الخميس، 18 يناير 2024

15.سورة الحجر{99- آية مكية}

 15.سورة الحجر{99- آية مكية}

 15.سورة الحجر{99- آية مكية}

سورةُ الحِجْرِ

مقدمة السورة

أسماء السورة:

سُمِّيَتْ هذه السُّورةُ بسُورةِ (الحِجْرِ)

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ الحِجْرِ مكِّيَّةٌ

، ونقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ مِن أهلِ العِلمِ

مقاصد السورة:

 

من أهمِّ مقاصِدِ هذه السُّورةِ:

- تثبيتُ المؤمنينَ

موضوعات السورة:

 

من أهمِّ الموضوعاتِ التي اشتَمَلتْ عليها السُّورةُ:

1- التَّنويهُ بفَضلِ القُرآنِ ومكانتِه، وتكفُّلِ الله بحفظِه، وبيانُ سوءِ عاقبةِ الكافرينَ الذين أعرضوا عن دعوةِ الحقِّ عن عنادٍ وجحودٍ.

2- ذِكرُ بعضِ الأدلَّةِ على وحدانيَّةِ الله وقُدرتِه، وما أسبَغه مِن نِعَمٍ على جميعِ خَلْقِه.

3- حكايةُ قِصَّةِ خلقِ آدمَ عليه السلامُ، وتكليفِ الملائكةِ أن يَسْجدوا له، وامتثالِهم، وتكبُّرِ إبليسَ وحدَه عن ذلك، وطردِه مِن الجنَّةِ.

4- ذِكرُ بعضِ جوانبَ مِن قَصصِ أنبياءِ الله: إبراهيمَ، ولوطٍ، وشعيبٍ، وصالحٍ، عليهم الصلاةُ والسلامُ.

5- تسليةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتثبيتُه أمامَ ما يَلْقاه مِن قومِه

-------

سورةُ الحِجْرِ



سورة الحجر مكية | رقم السورة: 15 - عدد آياتها : 99 عدد كلماتها : 658 - اسمها بالانجليزي : Al-Hijr
سورة الحجر مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة 

 
 الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ وَقُرۡءَانٖ مُّبِينٖ (1) رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ (2) ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ (3) وَمَآ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٞ مَّعۡلُومٞ (4) مَّا تَسۡبِقُ مِنۡ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ (5) وَقَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ إِنَّكَ لَمَجۡنُونٞ (6) لَّوۡ مَا تَأۡتِينَا بِٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَمَا كَانُوٓاْ إِذٗا مُّنظَرِينَ (8) إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ (9) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِي شِيَعِ ٱلۡأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (11) كَذَٰلِكَ نَسۡلُكُهُۥ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ (12) لَا يُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَقَدۡ خَلَتۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ (13) وَلَوۡ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَابٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعۡرُجُونَ (14) لَقَالُوٓاْ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمٞ مَّسۡحُورُونَ (15) وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَزَيَّنَّٰهَا لِلنَّٰظِرِينَ (16) وَحَفِظۡنَٰهَا مِن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ ٱسۡتَرَقَ ٱلسَّمۡعَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ مُّبِينٞ (18) وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ (19) وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَٰزِقِينَ (20) وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعۡلُومٖ (21) وَأَرۡسَلۡنَا ٱلرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ فَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَسۡقَيۡنَٰكُمُوهُ وَمَآ أَنتُمۡ لَهُۥ بِخَٰزِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحۡنُ نُحۡيِۦ وَنُمِيتُ وَنَحۡنُ ٱلۡوَٰرِثُونَ (23) وَلَقَدۡ عَلِمۡنَا ٱلۡمُسۡتَقۡدِمِينَ مِنكُمۡ وَلَقَدۡ عَلِمۡنَا ٱلۡمُسۡتَـٔۡخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحۡشُرُهُمۡۚ إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيمٞ (25) وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ (26) وَٱلۡجَآنَّ خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ (27) وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ (28) فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ (29) فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ (30) إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰٓ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّٰجِدِينَ (31) قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ ٱلسَّٰجِدِينَ (32) قَالَ لَمۡ أَكُن لِّأَسۡجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقۡتَهُۥ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ (33) قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ (34) وَإِنَّ عَلَيۡكَ ٱللَّعۡنَةَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ (37) إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡوَقۡتِ ٱلۡمَعۡلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ (40) قَالَ هَٰذَا صِرَٰطٌ عَلَيَّ مُسۡتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوۡعِدُهُمۡ أَجۡمَعِينَ (43) لَهَا سَبۡعَةُ أَبۡوَٰبٖ لِّكُلِّ بَابٖ مِّنۡهُمۡ جُزۡءٞ مَّقۡسُومٌ (44) إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ (45) ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَٰمٍ ءَامِنِينَ (46) وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمۡ فِيهَا نَصَبٞ وَمَا هُم مِّنۡهَا بِمُخۡرَجِينَ (48) ۞نَبِّئۡ عِبَادِيٓ أَنِّيٓ أَنَا ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلۡعَذَابُ ٱلۡأَلِيمُ (50) وَنَبِّئۡهُمۡ عَن ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ (51) إِذۡ دَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَقَالُواْ سَلَٰمٗا قَالَ إِنَّا مِنكُمۡ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لَا تَوۡجَلۡ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ (53) قَالَ أَبَشَّرۡتُمُونِي عَلَىٰٓ أَن مَّسَّنِيَ ٱلۡكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡقَٰنِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقۡنَطُ مِن رَّحۡمَةِ رَبِّهِۦٓ إِلَّا ٱلضَّآلُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطۡبُكُمۡ أَيُّهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ (57) قَالُوٓاْ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمٖ مُّجۡرِمِينَ (58) إِلَّآ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمۡ أَجۡمَعِينَ (59) إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ (60) فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ ٱلۡمُرۡسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمٞ مُّنكَرُونَ (62) قَالُواْ بَلۡ جِئۡنَٰكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمۡتَرُونَ (63) وَأَتَيۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ (64) فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَٱتَّبِعۡ أَدۡبَٰرَهُمۡ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٞ وَٱمۡضُواْ حَيۡثُ تُؤۡمَرُونَ (65) وَقَضَيۡنَآ إِلَيۡهِ ذَٰلِكَ ٱلۡأَمۡرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰٓؤُلَآءِ مَقۡطُوعٞ مُّصۡبِحِينَ (66) وَجَآءَ أَهۡلُ ٱلۡمَدِينَةِ يَسۡتَبۡشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ ضَيۡفِي فَلَا تَفۡضَحُونِ (68) وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ (69) قَالُوٓاْ أَوَ لَمۡ نَنۡهَكَ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ (70) قَالَ هَٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِيٓ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ (71) لَعَمۡرُكَ إِنَّهُمۡ لَفِي سَكۡرَتِهِمۡ يَعۡمَهُونَ (72) فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّيۡحَةُ مُشۡرِقِينَ (73) فَجَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٖ مُّقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ (77) وَإِن كَانَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأَيۡكَةِ لَظَٰلِمِينَ (78) فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٖ مُّبِينٖ (79) وَلَقَدۡ كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (80) وَءَاتَيۡنَٰهُمۡ ءَايَٰتِنَا فَكَانُواْ عَنۡهَا مُعۡرِضِينَ (81) وَكَانُواْ يَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ (82) فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّيۡحَةُ مُصۡبِحِينَ (83) فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞۖ فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ (86) وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ سَبۡعٗا مِّنَ ٱلۡمَثَانِي وَٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِينَ (88) وَقُلۡ إِنِّيٓ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلۡمُبِينُ (89) كَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَى ٱلۡمُقۡتَسِمِينَ (90) ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلۡقُرۡءَانَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (93) فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ (95) ٱلَّذِينَ يَجۡعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۚ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ (96) وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدۡرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ (98) وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ (99)/ سورة الحجر

 

تفسير الآيات (1-5)

غريب الكلمات:

 

ذَرْهُمْ: أي: اترُكْهم، ودَعْهم، يُقالُ: فلانٌ يَذَرُ الشيءَ، أي: يقذِفُه؛ لقلَّةِ اعتدادِه به

المعنى الإجمالي:

افتتَح الله تعالى هذه السورةَ بهذه الحُروفِ المُقَطَّعةِ- وقد سبَقَ الكلامُ عنها في أوَّلِ سورةِ البَقرةِ- ثمَّ أخبَرَ سُبحانَه أنَّ آياتِ القُرآنِ الكريمِ هي آياتُ الكتابِ الجامِعِ لأنواعِ الكَمالِ، وآياتُ القرآن المُعجزِ المُظهِرِ للحقائقِ بأحسَنِ بَيانٍ، وسيندَمُ الكُفَّارُ يومَ القيامةِ على تَركِ الإيمانِ، ويتمَنَّونَ لو كانوا مُسلِمينَ في الدُّنيا. فاترُكْ- يا محمَّدُ- هؤلاءِ الكُفَّارَ يأكُلوا ويَستَمتِعوا بشهواتِهم، ويَشغَلْهم الأمَلُ عن الإيمانِ بالله وطاعتِه؛ فسوفَ يعلمونَ عاقِبةَ أمْرِهم وأنَّهم خاسرونَ. وما أهلَكْنا أهلَ قَريةٍ إلَّا ولإهلاكِهم أجَلٌ مُقدَّرٌ، لا نُهلِكُهم حتى يَبلُغوه، فلا تتجاوَزُ أمَّةٌ أجَلَها حتى تستوفيَه دونَما نُقصانٍ ولا زيادةٍ.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ

إلَّا للحَصرِ، وجملةُ وَلَهَا كِتَابٌ اسميَّةٌ في محلِّ نَصبٍ حالٌ مِن قَرْيَةٍ، وسوَّغ مجيءَ الحالِ مِن النَّكرةِ وُقوعُ النَّكرةِ بعد نَفْيٍ، واقترانُ واوِ الحالِ بالجُملةِ. وقيل: إنَّ الجُملةَ واقِعةٌ صِفةً للنَّكرةِ قَبلَها قَرْيَةٍ، ودخَلَت الواوُ عليها تأكيدًا للُصوقِ الصِّفةِ بالموصوفِ

 

.

تفسير الآيات:

 

الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1).

الر.

تقدَّم الكلامُ عن الحُروفِ المقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سُورةِ البَقَرةِ

.

تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ.

أي: هذه الآياتُ العاليةُ المَقامِ، الرَّفيعةُ الشَّأنِ، آياتُ الكِتابِ الجامِعِ لأنواعِ الكَمالِ، وآياتُ قرآنٍ عظيمٍ واضحٍ إعجازُه للخَلقِ، مُظهِرٍ للحقائِقِ بأحسَنِ بَيانٍ، وأوضَحِه .

كما قال تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف: 1] .

وقال سُبحانه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] .

رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2).

أي: سيندمُ الذين كَفَروا باللَّهِ علَى ما كانوا فيه مِنَ الكفرِ، ويتمَنَّونَ لو كانوا مُسلِمينَ في الدُّنيا، مُوَحِّدينَ، مُنقادِينَ لأمرِ اللهِ تعالى، وخاضعينَ لأحكامِه .

كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: 27] .

وقال سُبحانه: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام: 31] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان: 27] .

وقال جلَّ جلالُه: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 54 - 58] .

وعن صالحِ بن أبي طَريفٍ، قال: قلتُ لأبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه: أسَمِعتَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ في هذه الآيةِ: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ؟ فقال: نعم، سمعتُه يقولُ: ((يُخرِجُ اللهُ أناسًا من النَّارِ [أي: مِن المسلمينَ] بعدما يأخُذُ نِقمَتَه منهم، قال: لَمَّا أدخَلَهم اللهُ النَّارَ مع المُشرِكينَ قال المُشرِكونَ: أليس كُنتُم تَزعُمونَ في الدُّنيا أنَّكم أولياءُ؟ فما لكم معنا في النَّارِ؟! فإذا سَمِعَ اللهُ ذلك منهم أذِنَ في الشَّفاعةِ، فيتشَفَّعُ لهم الملائِكةُ والنبيُّونَ حتى يخرُجوا بإذنِ الله، فلمَّا أُخرِجوا قالوا أي: المشركونَ: يا ليتنا كُنَّا مِثلَهم فتُدرِكَنا الشَّفاعةُ فنخرُجَ مِن النَّارِ، فذلك قولُ الله جلَّ وعلا: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ...)) .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: (ما يزالُ اللهُ يشفَعُ ويُدخِلُ الجنَّةَ، ويَرحَمُ ويَشفَعُ، حتى يقولَ: من كان من المُسلمينَ فَليدخُلِ الجنَّةَ، فذاك حين يقولُ: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3).

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ.

أي: اترُكِ الكُفَّارَ- يا محمَّدُ- يأكلُوا في هذه الدُّنيا ما هم آكِلوه، ويتمَتَّعوا بشَهَواتِها ولذَّاتِها، ويَشغَلْهم الأملُ عن الإيمانِ باللهِ تعالى وطاعتِه، والاستعدادِ للآخرةِ .

فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.

أي: فسوفَ يعلَمُ الكُفَّارُ أنَّهم خاسِرونَ، وأنَّ عاقِبةَ كُفرِهم عذابٌ أليمٌ مُهينٌ .

كما قال تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم: 30].

وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد: 12] .

وقال سُبحانه: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات: 46] .

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا توعَّدَ اللهُ تعالى مِن قَبلُ مَن كذَّبَ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم بقولِه: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، أتبَعَه بما يؤكِّدُ الزَّجرَ، وهو قولُه تعالى :

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4).

أي: وما أهلَكْنا أهلَ قريةٍ يستَحِقُّونَ العذابَ إلَّا وكان لهلاكِهم زمنٌ محدَّدٌ مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ، فلا نُهلِكُهم حتى يَبلُغوه .

مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5).

أي: لا يتقدَّمُ هلاكُ أمَّةٍ قبلَ الوَقتِ الذي قدَّرَهُ اللهُ لهلاكِها، ولا يستأخِرُ فيتجاوَزُ الوقتَ المحدَّدَ له

 

.

كما قال سُبحانه: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] .

الفوائد التربوية:

 

1- قولُ الله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ التلذُّذَ والتنَعُّمَ، وعدمَ الاستعدادِ للمَوتِ والتأهُّبِ له؛ ليس من أخلاقِ مَن يطلُبَ النَّجاةَ مِن عذابِ اللهِ في الآخرةِ

، وفيه تعزيةٌ لما منَعه الله تعالى أولياءَه مِن التمتعِ بالدُّنيا، وكثرةِ الأكلِ فيها، وتأديبٌ لمن بسَط له فيها ألَّا يطغَى فيها، ولا يُعطي نفسَه شهواتِها .

2- قال الله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ طولُ الأمَلِ داءٌ عُضالٌ ومَرَضٌ مُزمِنٌ، ومتى تمكَّنَ مِن القلبِ فسَدَ مِزاجُه، واشتَدَّ عِلاجُه، ولم يفارِقْه داءٌ، ولا نَجَعَ فيه دواءٌ، بل أعيا الأطبَّاءَ، ويَئِسَ من بُرئِه الحُكَماءُ والعُلَماء. وحقيقةُ الأمَلِ: الحِرصُ على الدُّنيا، والانكبابُ عليها، والحُبُّ لها، والإعراضُ عن الآخرة، قال الحسَنُ: (ما أطال عبدٌ الأمَلَ إلَّا أساءَ العمَلَ). فالأمَلُ يُكسِلُ عن العمَلِ، ويُورِثُ التَّراخيَ والتَّوانيَ، ويُعقِبُ التَّشاغُلَ والتَّقاعُسَ، ويُخْلِدُ إلى الأرضِ، ويُميلُ إلى الهَوى، وهذا أمرٌ قد شُوهِدَ بالعِيانِ، فلا يَحتاجُ إلى بَيان، ولا يُطلَبُ صاحِبُه ببُرهانٍ، كما أنَّ قِصَرَ الأمَل يبعَثُ على العَمَل، ويُحيلُ على المُبادرة، ويَحُثُّ على المُسابَقة

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ سمِّي القرآنُ كتابًا؛ لأنَّهم مأمورون بكتابةِ ما ينزلُ منه؛ لحفظِه ومراجعتِه، فقد سمِّي القرآنُ كتابًا قبلَ أن يُكتبَ ويُجمعَ؛ لأنَّه بحيثُ يكونُ كتابًا

، وفي هذه التسميةِ معجزةٌ للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ ما أُوحِي إليه سيُكتَبُ في المصاحفِ، ولذلك اتَّخَذ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن أصحابِه كُتَّابًا يكتبُون ما أُنزِل إليه، ومِن أوَّلِ ما ابتُدِئ نزولُه. وقد وُجِد جميعُ ما حفِظه المسلمونَ في قلوبِهم على قَدْرِ ما وجَدوه مكتوبًا يومَ أمَر أبو بكرٍ بكتابةِ المصحفِ .

2- قولُ الله تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ يَستدِلُّ به مَن قال: إنَّ (رُبَّ) للتَّكثيرِ .

3- في قَولِه تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ في الوعيدِ، إذْ لو كانت ذنوبُ المُسلِمينَ تُخَلِّدُهم مع الكفَّارِ في النَّارِ، ما وَدُّوا إسلامَهم، ولا تَحَسَّروا على ما رأوا مِن انتقالِ حالِهم، ولو كان لا يَسعَدُ بالجنَّةِ إلَّا صالِحو المُسلِمينَ والأنقياءُ مِن الذُّنوبِ، لكان- واللهُ أعلمُ-: «ربَما يَوَدُّ الذين كفَروا لو كانوا صالحينَ» .

4- قال الله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ قال بعضُ أهل العِلمِ: (ذَرْهُمْ تهديدٌ، وقَولُه: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تهديدٌ آخَرُ، فمتى يهنأُ العَيشُ بين تهديدَينِ) .

5- قولُ الله تعالى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ دلَّت الآيةُ على أنَّ كُلَّ من مات أو قُتِلَ، فإنَّما مات بأجَلِه، فقولُه: وَمَا أَهْلَكْنَا إنْ دخَل تحتَه الموتُ فالاستدلالُ ظاهِرٌ لازِمٌ، وإنْ لم يدخُلْ فيُقالُ: إنَّ ما لأجلِه وَجَب في عذابِ الاستئصالِ أنْ لا يتقَدَّمَ ولا يتأخَّرَ عن وقتِه المعيَّنِ قائِمٌ في الموتِ، فوجَب أنْ يكونَ الحكمُ هاهنا كذلك

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ

- قولُه: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ وهذه الإشارةُ (تلك)؛ لتنزيلِ آياتِ القُرآنِ مَنْزِلةَ الحاضِرِ المُشاهَدِ، ووقَعَت هذه الآيةُ في مُفتتَحِ تهديدِ المُكذِّبينَ بالقُرآنِ؛ لقصدِ الإعذارِ إليهم باستدعائِهم للنَّظرِ في دلائلِ صدْقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحَقِّيَّةِ دِينِه. و(الكتابُ) عَلَمٌ بالغلبَةِ على القُرآنِ، ولمَّا كان أصلُ التَّعريفِ باللَّامِ في الاسمِ المجعولِ عَلَمًا بالغلبَةِ جائيًا مِن التَّوسُّلِ بحرفِ التَّعريفِ إلى الدَّلالةِ على معنى كَمالِ الجنسِ في المُعرَّفِ به: لم ينقطِعْ عنِ العلَمِ بالغلبَةِ أنَّه فائقٌ في جِنْسِه بمعونةِ المقامِ؛ فاقتضى أنَّ تلك الآياتِ هي آياتُ كتابٍ بالِغٍ مُنْتهى كَمالِ جِنْسِه، أي: مِن كُتُبِ الشَّرائعِ

.

- وفي قولِه: وَقُرْآنٍ مُبِينٍ تَنْكيرُ القُرآنِ؛ للتَّفخيمِ، أي: تلك آياتُ الكتابِ الكامِلِ الجامِعِ في كونِه كتابًا كاملًا، وقُرآنًا يُبَيِّنُ الرُّشدَ مِن الغَيِّ بيانًا غريبًا، كأنَّه قيل: الكتابُ الجامِعُ للكمالِ والغَرابةِ في البَيانِ .

- وعُطِفَ وَقُرْآنٍ على الكتابِ؛ لأنَّ اسمَ القُرآنِ جُعِلَ عَلَمًا على ما أُنْزِلَ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للإعجازِ والتَّشريعِ؛ فهو الاسمُ العَلَمُ لكتابِ الإسلامِ، مثلُ اسمِ التَّوراةِ والإنجيلِ والزَّبُورِ للكُتُبِ المُشتهِرَةِ بتلك الأسماءِ، وللإشارةِ إلى ما في كلٍّ مِن العَلَمَينِ مِن معنًى ليس في العَلَمِ الآخرِ؛ حَسُنَ الجمعُ بينهما بطريقِ العطْفِ ، فكُلُّ واحدٍ منهما يُفيدُ معنًى لا يُفيدُه الآخَرُ؛ فإنَّ الكِتابَ هو ما يُكتَبُ، والقرآنَ هو ما يُجمَعُ بَعضُه إلى بعضٍ .

وقيل: جمَع بينَ وصفيِ الكتابيَّةِ والقرآنيَّةِ؛ لما فيه مِن تفخيمِ شأنِ القرآنِ، حيثُ أُشير بالأوَّلِ-أي: الكتابِ- إلى اشتمالِه على صفاتِ كمالِ جنسِ الكتبِ الإلهيَّةِ، فكأنَّه كلُّها، وبالثاني -أي: القرآنِ- إلى كونِه ممتازًا عن غيرِه، بديعًا في بابِه، خارجًا عن دائرةِ البيانِ، قرآنًا غيرَ ذي عوجٍ . وقيل: كأنَّ الأوَّلَ إشارةٌ إلى حفظِه في الطروسِ بالكتابةِ، والثاني إلى حفظِه في الصدورِ بالدراسةِ .

- قولُه: وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (المُبِين) اسمُ فاعلٍ مِن (أبانَ) القاصِرِ الَّذي هو بمعنى (بان)؛ مُبالغةً في ظُهورِه، أي: ظُهورِ قُرآنيَّتِه العظيمةِ، أي: ظُهورِ إعجازِه الَّذي تَحَقَّقَه المُعانِدونَ وغيرُهم، ولم نَقُلْ: إنَّ المُبِينَ بمعنى (أبان) المُتعدِّي؛ لأنَّ كونَه بَيِّنًا في نفْسِه أشدُّ في توبيخِ مُنْكِريه مِن وصْفِه بأنَّه مُظْهِرٌ لِمَا اشتمَلَ عليه .

- وفي قولِه: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث ابْتُدِئَ بالمُعرَّفِ باللَّامِ الْكِتَابِ؛ لِمَا في التَّعريفِ مِن إيذانٍ بالشُّهرةِ والوُضوحِ، وما فيه مِن الدَّلالةِ على معنى الكَمالِ، ولأنَّ المُعرَّفَ هو أصْلُ الإخبارِ والأوصافِ. ثمَّ جِيءَ بالمُنكَّرِ وَقُرْآنٍ؛ لأنَّه أُرِيدَ وصْفُه بالمُبِينِ، والمُنَكَّرُ أنسَبُ بإجراءِ الأوصافِ عليه، ولأنَّ التَّنكيرَ يدلُّ على التَّفخيمِ والتَّعظيمِ؛ فوُزِّعَت الدَّلالتانِ على نُكْتَةِ التَّعريفِ ونُكْتَةِ التَّنكيرِ. وأمَّا تقديمُ الكتابِ على القُرآنِ في الذِّكْرِ؛ فلأنَّ سِياقَ الكلامِ توبيخُ الكافرينَ وتهديدُهم بأنَّهم سيجيءُ وقْتٌ يتمَنَّونَ فيه أنْ لو كانوا مُؤمنينَ؛ فلمَّا كان الكلامُ مُوجَّهًا إلى المُنكِرينَ ناسَبَ أنْ يستحضِرَ المُنزَّلَ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعُنوانِه الأعمِّ، وهو كونُه كِتابًا؛ لأنَّهم حين جادَلوا ما جادلوا إلَّا في كتابٍ، فقالوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [الأنعام: 157] ؛ ولأنَّهم يعرِفونَ ما عندَ الأُمَمِ الآخرينَ بعُنوانِ (كِتابٍ)، ويعرِفونَهم بعُنوانِ (أهْلِ الكتابِ)، وأمَّا عُنوانُ (القُرآنِ) فهو مُناسِبٌ لكونِ الكتابِ مَقروءًا مَدْروسًا، وإنَّما يقرَؤُه ويدرُسُه المُؤمِنونَ به؛ ولذلك قُدِّمَ عُنوانُ (القُرآنِ) في سُورةِ النَّملِ في قولِه: تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ [النمل: 1] .

وقيل: لما كان الغالبُ في هذه السورةِ القطعَ الذي هو مِن لوازمِ الكتابِ قدَّمه، وذلك أنَّه قطَع بأمرِ الأجلِ والملائكةِ، وحفظِ الكتابِ والرميِ بالشُّهب، وكفايةِ المستهزئين، فكان كما قال سبحانَه، وكان الجمعُ بينَ الوصفينِ- أي: وصفِه بكونِه كتابًا وقرآنًا- الدال كلٌّ منهما على الجمعِ؛ إشارةً إلى الردِّ عليهم في جعلِهم القرآنَ عضين، وأنَّ قولَهم شديدُ المباعدةِ لمعناه. مع أنَّ المفهومينِ- مع تصادُقِهما على شيءٍ واحدٍ- متغايرانِ، فالكتابُ: ما يُدوَّنُ في الطُّروسِ، والقرآنُ: ما يُقرأُ باللسانِ .

2- قوله تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ

- قولُه: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ اسْتِئنافٌ ابْتِدائيٌّ، وهو مُفتتَحُ الغرَضِ وما قبْلَه كالتَّنبيهِ والإنذارِ، والكلامُ خبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّهديدِ والتَّهويلِ في عدَمِ اتِّباعِهم دينَ الإسلامِ، والتَّقليلُ هنا مُستعمَلٌ في التَّهكُّمِ والتَّخويفِ، أي: احْذَروا وَدادَتَكم أنْ تكونوا مُسلمينَ؛ فلعلَّها أنْ تقَعَ نادِرًا. و(لو) في لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُستعمَلَةٌ في التَّمنِّي؛ لأنَّ أصلَها الشَّرطيَّةُ؛ إذ هي حرفُ امتناعٍ لامتناعٍ؛ فهي مُناسِبةٌ لمعنى التَّمنِّي الَّذي هو طلَبُ الأمْرِ المُمْتنعِ الحُصولِ؛ فإذا وقَعَت بعدَ ما يدلُّ على التَّمنِّي استُعْمِلَت في ذلك، كأنَّها على تقديرِ قولٍ محذوفٍ يقولُه المُتَمنِّي، ولمَّا حُذِفَ فِعْلُ القولِ عُدِلَ في حِكايةِ المقولِ إلى حكايتِه بالمعنى، فأصْلُ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ: (لو كنَّا مُسلمينَ)، والْتُزِمَ حذْفُ جوابِ (لو)؛ اكتفاءً بدَلالةِ المَقامِ عليه، ثمَّ شاع حذْفُ القولِ، فأفادت (لو) معنى المصدريَّةِ؛ فصار المعنى: (يودُّ الَّذين كفَروا كونَهم مُسلمينَ)؛ ولذلك عَدُّوها مِن حُروفِ المصدريَّةِ، وإنَّما المصدرُ معنًى عارضٌ في الكلامِ وليس مَدْلولَها بالوضْعِ .

- قولُه: رُبَمَا يَوَدُّ (رُبَّ) حرفُ جَرٍّ لا يدخُلُ إلَّا على الاسمِ، و(ما) كافَّةٌ مُصحِّحةٌ لدُخولِه على الفعْلِ، وحقُّه الدُّخولُ على الماضي، ودُخولُه على المُضارعِ هنا في قولِه تعالى: يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ لأنَّه لمَّا كان المُتَرَقَّبُ في أخبارِ اللهِ تعالى كالماضي المقطوعِ به في تحقُّقِه، أُجْرِيَ مَجْراه، فكأنَّه قيلَ: (رُبَّما وَدَّ). ومعنى التَّقليلِ فيه: الإيذانُ بأنَّهم لو كانوا يودُّونَ الإِسلامَ مَرَّةً، فبالحَرِيِّ أنْ يُسارِعوا إليه؛ فكيف وهم يَوَدُّونَه كلَّ ساعةٍ؟! وهذا التَّقليلُ واردٌ على مذهَبِ العربِ في قولِهم: لعلَّك ستندَمُ على فعْلِك، ورُبَّما ندِمَ الإنسانُ على ما فعَلَ، ولا يشُكُّونَ في تَنَدُّمِه، ولا يقصِدونَ تقليلَه، ولكنَّهم أرادوا: لو كان النَّدمُ مشكوكًا فيه أو كان قليلًا، لحَقَّ عليك ألَّا تفعَلَ هذا الفعْلَ؛ لأنَّ العُقلاءَ يتحرَّزونَ مِن التَّعرُّضِ للغَمِّ المَظنونِ كما يتحرَّزونَ مِن المُتيقَّنِ، ومِن القليلِ منه كما مِن الكثيرِ . وقيل في سبَبِ التَّقليلِ الَّذي تفيدُه (رُبَّ): إنَّ العرَبَ تُعَبِّرُ عنِ المعنى بما يُؤَدِّي عكْسَ مقصودِه، وكِلَا هذينِ الوجهَينِ يحمِلُ الكلامَ على المُبالغةِ بنوعٍ مِن الإيقاظِ إليها، والعُمدةُ في ذلك على سِياقِ الكلامِ .

3- قولُه تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ الغرَضُ منه إقناطُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن ارْعِوائِهم، وإيذانُه بأنَّهم مِن أهلِ الخِذْلانِ، وأنَّ نُصْحَهم يُعَدُّ اشتغالًا بما لا طائلَ تحتَه، وفيه إلزامٌ للحُجَّةِ ومُبالغةٌ في الإنذارِ وإعذارٌ فيه، وتحذيرٌ عن إيثارِ التَّنعُّمِ وما يُؤَدِّي إليه طولُ الأملِ . ولمَّا دَلَّت (رُبَّ) على التَّقليلِ اقتَضَت أنَّ استمرارَهم على غُلْوَائِهم هو أكثرُ حالِهم، وهو الإعراضُ عمَّا يَدْعوهم إليه الإسلامُ مِن الكَمالِ النَّفسيِّ؛ فبإعراضِهم عنه رَضُوا لأنفْسِهم بحياةِ الأنعامِ، وهي الاقتصارُ على اللَّذاتِ الجَسديَّةِ؛ فخُوطِبَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما يُعَرِّضُ لهم بذلك مِن أنَّ حياتَهم حياةُ أكْلٍ وشُرْبٍ، وذلك ممَّا يَتَعيَّرونَ به في مَجاري أقوالِهم، والأمْرُ بتركِهم مُستعمَلٌ في لازمِه، وهو قِلَّةُ جَدْوى الحرْصِ على إصلاحِهم، وليس مستعْمَلًا في الإذنِ بمُتاركتِهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مأمورٌ بالدَّوامِ على دُعائِهم. وقد حُذِفَ مُتعلِّقُ التَّركِ؛ لأنَّ الفعْلَ نُزِّلَ مَنْزِلةَ ما لا يحتاجُ إلى مُتعلِّقٍ؛ إذ المَعْنِيُّ به ترْكُ الاشتغالِ بهم، والبُعْدُ عنهم؛ فلذلك عُدِّيَ فعْلُ التَّرْكِ إلى ذواتِهم؛ ليدُلَّ على اليأْسِ منهم .

- وقولُه: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ وعيدٌ وتهديدٌ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وعيدٌ ثانٍ .

- وفي تَقْديمِ الأكْلِ إيذانٌ بأنَّ تمتُّعَهم إنَّما هو مِن قَبِيلِ تَمتُّعِ البَهائمِ بالمآكِلِ والمَشارِبِ، والمُرادُ: دوامُهم على ذلك لا إحداثُه؛ فإنَّهم كانوا كذلك. أو تمتُّعُهم بلا استماعِ ما يُنَغِّصُ عَيْشَهم مِن القوارعِ والزَّواجِرِ؛ فإنَّ التَّمتُّعَ على ذلك الوجْهِ أمْرٌ حادثٌ يصلُحُ أنْ يكونَ مُترتِّبًا على تَخْلِيَتِهم وشأْنَهم .

- قولُه: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ هذا وعيدٌ أيَّما وعيدٍ، وتهديدٌ بعدَ تهديدٍ، ومع ذلك فهو تعليلٌ للأمْرِ بالتَّركِ؛ فإنَّ عِلْمَهم ذلك عِلَّةٌ لترْكِ النَّهيِ والنَّصيحةِ لهم، وفيه إلزامٌ للحُجَّةِ، ومُبالغةٌ في الإنذارِ؛ إذ لا يتحقَّقُ الأمْرُ بالضِّدِّ إلَّا بعدَ تكرُّرِ الإنذارِ، وتقرُّرِ الجُحودِ والإنكارِ، وكذلك ما ترتَّبَ عليه مِن الأكْلِ والتَّمتُّعِ والإلهاءِ .

4- قوله تعالى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ

-  مِنْ في قولِه: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ صِلَةٌ؛ تفيدُ استغراقَ الجِنْسِ ، وهي أيضًا للتَّأكيدِ .

- قولُه: إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ اعتراضٌ تَذْييليٌّ؛ لأنَّ في هذه الجُملةِ حُكْمًا يشمَلُهم، وهو حكمُ إمْهالِ الأُمَمِ الَّتي حَقَّ عليها الهلاكُ، أي: ما أهلَكْنا أُمَّةً إلَّا وقد متَّعْناها زَمَنًا، وكان لهلاكِها أجَلٌ ووقْتٌ محدودٌ؛ فهي مُمَتَّعةٌ قبْلَ حُلولِه، وهي مأخوذةٌ عندَ إبَّانِه .

- قولُه: وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ جُملةٌ واقعةٌ صِفَةً لـ قَرْيَةٍ، والقياسُ ألَّا يتوسَّطَ الواوُ بينهما، كما في قولِه تعالى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ [الشعراء: 208] ، ولكنْ لمَّا شابَهَت صُورتُها الحالَ، أُدْخِلَت وتوسَّطَت؛ لتأكيدِ لُصوقِ الصِّفةِ بالموصوفِ، كما يُقال في الحالِ: (جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ، وجاءني وعليه ثوبٌ)، وللإيذانِ بكَمالِ الالْتِصاقِ بينَهما مِن حيثُ إنَّ الواوَ شأْنُها الجمْعُ والرَّبطُ؛ فإنَّ ما نحن فيه مِن الصِّفةِ أقْوى لُصوقًا بالموصوفِ منها به .

5- قولُه تعالى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ هذا تعريضٌ لتهديدٍ ووعيدٍ مُؤَيَّدٍ بتَنْظيرِهم بالمُكذِّبينَ السَّالِفينَ .

- قولُه: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ جُملةُ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا بيانٌ لجُملةِ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ؛ لبيانِ فائدةِ التَّحديدِ: أنَّه عَدمُ المُجاوزةِ بَدْءًا ونِهايةً. وأُنِّثَ مُفْردًا ضميرُ الأُمَّةِ مَرَّةً؛ مُراعاةً للَّفْظِ في قولِه: مَا تَسْبِقُ، وجُمِعَ مُذكَّرًا في قولِه: وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ؛ مُراعاةً للمعنى، وحُذِفَ مُتعلِّقُ يَسْتَأْخِرُونَ وهو (عنه)؛ للعلْمِ به، أي: وما يستأْخِرونَ عنه . وكذلك جاء إيرادُ الفعْلِ على صِيغَةِ جمْعِ المُذكَّرِ يَسْتَأْخِرُونَ؛ للحمْلِ على المعنى مع التَّغليبِ، ولرِعايةِ الفواصِلِ؛ ولذلك حُذِفَ الجارُّ والمجرورُ .

- قولُه: وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ معنى يَسْتَأْخِرُونَ: يتأخَّرونَ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ للتَّأكيدِ ، وعُبِّرَ فيه بصِيغةِ الاستفعالِ؛ للإشعارِ بعجْزِهم عن ذلك مع طلَبِهم له، وإيثارُ صِيغَةِ المُضارعِ في الفعلَينِ (تَسْبِقُ- يَسْتَأْخِرُونَ) بعدَما ذُكِرَ نفْيُ الإهلاكِ بصِيغَةِ الماضي أَهْلَكْنَا؛ لأنَّ المقصودَ بيانُ دوامِهما واسْتِمرارِهما فيما بينَ الأُمَمِ الماضيةِ والباقيةِ، وإسنادُهما إلى الأُمَّةِ بعدَ إسنادِ الإهلاكِ إلى القريةِ؛ لأنَّ السَّبْقَ والاستئخارَ حالُ الأُمَّةِ دونَ القريةِ، مع ما في (الأُمَّةِ) مِن العُمومِ لأهْلِ تلك القُرى وغيرِهم ممَّن أُخِّرَت عُقوباتُهم إلى الآخرةِ، وتأخيرُ ذِكْرِ عدَمِ تأخُّرِهم عن ذِكْرِ عدَمِ سبْقِهم مع كونِ المَقامِ مَقامَ المُبالغةِ في بيانِ تحقُّقِ عذابِهم؛ إمَّا باعتبارِ تقدُّمِ السَّبْقِ في الوجودِ، وإمَّا باعتبارِ أنَّ المُرادَ بيانُ سِرِّ تأخيرِ عذابِهم مع استحقاقِهم لذلك

======

 

سورةُ الحِجْرِ

الآيات (6-9)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غريب الكلمات:

 

مُنْظَرِينَ: أي: مُؤخَّرينَ، والإنظارُ: التَّأخيرُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ الله تعالى أنَّ المشركينَ قالوا للنبيِّ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استهزاءً: يا من يزعُمُ نُزولَ القُرآنِ عليه، إنَّك لَمجنونٌ فيما تدعونا إليه مِن اتِّباعِك، وتَركِ ما وجَدنا عليه آباءَنا، هلَّا تأتينا بالملائِكةِ؛ لتشهَدَ على قولِك، إن كنتَ صادِقًا. فردَّ الله عليهم مقولتَهم بقولِه: لا نُنَزِّلُ الملائِكةَ إلَّا بالحَقِّ- كالوحي أو العذابِ- لا بحسَبِ اقتراحاتِهم، وما كان اللهُ لِيُمهِلَهم حين تَنزِلُ عليهم الملائِكةُ- كما اقترحوا- ويرونهم ولا يؤمنون، بل سيعذِّبُهم حينئذٍ.

أوَلم يكفِهم مِن الآياتِ هذا القرآنُ الذي نزَّله الله تعالى على نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، والذي تولَّى حِفظَه جلَّ وعلا.

تفسير الآيات:

 

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بالغَ اللهُ تعالى في تهديدِ الكُفَّارِ؛ ذكَرَ بعده شُبَهَهم في إنكارِ نبُوَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

.

وأيضًا فإنَّها عَطفٌ على جُملةِ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا [الحِجر: 3]، والمناسبةُ أنَّ المعطوفَ عليها تضمَّنَت انهِماكَهم في الملذَّاتِ والآمالِ، وهذه تضَمَّنَت توغُّلَهم في الكُفرِ، وتكذيبَهم الرِّسالةَ المُحمَّديَّة .

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6).

أي: وقال مُشرِكو قُريشٍ لمحمَّدٍ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- تهكُّمًا به: يا مَن يزعُمُ أنَّ اللهَ نزَّل عليه القرآنَ، إنَّك لَمجنونٌ في دَعوتِك لنا إلى اتِّباعِك، وتَرْكِ عبادةِ الأصنامِ التي وجَدْنا عليها آباءَنا .

لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7).

أي: وقالوا له: هلَّا تُحضِرُ إلينا الملائِكةَ؛ ليَشهَدوا لك على ما تَقولُ، إن كنتَ من الصَّادِقينَ في أنَّك رَسولٌ مِن عندِ اللهِ حقًّا، فإنْ لم تأتِنا بالملائكةِ، فلسْتَ بصادقٍ في دَعواك .

كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الأنعام: 8] .

وقال سُبحانَه: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21] .

وقال تعالى حاكيًا قولَ فِرعونَ عن موسى عليه السَّلامُ: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف: 53] .

مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8).

مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ.

أي: ما نُنَزِّلُ الملائِكةَ إلَّا بما يحِقُّ ويجِبُ- كالوحيِ أو العذابِ، وغيرِ ذلك- تَنزيلًا مُلتَبِسًا بالحِكمةِ والمصلحةِ، لا على حسَبِ اقتراحِ الكُفَّارِ .

وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ.

أي: ولو نزَّلنا الملائِكةَ على الكُفَّارِ- كما اقتَرَحوا- فرَأَوا الملائِكةَ عِيانًا ولم يُؤمِنوا؛ فلن يُمهِلَهم اللهُ، وسيُعَذِّبُهم في الحالِ .

كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الأنعام: 8] .

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه استِئنافٌ لإبطالِ جُزءٍ مِن كَلامِ الكافرينَ المُستَهزِئينَ به، إذ قالوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، بعدَ أن عجَّلَ كَشْفَ شُبهَتِهم في قَولِهم: لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ .

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9).

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ.

أي: إنَّا نحنُ نزَّلْنا القرآنَ الذي فيه الذِّكرَى والموعِظةُ والشَّرَفُ .

وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.

وإنَّا له لحافِظونَ في حالِ إنزالِه مِن استِراقِ كلِّ شَيطانٍ رَجيمٍ، وبعدَ إنزالِه بحِفظِ ألفاظِه ومعانيه من الزِّيادةِ والنَّقصِ والتَّحريفِ

 

.

كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41-42] .

وقال سُبحانه: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21-22] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ قد أرادوا الاستهزاءَ بوصْفِه، فأنطَقَهم اللهُ بالحقِّ فيه صرْفًا لألسنتِهم عنِ الشَّتْمِ، وهذا كما كانوا إذا شَتَموا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو هَجَوه يَدْعونَه مُذَمَّمًا

.

2- قولُ المكذبينَ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ* لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مِن أعظمِ الظلمِ والجهلِ، أمَّا الظلمُ فظاهرٌ؛ فإنَّ هذا تجرؤٌ على الله، وتعنُّتٌ بتعيينِ الآياتِ التي لم يختَرْها، وحصَل المقصودُ والبرهانُ بدونِها مِن الآياتِ الكثيرةِ الدالةِ على صحةِ ما جاء به، وأمَّا الجهلُ: فإنَّهم جهِلوا مصلحتَهم مِن مضرتِهم، فليس في إنزالِ الملائكةِ خيرٌ لهم، بل لا ينزلُ الله الملائكةَ إلَّا بالحقِّ الذي لا إمهالَ على من لم يَتبعْه، ويَنْقَدْ له .

3- قوله تعالى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ يُفهَم منه أنَّ الله مُنظِرُهم؛ لأنَّه لم يُرِدِ استئصالَهم؛ لأنَّه أراد أن يكونَ نشرُ الدينِ بواسطتِهم، فأمهَلهم حتَّى اهتدوا، ولكنَّه أهلَك كبراءَهم ومُدبِّريهم .

4- قَولُه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ من عادةِ المُلوكِ إذا فعلوا شيئًا، قال أحَدُهم: نحن فعَلْنا، يريدُ نفسَه وأتباعَه، ثمَّ صار هذا عادةً للمَلِكِ في خِطابِه، وإن انفرَدَ بفِعلِ الشَّيءِ، فخُوطِبَت العرَبُ بما تعقِلُ مِن كَلامِها .

5- في قَولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ دَلالةٌ على أنَّ العِلْمَ الذي بَعَثَ اللهُ به نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، مَضبوطٌ ومحروسٌ .

6- في قَولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ دَلالةٌ على أنَّ  اللهَ سُبحانَه تَكفَّلَ بحِفظِ كتابِه؛ فلم يتمكَّنْ أحدٌ مِن الزيادةِ في ألفاظِه، ولا مِن النَّقصِ منها ، فقد تكفَّلَ تعالى بحفْظِه في كلِّ وقْتٍ، فلا يَعْتَريه زيادةٌ ولا نُقصانٌ، ولا تحريفٌ ولا تَبْديلٌ، بخلافِ غيرِه مِن الكُتُبِ المُتقدِّمةِ؛ فإنَّه تعالى لم يتكَفَّلْ حِفْظَها، بل أخبَرَ تعالى أنَّ الرَّبانيِّينَ والأحبارَ اسْتُحْفِظُوها؛ ولذلك وقَعَ فيها الاختلافُ .

7- قَولُه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فيه أنَّ القرآنَ آيةٌ مستَمِرَّةٌ إلى يومِ القيامةِ بخلافِ الآياتِ السَّابقةِ؛ الآياتُ السَّابِقةُ مَشهودةٌ ينتَفِعُ بها المُشاهِدونَ لها، أمَّا مَن بَعدَهم فإنَّما تَصِلُ إليهم عن طريقِ الأخبارِ، ومن المعلومِ أنَّه ليس الخبَرُ كالعِيانِ، وأمَّا القُرآنُ فإنَّه بيننا نشاهِدُه ونَسمَعُه ونتلوه، فليس هو مِن طريقِ الخبَرِ عن شيءٍ مضَى، فيكونُ أعظَمَ مِن الآياتِ التي انقَضَتْ وزالَتْ، وهذا هو السِّرُّ في أنَّ القُرآنَ كان آيةً لكُلِّ النَّاسِ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مبعوثٌ إلى جميعِ البَشَرِ .

8- في قَولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ دَلالةٌ على عُلُوِّ اللهِ تعالى؛ مِن جهةِ ذِكْرِ نزولِ الأشياءِ مِن عِندِه .

9- مَن زَعَم أنَّ القرآنَ قد حُذِفَ منه شَيءٌ، فإنَّه كافرٌ؛ لأنه مُكَذِّبٌ لِقَولِ اللهِ تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ .

10- قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ومِن حِفظِه أنَّ اللهَ يحفَظُ أهْلَه مِن أعدائِهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ

- قولُه: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ نادَوا به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على التَّهكُّمِ، وللتَّشهيرِ بالوصفِ المُنادى به؛ ويدلُّ على ما نادَوه له وهو قولُهم: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، وهذا الوصفُ بأنَّه الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ قالوه على جِهَةِ الاستهزاءِ والاستخفافِ، لا تسليمًا لذلك واعتقادًا له، وإشعارًا بعِلَّةِ حُكمِهم الباطلِ في قولهِم: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ؛ لأنَّهم لا يُقِرُّون بتنزيلِ الذِّكْرِ عليه، وينسِبونَه إلى الجُنونِ؛ كما قال فِرعونُ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] ، وكيف يُقِرُّونَ بنُزولِ الذِّكْرِ عليه وينسِبونَه إلى الجُنونِ؟!

. أو يكونُ في الكلامِ حذْفٌ، أي: يا أيُّها الَّذي تَدَّعي أنَّك نزَلَ عليك الذِّكرُ...إلخ .

- وفي قولِهم: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ تأكيدُ الجُملةِ بـ (إنَّ) واللَّامِ؛ لقصْدِهم تحقيقَ ذلك له؛ لعلَّه يرتدِعُ عن الاستمرارِ فيه، أو لقصْدِهم تحقيقَه للسَّامعينَ حاضِري مَجالِسِهم .

- وفي قولِه: نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ تقديمُ الجارِّ والمجرورِ على القائمِ مَقامَ الفاعلِ الذِّكْرُ؛ لأنَّ إنكارَهم مُتوجِّهٌ إلى كونِ النَّازلِ ذِكْرًا مِن اللهِ تعالى، لا إلى كونِ المُنزَّلِ عليه رسولَ اللهِ بعدَ تسليمِ كونِ النَّازِلِ منه تعالى، كما في قولِه تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ؛ فإنَّ الإنكارَ هناك مُتَوجِّهٌ إلى كونِ المُنَزَّلِ عليه رسولَ اللهِ تعالى، وإيرادُ الفعْلِ على صِيغَةِ المجهولِ نُزِّلَ؛ لإيهامِ أنَّ ذلك ليس بفعْلٍ له فاعلٌ، أو لتوجيهِ الإنكارِ إلى كونِ التَّنزيلِ عليه لا إلى استنادِه إلى الفاعِلِ .

2- قوله تعالى: لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ

- قولُه: لَوْ مَا تَأْتِينَا رُكِّبَ قولُه: لَوْ مع قولِه: مَا- كما رُكِّبَت (لو) مع (لا)- لمعنيينِ: معنى امتناعِ الشَّيءِ لوُجودِ غيرِه، ومعنى التَّحضيضِ، والمعنى: هلَّا تأتينا بالملائكةِ يَشْهدونَ بصِدْقِك، ويُعضِّدونَك على إنذارِك، كقولِه تعالى: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان: 7] ، أو: هلَّا تأتينا بالملائكةِ للعقابِ على تكذيبِنا لك إنْ كنْتَ صادقًا، كما كانت تأتي الأُمَمَ المُكذِّبةَ برُسُلِها .

- وجُملةُ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ استدلالٌ على ما اقتضَتْه الجُملةُ قبْلَها، باعتبارِ أنَّ المقصودَ منها تكذيبُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ ما يصدُرُ مِن المجْنونِ مِن الكلامِ لا يكونُ جاريًا على مُطابقةِ الواقعِ؛ فأكثَرُه كذِبٌ .

- قولُه: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، أي: مِن النَّاسِ الَّذين صِفَتُهم الصِّدقُ، وهو أقوى وأبلَغُ في التَّخلُّقِ بالصِّدقِ مِن: (إنْ كنْتَ صادقًا) .

3- قولُه: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ فيه ابتداءُ الجَوابِ بإزالةِ شُبْهتِهم- إذ قالوا قبْلُ: لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ- أُرِيدَ منه إزالةُ جَهالتِهم؛ إذ سألوا نُزولَ الملائكةِ علامةً على التَّصديقِ؛ لأنَّهم وإنْ طَلَبوا ذلك بقصْدِ التَّهكُّمِ، فهم مع ذلك مُعتقِدونَ أنَّ نُزولَ الملائكةِ هو آيةُ صدْقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان جوابُهم مَشُوبًا بطرَفٍ مِن الأسلوبِ الحكيمِ، وهو صرْفُهم إلى تَعليمِهم المَيْزَ بينَ آياتِ الرُّسلِ وبينَ آياتِ العذابِ؛ فأراد اللهُ ألَّا يَدَّخِرَهُم هدْيًا، وإلَّا فهم أحْرِياءُ بألَّا يُجابوا .

- وإِذًا حرْفُ جَوابٍ وجَزاءٍ، وقد وُسِّطَت هنا بينَ جُزْأَيْ جوابِها؛ رعيًا لمُناسبةِ عطْفِ جَوابِها على قولِ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ، وكان شأْنُ إِذًا أنْ تكونَ في صدْرِ جوابِها، وجُملتُها هي الجوابُ المقصودُ لقولِهم: لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ، وجُملةُ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ مُقدَّمةٌ مِن تأْخيرٍ؛ لأنَّها تعليلٌ للجَوابِ؛ فقُدِّمَ لأنَّه أوقَعُ في الرَّدِّ، ولأنَّه أسعَدُ بإيجازِ الجوابِ، وتقديرُ الكلامِ: لَوْما تَأْتينا بالملائكةِ إنْ كنْتَ مِن الصَّادقينَ، إذنْ ما كنْتُم مُنْظَرِينَ بالحياةِ، ولعُجِّلَ لكم الاستئصالُ؛ إذ ما تُنَزَّلُ الملائكةُ إلَّا مَصْحوبينَ بالعذابِ الحاقِّ .

4- قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ في سَبْكِ هاتينِ الجُملتينِ مِن الدَّلالةِ على كَمالِ الكِبرياءِ والجَلالةِ وعلى فَخامةِ شأْنِ التَّنزيلِ ما لا يَخْفَى، وفي إيرادِ الثَّانيةِ بالجُملةِ الاسميَّةِ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ: دَلالةٌ على دَوامِ الحفْظِ .

- وقولُه أيضًا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ لإبطالِ جزءٍ مِن كلامِهم المستهزئينَ به، إذ قالوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، بعدَ أن عجَّل كشفَ شبهتِهم في قولِهم: لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ جاء نشْرُ الجَوابَينِ على عكْسِ لَفِّ المَقالَينِ ؛ اهتمامًا بالابتداءِ برَدِّ المَقالِ الثَّاني بما فيه مِن الشُّبْهةِ بالتَّعجيزِ والإفحامِ، ثمَّ انْتُقِل إلى رَدِّ تعريضِهم بالاستهزاءِ، وسُؤالِ رُؤْيةِ الملائكةِ، وكان هذا الجوابُ مِن نوعِ القولِ بالمُوجَبِ بتقريرِ إنزالِ الذِّكْرِ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ مُجاراةً لظاهِرِ كلامِهم، والمقصودُ: الرَّدُّ عليهم في استهزائِهم، فأُكِّدَ الخبَرُ بـ(إنَّا) وضميرِ الفصْلِ (نحن) مع مُوافقَتِه لِمَا في الواقعِ، وفي هذا- مع التَّنويهِ بشأْنِ القُرآنِ- إغاظةٌ للمُشركينَ بأنَّ أمْرَ هذا الدِّينِ سَيتِمُّ، ويَنْتشِرُ القُرآنُ، ويبقَى على مَمَرِّ الأزمانِ، وهذا مِن التَّحدِّي؛ ليكونَ هذا الكلامُ كالدَّليلِ على أنَّ القُرآنَ مُنَزَّلٌ مِن عندِ اللهِ آيةً على صِدْقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه لو كان مِن قولِ البشَرِ أو لم يكُنْ آيةً، لَتَطرَّقَتْ إليه الزِّيادةُ والنُّقصانُ، ولاشتمَلَ على الاختلافِ .

- قولُه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ فيه توكيدُ أنَّه هو المُنَزِّلُ على القطْعِ والبَتاتِ، وهو رَدٌّ لإنكارِهم واستهزائِهم؛ ولذلك أكَّدَه مِن وُجوهٍ وقرَّرَه بقولِه: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، فلمَّا قالوا على سبيلِ الاستهزاءِ: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، رَدَّ عليهم بأنَّه هو المُنَزِّلُ عليه، فليس مِن قِبَلِه ولا قِبَلِ أحدٍ، بل هو اللهُ تعالى الَّذي بعَثَ به جبريلَ عليه السَّلامُ إلى رسولِه، وأكَّدَ ذلك بقولِه: إِنَّا نَحْنُ بدُخولِ (إنَّ) وبلفظِ (نحن)، وهو تأكيدٌ لاسمِ (إنَّ)، ثمَّ قال: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ .

- قولُه: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، أي: مِن كلِّ ما لا يليقُ به؛ فيدخُلُ فيه تكذيبُهم له واسْتِهزاؤهم به دُخولًا أوَّليًّا؛ فيكونُ وعيدًا للمُستهزِئينَ .

- واتَّصَلَ قولُه: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ بقولِه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ؛ لأنَّه قد جعَلَ ذلك دليلًا على أنَّه مُنَزَّلٌ مِن عندِه آيةً؛ لأنَّه لو كان مِن قولِ البشَرِ أو غيرَ آيةٍ، لَتطرَّقَ عليه الزِّيادةُ والنُّقصانُ كما يتطَرَّقُ على كلِّ كلامٍ سِواه

==================

 

سورةُ الحِجْرِ

الآيات (10-15)

ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ

غريب الكلمات:

 

شِيَعِ: أي: أُمَم وفِرَق، وأصلُ (شيع): يدُلُّ على مُعاضَدةٍ ومُساعَفةٍ

.

نَسْلُكُهُ: أي: نُدخِلُه، والسَّلْكُ: إدخالُ الشَّيءِ في الشَّيءِ، وأصلُ (سلك): يدلُّ على نفاذِ شَيءٍ في شَيءٍ .

يَعْرُجُونَ: أي: يَصعَدونَ، وأصلُ (عرج): يدلُّ على سُمُوٍّ وارتِقاءٍ .

سُكِّرَتْ: أي: سُدَّتْ، ومُنِعَت النَّظَرَ، وأصلُه مِنَ السَّكْرِ الذي هو سدُّ الشَّقِّ؛ لئلَّا ينفجرَ الماءُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبِرُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قد أرسل رُسُلًا في الأُمَمِ الماضيةِ، فما كان منهم حينَ أتَتْهم رسلُهم إلَّا الاستهزاءُ بهم والتَّكذيبُ لهم، كذلك نُدخِلُ القرآنَ قلوبَ المجرمينَ، فهم يسمعونَه ويفهمونَه ويعلمونَ أنَّه حقٌّ ومع ذلك يُكذِّبونَ به، فلا يؤمنونَ بالقرآنِ الذي أُنزِلَ إليك، وقد مَضَت عادةُ اللهِ بإهلاكِ الكُفَّارِ.

ولو فتَحْنا على كفَّارِ مكَّةَ بابًا من السَّماءِ فاستَمَرُّوا صاعدينَ فيه حتى يشاهِدوا ما في السَّماءِ مِن عجائبِ مَلَكوتِ اللهِ؛ لَمَا صدَّقوا، ولقالوا: سُدَّتْ أبصارُنا فلم نرَ شيئًا، وما نحنُ إلَّا مَسحورونَ مِن محمَّدٍ.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى استهزاءَ الكُفَّارِ بالنبيِّ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- ونِسبَتَه إلى الجُنونِ، واقتراحَ نزولِ الملائكةِ؛ سلَّاه تعالى بأنَّ المرسلينَ مِن قَبلِه كان ديدَنُ مَن أُرسِلوا إليهم مِثلَ دَيدَنِ هؤلاء معَه

، فقال تعالى:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10).

أي: ولقد أرسَلْنا مِن قَبلِك- يا مُحمَّدُ- رسُلًا في الأُمَمِ الماضيةِ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ [الروم: 47] .

وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11).

أي: وما أتَى تلك الأُمَمَ الماضيةَ مِن رَسولٍ أرسَله اللهُ إليهم؛ لدَعوتِهم إلى الحَقِّ، إلَّا سخِروا به وكَذَّبوه .

كما قال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] .

وقال سُبحانه: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [يس: 30] .

كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12).

كذلك نُدخِلُ القرآنَ قلوبَ المجرمينَ، فهم يسمعونَه ويفهمونَه ويعلمونَ أنَّه حقٌّ، وأنَّه يفوقُ كلَّ كلامٍ، وأنَّهم عاجزونَ عن معارضتِه، مع أنَّه بلسانِهم، ومع ذلك يُكذِّبونَ به .

كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5].

لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13).

لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ.

أي: لا يُؤمِنونَ بالقُرآنِ الذي أنزَلْناه على محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [الشعراء: 198 - 201] .

وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ.

أي: وقد مضتْ عادةُ اللهِ بإهلاكِ الكفَّارِ مِن الأُممِ الماضيةِ ممن كَذَّبَ الرُّسلَ .

كما قال تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 52] .

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ القومَ لَمَّا طَلَبوا نُزولَ ملائكةٍ يُصَرِّحونَ بتَصديقِ الرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- في كونِه رسولًا مِن عندِ اللهِ تعالى؛ بيَّنَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ أنَّه بتقديرِ أن يحصُلَ هذا المعنى، لقال الذين كَفَروا: هذا مِن بابِ السِّحرِ ، فهو كلامٌ جامعٌ لإبطالِ جميعِ معاذيرِهم، فهم لا يطلُبونَ الدَّلالةَ على صدقِه، ولكنَّهم يَنْتَحِلونَ المعاذيرَ المختلِفَةَ .

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14).

أي: ولو فَتَحْنا على هؤلاءِ الكُفَّارِ بابًا مِن السَّماءِ، فجعلوا يصعَدُونَ في وضَحِ النَّهارِ في ذلك البابِ، ويُشاهِدونَ ما في السَّماءِ بأعيُنِهم مِن مَلَكوتِ اللهِ تعالى وقُدرتِه وسُلطانِه ومَلائكَتِه .

لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15).

لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا.

أي: لجَحَدوا أن يكونوا رأَوا شَيئًا، فقالوا: إنَّما سُدَّتْ أبصارُنا بالسِّحرِ، ومُنِعَت من النَّظَرِ !

بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ.

أي: بل نحن قومٌ سَحَرَنا محمَّدٌ، فما عُدْنا نعقِلُ الأشياءَ ونراها كما يجِبُ

 

!

كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: 7] .

وقال سُبحانه: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ [القمر: 2- 3].

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ هذا تعزيةٌ وتَسليةٌ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودَلالةٌ على أنَّ كُلَّ واحدٍ مِن الرُّسُلِ كان مُبتلًى بقَومِه

.

2- قَولُ الله تعالى: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فيه رَدٌّ على القَدَريَّة والمُعتَزِلة، وهي أبيَنُ آيةٍ في ثُبُوتِ القَدَرِ؛ لِمَن أذعَنَ للحَقِّ ولم يُعانِدْ

 

، وهذا على اعتبارِ أنَّ ما يُسلَكُ في قلوبِهم هو الكفرُ والتكذيبُ.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ

- قولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ إبطالٌ لاستهزائِهم على طريقةِ التَّمثيلِ بنُظرائِهم مِن الأُمَمِ السَّالفةِ. وفي هذا التَّنظيرِ تحقيقٌ لكُفْرِهم؛ لأنَّ كُفْرَ أولئك السَّالفينَ مُقَرَّرٌ عندَ الأُمَمِ، ومُتحدَّثٌ به بينَهم. وفيه أيضًا تعريضٌ بوعيدِ أمثالِهم، وإدماجٌ بالكِنايةِ عن تسليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

.

- قولُه: وَلَقَدْ والتَّأكيدُ بلامِ القسَمِ و(قد)؛ لتحقيقِ سَبْقِ الإرسالِ مِن اللهِ، مِثْل الإرسالِ الَّذي جَحَدوه واسْتَعْجبوه .

2- قوله تعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ هو تسليةٌ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، و(ما) للحالِ، لا يدخُلُ إلَّا مُضارِعًا بمعنى الحالِ، أو ماضيًا قريبًا منه، وهذا على حِكايةِ الحالِ الماضيةِ؛ فصِيغَةُ الاستقبالِ يَأْتِيهِمْ لاستحضارِه الصُّورةَ على طريقةِ حِكايةِ الحالِ الماضيةِ ، وأكَّد النفيَ فقال: مِنْ رَسُولٍ أي: على أيِّ وجهٍ كان .

- قولُه: كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يدلُّ على تَكرُّرِ ذلك منهم وأنَّه سُنَّتُهم؛ فـ(كان) دلَّت على أنَّه سَجِيَّةٌ لهم، والمُضارعُ يَسْتَهْزِئُونَ دلَّ على تَكرُّرِه منهم، وتقديمُ المجرورِ بِهِ على يَسْتَهْزِئُونَ يفيدُ القصْرَ للمُبالغةِ؛ لأنَّهم لمَّا كانوا يُكْثِرونَ الاستهزاءَ برَسولِهم، وصار ذلك سَجِيَّةً لهم، نُزِّلُوا مَنزِلةَ مَن ليس له عمَلٌ إلَّا الاستهزاءُ بالرَّسولِ ، ولعلَّه عبَّر عنه بالسينِ المفهمةِ للطلبِ إشارةً إلى أنَّ رغبتَهم في الاستهزاءِ لا تنقضي، كما هو شأنُ الطالبِ للشيءِ .

3- قوله تعالى: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن سُؤالٍ يخطُرُ ببالِ السَّامِعِ لقولِه: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، فيتَساءلُ: كيف توارَدَت هذه الأُمَمُ على طريقٍ واحدٍ مِن الضَّلالِ، فلم تُفِدْهم دعوةُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ؟  أو الجملة  مُستأنَفَةٌ استئنافًا بَيانِيًّا ناشِئًا عن جُملةِ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ؛ إذ قد يخطُرُ بالبالِ أنَّ حِفْظَ الذِّكْرِ يقتضي ألَّا يكفُرَ به مَن كفَرَ؛ فأُجِيبَ بأنَّ ذلك عِقابٌ مِن اللهِ لهم؛ لإجرامِهم وتلقِّيهم الحقَّ بالسُّخريةِ وعدَمِ التَّدبُّرِ، ولأجْلِ هذا اخْتِيرَ لهم وصْفُ الْمُجْرِمِينَ دونَ (الكافرينَ)؛ لأنَّ وصْفَ الكُفْرِ صار لهم كاللَّقَبِ لا يُشْعِرُ بمعنى التَّعليلِ .

- وعُبِّرَ بصِيغَةِ المُضارعِ نَسْلُكُهُ؛ لكونِ المُشبَّهِ به مُقدَّرًا في الوُجودِ، وهو السَّلْكُ الواقعُ في الأُمَمِ السَّالفةِ، أو للدَّلالةِ على استحضارِ الصُّورةِ .

- وفي قولِه تعالى: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ تَشبيهٌ تمثيليٌّ للعِنادِ المُستحوِذِ عليهم واللَّدَدِ الرَّاسخِ في صُدورِهم، وتفصيلُ ذلك: أنَّ اللهَ تعالى سلَكَ القُرآنَ في قُلوبِهم وأدخَله في سُوَيداءَاتِها كما سلَكَ ذلك في قُلوبِ المُؤمنينَ المُصدِّقينَ- على أحدِ أوجهِ التأويلِ-؛ فكذَّبَ به هؤلاء وصدَّقَ به هؤلاء، كلٌّ على علْمٍ وبيِّنةٍ؛ ليَهْلِكَ مَن هلَكَ عن بيِّنَةٍ، ويحيا مَن حيَّ عن بيِّنَةٍ، ولئلا يكونَ للكُفَّارِ على اللهِ حُجَّةٌ بأنَّهم ما فَهِموا وُجوهَ الإعجازِ كما فَهِمَها مَن آمَنَ، فأعلَمَهم اللهُ تعالى مِن الآنَ- وهم في مُهْلَةٍ وإمكانٍ- أنَّهم ما كَفَروا إلَّا على علْمٍ مُعاندينَ باغِينَ؛ ليكونَ أدحَضَ لأيَّةِ حُجَّةٍ يختلِقونَها، وأنفَى لكلِّ ادِّعاءٍ يخرُصونَ به؛ ولذلك عقَّبَه اللهُ تعالى بقولِه: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا...، أي: إنَّ هؤلاء فهِمُوا القُرآنَ حقَّ الفَهْمِ، واكْتَنَهوا أسرارَه، وسَبَروا أغْوارَ مُعجزاتِه، وعَلِموا وُجوهَ إعجازِه، وولَجَ ذلك إلى قَراراتِ نُفوسِهم، ووَقَرَ في أسماعِهم، ولكنَّهم قومٌ دَيْدَنُهم العِنادُ، وشِيمَتُهم اللَّجاجُ والمُكابرةُ، حتَّى لو سلَكَ بهم أوضَحَ السُّبلِ وأدْعاها إلى الإيمانِ بضُرورةِ العِيانِ والمُشاهدةِ؛ وذلك بأنْ يفتَحَ لهم بابًا في السَّماءِ، ويُعْرَجُ بهم حتَّى يَدْخلوا منه نهارًا، وقد أشار إلى ذلك بقولِه: ظَلُّوا؛ لأنَّ الظُّلولَ إنَّما يكونُ نهارًا، لقالوا بعدَ ذلك الإيضاحِ العظيمِ المكشوفِ: إنَّما سُكِّرَت أبصارُنا، وسحَرَنا محمَّدٌ، وما هذه إلَّا خيالاتٌ مُمَوَّهَةٌ لا حقائقَ تحتَها؛ فأسجَلَ عليهم بذلك أنَّهم لا عُذْرَ لهم في التَّكذيبِ مِن عدَمِ سماعٍ ووَعْيٍ، ووُصولٍ إلى القُلوبِ، وفَهْمٍ كما فَهِمَ غيرُهم مِن المُصدِّقينَ؛ لأنَّ شأْنَهم الاستمرارُ في اللَّددِ والعِنادِ والمُكابرةِ واللَّجاجِ؛ وعلى وجْهِ التَّفصيلِ: في هذا التَّشبيهِ التَّمثيليِّ : التَّتميمُ ، وذلك بعرْضِ مُختلفِ مَجالَيِ المُشاهَدةِ والاعتبارِ. وفيها الاحتراسُ بكلمةِ ظَلُّوا؛ خشيةَ أنْ يكونَ عُروجُهم في الظَّلامِ، فيتعَلَّلوا به على عدَمِ الاهتداءِ. وفي استعمالِ أداتَيِ الحصْرِ والإضرابِ (إنَّما- بل) دَلالةٌ على البَتِّ بأنَّ ما يرَوْنَه لا حقيقةَ له، بل هو باطلٌ خُيِّلَ إليهم بنوعٍ مِن السِّحرِ حسَبَ ادِّعائِهم؛ وإيضاحُ ذلك أنَّهم قالوا: إِنَّمَا، وهي تفيدُ الحصرَ في المذكورِ آخِرًا؛ فيكونُ الحصْرُ في الأبصارِ لا في التَّسكيرِ، فكأنَّهم قالوا: سُكِّرَت أبصارُنا لا عُقولُنا، ونحن وإنْ كنَّا نتخيَّلُ بأبصارِنا هذه الأشياءَ لكنَّنا نعلَمُ بعُقولِنا أنَّ الحالَ بخلافِه، أي: لا حقيقةَ له، ثمَّ قالوا: بَلْ كأنَّهم أضْرَبوا عنِ الحصْرِ في الأبصارِ، وقالوا: بل جاوَزَ ذلك إلى عُقولِنا بسحْرٍ صنَعَه لنا، وهذه الآياتُ مِن الرَّوائعِ الَّتي يقِفُ البَيانُ أمامَها مُذْعِنًا .

4- قوله تعالى: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ

- قولُه: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ بيانٌ للسَّلكِ المُشبَّهِ به، أو حالٌ مِن المُجرمينَ، وهذا عامٌّ مُرادٌ به مَن ماتوا على الكُفْرِ منهم، والمُرادُ: أنَّهم لا يؤمِنونَ وقتًا ما .

- قولُه: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وجُملةِ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ، والكلامُ تعريضٌ بالتَّهديدِ بأنْ يحُلَّ بهم ما حَلَّ بالأُمَمِ الماضيةِ مُعاملةً للنَّظيرِ بنَظيرِه؛ لأنَّ كونَ سُنَّةِ الأوَّلينَ مَضَت أمْرٌ معلومٌ غيرُ مُفيدٍ ذِكْرُه، فكان الخبَرُ مُستعمَلًا في لازمِه بقرينةِ تعذُّرِ الحمْلِ على أصْلِ الخبريَّةِ . وقيل: هو استئنافٌ؛ جِيءَ به تكمِلةً للتَّسليةِ، وتصريحًا بالوعيدِ والتَّهديدِ لأهْلِ مكَّةَ على تكذيبِهم .

- قولُه: سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ السُّنَّةُ: العادةُ المألوفةُ، وإضافتُها إلى الأوَّلينَ باعتبارِ تعلُّقِها بهم، وإنَّما هي سُنَّةُ اللهِ فيهم؛ لأنَّها المقصودُ هنا، والإضافةُ لأَدْنى مُلابَسَةٍ .

5- قوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ فيه ذِكْرُ الظُّلولِ؛ ليجعَلَ عُروجَهم بالنَّهارِ؛ ليكونوا مُسْتوضِحينَ لِمَا يَرَوْنَ؛ فإنَّ (ظَلَّ) تدلُّ على الكونِ في النَّهارِ، أي: وكان ذلك في وضَحِ النَّهارِ، وتبيُّنِ الأشباحِ، وعدَمِ التَّردُّدِ في المَرْئِيِّ .

6- قوله تعالى: لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ

- قولُه: لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ أَتَوا بصِيغَةِ الحصرِ (إنَّما)؛ للدَّلالةِ على أنَّهم قد بَتُّوا القولَ في ذلك (بأنَّه مِن التَّخيُّلِ ولا حقيقة له)، وأنَّه ليس إلَّا تَسْكيرًا للأبصارِ . ورَدُّ بعضِهم على بعضٍ ظَنٌّ أنْ يكونوا رَأَوا أبوابَ السَّماءِ وعَرَجوا فيها، وزَعَموا أنَّهم ما كانوا يُبْصِرونَ، ثمَّ أضْرَبوا عن ذلك إضرابَ المُتردِّدِ المُتحيِّرِ ينتقِلُ مِن فرْضٍ إلى فرْضٍ، فقالوا: بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ؛ فعادوا إلى إلقاءِ تَبِعَةِ ذلك على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه سحَرَهم حين سأَلَ لهم اللهَ أنْ يفتَحَ بابًا مِن السَّماءِ، ففتَحَه لهم .

- قولُه: بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ في التَّعبيرِ بالجُملةِ الاسميَّةِ دَلالةٌ على دَوامِ مَضْمونِها، وإيرادُها بعدَ تَسكيرِ الأبصارِ؛ لبيانِ إنكارِهم لغيرِ ما يرَوْنَه؛ فإنَّ عُروجَ كلٍّ منهم إلى السَّماءِ وإنْ كان مَرئيًّا لغيرِه، فهو معلومٌ بطريقِ الوُجدانِ، مع قطْعِ النَّظرِ عن الأبصارِ؛ فهم يدَّعونَ أنَّ ذلك نوعٌ آخَرُ مِن السِّحرِ غيرُ تَسكيرِ الأبصارِ .

- وقالوا كما حكَى الله عنهم هنا: بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ دونَ أنْ يقولوا: (بل نحن مَسحورونَ)؛ لأنَّ ذِكْرَ كلمةِ (قوم) يقتضي أنَّ السِّحرَ قد تمكَّنَ منهم، واستوى فيه جميعُهم حتَّى صار مِن خصائصِ قَوميَّتِهم

======================

 

سورةُ الحِجْرِ

الآيات (16-25)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ

غريب الكلمات:

 

بُرُوجًا: أي: مَنازِلَ للشَّمسِ والقَمَر؛ مِن قَولِهم: بَرَجَ الشَّيءُ: إذا ظهَرَ وارتفَعَ، وسُمِّيت بذلك؛ لظُهورِها ووُضوحِها

.

رَجِيمٍ: أي: مَطرودٍ عن الخَيراتِ، والرَّجمُ: اللَّعنُ والطَّردُ والإبعادُ، وأصلُ الرَّجمِ: الرَّميُ بالحِجارةِ .

اسْتَرَقَ: أي: تسَمَّعَ مُستخفيًا، وأصلُ (سرق): يدُلُّ على أخذِ شَيءٍ في خَفاءٍ وسِترٍ .

شِهَابٌ: أي: كَوكَبٌ مضيءٌ، أو: شُعلةٌ ساطِعةٌ مِن النَّارِ، والشِّهابُ كلُّ ذي نورٍ، وأصلُ (شهب): يدلُّ على بياضٍ مُختَلِطٍ بسَوادٍ .

رَوَاسِيَ: أي: جبالًا ثوابتَ،  وكلُّ شيءٍ ثَبَت فقد رسَا، وأصلُه: يدلُّ على ثباتٍ .

مَوْزُونٍ: أي: مُقَدَّرٍ مَعلومٍ مِقدارُه، لا يُجاوِزُ ما قدَّره اللهُ عليه، والوَزْنُ: مَعرِفةُ قَدرِ الشَّيءِ، وأصل (وزن): يدُلُّ على تَعديلٍ واستِقامةٍ .

لَوَاقِحَ: أي: تُلَقِّحُ السَّحابَ بالماءِ، وأصلُ (لقح): يدلُّ على إحبالِ ذَكَرٍ لأُنثَى

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ

ومَنْ: في محلِّ نَصبٍ، عطفًا على مَعَايِشَ، أي: وجعَلْنا لكم فيها مَنْ لستُم له برازقينَ من العَبيدِ والدوابِّ المنتَفَعِ بها. ويجوزُ أن تكونَ في محل جرٍّ عطفًا على (كم) في لَكُمْ، مِن غيرِ إعادةِ الجارِّ على رأيِ الكوفيِّينَ والأخفشِ، أي: جعَلْنا لكم... ولِمَن لستُم. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُعَدِّدُ الله تعالى في هذه الآياتِ أدلَّةَ قُدرتِه سُبحانه، وأنَّه قد جعَلَ في السَّماءِ الدُّنيا مَنازِلَ للشمس والقمرِ، وزَيَّنَ هذه السَّماءَ بالنُّجومِ لِمَن ينظُرونَ إليها، ويتأمَّلونَ فيَعتَبِرونَ، وحَفِظَ السَّماءَ مِن كُلِّ شَيطانٍ مَطرودٍ مِن رَحمةِ الله أن يستمعَ إلى الملأِ الأعلى، إلَّا مَن اختلَسَ السَّمعَ فاختطف شَيئًا مِن كلامِ الملائكة مما سوَى الوحيِ، فلَحِقَه شِهابٌ مُضيءٌ ظاهرٌ يُحرِقُه أو يقتلُه، وبسَط الله تعالى هذه الأرضَ ووَسَّعَها، وجعل فيها جِبالًا تُثَبِّتُها، وأوْجَدْنا فِي الأرضِ مِنْ كُلِّ شيءٍ مُقَدَّرٍ بقَدْرٍ مَعْلومٍ، وجعَلَ للنَّاسِ في الأرضِ ما يَعيشونَ به؛ من المَطاعمِ والمَشارِبِ، ومِن أنواعِ المكاسِبِ، وجعَلَ لهم من الأولادِ والخدَمِ والدَّوابِّ ما يَنتَفِعونَ به، وليسوا لهم بِرازقين، وما مِن شَيءٍ إلَّا عندَ الله خزائِنُه ومفاتيحُه، وما يُنَزِّلُه اللهُ سُبحانَه إلَّا بمِقدارٍ محَدَّدٍ كما يشاءُ.

وأرسَلَ سُبحانَه الرِّياحَ لتُلَقِّحَ السَّحابَ، فأنزلَ مِن ذلك السَّحابِ المطَرَ لِشَرابِ النَّاسِ ومَواشيهم، وسقيِ أرضِهم، وليست خزائِنُه عندهم، وهو سُبحانَه يُحيي ويميتُ، وهو الوارِثُ للأرضِ ومَن عليها، وقد عَلِمَ تعالى مَن تقدَّم مِن الناسِ ومَن تأخَّر، وبأحوالِهم وأعمالِهم جميعًا، وهو وَحدَه سُبحانَه يَحشُرُ النَّاسَ للحِسابِ والجَزاءِ؛ إنَّه حكيمٌ في تَدبيرِه، عليمٌ لا يخفى عليه شَيءٌ.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أجاب عن شُبهةِ مُنكِري النبُوَّةِ، وكان قد ثبَتَ أنَّ القَولَ بالنُبوَّةِ مُفَرَّعٌ على القَولِ بالتَّوحيدِ؛ أتبَعَه تعالى بدلائِلِ التَّوحيدِ

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى أنَّ الكافرينَ لو رأَوا الآيةَ المَذكورةَ في السَّماءِ، لعانَدوا فيها؛ عَقَّبَ ذلك بهذه الآيةِ، فكأنَّه قال: وإنَّ في السَّماءِ لَعِبَرًا منصوبةً غيرَ هذه المذكورةِ، وكُفرُهم بها وإعراضُهم عنها إصرارٌ منهم وعُتُوٌّ .

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا.

أي: ولقد خَلَقْنا في السَّماءِ الدُّنيا نُجومًا بمثابةِ مَنازِلَ للشَّمسِ والقَمَرِ في مَسيرِهما .

كما قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان: 61] .

وقال سُبحانه: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج: 1] .

وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ.

أي: وزيَّنَّا السَّماءَ الدُّنيا بالنُّجومِ لِمَن يُبصِرُها، ولِمَن ينظُرُ إليها فيتأمَّلُها ويعتبِرُ، ويستدِلُّ بها على قُدرةِ خالِقِها ووحدانيَّتِه سُبحانَه .

كما قال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [الصافات: 6] .

وقال سُبحانه: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [الملك: 5] .

وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17).

أي: وحَرَسْنا السَّماءَ الدُّنيا مِن كُلِّ شَيطانٍ ذَميمٍ محقَّرٍ مَطرودٍ مِن رَحمةِ الله، لئلَّا يَسْتَمعوا إلى الملأِ الأعلَى .

كما قال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 6 - 10] .

وقال سُبحانه: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن: 8- 9] .

إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18).

أي: لكن قد يتقدَّم بعضُ مردتِهم فيختطفُ بخُفْيةٍ خطفةً يسيرةً ممَّا يسمعُه مِن الملائكةِ مِن الأخبارِ والحوادثِ مما سوَى الوحيِ، فيلحقُه شهابٌ مِن النَّارِ مضيءٌ ظاهرٌ، فيقتلُه أو يُخبلُه أو يُحرِقُه .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه- يَبلُغُ به النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال: ((إذا قضَى اللهُ الأمرَ في السَّماءِ، ضَرَبَت الملائكةُ بأجنِحَتِها خُضعانًا لِقَولِه، كالسِّلسلةِ على صفوانٍ ، فإذا فُزِّعَ عن قُلوبِهم قالوا: ماذا قال ربُّكم؟ قالوا للذي قال: الحَقَّ، وهو العليُّ الكبيرُ، فيَسمَعُها مُستَرِقو السَّمعِ، ومُستَرِقو السَّمعِ هكذا؛ واحِدٌ فَوقَ آخَرَ- ووصَفَ سُفيانُ بِيَدِه، وفرَّجَ بين أصابعِ يدِه اليُمنى، نَصَبَها بعضَها فوقَ بَعضٍ- فرُبَّما أدرَك الشِّهابُ المُستَمِعَ قبلَ أن يرمِيَ بها إلى صاحِبِه، فيُحرِقُه، وربَّما لم يُدرِكْه حتى يرميَ بها إلى الذي يليه، إلى الذي هو أسفَلُ منه، حتى يُلقُوها إلى الأرضِ، فتُلقَى على فَمِ السَّاحِرِ، فيَكذِبُ معها مائةَ كَذْبةٍ، فيُصدَّقُ، فيقولونَ: ألمْ يُخبِرْنا يومَ كذا وكذا يكونُ كذا وكذا، فوَجَدْناه حقًّا؟! للكَلِمةِ التي سُمِعَت من السَّماءِ )) .

وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)  .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا شرَحَ اللهُ تعالى الدَّلائِلَ السَّماويَّةَ في تقريرِ التَّوحيدِ؛ أتبَعَها بذِكرِ الدَّلائِلِ الأرضيَّةِ، فقال تعالى :

وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا.

أي: والأرضَ بَسَطناها، ووسَّعْناها سَعةً تتمَكَّنُ المخلوقاتُ فيها على الامتدادِ بأرجائِها، والتناوُلِ مِن أرزاقِها، والسُّكونِ في نواحيها .

كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة: 22] .

وقال سُبحانه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا [النبأ: 6] .

وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ.

أي: وجعَلْنا في الأرضِ جِبالًا ثابتةً تُمسِكُ الأرضَ؛ لِئلَّا تَضطَرِبَ بأهلها .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء: 31] .

وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ.

وأوْجَدْنا فِي الأرضِ مِنْ كُلِّ شيءٍ مُقَدَّرٍ بقَدْرٍ مَعْلومٍ، بقصدٍ وإرادةٍ .

كما قال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88].

وقال سُبحانه: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد: 8] .

وقال جلَّ جلالُه: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 7] .

وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20).

وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ.

أي: وهيَّأْنا لكم في الأرضِ- أيُّها النَّاسُ- ما تعيشونَ به مِن المطاعِمِ والمَشارِبِ، ويسَّرْنا لكم الحِرَفَ، وأنواعَ المكاسِبِ .

وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ.

أي: وجَعَلْنا لكم الأولادَ والعَبيدَ والدوابَّ والأنعامَ التي نَرزُقُها نحن لا أنتم .

كما قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل: 72].

وقال سُبحانه: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 5 - 8] .

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى أنه أنبَتَ في الأرضِ كُلَّ شَيءٍ مَوزونٍ، وجعلَ فيها معايِشَ؛ أتبَعَه بذِكرِ ما هو كالسَّبَبِ لذلك .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ظهَرَ كالشَّمسِ كَمالُ قُدرةِ الله تعالى، وأنَّه واحِدٌ لا شريكَ له؛ بيَّنَ أنَّه كما كانت هذه الأشياءُ عنده بحِسابٍ قَدَّرَه على حِكمةٍ دَبَّرَها، كان غيرُها كذلك، فذلك هو المانِعُ مِن مُعاجَلتِهم بما يَهزَؤونَ به مِن العذابِ ، فقال تعالى:

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ.

أي: وما مِن شَيءٍ- مِن جميعِ الأرزاقِ، وأصنافِ الأقدارِ، مِن الأمطارِ وغيرِها- إلَّا عندَ الله وَحدَه خَزائِنُه، ومفاتيحُه بِيَدِه؛ فهو مالِكُ كُلِّ شَيءٍ، وهو القادِرُ على إيجادِه وتكوينِه متى يشاء .

وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.

أي: وما نُنَزِّلُ الأمطارَ والأرزاقَ وكُلَّ شَيءٍ إلَّا بمِقدارٍ مُحَدَّدٍ، لا يزيدُ ولا يَنقُصُ، بحسَبِ مَشيئةِ الله، وما تَقتَضيه حِكمتُه .

كما قال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد: 8] .

وقال سُبحانه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ [المؤمنون: 18] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى: 27] .

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تَمَّ ما أراد اللهُ تعالى من آيتَيِ السَّماءِ والأرضِ، وختَمَه بشُمولِ قُدرتِه لكُلِّ شَيءٍ؛ أتبَعَه ما ينشأُ عنهما ممَّا هو بينَهما مُودَعًا في خزائِنِ قُدرتِه .

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ.

أي: وأرسَلْنا رياحَ الرَّحمةِ لِتُلقِّحَ السَّحابَ، فينشأَ عن ذلك الماءُ الذي يحمِلُه السَّحابُ .

عن سَلَمةَ بنِ الأكوعِ رَضِيَ الله عنه- يرفَعُه إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((كان إذا اشتَدَّت الرِّيحُ يقولُ: اللَّهُمَّ لَقَحًا لا عَقيمًا ) .

فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ.

أي: فأنزَلْنا من السَّحابِ مَطَرًا، فمكنَّاكم من هذا الماءِ العذْبِ؛ لِشُربِكم، وشُربِ أنعامِكم، وسَقْيِ أراضيكم .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 10-11] .

وقال سُبحانه: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا [الفرقان: 48-49] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68 - 70] .

وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ.

أي: ليست خزائِنُ المطَرِ عِندَكم، بل نحن الخازِنونَ له، نُنَزِّلُه متى نشاءُ .

قال تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء: 100] .

قال سُبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 21] .

وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا جرى ذِكرُ إنزالِ المطَرِ، وكان ممَّا يَسبِقُ إلى الأذهانِ عندَ ذِكرِ المطَرِ إحياءُ الأرضِ به؛ ناسَبَ أن يذكُرَ بعده جِنسَ الإحياءِ كُلَّه؛ لِمَا فيه من غرضِ الاستدلالِ على الغافلينَ عن الوحدانيَّةِ، ولأنَّ فيه دليلًا على إمكانِ البَعثِ، والمقصودُ ذِكرُ الإحياءِ؛ ولذلك قُدِّمَ، وذكَرَ الإماتةَ للتَّكميلِ .

وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ.

أي: وإنَّا لَنحنُ نُحيي الخَلقَ مِن العدَمِ، ونُحييهم بعدَ مَوتِهم يومَ البَعثِ، ونُميتُ الأحياءَ متى شِئْنا .

وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ.

أي: ونحن الوارِثونَ للأرضِ ومَن عليها مِن الخَلقِ بعد مَوتِهم، فلا يبقَى إلَّا اللهُ وَحدَه سُبحانه .

كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم: 40] .

وقال سُبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26-27].

وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ؛ أتبَعَه بقَولِه: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ؛ تنبيهًا على أنَّه لا يخفَى على اللهِ شَيءٌ مِن أحوالِهم، فيدخُلُ فيه عِلمُه تعالى بتقَدُّمِهم وتأخُّرِهم في الحُدوثِ والوجودِ، وبتقَدُّمِهم وتأخُّرِهم في أنواعِ الطاعاتِ والخَيراتِ .

وأيضًا لمَّا بيَّن الله تعالى الحُجَجَ على كمالِ قدرتِه تعالى؛ بيَّن كمالَ علمِه جلَّ وعلا؛ فإنَّ ما يدلُّ عليها دليلٌ عليه ضرورةَ أنَّ القادرَ على كلِّ شيءٍ لا بدَّ مِن علمِه بما يصنعُه .

وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24).

أي: ولقدْ أحاطَ علمُنا بمَن تقدَّم منكم- أيُّها الناسُ- وبمَن تأخَّر، وبأحوالِكم، وأعمالِكم جميعًا، فلا يخفَى علينا شيءٌ .

وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ جُملةَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ نتيجةٌ لهذه الأدلَّةِ مِن قَولِه: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ؛ فإنَّ الذي يُحيي الحياةَ الأُولى قادِرٌ على الحياةِ الثَّانية بالأَولى، والذي قدَّرَ الموتَ ما قَدَّرَه عَبَثًا بعد أن أوجَدَ الموجوداتِ، لكن قدَّره لتَسْتقبلوا حياةً أبديةً، ولولا ذلك لقَدَّرَ الدَّوامَ على الحياةِ الأُولَى، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] .

وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ.

أي: وإنَّ ربَّك- يا مُحمَّدُ- هو وَحدَه الذي يجمَعُ الأوَّلينَ والآخِرينَ يومَ القيامةِ للحِسابِ والجزاءِ، لا شَكَّ في قُدرتِه على ذلك، وصِدقِ وَعدِه .

إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.

أي: إنَّه- سُبحانه- حَكيمٌ يضَعُ الأشياءَ في مواضِعِها اللَّائقةِ بها، ومن ذلك حِكمتُه في تدبيرِ خَلقِه ومُجازاتِهم على أعمالِهم، وهو عليمٌ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بأعدادِ خَلقِه وأحوالِهم وأعمالِهم، فيُجازيهم عليها؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا أصلٌ في عِلمِ المَواقيتِ

.

2- قال الله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا سمِّيَت بذلك؛ لأنَّها للكواكِبِ السَّيَّارةِ كالمنازِلِ لسُكَّانِها .

3- قَولُ الله تعالى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فيه التَّنويهُ بعِصمةِ الوَحيِ مِن أن يتطَرَّقَه الزِّيادةُ والنَّقصُ ، فطريقُ الوحيِ إلى الرسولِ محفوظةٌ مِن الشياطينِ.

4- إن قيلَ: قَولُه: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ وغيرُه من الآياتِ التي استُدلَّ بها على حِفظِ السَّماءِ مِن الشَّياطينِ وارِدةٌ في حِفظِها مِن استِراقِ السَّمعِ، وذلك إنَّما يكونُ مِن شَياطينِ الجِنِّ، فدَلَّ ذلك على اختصاصِ الآياتِ المذكورةِ بشَياطينِ الجِنِّ؟

فالجوابُ: أنَّ الآيةَ المذكورةَ وغيرَها تَشمَلُ بدَلالتِها اللُّغَويَّةِ شَياطينَ الإنسِ مِن الكُفَّارِ، ولا شَكَّ أنَّ مِن أشَدِّ الكُفَّارِ تمَرُّدًا وعتُوًّا الذين يحاوِلونَ بُلوغَ السَّماءِ؛ فدُخولُهم في اسمِ الشَّيطانِ لُغةً لا شَكَّ فيه، وإذا كان لفظُ الشَّيطانِ يعُمُّ كُلَّ متمَرِّدٍ عاتٍ، فقَولُه تعالى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ صريحٌ في حِفظِ السَّماءِ مِن كلِّ متمَرِّدٍ عاتٍ، كائنًا مَن كان، وحمْلُ نصوصِ الوَحيِ على مَدلولاتِها اللُّغَويةِ واجِبٌ، إلَّا لدَليلٍ يدُلُّ على تخصيصِها أو صَرفِها عن ظاهِرِها المُتبادِرِ منها، وحِفظُ السَّماءِ مِن الشَّياطينِ معناه حِراستُها منهم، وهذا معروفٌ في كلامِ العرَبِ، فيكونُ مَدلولُ هذه الآيةِ بدَلالةِ المُطابقةِ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ أي: وحَرَسناها- أي: السَّماءَ- مِن كُلِّ عاتٍ متمَرِّدٍ. ولا مفهومَ مُخالفةٍ لِقَولِه: رَجِيمٍ ولا لقوله: مَارِدٍ في قَولِه: وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [الصافات: 7] ؛ لأنَّ مِثلَ ذلك من الصِّفاتِ الكاشِفةِ؛ فكُلُّ شَيطانٍ يُوصَفُ بأنَّه رَجيمٌ وبأنَّه مارِدٌ، وإن كان بعضُهم أقوى تمرُّدًا مِن بَعضٍ، وما حرَسَه اللهُ جلَّ وعلا مِن كُلِّ عاتٍ متمَرِّدٍ لا شَكَّ أنَّه لا يصِلُ إليه عاتٍ متمَرِّدٌ كائنًا مَن كان .

5- قال الله تعالى: جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ هذه من الآياتِ التي تدُلُّ على أنَّ الأرضَ هي محَلُّ عِيشةِ الإنسانِ، فظاهرُ القرآنِ- بلا شَكٍّ- يدلُّ على أنْ لا حياةَ للإنسانِ إلَّا في هذه الأرضِ التي منها خُلِقَ، وإليها يُعَادُ، ومنها يُخرَجُ؛ قال الله تعالى: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف: 25] ، فحصَرَ الحياةَ في الأرضِ والموتَ فيها والإخراجَ منها، وطريقُ الحَصرِ فيها تقديمُ ما حَقُّه التأخيرُ، ونحوُ هذه الآيةِ قَولُه تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه: 55] ، حيث حَصَرَ ابتداءَ الخَلقِ مِن الأرضِ، وأنَّها هي التي نُعادُ فيها بعد الموتِ، ونُخرَجُ منها يومَ القيامةِ .

6- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ متضَمِّنٌ لكَنزٍ مِن الكنوزِ، وهو أنَّ كلَّ شَيءٍ لا يُطلَبُ إلَّا ممَّن عنده خَزائِنُه، ومفاتيحُ تلك الخزائِنِ بيَديه، وأنَّ طَلَبَه مِن غَيرِه طَلَبٌ ممَّن ليس عِندَه، ولا يَقدِرُ عليه .

7- مذهَبُ السَّلَفِ قاطِبةً أنَّ الأمورَ كُلَّها بتقديرِ اللهِ تعالى، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ .

8- الإرسالُ المذكورُ في قَولهِ تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ هو إرسالٌ كونيٌّ، وهو ما وافقَ مشيئةَ اللهِ تعالى الكونيَّةَ، ويقابلُه: الإرسالُ الدينيُّ، وهو ما وافَقَ محبَّةَ اللهِ ورضاه وأمْرَه الشَّرعيَّ، كما في قَولِه تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [نوح: 1] .

9- قولُ الله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ فيه سؤالٌ: كيف قال ذلك، والوارِثُ من يتجَدَّدُ له المُلكُ بعد فناءِ المورِّثِ، واللهُ تعالى لم يتجَدَّد له مُلكٌ؛ لأنَّه لم يزَلْ مالكًا للعالَمِ؟

والجواب: أنَّ الخلائِقَ لَمَّا كانوا يعتَقِدونَ أنَّهم مالِكونَ، ويُسَمَّونَ بذلك أيضًا مجازًا، ثمَّ ماتوا؛ خَلَصَت الأملاكُ كُلُّها لله تعالى عن ذلك التعَلُّقِ، فبهذا الاعتبارِ سُمِّيَ وارِثًا، ونظيرُ ذلك قولُه تعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] ، والمُلكُ له أزليٌّ وأبدِيٌّ. وقيل: (الوارِث) لغةً هو الباقي بعد فناءِ غَيرِه، وإن لم يتجَدَّدْ له مُلكٌ، فمعنى الآية: ونحن الباقونَ بعد فناء الخلائِقِ .

10- قال الله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أسنَدَ الحَشرَ إلى اللهِ بعُنوانِ كَونِه رَبَّ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تنويهًا بشأنِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأنَّهم كَذَّبوه في الخَبَرِ عن البَعثِ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَـبِّـئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 7-8] ، أي: فكيف ظنُّك بجَزائِه مُكَذِّبيك إذا حشَرَهم

 

؟

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ

- قولُه: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا في الانتقالِ إلى ذِكْرِ فتْحِ أبوابِ السَّماءِ في تصويرِ غُلَوائِهم بعِنادِهم بعدَ ذِكْرِ دَلائلِ إمكانِ البعثِ في قولِه تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ- تَخلُّصٌ بديعٌ، وفيه ضَرْبٌ مِن الاستدلالِ على مُكابرتِهم؛ فإنَّهم لو أرادوا الحقَّ لكان لهم في دَلالةِ ما هو منهم غُنْيَةٌ عن تطلُّبِ خَوارقِ العاداتِ، والخبَرُ مُستعمَلٌ في التَّذكيرِ والاستدلالِ؛ لأنَّ مَدلولَ هذه الأخبارِ معلومٌ لديهم. وافتُتِحَ الكلامُ بلامِ القسَمِ وحرْفِ التَّحقيقِ (قد)؛ تنزيلًا للمُخاطَبينَ الذَّاهلينَ عنِ الاستدلالِ بذلك مَنزِلةَ المُتردِّدِ؛ فأكَّدَ لهم الكلامَ بمُؤكِّدَينِ، ومرجِعُ التَّأكيدِ إلى تحقيقِ الاستدلالِ وإلى الإلجاءِ إلى الإقرارِ بذلك

.

2- قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ استِراقُ السَّمعِ: سرِقَتُه؛ صِيغَ وزْنُ الافتعالِ للتَّكلُّفِ، وعُبِّرَ عن الكلامِ المُستَرَقِ بالسَّمعِ؛ لأنَّه يَؤُولُ إلى الخبرِ؛ فالَّذي يحصُلُ لمُسترِقِ السَّمعِ شُعورٌ ما تتوجَّهُ الملائكةُ لتَسخيرِه، والَّذي يحصُلُ للكاهِنِ كذلك، والمَآلُ أنَّ الكاهِنَ يُخْبِرُ به، فيَؤُولُ إلى مَسموعٍ .

3- قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُـنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ

- قولُه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ (إنْ) للنَّفيِ، و(مِن) صِلَةٌ؛ للتَّأكيدِ .

- التعبيرُ بصيغةِ المضارعِ في قولِه: وَمَا نُنَزِّلُهُ ؛ للدَّلالةِ على الاستمرارِ .

4- قوله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ

- قولُه: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي فيه تَكريرُ الضَّميرِ نَحْنُ؛ للدَّلالةِ على الحصْرِ .

5-  وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ فيه تخلُّصٌ مِن الاستدلالِ بالإحياءِ والإماتةِ على عِظَمِ القُدرةِ إلى الاستدلالِ بلازِمِ ذلك على عِظَمِ علْمِ اللهِ، وهو علْمُه بالأُمَمِ البائِدةِ وعلْمُ الأُمَمِ الحاضرةِ؛ وذلك لأنَّه ذكَرَ الإحياءَ والإماتةَ قبْلُ في قولِه: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ، والإحياءُ- بكسْرِ الهمزةِ- يُذَكِّرُ بالأحياءِ- بفتحِها-، والإماتةُ تُذَكِّرُ بالأمواتِ الماضينَ .

- والسِّينُ والتَّاءُ في الوصفَينِ (الْمُسْتَقْدِمِينَ - الْمُسْتَأْخِرِينَ)؛ للتَّأكيدِ، مثلُ (استجابَ)، ولكنَّ قولَهم: (استقدَمَ بمعنى تقدَّمَ) على خلافِ القياسِ؛ لأنَّ فعْلَه رُباعِيٌّ .

- وفي تَكريرِ قولِه: وَلَقَدْ عَلِمْنَا ما لا يَخْفى مِن الدَّلالةِ على كَمالِ التَّأكيدِ .

6- قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

- قولُه: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ فيه تَصديرُ الجُملةِ بقولِه: إِنَّ؛ لتحقيقِ الوعْدِ والتَّنبيهِ على أنَّ ما سبَقَ مِن الدَّلالةِ على كَمالِ قُدرتِه وعلْمِه بتفاصيلِ الأشياءِ؛ يدلُّ على صِحَّةِ الحُكمِ، كما صرَّحَ به بقولِه: إِنَّهُ حَكِيمٌ . وأُكِّدَت جُملةُ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ بحرْفِ التَّوكيدِ (إنَّ) وبضميرِ الفصْلِ (هو)؛ لرَدِّ إنكارِهم الشَّديدِ للحشْرِ .

- قولُه أيضًا: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ فيه توسيطُ الضَّميرِ (هو)؛ للدَّلالةِ على أنَّه القادِرُ والمُتولِّي لحشرِهم لا غيرُ، أي: هو وحدَه القادرُ على حشْرِهم، والعالِمُ بحصرِهم مع إفراطِ كثْرَتِهم وتباعُدِ أطرافِ عدَدِهم؛ لأنَّهم كانوا يستبعِدونَ ذلك ويستنكِرونَه، ويقولون: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] .

- وفي الالتفاتِ والتَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ بقولِه: رَبَّكَ؛ إشعارٌ بعِلَّةِ الحُكمِ .

- وقد أُسْنِدَ الحشرُ إلى اللهِ بعُنوانِ كونِه ربَّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقولِه: رَبَّكَ؛ تنويهًا بشأْنِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأنَّهم كذَّبوه في الخبرِ عنِ البعْثِ ، وفيه دَلالةٌ على اللُّطْفِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

- قولُه: إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ؛ تعليلٌ لجُملةِ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ؛ لأنَّ شأْنَ (إنَّ) إذا جاءت في غيرِ معنى الرَّدِّ على المُنكِرِ أنْ تُفيدَ معنى التَّعليلِ والرَّبطِ بما قبْلَها

======================

 

سورةُ الحِجْرِ

الآيات (26-44)

ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ

غريب الكلمات:

 

صَلْصَالٍ: طينٍ يابسٍ له صَوتٌ، وأصلُ الصَّلصالِ: تردُّدُ الصَّوتِ مِن الشَّيءِ اليابسِ

.

حَمَإٍ: طينٍ أسوَدَ متغَيِّرٍ مُنتِنٍ .

مَسْنُونٍ: أي: مَصبوبٍ، مِن سَنَّ الماءَ: إذا صَبَّه، أي: أنَّه مفرَّغٌ على هيئةِ الإنسانِ، أو مُنتِنٍ مُتغَيِّرِ الرَّائحةِ، مِن قَولِهم: سَنَنتُ الحجرَ على الحجَرِ: إذا حكَكْتَه به، فالذي يسيلُ بينهما يقال له: سَنِينٌ، ويكونُ ذلك مُنتِنًا .

السَّمُومِ: أي: الرِّيحِ الحارَّةِ التي تدخُلُ مَسامَّ الإنسانِ، وأصل (سمم): يدلُّ على مدخَلٍ في الشَّيءِ .

فَأَنْظِرْنِي: أي: فأخِّرني، وأجلني، والنظرُ: الانتظارُ، ونظرتُه: أي: انتظرتُه، كأنَّه ينظرُ إلى الوقتِ الذي يأتي فيه، وأصلُ (نظر): تأملُ شيءٍ ومعاينتُه .

الْغَاوِينَ: أي: الضالِّينَ، والهالكينَ، والغَيُّ: جهلٌ مِن اعتقادٍ فاسدٍ، وأصلُ (غوي): يدلُّ على خلافِ الرشدِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبِرُ تعالى أنَّه خَلقَ آدمَ مِن طينٍ يابسٍ، كائنٍ مِن طينٍ أسودَ مُتغيِّرٍ، وخَلقَ أبا الجِنِّ- وهو إبليسُ- مِن قَبلِ خَلْقِ آدمَ من نارٍ شديدةِ الحرارةِ.

ثم حكَى الله تعالى ما أمَر به الملائكةَ عندَما أراد خلقَ آدمَ، فقال تعالى: اذكُرْ- يا محمَّدُ- حين قال ربُّك للملائكةِ: إنِّي خالِقٌ إنسانًا من طينٍ يابسٍ أسودَ مُتَغيِّرٍ، فإذا أكمَلْتُ صُورتَه ونفَخْتُ فيه الرُّوحَ، فخِرُّوا له ساجِدينَ سُجودَ تحيَّةٍ وتكريمٍ، فسجَدَ الملائِكةُ كُلُّهم أجمعونَ- كما أمَرَهم ربُّهم- إلَّا إبليسَ، امتنَعَ أن يسجُدَ لآدمَ مع الملائكةِ السَّاجِدينَ. قال اللهُ تعالى لإبليس: ما لك ألَّا تَسجُدَ مع الملائكةِ؟ قال إبليسُ تكَبُّرًا وحَسدًا: لا ينبغي لي أن أسجُدَ لإنسانٍ مخلوقٍ مِن طينٍ يابسٍ مُتغيِّر!

قال اللهُ تعالى له: فاخرُجْ منها؛ فإنَّك مطرودٌ، وإنَّ عليك اللَّعنةَ إلى يومِ القيامةِ. قال إبليسُ: ربِّ أخِّرْني فلا تُهلِكْني إلى اليومِ الذي تَبعَثُ فيه الخلائِقَ، قال اللهُ له: فإنَّك من المؤخَّرين إلى اليومِ الذي يموتُ فيه الخَلقُ عندَ النَّفخةِ الأولى. قال إبليسُ: ربِّ بسبَبِ ما أغويتَني وأضلَلْتَني لأُحسِّنَنَّ لهم مَعصيتَك في الأرضِ، ولأُضِلَّنَّهم عن طريقِ الهُدى، إلَّا عبادَك المُخلَصين الذين اختَرْتَهم لهِدايتِك. قال الله: هذا طريقٌ مُستقيمٌ مُعتَدِلٌ مُوصِلٌ إليَّ وإلى جنَّتي.

إنَّ عبادي الذين أخلَصوا لي، لا سُلطانَ لك على قُلوبِهم، لكِنْ سُلطانُك على مَنِ اتَّبَعَك مِنَ المُشرِكينَ الضالِّينَ الذين رَضُوا بولايتِك وطاعتِك، وإنَّ جهنَّم لَموعِدُ إبليسَ وأتباعِه أجمعينَ، لها سبعةُ أبوابٍ، لكلِّ بابٍ من أتباعِ إبليسَ نصيبٌ مَعلومٌ يَدخُلونَ منه جهنَّمَ.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا نبَّه تعالى على مُنتهى الخَلقِ- وهو الحَشرُ يومَ القيامةِ إلى ما يستقِرُّونَ فيه- نبَّهَهم على مبدَأ أصلِهم آدمَ، وما جرى لعدُوِّه إبليسَ مِن المحاورةِ مع اللهِ تعالى

، فقال:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ.

أي: ولقد خَلَقْنا آدمَ مِن طينٍ قد اشتَدَّ يُبْسُه بعدما خُمِّرَ، حتى صار له صوتُ صَلصلةٍ إذا نُقِرَ .

كما قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن: 14].

وقال سُبحانَه: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة: 7-8] .

مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.

أي: وهذا الصَّلصالُ مِن طينٍ أسودَ متغَيِّرٍ؛ مِن طُولِ مُكثِه .

وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ سُبحانه خَلْقَ الإنسانِ؛ أتبَعَه ذِكْرَ ما خلَقَه قَبلَه مِن الجانِّ ؛ تمهيدًا إلى بيانِ نشأةِ العداوةِ بينَ بني آدمَ وجندِ إبليسَ .

وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27).

أي: وإبليسَ- أبا الجِنِّ، المتواريَ عن الأعيُنِ- خَلَقْناه من قبلِ آدمَ مِن النارِ الشَّديدةِ الحرارةِ .

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28).

أي: واذكُرْ- يا محمَّدُ- إذ قال ربُّك للملائكةِ: إنِّي خالِقٌ إنسانًا مِن طينٍ يابسٍ أسوَدَ متغَيِّرٍ .

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)  .

أي: فإذا أكمَلتُ خَلْقَ آدمَ، وصَوَّرْتُه، وصار جسدًا تامًّا في غايةِ الإتقانِ، ونفخْتُ فيه الرُّوحَ التي هي مِن خَلْقي، فصار بشرًا حَيًّا؛ فخِرُّوا له ساجِدينَ تحيَّةً له وتكريمًا .

فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30).

أي: فلمَّا خلَقَ اللهُ آدمَ، ونفَخَ فيه الرُّوحَ، سجدَ له كلُّ الملائكةِ فَورًا، كما أمَرَهم اللهُ .

إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31).

أي: إلَّا إبليسَ امتنَعَ أن يكونَ مع الملائكةِ السَّاجِدينَ لآدمَ؛ تكبُّرًا منه وحسَدًا لآدمَ .

كما قال سُبحانه: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص: 73-74] .

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32).

أي: قال الله: يا إبليسُ، ما السَّبَبُ الذي حمَلَك على ألَّا تكونَ مع الملائكةِ السَّاجِدينَ لآدمَ، وقد أمرتُك بالسُّجودِ معهم ؟!

كما قال تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص: 75] .

قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33).

أي: قال إبليسُ تكبُّرًا وحسَدًا لآدمَ- عليه السَّلامُ: لا ينبغي لي أنا- المخلوقَ مِن نارٍ- أن أسجُدَ لهذا الجسَدِ الذي خلقْتَه من طينٍ يابسٍ لا مَنعةَ فيه، إذا نُقِرَ أجاب بالتَّصويتِ، أسودَ متغَيِّرٍ، فأنا خيرٌ منه؛ لأنَّك خلقتَني من نارٍ نافعةٍ بالإشراقِ، مُمتَنِعةٍ ممَّن يريدُها بالإحراقِ، فسُجودي له منافٍ لحالي .

كما قال تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 61-62] .

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34).

أي: قال الله لإبليسَ: فاخرُجْ منها فإنَّك مَشتومٌ مُحقَّرٌ مذمومٌ .

وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35).

أي: وإنَّ طَرْدَك التَّامَّ مِن رَحمتي سيبقَى في الدُّنيا مُتَّصِلًا بك، لاحِقًا لَك، إلى يومِ القيامةِ الذي تُلاقي فيه جزاءَ ما عَمِلتَ .

كما قال سُبحانه: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص: 77-78] .

قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36).

أي: قال إبليسُ: ربِّ فإذ أخرَجْتَني ولعَنْتَني، فأمهِلْني وأخِّرْني، ولا تُهلِكْني إلى أن تبعَثَ خلْقَك يومَ القيامةِ .

قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37).

أي: قال اللهُ لإبليسَ: فإنَّك من المؤخَّرينَ المُمهَلينَ .

إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38).

أي: إلى الوقتِ الذي يموتُ فيه الخلائقُ، وهو وقتُ النفخةِ الأُولَى .

كما قال سُبحانَه: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [الإسراء: 62-63] .

- وقال تعالى: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الأعراف: 14-15] .

- وقال سُبحانَه: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة: 49-50] .

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39).

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ.

أي: قال إبليسُ: ربِّ بسبَبِ إغوائِك لي لأُحَسِّنَنَّ للنَّاسِ مَعصيتَك، ولأُرغِّبنَّهم فيها، ولأَشغَلنَّهم بزينةِ الدُّنيا عن طاعتِك .

وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.

أي: ولأُضِلَّنَّ جميعَ النَّاسِ عن طريقِ الحَقِّ .

كما قال تعالى: لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 118-120] .

وقال سُبحانه: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [الإسراء: 62-64] .

وقال تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 16-17] .

وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضِيَ الله عنه، قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ إبليسَ قال لرَبِّه: بعِزَّتِك وجَلالِك لا أبرَحُ أُغوي بني آدمَ ما دامتِ الأرواحُ فيهم، فقال له الله: فبعِزَّتي وجلالي لا أبرَحُ أغفِرُ لهم ما استغفَروني)) .

إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40).

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ الْمُخْلَصِينَ بفتح اللَّامِ، اسم مفعولٍ من أُخلِصَ، بمعنى: أنَّ الله أخلَصَهم فصاروا مخلَصِينَ، أي: اختارهم اللهُ وهداهم .

2- قراءةُ الْمُخْلِصِينَ بكسرِ اللامِ، اسم فاعلٍ مِن أخلَصَ، بمعنى: أنَّهم أخلَصوا لله دينَهم وأعمالَهم من الشِّركِ والرِّياءِ .

إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40).

أي: إلَّا عبادَك الذين اختَرتَهم لهدايتِك، وطَهَّرتَهم من الشِّركِ والرِّياءِ فصاروا مُخلَصينَ، فلا أستطيعُ إغواءَهم .

قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41).

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ عَلِيٌّ بكسرِ اللامِ ورَفعِ الياءِ وتنوينِها، أي: هذا طريقٌ رفيعٌ شريفٌ في الدِّينِ .

2- قِراءةُ عَلَيَّ بفتحِ اللَّامِ والياءِ من غير تنوينٍ، أي: هذا طريقٌ يدُلُّ عليَّ وعلى عبادتي وطاعتي، لا على معصيتي وطاعةِ الشَّيطانِ .

قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41).

أي: قال الله: طريقُ الحَقِّ والهُدى والإخلاصِ طريقٌ مُعتَدِلٌ، لا اعوِجاجَ فيه، يدُلُّ عليَّ، ويُوصِلُ إليَّ، وإلى جنَّتي .

كما قال تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 56] .

وقال سُبحانه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: 9] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 61] .

وقال جلَّ جلالُه: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [الليل: 12] .

وعن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((خَطَّ لنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطًّا، ثم قال: هذا سبيلُ اللهِ؛ ثم خَطَّ خُطوطًا عن يمينِه وعن شِمالِه؛ ثم قال: هذه سُبُلٌ- قال يَزيدُ: مُتَفَرِّقةٌ- على كُلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] )) .

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42).

أي: قال اللهُ لإبليسَ: إنَّ عبادي المؤمنينَ الموحِّدينَ الذين هديتُهم، ليس لك عليهم حُجَّةٌ وتسَلُّطٌ على قلوبِهم، لكنْ مَن اتَّبَعَك من النَّاسِ فرَضِيَ بولايتِك وطاعتِك، ومالَ إلى ما تدعو إليه من الضَّلالاتِ؛ فلك عليه تسَلُّطٌ .

كما قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99-100] .

وقال سُبحانه: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 64-65] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] .

وقال تبارك وتعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف: 36 - 38] .

وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43).

أي: وإنَّ جهنَّم لَموعِدُ إبليسَ وكُلِّ مَن اتَّبَعه من الإنسِ والجِنِّ أجمعينَ، فيَصيرونَ إليها في الآخرةِ .

كما قال تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] .

وقال سُبحانه: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84-85] .

وكما قال تعالى عن القرآن: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17] .

لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44).

لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ.

أي: لجهنَّمَ سَبعةُ أبوابٍ، يدخُلُ أهلُ النَّارِ منها .

لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ.

أي: لكلِّ بابٍ من أتباعِ إبليسَ نصيبٌ مَعلومٌ، يَدخُلونَ منه إلى النَّارِ، كلٌّ يدخُلُ مِن بابٍ بحسَبِ عمَلِه، ويستقِرُّ في دَرْكٍ بقَدْرِ فِعْلِه

 

.

كما قال تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [الشعراء: 94-95] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ هذا الإنظارُ فيه إشارةٌ إلى أنَّ ناموسَ الشرِّ لا ينقضي مِن عالَمِ الحياةِ الدُّنيا، وأنَّ نِظامَها قائِمٌ على التصارُعِ بين الخيرِ والشَّرِّ، والأخيارِ والأشرارِ؛ قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ [الأنبياء: 18] ، وقال: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ [الرعد: 17] ؛ فلذلك لم يستغنِ نظامُ العالَمِ عن إقامةِ قوانينِ العَدلِ والصلاحِ، وإيداعِها إلى الكُفاةِ لتَنفيذِها، والذَّودِ عنها

.

2- اعتلَّ إبليسُ بالقَدَرِ؛ حيث قال: بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وأما آدمُ فقال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] . فمن أراد اللهُ سعادتَه، ألهمه أن يقولَ كما قال آدمُ- عليه السَّلامُ- أو نحوِه، ومن أراد شقاوتَه اعتَلَّ بعلَّةِ إبليسَ أو نحوِها، فيكونُ كالمستجيرِ مِن الرَّمضاءِ بالنَّارِ، ومَثَلُه مَثَلُ رجُلٍ طار إلى دارِه شرارةُ نارٍ، فقال له العقلاءُ: أطفِئْها لئلَّا تُحرقَ المنزلَ، فأخذ يقولُ: من أين كانت؟ هذه ريحٌ ألقَتْها وأنا لا ذنبَ لي في هذه النَّارِ، فما زال يتعلَّلُ بهذه العِلَلِ حتى استعَرَت وانتشرت وأحرقت الدارَ وما فيها! هذه حالُ مَن شَرَع يُحيل الذنوبَ على المقاديرِ ولا يرُدُّها بالاستغفارِ والمعاذيرِ ، فمن تاب أشبَهَ أباه آدمَ، ومن أصَرَّ واحتَجَّ بالقَدَرِ أشبَهَ إبليسَ .

3- قَولُ الله تعالى حاكيًا عن إبليسَ قولَه: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فيه دَليلٌ على جلالةِ هذا الوَصفِ، وأنَّه أفضَلُ ما اتَّصفَ به الطَّائِعُ .

4- وضَعَ اللهُ تعالى سُنَّةً في نُفوسِ البشَرِ أنَّ الشَّيطانَ لا يتسَلَّطُ إلَّا على من كان غاويًا، مائِلًا للغَوايةِ، مُكتَسِبًا لها، دونَ من كبَحَ نفسَه عن الشَّرِّ؛ فإنَّ العاقِلَ إذا تعلَّقَ به وِسواسُ الشَّيطانِ عَلِمَ ما فيه من إضلالٍ، وعَلِمَ أنَّ الهُدى في خلافِه، فإذا وُفِّقَ وحمَلَ نفسَه على اختيارِ الهُدى، وصرَفَ إليه عَزمَه، قَوِيَ على الشَّيطانِ فلم يكنْ له عليه سُلطانٌ، وإذا مال إلى الضَّلالِ واستحسَنَه، واختار إرضاءَ شَهوتِه، صار متهيئًا إلى الغَوايةِ، فأغواه الشَّيطانُ فغَوى، قال الله تعالى: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] ظاهِرُ هذه الآيةِ أنَّ آدمَ خُلِقَ مِن صَلصالٍ، أي: طينٍ يابسٍ. وقد جاء في آياتٍ أُخَرَ ما يَدُلُّ على خِلافِ ذلك، كقَولِه تعالى: مِنْ طِينٍ لَازِبٍ [الصافات: 11] ، وكقَولِه تعالى: كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [آل عمران: 59] .

والجوابُ: أنَّه ذكَرَ أطوارَ ذلك التُّرابِ، فذكَرَ طَورَه الأوَّلَ بقَولِه: مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ بُلَّ فصار طينًا لازِبًا، ثم خُمِّرَ فصار حمَأً مسنونًا، ثمَّ يَبِسَ فصار صَلصالًا كالفخَّارِ

.

2- في قَولِه تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ علَّقَ السُّجودَ بأن يَنفُخَ فيه من رُوحِه، فالمُوجِبُ لتَفضيلِ آدمَ على إبليسَ هذا المعنى الشَّريفُ الذي ليس لإبليسَ مِثلُه .

3- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، ظاهرُه يقتضي أنَّ الله تعالى تكلَّم مع إبليسَ بغيرِ واسطةٍ، وأنَّ إبليس تكلَّم مع الله تعالى بغيرِ واسطةٍ فيه، وكيف يعقلُ هذا مع أنَّ مكالمةَ الله تعالى بغيرِ واسطةٍ مِن أعظمِ المناصبِ، وأشرفِ المراتب، فكيف يُعقَلُ حصولُه لرأسِ الكفرةِ ورئيسِهم ؟

لعل الجوابَ عنه: أنَّ مكالمة الله تعالى إنما تكونُ منصبًا عاليًا إذا كان على سبيلِ الإكرامِ والإعظامِ، فأما إذا كان على سبيلِ الإهانةِ والإذلالِ فلا، وهذا الخطابُ له ليس للتشريفِ والتكريمِ، بل للتقريعِ والتوبيخِ .

4- قال تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَولُه: يَا إِبْلِيسُ اختار هذا الاسمَ هنا؛ لأنَّ الإبلاسَ معناه اليأسُ مِن كُلِّ خَيرٍ، والسُّكونُ والانكسارُ، والحُزنُ والتحيُّر، وانقطاعُ الحُجَّةِ، والنَّدمُ .

5- قَولُه تعالى: يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ جرى فيه الاستخبارُ على ما تعرفُه العَرَبُ مِن كلامِها، وتستعمِلُه في مُحاوراتِها؛ فتسألُ عن الشَّيءِ تَعرِفُه، أو لِتؤكِّدَ الحُجَّةَ على المسؤولِ، ومِثلُ هذا كثيرٌ في القُرآنِ، قال اللهُ تبارك وتعالى لموسى صلَّى الله عليه وسلَّم: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه: 17] وهو يَعلَمُها ويَراها .

6- قولُ الله تعالى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ فيه دليلٌ على أنَّ إبليسَ سيستمِرُّ على كُفرِه، وبُعدِه من الخيرِ .

7- قولُ الله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ إنْ قيل: كَلِمةُ (إلى) تفيدُ انتهاءَ الغايةِ، فهذا يُشعِرُ بأنَّ اللَّعنَ لا يحصُلُ إلَّا إلى يومِ القيامة، وعند قيامِ القيامةِ يزولُ اللَّعنُ؟ والجوابُ عنه مِن وجهينِ:

الوجه الأول: أنَّ المرادَ منه التأبيدُ، وذِكرُ القيامةِ أبعَدُ غايةٍ يذكُرُها النَّاسُ في كلامِهم، كقَولِهم: (ما دامت السَّمواتُ والأرضُ) في التأبيدِ، فجعَل يومَ الدينِ- وهو يومُ الجزاء- غايةً للَّعنِ، استعمالًا في معنى الدوامِ، كأنَّه قيل: أبدًا.

الوجه الثاني: أنَّك مذمومٌ مدعُوٌّ عليك باللَّعنةِ في السَّمواتِ والأرضِ إلى يومِ الدِّينِ مِن غيرِ أن يُعَذَّبَ، فإذا جاء ذلك اليومُ عُذِّبَ عذابًا ينسَى اللَّعنَ معه، فيصيرُ اللَّعنُ حينئذٍ كالزَّائلِ؛ بسبَبِ أنَّ شِدَّةَ العذابِ تُذهِلُ عنه، فاللعنةُ عليه في الدنيا إلى أن يلاقيَ جزاءَ عملِه، فذلك يومئذٍ أشدُّ مِن اللعنةِ .

8- قَولُ الله تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إنْ قيلَ: كيف أجاب اللهُ تعالى إبليسَ إلى ذلك الإمهالِ؟

فالجوابُ: أنَّه إنما أجابَه إلى ذلك زيادةً في بلائِه وشَقائِه وعذابِه، لا لإكرامِه ورَفعِ مَرتبتِه ، فهو امتحانٌ وابتلاءٌ مِن الله له وللعبادِ؛ ليتبيَّنَ الصادقُ الذي يطيعُ مولاه دونَ عدوِّه، ممن ليسَ كذلك، ولذلك حذَّرَنا منه غايةَ التحذيرِ .

9- في قَولِه تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أجاب اللهُ دُعاءَه فى الحالِ، ولكنْ كان ذلك مَكرًا به؛ لأنَّه مكَّنَه من مُخالفةِ أمْرِه إلى يومِ القيامةِ، فلم يَزِدْه بذلك التَّمكينِ إلَّا شِقوةً؛ لِيَعلمَ الكافَّةُ أنَّه ليس كلُّ إجابةٍ للدُّعاءِ نِعمةً ولُطفًا، بل قد تكونُ بلاءً ومَكرًا .

10- في قَولِه تعالى عن إبليسَ: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وقَولِه: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ دَلالةٌ على أنَّ إقرارَ العبدِ بالحقيقةِ الكونيَّةِ- وهي أنَّ اللهَ ربُّه وخالِقُه وخالِقُ غيرِه- دونَ القيامِ بما أُمِرَ به مِن الحقيقةِ الدينيَّةِ، التي هي عبادتُه المتعَلِّقةُ بإلهيَّتِه، وطاعةُ أمرِه وأمرِ رسولِه- أنَّه يكونُ مِن جِنسِ إبليسَ، وأهلِ النَّارِ. وإنْ ظَنَّ مع ذلك أنَّه مِن خواصِّ أولياءِ اللهِ، وأهلِ المعرفةِ والتَّحقيقِ، الذين يسقُطُ عنهم الأمرُ والنَّهيُ الشَّرعيَّانِ؛ كان من أشَرِّ أهلِ الكُفرِ والإلحادِ !

11- قولُ اللهِ تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فيه أنَّ العِلمَ لا يستلزِمُ الهدايةَ، وكثيرًا ما يكونُ الضَّلالُ عن عَمدٍ وعِلمٍ لا يشُكُّ صاحِبُه فيه، بل يُؤثِرُ الضَّلالَ والكُفرَ وهو عالِمٌ بقُبحِه ومَفسَدتِه؛ فهذا شَيخُ الضُّلَّالِ وداعي الكُفرِ وإمامُ الفَجَرةِ: إبليسُ عَدُوُّ اللهِ، قد عَلِمَ أمرَ اللهِ له بالسُّجودِ لآدمَ، ولم يشُكَّ فيه، فخالَفَه وعاند الأمرَ، وباء بلَعنةِ الله وعذابِه الدَّائمِ، مع عِلمِه بذلك ومَعرفتِه به، وأقسَمَ له بعِزَّتِه أنَّه يُغوي خَلْقَه أجمعينَ إلَّا عبادَه منهم المُخلَصينَ، فكان غيرَ شاكٍّ في الله وفي وحدانيَّتِه، وفي البعثِ الآخِرِ وفي الجنَّةِ والنَّارِ، ومع ذلك اختار الخُلودَ في النَّارِ، واحتمالَ لعنةِ اللهِ وغَضَبِه وطَرْدِه من سمائِه وجَنَّتِه عن عِلمٍ بذلك ومَعرفةٍ لم تحصُل لكثيرٍ مِن النَّاسِ؛ ولهذا قال: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وهذا اعترافٌ منه بالبعثِ وإقرارٌ به، وقد عَلِمَ قسَمَ رَبِّه؛ لَيَملأنَّ جهنَّمَ منه ومِن أتباعِه، فكان كُفرُه كُفرَ عنادٍ مَحضٍ، لا كُفرَ جَهلٍ .

12- القَدَرُ يُؤمَنُ به، ولا يُحتَجُّ به، فمن لم يؤمِنْ بالقَدَرِ ضارَعَ المجوسَ، ومن احتَجَّ به ضارع المُشرِكينَ، ومن أقَرَّ بالأمرِ والقَدَرِ، وطعَنَ في عَدْلِ الله وحِكمتِه، كان شبيهًا بإبليسَ؛ فإنَّ اللهَ ذكَرَ عنه أنَّه طعَنَ في حِكمتِه وعارَضَه برأيِه وهواه، وأنَّه قال: بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ .

13- في قَولِه تعالى عن إبليسَ: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ بيَّنَ الله تعالى أنَّ عِبادَه هم الذين يَنجُونَ مِن السَّيِّئاتِ .

14- في قَولِه تعالى عن إبليسَ: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ بيانُ العبوديَّةِ الخاصَّةِ- وهي عبوديةُ الطاعةِ والمحبَّةِ، واتِّباعِ الأوامرِ- ويُقابِلُها العبوديَّةُ العامَّةُ- وهي عبوديَّةُ أهلِ السَّموات والأرض كلِّهم لله؛ برِّهم وفاجرِهم، مؤمنِهم وكافرِهم- فهذه عبوديةُ القهرِ والمُلْكِ؛ قال تعالى إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 93] فهذا يدخُلُ فيه مؤمِنُهم وكافِرُهم .

15- في قَولِه تعالى عن إبليسَ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وقَولِه: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ دَلالةٌ على أنَّ كلَّ مَن لم يعبدِ اللهَ وحدَه، فلا بُدَّ أن يكونَ عابدًا لغَيرِه، فيكون مُشرِكًا، وليس في بني آدمَ قِسمٌ ثالثٌ، بل إمَّا مُوَحِّدٌ، وإمَّا مُشرِكٌ، أو مَن خَلطَ هذا بهذا، كالمُبَدِّلينَ مِن أهلِ المِلَلِ: النصارى، ومَن أشبَهَهم مِن الضُّلَّالِ المنتسبينَ إلى الإسلامِ .

16- قال الله تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ هذا السُّؤالُ من إبليسَ لم يكُنْ مِن ثِقةٍ منه بمنزلتِه عندَ اللهِ تعالى، وأنَّه أهلٌ أن يُجابَ له دعاءٌ، ولكِنْ سأل تأخيرَ عذابِه زيادةً في بلائِه، كفعلِ الآيسِ من السلامةِ، وأراد بسُؤالِه الإنظارَ إلى يومِ يُبعثونَ ألَّا يموتَ؛ لأنَّ يومَ البعثِ لا موتَ فيه ولا بَعدَه .

17- اللهُ لا يَغفِرُ أن يُشرَكَ به، سواءٌ كان المُشرِكُ مُقِرًّا بالقَدَرِ، وناظِرًا إليه، أو مُكَذِّبًا به، أو غافلًا عنه؛ فقد قال إبليسُ: بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فأصَرَّ واحتَجَّ بالقدَرِ، فكان ذلك زيادةً في كُفرِه، وسببًا لِمَزيدِ عَذابِه .

18- قَولُ الله تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، قيل: إنَّ الإضافةَ للتَّشريفِ، فلا تشمَلُ إلَّا الخُلَّصَ، فحينئذٍ يكونُ الاستثناءُ مُنقَطِعًا، وفائدةُ سَوقِه بصورةِ الاستثناءِ على تقديرِ الانقطاعِ: التَّرغيبُ في رُتبةِ التَّشريفِ بالإضافةِ إليه، والرُّجوعِ عن اتِّباعِ العَدُوِّ إلى الإقبالِ عليه؛ لأنَّ ذَوي الأنفُسِ الأبيَّةِ والهِمَمِ العَلِيَّةِ يُنافِسونَ في ذلك المَقامِ، ويَرَونَه- كما هو الحَقُّ- أعلى مَرامٍ .

19- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ زيادةُ فِي الْأَرْضِ لأنَّها أوَّلُ ما يخطرُ ببالِه عند خطورِ الغَوايةِ؛ لاقترانِ الغَواية بالنزولِ إلى الأرضِ الذي دَلَّ عليه قولُه تعالى: فَاخْرُجْ مِنْهَا [الحجر: 34] ، أي: اخرجْ من الجنَّةِ إلى الأرضِ، كما جاء في الآيةِ الأُخرَى، قال: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [البقرة: 2] ، ولأنَّ جعْلَ التزيينِ في الأرضِ يفيدُ انتشارَه في جميعِ ما على الأرضِ مِن الذواتِ وأحوالِها .

20- قولُ الله تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ جعَلَ المُغوَينَ هم الأصلَ، واستثنى منهم عبادَ اللهِ المُخلَصين؛ لأنَّ عزيمةَ إبليسَ مُنصرفةٌ إلى الإغواءِ، فهو الملحوظُ ابتداءً عنده، على أنَّ المُغوَينَ هم الأكثَرُ، وعكسُه قَولُه تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ [الحجر: 42] ، والاستثناءُ لا يُشعِرُ بقِلَّةِ المستثنى بالنِّسبةِ للمستثنى منه، ولا العكسِ .

21- قَولُ الله تعالى: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ القِراءةُ بفَتحِ اللَّامِ في الْمُخْلَصِينَ تدلُّ على أنَّ الإخلاصَ والإيمانَ ليس إلَّا مِن الله تعالى؛ حيثُ إنَّ معنى الآيةِ على هذه القراءةِ: الذين أخلَصَهم اللهُ بالهدايةِ والإيمانِ، والتَّوفيقِ .

22- في قَولِه تعالى: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ سِرٌّ لطيفٌ في استخدامِ أداة «على»، وهو الإشعارُ بكَونِ السَّالكِ على هذا الصِّراطِ على هُدًى- وهو حَقٌّ- كما قال في حَقِّ المؤمنينَ: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 5] ، وقال لرَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل: 79] ، واللهُ عزَّ وجلَّ هو الحقُّ، وصِراطُه حقٌّ، ودينُه حقٌّ، فمَنِ استقامَ على صراطِه فهو على الحقِّ والهُدى، فكان في أداةِ «على» على هذا المعنى ما ليس في أداةِ «إلى»، فتأمَّلْه؛ فإنَّه سِرٌّ بديعٌ .

23- الشَّيطانُ يَنزِلُ على كلِّ إنسانٍ ويُوحي إليه بحسَبِ مُوافقَتِه له، ويُطرَدُ بحسَبِ إخلاصِه لله وطاعتِه له؛ قال الله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وعبادُه هم الَّذين عبَدوه بما أمَرَتْ به رسلُه مِنْ أداءِ الواجباتِ والمستحبَّاتِ .

24- مَن لم يحقِّقْ عُبوديَّةَ الرَّحمنِ وطاعتَه، فإنَّه يَعبُدُ الشَّيطانَ بطاعتِه له، ولم يَخلُصْ مِن عبادةِ الشَّيطانِ إلَّا من أخلصَ عُبوديَّةَ الرَّحمنِ، وهم الذين قال فيهم: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر: 42] .

25- الشَّيطانُ عَبدٌ لله يَملِكُه، فإذا استزلَّ عبدًا فبإطلاقِه، وبما سبَقَ في قضائِه، لا باقتدارِ نَفسِه؛ ألا تراه يقولُ: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ فليس يتَّبِعُه إلَّا من قُضِيَ عليه، والمعصومُ لا وصولَ له إليه .

26- في قَولِه تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ أنَّ الاستثناءَ إنْ كان مِن صفةٍ فيصِحُّ أن يُخرَجَ الكُلُّ أو الأكثرُ؛ فأتباعُ إبليسَ مِن بني آدمَ أكثَرُ مِن النِّصفِ ! وذلك على اعتبارِ أنَّه استثناءٌ متصلٌ.

27- قال الله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ لعلَّ قائلًا يقول: قد أخبَرَ الله عن صفةِ آدمَ وحوَّاءَ عليهما السَّلامُ بقَولِه: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ، وعن جملةٍ مِن أصحابِ نبيِّه بقَولِه: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا فكيف الجمعُ؟ والجوابُ هو: أنَّه ليس له سُلطانٌ على قُلوبِهم، ولا موضِعِ إيمانِهم، ولا يُلقيهم في ذَنبٍ يَؤولُ إلى عدمِ القَبولِ، بل تُزيلُه التَّوبةُ وتَمحُوه الأوبةُ، ثمَّ إنَّ قَولَه سُبحانَه: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ يحتمِلُ أن يكون خاصًّا فيمن حَفِظَه الله، ويحتمِلُ أن يكونَ في أكثَرِ الأوقاتِ والأحوالِ .

28- في قَولِه تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ، وقولِه تعالى: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 100] التَّصريحُ بأنَّ الشَّيطانَ له سُلطانٌ على أوليائِه، وقد جاء في بعضِ الآياتِ ما يدُلُّ على نفيِ سُلطانِه عليهم، كقَولِه تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ: 20- 21] . وقولِه تعالى حاكيًا عنه مقرِّرًا له: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إبراهيم: 22] .

والجوابُ: هو أنَّ السُّلطانَ الذي أثبتَه له عليهم غيرُ السُّلطانِ الذي نفاه، وذلك من وجهينِ:

الأول: أنَّ السُّلطانَ المُثبَتَ له هو سُلطانُ إضلالِه لهم بتزيينِه، والسُّلطانَ المنفيَّ هو سُلطانُ الحُجَّةِ، فلم يكنْ لإبليسَ عليهم مِن حُجَّةٍ يتسَلَّطُ بها غيرَ أنَّه دعاهم فأجابوه بلا حُجَّةٍ ولا بُرهانٍ، وإطلاقُ السُّلطانِ على البُرهانِ كثيرٌ في القرآنِ.

الثاني: أنَّ اللهَ لم يجعَلْ له عليهم سُلطانًا ابتداءً البتَّةَ، ولكنَّهم هم الذين سَلَّطوه على أنفُسِهم بطاعتِه، ودُخولِهم في حِزبِه، فلم يتسَلَّطْ عليهم بقُوَّةٍ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76] ، وإنَّما تسَلَّطَ عليهم بإرادتِهم واختيارِهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ

- قولُه: مَسْنُونٍ إنَّما أُخِّرَ عن حَمَأٍ؛ تنبيهًا على أنَّ ابتداءَ مَسنونيَّتِه ليس في حالِ كونِه صَلصالًا، بل في حالِ كونه حمأً، كأنَّه سبحانه أفْرَغ الحمأَ، فصَوَّر مِن ذلك تِمثالَ إنسانٍ أجوفَ، فيَبِس حتَّى إذا نُقِرَ صَوَّتَ، ثُم غيَّرَه إلى جوهرٍ آخَر؛ فتبارَك اللهُ أحسنُ الخالِقينَ

.

- قولُه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ هذا تَكمِلةٌ لإقامةِ الدَّليلِ على انفرادِه تعالى بخلْقِ أجناسِ العوالِمِ وما فيها، ومنه يتخلَّصُ إلى التَّذكيرِ بعَداوةِ الشَّيطانِ للبشَرِ؛ ليأخُذوا حِذْرَهم منه، وجاء بمُناسبةِ ذِكْرِ الإحياءِ والإماتةِ؛ فإنَّ أهَمَّ الإحياءِ هو إيجادُ النَّوعِ الإنسانيِّ؛ ففي هذا الخبرِ استدلالٌ على عظيمِ القُدرةِ والحِكمةِ وعلى إمكانِ البعثِ، والمقصودُ مِن ذِكْرِ هذه الأشياءِ التَّنبيهُ على عَجِيبِ صُنْعِ اللهِ تعالى. وتوكيدُ الجُملةِ بلامِ القسَمِ وبحرْفِ (قد)؛ لزيادةِ التَّحقيقِ؛ تنبيهًا على أهميَّةِ هذا الخَلْقِ، وأنَّه بهذه الصِّفةِ .

2- قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ

- قولُه: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ في التَّعرُّضِ لوصْفِ الرُّبوبيَّةِ المُنْبِئَةِ عن تبليغِ الشَّيءِ إلى كَمالِه اللَّائقِ به شيئًا فشيئًا، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إشعارٌ بعِلَّةِ الحُكْمِ، وتشريفٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

- قولُه: إِنِّي خَالِقٌ أبلَغُ مِن (أخلُقُ)؛ إذ فيه ما ليس في صِيغَةِ المُضارعِ مِن الدَّلالةِ على أنَّه تعالى فاعِلٌ له الْبتَّةَ مِن غيرِ صارفٍ يُثْنيه، ولا عاطفٍ يَلْويه .

- وفي قولِه: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا، مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قال في سُورةِ (ص): إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا [ص:71] ، وقال في البقرةِ: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ [البقرة: 30] ؛ ففي الأُولَيَينِ: خَالِقٌ، وفي البقرةِ: جَاعِلٌ؛ ووجْهُ ذلك الاختلافِ: أنَّ (جعَلَ) إذا كان بمعنى (خلَقَ) يُسْتَعْمَلُ في الشَّيءِ الَّذي يَتجدَّدُ ويَتكرَّرُ، كقولِه: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] ؛ لأنَّ الظُّلماتِ والنُّورَ يَتجدَّدانِ زَمانًا بعدَ زمانٍ، وكذلك (الخليفةُ) يدُلُّ لَفظُه على أنَّ بعضَهم يَخلُفُ بعضًا إلى يومِ القيامةِ، وخُصَّت هذه السُّورةُ بقولِه: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا؛ إذ ليس في لَفظِ (البشَرِ) ما يدُلُّ على التَّجدُّدِ والتَّكرارِ؛ فجاء في كلِّ واحدةٍ مِن السُّورتَينِ ما اقتضاهُ ما بعدَه مِن الألفاظِ .

3- قَولُه تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ إسنادُ النفخِ، وإضافةُ الرُّوحِ إلى ضميرِ اسمِ الجلالةِ تنويهٌ بهذا المخلوقِ ، والروحُ المضافةُ إلى الربِّ هي روحٌ مخلوقةٌ أضافَها إلى نفسِه إضافةَ تخصيصٍ وتشريفٍ .

4- قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ

- قولُه: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ... فيه تأكيدٌ بتَأكيدَينِ (كُلُّهُمْ - أَجْمَعُونَ)؛ للمُبالغةِ في التَّعميمِ ومنْعِ التَّخصيصِ؛ فهو تَأكيدٌ على تَأكيدٍ، أي: لم يتخلَّفْ عنِ السُّجودِ أحدٌ منهم؛ وذلك تعظيمًا لأمرِ اللهِ، وإكرامًا لآدم . وقولُه: إِلَّا إِبْلِيسَ استثناءٌ صِناعيٌّ، وهو المُتعلِّقُ بعلْمِ البيانِ، وهذا الاستثناءُ لو لم يتقدَّمْ لَفْظَه هذا الاحتراسُ مِن قولِه: كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ لاحتمَلَ أنْ يكونَ في الملائكةِ مَن لم يسجُدْ، فيَتأسَّى به إبليسُ، ولا يكون مُنفردًا بهذه الكبيرةِ؛ لاحتمالِ أنْ تكونَ آلةُ التَّعريفِ للعَهدِ لا للجِنْسِ؛ فلمَّا كان هذا الإشكالُ يتوجَّهُ على الكلامِ إذا اقتُصِرَ فيه على ما دونِ التَّوكيدِ وجَبَ الإتيانُ بالتَّوكيدِ؛ ليُعْلَمَ أنَّ آلةَ التَّعريفِ للجِنْسِ، فيرتفِعَ هذا الإشكالُ بهذا الاحتراسِ؛ فحينئذٍ تعظُمُ كَبيرةُ إبليسَ؛ لكونِه فارَقَ جميعَ الملَأِ الأعلى، وخرَقَ إجماعَ الملائكةِ، فيستحِقُّ أنْ يُفْرَدَ بهذا اللَّعنِ إلى آخرِ الأبدِ .

5- قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ

- قولُه: أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ استئنافٌ مُبيِّنٌ لكيفيَّةِ عدَمِ السُّجودِ المفهومِ مِن الاستثناءِ .

6- قوله تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ استئنافٌ مَبْنيٌّ على سؤالِ مَن قال: فماذا قال اللهُ تعالى عند ذلك؟ فقيل: يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ... .

- قولُه: مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ استفهامُ توبيخٍ، ومعناه: أيُّ شيءٍ ثبَتَ لك، أي: مُتَمَكِّنًا منك؛ لأنَّ اللَّامَ تفيدُ المُلْكَ، وأَلَّا تَكُونَ معمولٌ لحرْفِ جرٍّ محذوفٍ تقديرُه: (في)، وحَذْفُ حرْفِ الجرِّ مُطَّرِدٌ مع (أنْ)، وحرْفُ (أنْ) يفيدُ المصدريَّةَ؛ فالتَّقديرُ: ما لك في انتفاءِ كونِك مِن السَّاجدينَ ؟!

7- قوله تعالى: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ

- قولُه: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ استئنافٌ مَبْنيٌّ على السُّؤالِ الَّذي يَنساقُ إليه الكلامُ .

- واللَّامُ في لِأَسْجُدَ لتأكيدِ النَّفيِ، أي: لا يصِحُّ مِنِّي، ويُنافي حالي أنْ أسجُدَ، وهي لامُ الجُحودِ، وهذا أشدُّ في النَّفيِ مِن: (لا أسجُدُ) .

- واقتصَرَ هاهنا على الإشارةِ الإجماليَّةِ إلى ادِّعاءِ الخَيريَّةِ، وشرَفِ المادَّةِ؛ اكتفاءً بما صرَّحَ به حين قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] ، ولم يكتَفِ اللَّعينُ بمُجرَّدِ ذِكْرِ كونِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن التُّرابِ الَّذي هو أخَسُّ العناصِرِ وأسفَلُها، بل تعرَّضَ لكونِه مَخلوقًا منه في أخسِّ أحوالِه مِن كونِه طِينًا مُتغيِّرًا، وقد اكْتَفى في سُورةِ الأعرافِ وسُورةِ (ص) بما حكى عنه هاهنا، فاقتصَرَ على حكايةِ تعرُّضِه لخَلْقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن طينٍ، وكذا في سُورةِ بني إسرائيل حيث قيل: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء: 61] ، وفي جوابِه دليلٌ على أنَّ قولَه تعالى: مَا لَكَ ليس استفسارًا عن الغرَضِ بل هو استفسارٌ عنِ السَّببِ، وفي عُدولِه عن تَطبيقِ جوابِه على السُّؤالِ رَوْمٌ للتَّفصِّي عن المُناقشةِ، وأنَّى له ذلك؟! كأنَّه قال: لم أمتنِعْ عن امتثالِ الأمْرِ ولا عن الانتظامِ في سِلْكِ الملائكةِ، بل عمَّا لا يليقُ بشأْني مِن الخُضوعِ للمفضولِ، ولقد جرى- خذَلَه اللهُ تعالى- على سَنَنِ قياسٍ عقيمٍ، وزلَّ عنه أنَّ ما يدور عليه فَلَكُ الفضْلِ والكمالِ هو التَّحلِّي بالمَعارفِ الرَّبانيَّةِ، والتَّخلِّي عن المَلَكاتِ الرَّديَّةِ الَّتي أقبَحُها الكِبْرُ، والاستِعصاءُ على أمْرِ رَبِّ العالمينَ جلَّ جلالُه .

8- قوله تعالى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ

- قولُه: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وعيدٌ يتضمَّنُ الجَوابَ عن شُبْهتِه؛ فإنَّ مَن عارَضَ النَّصَّ بالقياسِ فهو رَجيمٌ مَلعونٌ .

- والفاءُ في قولِه: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ دالَّةٌ على سبَبِ إخراجِه، و(إنَّ) مُؤْذِنَةٌ بالتَّعليلِ؛ وذلك إيماءٌ إلى سبَبِ إخراجِه مِن عَوالِمِ القُدُسِ، والرَّجيمُ: المطرودُ، وهو كِنايةٌ عنِ الحَقارةِ .

9- قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ

- (على) مُستعمَلَةٌ في الاستعلاءِ؛ لتَمكُّنِ اللَّعنةِ والشَّتمِ منه حتَّى كأنَّه يقَعُ فوقَه .

10- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ

- قولُه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ الإنظارُ: الإمهالُ والتَّأخيرُ، والمُرادُ: تأخيرُ إماتَتِه؛ لأنَّ الإنظارَ لا يكونُ للذَّاتِ؛ فتعيَّنَ أنَّه لبعضِ أحوالِها- وهو الموتُ- بقرينةِ السِّياقِ. وخاطَبَ اللهَ بصِفَةِ الرُّبوبيَّةِ؛ تخضُّعًا وحثًّا على الإجابةِ، والفاءُ في فَأَنْظِرْنِي فاءُ التَّفريعِ، ووسَّطَ النِّداءَ بينَ ذلك .

11- قوله تعالى: إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ

- قولُه: إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ فيه مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، حيث خُولِفَ بين العِباراتِ سُلوكًا بالكلامِ طريقةَ البَلاغةِ؛ فإنَّ يَوْمِ الدِّينِ ويَوْمِ يُبْعَثُونَ ويَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ في معنًى واحدٍ ، وذلك على أحدِ الأقوالِ؛ فعُبِّرَ هنا عن يومِ البَعثِ بـ يَوْمِ الْوَقْتِ تَفَنُّنًا؛ تَفاديًا مِن إعادةِ اللَّفظِ؛ قضاءً لحقِّ حُسْنِ النَّظمِ، ولِمَا فيه مِن التَّعليمِ بأنَّ اللهَ يعلَمُ ذلك الأجَلَ؛ فالمُرادُ: المَعلومُ لدينا، ويجوزُ أنْ يُرادَ: المعلومُ للنَّاسِ أيضًا علْمًا إجماليًّا. وفيه تعريضٌ بأنَّ مَن لم يؤمِنوا بذلك اليومِ مِن النَّاسِ لا يُعْبَأُ بهم، فهم كالعَدَمِ ، وقيل بناءً على هذا القولِ أيضًا: الاختلافُ في العباراتِ لاختلافِ الاعتباراتِ، فالتعبيرُ بيومِ البعثِ؛ لأنَّ غرضَ اللعينِ به يتحقَّقُ، وبيومِ الدِّينِ؛ لما ذُكِر مِن الجزاءِ، وبيومِ الوقتِ المعلومِ؛ لاستئثارِه تعالى بعلمِه .

12- قوله تعالى: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ

- قولُه: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ فالإشارةُ إلى ما يُؤْخَذُ مِن الجُملةِ الواقعةِ بعدَ اسمِ الإشارةِ المُبيِّنَةِ للإخبارِ عنِ اسمِ الإشارةِ، وهي جُملةُ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ؛ فتكونُ الإشارةُ إلى غيرِ مُشاهَدٍ؛ تنزيلًا له مَنزلةَ المُشاهَدِ، وتنزيلًا للمسموعِ مَنزِلةَ المَرْئيِّ، ثمَّ إنَّ هذا المُنزَّلَ مَنزِلةَ المُشاهَدِ هو مع ذلك غيرُ مَذكورٍ؛ لقصْدِ التَّشويقِ إلى سَماعِه عندَ ذِكْرِه. ويجوزُ أنْ تكونَ الإشارةُ إلى الاستثناءِ الَّذي سبَقَ في حكايةِ كلامِ إبليسَ مِن قولِه: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ؛ لتَضمُّنِه أنَّه لا يستطيعُ غَوايةَ العِبادِ الَّذين أخلَصَهم اللهُ للخيرِ؛ فتكونُ جُملةُ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ مُستأنَفَةً .

- وقد اشتملتْ هذه الآيةُ على أغراضٍ كثيرةٍ، مع أنَّ كلماتِها قليلةٌ؛ ففيها إيجازٌ، ولعلَّه من أبلغِ الإيجازاتِ؛ إذ يدلُّ لفظُه على مُحتمَلاتٍ عِدَّةٍ ومُشتمَلاتٍ كثيرةٍ، ولا يمكن التعبيرُ عنه بمِثل ألفاظِه وفي عِدَّتِها؛ فقوله: هَذَا إشارةٌ تدلُّ على القُربِ، فكأنَّه يُشيرُ إلى ما هو على مرأًى مِن عُيونِهم، ومَسْمَعٍ مِن آذانِهم، وبينَ مُتناوَلِ أيديهم، وصِرَاطٌ تدلُّ على الطريقِ المسلوكةِ الَّتي تُفضي بسالكِها إلى حيثُ يَختارُ لنَفْسِه مِن مذاهبَ، ولكنَّ الطريقَ قد تكونُ مُعوجَّةً مُلتويةً كثيرةَ المُنعطَفاتِ؛ فيَتِيه السالكُ في متاهاتها، وتلتبِسُ عليه أوجهُ الاستهداءِ في سُلوكِها؛ فجاء بكلمةِ مُسْتَقِيمٌ، والمستقيمُ هو أقصرُ بُعدٍ بَين نُقطتَينِ، وأقلُّ انحرافٍ يُخرِجُه عن سَننِ الاستقامةِ وحُدودِها، وكلمة عَلَيَّ تعني الإلزامَ والإيجابَ، ثمَّ إنَّ الإشارةَ تَضمَّنتْ كلَّ ما يَحتويه الاستثناءُ فيما بعدُ، وهو قوله: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ؛ فكأنَّه أخَذ على نفْسه وأوجبَ على ذاتِه حقًّا لا انفكاكَ له عنه، وهو تخليصُ المخلِصينَ من إغوائِه، وقد تضمَّن تعريفُ المخلصين أيضًا ما يُؤكِّد هذا المعنى، ويَجعلُه مُستقرًّا في الذِّهن؛ لأنَّ التَّعريفَ فيه مع تحقيقِ الصِّفةِ للموصوفِ- وهي الإخلاصُ- تفخيمٌ لشأنِهم، وبيانٌ لمنزلتِهم، ولانقطاعِ مخالبِ الإغواءِ عنهم، وفَلِّ مَعاولِ النَّقدِ أن تتوجَّه إليهم .

13- قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ

- قولُه: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ فيه تأكيدُ الضَّميرِ (هُمْ) بقولِه: أَجْمَعِينَ ، والضَّميرُ عائدٌ إلى مَنِ اتَّبَعَكَ، والمَوعِدُ: مكانُ الوعْدِ، وفي ذلك تهكمٌ بهم؛ لأنَّهم يُنكِرونَ البعثَ والجَزاءَ، فجُعِلوا بمَنزِلةِ مَن عيَّنَ ذلك المكانَ للإتيانِ

=======================

 

سورةُ الحِجْرِ

الآيات (45-50)

ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ

غريب الكلمات :

 

غِلٍّ: أي: عداوةٍ وشحناءَ، وأصلُ (غلل) يدلُّ على تَخَلُّلِ شيءٍ، وثباتِ شيءٍ، كالشَّيءِ يُغْرَزُ

.

نَصَبٌ: أي: إعياءٌ وتعَبٌ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: إنَّ المتقينَ في بساتينَ وعُيونٍ مِثْل عُيونِ الماءِ والخَمرِ وغير ذلك، يُقالُ لهم: ادخُلوا هذه الجنَّاتِ مُسَلَّمًا عليكم، سالِمينَ مِن كُلِّ سُوءٍ، آمنينَ مِن الموتِ والعذابِ، ونزَعْنا ما في قُلوبِهم مِن عَداوةٍ وحِقدٍ مما كان في الدنيا، إخوانًا في الجنَّةِ مُتحابِّينَ، يجلِسونَ على الأسِرَّة بعضُهم في مقابِلِ بَعضٍ، لا يُصيبُهم فيها تعَبٌ ولا مَشقَّةٌ، وهم فيها خالدون أبدًا، لا يخرجونَ منها.

ثم يأمر الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يخبرَ العبادَ أنَّه سبحانه هو الغفورُ للتَّائبينَ، الرَّحيمُ بهم، وأنَّ عذابَه هو العذابُ المُوجِعُ المُؤلِمُ للمُصِرِّينَ على الكفرِ والمعاصي.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ ما أعَدَّ لأهلِ النَّارِ؛ ذكَرَ ما أعدَّ لأهلِ الجنَّةِ؛ لِيَظهرَ تبايُنُ ما بينَ الفَريقينِ

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ الكافرينَ، وما جرَّهم إلى الضَّلالِ، وجرَّأهم على قبائِحِ الأعمالِ؛ ذكَرَ المُخلَصينَ ، فقال:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45).

أي: إنَّ الذين اتَّقَوا اللهَ تعالى بامتثالِ ما أمَرَ، واجتنابِ ما نهَى، في بساتينَ- قد احتَوَت على جميعِ الأشجارِ، وأينَعَت فيها جميعُ الثِّمارِ- وعُيونٍ مِثْل عُيونِ الماءِ والخَمرِ، والسَّلسبيلِ والتَّسنيمِ، وغير ذلك .

كما قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الدخان: 51-52] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات: 15-16].

وقال سُبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54-55].

وقال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [المرسلات: 41-44] .

ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان المَنزِلُ لا يَحسُنُ إلَّا بالسَّلامةِ والأُنسِ والأمنِ؛ قال تعالى :

ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46).

أي: يُقالُ للمُتَّقينَ يومَ القيامةِ: ادخُلوا الجنَّةَ مُسَلَّمًا عليكم، سالِمينَ من كلِّ داءٍ وآفةٍ، آمِنينَ مِنَ الموتِ والعذابِ، والهُمومِ والغُمومِ والأمراضِ، وانقطاعِ النَّعيمِ أو نُقصانِه، ومِن سائِرِ المُكَدِّراتِ .

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان الأُنسُ لا يَكمُلُ إلَّا بمَن هو مِن جنسِهم مع كمالِ المودَّةِ، وصَفاءِ القُلوبِ عن الكَدَرِ؛ قال :

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.

أي: واقتَلَعْنا وأخرَجْنا ما في صُدورِ هؤلاء المتَّقينَ مِن الحِقدِ والبُغضِ والحَسَدِ، الذي كان بينَهم في الدُّنيا .

عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((يَخلُصُ المُؤمِنونَ مِن النَّارِ، فيُحبَسونَ على قَنطرةٍ بين الجنَّةِ والنَّارِ، فيُقَصُّ لِبَعضِهم من بعضٍ مَظالِمُ كانت بينهم في الدُّنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دُخولِ الجنَّة، فوالذي نَفسُ مُحمَّدٍ بِيَدِه، لَأحَدُهم أهدى بمَنزِلِه في الجنَّةِ منه بمَنزِلِه كان في الدُّنيا )) .

إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ.

أي: حالَ كونِهم إخوانًا ، يكونونَ على الأسِرَّةِ بعضُهم في مقابِلِ بَعضٍ، ينظُرونَ إلى وُجوهِ جُلَسائِهم، ولا يَنظُرُ بعضُهم إلى قَفا بعضٍ .

لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48).

لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ.

أي: لا ينالُ المتَّقينَ في الجنَّةِ أيُّ تَعَبٍ أو مَشَقَّةٍ .

كما قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر: 34-35] .

وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ.

أي: وليس المتَّقونَ مِن الجنَّةِ بمُخرَجينَ، بل هم فيها دائِمونَ .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء: 57] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف: 107- 108] .

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تقَدَّمَ ذِكرُ ما في النَّارِ، وذِكرُ ما في الجنَّةِ؛ أكَّدَ تعالى تنبيهَ النَّاسِ، وتقريرَ ذلك، وتمكينَه في النَّفسِ .

وأيضًا لَمَّا ذُكِرَ ما يُوجِبُ الرَّغبةَ والرَّهبةَ مِن مَفعولاتِ اللهِ مِن الجنَّةِ والنَّارِ؛ ذُكِرَ ما يُوجِبُ ذلك مِن أوصافِه .

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49).

أي: أخبِرْ- يا مُحمَّدُ- عبادي خبَرًا جازِمًا مُؤكَّدًا أنِّي أنا كثيرُ المَغفِرةِ لذُنوبِهم إذا تابُوا، فأستُرُ ذُنوبَهم وأتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم، كثيرُ الرَّحمةِ بهم إذا استقاموا، ومِن رحمتي أنِّي لا أعذِّبهم على الذنوب بعد تَوبتِهم منها .

وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ- سُبحانَه وتعالى- رَسولَه بأنْ يُخبِرَ عِبادَه بتلك البِشارةِ العظيمةِ في الآيةِ السَّابقةِ؛ أمَرَه بأن يَذكُرَ لهم شيئًا ممَّا يتضَمَّنُ التَّخويفَ والتَّحذيرَ؛ حتى يجتَمِعَ الرَّجاءُ والخَوفُ، ويتقابلَ التَّبشيرُ والتَّحذيرُ، ليَكونوا راجينَ خائِفينَ، فقال :

وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50).

أي: وأخبِرْ عبادي أيضًا أنَّ عذابي لِمَن أصرَّ على الكُفرِ والمعاصي، فلم يتُبْ منها، هو العذابُ المُوجِعُ الكثيرُ الإيلامِ؛ فلْيَحذَروا أسبابَ عَذابي، ولْيُقبِلوا على التَّوبةِ والإنابةِ إليَّ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لو يعلَمُ المؤمِنُ ما عند اللهِ مِن العُقوبةِ، ما طَمِعَ بجَنَّتِه أحَدٌ، ولو يعلَمُ الكافِرُ ما عندَ اللهِ مِن الرَّحمةِ، ما قَنَطَ مِن جَنَّتِه أحَدٌ ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ فيه أنَّ العبدَ ينبغي أن يكونَ قَلبُه دائِمًا بينَ الخَوفِ والرَّجاءِ، والرَّغبةِ والرَّهبةِ، فإذا نظَرَ إلى رحمةِ رَبِّه ومَغفِرتِه وجُودِه وإحسانِه؛ أحدَثَ له ذلك الرَّجاءَ والرَّغبةَ، وإذا نظَرَ إلى ذُنوبِه وتَقصيرِه في حقوقِ رَبِّه؛ أحدَثَ له الخَوفَ والرَّهبةَ والإقلاعَ عنها

.

2- قال الله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ قال ابنُ عَطاءٍ: (هذه الآيةُ إرشادٌ له صلَّى الله عليه وسلَّم إلى كيفيَّةِ الإرشادِ، كأنَّه قيل: أقِمْ عبادي بينَ الخَوفِ والرَّجاءِ؛ ليصِحَّ لهم سبيلُ الاستقامةِ في الطَّاعةِ، فإنَّ مَن غلَبَ عليه رَجاؤه عطَّلَه، ومن غلَبَ عليه خَوفُه أقنَطَه)

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ فيه سُؤالٌ: أنَّه تعالى حكَمَ قبلَ هذه الآيةِ بأنَّهم في جنَّاتٍ وعُيونٍ في قولِه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وإذا كانوا فيها فكيف يُمكِنُ أن يُقالَ لهم: ادخُلوها؟

والجوابُ فيه من أوجهٍ:

الوجه الأول: لعلَّ المرادَ به: قيلَ لهم قبل دُخولِهم فيها: ادخُلوها بسَلامٍ.

الوجه الثاني: لعلَّ المرادَ: لَمَّا مَلَكوا جنَّاتٍ كثيرةً، فكُلَّما أرادوا أن ينتَقِلوا من جنَّةٍ إلى أخرى، قيل لهم: ادخُلوها

.

الوجه الثالث: أنَّه جعَلَ ما يستقِرُّونَ فيه في الآخرةِ كأنَّهم مستقِرُّونَ فيه في الدُّنيا، ولذلك جاء: ادْخُلُوهَا على الأمرِ؛ لأنَّ مَن استقَرَّ في الشَّيءِ لا يُقالُ له: ادخُلْ فيه .

2- قَولُ الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ أوَّلُ مَن يدخُلُ في هذا العُمومِ أصحابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما شجَرَ بينهم من الحوادِثِ الدَّافعِ إليها اختلافُ الاجتهادِ في إقامةِ مَصالحِ المُسلِمينَ، والشِّدَّةُ في إقامةِ الحَقِّ على حسَبِ اجتهادِهم .

3- قال الله تعالى: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ دلَّ ذلك على تزاوُرِ أهلِ الجنَّةِ، واجتماعِهم، وحُسنِ أدَبِهم فيما بينهم؛ في كَونِ كُلٍّ منهم مُقابِلًا للآخَرِ، لا مُستدبِرًا له، متَّكِئينَ على تلك السُّرُرِ المُزَيَّنةِ بالفُرُشِ واللُّؤلؤِ وأنواعِ الجواهِرِ .

4- قال الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ فأخبَرَ عن تلاقي قُلوبِهم، وتلاقي وُجوهِهم .

5- قَولُ الله تعالى: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ هذه الآيةُ أنَصُّ آيةٍ في القُرآنِ على الخُلودِ .

6- في قَولِه تعالى: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ أنَّ الجنَّةَ مَن دخلَها لا يَخرُجُ منها .

7- قيل: للثوابِ أربعُ شرائطَ:

- أن يكون منافعَ، وإليه الإشارةُ بقوله: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.

- مقرونةً بالتعظيمِ، وإليه الإشارةُ بقوله: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ.

- خالصةً عن مظانِّ الشوائبِ الرُّوحانيةِ، كالحقدِ، والحسدِ، والغلِّ، والجسمانيةِ، كالإعياءِ، والنَّصَبِ، وإليه الإشارةُ بقولِه: وَنَزَعْنَا... إلى لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ.

- دائمةً، وإليه الإشارةُ بقوله: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ .

8- قال الله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ قارِنْ بين هذه الآيةِ وبينَ قَولِه تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 98] ، تَجِدْ بينَهما فرقًا؛ لأنَّ قَولَه في هذه الآيةِ: نَبِّئْ أمرٌ مِن اللهِ إلى الرَّسولِ بأن يُنَبِّئَ الخلقَ، وقُدِّمَ الوَصفُ بالمغفرةِ والرَّحمةِ على العذابِ الأليمِ؛ لأنَّ المقصودَ الإخبارُ عن صِفةِ الله عزَّ وجَلَّ، فقَدَّمَ الجانِبَ الذي فيه اللُّطفُ والإحسانُ، وآيةُ المائدةِ ذُكِرَت عَقيبَ أحكامٍ عَظيمةٍ، قد يُخِلُّ بها المرءُ، فقَدَّمَ فيها جانِبَ التَّهديدِ .

9- في قَولِه تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ دَلالةٌ على أنَّ المغفرةَ والرَّحمةَ هي مِن صِفاتِه المذكورةِ بأسمائِه، فهي مِن مُوجِبِ نفسِه المقدَّسَةِ ومُقتضاها ولوازِمها، وأمَّا العذابُ: فمِن مَخلوقاتِه، الذي خَلَقَه بحكمةٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ... استئنافٌ ابتدائيٌّ، انتقالٌ مِن وعيدِ المُجرمينَ إلى بِشارةِ المُتَّقينَ على عادةِ القُرآنِ في التَّفنُّنِ

.

2- قوله تعالى: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ

- قولُه: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ المَسُّ كِنايةٌ عنِ الإصابةِ .

- قولُه: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ فيه تأكيدُ انتفاءِ الإخراجِ بدُخولِ الباءِ في بِمُخْرَجِينَ .

3- قوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ فَذْلَكةُ ما سبَقَ مِن الوعدِ والوعيدِ، وتقريرٌ له .

- وهذا أيضًا تَصديرٌ لذِكْرِ القِصصِ الَّتي أُرِيدَ مِن التَّذكيرِ بها المَوعظةُ بما حَلَّ بأهلِها، وابتداءُ الكلامِ بفعْلِ الإنباءِ؛ لتشويقِ السَّامعينَ إلى ما بعدَه، والمقصودُ هو قولُه تعالى الآتي: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، وإنَّما قُدِّمَ الأمْرُ بإعلامِ النَّاسِ بمغفرةِ اللهِ وعَذابِه؛ ابتداءً بالموعظةِ الأصليَّةِ قبْلَ الموعظةِ بجُزئيَّاتِ حوادِثِ الانتقامِ مِن المُعاندينَ، وإنجاءِ مَن بينهم مِن المُؤمنينَ؛ لأنَّ ذلك دائرٌ بينَ أثَرِ الغُفرانِ وبين أثَرِ العذابِ، وقُدِّمَت المَغفرةُ على العَذابِ؛ لسَبْقِ رحمتِه غضَبَه .

- وفي قوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ترجيحُ جهةِ الخيرِ مِن جهةِ أمرِه تعالَى رسولَه بهذا التَّبليغِ، فكأنَّه إشهادٌ على نفسِه بالتزامِ المغفرةِ والرَّحمةِ، وكونُه أضافَ العبادَ إليه فهو تشريفٌ لهم، وتأكيدُ اسمِ (أنَّ) بقولِه: (أنا)، وإدخالُ (ال) على هاتينِ الصِّفتينِ، وكونُهما جاءَتا بصيغةِ المبالغةِ، والبداءةِ بالصِّفةِ السَّارَّةِ أوَّلًا وهي الغُفرانُ، وإتْباعُها بالصِّفةِ الَّتي نَشَأ عنها الغفرانُ وهي الرَّحمةُ ، ولَمَّا ذكَرَ العذابَ لم يَقُلْ: (أنِّي أنا المعَذِّب)، وما وصَفَ نفسَه بذلك، بل قال: وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ، وفي توصيفِ ذاتِه بالغُفرانِ والرَّحمةِ دونَ التَّعذيبِ تَرجيحُ الوَعدِ وتأكيدُه .

- وضَميرُ (هو) في قولِه: وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ضَميرُ فصْلٍ يُفيدُ تأكيدَ الخبرِ

=======================

 

سورةُ الحِجْرِ

الآيات (51-60)

ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ

غريب الكلمات :

 

وَجِلُونَ: أي: خائِفونَ، وأصلُ الوجَلِ: يدلُّ على استشعارِ الخَوفِ

.

الْقَانِطِينَ: أَي: اليائِسينَ، والقُنُوطُ: اليأسُ مِن الخيرِ، وأصلُ (قنط) يدُلُّ عَلَى اليأْسِ مِنَ الشَّيءِ .

خَطْبُكُمْ: أي: شَأنُكم وأمْرُكم الذي جِئتُم له، والخَطْبُ: الأمرُ العَظيمُ الذي يَكثُرُ فيه التَّخاطُبُ،  ولا يَكادُ يُقالُ (الخَطبُ) إلَّا في الأمرِ الشَّديدِ، وأصل: (خطب): يدُلُّ على الكَلامِ بين اثنَينِ .

الْغَابِرِينَ: أي: الباقينَ في العذابِ، والغابرُ مِن الأضدادِ ، يُراد به الباقي والماضي، وأصلُ (غبر): يدلُّ على البقاءِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ

وَمَنْ يَقْنَطُ: (مَنْ) اسمُ استفهامٍ بمعنى الإنكارِ، فهو نفيٌ في المعنى؛ ولذلك جاءت بعدَه (إلَّا) التي للإيجابِ، ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ، و (يَقْنَطُ) فعلٌ وفاعلُه ضميرٌ يعودُ على (مَنْ) والجملةُ خبَرٌ. الضَّالُّونَ بدلٌ من الضَّميرِ في (يَقنَطُ) وهو المُختارُ؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ مُوجَبٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: وأخبِرْ- يا محمَّدُ- عبادي عن ضيوفِ إبراهيمَ- عليه السلام- مِن الملائكةِ، حين دخَلوا عليه فقالوا: سَلامًا، فرَدَّ عليهم السَّلامَ، ثمَّ قدَّمَ لهم الطَّعامَ فلم يأكُلوا، فقال: إنَّا مِنكم خائِفون. قالت الملائِكةُ له: لا تخَفْ؛ إنَّا نبَشِّرُك بولَدٍ كثيرِ العِلمِ بالدِّينِ، قال إبراهيمُ متعجِّبًا: أبشَّرتُموني بالولَدِ وأنا كبيرٌ، فبأيِّ شَيءٍ عَجيبٍ تُبشِّرونَني؟! قالوا: بشَّرْناك بالحَقِّ الذي أعلَمَنا اللهُ به، فلا تكُنْ مِن اليائسينَ. قال: لا يَيئَسُ مِن رَحمةِ رَبِّه إلَّا الضَّالُّونَ. قال: فما الأمرُ الخطيرُ الذي جِئتُم من أجْلِه أيُّها المُرسَلونَ؟ قالوا: إنَّ اللهَ أرسَلَنا لإهلاكِ قَومِ لُوطٍ المُشركينَ إلَّا لُوطًا وأهلَه المؤمنينَ به، فلن نُهلِكَهم، وسنُنَجِّيهم أجمعينَ إلَّا امرأتَه الكافِرةَ، قَضَينا أنَّها مِن المهلكينَ الباقينَ في العذابِ.

تفسير الآيات:

 

وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بالغَ في تقريرِ أمْرِ النبُوَّةِ، ثمَّ أردَفَه بذِكرِ دلائِلِ التَّوحيدِ، ثمَّ ذكَرَ عَقيبَه أحوالَ القيامةِ، وصِفةَ الأشقياءِ والسُّعَداءِ- أتبَعَه بذِكرِ قَصَصِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ؛ ليكونَ سَماعُها مُرَغِّبًا في الطاعةِ الموجِبةِ للفَوزِ بدَرَجاتِ الأنبياءِ، ومُحَذِّرًا عن المعصيةِ لاستحقاقِ دَرَكاتِ الأشقياءِ، فبدأ أوَّلًا بقِصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ

.

وأيضا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما أعَدَّ للعاصِينَ مِن النَّارِ، وللطَّائِعينَ مِن الجنَّة- ذكَّرَ العرَبَ بأحوالِ مَن يَعرِفونَه ممَّن عصى وكذَّبَ الرُّسُلَ، فحَلَّ به عذابُ الدُّنيا قبلَ عذابِ الآخرةِ؛ ليزدَجِروا عن كُفرِهم، ولِيَعتَبِروا بما حَلَّ بغَيرِهم، فبدأ بذِكرِ جَدِّهم الأعلى إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وما جرى لقَومِ ابنِ أخيه لوطٍ عليه السَّلامُ .

وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51).

أي: وأخبِرْ عبادي- يا مُحمَّدُ- عن قِصَّةِ الملائكةِ؛ ضُيوفِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّ في قَصِّك عليهم ذلك ما يُوجِبُ لهم العِبرةَ .

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52).

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا.

أي: حينَ دخَلَ الملائِكةُ على إبراهيمَ، فقالوا له عَقِبَ دُخولِهم: نسلِّمُ عليك سَلامًا .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69] .

قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ.

أي: قال لهم إبراهيمُ بعدَ أن ردَّ عليهم السَّلامَ: إنَّا منكم خائِفونَ .

كما قال تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الذاريات: 25 - 28].

قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53).

قَالُوا لَا تَوْجَلْ.

أي: قالت الملائكةُ لإبراهيمَ: لا تخَفْ منَّا .

كما قال تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ [الذاريات: 28].

ثمَّ عَلَّلوا ذلك بقَولِهم مؤكِّدينَ لِقَلعِ ما في نفسِه من الوجَلِ المُنافي للبُشرى :

إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ.

أي: إنَّا نبشِّرُك بمولودٍ لك غَزيرِ العِلمِ بالشَّريعةِ الإلهيَّةِ .

كما قال تعالى: وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات: 28-30].

وقال سبحانه: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] .

وقال تعالى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112] .

قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54).

قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ.

أي: قال إبراهيمُ للملائكةِ مُتعَجِّبًا: أبشَّرتُموني بولدٍ مع كِبَرِ سِنِّي ؟!

فَبِمَ تُبَشِّرُونَ.

أي: فبأيِّ شَيءٍ عَجيبٍ تُبشِّرونَني؟! فإنَّ البِشارةَ بما لا يُتصوَّرُ وقوعُه عادةً لا تصِحُّ .

قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55).

قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ.

أي: قالت الملائكةُ لإبراهيمَ: بشَّرْناك بولَدٍ قد قضى اللهُ أنَّه كائِنٌ بلا شَكٍّ .

فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ.

أي: فلا تكُنْ- يا إبراهيمُ- من اليائسينَ مِن فَضلِ اللهِ، الذين يستبعِدونَ وُجودَ الخيرِ، ولكِنْ أبشِرْ بالولَدِ مع الكِبَر، واقبَلِ البُشرى بذلك .

قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56).

أي: قال إبراهيمُ: ومَن ييئَسُ مِن رَحمةِ اللهِ إلَّا الذَّاهِبونَ عن طريقِ الصَّوابِ، الجاهِلونَ بكَمالِ قُدرةِ ورَحمةِ اللهِ الوهَّابِ .

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لـمَّا تحقَّقَ إبراهيمُ عليه السلامُ البُشرَى، ورأَى إتيانَهم مُجتَمِعينَ على غيرِ الصِّفةِ التي يأتي عليها المَلَكُ للوحيِ، وكان يعلمُ بأنَّه ما تَنزِلُ الملائِكةُ إلَّا بالحَقِّ- كان ذلك سببًا لِأن يسألَهم عن أمرِهم؛ لِيَزولَ وَجَلُه كُلُّه .

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57).

أي: قال إبراهيمُ للملائكةِ: فما شأنُكم الخطيرُ الذي أرسَلَكم اللهُ به سِوى البِشارةِ ؟!

قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58).

أي: قالت الملائكةُ لإبراهيمَ: إنَّا أرسَلَنا اللهُ إلى قومٍ كافرينَ كَثُرَ فسادُهم، وعظُمَ خَبَثُهم؛ لنُهلِكَهم .

إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59).

أي: لكنَّ   لوطًا وأهلَه، لن نُهلِكَهم، وسنُخَلِّصُهم جميعًا من العذابِ .

كما قال تعالى حاكيًا محاورةَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مع الملائكةِ عليهم السَّلامُ: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 31-36].

إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60).

أي: إلَّا امرأةَ لُوطٍ، قَضَينا أنَّها مِن المُهلَكينَ الباقينَ في العذابِ؛ لكُفرِها

 

.

كما قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت: 31- 32] .

الفوائد التربوية:

 

مَن أنعمَ الله عليه بالهدايةِ والعِلمِ العظيمِ، فلا سبيلَ للقُنوطِ إليه؛ لأنَّه يعرِفُ مِن كثرةِ الأسبابِ والوسائلِ والطُّرُقِ لرحمةِ الله شيئًا كثيرًا، قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ الذين لا عِلمَ لهم برَبِّهم، وكمالِ اقتدارِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ هذه القِصَّةُ فيها إثباتُ الملائكةِ، وأنَّهم أحياءٌ، ناطِقونَ، مُنفَصِلونَ عن الآدميِّينَ، وقد تواتَرَ في الكتُبِ الإلهيَّةِ والأحاديثِ النبويَّةِ أنَّ الملائِكةَ تتصَوَّرُ بصورةِ البشَرِ، ويُرَونَ في تلك الصورةِ، فيُخاطبُهم ويراهم في هذه الصُوَرِة الأنبياءُ وغيرُ الأنبياءِ، كما أخبَرَ الله عن ضيفِ إبراهيمَ، ورؤيةِ سارَةَ امرأةِ الخليلِ عليه السَّلامُ لهم، وكما كان الصَّحابةُ يَرَون جبريلَ إذا جاء، ومن ذلك رؤيتُهم له لما جاء في صورةِ أعرابيٍّ

، وفي صورةِ دِحْيةَ الكلبيِّ .

2- قولُ الله تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ فيه سؤالٌ: كيف سمَّاهم ضيفًا مع امتناعِهم عن الأكلِ؟

الجوابُ من وجهينِ:

الوجه الأول: لَمَّا ظَنَّ إبراهيمُ أنَّهم إنَّما دخلوا عليه لطلَبِ الضيافةِ، جاز تسميتُهم بذلك.

الوجه الثاني: أنَّ مَن يدخُل دارَ الإنسانِ ويلتجِئ إليه، يُسمَّى ضيفًا وإن لم يأكُلْ .

3- يُستحَبُّ بِشارةُ مَن وُلِدَ له ولَدٌ؛ قال الله تعالى عن الملائكةِ: قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ .

4- القُنوطُ مِن رحمةِ الله لا يجوزُ؛ لأنَّه سوءُ ظَنٍّ باللهِ عزَّ وجَلَّ، وذلك مِن وَجهينِ:

الأولُ: أنَّه طَعنٌ في قُدرتِه سُبحانَه؛ لأنَّ مَن عَلِمَ أنَّ الله على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ لم يَستبعِدْ شيئًا على قدرةِ اللهِ.

الثاني: أنَّه طَعنٌ في رحمتِه سُبحانَه؛ لأنَّ مَن عَلِمَ أنَّ اللهَ رَحيمٌ لا يَستبعِدُ أن يرحَمَه اللهُ سُبحانَه؛ ولهذا كان القانِطُ مِن رحمةِ اللهِ ضالًّا؛ قال تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ .

5- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ استُدِلَّ به على أنَّ القُنوطَ مِن الكبائرِ .

6- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ هِبةَ الولدِ على الكِبَرِ مِن رَحمةِ الله؛ إذ يشدُّ عضُدَ والدِه به، ويؤازِرُه حالةَ كَونِه لا يستقِلُّ، ويَرِثُ منه عِلمَه ودينَه .

7- في قَولِه تعالى عن الملائكةِ: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ دَلالةٌ على أنَّ لفظَ آلِ فلانٍ في الكتابِ والسُّنَّةِ يدخلُ فيه ذلك الشَّخصُ .

8- في قولِه تعالى عن الملائكةِ: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ دَلالةٌ على أنَّ امرأةَ الرجلِ مِن آلِه .

9- قَولُ الله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ فيه دليلٌ على أنَّ الاستثناءَ إذا تكَرَّر، فكُلٌّ لِما يليه .

10- عن النَّخعيِّ قال: (بيني وبين القَدَريَّةِ هذه الآيةُ: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) .

11- قَولُ الله تعالى: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ فيه سؤالٌ: لمَ أسنَدَ الملائكةُ فِعلَ التَّقديرِ إلى أنفُسِهم مع أنَّه لله تعالى، ولمَ لمْ يقولوا: قدَّرَ الله تعالى؟

الجوابُ: إنَّما ذكَروا هذه العبارةَ؛ لِما لهم من القُربِ والاختصاصِ بالله تعالى، كما يقولُ خاصَّةُ المَلِك: (دبَّرْنا كذا وأمَرْنا بكذا)، والمدبِّرُ والآمِرُ هو المَلِك لا هم، وإنَّما يريدونَ بذِكرِ هذا الكلامِ إظهارَ ما لهم من الاختصاصِ بذلك المَلِك، فكذا هاهنا، واللهُ أعلم . وقيل: أسند التَّقديرَ إلى ضَميرِ الملائكةِ؛ لأنَّهم مُزْمِعونَ على سبَبِه، وهو ما وُكِّلوا به مِن تَحذيرِ لُوطٍ عليه السَّلامُ وآلِه مِن الالتفاتِ إلى العَذابِ، وتَرْكِهم تَحذيرَ امرأتِه، حتَّى الْتفتَتْ، فحَلَّ بها ما حَلَّ بقَومِ لُوطٍ .

12- في هذه القِصَّةِ مِن العِبَر: عنايتُه تعالى بخليلِه إبراهيمَ؛ فإنَّ لوطًا عليه السَّلامُ من أتباعِه، وممَّن آمنَ به، فكأنَّه تلميذٌ له؛ فحين أراد اللهُ إهلاكَ قَومِ لُوطٍ حين استحَقُّوا ذلك، أمَرَ رُسُلَه أن يمُرُّوا على إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ كي يُبشِّروه بالولَدِ ويُخبِروه بما بُعِثوا له، حتى إنَّه جادَلَهم عليه السَّلامُ في إهلاكِهم حتى أقنَعوه، فطابت نَفسُه، قال تعالى: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ....

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ

- قولُه: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث حذَفَ منه قَالَ سَلَامٌ اختصارًا، بينما ذكَرَه في سُورةِ هودٍ، حيث قال: قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69] ؛ لأنَّ هذِه السُّورةَ مُتأخِّرةٌ، فاكْتَفَى بها عمَّا في هودٍ؛ لأنَّ التَّقديرَ: (فقالوا: سلامًا، قال: سَلامٌ، فما لَبِثَ أنْ جاء بعِجْلٍ حَنِيذٍ، فلمَّا رأى أيدِيَهم لا تصِلُ إليه نَكِرَهم، وأوجَسَ منهم خِيفةً، قال: إنَّا منكم وَجِلونَ)؛ فحُذِفَ للدَّلالةِ عليه

.

2- قوله تعالى: قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ

- قولُه: قَالُوا لَا تَوْجَلْ إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمً لَا تَوْجَلْ، أي: لا تخَفْ، وبه عُبِّرَ في سُورةِ هودٍ، حيث قال: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ [هود: 70] ؛ توسعةً في التَّعبيرِ عنِ الشَّيءِ الواحدِ بمُتساوييْنِ، وخُصَّ ما هنا بالأوَّلِ؛ لمُوافقتِه قولَه: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، وما في هودٍ بالثَّاني؛ لمُوافقتِه قولَه: خِيفَةً .

- قولُه: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ استئنافٌ في معنى التَّعليلِ للنَّهيِ عن الوَجَلِ؛ فإنَّ المُبشِّرَ لا يُخَافُ منه؛ أرادوا: إنَّك بمَثابةِ الآمِنِ المُبَشَّرِ، فلا تَوْجَلْ .

- قولُه: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ، وكذا قال في سُورةِ الذَّارياتِ: قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 28]، فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث ورَدَ في سُورةِ الصَّافاتِ: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101] خِلاف الوَصفِ بالعلْمِ في السُّورتَينِ، ووَجْهُ ذلك: أنَّ ما في هذه السورةِ، وما في سورةِ الذارياتِ المرادُ به إسحاقُ عليه السلامُ؛ لأنَّ تبشيرَ إبراهيمَ بعلمِه ونبوتِه فيه دلالةٌ على بقائِه إلى كبرِه، وأمَّا ما في سورةِ الصافاتِ فالمرادُ به إسماعيلُ عليه السلامُ، ووُصِف بالحلمِ؛ لما ذكرَ عنه مِن الانقيادِ إلى رُؤيا أبيه، مع ما فيه مِن أمرِّ الأشياءِ على النفسِ، وأكرهِها عندَها، ووعدِها بالصبرِ ، فوصفُه بالحليمِ مناسبٌ لمقامِه وصبرِه، فلا أحلمَ ممن أسلَم نفسَه للذبحِ طاعةً لربِّه .

3- قوله تعالى: قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ

- قولُه: قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الكِبَرُ الاستفهامُ في أَبَشَّرْتُمُونِي للتَّعجُّبِ، أي: تعجَّبَ مِن بِشارتِه بولدٍ مع أنَّ الكِبَرَ مَسَّه، أو إنكارٌ لأنْ يُبشَّرَ به في مثْلِ هذه الحالةِ، وأكَّدَ هذا التَّعجُّبَ بالاستفهامِ الثَّاني بقولِه: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ؛ فهو أيضًا استفهامُ تعجُّبٍ؛ نزَّلَ الأمْرَ العجيبَ المعلومَ مَنزلةَ الأمْرِ غيرِ المعلومِ؛ لأنَّه يكادُ يكونُ غيرَ معلومٍ، وقد علِمَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ مِن البِشارةِ أنَّهم ملائكةٌ صادِقونَ؛ فتعيَّنَ أنَّ الاستفهامَ للتَّعجُّبِ؛ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ مِن أنَّ ما بَشَّروه به أمْرٌ يكادُ أنْ يكونَ مُنْتفيًا وباطلًا؛ فكلامُهم رَدٌّ لكلامِه، وليس جوابًا على استفهامِه؛ لأنَّه استفهامٌ غيرُ حَقيقيٍّ . وقيل: قولُه: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ تأكيدُ استبعادٍ وتَعجُّبٍ، وكأنَّه لم يعلَمْ أنَّهم ملائكةٌ؛ رُسُلُ اللهِ إليه؛ فلذلك استفهَمَ، واستنكَرَ أنْ يُولَدَ له، ولو علِمَ أنَّهم رُسُلُ اللهِ ما تعجَّبَ ولا استنكَرَ، ولا سيَّما وقد رأى مِن آياتِ اللهِ عِيانًا كيف أحيا الموتَى ، وقيل غيرُ ذلك .

4- قوله تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ

- قولُه: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ هو استفهامُ إنكارٍ في معنى النَّفيِ، أو في ضِمْنِه النَّفيُ؛ ولذلك دخَلَت (إلَّا) واستثنى منه في قولِه: إِلَّا الضَّالُّونَ، يعني: أنَّه لم يذهَبْ عنه اجْتنابُ القُنوطِ مِن رحمةِ اللهِ، ولكنَّه امْتَلَكَه المُعتادُ فتعجَّبَ؛ فصار ذلك كالذُّهولِ عنِ المَعلومِ، فلمَّا نبَّهَه الملائكةُ أدنى تَنبيهٍ تذكَّرَ .

5- قوله تعالى: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ القائلُ هو إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتوسيطُ الفعْلِ قَالَ بينَ قولِه السَّابقِ وبينَ قولِه: فَمَا خَطْبُكُمْ صَريحٌ في أنَّ بينهما مَقالةً مَطْويَّةً لهم أُشيرَ به إلى مَكانِها، كما في قولِه تعالى: قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ... [الإسراء: 61، 62]؛ فإنَّ قولَه الأخيرَ ليس مَوصولًا بقولِه الأوَّلِ، بل هو مَبْنِيٌّ على قولِه تعالى: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: 34]؛ فإنَّ تَوسيطَ قَالَ بينَ قَولَيْه؛ للإيذانِ بعدَمِ اتِّصالِ الثَّاني بالأوَّلِ، وعدَمِ ابْتِنائِه عليه، بل غيرِه، ثمَّ خِطابُه لهم- عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- بعُنوانِ الرِّسالةِ بعدَما كان خِطابُه السَّابِقُ مُجرَّدًا عن ذلك، مع تَصديرِه بالفاءِ: دَليلٌ على أنَّ مَقالتَهم المَطْوِيَّةَ كانت مُتضمِّنَةً لبَيانِ أنَّ مَجيئَهم ليس لمُجرَّدِ البِشارةِ، بل لهم شأْنٌ آخرُ لأجْلِه أُرْسِلوا، فكأنَّه قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إنْ لم يكُنْ شأنُكم مُجرَّدَ البِشارةِ؛ فماذا هو؟ فلا حاجةَ إلى الالتجاءِ إلى أنَّ علْمَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّ كلَّ المقصودِ ليس البِشارةَ بسبَبِ أنَّهم كانوا ذَوِي عدَدٍ، ولعلَّه علِمَ أنَّ كَمالَ المقصودِ ليس البِشارةَ؛ لأنَّهم كانوا عَددًا والبِشارةُ لا تحتاجُ إلى العدَدِ؛ ولذلك اكْتُفِيَ بالواحدِ في زَكريَّا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومريمَ، وهذا على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ، أو لأنَّهم بَشَّروه في تَضاعيفِ الحالِ؛ لإزالةِ الوجَلِ، ولو كانت تَمامَ المقصودِ لَابْتَدؤوا بها .

6- قولُه تعالى: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ

- قولُه: قَوْمٍ مُجْرِمِينَ فيه تَنكيرُ قَومٍ، وتَنكيرُ صِفَتِهم مُجْرِمِينَ؛ تَقليلًا لهم واستِهانَةً بهم .

7- قوله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ

- قولُه: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ استئنافٌ للإخبارِ بنَجاتِهم؛ لعدَمِ إجْرامِهم، أو لبَيانِ ما فُهِمَ مِن الاستثناءِ مِن مُطلَقِ عدَمِ شُمولِ العَذابِ لهم

=======================

 

سورةُ الحِجْرِ

الآيات (61-77)

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ

غريب الكلمات :

 

دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ: أي: يُسْتَأْصلونَ عن آخِرِهم حتَّى لا يبقَى منهم أحدٌ، وقطْعُ دابرِ الإنسان: هو إفناءُ نوعِه، ودابِرُ القومِ: آخرُهم، وأصلُ (قطع): يدلُّ على إبانةِ شيءٍ مِن شيءٍ، وأصلُ (دبر): آخِرُ الشَّيءِ وخَلْفُه

.

يَمْتَرُونَ: أي: يَشكُّونَ، وماراه مماراةً ومِراءً. وامترَى فيه وتمارَى: شكَّ، والمِريةُ: هي التردُّدُ في الأمرِ، وهي أخصُّ من الشَّكِّ .

فَأَسْرِ: أي: سِرْ ليلًا؛ من السُّرَى: وهو سَيرُ اللَّيلِ .

بِقِطْعٍ: أي: ببقيَّةٍ تبقَى مِن آخِرِه، وأصلُ (قطع): يدلُّ على صَرمٍ وإبانةِ شَيءٍ مِن شَيءٍ .

لَعَمْرُكَ: أي: وحَياتِك، وأصلُ (عمر): يدلُّ على بقاءٍ، وامتدادِ زَمانٍ .

سَكْرَتِهِمْ: أي: غَوايتِهم وضَلالتِهم، وأصلُ (سكر): يدُلُّ على حَيرةٍ .

يَعْمَهُونَ: أي: يتَحيَّرون ويترَدَّدونَ، وأصلُ (عمه): يدلُّ على حَيرةٍ وقِلَّةِ اهتداءٍ .

مُشْرِقِينَ: أي: داخِلينَ في الإشراقِ، وهو سُطوعُ ضَوءِ الشَّمسِ وظُهورُه، وأصلُ (شرق): يدُلُّ على إضاءةٍ .

سِجِّيلٍ: أي: طينٍ مُتحَجِّرٍ، وقيل: أصلُها فارسيٌّ (سَنكِ وكِل) أي: الحَجَر والطِّين .

لِلْمُتَوَسِّمِينَ: أي: المتَفرِّسين المُعتَبِرينَ، الناظرينَ في السِّمةِ الدَّالةِ؛ يُقال: توسَّمتُ فيه الخيرَ: إذا رأيتَ مِيسَمَه فيه، أي: علامَتَه التي تدُلُّ عليه، وأصلُ (وسم): يدُلُّ على أثَرٍ ومَعلَمٍ .

لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ: أي: لَبِطَريقٍ واضحٍ ثابتٍ، وأصلُ (سبل): يدلُّ على امتدادِ شَيءٍ، وأصلُ (قوم): يدلُّ عَلَى انْتِصابٍ أو عَزْمٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: فلمَّا جاءتِ الملائِكةُ إلى لوطٍ وأهلِه، قال لهم: إنَّكم قومٌ غيرُ مَعروفينَ لي. قالوا: قد جِئْنا بعذابِ قومِك الذي كان يَشُكُّون فيه، وجِئناك بالحَقِّ مِن عندِ الله، وإنَّا لصادِقونَ فيما أخْبَرناك به، فاخرُجْ ومعك أهلُك بعد مرورِ وقتٍ مِن اللَّيلِ، وسِرْ أنت وراءَهم ولا يلتَفِتْ منكم أحدٌ، وأسرِعوا إلى حيثُ أمَرَكم اللهُ.

وأوحَينا إلى لوطٍ أنَّ قَومَك مُهلَكون عن آخِرِهم عند مَطلَعِ الصُّبحِ، وجاء أهلُ مدينةِ لُوطٍ إلى لوطٍ عليه السلامُ، وهم فَرِحونَ، يَستبشِرونَ بضُيوفِه؛ ليَفعَلوا بهم الفاحِشةَ. قال لهم لوطٌ: إنَّ هؤلاء ضُيوفي، فلا تَفضَحوني، وخافوا عِقابَ الله، ولا تتعَرَّضوا لهم فتُذلُّوني بإيذائِكم لهم. قال قَومُه: أولَم نَنْهَك أن تُضيِّفَ أحدًا مِن العالَمينَ؟ قال لوطٌ لهم: هؤلاء نساؤُكم فتزوَّجوهنَّ إن كُنتُم فاعلينَ.

ثمَّ أقسَم الله تعالى بحياةِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم قائلًا: وحياتِك- يا محمَّدُ- إنَّ قَومَ لوطٍ لَفي غفلةٍ وضلالةٍ يتحَيَّرونَ، فنزلت بهم صيحةٌ هائلةٌ وقتَ شُروقِ الشَّمسِ، فقَلَبْنا مدينتَهم فجَعَلْنا عاليَها سافِلَها، وأمطَرْنا عليهم حجارةً مِن طينٍ متصَلِّبٍ. إنَّ فيما أصاب قومَ لوطٍ لَعِظاتٍ للمتفَكِّرينَ المتفَرِّسينَ، وإنَّ مدينةَ قَومِ لوطٍ لَفي طريقٍ ثابتٍ يراها المارُّونَ بها، وإنَّ في إهلاكِنا لهم لَدَلالةً واضِحةً للمُؤمِنينَ على انتقامِ اللهِ مِن الكافرينَ.

تفسير الآيات:

 

فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا تمَّ ما أُريدَ الإخبارُ عنه مِن تَحاوُرِ الملائكةِ مع إبراهيمَ عليه السَّلامُ، أخبَرَ عن أمْرِهم مع لوطٍ عليه السَّلامُ، فقال

:

فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61).

أي: فلمَّا أتَتِ الملائكةُ لوطًا وأهلَه .

قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62).

أي: قال لُوطٍ للملائكةِ: إنَّكم قومٌ غيرُ مَعروفينَ لدَيَّ، فلا أدري مَن أنتم !

قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63).

أي: قالت الملائِكةُ لِلُوطٍ: بل نحنُ مَلائِكةُ الله، جِئناك بعذابِ قَومِك، الذي كانوا يشُكُّونَ في وُقوعِه بهم .

وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64).

أي: وأتَيناك باليَقينِ مِن عندِ اللهِ- وهو عذابُ قَومِك- وإنَّا لَصادِقونَ فيما أخبَرْناك به مِن هلاكِهم .

كما قال تعالى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر: 8] .

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65).

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ.

أي: فاخرُجْ أنت وأهلُك مِن أرضِ قَومِك بعد مُضيِّ وقتٍ مِن اللَّيلِ؛ حيثُ تكونُ العُيونُ قد نامَت، ولا يعلَمُ أحدٌ بمَسراك .

وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ.

أي: وكنْ- يا لوطُ- مِن وراءِ أهلِك، وامشِ خَلْفَهم حينَ تَسري بهم .

وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ.

أي: ولا ينظُرْ أحدٌ منكم وراءَه، ولْتَجِدُّوا في السَّيرِ فتتباعَدوا عن القريةِ، وتنجوا مِن العذابِ النازلِ بأهلِها .

وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ.

أي: واذهَبوا إلى المكانِ الذي تُؤمَرونَ بالمضيِّ إليه .

وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66).

أي: وأوحَينا إلى لوطٍ ما قدَّرْناه من الأمرِ العظيمِ؛ أنَّ جميعَ قَومِه مُهلَكونَ عن آخِرِهم هَلاكَ استِئصالٍ مَطْلَعَ صَباحِ لَيلتِهم .

كما قال تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود: 81] .

وقال سبحانه: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر: 73] .

وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67).

أي: وجاء أهلُ مدينةِ قَومِ لُوطٍ إلى بيتِ لُوطٍ فَرِحينَ مَسرورينَ، يُبَشِّرُ بَعضُهم بعضًا بقُدومِ أضيافِ لُوطٍ؛ طَمعًا في فِعلِ الفاحشةِ بهم !

كما قال تعالى: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [هود: 78] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر: 37].

قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68).

أي: قال لُوطٌ لِقَومِه: إنَّ هؤلاء الذين تُريدونَ فِعلَ الفاحِشةِ بهم ضُيوفي، وحَقٌّ على الرجُلِ إكرامُ ضُيوفِه، فلا تَفضَحوني في ضُيوفي بتعاطي ذلك الفِعلِ القَبيحِ، فيَلحَقَني العارُ .

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69).

أي: وخافُوا اللهَ أن يُحِلَّ بكم عَذابَه، ولا تُذِلُّوني وتُهينوني بالتعَرُّضِ لضيوفي بمَكروهٍ .

قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70).

أي: قال قَومُ لُوطٍ له: أولَم نَنهَك- يا لُوطُ- عن ضيافةِ أحدٍ من النَّاسِ؟ فنحن قد أنذَرْناك، ومَن أنذَرَ فقد أعذَرَ .

قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71).

أي: قال لُوطٌ لِقَومِه: تزوَّجوا مِن نسائِكم ، ولا تَفعَلوا ما حرَّمَ اللهُ عليكم من إتيانِ الذُّكورِ، إن كنتُم فاعلينَ .

كما قال تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود: 78-79] .

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72).

أي: أُقسِمُ بحَياتِك- يا محمَّدُ- إنَّ قومَ لوطٍ لَفي ضَلالتِهم وجَهلِهم وغَفلتِهم يتحيَّرونَ، ولا يهتدونَ؛ بسبَبِ سَكرةِ الهَوى والعِشقِ .

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73).

أي: فأخَذَتْهم صيحةٌ عَظيمةٌ هائِلةٌ مُهلِكةٌ، وقتَ شُروقِ الشَّمسِ .

فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74).

فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا.

أي: قَلَبْنا عَليهم مدينَتَهم، فجَعَلْنا أعلاها أسفَلَها .

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ.

أي: وأنزَلْنا عليهم حِجارةً مِن طينٍ مُتحَجِّرٍ .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75).

أي: إنَّ في قصَّةِ قَومِ لوطٍ وما فَعَلْناه بهم من العذابِ، وبقاءِ آثارِ هَلاكِهم، لَعلاماتٍ للمُتفَرِّسينَ المتأمِّلينَ المتفَكِّرينَ، الذين لهم فِكرٌ وفِراسةٌ يفهمونَ بها ما أُريدَ بذلك، فيَعتَبِرونَ .

وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76).

أي: وإنَّ مدينةَ قَومِ لُوطٍ لَفي طريقٍ باقٍ واضحٍ ثابتٍ يَسلُكُه النَّاسُ، فيَرى كُلُّ مَن يمُرُّ بها آثارَ تَدميرِها .

كما قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137-138] .

وقال سُبحانه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77).

أي: إنَّ في إهلاكِنا قَومَ لُوطٍ، وإنجائِنا لوطًا وأهلَه المؤمنينَ، لعلامةً ودَلالةً واضِحةً للمُؤمِنينَ على انتقامِ اللهِ مِن الكافرينَ، وإنجائِهم مِن بيْنِ أيديهم سالِمينَ آمِنينَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يبيِّنُ أنَّ كُلَّ مَن آمن باللهِ، وصَدَّق الأنبياءَ والرسُلَ، عرَفَ أنَّ ما وقع بقومِ لوطٍ إنَّما كان لأجلِ أنَّ اللهَ تعالى انتقَمَ لأنبيائِه مِن أولئك الجُهَّالِ، أمَّا الذين لا يُؤمِنونَ باللهِ، فإنَّهم يَحمِلونَه على حوادِثِ العالَمِ ووقائِعِه

.

2- في هذه القِصَّةِ مِن العِبَر: أنَّ الله تعالى إذا أراد أن يُهلِكَ قريةً ازداد شَرُّهم وطُغيانُهم، فإذا انتهَى أوقَعَ بهم مِن العقوباتِ ما يستحِقُّونَه، قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ فأمَر لوطًا عليه السلام أن يكونَ مِن ورائِهم، وتلمَّس العلماءُ أوجهَ الحكمةِ في ذلك، ومنها:

أولًا: أنه أُمِر أن يكونَ مِن ورائِهم لِئلَّا يتخَلَّفَ منهم أحدٌ فينالَه العذابُ

، فهذا أحفَظُ لهم .

ثانيًا: ليكونَ أقرَبَهم إلى الملائكةِ وإلى محَلِّ العذابِ؛ لأنَّه أثبتُهم قَلبًا، وأعرَفُهم بالله، وقد جَرَت عادةُ الكُبَراءِ أن يكونوا أدنى جماعتِهم إلى الأمرِ المَخوفِ؛ سَماحًا بأنفُسِهم، وتَثبيتًا لِغَيرِهم.

ثالثًا: لئلَّا يشتَغِلَ قلبُه بمن خلفَه .

رابعًا: ليكونَ كالحائلِ بينَهم وبينَ العذابِ الذي يحُلُّ بقَومِه بعَقِبِ خُروجِه؛ تنويهًا ببركةِ الرَّسولِ عليه السَّلامُ.

خامسًا: لأنَّهم أمَروه ألَّا يلتفِتَ أحدٌ مِن أهلِه إلى ديارِ قَومِهم؛ لأنَّ العذابَ يكونُ قد نزل بديارِهم، فبِكونِه وراءَ أهلِه يخافونَ الالتفاتَ؛ لأنَّه يُراقِبُهم .

2- قَولُ الله تعالى: وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ تعبيرُه بالمضارعِ في قَولِه: تُؤْمَرُونَ يُشعِرُ بأنَّه يكونُ معهم بعضُ الملائكةِ عليهم السَّلامُ .

3- ذكَّرَ لوطٌ قَومَه بالوازعِ الدِّينيِّ- وإن كانوا كفَّارًا- استقصاءً للدَّعوةِ التي جاء بها، وبالوازعِ العُرفيِّ؛ فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ .

4- في قَولِه تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قسَمٌ مِن اللهِ بحياةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا من أعظَمِ فَضائِلِه؛ أن يُقسِمَ الرَّبُّ- عَزَّ وجَلَّ- بحياتِه، وهذه مَزِيَّةٌ لا تُعرَفُ لِغَيرِه . فما أقسَمَ الله بحياةِ أحَدٍ؛ وذلك يدُلُّ على أنَّه أكرَمُ الخَلقِ على اللهِ تعالى .

5- قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ كَرِه كثيرٌ مِن العُلَماءِ أن يقولَ الإنسانُ: لَعَمْرِي؛ لأنَّ معناه: وحَيَاتي، وإن كان اللهُ سُبحانَه أقسَمَ به في هذه القِصَّةِ؛ فذلك بَيانٌ لِشَرَفِ المنزلةِ والرِّفعةِ لِمَكانِه، فلا يُحمَلُ عليه سِواه، ولا يُستعمَلُ في غَيرِه .

6- قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فعمرُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو عُمُرٌ شَريفٌ عَظيمٌ أهلٌ أن يُقسمَ اللهُ به؛ لِمَزيَّتِه على كُلِّ عُمُرٍ مِن أعمارِ بني آدمَ، ولا ريبَ أنَّ عُمُرَه وحياتَه مِن أعظَمِ النِّعَمِ والآياتِ، والقَسَمُ به أَولى من القسَمِ بغَيرِه من المَخلوقاتِ .

7- قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ إنَّما وصَفَ اللهُ- سُبحانَه- اللُّوطيَّةَ بالسَّكرةِ؛ لأنَّ سَكرةَ العِشقِ مِثلُ سَكرةِ الخَمرةِ .

8- في قَولِه تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وصَفَهم الله تعالى بالسَّكرةِ التي هي فَسادُ العَقلِ، والعَمَهِ الذي هو فسادُ البَصيرةِ، فالتعلُّقُ بالصُّوَرِ يُوجِبُ فَسادَ العَقلِ، وعَمَهَ البصيرةِ، وسُكْرَ القَلبِ .

9- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أصلٌ في الفِراسةِ .

10- في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ بيَّنَ تعالى أنَّه تارِكٌ آثارَ القَومِ المعذَّبينَ للمُشاهَدةِ، ولِيُستدَلَّ بذلك على عُقوبةِ اللهِ لهم ، فالنَّاظِرُ متى نَظرَ في آثارِ ديارِ المكذِّبينَ ومنازلِهم؛ وما آلَ إليه أمرُهم؛ أورثَه فِراسةً وعِبرةً وفِكرةً .

11- في هذه القِصَّةِ مِن العِبَرِ أنَّ لُوطًا- عليه السَّلامُ- لَمَّا كانوا أهلَ وَطَنِه، فرُبَّما أخَذَتْه الرِّقَّةُ عليهم والرَّأفةُ بهم، قَدَّرَ الله من الأسبابِ ما به يشتَدُّ غَيظُه وحَنَقُه عليهم، حتى استبطأَ إهلاكَهم لَمَّا قيل له: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ

- قولُه: قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ولم يقولوا: (بعذابِهم) مع حصولِ الغرضِ؛ ليتضمَّنَ الكلامُ الاستئناسَ مِن وجهينِ: تحقُّق عذابِهم، وتحقُّق صدقِه عليه السلامُ، ففيه تذكيرٌ لما كان يُكابِدُ منهم مِن التكذيبِ. وقيل: وقد كنَّى عليه السلامُ عن خوفِه ونفارِه بأنَّهم (منكرونَ) فقابَلوه عليه السلامُ بكنايةٍ أحسنَ وأحسنَ

.

2- قولُه تعالى: وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ المُرادُ بالحقِّ: الإخبارُ بمَجِيءِ العَذابِ المَذكورِ، وقولُه: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ تأكيدٌ له، أي: أتيناك فيما قُلْنا بالخبَرِ الحقِّ، أي: المُطابقِ للواقِعِ، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ في ذلك الخبَرِ، أو في كلِّ كلامٍ؛ فيكونُ كالدَّليلِ على صِدْقِهم فيه، وعلى الأوَّلِ تأكيدٌ إثْرَ تأكيدٍ .

3- قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ

- قولُه: وَاتَّبِعْ فيه إيثارُ (الاتِّباعِ) على السَّوقِ، مع أنَّه المقصودُ بالأمْرِ، ولعلَّ ذلك للمُبالغةِ في ذلك؛ إذ السَّوقُ رُبَّما يكونُ بالتَّقدُّمِ على بعضٍ مع التَّأخُّرِ عن بعضٍ، ويلزَمُه عادةً الغَفلةُ عن حالِ المُتأخِّرِ .

- قولُه: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يحتملُ أنْ يكونَ النَّهيُ عن الالتفاتِ كِنايةً عن مُواصلةِ السَّيرِ، وتَرْكِ التَّواني والتَّوقُّفِ؛ لأنَّ مَن يلتفِتُ لا بُدَّ له في ذلك مِن أدنى وَقفةٍ .

- قولُه: وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ فيه حَذفٌ، والتَّقديرُ: إلى حيث أمَرَكم اللهُ تعالى بالمُضِيِّ إليه وهو الشَّامُ أو مِصرُ، وإيثارُ المُضِيِّ إلى ما ذُكِرَ على الوصولِ إليه واللُّحوقِ به؛ للإيذانِ بأهميَّةِ النَّجاةِ، ولمُراعاةِ المُناسَبَةِ بينه وبين ما سلَفَ مِن الغابرينَ .

4- قوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ

- قولُه: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ، في قولِه: ذَلِكَ الْأَمْرَ إبهامٌ؛ للتَّهويلِ، والإشارةُ للتَّعظيمِ، أي: الأمْرُ العظيمُ، ومَقْطُوعٌ، أي: مُزالٌ، وهو كِنايةٌ عنِ استئصالِهم كلِّهم ، وأشار بصيغةِ المفعولِ مَقْطُوعٌ إلى عظمتِه سبحانَه، وسهولةِ الأمرِ عندَه ، وفيه إيثارُ اسمِ الإشارةِ على الضَّميرِ؛ للدَّلالةِ على اتِّصافِهم بصِفاتِهم القَبيحةِ الَّتي هي مَدارُ ثُبوتِ الحُكمِ، أي: دابِرُ هؤلاء المُجرمينَ .

- في قَولِه: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ تَبيينٌ بعدَ إجمالٍ، وهو أوقَعُ في النَّفسِ؛ فقولُه تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ عندَ الوقوفِ على قولِه: الْأَمْرَ؛ يُستفهَمُ: ما هذا الأمرُ؟ فيأتي التبيينُ بقولِه: أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ وهو كِنايةٌ عن الاستِئصالِ، ثمَّ إنَّه فسَّرَ بعدَ ذلك القضاءَ المَبتوتَ بقولِه: أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ، وفي إبهامِه أوَّلًا وتَفسيرِه ثانيًا: تَفخيمٌ للأمْرِ، وتَعظيمٌ له .

- وعُدِّيَ قَضَيْنَا بـ (إلى)؛ لأنَّه ضُمِّنَ مَعنى: (أوحينا)، كأنَّه قيل: وأوحينا إليه مَقْضِيًّا مَبْتوتًا .

- وأيضًا فيه إيرادُ صِيغَةِ المفعولِ مَقْطُوعٌ بدَلَ صِيغَةِ المُضارعِ (يُقْطَعُ)؛ لكونِها أدخَلَ في الدَّلالةِ على الوُقوعِ. وفي لفظِ القضاءِ وَقَضَيْنَا، والتَّعبيرِ عن العذابِ بالأمْرِ، والإشارةِ إليه بذلك، وتأخيرِه عن الجارِّ والمجرورِ، وإبهامِه أوَّلًا، ثمَّ تفسيرِه ثانيًا: دَلالةٌ على فَخامةِ الأمْرِ وفَظاعتِه .

5- قوله تعالى: وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ

- قولُه: يَسْتَبْشِرُونَ فيه التَّعبيرُ بصِيغَةِ المُضارعِ؛ لإفادةِ التَّجدُّدِ مُبالغةً في الفرَحِ .

6- قوله تعالى: قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ

- قولُه: إِنَّ هَؤُلَاءِ فيه التَّأكيدُ بـ إِنَّ وهو ليس لإنكارِهم ذلك، بل لتَحقيقِ اتِّصافِهم به، وإظهارِ اعتنائِه بشأْنِهم، وتَشمُّرِه لمُراعاةِ حُقوقِهم وحِمايتِهم مِن السُّوءِ؛ ولذلك قال: فَلَا تَفْضَحُونِ .

7- قوله تعالى: قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ

- قولُه: أَوَلَمْ الاستفهامُ إنكاريٌّ، والمعطوفُ هو الإنكارُ؛ فالهمزةُ للاستفهامِ والإنكارِ، والواوُ للعطفِ على مَحذوفٍ مُقدَّرٍ، أي: ألَمْ نتقدَّمْ إليك ولَمْ ننْهَكَ عن التعرضِ لهم بمنعِهم عنا وضيافتِهم؟ وقيل: الواوُ في أَوَلَمْ نَنْهَكَ عطفٌ على كلامِ لوطٍ- عليه السلامُ- جارٍ على طريقةِ العطفِ على كلامِ الغيرِ. وتعديةُ النهيِ إلى ذاتِ العالمينَ على تقديرِ مضافٍ دلَّ عليه المقامُ، أي: ألم ننهك عن حمايةِ الناسِ أو عن إجارتِهم ؟

8- قوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ جملةٌ مُعتَرِضةٌ بين أجزاءِ القِصَّةِ؛ للعبرةِ في عدمِ جَدوى المَوعِظةِ فيمَن يكونُ في سَكرةِ هواه .

- قولُه: لَعَمْرُكَ هذه صِيغَةُ قسَمٍ، واللَّامُ الدَّاخِلةُ على لفظِ (عَمْر) لامُ القسَمِ، والعَمْرُ- بفتحِ العَينِ وسُكونِ اللَّامِ- أصلُه لُغَةٌ في (العُمُرِ) بضَمِّ العينِ؛ فخُصَّ المفتوحُ بصِيغَةِ القسَمِ لخِفَّتِه بالفتحِ؛ لأنَّ القسَمَ كثيرُ الدَّورانِ في الكلامِ؛ فهو قسَمٌ بحياةِ المُخاطَبِ به وهو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والقسَمُ باسمِ أحدٍ تَعظيمٌ له؛ فاسْتُعْمِلَ لفْظُ القسَمِ كِنايةً عنِ التَّعظيمِ .

- قولُه: لَفِيَ سَكْرَتِهِمْ السَّكرةُ: ذَهابُ العقْلِ، وأُطْلِقَت هنا على الضَّلالِ؛ تَشبيهًا لغَلَبةِ دَواعي الهَوى على دَواعي الرَّشادِ بذَهابِ العقْلِ وغَشْيتِه؛ فكَنَّى عنِ الضَّلالةِ والغَفلةِ بالسَّكرةِ .

9- قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ للْمُتَوَسِّمِينَ تَذييلٌ، والمتوسِّمون: أصحابُ التوسُّم، وهو التأمُّلُ في السِّمةِ، أي: العَلامةِ الدالَّةِ على المَعْلَم، والمراد: للمُتأمِّلين في الأسبابِ وعواقبِها، وأولئك هم المؤمِنون، وفيه تَعريضٌ بالَّذين لم تَرْدَعْهم العِبرُ بأنَّهم دونَ مَرتبةِ النَّظرِ؛ تَعريضًا بالمُشركينَ الَّذين لم يتَّعِظوا بأنْ يحُلَّ بهم ما حَلَّ بالأُمَمِ مِن قبْلِهم الَّتي عَرَفوا أخبارَها، ورَأَوا آثارَها؛ ولذلك أعقَبَ الجُملةَ بجُملةِ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، أي: المدينةَ المذكورةَ آنفًا هي بطريقٍ باقٍ، يُشاهِدُ كثيرٌ منكم آثارَها في بِلادِ فلسطينَ في طَريقِ تِجارتِكم إلى الشَّامِ وما حولَها، وهذا كقولِه: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137- 138] .

10- قولُه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ تَذييلٌ، وعُبِّرَ في التَّذييلِ بالمُؤمنينَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المُتوسِّمينَ هم المُؤمنونَ .

- وفي قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث جمَعَ الآيةَ أوَّلًا فقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ، ووحَّدَها ثانيًا هنا في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنينَ، والقِصَّةُ واحدةٌ؛ فاختُصَّت التي في هذا الموضعِ بالآيةِ على التَّوحيدِ، والسابقةُ بالآياتِ على الجَمْع؛ وهذا لأنَّ (ذلك) في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ إشارةٌ إلى ما قَصَّ مِن حديثِ لُوطٍ وضَيفِ إبراهيمَ، وتعرُّضِ قومِ لُوطٍ لهم طَمعًا فيهم، وما كان مِن أمْرِهم آخرًا؛ مِن إهلاكِ الكفَّارِ، وقلْبِ المدينةِ على مَن فيها،...إلخ،  وهذه أشياءُ كثيرةٌ، في كلِّ واحدةٍ منها آيةٌ، وفي جميعِها آياتٌ لمَن يتوسَّمُ؛ فكان ذِكْرُ الآياتِ هاهنا أَولى وأشبَهَ بالمعنى، وأمَّا قولُه: لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فلأنَّ قبْلَها: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، أي: تلك المدينةُ المقلوبةُ ثابتةُ الآثارِ، مُقيمةٌ للنُّظارِ، فكأنَّها بمَرأى العُيونِ؛ لبَقاءِ آثارِها، وهذه واحدةٌ مِن تلك الآياتِ؛ فلذلك جاء عَقِيبَها: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فجمَعَ أوَّلًا باعتبارِ تَعدُّدِ ما قَصَّ مِن حديثِ لُوطٍ، وضَيفِ إبراهيمَ، ووحَّدَ ثانيًا باعتبارِ وَحدَةِ قَريةِ قَومِ لُوطٍ، المُشارِ إليها بقولِه: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ

=====================

 

سورةُ الحِجْرِ

الآيات (78-84)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ

غريب الكلمات :

 

أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ: أي: قَومُ شُعَيبٍ، والأيكةُ: الشَّجَرُ المُلتَفُّ المُجتَمِعُ، وأصلُ (أيك): اجتماعُ شَجَرٍ

.

لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ: أي: لَبِطَريقٍ واضِحٍ بيِّنٍ، وقيل للطَّريقِ إمامٌ؛ لأنَّ المُسافِرَ يأتَمُّ به، حتى يصيرَ إلى الموضِعِ الذي يُريدُه، ويُطلَقُ الإمامُ على كُلِّ ما ائتَمَمْتَ به واهتَدَيتَ به، وأصلُ (أم):  يدُلُّ على القَصْدِ .

الْحِجْرِ: هو اسمُ وادٍ بينَ المدينةِ والشَّامِ كان يسكُنُه ثَمودُ؛ قَوْمُ صَالِحٍ عليه السَّلامُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: وقد كان أصحابُ الأيكةِ (وهو الشجرُ الملتفُّ)- قومُ شُعَيبٍ- ظالِمينَ، فانتقَمْنا منهم وأهلَكْناهم، وإنَّ مَساكِنَ قَومِ لُوطٍ وقومِ شُعَيبٍ لَفي طريقٍ واضحٍ يمرُّ بهما النَّاسُ في سَفَرِهم، ويُشاهِدونَ آثارَ هلاكِهم فيَعتَبِرونَ. ولقد كذَّبَ سُكَّانُ الحِجْرِ- منازِلِ ثمودَ- صالحًا عليه السَّلامُ، فكانوا بذلك مكَذِّبينَ لكُلِّ المُرسَلينَ؛ وآتينا ثمودَ آياتِنا الدَّالَّةَ على صِدقِ صالحٍ- ومن جُملتِها النَّاقةُ- فلم يَعتَبِروا بها، وكانوا ينحِتونَ من الجِبالَ بُيوتًا، وهم آمِنونَ فيها، فأخَذَتْهم صيحةُ العذابِ وقتَ الصَّباحِ، فما دفع عنهم عذابَ اللهِ ما كانوا يَعمَلونَه.

تفسير الآيات:

 

وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى قِصَّةَ قَومِ لُوطٍ، ضَمَّ إليها ما هو على طريقِها ممَّا عُذِّبَ قَومُه بنَوعٍ آخَرَ مِن العذابِ يُشابِهُ عَذابَ قَومِ لُوطٍ، في كَونِه نارًا مِن السَّماءِ، فقال مؤكِّدًا؛ لأجْلِ إنكارِ الكُفَّارِ أن يكونَ عذابُهم لأجلِ التَّكذيبِ، أو عَدًّا لهم- لأجلِ تمادِيهم في الغَوايةِ مع العِلم بِه- عِدادَ المُنكِرينَ

:

وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78).

أي: وقد كان أصحابُ الغَيضةِ - وهي جماعةُ الشَّجرِ الملتَفِّ المُجتَمِع- ظالِمينَ بِشِركِهم باللهِ، وتَكذيبِهم برَسولِه شُعَيبٍ عليه السَّلامُ، وقَطْعِهم الطريقَ، وتَطفيفِهم في الكَيلِ، وبَخسِهم الناسَ أشياءَهم .

كما قال تعالى: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الشعراء: 176-183].

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79).

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ.

أي: فانتقَمْنا مِن أصحابِ الأيكَةِ الظَّالِمينَ، فأهلَكْناهم .

كما قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 189] .

وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ.

أي: وإنَّ كُلًّا مِن دِيارِ قَومِ لُوطٍ ودِيارِ أصحابِ الأيكةِ لعلى طريقٍ واضِحٍ تُشاهَدُ فيه آثارُ هَلاكِهم، فيَعتَبِرُ بها من يمرُّ عليها .

وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

جُمِعَت قَصَصُ هؤلاء الأُمَمِ الثَّلاثِ: قومِ لُوطٍ، وأصحابِ الأيكةِ، وأصحابِ الحِجرِ، في نَسَقٍ؛ لتَماثُلِ حالِ العذابِ الذي سُلِّطَ عليها، وهو: عذابُ الصَّيحةِ، والرَّجْفة، والصَّاعِقة .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان ربَّما قيل: إنَّه لو كان لأصحابِ الأيكةِ بُيوتٌ مُتقَنةٌ لَمَنعَتْهم من العذابِ، عطَفَ عليهم مَن هم على طَريقٍ أُخرَى مِن مَتاجِرِهم إلى الشَّامِ، وكانوا قد طال اغترارُهم بالأملِ حتى اتَّخَذوا الجبالَ بُيوتًا، وكانت آيتُهم في غايةِ الوُضوحِ فكَذَّبوا بها؛ تحقيقًا لأنَّ المتعَنِّتينَ لو رأَوا كلَّ آيةٍ لقالُوا: إنَّما سُكِّرَت أبصارُنا، فقال :

وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80).

أي: ولقد كذَّبَ سُكَّانُ الحِجْرِ - وهم ثَمودُ- رَسولَهم صالحًا عليه السَّلامُ، فكذَّبوا بذلك جميعَ المرسَلينَ؛ لأنَّ دَعوتَهم واحِدةٌ .

كما قال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء: 141-142] .

وقال سُبحانه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر: 23-25].

وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا مَرَّ بالحِجرِ قال: لا تَدخُلوا مَساكِنَ الذين ظَلَموا أنفُسَهم إلَّا أن تكونوا باكِينَ؛ أن يُصيبَكم ما أصابَهم )) .

وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81).

أي: وآتينا ثمودَ حُجَجَنا وبراهينَنا الدَّالَّةَ على صِدقِ رَسولِنا صالحٍ- ومنها الناقةُ- فكانوا لا يتَّعِظونَ بها ولا يعتَبِرونَ .

كما قال تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف: 73-74] .

وقال سُبحانه: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: 153-155] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [الإسراء: 59] .

وقال تبارك وتعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17] .

وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82).

أي: وكان قَومُ صالحٍ يَنحِتونَ مِن الجبالِ مَساكِنَ آمِنينَ فيها مِن المخاوِفِ .

كما قال الله حاكيًا قولَ صالحٍ لِقَومِه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف: 74] .

وقال سُبحانه حاكيًا أيضًا قَولَ صالحٍ لِقَومِه: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ [الشعراء: 146-149] .

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83).

أي: فأخَذت قومَ صالحٍ صَيحةُ الهلاكِ في الصَّباحِ .

فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84).

أي: فما دفَعَ العذابَ عنهم، ولا أجزأَ عنهم ما كانوا يَعمَلونَه

 

.

كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [غافر: 82] .

الفوائد التربوية:

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ هؤلاء هم قَومُ شُعَيبٍ، نعَتَهم اللهُ وأضافَهم إلى الأيكةِ؛ لِيَذكُرَ نِعمَتَه عليهم، وأنَّهم ما قاموا بها، بل جاءَهم نبيُّهم شُعَيبٌ، فدعاهم إلى التَّوحيدِ، وتَرْكِ ظُلمِ النَّاسِ في المَكايِيلِ والموازينِ، وعالجَهم على ذلك أشَدَّ المُعالجةِ، فاستَمَرُّوا على ظُلمِهم في حَقِّ الخالقِ، وفي حَقِّ الخَلقِ؛ ولهذا وصَفَهم هنا بالظُّلمِ

.

2- العجائبُ والآياتُ التي للأنبياءِ تارةً تُشَاهدُ آثارُها الدالَّةُ على ما حدَث بالعِيانِ؛ كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ* وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ* فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ، وقال تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِن مَّسَاكِنِهِمْ [العنكبوت: 38] ، وقال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137-138] ، وتارةً تُعلَمُ بمجرَّدِ الأخبارِ المتواترةِ، وإن لم نُشاهِدْ شيئًا مِن آثارِها، وهذه الأخبارُ كانت منتَشِرةً مُتواترةً في العالَمِ، وقد عَلِمَ الناسُ أنَّها آياتٌ للأنبياءِ، وعُقوبةٌ لِمُكَذِّبِيهم؛ ولهذا كانوا يَذكُرونَها عند نَظائرِها للاعتبارِ، كما في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر: 30-31] ، وقال شُعَيب: وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89] .

3- قولُه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ* وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ* إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ* وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ* فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ والإمامُ المبين هو الطريقُ المستبينُ الواضحُ، بيَّن سبحانه أنَّ هذه وهذه- أي: دِيارَ قَومِ لُوطٍ ودِيارَ أصحابِ الأيكةِ- كلاهما بسبيلٍ للناسِ، يرونَها بأبصارِهم، فيعلمونَ بذلك ما فعَل الله بمن كذَّب رسلَه وعصاهم. ودلالةُ نصرِ الله المؤمنينَ، وانتقامِه مِن الكافرين على صدقِ الأنبياءِ مِن جنسِ دلالةِ الآياتِ والمعجزاتِ على صدقِهم، فكونُ هذا فُعِل لأجلِ هذا، وكونُ ذاك سببَ هذا هو مما يُعلم بالاضطرارِ عندَ تصورِ الأمرِ على ما هو عليه، كانقلابِ العصا حيةً عقبَ سؤالِ فرعونَ الآيةَ، وانشقاقِ القمرِ عندَ سؤالِ مشركي مكةَ آيةً، وأمثالِ ذلك .

4- قال اللهُ تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وهم إنَّما كَذَّبوا صالِحًا وَحدَه؛ لأنَّ من كذَّبَ نبيًّا فقد كذَّبَ الأنبياءَ- صلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم- لأنَّهم على دينٍ واحدٍ، ولا يجوزُ التَّفريقُ بينهم . وقيل: إنَّ تَعريفَ الْمُرْسَلِينَ للجِنْسِ؛ فيَصدُقُ بالواحدِ؛ إذ المُرادُ أنَّهم كَذَّبوا صالحًا عليه السَّلامُ؛ فهو كقولِه تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] .

5- قَولُ الله تعالى: وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ أضاف الآياتِ إليهم- وإن كانت لنَبِيِّهم صالحٍ عليه السَّلامُ- لأنَّه مُرسَلٌ مِن رَبِّهم إليهم بهذه الآياتِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ... الآياتِ، عَطْفُ قِصَّةٍ على قِصَّةٍ؛ لِمَا في كِلْتَيهما مِن الموعظةِ، وذِكْرُ هاتينِ القِصَّتينِ المَعطوفتينِ: تكميلٌ وإدماجٌ؛ إذ لا علاقةَ بينهما وبين ما قبْلَهما مِن قِصَّةِ إبراهيمَ والملائكةِ. وخُصَّ بالذِّكْرِ أصحابُ الأيكةِ وأصحابُ الحِجْرِ؛ لأنَّهم مثْلُ قَومِ لُوطٍ؛ لأنَّ أهْلَ مكَّةَ يُشاهِدونَ دِيارَ هذه الأُمَمِ الثَّلاثِ

.

2- قوله تعالى: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

- قولُه: فَمَا أَغْنَى فيه تَهكُّمٌ بهم؛ والفاءُ لتَرتيبِ عدَمِ الإغناءِ الخاصِّ بوقْتِ نُزولِ العذابِ حَسْبما كانوا يَرْجونَه لا عدَمِ الإغناءِ المُطلَقِ؛ فإنَّه أمْرٌ مُستمِرٌّ . وتَحْتَمِلُ (ما) الاستفهامَ المُرادَ منه التَّعجُّبُ .

- وقولُه: مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فيه التَّعبيرُ بصِيغَةِ المُضارعِ: يَكْسِبُونَ؛ لدِلالتِها على التَّكرُّرِ والتَّجدُّدِ المُكَنَّى به عن إتْقانِ الصَّنعةِ، وبذلك كان مَوقِعُ الموصولِ والصِّلةِ أبلَغَ مِن مَوقِعِ لفْظِ (بُيوتِهم) مثلًا؛ ليدُلَّ على أنَّ الَّذي لم يُغْنِ عنهم شَيءٌ مُتَّخَذٌ للإغناءِ ومِن شأْنِه ذلك

=======================

 

سورةُ الحِجْرِ

الآيات (85-99)

ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

 

فَاصْفَحِ: أي: فأَعْرِضْ، والصَّفحُ: ترْكُ التَّثريبِ واللَّومِ، والإِعراضُ عن الذَّنبِ؛ لأنَّه إذا أعرض عنه فكأنَّه قد ولَّاه صَفْحتَه، أي: عُرْضَه وجانِبَه، وأصلُ الصَّفحِ: عرضُ الشَّيءِ وجانبُه

.

سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي: هي سُورةُ الفاتحةِ، وهي سَبعُ آياتٍ، وسُمِّيَت مَثانيَ؛ لأنَّها تُثنَّى- أي: تُكرَّرُ- في كلِّ صلاةٍ، وقيل غير ذلك ، وأصلُ (ثني) تكريرُ الشَّيءِ مرَّتينِ، أو جعلُه شيئينِ مُتواليينِ أو متباينينِ .

أَزْوَاجًا مِنْهُمْ: أي: أصنافًا منهم وأمْثالًا وأشبَاهًا؛ مِن المُزاوَجةِ بين الأشياءِ، وهي المُشاكَلةُ، وأصلُ (زوج): يدُلُّ على مُقارَنةِ شَيءٍ لِشَيءٍ .

وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ: أي: ألِنْ جانِبَك، واسْكُنْ لهم، وارفُقْ بهم، وجَناحُ الإنسانِ: جانِبُه،  وأصلُ (جنح): يدُلُّ على المَيلِ؛ وسُمِّيَ الجناحانِ جَناحَينِ؛ لِمَيلهما في الشِّقَّينِ .

الْمُقْتَسِمِينَ: أي: الذين تقَسَّمَت أقوالُهم في القُرآنِ، فقال بعضُهم: سِحرٌ، وقال بعضُهم: كِهانةٌ، وقال بعضُهم: أساطيرُ الأوَّلينَ، وأصلُ (قسم): يدلُّ على تجزئةِ شَيءٍ .

عِضِينَ: أي: مُفَرَّقًا؛ لأنَّ المُشرِكينَ فرَّقوا أقاويلَهم فيه، فجعلوه كَذِبًا وسِحرًا وكِهانةً وشِعرًا؛ من عَضَّيتُ الشَّيءَ تعضيةً: أي: فَرَّقتَه، وأصلُ (عضو): يدلُّ على تجزئةِ الشَّيءِ .

فَاصْدَعْ: أي: فاجهَرْ وأظهِرْ، وأصلُ (صدع): يدلُّ على انفراجٍ في الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: وما خلَقْنا السَّمَواتِ والأرضَ وما بينهما إلَّا بالحَقِّ، وإنَّ يومَ القِيامةِ لآتٍ لا محالةَ؛ لتُجزَى كلُّ نَفسٍ ما عَمِلَت، فاصفَحْ- يا محمَّدُ- عن المُشرِكينَ، وتجاوَزْ عمَّا يَفعَلونَه. إنَّ ربَّك هو الخلَّاقُ لكُلِّ شَيءٍ، العَليمُ به.

ولقد أعطيناك- يا محمَّدُ- فاتحةَ القُرآنِ، وهي سَبعُ آياتٍ مِن المثاني، وهي القرآنُ العَظيمُ القَدْرِ. لا تنظُرْ بعَينَيك وتتمَنَّ ما مَتَّعْنا به أصنافًا مِن الكُفَّارِ، ولا تَحزَنْ على كُفرِهم، وتواضَعْ للمُؤمِنينَ وارفُقْ بهم. وقلْ للمُشرِكينَ: إنِّي أنا المُنذِرُ البَيِّنُ النِّذارةِ؛ أن يُصيبَكم عَذابٌ مِثلُ العذابِ الذي أنزَلَه اللهُ على الذين قسَّموا القُرآنَ، فجَعَلوه أقسامًا وأجزاءً؛ فمنهم من يقولُ: سِحرٌ، ومنهم من يقول: كِهَانةٌ، ومنهم من يقولُ غيرَ ذلك.

فورَبِّك- يا محمدُ- لنسألنَّهم يومَ القيامةِ أجمعينَ، عما كانوا يَعمَلونَه في الدنيا. فاجهَرْ  بدَعوةِ الحَقِّ التي أمَرَك اللهُ بها، ولا تهتمَّ بالمُشرِكينَ؛ واكفُفْ عن قِتالِهم، إنَّا كَفَيناك المُستَهزِئينَ الذين اتَّخَذوا شَريكًا مع اللهِ في عبادتِه، فسوف يَعلَمونَ ما يَلقَونَ مِن العذابِ يومَ القيامةِ. ولقد نعلَمُ ضِيقَ صَدرِك؛ بسبَبِ تكذيبِ قَومِك واستهزائِهم، فنَزِّهْ ربَّك عن كلِّ ما لا يليقُ به متلبِّسًا بحَمدِه، وكُنْ مِن المصَلِّينَ لله العابدينَ له، واستمِرَّ في عبادةِ رَبِّك حتى يأتيَك الموتُ وأنت على ذلك.

تفسير الآيات:

 

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه تعالى لَمَّا بيَّنَ أنَّه أنزل العذابَ على الأُمَم السَّالفةِ، فعندَ هذا قال لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، وإنَّ اللهَ لَينتَقِمُ لك فيها مِن أعدائِك، ويُجازيك وإيَّاهم على حَسناتِك وسَيِّئاتِهم؛ فإنَّه ما خلقَ السَّمواتِ والأرضَ وما بينهما إلَّا بالحَقِّ والعَدلِ والإنصافِ، فكيف يَليقُ بحِكمتِه إهمالُ أمْرِك

؟!

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ.

أي: وما خَلَقْنا السَّمواتِ والأرضَ وما فيهما وما بينَهما إلَّا لحِكَمٍ ومَصالِحَ عَظيمةٍ، لا عبثًا وباطِلًا، وخلَقهما سبحانَه بالعدلِ لا بالظلمِ والجورِ .

كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] .

وقال سُبحانه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدخان: 38-39] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 115-117] .

وقال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190-191] .

وقال سُبحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] .

وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا صبَّرَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أذَى قَومِه، رغَّبَه بعدَ ذلك في الصَّفحِ عن سيِّئاتِهم بقَولِه تعالى :

وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ.

أي: وإنَّ يومَ القيامةِ لآتٍ وواقِعٌ لا ريبَ فيه؛ وفيه يُجازَونَ بأعمالِهم، ومِنهم مُشرِكو قَومِك الذين كذَّبوك وآذَوك؛ فأعرِضْ- يا محمَّدُ- عن مؤاخَذتِهم في الدُّنيا، واعفُ عنهم عَفوًا حَسَنًا مِن غَيرِ عِتابٍ .

كما قال تعالى: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 88-89] .

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86).

أي: إنَّ ربَّك- يا محمَّدُ- قادِرٌ على إقامةِ السَّاعةِ؛ لأنَّه هو الذي خلقَ كُلَّ شَيءٍ، فلا يُعجِزُه شَيءٌ، وسيُعيدُ خَلقَ عِبادِه يومَ البَعثِ، وهو العالِمُ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بما تفَرَّق من أجسادِ العبادِ، وعِلمُه بجميعِ أعمالِهم .

كما قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 81-82] .

وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا صبَّرَ اللهُ تعالى نبيَّه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على أذى قَومِه، وأمَرَه بأن يصفَحَ الصَّفحَ الجميلَ؛ أتبعَ ذلك بذِكرِ النِّعَمِ العظيمةِ التي خَصَّه اللهُ تعالى بها؛ لأنَّ الإنسانَ إذا تذكَّرَ كَثرةَ نِعَمِ الله عليه، سَهُلَ عليه الصَّفحُ والتَّجاوُزُ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ صِفةَ العِلمِ بصيغةِ المُبالغة الْعَلِيمُ، أتبعَها ما آتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذه الدَّارِ من مادةِ العِلمِ بصيغةِ العَظَمةِ، فقال :

وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87).

أي: ولقد  أعطَيناك- يا محمَّدُ- سبعَ آياتٍ؛ هي سُورةُ الفاتحةِ التي تتَّصِفُ بأنَّها مَثانٍ ، وهي القرآنُ العَظيمُ القَدْرِ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أمُّ القُرآنِ هي السَّبعُ المَثاني، والقُرآنُ العَظيمُ) ) .

وعن أبي سَعيدِ بنِ المُعلَّى رَضِيَ الله عنه، قال: ((كنتُ أصلِّي في المسجِدِ، فدعاني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم أُجِبْه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أصَلِّي، فقال: ألم يَقُل اللهُ: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] ؟! ثم قالَ لي: لأعَلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القُرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجِدِ، ثمَّ أخذَ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ قُلتُ له: ألم تقُلْ: لأعَلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القُرآنِ؟ قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هي السَّبعُ المثاني، والقُرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه )) .

لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا عرَّف رسولَه عِظَمَ نِعَمِه عليه فيما يتعَلَّقُ بالدِّينِ- وهو أنَّه آتاه سبعًا مِن المَثاني والقُرآنَ العظيمَ- نهاه عن الرَّغبةِ في الدُّنيا، فحظَرَ عليه أن يمُدَّ عَينَيه إليها رغبةً فيها .

لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ.

أي: لا تَنظُرَنَّ- يا محمَّدُ- وتتطلَّعَنَّ إلى نعيمِ الدُّنيا الَّذي متَّعْنا به أصنافًا مِن الأغنياءِ مِن قَومِك، الذين لا يُؤمِنونَ باللهِ واليومِ الآخرِ، ولا تتمَنَّاه، واستغنِ بما آتاك اللهُ مِن القرآنِ عمَّا هم فيه مِن المَتاعِ الفاني؛ فقد أُوتيتَ تلك النِّعمةَ العُظمَى، التي كلُّ نِعمةٍ أُخرَى وإن عَظُمَت، فهي حقيرةٌ في جانِبِها .

كما قال تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131] .

وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.

أي: ولا تَحزَنْ على الكُفَّارِ أنَّهم لم يُؤمِنوا، فقَدْ بَلَّغْتَ رسالةَ ربِّك .

كما قال تعالى: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 176] .

وقال سُبحانه: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 23-24] .

وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ.

أي: وألِنْ جانِبَك للمُؤمنينَ، وارفُقْ بهم، وتواضَعْ لهم .

كما قال تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] .

وقال سُبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] .

وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بألَّا يَحزَنَ على مَن لم يُؤمِنْ، وأمَرَه بخَفضِ جَناحِه للمُؤمِنينَ؛ أمَرَه أن يُعلِمَ المؤمنينَ وغَيرَهم أنَّه هو النَّذيرُ المُبينُ؛ لئلَّا يظُنَّ المؤمِنونَ أنَّهم لَمَّا أُمِرَ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بخَفضِ جَناحِه لهم، خَرَجوا مِن عُهدةِ النِّذارةِ، فأمَرَه تعالى بأن يقولَ لهم :

وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89).

أي: وقُلْ- يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ: إنِّي أنا النَّذيرُ الذي قد أبان إنذارَه، وأظهَرَ الحَقَّ لكم، أُنذِرُكم عذابَ اللهِ إن لم تُؤمِنوا به .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب: 45- 46] .

وعن أبي موسى الأشعريِّ رضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلي ومثَلُ ما بعَثَني اللهُ، كمَثَلِ رجُلٍ أتَى قومًا، فقال: رأيتُ الجيشَ بِعَينَيَّ، وإنِّي أنا النَّذيرُ العُريانُ ، فالنَّجاءَ النَّجاءَ ، فأطاعَته طائِفةٌ فأَدلَجوا على مَهَلِهم فنَجَوا، وكذَّبَته طائفةٌ فصَبَّحَهم الجيشُ فاجتاحَهم ) .

كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90).

أي: وأنذِرْ قومَك عذابًا مثلَ العذابِ الذي نزلَ على الذين اقْتَسَموا القرآنَ .

كما قال تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] .

الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91).

الذين فرَّقوا القرآنَ أجزاءً، وافتروا عليه الباطلَ؛ فقال بعضُهم: هو شعرٌ، وقال بعضُهم: هو سحرٌ، وقال بعضُهم: هو كهانةٌ، وقال بعضُهم: هو أساطيرُ الأولينَ .

عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قال: (هم أهلُ الكتابِ؛ جَزَّؤوه أجزاءً، فآمَنوا ببَعضِه، وكَفَروا ببعضِه)، يعني: قولَ الله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ .

فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92).

أي: فأُقسِمُ برَبِّك- يا مُحمَّدُ- لنسألَنَّهم يومَ القيامةِ أجمعين .

عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) .

أي: عمَّا كانوا يَعمَلونَه في الدُّنيا .

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94).

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ.

أي: فاجهَرْ بدينِ اللهِ- الذي أمَرْناك بتبليغِه- وأظْهِرْه علانيةً، وفرِّقْ بين الحَقِّ والباطلِ حتى تقومَ على النَّاسِ الحُجَّةُ .

وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.

أي: بلِّغْ ما أُنزِلَ إليك من ربِّك، ولا تلتَفِتْ إلى المُشرِكينَ الذين يَصدُّونَك عن تبليغِ دينِ اللهِ، ولا تُبالِ باستِهزائِهم، واكفُفْ عن قِتالِهم .

كما قال تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 106] .

وقال عزَّ وجَلَّ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السجدة: 30] .

وقال تبارك وتعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل: 10] .

إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان الصَّدعُ في غايةِ الشِّدَّةِ عليه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لكثرةِ ما يَلقَى مِن الأذَى؛ خَفَّف عنه سُبحانَه بقَولِه مُعَلِّلًا له :

إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95).

أي: إنَّا كَفَيناك الذين يَستهزِئونَ بك وبما جئتَ به، وسنَحفَظُك منهم ونعاقِبُهم؛ فبلِّغْ ما أمَرَك اللهُ ولا تَخشَهم .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] .

الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96).

الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ.

أي: نكفيك هؤلاء المُستَهزِئينَ الذين يتَّخِذونَ مع الله- المستحِقِّ للعبادةِ وَحدَه- شريكًا في عبادتِه يَعبُدونَه معه .

فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.

أي: فسوف يعلمونَ- يومَ القيامةِ- ما يَلقَونَ مِن العذابِ .

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان الوعيدُ مُؤذِنًا بإمهالِهم قليلًا، كما دلَّ عليه حرفُ التَّنفيسِ في قولِه تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ؛ طَمْأنَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه مُطَّلِعٌ على تحرُّجِه مِن أذاهم، وبُهتانِهم من أقوالِ الشِّركِ وأقوالِ الاستهزاءِ، فأمَرَه بالثَّباتِ والتَّفويضِ إلى ربِّه؛ لأنَّ الحِكمةَ في إمهالِهم؛ ولذلك افتُتِحَت الجملةُ بلام القَسَم وحرفِ التَّحقيقِ، فقال تعالى :

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97).

أي: وإنَّا لنعلَمُ- يا محمَّدُ- أنَّك يضيقُ صَدرُك؛ بسبَبِ ما تسمَعُه مِن مُشرِكي قَومِك، مِن تكذيبٍ واستهزاءٍ، وطعنٍ في دينِ الله سُبحانَه .

كما قال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام: 33] .

وقال سُبحانه: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود: 12] .

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98).

أي: فافزَعْ- فيما نابك مِن أمرٍ تَكرهُه منهم- إلى تنزيهِ رَبِّك عن كُلِّ ما لا يليقُ به تنزيهًا مُتَلَبِّسًا بحَمدِه سُبحانَه، وافزَعْ إلى الصَّلاةِ لِرَبِّك .

كما قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه: 130] .

وقال سُبحانه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [غافر: 55] .

وقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153] .

وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعبادةٍ خاصَّةٍ، تَبِعَه بالعامَّةِ، فقال تعالى :

وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99).

أي: وتقَرَّبْ إلى رَبِّك على وجهِ الذُّلِّ والخضوعِ والمحبَّةِ له، وداوِمْ على عبادتِه، حتى يأتيَك الموتُ وأنت على ذلك .

كما قال تعالى: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 45-47] .

وعن أمِّ العَلاءِ الأنصاريَّةِ رضِيَ اللهُ عنها، ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لَمَّا توفِّيَ عُثمانُ بنُ مَظعونٍ: أمَّا عُثمانُ فقد جاءه- واللهِ- اليَقينُ )) .

وعن أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((مِن خيرِ مَعاشِ النَّاسِ لهم رجلٌ مُمسِكٌ عِنانَ فَرَسِه في سَبيلِ الله، يطيرُ على مَتنِه ، كلَّما سمِعَ هَيعةً أو فَزعةً طار عليه؛ يبتغي القَتلَ والموتَ مَظانَّه، أو رجلٌ في غُنيمةٍ في رأسِ شَعَفةٍ مِن هذه الشَّعَفِ، أو بطنِ وادٍ مِن هذه الأوديةِ، يُقيمُ الصَّلاةَ، ويُؤتي الزَّكاةَ، ويَعبُدُ رَبَّه حتى يأتيَه اليقينُ، ليس مِن النَّاسِ إلَّا في خيرٍ) )

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ هذا وإن كان خِطابًا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فالمعنى: نهيُ أمَّتِه عن ذلك؛ لأنَّ مَن أوتيَ القُرآنَ شغلَه النَّظَرُ فيه وامتثالُ تكاليفِه وفَهمُ معانيه عن الاشتغالِ بزهرةِ الدُّنيا

.

2- في قَولِه تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ دليلٌ على أنَّ الإنسانَ مأمورٌ بالتواضُعِ لإخوانِه، فإنَّه وإن كان رفيعَ المنزلةِ فَليَخفِضْ جناحَه، ولْيتذَلَّلْ ولْيتواضَعْ لإخوانِه، ولْيعلَمْ أنَّ مَن تواضعَ لله رفَعَه الله عزَّ وجلَّ .

3- في قَولِه تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ يُفهَمُ مِن دليل خِطابِ الآيةِ الكريمةِ- أعني مفهومَ مُخالفتِها- أنَّ غيرَ المؤمنينَ لا يُخفَضُ لهم الجناحُ، بل يُعامَلونَ بالشِّدَّةِ والغِلظةِ . فالكافرُ يُتَرفَّعُ عليه ويُتعالى عليه، ولْيجعَل المسلِمُ نفسَه في موضعٍ أعلى منه؛ لأنَّه مُستمسِكٌ بكَلمةِ اللهِ- وكلمةُ اللهِ هي العُليا- ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ في وصفِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابِه: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] ، يعني: أنَّهم على الكُفَّارِ أقوياءُ ذَوو غِلظةٍ، أمَّا فيما بينهم فهم رُحَماءُ .

4- قال الله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ في ترتيبِه- جلَّ وعلا- الأمرَ بالتَّسبيحِ والسُّجودِ على ضِيقِ صَدرِه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بسبَبِ ما يقولونَ له مِن السُّوءِ؛ دليلٌ على أنَّ الصَّلاةَ والتَّسبيحَ سبَبٌ لزوالِ ذلك المكروهِ؛ ولذا كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا حَزَبَه أمرٌ بادرَ إلى الصلاةِ، وقال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة: 45] ، فينبغي للمُسلمِ إذا أصابه مَكروهٌ أن يفزَعَ إلى اللهِ تعالى بأنواعِ الطَّاعاتِ مِن صلاةٍ وغَيرِها .

5- قولُ الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ حِكمةُ التَّغْيِيَةِ باليقينِ- وهو الموتُ- أنَّه يقتضي ديمومةَ العبادةِ ما دام حيًّا، بخلافِ الاقتصارِ على الأمرِ بالعبادةِ غيرَ مُغَيَّا؛ لأنَّه يكونُ مُطلقًا فيكونُ مُطيعًا بالمرَّة الواحدةِ، والمقصودُ ألَّا يُفارِقَ العبادةَ حتى يموتَ .

6- عمَلُ المؤمِنِ لا ينقضي حتى يأتيَه أجَلُه؛ قال الحسَنُ: (إنَّ اللهَ لم يجعَلْ لعمَلِ المؤمِنِ أجَلًا دونَ الموتِ، ثم قرأ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّه سُبحانَه هو الخالِقُ لجَميعِ أعمالِ العِبادِ؛ لأنَّها تدُلُّ على أنَّه سُبحانَه هو الخالِقُ للسَّمواتِ والأرضِ ولكُلِّ ما بينَهما، ولا شَكَّ أنَّ أفعالَ العبادِ بينهما، فوجَب أن يكونَ خالِقَها هو اللهُ سُبحانَه

.

2- قولُه تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ دلَّ على أنَّ فاتحةَ الكِتابِ نَزَلتْ بمكَّةَ بلا رَيبٍ، وقد ثبَت في الصَّحيحِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال عن الفاتحةِ: ((هي السَّبعُ المَثاني والقُرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه) ) ، وسورةُ الحِجرِ مكِّيَّةٌ بلا رَيبٍ، وفيها كلامُ مُشركي مكَّةَ وحالُه معهم .

3- قولُه تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، يدُلُّ على أنَّ اللهَ يسألُ جَميعَ النَّاسِ يومَ القيامةِ، ونظيرُه قولُه تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف: 6] ، وقولُه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئولُونَ [الصافات: 24] ، وقولُه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] ، وقد جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على خلافِ ذلك؛ كقوله: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 39]، وكقوله: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] .

والجوابُ عن هذا من ثلاثةِ أوجُهٍ:

الأوَّل- وهو أوجَهُها؛ لدَلالةِ القُرآنِ عليه- هو: أنَّ السُّؤالَ قِسمانِ: سؤالُ تَوبيخٍ وتقريعٍ، وأداتُه غالبًا: (لِمَ)، وسؤالُ استخبارٍ واستعلامٍ، وأداتُه غالبًا: (هَل)، فالـمُثبَتُ هو سؤالُ التَّوبيخِ والتَّقريعِ، والمنفيُّ هو سُؤالُ الاستخبارِ والاستعلامِ، وجهُ دلالةِ القرآنِ على هذا: أنَّ سؤالَه لهم المنصوصَ في كُلِّه توبيخٌ وتقريعٌ، كقوله: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ [الصافات: 24-25] ، وقوله: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ [الطور: 15]، وكقوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: 8] ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.

الثاني: أنَّ في القيامةِ مواقِفَ مُتعدِّدةً؛ ففي بعضِها يُسألونَ، وفي بعضها لا يُسألونَ.

الثالث: أنَّ إثباتَ السُّؤالِ مَحمولٌ على السُّؤالِ عَنِ التَّوحيدِ، وتَصديقِ الرُّسلِ، وعدمَ السُّؤالِ مَحمولٌ على ما يستلزِمُه الإقرارُ بالنُّبوَّاتِ مِن شرائِعِ الدِّينِ وفُروعِه ، وقيل غير ذلك .

4- قولُ الله تعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ التعبيرُ عنهم بوصفِ المُستَهزِئينَ إيماءٌ إلى أنَّه كفاه استهزاءَهم، وهو أقَلُّ أنواعِ الأذَى، فكفايتُه ما هو أشَدُّ مِن الاستهزاءِ مِن الأذَى، مَفهومٌ بطريقِ الأحْرَى .

5- في كفايةِ اللهِ لِرَسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعداءَه، وعِصمتِه له من النَّاسِ، آيةٌ لنبُوَّتِه؛ وذلك لأنَّه تصديقٌ لِقَولِه تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 94-96] فهذا إخبارٌ مِن الله بأنَّه يكفيه المُشرِكينَ المُستَهزِئينَ، وأخبَرَ أنَّه يكفيه أهلَ الكِتابِ بقَولِه تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 136- 137] فأخبَرَه اللهُ أنَّه يكفيه هؤلاءِ المُشَاقِّينَ له مِن أهلِ الكتابِ، وأخبَرَه أنَّه يَعصِمُه مِن جميعِ النَّاسِ بقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] فهذا خبَرٌ عامٌّ بأنَّ اللهَ يَعصِمُه من جميعِ النَّاسِ، فكُلٌّ مِن هذه الأخبارِ الثلاثةِ العامَّةِ قد وقَع كما أخبَرَ .

6- مِن سُنَّةِ الله أنَّ مَن لم يُمكِنِ المؤمِنونَ أن يُعَذِّبوه مِن الذين يُؤذُونَ اللهَ ورَسولَه؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه ينتَقِمُ منه لرَسولِه ويكفيه إيَّاه؛ كما قال سُبحانه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ .

7- قَولُ الله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أخَذ بعضُهم منه أنَّ هذا الموضِعَ محَلُّ سَجدةٍ .

8- في قَولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أَمَر اللهُ تعالى بتسبيحِه بحَمدِه بعدَ أن قال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ لأنَّ المقامَ هنا مقامٌ يَحتاجُ إلى تنزيهِ الربِّ- عزَّ وجلَّ- وحَمْدِه، مِن هذه الضَّائقةِ التي تُصيبُ النَّبِيَّ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- مِن قُرَيشٍ، يعني: نَزِّهْه عن كلِّ ما لا يليقُ به، واعلمْ أنَّ الذي أجراه اللهُ- جلَّ وعلا- فهو في غايةِ الحكمةِ وفي غايةِ الرَّحمةِ، مما يُحمَدُ عليه عزَّ وجلَّ .

9- قولُ الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فيه سؤالٌ: أيُّ فائدةٍ لهذا التوقيتِ، مع أنَّ كُلَّ أحدٍ يعلَمُ أنَّه إذا مات سقَطَت عنه العباداتُ؟

الجوابُ: المرادُ منه: واعبُدْ رَبَّك في زمانِ حَياتِك، ولا تُخْلِ لحظةً مِن لحظاتِ الحياةِ عن هذه العبادةِ .

10- ظنَّ طائفةٌ مِن ضُلَّالِ المتصَوِّفةِ أنَّ غايةَ العباداتِ هو حصولُ المعرفةِ، فإذا حصلَت سقطَت العباداتُ! وقد يحتَجُّ بعضُهم بقولِه تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ويزعمون أنَّ اليقينَ هو المعرفةُ، وهذا خطأٌ بإجماعِ المسلمين: أهلِ التَّفسيرِ وغيرِهم؛ فإنَّ المسلمين متَّفِقون على أنَّ وجوبَ العباداتِ- كالصَّلواتِ الخَمسِ ونحوِها- وتحريمَ المحَرَّماتِ- كالفواحِشِ والمظالمِ- لا يزالُ واجبًا على كلِّ أحدٍ ما دام عقلُه حاضرًا، ولو بلَغ ما بلَغ؛ وأنَّ الصَّلواتِ لا تسقُطُ عن أحدٍ قَطُّ إلَّا عن الحائِضِ والنُّفَساءِ أو مَن زال عقلُه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ

- قولُه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ مَوقِعُ الواوِ في صَدْرِ هذه الجُملةِ بَديعٌ؛ فهذه الجُملةُ صالِحةٌ لأنْ تكونَ تَذييلًا لِقَصَصِ الأُمَمِ المُعذَّبةِ ببَيانِ أنَّ ما أصابهم قد استحَقُّوه؛ فهو مِن عدْلِ اللهِ بالجَزاءِ على الأعمالِ بما يُناسِبُها، ولأنْ تكونَ تَصديرًا للجُملةِ الَّتي بعدَها، وهي جُملةُ: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ

.

- وتَفريعُ قولِه: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ على قولِه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ باعتبارِ المعنى الكِنائيِّ له، وهو أنَّ الجَزاءَ على أعمالِهم مَوكولٌ إلى اللهِ تعالى؛ فلذلك أمَرَ نَبِيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإعراضِ عن أذاهم، وسُوءِ تَلقِّيهم للدَّعوةِ .

- وفي هذه الآيةِ ضَرْبٌ مِن رَدِّ العجُزِ على الصَّدرِ ؛ إذ كان قد وقَعَ الاستدلالُ على المُكذِّبينَ بالبعثِ بخَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ عندَ قولِه: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ * وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا... الآياتِ [الحجر: 14-16] ، وخُتِمَت بآيةِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [الحجر: 23] إلى قولِه تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ [سورة الحجر: 25]، وانتقَلَ هُنالك إلى التَّذكيرِ بخَلْقِ آدمَ عليه السَّلامُ وما فيه مِن العِبَرِ، ثمَّ إلى سَوْقِ قِصَصِ الأُمَمِ الَّتي عَقِبَت عُصورَ الخِلقةِ الأُولى؛ فآنَ الأوانُ للعودِ إلى حيث افترَقَ طَريقُ النَّظمِ، حيث ذكَرَ خَلْقَ السَّمواتِ ودِلالتَه على البَعثِ بقولِه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ الآياتِ؛ فجاءت على وِزانِ قولِه تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا... الآياتِ [الحجر: 16] ؛ فإنَّ ذلك خَلْقٌ بَديعٌ، وزِيدَ هنا أنَّ ذلك خُلِقَ بالحقِّ، وكان قولُه تعالى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فذلكةً لقولِه تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ إلى وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [سورة الحجر: 25]؛ فعاد سِياقُ الكلامِ إلى حيثُ فارَقَ مَهْيَعَه ؛ ولذلك تخلَّصَ إلى ذِكْرِ القُرآنِ بقولِه: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [سورة الحجر: 87]، النَّاظِر إلى قولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] .

2- قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ

- جُملةُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ في مَوقِعِ التَّعليلِ للأمْرِ بالصَّفحِ عنهم، أي: لأنَّ في الصَّفحِ عنهم مَصلحةً لك ولهم يعلَمُها ربُّك؛ فمصلحةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّفحِ هي كَمالُ أخلاقِه، ومَصلحتُهم في الصَّفحِ رَجاءُ إيمانِهم .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث عدَلَ إلى إِنَّ رَبَّكَ دونَ (إنَّ اللهَ)؛ للإشارةِ إلى أنَّ الَّذي هو ربُّه ومُدبِّرُ أمْرِه لا يأمُرُه إلَّا بما فيه صَلاحُه، ولا يُقدِّرُ إلَّا ما فيه خيرُه .

- وأتَى بصِفَةِ المُبالغةِ الْخَلاَّقُ؛ لكثرةِ ما خلَقَ، أو الخَلَّاقُ مَن شاء لِما شاء مِن سَعادةٍ أو شَقاوةٍ .

3- قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ

- قولُه: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ اعتراضٌ بينَ جُملةِ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ وجُملةِ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ؛ أتبعَ التَّسليةَ والوعدَ بالمِنَّةِ؛ ليُذَكِّرَ اللهُ نَبِيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنِّعمةِ العظيمةِ، فيطمَئِنَّ بأنَّه كما أحسَنَ إليه بالنِّعمِ الحاصِلةِ، فهو مُنْجِزُه الوُعودَ الصَّادقةَ، وفي هذا الامتنانِ تَعريضٌ بالرَّدِّ على المُكذِّبينَ، وهو ناظِرٌ إلى قولِه: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] إلى قولِه تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ، وهذا افتتاحُ غرَضٍ مِن التَّنويهِ بالقُرآنِ، والتَّحقيرِ لعَيشِ المُشركينَ .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ أُوثِرَ هنا فِعْلُ آتَيْنَاكَ دونَ (أوحَيْنا) أو (أنزَلْنا)؛ لأنَّ الإعطاءَ أظهَرُ في الإكرامِ والمِنَّةِ .

4- قوله تعالى: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ استئنافٌ بَيانيٌّ لِمَا يُثيرُه المقصودُ مِن قولِه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، ومِن تَساؤلٍ يَجيشُ في النَّفسِ عن الإملاءِ للمُكذِّبينَ في النِّعمةِ والتَّرفِ، مع ما رُمِقوا به مِن الغَضبِ والوعيدِ؛ فكانت جُملةُ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ... بَيانًا لِمَا يَختلِجُ في نفْسِ السَّامعِ مِن ذلك؛ ولكونِها بهذه المَثابةِ فُصِلَت عن الَّتي قبْلَها- أي: لم تُعْطَفْ عليها- فَصْلَ البَيانِ عن المُبيَّنِ؛ فإنَّ الجُملةَ الَّتي وقَعَت قبْلَها بمنزِلةِ التَّمهيدِ لها، والإجمالِ لمَضمونِها؛ ولذلك لم تُعْطَفْ هذه الجُملةُ؛ لأنَّها تكونُ حينئذٍ مُجرَّدَ نهيٍ لا اتِّصالَ له بما قبْلَه، كما عُطِفَت نَظيرتُها في قولِه تعالى في سُورةِ طه: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى * وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [طه: 129- 131] ؛ فلمَّا فُصِلَت الجُملةُ هنا، فُهِمَ أنَّ الجُملةَ الَّتي قبْلَها مَقصودةُ التَّمهيدِ بهذه الجُملةِ، ولو عُطِفَت هذه لَمَا فُهِمَ هذا المعنى البَديعُ مِن النَّظمِ .

- قولُه: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ... يَحتمِلُ أنْ يكونَ في هذا النَّهيِ كِنايةٌ عن قِلَّةِ الاكتراثِ بهم، وعن تَوعُّدِهم بأنْ سيحُلَّ بهم ما يُثيرُ الحُزْنَ لهم، وكِنايةٌ عن رَحمةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّاسِ، ولمَّا كان هذا النَّهيُ يَتضمَّنُ شِدَّةَ قلْبٍ وغِلظةً؛ لا جرَمَ اعترَضَه بالأمرِ بالرِّفقِ للمُؤمنينَ بقولِه: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وهو اعتراضٌ مُرادٌ منه الاحتراسُ .

- وعلى القولِ بتَعليقِ قولِه: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ بقولِه: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ، فوجْهُ تَوسُّطِ قولِه: لَا تَمُدَّنَّ... إلى آخرِه بينهما: أنَّه لمَّا كان ذلك تَسليةً لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن تَكذيبِهم وعَداوتِهم، اعْتُرِضَ بما هو مَدَدٌ لمَعنى التَّسليةِ؛ مِن النَّهيِ عن الالتفاتِ إلى دُنياهم، والتَّأسُّفِ على كُفرِهم، ومِن الأمرِ بأنْ يُقْبِلَ بمَجامِعِه على المُؤمنينَ .

- وقولُه: لَا تَمُدَّنَّ أبلغُ مِن (لَا تَنْظُرَنَّ)؛ لأنَّ الَّذي يَمُدُّ بصرَه، إنَّما يَحمِلُه على ذلك حِرْصٌ مُقترِنٌ، والَّذي ينظُرُ قد لا يكونُ ذلك معَه .

- قولُه: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال في سُورةِ الشُّعراءِ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] ؛ فزِيدَ قولُه: لِمَنِ اتَّبَعَكَ ومَقصودُ الآيتَينِ واحدٌ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّه لمَّا لم يتقدَّمْ آيةَ الحِجْرِ تَخصيصٌ بمَدْعُوٍّ بل تقدَّمُها خِطابُه عليه السَّلامُ بالتَّأنيسِ والتَّسليةِ عمَّن أعرَضَ، والرِّفقِ بمَن آمَنَ، فقال تعالى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ولم يَحتَجْ هنا إلى زِيادةٍ. وأمَّا آيةُ الشُّعراءِ، فلمَّا تقدَّمَ قولُه تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، والإنذارُ يَستصحِبُ التَّخويفَ والاستعلاءَ على مَن يُخاطَبُ به؛ أتبعَ ذلك تَعَالى- تَلطُّفًا وإنعامًا على مَن آمَنَ مِن عَشيرتِه عليه السَّلامُ وغيرِه- بقولِه: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] ؛ فقيل هنا: لِمَنِ اتَّبَعَكَ؛ ليكونَ أَنَصَّ في تَعميمِ المُؤمنينَ مُطلقًا مِن العشيرةِ وغيرِهم .

- قولُه: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ القَصرُ المُستفادُ مِن ضَميرِ الفَصلِ أَنَا، ومِن تَعريفِ الجُزأينِ (النَّذيرُ- المُبينُ): قَصْرُ قَلْبٍ ، أي: لستُ كما تحسِبونَ أنَّكم تَغيظونَني بعدَمِ إيمانِكم؛ فإنِّي نَذيرٌ مُبينٌ غيرُ مُتقايضٍ معكم لتَحصيلِ إيمانِكم .

5- قوله تعالى: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ

- حَرفُ عَلَى في قولِه: عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ بمعنى لامِ التَّعليلِ، ولفظُ الْمُقْتَسِمِينَ افتعالٌ مِن (قسَّمَ)؛ إذا جعَلَ شيئًا أقسامًا، وصِيغَةُ الافتعالِ هنا تَقْتضي تكلُّفَ الفعْلِ .

- ومعنى الْمُقْتَسِمِينَ- على أحدِ أوجهِ التفسير-: المُقتسِمونَ القُرآنَ، وهذا هو معنى جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ؛ فكان ثاني الوصْفَينِ بَيانًا لأوَّلِهما، وإنَّما اختلَفَتِ العِبارتانِ للتَّفنُّنِ .

6- قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

- قولُه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فيه مِن التَّشديدِ وتأكيدِ الوعيدِ ما لا يَخْفى، والفاءُ لتَرتيبِ الوَعيدِ على أعمالِهم الَّتي ذُكِرَ بعضُها ، فالفاءُ للتَّفريعِ، وهذا تَفريعٌ على ما سبَقَ مِن قولِه تعالى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ، والواوُ للقسَمِ، والمَقصودُ بالقسَمِ تَأكيدُ الخبرِ، وليس الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم ممَّن يشُكُّ في صِدْقِ هذا الوعيدِ، ولكنَّ التَّأكيدَ مُتسلِّطٌ على ما في الخبرِ مِن تَهديدِ مُعادِ ضَميرِ النَّصبِ في لَنَسْأَلَنَّهُمْ .

- وفي التَّعرُّضِ لوَصْفِ الرُّبوبيَّةِ مُضافًا إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في قولِه: فَوَرَبِّكَ: إظهارُ اللُّطْفِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ في السُّؤالِ المُقْسَمِ عليه حَظًّا مِن التَّنويهِ به، وهو سُؤالُ اللهِ المُكذِّبينَ عن تَكذيبِهم إيَّاه سُؤالَ رَبٍّ يغضَبُ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، ويجوزُ أنْ يكونَ السُّؤالُ كِنايةً عنِ الجَزاءِ، وعَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ عامٌّ في جَميعِ الأعمالِ .

7- قولُه تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ

- قولُه: فَاصْدَعْ تَفريعٌ على جُملةِ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي بصَريحِه وكِنايتِه عنِ التَّسليةِ على ما يُلاقيه مِن تَكذيبِ قَومِه، وقَصدُ شُمولِ الأمْرِ كلَّ ما أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَبليغِه هو نُكتةُ حَذفِ مُتعلِّقِ قولِه: تُؤْمَرُ؛ فلم يُصَرِّحْ بنحوِ (بتَبليغِه) أو (بالأمْرِ به) أو (بالدَّعوةِ إليه)، وهو إيجازٌ بَديعٌ .

8- قولُه تعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ

- قولُه: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ تَعليلٌ للأمْرِ بالإعلانِ بما أُمِرَ به؛ فإنَّ اختفاءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بدارِ الأرقَمِ كان بأمْرٍ مِن اللهِ تعالى؛ لحِكمةٍ علِمَها اللهُ، أهمُّها تَعدُّدُ الدَّاخلينَ في الإسلامِ في تلك المُدَّةِ، بحيث يَغتاظُ المُشركونَ مِن وَفرةِ الدَّاخلينَ في الدِّينِ مع أنَّ دَعوتَه مَخفيَّةٌ، ثمَّ إنَّ اللهَ أمَرَ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإعلانِ دَعوتِه لحكمةٍ أعلى تهيَّأَ اعتبارُها في علْمِه تعالى .

- وتَأكيدُ الخبرِ بـ (إنَّ) لتَحقيقِه؛ اهتمامًا بشَأنِه، لا للشَّكِّ في تَحقُّقِه .

- والتَّعريفُ في الْمسْتَهْزِئِينَ للجِنْسِ، فيفيدُ العُمومَ .

9- قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

- قولُه: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وصَفَهم بالَّذين يجْعَلونَ مع اللهِ إلهًا آخَرَ؛ للتَّشويهِ بحالِهم، ولتَسليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَهوينًا للخَطْبِ عليه بإعلامِه أنَّهم ما اقْتَصروا على الافتراءِ عليه؛ فقدِ افتَرَوا على اللهِ، ولم يقتَصِروا على الاستهزاءِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، بل اجْتَرؤوا على العظيمةِ الَّتي هي الإشراكُ باللهِ سُبحانَه .

- وأتَتْ صِيغَةُ المُضارعِ يَجْعَلُونَ؛ للإشارةِ إلى أنَّهم مُستمرُّونَ على ذلك مُجدِّدونَ له .

- وفُرِّعَ على الأمرينِ الوعيدُ بقولِه تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وحُذِفَ مَفعولُ يَعْلَمُونَ؛ لدَلالةِ المَقامِ عليه، أي: فسوفَ يَعْلمونَ جَزاءَ بُهتانِهم .

10- قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ

- قولُه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ فيه تَحليةُ الجُملةِ بالتَّأكيدِ؛ لإفادةِ تَحقيقِ ما تتضمَّنُه مِن التَّسليةِ، وليس المُخاطَبُ ممَّن يُداخِلُه الشَّكُّ في خَبرِ اللهِ تعالى، ولكنَّ التَّحقيقَ في قولِه: وَلَقَدْ كِنايةٌ عنِ الاهتمامِ بالمُخْبَرِ، وأنَّه بمَحَلِّ العِنايةِ مِن اللهِ .

- وصِيغَةُ الاستقبالِ نَعْلَمُ؛ لإفادةِ استمرارِ العلْمِ حسَبَ استمرارِ مُتعلَّقِه باستمرارِ ما يُوجِبُه مِن أقوالِ الكَفرةِ .

11- قولُه تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فُرِّعَ على جُملةِ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أمْرُه بتَسبيحِ اللهِ تعالى وتَنزيهِه، على أنَّ التَّسبيحَ قد يُستعمَلُ في مَعناه الكِنائيِّ مع معناه الأصلِيِّ؛ فيُفيدُ الإنكارَ على المُشركينَ فيما يقولونَ، أي: فاقتصِرْ في دَفعِهم على إنكارِ كَلامِهم، والباءُ في بِحَمْدِ رَبِّكَ للمُصاحَبَةِ، والتَّقديرُ: فسبِّحْ ربَّك بحَمدِه؛ فحُذِفَ مِن الأوَّلِ لدَلالةِ الثَّاني .

- وقولُه: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أبلَغُ في الاتِّصافِ بالسُّجودِ مِن: (وَكُنْ ساجدًا) .

12- قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ

- قولُه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ فيه إيثارُ الإظهارِ بالعُنوانِ السَّالِفِ آنفًا رَبِّكَ-حيث لم يقُلْ: (واعبُدْه)-؛ لتَأكيدِ ما سبَقَ مِن إظهارِ اللُّطفِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والإشعارِ بعِلَّةِ الأمْرِ بالعِبادةِ .

- قولُه: يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فيه إسنادُ الإتيانِ إلى اليقينِ الَّذي هو الموتُ؛ للإيذانِ بأنَّه مُتوجِّهٌ إلى الحيِّ، طالبٌ للوُصولِ إليه

قلت المدون التالي إن شاء الله سورة النحلوهي رقم

 16.مكية 128.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...