الخميس، 18 يناير 2024

7.سورة الأعراف ج2.{206 مكية}

 

7.سورة الأعراف ج2.{206 مكية} 


سُورةُ الأعرافِ

 

الآيات (101-103)

 

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ

غريب الكلمات :

 

بِالْبَيِّنَاتِ: جَمْعُ بيِّنةٍ، وهي: الدَّلالةُ الواضحةُ أو الحُجَّةُ، وأَصْلُ (بين): اتِّضاحٌ وانْكِشافٌ

.

عَهْدٍ: العَهْدُ: حِفْظُ الشَّيءِ ومُراعاتُهُ حالًا بعْدَ حالٍ، وأَصْلُهُ: الاحتِفاظُ بالشَّيءِ

المعنى الإجمالي :

يُخاطِبُ اللهُ نبيَّه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: إنَّ تلك القُرى الَّتي سبَقَ ذِكْرُها، نَقُصُّ عليكَ من أخبارِها ما يَحْصُلُ به تَسْلِيَةٌ لك وللمؤمنينَ، وموعِظَةٌ للمُتَّعِظينَ، ورَدْعٌ وزَجْرٌ للكافرينَ، ولقدْ أَتى أهلَ القُرى رُسُلُهم بالأدلَّةِ الَّتي تدُلُّ على صِدْقِهم، فما كانوا ليؤمِنوا بما جاءَتْ به الرُّسلُ؛ وذلك بسببِ تَكْذيبِهم بالحَقِّ أوَّلَ ما وَرَدَ إليهم، كذلك يَخْتِمُ اللهُ على قلوبِ الكافرينَ؛ فَلا يؤمِنونَ أبدًا.

ويُخبِرُ تعالى أنَّه لم يَجِدْ لِأَكْثَرِ الأُمَمِ الماضيةِ الَّتي أَهْلَكَها من وَفاءٍ والتِزامٍ بعَهْدٍ، وما وجَدَ أكْثرَهم إلَّا فاسقينَ.

ثمَّ أخبَرَ تعالى أنَّه بَعَثَ من بعْدِ الأنبياءِ الَّذينَ حكَى قصصَهم موسى بالأدلَّةِ والمعجزاتِ الَّتي تدُلُّ على صِدْقِ ما جاء به، إلى فرعونَ ومَلَئِهِ، فكَفَروا بها واستكْبَروا عنها، فَوَقَعوا في الظُّلْمِ بسَببِ ذلك، ثمَّ أمَرَ اللهُ نبيَّهُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يَنظُرَ كيف كانتْ نهايةُ القَوْمِ المُفسدينَ.

تفسير الآيات:

 

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا

أي: هذه القُرى المُهلَكَةُ الَّتي سبَقَ ذِكْرُها- وهم قَوْمُ نُوحٍ وعادٌ وثَمودُ، وقومُ لُوطٍ، وأصحابُ مَدْيَنَ

- نَتْلو عليكَ- يا مُحَمَّدُ- في هذا القرآنِ الكريمِ مِن أخبارِ أهلِها ما يَحْصُلُ به تَسْلِيَةٌ لكَ وللمؤمنينَ، وفيه عِبْرَةٌ للمُعْتبِرينَ، وموعظةٌ للمتَّقينَ، وازْدِجارٌ للكافرينَ، ورَدْعٌ للظَّالمينَ .

كما قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج: 42-44] .

وقال عزَّ وجلَّ: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ [هود: 100-103] .

وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ

أي: إنَّ أهلَ تلك القُرى المُهْلَكَةِ، قد جاءَتْهم رُسُلُهم بالحُجَجِ، والمعجزاتِ الظَّاهرةِ الَّتي تدُلُّ على صِدْقِهم .

كما قال تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة: 70] .

فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ

أي: يَمتنِعُ على أهلِ تلك القُرى المُهْلَكَةِ أنْ يؤمِنوا بما جاءَتْهم به الرُّسلُ؛ وذلك بسببِ تكذيبِهم بالحقِّ أوَّلَ ما وَرَدَ عليهم .

كما قال سُبحانَه: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 109-110] .

وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .

كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ

أي: مِثْلَمَا خَتَمَ اللهُ على قلوبِ كفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ بهذا الخَتْمِ الشَّديدِ المُحْكَمِ، يختِمُ أيضًا على قُلوبِ جميعِ الكافرينَ؛ فَلا تؤثِّرُ فيهم الآياتُ والنُّذُرُ، ولا يؤمنون أبدًا .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6-7] .

وقال عزَّ وجلَّ: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: 35] .

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ

أي: وما عَلِمْنا لِأَكْثَرِ الأُمَمِ الماضيةِ الَّتي أهلَكْناها مِن وَفاءٍ والتزامٍ بالعهْدِ الَّذي وَصَّيْناهم به، مِن توحيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، واتِّباعِ رُسُلِه عليهم السَّلامُ .

وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ

أي: وقدْ وجَدْنا أكثَرَ الأُمَمِ السَّابقةِ خارِجينَ عن طاعةِ اللهِ تعالى .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات: 71] .

وقال سُبحانَه: وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 67] .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)

مناسبةُ الآيةِ لما قبلَها:

لمَّا قَصَّ اللهُ تعالى على نبيِّهِ أخبارَ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ وما آلَ إليه أمْرُ قومِهم، وكان هؤلاءِ لم يَبْقَ منهم أَحَدٌ، أَتْبَعَ بقصصِ موسى وفرعونَ وبني إسرائيلَ؛ إذْ كانت مُعجِزاتُه من أعْظَمِ المعجزاتِ، وأُمَّتُه من أكثرِ الأُممِ تكذيبًا وتَعَنُّتًا واقتراحًا وجهلًا، وكان قد بَقِيَ من أَتْباعِه عالَمٌ وهم اليهودُ، فقَصَّ اللهُ علينا قصصَهم؛ لِنَعْتبِرَ ونتَّعِظَ، ونَنْزَجِرَ عن أنْ نتشبَّهَ بهم ، فقال تعالى:

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ

أي: ثمَّ أَرْسَلْنا من بعْدِ نوحٍ وهودٍ وصالِحٍ ولوطٍ وشعيبٍ عليهم السَّلامُ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، بالأدلَّةِ والمُعجِزاتِ الظَّاهرةِ الَّتي تدُلُّ على صِدْقِهِ، إلى مَلِكِ مِصْرَ، وأشرافِ قومِهِ، وكُبَراءِ رِجالِهِ .

فَظَلَمُوا بِهَا

أي: فكَفَرَ فرعونُ وقومُهُ بالمُعجِزاتِ الَّتي أرسَلْنا بها موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] .

وقال سُبحانَه: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [الأعراف: 132-135] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [الزخرف: 47- 50] .

فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ

أي: فانظُرْ- يا مُحَمَّدُ- إلى آخِرِ أمْرِ أولئك الَّذينَ أَفْسَدوا في الأرضِ بالكُفْرِ والمعاصي، كانت نِهايتُهم أنْ أَخْزاهُمُ اللهُ تعالى، وأهلَكَهم بالغَرَقِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

 

الفوائد العلمية واللطائف :

 

في قولِ اللهِ تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا، لَمَّا تكرَّرَ ذِكْرُ القُرى الَّتي كَذَّبَ أهلُها رُسُلَ اللهِ بالتَّعْيينِ وبالتَّعْميمِ، صارَتْ للسَّامِعينَ كالحاضِرَةِ المُشاهَدَةِ، الصَّالِحَةِ لِأَنْ يُشارَ إليها، فجاءَ اسْمُ الإشارةِ تِلْكَ لزيادةِ إحضارِها في أذهانِ السَّامعينَ من قومِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِيَعْتَبِروا حالَهم بحالِ أهلِ القُرى، فيَرَوْا أنَّهم سواءٌ؛ فيَفيئوا إلى الحقِّ

.

قولُ اللهِ تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا، لمَّا كان العاقِلُ مَنْ يَكْفيهِ أَدْنى شيءٍ، هَوَّلَ الأمْرَ بأنَّ أخبارَها تفوتُ الحَصْرَ، وأنَّ ما قَصَّ منها يَكْفي المُعْتَبِرَ، فقال: مِنْ أَنْبَائِهَا، أي: أخبارِها العظيمةِ الهائلةِ المُطابِقةِ للواقعِ، شيئًا بعْدَ شيءٍ، كما يفعَلُ مَنْ يتتبَّعُ الأَثَرَ .

في قولِهِ تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ تَسْلِيَةٌ لِمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ ما لَقِيَهُ من قومِهِ هو سُنَّةُ الرُّسُلِ السَّابقينَ، وأنَّ ذلك ليس لتقصيرٍ منه، ولا لضَعْفِ آياتِهِ، ولكنَّهُ للخَتْمِ على قلوبِ كثيرٍ من قومِهِ .

قولُ اللهِ تعالى: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ حُكْمٌ على الأكثرِ؛ لأنَّ بعضَهم قد آمَنَ، والتَزَمَ كُلَّ عهْدٍ عاهَدَ اللهَ عليه، أو تَعاهَدَ عليه مع النَّاسِ، ومنهم مَنْ كان يَفي ببعضِ ذلك حتَّى في حالِ الكُفْرِ، وهذا من دِقَّةِ القرآنِ في تَحديدِ الحقائقِ بالصِّدْقِ الَّذي لا تَشُوبُه شُبُهاتُ المُبالَغَةِ بما يَسْلُبُ أحدًا حقَّه، أو يُعْطي أحدًا غيرَ حقِّهِ .

قولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا يدُلُّ على أنَّ النَّبيَّ لا بُدَّ له من آيةٍ ومُعجِزةٍ، بها يَمتازُ عن غيرِهِ؛ إذْ لو لم يكُنْ مُخْتَصًّا بهذه الآيةِ، لم يكُنْ قَبولُ قولِه أَوْلَى من قَبولِ قولِ غيرِهِ

 

.

بلاغة الآيات :

 

قولُهُ: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافَ الفَذْلَكَةِ لِمَا قَبْلَها مِنَ القَصصِ، مِن قَولِه: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ [الأعراف: 59] ، ثُمَّ قَولِه تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ الآيَةَ [الأعراف: 94] ، مُنْبِئَةٌ عن غايةِ غَوايةِ الأُممِ المذكورةِ، وتَماديهم فيها بعدما أَتَتْهم الرُّسُلُ بالمعجزاتِ الباهرةِ

.

وصيغةُ المضارعِ نَقُصُّ؛ للإيذانِ بعَدَمِ انقِضاءِ القِصَّةِ بَعْدُ ، وأيضًا قال: نَقُصُّ لا (قَصَصْنَا)؛ لأنَّ هذه الآيةَ نَزَلَتْ مع تِلك القَصَصِ لا بَعْدَها .

وجُملةُ: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ عَطْفٌ على جُملةِ: تِلْكَ الْقُرَى؛ لمُناسَبةِ ما في كِلتَا الجُمْلتَيْنِ من قَصْدِ التَّنظيرِ بحالِ المُكذِّبينَ بُمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجَمْعُ (البيِّناتِ) يُشيرُ إلى تَكَرُّرِ البيِّناتِ مع كُلِّ رسولٍ .

وقولُهُ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا يُفيدُ مُبالَغَةَ النَّفْيِ بلامِ الجُحودِ الدَّالَّةِ على أنَّ حُصولَ الإيمانِ كان مُنافِيًا لحالِهم مِنَ التَّصَلُّبِ في الكُفْرِ .

وفيه مناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، وقال في سورةِ يُونُسَ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ [يونس: 74] ، فَسَقَطَ (به) في سورةِ الأعرافِ دونَ سورةِ يُونُسَ؛ وذلك لأنَّ سُقوطَ (به) في سورةِ الأعرافِ هو للبِناءِ على ما جُعِلَ صدرًا لهذه الآياتِ الَّتي نزَلَتْ في التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، وهو: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فقولُهُ: وَلَكِنْ كَذَّبُوا لم يُذْكَرْ له مَفعولٌ، وانساقَتِ الآياتُ بعْدَ التَّحذيرِ المُتوالِي بقولِهِ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا، ثمَّ خُتِمَتْ بقولِهِ: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، فالمُكذِّبونَ هُنا هم المُكذِّبونَ في قولِهِ: وَلَكِنْ كَذَّبُوا أمَّا في سورةِ يُونُسَ؛ فقدْ سُبِقَ بقولِهِ: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [يونس: 73] ، فلمَّا جاءَ ذلك مُتعدِّيًا جاءَ قولُهُ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ [يونس: 74] مِثْلَهُ .

قولُهُ: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ فيه إظهارُ الاسْمِ الجَليلِ بطريقِ الالتفاتِ؛ لِتربيَةِ المَهابَةِ، وإدْخالِ الرَّوْعَةِ، ولِمَا في إسنادِ الطَّبْعِ إلى الاسْمِ العَلَمِ من صَراحةِ التَّنبيهِ على أنَّه طَبْعٌ رَهيبٌ، لا يُغادِرُ للهُدى مَنْفَذًا إلى قلوبِهم .

قولُهُ: وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبهمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ مع قولِهِ: كذَلكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلوبِ الكَافِرينَ، فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قالَه هُنا أوَّلًا بالنُّونِ، وإضمارِ الفاعِلِ ونَطْبَعُ، وثانيًا بالياءِ وإظهارِ الفاعِلِ يَطْبَعُ اللَّهُ، وقال في سورة يُونُس: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ [يونس: 74] بالنُّونِ والإِضمارِ فقط؛ لأنَّ الآيتَيْنِ هُنا تَقدَّمَهما الأمرانِ: الياءُ مع الإظهارِ مرَّتَيْنِ، والنُّونُ مع الإضمارِ؛ فالآيةُ في سورةِ الأعرافِ مَبْنِيَّةٌ على ما تَقدَّمَها مِنَ الآياتِ، وهي تَنتقِلُ مِنَ الإضمارِ إلى الإظهارِ، ومِنَ الإظهارِ إلى الإضمارِ في إخبارِ اللهِ عزَّ وجلَّ عن نفسِهِ، قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا، وأَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى، وقال بعْدَهُ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ، فأَظْهَرَ ولم يَقُلْ: (أفأمِنوا مَكْرَنا)، فلمَّا وَقَعَ هذا الإخبارُ في هذا المكانِ، ثمَّ جاءَ بعْدَهُ: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فأَجْرى الفِعْلَ على إضمارِ فاعلِهِ، ثمَّ عاد إلى ذِكْرِ الطَّبْعِ، كان إجراؤُهُ على إظهارِ الفاعِلِ أَشْبَهَ بما بُنِيَتْ عليه الآياتُ المُتقدِّمةُ مِنَ الانتقالِ مِنَ الإضمارِ إلى الإظهارِ المُختارِ استعمالُه في المكانِ؛ فناسَبَ الجَمْعُ بَيْنَ الأمرَيْنِ هُنا.

وأمَّا الآيةُ هناك في يُونُس فتقدَّمَها النُّونُ مع الإضمارِ فقط؛ فما قَبْلَها جارٍ على حَدٍّ واحدٍ وهو إضمارُ الفاعِلِ، ففي قِصَّةِ نوحٍ قَبْلَهُنَّ، وهي من مُبتدَأِ العَشْرِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ [يونس: 71] ، إلى أنْ قال: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ [يونس: 73-74] ، فقال بعْدَهُ: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ [يونس: 74] ؛ فناسَبَ الاقتِصارُ على النُّونِ مع الإضمارِ .

ومن المناسبةِ الحَسنةِ في قولِ اللهِ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وقولِه في سورةِ يُونُسَ: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ [يونس:74] : أنَّه جَعَلَ الطَّبْعَ على قلوبِ الكافرينَ في الأعرافِ، وعلى قلوبِ المُعتدينَ في يُونُسَ؛ وذلك لأنَّ الآياتِ الَّتي تَقدَّمَتْ في سورةِ الأعرافِ فيها ذِكْرُ مُكَذِّبي الأُممِ أنبياءَهم، وما ردُّوا عليهم وخاطَبوهم به؛ كقَوْلِ كفَّارِ قومِ صالحٍ عليه السَّلامُ لِمَنْ آمَنَ به منهم: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف: 76] ، وفيها وَصْفُ الكفَّارِ؛ فَلا يَحْذَرُ عِقابَ اللهِ ومجيئَه بَياتًا أو ضُحًى إلَّا الكفَّارُ، ولا يكون إطلاقُ الخاسرينَ إلَّا في الكافرين، فلمَّا وَقَعَ التَّصريحُ بصْفاتِ الكُفْرِ صَرَّحَ به عِنْدَ ذِكْرِ الطَّبْعِ، ولمَّا كانتِ الآيةُ في سورةِ يُونُسَ قد تقدَّمَها في وَصْفِ الكفَّارِ ما كان كالكِنايةِ عنهم، فقال: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [يونس: 73] ، وليس كُلُّ مُنْذَرٍ كافرًا، كَنَّى عَنِ الكفَّارِ بعْدَهُ عِندَ ذِكْرِ الطَّبْعِ بالمُعتدينَ، وليس كُلُّ مُعْتَدٍ كافرًا، فمُخالَفَةُ كُلِّ واحدةٍ مِنَ الآيتَيْنِ للأُخرى إنَّما هي لِموافَقَةِ ما قَبْلَ كُلِّ واحدةٍ منهما من طَرْحِ الكلامِ، وقَصْدِ الالتِئامِ .

قولُهُ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ

في قولِهِ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ أَسْنَدَ حُكْمَ النَّكْثِ إلى أكثَرِ أهلِ القُرى؛ تَبْيينًا لِكَوْنِ ضَميرِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا جَرَى على التَّغْليبِ، ولعلَّ نُكْتَةَ هذا التَّصريحِ في خُصوصِ هذا الحُكْمِ أنَّه حُكْمُ مَذَمَّةٍ ومَسَبَّةٍ؛ فناسَبَتْ مُحاشاةُ مَنْ لم تَلْتَصِقْ به تلك المَسَبَّةُ .

وفيه نَفْيُ وُجدانِ العَهدِ؛ لانتفاءِ سَببِه، وهو الوفاءُ بالعَهدِ، والتقديرُ: مِن إيفاءٍ بعهدٍ أو مِن التزامِ عهدٍ، وعَهْدٍ اسمُ جِنسٍ، والإتيانُ به نكرةً في سِيَاقِ النَّفْيِ يَقتَضي انتِفاءَه بجَميعِ المعاني الصَّادِقِ هو عليها، وزِيادةُ مِنْ تَدلُّ أيضًا على الاستِغراقِ لجِنس العَهدِ .

وقولُه: وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ فيه إخبارٌ بأنَّ عدَمَ الوَفاءِ بالعَهْدِ من أكثرِهم كان منهم عن عَمْدٍ ونَكْثٍ؛ ولِكَوْنِ ذلك معنًى زائدًا على ما في الجُملةِ الَّتي قَبْلَها عُطِفَتْ، ولم تُجْعَلْ تأكيدًا للَّتي قَبْلَها أو بيانًا؛ لأنَّ الفِسْقَ هو عِصيانُ الأمْرِ، وذلك أنَّهم كَذَّبوا فيما وَعَدوا عن قَصْدٍ للكُفْرِ .

قولُه: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ

قِصَّةُ موسى عليه السَّلامُ معطوفةٌ على جملةِ ما قَبلَها مِن القَصَص، مِن قَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قولِه: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا القصَّة، فهي نوعٌ، وهُنَّ نوعٌ آخرُ، والفَرقُ بين النوعينِ أنَّ تلك القَصَص مُتشابهةٌ في تكذيبِ الأقوامِ فيها لرُسُلِهم، ومُعانَدَتِهم إيَّاهم، وإيذائِهم لهم، وفي عاقبةِ ذلك بإهلاكِ الله تعالى إيَّاهم بعذابِ الاستئصالِ؛ ولذلك عَطَف كلَّ واحدةٍ منهنَّ على الأولى بدونِ إعادةِ ذِكرِ الإرسالِ؛ للإيذانِ بأنَّها نوعٌ واحدٌ، فقال: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا وَلُوطًا إِذْ قَالَ...، وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا وقد أعاد في قِصَّةِ موسى ذِكرَ الإرسالِ للتَّفرقةِ، ولكِنْ بلفظِ البَعثِ، وهو أخَصُّ وأبلَغُ مِن لَفظِ الإرسالِ؛ لأنَّه يفيدُ معنى الإثارةِ والإزعاجِ إلى الشَّيءِ المُهِمِّ، ولم يُذكَر في القرآنِ إلا في بَعثِ الموتى، وفي الرِّسالةِ العامَّة؛ أي: بَعْثِ عِدَّةٍ من الرُّسُل، وفي بَعثةِ نَبِيِّنا وموسى خاصَّةً، وكذا في بَعْثِ نُقَباءِ بني إسرائيل، وبَعْثِ مَن انتقَم منهم وعذَّبهم وسَبَاهم، حين أفسَدُوا في الأرض، فالتعبيرُ بلَفظِ البَعثِ هنا يؤكِّدُ ما أفادَتْه إعادةُ العامِلِ مِن التَّفرقةِ بين نوعَيِ الإرسالِ؛ أعني: أنَّ لَفظَه الخاصَّ مُؤكِّدٌ لِمَعناه العامِّ، كما يؤكِّدُها عطفُ هذه القِصَّة على أولئك بـ ثُمَّ التي تدلُّ على الفَصلِ والتَّراخي؛ إمَّا في الزَّمان، وإمَّا في النَّوعِ أو الرُّتبة، والأخيرُ هو المرادُ هنا، وبيانُه أنَّ هذا الإرسالَ وما ترتَّبَ عليه، وأعقَبَه في قومِ موسى، مخالِفٌ لجملةِ ما قبلَه مُخالفةَ تَضادٍّ؛ فقد أُنقِذَت به أمَّةٌ من عذابِ الدنيا، وهو تعبيدُ فرعونَ ومَلَئِه لها، وسَوْمُهم إيَّاها أنواعَ الخِزيِ والنَّكال، واهتَدَت إلى عبادةِ الله تعالى وَحدَه وإقامةِ شَرعِه، فأعطاها في الدُّنيا مُلكًا عظيمًا، وجعَلَ منها أنبياءَ وملوكًا، وأعدَّ بذلك المُهتدينَ منها لسعادةِ الآخرةِ الباقية، فأين هذا الإرسالُ مِن ذلك الإرسالِ، الذي أعقَبَ أقوامَ أولئك الرُّسُلِ في الدُّنيا عذابَ الاستئصالِ، وفي الآخرةِ ما هو أشدُّ وأبقى من الخِزيِ والنَّكال؟! وقد يظهَرُ للتَّراخي الزَّماني وجهٌ باعتبارِ كَونِ العَطفِ على قصَّةِ نُوحٍ؛ فإنَّ ما عُطِفَ عليها مِن قَصَصِ مَن بَعدَه قد جُعِلَ تابعًا ومُتمِّمًا لها بعَدَمِ إعادةِ العامِلِ أَرسَلْنا .

قولُه: مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى فيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ الصَّريحِ؛ للاعتناءِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ .

وفي قولِه: بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ قدَّمَ ذِكْرَ الآياتِ اهتمامًا بها؛ فهي الدَّليلُ على صِحَّةِ دَعْوى البَعْثِ .

وتخصيصُ (مَلئِهِ) بالذِّكر مع عُمومِ رِسالتِه عليه السَّلامُ لقومِه كافَّةً؛ لأصالةِ الملأِ في الرأي، وتَدبيرِ الأمورِ، واتِّباعِ غيرِهم لهم في الورودِ والصُّدور .

وقِيل: إنَّما قال هنا: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ولم يَقُلْ: (إلى فرعونَ وقومِهِ)؛ لأنَّ الملِكَ ورِجالَ الدَّولةِ هُمُ الَّذينَ كانوا مُستعبِدينَ لبني إسرائيلَ، وبِيَدِهِمْ أمْرُهم، وليس لسائِرِ المِصْرِيِّينَ مِنَ الأمْرِ شيءٌ، ولأنَّهم كانوا مُستعبَدينَ أيضًا، ولكنَّ الظُّلْمَ على بَني إسرائيلَ كان أشدَّ، وإنَّما بَعَثَ اللهُ تعالى موسى؛ لإنقاذِ قومِهِ بني إسرائيلَ من فرعونَ ورِجالِ دولتِهِ، وإقامةِ دِينِ اللهِ تعالى بهم في بلادِ أجدادِهم، ولو آمَنَ فرعونُ ومَلَؤُهُ لآمَنَ سائرُ قومِهم؛ لأنَّهم كانوا تَبَعًا لهم، بل كان هذا شأْنَ جميعِ الأقوامِ مع مُلوكِهم المُستبِدِّينَ الجائرينَ .

وقولُهُ: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ؛ لَمَّا كان ما آلَ إليه أمْرُ فرعونَ ومَلَئِهِ حالةً عجيبةً، عُبِّرَ عنه بـ كَيْفَ الموضوعةِ للسُّؤالِ عن الحالِ، والاستفهامُ المُستفادُ من كَيْفَ يَقتضي تَقديرَ شيءٍ، أي: انظُرْ عاقبةَ المُفسِدينَ الَّتي يُسألُ عنها بـ(كيف) .

عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيثُ لم يقُل: (عاقبتهم) مع أنَّ المُرادَ بالمفسدين فرعونُ ومَلَؤُهُ-؛ تنبيهًا على أنَّهم أُصيبوا بسُوءِ العاقبةِ؛ لِكُفْرهم وفَسادِهم، والكُفْرُ أعظَمُ الفَسادِ .

===============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (104-112)

ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غريب الكلمات :

 

حَقِيقٌ: أي: حَريصٌ، أو جديرٌ، وحقيقٌ عليَّ: أي حقٌّ وواجبٌ عليَّ، وأصْلُ (حقق): يدُلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه

.

نَزَعَ: أَي: أَخْرَجَ وأَظْهَرَ .

أَرْجِهْ: أي: احبِسْهُ، وأَخِّرْ أمْرَه، أو أَمْهِلْه، وأَصْلُ الإرجاءِ: التَّأْخيرُ .

الْمَدَائِنِ: أي: الأَقاليمِ ومَعالِمِ مُلْكِكَ، وبلادِكَ وأمصارِ مِصْرَ .

حَاشِرِينَ: أي: جامِعينَ للنَّاسِ بأمْرِ السَّحَرَةِ، والحَشْرُ: إخراجُ الجَماعةِ عن مَقرِّهم، وإزعاجُهم عنه إلى الحَربِ ونَحْوِها، وَأصْلُ (حشر): سَوْقٌ وبَعْثٌ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ موسى عليه السَّلامُ قال لِفرعونَ: إنَّه مُرْسَلٌ إليه من ربِّ العالَمينَ، وإنَّه حقيقٌ على ألَّا يقولَ على اللهِ إلَّا الحَقَّ، وأنَّه قد جاءَهَ ببيِّنةٍ من ربِّه؛ فَلْيُرْسِلْ معه بني إسرائيلَ. فقال له فرعونُ: إنْ كُنْتَ أَتَيْتَ بآيةٍ فأَظْهِرْها، إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقينَ، فأَلْقى موسى عصاهُ؛ فإذا هي ثُعبانٌ عظيمٌ واضِحٌ لِمَنْ يَراهُ، وأَخْرَجَ يَدَهُ من جَيْبِهِ فإذا هي بيضاءُ لِكُلِّ مَنْ نَظَرَ إليها.

قال الملأُ من قومِ فرعونَ: إنَّ موسى لَساحِرٌ حاذِقٌ، عليمٌ بالسِّحْرِ، يُريدُ أنْ يُخرِجَكم من أرضِكم بسِحْرِهِ؛ فما الَّذي تَأْمرونَ به في شَأْنِهِ؟

قال الملأُ لفرعونَ: أَخِّرْ موسى وأَخاهُ، وأَرْسِلْ في مُدُنِ مملكتِكَ مَنْ يَحْشُدُ السَّحَرَةَ؛ فَيَجيئونَ لكَ بِكُلِّ ساحِرٍ ماهِرٍ.

تفسير الآيات :

 

وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنه لما لُخِّصَ في الآيةِ السَّابقةِ جميعُ القِصَّةِ على طولِها، فقال: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ، فبَعْدَ هذا التَّشويقِ والتَّنبيهِ قَصَّ تعالى علينا ما كان مِن مَبْدَأِ أمْرِ أولئك المُفسِدينِ، الَّذي انْتَهى إلى تلك العاقبةِ

، فقال:

وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)

أي: وقال موسى عليه السَّلامُ لَمَّا دخَلَ على مَلِكِ مِصْرَ: يا فِرعونُ، إنِّي رسولٌ إليكَ من مُرْسِلٍ عظيمٍ، وهو ربُّ جميعِ الخلائقِ، ومالِكُهم ومُدبِّرُ أُمورِهم .

حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)

حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ

القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:

في قولِهِ تعالى: حَقِيقٌ عَلَى قراءتانِ:

قِراءة حَقِيقٌ عَلَيَّ بتشديدِ الياءِ، ومعناها: واجبٌ وحقٌّ عليَّ .

قِراءة حَقِيقٌ عَلَى، قيل: معناها: جَديرٌ وخَليقٌ بألَّا أقولَ...، وقيل: معناها: حَريصٌ على .

حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ

قيل: أي: أنا جديرٌ وخليقٌ بألَّا أكذِبَ على اللهِ، ولا أقولَ عليه إلَّا الحَقَّ .

وقيل: أي: أنا حريصٌ على ألَّا أقولَ على الله إلا الحقَّ .

قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ

أي: قال موسى عليه السَّلامُ لفرعونَ ومَلَئِهِ: قد جِئْتُكم بحُجَّةٍ قاطعةٍ، ومعجزةٍ ظاهرةٍ من ربِّكم، تَدُلُّكم على صِدْقي .

فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ

أي: فأَطْلِقْ- يا فرعونُ- ذُرِّيَّةَ النَّبيِّ يعقوبَ من أَسْرِكَ وقَهْرِكَ، وخَلِّهم يَخرُجُوا معي من مِصْرَ؛ لِنَعْبُدَ اللهَ تعالى حيث نَشاءُ .

كما قال تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [طه:47].

قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)

أي: قال فرعونُ لموسى عليه السَّلامُ: إنْ كنتَ مُتمكِّنًا من إظهارِ حُجَّةٍ ومعجزةٍ تؤيِّدُ كلامَكَ، فهاتِها؛ لِنَرى إنْ كنتَ حقًّا مِنَ الصَّادقينَ فيما تَقولُ .

كما قال تعالى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء: 30-33] .

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)

أي: فأَلْقى موسى عصاهُ في الأرضِ؛ فانقلَبَتْ بإذنِ اللهِ ثُعبانًا عظيمًا واضحًا لِمَنْ يَراهُ .

وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)

أي: وأَخْرَجَ موسى يَدَهُ من جَيْبِه، فظَهَرَتْ بيضاءَ لِكُلِّ مَنْ نَظَرَ إليها، وهذا البَياضُ مِن غيرِ بَرَصٍ .

كما قال تعالى: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [القصص: 32] .

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)

أي: قال الأشرافُ والسَّادةُ من قومٍ فِرعونَ: إنَّ موسَى ساحرٌ حاذقٌ، عليمٌ بالسِّحرِ، ماهرٌ فيه، يُرِي الشَّيءَ بخِلافِ ما هو عليه، فيُخيِّلُ إلى النَّاسِ أنَّ عصاهُ تنقلِبُ حيَّةً، وأنَّ يَدَهُ تَصيرُ بيضاءَ من غيرِ سُوءٍ .

وقد حَكَى اللهُ عزَّ وجلَّ عن فرعونَ رَمْيَهُ موسى عليه السَّلامُ بهذه الفِرْيَةِ نَفْسِها، فقال: قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء: 34] .

وقال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [القصص: 36] .

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ

أي: قال الأشرافُ والسَّادةُ من قومٍ فِرعونَ : يُريدُ موسى بسِحْرِه أنْ يُخرجَكم مِن أرضِكم؛ مِصْرَ .

كما قال تعالى عن فِرعونَ: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [الشعراء: 34-35] .

فَمَاذَا تَأْمُرُونَ

أي: فما الَّذي تَأمرونَ به في شأنِ مُوسَى ؟

قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)

قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ

أي: قال الملأُ لفرعونَ: أخِّرْ موسى وأخاهُ هارونَ، وأمهِلْهما .

وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ

أي: وابعَثْ- يا فرعونُ- في مُدُنِ مملكتِكَ أُناسًا يَحشُدونَ منها السَّحرةَ .

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قولِهِ تعالى: سَاحِرٍ قِراءتانِ:

قِراءة سَحَّارٍ على وَزْنِ (فَعَّالٍ)، وهو مِن أبنيةِ المُبالَغةِ، فـ(سحَّار) أشدُّ مُبالَغةً في الوَصْفِ من (ساحر)؛ إذْ تدُلُّ على بُلوغِهِ النِّهايةَ في عِلْمِ السِّحرِ، وتدُلُّ على تَكريرِ الفِعْلِ، وعلى أنَّ ذلك ثابتٌ لهم فيما مَضَى مِنَ الزَّمانِ .

قِراءة سَاحِرٍ، وهي اسْمُ فاعلٍ من سَحَرَ .

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)

أي: يَجيئوا لك من سائرِ البِلادِ بالسَّحَرةِ المَهَرَةِ الَّذين بلَغوا النِّهايةَ في فَنِّ السِّحْرِ؛ ليُعارِضوا ما جاءَ به موسى

 

.

كما قال تعالى حاكيًا قولَ فرعونَ لِموسى عليه السَّلامُ: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ [طه: 57-58] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

حِكمةُ بَدءِ قِصَّةِ موسى عليه السلام بذِكرِ نَتيجَتِها، والعبرةِ المقصودةِ منها، في قولِه تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ هي أن تكونَ مُتَّصلةً بما يُناسِبُها من العِبرةِ في القَصَص التي قَبلَها، مِن حيثُ إهلاكُ مُعاندي الرُّسُل- عليهم السَّلامُ- جُحودًا واستكبارًا، وقد ذُكِرَت هذه العبرةُ بعد جملةِ تلك القَصَص؛ لتَشابُهِها مبدأً وغايةً، وقصَّةُ موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طويلةٌ، فهي تُساويها في هذا من حيثُ رسالتُه إلى فِرعونَ ومَلَئِه فقط، وفيها عِبَرٌ أخرى فيما تُشابِهُ به أمْرَ خاتَمِ الرُّسُل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن حيث إرسالُه إلى بني إسرائيلَ، وإرسالُ محمَّدٍ خاتَمِ النبيِّينَ إلى العَربِ وسائِر البَشرِ، وتوفيقُ اللهِ قَومَهما للإيمانِ، ونَشر شَريعَتِهما فيمن أُرسِلا إليهم، إلى غيرِ ذلك؛ ولذلك ذكَرَ في أواخِرِها تبشيرَ موسى، وكذا عيسى، بالنبيِّ الأمِّيِّ الخاتَمِ محمَّدٍ، صلواتُ اللهِ عليهم أجمعينَ

.

شأْنُ الرُّسلِ ألَّا يَبتَدئوا بإظهارِ المعجزاتِ؛ صَوْنًا لِمَقامِ الرِّسالةِ عن تعريضِه للتَّكذيبِ، يُبيِّنُ ذلك قوْلُ اللهِ تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ؛ فأَظْهَرَ موسى- عليه السَّلامُ- الاستعدادَ للتَّبيينِ على ذلك الصِّدْقِ بالبراهينِ أو المعجزةِ، شريطَةَ أنْ يطلبَها فرعونُ .

قال اللهُ تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وفي اختيارِ صِفةِ رَبِّ العالَمينَ في الإعلامِ بالمُرْسِلِ عِدَّةُ لَطائِفَ:

منها: أنَّ مَنْ كان مُرْسَلًا مِنْ جِهَةِ مَنْ هو رَبُّ العالَمينَ أَجمَعينَ فهو حَقيقٌ بالقَبولِ لِمَا جاءَ به، كما يَقولُ مَنْ أَرْسَلَهُ المَلِكُ في حاجةٍ إلى رَعِيَّتِهِ: أنا رسولُ الملِكِ إليكم، ثمَّ يَحْكي ما أُرْسِلَ به؛ ففي ذلك مِن تَربيةِ المَهابةِ، وإدخالِ الرَّوْعَةِ ما لا يُقادَرُ قَدْرُه .

ومنها: الإبطالُ لاعتقادِ فرعونَ أنَّه رَبُّ مِصْرَ وأَهْلِها؛ فإنَّه قال لهم: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24] ، فلمَّا وَصَفَ موسى مُرْسِلَه بأنَّه ربُّ العالَمِينَ شَمِلَ فِرعونَ وأهلَ مملكتِهِ؛ فتَبْطُلُ دَعْوى فِرعونَ أنَّه إلهُ مِصْرَ بطريقِ اللُّزومِ، ودخَلَ في ذلك جميعُ البِلادِ والعِبادِ الَّذينَ لم يكُنْ فِرعونُ يَدَّعي أنَّه إلهُهُم؛ مِثْلُ الفُرْسِ والآشُورِيِّينَ .

ومنها: أنَّ ربَّ العالَمين هو مُرَبِّي جَميعِ خَلْقِهِ بأنواعِ التَّدابيرِ الإلهيَّةِ، الَّتي من جُمْلتِها أنَّه لا يترُكُهم سُدًى، بل يُرسِلُ إليهم الرُّسلَ مُبشِّرينَ ومُنذرينَ، وهو الَّذي لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أنْ يتجرَّأَ عليه، ويَدَّعِيَ أنَّه أرْسَلَه ولم يُرْسِلْه .

في قول موسى عليه السَّلامُ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ إيماءٌ إلى أنَّهم مَرْبوبونَ، وأنَّ فرعونَ ليس ربًّا ولا إلهًا، وإلى أنَّ البيِّنةَ ليسَتْ من كَسْبِ موسى، ولا ممَّا يَستقِلُّ به عليه السَّلامُ .

قولُ اللهِ تعالى: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ، ما أَعْجَبَ أمْرَ هذَيْنِ الخارقَيْنِ! أحدُهما في نفسِهِ وذلك اليَدُ البيضاءُ، والآخَرُ في غيرِ نفسِهِ وهي العصا، وجمَعَ بِذَيْنِكَ تَبَدُّلَ الذَّواتِ وتبدُّلَ الأعراضِ، فكانا دالَّيْنِ على جوازِ الأمرَيْنِ، وأنَّهما كِلاهما ممكِنُ الوُقوعِ .

قولُ اللهِ تعالى: وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ، في ذِكْرِ لِلنَّاظِرِينَ- أي: للنُّظَّارِ- تنبيهٌ على عِظَمِ بَياضِ يدِهِ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه لا يَعْرِضُ لها للنُّظَّارِ إلَّا إذا كان بَياضُها عجيبًا، خارجًا عَنِ العادةِ، يَجتمِعُ النَّاسُ إليه، كما يَجتمِعُ النُّظَّارُ للعجائبِ .

قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ يدُلُّ على أنَّ السَّحَرةَ كانوا كثيرينَ في ذلك الزَّمانِ .

قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ دلَّ على أنَّ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيٍّ في زَمانِه كانت بما يُناسِبُ أهلَ ذلك الزَّمانِ فَمُوسَى عليه السَّلامُ كانت مُعْجِزَتُه مِمَّا يُناسِبُ أهلَ زمانِه، وكانوا سَحَرَةً أذكِياءَ، فبُعِثَ بآياتٍ بَهَرَتِ الأبصارَ، وخَضَعَتْ لها الرِّقابُ، ولمَّا كان السَّحَرَةُ خَبيرينَ بفُنونِ السِّحْرِ، وما يَنْتَهي إليه، وعايَنوا ما عايَنوا مِن الأمرِ الباهرِ الهائلِ، الَّذي لا يُمْكِنُ صدورُه إلَّا عمَّن أيَّدَه اللَّه وأجرَى الخارِقَ على يَدَيْه تصديقًا له أسْلَموا سِراعًا، ولم يتَلَعْثَموا

 

.

بلاغة الآيات :

 

قوله: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لتفصيلِ ما أُجمل فيما قَبْلَه من كيفيَّةِ إظهارِ الآياتِ، وكيفيَّةِ عاقبةِ المفسدِين

.

وفيه مناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَقَالَ مُوسَى فعطَف هنا بالواو، ولم يَفصِلْ أو يعطِف بالفاءِ كما في سُورة طه؛ حيثُ قال بعدَ أمْرِ موسى بالذَّهابِ مع أخيه هارونَ إلى فِرعونَ، وتَبليغِه الدَّعوةَ، مُبيِّنًا كيف كان امتثالُهما للأمرِ:إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] ؛ فجاء به مفصولًا على وجهِ الاستئنافِ البيانيِّ غيرَ مَوصولٍ بالواو، ولا بـ«أو» ولا بالفاءِ، ووجهُ العَطفِ بالواوِ هنا: أنَّه قد قفَّى في قِصَّةِ موسى هنا على ذِكرِ إرسالِه إلى فِرعون وملئه بذِكرِ نتيجةِ هذا الإرسالِ وعاقبتِه بالإجمالِ، وهو قوله تعالى: فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ، وبُدِئتِ القصةُ بَعدَه بتفصيل ذلك الإجمالِ ومُقدِّمات تِلك النتيجة، فكان المناسبُ أن يُعطَف عليها، لا أنْ يُستأنَف استئنافًا بيانيًّا؛ لِمَا هو ظاهرٌ مِن الاشتراكِ بين المقدِّمات والنتيجةِ، أو بين التفصيلِ والإجمالِ، وأنْ يكون العطفُ بالواوِ لا بالفاء؛ لأنَّ الفاءَ تدلُّ على التعقيبِ والترتيبِ، وهو لا يناسبُ هنا؛ لأنَّه يَقتضي أن تكونَ المقدِّماتُ متأخِّرةً عن النتيجةِ، وذلك باطلٌ بالبداهةِ؛ فتعيَّن أن يكونَ العطفُ بالواوِ .

وقوله: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فيه حِكاية كلام موسى بصِيغةِ التأكيدِ بحَرْفِ (إنَّ)؛ لأنَّ المُخاطَب مَظنَّةُ الإنكارِ، أو التردُّد القويِّ في صِحَّةِ الخبرِ .

قوله: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ

قولُه: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ  فيه تضمينٌ، حيث ضُمِّنَ حَقِيقٌ مَعْنَى (حَرِيص)؛ ليُفيدَ أنَّه مَحْقوقٌ بقولِ الحقِّ، وحريصٌ عليه . وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.

قولُه: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ استئنافٌ مُقرِّرٌ لما قبله، من كونه رسولًا من ربِّ العالمين، وكونِه حقيقًا بقولِ الحقِّ، وفيه تعريضٌ بأنَّ فرعون ليس ربًّا لهم، بل ربهم هو الذي جاء موسى بالبيِّنةِ مِن عِندَه .

وتنكيرُ (بيِّنةٍ) للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ، أي: قد جِئْتُكم ببيِّنةٍ عظيمةِ الشَّأْنِ، ظاهرةِ الحُجَّةِ في بيانِ الحَقِّ .

ومِنْ على القولِ بأنَّها مُتعلِّقةٌ بمَحذوفٍ وقَعَ صِفةً لـ(بيِّنَةٍ)؛ فإنَّها مُفيدةٌ لفخامتِها الإضافيَّةِ المؤكِّدةِ لفخامتِها الذاتيَّة، المستفادَة من التنوينِ التفخيميِّ .

وإضافةُ اسمِّ الربِّ إلى المخاطَبين بعد إضافتِه فيما قبله إلى (العالَمين)؛ لتأكيدِ وجوبِ الإيمان به .

قوله: قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ استئنافٌ وقَع جوابًا عن سؤال يَنساقُ إليه الكلامُ؛ كأنه قيل: فماذا قال فرعونُ له عليه السَّلام حِين قال له ما قال؟ فقيل: قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ... .

قوله: قَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ فيه مناسبةٌ حسنة، حيثُ قال هنا في الأعراف: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فنسَبَ القَولَ للمَلأِ، وقال في سورةِ الشُّعَراءِ: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء: 34] فنَسَبه لفِرعون، فأخبَرَ في الأولى أنَّ قائلَ ذلك الملأُ من قومِهِ، وفي الثَّانيةِ أنَّ فرعونَ هو القائلُ ذلك لملئِه؛ ووجهُ ذلك: أنَّ قولَ الملأِ فيما حَكاهُ اللهُ تعالى في سورةِ الأعرافِ قولُ فرعونَ، أدَّاهُ عنه رؤساءُ قومِهِ إلى عامَّةِ أصحابِهِ، وإنَّما اخْتَصَّتْ سورةُ الأعرافِ بحكايةِ ما قال الملأُ، وسورةُ الشُّعَراءِ بما قالَهُ فرعونُ؛ لأنَّ أوَّلَ مَنْ رَدَّ قولَ موسى عليه السَّلامُ فرعونُ، ثمَّ مالَأَهُ عليه مَلَؤُهُ، وهو ما حَكاهُ اللهُ تعالى في سورةِ الشُّعَراءِ واقْتَصَّ حالَهُ، حيث أخبَرَ عنه بما قاله: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشعراء: 18] ، إلى أنِ انتهتِ الآياتُ إلى القِصَّةِ المودَعةِ ذِكْرَ السَّحَرَةِ، فقال فرعونُ للملأِ حَوْلَهُ ما أدَّوْهُ عنه إلى غيرِهم، وسورةُ الشُّعَراءِ مكِّيَّةٌ كسُورةِ الأعرافِ، وترتيبُ الاقتصاصِ يَقتضي أنْ تكونَ قَبْلَها، وفي السُّورةِ الثَّانيةِ أخبَرَ عمَّا أدَّاهُ عنه ملؤُهُ إلى النَّاسِ الَّذينَ أجابوهُ بأنْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ، فكان قولُ فرعونَ للملأِ حَوْلَهُ سابقًا قولَ الملأِ الَّذينَ أدَّوْا إلى غيرِهم قولَهُ، فذُكِر حيثُ قُصِدَ اقتِصاصُ أوَّلِ مَن دَعاه موسى عليه السَّلامُ إلى طَاعةِ اللهِ تعالى . وقيل: لَمَّا تَقدَّم في سُورة الأعراف قولُه تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، فوقَعَ ذِكرُ الملأ مبعوثًا إليهم مع فِرعون؛ ناسَبَ ذلك أنْ يُذكَروا في الجوابِ؛ حتى يكونَ في قُوَّة أنْ لو قيل: بعث إليهم وخُوطِبوا فقالوا، ولم يكُن ليُناسِبَ: بعث إليهم فقال فرعون. ولَمَّا تَقدَّم في سُورة الشعراء قولُه: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ، ثم جرَى ما بعدَ المحاورةِ ومراجعةِ الكلام بَينَ موسى عليه السلام وفرعون، ولم يقعِ الملأُ هنا ناسَبَ ذلك نِسبةُ القولِ لفِرعونَ؛ لأنَّه هو الذي راجَع وخُوطِب؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِب .

قوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فيه مناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، وقال في سورةِ الشُّعَراءِ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ [الشعراء: 35] ، بزِيادة بِسِحْرِهِ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا أَسْنَدَ الفِعْلَ في سورةِ الشُّعَراءِ إلى فِرعونَ، وحَكى ما قالَهُ، وأنَّه قال للملأِ حولَهُ من قومِهِ: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء: 34] ، وكان فرعونُ أشدَّهم تمرُّدًا، وأوَّلَهم تجبُّرًا، وأبلغَهم فيما يُرَدُّ به الحقُّ، كان في قوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [الشعراء: 35] ذِكْرُ السَّبَبِ الَّذي يَصِلُ به إلى الإخراجِ، وهو: بِسِحْرِهِ، فأَشْبَعَ المَقالَ بعْدَ قولِهِ: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء: 34] بأنْ ذَكَرَ بِسِحْرِه وأمَّا في الأعرافِ فلم يذكُرْ فيه بِسِحْرِهِ لأنَّه مِن قولِ الملأِ، حيثُ قال: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، والملأُ لم يبلُغوا مَبْلَغَ فرعونَ في إبطالِ ما أَوْرَدَهُ موسى عليه السَّلامُ، ولم يَجْفوا في الخِطابِ جَفاءَهُ، فتناولَتِ الحِكايةُ ما قاله فرعونُ على جِهتِه بتكريرِ لَفْظِ السِّحْرِ من فِعْلِهِ بعدما أخرَجَه بصِفتِه، حيثُ قال: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ .

وقيل: إنَّ المُناسَبةَ أنَّ آيةَ الأعرافِ بُنِيَتْ على الاقتصارِ، ولأنَّ لَفْظَ السَّاحِرِ في قوله قَبْلَ الآيةِ هنا: لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يدلُّ على السِّحْرِ بخِلافِ الآيةِ في سُورةِ الشُّعراءِ .

قوله: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِين فيه مناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: وَأَرْسِلْ، وقال في سورةِ الشُّعَراءِ: وَابْعَثْ [الشعراء:36] ؛ قيل: هذا الاختِلافُ في التعبيرِ مَبْنِيٌّ على التَّرتيبِ الَّذي استقرَّ عليه المصحَفُ، فـ(أَرْسِلْ) أخصُّ في بابِ الإرسالِ مِنَ البَعْثِ؛ إذْ لا يُقالُ: (أَرْسِلْ) إلَّا فيما كان توجيهًا فيه معنى الانتقالِ، أمَّا (بَعَثَ) فأَوْسَعُ؛ فإنَّه يقَعُ بمعنى الإرسالِ وبمعنى الإحياءِ؛ ففيه اشتراكٌ، فلمَّا كان الإرسالُ أخصَّ وَقَعَ الإخبارُ به أوَّلًا، ثمَّ وَقَعَ ثانيًا بالبَعْثِ؛ تَنويعًا للعِبارةِ، وعلى التَّرتيبِ في مَوْضِعِ اللَّفظِ المُطَّرِدِ مِنَ القرآنِ، ولا يُمكِنُ على ما تقرَّرَ من ذلك العَكْسُ . وقيل: إنَّ (أَرْسِل) و(ابْعَثْ) بمعنًى واحدٍ؛ وإنَّما عُبِّر بكلِّ واحدٍ في مَوضِعٍ؛ تَكثيرًا للفائدةِ في التَّعبيرِ عن المرادِ بلَفظيْنِ متساوييْنِ معنًى

=============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (113-116)

ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ

غريب الكلمات :

 

وَاسْتَرْهَبُوهُمْ: أي: أَرْهبوهم، أو أَخافوهم، أو استَدْعَوْا رَهبتَهم، وهي الخوفُ، والرَّهبةُ: مَخافةٌ مع تَحَرُّزٍ واضْطِرابٍ، وأَصْلُ (رهب): يدُلُّ على خَوْفٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُهُ تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ

إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ: (أنْ) في الموضعَينِ حَرْفٌ مَصدريٌّ. وأَنْ تُلْقِيَ مَصْدَرٌ مُؤَوَّلٌ، وما بَعدَه معطوفٌ عَلَيهِ، وفي محلِّ أَنْ تُلْقِيَ الإعرابيِّ ثلاثةُ أَوْجُهٍ: الأوَّلُ: النَّصْبُ بفِعْلٍ مُقدَّرٍ، أي: اخترْ إمَّا إلقاءَك وإمَّا إلقاءَنا. الثَّاني: الرَّفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، والتقديرُ: أَمْرُكَ إمَّا إلقاؤُك وإمَّا إلقاؤُنا. الثَّالثُ: أنْ يكونَ مبتدأً خبرُهُ مَحذوفٌ، والتَّقديرُ: إمَّا إلقاؤُك مَبدوءٌ به، وإمَّا إلقاؤُنا مبدوءٌ به

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ السَّحَرَةَ الَّذينَ جُمِعوا مِنَ المدائنِ، لَمَّا جاؤوا فرعونَ قالوا له: هل ستُعْطينا أجْرًا إنْ نحن غَلَبْنا موسى، قال لهم: نَعَمْ، وستكونون أيضًا مِنَ المُقرَّبينَ منِّي.

فتوجَّهوا بالخِطابِ إلى موسى فخيَّروه بَيْنَ أنْ يُلْقِيَ عصاه، أو يكونوا هُمْ أوَّلَ مَنْ يُلقي، فأَمَرهم موسى أنْ يَبدؤوا هُمْ بالإلقاءِ، فلمَّا ألقَوْا سَحَروا أَعْيُنَ النَّاسِ، وأخافوهم، وجاؤوا بسِحْرٍ عظيمٍ.

تفسير الآيات :

 

وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)

القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:

في قولِهِ تعالى: إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا قراءتانِ:

قراءة إِنَّ على لَفْظِ الخبرِ، والمُرادُ به الإلزامُ؛ وذلك أنَّهم ألزموا فرعونَ أنْ يجعلَ لهم أجْرًا إنْ غلَبوا، وقيل: إنَّهم قَطَعوا ذلك لأنفسِهم في حُكْمِهم إنْ غلَبوا

.

قراءة أإنَّ استفهامٌ، على معنى الاستخبارِ، أي: استَخْبَروا فرعونَ: هل يجعلُ لهم أجرًا إنْ غلَبوا، أو لا يجعلُ ذلك لهم ؟

وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)

أي: وجاء السَّحَرةُ الَّذينَ جُمِعوا مِنَ المُدُنِ إلى فرعونَ، فلمَّا حضَروا عِنده سألوه: هل ستَمنَحُنا عطاءً عظيمًا إنْ تغلَّبْنا على موسى ؟

كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [الشعراء: 41] .

قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)

أي: قال فرعونُ للسَّحرةِ: نَعَمْ، لكم منِّي ذلك، ولكم أيضًا فَوْقَ ما سألْتُم؛ أنْ أَجعلَكم مِنَ الَّذينَ أُقرِّبُهم منِّي .

قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)

أي: قال السَّحرةُ: يا موسى، اختَرْ إمَّا أنْ تُلقيَ عصاكَ أوَّلًا، أو نُلقيَ قَبْلَكَ ما معنا مِنَ العِصِيِّ والحِبالِ .

كما قال تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [طه: 65] .

قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)

قَالَ أَلْقُوا

أي: قال موسى للسَّحَرةِ: أَلْقوا أنتم أوَّلًا ما ستُلقونَه .

كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ [يونس: 80] .

فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ

أي: فلمَّا أَلْقى السَّحرةُ حِبالَهم وعِصيَّهم، خَيَّلوا إلى الأبصارِ بسِحْرِهم أنَّها حيَّاتٌ تسعَى في الحقيقةِ .

كما قال تعالى: فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء:44] .

وَاسْتَرْهَبُوهُمْ

أي: وأخافَ السَّحرةُ النَّاسَ، وأفزعوهم بما خَيَّلوا إلى أعيُنِهم مِنَ الحيَّاتِ الكثيرةِ الضَّخمةِ الَّتي تَسْعى .

وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ

أي: وجاءَ السَّحرةُ بتخييلٍ عظيمِ الشَّأنِ عِند مَنْ يَراهُ مِنَ النَّاسِ، ذي تأثيرٍ كبيرٍ في أَعْيُنِهم، وقد أدخَلَ الخوفَ الشَّديدَ في نُفوسِهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- السِّحرُ لا يؤثِّرُ بقلبِ الأعيانِ إلى أعيانٍ أُخرَى

، مما يدلُّ على ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ فلو كان السَّحرةُ قادرينَ على قلبِ الأعيانِ، لَمَا احتاجوا إلى طلَبِ الأجْرِ والمالِ من فرعونَ؛ لأنَّهم لو قَدَروا على قلبِ الأعيانِ فلِمَ لم يَقلِبوا التُّرابَ ذهَبًا؟! ولِمَ لَمْ يَنقُلوا مُلكَ فرعونَ إلى أنفُسِهم، ولِمَ لَمْ يجعلوا أنفُسَهم مُلوكَ العالَمِ، ورؤساءَ الدُّنيا ؟!

2- قولُ اللهِ تعالى: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ يدُلُّ على أنَّ كُلَّ الخَلْقِ كانوا عالِمينَ بأنَّ فرعونَ كان عبْدًا ذليلًا مَهينًا عاجِزًا، وإلَّا لَمَا احتاجَ إلى الاستعانةِ بالسَّحرةِ في دَفْعِ موسى عليه السَّلامُ .

3- ليس في أمْرِ موسى عليه السَّلامُ إيَّاهم بالتَّقدُّمِ في قولِ اللهِ تعالى: قَالَ أَلْقُوا ما يَقتضي تسويغَ مُعارَضةِ دعوةِ الحقِّ؛ لأنَّ القومَ كانوا مَعروفينَ بالكُفْرِ بما جاء به موسى، فليس في مُعارَضَتِهم إيَّاهُ تجديدُ كُفْرٍ، ولأنَّهم جاؤوا مُصمِّمينَ على مُعارَضَتِهِ، فليس الإذْنُ لهم تسويغًا، ولكنَّهم خيَّروه في التَّقدُّمِ أو أن يتقدَّموا، فاختار أنْ يتقدَّموا؛ لِحِكْمَةٍ إلهيَّةٍ تَزيدُ المعجزةَ ظُهورًا، ولأنَّ في تقديمِهِ إيَّاهم إبلاغًا في إقامةِ الحُجَّةِ عليهم، ولعلَّ اللهَ أَلْقى في نفسِهِ ذلك، وفي هذا دليلٌ على جوازِ الابتداءِ بتقريرِ الشُّبهةِ للَّذي يَثِقُ بأنَّه سيدفَعُها . ومِن الحِكْمةِ في أمْرِه لهم بالتَّقدُّمِ- والله أعلم- لِيَرى النَّاسُ صَنيعَهم ويتأمَّلوه، فإذا فُرِغَ من بَهْرَجِهِم، جاءَهم الحقُّ الواضحُ الجَلِيُّ بعْدَ التَّطلُّبِ له، والانتظارِ منهم لمجيئِه، فيكون أَوْقَعَ في النُّفوسِ، وكذا كان .

4- قولُ اللهِ تعالى: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فيه ما يدُلُّ على رغبتِهم في أنْ يُلقوا قَبْلَه من تأكيدِ ضَميرِهم المُتَّصِلِ بالمُنْفَصِلِ وتعريفِ الخبرِ، أو تعريفِ الخبرِ وإقحامِ الفَصْلِ، وقد سوَّغَ لهم موسى ما تَراغَبوا فيه؛ ازدِراءً لِشأنِهم، وقِلَّةَ مُبالاةٍ بهم، وثِقَةً بما كان بصَدَدِهِ مِنَ التَّأييدِ السَّماوِيِّ، وأنَّ المعجزةَ لنْ يغلِبَها سِحْرٌ أبدًا .

5- قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا، أَعادَ كلمةَ أَلْقُوا وحدَها؛ للإيذانِ بعدمِ مُبالاتِهِ، فهذه الكلمةُ الواحدةُ تبدو فيها قِلَّةُ المُبالاةِ، وتُلْقي ظِلَّ الثِّقةِ الكامنةِ وراءَها في نَفْسِ موسى

 

.

بلاغة الآيات :

 

قوله: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ

قوله: قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ استئنافٌ بيانيٌّ، منوطٌ بسُؤالٍ نَشأَ مِن حِكايةِ مجيء السَّحرةِ، كأنَّه قيل: فماذا قالوا له عندَ مجيئهم فِرعونَ، وحين مُثُولِهم بينَ يَدَيْهِ؟ فقيل: قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا...؛ ولذلك لم يقُل: (وجاءَ السَّحرةُ فرعون فَقالوا)؛ لأنَّه على تَقديرِ سائِلٍ سألَ: ما قالوا إذ جاؤوه؟ فأُجيب بقولِه: قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا...

.

وتنكيرُ الأجرِ في قولِه: إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا للتَّعظيمِ .

وقوله: إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ فيه تأكيدٌ لضمير (كنَّا) بالضَّمير (نحن)؛ إشعارًا بجدارتِهم بالغَلبِ، وثِقتِهم بأنَّهم أعلمُ النَّاسِ بالسِّحرِ؛ فأكَّدوا ضميرَهم؛ لزيادةِ تقريرِ مدلولِه .

وفيه مُناسَبةٌ حَسنَةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا، وقال في سورة الشُّعَراءِ: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ [الشعراء: 41] ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا تقدَّم في سورةِ الشُّعراءِ ما شرْحُه أكثَرُ، وما في سورةِ الأعرافِ أَوْجَزُ وأَخْصَرُ، كان قولُه في الأعرافِ: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بمعنى ما كان بإزائِهِ في سورةِ الشُّعَراءِ: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ [الشعراء: 41] ، فَلَمْ يَحْتَجْ في جوابِ (لَمَّا) إلى (فاء) ولا إلى (واو)، وكذلك هُنا في سورةِ الأعرافِ، لَمَّا قَصَدَ هذا المعنى دَلَّ بحَذْفِ العاطِفِ على هذا القَصْدِ، فكأنَّه قال: فلمَّا جاء السَّحَرةُ فرعونَ قالوا: أَئِنَّ لنا لأجرًا .

قولُه: قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ فيه مناسبة حسنة، حيث حَكَى اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ قولَ فِرعونَ بقولِه: قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وفي سورةِ الشُّعَراءِ بقولِه: قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 42] ، بزيادةِ إِذًا في الشُّعَراءِ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ (إذًا) تقَعُ جوابًا وجزاءً، والمعنى في السُّورتَيْنِ مقصودٌ به الجزاءُ، فوَقَعَ الاكتفاءُ في الأعرافِ بقولِهِ تعالى: نَعَمْ، والمعنى: نَعَمْ، لكم ما أردْتُم مِنَ الأجْرِ، وزيادةُ التَّقريبِ والحُظْوَةِ، ولا شكَّ أنَّ المعنى: إنْ غلَبْتُم فلَكُم ذلك، فالمعنى على ذلك، ثمَّ وَرَدَ في سورةِ الشُّعَراءِ مُفْصَحًا بالأداةِ المُحْرِزَةِ له، وهي: (إذًا)؛ لِيُناسِبَ بزيادتِها ما مضَتْ عليه سورةُ الشُّعَراءِ مِنَ الاستيفاءِ والإطنابِ، وناسَبَ سُقوطُها في الأعرافِ مقصودَ الإيجازِ في هذه القِصَّةِ .

قوله: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ استئنافٌ بيانيٌّ؛ كأنه قيل: فماذا فَعَلوا بعد ذلك؟ فقيل: قَالُوا يَا مُوسَى... .

وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سُورةِ الأعرافِ: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ، وقال في سورةِ طه: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [طه: 65] ، والمعنى واحدٌ؛ لأنَّ كُلَّ واحدةٍ مِنَ الآيتَيْنِ جَرَتْ على وَفْقِ فواصِلِ تِلك السُّورةِ، ورُؤوسِ آياتِها، فالعكسُ لا يُناسِبُ؛ فاختُصَّتْ كُلُّ سورةٍ بما وَرَدَ فيها .

.============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (117-126)

ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ

غريب الكلمات :

 

تَلْقَفُ: أي: تَأْكُلُ وتَلْتَهِمُ، وتَلْقَمُ وتَبْتَلِعُ؛ يُقالُ: لَقِفَ الشيءَ وأَلْقَفَه، وتَلَقَّفَه: تَناوَلَه بالحِذْقِ، سواءٌ في ذلك تَناوُلُه بالفَمِ أو اليَدِ

.

يَأْفِكُونَ: أي: يَكذِبونَ ويُزوِّرونَ، والإفْكُ: الكَذِبُ، وأصلُ (أفك): يَدُلُّ على قَلْبِ الشَّيْءِ، وصَرْفِهِ عن جِهَتِه .

وَانْقَلَبُوا: أي: رجَعوا، وانصرَفوا، يُقالُ لِمَنْ كان على شيءٍ ثمَّ رجَع عنه: قدِ انْقَلَبَ على عَقِبِهِ، وأَصْلُ (قلب): صَرْفُ الشَّيءِ عن وجْهٍ إلى وجْهٍ، أو ردُّه من جِهَةٍ إلى جِهةٍ؛ كقَلْبِ الثَّوْبِ .

صَاغِرِينَ: أي: أذلَّاءَ مُهانينَ، أو مُبْعَدينَ؛ فالصَّغارُ: الذِّلَّةُ والـمَهانَة، وأصلُ (صغر): يَدُلُّ على قِلَّةٍ وحَقارةٍ .

لَمَكْرٌ: أي: لَصَنيعٌ فيما بَيْنكم وبَيْن موسى، وأَصْلُ (مكر): الاحْتيالُ والخِداعُ .

مِنْ خِلَافٍ: الخِلافُ: المُخالَفَةُ، والمرادُ بالقَطعِ مِن خِلافٍ: أنْ يُخالِفَ بينَ العُضوينِ في القَطعِ، وذلِك بقَطْعِ اليَدِ اليُمنى والرِّجلِ اليُسرى، أو قَطْعِ اليدِ اليُسرَى والرِّجلِ اليُمنى .

تَنْقِمُ: أي: تَكْرَهُ مِنَّا، وتُنْكِرُ وتَعيبُ؛ يقال: نَقَمَ الشَّيءَ، إذا أنكره؛ إمَّا باللِّسانِ، وإمَّا بالعقوبةِ، وأَصْلُ (نقم): يدُلُّ على إنكارِ شَيءٍ وعَيْبِه .

أَفْرِغْ: أي: أَنزِلْ واصبُبْ علينا؛ كما يُفرَغُ الدَّلْوُ، أي: يُصَبُّ ما فيه، وأصل (فرغ): يَدُلُّ على خُلُوٍّ، وَسَعَةِ ذَرْعٍ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه أَوْحى إلى موسى بأنْ يُلْقِيَ عصاهُ بعدَما أَلْقى السَّحرةُ حِبالَهم وعِصِيَّهم، فإذا هي ثُعبانٌ حقيقيٌّ يأكُلُ ما كان أَلْقاهُ السَّحَرةُ ممَّا أَوْهَموا النَّاسَ كَذِبًا أنَّها حيَّاتٌ، فظَهَرَ حينَها الحقُّ، وبَطَلَ ما كانوا يَعمَلونَ، فغُلِبَ عِندَ ذلك الجَمْعِ السَّحَرةُ وفرعونُ وقومُه، وانصرفوا أذِلَّاءَ حقيرينَ، وسجَدَ السَّحرةُ لرَبِّهم بعَدْ أنْ رَأَوْا عظيمَ قُدْرتِه، وقالوا: آمَنَّا برَبِّ العالَمينَ، ربِّ موسى وهارونَ.

قال فرعونُ للسَّحرةِ: أآمَنْتُمْ له قَبْلَ أنْ أُعطيَكم الإذْنَ بذلك؟! إنَّ هذا الَّذي فعلتُموهُ حيلَةٌ اتَّفَقْتُم مع موسى عليها؛ لِتُخْرِجوا أهلَ هذه المدينةِ منها، فسوف تعلَمونَ ما سأفعَلُ بكم مِنَ العذابِ، لَأُقَطِّعَنَّ من كُلِّ ساحرٍ منكم يدَه ورِجْلَه من جِهتَيْنِ مختلِفتَيْنِ، ثمَّ لَأُصَلِّبَنَّكم كُلَّكم. قال السَّحرةُ الَّذينَ آمَنوا: إنَّا إلى رَبِّنا لَراجِعونَ، وما تُنْكِرُ منَّا يا فرعونُ إلَّا أنَّنا آمَنَّا بآياتِ ربِّنا لَمَّا أَتَتْنا، ثمَّ دعا السَّحرةُ ربَّهم فقالوا: ربَّنا أنزِلْ علينا صَبْرًا، وأَمِتْنا مُسلِمينَ.

تفسير الآيات :

 

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ

أي: وأوحينا إلى موسى بعْدَ أنْ أَلْقى السَّحرةُ حبالَهم وعِصِيَّهم: أنْ أَلْقِ عصاكَ

.

كما قال تعالى لموسى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه: 69] .

فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ

القِراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفسيرِ:

في قولِهِ تعالى: تَلْقَفُ قراءتانِ:

قراءة تَلْقَفُ، من لَقِفْتُ الشَّيءَ أَلْقَفُهُ لَقْفًا، قيل: هو أَخْذُ الشَّيءِ بحِذْقٍ في الهواءِ .

قراءة تَلَقَّفُ، قيل: معناه: تَلتَهِمُ العِصِيَّ والحِبالَ الَّتي تُخُيِّلَتْ بِسِحرِ السَّحَرَةِ أنَّها حيَّاتٌ، وقيل: أَصْلُ الكلمةِ: تَتَلَقَّفُ، أي: تُبالِغُ وتتكلَّفُ اللَّقْفَ .

فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ

أي: فأَلْقى موسى عصاهُ، فانقلَبَتْ في الحقيقَةِ ثُعبانًا عظيمًا، يأكُلُ ويبتَلِعُ بسرعةٍ هائلةٍ جميعَ ما أَلْقاهُ السَّحرةُ مِنَ الحِبالِ والعِصِيِّ، الَّتي أَوْهَموا النَّاسَ كَذِبًا وافتراءً أنَّها حَيَّاتٌ .

كما قال تعالى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69] .

فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)

فَوَقَعَ الْحَقُّ

أي: فلمَّا جَرَى ذلك ظهَرَ الحقُّ، وتبيَّنَ لجَميعِ الحاضرينَ أنَّ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رسولٌ من عِندِ اللهِ ربِّ العالَمينَ .

وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

أي: واضْمَحَلَّ وزالَ ما كان يَقُومُ به السَّحرةُ مِنَ الخِداعِ والكَذِبِ والتَّخْييلِ .

كما قال تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس: 81- 82] .

فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)

فَغُلِبُوا هُنَالِكَ

أي: فغُلِبَ فرعونُ وقومُهُ والسَّحرةُ عِند ذلك الجَمْعِ .

وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ

أي: وانصَرَفَ فرعونُ وقومُه والسَّحَرةُ أذِلَّاءَ حقيرينَ، بعْدَ أنْ غَلَبَهم موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا كان الضَّميرُ قَبْلُ في قولِهِ: فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ضَميرًا مُشتركًا، جُرِّدَ المؤمنونَ وأُفْرِدوا بالذِّكْرِ .

وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)

أي: ولم يتمالَكِ السَّحرةُ أنفُسَهم بعَدْ أنْ رَأَوْا عظيمَ قُدْرَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وعرَفوا صِدْقَ موسى عليه السَّلامُ، فسقَطوا على وُجوهِهم ساجِدينَ لربِّهم .

قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)

أي: قال السَّحرةُ: آمَنَّا بخالِقِ ومالِكِ ومُدبِّرِ كُلِّ شيءٍ، فلا نعبُدُ غيرَه .

رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذَكَروا أنَّهم آمَنوا بربِّ العالَمينَ، خصُّوا مَنْ هَداهُمُ اللهُ على أَيْديهما؛ تصريحًا بالمُرادِ، وتشريفًا لهما، فقالوا :

رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)

أي: ربُّنا الَّذي آمَنَّا به هو ربُّ الرَّسولَيْنِ الكريمَيْنِ موسى وهارونَ، اللَّذَيْنِ أيَّدَهما بهذه المعجزةِ العظيمةِ، الدَّالَّةِ على صِدْقِهما .

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ

أي: قال فرعونُ للسَّحرةِ لَمَّا أَعْلَنوا إيمانَهم باللهِ عزَّ وجلَّ: أآمَنْتُمْ بموسى قَبْلَ أنْ أمنَحَكم الإذْنَ بذلك؟! فهذا سوءُ أدَبٍ منكم، وتجرُّؤٌ عليَّ !

كما قال تعالى: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71] .

إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا

أي: قال فرعونُ للسَّحرةِ: إنَّ ما فعلتموه خُدْعَةٌ وحيلَةٌ اتَّفَقْتُمْ أنتُمْ وموسى عليها؛ لتكونَ لكم الرِّياسةُ في مدينتِنا هذه، وتُخرِجوا منها أهلَها القِبْطَ، وتُسكِنوا فيها بني إسرائيلَ .

ثم قال فرعونُ مُهدِّدًا السَّحرةَ الَّذينَ آمَنوا:

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

أي: فسوف تَعلَمون ما أفعَلُ بكم مِنَ العذابِ .

لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)

لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ

أي: قال فرعونُ مُبيِّنًا ما سيُعذِّبُ به السَّحرةَ الَّذينَ آمَنوا: أُقْسِمُ لَأُقطِّعنَّ من كلِّ ساحرٍ منكم يدَهُ ورِجْلَه من جِهتَيْنِ مُختلِفتَيْنِ؛ فيقطَعُ اليَدَ اليُمنى والرِجْلَ اليُسرى أو بالعكْسِ .

ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ

أي: ثمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ كُلَّكُم- أيُّها السَّحرةُ- على جُذوعِ النَّخْلِ .

كما قال تعالى: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه: 71] .

قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)

أي: قال السَّحرةُ الَّذينَ آمَنوا بعْدَ أنْ توعَّدَهم فرعونُ بالعذابِ والقتلِ: إنَّا إلى ربِّنا الرَّحيمِ الكريمِ راجِعونَ، فنجِدُ لَدَيْهِ مِنَ النَّعيمِ ما يُنْسينا كُلَّ بلاءٍ ومحنةٍ في الدُّنيا، فلا نُبالي بعِقابِكَ- يا فرعونُ-، ولَنَصْبِرَنَّ على عذابِكَ في الدُّنيا؛ لِنَنْجُوَ من عذابِ اللهِ في الآخرةِ .

كما قال تعالى: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 50- 51] .

وقال سُبحانَه: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 72- 73] .

وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)

وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا

أي: وما الَّذي تُنكرُه وتكرُهه منَّا، وتَعيبُه علينا- يا فرعونُ-؛ حتَّى تجعَلَهُ سببًا لعذابِنا وتقتيلِنا إلَّا أنَّنا صدَّقْنا وأَقْرَرْنا بحُجَجِ ربِّنا وأدلَّتِهِ حين جاءتْنا دالَّةً على رسولِهِ ؟!

ثم دعا السَّحرةُ ربَّهم، فقالوا:

رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا

أي: ربَّنا أنزِلْ علينا صَبْرًا عظيمًا عِند تعذيبِ فرعونَ لنا؛ حتَّى نَثبُتَ على دِينِكَ .

وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ

أي: أَمِتْنَا- يا ربَّنا- ونحن ثابتونَ على الإسلامِ؛ حتَّى نلقاكَ وأنتَ عنَّا راضٍ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- النَّفسُ البشريَّةُ حين تُسْتَعْلَنُ فيها حقيقةُ الإيمانِ تستَعْلي على قوَّةِ الأرضِ، وتَستهينُ ببأسِ الطُّغاةِ، وتنتصِرُ فيها العقيدةُ على الحياةِ، وتَحتقِرُ الفَناءَ الزَّائلَ إلى جِوارِ الخُلودِ المُقيمِ، يبيِّن ذلك قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، فلمَّا تمكَّنَ الإيمانُ من قلوبِهم علِموا أنَّ عقوبةَ الدُّنيا أسهلُ من عقوبةِ الآخرةِ وأقلُّ بقاءً، وأنَّ ما يحصُلُ لهم في الآخرةِ مِنْ ثوابِ الإيمانِ أعظَمُ وأنفَعُ وأكثَرُ بقاءً

.

2- قال تعالى على لِسانِ السَّحرةِ الَّذينَ آمَنوا: وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، دَعَوْا لأنفُسِهم بالوفاةِ على الإسلامِ؛ إيذانًا بأنَّهم غيرُ راغبينَ في الحياةِ، ولا مُبالينَ بوعيدِ فرعونَ، وأنَّ هِمَّتَهم لا تَرْجو إلَّا النَّجاةَ في الآخرةِ، والفَوزَ بما عِند اللهِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

قولُ اللهِ تعالى: تَلَقَّفُ بحذْفِ إحدى التَّاءَيْنِ مِنَ الأصلِ، أي: تَلْتَقِمُ التقامًا حقيقيًّا شديدًا سريعًا جدًّا بما دَلَّ عليه حذْفُ التَّاءِ

، على إحدى القراءتين.

قولُ اللهِ تعالى: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ دَلَّ على كثرةِ ما صَنَعوا بقولِهِ: مَا يَأْفِكُونَ، أي: يُجدِّدونَ- حين إلقائِهم- في تَزْويرِه وقَلْبِه عن وَجْهِه .

قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ هذه الحادثةُ الخارقةُ للعادةِ فيها إثباتُ الصانعِ، وإثباتُ نبوةِ أنبيائِه، فإنَّ حدوثَ هذا الحادثِ على هذا الوجهِ في مثلِ ذلك المقامِ يُوجبُ علمًا ضروريًّا أنَّه مِن القادرِ المختارِ لتصديقِ موسَى عليه السَّلامُ، ونصْرِه على السَّحرةِ؛ فقلبُ الأعيانِ إلى ما ليس في طبعِها الانقلابُ إليه، كمصيرِ الخَشبِ حيوانًا حسَّاسًا متحرِّكًا بالإرادةِ، يبلعُ عصيًّا وحبالًا، ولا يتغيَّرُ- ليس هذا مِن جنسِ مقدورِ البشرِ، لا معتادًا ولا نادرًا، ولا يحصلُ بقُوَى نفسٍ أصلًا، ولهذا لمَّا رأَى سحرةُ فرعونَ ذلك علموا أنَّه خارجٌ عن طريقةِ السِّحرِ .

قولُ اللهِ تعالى: وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ دلَّ بـ(كان) والمضارِعِ على أنَّهم- مع بُطلانِ ما عمِلوا- نَسوا عِلْمَهم، بحيث إنَّه انسدَّ عليهم بابُ العملِ بعْدَ أنْ كان لهم به مَلَكَةٌ كمَلَكَةِ ما هو كالجِبلَّةِ .

قولُ اللهِ تعالى: وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لم يُعبَّرْ عنه بالسِّحرِ؛ إشارةً إلى أنَّه كان سِحرًا عجيبًا تكلَّفوا له، وأَتَوْا بمُنتهى ما يَعرِفونَه .

قولُ اللهِ تعالى: فَغُلِبُوا هُنَالِكَ، لم يَقُلْ: (فغَلَبَهم موسى)؛ لأنَّ ذلك لم يكنْ بكَسْبِه وصُنْعِه عليه السَّلامُ .

قولُ اللهِ تعالى: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، لم يتأخَّروا عَنِ السُّجودِ حتَّى كأنَّهم خرُّوا من غيرِ اختيارٍ ، فعَبَّرَ بقولِهِ: وَأُلْقِيَ كأنَّ إنسانًا أَمْسَكَهم وأَلْقاهم ساجِدينَ بالقُوَّةِ؛ لِقوَّةِ البُرهانِ الَّذي رَأَوْا به الحَقَّ .

أنَّه قد يكونُ الشَّيءُ الخَسيسُ الحقيرُ وفيه بعضُ النَّفْعُ؛ لأنَّ عِلْمَ السِّحرِ من أَخَسِّ العُلومِ وأَقْبَحِها، وقد صرَّحَ اللهُ جلَّ وعلا في المُحْكَمِ المُنَزَّلِ في سورةِ البقرةِ أنَّ تعلُّمَه يَضُرُّ ولا ينفَعُ، فهو ضَرَرٌ مَحْضٌ لا نَفْعَ فيه، كما قال تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [البقرة: 102] ، ولكنَّ اللهَ قد نَفَعَ هؤلاءِ القومَ بهذا العِلْمِ الخسيسِ الخبيثِ، فتبيَّنَ أنَّ قولَهُ: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [البقرة: 102] من جميعِ الحَيْثِيَّاتِ غيرِ هذه الحَيْثِيَّةِ وهو انتفاعُهم به أنَّهم كانوا عالِمينَ بالسِّحرِ، عارِفينَ بِحُدودِه الَّتي يَنتهي إليها، فلمَّا جاءتِ العصا والْتَقَمَتْ جميعَ الحِبالِ والعِصِيِّ، ولم يَجِدوا حبلًا ولا عصا، عرَفوا أنَّ هذا مِنَ اللهِ؛ لأنَّهم يَعرِفونَ السِّحرَ، ويَعرِفونَ مدى تأثيرِه، فمعرفتُهم بالسِّحرِ كانت نَفْعًا لهم؛ بأنْ عرَفوا أنَّ العصا ليسَتْ من جِنْسِ السِّحرِ، فلو كانوا جاهِلينَ بالسِّحرِ لظنُّوا أنَّ عصا موسى من جنْسِ السِّحرِ والشَّعوذةِ، وهُمْ لَمَّا عرَفوا السِّحرَ تمامًا عرَفوا أنَّ البُرهانَ خارجٌ عن طَوْرِ السِّحرِ، وأنَّه لا يدخُلُ فيه، وأنَّه أمْرٌ إلهيٌّ .

قولُ اللهِ تعالى: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، وقولُهُ: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا يدُلُّ على أنَّ فِعْلَ العبْدِ لا يحصُلُ إلَّا بتخليقِ اللهِ وقضائِه .

قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ فيه دليلٌ على أنَّ ظُهورَ الآيةِ موجِبٌ للإيمانِ عِند مَنْ ظهرتْ له، ولو أنَّ الرَّسولَ غيرُ مُرْسَلٍ إليه .

قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، لماذا خصَّهما اللهُ بالذِّكْرِ، وهما يدخُلانِ في جُملةِ العالَمينَ؟ للعلماءِ في ذلك وُجوهٌ:

الوجْهُ الأوَّلُ: خصَّهما بالذِّكْرِ بعْدَ دُخولِهما في جُملةِ العالَمينَ؛ لأنَّ فيه معنى الَّذي دعا إلى الإيمانِ به موسى وهارونُ .

الوجْهُ الثَّاني: خصَّهما بالذِّكْرِ تفضيلًا وتشريفًا؛ كقولِه: وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] .

الوجْهُ الثَّالثُ: أنَّ السَّحَرةَ لم يَكتفوا بقولِ: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، حتَّى قالوا: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ؛ لئلَّا يتوَّهمَ مُتوهِّمٌ من قومِ فرعونَ المقِرِّينَ بإلَهِيَّتِه أنَّ السُّجودَ له .

الوجْهُ الرَّابِعُ: تخصيصُهما بإضافةِ رُبوبيَّةِ اللهِ تعالى لهما؛ لأنَّ ربوبيَّةَ موسى وهارونَ لها اختِصاصٌ زائدٌ على الرُّبوبيَّةِ العامَّةِ للخَلْقِ؛ فإنَّ مَنْ أَعْطاه اللهُ مِنَ الكمالِ أكثَرَ ممَّا أَعْطى غيرَهُ فقدْ ربَّه وربَّاه رُبوبيَّةً وتربيةً أكمَلَ من غيرِهِ .

قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا، لَمَّا خافَ فرعونُ أنْ يكونَ إيمانُ السَّحرةِ حُجَّةَ قومِهِ أَلْقى في الحالِ نوعَيْنِ مِنَ الشُّبَهِ؛ أحدُهما: أنَّ هذا تواطُؤٌ منهم لا أنَّ ما جاء به حقٌّ. والثَّاني: أنَّ ذلك طَلَبٌ منهم للمُلْكِ .

قولُ اللهِ تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، قولُ فرعونَ: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؛ لِيُخَوِّفَهم من خطَرِ المُخالَفةِ له بما رجَّاهم فيه من إِذْنِه .

قولُ اللهِ تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ... إلى قولِه: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، طوَّلَ الكلامَ؛ تَبْيينًا لِمَا أرادوا، وتَنْسيَةً لخاطِرِ الإيمانِ .

قولُ اللهِ تعالى على لسانِ فرعونَ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، لَمَّا ظهرتِ الحُجَّةُ عادَ إلى عادةِ مُلوكِ السُّوءِ- إذا غُلِبوا- وهي تَعذيبُ مَنْ ناوَأَهم، وإنْ كان مُحِقًّا .

قولُ اللهِ تعالى: وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ فيه أنَّ الدِّينَ عِند اللهِ الإسلامُ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ .

قولُ اللهِ تعالى: وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ استَدَلَّ به مَنْ قال: إنَّ الإيمانَ والإسلامَ واحدٌ؛ فإنَّهم قالوا أوَّلًا: آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا، ثمَّ قالوا ثانيًا: وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ

 

.

بلاغة الآيات :

 

قوله: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فيه التعبيرُ عن الماضِي بصِيغةِ المضارعِ؛ للدَّلالةِ على التَّجديدِ والتَّكريرِ، مع استحضارِ صُورةِ اللَّقف الهائلةِ

.

قوله: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَتَى بقولِه: وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، بعْدَ قولِهِ: فَوَقَعَ الْحَقُّ، مع تضمُّنِه معناه؛ لِتقريرِ مَضمونِ جُملةِ: فَوَقَعَ الْحَقُّ لتَسجيلِ ذَمِّ عَمَلِهم، والنِّداءِ بِخَيْبَتِهم؛ تأنيسًا للمُسلِمينَ، وتهديدًا للمشركينَ، وللكافرينَ أمثالها .

قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، وقال في سورةِ الشُّعراءِ مِثْلَه: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الشعراء: 47- 48] ، وقال في سورةِ طه: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه: 70] ، كرَّرَ ذِكْرَ رَبِّ في السُّورتَيْنِ، ولم يُكرِّرْه في سورةِ طه؛ لأنَّه إذا قيل: بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فقدْ دخَلَ فيهم موسى وهارونُ، وهما دَعَوَا إلى ربِّ العالَمينَ لَمَّا قالَا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16] ، إلَّا أنَّه كرَّر في السُّورتَيْنِ: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ؛ ليدُلَّ بتَخصيصِهما بعْدَ العُمومِ على تَصديقِهم بما جاءَا به عليهما السَّلامُ عن اللهِ تبارَكَ وتعالى، فكأنَّهم قالوا: آمَنَّا برَبِّ العالَمينَ، وهو الَّذي يَدْعو إليه موسى وهارونُ.

وأمَّا في سورةِ طه فَلَمْ يذكُرْ: بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لأنَّه هنا تتمة للآيةِ رعايةً للفواصلِ، كما في السُّورتَيْنِ، فيكونُ مَقْطَعُ الآيةِ فاصلةً مُخالِفةً للفواصلِ الَّتي بُنِيَتْ عليها سورةُ طه، فقال تعالى: آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه: 70] ، وربُّهما هو ربُّ العالَمينَ، وكان القَصْدُ حِكايةَ المعنى، لا أداءَ اللَّفْظِ .

قولُه: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

قولُه: آمَنْتُمْ بِهِ بهمزةٍ واحدةٍ إمَّا على الإخبارِ المحضِ المتضمِّنِ للتوبيخِ، أو على الاستفهامِ التوبيخيِّ بحذفِ الهمزةِ، ومعناه الإنكارُ والاستبعادُ .

وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، وقال في سورتَيْ طه والشُّعراءِ: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه: 71، الشعراء: 49]، فأَظهرَ اسْمَ فرعونَ- لَعَنه اللهُ- في سورةِ الأعرافِ في هذا اللَّفظِ، وأَضمَرَه في مِثلِه من سورتَيْ طه والشُّعراءِ؛ وذلك لأنَّ إظهارَ اسْمِ فرعونَ في سورةِ الأعرافِ؛ لأنَّه جاء في الآيةِ العاشرةِ من الآيِ الَّتي أَضْمَرَ فيها ذِكرَه، وهي قولُه: قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وجاء في الآيةِ العاشرةِ من هذه السُّورةِ: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ، ولم يَبْعُدْ هذا الذِّكْرُ في الآيتَيْنِ اللَّتَيْنِ في سورةِ طه والشُّعراءِ؛ لأنَّ فرعونَ مذكورٌ في سورةِ طه في جُملةِ قومِهِ الَّذينَ أَخْبَرَ عنهم بقولِه: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى [طه: 57] وبعْدَه: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه: 60- 61] ، وهذا خِطابُه لفِرعونَ وقومِه، وضَميرُهم مُنْطَوٍ على ضميرِه إلى قولِه: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا [طه: 64] .

والذِّكرُ في قولِه: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ [طه: 71] إنَّما هو السَّابعُ من الآيِ الَّتي جَرى ذِكْرُه فيها، وكذلك في سورةِ الشُّعراءِ لم يَبْعُدِ الذِّكْرُ بعْدَه كما في سورةِ الأعرافِ، ألا ترى أنَّ آخِرَ ما ذَكَرَ فيما اتَّصلَ بهذه الآيةِ قولُه تعالى: قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 42] ، وذَكَرَهُ بعْدَ ذلك في الآيةِ الثَّامنةِ من الآيِ الَّتي جَرى ذِكْرُه فيها، فلمَّا بَعُدَ الذِّكرُ في سورةِ الأعرافِ خِلافَ بُعْدِهِ في السُّورتَيْنِ؛ إذْ كان في إحْداهما في السَّابعةِ، وفي الأُخْرى في الثَّامنةِ، وفي الأعرافِ في العاشرةِ أُعيدَ ذِكْرُه الظَّاهرُ لذلك .

ومن المُناسَبةِ الحَسنةِ أيضًا أنَّه قال تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: آمَنْتُمْ بِهِ، وقال في الموضعَيْنِ الآخَرَيْنِ: آمَنْتُمْ لَهُ [طه: 71، والشعراء: 49]؛ ووجهُ ذلك: أنَّ الباءَ في سورة الأعراف في قولِه: آمَنْتُمْ بِهِ واللَّامَ في آمَنْتُمْ لَهُ في طه والشعراء مُحتاجٌ إلى كلِّ واحدةٍ منهما من حيث إنَّ التَّصديقَ والانقيادَ معنيانِ يُحتاجُ إليهما؛ فالباءُ تُحْرِزُ التَّصديقَ، واللَّامُ تُحْرِزُ الانقيادَ والإذعانَ، فبُدِئَ بالباءِ المُعْطيةِ معنى التَّصديقِ، وهى أخصُّ بالمقصودِ من اللَّامِ، فاقتضى التَّرتيبُ تقديمَها، ثمَّ أُعْقِبَ في السُّورتَيْنِ بَعْدُ باللَّامِ، حتَّى كأنْ قد قيل لهم: أصدَّقتْموه مُنقادينَ له في دعائِه إيَّاكم إلى الإيمانِ بما جاء من عِند اللهِ؟! فحصَلَ المقصودُ على أكملِ ما يُمكِنُ .

وقيل: إنَّ وجْهَ ذلك أنَّ الهاءَ في قولِه: آمَنْتُمْ بِهِ غيرُ الهاءِ في قوله: آمَنْتُمْ لَهُ [طه: 71، والشعراء: 49]، وكلُّ واحدةٍ تَعودُ إلى غيرِ ما تَعودُ إليه الأُخْرى؛ فالَّتي في آمَنْتُمْ بِهِ تعودُ إلى ربِّ العالَمينَ؛ لأنَّه تعالى حَكى عنهم أنَّهم: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وهو الَّذي دعا إليه موسى عليه السَّلامُ، وأمَّا الهاءُ في قولِه: آمَنْتُمْ لَهُ في طه والشعراء تعودُ إلى موسى عليه السَّلامُ. وقيل: يجوز أنْ يكونَ الهاءُ في آمَنْتُمْ بِهِ ضمير موسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّه يُقالُ: آمَنَ بالرَّسولِ، أي: أظهرْتُم تصديقَه، وأقدمْتُم على خِلافي قبْلَ أنْ آذَنَ لكم فيه، وهذا مكرٌ مَكَرْتُموه، وسِرٌّ أَسْرَرْتُموه؛ لِتقلبوا النَّاسَ عليَّ؛ فاقتَضَى هذا الموضعُ الَّذي ذُكِرَ فيه المكرُ إنكارَ الإيمانِ به، فأمَّا الإيمانُ له في الموضعَيْنِ الآخَرَيْنِ؛ فاللَّامُ تُفيدُ معنى الإيمانِ من أَجْلِه، ومن أَجْلِ ما أَتى به من الآياتِ، فكأنَّه قال: آمَنْتُم بربِّ العالَمينَ لِأَجْلِ ما ظهَرَ لكم على يَدَيْ موسى عليه السَّلامُ من آياتِه، والموضعُ الَّذي ذُكِرَ فيه (له)، أي: مِنْ أَجْلِه، وعُبِّرَ عنه باللَّامِ، هو الموضعُ الَّذي قَصَدَ فيه إلى الإخبارِ بـإِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71، والشعراء: 49]؛ فلذلك خُصَّ باللَّامِ، والأوَّلُ خُصَّ بالباءِ، وقد تدُلُّ اللَّامُ على الاتباعِ؛ فيكونُ المعنى: اتَّبعتُموه؛ لأَنَّهُ كبيرُكم في عَمَلِ السِّحرِ، وقد يُؤمِنُ بالخبرِ مَنْ لا يعملُ عليه، ولا يتَّبِعُ الدَّاعيَ إليه .

وقولُه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وعيدٌ ساقَه بطريقِ الإجمالِ؛ للتهويلِ، ثمَّ عقَّبه بالتَّفصيلِ .

قولُه تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ

فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: فَسَوْفَ تَعْمَلُونَ، وقال في سورةِ طه: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ [طه: 71] ، وقال في سورةِ الشُّعراءِ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ [الشعراء: 49] ، فقال في سورةِ الأعرافِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، ولم يَقُلْهُ في سورةِ طه، وإنَّما أَدْخَلَ الفاءَ على قولِه: فَلَأُقَطِّعَنَّ [طه: 71] ، وأمَّا في سورةِ الشُّعراءِ فإنَّه أتى بـ(سَوْفَ تَعْلَمُونَ) مع اللَّامِ فقال: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الشعراء: 49] ؛ وذلك لأنَّ قولَه تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ من الوعيدِ المُبْهَمِ، وهذا النَّوْعُ من الوعيدِ أَبْلَغُ مِنَ الإفصاحِ بقَدْرِه، على أنَّه قد قَرَنَ إليه بيانَه، وهو: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ الآيةَ، فنَطَقَ القرآنُ بحكايةِ التَّعريضِ بالوعيدِ، والإفصاحِ بالتَّهديدِ معًا. وأمَّا اختصاصُ سورةِ الشُّعراءِ بقولِه: فَلَسَوْفَ وزيادةِ اللَّامِ؛ فلتقريبِ ما خوَّفَهم به من اطِّلاعِهم عليه وقُرْبِه منهم، حتَّى كأنَّه في الحالِ موجودٌ؛ إذِ اللَّامُ للحالِ، فالجَمْعُ بينها وبين (سوف) الَّتي للاستقبالِ إنَّما هو لتحقيقِ الفِعْلِ، وإدنائِه مِنَ الوُقوعِ، وقد بيَّنَّا أنَّ سورةَ الشُّعراءِ أَكْثَرُ اقتصاصًا لأحوالِ موسى عليه السَّلامُ في بَعْثِه، وابتداءِ أمْرِه، وانتهاءِ حالِه مع عدُوِّه، فجَمَعَتْ لفظَ الوعيدِ المُبْهَمِ مع اللَّفظِ المُقرِّبِ له، المُحَقِّقِ وُقوعَه، إلى اللَّفظِ المُفصِحِ بمعناه، ثمَّ وقَعَ الاقتصارُ في السُّورةِ الَّتي لم يُقْصَدْ فيها من اقتصاصِ الحالِ ما قُصِدَ في سورةِ الشُّعراءِ على ذِكْرِ بعضِ ما هو في مَوْضِعِ التَّفصيلِ والشَّرْحِ، وهو التَّعريضُ بالوَعيدِ مع الإفصاحِ به. وأمَّا في سورةِ طه فإنَّه اقتصر على التَّصريحِ بما أَوْعَدَهم به، وتَرَكَ: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)، وقال: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ [طه: 71] ، إلَّا أنَّه جاء بَدَلَ هذه الكلمةِ ما يُعادِلُها ويُقارِبُ ما جاء في سورةِ الشُّعراءِ الَّتي هي مِثْلُها في اقتصاصِ أحوالِه من ابتدائِها إلى حين انتهائِها، وهو قولُه بَعْدَهُ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه: 71] ، فاللَّامُ والنُّونُ في: (لَتَعْلَمُنَّ) للقَسَمِ، وهما لتحقيقِ الفعْلِ وتوكُّدِه، كما أنَّ اللَّامَ في قولِه: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الشعراء: 49] لإدناءِ الفعْلِ وتقريبِه، فقدْ تجاوَزَ ما في السُّورتَيْنِ المقصودَ فيهما إلى اقتصاصِ الحالِ من إعلاءِ الحقِّ وإزهاقِ الباطلِ .

وقولُه تعالى: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، وقال في سورتَيْ طه والشُّعراءِ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ [طه: 71، والشعراء: 49]، فاخْتَصَّتْ ما في سورةِ الأعرافِ بـ(ثُمَّ) والأُخْرَيَيْنِ بالواوِ، والمُتوعَّدُ به واحدٌ في الموضعَيْنِ؛ فإنَّ السُّورتَيْنِ اللَّتَيْنِ اختصَّتا بالواوِ هما المَبْنِيَّتانِ على الاقتصاصِ الأكثرِ، والتَّفصيلِ الأوْسَعِ، والواوُ أشبَهُ بهذا المعنى؛ لأنَّه يجوز أنْ يكونَ ما بعْدَها مُلاصِقًا لِمَا قبْلَها، كالتَّعقيبِ الَّذي يُفادُ بالفاءِ، ويجوز أنْ يكونَ مُتراخيًا عنه، كالمُهْلَةِ الَّتي تُفادُ بـ(ثمَّ)، لا، بَلْ يجوز أنْ يكونَ ما بعْدَها مُقدَّمًا على ما قبْلَها، ومُجامِعًا لها؛ إذْ هي موضوعةٌ للجَمْعِ، ولا ترتيبَ فيها، فكانت الواوُ أَشْبَهَ بهذَيْنِ المكانَيْنِ، و(ثم) تختصُّ بأحَدِ المواضعِ الَّتي تَصْلُحُ الواوُ لجميعِها، فلمَّا كانت مُقْتَصَرًا بها على بعضِ ما وُضِعَتْ له الواوُ، استُعْمِلَتْ حيث اخْتُصِرَتِ الحالُ، فاقتَرَنَ بكُلِّ مكانٍ ما يَليقُ بالمقصودِ فيه .

وقيل: لأنَّ (ثمَّ) تدُلُّ على أنَّ الصَّلْبَ يقَعُ بعْدَ التَّقطيعِ، وإذا دلَّ في الأولى عُلِمَ في غيرِها، ولأنَّ موضِعَ الواوِ تصلُحُ له (ثمَّ) .

وقيل: إنَّ (ثمَّ) للتَّبايُنِ والتَّراخي في الزَّمانِ، وتكون للتَّباينِ في الصِّفاتِ والأحكامِ، وغيرِ ذلك مما يُحْمَلُ به ما بعْدَها على ما قبْلَها من غيرِ قصْدِ مُهْلَةٍ زمانيَّةٍ، بل لِيُعْلَمَ موقعُ ما يُعْطَفُ بها وحالُه، وأنَّه لو انفَرَدَ لكان كافيًا فيما قُصِدَ به، ومنه قولُه تعالى: وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] ، فَلَمْ يُقْصَدْ في هذا ترتيبٌ زمانيٌّ، بل تعظيمُ الحالِ فيما عُطِفَ، وموقعُه ومكانتُه، وتحريكُ النُّفوسِ لاعتبارِه، ولَمَّا تقدَّمَ في الأعرافِ تهويلُ الواقعِ من فِعْلِ السَّحرةِ وموقعُه من نُفوسِ الحاضرينَ؛ آنَسَ سُبحانَه نبيَّه موسى عليه السَّلامُ بقولِه: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى [طه: 68] ، ووقَعَ التَّعبيرُ عما ذكَرْنا بقولِه: وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ، فناسَبَه- رَعْيًا لفظيًّا وتقابُلًا نَظْميًّا- تهويلُ ما توعَّدهم به فرعونُ، فعُطِفَ بـ(ثُمَّ)؛ لِتَحَرُّزِ ما قَصَدَ فرعونُ من تعظيمِ موقِعِ ما توعَّدهم به ثانيًا في قولِه: لَأُصَلِّبَنَّكُمْ عليهم، وأيضًا فإنَّ فرعونَ وملأَه حين رَأَوْا ما جاءت به السَّحرةُ، ووَقَعَ منهم موقعًا أَطْمَعَهم، وتعلَّقَ به رجاؤُهم، ثمَّ لَمَّا وقَعَ ما أَبْطَلَه، وأَوْضَحَ كيْدَهم فيه وباطِلَهم الخياليَّ وجَدَ الملأُ لذلك، واستشعرَ فِرعونُ ما حلَّ به وبملئِه، فهَوَّلَ في توعُّدِهم ومقالِه؛ تجلُّدًا وتصبُّرًا، أو تعزيةً لنفسِه عمَّا نَزَلَ به، فأَرْعَدَ وأَبْرَقَ في تهويلِه ما توعَّد به السَّحرةُ، فقال: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ، فقدْ تناسَبَ المُتقابِلانِ لفظًا ومعنًى، ولَمَّا ضُمَّ الواقعُ في سورةِ الشُّعراءِ لم يُحْتَجْ إلى هذا الرَّعْيِ، فعُطِفَ بالواوِ، ولم يكُنْ على ما تقرَّر لِيُمْكِنَ العكْسُ .

قوله: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ استئنافٌ مسوقٌ للجوابِ عن سُؤالٍ ينساقُ إليه الذِّهنُ، كأنَّه قيل: فماذا قال السَّحَرةُ عندما سَمِعوا وعيدَ فِرعون؛ هل تأثَّرُوا به أمْ تَصلَّبوا فيما هم فيه مِن الدِّين؟ فقيل: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ .

وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هنا في سورةِ الأعرافِ: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ، وقال في سورةِ الشُّعراءِ: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ [الشعراء: 50] ، بزيادةِ قولِه: لَا ضَيْرَ على ما ذَكَرَ في سُورةِ الأعرافِ؛ وذلك لأنَّ السَّحرةَ قابَلوا وعيدَ فرعونَ بما يُهَوِّنُه، ويُزيلُ أَلَمَه من انتقالِهم إلى ثوابِ ربِّهم، مع التَّحقُّقِ من مُنْقَلَبِ مُعَذِّبِهم فِرعونَ، فجاء في سورةِ الشُّعراءِ- وهي الَّتي قُصِدَ بها الاقتصاصُ الأكبرُ-: لَا ضَيْرَ [الشعراء: 50] ، أي: لا ضَرَرَ علينا؛ فإنَّ مُنْقَلَبَنا إلى جزاءِ ربِّنا؛ فنَنْعَمُ أبدًا، وتُعَذَّبُ أنتَ أبدًا، فالضَّررُ الَّذي تُحاوِلُ إنزالَه بنا بكَ نازِلٌ، وعليك مُقيمٌ، ونحن نَأْلَمُ ساعةً لا يُعْتَدُّ بها مع دوامِ النَّعيمِ بعْدَها، وفي سورةِ الأعرافِ وقَعَ الاقتصارُ على قولِه: إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ، وفيه كِفايةٌ وإبانةٌ عن هذا المعنى، ودَلالةٌ على ما قُصِدَ فيها ممَّا بُيِّنَ وشُرِحَ في سواها .

وقيل: إنَّ قولَه: لَا ضَيْرَ [الشعراء: 50] مُقابَلٌ به ما تقدَّمَ من قولِه: وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ [الشعراء: 44] ؛ لِمَا اعتقدوه أوَّلًا أنَّ له عِزَّةً، ونَسَبوها إليه، فظنُّوا أنَّه يَقْدِرُ على ما يُريدُه، ويستبِدُّ بفعلِه، ثمَّ لَمَّا وَضَحَ لهم الحقُّ، ورجَعُوا عن اعتقادِهم، وعلِموا أنَّ القُدرةَ والعِزَّةَ لله سُبحانَه، وسلَّموا لخالِقِهم، ولم يُبالوا بفِرعونَ وملئِه، فقالوا: لَا ضَيْرَ، أي: لا ضَرَرَ، ولا خوفَ من فرعونَ؛ إذ العِزَّةُ للهِ وحْدَه، ولَمَّا لم يقَعْ من قولِهم في الأعرافِ أوَّلًا مِثْلُ الواقعِ هنا، لم يَجيئوا في الجوابِ بما جاؤوا هنا، فافتَرَقَ الموضعانِ، وجاء كلٌّ على ما يُناسِبُه .

قوله: وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ فيه تأكيدُ المدحِ بِما يُشبِهُ الذمَّ، أو المدحُ في مَعرِض الذَّمِّ، حيثُ استثنَى مِن صِفةِ الذَّمِّ المنفيَّةِ عن الشَّيءِ، وهي: وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا، صِفةَ مَدْحٍ لذلك الشَّيءِ بتقديرِ دُخولِها في صِفة الذمِّ فقال: إِلَّا أَنْ آمَنَّا...، وهو نوعٌ طريفٌ مِن أنواع البَلاغةِ .

وقولُهم: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا أَكْمَلُ مِن أنْ يقولوا: (أنزِلْ علينا صبرًا)؛ لأنَّ إفراغَ الإناءِ هو صَبُّ ما فيه بالكُلِّيَّةِ، فكأنَّهم طلَبوا مِنَ اللهِ تعالى كُلَّ الصَّبْرِ لا بعضَه ، والمقصودُ مِن ذلك: الكنايةُ عن قُوَّةِ الصَّبرِ؛ لأنَّ إفراغَ الإناءِ يستلزمُ أنَّه لم يَبْقَ فيه شيءٌ ممَّا حواه؛ لأنَّه لَمَّا كان وعيدُ فِرعونَ ممَّا لا تُطيقُه النُّفوسُ، سألوا اللهَ تعالى أنْ يَجعلَ لنُفوسِهم صبرًا قويًّا، يفوقُ المتعارَف .

وتَنكيرُ الصَّبرِ في قولِه: صَبْرًا مُفصِحٌ عن التَّفخيمِ، وفيه مِن الجَزالةِ ما لا يَخفَى، حيثُ يدلُّ على الكَمالِ والتَّمامِ، أي: صبرًا كاملًا تامًّا .

================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (127-129)

ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ

غريب الكلمات :

 

قَاهِرُونَ: أي: غالِبونَ، أو عالُونَ، والقَهْرُ: الغَلَبَةُ والتَّذليلُ معًا، وأَصْلُ (قهر): يَدُلُّ على غَلَبَةٍ وَعُلُوٍّ

.

وَيَسْتَخْلِفَكُمْ: أي: يَجعلَكم تَخْلُفونَ مَن قَبْلَكم، والخِلافةُ: النِّيابةُ عن الآخَرِ، وخَلَفَ فلانٌ فلانًا: قام بالأمْرِ عنه، إمَّا معه وإمَّا بَعدَه، وأصْلُه: مجيءُ شيءٍ بعْدَ شيءٍ يقوم مَقامَه

 

.

المعنى الإجمالي :

 

وقال الأشرافُ من قومِ فِرعونَ له: أتترُكُ موسى وقومَه المؤمنين من بني إسرائيلَ ليُفسِدوا في الأرضِ، ويترُكَ عِبادتَك، وعِبادةَ آلهتِك؟! قال فِرعونُ مُجيبًا لهم: سنُقتِّلُ أبناءَهم، ونَستحي نِساءَهم، وإنَّا عالُون فوْقَهم.

قال موسى لقومِه: استعينوا باللهِ واصبِروا؛ إنَّ الأرضَ للهِ يُورِثُها مَنْ يشاءُ من عِبادِه، والعاقبةُ المحمودةُ تكون لِمَنِ اتَّقى اللهَ تعالى.

قال بنو إسرائيلَ لموسى: آذانا فرعونُ وقومُه مِنْ قَبْلِ أنْ تأتيَنا، ومن بَعْدِ مَجيئِك بالرِّسالةِ أيضًا، قال لهم موسى: عسى ربُّكم أنْ يُهلِكَ عدُوَّكم فرعونَ وقومَه، ويجعلَكم خُلفاءَ في الأرضِ مِنْ بَعْدِ هلاكِهم، فينظُرَ كيف سيكون عَمَلُكم.

تفسير الآيات :

 

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ

أي: وقال الأشرافُ من قومِ فرعونَ وكُبراءِ رجالِه له: أتترُكُ موسى وقومَه المؤمنين مِن بني إسرائيلَ مِن غيْرِ أنْ تُعاقبَهم، وتضرِبَ على أيدِيهم، فيُفسِدوا عليك رَعيَّتَك في أرضِ مِصْرَ بعبادةِ اللهِ وحْدَه من دونِكَ، والدَّعوةِ إليه، وإلى التَّمسُّكِ بالفضائلِ ومكارمِ الأخلاقِ

؟!

وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ

أي: أتترُكُ موسى وقومَه يُفسِدون في الأرضِ، والحالُ أنَّه يَترُكُ عِبادتَك- يا فرعونُ- وعِبادةَ آلِهتِك ، ويَنهى النَّاسَ عنكَ وعن عِبادتِها ؟!

كما قال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون: 45- 47] .

قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ

أي: قال فرعونُ مُجيبًا لملئِه: سنُقتِّلُ الأبناءَ الذُّكورَ من أولادِ بني إسرائيلَ .

كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [غافر: 25] .

وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ

أي: ونَستبقي الإناثَ منهم، فلا نقتُلُهُنَّ .

وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ

أي: قال فِرعونُ: وإنَّا عالون على بني إسرائيلَ مُذلِّلون لهم؛ فلا خُروجَ لهم عن حُكْمِنا .

قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)

قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا

أي: قال موسى لقومِه من بني إسرائيلَ: اطْلُبوا العَوْنَ من اللهِ تعالى على فِرعونَ وقومِه، واصْبِروا على ما يَحِلُّ بكم من المَكارِهِ في أنفُسِكم وأبنائِكم ونسائِكم؛ حتَّى يُنجِّيَكم اللهُ بفضْلِه من ظُلمِهم .

إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ

أي: قال موسى لقومِه: إنَّ الأرضَ كُلَّها للهِ، وليسَتْ لفرعونَ ولا لقومِه، يُقدِّرُ اللهُ تعالى لِمَنْ يشاءُ من العِبادِ مِلْكَ شيءٍ منها، ثمَّ ينزِعُه منه، ويُداوِلُه بين النَّاسِ، وَفْقَ مشيئتِه وحِكْمتِه .

كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26] .

وقال سُبحانَه: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140] .

وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

أي: والحالُ الحَسنةُ المَحمودةُ في الدُّنيا والآخِرةِ تكون في آخِرِ الأمرِ للَّذينَ يتَّقونَ اللهَ عزَّ وجلَّ؛ بفِعْلِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيه .

كما قال سُبحانَه: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه: 132] .

وقال تعالى للمؤمنينَ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 120] .

وقال تعالى عن إنجائِه يُوسُفَ عليه السَّلامُ من كَيْدِ إِخْوَتِه وغيرِهم: قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 89-90] .

قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا

أي: قال بنو إسرائيلَ لموسى: آذانَا فرعونُ وقومُه بقتْلِ أبنائِنا، واستحياءِ نسائِنا، وإذْلالِنا مِنْ قَبْلِ مجيئِكَ برسالتِكَ- يا موسى- ومِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا كذلك .

قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ

أي: قال موسى لقومِه: أَرْجو لكم مِن خالِقِكم ومُدبِّرِ شُؤونِكم أنْ يُهلِكَ عدُوَّكم فرعونَ وقومَه .

وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ

أي: وأنْ يَجعَلَكم خُلفاءَ في أرضِهم مِنْ بَعْدِ إهلاكِهم، فيُمَكِّنَكم فيها .

فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ

أي: فيَرى اللهُ عزَّ وجلَّ ما تَعمَلونه حينذاكَ من خيرٍ وشرٍّ، وشُكْرٍ وكُفْرٍ، فيُجازِيَكم عليه

 

.

كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 13-14] .

الفوائد التربوية :

 

1- قولُه تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ كُلَّ مَنِ اتَّقى اللهَ تعالى وخافَه فاللهُ يُعينُه في الدُّنيا والآخرةِ

.

عُلِمَ من قولِه: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أنَّ مَنْ يشاء اللهُ أنْ يُورِثَهم الأرضَ هُمُ المتَّقونَ إذا كان في النَّاسِ مُتَّقونَ وغيرُهم، وأنَّ تمليكَ الأرضِ لغيرِهم إمَّا عارِضٌ، وإمَّا لاستواءِ أهلِ الأرضِ في عدمِ التَّقْوى .

2- قال تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، المتَّقونَ بمنزِلةِ مَنْ أكَلَ الطَّعامَ النَّافعَ، واتَّقى الأطعمةَ المُؤذيةَ؛ فَصَحَّ جِسمُه، وكانت عاقبتُه سَليمةً، وغيرُ المتَّقي بمنزلةِ مَنْ خَلَطَ مِنَ الأطعمةِ؛ فإنَّه وإنِ اغْتَذَى بها لكنَّ تلك التَّخاليطَ قد تُورِثُه أمراضًا إمَّا مؤذيةً؛ وإمَّا مُهْلِكَةً .

3- قال تعالى: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، هذه الآيةُ الكريمةُ فيها وعيدٌ شديدٌ، وتخويفٌ عظيمٌ، لِمَنِ اسْتَخْلَفَه اللهُ في الأرضِ- بَعْدَ عدُوِّه الَّذي كان يُقاوِمُه- وَبَسَطَ يَدَهُ بالأرضِ، فإذا كان عِنده عَقْلٌ فإنَّه يخافُ من نَظَرِ اللهِ إليه كيف يَفْعَلُ؛ فيُطيعُ اللهَ في كُلِّ ما يفعَلُ، كما لا يَخفى، فهذه من أعظمِ المواعظِ وأكبرِها الَّتي يَعِظُ اللهُ بها الَّذينَ يُسْتَخْلَفونَ في الأرضِ بعْدَ الَّذينَ كانوا فيها .

4- قوله تعالى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يدُلُّ على أنَّ المُسْتَخْلَفينَ في الأرضِ لم يُسْتَخْلَفوا فيها لأَجْلِ الإنعامِ بها عليهم، بل كُلُّ ذلك للابتلاءِ والامتحانِ، فيَنظُر اللهُ تعالى هل يُطيعونَه فيما اسْتَخْلَفَهم فيه أو يَعْصونَه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قال تعالى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، في وَعْدِ موسى تبشيرٌ لقومِه بالنَّصرِ وحُسْنِ الخاتمةِ؛ فنتيجةُ طَلَبِ الإعانةِ توريثُ الأرضِ لهم، ونتيجةُ الصَّبرِ العاقبةُ المحمودةُ، والنَّصرُ على مَنْ عاداهم؛ فلذلك كان الأمرُ بشيئَيْنِ يَنْتِجُ عنهما شيئان

.

2- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ جِيءَ فيه بلفظَيْنِ عامَّينِ، وهما: مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ و(المتَّقينَ)؛ لِتَكونَ الجُملتانِ تَذْييلًا للكلامِ، ولِيَحْرِصَ السَّامعونَ على أنْ يكونوا مِنَ المتَّقينَ .

3- قولُ اللهِ تعالى: قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ، عبَّرَ بـ(عَسَى) ولم يَقْطَعْ بالوَعْدِ؛ لئلَّا يُكذِّبوه؛ لِضَعْفِ أنفُسِهم بما طالَ عليهم مِنَ الذُّلِّ والاسْتِخذاءِ لفرعونَ وقومِه، واستعظامِهم لِمُلْكِه وقُوَّتِه .

4- قولُ اللهِ تعالى: قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْض، لا تَنافِيَ بين هذا الرَّجاءِ وبين قولِه: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ من حيثُ إنَّ الرَّجاءَ غيرُ مقطوعٍ بحُصولِ مُتَعَلَّقِه، والإخبارَ بأنَّ العاقبةَ للمُتَّقينَ واقِعٌ لا مَحالةَ؛ لأنَّ العاقبةَ إنْ كانت في الآخرةِ فَظاهِرٌ عَدَمُ التَّنافي، وإنْ كانت في الدُّنيا فليس فيها تصريحٌ بعاقبَةِ هؤلاءِ القومِ المخصوصين؛ فسَلَكَ موسى طريقَ الأدَبِ مع اللهِ، وساقَ الكلامَ مَساقَ الرَّجاءِ .

5- قولُ اللهِ تعالى: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وهو سُبحانَه يَعلمُ ماذا سيكون قبْلَ أنْ يكونَ، ولكنَّها سُنَّةُ اللهِ وعَدْلُه ألَّا يُحاسِبَ البَشَرَ حتَّى يقَعَ منهم في العِيَانِ ما هو مكشوفٌ مِنَ الغَيْبِ؛ لِعِلْمِه القديمِ، فهو سبحانه لا يُجازيهم على ما يَعلَمه منهم من خَطيئاتِهم الَّتي يعلَمُ أنَّهم عامِلوها لا مَحالةَ، إنَّما يُجازيهم على ما وقَعَ منهم

 

.

بلاغة الآيات :

 

قولُه: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ

جُملةُ: قَالَ الْمَلَأُ عَطْفٌ على جُملةِ: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ، أو على جُملةِ: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، وإنَّما عُطِفَتْ ولم تُفْصَلْ؛ لِأَنَّها خارِجةٌ عَنِ المُحاوَرَةِ الَّتي بَيْنَ فرعونَ ومَنْ آمَنَ مِنْ قومِهِ بموسى وآياتِه؛ لأنَّ أولئك لم يُعَرِّجوا على ذِكْرِ ملأِ فرعونَ، بل هي مُحاوَرَةٌ بَيْنَ ملأِ فرعونَ وبَيْنه في وقتٍ غيرِ وقتِ المُحاوَرةِ الَّتي جَرَتْ بين فرعونَ والسَّحرةِ

.

والاستفهامُ في قولِهم: أَتَذَرُ مُوسَى مُستعمَلٌ في الإغراء بإهلاكِ موسى وقومِه، والإنكارِ على الإبطاءِ بإتْلافِهم .

وقولهم: لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ اللام في قوله: لِيُفْسِدُوا لامُ التعليل، وهو مبالغةٌ في الإنكار؛ إذ جَعَلوا تَرْكَ موسى وقومِه مُعلَّلًا بالفسادِ، وهذه اللام تُسمَّى لامَ العاقبة .

قوله: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ تشديدُ التاءِ في سَنُقَتِّلُ للمبالغةِ في القَتْلِ مُبالغةَ كَثرةٍ واستيعابٍ، والاستحياء مبالغةٌ في الإحياءِ؛ فالسِّينُ والتاءُ في وَنَسْتَحْيِي للمُبالغةِ أيضًا .

قوله: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

قوله: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ كرَّرَ لفظ الجلالة، وأظهرَه في موضعِ الإضمارِ؛ تذكيرًا بالعَظَمَةِ، وتصريحًا، وتبركًا .

قوله: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ تذييلٌ وتعليلٌ للأمْر بالاستعانةِ بالله، وفيه كنايةٌ عن تَرقُّبِ زَوالِ استِعْبادِ فِرعونَ إيَّاهم، قُصِدَ منها صرفُ اليأسِ عن أنفسِهم النَّاشئِ عن مُشاهدةِ قُوَّةِ فِرعونَ وسُلطانِه .

وقوله: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ تذييلٌ بمنزلةِ تَعليلٍ ثانٍ للأمرِ بالاستعانةِ والصَّبرِ، وبهذا الاعتبارِ أُوثِرَ العطفُ بالواوِ على فَصْلِ الجُملةِ، مع أنَّ مُقتضَى التذييلِ أنْ تَكونَ الجملةُ  مَفصولةً غير مَعطوفةٍ . وفيه وعدٌ لبَنِي إسرائيلَ بالنُّصرةِ على القِبطِ، وتذكير لِمَا وعَدَهم من إهلاكِ القبطِ، وتوريثِهم أرضَهم ودِيارَهم، وتحقيقٌ له .

قوله: قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيه تصريحٌ بما رَمَز إليه مِن البِشارةِ قَبلُ، وكشفٌ عنه، وهو إهلاكُ فِرعونَ، واستخلافُهم بعدَه في أرضِ مِصرَ . وعَبَّر بـ(عَسَى) التي تدلُّ على الرجاء والطَّمعِ والإشفاقِ، ومِثلُ هذا الكلام إذا صَدَر من الأنبياءِ يُقوِّي قلوبَ أتْباعِهم، فيَصبرون إلى وُقوعِ مُتعلَّقِ الرَّجاءِ .

قوله: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ جُملةٌ تَجرِي مجرَى البعثِ والتحريضِ على طاعةِ اللهِ تعالى .

======================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (130-133)

ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات :

 

أَخَذْنَا: أي: أَصَبْنا، أو اخْتَبَرْنَا، أو كِنايةٌ عَنِ القَهْرِ، وأصل (أخذ): يدلُّ على حَوزِ الشَّيءِ وجَمْعِه

.

بِالسِّنِينَ: جَمْعُ سَنَةٍ، وهي: الجَدْبُ والقَحْطُ؛ وأكثرُ ما تُستعمَلُ السَّنَةُ في الحولِ الذي فيه الجدبُ، يُقالُ: أسْنَتَ القَومُ: إذا أَجْدَبوا، وأَصْلُ (سنه): يَدُلُّ على زَمانٍ .

يَطَّيَّرُوا: أي: يَتَشاءَموا به، وأَصْلُ (طير): التَّفاؤُلُ بالطَّيْرِ، ثمَّ اسْتُعمِلَ في كلِّ ما يُتَفاءَلُ به ويُتَشاءَمُ .

طَائِرُهُمْ: أي: شُؤْمُهم، أو حَظُّهم الَّذي قضاه اللهُ تعالى لهم مِنَ الخيرِ والشَّرِّ، فهو لازِمٌ عُنُقَهم .

الطُّوفَانَ: أي: المَطَرَ الكثيرَ، أو الماءَ الكثيرَ، والسَّيلَ العظيمَ، ويُطلَقُ الطُّوفانُ على كُلِّ حادِثَةٍ مُحيطَةٍ بالإنسانِ، فصار مُتعارَفًا في الماءِ المتناهي في الكَثْرَةِ، وأصل (طوف): يَدُلُّ على دَورانِ الشَّيءِ على الشَّيءِ، وأن يُحَفَّ به، ثُمَّ يُحمَلَ عليه .

وَالْقُمَّلَ: السُّوس يقَعُ في الحِنْطَةِ، أو صغار الجَرادِ الَّذي لا أجنِحَةَ له، وقيل: صِغارُ الذُّبابِ، وأصل (قمل): يَدُلُّ على حَقارَةٍ وقَمَاءةٍ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ اللهُ تعالى أنَّه ابْتَلى آلَ فرعونَ بالجَدْبِ والقَحْطِ وقِلَّةِ الثِّمارِ؛ لعلَّهم يَذَّكَّرونَ، وأَخْبَرَ أنَّهم إذا جاءَهم الخِصْبُ والرِّزْقُ قالوا: هذه النِّعَمُ الكثيرةُ لنا، ولم يَشكروا اللهَ عليها، وإذا جاءهم الجَدْبُ والقَحْطُ تشاءموا بموسى ومَنْ معه مِنَ المؤمنينَ، إلَّا أنَّ ما أصابَهم من شَرٍّ هو مُقَدَّرٌ عليهم عقوبةً لهم، وليس من عِند موسى والمؤمنين معه، ولكنَّ أكثرَهم لا يَعلمون.

وقال آلُ فرعونَ لموسى: مهما تأتِنا بمعجزةٍ لِتَصْرِفَنا بها عن دِينِنا، فَلَنْ نؤمِنَ لك.

فأرسَلَ اللهُ عليهم الماءَ الكثيرَ الَّذي أَغْرَقَ بُيوتَهم ومزارعَهم، والجرادَ، والقُمَّلَ، والضَّفادِعَ، والدَّمَ، آياتٍ واضحاتٍ تدُلُّ على صِحَّةِ نُبوَّةِ موسى عليه السَّلامُ، وفَصَلَ كُلَّ عقوبةٍ عَنِ الأُخْرى؛ فكان بعضُها يأتي في إِثْرِ بعضٍ، فاسْتَكبروا، وكانوا قومًا مُجرِمينَ.

تفسير الآيات :

 

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا حَكَى اللهُ تعالى عن موسى عليه السَّلامُ أنَّه قال لقومِه: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ، بدأ هاهنا بذِكْرِ ما أنزله بفرعونَ وبقومِه مِنَ المِحَنِ حالًا بعْدَ حالٍ، إلى أنْ وَصَلَ الأمْرُ إلى الهلاكِ؛ تنبيهًا للمكلَّفينَ على الزَّجْرِ عَنِ الكُفْرِ والتَّمسُّكِ بتكذيبِ الرُّسلِ؛ خوفًا من نُزولِ هذه المِحَنِ بهم، فقال

:

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ

أي: ولقد ابتلَيْنا فِرعونَ وقومَه، واختبرْناهم بالجَدْبِ والقَحْطِ، وعدمِ نُزولِ المطرِ .

وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ

أي: وابتليناهم بقِلَّةِ ثِمارِهم، فلا تُثْمِرُ أشجارُهم إلَّا قليلًا .

لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ

أي: إنَّما ابتلَيْناهم واختبرْناهم بالجَدْبِ وقِلَّةِ الثِّمارِ؛ لِيَتَّعِظوا فينزجِروا عن كُفْرِهم، ويَرجِعوا إلى ربِّهم .

كما قال تعالى عنهم: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 48] .

فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)

فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ

أي: فإذا جاءَتْ آلَ فرعونَ الحالُ الحَسَنةُ؛ مِنَ العافيةِ والرَّخاءِ، وكَثْرَةِ الأمطارِ، وكثرةِ الثِّمارِ، قالوا: هذه النِّعَمُ الكثيرةُ لنا؛ لأنَّنا نَستحِقُّها، وجَديرون بها، ولم يَشْكروا اللهَ عليها .

وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ

أي: وإنْ تُصِبْهُمْ حالٌ سيِّئةٌ في بعضِ الأوقاتِ؛ مِنَ الجَدْبِ والقَحْطِ، وقِلَّةِ الأرزاقِ، ومجيءِ الأمراضِ؛ يَتشاءَموا بموسى ومَنْ معه مِنَ المؤمنين، ويقولوا: هذا البَلاءُ جاءَنا بسَبَبِ موسى والَّذينَ آمَنوا بدينِه .

أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ

أي: إنَّ ما يُصيبُ فِرعونَ وقومَه من شرٍّ إنَّما هو مُقَدَّرٌ عليهم من عِند اللهِ تعالى؛ عُقوبةً لهم بسَبَبِ كُفْرِهم، وليس هو مِن عِندِ موسى والمؤمِنينَ معه .

كما قال تعالى في شأنِ المكذِّبين بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء: 78] .

وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

أي: ولكنَّ أكثرَ قَومِ فِرعونَ لا يَعلمون أنَّ ما يُصيبُهم من شرٍّ إنَّما هو عقوبةٌ لهم مِن عِندِ اللهِ تعالى بسببِ كُفْرِهم، لا مِن عِندِ موسى وأتباعِه .

كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] .

وقال سُبحانَه: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: 79] .

وقال عزَّ وجلَّ: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] .

وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا حَكَى اللهُ تعالى عن آلِ فرعونَ في الآيةِ الأُوَلى أنَّهم- لِجَهْلِهم- أسندوا حوادِثَ هذا العالَمِ لا إلى قَضاءِ اللهِ تعالى وقَدَرِه؛ حَكَى عنهم في هذه الآيةِ نوعًا آخَرَ من أنواعِ الجَهالةِ والضَّلالةِ، وهو أنَّهم لم يُميِّزوا بين المعجزاتِ وبين السِّحرِ، وجَعَلوا جُملةَ الآياتِ- مِثلَ انقلابِ العصا حيَّةً- من بابِ السِّحرِ منهم، وقالوا لموسى: إنَّا لا نَقْبَلُ شيئًا منها البتَّةَ .

وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)

أي: وقال آلُ فرعونَ لموسى: مهما تَجِئْنا- يا موسى- بمُعجزةٍ؛ لتصرِفَنا بها عن دِينِنا، جَزَمْنا بأنَّها سِحرٌ؛ فلن نُؤمنَ بك، ولا بما جَئْتَنا به .

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بارَزوا اللهَ تعالى بتِلك الأفعالِ العَظميةِ المذكورةِ فيما سبَقَ، استحقُّوا النَّكالَ، فَسُبِّبَ عن ذلك قولُه تعالى :

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ

أي: فبسَبَبِ كُفْرِهم بَعَثْنا عليهم الماءَ الكثيرَ، الَّذي دخَلَ بُيوتَهم، وأَغْرَقَ مزارِعَهم .

كما قال اللهُ تعالى عن قومِ نوحٍ: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت: 14] .

وَالْجَرَادَ

أي: وبَعَثْنا عليهم الجرادَ، فأكَلَ زُروعَهم وثِمارَهم .

وَالْقُمَّلَ

أي: وبعَثْنا عليهم القُمَّلَ ، وهو شيءٌ مِن خلقِ اللهِ سلَّطه الله عليهم فعذَّبهم به، وآذاهم إيذاءً كثيرًا .

وَالضَّفَادِعَ

أي: وبَعَثْنا عليهم الضَّفادِعَ، فامتلأَتْ منها بُيوتُهم وآنيتُهم، وآذَتْهم إيذاءً عظيمًا .

وَالدَّمَ

أي: وبَعَثْنا عليهم الدَّمَ، فصار ماؤُهم الَّذي يَشرَبونَه ويَستعمِلونَه دَمًا .

آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ

أي: بَعَثْنا على قومِ فرعونَ هذه العقوباتِ، الَّتي جعَلْناها علاماتٍ تدُلُّ بوضوحٍ على صِحَّةِ نُبوَّةِ موسى عليه السَّلامُ ، وفصَلْنا كلَّ عُقوبةٍ عن العقوبةِ الأخرى؛ فكان بعضُها يأتي في إِثْرِ بعضٍ .

كما قال تعالى: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا [الزخرف: 48] .

فَاسْتَكْبَرُوا

أي: فتكبَّرَ آلُ فرعونَ تكبُّرًا شديدًا عن الإيمانِ باللهِ عزَّ وجلَّ، وطاعةِ رسولِه موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، مع رُؤيتِهم لتِلك الآياتِ العظيمةِ، الدَّالَّةِ على صِدْقِه وصِحَّةِ رسالتِه .

كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل: 14] .

وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ

أي: وكانوا مِنْ قَبْلِ استكبارِهم قومًا يُصِرُّونَ على معصيةِ اللهِ سُبحانَه

 

.

كما قال تعالى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [الزخرف: 49-50] .

الفوائد التربوية :

 

سنةُ اللهِ في الأُمَمِ أنْ يَبتليَها بالنِّقَمِ؛ ليَزدجِروا، ويتذكَّروا بذلك ما كانوا فيه مِنَ النِّعَمِ؛ فإنَّ الشِّدَّةَ تَجْلِبُ الإنابةَ والخشيةَ، ورِقَّةَ القلبِ، والرُّجوعَ إلى طلَبِ لُطْفِ اللهِ وإحسانِه؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ

.

قال اللهُ تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، في هذه الآيةِ تنبيهٌ للأُمَّةِ للنَّظرِ فيما يُحيطُ بها من دلائلِ غَضَبِ اللهِ؛ فإنَّ سَلْبَ النِّعمةِ للمُنْعَمِ عليهم تنبيهٌ لهم على استِحقاقِهم إعراضَ اللهِ تعالى عنهم .

قولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ التَّطيُّرُ والتَّشاؤُمُ من صِفاتِ الكفَّارِ، وعلى المُسلِمينَ اجتنابُه، وأنْ يتوكَّلوا على اللهِ، ولا يَنبغي لهم أنْ يَجْزَعوا مِنَ التَّطَيُّرِ، ولْيُعلَمْ أنَّ الأُمورَ بيدِ اللهِ، وأنَّ الشُّؤْمَ الحقيقيَّ الَّذي يَستجلِبُ كُلَّ الضَّرَرِ هو مُخالَفةُ ربِّ العالَمينَ جلَّ وعلا، أمَّا كُلُّ فِعْلٍ لم يُخالَفُ به اللهُ فهذا لا ضَرَرَ فيه ولا طِيَرَةَ؛ لأنَّ اللهَ ما أباحَه إلَّا لأنَّه لا ضَررَ فيه، وعلى المُسلِمِ أنْ يَتَحَرَّزَ من هذا كُلِّه، ولا يَتشاءمَ بشيءٍ، وأنْ يبنيَ الأُمورَ على التَّوكُّلِ على اللهِ، ومُراعاةِ أوامِرِه ونواهيه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

قولُ اللهِ تعالى: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا إنَّما سَمَّوها آيةً، ثم قالوا: لِتَسْحَرَنَا بِهَا؛ لأنهم ما سَمَّوها آيةً لاعتقادِهم أنَّها آيةٌ، وإنَّما سمَّوها اعتبارًا لتَسميةِ مُوسى عليه السَّلامُ، وقَصَدوا بذلك الاستهزاءَ والتلهِّي

.

قولُ اللهِ تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حُكْمٌ بنَفْيِ العِلْمِ عن أكثرِهم؛ لأنَّ القليلَ منهم عَلِمَ؛ كمؤمنِ آلِ فرعونَ، وآسيةَ امرأةِ فرعونَ .

قولُ اللهِ تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، ذَكَرَ أوَّلًا: الطُّوفَانَ، ولَمَّا كان ذلك ربَّما أَخْصَبَتْ به الأرضُ أَخْبَرَ أنَّه أَرْسَلَ ما يُفسِدُ ذلك، فقال: وَالْجَرَادَ، ولَمَّا كان الجرادُ ربَّما طار، وقد أَبْقى شيئًا أَخْبَرَ بما يَستمِرُّ لازقًا في الأرضِ حتَّى لا يَدَعَ بها شيئًا، فقال: وَالقُمَّلَ، ولَمَّا ربَّما كان عِندَهم شيءٌ مَخْزونٌ لم يَصِلْ إليه ذلك، أَخْبَرَ بما يُسْقِطُ نَفْسَهُ في الأكْلِ؛ فيُفسِدُه أو يَنْقُصُه، فقال: والضَّفَادِعَ، ولَمَّا تَمَّ ما يَضُرُّ بالمَأْكَلِ أَتْبَعَه ما أَفْسَدَ المِشْرَبَ، فقال: وَالدَّمَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قولُه: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ: فيه تنكيرُ نَقْصٍ؛ للتكثير؛ فنُكِّر نَقْص ولم يُضَفْ إلى الثَّمَرَاتِ؛ لئلَّا تفوتَ الدَّلالةُ على الكثرةِ

.

قوله: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ عرَّف الحَسنةَ، وذَكَّرها مع أداةِ التَّحقيقِ (إذا)؛ لكَثرةِ وُقوعِها، ونَكَّرَ السيِّئةَ، وأتَى بها مع حرْف الشكِّ (إنْ)؛ لأنَّ السَّيِّئةَ لا تَقعُ إلَّا في النُّدرة، ولا يقعُ إلَّا شيءٌ منها، ولعدمِ القَصدِ إليها إلَّا بالتَّبع ؛ فجِيءَ في جانب الحَسَنة بـ(إذا) الشرطيَّةِ؛ لأنَّ الغالبَ في (إذا) الدَّلالةُ على اليقين بوقوع الشَّرْط، أو ما يَقرُب من اليقين؛ ولذلك غلَب أنْ يكونَ فِعلُ الشرطِ مع (إذا) فعلًا ماضيًا؛ لكونِ الماضي أقربَ إلى اليقينِ في الحُصولِ من المستقبَلِ، وجِيءَ في جانبِ السيِّئةِ بحَرْف (إنْ)؛ لأنَّ الغالب أن تدُلَّ (إنْ) على التردُّد في وقوعِ الشَّرْط، أو على الشكِّ؛ ولكون الشيءِ النادرِ الحصولِ غيرَ مجزومٍ بوقوعه، ومشكوكًا فيه، جِيءَ في شرْطِ إصابةِ السيئةِ بحرْفِ (إن)؛ لنُدرةِ وقوعِ السيِّئاتِ، أي: المكروهاتِ عليهم، بالنسبة إلى الحَسنات، أي: النِّعم، وفي ذلك تعريضٌ بأنَّ نِعمَ اللهِ كانتْ مُتكاثرةً لدَيهم، وأنَّهم كانوا مُعرِضين عن الشُّكرِ، وتعريضٌ بأنَّ إصابتَهم بالسيِّئاتِ نادرةٌ، وهم يَعدُّونَ السيِّئاتِ مِن جرَّاءِ موسى ومَن آمَن معه؛ فهم في كِلتا الحالتين بين كافِرين بالنِّعمة، وظالِمين لموسَى ومَن معه .

والفاءُ في قولِه: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ: لتَفريعِ هذا الخبرِ على جُملةِ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ، والمعنى: فلم يَتذكَّروا، ولكنَّهم زادوا كُفرًا وغُرورًا .

وفي قولِه: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ وقولِه: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ  مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ عبَّر في جانِبِ الحَسنةِ بالمجيءِ؛ لأنّ حُصولَها مرغوبٌ؛ فإنَّها تُترقَّبُ كما يُترقَّبُ الجائي، وعبَّر في جانبِ السيِّئةِ بالإصابةِ؛ لأنَّها تحصُل فجأةً، مِن غير رغبةٍ ولا ترقُّب .

قوله تعالى: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ جملةٌ معترضةٌ؛ ولذلك فُصلت، ولم تُعطَف على التي قَبْلَها بالواوِ .

والقصرُ المستفادُ مِن إِنَّمَا إضافيٌّ، أي: سُوءُ حالهم عِقابٌ مِن اللهِ، لا مِن عندَ موسى ومَن مَعَه .

وفي قوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الاستدراكُ المستفادُ مِن (لكن) عَمَّا يُوهِمُه الاهتمامُ بالخبرِ الذي قبْلَه؛ لقرنِه بأداةِ الاستفتاحِ، واشتمالِه على صِيغةِ القَصرِ، مِن كون شأنِه ألَّا يجهلَه العقلاءُ؛ فاستدرَكَ بأنَّ أكثرَ أولئك لا يَعلمونَ .

قولُه: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ جُمْلَةُ فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ تفيدُ المبالغةَ في القطعِ بانتفاءِ إيمانهم بموسى؛ لأنَّهم جاؤوا في كلامِهم بما حَوتْه الجملةُ الاسميَّةُ التي حَكتْه من الدَّلالةِ على ثُبوتِ هذا الانتفاءِ ودوامِه، وبما تُفيدُه الباءُ مِن توكيدِ النَّفي، وما يُفيدُه تقديمُ مُتعلِّق (مُؤْمِنِينَ) مِن اهتمامِهم بموسى في تعليقِ الإيمانِ به المنفيِّ باسمِه .

قوله: فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ فيه صياغةُ الخبرِ عن إجرامِهم بصِيغةِ الجملةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ وصْفِ الإجرامِ فيهم، وتَمكُّنِه منهم، ورُسوخِه فيهم مِن قَبلِ حُدوثِ الاستكبارِ، وفي ذلك تنبيهٌ على أنَّ وصفَ الإجرامِ الرَّاسخِ فيهم هو عِلَّةٌ للاستكبارِ الصادرِ مِنهم، فـ(كان) دالَّةٌ على استمرارِ الخبرِ، وهو وصفُ الإجرامِ .

=========================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (134-137)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ

غريب الكلمات :

 

الرِّجْزُ: العذابُ والسَّخَطُ، وأَصْلُ (رجز): الاضْطِرابُ

.

بَالِغُوهُ: أي: واصِلونَ إليه، والبُلوغُ والبَلاغُ: الانتهاءُ إلى أقْصى المَقْصِدِ والمُنْتَهى، تَقولُ: بَلَغَ المَكانَ، إذا وَصَلَ إليه، وأَصْلُ (بلغ): الوُصولُ إلى الشَّيْءِ .

يَنْكُثُونَ: أي: يَنقُضونَ عَهْدَهم، والنكثُ نقضُ ما أُبْرِم، ويُستعملُ في الأجسامِ وفي المعاني، وأصلُ (نكث) يَدُلُّ عَلَى نَقْضِ شَيْءٍ .

الْيَمِّ: أي: البَحْرِ، أو النِّيلِ .

يَعْرِشُونَ: أي: يَبْنونَ، والعُروشُ: البُيوتُ والسُّقوفُ، والعَرْشُ في الأصل: شَيءٌ مُسَقَّفٌ، وأصْلُ (عرش) يَدُلُّ على ارْتِفاعٍ في شَيْءٍ مَبْنِيٍّ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه لَمَّا وقَعَ على آلِ فرعونَ العذابُ عقوبةً لهم، طَلَبوا من موسى أنْ يَدْعوَ اللهَ بما أوْصاه أن يدعوَ به حتى يَكُفَّ عنهم هذا العذابَ، ووَعَدوه مُقْسِمينَ له: لَئِنْ كَشَفَ عنهم هذا العذابَ ليُؤمِنُنَّ له، وليُرسِلُنَّ معه بني إسرائيلَ، فلمَّا كَشَفَ اللهُ عنهم هذا العذابَ، وأَمْهَلَهم إلى الوقتِ المُقدَّرِ لهلاكِهم، إذا بهم يَنْكُثونَ العَهْدَ الَّذي التَزَموه؛ فانتقم اللهُ منهم، فأَغْرَقهم في البحرِ؛ لكَوْنِهم كذَّبوا بآياتِه، وكانوا عنها غافلين.

وأَوْرَثَ اللهُ بني إسرائيلَ، الَّذين كانوا يُقهَرونَ ويُستعبَدونَ، مشارِقَ الأرضِ ومَغارِبَها الَّتي جَعَلَ اللهُ فيها البرَكةَ، ووَفَّى الله تعالى بما وَعَدَ به بني إسرائيلَ مِن إهلاكِ عدوِّهم، وتمكينِهم في الأرضِ؛ لِكَوْنِهم صَبَروا، ودمَّرَ ما كان يَصْنَعُ فرعونُ وقومُه، وما كانوا يَبنونه ويرفعونه مِنَ المباني والقُصورِ.

تفسير الآيات :

 

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ

أي: ولَمَّا نزَلَ بآلِ فرعونَ العذابُ

عقوبةً بَعْدَ أُخْرى .

كما قال تعالى: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 48] .

قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ

أي: فَزِعوا إلى موسى قائلين : يا موسى، ادعُ لنا ربَّكَ بالَّذي أَوْصاكَ أنْ تَدْعوَه به ؛ لِيَكُفَّ عنَّا هذا العذابَ .

كما قال تعالى: وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ [الزخرف: 48، 49].

لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ

أي: نُقْسِمُ لك- يا موسى- لَئِنْ رَفَعْتَ عنَّا هذا العذابَ بدعائِكَ ربَّكَ، لنُصَدِّقَنَّكَ، ولنؤمِننَّ بما جِئْتَ به .

وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ

أي: ولنُخَلِّيَنَّ بني إسرائيلَ كما طلَبْتَ- يا موسى- فنترُكُهم معك، وتذهَبُ بهم حيثُ تَشاءُ .

كما قال تعالى حاكيًا قولَ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف: 105].

وقال سُبحانَه حاكيًا أيضًا قولَ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الدخان: 18] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [طه: 47] .

فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)

أي: فلَمَّا رَفَعَ اللهُ عن قومِ فِرعونَ العذابَ، وأَمْهَلَهم إلى الوقتِ الَّذي قدَّرَه لهلاكِهم، إذا بهم يَنقُضونَ عُهودَهم؛ فَلَمْ يُؤمِنوا، ولم يُرسلِوا بني إسرائيلَ مع موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

كما قال تعالى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [الزخرف: 49-50] .

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا أَخْبَرَ اللهُ تعالى عن إهلاكِه فرعونَ عَطَفَ عليه ما صَنَع ببني إسرائيلَ؛ تصديقًا لقولِ موسى عليه السَّلامُ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ، فكان كما تَرَجَّى، فأَغْرَقَ أعداءَهم في اليَمِّ، واسْتَخْلَفَ بني إسرائيلَ في الأرضِ .

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ

أي: فلمَّا نَقَضوا العُهودَ، وأصرُّوا على الكُفْرِ انْتَقَمْنا منهم، بأنْ أغرقْناهم جميعًا في البحرِ .

كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 52-67] .

وقال سُبحانَه: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف: 55] .

بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا

أي: أغرقْنا فِرعونَ وقومَه؛ بسَبَبِ تكذيبِهم بآياتِنا .

وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ

أي: وكانوا مُعْرِضينَ عن آياتِنا الدَّالَّةِ على صِدْقِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَلَمْ يَتفكَّروا فيها، ولم يَعْتَبِروا بها .

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا

أي: وملَّكْنا بني إسرائيلَ الَّذينَ كان فِرعونُ وقومُه يَقهرونهم ويَستعبِدونهم، ويُذبِّحونَ أبناءَهم، ويَستحيون نِساءَهم- ملَّكْناهم جميعَ جِهاتِ شرْقِ أرضِ الشَّامِ، وجِهاتِ غرْبِها .

الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا

أي: الأرضَ الَّتي جعَلْنا فيها الخيرَ ثابتًا، مُستمِرًّا، وكثيرًا، فأخرَجْنا لهم منها الزُّروعَ والثِّمارَ، والعُيونَ والأنهارَ، ونَحْوَ ذلك من خيراتِ الأرضِ .

وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا

أي: وقد وَفَّى ربُّكَ- يا مُحَمَّدُ- بما وَعَدَ به بني إسرائيلَ من إهلاكِ عدُوِّهم، وتمكينِهم في الأرضِ؛ وذلك بسببِ صَبْرِهم على أَذَى فرعونَ وقومِه .

كما قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 5، 6].

وقال سُبحانَه: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 128-129].

وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ

أي: وأَهْلَكْنا، وخرَّبْنا خرابًا شديدًا ما كان يُشيِّدُه فرعونُ وقومُه من العِماراتِ، ويَبْنُونَه من المَزارعِ .

وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ

أي: وخرَّبْنا أيضًا ما كان يَبنيه، ويرفُعُه فرعونُ وقومُه، من المبانِي والقُصورِ

 

.

كما قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [غافر: 36- 37] .

الفوائد التربوية:

 

قولُ اللهِ تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ، العِبرةُ في هذه الآياتِ أنْ يَتفكَّرَ تالي القرآنِ في تأثيرِ الإيمانِ والوحيِ في موسى وهارونَ عليهما السَّلامُ؛ إذ تَصَدَّيا لأعظمِ مَلِكٍ في الأرضِ، فَدَعَواهُ إلى الرُّجوعِ عن الكُفرِ والظُّلمِ والطُّغيانِ، وتعبيدِ بني إسرائيلَ، وأَنْذَراه وهدَّداه، وما زالا يُكافِحانِه بالحُجَجِ والآياتِ البيِّناتِ حتَّى أَظْفَرَهما اللهُ تعالى به، وأَنْقَذا قومَهما من ظلمِه وظلمِ قومِه، فجديرٌ بالمؤمنين باللهِ تعالى ورُسلِه أنْ يَنتقِلوا من التَّفكُّرِ في هذا إلى التَّفكُّرِ في وَعْدِ اللهِ تعالى للمؤمنين بالنَّصرِ، كما وعَدَ المرسَلين إذا هُمْ قاموا بما أمَرَهم تعالى به على ألسنتِهم، وألَّا يَستعظِموا في هذه السَّبيلِ قُوَّةَ ظالمٍ، فإنَّ قوَّةَ الحقِّ الَّتي نَصَرَها اللهُ تعالى برجُلٍ أو رجُلين على أعظمِ الدُّوَلِ لا تُغْلَبُ إذا نَصَرْناها ونحن مئاتُ الملايينِ

.

الصَّابرُ صائرٌ إلى النَّصرِ، وتحقيقِ الأملِ؛ يُرْشِدُ إلى ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا، فقوله: بِمَا صَبَرُوا الباءُ سببيَّةٌ، و(ما) مصدريَّةٌ، أي: بسببِ صَبْرِهم على الأذى في ذاتِ الإلهِ، وفي ذلك تنبيهٌ على فائدةِ الصَّبرِ، وتنويهٌ بفَضيلتِه وحُسنِ عاقبتِه، وأنَّه سببٌ للفرَجِ ؛ فمَنْ قابَلَ البلاءَ بالجَزَعِ وَكَلَه اللهُ إليه، ومَنْ قابَلَه بالصَّبرِ وانتظارِ النَّصرِ ضَمِنَ اللهُ له الفرَجَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، لم يقولوا: (ربَّنا)؛ كِبْرًا وعُتُوًّا

.

2- قولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عبَّر بالفاءِ دلالة على قُرْبِ الإجابةِ .

3- قولُ اللهِ تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، المشارِقُ والمغارِبُ جَمْعٌ باعتبارِ تعدُّدِ الجِهاتِ؛ لأنَّ الجهةَ أمْرٌ نسبيٌّ تتعدَّدُ بتعدُّدِ الأمكِنةِ المفروضةِ، والمرادُ بهما إحاطةُ الأمكنةِ .

4- قول الله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى... إلى آخِرِ الآيةِ، استدلَّ به بعضُ السَّلفِ على أنَّه لا ينبغي أنْ يُخْرَجَ على مُلوكِ السُّوءِ، وإنَّما ينبغي أنْ يُصْبَرَ عليهم، فإنَّ اللهَ تعالى يُدمِّرُهم

 

.

بلاغة الآيات :

 

لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ جملةٌ مُستأنفَةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ طلبَهم مِن موسى الدُّعاءَ بكَشفِ الرِّجز عنهم مع سابقيَّةِ كُفرِهم به يُثير سؤالَ موسى أنْ يقولَ: فما الجزاءُ على ذلِك

؟

وقوله: لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فيه دلالةٌ على أنَّه طلَب منهم الإيمانَ، كما أنَّه طلَب منهم إرسالَ بني إسرائيل، وقدَّموا الإيمانَ؛ لأنَّه المقصودُ الأعظمُ الناشِئ منه الطواعيةُ، وفي إسنادِ الكَشْفِ إلى موسى حَيدةٌ عن إسنادِه إلى اللهِ تعالى؛ لعدمِ إقرارِهم بذلك .

قولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ، كُرِّرَ (الرِّجْزَ) تصريحًا وتهويلًا .

وقولُه تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ، قولُه: هُمْ بَالِغُوهُ صِفةٌ لـ أَجَلٍ، والوَصْفُ بهذه الجملةِ أَبْلَغُ من وصفِه بالمفرَدِ؛ لتكرُّرِ الضَّميرِ المؤذِنِ بالتَّفخيمِ .

قوله: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها فيه العدولُ عن تَعريفِهم بطريقِ الإضافةِ إلى تَعريفِهم بطريق الموصوليَّة؛ لنُكتَتينِ: أُولاهما: الإيماءُ إلى عِلَّة الخبرِ، أي: إنَّ الله مَلَّكهم الأرضَ، وجعَلَهم أُمَّةً حاكمةً؛ جزاءً لهم على ما صَبَروا على الاستعبادِ، غَيرةً مِن اللهِ تعالى على عَبيدِه. الثانية: التعريضُ ببشارةِ المؤمنِينَ بمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّهم ستكونُ لهم عاقبةُ السلطانِ، كما كانتْ لبني إسرائيلَ؛ جزاءً على صبْرِهم على الأذَى في اللهِ، ونذارة المشرِكينَ بزوالِ سُلطانِ دِينهم .

قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا الخِطابُ في قولِه: رَبِّكَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أُدْمِجَ في ذِكْرِ القصَّةِ؛ إشارةً إلى أنَّ الَّذي حقَّقَ نصْرَ موسى وأُمَّتِه على عدُوِّهم هو ربُّك؛ فسينصُرُكَ وأُمَّتَكَ على عدُوِّكم؛ لأنَّه ذلك الربُّ الَّذي نَصَرَ المؤمنين السَّابقين، وتلك سُنَّتُه وصُنْعُه .

وفي قولِه: عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ: عُدِّيَ فِعلُ التمام بـ(على)؛ للإشارةِ إلى تَضمينِ (تمَّت) معنى الإنعامِ .

قوله: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ فِعل (كان) في الصِّلتَينِ- مَا كَانَ يَصْنَعُ و وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ- دالٌّ على أنَّ ذلك دَأبَه وهِجِّيراه، أي: ما عُنِي به مِن الصَّنائِعِ والجنَّات، وصِيغةُ المضارعِ في الخَبرينِ عن (كان)- يَصْنَعُ ويَعْرِشُونَ-؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والتكرُّرِ .

 

=======================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (138-141)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ

غريب الكلمات :

 

يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ: أي: يُقيمونَ عليها مُعَظِّمين، ويَعبُدُونَها مِن دُونِ اللَّهِ، والعُكوفُ: الإقبالُ على الشَّيءِ، وملازَمتُه على سبيلِ التَّعظيمِ له

. وأَصْنَامٍ: جَمْعُ صَنَمٍ، والصَّنمُ: جُثَّةٌ مُتَّخَذَةٌ من فِضَّةٍ، أو نُحاسٍ، أو خشبٍ، أو غير ذلك، كانوا يَعبدونها مُتقرِّبينَ بها إلى اللهِ تعالى .

مُتَبَّرٌ: أي: مُهْلَكٌ أو هَالِكٌ، والتَّبْرُ: الكَسْرُ والإهلاكُ .

أَبْغِيكُمْ: أي: أَلْتَمِسُ لكم وأطْلُبُ، وأصل (بغى): يدلُّ على طَلَبِ الشَّيءِ .

يَسُومُونَكُمْ: أي: يُولُونَكُمْ؛ يُقالُ: فلانٌ يَسومُكَ خَسْفًا؛ أي: يُولِيكَ إذلالًا واستِخفافًا، أو يُريدونه منكم ويَطلُبونه، أو يَبْغُونَكُمْ، يُقالُ: سامَه: كلَّفَه العَملَ الشَّاقَّ، وقيل: يُرسلِون عليكم، مِن إرْسالِ الإبِلِ المَرْعى، والسَّوْمُ أصْلُه: الذَّهابُ في ابتِغاءِ الشَّيءِ وطَلَبِه .

وَيَسْتَحْيُونَ: أي: ويَسْتَبقُون فلا يَقتُلونَ، والاستِحياءُ: الإبقاءُ حيًّا، و(استفعل) فيه بمَعنَى (أفعل)، وأصلُ (حيي): خِلافُ المَوتِ .

بَلَاءٌ: أي: اختبارٌ، وأَصْلُ البَلاء: الاختبارُ، ثمَّ صار يُطلَقُ على المكروهِ والشِّدَّةِ

 

.

مشكل الإعراب :

 

قولُه تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ

كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ: الكافُ في كَمَا حرفُ جرٍّ وتشبيهٍ، وهو مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ وقَعَ صفةً لـ إِلَهًا، أي: إلهًا مماثِلًا لإِلهِهم، و(مَا) فيها ثلاثةُ أوجُهٍ: الأوَّلُ: أن تكونَ مَوصولةً، ولَهُمْ شِبْهُ جملةٍ متعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديرُه (استقرَّ)، وهو صِلَةُ (ما)، وآلِهَةٌ بَدَلٌ مِن الضَّميرِ في (استقرَّ) المحذوفِ، والتَّقديرُ: كالَّذي استقرَّ هو لهم آلهةٌ. الثَّاني: أنْ تكونَ كافَّةً لعَملِ حرفِ الجرِّ (الكاف)، وهي جملةٌ مِن خبرٍ مُقدَّمٍ لَهُمْ، ومبتدأٍ مُؤخَّرٍ: آلِهَةٌ الثَّالثُ: أن تكونَ (ما) مصدريَّةً- أي: موصولًا حرفيًّا-، وصِلتُها محذوفةٌ، والتَّقديرُ: كما ثبَتَ لهم آلهةٌ، فـ آلهةٌ على هذا الوجْهِ فاعِلٌ بـ (ثبَتَ) المحذوفِ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه جاوز ببني إسرائيلَ البحرَ بعْدَ أنْ أَغْرقَ عدُوَّهم فرعونَ وقومَه، فمرُّوا على قومٍ مشركين، مُلازِمين أصنامًا لهم، يعبدونها مِن دونِ اللهِ، فقالوا لموسى عليه السَّلامُ: اجْعَلْ لنا إلهًا كما لهؤلاءِ آلهةٌ يعبدونها، فقال لهم موسى: إنَّكم قومٌ تَجْهَلونَ، إنَّ هؤلاءِ المشركين محكومٌ على ما هم فيه بالدَّمارِ، وزائلٌ ما كانوا يَعملونه من عبادةِ الأصنامِ؛ فلا يَنتفِعون بها.

وقال لهم موسى مُنْكِرًا عليهم طَلَبَهم ومُتعجِّبًا منه: أَغَيْرَ اللهِ أَطْلُبُ لكم إلهًا، وهو الَّذي فضَّلكم على العالَمين؟!

ثمَّ قال اللهُ تعالى مُذكِّرًا بني إسرائيلَ بنعمتِه العظيمةِ عليهم: واذْكروا حين أنجيناكم من آلِ فرعونَ، الَّذينَ كانوا يُذيقونكم سُوءَ العذابِ، ويُنكِّلونَ بكم؛ يُقتِّلونَ أبناءَكم الذُّكورَ، ويُبْقون إناثَكم أحياءً؛ لِيَقُمْنَ بخِدْمتِهم، ولِيَعْتَدوا على أعراضِهِنَّ، وفي ذلك امتحانٌ واختبارٌ عظيمٌ من اللهِ لكم.

تفسير الآيات :

 

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنواعَ نِعَمِه على بني إسرائيلَ بإهلاكِ عدُوِّهم، أَتْبَعَ بالنِّعمةِ العُظْمى مِنْ إِرَاءَتِهم هذه الآيةَ العظيمةَ، وقَطْعِهم البحرَ مع سلامتِهم

، فقال تعالى:

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ

أي: وقَطَعْنا ببني إسرائيلَ البحرَ؛ فَتَخَطَّوْهُ بعْدَ أنْ أغرقْنا عدُوَّهم فرعونَ وقومَه، ورَأَوْا من آياتِ اللهِ ما رَأَوْا .

فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ

أي: فمَرَّ بنو إسرائيلَ على مُشرِكين مُلازِمينَ أصنامًا لهم، يَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ سُبحانَه .

قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ

أي: قال بَنو إسرائيلَ لنبيِّهم موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: يا موسى، اصْنَعْ لنا صَنَمًا نتَّخِذْهُ إلهًا كما لهؤلاءِ القومِ أصنامٌ يَعبُدونها !

عن أبي واقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا خرَجَ إلى حُنَيْنٍ مَرَّ بشجرةٍ للمشركين يُقالُ لها: ذاتُ أَنْواطٍ، يُعلِّقونَ عليها أسلحتَهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، اجعَلْ لنا ذاتَ أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواطٍ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((سُبحانَ اللهِ! هذا كما قال قومُ موسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، والَّذي نَفْسي بيدِه لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كان قَبْلَكم )) .

قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ

أي: قال موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقومِه: إنَّكم قومٌ تَجْهَلونَ عظمةَ اللهِ، ووُجوبَ إفرادِه بالعِبادةِ وحْدَهُ لا شريكَ له .

ثُمَّ أَعْلَمَهم موسى بفَسادِ حالِ أولئك القومِ؛ لِيَزولَ ما استحسَنوه من حالِهم، فقال لهم :

إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا اسْتُفيدَ من كلامِه السَّابقِ لهم غايةُ الإنكارِ عليهم، ذَكَرَ هنا ما علَّلَ به هذا الإنكارَ .

وأيضًا بَعْدَ أنْ ذكَّرهم بسُوءِ حالِهم مِن جهلِهم وسَفاهةِ أنفُسِهم، بيَّنَ لهم فسادَ ما طلبوه في نفْسِه؛ عسى أنْ تستعِدَّ عقولُهم لِفَهْمِه، واستبانةِ قُبْحِه ، فقال:

إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ

أي: إنَّ هؤلاءِ المشركين سيُدمِّرُ اللهُ تعالى تلك الأصنامَ التي يعبدونها، ويُهلِكُ ما هُمْ فيه من الشِّرْكِ، ويُعذِّبهم .

كما قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 16] .

وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

أي: وزائلٌ ما كانوا يَعمَلونه من عِبادةِ الأصنامِ؛ فلَنْ يَنتفِعوا بها .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 197] .

وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13-14] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] .

قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بيَّن أنَّ هذه الأصنامَ الَّتي مَرُّوا عليها لا تَصْلُحُ لِأَنْ تُعْبَدَ، كان ذلك غيرَ كافٍ لهم؛ لِمَا تَقرَّرَ من جَهلِهم، فربَّما ظَنُّوا أنَّ غيرَها ممَّا سِوى اللهِ تجوزُ عِبادتُه، فأَنْكَرَ أنْ يُتَأَلَّهَ غيرُه تعالى، وحَصَرَ الأمْرَ فيه .

قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا

أي: قال موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مُنْكِرًا على قومِه ومُتعجِّبًا من طَلَبِهم: أأطلُبُ لكم إلهًا غيرَ اللهَ العظيمِ، المعبودِ بحقٍّ، الكاملِ في ذاتِه وصِفاتِه وأفعالِه ؟!

وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ

أي: أفأطلُبُ لكم معبودًا لا يَنفُعُكم ولا يَضُرُّكم، وتَترُكون عِبادةَ اللهِ تعالى، والحالُ أنَّه هو الَّذي فضَّلكم على عالَمِي زمانِكم، وأُمَمِ عَصْرِكم ؟!

وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى يُبيِّنُ أنَّه هو الَّذي أَنْعَمَ عليهم بهذه النِّعمةِ العَظيمةِ؛ فكيف يَليقُ بهم الاشتغالُ بعبادةِ غيرِه تعالى ؟!

وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ

القِراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفسيرِ:

في قولِه تعالى: أَنْجَيْنَاكُمْ قِراءتانِ:

قِراءة أَنْجَاكُمْ على أنَّها من إخبارِ موسى عليه السَّلامُ عن اللهِ سُبحانَه وتعالى بـ(نون) التَّعظيمِ .

قِراءة أَنْجَيْنَاكُمْ على أنَّها من إخبارِ اللهِ تعالى عن نفْسِه .

وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ

أي: قال اللهُ مُذكِّرًا بني إسرائيلَ نِعمتَه العظيمةَ عليهم : واذْكُروا حينَ أَنجيناكُم من فِرعونَ وقومِه .

كما قال تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة: 49] .

يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ

أي: كانوا يُذيقونكم- يا بني إسرائيلَ- ويُكلِّفونكم أَقْبَحَ العذابِ وأفظَعَه .

ثمَّ بيَّن اللهُ تعالى العَذابَ الَّذي كانوا يُسامونَ سُوءَهُ، فقال :

يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ

أي: يُكثِرون مِن قتْلِ أبنائِكم الذُّكورِ .

وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ

أي: ويُبقون إناثَكم أحياءً؛ لِيَقُمْنَ بخِدْمتِهم، ويَعْتَدوا على أعراضِهِنَّ .

وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ

أي: وفي سَوْمِ آلِ فرعونَ لكم سُوءَ العذابِ مِحنةٌ واختبارٌ مِنَ اللهِ لكم عظيمٌ .

وقيل: وفي إنجائِنا لكم مِن عذابِ آلِ فرعونَ نِعمةٌ من اللهِ لكم عَظيمةٌ

 

.

الفوائد التربوية :

 

كفَى بأيِّ أُمَّةٍ خِسَّةَ عُقولٍ أنْ تَعُدَّ القبيحَ حَسَنًا، وأنَّ تتَّخِذَ المظاهرَ المُزَيَّنَةَ قُدوةً لها، وأنْ تنخلِعَ عن كمالِها في اتِّباعِ نقائِصِ غيرِها؛ يُرشِدُ إلى ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ

 

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قولُ اللهِ تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، وَجَاوَزْنَا، أي: قَطَعْنا بما لنا مِن العَظَمةِ، فساقَه على طريقِ المفاعَلةِ؛ تعظيمًا له تعالى

.

2- قولُ اللهِ تعالى: فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ سَمَّوُا الصَّنمَ إلهًا؛ لجهلِهم؛ فهُمْ يَحسَبونَ أنَّ اتِّخاذَ الصَّنمِ يُجْدي صاحِبَه، كما لو كان إلهَه معه، وهذا يدُلُّ على أنَّ بني إسرائيلَ قد انخلعوا في مُدَّةِ إقامتِهم بمصرَ عن عَقيدةِ التَّوحيدِ، وحَنيفيَّةِ إبراهيمَ ويعقوبَ الَّتي وصَّى بها في قولِه: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 132] ؛ لأنَّهم لَمَّا كانوا في حالِ ذُلٍّ واستِعبادٍ ذهب عِلْمُهم، وتاريخُ مَجْدِهم، واندمَجوا في دِيانةِ الغالِبين لهم؛ فلم تَبْقَ لهم مِيْزَةٌ تُميِّزُهم إلَّا أنَّهم خَدَمَةٌ وعَبيدٌ .

3- الفائدةُ في وصْف الأصنامِ بأنَّها لَهُمْ، وعدمِ الاقتصارِ على قوله: أَصْنامٍ في قولِ اللهِ تعالى: فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ، زِيادةُ التَّشنيعِ، والتَّنبيهُ على جَهلِهم وغَوايتِهم في عِبادتِهم ما هو مِلْكٌ لهم عليهم أَشَدُّ .

4- قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، لم يَصْدُرْ هذا القولُ من جميعِهم؛ فإنَّه كان فيهم السَّبعونَ المُختارونَ ومَنْ لا يَصْدُرُ منه هذا السُّؤالُ الباطلُ، لكنَّه نَسَبَ ذلك إلى بني إسرائيلَ؛ لِمَا وقَعَ من بعضِهم، على عادةِ العربِ في ذلك .

5- قال اللهُ تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، ما أَحْسَنَ ما خاطَبَهم موسى عليه السَّلامُ! بدأهم أوَّلًا بنِسبتِهم إلى الجهلِ، ثمَّ ثانيًا أخبرهم بأنَّ عُبَّادَ الأصنامِ ليسوا على شيءٍ، بل مآلُ أمْرِهم إلى الهلاكِ، وبُطلانِ العملِ، وثالثًا أنكَرَ وتعجَّبَ أنْ يقَعَ هو عليه السَّلامُ في أنْ يَبْغِيَ لهم غيرَ اللهِ إلهًا، أي: أَغَيْرَ المُستحِقِّ للعبادةِ والألوهيَّةِ أَطْلُبُ لكم معبودًا، وهو الَّذي شرَّفكم واخْتَصَّكم بالنِّعَمِ الَّتي لم يُعطِها مَنْ سَلَفَ من الأُمَمِ، لا غَيرُه؛ فكيف أَبْغِي لكم إلهًا غيرَه ؟!

6- قال اللهُ تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، كان جوابُ موسى عليه السَّلامُ بعُنْفٍ وغِلظةٍ بقولِه: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ؛ لأنَّ ذلك هو المناسِبُ لحالِهم .

7- قولُ اللهِ تعالى: قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، وَصَفَهم فيه بالجهلِ المُطلَقِ، غيرَ مُتعلِّقٍ بشيءٍ؛ لِيَشْمَلَ كلَّ ما يصلُحُ له من الجهلِ الَّذي هو فَقْدُ العِلْمِ، والجهلِ الَّذي هو سَفَهُ النَّفسِ، وطَيْشُ العقلِ، وأهمُّه المناسِبُ للمَقامِ جَهْلُ التَّوحيدِ، وما يجب من إفرادِ الرَّبِّ تعالى بالعبادةِ من غيرِ واسطةٍ .

8- الاشتغالُ بعبادةِ غيرِ اللهِ مُتَبَّرٌ وباطلٌ وضائعٌ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .

9- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُسلوبُ استئنافٍ مُفيدٌ للتَّعليلِ والدَّليلِ؛ ليُبيِّنَ لهم فسادَ ما طَلبوه في نفْسِه؛ عسى أنْ تستعِدَّ عُقولُهم لِفَهْمِه، واستبانةِ قُبْحِه .

10- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ، لَمَّا كان الشَّيءُ قد يَهلِكُ في الدُّنيا أو في الآخرةِ عُبِّرَ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ إشارةً إلى أنَّه الآنَ كذلك، وإنْ رُئِيَ بخِلافِه .

11- قولُ اللهِ تعالى: قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، أنْكَرَ أنْ يُتَأَلَّهَ غيرُه، وحَصَرَ الأمْرَ فيه، ثمَّ بيَّنَه بقولِه: وَهُوَ، أي: والحالُ أنَّه هو وحْدَهُ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، أي: لو لم يكُنْ لوجوبِ اختصاصِهم له بالعِبادةِ سببٌ سوى اختصاصِه لهم بالتَّفضيلِ لكان كافيًا .

12- قولُ اللهِ تعالى: قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، فَغَيْرُ اللهِ أَعَمُّ الألفاظِ الدَّالَّةِ على المُحْدَثاتِ؛ فهو يشمَلُ أَخَسَّ المخلوقاتِ وأَعْجَزَها عن النَّفعِ والضُّرِّ؛ كالأصنامِ، ويشمَلُ أفضلَها وأكملَها؛ كالملائكةِ والنَّبيِّينَ عليهم السَّلامُ؛ لِيُثْبِتَ أنَّه لا يوجد مخلوقٌ يَستحِقُّ العبادةَ مع اللهِ تعالى .

13- قولُ اللهِ تعالى عن مُوسَى عليه السَّلام: قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أي فضَّلَهم بفضائلَ لم تجتمِعْ لأُمَّةٍ غيرِهم يَومئذٍ، ومِن جُملةِ العالَمين هؤلاءِ القومُ الذين أَتَوْا عليهم، ورأوهم يَعكُفون على أصنامٍ لهم، وذلك كِنايةٌ عن إنكارِ طَلَبِهم اتِّخاذَ أصنامٍ مِثْلَهم؛ لأنَّ شأْنَ الفاضلِ ألَّا يُقَلِّدَ المفضولَ؛ لأنَّ اقتباسَ أحوالِ الغَيْرِ يتضمَّنُ اعترافًا بأنَّه أَرْجَحُ رأْيًا وأَحْسَنُ حالًا في تلك النَّاحيَةِ .

14- قال تعالى: وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، إنَّما جُعِلَتِ النَّجاةُ من آلِ فرعونَ، ولم تُجْعَلْ من فرعونَ، مع أنَّه الآمِرُ بتعذيبِ بني إسرائيلَ؛ تعليقًا للفعلِ بمَنْ هو مِن متعلِّقاتِه على طريقةِ الحقيقةِ العقليَّةِ، وتنبيهًا على أنَّ هؤلاءِ المكلَّفين ببني إسرائيلَ كانوا يَتجاوَزون الحَدَّ المأمورَ به في الإعناتِ على عادةِ المُنفِّذينَ؛ فإنَّهم أقلُّ رحمةً، وأَضْيَقُ نُفوسًا من وُلاةِ الأُمورِ

 

.

بلاغة الآيات :

 

قوله: فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ

قوله: عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ: فيه اختيارٌ لطريقِ التَّنكيرِ في أَصْنامٍ، ووصْفُها بأنَّها لهم؛ ليُتوسَّل به إلى إرادةِ تحقيرِ الأصنامِ وأنَّها مجهولةٌ؛ لأنَّ التنكيرَ يستلزمُ خفاءَ المعرفةِ

.

والتَّشبيهُ في قولِه: كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ أرادوا به حَضَّ موسى على إجابةِ سؤالِهم، وابتِهاجًا بما رَأَوْا من حالِ القومِ الَّذينَ حَلُّوا بَيْنَ ظَهْرَانَيهم .

قوله: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ: خبرٌ مُستعمَلٌ في مَعنَييهِ- الصَّريحِ والكِناية- مُكنًّى به عن التعجُّبِ مِن فداحةِ جَهلِهم .

ووصْفُهم بالجَهلِ المُطلَق، ومَجيئُه بصِيغة المضارِع تَجْهَلُونَ يُشيرُ إلى أنَّ الجهلَ كأنَّه معهم في الحالِ والمستقبلِ لا يُفارقهم .

وإسنادُ الجهلِ إلى القومِ في قوله: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أبلَغُ من إسنادِه إلى ضَميرِ المخاطَبين؛ لأنَّه حُكْمٌ على جماعتِهم بما هو كالمتحقِّقِ المعروفِ من حالِهم، الَّذي هو عِلَّةٌ لمقالِهم، يدخُلُ فيه الَّذينَ سألوه ذلك منهم دُخولًا أوَّليًّا .

قوله: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

قوله: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ جملةٌ تَعليليَّةٌ لمضمونِ جُملة إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ؛ فلذلِكَ فُصِلتْ، ولم تُعطَفْ عليها، وأُكِّدتْ وجُعِلتِ اسميَّةً .

وقولُه تعالى: مُتَبَّرٌ أي: مُكَسَّرٌ مُفَتَّتٌ مُهْلَكٌ على وجهِ المبالَغةِ .

وفي إيقاع هؤُلاءِ اسمًا لـ إنَّ، وتَقديمِ خَبرِ المبتدأ مُتَبَّرٌ مِن الجملة الواقعةِ خبرًا لها؛ وسْمٌ لعَبَدةِ الأصنامِ بأنَّهم هم المُعرَّضون للتَّبارِ أي: الهَلاكِ، وأنَّه لا يَعْدُوهم البتَّةَ، وأنَّه لهم ضربةُ لازبٍ؛ ليُحَذِّرهم عاقبةَ ما طَلَبوا، ويُبغِّض إليهم ما أحبُّوا .

وقوله: وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ: الإخبار بالباطِل هنا كالإخبارِ بالمصدرِ؛ يُفيدُ المبالغةَ في بُطلانِه؛ لأنَّ المَقامَ مقامُ التوبيخِ، والمبالغةِ في الإنكارِ .

قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ إِعَادَةُ لَفْظِ قَالَ مُسْتَأْنَفًا في حِكايةِ تَكملةِ جوابِ موسَى عليه السَّلامُ؛ لأنَّه يُعادُ في حِكايةِ الأقوال إذا طال المقولُ، أو لأنَّه انتقالٌ مِن غرَضِ التوبيخِ على سؤالِهم إلى غرَضِ التَّذكيرِ بنِعمةِ الله عليهم، وأنَّ شُكرَ النِّعمةِ يَقتضي زَجْرَهم عن مُحاولةِ عِبادةِ غيرِ المنعِم .

والاستفهامُ في قوله: أَغَيْرَ اللَّهِ: للإنكارِ والتعجُّبِ مِن طَلِبَتِهم- مع كونِهم مَغمورِينَ في نِعمةِ اللهِ- عِبادةَ غيرِ الله، وقدْ أُولي المستَفْهَم عنه الهمزةُ؛ للدَّلالةِ على أنَّ مَحَلَّ الإنكارِ هو اتخاذُ غيرِ الله إلهًا؛ فتقديمُ المفعولِ الثاني للاختصاصِ؛ للمبالغةِ في الإنكارِ، أي: اختصاص الإنكارِ ببَغيِ غير الله إلهًا .

وقوله: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فيه مَجيءُ المُسنَدِ فَضَّلَكُمْ فعليًّا؛ ليُفيدَ تقديمُ المسنَدِ إليه عليه تخصيصَه بذلك الخبرِ الفِعلي، أي: وهو فَضَّلَكم، لم تُفضِّلْكم الأصنامُ؛ فكان الإنكارُ عليهم تحميقًا لهم في أنَّهم مغمورونَ في نِعمة اللهِ ويَطلُبون عِبادةَ ما لا يُنعِم .

قولُه تعالى: وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فيه انتقالٌ إلى كَلامِه تعالى عن نَفْسِه؛ خاطَبَ به مَنْ أَنْزَلَ إليهم هذا الوحيَ مِن خَلْقِه؛ تَنبيهًا لهم بتَلوينِ الكَلامِ، وبما في مُخاطَبةِ الرَّبِّ لهم كِفاحًا مِنَ التَّأثيرِ الخاصِّ إلى كَوْنِه هو المُسْدِي لهذا الإنعامِ .

=============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (142-143)

ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ

غريب الكلمات:

 

مِيقَاتُ: المِيقَاتُ مِفعالٌ مِن الوَقْتِ، وهو الوقتُ المضروبُ للشَّيءِ، والوَعْدُ الَّذي جُعِلَ له وَقْتٌ، أو: هو القدرُ المحدَّدُ للفعلِ مِن الزَّمانِ أو المكانِ، وأصْلُ (وقت): يَدُلُّ عَلَى حَدِّ شَيْءٍ وَكُنْهِه؛ فِي زَمانٍ وَغَيْرِه

.

اخْلُفْنِي: أي: قُمْ مَقامي، والخِلافةُ: النِّيابةُ عن الآخَرِ؛ يقال: خَلَفَ فلانٌ فلانًا، أي: قامَ بالأمْرِ عنه، إمَّا معه وإمَّا بَعدَه، وأصْلُه: مجيءُ شيءٍ بعْدَ شيءٍ يقوم مَقامَه .

تَجَلَّى: أي: ظَهَر وبانَ، أو ظَهَرَ من أَمْرِه ما شاء، وأصْلُ الجَلْو: الكَشْفُ الظَّاهرُ، وكذلك انْكِشافُ الشَّيْءِ وبُروزُه .

دَكًّا: أي: مَدكوكًا أو مُنْدَكًّا، أو: مستويًا مع وجهِ الأرضِ، أو: مُلصقًا بالأرضِ، والدَّكُّ: الأرضُ اللَّيِّنةُ السَّهلةُ، ويُقالُ: ناقةٌ دَكَّاءُ: إذا لم يَكُنْ لها سَنامٌ، وأصْلُ (دكك): تَطامُنٌ وانْسِطاحٌ .

وَخَرَّ: أي: سَقَط، وأصْلُ (خرر): اضْطِرابٌ وسُقوطٌ مَعَ صَوْتٍ .

صَعِقًا: أي: مَغْشِيًّا عليه مع صِياحٍ، وشِدَّةِ صَوْتٍ، وكذلك يقال: صَعِقَ، إِذا ماتَ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً

أَرْبَعِينَ: مَنصوبةٌ على أنَّها حالٌ، أي: تَمَّ كاملًا، أو بالغًا هذا العددَ. أو على أنَّها مَفعولٌ به لـ تَمَّ، على تَضْمينِ «تَمَّ» معنى «بَلَغَ». أو على أنَّها ظَرْفٌ؛ لأنَّها عَددُ أزمنةٍ. أو على أنَّها تمييزٌ محوَّلٌ عن الفاعلِ، والأصْلُ: فتمَّ أربعونَ مِيقاتِ رَبِّه، ثمَّ أُسْنِدَ التَّمامُ إلى ميقاتٍ، وانتصَب أَرْبَعِينَ على التَّمييز؛ كقولِه تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا

 

[مريم: 4] .

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه واعَدَ موسى ثلاثين ليلةً، يرتقِبُ بعْدَها مُناجاةَ ربِّهِ، وإنزالَ التَّوراةِ عليه، وأتممَها عزَّ وجلَّ بعَشْرِ ليالٍ، فتَمَّ ميقاتُ ربِّه أربعين ليلةً، وأمَرَ موسى أخاه هارونَ- لَمَّا أراد الذَّهابَ لمناجاةِ اللهِ- أنْ يخلُفَه في قومِه، وأنْ يُصلِحَ كلَّ ما يحتاجُ إلى صلاحٍ من أَمْرِهم، ونهاه أنْ يَتَّبِعَ طريقَ المفسدينَ.

ولَمَّا جاء موسى للموعِدِ الَّذي حدَّده له اللهُ عزَّ وجلَّ ليُناجيَه، ويُعطيَه التَّوراةَ، وكَلَّمَهُ عزَّ وجلَّ بلا واسطةٍ، طلَب موسى مِن ربِّه أنْ يراه، فأخبره تعالى أنَّه لن يقدِرَ على رُؤيتِه في الدُّنيا، وأمره أنْ ينظُرَ إلى الجبلِ فإنِ استقرَّ في مكانِه بعْدَ أنْ يتجلَّى له اللهُ، فسوف يرَى موسى ربَّه، فلمَّا ظهَرَ اللهُ للجبلِ جعله دكًّا، وسقَطَ موسى مَغْشِيًّا عليه مِن شِدَّةِ دَكِّ الجبلِ، فلمَّا أَفاقَ قال: سُبحانَكَ! تُبْتُ إليك، وأنا أوَّلُ المؤمنين.

تفسير الآيتين :

 

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ

أي: وواعَدْنا

موسى انقضاءَ ثلاثين ليلةً ينتظِرُ، ويترقَّب بعْدَها مُناجاتِنا، وإنزالَ التَّوراةِ عليه، وأَتْمَمْنا الثَّلاثينَ بعَشْرِ ليالٍ أُخْرى .

كما قال تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة: 51] .

فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً

أي: فكمَلَ بذلك الوقتُ الَّذي واعَدَ اللهُ موسى أنْ يُناجيَه فيه، ويُنزِلَ عليه التَّوراةَ، أربعين ليلةً .

وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ

أي: وقال موسى لأخيه النَّبيِّ هارونَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، لمَّا أراد أنْ يذهبَ إلى جبلِ الطُّورِ؛ لمناجاةِ اللهِ: كُنْ- يا هارونُ- خليفتي في بَني إسرائيلَ إلى أنْ أرجِعَ إليكم، وأَصْلِحْ كُلَّ ما يحتاجُ إلى الإصلاحِ من أَمْرِهم .

قال سُبحانَه: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه: 83، 84].

وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ

أي: وأَوْصى موسى عليه السَّلام أخاه هارونَ عليه السَّلامُ قائلًا له: ولا تَسْلُكْ طريقَ الَّذينَ يُفسِدون في الأرضِ بالمعاصِي .

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ

أي: ولَمَّا جاءَ موسى إلى جَبلِ الطُّورِ في الوقتِ الَّذي حدَّدْناه له؛ لنُناجيَه، ونُعطيَه التَّوراةَ، وكلَّمه ربُّه عزَّ وجلَّ من غير واسطةٍ، قال موسى: يا ربِّ، أَرِني نفْسَكَ؛ لأنظُرَ إليك .

قَالَ لَنْ تَرَانِي

أي: قال الله مُجيبًا موسى: لن تَقدِرَ على رُؤيتي في الدُّنيا .

عن أبي موسى الأشعريِّ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قام فينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بخَمسِ كَلِماتٍ، فقال: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا ينامُ، ولا ينبغي له أنْ ينامَ، يَخفِضُ القِسْطَ ويرفعُه، يُرفَعُ إليه عملُ اللَّيلِ قبلَ عملِ النَّهارِ، وعملُ النَّهارِ قبلَ عملِ اللَّيلِ، حِجابُه النُّورُ- وفي روايةِ أبي بكرٍ: النَّارُ- لو كشَفَه لأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِه ما انتهى إليه بصرُه مِن خَلْقِه )) .

ثمَّ بيَّنَ اللهُ تعالى لموسى عدمَ استطاعتِه رُؤيتَه في الدُّنيا، فقال مُقْنِعًا له بذلك :

وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي

أي: ولكن انظُرْ إلى الجبلِ- يا موسى- فإنْ تجلَّيْتُ له، وثَبَتَ مكانَه فسَوف تَراني، وإذا لم يَثْبُتْ مَكانَه- وهو أقوى منك، وأَشَدُّ صَلابةً- فإنَّك لن تُطيقَ رُؤيتي من بابٍ أَوْلى؛ فأنتَ أضعَفُ مِن أنْ تتحمَّلَ ذلك .

فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا

القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:

في قولِه تعالى دَكًّا قراءتانِ:

قِراءة دَكَّاءَ، أي: جعَلها أرضًا دكَّاءَ، وهي الأرضُ المُستَوِيَةُ .

قِراءة دَكًّا، أي: جعلها أرضًا مدكوكةً، أي: مُفَتَّتَةً كالتُّرابِ .

فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا

أي: فلمَّا ظهر اللهُ تعالى وبانَ للجبلِ جعله اللهُ مُفَتَّتًا، مستويًا بالأرضِ .

وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا

أي: وسقَط َموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مَغْشِيًّا عليه من شِدَّةِ دكِّ الجبلِ .

عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((النَّاسُ يَصعَقونَ يَوْمَ القِيامةِ، فأكونُ أوَّلَ مَنْ يُفيقُ، فإذا أنا بموسى آخِذٌ بقائِمةٍ من قَوائمِ العَرْشِ؛ فلا أدْري أَفاقَ قَبْلي، أم جُوزيَ بصَعْقةِ الطُّورِ )) .

وقال سليمانُ بنُ حَرْبٍ: حدَّثَنا حمَّادُ بن سَلَمَةَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ رضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قرأ هذه الآيةَ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف: 143] - قال حمَّادٌ: هكذا، وأَمْسَكَ سليمانُ بطَرَفِ إبهامِه على أُنْمُلَةِ إصْبَعِه اليُمنى، قال:-  فساخَ الجبلُ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا)) .

فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ

أي: فلمَّا أفاق موسى من غَشْيَتِه قال: أُنزِّهُك- يا الله- تنزيهًا عمَّا لا يَليقُ بكمالِك وجلالِك وعَظمتِك، ومن ذلك أنْ يَتحمَّلَ أحدٌ رؤيتَكَ في الدُّنيا ثمَّ يَعيشَ .

تُبْتُ إِلَيْكَ

أي: قال موسى: إنِّي تُبْتُ إليك- يا ربِّ-؛ فلَنْ أعودَ إلى طَلَبِ رؤيتِكَ في الدُّنيا .

كما قال نوحٌ عليه السَّلامُ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود: 47].

وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ

أي: قال موسى: وأنا أوَّلُ المؤمنينَ بأنَّه لا يَراكَ أحدٌ في الدُّنيا إلَّا هَلَكَ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- جَمَعَ موسى لهارونَ في وصيَّتِه مِلاكَ السِّيَاسةِ بقولِه: وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ؛ فإنَّ سياسةَ الأُمَّةِ تدور حوْلَ مِحورِ الإصلاحِ، وهو جَعْلُ الشَّيءِ صالحًا، فجميعُ تصرُّفاتِ الأُمَّةِ وأحوالِها يجب أن تكونَ صالحةً، وذلك بأنْ تكونَ الأعمالُ عائدةً بالخيرِ والصَّلاحِ لفاعِلِها ولغيرِه، فإنْ عادت بالصَّلاحِ عليه وبِضِدِّه على غيرِه لم تُعْتَبَرْ صلاحًا، ولا تلبَثُ أنْ تؤولَ فسادًا على مَنْ لاحَتْ عِنده صلاحًا، ثمَّ إذا تردَّدَ فعْلٌ بين كونِه خيرًا من جِهةٍ، وشرًّا من جِهةٍ أخرى وَجَبَ اعتبارُ أقوى حالتَيْهِ، فاعْتُبِرَ بها إنْ تعذَّرَ العُدولُ عنه إلى غيرِه، ممَّا هو أوفَرُ صلاحًا، وإنِ استوى جهتاه أُلْغِيَ إنْ أَمْكَنَ إلغاؤُه وإلَّا تخيَّرَ، وهذا أمْرٌ لهارونَ جامِعٌ لِمَا يتعيَّنُ عليه عملُه من أعمالِه في سياسةِ الأُمَّةِ

.

2- أَمَرَ اللهُ بالصَّلاحِ، ونَهَى عن الفَسادِ، وبَعَثَ رُسلَه بتَحصيلِ المصالحِ وتكميلِها، وتَعطيلِ المفاسدِ وتقليلِها؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

قال تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ، واعَدَ اللهُ تعالى موسى ثَلاثين ليلةً، وأَتَمَّها بعشْرٍ، فصارتْ أربعين ليلةً؛ ليستعِدَّ موسى ويتهيَّأَ لوعْدِ اللهِ، ويكونَ لنُزولِ التَّوراةِ موقِعٌ كبيرٌ لديهم، وتشوُّقٌ إلى إنزالِها

.

قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ سُمِّيَتْ زيادةُ اللَّيالي العشْرِ إتمامًا؛ إشارةً إلى أنَّ اللهَ تعالى أراد أنْ تكونَ مُناجاةُ موسى أربعين ليلةً، ولكنَّه لَمَّا أَمَرَه بها أمَرَه بها مُفرَّقةً؛ إمَّا لحِكْمةِ الاستيناسِ، وإمَّا لتكونَ تلك العشْرُ عبادةً أخرى؛ فيتكرَّرَ الثَّوابُ، والمرادُ اللَّيالي بأيامِها فاقْتُصِرَ على اللَّيالي؛ لأنَّ المُواعَدَةَ كانت لأجْلِ الانقطاعِ للعبادةِ وتلقِّي المناجاةِ، والنَّفسُ في اللَّيلِ أكثرُ تجرُّدًا للكمالاتِ النَّفسانيَّةِ، والأحوالِ الملكِيَّةِ منها في النَّهارِ .

قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ...، قال بعضُ العلماءِ: هذه الآيةُ الكريمةُ يُؤْخَذُ منها: أنَّ ضَرْبَ التَّأجيلِ، وتحديدَ المدَّةِ للمِيعادِ ونَحْوِه- أنَّه أمْرٌ مَعروفٌ قديمٌ، فيدُلُّ على ضرْبِ الأجَلِ والتَّحديدِ بثَلاثين أو أربعين لموعِدٍ ونحوِ ذلك، كَدَيْنٍ أو غيرِه ممَّا يحتاجُ إلى الآجالِ .

قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ...، قال بعضُ العلماءِ: هذه الآيةُ من سُورةِ الأعرافِ دلَّتْ على أنَّ التَّأْريخَ باللَّيالي لا بالأيَّامِ، وذلك هو المقرَّرُ في فنِّ العربيَّة كما دلَّتْ عليه هذه الآيةُ أنَّ التَّأْريخَ باللَّيالي لا بالأيَّامِ، فتقول: وقَعَ هذا لكذا وكذا ليلةً، ولا تقولُ: لكذا يومًا، فالتَّأْريخُ باللَّيالي؛ لأنَّ اللَّياليَ أوائلُ الشُّهورِ وهي سابقةٌ للأيَّامِ، فالتَّأْريخُ بها لا بالأيَّامِ، وهذه الآيةُ نَصٌّ صريحٌ في ذلك؛ لأنَّ اللهَ قال: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، ولم يقُلْ: ثلاثين يومًا، وقال: وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ، حَذَفَ منها التَّاءَ ولم يقُلْ: (بعشَرة)؛ لأنَّ اللَّياليَ مُؤنَّثةٌ، ولو أرادَ الأيَّامَ لقال: (بعشَرة) بالتَّاء، كما هو معروفٌ في محلِّه .

قولُ اللهِ تعالى: وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ فيه أمْرُه إيَّاه بالصَّلاحِ، ونَهْيُه عن اتِّباعِ سبيلِ المفسِدين هو على سَبيلِ التَّأكيدِ، لا لِتَوَهُّمِ أنَّه يقَعُ منه خِلافُ الإصلاحِ واتِّباعُ تِلك السَّبيلِ؛ لأنَّ مَنْصِبَ النُّبوَّةِ مُنزَّهٌ عن ذلك .

قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ، لَمَّا تعلَّق النَّهْيُ بسُلوكِ طريقِ المفسِدين، كان تحذيرًا من كُلِّ ما يُسْتَرْوَحُ منه مآلٌ إلى فسادٍ؛ لأنَّ المفسِدينَ قد يَعْملون عملًا لا فَسادَ فيه؛ فنُهِي عن المشارَكةِ في عَملِ مَنْ عُرِفَ بالفسادِ؛ لأنَّ صُدورَه عن المعروفِ بالفَسادِ كافٍ في توقُّعِ إفضائِه إلى فسادٍ؛ ففي هذا النَّهْيِ سَدُّ ذريعةِ الفسادِ، وسَدُّ ذرائعِ الفَسادِ من أُصولِ الإسلامِ .

قولُ اللهِ تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، ممَّا يُؤْذِنُ بأنَّ التَّكليمَ هو الَّذي أَطْمَعَ موسى عليه السَّلامُ في حُصولِ الرُّؤيةِ جَعْلُ جُملةِ: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ شرطًا لحرفِ (لَمَّا)؛ لأنَّ (لَمَّا) تدُلُّ على شِدَّةِ الارتباطِ بين شَرْطِها وجوابِها؛ فلذلك يَكْثُرُ أنْ يكونَ عِلَّةً في حُصولِ جوابِها .

قال اللهُ تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي، تعلَّقَ نُفاةُ الرُّؤيةِ بظاهرِ هذه الآيةِ، وقالوا: قال اللهُ: لَنْ تَرَانِي، و(لن) تكون للتَّأبيدِ، ولا حُجَّةَ لهم فيها، ومعنى الآيةِ: لن تراني في الدُّنيا أو في الحالِ؛ لأنَّه كان يَسأل الرُّؤيةَ في الحالِ، و(لن) لا تكون للتَّأبيدِ؛ كقولِه تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة: 95] ، إخبارًا عن اليهودِ، ثمَّ أخبر عنهم أنَّهم يَتمنَّوْنَ الموتَ في الآخرةِ؛ كما قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف: 77] ، ويَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة: 27] ، والدَّليلُ عليه أنَّه لم يَنسُبْه إلى الجهلِ بسؤالِ الرُّؤيةِ، وأنَّه لم يَقُلْ: إنِّي لا أُرى، حتَّى تكونَ لهم حُجَّةً، بل علَّقَ الرُّؤيةَ على استقرارِ الجبلِ، واستقرارُ الجبلِ عِند التَّجلِّي غيرُ مستحيلٍ إذا جعل اللهُ تعالى له تلك القوَّةَ، والمعلَّقُ بما لا يَستحيلُ لا يكون مُحالًا .

قولُ اللهِ تعالى: قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي، نبَّه تعالى بذلك على أنَّ الجبلَ مع شِدَّتِه وصلابتِه إذا لم يَستقرَّ فالآدميُّ مع ضَعْفِ بِنْيَتِهِ أَوْلى بألَّا يستقِرَّ، وهذا تسكينٌ لقلبِ موسى، وتخفيفٌ عنه مِنْ ثِقَلِ أعباءِ المنْعِ .

قوله سُبحانَه وتعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا، وهذا مِن أَبْيَنِ الأدلَّةِ على جوازِ رُؤيتِه تبارَك وتعالى؛ فإنَّه إذا جازَ أنْ يَتجلَّى للجَبلِ الَّذي هو جمادٌ، لا ثَوابَ له، ولا عِقابَ عليه، فكيف يمتَنِعُ أنْ يتجلَّى لأنبيائِه ورُسلِه وأوليائِه في دارِ كرامتِهم، ويُريَهم نفْسَه؟! فأَعْلَمَ سُبحانَه وتعالى موسى أنَّ الجبلَ إذا لم يَثْبُتْ لرؤيتِه في هذه الدَّارِ فالبشرُ أَضْعَفُ .

قال تعالى: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، رأى محمَّدٌ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما رأى في ليلةِ الإسراءِ، وهو ثابتُ الجأْشِ، حاضرُ القلبِ، لم يَفْنَ عن تلقِّي خِطابِ ربِّه وأوامرِه، ومراجعتِه في أمْرِ الصَّلاةِ مِرارًا، ولا رَيْبَ أنَّ هذا الحالَ أكمَلُ من حالِ موسى الكليمِ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهما؛ فإنَّ موسى خرَّ صَعِقًا، وهو في مَقامِه في الأرضِ، لَمَّا تجلَّى ربُّه للجبلِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَطَعَ تلك المسافاتِ، وخَرَقَ تلك الحُجُبَ، ورأى ما رأى، وما زاغَ بَصَرُهُ وما طَغى، ولا اضْطَرَبَ فؤادُه ولا صَعِقَ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه، ولا ريبَ أنَّ الوِراثةَ المحمَّديَّةَ أكمَلُ مِنَ الوِراثةِ الموسويَّةِ .

قولُه: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، تَعبيرُه بالإيمانِ في غايةِ المناسَبةِ لعَدمِ الرُّؤيةِ؛ لأنَّ شرطَ الإيمانِ أنْ يكونَ بالغَيبِ

 

.

بلاغة الآيتين :

 

قولُه تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إنَّما قال: فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مع أنَّه قد عُلِم ذلِك عند انضمامِ العَشْرِ إلى الثَّلاثينَ؛ لوُجوهٍ: أحدُها: أنَّه للتَّأكيدِ والإيضاحِ. الثَّاني: ليدُلَّ أنَّ العشْرَ ليالٍ لا ساعاتٌ. الثَّالثُ: ليَنفيَ تمامَ الثَّلاثينَ بالعشْر أنْ تكونَ من جُملةِ الثَّلاثينَ؛ ولرَفْعِ توهُّم أنَّ العَشرَ داخلةٌ في الثَّلاثين، بمَعنَى أنَّها كانتْ عِشرينَ ليلةً فأُتِمَّتْ بعشْرٍ

.

وإِضَافَةُ الميقات إِلَى رَبِّهِ في قولِه: فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ؛ لِلتَّشْرِيفِ .

قوله: وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ: فيه التَّحذيرُ مِن الفَسادِ بأبلغ صِيغةٍ؛ لأنَّها جامعةٌ بين نَهيٍ، وبين تعليقِ النَّهيِ باتِّباعِ سَبيلِ المُفسِدين .

قوله: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا معنى اللَّام في لِمِيقَاتِنَا الاختِصاصُ، فكأنَّه قيل: واختصَّ مَجيئُه بمِيقاتِنا .

=======

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (144-145)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ

غريب الكلمات :

 

اصْطَفَيْتُكَ: أي: اخترْتُكَ، وأَصْلُ (صفو): يدُلُّ على خُلوصٍ من كُلِّ شَوْبٍ

.

مَوْعِظَةً: الموعظةُ هي التَّخويفُ، أو الزَّجْرُ المُقترِنُ بتخويفٍ، وهي أيضًا تذكيرٌ بالخيرِ وما يَرِقُّ له القلبُ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ

مِنْ كُلِّ جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بمحذوفٍ، حالٌ مِن مَوْعِظَةً، ومَوْعِظَةً مفعولٌ به منصوبٌ بالفعلِ (كتب)، وتَفْصِيلًا معطوفٌ على مَوْعِظَةً منصوبٌ، والتقديرُ: كتبْنا له في الألواح موعظةً مِن كُلِّ شَيءٍ وتَفصيلًا، ويجوزُ أن يكونَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ في محلِّ نصبٍ، مفعولَ كَتَبْنَا ، وعليه فـ مَوْعِظَةً بَدَلٌ مِن محلِّ الجارِّ والمجرورِ، وتفصيلًا معطوفٌ منصوبٌ، والمعنى: كَتَبْنا له كلَّ شيءٍ كان بنو إسرائيلَ يَحْتاجون إليه في دينِهم؛ مِن المواعِظِ، وتَفصيلِ الأحكامِ، وقيل: مفعولُ كَتَبْنا محذوفٌ دَلَّ عليه الفِعلُ، تقديرُه: وكَتَبْنا له مكتوبًا مِن كُلِّ شَيءٍ

، وانتصَبَ مَوْعِظةً وَتَفْصِيلًا على المفعولِ مِن أجلِه، أي: كَتَبْنا له ذلك المكتوبَ للاتِّعاظِ وللتَّفصيلِ، أو انتصَبَ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا على الحالِ مِن الضَّميرِ المرفوعِ في قَولِه: وَكَتَبْنَا لَهُ أي: واعظينَ ومُفَصِّلينَ. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه قال لموسى: إنَّه اختارَه وفضَّلَه على أهلِ زمانِه، بإرسالِه إلى بني إسرائيلَ، وتكْليمِه إيَّاه بلا واسِطةٍ، وأمَرَه أنْ يأخُذَ ما آتاه من التَّوراةِ ويتمسَّكَ بها، وأنْ يكونَ من الشَّاكرينَ.

وأخبَرَ تعالى أنَّه كتَبَ له في الألواحِ المُشتمِلةِ على التَّوراةِ كُلَّ شيءٍ تحتاج إليه أُمَّتُه في دِينِها، موعظةً، وتفصيلًا لكلِّ شيءٍ ممَّا يُحتاجُ إلى تَبْيينِه، وأمَرَه أنْ يتمسَّكَ بما كُتِبَ له بقوَّةٍ، وأنْ يأمُرَ قومَه أنْ يَتمسَّكوا بأحسنِ ما في التَّوراةِ، ثم قال تعالى: سَأُرِيكُمْ دَارَ من عصاني، وخالف أمري.

تفسير الآيتين :

 

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا طلَبَ موسى عليه السَّلامُ الرُّؤيةَ ومُنِعَها، عدَّدَ عليه تعالى وُجوهَ نِعَمِه العظيمةِ عليه، وأمَرَه أنْ يَشتغِلَ بشُكْرِها، وهذه تَسليةٌ منه تعالى له

.

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي

القراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفسيرِ:

في قولِه تعالى: بِرِسَالَاتِي قراءتانِ:

قراءة بِرِسَالَتِي، قيل: على معنى أنَّ اللهَ تعالى أرسَلَه مرَّةً واحدةً بكلامٍ كثيرٍ .

قراءة بِرِسَالَاتِي، قيل: على معنى أنَّه تعالى أَوْحى إليه مرَّةً بَعْدَ أُخْرى .

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي

أي: قال اللهُ: يا موسى، إنِّي اخترْتُكَ وفضَّلْتُكَ على أهلِ زمانِكَ بسببِ إرْسالي لك إلى بني إسرائيلَ، وتَكْليمي إيَّاكَ بلا واسطةٍ، دونَ غيرِكَ مِنَ النَّاسِ .

كما قال سُبحانَه: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه: 13] .

فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ

أي: فَخُذْ ما أعطيْتُكَ من التَّوراةِ، وتمسَّكْ بها- يا موسى- واعمَلْ بما فيها مِنَ الأوامِرِ والنَّواهي .

وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ

أي: وكُنْ- يا موسى- مِنَ الشَّاكرينَ للهِ تعالى بطاعتِه على ما آتاكَ مِنَ الرِّسالةِ، وخَصَّكَ به من الكلامِ، ومَنَحَكَ من النِّعَمِ .

وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ تعالى أنَّه خَصَّ موسى عليه السَّلامُ بالرِّسالةِ، ذكَرَ في هذه الآيةِ تفصيلَ تلك الرِّسالةِ، فقال :

وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ

أي: وكتبْنا لموسى في ألواحِه - المُشتمِلةِ على التَّوراةِ - كلَّ شيءٍ تحتاجُ إليه أُمَّتُه في دينِها .

عن أبي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((احتجَّ آدمُ وموسى، فقال موسى: يا آدمُ، أنتَ أبونا، خيَّبْتَنا وأخرجْتَنا منَ الجنَّةِ، فقالَ لَهُ آدمُ: أنتَ موسَى، اصطفاكَ اللهُ بِكَلامِهِ، وخطَّ لَكَ بيدِه، أتلومُني على أمْرٍ قدَّرَهُ اللهُ عليَّ قبلَ أنْ يخلُقَني بأربعينَ سنةً؟! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: فحَجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى ))، وفي حديثِ ابنِ أبي عُمَرَ وابنِ عَبْدَةَ: ((قالَ أحدُهما: خَطَّ، وقالَ الآخَرُ: كتبَ لَكَ التَّوراةَ بيدِهِ)) .

وفي روايةٍ أُخْرى عن أبي هريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((احتجَّ آدمُ وموسى عليهما السَّلامُ عِندَ ربِّهما، فحجَّ آدمُ موسى، قال موسى: أنتَ آدمُ الَّذي خلقَكَ اللهُ بيدِه، ونفخَ فيكَ من رُوحِهِ، وأَسْجَدَ لَكَ ملائِكَتَهُ، وأسكنَكَ في جنَّتِهِ،ثمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بخطيئتِكَ إلى الأرضِ، فقال آدمُ: أنتَ موسى الَّذي اصطفاكَ اللهُ برسالتِهِ، وبِكَلامِهِ، وأعطاكَ الألواحَ فيها تِبيانُ كلِّ شيءٍ، وقرَّبَكَ نجيًّا، فبِكَمْ وجدْتَ اللهَ كتَبَ التَّوراةَ قبْلَ أن أُخْلَقَ؟ قال موسى: بأربعينَ عامًا، قال آدمُ: فَهَل وجدْتَ فيها: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قالَ: نَعَمْ، قال: أفتلومُني على أنْ عَمِلْتُ عملًا كتبَهُ اللهُ عليَّ أنْ أعمَلَهُ قبْلَ أنْ يخلُقَني بأربعينَ سنةً؟! قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فَحجَّ آدمُ موسى )) .

مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ

أي: كتَبْنا لموسى في التَّوراةِ من كلِّ شيءٍ؛ تذكيرًا وتحذيرًا، وترغيبًا وترهيبًا لقومِه، ومَن أُمِر بالعملِ بما كُتِب في الألواحِ، وتبيينًا لكلِّ شيءٍ مِن الأمرِ والنَّهي، والحلالِ والحرامِ، والحدودِ، والأحكامِ، والعقائدِ، والأخلاقِ، والآدابِ .

كما قال تعالى: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 154] .

فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ

أي: فقُلْنا: يا موسى، تَمَسَّكْ بما كتَبْنا لك في الألواحِ بِجِدٍّ واجتهادٍ، وصبرٍ وعزمٍ، ونشاطٍ على إقامةِ ما فيها .

وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا

أي: وَأْمُرْ- يا موسى- قومَكَ بني إسرائيلَ بأنْ يتمسَّكوا بأحسَنِ ما يجِدونَ في التَّوراةِ، فيعملوا بأوامِرِها، ويَترُكوا نواهيَها، ويتدبَّروا مواعِظَها .

ثمَّ توعَّدَ اللهُ مَنْ يُضيعُ العملَ بالتَّوراةِ من بني إسرائيلَ، فقال لهم مُهدِّدًا :

سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ

أي: سأُريكم دارَ مَن عَصاني وخالَفَ أَمْري

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُه تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، أمْرُ اللهِ تعالى لموسى بأَخْذِ ما آتاه، والشُّكرِ على الاصطفاءِ والعطاءِ، هو أمْرُ التَّعليمِ والتَّوجيهِ لِمَا ينبغي أنْ تُقابَلَ به نِعمةُ اللهِ. والرُّسلُ- صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم- قُدوةٌ للنَّاسِ، وللنَّاسِ فيهم أُسْوَةٌ، وعلى النَّاسِ أنْ يأخُذوا ما آتاهم اللهُ بالقَبولِ والقَناعةِ والرِّضا بعَطاءِ اللهِ والشُّكرِ عليه؛ استِزادةً من النِّعمةِ، وإصلاحًا للقلبِ، وتحرُّزًا من البَطَرِ، واتِّصالًا باللهِ، فقولُه تعالى: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فيه تأديبٌ وتقنيعٌ، وحَمْلٌ على جادَّةِ السَّلامةِ، ومثالٌ لكلِّ أحدٍ في حالِه، فإنَّ جميعَ النِّعَمِ من عِندِه بمقدارٍ، وكُلَّ الأمورِ بمَرْأَى من اللهِ ومَسْمَعٍ

.

2- الكتابُ الإلهيُّ يجِبُ أخْذُه بقوَّةٍ وإرادةٍ وجِدٍّ وعزيمةٍ؛ لتنفيذِ ما هَدَى إليه من الإصلاحِ، وتكوينِ الأُمَّةِ تكوينًا جديدًا صالحًا، ويتأكَّدُ ذلك في الدَّاعي إليه، والمُنفِّذِ له بقولِه وعملِه؛ ليكونَ لقومِه فيه أُسوةٌ حَسَنةٌ؛ يُرْشِدُ إلى ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

قولُه تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي، الاصطِفاءُ: الاجتِباءُ، أي: فضَّلْتُك، ولم يَقُلْ: على الخَلْقِ؛ لأنَّ من هذا الاصطفاءِ أنَّه كلَّمَه، وقد كلَّمَ الملائكةَ، وأرسَلَه وأرسَلَ غيرَه، فالمرادُ: عَلَى النَّاسِ المرسَلِ إليهم

.

قال الله تعالى: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا لم يُعَدَّ فِعْلُ الأَخْذِ بالباءِ في قولِه: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ؛ لأنَّه مُستعمَلٌ في معنى التَّلقِّي والحِفْظِ؛ لأنَّه أَهَمُّ من الأخْذِ بمعنى التَّمسُّكِ والعملِ؛ فإنَّ الأوَّلَ حَظُّ وَلِيِّ الأمْرِ، والثَّانِيَ حَظُّ جميعِ الأُمَّةِ .

قولُ اللهِ تعالى: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ: الإِراءَةُ مِن (رأى) البَصَريَّةِ؛ لأنَّها عُدِّيَتْ إلى مَفعولَيْنِ فقط، وأُوثِرَ فِعْلُ: سَأُرِيكُمْ دونَ نَحْوِ: (سَأُدْخِلُكم)؛ لأنَّ اللهَ مَنَعَ مُعظَمَ القومِ الَّذينَ كانوا مع موسى مِن دُخولِ الأرضِ المقدَّسةِ لَمَّا امتَنَعوا من قِتالِ الكَنْعَانِيِّينَ

 

وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ في هذه الآيةِ.

بلاغة الآيتين:

 

قوله: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ

قوله: يَا مُوسَى النِّداءُ فيه للتأنيسِ، وإزالةِ الرَّوعِ

.

وقوله: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ: فيه تأكيدُ الخبرِ للاهتمامِ به؛ إذ ليسَ محلًّا للإنكارِ؛ والاصطفاءُ افتعالٌ مبالغةً في الإصفاءِ أيضًا .

والإخبارُ عن كُنْ بقولِه: مِنَ الشَّاكِرِينَ: أبلغُ مِن أنْ يُقال: (كن شاكرًا)؛ لأنَّ هذه الصِّيغةَ تُفيدُ كونَه مَعدودًا في زُمرةِ الشَّاكِرينَ، ومَعروفًا إسهامُه لهم في الشُّكرِ .

وحذف مُتعلَّق الشُّكْرِ في قولِه تعالى: وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ يدُلُّ على عُمومِه، كما أنَّ صِيغةَ الصِّفةِ منه تدُلُّ على التَّمكُّنِ منه والرُّسوخِ فيه، والمعنى: كُنْ من الرَّاسِخينَ في الشُّكرِ لنِعمتي بها عليك وعلى قومِكَ .

قوله: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ

وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ عرَّفَ (الألواحَ) لِعَظَمَتِها؛ تَنْبيهًا على أنَّها لجَلالةِ ما اخْتَصَّتْ به كأنَّها المُخْتَصَّةُ بهذا الاسمِ .

قوله: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا

قوله: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ فيه تمثيلٌ لحالةِ العزمِ على العملِ بما في الألواحِ، بمنتهَى الجدِّ والحِرص دون تأخيرٍ ولا تساهُلٍ، ولا انقطاعٍ عند المشقَّةِ ولا مَللٍ- بحالةِ القويِّ الذي لا يَستعصي عليه عملٌ يُريده .

وفي قوله: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا جُزِمَ الفِعلُ يَأْخُذُوا جوابًا لقولِه: وَأْمُرْ تَحقيقًا لحُصولِ امتثالِهم عندَما يأمرُهم .

وقوله: بِأَحْسَنِهَا وصْفٌ مَسلوبُ المفاضَلةِ، مقصودٌ به المبالغةُ في الحُسنِ؛ فإضافتُها إلى ضَميرِ الألواحِ على معنَى اللام، أي: بالأحسنِ الذي هو لها، وهو جميعُ ما فيها؛ لظُهورِ أنَّ ما فيها من الشرائع ليس بَينَه تفاضُلٌ بين أحسن ودُون الأحسن، بل كلُّه مَرتبةٌ واحدةٌ فيما عُيِّن له ، وهذا على أحدِ الأوجهِ في هذه الآيةِ.

قوله: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ فيه تلوينٌ للخِطابِ، وتوجيهٌ له إلى قَومِه- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بطريقِ الالتفاتِ؛ لاستِرعاءِ الاهتمامِ، وحملًا لهم على الجِدِّ في الامتثالِ بما أُمِروا به؛ إمَّا على نهجِ الوعيدِ والترهيبِ على أنَّ المرادَ بـدَارَ الفَاسِقِينَ دِيارُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم؛ فإنَّ رُؤيتَها- وهي الخاليةُ عن أهلِها- خاوية على عُروشِها، موجبةٌ للاعتبارِ والانزجارِ عن مِثلِ أعمالِ أهلِها؛ كيلَا يَحُلَّ بهم ما حَلَّ بأولئك. وإمَّا على نهجِ الوَعدِ والتَّرغيبِ على أنَّ المرادَ بـدَارَ الفَاسِقِينَ إمَّا أرضُ مصرَ خاصَّةً، أو مع أرضِ الجَبابرةِ والعمالقةِ بالشَّامِ ، وهذا على أحدِ أوجهِ تأويلِ هذه الآيةِ.

=========

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (146-147)

ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ

غريب الكلمات :

 

سَأَصْرِفُ: أي: سأَرُدُّ، والصَّرفُ: رَدُّ الشَّيءِ من حالةٍ إلى حالةٍ، أو إبدالُه بغيرِه، وأصْلُ (صرف): يدُلُّ على رجْعِ الشَّيءِ

.

الْغَيِّ: أي: الانهِماكِ في الباطلِ والضَّلالِ، والجهلِ بالأمْر مِن اعتقادٍ فاسدٍ، وأصْلُ الغَيِّ: خِلافُ الرُّشْدِ .

غَافِلِينَ: أي: ساهِينَ لاهِين، والغَفْلةُ: سَهْوٌ يَعْتري الإنسانَ مِن قِلَّةِ التَّحفُّظِ والتَّيقُّظِ، وأَصْلُ (غفل): ترْكُ الشَّيءِ سَهْوًا، وربَّما كان عن عَمْدٍ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه سيُبْعِدُ عن آياتِه الَّذينَ يَتكبَّرونَ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ، وإنْ يَرَوْا كُلَّ حُجَّةٍ تدُلُّ على أنَّ اللهَ هو مَنْ يَستحِقُّ العِبادةَ لا يُؤمِنوا بها، وإنْ يَرَوْا طَريقَ الهُدى والاستقامةِ لا يَسلُكوه، وإنْ يَرَوْا سَبيلَ الضَّلالِ يَسلُكوه؛ ذلك بأنَّهم كذَّبوا بآياتِ اللهِ، وكانوا عنها غافلين.

ثُمَّ بيَّنَ تعالى أنَّ الَّذينَ كذَّبوا بآياتِه، وأنْكَروا البَعْثَ بعْدَ الموتِ، ولقاءَه في الآخرةِ، بَطَلَتْ أعمالُهم، ولا يُجْزَوْنَ إلَّا بما يَستحِقُّونَ من العِقابِ على أعمالِهم السَّيِّئةِ.

تفسير الآيتين :

 

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى في الآيةِ المتقدمةِ قولَه: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ، ذَكَرَ ما يعاملُهم به، وما يَفْعَلُ بهم مِنْ صَرْفِه إيَّاهم عن آياتِه؛ لِفِسْقِهم وخُروجِهم عن طَوْرِهم إلى وَصْفٍ ليس لهم، ثُمَّ ذَكَرَ تعالى من أحوالِهم ما استحقُّوا به اسْمَ الفِسْقِ

، فقال:

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ

أي: سأَمْنَعُ وأصُدُّ عن فَهْمِ آياتِ كُتبي المُنزَّلةِ، وعن التَّفكُّرِ في آياتي الكَوْنيَّةِ الدَّالَّةِ على عَظَمَتي، الَّذينَ يُعجَبونَ بأنفُسِهم؛ فيَرُدُّونَ الحقَّ، ويَحتقِرونَ الخَلْقَ .

كما قال تعالى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [الإسراء: 45-46] .

وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .

وقال سُبحانَه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ * أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ [التوبة: 124-127] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يدخُلُ الجنَّةَ مَنْ كان في قلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قال رجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يكونَ ثوبُه حَسَنًا، ونَعْلُه حسنةً، قال: إنَّ اللهَ جميلٌ يُحِبُّ الجمالَ؛ الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ ، وغَمْطُ النَّاسِ ) .

وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا

أي: وإنْ يرَ هؤلاءِ المتكبِّرون كُلَّ حُجَّةٍ للهِ تدُلُّ على أنَّه المُستحِقُّ للعبادةِ وحْدَه، لا يُؤمِنوا بها، سواءٌ كانت آيةً مُنزَّلةً، أو آيةً كَوْنيَّةً، أو معجزةً خارقةً .

كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .

وقال عزَّ وجلَّ: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ* وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر: 12- 15] .

وقال جلَّ جلالُه: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام: 111] .

وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا

أي: وإنْ يرَ هؤلاءِ المتكبِّرونَ طريقَ الهُدى ظاهرًا لهم، لا يسلُكوه، ولا يَرْغَبوا فيه .

وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا

أي: وإنْ يرَ هؤلاءِ المتكبِّرونَ طريقَ الضَّلالِ ظاهرًا لهم، يَسلُكوه، ويَرْغَبوا فيه .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا

أي: صرْفُنا المتكبِّرينَ عن فَهْمِ آياتِنا الشَّرعيَّةِ والكَوْنيَّةِ، هو عُقوبةٌ منَّا لهم بسببِ تكذيبِهم بها .

وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ

أي: وكان الكافرون مُعْرِضينَ عن تلك الآياتِ، لا يَتدبَّرونها، ولا يتفكَّرون فيها .

كما قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 1- 3] .

وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 3] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف: 105] .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(147)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذَكَرَ الله تعالى ما لِأَجْلِه صَرَفَ المتكبِّرينَ عن آياتِه بقولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ، بيَّنَ حالَ أولئك المكذِّبينَ، فقد كان يجوزُ أنْ يُظَنَّ أنهم يَختلِفونَ في بابِ العِقابِ؛ لأنَّ فيهم مَنْ يعمَلُ بعضَ أعمالِ البِرِّ؛ فبيَّنَ تعالى حالَ جميعِهم، سواءٌ كان مُتكبِّرًا أو مُتواضِعًا، أو كان قليلَ الإحسانِ أو كثيرَ الإحسانِ، فبيَّنَ تعالى أنَّ أعمالَهم مُحْبَطَةٌ .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ

أي: والَّذينَ كذَّبوا بحُجَجِنا وأدِلَّتِنا، وأنْكَروا البَعْثَ بعْدَ الموتِ، ولِقاءَنا في الآخرةِ، واستمرُّوا على ذلك إلى مماتِهم؛ بَطَلَتْ أعمالُهم وفَسَدَتْ، وذهبَتْ كأنَّها لم تَكُنْ .

هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

أي: لا نُجازي المكذِّبينَ بآياتي ولِقائي إلَّا بما يَستحِقُّونَ من العِقابِ على أعمالِهم السَّيِّئةِ

 

.

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 33] .

وقال سُبحانَه: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين: 36] .

وقال عزَّ وجلَّ: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17] .

وقال جلَّ جلالُه: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ* ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت: 27-28] .

وقال تبارَك وتعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ: 21-30] .

الفوائد التربوية :

 

القلبُ لا يَدخُلُه حَقائقُ الإيمانِ إذا كان فيه ما يُنجِّسُه مِنَ الكِبْرِ والحَسَدِ؛ فإنَّ مِن شأنِ الكِبْرِ أنْ يَصرِفَ أهلَه عن النَّظرِ والاستدلالِ على الحقِّ والهُدى لِأَجْلِ اتِّباعِه؛ يُرْشِدُ إلى ذلك قولُ اللهِ تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ فالَّذينَ يتكبَّرونَ مُعْجَبونَ بأنفُسِهم، يَعُدُّونَ أنفُسَهم عُظَماءَ؛ فلا يأتمِرونَ لآمِرٍ، ولا ينتصِحونَ لناصِحٍ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

في قولِ اللهِ تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ إشعارٌ بأنَّ الصَّرْفَ سببُه هذا التكبُّرُ، وفي قولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا إعْلامٌ بأنَّ ذلك الصَّرْفَ سببُه التَّكذيبُ، والجَمْعُ بينهما أنَّ التَّكبُّرَ سببٌ أوَّلُ، نَشَأَ عنه التَّكذيبُ؛ فنِسْبَةُ الصَّرْفِ إلى السَّببِ الأوَّلِ وإلى ما تَسَبَّبَ عنه

.

قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، زيادةُ قولِه: فِي الْأَرْضِ؛ لِتَفْضِيحِ تكبُّرِهم، والتَّشهيرِ بهم بأنَّ كِبْرَهم مظروفٌ في الأرضِ، أي: ليس هو خَفِيًّا مُقتصِرًا على أنفُسِهم، بل هو مَبْثوثٌ في الأرضِ، أي: مَبْثوثٌ أَثَرُه، فهو تكبُّرٌ شائعٌ في بِقاعِ الأرضِ؛ كقولِه: يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس: 23] ، وقولِه: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة: 27] ، وقولِه: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء: 37] .

قال تعالى: وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ، الغفلةُ انصرافُ العقلِ والذِّهْنِ عن تذكُّرِ شيءٍ بقَصْدٍ أو بغيرِ قَصْدٍ، وأكثرُ استعمالِه في القُرآنِ فيما كان عن قَصْدٍ بإعراضٍ وتشاغُلٍ، والمذمومُ منها ما كان عن قَصْدٍ، وهو مَناطُ التَّكْليفِ والمؤاخَذةِ، فأمَّا الغفلةُ عن غيرِ قَصْدٍ فلا مؤاخَذةَ عليها، وهي المقصودُ من قولِ عُلماءِ أصولِ الفِقهِ: يَمْتَنِعُ تكليفُ الغافِلِ

 

.

بلاغة الآيتين :

 

قوله: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ على احتمالِ أنَّ هذِه الآيةَ تَكملةٌ لِمَا خاطَبَ اللهُ به موسَى وقومَه، فجملةُ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ ... استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ بَني إسرائيلَ كانوا يَهابون أولئك الأقوامَ ويَخشونَ، فكأنَّهم تساءَلوا: كيف تُرينا دارَهم، وتَعِدُنا بها؟! وهو مَسوقٌ لتحذيرِهم عن التكبُّرِ الموجِبِ لعدمِ التفكُّرِ في الآياتِ، أو تكونُ الجُملةُ جوابًا لسؤالِ مَن يقول: إذا دَخَلْنا أرضَ العدوِّ فلعلَّهم يُؤمِنونَ بهَدْيِنا، ويتَّبعون دِينَنا؛ فلا نحتاجُ إلى قِتالهم، فأُجيبوا بأنَّ اللهَ يَصرِفُهم عن اتِّباعِ آياتِه؛ لأنَّهم جُبِلوا على التكبُّر في الأرضِ، والإعراضِ عن الآياتِ. وعلى احتمالِ أنْ تكونَ جملةُ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي مِن خِطابِ اللهِ تعالى لرسولِه مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فتكونُ الجملةُ مُعترضةً في أثناءِ قِصَّةِ بني إسرائيل، بمُناسَبةِ قولِه: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ؛ تعريضًا بأنَّ حال مُشرِكي العربِ كحالِ أولئك الفاسِقينَ، وتصريحًا بسببِ إدامتِهم العنادَ والإعراضَ عن الإيمانِ؛ فتكونُ الجملةُ مُستأنَفةً استئنافًا ابتدائيًّا

.

وتقديمُ المجرورِ عَنْ آيَاتِي على مَفعولِ سَأَصْرِفُ؛ للاهتمامِ بالآياتِ، ولأنَّ ذِكْرَه عقبَ الفعلِ المتعلِّقِ هو به أَحسنُ .

وتعريفُ المصروفِينَ عن الآياتِ بطريقِ الموصوليَّةِ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ...؛ للإيماءِ بالصِّلةِ إلى عِلَّةِ الصَّرْف، وهي ما تَضمَّنتْه الصِّلاتُ المذكورةُ؛ لأنَّ مَن صارتْ تِلك الصفاتُ حالاتٍ له لا يَنصُرُه اللهُ، أو لأنَّه إذا صارَ ذلك حالَه رِينَ على قَلْبِه؛ فصُرِفَ قَلبُه عن إدراكِ دَلالةِ الآياتِ، وزالتْ منه الأهليَّةُ لذلك الفَهْمِ الشَّريفِ .

وقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ جاءَ لتشنيعِ التَّكبُّرِ بذِكرِ ما هو صِفةٌ لازمةٌ له، وهو مُغايَرةُ الحقِّ، أي: باطل، وهي حالٌ لازمةٌ للتكبُّرِ، كاشِفةٌ لوصْفِه؛ إذ التكبُّرُ لا يكونُ بحقٍّ في جانبِ الخَلْقِ، وإنَّما هو وصْفٌ لله بحقٍّ؛ لأنَّه العظيمُ على كلِّ موجودٍ .

قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا، واجْتُلِبت (أنَّ) الدالة على المصدريَّة والتوكيدِ؛ لتحقيقِ هذا التسبُّبِ وتأكيدِه؛ لأنَّه محلُّ غرابةٍ .

وصِيغَ الإخبارُ عنهم بصِيغةِ وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ؛ للدَّلالةِ على استمرارِ غَفلتِهم، وللتنبيهِ على أنَّ غَفلتَهم عن قصْدٍ، وكونِها دَأبًا لهم، وإنَّما تكون كذلك إذا كانوا قد الْتَزَموها، فأمَّا لو كانتْ عن غيرِ قَصدٍ؛ فإنَّها قد تَعترِيهم وقد تُفارِقُهم .

قوله: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ هذه الجملةُ مُستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا، جَوابًا عن سؤالٍ ينشأُ عن قوله: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ؛ إذ قدْ يقولُ سائلٌ: كيف تَحبَطُ أعمالُهم الصالحةُ؟ فأُجيبَ بأنَّهم جُوزوا كما كانوا يَعملون، والاستفهامُ بـهَلْ مُشرَبٌ معنى النَّفي .

==========

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (148-149)

ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ

غريب الكلمات :

 

حُلِيِّهِمْ: الحُلِيُّ جَمْعُ الحَلْيِ، وهو اسمٌ لكلِّ ما يُتَزيَّنُ به مِن مَصاغِ الذَّهَبِ والفِضَّة، وأصْلُ (حلي): تحسينُ الشيءِ

.

خُوَارٌ: أي: صوتُ البَقَرِ، وقد يُستعارُ للبَعيرِ، وأَصْلُ (خور): يَدُلُّ عَلَى صَوْتٍ .

سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ: أي: نَدِموا، يُقالُ: سُقِطَ في يَدِ فُلانٍ، إذا نَدِمَ، وأصْلُ (سقط): يَدُلُّ على الوقوعِ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ قومَ موسى صَنَعوا بعْدَ ذَهابِه لِميقاتِ ربِّه من حُلِيِّهم عِجْلًا جَسَدًا لا رُوحَ فيه، له صَوْتُ البقَرِ، فعبَدوه مِن دونِ اللهِ؛ ألم يَرَ هؤلاءِ القومُ أنَّ هذا العِجْلَ الَّذي عبَدوه لا يُكلِّمُهم، ولا يُرشِدُهم إلى خيرٍ؟! اتَّخذوه وكانوا ظالِمين.

ولَمَّا نَدِمَ بنو إسرائيلَ نَدَمًا شديدًا على اتِّخاذِهم العِجْلَ معبودًا مِن دونِ اللهِ، بعْدَ عَوْدَةِ موسى عليه السَّلامُ إليهم، ورَأَوْا أنَّهم قد انحرَفوا عن الطَّريقِ القويمِ؛ قالوا: لَئِنْ لم يرحمْنا ربُّنا ويغفِرْ لنا ذُنوبَنا لَنَكُونَنَّ من الخاسِرين.

تفسير الآيتين :

 

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى فيما تقدَّمَ قِصَّةَ المُناجاةِ، وما حصَلَ فيها من الآياتِ والعِبَرِ، ذَكَرَ في هذه الآيةِ ما كان من قَومِ موسى في مُدَّةِ مَغِيبِه في المناجاةِ من الإشْراكِ؛ لِمَا بَيْنَ السِّيَاقَيْنِ مِنَ العَلاقةِ والاشتراكِ في الزَّمَنِ

، فقال تعالى:

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا

أي: وصَنَعَ بنو إسرائيلَ مِن بعْدِ ذَهابِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى مِيقاتِ ربِّه، صَنَعوا مِن مَصُوغِهِمُ الَّذي يَتزيَّنونَ به عِجْلًا، وهو وَلَدُ البقرةِ، فعبَدوه مِن دونِ اللهِ سُبحانَه وتعالى !

كما قال تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة: 51] .

وقال سُبحانَه حاكيًا قولَ بني إسرائيلَ: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه: 88-87] .

وقال تعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه: 83-85] .

جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ

أي: كان العِجْلُ الَّذي عبَدَه قومُ موسى جِسْمًا، لا رُوحَ فيه، له صَوتُ البقرِ .

أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا اتَّخذَ قومُ موسى العِجلَ، بيَّن اللهُ تعالى لهم صِفاتِ النَّقْصِ الَّتي تُنافي الألوهيَّةَ، فقال :

أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا

أي: ألم يَرَ هؤلاء القومُ الَّذينَ عبَدوا العِجلَ المصْنوعَ من حُلِيِّهم أنَّه لا يستطيع أنْ يتحدَّثَ إليهم، ولا يُرشِدَهم إلى أيِّ خيرٍ؟! فكيف اتَّخذوه إلهًا، ومِن صِفاتِ المعبودِ الحقِّ أنَّه يتكلَّمُ ويَهدي ؟!

كما قال تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه: 89- 91] .

اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ

أي: اتَّخذَ قومُ موسى العِجلَ إلهًا، وكانوا بعِبادتِهم له ظالِمين لأنفُسِهم؛ حيثُ جعلوا العِبادةَ لمخلوقٍ، فوَضعوها في غيرِ مَوْضِعِها .

كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ [البقرة: 54] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .

وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)

وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ

أي: ولمَّا نَدِمَ بنو إسرائيلَ ندمًا شديدًا على عِبادتِهم العِجلَ بعْدَ رُجوعِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إليهم .

وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا

أي: وعَلِمَ قومُ موسى أنَّهم قدِ انحرَفوا عن طَريقِ الحقِّ .

قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ

أي: قالوا حينذاكَ تائِبينَ إلى اللهِ تعالى من عِبادةِ العِجلِ: واللهِ لَئِنْ لم يَتداركْنا ربُّنا برحمتِه؛ بالتَّوبةِ، والتَّوفيقِ للأعمالِ الصَّالحةِ، ويَغفِرْ لنا ذُنوبَنا، لَنَكُونَنَّ من الهالِكينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

قولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ ولا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا فيه دليلٌ على أنَّ مَنْ أنْكَر كلامَ اللهِ فقدْ أنْكَرَ خصائِصَ إلهيَّةِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ اللهَ ذَكَرَ أنَّ عدمَ الكلامِ دَليلٌ على عدمِ صلاحيةِ الَّذي لا يتكلَّمُ للإلهيَّةِ

، وفيه دليلٌ أيضًا على أنَّ عدمَ التَّكلُّمِ وعدمَ الهِدايةِ نَقْصٌ، وأنَّ الَّذي يَتكلَّمُ ويَهدي أَكْمَلُ ممَّنْ لا يتكلَّمُ ولا يَهدي، والرَّبُّ أحَقُّ بالكمالِ .

قولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا، سَلَبَ تعالى عنه هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ دونَ باقي أوصافِ الإلهيَّةِ؛ لأنَّ انتِفاءَ التَّكليمِ يَستلزِمُ انتِفاءَ العِلْمِ، وانتِفاءَ الهِدايةِ إلى سبيلٍ يَستلزِمُ انتفاءَ القُدرةِ، وانتفاءَ هذَيْنِ الوصفَيْنِ- وهما العِلْمُ والقُدْرَةُ- يَستلزِمانِ باقيَ الأوصافِ؛ فلذلك خُصَّ هذانِ الوَصْفانِ بانتفائِهما .

قولُ اللهِ تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ،كان مُقتضى الظَّاهرِ في ترتيبِ حِكايةِ الحوادثِ أنْ يتأخَّرَ قولُه: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ... الآيةَ، عن قولِه: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا؛ لأنَّهم ما سُقِطَ في أيديهم إلَّا بعْدَ أنْ رجَعَ موسى، ورَأَوْا فَرْطَ غضبِه، وسمِعوا توبيخَه أخاه وإيَّاهم، وإنَّما خُولِفَ مُقتضى التَّرتيبِ؛ تعجيلًا بِذِكْرِ ما كان لاتِّخاذِهم العجلَ من عاقبةِ النَّدامةِ وتَبَيُّنِ الضَّلالةِ؛ موعظةً للسَّامعين؛ لكيلَا يَعْجَلوا في التَّحوُّلِ عن سُنَّتِهم حتَّى يتبيَّنوا عواقِبَ ما هُمْ مُتحوِّلونَ إليه .

قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، لَمَّا كان السِّيَاقُ في ذِكْرِ إسراعِهم في الفِسْقِ، لم يُذْكَرْ قَبولُ توبتِهم كما في سُورةِ البقرةِ

 

.

بلاغة الآيتين :

 

قوله: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ

قوله: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ لبيانِ فَسادِ نظرهم في اعتقادهم، والاستفهامُ للتقريرِ وللتعجُّبِ مِن حالِهم

. وفيه تَقريعٌ لهم على فَرْطِ ضَلالِهم، وإفراطِهم بالنَّظرِ؛ لأنَّ هذا العجلَ لا يُمكِنُه أن يَتكلَّمَ بصوابٍ، ولا يَهدِي إلى رَشَدٍ، ولا يَقدِر على ذلك، ومَن كان كذلك كان ناقصًا عاجزًا لا يَصلُحُ أنْ يُعبَد .

وقوله: اتَّخَذُوهُ مؤكِّدٌ لجُملةِ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى؛ فلذلك فُصِلَت، ولم تُعطَفْ عليها، والغَرضُ من التوكيدِ في مِثلِ هذا المقامِ هو التَّكريرُ لأجْلِ التعجُّب .

قوله: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ فيه كِنايةٌ عن اشتِدادِ نَدمِهم؛ فإنَّ النَّادمَ المتحسِّرَ على شيءٍ يَعضُّ يدَه غمًّا فتَصيرُ يدُه مسقوطًا فيها؛ لأنَّ فاهَ قدْ وقَعَ فيها . وقيل معناها: سَقَط في يدِه ساقطٌ فأَبطلَ حركةَ يدِه؛ إذ المقصودُ أنَّ حركةَ يدِه تعطَّلت بسببٍ غيرِ معلومٍ، إلَّا بأنَّه شيءٌ دخَلَ في يدِه فصيَّرها عاجزةً عن العملِ، وذلك كنايةٌ عن كونِه قد فَجَأَه ما أوجبَ حيرتَه في أمْرِه، واستُعمِلَ في الآيةِ في معنى النَّدمِ، وتبيُّنِ الخطأِ لهم .

قولُهم: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فيه تأكيدُ التَّعليقِ الشرطيِّ بالقَسَمِ الذي وطَّأتْه اللام؛ لأنَّهم قد علِموا أنهم أخطؤُوا خطيئةً عظيمة، وقدَّموا الرحمةَ على المغفرةِ؛ لأنَّها سببُها، ومجيءُ خبرِ (كان) مقترنًا بحَرْف مِن التبعيضيَّة؛ لأنَّ ذلك أقوَى في إثباتِ الخَسارةِ مِن (لنكوننَّ خاسرين)

========================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (150-153)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ

غريب الكلمات :

 

أَسِفًا: أي: حزينًا، وقيل: شديدَ الغَضَبِ، يُقالُ: آسَفَني فأَسِفْتُ، أي: أغضبَني فغَضِبْتُ، والأَسَفُ: حزنٌ مَعَ غضَبٍ، وأَصْلُ (أسف): يدُلُّ على الفَوتِ والتَّلَهُّفِ

.

فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ: أي: فلا تَسُرَّهم بما أَكْرَهُ؛ فالشَّماتَةُ: السُّرورُ بمكارِه الأَعداءِ، والفَرَحُ بِبَلِيَّةِ مَنْ تُعادِيه ويُعاديكَ .

وَذِلَّةٌ: الذِّلَّةُ: الصَّغَارُ والهوانُ، وأَصْلُ الذُّلِّ: الخُضوعُ، والاستِكانةُ، واللِّينُ، وهو ضِدُّ العِزِّ

 

.

مشكل الإعراب :

 

قولُه تعالى: قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي

ابْنَ أُمَّ: في إعرابِها وجهانِ؛ الأوَّلُ: أنَّه مُنادًى مبنيٌّ على الضَّمِّ المُقدَّرِ، في محلِّ نصْبٍ، ومَنَعَ من ظُهورِ الضَّمِّ على آخِرِه حَركةُ البِناءِ الأصليِّ، وهو فتْحُ الجُزأينِ؛ فهو تركيبٌ أشْبَهَ تركيبَ خَمْسَةَ عَشَرَ. الثَّاني: أنَّ ابْنَ مُنادًى منصوبٌ، وهو مُضافٌ، وأمَّ مُضافٌ إليه مجرورٌ بالكَسرةِ المُقدَّرةِ على الألفِ المحذوفةِ المنقلِبةِ عن الياءِ، وقدْ دَلَّ على الألفِ المحذوفةِ الفتحةُ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه لَمَّا رجَعَ موسى من مُناجاةِ ربِّه جلَّ وعلا إلى قومِه، وهو شديدُ الغضَبِ حزينًا؛ لأنَّ اللهَ قد أخبَرَه أنَّ قومَه عبَدوا العِجْلَ مِنْ بعْدِه، قال لهم: بِئْسَ الخِلافةُ الَّتي خَلَفْتُموني مِنْ بَعْدِي؛ أَسْتَعْجَلْتُمْ مَجيئي إليكم من مُناجاةِ اللهِ قبْلَ الوقتِ الَّذي قدَّرَه اللهُ تعالى لِتَمامِ المَوْعِدِ؟! ورَمَى موسى عليه السَّلامُ الألواحَ، وأَخَذَ يَجُرُّ شَعْرَ أخيه هارونَ بشِدَّةٍ وغَضَبٍ، فقال له هارونُ: يا ابنَ أُمِّي، إنَّ القومَ الَّذينَ عبَدوا العِجْلَ استَضْعَفوني، وأَوْشَكوا أنْ يقتُلوني، فلا تُشْمِتْ بي الأعداءَ عَبَدَةَ العَجلِ بضَرْبي وإهانَتي، ولا تجعَلْني مع القومِ الظَّالمينَ.

قال موسى عليه السَّلام: ربِّ اغفِرْ لي ولأخي ذُنوبَنا، وأدخِلْنا في رحمتِكَ، وأنتَ أرحَمُ الرَّاحمينَ.

ثمَّ أخبَرَ تعالى أنَّ الَّذينَ اتَّخذوا العجلَ سيُصيبُهم غضَبٌ مِنَ اللهِ، وهوانٌ في الحياةِ الدُّنيا، وكذلك يَجزي سُبحانَه المفتَرين، والَّذينَ عمِلوا السَّيِّئاتِ، ثمَّ أنابوا إلى ربِّهم، ونَدِموا وأَقْلَعوا عنها، وآمَنوا، سيَغفِرُ اللهُ لهم مِنْ بَعْدِها ويرحمُهم؛ فإنَّه غَفورٌ رَحيمٌ.

تفسير الآيات :

 

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا

أي: ولَمَّا رجَعَ موسى من مُناجاةِ اللهِ إلى قومِه بني إسرائيلَ، وهو شديدُ الغضَبِ حزينًا، بعْدَ أنْ أعلَمَه اللهُ بعبادةِ قومِه العِجْلَ، عَقِبَ انصِرافِه عنهم

.

كما قال تعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طه: 83-86] .

قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي

أي: بِئْسَ الحالُ والفِعْلُ الَّذي قُمْتُمُوه مَقامي بعِبادتِكم العجلَ بعْدَ انصِرافي عنكم! وقدْ كنْتُ آمُرُكم بتوحيدِ اللهِ، وأُحَذِّرُكم من الشِّرْكِ .

كما قال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف: 138-140] .

وقال سُبحانَه: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: 6- 8] .

أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ

أي: هل استعجلتُم مَجيئي إليكم من مُناجاةِ اللهِ قبْلَ الوقتِ الَّذي قدَّرَه اللهُ تعالى لِتَمامِ هذا الموعِدِ، ولم تَنتظِروني، فعبَدْتُم العِجلَ، ولم تُحافظوا على ما وصَّيْتُكم به من عِبادةِ اللهِ حتَّى أرجِعَ إليكم بالخيرِ الَّذي أتَيْتُكم به مِن عِندِ اللهِ تعالى ؟!

كما قال تعالى: فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي [طه: 86] .

وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ

أي: ورَمى موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الألواحَ في الأرضِ؛ غَضَبًا على قومِه حينَ رآهم يَعبُدونَ العِجلَ .

عن ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليس الخَبَرُ كالمُعايَنَةِ، إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أخبَرَ موسى بما صَنَعَ قومُه في العِجلِ، فَلَمْ يُلْقِ الألواحَ، فلمَّا عايَنَ ما صَنَعوا أَلْقى الألواحَ )) .

وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ

أي: وأَمْسَكَ موسى بشَعْرِ رأسِ أخيه هارونَ، وجعَلَ يَسحَبُه بشِدَّةٍ؛ غَضَبًا عليه .

كما قال تعالى: قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: 92-93].

قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي

أي: قال هارونُ مُستعطِفًا موسى عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ: يا ابنَ أُمِّي، إنَّ الَّذينَ عبَدوا العِجلَ اعتقدوا أنِّي ضَعيفٌ واحتقَروني؛ فَلَمْ يُطيعوني عندما نَهَيْتُهم عن عِبادتِه .

كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه: 90-91] .

وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي

أي: وقال هارونُ لأخيه موسى عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ مُبَيِّنًا عُذْرًا آخَرَ: وقد أَوْشَكَ بنو إسرائيلَ على قَتْلي حين نَهَيْتُهم عن عبادةِ العِجلِ؛ فلا تَظُنَّ بي تقصيرًا .

فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ

أي: قال هارونُ لموسى ناهيًا له عن استمرارِه في أخْذِه بشَعْرِه: فلا تَسُرَّ أعدائي عَبَدَةَ العِجلِ بضَرْبي وإهانَتي .

كما قال تعالى: قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: 94] .

وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

أي: ولا تَجعلْني في غضَبِكَ عليَّ، وعُقوبتِكَ لي، مع الَّذينَ عبَدوا العِجلَ، وفي عِدادِهم، والحالُ أنَّني لم أَعْصِ أمْرَكَ كما فعلوا .

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا اعْتَذَرَ هارون إلى موسى عليهما السلام، وتَحَقَّقَ مُوسَى عليه السَّلامُ براءَةَ ساحَتِه، وتبيَّنَ له عُذْرُه، وعَلِمَ أنَّه لم يُفرِّطْ في الواجبِ الَّذي كان عليه- دعا ، فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي؛ لِيُرْضيَ أخاه، ويُظهِرَ لأهلِ الشَّماتَةِ رِضاه عنه؛ فلا يَتِمَّ لهم شَماتتُهم، واستغفَرَ لنفسِه ممَّا فَرَطَ منه إلى أخيه، ولِأخيه أنْ عسَى فَرَّطَ في حِين الخِلافةِ، وطَلَبَ ألَّا يتفرَّقا عن رحمتِه، ولا تَزالَ مُتضمِّنَةً لهما في الدُّنيا والآخرةِ .

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي

أي: قال موسى داعيًا ربَّه: ربِّ اغفِرْ لي ذَنْبي فيما فعلْتُ بأخِي، وبَدَرَ منِّي من غضَبٍ وحِدَّةٍ عليه، واغفِرْ لأخِي هارونَ .

وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

أي: وارحمْنا برَحمتِكَ الواسِعةِ، واجعَلْها مُحيطَةً بنا من كُلِّ جانِبٍ، وأنتَ أرحَمُ بعبادِكَ من كلِّ راحِمٍ .

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ

أي: إنَّ الَّذينَ اتَّخذوا العِجلَ إلهًا سيُصيبُهم غضَبٌ من اللهِ ، فلم يقبلِ اللهُ تعالى لهم توبةً، حتى قتلَ بعضُهم بعضًا .

كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 54] .

وقيل: غَضَبُ اللهِ هو عذابُه في الآخرةِ لِمَنْ لم يَتُبْ منهم من عِبادةِ العِجلِ .

وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

أي: وسَيَنالُ الَّذينَ عبَدوا العِجلَ هوانٌ في حَياتِهم الدُّنيا، فيَصيرونَ مَغلوبينَ؛ عقوبةً من اللهِ لهم بسببِ كُفْرِهم .

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ

أي: وكما جَزَيْتُ أولئك الَّذينَ عبَدوا العِجلَ بالغَضَبِ والذِّلَّةِ، نَجزي كُلَّ مَنْ كَذَبَ على اللهِ؛ فعبَدَ غيرَه، وشَرَعَ ما لم يأذَنْ به سُبحانَه .

وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(153)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى المُصِرِّينَ على المعصيةِ؛ عَطَفَ عليه التَّائبينَ؛ تَرغيبًا في مِثْلِ حالِهم، فقال تعالى :

وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(153)

أي: والَّذينَ عمِلوا الأعمالَ السَّيِّئةَ من الشِّرْكِ والكُفْرِ والمعاصي، ثمَّ نَدِموا وأَقْلَعوا عن ذلك، وعَزَموا على ألَّا يعودوا إليه، وآمَنوا بما أَوْجَبَ اللهُ تعالى الإيمانَ به، إنَّ ربَّكَ- يا مُحَمَّدُ- مِن بعْدِ ارتكابِهم للسَّيِّئاتِ لَساتِرٌ عليهم أعمالَهم السَّيِّئةَ، ومُتَجاوِزٌ عن مؤاخَذتِهم بها، ورَحيمٌ بهم بقَبولِ توبتِهم، وتوفيقِهم للأعمالِ الصَّالحةِ .

كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] .

وقال سُبحانَه: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 119] .

وقال تبارَك وتعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] .

وعن أَنَسِ بنِ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((قال اللهُ تبارَكَ وتعالى: يا ابنَ آدمَ، إنَّكَ ما دَعَوْتَني ورَجَوْتَني غَفَرْتُ لك على ما كان فيك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ، لو بَلَغَتْ ذُنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ اسْتَغْفَرْتَني غَفَرْتُ لك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ، إنَّكَ لو أَتَيْتَني بقُرابِ الأرضِ خَطايا ثمَّ لَقِيتَني لا تُشْرِكُ بي شيئًا لَأَتَيْتُكَ بقُرابِها مَغْفِرَةً ))

 

.

الفوائد التربوية :

 

قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فيه دليلٌ على أنَّ السَّيِّئاتِ بِأَسْرِها- صغيرِها وكبيرِها- مشتركةٌ في التَّوبةِ، وأنَّ اللهَ تعالى يَغفِرُها جميعًا بفَضْلِه ورحمتِه، وهذا مِن أعظَمِ ما يُفيدُ البِشارةَ والفَرَحَ للمُذنِبينَ التَّائبينَ

.

الإيمانُ هو الأساسُ الَّذي لا يُقْبَلُ عمَلٌ لم يُبْنَ عليه، يُبيِّنُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

قولُ اللهِ تعالى: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ فيه مِن اللَّطائفِ: أنَّه عبر هنا بالعجلةِ، ولم يُعبِّر بالسرعةِ؛ لأنَّه أنسبُ لفِعلِهم؛ فالعَجلةُ: التقدُّمُ بالشيءِ قبلَ وقْتِه، والسُّرعةُ: عملُه في أقلِّ أوقاتِه

.

قولُ اللهِ تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، موسى صلواتُ اللهِ عليه لم يكُنْ ليُلْقيَ ألواحًا كتَبَها اللهُ تعالى، فيها كلامُه مِن على رأسِه إلى الأرضِ اختيارًا منه لذلك، ولا كان فيه مَصلحةٌ لبني إسرائيلَ، وكذلك جَرُّهُ هارونَ بلحيتِه ورأسِه وهو أخوه، وإنَّما حَمَلَه على ذلك الغَضَبُ؛ فعَذَرَه اللهُ سُبحانَه به، ولم يَعْتِبْ عليه بما فَعَلَ؛ إذ كان مصدرُه الغضَبَ الخارجَ عن قُدْرةِ العبْدِ واختيارِه؛ فالمُتَوَلِّدُ عنه غيرُ منسوبٍ إلى اختيارِه ورِضاه به .

كلُّ مُفتَرٍ على اللهِ، كاذبٍ على شَرْعِه، مُتَقَوِّلٍ عليه ما لم يَقُلْ؛ له نَصيبٌ من الغَضَبِ من اللهِ، والذُّلِّ في الحياةِ الدُّنيا، يُبيِّنُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ .

قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ، جَمَعَ السَّيِّئَاتِ؛ إعلامًا بأنَّه لا يَتَعاظَمُه ذَنْبٌ، وإنْ عَظُمَ وكَثُرَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي

قوله: أَسِفًا بدون مدٍّ صِيغةُ مبالغةٍ للآسِفِ (بالمدِّ)، الذي هو اسمُ فاعلٍ للذي حلَّ به الأسفُ

.

وزِيادةُ مِنْ بَعْدِي عَقِب خَلَفْتُمُونِي؛ للتذكيرِ بالبَون الشاسعِ بينَ حال الخَلف وحال المخلوفِ عنه، تصويرًا لفظاعةِ ما خَلَفوه .

قوله: قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي

قوله: ابْنَ أُمَّ مُنادًى بحذْفِ حرْف النِّداء، والنداء بهذا الوصفِ للتَّرقيقِ والاستشفاعِ، ولم يقُلْ: يا ابنَ أَبي، وهما لأبٍ واحدٍ وأُمٍّ واحدةٍ؛ استِعطافًا له على نفسِه بِرَحِمِ الأُمِّ، وحُذِفَ حرفُ النِّداءِ؛ لإظهارِ ما صاحَبَ هارونَ مِن الرُّعبِ والاضطرابِ، أو لأنَّ كلامَه هذا وقَع بعدَ كلامٍ سبَقَه فيه حرفُ النِّداء .

وقوله: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي فيه تأكيدُ الخبرِ بـ(إنَّ)؛ لتحقيقِه لدَى موسى، لأنَّه بحيثُ يُتردَّدُ فيه قَبْلَ إخبارِ المُخبِر به، والتأكيدُ يَستدعيه قَبولُ الخَبرِ للتردُّدِ مِن قِبَلِ إخبارِ المخبِر به، وإنْ كان المخبِرُ لا يُظَنُّ به الكذبُ، أو لئلَّا يُظنَّ به أنَّه توهَّم ذلك مِن حالِ قومِه، وكانتْ حالُهم دونَ ذلك .

قوله: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ تذييلٌ، والواو للحالِ أو اعتراضيَّة، وفيه مُبالَغةٌ؛ فإنَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ هو الأشدُّ رحمةً مِن كلِّ راحمٍ .

قوله: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

قوله: مِنْ بَعْدِهَا تأكيدٌ لمفادِ المُهلة التي أفادَها حرف ثُمَّ في قوله: ثُمَّ تَابُوا، وهذا تعريضٌ للمشرِكينِ بأنَّهم إنْ آمَنوا يُغْفَرْ لهم، ولو طالَ أَمَدُ الشِّرْكِ عليهم .

وفي قولِه: ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا عُطِفَ الإيمانُ على التوبةِ- مع أنَّ التوبةَ تَشملُه مِن حيثُ إنَّ الإيمانَ توبةٌ مِن الكُفر-؛ إمَّا للاهتمامِ به؛ لأنَّه أصلُ الاعتدادِ بالأعمالِ الصالحةِ عند الله تعالى، ولِئَلَّا يُظَنَّ أنَّ الإشراكَ لخُطورتِه لا تُنْجي منه التَّوبةُ، وإمَّا أنْ يُرادَ بالإيمانِ إيمانٌ خاصٌّ، وهو الإيمانُ بإخلاصٍ، فيَشمَلُ عمَلَ الواجباتِ .

وقولُه: إنَّ رَبَّكَ فيه تعريفُ المسنَدِ إليه (رب) بالإضافةِ؛ للتوسُّلِ إلى تَشريفِ المضافِ إليه بأنَّه مربوبٌ للهِ تعالى، وفي ذِكر وصْفِ الرُّبوبية هنا تمهيدٌ لوصْفِ الرَّحمةِ، وتأكيدُ الخبر بـ(إنَّ) ولامِ التوكيدِ وصِيغَتي المبالغةِ في لَغَفُورٌ رَحِيمٌ؛ لمزيدِ الاهتمامِ به؛ وترغيبًا للعُصاةِ في التوبةِ، وطردًا للقُنوطِ من نفوسِهم، وإنْ عظُمتْ ذُنوبُهم .

وضميرُ: مِنْ بَعْدِهَا الثاني في قوله: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ مُبالغةٌ في الامتنانِ بقَبولِ تَوبتِهم بعدَ التملِّي من السيِّئاتِ، وحُذِفَ مُتعلِّقُ (غَفُور رَحِيم)؛ لظهورِه من السِّياقِ، والتقديرُ: لغفورٌ رحيمٌ لهم، أو لكلِّ مَن عَمِلَ سيِّئةً وتابَ منها .

.==============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (154-157)

ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ

غريب الكلمات :

 

سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ: أَي: سَكَنَ، وأَصْلُ (سكت): يَدُلُّ على خِلافِ الكَلامِ

.

نُسْخَتِهَا: أي: المنسوخِ فيها، وهو المكتوبُ فيها مِن التوراةِ مِن كلامِ ربِّ العالمينَ، والنَّسْخُ: نَقْلُ ما في كتابٍ إلى كتابٍ آخَرَ، وأَصْلُ (نسخ): تحويلُ شيءٍ إلى شيءٍ .

يَرْهَبُونَ: يَخافونَ، وأَصْلُ الرَّهْبَةِ والرَّهَبِ: مَخافةٌ مع تَحَرُّزٍ واضْطِرابٍ .

السُّفَهَاءُ: جمْعُ سَفيهٍ، وهو الجاهلُ، والسَّفَهُ: الجَهْلُ، وخِفَّةُ العقلِ، والضَّعْفُ والحُمْقُ .

هُدْنَا: أي: تُبْنا، والهَودُ: الرُّجوعُ برفق، وأَصْلُ (هود): يَدُلُّ على إروادٍ (رفق) وسُكونٍ .

الْأُمِّيَّ: أي: الذي لا يكتبُ ولا يقرأُ مِن كتابٍ، قيل: هو منسوبٌ إلى الأُمَّةِ الَّذينَ لم يَكتُبوا؛ لِكَوْنِه على عادتِهم؛ مثل عامِّيٍّ؛ لكونِه على عادةِ العامَّةِ، وقيل: سُمِّيَ بذلك لنِسْبَتِه إلى أمِّ القُرَى، وقيل: نسبةً إلى الأُمِّ، والمعنَى أنَّه باقٍ على حالتِه التي وُلِد عليها لا يكتبُ ولا يقرأُ المكتوبَ، وأَصْلُ (أمم): الأَصْلُ والمَرجِعُ .

الطَّيِّبَاتِ: الحلال، أو ما اسْتَطابَتْه العرَبُ ممَّا لم يُحَرَّمْ، وأصْلُ الطَّيِّبِ: ما تَستلِذُّه الحواسُّ، وما تَستلِذُّه النَّفسُ، وأَصْلُ (طيب): يَدُلُّ على خِلافِ الْخَبِيثِ .

الْخَبَائِثَ: أي: الحرام، أو: ما لا يُوافِقُ النَّفسَ من المحظوراتِ، والخُبْثُ والخَبِيثُ: ما يُكْرَهُ رَداءَةً وخَساسَةً، محسوسًا كان أو معقولًا، وأصْلُه الرَّديءُ الجارِي مَجْرى خَبَثِ الحديدِ، وكذلك يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الطَّيِّبِ .

إِصْرَهُمْ: أَي: مَا عُقِدَ مِن عَقْدٍ ثقيلٍ عليهم؛ مِثلُ: قتْلِ أنفُسِهم وما أشْبَهَ ذلك، وأصلُ (أصر): يدُلُّ على العَهْدِ، أو عَقْدِ الشَّيءِ، وحَبْسِه بقَهْرٍ .

وَالْأَغْلَالَ: أي: والشَّدائِدَ، أو الفرائِضَ المانِعَةَ لهم مِنْ أشياءَ رُخِّصَ فيها لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، والغُلُّ مُخْتَصٌّ بما يُقيَّدُ به فَيُجْعَلُ الأعضاءُ وَسَطَه، وغُلَّ فلانٌ: قُيِّدَ به، وأَصْلُ (غلل): يَدُلُّ عَلَى تَخَلُّلِ شَيْءٍ، وثَباتِ شيءٍ .

وَعَزَّرُوهُ: أي: وعَظَّموه ونصَروه، أو أعانوه، والتَّعزيرُ: التَّعظيمُ، أو النُّصرةُ مع التَّعظيمِ

 

.

مشكل الإعراب :

 

قولُه تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ

اللَّامُ في قولِه: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ فيها أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّها زائدةٌ للتَّقويةِ

- لأنَّ المعمولَ (ربهم) لَمَّا قُدِّمَ على عامِلِه يَرْهَبُونَ ضعُفَت تعديتُه إليه، فجِيءَ باللَّامِ لتقويةِ التَّعديةِ-، وعلى هذا فـ(ربهم) مجرورٌ لفظًا، منصوبٌ محلًّا، مفعولٌ به مقدَّمٌ لـيَرْهَبُونَ وقيل: إنَّ اللَّامَ في لِرَبِّهِمْ لامٌ أصليَّةٌ للعلَّةِ، ومَفعولُ يَرْهَبُونَ على هذا محذوفٌ؛ أي: يرهبونَ عِقابَه لأجلِه. وقيلَ غيرُ ذلك .

قولُه تعالى: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا

قَوْمَهُ: منصوبٌ على نَزْعِ الخافِضِ، وهو في رُتبةِ المَفعولِ الثَّاني- لأنَّ أصلَ الفِعلِ (اختَارَ) أنَّه يتعدَّى إلى مَفعولِه الثَّاني بـ(مِن)، فحُذِفَت (مِن)، فتعَدَّى الفعلُ إليه بنفسِه فنُصِبَ- والتقديرُ: واختارَ موسَى سبعينَ رجلًا مِن قَوْمِه، وسَبْعِينَ مَفعولٌ به منصوبٌ بالياءِ، ورَجُلًا تمييزٌ منصوبٌ لـسَبْعِينَ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه لَمَّا سكَنَ غضَبُ موسى عليه السَّلامُ أخَذَ الألواحَ الَّتي كان أَلْقاها، وفي نُسْخَتِها هِدايةٌ من الضَّلالةِ، ورحمةٌ من العذابِ للَّذينَ هُمْ يخافون ربَّهم ويخشَوْنَه.

واختارَ موسى من قومِه سَبعينَ رجُلًا لِميقاتٍ وَقَّتَهُ اللهُ لهم، فلَمَّا أَخَذَتْ هؤلاءِ السَّبعينَ الزَّلزَلةُ الشَّديدةُ، قال موسى لربِّه: يا ربِّ، لو شِئْتَ لأَهْلَكْتَهم مِن قَبْلُ، وأَهْلَكْتَني معهم، أَتُهْلِكُنا بما فَعَلَه السُّفهاءُ منَّا بعبادتِهم العِجلَ؟! وما عبادةُ هؤلاءِ السُّفهاءِ للعِجلِ إلَّا ابتلاءٌ منك لهم؛ تُضِلُّ بِه مَنْ تشاء، وتَهدي مَنْ تشاء، أنتَ ناصِرُنا ومُتَوَلِّي أُمورِنا، فاغفِرْ لنا، وارحَمْنا، وأنتَ خيرُ مَنْ غَفَرَ، واكتُبْ لنا في الحياةِ الدُّنيا حالةً حسنةً، وفي الآخرةِ، إنَّا تُبْنا إليك.

قال تعالى مُجيبًا موسى عليه السَّلام: عَذابي في الدُّنيا أُصيبُ به مَنْ أشاء، ورَحمتي في الدُّنيا وَسِعَتْ كُلَّ خَلْقي، فسأكْتُبُها للَّذينَ يتَّقونَ، ويُعْطونَ الزَّكاةَ المفروضةَ عليهم، والَّذينَ يُؤمنون بآياتي، الَّذينَ يتَّبِعون مُحَمَّدًا الرَّسولَ النَّبيَّ، الَّذي لا يَقرأ ولا يَكتُبُ، الَّذي يَجِدونَه مذكورًا عِندهم في التَّوراةِ والإنجيلِ بصِفاتِه الواضحةِ، يأمُرُهم بالمعروفِ، ويَنْهاهم عَنِ المنكَرِ، ويُحِلُّ لهم الطَّيِّباتِ، ويُحَرِّمُ عليهم الخبائِثَ، ويُذهِبُ عنهم التَّكاليفَ الشَّاقَّةَ الَّتي كانت عليهم، فالَّذينَ آمَنوا به وعظَّموه ونصَروه، واتَّبَعوا القرآنَ الَّذي أنزَلَه اللهُ إليه، فأولئك هُمُ المفلِحونَ.

تفسير الآيات :

 

وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى ما كان من موسى عليه السَّلامُ مع الغَضَبِ، بَيَّنَ في هذه الآيةِ ما كان مِنه عِنْدَ سُكوتِ الغضَبِ

، فقال:

وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ

أي: ولَمَّا سَكَنَ عن موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ غَضَبُه .

أَخَذَ الْأَلْوَاحَ

أي: أخَذَ موسى الألواحَ الَّتي أَلْقاها .

وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ

أي: وفي المَكْتوبِ في الألواحِ وما نُقِلَ منها هُدًى من الضَّلالةِ، ورحمةٌ من العَذابِ .

لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ

أي: فيها هُدًى ورحمةٌ للَّذينَ يخافون اللهَ سُبحانَه وتعالى ويخشَوْنَه، ويخضَعون له؛ فيعمَلون بما فيها .

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا

أي: واختارَ مُوسى من قَومِه سَبعينَ رجُلًا لوقتٍ وقَّتَه اللهُ لهم؛ ليَحضُروا فيه إلى مكانٍ مُعيَّنٍ .

فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ

أي: فلمَّا أصابَتِ الزَّلزلةُ الشَّديدةُ السَّبعينَ الَّذينَ مع مُوسَى، فصَعِقوا أو ماتوا .

قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ

أي: قال موسى مُتَضَرِّعًا لربِّه: يا ربِّ، لو شِئْتَ إهلاكَ هؤلاءِ السَّبعينَ لأهْلَكْتَهم مِن قَبْلِ هذا الوقتِ، وأمَتَّني معهم، وذلك على مَرْأَى من قَومِنا؛ حتَّى لا يتَّهموني؛ فماذا أقولُ لبَني إسرائيلَ إذا لَقيتُهم وقد أَهْلَكْتَ خِيَارَهم؟! فإنَّ إهلاكَهم في هذا الوقتِ أَدْعى لاتِّهامِهم لي وإيذائي .

أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا

أي: سَأَلَ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ربَّه سؤالَ استِعلامٍ مع تذلُّلٍ واستعطافٍ : أتُصيبُنا بالهلاكِ بسببِ ما فَعَلَه ضُعفاءُ العُقولِ منَّا بعِبادتِهم العِجلَ ؟!

إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ

أي: قال موسى مُعْتَذِرًا لربِّه: ما عبادةُ قَومِي للعِجلِ إلَّا ابتِلاءٌ واختِبارٌ منك لهم، قدَّرْتَه عليهم؛ لِيَتَبَيَّنَ الضَّالُّ منهم مِن المُهتدي .

كما قال تعالى: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه: 85] .

تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ

أي: قال موسى: تُضِلُّ بسَببِ هذه الفتنةِ مَنْ تشاءُ مِن عبادِك ممَّن خالَفَ الرُّسلَ، وتَهدي بها مَنْ تشاء ممَّن اتَّبَعَهم؛ فلا يَفتتِنونَ ولا يَضِلُّونَ .

كما قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8] .

وقال سُبحانَه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة: 26] .

وقال عزَّ وجلَّ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27] .

وقال جلَّ جلالُه: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الروم: 29] .

وقال تبارَك وتعالى: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23] .

أَنْتَ وَلِيُّنَا

أي: أنتَ وحْدَك- يا ربَّنا- ناصرُنا، ومُتولِّي أُمورِنا .

فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا

أي: فاستُرْ ذُنوبَنا، ولا تُعاقِبْنا عليها، وتَعطَّفْ علينا برحمتِكَ .

وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ

أي: وأنتَ- يا ربَّنا- خيرُ مَنْ يَستُرُ الذُّنوبَ، ويَتجاوَزُ عن المؤاخَذةِ بالنَّقائِصِ والعُيوبِ .

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ

أي: دعا موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ربَّه لِبَني إسرائيلَ، فقال: واجعلْنا ممَّن كتبْتَ له وقدَّرْتَ له في الدُّنيا الحالةَ الحَسَنةَ؛ مِن العِلمِ النَّافعِ، والعملِ الصَّالِحِ، والرِّزقِ الواسِعِ، والتَّوفيقِ والعافيةِ، والحياةِ الطَّيِّبةِ، واكتُبْ لنا في الآخرةِ حسنةً؛ بمغفرةِ الذُّنوبِ والسَّيِّئاتِ، ودُخولِ الجنَّاتِ .

إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ

أي: إنَّا تُبْنا، ورَجَعْنا إليك، يا رَبَّنا .

قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ

أي: أجابَ اللهُ موسى فقال: عَذابي في الدُّنيا أُصيبُ به مَنْ أشاءُ ممَّنْ يَستحِقُّه مِن خَلْقي، كما أَصَبْتُ هؤلاءِ السَّبعينَ مِن قومِك بالرَّجفةِ .

وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ

أي: ورحمتي عمَّتْ في الدُّنيا جميعَ خَلْقي .

كما قال اللهُ تعالى حاكيًا قولَ حَمَلَةِ العَرْشِ مِن الملائكةِ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر: 7] .

وعن أبي هريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ لله مِئةَ رحمةٍ، أنزَلَ منها رحمةً واحدةً بين الجنِّ والإنسِ، والبهائمِ والهَوامِّ؛ فبها يتعاطَفون، وبها يتراحَمون، وبها تَعطِفُ الوَحْشُ على ولدِها، وأخَّرَ اللهُ تسعًا وتسعين رحمةً، يرحَمُ بها عبادَه يومَ القيامةِ )) .

وعن سَلْمَانَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ خَلَقَ  يومَ خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ مِئةَ رحمةٍ، كُلُّ رحمةٍ طِباقُ ما بين السَّماءِ والأرضِ ، فجعَلَ منها في الأرضِ رحمةً، فبها تَعطِفُ الوالدةُ على ولدِها، والوَحْشُ والطَّيْرُ بعضُها على بعضٍ، فإذا كان يومُ القيامةِ أَكْمَلَها بهذه الرَّحمةِ )) .

فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا أَعْلَمَ اللهُ تعالى أنَّ رحمتَه واسعةٌ، وقُدرتَه شاملةٌ، وكان ذلك مُوَسِّعًا للطَّمَعِ؛ سَبَّبَ عن ذلك قولَه، ذاكِرًا شرْطَ إتمامِ تلك الرَّحمةِ؛ ترهيبًا لِمَنْ يَتَوانى عن تحصيلِ ذلك الشَّرطِ :

فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ

أي: فسأُوجِبُ حُصولَ رحْمتي الَّتي وَسِعَتْ كُلَّ شيءٍ للَّذينَ يَمتثِلونَ ما أَمَرْتُ به، ويَجتنِبونَ ما نَهَيْتُ عنه .

كما قال تعالى: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 54] .

وعن أبي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ اللهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يخلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رحمتي سَبَقَتْ غضَبي، فهو مكتوبٌ عِندَه فَوْقَ العَرْشِ )) .

وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ

أي: وأَجْعَلُ رحمتي للَّذينَ يُعْطونَ الزَّكاةَ المَفروضةَ في أموالِهم لِمُستحِقِّيها .

كما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] .

وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ

أي: وأَجْعَلُ رحمتي للَّذينَ يؤمِنون بآياتي، المُنزَّلةِ على رُسُلي ، فيتَّبِعونها .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 57-58] .

وقال سُبحانَه: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15-16] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .

وقال جلَّ جلالُه: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 3- 6] .

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنَّ مِن صِفةِ مَنْ تُكتَبُ له الرَّحمةُ في الدُّنيا والآخرةِ: التَّقْوى، وإيتاءَ الزَّكاةِ، والإيمانَ بالآياتِ؛ ضَمَّ إلى ذلك أنْ يكونَ مِن صِفتِه اتِّباعُ النَّبيِّ الأُمِّيِّ الَّذي يَجِدونه مكتوبًا عِندهم في التَّوراةِ والإنجيلِ .

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ

أي: الَّذينَ كتبْتُ لهم رحمتي هُمُ الَّذينَ يتَّبِعونَ مُحَمَّدًا الرَّسولَ النَّبيَّ ، الَّذي لا يَقرأُ مِن كتابٍ ولا يَكتُبُ .

كما قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] .

وقال سُبحانَه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] .

الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ

أي: يَجِدونَ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَذكورًا بصِفاتِه الواضحةِ في التَّوراةِ الَّتي أنزَلَها اللهُ على موسى، وفي الإنجيلِ الَّذي أنزَلَه اللهُ على عِيسى عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ .

كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] .

وعن عَطاءِ بنِ يَسارٍ، قال: لَقيتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرِو بنِ العاصِ رضِيَ اللهُ عنهما، قلْتُ: أخبِرْني عن صِفةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التَّوراةِ، قال: ((أَجَلْ، واللهِ إنَّه لموصوفٌ في التَّوراةِ ببعضِ صِفتِه في القرآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب: 45] ، وحِرْزًا للأُمِّيِّينَ ، أنتَ عَبْدي ورسولي، سمَّيْتُك المُتوكِّلَ، ليس بفَظٍّ ولا غَليظٍ، ولا سخَّابٍ في الأسواقِ، ولا يدْفَعُ بالسَّيِّئةِ السَّيِّئةَ، ولكنْ يَعْفو ويَغفِرُ، ولنْ يَقبِضَه اللهُ حتَّى يُقيمَ به المِلَّةَ العوجاءَ، بأنْ يقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ويَفتَحَ بها أَعْيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا )) .

وقد أخبَرَ اللهُ في القرآنِ بأنَّ عيسى عليه السَّلامُ بَشَّرَ بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف: 6] .

يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ

أي: يأمُرُهم الرَّسولُ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمعروفِ، وهو كلُّ خيرٍ أمَرَ به الشَّرعُ من الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ، ويَنْهاهم عن المنكَرِ، وهو كلُّ شرٍّ أنكَرَه الشَّرعُ من الشِّركِ والمعاصِي .

وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ

أي: ويُحِلُّ لهم مُحَمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الأطعِمةَ والأشرِبةَ النَّافعةَ، الَّتي تَستطيبُها الأذْواقُ السَّليمةُ ممَّا حُرِّمَ على اليهودِ مِنْ قَبْلُ في التَّوراةِ، أو حرَّمَه العربُ على أنفُسِهم في جاهليَّتِهم .

كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة: 4- 5] .

وقال اللهُ سُبحانَه: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [الأنعام: 145- 146] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] .

وقال جلَّ جلالُه: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [المائدة: 103] .

وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ

أي: ويُحرِّمُ عليهم مُحَمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الأطعِمةَ والأشرِبةَ، والأفعالَ الضَّارَّةَ، الَّتي تَستخبِثُها النُّفوسُ السَّليمةُ ممَّا يَستحِلُّه بعضُ النَّاسِ؛ كلَحْمِ الخِنزيرِ، والمَيتةِ، والدَّمِ، والخمْرِ، والزِّنا، والرِّبا، والرِّشوةِ، وأكْلِ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ .

كما قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 3] .

وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 90-91] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ [الأنبياء: 74] .

وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ

أي: ويُبطِلُ مُحَمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويُزيلُ عن الَّذين يتَّبِعونَه من أهلِ الكتابِ العَهْدَ الثَّقيلَ، الَّذي أخَذَه اللهُ عليهم؛ مِن العَملِ بما في التَّوراةِ من الواجباتِ الثَّقيلةِ، والمُحرَّماتِ الشَّديدةِ، الَّتي كانتْ كالقُيودِ على أعناقِهم .

كما قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] .

وقال سُبحانَه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] .

وقال عزَّ وجلَّ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286] .

وعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((لَمَّا نزلَتْ هذه الآيةُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] ، قال: دخَلَ قلوبَهم منها شيءٌ لم يدخُلْ قلوبَهم من شيءٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قولوا: سمِعْنا وأطعْنا وسلَّمْنا، قال: فأَلْقى اللهُ الإيمانَ في قلوبِهم، فأنزَلَ اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] ، قال: قدْ فَعَلْتُ. رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا [البقرة: 286] قال: قدْ فَعَلْتُ. وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا [البقرة: 286] قال: قدْ فَعَلْتُ)) .

وعن أبي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ تجاوَزَ عن أُمَّتي ما حدَّثَتْ به أنفُسَها، ما لم تعمَلْ أو تتكلَّمْ )) .

فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ

أي: فالَّذينَ صدَّقوا وأقرُّوا بأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ، وعظَّموه، وأَعانوه على أعدائِه، الَّذينَ ظَلَموه وكذَّبوه .

وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ

أي: واتَّبَعوا القرآنَ الَّذي أنزَلَه اللهُ على مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع نُبوَّتِه .

كما قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15-16] .

وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 174-175] .

وقال جلَّ جلالُه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا [التغابن: 8] .

أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

أي: فالَّذينَ آمَنوا بالرَّسولِ وعظَّموه ونصَروه واتَّبعوا القرآنَ الَّذي أُنْزِلَ معه هُمْ وَحْدَهم الفائِزونَ، الظَّافِرونَ بالخيراتِ والخُلودِ في الجنَّاتِ، والنَّاجونَ من الشُّرورِ والمكروهاتِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- ما مِن مُسلمٍ ولا كافرٍ ولا مُطيعٍ ولا عاصٍ في الدُّنيا إلَّا وهو مُتقلِّبٌ في نِعمةِ اللهِ تعالى؛ يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؛ فرحمةُ اللهِ أَوْسَعُ من ذلك الكَوْنِ الهائلِ الَّذي خَلَقَه، والَّذي لا يُدرِكُ البشَرُ مَداه

.

2- أَصْلُ كلِّ خيرٍ في الدُّنيا والآخرةِ الخوفُ من اللهِ تعالى، يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ؛ فليس كُلُّ أَحَدٍ يَقْبَلُ هُدى اللهِ ورحمتَه، وإنَّما يَقبَلُ ذلك ويَنقادُ له، ويَتلقَّاه بالقَبولِ الَّذينَ يَخافونَ من اللهِ تعالى ويخشَوْنَه، وأمَّا مَنْ لم يَخَفِ اللهَ، ولا المُقامَ بين يدَيْه، فإنَّه لا يَزدادُ بها إلا عُتُوًّا ونُفورًا، وتقوم عليه حُجَّةُ اللهِ فيها .

3- لا سعادةَ ولا فلاحَ إلَّا باتِّباعِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ظاهرًا وباطنًا في أصولِ الدِّينِ وفُروعِه؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .

4- لا بُدَّ أنْ يُفتَنَ النَّاسُ، فيَمتحِنَهم اللهُ تعالى ويَبتليَهم ويَختبِرَهم؛ يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ .

5- قوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ فيه تَعليمٌ لكيفيَّةِ اتِّباعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبيانٌ لعُلوِّ رُتبةِ مُتَّبعيهِ، واغتنامِهم مَغانمَ الرَّحمةِ الواسعةِ في الدَّارينِ إثرَ بيانِ نُعوتِه الجليلةِ، والإشارةُ إلى إرشادِه عليه الصَّلاةُ والسلامُ إيَّاهُم بالأمْرِ بالمعروفِ، والنهيِ عن المنكرِ، وإحلالِ الطيباتِ، وتَحريمِ الخبائِثِ، أي: فالَّذين آمنوا بنُبوَّتِه وأطاعوه في أوامرِه ونواهِيه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

قولُه تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ خَصَّهم بالذِّكرِ؛ لأنَّهم هُمُ المُنتفِعونَ به، وجَرَتِ العادةُ في القرآنِ أنَّ اللهَ يَخُصُّ المنتفعين، كما قال: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] ، وهو مُنْذِرٌ للأسودِ والأحمرِ، إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات: 45] ، وهو مُنذِرٌ للجميعِ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] ، وهو مذكِّرٌ لِمَنْ يخاف ومَنْ لا يخاف كما هو معلومٌ

.

قولُ اللهِ تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ المرادُ منه الألواحُ المذكورةُ سابقًا في قولِه تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ، وظاهرُ هذا يدُلُّ على أنَّ شيئًا منها لم يَنكسِرْ ولم يَبْطُلْ .

قولُ اللهِ تعالى: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا، الاختيارُ يكونُ من فاعِلٍ مُخْتارٍ، وشيءٍ مختارٍ منه، فيتعدَّى للثَّاني بـ(من)، وكأنَّ نُكْتَةَ حَذْفِ (من): الإشارةُ إلى كَوْنِ أولئك السَّبعينَ خِيَارَ قومِه كلِّهم لا طائفةً منهم .

قال اللهُ تعالى: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، السُّفهاءُ هم الَّذينَ عبَدوا العِجلَ، وسُمِّيَ شِركُهم سَفَهًا؛ لأنَّه شِرْكٌ مَشوبٌ بِخِسَّةِ عقلٍ؛ إذ جعلوا صورةً صَنَعوها بأنفُسِهم إلهًا لهم .

قولُ اللهِ تعالى: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، كأنَّ موسى عليه السَّلامُ عبَّرَ بهذه العِبارةِ المُقْتَضِيَةِ لإهلاكِ الجميعِ؛ لأنَّه جوَّزَ أنَّه كما أَهْلَكَ هؤلاءِ يُهْلِكُ غيرَهم لتقصيرٍ آخَرَ بسببِ ذلك؛ كعدمِ الجهادِ- مثلًا- حتَّى يَعُمَّهم الهلاكُ .

قولُ اللهِ تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ، من الحُجَجِ الظَّاهرةِ على القَدَريَّةِ الَّتي لا يَبقى لهم معها عُذْرٌ .

قال اللهُ تعالى على لسانِ موسى: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ الَّذي جرَّأَ موسى على أنْ يُضيفَ الفِتنةَ إلى اللهِ هو أنَّ اللهَ قال له: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه: 85] ؛ فأَسْنَدَ اللهُ هذه الفتنةَ لنفسِه بقولِه: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ، فجرَّأَ ذلك موسى على أنْ يقولَ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ .

القَصْدُ من جُملةِ: أَنْتَ وَلِيُّنَا الاعتِرافُ بالانقطاعِ لعِبادةِ اللهِ تعالى؛ تمهيدًا لِمَطْلَبِ المغفرةِ والرَّحمةِ؛ لأنَّ شأنَ الوَلِيِّ أنْ يَرحَمَ مَوْلاه وينصُرَه .

قولُ اللهِ تعالى: أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، عَطَفَ جُملةَ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ؛ لأنَّه خبرٌ في معنى طلبِ المغفرةِ العظيمةِ، فعُطِفَ على الدُّعاءِ، كأنَّه قيل: (فاغفِرْ لنا وارحمْنا واغفِرْ لنا جميعَ ذُنوبِنا)؛ لأنَّ الزِّيادةَ في المغفرةِ من آثارِ الرَّحمةِ .

قولُ اللهِ تعالى: فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ فيه إشارةٌ إلى أنَّ دفْعَ الضَّررِ مُقدَّمٌ على تحصيلِ النَّفعِ؛ إذ بدأ بطَلَبِ دَفْعِ الضَّررِ، وهو قولُه: فَاغْفِرْ لَنَا، ثمَّ أَتْبَعَه بطَلبِ تحصيلِ النَّفعِ .

قولُ اللهِ تعالى: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، أي: قد كان مِنْ سَبْقِ رحمتي غضَبي: أنْ أَجْعلَ عذابي خاصًّا؛ أُصيبُ به مَنْ أشاء من الكفَّارِ والعُصاةِ المجرمين، وأمَّا رحمتي فقدْ وَسِعَتْ كُلَّ شيءٍ من العالَمينَ؛ فهي من صِفاتي القديمةِ الأَزَليَّةِ الَّتي قام بها أمْرُ العالَمِ مُنْذُ خَلَقْتُه، والعذابُ ليس من صِفاتي، بل من أفعالي المترتِّبةِ على صِفة العَدْلِ؛ ولهذا عبَّرَ عن التَّعذيبِ بالفِعْلِ المضارِعِ، وعن تعلُّقِ الرَّحمةِ بالفعلِ الماضي .

قولُ اللهِ تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، خَصَّ الزَّكاةَ بالذِّكْرِ دونَ الصَّلاةِ وما دونَها من الطَّاعاتِ؛ لأنَّ فتنةَ حُبِّ المالِ تقتضي- بنظَرِ العقلِ والاختبارِ بالفعلِ- أنْ يكونَ المانِعونَ للزَّكاةِ أكثَرَ من التَّاركينَ لغيرِها من الفرائضِ، وفيه إشارةٌ إلى شِدَّةِ حُبِّ اليهودِ للدُّنيا، وافتِتانِهم بجَمْعِ المالِ، ومَنْعِ بَذْلِه في سبيلِ اللهِ .

قولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، الرَّسولُ- في اصْطِلاحِ الشَّرعِ- أَخَصُّ من النَّبيِّ، فكُلُّ رسولٍ نَبِيٌّ، وما كُلُّ نبيٍّ رسولٌ؛ ولذلك جَعَلَ بعضُ المفسِّرين نُكْتَةَ تقديمِ الرَّسولِ على النَّبيِّ هنا كَوْنَه أَهَمَّ وأَشْرَفَ، أو أنَّهما ذُكِرا هنا بمعناهما اللُّغويِّ .

قال تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، المرادُ من الطَّيِّباتِ الأشياءُ المُستطابةُ بحسَبِ الطَّبْعِ؛ وذلك لأنَّ تناوُلَها يُفيدُ اللَّذَّةَ، والأَصْلُ في المنافعِ الحِلُّ؛ فكانتْ هذه الآيةُ دالَّةً على أنَّ الأصلَ في كلِّ ما تَستطيبُه النَّفسُ ويَستلِذُّه الطَّبْعُ: الحِلُّ، إلَّا لدليلٍ مُنفصِلٍ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ كُلُّ ما يَستخبِثُه الطَّبْعُ وتَستقذِرُه النَّفسُ كان تناولُه سببًا للألمِ، والأصْلُ في المَضارِّ الحُرْمَةُ، فكان مُقتضاه أنَّ كلَّ ما يَستخبِثُه الطَّبْعُ فالأصْلُ فيه الحُرْمَةُ إلَّا لدليلٍ مُنفصِلٍ .

قولُ اللهِ تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ يدُلُّ على أنَّ الأصلَ في المَضارِّ ألَّا تكونَ مشروعةً؛ لأنَّ كلَّ ما كان ضررًا كان إِصْرًا وغُلًّا، وظاهرُ هذا النَّصِّ يَقتضي عدمَ المشروعيَّةِ .

دِينُ الإسلامِ سَهْلٌ سَمْحٌ مُيَسَّرٌ، لا إِصْرَ فيه ولا أغلالَ، ولا مَشقَّاتِ ولا تَكاليفَ ثِقالٌ، يُبيِّنُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ .

قولُ اللهِ تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فيه تنويهٌ بعَظيمِ فَضْلِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورضِيَ اللهُ عنهم، ويَلْحَقُ بهم مَنْ نصَرَ دينَه بعْدَهم

 

.

بلاغة الآيات :

 

قوله: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ فيه تنزيلُ الغَضبِ الحاملِ له عَلَى ما صَدَرَ عنْهُ من الفعل والقول مَنزلةَ الآمِرِ بذلك، المُغرِي عليه بالتحكُّمِ والتشديدِ؛ حتَّى عبَّر عن سُكونِه بالسُّكوتِ؛ فشُبِّهَ ثَوَرانُ الغضبِ في نفْسِ موسى عليه السَّلامُ المُنشِئُ خواطِرَ العقوبةِ لأخيه ولقومِه، وإلْقاءَ الألواحِ، بكلامِ شخص يُغريه بذلك، وحَسَّن هذا التَّشبيهَ أنَّ الغضبانَ يجيش في نفْسه حديثٌ للنَّفسِ يَدفَعُه إلى أفعالٍ يُطفئ بها ثورانَ غضبه، فإذا سَكَن غضبُه وهدأتْ نفْسُه كان ذلك بمنزلةِ سُكوتِ المغري؛ فلذلك أَطلقَ عليه السُّكوتَ، وهذا يَستلزمُ تشبيهَ الغضبِ بالناطقِ المغري على طريقةِ المكنيَّة

.

قوله: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ

قوله: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ تمهيدٌ للتعريضِ بطَلبِ العفوِ عنهم الآن، وهو المقصودُ مِن قولِه: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، أي: إنَّك لم تشأْ إهلاكَهم حين تَلبَّسوا بعِبادةِ العِجل، فلا تُهلِكْهم الآن .

والاستفهامُ في قوله: أَتُهْلِكُنَا مُستعمَلٌ في التفجُّع، أي: أخشَى ذلك؛ لأنَّ القَومَ استحقُّوا العذابَ، ويُخشَى أنْ يَشملَ عذابُ اللهِ مَن كان مع القومِ المستحقِّين، وإنْ لم يُشارِكهْم في سببِ العذابِ، وجملة: أَتُهْلِكُنَا مُستأنفةٌ على طريقةِ تقطيعِ كلامِ الحزينِ الخائِفِ السَّائِل .

قولُه: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ

الخبرُ في وقوله: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ... الآيةَ، مُستعمَلٌ في إنشاءِ التَّمجيدِ بسَعَةِ العِلمِ والقُدرةِ، والتعريضِ بطَلبِ استبقائِهم وهِدايتِهم .

وقولُه: فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، في التَّذييلِ بقولِه: وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ حَذَفَ ذِكْرَ الرَّحمةِ؛ استِغناءً عنه بذِكْرِ المغفرةِ؛ فإنَّ ترتيبَ التَّذييلِ في الثَّناءِ عليه تعالى على طَلَبِ مغفرتِه ورحمتِه معًا يَقتضي أنْ يكونَ هذا الثَّناءُ بهما معًا، فاكْتَفى بذِكْرِ الأُوَلى؛ لدَلالتِها على الثَّانيةِ قطْعًا، فهو مِن الإيجازِ المُسَمَّى في عِلمِ البديعِ (الاكتِفاءَ) .

قولُه: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قوله: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ الدُّعاءِ وطَلَبِ الْغُفْرَانِ والحَسَنَةِ؛ لأنَّ التوبةَ والإنابةَ والرُّجوعَ إليه من الأسبابِ الَّتي يكتُبُ اللهُ بها حسنةَ الدُّنيا وحسنةَ الآخِرةِ، وتَصديرُها بحرْف التَّحقيقِ؛ لإظهارِ كمالِ النَّشاطِ والرَّغبةِ في التوبةِ .

قوله: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ

قوله: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ... استئنافٌ وَقَع جوابًا عن سؤال ينساقُ إليهِ الكلامُ، كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالى عند دعاءِ مُوسى عليه السَّلامُ؟ فقيل: قال: عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ .

وقوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مقابلُ قولِ مُوسَى: فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وهو وعدُ تعريضٍ بحُصولِ الرَّحمةِ المسؤولةِ له، ولِمَن مَعَه مِن المُختارِين؛ لأنَّها لَمَّا وَسِعتْ كلَّ شيءٍ، فهُمْ أرْجى الناسِ بها، وأنَّ العاصِين هم أيضًا مَغمورونَ بالرَّحمةِ؛ فمنها رحمةُ الإمهالِ والرَّزْقِ، ولكنْ رحمةُ اللهِ عبادَه ذاتُ مَراتِبَ متفاوتةٍ .

وقولُه: فَسَأَكْتُبُهَا تفريعٌ على سَعةِ الرَّحمةِ؛ لأنَّها لَمَّا وَسِعتْ كلَّ شيءٍ كان منها ما يُكتَب، أي: يُعطَى في المستقبَلِ للذين أُجرِيتْ عليهم الصِّفاتُ، ويَتضمَّنُ ذلك وعدًا لموسى ولصُلحاءِ قومِه؛ لتحقُّقِ تِلك الصِّفاتِ فيهم .

وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ فيه تَكريرُ الموصولِ (الَّذين)، مع أنَّ المرادَ به عينُ ما أُريدَ بالموصولِ الأوَّلِ في قوله: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ- دون أنْ يُقالَ: (يُؤمنون بآياتنا) عَطْفًا على يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ كما عُطِفَ يُؤْتُونَ على يَتَّقُونَ للقَصْرِ بتَقديمِ الجارِّ والمجرورِ؛ أي: هُم بجميعِ آياتِنا يُؤمِنونَ لا ببَعضِها دُون بَعضٍ .

وقيل: نُكتةُ إعادةِ الموصولِ (الذين) مع الضَّمير (هم)؛ إمَّا جَعْلُ الموصولِ الأوَّلِ عامًّا لقومِه الَّذينَ دعا لهم- مَن استمرُّوا على التزامِ التَّقوى، وأداءِ الزَّكاةِ منهم-، وجَعْلُ الثَّاني خاصًّا بمَنْ يُدرِكونَ بَعْثَةَ خاتَمِ الرُّسلِ عليه السَّلامُ ويتَّبِعونَه، كما يُعْلَمُ ممَّا بعْدَه، وإمَّا لِبيانِ الفَصْلِ بين مَفهومِ الإسلامِ ومفهومِ الإيمانِ، والتَّعريضِ بأنَّ الَّذينَ طَلَبوا من موسى أنْ يجعَلَ لهم آلهةً، والَّذينَ عبَدوا العِجلَ، والَّذينَ قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] ، لم يكونوا مؤمِنين بآياتِ اللهِ العامَّةِ ولا الخاصَّةِ الَّتي جاء بها نبيُّهم؛ إذْ لم يكونوا يَعقِلونها، بل كانوا مُتَّبِعينَ له؛ لإنقاذِهم مِن ظُلمِ المِصْرِيِّينَ، وبيانِ أنَّ كتابةَ الرَّحمةِ الخاصَّةِ إنَّما تكون لِمَنْ جَمَعوا بين الإسلامِ- وهو اتِّباعُ الرُّسلِ بالفِعْلِ- والإيمانِ الصَّحيحِ بالآياتِ الإلهيَّةِ المفيدةِ لليقينِ المانعِ من العودةِ إلى الشِّركِ بمِثْلِ عبادةِ العِجلِ، والمُقْتَضِي لاتِّباعِ مَنْ يأتي مِنَ الرُّسلِ بمِثْلِ هذه الآياتِ .

وأيضًا في قولِه: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ تَعريضٌ بهم وبكُفرِهم بالآياتِ العِظامِ التي جاءَ بها موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبما سيَجيءُ بعدَ ذلك مِنَ الآياتِ البيِّناتِ، كتَظليلِ الغمامِ، وإنزالِ المنِّ والسَّلْوى، وغيرِ ذلك .

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

قوله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فيه تقديمُ وصْفِ الرَّسولِ؛ لأنَّه الوصفُ الأخصُّ الأهمُّ، ولأنَّ في تقديمِه زِيادةَ تَسجيلٍ لتحريفِ أهلِ الكِتاب، حيثُ حَذَفوا هذا الوصفَ؛ ليصيرَ كلامُ التوراةِ صادِقًا بمَن أتَى بعدَ مُوسَى من أنبياءِ بَنِي إسرائيلَ .

وفي قولهِ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لم يَعْطِفْ؛ لئلَّا يُوهِمَ تَعدادَ الموصوفِ .

وجاءَ بقولِه: عِندَهُمُ لزِيادةِ التقريرِ، وأنَّ شأنَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حاضرٌ عِندَهم لا يَغيبُ عنهم أصلًا .

قولُه: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فيه تشبيهُ حالِ المُزالِ عنه ما يُحرِجُه مِن التَّكاليفِ، بحالِ مَن كان مُحمَّلًا بثِقلٍ فأُزِيلَ عن ظَهرِه ثِقلُه .

قوله: وَاتَّبَعُوا النَّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ فيه تَشبيهُ حالِ المُقتَدِي بهَدْي القرآنِ، بحالِ السَّاري في اللَّيلِ إذا رَأى نُورًا يَلوحُ له اتَّبعَه؛ لعِلمِه بأنَّه يجِدُ عِندَه مَنجاةً مِن المخاوفِ، وأضرارِ السَّيرِ .

وقوله: أولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الإتيانُ باسمِ الإشارةِ أولَئِكَ وما فيه مِن مَعْنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ دَرجتِهم، وسُموِّ طبقتِهم في الفضلِ والشَّرفِ، أي: أولئك المنعوتُون بتِلك النُّعوتِ الجليلةِ هُمُ المُفْلِحُونَ، لا غيرُهم مِن الأُمم، ففيه تنويهٌ بشَأنِهم، ودَلالةٌ على أنَّ المُشارَ إليهم بتِلك الأَوصافِ صارُوا أحرياءَ بما يُخبَرُ به عنهم بعدَ اسمِ الإشارةِ .

والقصرُ المستفادُ مِن تَعريفِ المُسنَد الْمُفْلِحُونَ ومِن ضَمير الفَصلِ هُمْ قَصرٌ إضافيٌّ، أي: هُم الذين أفلحوا، أي: دُونَ مَن كَفَر به، بقَرينةِ المقامِ، ويجوزُ أنْ يكونَ القصرُ ادعائيًّا دالًّا على معنى كمالِ صِفةِ الفلاحِ للَّذينَ يتَّبعونَ النبيَّ الأُمِّيَّ؛ ففلاحُ غيرِهم من الأُممِ المفلِحين الذين سَبَقوهم كلا فَلاحٍ إذا نُسِب إلى فلاحِهم .

 

============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآية (158)

ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ

المعنى الإجمالي:

 

يأمرُ اللهُ نَبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ للنَّاسِ جَميعِهم: يا أيُّها النَّاسُ، إنِّي رسولُ اللهِ إليكم كُلِّكم، الذي له وحدَه مُلكُ السَّمواتِ والأرضِ وما فيهما، لا معبودَ بِحقٍّ إلَّا هو وحدَه، بِيَدِه وحدَه إحياءُ الخَلقِ وإماتَتُهم، فآمِنوا- أيُّها النَّاسُ- باللهِ ورَسولِه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، النَّبيِّ الأمِّيِّ، الذي يؤمِنُ باللهِ وكَلِماتِه، واتَّبعوه؛ لعلَّكم تهتدونَ.

تفسير الآية:

 

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكر اللهُ تعالى لموسى- عليه السلام- صفةَ مُحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأخبَرَ أنَّ مَن أدرَكَه وآمَنَ به، أفلح- أمَرَ تعالى نبيَّه بإشهارِ دَعوَتِه ورسالَتِه إلى النَّاسِ كافَّةً، والدُّعاءِ إلى الإيمانِ باللهِ ورسولِه وكَلِماتِه، واتِّباعِه

.

وأيضًا لَمَّا دعا أهلَ التَّوراةِ مِن بني إسرائيلَ إلى اتِّباعِه، وكان ربَّما توهَّم مُتَوهِّمٌ أنَّ الحُكمَ مَقصورٌ عليهم- أتى بما يدلُّ على العُمومِ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الرَّسولَ الأمِّيَّ، استطرَدَ بتذكيرِ بني إسرائيلَ بما وعَدَ اللهُ به موسى عليه السَّلام، وإيقاظًا لأفهامِهم بأنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو مِصداقُ الصِّفاتِ التي عَلَّمَها اللهُ موسى .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا

أي: قلُ- يا مُحمَّدُ- للنَّاسِ كُلِّهم: يا أيُّها النَّاسُ، إنِّي مُرسَلٌ مِن اللهِ إلى جَميعِكم؛ مِن العَرَب وغَيرِهم، ولم أُرسَلْ إلى بعضِكم دونَ بَعضٍ .

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ: 28] .

وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] .

وقال عزَّ وجلَّ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1] .

وقال تبارك وتعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ [آل عمران: 20] .

وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُعطيتُ خمسًا لم يُعطَهنَّ أحدٌ مِنَ الأنبياءِ قَبلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ، وجُعِلَت لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا، وأيُّما رجلٍ مِن أمَّتي أدركَتْه الصَّلاةُ فلْيُصَلِّ، وأُحِلَّت لي الغنائِمُ، وكان النبيُّ يُبعَثُ إلى قَومِه خاصَّةً، وبُعِثتُ إلى النَّاسِ كافَّةً، وأُعطِيتُ الشَّفاعةَ )) .

وعن أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((والذي نَفسُ محمَّدٍ بِيَدِه، لا يسمَعُ بي أحدٌ مِن هذه الأمَّةِ؛ يهوديٌّ، ولا نصرانيٌّ، ثم يموتُ ولم يؤمِنْ بالذي أُرسِلْتُ به، إلَّا كان من أصحابِ النَّارِ )) .

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ

أي: إنِّي رسولُ مَن له وَحدَه سُلطانُ السَّمَواتِ والأرضِ وما فيهِما، وله وَحدَه تدبيرُ ذلك، والقيامُ بتَصريفِه .

كما قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة: 17] .

وقال سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: 1] .

لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

أي: لا معبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، وحدَه دونَ ما سواه .

كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62] .

يُحْيِي وَيُمِيتُ

أي: هو وَحدَه الذي بيَدِه إحياءُ الخَلقِ وإماتَتُهم .

كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك: 2] .

وقال سبحانه: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [غافر: 68] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33] .

وقال جلَّ جلالُه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 36 -40] .

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ

مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا صَدَّرَ الأمرَ بخطابِ جَميعِ البَشَرِ، وكان فيهم مَن لا يؤمنُ بالله، وفيهم مَن يؤمِنُ باللهِ ولا يؤمِنُ بالنَّبيِّ الأمِّيِّ- جمعَ بين الإيمانِ باللهِ والإيمانِ بالنَّبيِّ الأمِّيِّ في طَلَبٍ واحدٍ؛ ليكونَ هذا الطَّلبُ مُتوجِّهًا للفِرَق كُلِّهم، ليجمَعوا في إيمانِهم بين الإيمانِ باللهِ والنبيِّ الأمِّيِّ، مع قضاءِ حَقِّ التأدُّبِ مع الله بجَعلِ الإيمانِ به مُقَدَّمًا على طلَبِ الإيمانِ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ للإشارةِ إلى أنَّ الإيمانَ بالرَّسولِ إنَّما هو لأجْلِ الإيمانِ بالله ، فقال تعالى:

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ

أي: فآمِنُوا- أيُّها النَّاسُ- باللهِ تعالى، الذي تلك صِفَتُه، وآمِنوا برَسولِه محمَّدٍ النَّبيِّ الذي لا يكتُبُ ولا يقرأُ مِن كتابٍ .

الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ

أي: الذي يؤمِنُ بالله، ويوحِّدُه في عبادَتِه، ويؤمِنُ بكَلِماتِ اللهِ، التي منها جميعُ كُتُبِه التي أنزَلَها على رُسُلِه صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم .

كما قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة: 285] .

وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

أي: واقتَدُوا- أيُّها النَّاسُ- بهذا الرَّسولِ، وأطيعوه؛ لأجلِ أن تهتَدُوا إلى الحَقِّ

 

.

كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 31-32] .

وقال سبحانه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور: 54] .

وقال عزَّ وجلَّ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال تعالى: يُحْيِي وَيُمِيتُ مَن كان يحيي ويميتُ، فهو الذي يُخافُ منه غايةَ الخَوفِ؛ لأنَّه لا يقَعُ على الإنسانِ في هذه الدَّارِ الدُّنيا حادِثٌ أعظَمُ مِن الموتِ، الذي يقطَعُه عن كُلِّ شيءٍ، ولا شيءَ أعظَمُ- مِن التصَرُّفات- مِن إحياءِ الإنسانِ بعدَ مَوتِه، والإتيانِ به حيًّا بعد أن صار عِظامًا رَميمًا- سبحانَ رَبِّنا وخالِقِنا، ما أعظَمَه! وما أعظَمَ قُدرَتَه جلَّ وعلا! وما أظهَرَ براهينَ تَوحيدِه

!

2- على الخلقِ كلِّهم اتباعُ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فلا يعبدونَ إلا الله، ويعبدونَه بشريعةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم لا بغيرِها، قال تعالى: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قال تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ المقصودُ مِن ذِكرِ هذه الأوصافِ الثَّلاثة: تذكيرُ اليَهودِ، ووَعظُهم؛ حيث جحَدوا نبوَّةَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وزعموا أنَّه لا رسولَ بعد موسى، واستعظَموا دعوةَ مُحمَّدٍ، فكانوا يعتقدونَ أنَّ موسى لا يُشبِهُه رَسولٌ، فذُكِّروا بأنَّ اللهَ مالِكُ السَّمواتِ والأرضِ، وهو واهِبُ الفَضائِلِ، فلا يُستعظَمُ أن يُرسِلَ رَسولًا، ثم يُرسِلَ رَسولًا آخَرَ؛ لأنَّ المُلكَ بِيَدِه، وبأنَّ اللهَ هو الذي لا يُشابِهُه أحدٌ في ألوهِيَّتِه، فلا يكونُ إلَهانِ للخَلقِ، وأمَّا مَرتبةُ الرِّسالةِ فهي قابلةٌ للتعَدُّدِ، وبأنَّ اللهَ يحيي ويُميتُ، فكذلك هو يُميتُ شريعةً ويُحيي شريعةً أخرى، وإحياءُ الشَّريعةِ إيجادُها بعد أنْ لم تكُنْ؛ لأنَّ الإحياءَ حَقيقَتُه إيجادُ الحياةِ في الموجودِ، ثم يحصُلُ مِن هذه الصِّفاتِ إبطالُ عقيدةِ المُشركينَ بتعَدُّدِ الآلهةِ وبإنكارِ الحَشرِ

.

قوله تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ دلَّ على أنَّه لا يُشرِّعُ للخلقِ، ويأمرُهم وينهاهم، ويحرِّم عليهم إلا الملكُ، الذي هو نافذُ التصرُّفِ نفوذًا مطلقًا، وله الكلمةُ العليا، وهو فوقَ كلِّ شيءٍ .

قولُ اللهِ تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ لَمَّا أثبَتَ تعالى هذه الأصولَ المذكورةَ بهذه الدَّلائِلِ المذكورةِ في هذه الآيةِ، ذكَرَ بَعدَه قولَه: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وهذا التَّرتيبُ في غايةِ الحُسنِ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا بيَّنَ أوَّلًا أنَّ القَولَ ببَعثةِ الأنبياءِ والرُّسُل- عليهم السَّلامُ- أمرٌ جائِزٌ مُمكِنٌ، أردَفَه بذِكرِ أنَّ مُحمَّدًا رسولٌ حَقٌّ مِن عندِ الله؛ لأنَّ مَن حاولَ إثباتَ مَطلوبٍ، وجبَ عليه أن يُبيِّنَ جوازَه أوَّلًا، ثمَّ حصولَه ثانيًا .

قولُ اللهِ تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ لَمَّا كان الإيمانُ باللهِ هو الأصلَ يتفَرَّعُ عنه الإيمانُ بالرَّسولِ والنبيِّ، بدأ به، ثم أتبَعَه بالإيمانِ بالرَّسولِ، ثم أتبَعَ ذلك بالإشارةِ إلى المُعجِزِ الدَّالِّ على نبوَّتِه، وهو كونُه أميًّا، وظهر عنه من المُعجِزاتِ في ذاتِه ما ظهَرَ مِن القُرآنِ الجامِع لعُلومِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، مع نشأتِه في بلدٍ عارٍ مِن أهلِ العِلمِ، لم يقرأْ كتابًا ولم يخُطَّ، ولم يصحَبْ عالِمًا، ولا غابَ عن مكَّةَ غَيبةً تقتضي تعلُّمًا .

قولُ اللهِ تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الإيمانُ باللهِ: الإيمانُ بأعظَمِ صِفاتِه، وهي الإلهيَّةُ المتضمِّنُ إيَّاها اسمُ الذَّاتِ، والإيمانُ بالرَّسولِ: الإيمانُ بأخَصِّ صِفاتِه، وهو الرِّسالةُ، وذلك معلومٌ مِن إناطةِ الإيمانِ بوَصفِ الرَّسولِ دونَ اسمِه العَلَم .

قال الله تعالى: الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ كلماتُ اللهِ تشمَلُ كُتُبَه ووحيَه للرُّسُلِ، وأوثِرَ هنا التعبيرُ بكَلِماتِه، دون كُتُبِه؛ لأنَّ المَقصودَ الإيماءُ إلى إيمانِ الرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بأنَّ عيسى كَلِمةُ الله، أي: أثَرُ كَلِمَتِه، وهي أمرُ التَّكوينِ؛ إذ كان تكَوُّنُ عيسى عن غيرِ سَببِ التكَوُّنِ المُعتادِ، بل كان تكَوُّنُه بِقَولِ اللهِ: كُن، كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ، فاقتضى أنَّ الرَّسولَ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- يُؤمِنُ بعيسى، أي: بِكَونِه رَسولًا مِن الله، وذلك قَطعٌ لِمَعذرةِ النَّصارى في التردُّدِ في الإيمانِ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واقتضى أنَّ الرَّسولَ يُؤمِنُ بأنَّ عيسى كلمةُ الله، وليس ابنَ اللهِ، وفي ذلك بيانٌ للإيمانِ الحَقِّ، ورَدٌّ على اليهودِ فيما نسَبُوه إليه، ورَدٌّ على النَّصارى فيما غَلَوْا فيه

 

.

بلاغة الآية:

 

قولُه تعالى: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا تأكيدُ الخَبَرِ بـ (إنَّ) باعتبارِ أنَّ في جملةِ المُخاطَبينَ مُنكِرينَ ومُتَردِّدينَ، استقصاءً في إبلاغِ الدَّعوةِ إليهم

.

وتأكيدُ ضَميرِ المُخاطبينَ في (إليكم) بوَصْفِ جميعًا الدَّالِّ نصًّا على العُمومِ؛ لرَفعِ احتمالِ تَخصيصِ رِسالَتِه بغيرِ بني إسرائيلَ؛ فإنَّ مِن اليهودِ فريقًا كانوا يزعمونَ أنَّ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نبيٌّ، ويزعمونَ أنَّه نبيُّ العَرَبِ خاصَّةً .

وتقديمُ المَجرورِ لَهُ في قَولِه: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ للقَصرِ، أي: لا لِغَيرِه ممَّا يعبُدُه المُشركون، فهو قَصرٌ إضافيٌّ؛ للرَّدِّ على المُشركينَ .

قَولُه: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ حالٌ مِن اسمِ الجلالةِ، في قُوَّةِ (مُتفَرِّدًا بالإلهيَّةِ)، وهذا قَصرٌ حَقيقيٌّ؛ لتحقيقِ صِفةِ الوَحدانيَّةِ، لا لقَصدِ الرَّدِّ على المُشركينَ .

قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ... فيه التفاتٌ؛ حيث عَدَل عن الضَّميرِ- فلم يقُل (فآمِنُوا باللهِ وبي)- إلى الاسمِ الظَّاهِر؛ لتجريَ عليه الصِّفاتُ التي أُجرِيَت عليه، ولِما في طريقةِ الالتفاتِ من البلاغةِ، ولِيُعلِمَ أنَّ الذي يجِبُ الإِيمانُ به، واتِّباعُه، هو هذا الشَّخصُ المُستقلُّ بأنَّه النبيُّ الأميُّ، الذي يؤمِنُ باللهِ وكلماتِه كائنًا مَنْ كان، أنا أو غيري؛ إظهارًا للنَّصَفةِ، وتفاديًا مِنَ العصبيَّةِ لِنَفسِه .

============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (159-160)

ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ

غريب الكلمات:

 

وَقَطَّعْنَاهُمُ: أي: فرَّقْناهم، وأصلُ (قطع): يدلُّ على صَرمٍ، وإبانةِ شَيءٍ مِن شيءٍ

.

أَسْبَاطًا: أي: قبائِلَ، وأصلُ (سبط): يدلُّ على امتدادِ شَيءٍ .

اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ: أي: طلَبُوا السُّقيا، والاستِسقاءُ: طلَبُ السَّقيِ، وأصلُ (سقي): إشرابُ الشَّيءِ الماءَ، وما أشبَهَه .

فَانْبَجَسَتْ: أي: انفَجَرت، والبَجسُ: انشقاقٌ في قِربةٍ، أو حَجرٍ، أو أرضٍ يَنبُع منها ماءٌ .

عَيْنًا: العينُ هاهنا إشارةٌ إلى المكانِ الذي ينبُعُ أو يسيلُ منه الماءُ، لا إلى الماءِ بِعَينِه، وأصلُ (عين): يدلُّ على عضوٍ به يُبصَر ويُنظَر، ثم يُشتَقُّ منه، وإنَّما سُمِّيَتْ العَيْنُ الجاريَةُ النَّابِعَةُ مِنْ عُيونِ الماءِ عَيْنًا؛ تَشْبيهًا لها بالعَيْنِ النَّاظِرَةِ؛ لصَفائِها ومائِها .

مَشْرَبَهُمْ: أي: مَوضِعَ شُربِهم، وهو مَفعَلٌ مِن الشَّرابِ، يكونُ للمَصدَرِ والزَّمان والمكانِ .

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ: أي: جَعَلْناه يُظلِّلُكم، والظِّلُّ: ما أظلَّك مِن سحابٍ ونَحوِه. وأصلُ (ظلل): يدلُّ على سَترِ شَيءٍ لشَيءٍ .

الْغَمَامَ: جمعُ غمامةٍ، وهو سحابٌ أبيضُ، سُمِّي بذلك لأنَّه يغمُّ السَّماءَ، أي يستُرُها، وأصلُ الغَمِّ: سَترُ الشَّيءِ، وكُلُّ شيءٍ غطَّيتَه فقد غمَّمَتَه .

المَنَّ: شيءٌ حُلوٌ كان يسقُطُ على شَجَرِهم، فيجتَنونَه فيأكلونَه، وقيل: المنُّ مصدرٌ يَعُمُّ جميعَ ما مَنَّ اللَّه به على عبادِه مِن غيرِ تَعَبٍ ولا زَرْعٍ، وأصلُ (منن): اصطِناعُ خَيْرٍ .

وَالسَّلْوَى: طائِرٌ يُشبِهُ السُّمانَى، لا واحِدَ له مِن لفظِه، واشتقاقُ السَّلوى من السَّلوةِ؛ لأنَّه لطِيبِه يُسلِّي عن غَيرِه

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا

اثْنَتَيْ مَنصوبٌ، على أنَّه حالٌ مِن مفعولِ قَطَّعْنَاهُمْ، أي: فَرَّقْناهم معدودِينَ بهذا العددِ. أو يكون قَطَّعْنا متضمِّنًا معنى (صَيَّرنا)، فيَكونُ اثْنَتَيْ مَفعولًا ثَانيًا، وتمييزُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ محذوفٌ لِفَهمِ المعنى، وتقديره: اثنتَي عَشرةَ فرقةً أو أمَّةً، وأَسْبَاطًا بدلٌ مِن ذلك التَّمييزِ، وأُمَمًا: نَعتٌ لـ أَسْبَاطًا، أو بَدَلٌ مِنها بعدَ بدلٍ. ولم تُعرَبْ أَسْبَاطًا تمييزًا؛ لوَجهينِ؛ أحدُهما: أنَّ المعدودَ أَسْبَاطًا مُذكَّرٌ؛ لأنَّ أسباطًا جمعُ سِبْطٍ، فكان التَّركيبُ يكون (اثْنَيْ عَشَرَ). والثاني: أنَّ تمييزَ العَدَدِ المركَّب- وهو من أحدَ عَشَر إلى تسعةَ عشَرَ- مفردٌ منصوبٌ، وأسباطًا جَمْعٌ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ الله تعالى أنَّ هناك جماعةً مِن قومِ موسى يهتدونَ بالحَقِّ الذي أنزلَه اللهُ، وبالعَدلِ يَحكمونَ، فلا يَظلمونَ النَّاسِ.

ويُخبِرُ تعالى أنَّه قسَّم قومَ مُوسى إلى اثنتي عشرةَ قبيلةً، تشمَلُ كلُّ قبيلةٍ جماعةً كثيرةً، وأوحى إلى موسى- لَمَّا طلب منه قَومُه أن يسقِيَهم، وهم في التِّيهِ- أن يَضرِبَ بعصاه الحَجَرَ، فانفجَرَت منه اثنتا عشرةَ عينًا مِن الماء، قد عَلِمَ كلُّ قبيلةٍ مِن تلك القبائِلِ العينَ التي تخصُّهم، فيشربونَ منها لا يشارِكُهم فيها غيرُهم، وظلَّلَ اللهُ عليهم السَّحابَ في التِّيهِ يقيهِم حرَّ الشَّمسِ، وأنزل عليهم المَنَّ والسَّلوى، وأمَرَهم بالأكلِ مِن طيباتِ الرِّزقِ، فخالفوا أمر الله وعصَوه سبحانه، وَمَا ظَلَمُوا الله تعالى بفعلِهم ذلك؛ لأنَّ اللهَ لا تضرُّه معصيةُ العاصينَ، وإنما ظَلَموا بذلك أنفُسَهم.

تفسير الآيتين:

 

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمر اللهُ تعالى بالإيمانِ باللهِ ورسولِه، وأمر باتِّباعِه، ذكر أنَّ مِن قَومِ موسى مَن وُفِّقَ للهدايةِ، وعَدَلَ ولم يَجُرْ، ولم تكن له هِدايةٌ إلَّا باتِّباعِ شريعةِ موسى قبل مَبعَثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وباتِّباعِ شَريعةِ رَسولِ اللهِ بعد مَبعَثِه، فهذا إخبارٌ عمَّن كان مِن قَومِ موسى بهذه الأوصافِ

.

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ

أي: ومِن أتباعِ موسى- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- مِن بني إسرائيلَ، جماعةٌ يهتدونَ بالحقِّ الذي شَرَعَه اللهُ عزَّ وجلَّ .

كما قال تعالى: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 113-114] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران: 199] .

وقال جلَّ جلاله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: 121] .

وقال تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [القصص: 52-54] .

وَبِهِ يَعْدِلُونَ

أي: وبالحقِّ الذي أنزله الله تعالى يحكمونَ، وبالعَدلِ يقومونَ، فلا يظلمونَ النَّاس .

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا

أي: وقسَّمنا قومَ موسى- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- اثنتَي عَشرةَ قبيلةً، كلُّ قبيلةٍ عبارةٌ عن جماعةٍ كثيرةٍ .

كما قال تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ [الأعراف: 168] .

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ

أي: وقُلْنا لنبيِّنا موسى حينَ طلَب منه قَومُه أن يسقِيَهم ماءً، وهم في التِّيهِ: اضرِبْ بعصاك الحجَرَ .

كما قال تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ [البقرة: 60] .

فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا

أي: فانفجَرَت مِن الحَجَرِ الذي ضرَبَه موسى بعصاه اثنتا عشرةَ عينًا مِن الماء .

كما قال تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [البقرة: 60] .

قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ

أي: قد عرَف كُلُّ سِبطٍ- وهم بنو أبٍ واحدٍ- عينَهم التي تخرُجُ مِن الحَجَرِ، فيَشربونَ منها، ولا يشارِكُهم فيها غيرُهم مِن الأسباطِ .

وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ

أي: وسَتَرْنا قومَ موسى بالسَّحابِ، يقيهِم مِن حَرِّ الشَّمسِ، وهم في التِّيهِ .

كما قال تعالى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ [البقرة: 57] .

وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى

أي: وأنزَلْنا على قَومِ موسى، وهم في التِّيهِ، رِزقًا طيِّبًا سَهلًا، يحصُلون عليه بلا كُلفةٍ، ولا مشقَّةٍ، وهو المَنُّ: الذي قيل: إنَّه كل ما امتنَّ الله تعالى به عليهم مِن الطَّعامِ والشَّرابِ، ممَّا ليس في تحصيلِه كلفةٌ ولا مشقَّةٌ. قيل: هو التُّرَنجَبين، وهو شيءٌ أبيضُ ينزِلُ على الشَّجَرِ كالنَّدى، حُلوٌ، يُشبِه العَسلَ الأبيض، والسَّلوى: وهو طائر، قيل: هو السُّمَانَى، وقيل: يُشبِه السُّمَانَى .

كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 57] .

وعن سعيدِ بنِ زَيدٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الكَمْأةُ مِن المَنِّ ) .

كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ

أي: وقُلنا لقومِ موسى: كُلُوا مِن حَلالِ المُستلَذَّاتِ التي رزَقْناكم .

وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

أي: فعَصَوني، ولم يشكُروا نِعمَتي عليهم، وما أدخَلوا علينا بذلك نقصًا في مُلكِنا، ولم يضرُّونا، ولكن كانوا يَنقُصونَ أنفُسَهم حُظوظَها مِن الخَيرِ، ويضرُّونها بتعريضِها لاستحقاقِ عِقابي

 

.

الفوائد التربوية:

 

المُكَلَّفُ إذا أقدَمَ على المعصيةِ، فهو ما أضَرَّ إلَّا نَفسَه؛ حيث سعى في صيرورةِ نَفسِه مُستحِقَّةً للعِقابِ العَظيمِ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قال الله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فالأمَمُ العظيمةُ لا تخلو مِن أهلِ الحَقِّ والعَدلِ، فهذا مِن بَيانِ القرآنِ للحَقائِقِ، وعَدْلِه في الحُكم على الأمَمِ

.

قولُ اللهِ تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا لَمَّا وصَفَهم بهذه الكثرةِ في قَولِه: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا، وكان ذلك مجرى لذِكرِ الإنعامِ عليهم بالكِفايةِ في الأكلِ والشُّربِ؛ ذكَرَ نعمةً خارقةً للعادةِ في الماءِ، وبدأ به؛ لأنَّه الأصلُ في الحياةِ .

قولُ اللهِ تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ، التعبيرُ بالقَومِ إشارةٌ إلى تبكيتِهم بكَونِهم أهلَ قُوَّةٍ، ولم يتأسَّوا بموسى عليه السَّلامُ، في الصَّبرِ إلى أن يأتيَ اللهُ- الذي أمَرَهم بهذا المسيرِ- بالفَرَجِ .

قولُ اللهِ تعالى: وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ لَمَّا أتمَّ تبريدَ الأكبادِ، أتبَعَه غذاءَ الأجسادِ .

قولُ اللهِ تعالى: وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ هنا قَولٌ مُقَدَّرٌ يكثُرُ مِثلُه في التَّنزيلِ وكلامِ العَرَبِ، أي: (وقُلْنا لهم: كُلُوا من طيِّباتِ ما رَزَقْناكم)، فوُضِعَ هذا الوصفُ للمَنِّ والسَّلوى موضِعَ الضَّميرِ؛ لتعظيمِ شأنِ المنَّةِ بهما

 

.

بلاغة الآيتين:

 

قوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فيه تَخصيصٌ لظاهِرِ العُمومِ الَّذي في قَولِه: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى... قُصِدَ به الاحتراسُ؛ لِئلَّا يُتَوهَّمَ أنَّ ذلك قد عَمِلَه قومُ موسى كلُّهم، وللتَّنبيهِ على دفْعِ هذا التوهُّمِ، قَدَّمَ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى على متعَلَّقِه. وفيه إشارةٌ إلى التَّقليلِ، وأنَّ مُعظَمَهم لا يهدي بالحَقِّ، ولا يَعدِلُ به، وهم إلى الآن كذلك؛ دخَل في الإسلامِ مِن النَّصارى عالَمٌ لا يعلَمُ عددَهم إلَّا اللهُ تعالى، وأمَّا اليَهودُ فقليلٌ مَن آمَنَ مِنهم

.

وتقديمُ المجرورِ في قَولِه: وَبِهِ يَعْدِلُونَ للاهتمامِ به ولرعايةِ الفاصِلةِ؛ إذ لا مُقتضيَ لإرادةِ القَصرِ، بقرينة قَولِه: يَهْدُونَ بِالْحَقِّ حيث لم يُقدِّمِ المجرورَ .

وجاء قولُه: يَهْدُونَ ويَعْدِلُونَ بصيغةِ المضارِعِ المفيدِ الاستمرارَ؛ لتصويرِ الماضي في صورة الحاضِرِ .

قوله: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

جيءَ باسمِ العَدَدِ بصيغةِ التأنيثِ في قولِه: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا؛ لأنَّ السبطَ أُطلق هنا على الأُمَّة، فحذفَ تمييز العددِ؛ لدلالةِ قولِه: أُمَمًا عليه .

وتعريفُ الحَجَر؛ لتعظيمِ جِرمِه .

قَولُه فَانْبَجَسَتْ عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكَلامُ قد حُذِفَ؛ أي: فضَرَب فانبجَسَت؛ تعويلًا على كَمالِ الظُّهورِ، وإيذانًا بغايةِ مُسارَعَتِه عليه السَّلامُ إلى الامتثالِ، وسُرعةِ التأثيرِ عن ضَربِه، وتنبيهًا على كَمالِ سرعةِ الانبجاسِ- وهو الانفجارُ، كأنَّه حصل إثرَ الأمرِ قبلَ تحقُّقِ الضَّربِ .

وقولُه هنا في سورةِ الأعرافِ: فَانْبَجَسَتْ، وفي سورةِ البقرةِ: فَانْفَجَرَتْ فيه مناسبةٌ حسنةٌ، فالانبجاسُ ابتداءُ الانفجارِ، والانفجارُ بعدَه غايةٌ له، فلما كان الواقعُ فى الأعرافِ طلبَ بنى إسرائيلَ مِن موسَى عليه السلامُ السُّقيا؛ قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ، ولما كان الواردُ فى سورةِ البقرةِ طلبَ موسَى عليه السلامُ مِن ربِّه، قال تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فطلبُهم ابتداءٌ، فناسَبه الابتداءُ، وطلبُ موسَى عليه السلامُ غايةٌ لطلبِهم؛ لأنَّه واقعٌ بعدَه، ومرتَّبٌ عليه، فناسب الابتداءُ الابتداءَ، والغايةُ الغايةَ، فقيل جوابًا لطلبِهم: فَانْبَجَسَتْ، وقيل إجابةً لطلبِه: فَانْفَجَرَتْ وتناسَب ذلك، وجاء على ما يجِبُ، ولم يكنْ ليناسبَ العكسُ ، وأيضًا لأنَّ الانفجارَ أبلغُ في كثرةِ الماءِ، فناسَبَ سِياقَ ذِكْرِ النِّعَمِ في سورةِ البقرةِ التعبيرُ به .

قولُ اللهِ تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ إسنادُ الرِّزقِ إلى ضميرِ جَمعِ العَظَمةِ تأكيدٌ؛ للتَّنبيه والتَّذكيرِ بما يجِبُ مِن شُكرِه تعالى على ذلك .

قَولُه: ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ تقديمُ المفعولِ أَنْفُسَهُمْ لإفادةِ القصْرِ الذي يقتضيه النفيُ السَّابقُ، وفيه ضَربٌ مِن التهكُّمِ بهم. والجمعُ بين صِيغَتي الماضي والمستقبَل؛ للدَّلالةِ على تمادِيهم فيمَا هُم فيهِ من الظُّلمِ والكُفرِ . ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...