيًّا، كنتَ أنتَ المطَّلِعَ عليهم، وأنتَ على كلِّ شيءٍ شهيدٌ، إنْ تُعذِّبْهم فإنَّهم عِبادُك تفعلُ بهم ما تشاءُ، وإنْ تغفرْ لهم فإنَّك أنتَ العزيزُ الحكيم. قال الله مجيبًا له: هذا اليوم- الذي هو يومُ القيامة- هو الوقتُ الذي يَنفعُ الصَّادقين صِدقُهم، لهم جنَّاتٌ تَجري الأنهارُ من تحتِ أشجارِها وقصورِها، ماكثينَ فيها على الدَّوامِ، رضِي اللهُ عنهم ورضُوا عنه، ذلك هو الفوزُ العظيم.
ثم أخبَر تعالى أنَّ له وحْدَه مُلكَ السَّموات والأرض وما فيهنَّ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
تفسير الآيات:

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116).
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
أي: واذكُرْ يا محمَّدُ حِينَ يقولُ اللهُ تعالى لعيسى عليه السَّلام يومَ القيامةِ بحَضرةِ النَّصارى توبيخًا لهم: يا عيسى ابنَ مَريمَ، هل قُلتَ بنفسِك للنَّاس: اجْعَلوني أنا وأُمِّيَ مَعبودَينِ مِن دونِ اللهِ سبحانه وتعالى
؟
قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ.
أي: قال عيسَى عليه السَّلامُ: أُنزِّهك يا ربِّ، عن هذا الأمرِ الذي لا يَليق بكَ، وما يَنبغي لي أنْ أدَّعِيَ ذلك؛ فما أنا وأمِّي إلَّا عَبْدانِ مِن عِبادِك .
إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ.
أي: إنْ كان قد صدَرَ منِّي هذا فقدْ عَلِمْتَه يا ربِّ؛ فإنَّه لا يَخفَى عليكَ شيءٌ ممَّا قلتُه .
تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ.
أي: وأنتَ تَعلمُ يا ربِّ، ما أضمرتُه في نفْسي ممَّا لم أنطقْ به؛ فكيفَ بما قد نطقتُ به؟ ولا أعلمُ أنا ما أَخفيتَه عنِّي في نفْسِك، فلمْ تُطْلِعْني عليه؛ لأنِّي لا أعلمُ مِن الأشياءِ إلَّا ما أعلمتَنِيه؛ فأنت الربُّ الخالقُ، وأنا العبدُ المخلوق .
قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق: 16] .
إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
أي: فأنتَ العالمُ بخَفيَّاتِ الأمورِ التي لا يَعلمُها سِواكَ .
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117).
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.
أي: ما قلتُ لهم إلَّا الذي كلَّفْتني بإبلاغِه؛ فأنا عبدٌ متَّبِعٌ لأمرك، لا مُتجرِّئٌ على عظمتِك، فمَا أمرتُهم إلَّا بعبادةِ الله تعالى وحْدَه، الذي هو ربِّي وربُّهم، فأنا عبدٌ مربوبٌ مِثلُهم .
وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ.
أي: كنتُ شاهدًا على أعمالِهم حِينَ كنتُ بين أظهُرِهم .
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ.
أي: فلمَّا قبَضْتَني إليك كنتَ أنتَ المطَّلِعَ عليهم دُوني .
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: ((قامَ فينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطيبًا بموعظةٍ، فقال: يا أيُّها الناسُ، إنَّكم تُحشَرون إلى اللهِ حُفاةً عراةً غُرْلًا؛ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] ، ألَا وإنَّ أوَّلَ الخَلائقِ يُكسَى يومَ القيامةِ إبراهيمُ عليهِ السلامُ، ألَا وإنَّهُ سيُجاءُ برِجالٍ من أُمَّتي، فيُؤْخَذ بهم ذاتَ الشِّمالِ، فأقولُ: يا ربِّ، أصحابي، فيقال: إنَّك لا تَدري ما أحْدَثوا بعدَك، فأقول، كما قال العبدُ الصالحُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيٍء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحْكَيمُ [المائدة: 117- 118] ، قال: فيقال لي: إنَّهم لم يزالوا مُرتدِّينَ على أعقابِهم منذُ فارقْتَهم )) وفي رواية: ((فيقال: إنَّك لا تَدْري ما أحْدَثوا بعدَك)) .
وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
أي: وأنتَ الذي تَشهَدُ على كلِّ شيءٍ، ولا يَخفى عليك شيءٌ، ثم تُجازي عبادَك بحسَب ما قدَّموه من خيرٍ وشرٍّ .
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118).
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ.
أي: إنْ تُقدِّرْ لهم فِعلَ ما يَستحقُّون أن يُعذَّبوا عليه؛ لأنَّهم أهلٌ لذلك، فإنَّهم عبادُك، الذين أنتَ أرحمُ بهم من أنفسِهم وأمَّهاتِهم، وأعلمُ بأحوالِهم، فلولا أنَّهم عبادٌ مُتمرِّدون مستحقُّون للعذابِ لم تُعذِّبْهم، وهم عِبادٌ مستسلِمون لك طَوعًا أو كَرهًا؛ فلا يَقدِرون على الامتناعِ ممَّا أردتَ بهم، ولا يَدْفَعون عن أنفُسِهم ضرًّا يَحُلُّ بهم .
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: وإنْ قدَّرتَ لهم أسبابَ المغفرةِ فغَفرتَ لهم، فذلك صادرٌ عن تمامِ عِزَّتك (عزَّة القَدْر والقَهرِ والغَلبةِ والامتناعِ)، لا عنْ عجزٍ وذلٍّ وضَعْف؛ فإنَّك إن أردْتَ الانتقامَ منهم؛ فلا يقدِرُ أحدٌ أن يمنعَ عنك ذلك، لأنَّك العزيز، وصادرٌ أيضًا عن حِكمةٍ؛ فمِن مُقتضَى حِكمتِك أنْ تغفرَ لِمَن أتَى بأسبابِ المغفرةِ، فأنت الحكيمُ، تهدي مَن هدَيتَ مِن خَلقِك إلى التوبةِ، ونَيلِ مغفرتِك .
عن عبد اللهِ بنِ عَمرٍو رضي اللهُ عنهما: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تلا قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ في إبراهيمَ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الآية، وقال عيسى عليه السَّلامُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فرفعَ يديهِ وقال: اللهُمَّ، أُمَّتي أُمَّتي، وبكَى! فقال اللهُ عزَّ وجلَّ: يا جبريلُ، اذهبْ إلى محمَّدٍ- وربُّكَ أعلمُ- فسَلهُ ما يُبكيكَ؟ فأتاهُ جبريلُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فسَألهُ، فأخبرهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بما قالَ- وهو أعلمُ- فقال اللهُ: يا جبريلُ، اذهبْ إلى محمَّدٍ فقلْ: إنَّا سنُرضِيكَ في أُمَّتكَ ولا نَسُوءُكَ )) .
وعن أبي ذرٍّ رضِي اللهُ عنه، قال: ((قامَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بآيةٍ حتى أصبحَ يُردِّدُها ، والآيةُ: إِنْ تُعَذِّبْهُم فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) .
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا انقَضَى جوابُ عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام على هذا الوجهِ الجليلِ من تفويضِ الأمْر للهِ في قوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، تشوَّف السامعُ إلى جوابِ اللهِ له، فقال تعالى مشيرًا إلى كونِ جوابه حقًّا ومضمونه صِدقًا، منبِّهًا على مَدْحه، حاثًّا على ما بُنِيَت عليه السُّورةُ مِن الوفاءِ بالعُقود .
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ قراءتان:
1- قراءة هَذَا يَوْمَ بنَصْب يَوْمَ وجَعْلِه ظرفًا للفِعل يَنْفَعُ، وجَعْل هَذَا إشارةً إلى ما تقدَّم من الكلام، فقيل: المعنى أنَّ هذا الغُفرانَ والعذابَ يقع في يومِ يَنفعُ الصَّادقين صِدقُهم ، وقيل: المعنى أنَّ الله تعالى أجابَ عيسى حين قال: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ إلى قولِه: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فقال له عزَّ وجلَّ: هذا القولُ النافعُ، أو هذا الصِّدقُ النافعُ يومَ يَنفعُ الصَّادقين في الدُّنيا صِدقُهم ذلك في الآخِرة عندَ الله؛ فاليومَ وقتُ القولِ والصِّدقِ النَّافع .
2- قِراءة هَذَا يَوْمُ برَفْع يَوْمُ وجَعْل هذا مبتدأً، ويَوْمُ يَنْفَعُ خبرًا، والمعنى: أنَّ هذا يومُ منفعةِ الصَّادقين .
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.
أي: قال اللهُ تعالى مُجيبًا لعيسى عليه السَّلام: يومُ القيامةِ هذا هو الوقتُ الذي يَجِدُ فيه الصَّادِقون- الذين استَقامتْ أعمالُهم وأقوالُهم على الصِّراطِ المستقيمِ، فأَخْلَصوا للهِ تعالى واتَّبعوا شَرْعَه فيها- ثمرةَ صِدْقِهم .
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
مُناسَبَتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أخبر الله تعالى أنَّ صِدْقَ الصَّادقين في الدُّنيا يَنفَعُهم في القيامة، شرَح كيفيَّةَ ذلك النَّفعِ وهو الثوابُ ، فقال تعالى:
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
أي: للصَّادقين جنَّاتٌ تَجري من تحتِ أشجارِها وقُصورِها الأنهارُ، ماكثِينَ فيها على الدَّوام .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ.
أي: رضِيَ اللهُ عن هؤلاءِ الصَّادقينَ باعتناقِهم الإيمانَ، وبما قاموا به من طاعةِ الرحمنِ، ورَضُوا هم عن اللهِ تعالى في تَوفيقِه لهم إلى الصَّالحات، وفي وفائِه بوَعْدِه لهم بدُخولِ الجَنَّات .
عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: ((ثمَّ يَتجلَّى لهم ربُّهم تعالى، ثم يقولُ: سَلُوني أُعطِكم، فيَسألونه الرِّضا، فيقولُ: رِضائي أَحَلَّكم دارِي، وأَنَالَكُم كرامتي، فسلُوني أُعطِكم، فيسألونَه الرِّضا، فيُشْهِدُهم أنَّه قدْ رَضِيَ عنهم)) .
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
أي: هذا الثوابُ الذي مَنَحَهم الله تعالى إيَّاه- مِن دُخولِ الجَنَّاتِ التي تَجري مِن تحتِها الأنهارُ، خالدِين فيها أبدًا، مع رِضاه عنهم، ورِضاهم عن ربِّهم- هو الظَّفَرُ الكبيرُ الذي لا أَعْظم منه .
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ عزَّ وجلَّ ما جرَى بَينَه وبينَ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلام، وأنَّ عيسى تبرَّأ ممَّا يدَّعِي النصارى فيه؛ بَيَّنَ عزَّ وجلَّ أنَّ له مُلكَ السَّمواتِ والأرض، وأنَّ عيسى لا يَصلُح أنْ يكونَ إلهًا لا هو ولا غَيرُه؛ لأنَّهم لا يَملِكون شيئًا ممَّا في السَّمواتِ والأرض، فقال سبحانه :
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ.
أي: هو وحْدَه الخالقُ المالكُ للسَّمواتِ والأرضِ وما فيهنَّ، والمدبِّرُ لذلك كلِّه، فالجميعُ مِلكُه، وتحتَ قَهرِه وسُلطانِه وحْدَه سبحانَه، دون عيسى أو غيرِه مِن خَلْقِه .
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: وهو سبحانه لا يُعجِزُه شيءٌ أرادَه، وجميعُ الأشياءِ مُنقادةٌ لمشيئتِه

.
الفوائد التربوية:

1- إثباتُ عِلم اللهِ بما في نفْس الإنسانِ؛ لِقَوْلِه: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي؛ فالله عزَّ وجلَّ يعلمُ ما في القلبِ، فينبغي الحذَرُ من أن يكونَ فيه ما يُخالِفُ أمْرَ اللهِ عزَّ وجلَّ
.
2- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أنَّه يجِبُ على العبدِ كمالُ مراقبةِ اللهِ تبارَك وتعالى، بحيثُ لا يَفقِدُه عندَ أمْرِه، ولا يَجِده عندَ نَهيِه؛ لأنَّ الله رقيبٌ عليه .
3- أنَّ عيسى عليه السَّلام وهو أحدُ أُولي العزمِ من الرُّسل، يُفوِّض الأمرَ إلى الله؛ حيثُ قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، وهكذا يجبُ علينا نحن أنْ نُفوِّضَ الأمرَ إلى الله عزَّ وجلَّ فيما يَفعلُه، ولا نَعترِضَ عليه؛ فالله يقول: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لكمالِ حِكْمته، وَهُمْ يُسْأَلُونَ؛ لأنَّهم عابِدونَ للهِ عزَّ وجلَّ .
4- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ الحثُّ على الصِّدقِ، والترغيبُ فيه، وبيانُ الفائدةِ العظيمةِ في الصِّدقِ؛ لكونِه نافعًا للإنسانِ في ذلك الوقتِ الحَرِجِ، الذي يكون الإنسانُ فيه أحوجَ ما يكون إلى ما يَنفَعُه .
5- أنَّ الفوزَ حقيقةً ليس برِبحِ الدِّينارِ والدِّرهم والجاهِ والرِّئاسةِ؛ الرِّبحُ العظيمُ أو الفوزُ العظيمُ هو فوزُ الإنسانِ بجَنَّاتِ النعيم- نسألُ اللهَ أن يَجعلَنا من الفائزِين بها- ولهذا قال: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

.
الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَوْلُه تعالى: مِنْ دُونِ اللهِ معنى (دون) إمَّا المغايرة أو القُصور؛ فعلى المغايرة يكون فيه تنبيهٌ على أنَّ عِبادة الله سبحانه وتعالى مع عِبادةِ غيرِه كَلَا عبادةٍ، فمَن عبَدَه مع عِبادتِهما كأنَّه عبَدَهما ولم يَعبُدْه، وعلى القصورِ؛ فإنَّهم لم يَعتقِدوا أنَّهما مستقلَّانِ باستحقاقِ العبادةِ، وإنَّما زعَموا أنَّ عبادَتَهما تُوصِلُ إلى عبادةِ الله سبحانه وتعالى، وكأنَّه قيل: اتَّخِذوني وأمِّيَ إلهينِ مُتوصِّلِينَ بنا إلى الله سبحانه وتعالى
.
2- إثباتُ القولِ لله؛ لقولِه: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ، ولِقَوْلِه: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ، وفي القرآن إثباتُ الكلام، وإثباتُ النِّداء، وكلُّ هذا يدلُّ على أنَّ اللهَ تعالى يَتكلَّم بكلامٍ حقيقةً بحَرْفٍ وصوتٍ؛ أمَّا كونه بحرفٍ: فلأنَّ الكلماتِ التي جاءتْ بعدَ القول حروفٌ، وأمَّا كونه بصوتٍ؛ فلأنَّ الله تعالى يُخاطِبُ به عيسى، وعيسى يردُّ عليه، وهذا مذهبُ أهل السُّنَّة والجماعة، وهو الواجبُ على كلِّ مؤمنٍ .
3- في سؤالِ اللهِ عيسى عليه السلامُ بقولِه: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ... دون النَّصارى مع كونِه تعالى عالِمًا بأنَّ عيسى عليه السَّلامُ لم يقُلْ ذلك- عِدَّةُ أوجه:
الأوَّل: أنَّ المرادَ به توبيخُ الكَفَرةِ الذين اتَّخذوا عيسى وأمَّه إلهينِ، وتَبكيتُهم .
الثاني: أنه تعريضٌ بالإرهابِ، والوعيدِ بتوجُّه عقوبةِ ذلك إلى مَن قال هذا القولَ إنْ تَنصَّلَ منه عيسى، فيَعلَم أحبارُهم الذين اخترَعوا هذا القولَ أنَّهم المرادُ بذلك، والمعنى: أنَّه إنْ لم يكن هو قائلَ ذلِك، فلا عُذْرَ لِمَن قالَه؛ لأنَّهم زعَموا أنَّهم يتَّبِعون أقوالَ عيسى وتعاليمَه .
الثالث: تحذيرُ عيسى عن قِيلِ ذلك ونهيُه، كما يقولُ القائلُ لآخر:(أفعلت كذا وكذا؟) ممَّا يعلم المقولُ له ذلك أنَّ القائلَ يستعظمُ فِعْلَ ما قال له:(أفعَلْتَه)، على وَجهِ النَّهي عن فِعلِه، والتَّهديدِ له فيه .
الرابع: أنَّ المرادَ به إعلامُ عيسى أنَّ قومَه الذين فارَقهم قدْ خالفوا عَهدَه، وبدَّلوا دِينَهم بَعدَه .
4- في قوله تعالى: سُبْحَانَكَ كانتِ المبادرةُ من عيسى عليه السَّلام بتنزيهِ الله تعالى أهمَّ مِن تبرئتِه نفْسَه بقوله: مَا يَكُونُ لِي... على أنَّها مُقدَّمة للتبرِّي؛ لأنَّه إذا كان يُنزِّه اللهَ عن ذلك، فلا جرمَ أنَّه لا يأمُرُ به أحدًا .
5- في قوله تعالى: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ...إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ كمالُ أدَبِ المسيحِ عليه الصَّلاة والسَّلام في خِطابه لربِّه؛ فلم يقُلْ عليه السلام: (لم أقلْ شيئًا من ذلك)، وإنَّما أخبر بكلامٍ يَنفي عن نفْسِه أن يقولَ كلَّ مقالةٍ تُنافي منصبَه الشَّريفَ، وأنَّ هذا من الأمورِ المُحالةِ، ونَزَّه ربَّه عن ذلك أتمَّ تنزيهٍ، وردَّ العِلمَ إلى عالمِ الغيبِ والشَّهادة كذلك قوله: إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ؛ فهو يُشعِر بأنَّه رسولٌ مأمورٌ، مُكلَّفٌ بالأمْرِ .
6- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أنَّه لا حقَّ لعيسى في الأُلوهيَّة ولا الربوبيَّة؛ ولذا تبرَّأَ عيسى عليه السَّلام من ذلك، وقال: إنَّه ليس بحقٍّ له، ونزَّه اللهَ تعالى أنْ يكونَ له شريكٌ؛ لِقَوْلِه: رَبِّي ومَن ليس له رُبوبيَّة ليس له أُلوهيَّة، فالألوهيَّة حقٌّ خاصٌّ لله، وإذا كان الرُّسُل- بل خُلاصةُ الرُّسُل- ليس لهم حقٌّ في الأُلوهيَّة، فمَن دُونَهم مِن باب أَوْلى؛ فلا أحدَ يستحقُّ أن يكونَ إلهًا، ولا أحدَ يستحقُّ أنْ نَعبُده مِن دونِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
7- قَوْلُه تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي خصَّ النَّفْس؛ لأنَّها مَظِنَّةُ الكتْمِ، والانطواءِ على المعلومات .
8- في قوله: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أنَّ مَن ادَّعى عِلمَ الغيبِ فقدِ ادَّعى أنَّه شريكٌ لله؛ وجهُ الدَّلالة: أنه أتَى بضميرِ فَصْل أَنْتَ بَينَ طَرَفَيِ الجُملةِ، وهذا يَدُلُّ على الحَصْرِ، يعني: أنت لا غيرُك علَّامُ الغيوبِ .
9- أنَّ الرُّسُلَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام شهداءُ على أمَّتهم ما داموا فيهم؛ لِقَوْلِه: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، ومع ذلك هم شهداءُ على ما يَرَوْنَ أو يَسمعونَ، وليسوا شهداءَ على غائبٍ بعيدٍ لا يَرونه ولا يَسمعونَه؛ لأنَّ الرُّسُل لا يَعلمونَ الغيبَ .
10- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حِكمةُ الله عزَّ وجلَّ في جَعْل الخَلْق يَنقسِمونَ إلى قِسمين: مُعذَّبٍ، ومغفورٍ له؛ كما في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] ، ولولا هذا الانقسامُ ما ظهَر فضلُ الإيمانِ، ولا شُرِعَ الجهادُ، ولا الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ، ولا أُرْسِلتِ الرُّسُلُ، لكنْ حِكمةُ الله اقتضتْ أنْ يكونَ الناسُ قِسمينِ .
11- قال تعالى: وَمَا فِيهِنَّ، ولم يقُلْ: (وَمَنْ فيهنَّ)، فغلَّب غيرَ العُقلاءِ على العقلاءِ؛ والسَّببُ فيه التنبيهُ على أنَّ كلَّ المخلوقاتِ مُسخَّرونَ في قبضةِ قَهْرِه وقُدرتِه، وقَضائِه وقَدَره، وهم في ذلك التَّسخيرِ كالجَماداتِ التي لا قُدرةَ لها، وكالبَهائِمِ التي لا عَقْلَ لها، فعِلْمُ الكلِّ بالنِّسبة إلى عِلْمه كَلا عِلْمٍ، وقُدرةُ الكلِّ بالنسبة إلى قُدْرَتِه كَلَا قدرةٍ

.
بلاغة الآيات:

1- قَوْلُه: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ استئنافٌ مُقرِّر للتنزيهِ، ومُبيِّن للمُنزَّه منه، وإيثارُ لَيْسَ على الفِعل المنفيِّ؛ لظُهورِ دَلالتِه على استمرارِ انتفاءِ الحقِّيَّة، وإفادة التأكيدِ بما في حيِّزه من الباءِ في بِحَقٍّ
.
2- قَوْلُه: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ استئنافٌ مُقرِّر لعدمِ صُدور القولِ المذكورِ عنه عليه السَّلامُ بالطريقِ البُرهانيِّ؛ فإنَّ صدورَه عنه مستلزِمٌ لعِلمِه تعالى به قطعًا، فحيثُ انتفى عِلمُه تعالى به انتَفَى صدورُه عنه حتمًا؛ ضرورةَ أنَّ عدمَ اللازمِ مُستلزِمٌ لعدمِ الملزومِ .
3- قَوْلُه: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ استئنافٌ مَسُوقٌ لبيانِ ما صدر عنه قد أُدْرِجَ فيه عدمُ صدورِ القولِ المذكورِ عنه على أبلَغِ وَجْهٍ وآكَدِه؛ حيث حَكَمَ بانتفاءِ صُدور جميعِ الأقوال المغايِرَة للمأمورِ به، فدخَل فيه انتفاءُ صدورِ القولِ المذكور دخولًا أوَّليًّا، أي: ما أمَرْتُهم إلا بما أمَرْتَني به .
- وعبَّر بقولِه: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ، ولم يقُل: (ما أمرتُهم إلَّا ما أمرتَني به)، وهو مِن بابِ وضْعِ القَولِ موضِعَ الأمْر؛ نُزولًا على مُوجِبِ الأدبِ الحَسَن؛ لئلَّا يَجعَلَ نفْسَه وربَّه آمِرَينِ معًا .
4- قَوْلُه: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي استئنافٌ جرَى مجرَى التعليلِ لِمَا قبْلَه، كأنَّه قيل: لأنَّك تعلمُ ما أُخفيه في نفْسي؛ فكيف بما أُعلِنه ؟!
5- قَوْلُه: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تعليلٌ لمضمون الجُمَلتين منطوقًا ومفهومًا، وهو تقريرٌ وتأكيدٌ للجُملتَينِ: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ وقوله: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ؛ لأنَّ ما انطوتْ عليه النفوسُ مِن جُملة الغيوبِ، ولأنَّ ما يَعلمُه علَّامُ الغيوبِ، لا يَنتهي إليه عِلمُ أحدٍ .
6- قَوْلُه: وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ اعتراضٌ تذييليٌّ مُقرِّر لِمَا قَبلَه، وفيه إيذانٌ بأنَّه تعالى كان هو الشَّهيدَ على الكلِّ حِين كونِه عليه السَّلام فيما بينهم وشِبه الجُملة عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُتعلِّق بشهيد، وتقديمُه لمراعاةِ الفاصلة .
- والتعبير بصِيغة فَعِيل شَهِيد؛ للمبالغةِ في وصْفِه بكونِه شهيدًا، أي: رقيبًا، كثيرَ الحِفظِ عليهم .
7- قَوْلُه: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: في ختامِ هذه الآيةِ بقوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- مع كون المتبادَر أنْ تُختَمَ بقولِه: (فإنَّك أنت الغفور الرحيم)- مناسَبةٌ حسنةٌ لطيفةٌ، وفي هذه المناسبة أوجهٌ؛ منها: أنَّ مقصودَ عيسى عليه السَّلام تفويضُ الأمورِ كلِّها إلى اللهِ تعالى، وترْك الاعتراضِ بالكليَّة؛ ولذلك ختَم الكلام بقَوْلِه: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي: قادرٌ على ما تُريد في كلِّ ما تفعلُ، لا اعتراضَ عليك؛ فإنَّه لو قال: (فإنَّك أنت الغفور الرحيم)، أشْعَرَ ذلك بكونِه شفيعًا لهم، فلمَّا قال: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ دلَّ ذلك على أنَّ غرَضَه تفويضُ الأمرِ بالكليَّةِ إلى اللهِ تعالى، وترْك التعرُّضِ لهذا البابِ من جميعِ الوجوهِ، ففوَّض أمْرَهم إلى اللهِ؛ فهو أعلمُ بما يُجازيهم به؛ لأنَّ المقامَ مقامُ إمساكٍ عن إبداءِ رغبةٍ؛ لشدَّةِ هولِ ذلك اليومِ، وغايةُ ما عَرَّضَ به عيسى أنَّه جوَّزَ المغفرةَ لهم رحمةً منه بهم .
ومنها: أنَّه لا يَحتمِل إلَّا ما أَنزلَه اللهُ تعالى؛ لأنَّ المعنى مُتعلِّق بالشَّرطينِ جميعًا؛ إذْ لو ختَمها بقولِه: (فإنَّك أنتَ الغفورُ الرحيم) ضَعُف معناه؛ فإنَّه ينفردُ الغفورُ الرحيمُ بالشَّرْط الثاني وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، ولا يكون له بالشَّرطِ الأوَّل تعلُّقٌ إِنْ تُعَذِّبْهُم، وأمَّا قوله تعالى: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ على ما أَنْزلَه اللهُ تعالى، وأجْمَع على قِراءتِه المسلمون؛ فهو مُتعلِّقٌ بالشَّرطينِ مِن جِهةِ المعنى أولِّهما وآخِرِهما؛ إذ تلخيصُه: إنْ تعذبْهم فأنتَ العزيزُ الحكيمُ، وإنْ تغفرْ لهم فأنتَ العزيزُ الحكيمُ في الأمرينِ كِلَيْهما من التعذيبِ والغفرانِ، فكان الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أليقَ بهذا المكانِ لعمومِه، وأنَّه يَجمَعُ الشَّرْطَيْنِ، ولم يَصْلُحِ (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أنْ يَحتمِلَ ما احتملَه الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .
ومنها: أنَّ هؤلاءِ قد استحقُّوا العذابَ دون الغُفران؛ فوجَبَ أنْ تكونَ الفاصلة: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؛ ولم تجِئ (الغفور الرحيم) بعدَ ذِكر الغُفران؛ لأنَّه لا يَغْفِرُ لهم، فوجَب أن تكون الفاصلة كما وردتْ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؛ لأنَّ الله سبحانه مُمتنِعٌ عن القَهرِ والمعارضة. وهو ما يُسمَّى عند البلاغيين بـ (التخيير) .
8- قولِه: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ فيه: التعبيرُ بصيغةِ الماضي قَالَ اللَّهُ عن المستقبَل الذي سَيكونُ يومَ القِيامةِ؛ للدَّلالةِ على تَحقُّقِ الوقوعِ .
- وفيه تقديمُ الخبرِ لَهُمْ على المبتدأِ جَنَّاتٌ وهو يدلُّ على الحَصرِ، بمعنى أنَّ هذا الثوابَ يختصُّ به الصادِقونِ .
9- قَوْلُه: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- فيه تنبيهٌ على كَذِبِ النصارَى وفسادِ دَعواهم في المسيحِ وأمِّه .
- وتقديمُ الخَبرلِلَّهِ؛ لبيانِ اختصاصِ مُلكِ السَّموات والأَرْضِ وما فيهنَّ باللهِ عزَّ وجلَّ؛ فتقديمُ ما حقُّه التأخيرُ يُفيد الحصرَ، سواءٌ كان هذا الذي حقُّه التأخيرُ خبرًا أمْ مفعولًا، أو غير ذلك ممَّا حقُّه التأخيرُ .
- وفيه تقديمُ السَّمَواتِ على الْأَرْضِ؛ لأنَّ السَّمواتِ أشرفُ وأكبرُ، وآياتها أدلُّ وأكثرُ من الأرض .
- وقال: وَمَا فِيهِنَّ لأنَّ (ما) يُطلَق متناوِلًا للأجناسِ كلِّها؛ فهو أَوْلى بإرادةِ العمومِ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...