الخميس، 18 يناير 2024

8.سُورة الأنفالِ ج1.{75 اية مدنية}

 

8.سُورة الأنفالِ ج1.{75   -اية مدنية}

 

سُورة الأنفالِ

 

مقدمة السورة

 

أسماء السورة:

 

سُمِّيَت هذه السُّورةُ بِسُورةِ الأنفالِ

.

فعن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: (قلتُ لابن عباس: سورةُ الأنفالِ، قال : نزلتْ في بدرٍ )

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ الأنفالِ مَدَنيَّةٌ

 

بَدْريَّةٌ ، وحُكِي الإجماعُ على ذلك

 

مقاصد السورة:

 

مِن أهَمِّ مقاصِدِ سُورةِ الأنفالِ:

بيانُ أسبابِ النصرِ، وبعضِ أحكامِ الجهادِ

موضوعات السورة:

 

من أبرَزِ مَوضوعاتِ سُورةِ الأنفالِ:

1- بَيانُ أحكامِ الأنفالِ- وهي الغَنائِمُ- وقِسمَتِها ومصارِفِها، والأمرُ بِتَقوى اللهِ في ذلك وغَيرِه، والأمرُ بطاعةِ اللَّهِ ورَسولِه في أمرِ الغَنائِمِ وغَيرِها، وأمرُ المُسلمينَ بإصلاحِ ذاتِ بَينِهم، وأنَّ ذلك مِن مُقَوِّماتِ معنى الإيمانِ الكامِلِ.

2- وصفُ المؤمنينَ الصادقينَ، وتبشيرُهم بالدرجاتِ الرفيعةِ والمنازلِ العاليةِ.

3- ذِكرُ الخُروجِ إلى غزوةِ بَدرٍ، وكراهيةِ فريقٍ مِن المؤمنينَ لذلك، وما لَقُيه المؤمنون في هذه الغزوةِ مِن نَصرٍ وتأييدٍ مِن الله، ولُطفِه بهم، وامتنانِه عليهم، والأمرِ بالاستعدادِ لِحَربِ الأعداءِ، والأمرِ باجتماعِ الكَلِمةِ، والنَّهيِ عن التَّنازُعِ، والأمرِ بأن يكونَ قَصدُ النُّصرةِ للدِّينِ نُصْبَ أعيُنِهم، ووصْفِ السَّبَبِ الذي أخرَجَ المسلمينَ إلى بدرٍ، ومَواقِعِ الجيشَينِ، وصفاتِ ما جرى مِن القِتالِ.

4- توجيهُ عدةِ نداءاتٍ لِلمُؤمنينَ؛ وإرشادُهم في كلِّ واحدٍ منها إلى ما فيه خَيرُهم وفَلاحُهم.

5- تذكيرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنِعمةِ اللهِ عليه؛ إذ أنجاه مِن مَكرِ المُشركينَ به بمكَّةَ.

6- ذكرُ ما عليه المشركون مِن جهلٍ وعنادٍ.

7- بيان أنَّ مُقامَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمكَّةَ كان أمانًا لأهْلِها، فلمَّا فارَقَهم فقد حَقَّ عليهم عذابُ الدُّنيا؛ بما اقتَرَفوا مِن الصَّدِّ عن المسجِدِ الحَرامِ.

8- دعوةُ المشركينَ للانتهاءِ عَن مُناوأةِ الإسلامِ، وإيذانُهم بالقتالِ، والتَّحذيرُ مِن المُنافِقينَ.

9- تفصيلُ أمرِ الغنائِمِ، وبيانُ ما أُجمِلَ في أوَّلِ السُّورةِ.

10- ذكرُ أحكامِ العَهدِ بين المُسلمين والكُفَّارِ، وما يترتَّبُ على نَقضِهم العهدَ، ومتى يَحسُنُ السَّلْمُ.

11- بيانُ أحكامِ الأسْرَى، وأحكامِ المُسلِمينَ الذين تخلَّفُوا في مكَّةَ بعد الهِجرةِ، ووَلايَتِهم، وما يترتَّبُ على تلك الوَلايةِ.

سُورة الأنفالِ

الآيات (1-4)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ

غريب الكلمات:

 

الْأَنْفَالِ: أي: الغَنائِم، واحِدُها نَفَل؛ والنَّفْل الزِّيادَة، والأنفالُ مِمَّا زَاد الله هذه الأُمَّةَ في الحلالِ؛ لأنَّه كان مُحرَّمًا على مَن كان قبلَهم، وأصلُ (نفل): يدلُّ على إعطاءٍ

.

ذَاتَ بَيْنِكُمْ: أَي: الحالَ التي بَينكم، أو الأحوالَ التي تجمَعُكم مِن القَرابةِ والوُصلةِ والمَودَّةِ، وأصلُ (بين): موضوعٌ للخَلالةِ بين الشَّيئينِ ووسْطَهما .

وَجِلَتْ: أي: خافَت وفَرِقَت، والوَجَلُ: استشعارُ الخَوفِ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يسألُك- يا محمَّدُ- أصحابُك عن حُكمِ الغَنائِمِ- وخاصَّةً غنائِمَ بَدرٍ، ولِمَن هي، وكيف تُقسَمُ؟ فقل لهم: أمرُ الغنائِمِ إلى اللهِ تعالى الذي يملِكُها، وإلى رسولِ اللهِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي يقسِمُها، فاتَّقُوا اللهَ وأصلِحوا الحالَ بينكم، وأطيعُوا اللهَ ورسولَه، وامتَثِلوا أمرَهما إنْ كنتم حقًّا مُؤمنينَ.

إنَّما المُؤمنونَ حَقًّا مَن إذا ذُكرَ اللهُ فَزِعَت قلوبُهم وخافوا منه، وإذا قُرِئَت عليهم آياتٌ مِن كتابِه، ازداد تصديقُهم ويقينُهم، وعلى ربِّهم وَحْدَه يتوكَّلونَ، الذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ على أكمَلِ وَجهٍ، وممَّا رزَقَهم اللهُ يُنفِقونَ، أولئك هم المُؤمِنونَ حقًّا، لهم منازِلُ ومراتِبُ عاليةٌ عند ربِّهم، ومغفرةٌ، ورزقٌ كريمٌ في الجنَّةِ.

تفسير الآيات:

 

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1).

أسبابُ النُّزولِ:

1- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما، قال: ((قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وسلَّمَ يومَ بدرٍ: مَن فعلَ كذا وكَذا، فلَهُ منَ النَّفَلِ كذا وكَذا. قالَ: فتقدَّمَ الفِتيانُ، ولزمَ المشيَخةُ الرَّاياتِ فلم يبرَحُوها، فلمَّا فتحَ اللَّهُ عليهم قالت المشيخةُ: كنَّا رِدءًا

لَكُم، لوِ انهزمتُمْ فِئتُمْ إلينا، فلا تَذهَبونَ بالمَغنمِ ونبقى، فأبى الفِتيانُ، وقالوا: جعلَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وسلَّمَ لَنا، فأنزلَ اللَّهُ تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ * قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ إلى قولِهِ: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يقولُ: فَكانَ ذلِكَ خيَرًا لَهُم، فكَذلِكَ أيضًا فأطيعوني؛ فإنِّي أعلمُ بِعاقبةِ هذا منكُم )) .

2- عَن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ قال: ((نزلَتْ فيَّ أربعُ آياتٍ: أَصَبْتُ سيفًا، فأتى به النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، نَفِّلْنِيه فقال: ضَعْه. ثم قام، فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ضَعْه من حيثُ أخَذْتَه. ثم قام، فقال: نَفِّلْنِيه يا رسولَ الله، فقال: ضَعْه. فقام، فقال: يا رسولَ اللهِ، نَفِّلْنِيه، أؤُجعَلُ كمَن لا غَناءَ له؟ فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ضَعْه مِن حيث أخَذْتَه. قال: فنَزَلت هذه الآيةُ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال: 1] )) .

النَّاسِخُ والمَنسوخُ:

هذه الآيةُ مَنسوخةٌ بآيةِ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ... الآية [الأنفال: 41] .

وقيل: هي مُحكَمةٌ .

َيسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ.

أي: يسألُك أصحابُك- يا مُحَمَّدُ- عن الغنائِم - وخاصَّةً غنائِمَ غَزوةِ بَدرٍ التي غَنِمُوها من كفَّارِ قُريشٍ - عن حُكمِها، ولِمَن هي، وكيف تُقسَم ؟

قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ.

أي: قُلْ لهم- يا محمَّدُ- جوابًا عن سُؤالِهم: إنَّما أمْرُ الغنائِمِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، الذي يملِكُها، وإلى مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذي يَقسِمُها، وهما يتصرَّفانِ في شَأنِها، ويَضَعانِها حيث شاءا، فارضَوْا بحكمِهما، وسلِّموا الأمرَ إليهما .

فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا حكمَ بأنَّ الأنفالَ مِلكٌ لله ورَسولِه، أو بأنَّ أمْرَ قِسْمَتِها موكولٌ لله، فقد وقع ذلك على كراهةِ كثيرٍ منهم، ممَّن كانوا يحسَبونَ أنَّهم أحقُّ بتلك الأنفالِ ممَّن أعطِيَها؛ تبعًا لعوائِدِهم السَّالِفةِ في الجاهليَّةِ، فذكَّرَهم اللهُ بأنْ قد وجب الرِّضا بما يقسِمُه الرَّسولُ مِنها ، فقال تعالى:

فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ.

أي: فامتَثِلوا ما أمَرَكم اللهُ تعالى به، واجتَنِبوا ما نهاكم عنه، وأصلِحُوا الحالَ الواقعةَ بينكم في شأنِ تنازُعِكم في الأنفالِ، فلا تتخاصَمُوا ولا تتشاجَرُوا، ولا تتشاحَنُوا ولا تتدابَرُوا .

وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.

أي: وانتَهُوا- أيُّها الطَّالبونَ الأنفالَ- إلى أمرِ اللهِ تعالى، وأمْرِ رَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فاقبَلوا ما أُمِرْتم به في شأنِ الأنفالِ وفي غيرِها، وامتَثِلوه وسلِّموا لحُكمِهما، إن كنتم حقًّا تؤمنونَ برَسولِ اللهِ فيما آتاكم به من عندِ ربِّكم؛ فإنَّ الإيمانَ يُوجِبُ القَبولَ لِحُكمِهما، ويدعو إلى طاعَتِهما .

ثم وصَفَ اللهُ تعالى المؤمنينَ ذوي الإيمانِ الكامِلِ، فقال :

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2).

مُناسبةُ الآيةِ لما قبلَها:

لَمَّا قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ واقتضى ذلك كونَ الإيمانِ مُستلزِمًا للطَّاعةِ؛ شرحَ ذلكَ في هذهِ الآيةِ مزيدَ شَرحٍ وتفصيلٍ ، فقال:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.

أي: إنَّما المؤمنونَ حَقًّا، الكامِلُون في إيمانِهم كمالًا كما ينبغِي؛ مَن إذا ذُكِرَ اللهُ وعَظَمتُه وقُدرَتُه، وخُوِّفُوا به سبحانَه؛ فَزِعَت قلوبُهم، وخافوا منه عزَّ وجلَّ، فخَضَعوا له بفِعلِ أوامِرِه، وتَرْكِ نَواهِيه .

كما قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40-41] .

وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا.

أي: وإذا قُرِئَتْ عليهم آياتٌ مِن كِتابِ الله سبحانه، ازدادَ تصديقُهم ويقينُهم ، وإذعانُهم وانقيادُهم.

كما قال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124] .

وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.

أي: وعلى مَن خَلَقَهم ويَملِكُهم، ويدبِّرُ شُؤونهَم، يعتَمِدون، وبه يَثِقونَ في جَلْبِ مصالِحِهم ودَفْعِ مَضارِّهم، لا يرجونَ غَيرَه، ولا يرهبونَ سواه، ولا يقصِدونَ مَن دُونَه، ولا يلوذونَ إلَّا بجنابه .

كما قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 122] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك: 29] .

ثمَّ نبَّه سبحانه على أعمالِهم، بعدَ ما ذكَر اعتقادَهم، فقال :

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3).

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ.

أي: ومِن صفاتِهم أنَّهم يؤدُّونَ الصَّلاةَ- التي هي حقٌّ خالصٌ لله تعالى- بحُدودِها وشُروطِها، وأوقاتِها وأعمالِها: الظَّاهِرةِ والباطنةِ، فيأتونَ بها على الوَجهِ المَطلوبِ .

وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ.

أي: ومِن صِفاتِهم أنَّهم يُنفِقونَ ممَّا رزَقَهم اللهُ مِن الأموالِ، النَّفَقاتِ الواجبةَ والمستحبَّةَ؛ نفعًا للعبادِ، وأداءً لحُقوقِهم .

ثم حقَّق اللهُ تعالى لهم الإيمانَ، فقال :

أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4).

أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا.

أي: أولئك الذينَ يَفعلونَ تلك الأفعالَ الجَليلةَ، ويتَّصِفونَ بتلك الصِّفاتِ العظيمةَ هم وَحدَهم المؤمنون حقَّ الإيمانِ، إيمانًا لا يعتريه شكٌّ .

ثم ذكَرَ ثوابَ هؤلاءِ المُؤمنين الذي وصَفَهم، فقال :

لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ.

أي: لهم مراتِبُ ومنازلُ عالياتٌ، يرتَقونَها في الجنَّاتِ، بحسَبِ عُلوِّ أعمالِهم الصَّالحاتِ .

كما قال سبحانه: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران: 163] .

وقال تعالى: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء: 21] .

وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أهل الجنَّةَ يَتَراءونَ أهلَ الغرفِ من فوقهم، كما تَتَراءَونَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ في الأُفُقِ، من المشرقِ أو المغربِ، لِتَفاضُلِ ما بينهم. قالوا: يا رسولَ اللهِ تلك منازلُ الأنبياءِ لا يَبْلُغُها غيرُهم، قال: بلى، والذي نفسي بيَدهِ، رجالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ )) .

وَمَغْفِرَةٌ.

أي: ولهم سَترٌ لذُنُوبِهم، وتجاوزٌ عنها .

وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.

أي: ولهم في الجنَّةِ رزقٌ أعدَّه الله تعالى لهم فيها؛ مِن المآكِلِ والمشارِبِ وهَنيءِ العَيشِ، ممَّا لا عينٌ رأَتْ، ولا أذُنٌ سَمِعَت، ولا خطَرَ على قلبِ بَشَرٍ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُ اللهِ تعالى: وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فيه أمرٌ للمُؤمنينَ أن يُصلِحوا ما بَينَهم مِن التَّشاحُنِ والتَّقاطُعِ والتَّدابُر، بالتوادُدِ والتَّحابِّ والتَّواصُلِ؛ فبذلك تجتمِعُ كَلِمتُهم، ويزولُ ما يحصُلُ- بسبَبِ التَّقاطُعِ- من التَّخاصُمِ والتَّشاجُرِ والتَّنازُعِ، ويدخُلُ في إصلاحِ ذاتِ البَينِ تحسينُ الخُلُقِ لهم، والعَفوُ عن المُسيئينَ منهم؛ فإنَّه بذلك يزولُ كثيرٌ ممَّا يكونُ في القُلوبِ مِن البَغضاءِ والتَّدابُرِ

.

2- الإيمانُ يَدعو إلى طاعةِ اللهِ ورَسولِه، كما أنَّ مَن لم يُطعِ اللهَ ورسولَه فليس بمؤمِنٍ، ومَن نَقَصت طاعتُه للهِ ورَسولِه، فذلك لنَقْصِ إيمانِه؛ قال الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

3- المؤمِنُ إنما يكون مؤمنًا حقًّا إذا حقَّقَ إيمانَه بالأعمالِ الصَّالحة؛ يقولُ اللهُ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا .

4- قال اللهُ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ذِكْرُ اللهِ تعالى: بِذِكرِ اسمِه، وذِكرِ عِقابِه وعَظَمتِه، وذِكرِ ثوابِه ورَحمَتِه- يحصُلُ معه الوَجَلُ في قُلوبِ كُمَّلِ المُؤمنينَ؛ لأنَّه يحصُلُ معه استحضارُ جَلالِ اللهِ، وشِدَّةِ بأسِه، وسَعةِ ثَوابِه، فينبعِثُ عن ذلك الاستحضارِ توقُّعُ حُلولِ بَأسِه، وتوقُّعُ انقطاعِ بَعضِ ثوابِه أو رَحمَتِه، وهو وجَلٌ يبعَثُ المؤمِنَ إلى الاستكثارِ من الخَيرِ، وتوقِّي ما لا يُرضِي الله تعالى .

5- الإيمانُ يَزيدُ ويَنقُصُ؛ يزيدُ بفِعلِ الطَّاعةِ، وينقُصُ بِضِدِّها؛ فينبغي للعبدِ أن يتعاهدَ إيمانَه ويُنمِّيَه؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قولُ الله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ، وقد استدلَّ البخاريُّ وغيرُه مِن الأئمَّةِ بهذه الآيةِ وأشباهِها، على زيادةِ الإيمانِ وتفاضُلِه في القلوبِ، كما هو مذهَبُ جُمهورِ الأمَّةِ، بل قد حكى الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ من الأئمَّة؛ كالشِّافعيِّ، وأحمدَ ابنِ حَنبلٍ، وأبي عُبَيد .

6- قال اللهُ تعالى: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ التوكُّلُ هو الحامِلُ للأعمالِ كُلِّها، فلا تُوجَدُ ولا تَكمُلُ إلَّا به، قال سعيدُ بنُ جُبَير: التوكُّلُ على اللهِ جِماعُ الإيمانِ .

7- قال الله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قرَنَ تعالى بين الصَّلاةِ والزَّكاةِ، وأثنى على فاعلِيهما؛ لأنَّ مَدارَ النَّجاةِ عليهما، ولا فلاحَ لِمَن أخلَّ بهما .

8- قال اللهُ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فليس الإيمانُ بالتمنِّي، ولا بالتحلِّي، ولكنَّه بما وقَر في الصُّدورِ، وصدَّقتْه الأعمالُ، كما قال الحسنُ، فإذا ذاق العَبدُ حَلاوةَ الإيمانِ، ووجَدَ طَعمَه وحلاوَتَه، ظهَرَت ثَمرةُ ذلك على لِسانِه وجَوارِحِه، فاستحلى اللِّسانُ ذِكرَ اللهِ وما والاه، وسَرُعتِ الجَوارِحُ إلى طاعةِ اللهِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ اللهِ تعالى: قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ عُطِفَ والرَّسُولِ على اسمِ اللهِ؛ لأنَّ المقصودَ: الأنفالُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَقسِمُها، فذُكِرَ اسمُ اللهِ قبل ذلك؛ للدَّلالةِ على أنَّها ليست حقًّا للغُزاةِ، وإنَّما هي لِمَن يُعَيِّنُه اللهُ بوَحيِه، فذِكْرُ اسمِ الله لفائِدَتينِ:

أولاهما: أنَّ الرَّسولَ إنَّما يتصرَّفُ في الأنفالِ بإذْنِ اللهِ توقيفًا أو تفويضًا.

والثانية: لِتَشمَلَ الآيةُ تَصرُّفَ أمراءِ الجُيوشِ في غَيبةِ الرَّسولِ، أو بعد وفاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ ما كان حقًّا لله كان التصَرُّفُ فيه لخُلَفائِه

.

2- لَمَّا كان الإيمانُ: إيمانًا كاملًا يترتَّبُ عليه المَدحُ والثَّناءُ والفَوزُ التَّامُّ، وإيمانًا دونَ ذلك- ذَكرَ الإيمانَ الكامِلَ، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فالألِفُ واللَّامُ للاستغراقِ لشَرائِعِ الإيمانِ .

3- قولُه تعالَى: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ... فهذه الآيةُ أثبَت فيها الإيمانَ لهؤلاء، ونفاه عن غيرِهم، والشَّارعُ دائمًا لا ينفِي المسمَّى الشَّرعيَّ إلَّا لانتفاءِ واجِبٍ فيه .

4- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ قدَّمَ تعالى أعمالَ القُلوبِ؛ لأنَّها أصلٌ لأعمالِ الجَوارِحِ، وأفضَلُ منها .

5- قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وقال في آيةٍ أخرى وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد: 28] ، ولا مُنافاةَ بينهما؛ لأنَّ الوَجَلَ هو خوفُ العقابِ، والاطمئنانَ إنَّما يكونُ مِن اليَقينِ، وشَرحِ الصَّدرِ بمعرفةِ التَّوحيدِ، وهذا مقامُ الخَوفِ والرَّجاءِ، وقد اجتمَعَا في آيةٍ واحدةٍ، وهي قولُه تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] عند رجاءِ ثَوابِ اللهِ .

6- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيه عَدُّ التوكُّلِ مِن شُعَبِ الإيمانِ .

7- قولُه تعالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فيه دليلٌ عَلَى دُخولِ الأعمالِ في الإيمانِ .

8- في قولِه تَعالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا إنْ قيل: إذا كان المؤمنُ حقًّا هو الفاعِلَ للواجباتِ، التَّارِكَ للمحَرَّماتِ: فقد قالَ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ولم يَذْكُرْ إلَّا خمسةَ أشياءَ، فالجوابُ أَنْ مَا ذَكَرَ يستلزم مَا تَرَك؛ فإنَّه ذَكَرَ وَجَلَ قلوبِهم إذا ذُكِرَ اللَّهُ، وزيادةَ إيمانِهم إذا تُلِيَتْ عليهم آياتُه، مَعَ التَّوَكُّلِ عليه، وإِقامِ الصَّلاةِ على الوجهِ المأمورِ به بَاطنًا وَظاهِرًا، وكذلك الإنفاقُ مِن المالِ والمنافعِ؛ فكان هذا مستلزمًا للباقي؛ فمَن قامَ بهذه الخمسِ كما أُمِر لَزِم أنْ يأتيَ بسائرِ الواجباتِ؛ فإنَّ وَجلَ القلبِ عندَ ذِكْرِ اللَّهِ يقتضي خشيتَه وَالخوفَ منه، وذلك يدعُو صاحبَه إلى فعلِ المأمورِ وتركِ المحظورِ، بل الصَّلاةُ نفسُها إذا فعلَها كما أُمِر، فهي تنهَى عن الفحشاءِ .

9- قولُ اللهِ تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فيه دليلٌ على أنَّه ليس لكُلِّ أحدٍ أن يصِفَ نفسَه بكَونِه مُؤمِنًا حَقًّا؛ لأنَّ اللهَ تعالى إنَّما وصَفَ بذلك أقوامًا مَخصُوصينَ على أوصافٍ مَخصوصةٍ، وكلُّ أحدٍ لا يتحقَّقُ وجودَ تلك الأوصافِ فيه .

10- قولُ اللهِ تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَمَّا كانت صِفاتُهم الخَمسُ المذكورةُ في الآياتِ المُشتمِلةِ على الأخلاقِ والأعمالِ، لها تأثيراتٌ في تصفيةِ القُلوبِ، وتنويرِها بالمعارِفِ الإلهيَّةِ، وكلَّما كان المؤثِّرُ أقوى كانت التأثيراتُ أعلى؛ فلما كانت هي درجاتٍ كان جزاؤُها كذلك، فلهذا قال سبحانه تعالى لَهُمْ دَرَجَاتٌ .

11- في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ إلى قولِه سبحانه: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَدٌّ على المرجئةِ مِن وجوهٍ:

أحدُها: أنَّه ذَكَر عامَّةَ الأعمالِ الصالحةِ- الظاهرةِ والباطنةِ- وجعَلَها مِن الإيمانِ؛ وذلك أنَّه ذَكَر قبلَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ التقوَى، وإصلاحَ ذاتِ البَيْنِ، ثم نَسَقَ في هذه الآيةِ عملًا بعدَ عملٍ، وذَكَرَ فيها التوكلَ، وهو باطنٌ.

الثاني: أنَّه ذَكَر زيادةَ الإيمانِ- بتلاوةِ الآياتِ عليهم- وهم ينكرونه!

الثالثُ: أنه لم يُثبتْ لهم حقيقةَ الإيمانِ إلَّا باجتماع خصالِ الخيرِ مِن الأعمال الظاهرة والباطنة؛ وهم يُثبتون حقيقتَه بالقولِ وحدَه!

الرابعُ: أنَّه سبحانَه قال بعدَ ذلك كلِّه: لَهُمْ دَرَجَاتٌ وقد أثبتَ لهم الإيمانَ بشرائطِه وحقيقتِه؛ وهم لا يجعلونَ للمؤمنِ في إيمانِه إلَّا درجةً واحدةً! ولا يجعلونَ للإيمانِ أجزاءً! فكيف يستقيمُ أنْ يُسمَّى المرءُ بالإقرارِ وحدَه مستكملَ الإيمانِ؛ وقد سمّى اللهُ تعالى كلَّ ما حَوَتْه الآيةُ إيمانًا

 

!

بلاغة الآيات:

 

1- قوله: يَسْألُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

- مجيءُ الفِعلِ بصيغةِ المُضارِعِ في قَولِه: يَسْألُونَكَ دالٌّ على تكرُّرِ السُّؤالِ، إمَّا بإعادَتِه المرَّةَ بعدَ الأُخرَى مِن سائِلينَ مُتعدِّدينَ، وإمَّا بكثرةِ السَّائلينَ عن ذلك حينَ المُحاورةِ في مَوقفٍ واحدٍ

.

- وتفريعُ فَاتَّقُوا اللَّهَ على جملةِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ؛ لأنَّ في تلك الجملةِ رَفعًا للنِّزاعِ بينهم في استحقاقِ الأنفالِ، أو في طلَبِ التَّنفيلِ .

- قولُ اللهِ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قدَّم الأمرَ بالتَّقوى؛ لأنَّها أصلٌ للطَّاعات، ثمَّ بإصلاحِ ذاتِ البَينِ؛ لأنَّ ذلك أهمُّ نتائِجِ التقوى في ذلك الوَقتِ، الذي تشاجَروا فيه، ثم أمرَ بطاعَتِه وطاعةِ رَسولِه، فيما أمرَ به مِن التَّقوى والإصلاحِ وغيرِ ذلك .

- وليس الإتيانُ في الشَّرطِ بـ (إنْ) في قَولِه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تعريضًا بضَعفِ إيمانِهم، ولا بأنَّه ممَّا يَشُكُّ فيه مَن لا يَعلَمُ ما تُخفي صُدورُهم، بناءً على أنَّ شَأنَ (إنْ) عدمُ الجَزمِ بوُقوعِ الشَّرطِ، بخلافِ (إذا)، ولكِنَّ اجتلابَ (إنْ) في هذا الشَّرطِ؛ للتَّحريضِ على إظهارِ الخِصالِ التي يتطلَّبُها الإيمانُ، وهي: التَّقوى الجامعةُ لخصالِ الدِّين، وإصلاحُ ذاتِ بَينِهم، والرِّضا بما فعَلَه الرَّسولُ، فالمقصودُ التَّحريضُ على أن يكونَ إيمانُهم في أحسَنِ صُوَرِه ومظاهِرِه؛ ولذلك عقَّبَ هذا الشَّرطَ بجُملةِ القَصرِ في قَولِه: إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ... .

2- قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

- قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ... جملةٌ مُستأنفةٌ، مَسوقةٌ لِبَيانِ مَن أُريدَ بالمؤمنينَ، بذِكرِ أوصافِهم الجليلةِ المُستتبِعةِ لِما ذُكِرَ مِن الخِصالِ الثَّلاثِ، وفيه مزيدُ تَرغيبٍ لهم في الامتثالِ بالأوامِرِ المذكورةِ .

- وفي قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ... قصرٌ ادِّعائيٌّ؛ بتنزيلِ الإيمانِ الذي عَدِمَ الواجِباتِ العظيمةَ مَنزلةَ العَدَمِ .

- قوله: زَادَتْهُمْ إِيمَانًا إسنادُ فِعلِ زيادةِ الإيمانِ إلى آياتِ اللهِ؛ لأنَّها سبَبُ تلك الزِّيادةِ للإيمانِ، باعتبارِ حالٍ مِن أحوالِها، وهو تِلاوتُها، لا اعتبارِ مُجَرَّد وجودِها في صَدرِ غَيرِ المتلوَّةِ عليه .

- قوله: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ اختيارُ صيغةِ المُضارعِ في يَتَوَكَّلُونَ؛ للدَّلالةِ على تكرُّرِ ذلك منهم، وتقديمُ المجرورِ إمَّا للرِّعايةِ على الفاصلةِ، فهو مِن مُقتضياتِ الفَصاحةِ، مع ما فيه من الاهتمامِ باسْمِ الله، وإمَّا للتَّعريضِ بالمُشركينَ؛ لأنَّهم يتوكَّلونَ على إعانةِ الأصنامِ .

3- قوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ جيءَ بالفعلينِ المُضارعين في يُقِيمُونَ و يُنْفِقُونَ؛ للدَّلالةِ على تكرُّرِ ذلك وتجَدُّدِه .

4- قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

- قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا جملةٌ مُؤَكِّدةٌ لِمَضمونِ جُملةِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ .

- وعُرِّفَ المسنَدُ إليه أُولَئِكَ بالإشارةِ؛ لوقوعِه عَقِبَ صفاتٍ، لتدُلَّ الإشارةُ على أنَّهم أحرِياءُ بالحُكمِ المُسنَدِ إلى اسمِ الإشارةِ؛ مِن أجلِ تلك الصِّفاتِ، فكأنَّ المُخبَرَ عنهم قد تميَّزوا للسَّامِعِ بتلك الصِّفاتِ، فصاروا بحيث يُشارُ إليهم، وفي هذه الجملةِ قَصرٌ آخَرُ؛ حيث قُصِرَ الإيمانُ مرَّةً أخرى على أصحابِ تلك الصِّفاتِ، ولكنَّه قُرِنَ هنا بما فيه بيانُ المَقصورِ، وهو أنَّهم المؤمنونَ الأحِقَّاءُ بوصفِ الإيمانِ .

- قوله: حَقًّا مصدرٌ مؤكِّدٌ لِمَضمونِ جُملةِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أي: ثبوتُ الإيمانِ لهم حقٌّ لا شُبهةَ فيه، وهو تحقيقٌ لمَعنى القَصرِ بما هو عليه مِن معنى المُبالغةِ .

- قوله: لَهُمْ دَرَجَاتٌ تنوينُ دَرَجَاتٌ للتَّعظيمِ؛ لأنَّها مراتِبُ مُتفاوتةٌ .

- قوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ متعلقٌ بمَحذوفٍ: صفةٌ لـ دَرَجاتٌ مُؤَكِّدةٌ لِما أفاده التنوينُ مِن الفَخامةِ الذَّاتيَّة بالفخامةِ الإضافيَّة، أي: دَرَجاتٌ كائنةٌ عندَه تعالى .

- وفي إضافةِ الظَّرفِ عِنْدَ إلى الرَّبِّ المضافِ إلى ضميرِهم؛ مزيدُ تَشريفٍ ولُطفٍ لهم، وإيذانٌ بأنَّ ما وُعِدَ لهم مُتيقَّنُ الثُّبوتِ والحصولِ، مأمونُ الفَواتِ

==============

.

سُورة الأنفالِ

الآيات (5-8)

ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ

غريب الكلمات:

 

يُجَادِلُونَكَ: أي: يُنازِعونَك، والجِدالُ: المفاوضةُ على سبيلِ المُنازعةِ والمُغالبةِ، وأصلُه يدلُّ على امتدادِ الخُصومةِ، ومُراجعةِ الكَلامِ

.

وَتَوَدُّونَ: أي: وتتمَنَّونَ، وتُحِبُّون، والودُّ: محبةُ الشيءِ، وتمنِّي كونِه، وأصلُ (ودد): يدلُّ على محبَّةٍ .

ذَاتِ الشَّوْكَةِ: أي: ذاتِ الحَدِّ والسِّلاحِ؛ مِن السَّيفِ والسِّنانِ والنِّصالِ، واشتقاقُها مِن الشَّوكِ: وهو النَّبتُ الذي له حِدَّةٌ، وأصلُ (شوك): يدلُّ على خُشونةٍ، وحِدَّةِ طَرَفٍ في الشَّيءِ .

يُحِقَّ الْحَقَّ: أي: يُثبِتهُ ويُعلِيه، وأصلُ (الحقِّ) يدلُّ على إحكامِ الشَّيءِ، وصِحَّتِه .

وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ: أي: يجْتَثَّ أصْلَهم، ويستأصِلَهم عن آخِرِهم، وقطْعُ دابرِ الإنسان: هو إفناءُ نوعِه، ودابِرُ القومِ: آخرُهم، وأصلُ (قطع): يدلُّ على إبانةِ شَيءٍ مِن شَيءٍ، وأصلُ (دبر): آخِرُ الشَّيءِ وخَلْفُه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

كما وكَلَك اللهُ- يا مُحمَّدُ- بأمرِ قِسمةِ الغَنائِمِ، وقد كَرِه بعضُ أصحابِك كيفيَّةَ قِسمَتِك لها، فكَذلك أخرَجَك مِن بَيتِك؛ لِمُلاقاة مُشركي قُريشٍ، وقد كره ذلك فَريقٌ مِن المُؤمنينَ، يُجادلونك في الحقِّ الذي أراده اللهُ بعدما ظهَرَ وتبَيَّنَ، كأنَّ حالَهم- لِشدَّةِ كُرهِهم للقِتالِ- كمَن يُساقُ إلى المَوِت وهو يَنظُر.

واذكرُوا- أيُّها المؤمنونَ- إذ يعِدُكم اللهُ بأنْ تظفَرُوا بإحدى الفِرقَتينِ؛ إمَّا العِيرِ أو النَّفيرِ، ووَدِدْتُم لو ظَفِرتُم بالعِيرِ؛ إذ هي لا مَنعةَ لها، ولا سِلاحَ، واللهُ يريدُ أنْ يجمَعَكم بالنَّفيِر؛ ليُظفِرَكم بهم، ويُظهِرَ الإسلامَ ويُعلِيَه، بأمْرِه لكم بقتالِهم، ويريدُ سبحانه أن يستأصِلَ الكفَّارَ ويُهلِكَهم، فلا يبقى منهم أحدٌ؛ مِن أجلِ أن يُعِزَّ الإسلامَ ويُظهِرَه، ويُبطِلَ الشِّركَ والكُفرَ، ولو كَرِه المجرمونَ ذلك.

تفسير الآيات:

 

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان تَرْكُ الدُّنيا شديدًا على النَّفسِ، شرَعَ يذكُرُ لهم ما كانوا له كارِهينَ، ففَعَلَه بهم، وأمَرَهم به- لعِلْمِه بالعواقِبِ- فحَمِدوا أثَرَه؛ ليكونَ أدعَى لتسليمِهم لأمْرِه، وازدجارِهم بزَجرِه، فشَبَّه حالَ كَراهَتِهم لِتَركِ مُرادِهم في الأنفالِ، بحالِ كراهَتِهم لخُروجِهم معه، ثم بحالِ كراهَتِهم لِلِقاءِ الجَيشِ دُونَ العِيرِ، ثمَّ إنَّهم رأَوْا أحسَنَ العاقِبةِ في كِلَا الأمرَينِ

.

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5).

أي: كما أنَّ اللهَ تعالى وكَّلَك- يا مُحمَّدُ- بأمْرِ قِسمةِ الغَنائِمِ يومَ بَدرٍ، وجعَلَه حقًّا ثابتًا لك- وكان بعضُ أصحابِك قد كَرِه واعتَرَض على كيفيَّةِ قِسمَتِك لها- فكذلك أخرجك مِن بَيتِك؛ لأخْذِ المالِ مِن عِيرِ كُفَّارِ قُريشٍ، فجاءها نفيرٌ، وكَرِهَ بعضُ أصحابِك مُلاقاتَه؛ فحالُهم في الأنفالِ كحالِهم في كراهةِ القِتالِ يومَ بَدرٍ، فامضِ لأمرِ اللهِ في الغنائِمِ، كما مَضَيتَ لأمْرِه في الخُروجِ وهم له كارِهونَ، وكلاهما حَقٌّ وخيرٌ مِن عندِ الله تبارك وتعالى .

كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216] .

يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6).

يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ.

أي: إنَّ المُؤمنينَ الذين كَرِهوا لقاءَ كُفَّارِ قُريشٍ يَومَ بَدرٍ، يجادلونك- يا محمَّدُ- في الحقِّ الذي أرادَه اللهُ تعالى ورَضِيَه لنُصرةِ دِينِه، وإعلاءِ كلِمَتِه، مِن بَعدِ ما وضَحَ وظَهرَ، فخُروجُك خروجُ حَقٍّ مصحوبٌ بالوَعدِ مِن اللهِ بالنَّصرِ والظَّفَر؛ إمَّا بالعِيرِ وإمَّا بالنَّفيرِ، ومع هذا قالوا: لم نعلَمْ أنَّنا سنلقَى العدُوَّ فنتهيَّأَ لقتالِهم، ونأخُذَ أُهْبةَ الحَربِ، وإنَّما خرَجْنا طلبًا للغَنائمِ مِن عِيرِ قُريشٍ دون حَربٍ نَخوضُ غِمارَها، فلو يُرخَّصُ لنا في تَركِ القِتالِ .

كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ.

أي: هؤلاءِ الذينَ يُجادِلونَك- يا محمَّدُ- في لِقاءِ العَدُوِّ، كأنَّ حالَهم- لشِدَّةِ كَراهَتِهم للقتالِ إذا دُعُوا إليه- كحالِ من يُقدَّمُ إلى الموتِ، وهو يراه عِيانًا .

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7).

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ.

واذكُرُوا- أيُّها المُؤمِنونَ- حين أوحَى اللهُ إلى رسولِه يعِدُه الظَّفَرَ بغنيمةِ إحدى الفِرقَتينِ؛ إمَّا العيرِ أو النَّفيرِ .

وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ.

أي: وتُحِبُّونَ أن تكونَ لكم الطَّائفةُ الأُخرى التي ليسَتْ لها مَنعةٌ، ولا معها سِلاحٌ، فلا يُمكِنُها أن تُحارِبَ وتقاتِلَ، وهي العِيرُ .

وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ.

أي: ويُريدُ اللهُ تعالى أن يجمَعَ بينَكم وبينَ الطَّائفةِ الأُخرَى ذاتِ الشَّوكةِ؛ ليُظفِرَكم بهم، فيُظهِرَ دينَ الإسلامِ، ويُعلِيَه على الأديانِ كلِّها، وذلك بأمْرِه لكم- أيُّها المؤمنونَ- بقِتالِ تلك الطَّائفةِ مِن كُفَّارِ قُريشٍ .

وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ.

أي: ويريدُ أن يستأصِلَ الكُفَّارَ ، ويُهلِكَهم عن آخِرِهم، فلا يبقَى منهم أحدٌ .

لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8).

أي: ويريدُ اللهُ تعالى قَطعَ دابِرِ الكافِرينَ؛ مِن أجلِ أن يُعِزَّ الإسلامَ، ويُظهِرَه ويُعليَ شَأنَه، ويُبطِلَ عبادةَ غيرِ الله، فيزول الشركُ، ولا تبقَى إلَّا عبادةُ اللهِ تعالى وَحدَه، ولو كَرِه ذلك المُشركونَ الذين أجرَموا، فاكتَسَبوا المآثِمَ والأوزارَ، التي يستحقُّونَ عليها العقابَ، وحُلولَ العَذابِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

الجِدالُ مَحلُّه وفائِدتُه عند اشتباهِ الحَقِّ، والْتباسِ الأمرِ، فأمَّا إذا وضحَ الحَقُّ وبان، فليس إلَّا الانقيادُ والإذعان؛ قال الله تعالى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ اللهِ تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ أضاف تعالى ذلك الخروجَ إلى نفسِه، وهذا يدلُّ على أنَّ فِعلَ العَبدِ بخَلقِ اللهِ تعالى

.

2- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ عبَّرَ بقولِه فَرِيقًا؛ لأنَّ آراءَهم كانت تؤولُ إلى الفُرقةِ .

3- قولُ اللهِ تعالى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ يؤخَذُ منه حُكمُ مؤاخَذةِ المُجتَهدِ، إذا قصَّر في فَهمِ ما هو مدلولٌ لأهلِ النَّظَرِ .

4- قوله: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ فيه بنَى الفعلَ للمفعولِ؛ لأنَّ المكروهَ إليهم السوقُ، لا كونُه مِن معينٍ، أي: يسوقُهم سائقٌ لا قدرةَ لهم على ممانعتِه .

5- لا يصُدُّ مرادَ اللهِ تعالى ما للمُعاندين مِن قُوَّةٍ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ

- فيه تشبيهُ حالٍ بحالٍ، وهو متَّصِلٌ بما قبلَه: إمَّا بتَقديرِ مُبتدأٍ مَحذوفٍ، هو اسمُ إشارةٍ لِمَا ذُكِرَ قبلَه، تقديره: هذا الحالُ كحالِ ما أخرَجَك ربُّك مِن بَيتِك بالحَقِّ، ووجهُ الشَّبَه: هو كراهِيةُ المُؤمنينَ في بادئِ الأمرِ لِمَا هو خيرٌ لهم في الواقِعِ، وإمَّا بتَقديرِ مَصدرٍ لفِعلِ الاستقرارِ الذي يقتَضيه الخَبرُ بالمَجرورِ في قَولِه الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ؛ إذ التَّقديرُ: استقَرَّت للهِ والرَّسولِ استقرارًا، كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ، أي: فيما يَلوحُ إلى الكَراهِيةِ والامتعاضِ في بادئِ الأمرِ، ثم نَوالِهم النَّصرَ والغَنيمةَ في نهايةِ الأمرِ، فالتَّشبيهُ تَمثيليٌّ، وليس مُراعًى فيه تشبيهُ بعضِ أجزاءِ الهَيئةِ المُشَبَّهةِ ببعضِ أجزاءِ الهَيئةِ المُشبَّهِ بها، أي: أنَّ ما كَرِهتُموه مِن قِسمةِ الأنفالِ على خلافِ مُشتَهاكم، سيكونُ فيه خيرٌ عَظيمٌ لكم، حسَبَ عادةِ اللهِ تعالى بهم في أمْرِه ونَهْيِه

.

- قولُه: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ تأكيدُ خَبرِ كراهيةِ فَريقٍ مِن المؤمنينَ بـ (إنَّ) و(لامِ الابتداءِ) مستعملٌ في التَّعجيبِ مِن شَأنِهم بتنزيلِ السَّامِعَ غيرِ المُنكِر لوقوعِ الخَبرِ، منزلةَ المُنكِر .

2- قَولُه تعالى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ

- صيغةُ المُضارِعِ يُجَادِلُونَكَ لحكايةِ حالِ المُجادلةِ؛ زيادةً في التعجيبِ منها .

- وقولُه: بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لومٌ لهم على المُجادلةِ في الخُروجِ الخاصِّ، وهو الخروجُ للنَّفيرِ، وتَركُ العيرِ؛ لأنَّ مَن جادلَ في شيءٍ لم يتَّضِحْ كان أخفَّ عَتْبًا، أمَّا مَن نازع في أمرٍ واضحٍ فهو جديرٌ باللَّومِ والإنكارِ .

- قوله: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ شبَّه حالَهم في فَرْطِ فَزَعِهم، وهم يُسارُ بهم إلى الظَّفَر والغنيمةِ، بحالِ مَن يُساقُ على الصَّغارِ إلى الموتِ، وهو مُشاهِدٌ لأسبابِه، ناظِرٌ إليها، لا يشكُّ فيها .

3- قَولُه تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ

- قوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ خطابٌ للمُؤمِنينَ بِطَريقِ التَّلوينِ والالتفاتِ .

- وفيه تذكيرُ الوَقتِ- إذ التَّقديرُ: اذكُروا وقتَ وعدِ اللهِ إيَّاكم إحدى الطَّائِفَتينِ- مع أنَّ المقصودَ تَذكيرُ ما فيه مِن الحوادِثِ؛ لِما فيها من المبالغةِ في إيجابِ ذِكرِها، ولأنَّ إيجابَ ذِكرِ الوقتِ، إيجابٌ لِذِكرِ ما وقع فيه بالطَّريقِ البُرهانيِّ

وصيغةُ المُضارعِ يَعِدُكُمُ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ؛ لاستحضارِ صُورتِها .

- وقولُه تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ آكَدُ في الوَعدِ مِن مِثلِ: (وإذ يعِدُكم اللهُ أنَّ إحدى الطَّائفتينِ لكم)؛ لأن هذا إثباتٌ بعد إثباتٍ: إثباتٌ للشَّيءِ في نَفسِه، وإثباتٌ له في بَدَلِه؛ لأنَّ أَنَّهَا لَكُمْ في تأويلِ مَصدَرٍ؛ بدلُ اشتمالٍ مِن إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ .

- قولُ اللهِ تعالى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ عبَّرَ بهذا التَّعبيرِ؛ للتَّعريضِ بكراهَتِهم للقتالِ، وطَمَعِهم في المالِ .

- قولُه: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ بِكَلِمَاتِهِ جمعٌ مُعَرَّفٌ بالإضافةِ، وهو يُفيدُ العُمومَ، والباءُ فيها للسَّببيَّةِ، وذِكرُ هذا القَيدِ للتَّنويهِ بإحقاقِ هذا الحَقِّ، وبيانِ أنَّه ممَّا أراده اللهُ ويَسَّرَه وبيَّنَه للنَّاسِ من الأمرِ؛ ليقومَ كُلُّ فَريقٍ مِن المأمورينَ بما هو حَظُّه مِن بَعضِ تلك الأوامِرِ، وللتَّنبيهِ على أنَّ ذلك واقِعٌ لا محالةَ؛ لأنَّ كَلِماتِ اللهِ لا تتخَلَّفُ .

4- قوله: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ

- جملةٌ مُستأنفةٌ سِيقَت لِبَيانِ الحِكمةِ الدَّاعيةِ إلى اختيارِ ذاتِ الشَّوكةِ، ونَصْرِهم عليها مع إرادَتِهم لِغَيرِها .

- وقَولُه لِيُحِقَّ الْحَقَّ متعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: لِيُحِقَّ الحقَّ، ويُبطِلَ الباطِلَ فعَلَ ذلك، ما فعَلَه إلَّا لهما، وليس هذا تكريرًا لِقَولِه في الآيةِ السَّابِقةِ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ؛ لأنَّ المَعنَيينِ مُتباينانِ، وذلك أنَّ الأوَّلَ تمييزٌ بين الإرادَتينِ، وهذا بيانٌ لِحكمتِه فيما فعَلَ مِن اختيارِ ذاتِ الشَّوكةِ على غيرِها لهم، ونُصرَتِهم عليها، وأنَّه ما نصرَهم ولا خذَلَ أولئك إلَّا لهذا الغَرضِ الذي هو سيِّدُ الأغراضِ، ويجِبُ أن يقدَّرَ المحذوفُ مُتأخِّرًا حتَّى يُفيدَ معنى الاختصاصِ .

وقيل: أُريدَ بالأوَّلِ: ما وعدَ اللهُ به في هذه الواقعةِ؛ مِن النَّصرِ والظَّفَر بالأعداءِ، بقرينةِ قَولِه عَقِبَه: وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. وبالثَّاني: تقويةُ الدِّينِ، ونُصرةُ الشَّريعةِ، بقرينةِ قَولِه عَقِبَه: وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ .

 

==========

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (9-11)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ

غريب الكلمات:

 

تَسْتَغِيثُونَ: أي: تَستجيرونَ، وتدعون بالنَّصرِ، والاستغاثةُ: طَلَبُ الغَوثِ والمَعُونةِ والنَّصرِ

.

مُرْدِفِينَ: أي: مُتَتابِعينَ، وأصلُ (ردف): يدلُّ على اتِّباعِ الشَّيءِ .

يُغَشِّيكُمُ: أي: يُلقِي عليكم. والغشاوةُ: الغطاءُ والساترُ، وأصلُ (غشي) يدلُّ على تغطيةِ شَيءٍ بِشَيءٍ .

النُّعَاسَ: أي: النَّومَ القليلَ، أو أوَّلَ النَّومِ، وهو ما كان مِنَ العينِ، وهو فُتورٌ يَعتري الإنسانَ، ولا يفقِدُ معَه عقلَه .

أَمَنَةً: أي: أمنًا وأمانًا، وأصلُ الأمنِ: طمأنينةُ النفسِ، وزوالُ الخوفِ، وسكونُ القلبِ .

رِجْزَ الشَّيْطَانِ: أي: وساوِسَه، وأصلُ الرِّجْزِ: الاضطرابُ .

وَلِيَرْبِطَ: أي: لِيشُدَّ، وأصلُ (ربط) يدلُّ على شَدٍّ وثَباتٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

اذكُروا- أيُّها المؤمنونَ- حين طَلَبتُم الغَوثَ مِنَ اللهِ بأن ينصُرَكم على عدُوِّكم، فاستجابَ لكم، ووعَدَكم بأن يُمِدَّكم بألفٍ مِن الملائكةِ، يأتونَ مُتتابعينَ للقِتالِ معكم، وما جعَلَ الله هذا الإمدادَ إلَّا ليكونَ بِشارةً لكم بالنَّصرِ، ولِتَسكُنَ قلوبُكم بمَقْدَمِها، وما النَّصرُ إلَّا مِن عند اللهِ، إنَّ اللهَ عزيزٌ حَكيمٌ.

واذكروا حين ألقى اللهُ عليكم النُّعاسَ؛ أمانًا لقُلوبِكم، وأنزلَ عليكم مِن السَّماءِ مَطرًا؛ ليُطَهِّرَكم به من الأحداثِ والجَناباتِ، ويُذهِبَ عنكم وساوِسَ الشَّيطانِ، ولِيشُدَّ على قلوبِكم، ويُثَبِّتَ بالمطَرِ أقدامَكم، بتَلبيدِه الأرضَ، فلا تغوصُ فيها.

تفسير الآيات:

 

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ السَّابقةِ أنَّه يُحِقُّ الحقَّ، ويُبطِلُ الباطِلَ؛ بيَّنَ أنَّه تعالى نصَرَهم عند الاستغاثةِ

.

وأيضًا لَمَّا عَلِمُوا أنَّه لا بدَّ مِن القِتالِ؛ شَرَعوا في طلَبِ الغَوثِ مِن اللهِ تعالى .

سبَبُ النُّزولِ:

عن عُمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا كان يومُ بدرٍ، نظرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المشركينَ وهم ألفٌ، وأصحابُه ثلاثُمئةٍ وتسعةَ عشرَ رجلًا، فاستقبَلَ نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القبلةَ، ثم مدَّ يدَيه فجعَلَ يهتِفُ بربِّه؛ اللهمَّ أَنجِزْ لي ما وعدْتَني، اللهمَّ آتِ ما وعدتَني، اللهمَّ إنْ تَهلِكْ هذه العصابةُ مِن أهلِ الإسلامِ لا تُعبَدْ في الأرضِ، فما زال يهتِفُ بربِّه، مادًّا يدَيه، مستقبِلَ القِبلةِ، حتى سقطَ رداؤُه عن مَنكِبَيه، فأتاه أبو بكرٍ، فأخذَ رداءَه فألقاه على مَنكِبَيه، ثم التزَمَه مِن ورائِه، وقال: يا نبيَّ اللهِ، كفاك مُناشَدتُك ربَّك؛ فإنَّه سيُنجِزُ لك ما وعَدَك، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفَينَ)) .

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ.

أي: إذ تدعونَ ربَّكم، وتَطلُبونَ منه أن يُعينَكم، وينصُرَكم على العدوِّ؛ لقلَّتِكم .

فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ.

أي: فأجاب اللهُ تعالى دعاءَكم، بأنَّني مُقوِّيكم بألفٍ مِن الملائكةِ ، يأتونَ إليكم مُتتابِعينَ للقِتالِ معكم، بعضُهم في إثرِ بَعضٍ .

عن ابنِ عبَّاس رضِي الله عنهما، قال: ((بينما رجلٌ من المسلمين يومئذٍ يشتدُّ في أثر ِرجلٍ من المشركين أمامَه، إذ سمع ضربَةً بالسوطِ فوقَه، وصوتُ الفارسِ يقول: أقْدِم حَيزومُ، فنظر إلى المشركِ أمامه فخرَّ مُستلقيًا، فنظر إليه فإذا هو قد خُطم أنفُه، وشُقَّ وجهُه كضربةِ السوطِ، فاخضرَّ ذلك أجمعُ ، فجاء الأنصاريُّ فحدَّثَ بذلك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: صدقْتَ، ذلك مددٌ السماءِ الثالثةِ، فقتلوا يومئذٍ سبعين، وأسَروا سبعين )) .

وعن رفاعةَ بنِ رافعٍ رضي الله عنه، قال: ((جاء جبريلُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ما تعُدُّون أهلَ بدرٍ فيكم؟ قال: من أفضلِ المسلمين. أو كلمةً نحوَها، قال: وكذلك من شَهِد بدرًا من الملائكةِ )) .

وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10).

وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى.

أي: وما جعل اللهُ تعالى هذا الإمدادَ إلَّا ليكونَ بِشارةً لكم بالنَّصرِ .

وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ.

أي: وأمدَّكم بالملائكةِ؛ لِتسكُنَ قُلوبُكم بمَقْدَمِها إليكم، ويزولَ عنها القَلقُ والانزعاجُ والمخاوِفُ، وتُوقِنَ بنَصرِ اللهِ لكم .

وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ.

أي: لن تُنصَروا على عَدُوِّكم إلَّا أن ينصُرَكم اللهُ تعالى عليهم؛ لأنَّ الأمرَ كُلَّه له، والنَّصرَ بِيَدِه وَحْدَه، فلا تظنُّوا- إن أنزَلْتُ عليكم ألفًا من الملائكةِ- أنَّ النَّصرَ بأيديهم .

إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

إنَّ اللهَ الذي ينصُرُكم، عزيزٌ: لا يقهَرُه شيءٌ، ولا يغلِبُه غالِبٌ، بل يَقهَرُ كلَّ شَيءٍ، ويَغلِبُه فيَخذُلُ مَن بَلَغوا من الكثرةِ وقُوَّةِ العَدَدِ والآلاتِ ما بَلَغوا، حكيمٌ: يُقدِّرُ الأمورَ بأسبابِها، ويضَعُ الأشياءَ مواضِعَها، ومِن ذلك شَرْعُه قتالَ الكفَّارِ، مع قُدرَتِه على دمارِهم وإهلاكِهم، حكيمٌ في تدبيرِه وفي نصرِه مَن نَصَر، وخِذلانِه مَن خَذَل، ولا يدخُلُ تدبيرَه وَهَنٌ ولا خلَلٌ .

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه استجاب دعاءَهم، ووعَدَهم بالنَّصرِ، فقال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- ذكرَ عَقيبَه وُجوهَ النَّصرِ ، فقال:

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ.

أي: واذكُرُوا حينَ ألقى اللهُ تعالى عليكم النُّعاسَ؛ لأجلِ أن تَكونُوا آمنينَ، ليس في قلوبِكم خوفٌ ولا جزعٌ مِن عَدُوِّكم .

وهذا قد وقع يومَ أحدٍ أيضًا، كما قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ... [آل عمران: 154] .

وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ.

أي: وينزِّل اللهُ تعالى عليكم مِن السَّماءِ مَطرًا؛ ليُطهِّرَكم به مِن الأحداثِ والجَنابات .

وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ.

أي: وأنزَلَ ذلك المطَرَ؛ ليُذهِبَ عنكم وساوِسَ الشَّيطانِ، وخَواطِرَه السَّيئةَ .

وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ.

أي: وأنزلَ عليكم المطَرَ؛ لِيُقَوِّيَ قلوبَكم، ويشُدَّها فتثبُتَ، ولا تضطرِبَ بوساوِسِ الشَّيطانِ، وتمتلئَ باليقينِ والنَّصرِ، وتقوَى على الصَّبرِ، والإقدامِ على مُقاتلةِ الأعداءِ .

وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ.

أي: وأنزل عليكم المطَرَ ليلبِّدَ لكم الأرضَ؛ فتَثبُتَ عليها أرجُلُكم، ولا تغوصَ فيها

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُه تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ يدلُّ على أنَّ مَنِ استَغاثَ باللهِ كانت استغاثَتُه بالله سببًا للإجابةِ، وإزالةِ المَكروهِ عنه؛ فالفاءُ سببيَّةٌ، والإجابةُ مُسبَّبةٌ عن الاستغاثةِ بالله

.

2- الواجِبُ على المُسلِم ألَّا يتوكَّلَ إلَّا على اللهِ تعالى في جميعِ أحوالِه، ولا يثِقَ بِغَيرِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى بِيَدِه النَّصرُ والإعانةُ؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

3- قولُ اللهِ تعالى: وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ أي: يُثَبِّتَها؛ فإنَّ ثَباتَ القَلبِ أصلُ ثَباتِ البَدَنِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قد أثنى اللهُ جلَّ وعلا على نَبِيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى أصحابِه، بالتجائِهم إليه وَقتَ الكَربِ يومَ بَدرٍ، في قَولِه تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ فنَبِيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان هو وأصحابُه إذا أصابهم أمرٌ أو كربٌ التجَؤوا إلى اللهِ، وأخلَصُوا له الدُّعاءَ

.

2- قولُ اللهِ تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ فيه سرعةُ إجابةِ الله لهم، دلَّ على ذلك قَولُه: فَاسْتَجَابَ أي: فأوجَدَ الإجابةَ إيجادَ مَن هو طالِبٌ لها، شَديدُ الرَّغبةِ فيها .

3- قولُ اللهِ تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُفيدُ أنَّ ما عِندَه تعالى ليس مُنحصِرًا في الإمدادِ بالملائكةِ؛ فالنَّصرُ وإن كان بها، فليس مِن عِندِها، فلا تعتَمِدوا على وُجودِها، ولا تَهِنُوا بفَقْدِها، واعتَمِدوا عليه سُبحانه خاصَّةً؛ فإنَّ ما عنده مِن الأسبابِ لا يُحاطُ به عِلمًا، هذا إذا أراد النَّصرَ بالأسبابِ، وإن أرادَ بِغَيرِ ذلك فعَلَ، فكان التعبيرُ بـ (عند) لإفهامِ ذلك .

4- تخصيصُ النُّعاسِ بأنَّه مِن اللهِ تعالى في قوله تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ مع أنَّ كلَّ نَومٍ ونُعاسٍ لا يحصُلُ إلَّا مِن قِبَل اللهِ تعالى؛ لا بُدَّ فيه مِن مَزيدِ فائدةٍ، فقيل في بيانِها: إنَّ الخائِفَ مِن عَدُوِّه خوفًا شَديدًا، لا يأخُذُه النَّومُ، فصار حصولُ النَّومِ في وَقتِ الخَوفِ الشَّديدِ دليلًا على زَوالِ الخَوفِ، وحُصولِ الأمنِ.

وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّهم خافوا مِن جِهاتٍ كثيرةٍ: قِلَّةِ المُسلمينَ، وكثرةِ الكُفَّارِ، وكثرةِ الأُهْبةِ والآلةِ والعُدَّةِ للكافِرينِ، والعَطَشِ الشَّديدِ، فلولا فضلُ الله ثم حصولُ النُّعاسِ، وحُصولُ الاستراحةِ حتى تمكَّنُوا في اليومِ الثَّاني من القِتالِ؛ لَمَّا تمَّ الظَّفَرُ.

وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّ النُّعاسَ غَشِيَهم دَفعةً واحدةً مع كَثرَتِهم، وحصولُ النُّعاسِ للجَمعِ العَظيمِ على الخَوف الشَّديدِ؛ أمرٌ خارِقٌ للعادةِ .

5- قولُ اللهِ تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ هذا أصلُ الطَّهارةِ بالماءِ في الأحداثِ والنَّجاساتِ .

6- قولُ اللهِ تعالى: وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ كلمةُ (على) تفيدُ الاستعلاءَ، فالمعنى أنَّ القلوبَ امتلأَتْ مِن ذلك الرَّبطِ، حتى كأنَّه علا عليها، وارتفَعَ فَوقَها .

7- قولُ اللهِ تعالى: وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ أعاد اللَّامَ؛ إشارةً إلى أنَّه المقصِدُ الأعظَمُ، وما قبله وسيلةٌ إليه .

8- قَولُه تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ توقيفٌ على أنَّ الأمرَ كُلَّه لله، وأن تكَسُّبَ المرءِ لا يُغني إذا لم يُساعِدْه القَدَرُ، وإن كان مطلوبًا بالجِدِّ، كما ظاهرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين دِرعَينِ وهذه القصَّةُ كُلُّها من قصَّةِ الكفَّارِ وغَلَبةِ المُؤمنينَ لهم، تليقُ بها مِن صِفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، العِزَّةُ والحكمةُ إذا تُؤُمِّلَ ذلك

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين

- صيغةُ الاستقبالِ في تَسْتَغِيثُونَ لحكايةِ الحالِ الماضِيةِ؛ لاستحضارِ صُورَتِها العجيبةِ

.

- والسين والتاء في فَاسْتَجَابَ للمُبالغةِ في تحقيقِ المَطلوبِ .

2- قَولُه تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

هو كلامٌ مُستأنَفٌ، سِيقَ لِبيانِ أنَّ الأسبابَ الظَّاهرةَ بمَعزِلٍ مِن التأثيرِ، وإنَّما التأثيرُ مختَصٌّ به عزَّ وجلَّ؛ ليَثِقَ به المؤمنونَ، ولا يقنَطُوا من النَّصرِ عند فُقدانِ أسبابِه .

- وقال تعالى هنا: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وقال في آلِ عِمرانَ: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران: 126] فزاد لَكُمْ في آيةِ آلِ عِمرانَ، وقدَّمَ القُلوبَ على المجرورِ، فقال: قُلُوبُكُمْ بِهِ، وأخَّرها هنا فقال:بِهِ قُلُوبُكُمْ، واستأنَفَ تأكيدَ الإخبارَ بالصِّفَتينِ العَلِيَّتينِ هنا بـ «إِنَّ»، فقال: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، ولم تَرِدَا جارِيَتينِ على اسمِ اللهِ سبحانَه كما هناك؛ حيث قال: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ؛ وذلك لِمُناسباتٍ حَسنةٍ، بيانُها على النَّحوِ التَّالي:

- حَذَفَ لَكُمْ هنا؛ دفعًا لِتَكريرِ لَفظِه؛ لِسَبقِ كَلمةِ لَكُمْ قَريبًا في قَولِه: فَاسْتَجَابَ لَكُمْ، فعَلِمَ السَّامِعُ أنَّ البُشرى لهم، فأغنَت لَكُمْ الأولى بِلَفظِها ومعناها، عَن ذِكرِ لَكُمْ مرَّةً ثانيةً؛ ولأنَّ آيةَ آلِ عِمرانَ سِيقَت مَساقَ الامتنانِ والتَّذكيرِ بِنِعمةِ النَّصرِ في حينِ القِلَّةِ والضَّعفِ، فكان تقييدُ بُشْرَى بأنَّها لأجْلِهم، زيادةً في المنَّةِ، أي: جعلَ الله ذلك بُشرَى لأَجْلِكم. وأمَّا آيةُ الأنفالِ هنا، فهي مَسوقةٌ مَساقَ العِتابِ على كراهِيَةِ الخُروجِ إلى بَدرٍ في أوَّلِ الأمرِ، وعلى اختيارِ أن تكونَ الطَّائِفةُ التي تُلاقيهم غيرَ ذاتِ الشَّوكةِ، فجَرَّدَ بُشْرَى عن أن يُعَلَّقَ به لَكُمْ؛ إذ كانت البُشرى للنَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَن لم يتردَّدوا مِن المُسلِمينَ.

- تقديمُ المجرورِ هنا في قَولِه: بِهِ قُلُوبُكُمْ وهو يفيدُ الاختصاصَ، فيكونُ المعنى: ولتطمئِنَّ به قلوبُكم، لا بِغَيرِه، وفي هذا الاختصاصِ تعريضٌ بما اعتَرَاهم مِن الوَجَلِ مِن الطَّائفةِ ذاتِ الشَّوكةِ، وقناعَتِهم بغَنْمِ العُروضِ التي كانت مع العِيرِ.

- أمَّا قولُه: الْعَزيزِ الْحَكِيمِ في صيغةِ النَّعتِ في آلِ عِمرانَ، وجَعْلُهما هنا في صيغةِ الخَبَرِ المؤكَّدِ؛ إذ قال: إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ فَلِأنَّه نَزَّلَ المُخاطَبينَ- هنا- مَنزلةَ مَن يتردَّدُ في أنَّه تعالى مَوصوفٌ بهاتينِ الصِّفَتينِ: وهما العِزَّةُ- المقتَضِيةُ أنَّه إذا وعد بالنَّصرِ لم يُعجِزْه شَيءٌ- والحكمةُ: فما يَصدُرُ مِن جانِبِه يجِبُ غَوْصُ الأفهامِ في تَبَيُّنِ مُقتضاه، فكيف لا يهتدونَ إلى أنَّ اللهَ لَمَّا وعَدَهم الظَّفَرَ بإحدى الطَّائِفَتينِ، وقد فاتَتْهم العِيرُ، أنَّ ذلك آيِلٌ إلى الوَعدِ بالظَّفَرِ بالنَّفيرِ .

- وجملةُ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مُستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا، جُعِلَت كالإخبارِ بما ليس بمعلومٍ لهم، وهي تعليلٌ لِما قَبلَها مُتضَمِّنٌ للإشعارِ بأنَّ النَّصرَ الواقِعَ على الوَجهِ المذكورِ، مِن مقتَضياتِ الحِكَمِ البالغةِ .

3- قولُه تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ

- قوله: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ صيغةُ المُضارِعِ في يُغَشِّيكُمُ لاستحضارِ الحالةِ .

- قولُه: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً إسنادُ هذا الإنزالِ إلى اللهِ تعالى؛ للتَّنبيهِ على أنَّه أكرَمَهم به؛ وذلك لِكَونِه نزَلَ في وقتِ احتياجِهم إلى الماءِ

===============

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (12-14)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ

غريب الكلمات:

 

الرُّعْبَ: أي: الجَزَعَ والهَلَع والخوفَ، وقيل: الرُّعب هو الخوفُ الذي يملأُ الصَّدرَ والقلبَ، وقيل: إنَّه أشدُّ الخوفِ، وأصلُ الرُّعب: يدلُّ على الخوفِ، والملءِ، والقَطع

.

بَنَانٍ: أي: أطرافِ أصابِعِ اليَدينِ والرِّجلَينِ، واشتِقاقُه مِن قَولِهم: أبَنَّ بالمكانِ: إذا أقام، فالبَنانُ به يُعْتَمَدُ كلُّ ما يكونُ للإقامَةِ والحَياةِ .

شَاقُّوا: أي: حَاربُوا، أو خَالَفُوا وجانبوا، وأصلُ (شقق): يدلُّ على انصداعٍ في الشَّيءِ

 

.

مشكل الإعراب :

 

قوله تعالى: ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ

ذلكم فَذُوقُوهُ: يجوزُ في ذَلِكُمْ عدةُ أوجُهٍ؛ أحدُها: أن يكونَ خبرًا لِمُبتدأٍ محذوفٍ، أي: العِقابُ ذَلِكم، أو الأمرُ ذلِكم. الثاني: أن يكون مبتدأً، والخبرُ محذوفٌ، أي: ذلِكم واقعٌ أو مُستحَقٌّ، أو ذَلِكم العِقابُ. الثالث: أن يكون مفعولًا به لفعلٍ محذوفٍ، يُفَسِّره ما بعده، أيْ: ذُوقُوا ذلكم، وهو على هذا من بابِ الاشتِغالِ.

وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ: (أنَّ) واسمُها وخبَرُها مصدرٌ مُؤولٌ، في إعرابِه أوجُهٌ؛ منها: أنَّه في محلِّ رَفعٍ مُبتدأٌ، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُه: حَتْمٌ، أي: كونُ عذابِ النَّارِ للكافرينَ حتْمٌ. والثاني: أنَّه خبرُ مُبتدأٍ محذوفٍ، أي: الواجِبُ كونُ عذابِ النَّارِ للكافرينَ. وجملةُ المصدرِ المؤوَّلِ معطوفةٌ على جُملةِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ. وقيل غيرُ ذلك.

- وقُرئ وإنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النارِ بكسرِ همزةِ إنَّ على أنَّها جملةٌ استئنافِيَّة، لا محلَّ لها من الإعرابِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

اذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حينَ أوحَى رَبُّك إلى الملائكةِ أنَّه معهم، وأمرَهم أن يُثَبِّتوا الذينَ آمنوا، وأعلَمَهم تعالى أنَّه سيُلقي في قلوبِ الكُفَّار الخوفَ الشَّديدَ، وأمَرَهم أن يضرِبوا فوقَ أعناقِ المُشركينَ، ويَضرِبوا كلَّ طَرَفٍ ومَفصِلٍ مِن أطرافِ أصابِعِ أيديهم وأرجُلِهم.

وذلك بسببِ أنَّهم خالفوا أمرَ اللهِ ورسولِه، وحارَبُوهما، ومَن يفعلْ ذلك، فإنَّ اللهَ يُعاقِبُه، وهو سبحانه شديدُ العِقابِ.

هذا العذابُ والنَّكالُ، فذوقوه أيُّها الكافرونَ مُعجَّلًا في الدُّنيا، وأيقِنُوا أنَّ لكم ولِغَيرِكم مِن الكَفَرةِ عذابَ النَّارِ مُؤجَّلًا في الآخرةِ.

تفسير الآيات:

 

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12).

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ.

أي: اذكُرْ- يا مُحمَّدُ- وقتَ أن أوحَى رَبُّك إلى الملائكةِ

- الذينَ أمدَّ بهم حِزبَه المؤمنين- أنِّي مَعَكم بِالعَونِ والنَّصرِ والتَّأييدِ .

فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ.

أي: فقَوُّوا عزمَ المُؤمنينَ يومَ بَدرٍ، وصَحِّحوا نيَّاتِهم في قتالِ عَدُوِّهم، وجَرِّئوهم عليهم، وألْقُوا في قلوبِهم الأمنَ والطُّمأنينةَ، وأعينُوهم على القتالِ، وبَشِّروهم بالنَّصرِ .

سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ.

أي: سأُرعِبُ قلوبَ الذينَ كفَروا بي، فخالَفُوا أمري، وكذَّبُوا رسولي، وأملَؤُها خوفًا شديدًا حتى ينهزِموا .

كما قال تعالى في سياقِ الحديثِ عن غَزوةِ أحُدٍ: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151] .

وقال سبحانه: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا [الأحزاب: 26] .

وقال عزَّ وجلَّ: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر: 2] .

وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُعطِيتُ خمسًا، لم يُعطَهنَّ أحدٌ منَ الأنبياءِ قَبلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ ...)) الحديث .

فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ.

أي: فاضربوا أيُّها الملائكةُ رؤوسَ المُشركينَ، فحُزُّوها، وأعناقَهم فاقْطَعُوها .

قال تعالى للمؤمنين: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد: 4] .

وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ.

أي: واضرِبُوا مِن المُشركينَ كُلَّ طَرَفٍ ومَفصِلٍ مِن أطرافِ أصابِعِ أيديهم وأرجُلِهم .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا تعليلٌ لِتسليطِ اللهِ تعالى المؤمنينَ على المُشركينَ .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ.

أي: هذا الفِعلُ مِن ضَربِ هؤلاءِ المُشركينَ فَوقَ الأعناقِ، وضَربِ كُلِّ بنانٍ منهم، وتسليطِ أوليائِه عليهم، وإلقاءِ الرُّعبِ في قُلوبِهم- إنَّما هو جزاءٌ وعقابٌ لهم؛ لأنَّهم فارَقُوا أمرَ اللهِ ورسولِه، وحارَبُوهما وخالَفُوهما، فساروا في شِقٍّ، وتَرَكوا الحَقَّ في شِقٍّ آخَرَ .

وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

أي: ومَن يخالِفْ أمرَ اللهِ وأمْرَ رَسولِه، ويفارِقْ طاعَتَهما؛ فإنَّ اللهَ يُعاقِبُه، وهو سبحانَه شَديدُ العقابِ لِمَن أراد عِقابَه، ومِن ذلك تسليطُ أوليائِه عليه في الدُّنيا .

ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ أنَّه مَن يُشاقِقِ اللهَ ورَسولَه فإنَّ اللهَ شديدُ العِقابِ؛ بيَّنَ مِن بَعدِ ذلك صِفةَ عِقابِه، وأنَّه قد يكونُ مُعجَّلًا في الدُّنيا، وقد يكون مؤجَّلًا في الآخرةِ ، فقال:

ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ.

أي: هذا هو العذابُ والنَّكالُ الذي جعَلْتُه لكم- أيُّها الكافِرونَ المُشاقُّونَ للهِ ورَسولِه- فذوقوه مُعجَّلًا في الدُّنيا .

وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ.

أي: واعلموا أنَّ لكم ولِغَيرِكم مِن الكفَّارِ أيضًا عذابًا مُؤجَّلًا في النَّارِ، في الدَّارِ الآخِرةِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- مِن لُطفِ اللهِ بِعبدِه أن يُسهِّلَ عليه طاعَتَه، ويُيَسِّرَها بأسبابٍ داخليَّةٍ وخارجيَّةٍ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ

.

2- العَبدُ لا يستَغني عن تثبيتِ اللهِ له طَرْفةَ عَينٍ، فإنْ لم يُثبِّتْه وإلَّا زالت سماءُ إيمانِه وأرضِه عن مَكانِهما، وقد قال تعالى لأكرَمِ خَلْقِه عليه؛ عَبدِه ورَسولِه: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء: 74] وقال تعالى لأكرَمِ خَلِقْه: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا فالخَلقُ كُلُّهم قِسمانِ: مُوَفَّقٌ بالتَّثبيتِ، ومخذولٌ بِتَركِ التَّثبيتِ .

3- قولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ التَّصريحُ بسبَبِ الانتقامِ تعريضٌ للمُؤمنينَ؛ لِيَستزيدوا مِن طاعةِ اللهِ ورَسولِه؛ فإنَّ المُشاقَّةَ لَمَّا كانت سبَبَ هذا العِقابِ العَظيمِ، فيُوشِكُ ما هو مخالفةٌ للرَّسولِ بدونِ مُشاقَّةٍ، أن يوقِعَ في عذابٍ دون ذلك، وخليقٌ بأن يكون ضِدُّها- وهو الطَّاعةُ- مُوجِبًا للخَيرِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- ما يحصُلُ في القَلبِ مِن العِلمِ والقوَّةِ ونَحوِ ذلك، قد يجعَلُه اللهُ بواسطةِ فِعل ِالملائكةِ، كما قال الله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا

.

2- قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا هذه نِعمةٌ خَفيَّةٌ أظهَرَها اللهُ تعالى لهم؛ ليشكُرُوه عليها .

3- في قَولِه تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا إن قيل: ما الحِكمةُ في قتالِ الملائكةِ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مع أنَّ جِبريلَ قادِرٌ على أن يَدفَعَ الكُفَّارَ بِريشةٍ مِن جَناحِه؟! فالجوابُ: أنَّ ذلك وقع لإرادةِ أن يكونَ الفِعلُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه، وتكونَ الملائكةُ مَدَدًا على عادَةِ مَدَدِ الجيوشِ؛ رعايةً لِصورةِ الأسبابِ وسُنَّتِها التي أجراها اللهُ تعالى في عبادِه، والله تعالى هو فاعِلُ الجَميعِ .

4- قولُ اللهِ تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ لم يُسنِدْ إلقاءَ الرُّعبِ في قلوبِ الذينَ كَفَروا إلى الملائكةِ، بل أسنده الله إلى نفسه وحده؛ لأنَّ أولئك الملائكةَ المخاطبينَ كانوا ملائكةَ نصرٍ وتأييدٍ، فلا يليقُ بقواهم إلقاءَ الرُّعبِ .

5- قولُ اللهِ تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فيه أنَّ كُلَّ ما يقَعُ في العالَم هو من تقديرِ اللهِ على حسَبِ إرادَتِه .

6- قولُ اللهِ تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ التَّعبيرُ بإلقاءِ الرُّعبِ في القَلبِ أبلَغُ مِن التَّعبيرِ بـ (رَعَبْتُه) أو (أرعَبْتُه)؛ لِما في التَّعبيرِ بإلقاءِ الرُّعبِ مِن الإشعارِ بأنَّه يُصَبُّ في القلوبِ دَفعةً واحدةً .

7- قولُ اللهِ تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ لَمَّا كان العُنقُ يُستَرُ في الحَربِ غالبًا، عبَّرَ بقولِه: فَوْقَ الْأَعْنَاقِ أي: الرُّؤوسَ أو أعاليَ الأعناقِ منهم؛ لأنَّها مفاصِلُ ومذابِحُ .

8- قولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ عبَّر بالمضارعِ ندبًا إلى التوبةِ بتقييدِ الوعيدِ بالاستمرارِ .

9- قولُ اللهِ تعالى: ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك مُبَالغَةً في التعذيبِ والانتقامِ، والعربُ تَقولُ للعَدوِّ إذا أصابه المكروهُ: ذُقْ ، وقيل: سمَّاه ذَوقًا؛ لأنَّ الذَّائِقَ أشدُّ إحساسًا بالطَّعمِ مِن المُستمِرِّ على الأكلِ، فكأنَّ حالهم أبدًا حالُ الذَّائِقِ، في إحساسِهم العَذابَ ، وقيل: لَمَّا كان ما وقَعَ للمُشركينَ في وقعةِ بَدرٍ مِن القَتلِ والأسْرِ والقَهرِ، يَسيرًا جدًّا بالنِّسبةِ إلى ما لهم في الآخرةِ- سمَّاه ذَوقًا؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ يُعْرَفُ بِهِ طَعْمُ اليسيرِ؛ لِيُعرَفَ به حالُ الكَثيرِ، فعاجلُ ما حصَل لهم مِن الآلامِ في الدُّنيا كالذَّوقِ القليلِ بالنسبةِ إلى الأمرِ العظيمِ المعدِّ لهم في الآخرةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ

- تعريفُ اللهِ باسْمِ الرَّبِّ، وإضافَتِه إلى ضَميرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَولِه: رَبُّكَ؛ فيه تنويهٌ بِقَدْرِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإشارةٌ إلى أنَّه فَعلَ ذلك لُطفًا به، ورَفعًا لشأنِه

.

- وعُرِّفَ المُثبَّتونَ بالموصولِ في قَولِه: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا؛ لما تُومِئُ إليه الصِّلةُ آمَنُوا مِن كَونِ إيمانِهم هو الباعِثَ على هذه العِنايةِ، فتكونُ الملائكةُ بِعِنايةِ المُؤمنينَ؛ لأجْلِ وَصفِ الإيمانِ .

- قولُه: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ جملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ إخبارًا لهم بما يقتضي التَّخفيفَ عليهم في العَملِ الذي كلَّفَهم اللهُ به .

- قوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ فيه تكريرُ الأمرِ بالضَّربِ؛ لِمَزيدِ التَّشديدِ، والاعتناءِ بِأمرِه .

- قوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ خُصَّتِ الأعناقُ والبَنانُ؛ لأنَّ ضَرْبَ الأعناقِ إتلافٌ لأجسادِ المُشركينَ، وضَربَ البنانِ يُبطِلُ صلاحيَّةَ المضروبِ للقِتالِ، لأنَّ تَناوُلَ السِّلاحِ إنما يكونُ بالأصابِعِ .

2- قولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ

- تعليلٌ لِما قبله؛ لأنَّ الباءَ في بِأَنَّهُمْ باءُ السَّببيَّةِ، فهي تفيدُ معنى التَّعليلِ؛ ولِهذا فُصِلَت الجُملةُ .

- قولُه: وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ تذييلٌ يَعُمُّ كلَّ مَن يُشاقِقُ اللهَ، ويعُمُّ أصنافَ العَقائِدِ .

- وفيه إظهارٌ في موضعِ الإضمارِ- حيث لم يقُل: ومَن يُشاقِقْهما- لتربيةِ المَهابةِ، وإظهارِ كمالِ شَناعةِ ما اجتَرَؤوا عليه، والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ .

- قولُه: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ المراد منه الكنايةُ عَن عِقابِ المُشاقِّينَ، وبذلك يظهَرُ الارتباطُ بين الجزاءِ والشَّرطِ، باعتبارِ لازِمِ الخَبَر، وهو الكنايةُ عن تعَلُّقِ مَضمونِ ذلك الخبَرِ بمَن حصَلَ منه مَضمونُ الشَّرطِ .

3- قَولُه تعالى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ

- الخطابُ فيه مَع الكَفَرةِ على طريقةِ الالتفاتِ .

- وتفريعُ فَذُوقُوهُ على جُملةِ: ذَلِكُمْ بما قُدِّرَ فيها؛ تفريعٌ للشَّماتةِ على تحقيقِ الوَعيدِ؛ فصيغةُ الأمرِ مُستعمَلةٌ في الشَّماتةِ والإهانةِ .

- قولُه: وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ وُضِعَ فيه الظَّاهِرُ موضِعَ الضَّميرِ- حيثُ لم يَقُلْ: وأنَّ لَكُم- لِتَوبيخِهم بالكُفرِ، وتَعليلِ الحُكم ِبه

================

 

سُورة الأنفالِ

الآيتان (15-16)

ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ

غريب الكلمات:

 

زَحْفًا: أي: متقاربًا بعضُكم إلى بعضٍ، والزَّحفُ تقارُبُ القَومِ إلى القَومِ في الحَربِ، أو الدُّنوُّ قليلًا قليلًا، وأَصلُ (زحف): يدلُّ على الاندفاعِ، والمُضِيِّ قُدُمًا

.

فَلَا تُوَلّوهُمُ الْأَدْبَارَ: أي: لا تَفِرُّوا مِنهم، وتُعْطوهم ظُهورَكم، ويقال: وَلَّاه دُبُرَه: إذا انهزم، والتولِّي: الإعراضُ بعدَ الإقبالِ، وأصْل الدُّبر: آخِرُ الشيءِ وخلفُه، ضد القُبلِ .

مُتَحَرِّفًا: أي: مائلًا لأجلِ القِتالِ، لا مائلًا هزيمةً؛ بأنْ يُريَهم الفَرَّةَ مكيدةً، وهو يريدُ الكَرَّةَ، وأصلُ (حرف): يدل على العُدُولِ، والانحرافِ عن الشَّيءِ .

مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ: أي: مُنضمًّا إلى جماعةٍ، وأصلُ (حوز) يدلُّ على الجَمعِ والتجمُّعِ .

بَاءَ: أي: رجَع، وانْصَرف، ولا يُقالُ: باء إلَّا موصولًا إمَّا بخيرٍ وإمَّا بشَرٍّ، وأَصلُ (بوأ): يدلُّ على الرُّجوعِ إلى الشَّيءِ .

وَمَأْوَاهُ: أي: مصيرُه، ومقامُه، والمأوى مصدرُ أَوَى، يُقال: أَوَى إلى كذا، أي: انضمَّ إليه يأوي أويًا ومأوًى، وأصْلُه: التَّجمُّع

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ المؤمنين إذا ما قابَلوا الكفَّارَ للقتالِ، فاقتَرَب بعضُهم من بعضٍ، ألَّا يُولُّوهم ظُهورَهم فِرارًا منهم، فينهَزِموا عنهم، ولكِن لِيثبُتُوا، وتوعَّدَ مَن يولِّيهم ظَهْرَه في ذلك الوقتِ بأنَّه يرجِعُ بغضَبٍ مِن اللهِ- عزَّ وجلَّ- ومصيرُه جهنَّمُ، وبئس المصيرُ، إلَّا أنْ تكونَ تولِيَتُه ظَهْرَه خِداعًا للعدُوِّ، ومكيدةً له، ثم يكِرُّ عليه، أو يكونَ مِن أجلِ أن يتنحَّى إلى حيِّزِ جماعةٍ أخرى من المُسلمينَ، يُريدونَ العودةَ إلى القتالِ، فيعودُ معهم فيعاوِنُهم ويُعاوِنونَه، فيجوزُ له ذلك حينَها.

تفسير الآيتين:

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه سيُلقِي الرُّعبَ في قُلوبِ الكُفَّارِ، وأمَرَ مَن آمنَ بالضَّربِ فَوقَ أعناقِهم وبَنانِهم؛ حرَّضَهم على الصَّبرِ عند مُكافحةِ العَدُوِّ، ونهاهم عن الانهزامِ

.

وأيضًا لَمَّا قرَّرَ تعالى إهانةَ المُشركينَ في الدُّنيا والآخرةِ؛ حسُنَ أن يُتبِعَ ذلك نهيَ مَن ادَّعى الإيمانَ عَن الفِرارِ منهم، وتهديدَ منَ نكَصَ عنهم بعد هذا البيانِ، وهو يَدَّعي الإيمانَ .

وأيضًا لَمَّا ذكَّرَ اللهُ المُسلمينَ بما أيَّدَهم يومَ بَدرٍ بالملائكةِ والنَّصرِ مِن عِندِه، وأكرَمَهم بأنْ نَصَرَهم على المُشركينَ الذينَ كانوا أشدَّ منهم، وأكثَرَ عَددًا وعُدَدًا، وأعقَبَه بأنْ أعلَمَهم أنَّ ذلك شأنُه مع الكافرينَ به- اعتَرَض في خلالِ ذلك بتحذيرِهم مِن الوَهَنِ، والفِرارِ منهم ، فقال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً.

أي: يا أيُّها المؤمنونَ، إذا قابَلْتم الكفَّارَ، وقد دَنَوْا إليكم لِقِتالِكم، ودَنَوتُم إليهم لقِتالِهم، فاقتَرَب بعضُكم مِن بَعضٍ .

فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ.

أي: فحِينذاك لا تُولُّوهم ظُهورَكم فرارًا منهم، فتَنهَزِموا عنهم، ولكنِ اثبُتُوا لقتالِهم .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال: 45] .

وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16).

وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ.

أي: ومَن يُوَلِّ الكُفَّارَ ظَهْرَه في ذلك الوَقتِ .

إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ.

أي: إلَّا مَن يُوَلِّيهم ظَهْرَه، فينعطِفُ وينحَرِفُ عن اتِّجاهِه؛ ليخدَعَ عَدُوَّه ويُوهِمَه- مكيدةً له ومَكرًا به- أنَّه قد فرَّ منه، وخاف وانهزَمَ، ثم يكِرُّ عليه، فيكونُ ذلك أمكنَ له في قِتالِه، أو أنكى لعَدُوِّه، فلا بأسَ عليه في ذلك .

أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ.

أي: أو إلَّا مَن يُوَلِّيهم ظَهْرَه؛ ليتنحَّى إلى حيِّزِ جماعةٍ أخرى مِن المُسلِمينَ، يريدونَ العودةَ إلى القِتالِ، فيعودُ معهم فيعاونُهم ويعاونونَه، فيجوزُ له ذلك .

فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ.

أي: مَن ولَّاهم الدُّبُرَ بعد الزَّحفِ لقتالٍ، مُنهَزِمًا- بغيرِ نيَّةِ إحدى الخَلَّتينِ اللَّتينِ أباح اللهُ التَّوليَةَ بهما- فقد رَجَعَ بِغَضبٍ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ .

وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ.

أي: ومَصيرُه الذي يصيرُ إليه يومَ القِيامةِ، ومُنقَلَبُه ومَقَرُّه؛ نارُ جَهنَّمَ .

وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

أي: وبِئسَ الموضِعُ الذي يصيرُ إليه .

وقال تعالى عمَّن ولَّى من المسلمين دُبرَه فرارًا مِن المشركينَ، يومَ تلاقَى الفريقانِ بأُحُدٍ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران: 155] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اجتَنِبوا السَّبعَ المُوبقاتِ. قالوا: يا رسولَ اللهِ: وما هُنَّ؟ قال: الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقتلُ النَّفسِ الَّتي حرَّم اللهُ إلَّا بالحقِّ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليَتيمِ، والتَّولِّي يومَ الزَّحفِ، وقذفُ المُحصَناتِ المؤمناتِ الغافلاتِ ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

في قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ نهيٌ عن توليةِ العَدُوِّ الأدبارَ، وتضَمَّنَ هذا النَّهيُ الأمرَ بالثَّباتِ والمُصابَرة

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قولِ الله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ عبَّرَ بلَفظِ توليةِ الدُّبُرِ في وعيدِ كلِّ فَردٍ، كما عبَّرَ به في نهيِ الجَماعةِ؛ لتأكيدِ حُرمةِ جريرةِ الفرارِ مِن الزَّحفِ، وكونِ الفَردِ فيها كالجماعةِ

.

2- قولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فيه تحريمُ الفِرارِ مِن الزَّحفِ، وأنَّه مِن الكبائِرِ .

3- قولُه تعالى: فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ فيه رَدٌّ على الجهميَّةِ في إنكارِهم الغضبَ .

4- قولُ اللهِ تعالى: وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ كأنَّ المُنهزِمَ أراد أن يأوِيَ إلى مكانٍ يأمَنُ فيه من الهَلاكِ، فعُوقِبَ على ذلك بجَعْلِ عاقِبَتِه التي يصيرُ إليها دارَ الهَلاكِ، والعَذابِ الدَّائِمِ، وجُوزِيَ بضِدِّ غَرَضِه مِن مَعصيةِ الفِرارِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ  خِطابٌ لِلمُؤمنينَ بحُكمٍ كُلِّيٍّ جارٍ فيما سيقَعُ مِن الوقائِعِ والحروبِ، جِيءَ به في تضاعيفِ القِصَّةِ؛ إظهارًا للاعتناءِ بِشَأنِه، ومبالغةً في حَضِّهم على المُحافظةِ عليه

 

- وأُطلِقَ على مَشيِ المُقاتِلِ إلى عَدُوِّه في ساحةِ القِتالِ (زَحفٌ)؛ لأنَّه يَدنُو إلى العدُوِّ باحتراسٍ، وترَصُّدِ فُرصةٍ، فكأنَّه يزحَفُ إليه .

- وعبَّرَ عن حالِ لِقائِهم بالمصدَرِ مبالغةً في التَّشبيهِ، فقال: زَحْفًا أي: حالَ كَونِهم زاحفينَ مُحارِبينَ، وهم مِن الكَثرةِ بحيثُ لا يُدرَكُ مِن حَرَكتِهم- وإن كانَت سَريعةً- إلَّا مِثلُ الزَّحفِ .

2- قوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

- (توليةُ الأدبارِ) كنايةٌ عن الفِرارِ مِن العَدُوِّ بِقَرينةِ ذِكرِه في سياقِ لقاءِ العَدُوِّ؛ فهو مُستعمَلٌ في لازِمِ معناه مع بعضِ المعنى الأصليِّ .

- وعَدلَ عن لَفظِ (الظُّهورِ) إلى لَفظِ (الأدبارِ) في قَولِه: فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ؛ تقبيحًا لِفِعلِ الفارِّ، وتبشيعًا لانهزامِه .

- قوله: فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ مِنَ اللَّهِصِفةٌ لـ غَضَبٍ مؤكِّدةٌ لِما أفادَه التَّنوينُ مِن الفخامةِ والهَولِ بالفخامةِ الإضافيَّةِ، أي: بغضَبٍ كائِنٍ منه تعالى .

.=============

.

سُورة الأنفالِ

الآيات (17-19)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

 

وَلِيُبْلِيَ أَى: وليُنْعِمَ، والبلاءُ: النِّعْمَةُ، وأيضًا: الاختبارُ، والمكروهُ والشِّدَّةُ، والبلاءُ يكونُ في الخيرِ والشَّرِّ، يُقال: أبلاه بالنِّعمةِ، وبلاه بالشِّدةِ، وقد يدخلُ أحدُهما على الآخرِ، فيقال: بلاه بالخيرِ، وأبلاه بالشَّرِّ، وأصلُ (بلي) الاختبارُ والامتحانُ

.

مُوهِنُ: أي: مُضعِفُ، والوَهْنُ: ضعفٌ مِن حيثُ الخَلْق، أو الخُلُق، وأصلُ (وهن): يَدلُّ على ضَعْفٍ .

تَسْتَفْتِحُوا: أي: تَستَنصِروا، أو: تَسْتحكموا، أو: تسألوا الفَتحَ، وأصل (فتح): يَدلُّ على خِلافِ الإغلاقِ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخاطِبُ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمؤمنينَ الذينَ شَهِدوا معه بَدرًا: أنَّه ليس بِحَولِكم وقُوَّتِكم- أيُّها المؤمنونَ- قَتَلتُم أعداءَكم المُشركينَ يومَ بَدرٍ، ولكنَّ الذي قتَلَهم على الحقيقةِ، ونَصَرَكم عليهم هو اللهُ، وما رمَيتَ- يا محمَّدُ- حينَ رَمَيتَ وجوهَ المُشركينَ بِقَبضةٍ مِن حَصباءَ أو تُرابٍ، ولكِنَّ اللهَ هو مَن رَمى، ولكي يُنعمَ على المؤمِنينَ بعَطاءٍ حَسَنٍ يَشكرونَه عليه قتَل المُشركينَ، ورماهم بما رماهم به يومَ بَدرٍ؛ إنَّ اللهَ سميعٌ عليمٌ، ذلكم وأنَّ اللهَ سيُضعِفُ كلَّ مَكرٍ وكيدٍ يكيدُ به الكفَّارُ للإسلامِ وأهلِه.

ثم يُخاطِبُ اللهُ المُشركينَ الذينَ حارَبوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه يومَ بَدرٍ: إنْ كُنتُم طَلَبتُم مِن اللهِ يومَ بَدرٍ أن يحكُمَ بينكم وبينَ المُؤمنينَ؛ بأن يُوقِعَ عذابَه بالمُعتَدينَ الظَّالِمين منكم ومنهم- فقد جاءَكم ما سألتُم؛ بأنْ نَصَرَ اللهُ المظلومَ على الظَّالمِ، والمُحِقَّ على المُبطِلِ، بأنْ أوقَعَ بكم يومَ بَدرٍ، وإن تنتَهُوا- يا كفَّارَ قُريشٍ- عمَّا أنتم عليه، فهو خيرٌ لكم، وإن تَعودُوا إلى حَربٍ مُحمَّدٍ وقتالِه وقِتالِ أتباعِه المؤمِنينَ؛ نَعُدْ عليكم بالهزيمةِ والقَتلِ والأسْرِ، ولن ينفَعَكم جمعُكم شيئًا ولو كثُرَ عَدَدُهم، وأنَّ اللهَ مع المؤمنينَ.

تفسير الآيات:

 

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا نهى اللهُ تعالى المؤمنينَ عن التَّولِّي بالأدبارِ انهزامًا عند قتالِ الكُفَّارِ- وصل هذا النَّهيَ بما هو حُجَّةٌ على جَدارَتِهم بالانتهاءِ عنه، كأنَّه يَقولُ: يا أيُّها المؤمنونَ، لا تُوَلُّوا الكُفَّارَ ظُهورَكم في القِتالِ أبدًا؛ فأنتم أَوْلى منهم بالثَّباتِ والصَّبرِ، ثم بنَصرِ الله تعالى، فها أنتم أولاءِ قد انتصَرتُم عليهم على قِلَّةِ عَدَدِكم وعُدَدِكم، وكَثرَتِهم واستعدادِهم، وإنَّما ذلك بتأييدِ اللهِ تعالى لكم، ورَبْطِه على قُلوبِكم، وتثبيتِ أقدامِكم، وإلقائِه الرُّعبَ في قلوبِ أعدائِكم، فلم تَقتُلوهم ذلك القَتلَ الذَّريعَ بِمَحضِ قُوَّتِكم، واستعدادِكم المادِّيِّ

.

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ.

أي: ليس بحَولِكم وقُوَّتِكم- أيُّها المؤمنونَ- قتَلْتُم أعداءَكم المُشركينَ يومَ بَدرٍ، ولكِنَّ الذي قتَلَهم على الحقيقةِ وأظفَرَكم بهم، ونَصَركم عليهم، هو اللهُ تعالى وَحدَه؛ فهو من تسبَّبَ بِقَتلِهم، حيث أمرَكم بقِتالِهم، وأعانكم على ذلك، ورَبَط على قُلوبِكم .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123] .

وقال عزَّ وجلَّ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين [التوبة: 25-26] .

وقال سبحانه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] .

وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى.

سَببُ النُّزولِ:

عن حكيمِ بنِ حِزامٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا كان يومُ بدرٍ أمَرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأخذَ كفًّا من الحَصباءِ فاستقبَلَنا به، فرمانا بها، وقال: شاهتِ الوجوهُ، فانهزَمْنا، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلِكَنَّ اللَّهَ رَمَى)) .

وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى.

أي: وما أوصلتَ الرمْيَ- حين رميتَ وجوهَ المُشركينَ بقبضةٍ مِن حَصباءَ، أو حفنةٍ مِن ترابٍ- فأنت حذَفْتَهم ورَمَيْتَهم بذلك فحَسْبُ، ولكن الذي تولَّى إيصالَها إليهم، هو اللهُ تعالى، بقُوَّتِه وقُدرَتِه، لا أنت .

وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً.

أي: إنَّ اللهَ تعالى قتَلَ المُشركينَ، ورماهم بما رماهم به يومَ بَدرٍ؛ لأجْلِ هَزيمَتِهم، وأيضًا لِيُنعِمَ على المُؤمنينَ بِعَطاءٍ حَسَنٍ عظيمٍ، يَشكرونَه عليه، مِن النَّصرِ والظَّفَرِ بالغَنائِمِ في الدُّنيا، والأجرِ والثَّوابِ على جِهادِهم في الآخِرةِ .

إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.

أي: إنَّ الله سميعٌ لِدُعاءِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُناشَدَتِه ربَّه لإهلاكِ المُشركينَ يَومَ بَدرٍ؛ سَميعٌ لأقوالِ جَميعِ خَلْقِه، عليمٌ بذلك كُلِّه، وبِنِيَّاتِهم وبما فيه صَلاحُهم، عليمٌ بمَن يستحِقُّ منهم النَّصرَ، ويعلَمُ غيرَ ذلك مِن الأشياءِ، فيُقَدِّرُ على العبادِ أقدارًا مُوافِقةً لعِلمِه وحِكمَتِه، ويَجزِيهم بحسَب نيَّاتِهم وأعمالِهم .

ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18).

أي: ذلك الفِعلُ؛ مِن قَتلِ المُشركينَ ورَمْيِهم حتى انهزَمُوا، والإنعامِ عليكم- أيُّها المؤمنونَ- بالظَّفَرِ بهم، والانتصارِ عليهم، ذلك هو فِعْلُنا الذي فَعَلْنا، وثَمَّ بِشارةٌ أخرى مع ما حصَلَ مِن هذا النَّصرِ لكم، وهي أنَّ اللهَ تعالى سيُضعِفُ- فيما يُستقبَلُ- كُلَّ مَكرٍ وكَيدٍ يَكيدُ به الكُفَّارُ للإسلامِ وأهلِه، وسيجعَلُ مَكرَهم مُحِيقًا بهم .

إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19).

إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ.

أي: إنْ تَستَحكِموا اللهَ- أيُّها المُشركونَ- ليفصِلَ بينكم وبينَ أعدائِكم المُؤمنينَ، فتَستَقضوه على أقطَعِ الحِزبَينِ للرَّحِم، وأظلَمِ الفِئَتينِ منكم، وتستنصِروه؛ لِيُوقِعَ عذابَه على المُعتَدينَ الظَّالِمينَ منكم- فقد جاءكم ما سألْتُم مِن حُكمِ اللهِ؛ بِنَصرِه المظلومَ على الظَّالمِ، والمحِقَّ على المُبطِلِ، وذلك حين أوقَعَ بكم عِقابَه يومَ بَدرٍ .

وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.

أي: وإن تَنْتَهوا- يا كفَّارَ قُريشٍ- عن الشِّركِ والكُفرِ باللهِ، والتَّكذيبِ لِرَسولِه، وقتالِ نَبِيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ به؛ فهو خيرٌ لكم في الدُّنيا والآخرةِ .

وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ.

أي: وإن تَعودُوا إلى ما كُنتُم فيه مِن الكُفرِ والضَّلالِ، وإلى حَربٍ مُحمَّدٍ وقتالِه، وقِتالِ أتباعِه المؤمِنينَ؛ نَعُدْ عليكم بمِثلِ الواقعةِ التي أُوقِعَتْ بكم يومَ بَدرٍ، بالهزيمةِ والقَتلِ والأسْرِ .

وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ.

أي: وإنْ عُدتُم- أيُّها المُشركونَ- فحينَها لن يُغنيَ عنكم جَمعُكم مِن جُنودِكم وأعوانِكم أيَّ شيءٍ، ولن يَدفَعوا عنكم شيئًا البتَّةَ، ولو كَثُر عددُهم .

وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.

القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التفسيرِ:

في قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ قراءتان:

1- قراءة وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ على أنَّها تعليلٌ للجملةِ قبلَها .

2- قراءة وَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ على أنَّها جملةٌ استئنافيةٌ، منقطعةٌ عمَّا قبلَها .

وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.

أي: ولأنَّ اللهَ تعالى مع مَن آمَنَ به على مَن كَفَر به وأشرَكَ، فلن تُغنِيَ عنكم فِئَتُكم شيئًا ولو كَثُرت؛ فهو سبحانَه معهم بالعونِ، والنصرِ على أعدائِهم، كما أظْهَرهم يومَ بدرٍ على المشركينَ، ومَن كان اللهُ عزَّ وجلَّ معه فلا غالِبَ له، وإن كان ضعيفًا، قليلَ العَدَد والعُدَّةِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُ اللهِ تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى فيه أثبتَ اللهُ سُبحانه لنَبيِّه الرَّميَ، مع نَفيِ تأثيرِه عنه، وإثباتِه لِمَن إليه تُرجَعُ الأمورُ؛ تأديبًا منه سُبحانه لهذه الأمَّةِ، أي: لا ينظُرْ أحدٌ إلى شيءٍ مِن طاعَتِه؛ فإنَّا قد نَفَينا هذا الفِعلَ العَظيمَ عن أكمَلِ الخَلقِ، مع أنَّه عالمٌ مُقِرٌّ بأنَّه مِنَّا، فلْيَحذرِ الذي يرى له فِعلًا، مِن عظيمِ سَطواتِنا، ولكِن لِينسُبْ جَميعَ أفعالِه الحَسَنةِ إلى اللهِ تعالى، كما نُسِبَ الرَّميُ إليه بِقَولِه: وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى

.

2- قال اللهُ تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ جرى هذا مَجرى التَّحذيرِ والتَّرهيبِ؛ لئلَّا يغترَّ العبدُ بظواهِرِ الأمورِ، ولِيَعلمَ أنَّ الخالِقَ تعالى يطَّلِعُ على ما في الضَّمائِرِ والقُلوبِ .

3- الكَثرةُ لا تكونُ سَببًا للنَّصرِ، إلَّا إذا تساوَتْ مع القِلَّةِ في الثَّباتِ والصَّبرِ، والثِّقةِ باللهِ عَزَّ وجلَّ، قال تعالى: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ اللهِ تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ فيه ردٌّ على القَدَريَّةِ

؛ لأنَّه جَلَّ ثناؤُه أضافَ قَتلَهم إلى نَفسِه، ونفاه عن المُؤمنين به، الذين قاتَلُوا المُشركين؛ إذ كان جلَّ ثَناؤُه هو مُسَبِّبَ قَتلِهم، وعَن أمْرِه كان قتالُ المُؤمنينَ إيَّاهم، وكذلك سائِرُ أفعالِ الخَلقِ المُكتَسَبةِ: مِن اللهِ الإنشاءُ والإنجازُ بالتَّسبيبِ، ومن الخَلقِ الاكتسابُ بالقُوى .

2- نفَى الله تعالى ما صرَّح بإثباتِه في قولِه: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ- ولم يُصرِّحْ في قولِه: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ بِقَولِه: (إِذْ قَتلتُموهم)؛ لأنَّ الرميَ كان أمرًا خارقًا للعادةِ، مُعجزًا، وآيةً مِن آياتِ اللهِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى قدَّمَ المُسنَدَ إليه على المُسنَدِ الفِعليِّ في قَولِه: وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ دون أن يُقالَ: (ولكنْ قتَلَهم اللهُ)؛ لمجَرَّدِ الاهتمامِ لا الاختصاصِ؛ لأنَّ نَفيَ اعتقادِ المُخاطَبينَ أنَّهم القاتِلونَ قد حصل مِن جُملةِ النَّفيِفَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ، فصار المُخاطَبونَ مُتطلِّبينَ لِمَعرفةِ فاعِلِ قَتلِ المُشركينَ، فكان مُهِمًّا عندهم تعجيلُ العِلمِ به

.

- وتجريدُ الفعلِ (رمى) عن المفعولِ به في قَولِه: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ؛ لأنَّ المقصودَ الأصليَّ بيانُ حالِ الرَّميِ نفيًا وإثباتًا؛ إذ هو الذي ظهَرَ منه ما ظهَرَ، وأيضًا للدَّلالةِ على عُمومِه .

2- قوله تعالى: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ

- الإشارةُ بـ ذَلِكُمْ إلى البلاءِ الحَسَنِ، وهذه الإشارةُ لِمُجرَّدِ تأكيدِ المَقصودِ مِن البَلاءِ الحَسَنِ، وأن ذلك البلاءَ عِلَّةٌ للتَّوهينِ .

3- قوله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ

- قوله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ خطابٌ لأهلِ مكَّةَ على سبيلِ التَّهَكُّمِ بهم، وفيه الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ الذي اقتضاه قَولُه: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ .

- وصِيغَ تَسْتَفْتِحُوا بصيغةِ المُضارِعِ، مع أنَّ الفِعلَ مضى؛ لِقَصدِ استحضارِ الحالةِ مِن تكريرِهم الدُّعاءَ بالنَّصرِ على المُسلِمينَ .

- قوله: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وعيدٌ فيه بِشارةٌ أنَّ النَّصرَ الحاسِمَ سيكونُ للمُسلمينَ، وهو نصرُ يومِ فَتحِ مَكَّةَ .

- وجملةُ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ زيادةٌ في تأييسِ المُشركينَ مِن النَّصرِ، وتنويهٌ بِفَضلِ المؤمنينَ، بأنَّ النَّصرَ الذي انتَصَروه هو مِن الله لا بأسبابِهم؛ فإنَّهم دون المشركينَ عَددًا وعُدَّةً .

 

================

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (20-23)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات:

 

وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ: أي: ولا تُعرِضوا عنه، ولا تتركوا طاعته، فالفِعل (ولي)، إذا عُدِّي بـ (عن) لفظًا، أو تقديرًا، اقتَضى معنى الإعراضِ والتَّركِ، وإذا عُدِّي بنَفْسِه اقتَضَى معنى الوَلايةِ والقُرْبِ

.

الصُّمُّ: أي:  الذين يَصَمُّونَ عَن الحَقِّ. والصَّمَمُ: فقدانُ حاسَّةِ السَّمعِ، وبه يُوصَف مَن لا يُصغِي إلى الحقِّ ولا يَقبَلُه، وأصلُ (صمم) يدلُّ على تضامِّ الشَّيءِ .

الْبُكْمُ: أي: الَّذين لا يتكلَّمونَ بالحَقِّ، جمع أَبْكَم، وهو الأخرسُ الذي لا يتكلَّمُ، وقيل: هو الذي يُولَد أخرس، والبَكَمُ: آفةٌ في اللِّسانِ، مانعةٌ مِن الكَلامِ

 

.

المعني الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ عِبادَه المؤمنينَ بأن يُطيعوه ويُطيعوا رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يُعرِضوا عن طاعَتِهما، وهم يَسمعونَ ما نَزَل مِن القُرآن.

ونهاهم أن يكونُوا كالمُشركينَ، الذين إذا سَمِعوا كتابَ اللهِ قالوا: قد سَمِعْنا، ولكِنَّهم لا يعتَبِرونَ بما يَسمَعونَه، فهُم بمنزلةِ مَن لم يسمَعْ، وأخبَرَ تعالى أنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عنده- عزَّ وجَلَّ- الكُفَّارُ، الذين هم صُمٌّ عن سَماعِ الحَقِّ، بُكْمٌ عن التكَلُّمِ به، لا يَعقِلونَ عن اللهِ مَواعِظَه، ولا أمْرَه ونَهيَه، ولو عَلِمَ اللهُ فيهم خيرًا بقَصدِهم الحَقَّ، وصلاحِيَّتِهم لِقَبولِ ما يُورِدُه عليهم مِن آياتِه، لأمكَنَهم مِن فَهْمِها، ولو فُرِضَ أنَّه أفهَمَهم آياتِه، لابتَعَدوا عنها، وهم مُعرِضونَ عن قَبُولِها بالكليَّةِ.

تفسير الآيات:

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (20).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أرى اللهُ المؤمِنينَ آياتِ لُطفِه، وعِنايَتِه بِهم، ورأَوْا فوائِدَ امتثالِ أمْرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالخُروجِ إلى بَدرٍ، وقد كانوا كارِهينَ الخُروجَ- أعقَبَ ذلك بأنْ أمَرَهم بطاعةِ اللهِ ورَسولِه؛ شُكرًا على نِعمةِ النَّصْرِ، واعتبارًا بأنَّ ما يأمُرُهم به خيرٌ عواقِبُه، وحذَّرَهم مِن مُخالفةِ أمْرِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي هذا رُجوعٌ إلى الأمرِ بالطَّاعةِ الذي افتُتِحَت به السُّورةُ

.

وأيضًا لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه مع المُؤمنينَ، أمَرَهم أن يَقومُوا بمقتضى الإيمانِ الذي يُدرِكونَ به مَعِيَّتَه ، فقال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ.

أي: يا أيُّها المؤمنونَ، امتَثِلوا أمْرَ اللهِ- تعالى- وأمْرَ رَسولِه، واجتَنِبوا نَهْيَهما .

وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ.

أي: ولا تُعرِضوا عن طاعةِ رسولِه؛ بمُخالفةِ أمرِه، وارتكابِ نهيِه، وأنتم تَسْمَعونَ أمرَه إيَّاكم ونَهْيَه، وتعلمونَ ما دَعاكُم إليه .

وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (21).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه تعالى لما نهَى عن التولِّي عن رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ زاد في تَشويهِ التَّولِّي عنه، بالتَّحذيرِ مِن التَّشبُّهِ بفِئةٍ ذَميمةٍ، يقولونَ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: سَمِعْنا، وهم لا يُصَدِّقونَه ولا يَعمَلونَ بما يأمُرُهم ويَنهاهم .

وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (21).

أي: ولا تكونُوا- أيُّها المُؤمنونَ- بإعراضِكم عَن طاعةِ اللَّهِ، وطاعةِ رَسولِه، كالمُشركينَ الذينَ إذا سَمِعوا بآذانِهم كِتابَ اللهِ يُتلى عليهم، قالوا: قد سَمِعْنا، لكنَّهم في الحقيقةِ لا يَعتَبِرونَ بما يَسمَعونَ، ولا فيه يتفَكَّرونَ، ولا ينتَفِعونَ به ولا يتَّعِظونَ؛ فهُم بمنزلةِ مَن لم يَسمَعْها، فلا تكتَفُوا- مِثلَهم- بمجَرَّدِ الدَّعاوى الخاليةِ التي لا حقيقةَ لها .

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كانت حالُ الكُفَّارِ مُشابِهةً لِحالِ الأصَمِّ في عدَمِ السَّماعِ؛ لِعَدمِ الانتفاعِ به، والأبكَمِ في عدَمِ كَلامِه؛ لِعَدمِ تَكَلُّمِه بما ينفَعُ، والعادِمِ للعَقلِ في عدَمِ عَقلِه؛ لِعَدمِ انتفاعِه به- قال مُعَلِّلًا للنَّهيِ في قَولِه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مُعَبِّرًا بأنسَبِ الأشياءِ لِما وصَفَهم به :

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22).

أي: إنَّ شرَّ ما دبَّ على الأرضِ مِن خَلْقِ اللهِ عِندَ اللهِ تعالى، هؤلاءِ الكُفَّارُ الذين لم ينتَفِعوا بالآياتِ والنُّذُرِ؛ فهم صُمٌّ عن سَماعِ الحَقِّ، بُكمٌ عن التَّكلُّمِ به، لا يَعقِلونَ عَن اللهِ مَواعِظَه، ولا أمْرَه ونَهْيَه .

وقد شَبَّهَهم اللهُ تعالى بالأنعامِ في قَولِه: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] .

بل جَعَلَهم أضَلَّ مِن الأنعامِ، فقال سُبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179] .

وقال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44] .

وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه أخبَرَ تعالى بأنَّ عدَمَ سَماعِهم وهُداهم، إنَّما هو بما عَلِمَه تعالى مِنهم، وسَبَقَ مِن قَضائِه عليهم .

وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ.

أي: ولو عَلِمَ اللهُ أنَّ في أولئك القَومِ خَيرًا؛ بقَصدِهم الحَقَّ، وصَلاحِيَّتِهم لِقَبولِ ما يُورِدُه عليهم من آياتِه- لأمكَنَهم مِن فَهْمِها، ولكِنَّه قد عَلِمَ أنَّه لا خيرَ فيهم، وأنَّهم ممَّن كُتِبَ لهم الشَّقاءُ، فلم يُفهِمْهم .

وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ عنهم بانتفاءِ تَعلُّمِهم الحكمةَ والهُدَى؛ فلذلك انتَفَى عنهم الاهتداءُ- ارتَقَى بالإخبارِ في هذا المَعنى بأنَّهم لو قَبِلوا فَهْمَ المَوعِظةِ والحِكمةِ فيما يَسمَعونَه مِن القُرآنِ، وكَلامِ النُّبوَّةِ، لغَلَبَ ما في نُفوسِهم مِن التخَلُّقِ بالباطِلِ، على ما خالَطَها من إدراكِ الخَيرِ، فحالَ ذلك التخَلُّقُ بينهم وبين العَمَلِ بما عَلِموا، فتَوَلَّوا وأعرَضُوا .

وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ.

أي: ولو فُرِضَ أنَّه أفهَمَهم آياتِه مع هذه الحالِ التي هُم عليها، لابتَعَدوا عنها وانصَرَفوا، وهم مُعرِضونَ عَن قَبولِها إعراضًا كُليًّا، لا يلتَفِتونَ إليها بوجهٍ مِن الوُجوهِ؛ قصدًا منهم، وعِنادًا للحَقِّ بعد ظُهورِه، والعِلمِ به

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ؛ قوله: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ المقصودُ مِن هذا الحالِ: تشويهُ التَّولِّي المنهيِّ عنه؛ فإنَّ العِصيانَ مع توفُّرِ أسبابِ الطَّاعةِ أشَدُّ منه في حينِ انخرامِ بَعضِها

.

2- لا ينبغي الاكتفاءُ بمجَرَّدِ الدعوى الخاليةِ التي لا حقيقةَ لها؛ فإنَّها حالةٌ لا يرضاها اللهُ تعالى، فليس الإيمانُ بالتمَنِّي والتحَلِّي، ولكِنَّه ما وقَرَ في القلوبِ، وصَدَّقَته الأعمالُ، قال الله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ .

3- مِن النَّاسِ مَن يسمَعُ الآياتِ، ويَفهَمُها فَهمًا تَفصيليًّا، ولكنَّه يَجعَلُها بِمَعزِلٍ عن نفسِه، ويتصَوَّرُ أنَّ الكلامَ كُلَّه لِغَيرِه وفي غيرِه، ويقولُ: هذه الآيةُ نزلَت في الكافرينَ أو المُنافِقينَ، لا في أمثالي مِن المؤمنينَ، وإن كان مُتَّصِفًا بما تنهَى عنه، وتتوعَّدُ عليه مِن صِفاتِهم وأعمالِهم؛ فصاحِبُها يَصدُقُ عليه بِوَجهٍ ما أنَّه مِن الذينَ قالوا: سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ .

4- قال اللهُ تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ إنَّما كان هؤلاءِ شَرًّا عند اللهِ مِن جَميعِ الدَّوابِّ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أعطاهم أسماعًا وأبصارًا وأفئدةً؛ ليَستَعمِلوها في طاعَته، فاستَعمَلوها في معاصِيه، وعَدِموا- بذلك- الخيرَ الكَثيرَ، فإنَّهم كانوا بصَددِ أن يكونوا مِن خِيارِ البريَّةِ، فأبَوْا هذا الطَّريقَ، واختارُوا لأنفُسِهم أن يكونوا مِن شَرِّ البريَّةِ .

5- قَولُه تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ فيه دليلٌ على أنَّ الله تعالى لا يمنَعُ الإيمانَ والخيرَ، إلَّا ممَّن لا خَيرَ فيه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ السَّمعُ الذي نفاه اللهُ عنهم، سَمْعُ المعنى المؤَثِّرُ في القَلبِ، وأمَّا سَمعُ الحُجَّةِ، فقد قامَت حجَّةُ اللهِ تعالى عليهم بما سَمِعوه مِن آياتِه

.

2- في قوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ دلالةٌ على أنَّ اسمَ الدَّوَابِّ يقعُ على الناسِ، كما يقعُ على البهائمِ؛ لأنَّ كلَّ ماشٍ دَابٌّ .

3- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ لم يَصِفْهم هنا بالعَمى- كما وَصَفَهم في آيةِ الأعرافِ وآيتَيِ البَقَرةِ- لأنَّ المَقامَ هنا مَقامُ التَّعريضِ بالذينَ ردُّوا دَعوةَ الإسلامِ، ولم يَهتَدُوا بِسَماعِ آياتِ القُرآنِ .

4- في قولِه تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ دلالةٌ على إجازةِ تسميةِ السَّامعِ الناطقِ: «أَصَمُّ؛ أَبْكَمُ» إذا تباعَد عمَّا أُريد منه مِن السماعِ والنُّطقِ؛ وامتنَع مِن استماعِ الموعظةِ والنطقِ بما تأمرُه به، وإنْ كان ناطقًا سامعًا في كلِّ شيءٍ سواها .

5- قولُه: خَيْرًا نكرةٌ في سياقِ الشَّرطِ، فهي تعمُّ، والمعنى: أنَّ الله لا يعلمُ في قلوبِهم خيرًا أبدًا في وقتٍ مِن الأوقاتِ، كائنًا ما كان، ولا زَمَنٍ مِن الأزمانِ .

6- في قوله تعالى: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ دلالةٌ على أنَّه سبحانَه يَعْلَمُ الشيءَ قبلَ كَوْنِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ فيه افتتاحُ الِخطابِ بالنِّداءِ؛ للاهتمامِ بما سيُلقَى إلى المخاطبينَ، قَصدًا لإحضارِ الذِّهنِ لِوَعيِ ما سيُقالُ لهم

.

- والتَّعريفُ بالموصوليَّةِ في قَولِه: الَّذِينَ آمَنُوا؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المَوصوفينَ بهذه الصِّلةِ مِن شَأنِهم أن يتقَبَّلوا ما سيُؤمَرونَ به، وأنَّه كما كان الشِّركُ مُسَبَّبًا لِمُشاقَّةِ اللهِ ورَسولِه، فخَليقٌ بالإيمانِ أن يكونَ باعِثًا على طاعةِ اللهِ ورَسولِه .

- وإفرادُ الضَّميرِ المجرورِ بـ (عن) في قَولِه: وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ دون أن يُقالَ: (ولا توَلَّوا عنهما)؛ لأنَّه يَعودُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّ المرادَ مِن الآيةِ الأمرُ بطاعَتِه، والنَّهيُ عن الإِعراضِ عنه، وذِكرُ طاعةِ اللهِ لِلتَّوطئةِ والتَّنبيهِ على أنَّ طاعةَ اللهِ في طاعةِ الرَّسولِ؛ لأنَّ طاعةَ اللهِ وطاعةَ الرَّسولِ، شَيءٌ واحِدٌ، فكأنَّ رُجوعَ الضَّميرِ إلى أحَدِهما كرُجوعِه إليهما ، وقيل غير ذلك .

- قوله: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ جملةٌ حاليَّةٌ واردةٌ لِتأكيدِ وُجوبِ الانتهاءِ عَن التَّولِّي مُطلقًا، لا لتَقييدِ النَّهيِ عنه بحالِ السَّماعِ .

2- قَولُه تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ

- تقريرٌ للنَّهيِ السَّابِقِ وَلَا تَوَلَّوْا...، وتحذيرٌ عن مُخالَفَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالتَّنبيهِ على أنَّها مُؤدِّيةٌ إلى انتظامِهم في سِلكِ الكَفَرةِ، بكَونِ سَماعِهم كَلَا سَماعٍ .

- وفيه تعريضٌ بأهلِ هذه الصِّلةِ مِن الكافرينَ أو المُنافِقينَ .

- قوله: قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ جاءتِ الجُملةُ النَّافيةُ لَا يَسْمَعُونَ على غَيرِ لَفظِ المُثبَتة سَمِعْنَا- إذْ لم تأتِ: (وهُم ما سَمِعوا)- لأنَّ لَفظَ المضِيِّ لا يدلُّ على استمرارِ الحالِ ولا دَيمومَتِه، بخلافِ نَفيِ المُضارِعِ، فكما يدلُّ إثباتُه على الدَّيمومةِ كذلك يجيءُ نَفيُه، وجاء حرفُ النَّفيِ (لا)؛ لأنَّها أوسَعُ في نفيِ المُضارِعِ مِن (ما)، وأدلُّ على انتفاءِ السَّماعِ في المُستقَبلِ، أي: هُم ممَّن لا يَقبَلُ أن يَسمَعَ .

- وتقديمُ المُسنَدِ إليه على المُسنَدِ الفِعليِّ في قَولِه: وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ؛ للاهتمامِ بِه، ليتقَرَّرَ مفهومُه في ذِهنِ السَّامِعِ، فيرسَخَ اتِّصافُه بمفهومِ المُسنَدِ، وهو انتفاءُ السَّمعِ عَنهم .

3- قوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ

- جملةٌ استئنافيَّةٌ، مَسوقةٌ لِبَيانِ كَمالِ سُوءِ حالِ المُشَبَّهِ بهم؛ مبالغةً في التَّحذيرِ، وتقريرًا للنَّهيِ إثرَ تقريرٍ .

- وقَولُه عِنْدَ اللَّهِ قَيدٌ أُريدَ به زيادةُ تَحقيقِ كَونِهم أشَرَّ الدَّوابِّ، بأنَّ ذلك مُقَرَّرٌ في عِلمِ اللهِ، وليس مُجرَّدَ اصطلاحٍ ادِّعائيٍّ ، وقيل: لما كان لهم مَن يُفضِّلُهم، وكانت العبرةُ بما عندَه سبحانه، قال تعالى: عِنْدَ اللَّهِ .

- ووُصِفُوا بالصَّمَم والبَكَمِ؛ لأنَّ ما خُلِقَ له الأُذنُ واللِّسانُ، سماعُ الحَقِّ والنُّطقُ به، وحيثُ لم يُوجَدْ فيهم شيءٌ من ذلك، صاروا كأنَّهم فاقِدونَ للجارِحَتينِ رأسًا؛ وتقديمُ الصُّمُّ على الْبُكْمُ لِما أنَّ صَمَمَهم مُتقدِّمٌ على بَكَمِهم؛ فإنَّ السُّكوتَ عَن النُّطقِ بالحَقِّ مِن فُروعِ عدمِ سَماعِهم له، كما أنَّ النُّطقَ به مِن فُروعِ سماعِه .

- قوله: الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَصَفَهم بعَدَمِ التَّعقُّلِ؛ تحقيقًا لِكَمالِ سُوءِ حالِهم، فإنَّ الأصمَّ الأبكمَ إذا كان له عَقلٌ، ربَّما يَفهَمُ بعضَ الأمورِ، ويُفهمُه غيرُه بالإشارةِ، ويهتدي بذلك إلى بَعضِ مَطالبِه، وأمَّا إذا كان فاقِدًا للعَقلِ أيضًا، فهو الغايةُ في الشَّرِّيةِ، وسُوءِ الحالِ .

4- قَولُه تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ

- وقعَتِ الكنايةُ عن عَدَمِ استعدادِ مَدارِكِهم للخَيرِ، بعِلمِ اللهِ عَدمَ الخَيرِ فيهم. ووقع تشبيهُ عَدمِ انتفاعِهم بِفَهمِ آياتِ القُرآنِ بِعَدمِ إسماعِ اللهِ إيَّاهم؛ لأنَّ الآياتِ كَلامُ اللهِ، فإذا لم يَقبَلوها فكأنَّ اللهَ لم يُسمِعْهم كلامَه، فالمرادُ انتفاءُ الخَيرِ الجبليِّ عنهم، وهو القابليَّةُ للخَيرِ .

- قوله: وَهُمْ مُعْرِضُونَ صَوغُ هذه الجُملةِ بِصيغةِ الجُملةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ إعراضِهم، أي: إعراضًا لا قَبولَ بعده، وهذا يُفيدُ أنَّ مِن التَّولِّي ما يعقُبُه إقبالٌ، وهو تولِّي الذين تولَّوا، ثمَّ أسلَمُوا بعد ذلك .

=====

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (24-26)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ

غريب الكلمات:

 

يَحُولُ: أي: يَحجُز، وأصلُ الحَوْلِ: تغيُّرُ الشَّيءِ، وانفصالُه عن غَيرِه

.

يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ: أي: يأخُذونَكم بِسُرعةٍ، ويَستَلِبونَكم، ويقتلُونَكم، والخَطفُ: أَخذُ الشَّيءِ بِسُرعةٍ واستِلابٍ .

فَآوَاكُمْ: أي: جعَلَ لكم مَأوًى تأوون إليه، وأصْلُه: يدلُّ على التَّجمُّعِ .

وَأَيَّدَكُمْ: أي: قَوَّاكم وأعانَكم، والأَيْدُ: القُوَّةُ الشَّديدةُ، وأصلُ (أيد): يدلُّ على القوَّةِ والحِفظِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ عِبادَه المُؤمنينَ أن يَستَجيبوا بالطَّاعةِ للهِ وللرَّسولِ، إذا دعاهم الرَّسولُ إلى ما فيه صَلاحٌ وحياةٌ لِأبدانِهم وأرواحِهم في الدُّنيا والآخرةِ، وأن يَعلَموا أنَّ اللهَ يحجُزُ بين المَرءِ وقَلبِه إذا شاء، وأنَّه إليه تعالى مَصيرُهم يومَ القِيامةِ.

وأمَرَهم أن يَحذَرُوا بلاءً يأتيهم مِن رَبِّهم، لا يختَصُّ وقوعُه بِمَن ظَلَم نفسَه بارتكابِ المعاصي، بل يعُمُّ المُسيءَ وغَيرَه، مِمَّن رأى المُنكَر يُرتكَبُ ولم يَنْهَ عنه، ولم يُغَيِّرْه، إن كان قادرًا على ذلك، وأن يَعلموا أنَّه سُبحانَه شَديدُ العِقابِ.

وأمَرَهم أن يَذكُروا إذ هم قَليلٌ عَدَدُهم، يستضعِفُهم أعداؤُهم، يخافونَ أن يَستَلِبَهم الكُفَّارُ، فيأخُذوهم بِسُرعةٍ واحدًا تِلوَ الآخَرِ، فيقتُلوهم، فآواهم اللهُ، وقَوَّاهم وأعانَهم، حتى انتَصَروا على أعدائِهم، ورَزَقهم من الطَّيِّباتِ؛ لعلَّهم يَشكُرونَ.

تفسير الآيات:

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24).

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ.

أي: يا أيُّها المؤْمِنونَ أجيبُوا اللهَ ورَسولَه بِطاعَتِهما، والمُبادرةِ إلى الانقيادِ لِأمْرِهما، واجتنابِ نَهْيِهما

.

إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ.

أي: إذا دعاكم الرَّسولُ إلى ما فيه صلاحٌ لكم، وحياةٌ طيبةٌ نافعةٌ لأبدانِكم وأرواحِكم؛ في الدُّنيا والآخرةِ، كالدَّعوةِ إلى الجِهادِ ، والدَّعوةِ إلى تدبُّرِ القُرآنِ والعَمَلِ به، وغَيرِ ذلك مِن كُلِّ ما دعا اللهُ ورَسولُه إليه ظاهِرًا وباطِنًا .

كما قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام: 122].

وقال عزَّ وجلَّ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

وقال سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 169 - 171] .

وشبَّه سبحانه مَن لا يستجيبُ لرسولِه بأصحابِ القبورِ، فقال: إنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ [فاطر: 22] .

وقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَومَ الْقيَامَة أَعْمَى [طه:124] .

وعن أبي سعيدِ بنِ المعلَّى رضي الله عنه، قال: ((كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلمْ أُجبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إني كنتُ أُصلِّي، فقالَ: ألم يقلِ اللهُ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ. ثم قال لي: لأُعلِّمنَّكَ سورةً هي أعظمُ السوَرِ في القرآنِ، قبل أن تخرجَ منَ المسجدِ. ثمَّ أخَذ بيدي، فلما أراد أن يخرجَ، قلتُ لهُ: ألم تقلْ: لأُعلِّمنَّكَ سورةً هي أعظمُ سورةٍ في القرآنِ. قال: الحمدُ للهِ ربِّ العالمِينَ: هي السبعُ المثاني، والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُهُ )) .

وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَهم اللهُ تعالى بالاستجابةِ له ولرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حذَّرهم من التَّخَلُّفِ والتأخُّرِ عن الاستجابةِ، الَّذِي يكونُ سَببًا لِأنْ يحولَ بينَهم وبينَ قُلوبِهم ، فقال:

وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ

أي: واعلَموا- أيُّها المؤْمنونَ- أنَّ اللهَ تعالى يحجُزُ بين العَبدِ وقَلبِه إذا شاء، فلا يستطيعُ المَرءُ أن يُدرِكَ ويعِيَ به شيئًا مِن حقٍّ أو باطلٍ، إلَّا بإذنِ اللهِ تعالى، فقُلوبُكم بِيَدِ خالِقِكم سُبحانه، يُصَرِّفُها ويُقَلِّبُها كيف يشاءُ؛ يُصَرِّفُها مِن الهُدى إلى الضَّلالةِ، ومِن الضَّلالةِ إلى الهُدى، فإيَّاكم أن تردُّوا أمْرَ اللهِ حين يأتِيكم، أو تتثاقَلُوا وتتباطَؤُوا عن الاستجابةِ له، فلا تأمَنُوا حينَها أن يُحالَ بينَكم وبينَ قُلوبِكم، فلا تَقْدِروا على الاستجابةِ بعد ذلك إذا أردْتُموها .

كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110].

وقال سبحانه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .

وقال تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف: 101] .

وقد أثنَى الله عزَّ وجلَّ على عبادِه الراسخينَ في العلمِ بأنَّهم يقولونَ: آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7] إلى أن قال عنهم: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [آل عمران: 8] .

وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثِرُ أن يقولَ: يا مقلِّبَ القُلوبِ! ثبِّتْ قَلبي علَى دينِك، فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ! آمنَّا بك وبما جئتَ بهِ، فهل تخافُ علَينا؟! قال: نعَم؛ إنَّ القُلوبَ بين أُصبعَينِ من أصابعِ اللهِ، يقلِّبُها كيف يشاءُ )) .

وعن النوَّاسِ بنِ سمعانَ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((ما مِن قلبٍ إلَّا وهو بينَ أُصبعينِ مِن أصابعِ ربِّ العالمينَ، إن شاء أن يُقيمَه أقامه، وإن شاء أن يُزيغَه أزاغه. وكان يقولُ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلوبَنا على دينِك )) .

وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.

أي: واعلَمُوا- أيُّها المؤمنونَ- أيضًا مع العِلمِ بأنَّ اللهَ يَحولُ بينَ المرءِ وقَلْبِه، أنَّ إلى اللهِ تعالى مَصيرَكم ومَرجِعَكم يومَ القيامةِ، فتُجمَعون إليه وَحْدَه، فيُوفِّيكم جزاءَ أعمالِكم؛ إنْ خَيرًا فخيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ، فاحذروا مِن تَرْكِ الاستجابةِ لِرَسولِه إذا دعاكم لِما يُحيِيكم .

كما قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة: 203] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنعام: 72] .

وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه عقَّبَ التَّحريضَ على الاستجابةِ، المُستلزِمَ التَّحذيرَ مِن ضِدِّها، بتَحذيرِ المُستجيبينَ مِن إعراضِ المُعرِضينَ؛ لِيَعلَموا أنَّهم قد يلحَقُهم أذًى مِن جرَّاءِ فِعلِ غَيرِهم، إذا هم لم يُقَوِّمُوا عِوَجَ قَومِهم؛ كيلا يحسَبُوا أنَّ امتثالَهم كافٍ إذا عصى دَهْماؤُهم، فحَذَّرَهم فتنةً تَلحَقُهم، فتعُمُّ الظَّالمَ وغيرَه ، فقال:

وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً.

أي: احْذَروا- أيُّها المؤمنونَ- مِن بلاءٍ يأتيكم مِن اللهِ، لا يختَصُّ وقوعُه بمَن ظَلَم نَفسَه بارتكابِ المعاصي، بل يعُمُّ المسيءَ وغَيرَه، ممَّن يرى المُنكَر يُرتكَبُ، ولا ينهَى عنه، أو يُغيِّرُه مع قدرتِه على ذلك، فحينَ لا تُدفَعُ ولا تُرفَعُ تلك المعاصي الظَّاهرةُ بالنَّهيِ عنها، وقَمْعِ أهلِها، وعدَمِ تَمكينِهم منها، حينَها يعُمُّ اللهُ تعالى الجميعَ بعقابٍ يَحُلُّ بهم .

كما قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78-79] .

وعن زينبَ بنتِ جَحشٍ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((استيقَظَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن النَّومِ مُحمَرًّا وجهُه، يقول: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ويلٌ للعَرَبِ من شرٍّ قد اقتَرَب، فُتِحَ اليومَ من ردْمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه. وعقَدَ سُفيانُ تسعينَ أو مِئةً ، قيل: أنَهلِكُ وفينا الصَّالِحونَ؟ قال: نعم، إذا كثُرَ الخبَثُ ) .

وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَثَلُ القائمِ على حُدودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كمَثَلِ قومٍ استَهَمُوا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفَلَها، فَكانَ الَّذينَ في أسفَلِها إذا استَقَوا منَ الماءِ مرُّوا على مَن فَوقَهم، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصيبِنا خَرقًا ولم نُؤذِ مَن فَوْقَنا، فإن يترُكوهم وما أرادُوا هلَكوا جميعًا، وإن أخَذُوا على أيدِيهم نَجَوْا، ونَجَوْا جميعًا )) .

وعن قَيسِ بنِ أبي حازمٍ، قال: ((قال أبو بكرٍ، بعد أن حَمِدَ اللهَ، وأثنَى عليه: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّكم تَقرَؤونَ هذه الآيةَ، وتَضعونَها على غيرِ مَوضِعِها: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وإنَّا سَمِعْنا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: إنَّ النَّاسَ إذا رأَوُا الظَّالمَ فلَم يأخُذوا على يدَيْه؛ أوشَكَ أن يعُمَّهم اللهُ بعقابٍ )) .

وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

أي: واعلَمُوا- أيُّها المُؤمنونَ- أنَّ رَبَّكم شديدٌ عقابُه لِمَن تعرَّض لمساخطِه، وجانَب رِضاه، بِتَركِه امتثالَ أوامِرِه، واجتنابَ نواهِيه .

وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ سُبحانه قَولَه: أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وكان مِن أشَدِّ العِقابِ الإذلالُ؛ حَذَّرَهموه بالتَّذكيرِ بما كانوا فيه مِن الذُّلِّ .

وأيضًا لما أمر الله تعالى بالاستجابةِ له ولرسولِه؛ ذكَّر المُؤمنينَ بنعمتِه عليهم بالعِزَّةِ والنَّصرِ، بعد الضَّعفِ والقِلَّةِ والخَوفِ؛ لِيَذكُروا كيف يَسَّرَ اللهُ لهم أسبابَ النَّصرِ مِن غَيرِ مظانِّها، حتى أوصَلَهم إلى مُكافحةِ عَدُوِّهم، وأنْ يتَّقيَ أعداؤُهم بأسَهم، فكيف لا يستجيبونَ لله فيما بعدَ ذلك، وهم قد كَثُروا وعَزُّوا وانتصَرُوا ؟!

وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ.

أي: واذكُرُوا- أيُّها المؤمنونَ- حين كان عَدَدُكم قليلًا جدًّا، أثناءَ مُقامِكم بأرضِ مَكَّةَ، يراكم أعداؤُكم ضُعَفاءَ، ويَقْهَرونَكم، ويُؤذُونكم بسبَبِ إيمانِكم .

تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ.

أي: تَخافونَ أن يستَلِبَكم الكُفَّارُ ، فيأخُذوكم بسرعةٍ، واحدًا تِلوَ الآخَرِ، فيقتلوكم؛ إذ لم تكُنْ لديكم مَنَعةٌ بكثرةٍ ولا بِقُوَّةٍ .

فَآوَاكُمْ.

أي: فجعَلَ لكم بلدًا تَأوُونَ إليه مِنهم، وهي المدينةُ: دارُ الهِجرةِ .

وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ.

أي: وقوَّاكم وأعانَكم بأهلِ المَدينةِ؛ الأنصارِ، فتَمَكَّنتُم مِن الانتصارِ على أعدائِكم بِبَدرٍ وغَيرِها .

قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123] .

وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ.

أي: وأطعَمَكم الغنائِمَ حلالًا طيِّبًا، كما رزَقَكم غنائِمَ يومَ بَدرٍ .

كما قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا [الأنفال: 69] .

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

أي: تذكَّروا هذا الإنعامَ والإحسانَ التَّامَّ؛ لأجْلِ أن تَشكُروا المُنعِمَ سُبحانَه على ذلك، فتُطيعوه وتَعبُدوه وَحدَه؛ حيث كُنتُم قليلينَ فكَثَّركم، وأذلَّةً مُستضعَفينَ خائِفينَ، فأعَزَّكم وقوَّاكم ونَصَركم، وفُقراءَ عالةً فأغناكم ورَزَقَكم

 

.

قال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] .

وقال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل: 114] .

وقال سبحانه: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15] .

الفوائد التربوية:

 

1- حياةُ القَلبِ والرُّوحِ تكونُ بالعبوديَّةِ لله تعالى، ولُزومِ طاعَتِه وطاعةِ رَسولِه على الدَّوامِ، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، فقَولُه: إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وصفٌ مُلازِمٌ لكُلِّ ما دعا اللهُ ورَسولُه إليه، وبيانٌ لِفائِدَتِه وحِكمَتِه

.

2- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ الحياةُ النَّافعةُ إنَّما تحصُلُ بالاستجابةِ لِلَّهِ ورَسولِه، فمَن لم تحصُلْ له هذه الاستجابةُ، فلا حياةَ له، وإن كانت له حياةٌ بَهيميَّةٌ مُشتَركةٌ بينه وبين أرذَلِ الحيواناتِ؛ فالحياةُ الحقيقيَّةُ الطَّيبةُ هي حياةُ مَن استجابَ للهِ والرَّسولِ ظاهرًا وباطنًا، فهؤلاءِ هم الأحياءُ وإن ماتوا، وغيرُهم أمواتٌ وإن كانوا أحياءَ الأبدانِ؛ ولهذا كان أكمَلُ النَّاسِ حياةً أكمَلَهم استجابةً لِدَعوةِ الرَّسولِ، فإنْ كان ما دعا إليه فيه الحياةُ، فمَن فاتَه جُزءٌ منه فاتَه جزءٌ مِن الحياةِ، وفيه من الحياةِ بحَسَبِ ما استجابَ للرَّسولِ .

3- اللهُ تعالى هو القادِرُ على الحَيلولةِ بينَ الإنسانِ وبين ما يَشتَهيه قَلبُه؛ فهو بِيَدِه تعالى مَلكوتُ كُلِّ شَيءٍ وزِمامُه، قال اللهُ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وفي ذلك حَضٌّ على المُراقبةِ والخوفِ منه تعالى، والبِدارِ إلى الاستجابةِ له .

4- قولُ اللهِ تعالى: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: إلى اللهِ تعالى تُحشَرونَ لا إلى غَيرِه، فيُجازيكم بأعمالِكم، ولا تُترَكونَ مُهمَلينَ مُعَطَّلينَ، وفي ذلك ترغيبٌ شَديدٌ في العَملِ، وتحذيرٌ عن الكَسَلِ والغَفلةِ .

5- قوله: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ  قولُه: شَدِيدُ الْعِقَابِ فيه تحذيرٌ شديدٌ، وتخويفٌ لمن يُقصِّرُ في امتثالِ أمرِه، واجتنابِ نهيِه، فليس للمسلمِ أن يُقصِّر في الأمرِ بالمعروفِ، والنهيِ عن المنكرِ ما وجَد إلى ذلك سبيلًا .

6- في قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً دليلٌ على وجوب المراعاةِ، وأَخْذِ الحذرِ، والاحتراسِ مِن الفتنِ قبلَ وقوعِها .

7- النُّقلةُ مِن الشِّدَّةِ إلى الرَّخاءِ، ومِن البَلاءِ إلى النَّعماءِ والآلاءِ؛ تُوجِبُ الاشتغالَ بالشُّكرِ والطَّاعةِ؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

8- في قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ دليلٌ على وجوب تَذَكُّرِ النِّعَم؛ والفِكْرِ في حُسْنِ صنيعِ اللهِ .

9- في قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ دليلٌ على أنَّ تَذَكُّرَ النِّعَم يَستخرجُ الشكرَ مِن العبدِ؛ فإذا أغفلها أغفلَ الشُّكرَ معها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إعادةُ حَرفِ الجَرِّ بعد واو العَطفِ في قَولِه: وَلِلرَّسُولِ؛ للإشارةِ إلى استقلالِ المَجرورِ بالتَّعَلُّقِ بفِعلِ الاستجابةِ؛ تَنبيهًا على أنَّ استجابةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعَمُّ مِن استجابةِ اللهِ؛ لأنَّ الاستجابةَ لِلَّهِ لا تكونُ إلَّا بمعنى الطَّاعةِ، بخلافِ الاستجابةِ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّها بالمعنى الأعَمِّ- وهو استجابةُ نِدائه، والطَّاعةُ- فأُريدَ أمْرُهم بالاستجابةِ للرَّسولِ بالمعنَيَينِ كُلَّما صَدَرَت منه دعوةٌ تقتضي أحَدَهما

.

2- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ يقتضي الأمرَ بالامتثالِ لِما يَدعُو إليه الرَّسولُ، سواءٌ دعا حقيقةً بِطَلبِ القُدومِ، أم طَلَبَ عَملًا من الأعمالِ؛ فلذلك لم يكُن قَيدُ لِمَا يُحْيِيكُمْ مقصودًا لتقييدِ الدَّعوةِ بِبَعضِ الأحوالِ، بل هو قَيدٌ كاشِفٌ؛ فإنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَدعُوهم إلَّا وفي حُضُورِهم لديه حياةٌ لهم .

3- ليس قولُه: إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ قيدًا للأمرِ باستجابةٍ، ولكنَّه تنبيهٌ على أنَّ دعاءَه إيَّاهم لا يكونُ إلَّا إلى ما فيه خيرٌ لهم، وإحياءٌ لأنفسِهم ، وقيل: هو تنبيهٌ على وُجوبِ اتِّباعِ الرَّسولِ في كلِّ ما يدعو إليه، وحكمةُ الإتيانِ به: الإعلامُ بأنَّه ما ترك خيرًا إلَّا دعا إليه .

4- لمَّا كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعوهم لا محالةَ، لأنَّ الله تعالى أمَره بدعائِهم، وكان لا يَدْعوهم إلَّا إلى ما أمَره الله به، وكان سبحانَه لا يَدْعو إلَّا إلى صلاحٍ ورشدٍ؛ عبَّر بأداةِ التحقيقِ إِذَا ووحَّد الضميرَ دَعَاكُمْوشوَّق بإثمارِ الحياةِ لِمَا يُحْيِيكُمْ .

5- لَمَّا كان اجتِناءُ ثَمرةِ الطَّاعةِ في غايةِ القُربِ؛ نَبَّه على ذلك باللَّامِ دُونَ (إلى)، فقال: لِمَا يُحْيِيكُمْ .

6- في قولِه تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ لَمَّا كان وجودُ مُطلَقِ الاستضعافِ دالًّا على غايةِ الضَّعفِ؛ بنى للمَفعولِ قَولَه: مُسْتَضْعَفُونَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

- تكريرُ النِّداءِ مع وَصْفِهم بنَعتِ الإيمانِ؛ لِتَنشيطِهم إلى الإقبالِ على الامتثالِ بما يَرِدُ بَعدَه من الأوامِرِ، وتنبيهِهم على أنَّ فيهم ما يُوجِب ذلك

، أي: إنَّ الإيمانَ هو الذي يقتضي أن يَثِقُوا بعنايةِ اللهِ بهم، فيمتَثِلوا أمْرَه إذا دعاهم .

- ووحَّدَ الضَّميرَ في قَولِه: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ؛ لأنَّ الدُّعاءَ مِن فِعلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُباشرةً، ولأنَّ استجابةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كاستجابَتِه تعالى .

- والسِّينُ والتَّاءُ في اسْتَجِيبُوا للتَّأكيدِ .

2- قَولُه تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

- افتُتِحَت الجملةُ بـ (اعْلَمُوا)؛ للاهتمامِ بما تتضَمَّنُه، وحَثِّ المُخاطَبينَ على التأمُّلِ فيما بَعدَه .

- وفيه تعريضٌ غالبًا بغَفلةِ المُخاطَبِ عن أمرٍ مُهِمٍّ؛ فمِنَ المَعروفِ أنَّ المُخبِرَ أو الطَّالِبَ، ما يُريدُ إلَّا عِلمَ المُخاطَبِ، فالتَّصريحُ بالفِعلِ الدَّالِّ على طلَبِ العِلمِ مَقصودٌ للاهتمامِ .

- قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فيه تَصويرٌ لتَمَلُّكِه سُبحانَه على العَبدِ قَلبَه، بحيثُ يَفسَخُ عَزائِمَه، ويُغَيِّرُ نِيَّاتِه ومَقاصِدَه، ويَحولُ بينه وبينَ الكُفرِ إن أرادَ سَعادَتَه، ويُبَدِّلُه بالأمْنِ خَوفًا، وبالذِّكرِ نِسيانًا، وما أشبَهَ ذلك من الأمورِ المُعتَرِضة المُفَوِّتةِ للفُرصةِ. والمقصودُ مِن هذا تَحذيرُ المُؤمنينَ مِن كُلِّ خاطِرٍ يخطُرُ في النُّفوسِ: مِنَ التَّراخي في الاستجابةِ إلى دَعوةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتنصُّلِ منها، أو التسَتُّرِ في مُخالَفتِه، والحثُّ على المُبادرةِ بالامتثالِ، وعَدَمِ إرجاءِ ذلك إلى وَقتٍ آخرَ؛ خَشيةَ أن تعتَرِضَ المرءَ موانِعُ مِن تَنفيذِ عَزمِه على الطَّاعةِ .

- وقوله: يَحُولُ جيء به بصيغةِ المُضارعِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ ذلك يتجَدَّدُ ويستمِرُّ .

- قولُه: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تقديمُ مُتعَلِّقِ تُحْشَرُونَ عليه؛ لإفادةِ الاختصاصِ، أي: إليه لا إلى غَيرِه تُحشَرونَ، وهذا الاختصاصُ للكنايةِ عَن انعدامِ ملجأٍ أو مخبأٍ تلتجِؤونَ إليه مِن الحَشرِ إلى اللهِ؛ فكنَّى عن انتفاءِ المكانِ بانتفاءِ مَحشورٍ إليه غيرِ اللهِ، بأبدَعِ أُسلوبٍ .

3- قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

- جيءَ بالجُملةِ أَنْتُمْ قَلِيلٌ اسميَّةً؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ وَصفِ القِلَّةِ والاستضعافِ فيهم .

- وجملة: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ إدماجٌ بذِكرِ نِعمةِ تَوفيرِ الرِّزقِ في خلالِ المِنَّةِ بنِعمةِ النَّصرِ، وتوفيرِ العَدَدِ بعدَ الضَّعفِ والقِلَّةِ؛ فإنَّ الأمنَ ووَفرةَ العَددِ يَجلِبانَ سَعةَ الرِّزقِ .

===========

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (27-29)

ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ

غريب الكلمات:

 

فُرْقَانًا: أي: فَصلًا وفَرْقًا بَينَ الحَقِّ والباطِلِ، وأصلُه مِن الفَرْقِ، وهو الانفصالُ، والتَّمييزُ بين شَيئينِ

.

وَيُكَفِّرْ: أي: يَمحُ ويَستُرْ، ، وأصلُ (كفر) يدلُّ على السَّترِ والتَّغطيةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

نهَى اللهُ عبادَه المُؤمنينَ عَن خِيانةِ اللهِ ورَسولِه، وعن خيانةِ كُلِّ ما اؤتُمِنوا عليه، وهم يَعلمونَ بكَونِها أمانةً يجِبُ الوفاءُ بها.

ثمَّ أمَرَهم أن يَعلَموا أنَّ أموالَهم وأولادَهم ابتلاءٌ واختبارٌ مِن اللهِ تعالى لهم؛ لِينظُرَ هل يؤدُّونَ حقَّ اللهِ تعالى فيها، أم سوفَ تَحمِلُهم محبَّتُها على تقديمِ هَوى أنفُسِهم، وأمَرهم أن يَعلَموا أنَّ اللهَ عِندَه ثوابٌ عَظيمٌ لِمَن امتثَلَ أمْرَه.

وبيَّن لِعبادِه المؤمنينَ أنَّهم إن يتَّقوه بامتثالِ أمْرِه واجتنابِ نَهْيِه، فسيجعَلُ لهم علمًا، يُفَرِّقُون به بينَ الحقِّ والباطلِ، ومَخرجًا مِن كُروبِ الدُّنيا ونجاةً، ونصرًا وتأييدًا، وسيمحو عنهم ما تقدَّمَ مِن ذُنوبِهم، ويستُرُها، ويتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها، واللهُ ذو الفَضلِ العَظيمِ.

تفسير الآيات:

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ختَمَ الله تعالى الآيةَ السَّابِقةَ بما هو في غايةِ النَّصيحةِ مِنه تعالى لهم؛ من الإيواءِ والنَّصرِ، والرِّزقِ الطَّيِّبِ المُشارِ به إلى الامتنانِ بإحلالِ المَغنَمِ، وختم ذلك بالحَثِّ على الشُّكرِ؛ نهى عن تضييعِ الشُّكرِ في ذلك بالخيانةِ في أوامِرِه بالغُلولِ أو غَيرِه

.

وأيضًا بعدَ أنْ أمَرَ اللهُ تعالى المُؤمنينَ بالطَّاعةِ والاستجابةِ للَّه ولِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حَذَّرَهم من أن يُظهِروا الطَّاعةَ والاستجابةَ في ظاهِرِ أمْرِهم، ويُبطِنوا المَعصيةَ والخِلافَ في باطِنِه، فقال تعالى :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ.

أي: يا أيُّها المُؤمِنون لا تَنْقُصُوا ما ينبغي عليكم حِفظُه وأداؤُه تامًّا مِن حُقوقِ اللهِ تعالى عليكم، وذلك بِتَركِ فرائِضِه، وانتهاكِ حُرُماتِه، ولا تنقُصُوا حقوقَ رَسولِه بِتَركِ طاعَتِه واتِّباعِه ، ولكِنْ أطيعُوا الله ورسولَه بامتثالِ الأمرِ، واجتنابِ النهيِ، دونَ تقصيرٍ في ذلك .

عن عليِّ بن أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((بَعثَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبا مَرثَدٍ الغنَويَّ والزُّبيرَ بنَ العوَّامِ، وكلُّنا فارِسٌ، قال: انطلِقوا حتى تأتُوا روضةَ خاخٍ؛ فإنَّ بها امرأةً مِن المُشرِكينَ، معها كتابٌ مِن حاطبِ ابنِ أبي بلتَعةَ إلى المُشرِكينَ، فأدرَكْناها تسيرُ على بَعيرٍ لها، حيثُ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلْنا: الكتابَ، فقالتْ: ما مَعَنا كتابٌ، فأنَخْناها، فالتَمَسْنا فلم نَرَ كِتابًا، فقُلْنا: ما كذَبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لتُخرِجِنَّ الكتابَ أو لنُجَرِّدنَّكِ، فلما رأتِ الجِدَّ أهوتْ إلى حُجْزَتِها ، وهي مُحتَجِزةٌ بكِساءٍ، فأخرَجَتْه، فانطلَقْنا بها إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال عمرُ: يا رسولَ اللهِ، قد خان اللهَ ورسولَه والمؤمنينَ، فدعْني فلْأَضرِبْ عُنقَه. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما حمَلَك على ما صنعْتَ؟ قال حاطِبٌ: واللهِ ما بي ألَّا أكونَ مُؤمِنًا باللهِ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أردتُ أن يكونَ لي عند القومِ يدٌ، يدفَعُ اللهُ بها عن أهلي ومالي، وليسَ أحدٌ مِن أصحابِك إلَّا له هناك مِن عَشيرَتِه مَن يَدفَعُ اللهُ به عن أهلِه ومالِه. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صدَقَ، ولا تقولوا له إلَّا خَيرًا. فقال عمرُ: إنَّه قد خان اللهَ ورسولَه والمؤمنينَ، فدعْني فلْأضرِبْ عُنقَه. فقال: أليسَ مِن أهلِ بَدْرٍ؟ فقال: لعلَّ اللهَ اطَّلَعَ إلى أهلِ بدرٍ، فقال: اعمَلُوا ما شئتُم؛ فقد وجَبَتْ لكم الجنَّةُ، أو فقد غَفَرْتُ لكم. فدمَعَت عينَا عُمرَ، وقال: اللهُ ورسولُه أعلمُ )) .

وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ.

أي: ولا تخونوا ما اؤتُمِنتُم عليه .

قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72].

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58] .

وقال سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8] .

وقال تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة: 283] .

وعن حذيفة رضي الله عنه، قال: ((حدَّثَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حديثَينِ، رأيتُ أحدَهما، وأنا أنتظِرُ الآخَرَ: حدَّثَنا: أنَّ الأمانةَ نزَلَتْ في جَذرِ قلوبِ الرجالِ، ثم علِموا منَ القرآنِ، ثم علِموا منَ السُّنَّةِ. وحدَّثَنا عن رفعِها قال: ينامُ الرجلُ النومةَ فتُقبَضُ الأمانةُ من قلبِه، فيظَلُّ أثرُها مثلَ أثرِ الوَكتِ ، ثم ينامُ النومةَ فتُقبَضُ فيَبقى فيها أثرُها مثلَ أثرِ المَجْلِ ، كجمرٍ دحرَجتَه على رِجلِك فنفِط ، فتَراه مُنتَبِرًا ، وليس فيه شيءٌ، ويُصبِحُ الناسُ يتَبايَعونَ، فلا يَكادُ أحدٌ يؤدِّي الأمانةَ، فيُقالُ: إنَّ في بني فلانٍ رجلًا أمينًا، ويُقالُ للرجلِ: ما أعقَلَه! وما أظرَفَه! وما أجلَدَه! وما في قلبِه مِثقالُ حبةِ خَردَلٍ من إيمانٍ، ولقد أتى عليَّ زمانٌ، ولا أُبالي أيُّكم بايَعتُ، لئن كان مسلمًا ردَّه عليَّ الإسلامُ، وإن كان نصرانيًّا ردَّه عليَّ ساعيه، وأما اليومَ: فما كنتُ أُبايِعُ إلا فلانًا وفلانًا )) .

وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مِن علاماتِ المنافقِ ثلاثةٌ: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخْلَف، وإذا ائتُمنَ خانَ )) .

وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ.

أي: والحالُ أنَّكم تعلمونَ عِلمًا لا لَبْسَ فيه أنَّها أماناتٌ يجِبُ الوفاءُ بها، وعَدَمُ تَعمُّدِ التَّفريطِ فيها، وتعلمونَ مَفاسِدَ خِيانَتِها، وقُبْحَ ذلك .

وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان الدَّاعي إلى الإقدامِ على الخِيانةِ هو حُبَّ الأموالِ والأولادِ؛ نبَّهَ تعالى على أنَّه يجِبُ على العاقِلِ أن يَحتَرِزَ عن المضارِّ المُتولِّدةِ من ذلك الحُبِّ، فقال تعالى :

وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ.

أي: واعلَمُوا- أيُّها المُؤمِنونَ- أنَّ أموالَكم التي رزَقَكم اللهُ تعالى إيَّاها، وأولادَكم الذين وهَبَهم اللهُ لكم- اختبارٌ يَبتليكم اللَّهُ به؛ لِينظُرَ هل تؤدُّونَ حَقَّ اللهِ عليكم فيها: بامتثالِ أمْرِه واجتنابِ نَهْيِه فيها، وهل تَشْكُرونَه عليها، أم تَحمِلُكم محبَّةُ ذلك على تقديمِ هَوى أنفُسِكم على أداءِ ما ائتَمَنكم عليه، وتَشتغِلون بها عنه سبحانَه .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن: 14-16] .

وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

أي: واعلَموا أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عِندَه ثوابٌ عظيمٌ، وهو خيرٌ لكم من الأموالِ والأولادِ؛ فآثِرُوا فَضْلَه العظيمَ الباقيَ، على لذَّةٍ صَغيرةٍ فانيةٍ مُضمحِلَّةٍ .

يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه تعالى لَمَّا حذَّرَ عن الفِتنةِ بالأموالِ والأولادِ؛ رغَّبَ في التَّقوى التي تُوجِبُ تَركَ المَيلِ والهَوى في محبَّةِ الأموالِ والأولادِ ، فقال:

يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً.

أي: يا أيُّها المؤمنونَ، إن تتَّقوا اللهَ بامتثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نَواهِيه، وترْكِ خيانَتِه، وخيانةِ رَسولِه، وخيانةِ أماناتِكم؛ يجعَلْ لكم علمًا، تُفَرِّقُون به بينَ الحقِّ والباطلِ، ومَخرجًا لكم مِن كُروبِ الدُّنيا ونجاةً، ونصرًا وتأييدًا .

قال الله سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 2] .

وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ.

أي: ويمحُ عَنكم ما تقَدَّمَ مِن ذُنوبِكم .

وَيَغْفِرْ لَكُمْ .

أي: ويستُرْ ذُنوبَكم عن النَّاسِ، ويتجاوَزْ عن مؤاخَذتِكم بها .

وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

أي: واللهُ- الذي يمنَحُكم كلَّ هذه الهِباتِ والمَكرُماتِ- صاحِبُ الأجرِ العَظيمِ، والثَّوابِ الجزيلِ لِمَن اتَّقاه، وله- وحدَه- الفَضلُ العظيمُ عليكم، وعلى غَيرِكم مِن خَلْقِه، فاكتفوا بطلبِه منه دونَ غيرِه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ خِطابٌ لجميعِ المؤمنينَ إلى يومِ القيامةِ، وهو يجمعُ أنواعَ الخياناتِ كلِّها؛ قليلَها وكثيرَها

.

2- سعاداتُ الآخرةِ خَيرٌ مِن سعاداتِ الدُّنيا؛ فهي أعظَمُ في الشَّرفِ، وأعظَمُ في الفَوزِ، وأعظَمُ في المدَّةِ؛ لأنَّها تبقَى بقاءً لا نهايةَ له؛ يُبَيِّن ذلك قولُ الله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ بعد أنْ ذَكرَ الأموالَ والأولادَ .

3- امتثالُ العبدِ لِتقوى ربِّه، عُنوانُ السَّعادةِ، وعلامةُ الفلاحِ؛ فقد رتَّب اللهُ على التَّقوى مِن خيرِ الدُّنيا والآخرةِ شَيئًا كثيرًا؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ اللهِ تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيه أنَّ ما خَفِيَ حُكمُه، فالجَهلُ له عُذرٌ؛ إذا لم يكُن ممَّا عُلِمَ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، أو ممَّا يُعلم ببداهةِ العَقلِ، أو استفتاءِ القَلبِ

.

2- قولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ جُعِلَ نَفسُ الأموالِ والأولادِ فتنةً؛ لكثرةِ حُدوثِ فِتنةِ المَرءِ مِن جرَّاءِ أحوالِهما، مبالغةً في التَّحذيرِ مِن تلك الأحوالِ وما ينشَأُ عنها، فكأنَّ وُجودَ الأموالِ والأولادِ نفسُ الفِتنةِ .

3- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا فيه بيانُ ارتباطِ الخيرِ والشَّرِّ بالعَملِ؛ فقد رتَّبَ اللهُ سُبحانَه حُصولَ الخَيراتِ في الدُّنيا والآخرةِ، وحصولَ السُّرورِ في الدُّنيا والآخرةِ في كتابِه، على الأعمالِ، ترتُّبَ الجزاءِ على الشَّرطِ، والمعلولِ على العِلَّة، والمسبَّبِ على السَّبَبِ .

4- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا تنكيرُ الفُرقانِ؛ للتَّنويعِ التَّابِعِ لأنواع التقوى: كالفَتْنِ في السِّياسةِ والرِّياسةِ، والحَلالِ والحرامِ، والعَدلِ والظُّلمِ؛ فكلُّ مُتَّقٍ للهِ في شيءٍ، يؤتيه فرقانًا فيه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

- استئنافُ خِطابٍ للمُؤمنينَ يُحذِّرُهم مِن العِصيانِ الخفيِّ

.

- قَولُه: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ فيه عُدولٌ عن ذكرِ المَفعولِ الأصليِّ، إلى ذِكرِ المفعولِ المتَّسَعِ فيه؛ لِقَصدِ تَبشيعِ الخيانةِ بأنَّها نَقضٌ للأمانةِ؛ فإنَّ الأمانةَ وَصفٌ مَحمودٌ مَشهورٌ بالحُسنِ بين النَّاسِ، فما يكونُ نقضًا له يكونُ قَبيحًا فظيعًا؛ ولأجلِ هذا لم يَقُلْ: (وتخونُوا النَّاسَ في أماناتِهم) فهذا حذفٌ مِن الإيجازِ .

- وقوله: وَتَخُونُوا عطفٌ على قَولِه: لَا تَخُونُوا فهو في حَيِّزِ النَّهيِ، والتَّقديرُ: (ولا تَخونوا أماناتِكم) وأُعيدَ فِعلُ (تَخونُوا) ولم يُكتَفَ بحَرفِ العَطفِ الصَّالِحِ للنِّيابةِ عَن العامِلِ في المعطوفِ؛ للتَّنبيهِ على نوعٍ آخَرَ مِن الخيانةِ؛ فإنَّ خيانَتَهم اللهَ ورَسولَه نقضُ الوفاءِ لهما بالطَّاعةِ والامتثالِ، وخيانةَ الأمانةِ نقضُ الوفاءِ بأداءِ ما اؤتُمِنوا عليه .

- وجملة وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ في موضِعِ الحالِ مِن ضميرِ تخونوا، وهي حالٌ كاشِفةٌ، والمقصودُ منها تشديدُ النَّهيِ، أو تشنيعُ المنهِيِّ عنه؛ لأنَّ النَّهيَ عن القَبيحِ في حالِ مَعرفةِ المنهيِّ أنَّه قبيحٌ، يكونُ أشَدَّ، ولأنَّ القبيحَ في حالِ عِلم ِفاعِلِه بقُبحِه، يكونُ أشنَعَ، وليس المُرادُ تقييدَ النَّهيِ عن الخيانةِ بحالةِ العِلمِ بها؛ لأنَّ ذلك قليلُ الجدوى، فإنَّ كلَّ تكليفٍ مَشروطٌ بالعِلمِ، وكونُ الخيانةِ قَبيحةً أمرٌ مَعلومٌ .

2- قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

- جيءَ في الإخبارِ عن كَونِ الأموالِ والأولادِ فِتنةً بطريقِ القَصرِ قَصرًا ادعائيًّا؛ لِقَصدِ المبالغةِ في إثباتِ أنَّهم فِتنةٌ .

- وقَدَّمَ الأموالَ؛ لأنَّها مَظِنَّةُ الحَملِ على الخيانةِ في هذا المقامِ، وعُطِفَ الأولادُ على الأموالِ؛ لاستيفاءِ أقوى دواعي الخِيانةِ؛ فإنَّ غَرَض جمهورِ النَّاسِ في جَمعِ الأموالِ أن يَترُكوها لأبنائِهم مِن بَعدِهم .

3- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فيه تكريرُ الخطابِ والوَصفِ بالإيمانِ؛ لإظهارِ كمالِ العنايةِ بما بَعدَه، والإيذانِ بأنَّه مما يقتضي الإيمانُ مُراعاتَه والمُحافظةَ عليه .

- وفعلُ الشَّرطِ تَتَّقُوا مرادٌ به الدَّوامُ؛ فإنَّهم كانوا مُتَّقينَ، ولكنَّهم لَمَّا حُذِّروا مِن المخالفةِ والخيانةِ، ناسبَ أن تُفرَضَ لهم الطَّاعةُ في مُقابِلِ ذلك .

- واختيارُ (الفُرقان) في قَولِه: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا هنا؛ لقَصدِ شُمولِه ما يصلُحُ لِلمقامِ مِن معانِيه، لأنَّه اللَّفظُ الذي لا يؤدِّي غيرُه مُؤدَّاه في هذا الغَرَضِ، وذلك من تمامِ الفَصاحةِ .

- وقوله: لكم يُشعِرُ أنَّ الفُرقانَ شَيءٌ نافِعٌ لهم، فالظَّاهِرُ أنَّ المُرادَ منه كلُّ ما فيه مَخرجٌ لهم ونجاةٌ مِن الْتباسِ الأحوالِ، وارتِباكِ الأمورِ، وانبِهامِ المقاصد، فيَؤُولُ إلى استقامةِ أحوالِ الحياةِ .

- قولُه: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تذييلٌ وتكميلٌ، وهو كنايةٌ عن حصولِ منافِعَ أخرى لهم مِن جرَّاءِ التَّقوى .

========

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (30-35)

ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ

غريب الكلمات:

 

يَمْكُرُ: المَكْرُ: صرفُ الغيرِ عمَّا يقصدُه بحيلةٍ، وأصلُ المكرُ: الاحتيالُ والخداعُ

.

لِيُثْبِتُوكَ: أي: لِيَحبِسوك ويَسجِنوك. وأصلُ (ثبت) يدلُّ على دوامِ الشَّيءِ .

أَسَاطِيرُ: أي: أباطيلُ وتُرَّهات؛ جمعُ أُسطورةٍ، وهي: ما سُطِرَ مِن أخبارِ الأوَّلينَ وكَذِبِهم .

أَوْلِيَاءَهُ: الأولياءُ جمعُ وليٍّ، وأصلُ (ولي): يدلُّ على القُرْب، سواء مِن حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةِ، أو الدِّينِ، أو الصَّداقةِ، أو النُّصرةِ، أو الاعتقادِ، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه .

مُكَاءً: أي: صَفيرًا، وأصلُ (مكا) يدلُّ على شَيءٍ مِن الأصواتِ .

وَتَصْدِيَةً: أي: تصفيقًا، وهو أن يضْربَ بإحدَى يَدَيْه على الأُخرَى، فيخرجَ بينهمَا صَوتٌ، وقيل للتَّصفيقِ: تَصِديةٌ؛ لأنَّ اليدَينِ تَتصافقانِ، فيُقابِلُ صَفْقُ هذه صَفْقَ الأُخرى، وصَدُّ هذه صَدَّ الأُخرَى، وهما وَجْهاها

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين تمالأَ عليك كُفَّارُ قُريشٍ؛ لِيَسجُنوك أو يَقتُلوك أو يُخرِجوك مِن مكَّة، ويكيدونَ بك في خفاءٍ، ويكيدُ اللهِ بهم، فأنقَذَك اللهُ منهم وأهلَكَهم، واللهُ خيرُ مَن يُجازي بالسيئةِ العُقوبةَ، فيمكُرُ بمن كفَرَ به وعصاه، فيجازيهم بما يستحقُّونَه.

وإذا تُتلَى على هؤلاءِ الكُفَّارِ مِن قُريشٍ آياتُ القُرآنِ، قالوا: قد سَمِعْناها، ولو نَشاءُ لَقُلنا مِثلَ هذا، ما هذا القُرآنُ إلَّا أكاذيبُ سَطَرَها الأقدَمونَ مِن الأُمَمِ الماضيةِ.

واذكُر- يا مُحمَّدُ- حين قال كُفَّارُ قُريشٍ: اللهُمَّ، إن كان ما يقولُه مُحمَّدٌ حَقًّا، فأنزِلْ علينا مِن السَّماءِ حِجارةً مُتتابِعةً، أو عَذِّبْنا في الدُّنيا بعذابٍ مُوجِعٍ.

وما كان اللهُ لِيُعذِّبَهم وأنت فيهم- يا محمَّدُ- وما كان اللهُ مُعَذِّبَهم لو أنَّهم كانوا يَستغفرونَ اللهَ مِن كُفرِهم وذُنوبِهم، لكِنَّهم لا يفعلونَ، وما يمنَعُ أولئك الكُفَّارَ مِن أن يُعَذِّبَهم اللهُ وهم يمنَعونَ المُسلمينَ مِن الوُصولِ إلى المَسجدِ الحَرامِ، وما كانوا أولياءَ هذا المسجدِ الحرام، فأولياؤُه هم المُتَّقونَ، ولكِنَّ أكثَرَهم لا يَعلمونَ.

ثم أخبَرَ تعالى أنَّه ما كان صلاةُ كُفَّارِ قُريشٍ عند البَيتِ إلَّا صَفيرًا وتَصفيقًا، ثمَّ وجَّهَ الله تعالى الخِطابَ إلى كفَّارِ قُريشٍ قائلًا: فذُوقوا ألمَ العَذابِ بِسَببِ كُفرِكم.

تفسير الآيات:

 

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَّرَ اللهُ تعالى المؤمنينَ نِعَمَه عليهم بِقَولِه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ؛ فكذلك هنا: ذكَّرَ رسولَه نِعَمَه عليه، وهو دَفعُ كَيدِ المُشرِكينَ، ومَكرِ الماكرينَ عنه

.

وأيضًا لَمَّا وعَدَ سُبحانَه في الآيةِ السَّابقةِ المُؤمنينَ بالفَضلِ العظيمِ، ذكَّرَهم من أحوالِ داعِيهم وقائِدِهم وهادِيهم- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بما يدعوهم إلى مُلازمةِ أسبابِه في سياقِ المُخاطَبةِ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تذكيرًا بنِعمَتِه، وإشارةً إلى دوامِ نُصرَتِه ، فقال تعالى:

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ.

أي: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- نِعمَتي عليك حين كان كفَّارُ قُريشٍ يَكيدونَ لك، ويتآمَرونَ عليك في الخفاءِ؛ ليُقيِّدوك ويَسجِنوك، أو يَقتلُوك، أو يُخرِجوك مِن مكَّةَ .

قال تعالى: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ [التوبة: 13] .

وقال سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد: 13] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة: 40] .

وقال سبحانه: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 76] .

وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 13] .

وقال سبحانه: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف: 88] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل: 56] .

وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ.

أي: ويكيدُ بك كفَّارُ مكَّةَ في الخفاءِ، ويكيدُ اللهُ بهم أيضًا مِن حيثُ لا يَشعرونَ، فاسْتَنْقَذ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم منهم، وأهلَكهم .

وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.

أي: واللهُ تعالى هو أفضَلُ مَن يُجازي بالسَّيئةِ العُقوبةَ، فيمكُرُ بمن كفَرَ به وعصاه، فيُجازيهم بما يستحقُّونَه، ولا أحدَ أقدرُ على ذلك مِنه .

كما قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق: 15-16] .

وقال عزَّ وجلَّ عن اليهودِ الذين أرادوا المكرَ بنبيِّه عيسَى عليه السلامُ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران: 54-55] .

وقال سبحانه: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 42] .

وقال تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46] .

وبيَّن بعضَ مكرِ قومِ صالحٍ، بقوله: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل: 50-53] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام: 123] .

وقال تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] .

وقال سبحانه: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر: 10] .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا حكى اللهُ تعالى مَكْرَ المُشركينَ في ذاتِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حكى مَكْرَهم في دِينِه ، فقال:

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا.

أي: وإذا تُتلَى على هؤلاءِ الكُفَّارِ مِن قُريشٍ آياتُ كِتابِنا، قالوا قولًا يَغُرُّونَ به أنفُسَهم، ومَن اتَّبَعَهم على باطِلِهم؛ تمرُّدًا وعِنادًا منهم للحَقِّ، قالوا: قد سَمِعْناها، ولو نشاءُ لَقُلْنا مثلَ هذا الذي تُلِيَ علينا .

كما قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 21 - 23] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: 93] .

إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ.

أي: يقولُ الكفَّارُ إذا سَمِعوا القُرآنَ: ما هذا القرآنُ إلَّا أكاذيبُ، سَطَرَها الأقدمونَ مِن الأُمَم الماضيةِ في كُتُبِهم .

كما قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: 25] .

وقال سبحانه: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] .

وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32).

أي: واذكُر- يا مُحمَّدُ- حين قال كُفَّارُ قُريشٍ : اللَّهمَّ، إن كان ما يقولُه مُحمَّدٌ حَقًّا، مُنزَّلًا مِن عِندِك؛ فأنزِلْ علينا مِن السَّماءِ حِجارةً مُتتابعةً كما ينزِلُ المَطَرُ، أو عَذِّبْنا في الدُّنيا بعذابٍ مُؤلمٍ مُوجِعٍ .

كما قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [العنكبوت: 53] .

وقال سبحانه: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص: 16] .

وقال عزَّ وجلَّ: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ [المعارج: 1-3] .

وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (قال أبو جهلٍ: اللهُمَّ، إن كانَ هذا هو الحَقَّ مِن عِندِك؛ فأمطِرْ علينا حجارةً مِن السَّماءِ، أو ائتِنا بعذابٍ أليمٍ، فنزَلَت: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... الآية) .

وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33).

وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ.

أي: وما كان اللهُ لِيُعذِّبَ كفَّارَ قُريشٍ، وأنت مُقيمٌ بين أظهُرِهم- يا محمَّدُ؛ لأنِّي لا أُهلِكُ أهْلَ بلدةٍ وفيها نبيُّهم، حتى يَخرُجَ منها .

وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.

أي: وما كان اللهُ مُعذِّبَ أولئك الكُفَّارِ لو أنَّهم كانوا يستغفرونَ اللهَ مِن كُفرِهم وذُنوبِهم، لكنَّهم لا يَفعلونَ، وهم على ضَلالِهم مُصِرُّونَ، فهُم للعذابِ مُستحِقُّونَ .

وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

هذه الآيةُ عَطفٌ على قَولِه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وهو ارتقاءٌ في بيانِ أنَّهم أحِقَّاءُ بتعذيبِ اللهِ إيَّاهم؛ بيانًا بالصَّراحةِ .

وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

أي: أيُّ شَيءٍ يمنَعُ أولئكَ المُشركينَ مِن أن يُعَذِّبهم اللهُ تعالى، والحالُ أنَّهم فعلوا ما يُوجِبُ عذابَهم، وهو مَنعُهم المسلمينَ من الوصولِ إلى المسجِدِ الحرامِ للصَّلاةِ فيه، والطَّوافِ، والعبادةِ ؟!

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] .

وقال سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 114] .

وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ.

أي: وما كان كفَّارُ قُريشٍ أولياءَ المسجدِ الحرامِ، ولا أهلَه .

كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة: 17] .

وقال سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 217] .

إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ.

أي: ما أولياءُ هذا البيتِ في الحقيقةِ إلَّا المؤمنونَ بالله، المُتَّقونَ للشركِ والمعاصي .

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ مُشركي قُريشٍ لا يَعلمونَ أنَّ ولايةَ بيتِ الله لمَن هو مطيعٌ لله، لا مَن هو عاصٍ له، فلذلك ادَّعَوْا لأنفسِهم أمرًا، غيرُهم أولَى به .

وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قال اللهُ تعالى في حَقِّ الكفَّارِ: إنَّهم ما كانوا أولياءَ البَيتِ الحرامِ، وقال: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ- بيَّنَ بعده ما به خَرَجوا من أن يكونُوا أولياءَ البَيتِ، وهو أنَّ صَلاتَهم عند البَيتِ، وتَقرُّبَهم وعبادَتَهم إنَّما كان بالمُكاءِ والتَّصديةِ ، فقال:

وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً.

أي: وما كان صلاةُ كفَّارِ قُريشٍ عند الكعبةِ إلَّا صفيرًا وتَصفيقًا .

فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ.

أي: قال اللهُ تعالى لِمُشركي قُريشٍ: فاطْعَموا ألمَ العَذابِ بسبَبِ كُفرِكم

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الاستغفارَ أمانٌ وسلامةٌ مِن العذابِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، ولم يَقُلْ: (ويَمكُرونَ بك)؛ لِيُبيِّنَ حالَتَهم العامَّةَ الدَّائمةَ في مُعامَلتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو ومَن اتَّبَعه مِن المُؤمنينَ، أي: وهكذا دأْبُهم معك، ومع مَن اتَّبَعك مِن المُؤمِنينَ؛ يمكرونَ بكم، ويمكُرُ اللهُ لكم بهم، كما فَعَلَ مِن قبلُ إذ أحبَطَ مَكْرَهم، وأخرجَ رَسولَه مِن بَينِهم إلى حيثُ مَهَّدَ له في دارِ الهِجرةِ، ووطَنِ السُّلطانِ والقُوَّةِ

.

2- قَولُه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّ لكُفَّارِ مكَّةَ أمانَينِ، يدفَعُ اللهُ عنهم العذابَ بِسَببِهما:

أحدُهما: كونُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيهم.

والثاني: استِغفارُهم اللهَ، لكِنَّ قَولَه تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يدلُّ على خلافِ ذلك، والجوابُ عن ذلك مِن عِدَّةِ أوجُهٍ؛ أظهَرُها وجهانِ:

الأول: أنَّ الأمانينِ مُنتَفيانِ؛ فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خرَجَ مِن بينِ أظهُرِهم مُهاجِرًا، واستِغفارُهم مَعدومٌ؛ لإصرارِهم على الكُفرِ، وبعد انتفاءِ الأمرَينِ عَذَّبَهم بالقَتلِ والأسْرِ يومَ بدرٍ، كما يُشيرُ إليه قَولُه تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ [السجدة: 21].

الثاني: أنَّ المُرادَ بِقَولِه: يَسْتَغْفِرُونَ استغفارُ المُؤمِنينَ المُستضعَفينَ بمكَّةَ، وعليه فالمعنى أنَّه بعد خُروجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان استغفارُ المؤمنينَ سَببًا لِرَفعِ العَذابِ الدُّنيويِّ عن الكُفَّارِ المُستَعجِلينَ للعذابِ بِقَولِهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ... الآية، وعلى هذا القَولِ فقد أسنَدَ الاستغفارَ إلى مجموعِ أهلِ مَكَّةَ، الصَّادِقَ بخُصوصِ المؤمنينَ منهم .

3- اتِّخاذُ التَّصفيقِ والغِناءِ والمزاميرِ قربةً وطاعةً وطريقًا إلى اللهِ، هذا مِن جِنسِ دِينِ المُشركينَ الذين قال اللهُ فيهم: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً والمُكاءُ: هو التَّصويتُ بالفَمِ، كالصَّفيرِ والغِناءِ، والتَّصديةُ: التَّصفيقُ باليَدِ، فذمَّ اللهُ هؤلاءِ المُشركينَ الذين يجعلونَ هذا قائمًا مقامَ الصَّلاةِ ، فالتَّصفيق والتَّصفير ليسا من العبادةِ في شَيءٍ، وبه يُعلَمُ أنَّ ما يفعَلُه كثيرٌ مِن الجَهَلةِ المُدَّعينَ للتَّصوُّفِ كَذِبًا؛ مِن الرَّقصِ والتَّصفيقِ والصُّراخِ، زاعمينَ أنَّه عِبادةٌ- أنَّ ذلك مِن الخِذلانِ، وتَلبيسِ الشَّيطانِ، وأنَّ ذلك لا يكونُ عبادةً أبدًا، بل أوَّلُ مَن رَقَص وصَفَّقَ في شيءٍ يَظُنُّه عبادةً، هم عَبَدةُ العِجلِ، وكان ذلك مِن أفعالِ الكُفَّارِ؛ فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلم وأصحابُه كانوا في مجالِسِهم كأنَّما على رُؤُوسِهم الطَّيرُ، فالذينَ يُصَفِّقونَ ويَضربونَ بالمَعازِفِ، ويزعمونَ أنَّ هذا دِينٌ وأحوالٌ ووِجْدان؛ هم في غُرورٍ مِن الشَّيطان، فلا ينبغي أن يُغتَرَّ بهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ

- أُسنِدَ المَكرُ إلى جميعِ الكافرينَ- وإن كان الذينَ تَوَلَّوا المكرَ هُم سادةَ المُشرِكينَ وكُبَراءَهم- لأنَّ البَقيَّةَ كانوا أتباعًا للزُّعَماءِ؛ يأتَمِرونَ بأمْرِهم

.

- والإتيانُ بالمُضارِعِ يَمْكُرُ في مَوضِعِ الماضي، الذي هو الغالِبُ مع إِذْ؛ لاستحضارِ الحالةِ التي دبَّرُوا فيها المَكرَ .

- والتَّعبيرُ بالمضارعِ في لِيُثْبِتُوكَ، ويَقْتُلُوكَ، ويُخْرِجُوكَ؛ لأنَّ تلك الأفعالَ مُستقبَلةٌ بالنِّسبةِ لفِعلِ المَكرِ؛ إذْ غايةُ مَكرِهم تحصيلُ واحدٍ مِن هذه الأفعالِ .

2- قَولُه تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ

- دُعاؤُهم على أنفُسِهم كنايةٌ منهم عَن كَونِ القُرآنِ ليسَ كما يُوصَفُ به؛ للتَّلازُمِ بين الدُّعاءِ على أنفُسِهم، وبين الجَزمِ بانتفاءِ ما جَعَلوه سبَبَ الدُّعاءِ، بحسَبِ عُرفِ كَلامِهم واعتقادِهم، والمرادُ منه التهَكُّم، وإظهارُ اليَقينِ والجزمُ التَّامُّ على كونِه باطلًا .

- وتَعليقُ الشَّرطِ بحَرفِ (إِنْ) في إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ لأنَّ الأصلَ فيها عدَمُ اليَقينِ بوقوعِ الشَّرطِ؛ فهم غَيرُ جازمينَ بأنَّ القُرآنَ حَقٌّ، ومُنَزَّلٌ مِن اللهِ، بل هم موقنونَ بأنَّه غيرُ حَقٍّ، واليقينُ بأنَّه غيرُ حَقٍّ أخَصُّ مِن عَدمِ اليَقينِ بأنَّه حَقٌّ .

- والضميرُ (هو) ضميرُ فَصلٍ؛ فهو يقتضي تقَوِّي الخبَرِ، أي: إن كان هذا حقًّا، ومِن عِندِك بلا شَكٍّ .

- وتعريفُ المُسنَدالْحَقَّ بلامِ الجِنسِ، يقتَضي الحَصرَ، فاجتمَعَ في التركيبِ تقَوٍّ وحصرٌ .

- وقَولُهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ذَكَروا عذابًا خاصًّا وهو مَطرُ الحِجارةِ، ثم عَمَّموا فقالوا: أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ويريدونَ بذلك كُلِّه عذابَ الدُّنيا؛ لأنَّهم لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ .

- وتَقييدُه بِقَولِه: مِنَ السَّمَاءِ مع أنَّ الإمطارَ لا يكونُ إلَّا منها؛ لإزالةِ وَهمِ مَن يتوهَّمُ أنَّ الإمطارَ مَجازٌ عن مُطلَقِ الرَّجمِ، وأنَّه إنَّما ذُكِرَ لِبَيانِ أنَّ الحِجارةَ المَرجومَ بها في الكثرةِ، مِثلُ المَطَرِ ، وقيل غير ذلك .

- ووصفوا العذابَ بالأليمِ؛ زيادةً في تحقيقِ يَقينِهم بأنَّ المَحلوفَ عليه بهذا الدُّعاءِ ليس مُنَزَّلًا من عندِ الله؛ فلذلك عَرَّضُوا أنفُسَهم لخَطَرٍ عظيمٍ، على تقديرِ أن يكونَ القُرآنُ حَقًّا، ومُنزَّلًا مِن عندِ الله .

3- قَولُه تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ

- لَمَّا كانت كينونَتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيهم سببًا لانتفاءِ تَعذيبِهم، جعَلَ خَبَرَ كان الإرادةَ المنفِيَّةَ- أي: ما كان الله مُرِيدًا لِتَعذيبِهم- وانتفاءُ الإرادةِ للعَذابِ أبلَغُ مِن انتفاءِ العَذابِ. ولَمَّا كان استِغفارُهم دونَ تلك الكَينونةِ الشَّريفةِ، لم يؤكِّدْ باللَّامِ، بل جاء قولُه مُعَذِّبَهُمْ خبَرَ كان ، فشتَّانَ ما بينَ استِغفارِهم وكَينونَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيهم .

- وقَولُه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ كنايةٌ عن استحقاقِهم العذابَ، وإعلامٌ بكرامةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَه؛ لأنَّه جعَلَ وُجودَه بين ظَهرانَيِ المُشرِكينَ مع استحقاقِهم العقابَ سببًا في تأخيرِ العَذابِ عنهم .

- وتوجيهُ الخِطابِ بهذا إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واجتلابُ ضَميرِ خِطابِه بِقَولِه: وَأَنْتَ فِيهِمْ لطيفةٌ مِن التَّكرِمةِ؛ إذْ لم يقُل: (وما كان اللهُ لِيُعذِّبَهم وفيهم رَسولُه) .

- وقَولُه: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فيه تعريضٌ بأنَّه يُوشِكُ أن يُعَذِّبَهم إن لم يستغفِرُوا، وهذا مِن الكِنايةِ العُرْضِيَّةِ .

4- قَولُه تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

- (مَا) في  قوله: وَمَا لَهُمْ... استفهاميَّةٌ، والاستِفهامُ إنكاريٌّ، والتَّقديرُ: ما الذي ثبَت لهم لِأنْ ينتفِيَ عنهم عذابُ اللهُ، والمعنى: لم يثبُتْ لهم شيءٌ .

- وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ حالٌ مِن ضَميرِ يَصُدُّونَ، مفيدةٌ لِكمالِ قُبحِ ما صَنَعوا من الصَّدِّ؛ فإنَّ مُباشَرتَهم للصَّدِّ عنه مع عَدمِ استحقاقِهم لولايةِ أمرِه؛ في غايةِ القُبحِ، وهو ردٌّ لِما كانوا يقولونَ: نحنُ ولاةُ البيتِ والحَرَمِ، فنصُدُّ مَن نشاءُ، ونُدخِلُ مَن نَشاءُ .

- وجملةُ: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ تَعيينٌ لأوليائِه الحقِّ، وتقريرٌ لِمَضمونِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ مع زيادةِ ما أفادَه القَصرُ مِن تَعيينِ أوليائِه، فهي بمنزلةِ الدَّليلِ على نَفيِ وِلايةِ المُشركينَ؛ ولِذلك فُصِلَت .

- قولُه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ نفى العِلمَ عن أكثَرِهم دونَ أن يُقالَ: (ولكنَّهم لا يعلمونَ) فاقتضى أنَّ منهم من يعلَمُ أنَّهم ليسُوا أولياءَ المسجِدِ الحرامِ، وهم من أيقَنوا بصِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واستَفاقُوا من غَفلَتِهم القديمةِ، ولكِن حمَلَهم على المُشايَعةِ للصَّادِّينَ عن المسجِدِ الحرامِ، العنادُ وطَلبُ الرِّئاسة، وموافقةُ الدَّهماءِ على ضلالِهم .

5- قَولُه تعالى: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ

- مَساقُ هذه الجُملةِ؛ لتَقريرِ استحقاقِهم العذابَ، أو عدمِ وِلايتِهم للمَسجِد؛ فإنَّها لا تليقُ بمن هذه صلاتُه .

- قوله: فَذُوقُوا الْعَذَابَ الأمرُ هنا للتَّوبيخِ والتَّغليظِ .

- وقوله: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ... فَذُوقُوا فيه التفاتٌ إلى مُخاطبةِ الكُفَّار؛ تهديدًا لهم، ومبالغةً في إدخالِ الرَّوعةِ في قُلوبِهم .

- قوله: بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أُتِيَ بخبَرِ (كان) جملةً مُضارعيَّةً تَكْفُرُونَ فأفادَتِ الاستمرارَ والعادةَ .

===========

 

سُورة الأنفالِ

الآيتان (36-37)

ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ

غريب الكلمات:

 

حَسْرَةً: أي: ندامةً واغتمامًا. وأصلُ (حسر): يدلُّ على كَشْفِ الشَّيءِ، فالحسرةُ انكشافٌ عن حالِ النَّدامةِ

.

لِيَمِيزَ أي: لِيَفصِلَ ويُخَلِّصَ. وأصلُ (ميز) يدلُّ على انفصالِ شَيءٍ مِن شَيءٍ .

فَيَرْكُمَهُ: أي: فيَجمَعَه، ويَضُمَّ بَعضَه إلى بعضٍ، والرُّكامُ: ما يُلقى بعضُه على بعضٍ. وأصل (ركم) يدلُّ على تجمُّعِ الشيء

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ الذينَ كفَروا يُنفِقونَ أموالَهم؛ ليتَقَوَّوا بها على قِتالِ المُسلمينَ، ولِيَصرِفوا النَّاسَ عن دينِ الله، هذه الأموالُ سَيُنفِقونَها، ثم تكونُ عليهم حَسرةً وندامةً، حين تذهَبُ بلا فائِدةٍ، ثمَّ يُهزَمونَ ويُقهَرونَ، والذينَ كَفَروا يحشُرُهم اللهُ إلى جهنَّمَ؛ ليتعذَّبوا فيها، لِيَفصِلَ اللهُ بين المؤمنينَ الطَّيبينَ وبَين الكافرينَ الخبيثينَ؛ فالمؤمنونَ في الجنَّةِ، والكفَّارُ في النَّارِ، ويجعَلُ اللهُ الكفَّارَ الخَبيثينَ بعضَهم فوقَ بعضٍ حتى يتراكَموا، فيجعَلهم كلَّهم في جهنَّمَ، وأولئك هم الذينَ خَسِروا أعظمَ الخسرانِ في الدُّنيا والآخرةِ.

تفسير الآيتين:

 

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى مِن شرْحِ أحوالِ الكفارِ في الطَّاعاتِ البدنيَّةِ، وهي صلاتُهم- شرَحَ حالَهم في الطَّاعاتِ الماليَّةِ، وهي إنفاقُهم أموالَهم للصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى صَدَّهم المُسلمينَ عن المَسجِدِ الحرامِ، الموجِبَ لِتَعذيبِهم- عقَّبَ بذِكرِ مُحاوَلتِهم استئصالَ المُسلمينَ، وصَدِّهم عن الإسلامِ ، فقال تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ.

أي: إنَّ الكفَّارَ مِن مُشرِكي قُريشٍ، يُنفِقونَ أموالَهم لِيتقَوَّوا بها على قتالِ المُسلمينَ، ولِيَصرِفوا النَّاسَ عن دِينِ اللهِ .

فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ.

أي: فَسيُنفِقُ الكفَّارُ أموالَهم لمحاربةِ المُسلمينَ، وصَدِّ النَّاسِ عن دينِ اللهِ، ثمَّ تَصيرُ نَفَقتُهم ندامةً شديدةً عليهم، حين تذهَبُ أموالُهم سُدًى بلا طائلٍ، فلا يظفَرونَ بما كانوا فيه يَطمَعونَ، وهم في آخِرِ الأمرِ يُغلَبونَ ويُقهَرونَ .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 20-21] .

وقال سبحانه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 12] .

وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ تعالى بما آلَ إليه حالُ الكُفَّارِ في الدُّنيا، مِن حَسرَتِهم، وكَونِهم مَغلوبينَ- أخبَرَ بما يَؤُولُ إليه حالُهم في الآخرةِ، مِن حَشْرِهم إلى جَهنَّمَ .

وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.

أي: والكُفَّارُ يجمَعُهم اللهُ تعالى يومَ القِيامةِ إلى نارِ جَهنَّمَ؛ ليُعذَّبوا فيها .

لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى حَشْرَ الكافِرينَ، ذكَرَ عِلَّتَه، فقال :

لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.

أي: يحشُرُ اللهُ الكفَّارَ الخَبيثينَ إلى جهنَّم؛ ليُفرِّقَ بينهم وبين المؤمنين الطيِّبينَ، فيكونَ الكفَّارُ في جهنَّم، والمؤمنونَ في الجنَّةِ .

وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ.

أي: ويجعَلَ اللهُ الكُفَّارَ الخبيثينَ بعضَهم فوقَ بَعضٍ، فيجمَعَهم جميعًا؛ حتى يتَراكَموا ويَكثُروا، فيجعَلَهم كلَّهم في نارِ جَهنَّمَ .

أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.

أي: أولئك الكفَّارُ  الخبيثونَ، الذين يُجمعون كلُّهم، فيُركَمون في جهنَّمَ، هم الذين خسِروا أنفسَهم وأهْليهم يومَ القيامةِ، وخسِروا الدُّنيا والآخرةَ، وذلك هو الخسرانُ المبينُ

 

.

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15] .

الفوائد التربوية:

 

- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مِن العِبرةِ في هذا للمُؤمنينَ أنَّهم أَوْلى مِن الكفَّارِ ببَذلِ أموالِهم وأنفُسِهم في سبيلِ الله؛ لأنَّ لهم بها مِن حيثُ جُملَتُهم سعادةَ الدَّارينِ، ومن حيثُ أفرادُهم الفَوزَ بإحدى الحُسنَيَينِ، هكذا كان في كلِّ زمانٍ قام المسلمونَ فيه بحقوقِ الإسلامِ والإيمانِ، وهكذا سيكونُ إذا عادُوا إلى ما كان عليه سَلَفُهم الصَّالحون، فالكفَّارُ في هذا الزَّمانِ يُنفِقونَ القناطيرَ المُقنطَرةَ مِن الأموالِ؛ للصَّدِّ عن الإسلامِ، وفتنةِ الضُّعفاءِ مِن العوامِّ

 

!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُه تعالى: فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ هذا من إخبارِ القُرآنِ بالغُيوبِ؛ لأنَّه أخبَرَ بما يكونُ قبلَ أن يكونَ، فكان كما أخبَرَ

.

2- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً عبَّرَ بعبارةٍ ظاهرةٍ في مَضرَّتِها، فقال: عَلَيْهِمْ، وأبلَغَ في ذلك بأنْ أوقَعَ عليها المَصدرَ، فقال: حَسْرَةً أي: لضياعِها وعَدمِ تأثيرِها .

3- قولُ اللهِ تعالى: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ قولُه: فَيَرْكُمَهُ عطفُ تَفسيرٍ، يؤكِّدُ الذي قَبلَه في إرادةِ الحقيقةِ، مع إفهامِ شِدَّةِ الاتِّصالِ، حتى يصيرَ الكُلُّ كالشَّيءِ الواحِدِ، كالسَّحابِ المرَكومِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ

- أتى بِصيغةِ المُضارِعِ في يُنْفِقُونَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ ذلك دأْبُهم، وأنَّ الإنفاقَ مُستمِرٌّ؛ لإعدادِ العُدَدِ لِغَزوِ المُسلمينَ، فإنفاقُهم حصلَ في الماضي، ويحصُلُ في الحالِ والاستقبالِ، وأشعَرَت لامُ التعليلِ في لِيَصُدُّوا بأنَّ الإنفاقَ مُستمِرٌّ؛ لأنَّه مَنوطٌ بعلَّةٍ ملازِمةٍ لِنُفوسِهم، وهي بُغضُ الإسلامِ، وصَدُّهم النَّاسَ عنه

.

- والفاءُ في فَسَيُنْفِقُونَهَا تَفريعٌ على العلَّةِ؛ لأنَّهم لَمَّا كان الإنفاقُ دَأبَهم لتلك العِلَّةِ المذكورةِ، كان ممَّا يتفرَّعُ على ذلك تكَرُّرُ هذا الإنفاقِ في المُستقَبلِ، أي: ستكونُ لهم شَدائِدُ مِن بأسِ المُسلمينَ تَضطرُّهم إلى تكريرِ الإنفاقِ على الجُيوشِ؛ لِدفاعِ قُوَّةِ المُسلمينَ .

- قوله: ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً جعَلَ ذاتَ الأموالِ حَسرةً- وهي عاقبةُ إنفاقِها- مُبالغةً .

- قَولُه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ فيه عُدولٌ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ- فلم يَقُلْ: (وإلى جهنَّمَ يُحشَرونَ)؛ للإفصاحِ عن التَّشنيعِ بهم في هذا الإنذارِ، حتى يُعادَ استحضارُ وَصْفِهم بالكُفرِ بأصرَحِ عبارةٍ .

- وعُرِّفوا بالمَوصوليَّةِ: الَّذِينَ كَفَرُوا؛ إيماءً إلى أنَّ عِلَّةَ استِحقاقِهم الأمرَينِ في الدُّنيا والآخِرةِ، هو وَصفُ الكُفرِ، فيُعلَمُ أنَّ هذا يحصُلُ لِمَن لم يُقلِعوا عن هذا الوَصفِ قبل حُلولِ الأمرَينِ بهم .

2- قولُه تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

- لِيَمِيزَ مُتعَلِّقٌ بـ يُحْشَرُونَ لبيانِ أنَّ مِن حِكمةِ حَشْرِهم إلى جهنَّمَ أنْ يتميَّزَ الفريقُ الخَبيثُ مِن النَّاسِ، من الفَريقِ الطَّيِّبِ، في يومِ الحَشرِ .

- وقَولُه: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ المقصودُ منه جمعُ الخَبيثِ، وإن اختلَفَت أصنافُه في مجمعٍ واحدٍ؛ لزيادةِ تَمييزِه عن الطيِّبِ، ولتشهيرِ مَن كانوا يُسِرُّونَ الكُفرَ، ويُظهِرونَ الإيمانَ، وفي جَمعِه بهذه الكيفيَّةِ تذليلٌ لهم وإيلامٌ؛ إذ يُجعَلُ بَعضُهم على بعضٍ، حتى يصيرُوا رُكامًا .

- قولُه: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ: الإشارةُ بـ أُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ استحقاقَهم الخبَرَ الواقعَ عن اسمِ الإشارةِ، كان بسبَبِ الصِّفاتِ التي ذُكِرَت قبل اسمِ الإشارة؛ فإنَّ من كانت تلك حالَه، كان حقيقًا بأنَّه قد خسِرَ أعظَمَ الخُسرانِ، لأنَّه خَسِرَ منافِعَ الدُّنيا، ومنافِعَ الآخرةِ

- وصيغةُ القَصرِ في قَولِه: هُمُ الْخَاسِرُونَ هي للقَصرِ الادِّعائيِّ؛ للمُبالغةِ في اتِّصافِهم بالخُسرانِ، حتى يُعَدَّ خُسرانُ غَيرِهم كَلَا خُسرانٍ، وكأنَّهم انفَرَدوا بالخُسرانِ مِن بينِ النَّاسِ .

======

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (38-40)

ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ

غريب الكلمات:

 

سَلَفَ: أي: مضَى، والسَّلَفُ: المتقدمُ، وأصلُ (سلف): تَقَدُّم وَسَبْق

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ نَبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُخبِرَ الذين كفَروا مِن قريشٍ أنَّهم إنْ يَنتَهوا عن الكُفرِ، وقتالِ المُؤمنينَ، يَغفِرِ اللهُ لهم ما تقدَّمَ، وإن يَعودُوا فقد سبَقَت طريقَتُه في إهلاكِ كُفَّارِ قريشٍ يومَ بَدرٍ، وإهلاكِ غَيرِهم مِن الأُمَمِ المُكَذِّبةِ.

وأمرَ اللهُ عبادَه المُؤمنينَ أن يُقاتِلوا الكفَّارَ؛ حتى لا يكونَ في الأرضِ شِركٌ يُفتَنُ بِسَببِه النَّاسُ، ويكونَ الدِّينُ كُلُّه خالصًا لله، فإنِ انتَهى الكُفَّارُ فإنَّ اللهَ بما يَعمَلونَ بَصيرٌ، وإن أعرَضُوا وأصَرُّوا على الكُفرِ والقتالِ، فلْيُوقنِ المُؤمِنونَ أنَّ اللهَ وَلِيُّهم وسَيِّدُهم، الذي يُعينُهم وينصُرُهم عليهم، هو سُبحانَه نِعمَ المُعينُ لأوليائِه، ونِعمَ النَّاصِرُ لهم على أعدائِهم.

تفسير الآيات:

 

قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ (38).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ ضلالَ الكافِرينَ في عِباداتِهم البَدَنيَّةِ، وعِباداتِهم الماليَّةِ؛ أرشَدَهم إلى طريقِ الصَّوابِ

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى ما يحُلُّ بالكافرينَ مِن حَشْرِهم إلى النَّارِ، وجَعْلِهم فيها، وخُسْرِهم- تلطَّفَ بهم، وأنَّهم إذا انتَهَوا عن الكُفرِ وآمَنوا، غُفِرَت لهم ذُنوبُهم السَّالِفةِ .

وأيضًا لَمَّا بيَّنَ تعالى حالَ الكُفَّارِ الذين يُصِرُّونَ على كُفرِهم، وصَدِّهم عن سَبيلِ الله، وقتالِ رَسولِه والمؤمنينَ، وما لهم في الدُّنيا والآخرةِ- قفَّى عليه ببيانِ حُكمِ الذينَ يَرجِعونَ عنه، ويَدخُلونَ في الإسلامِ؛ لأنَّ الأنفُسَ صارت تتشَوَّفُ إلى هذا البَيانِ ، فقال:

قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ.

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لكُفَّارِ قُريشٍ: إنْ يَترُكوا الكُفرَ، وقِتالَ المؤمنينَ، يَغفِرِ اللهُ لهم ما قد تقدَّمَ مِن كُفرِهم ومَعاصيهم .

كما قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] .

وعَن عَمرِو بنِ العاصِ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: ((أَمَا عَلِمْتَ أنَّ الإسلامَ يَهدِمُ ما كان قَبلَه )) .

وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ.

أي: وإنْ يَعُدْ هؤلاءِ المُشركونَ مِن قُريشٍ إلى قتالِك، ويستمِرُّوا على كُفرِهم؛ فقد مَضَت طريقَتُنا في إهلاكِ كُفَّارِ قُريشٍ في يومِ بَدرٍ، وإهلاكِ غَيرِهم مِن الأُمَمِ الماضيةِ .

كما قال تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فاطر: 43-44] .

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ أنَّ هؤلاءِ الكفَّارَ إن انتَهَوا عن كُفرِهم، حصَلَ لهم الغُفرانُ، وإن عادُوا فهم مُتوَعَّدونَ بسُنَّةِ الأوَّلينَ- أتبَعَه بأنْ أمَرَ بقتالِهم إذا أصَرُّوا .

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ.

أي: وقاتِلوا- أيُّها المُؤمِنونَ- الكُفَّارَ؛ حتَّى لا يكونَ في الأرضِ شِركٌ يُفتَنُ بِسَببِه النَّاسُ .

عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُمِرتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتى يَشهَدُوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ، ويُقيمُوا الصَّلاةَ، ويُؤتُوا الزَّكاةَ، فإذا فَعَلوا ذلك عَصَموا منِّي دِماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّ الإسلامِ، وحِسابُهم على اللهِ )) .

وعنِ ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أيضًا، (أنَّه أتاه رَجُلانِ في فتنةِ ابنِ الزُّبيرِ، فقالا: إنَّ النَّاسَ صَنَعوا وأنت ابنُ عُمرَ، وصاحِبُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فما يمنَعُك أن تخرُجَ؟! فقال: يمنَعُني أنَّ اللهَ حرَّمَ دمَ أخي. فقالا: ألمْ يقُلِ اللهُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ؟! فقال: قاتَلْنا حتَّى لم تكُنْ فِتنةٌ، وكان الدِّينُ لله، وأنتم تريدونَ أن تُقاتِلوا حتى تكونَ فِتنةٌ، ويكونَ الدِّينُ لِغَيرِ الله!) .

وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه.

أي: وقاتِلوا الكفَّارَ حتى تكونَ الطَّاعةُ والعبادةُ كُلُّها خالصةً لله وَحدَه، وينتشِرَ الإسلامُ، فلا يُعبَد إلَّا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ له .

عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سئِلَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الرَّجُلِ يُقاتِلُ شَجاعةً، ويُقاتِلُ حَمِيَّةً، ويقاتِلُ رِياءً، أيُّ ذلك في سبيلِ اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن قاتَلَ لِتَكونَ كَلِمةُ اللهِ هي العُليا فَهو في سبيلِ اللهِ )) .

فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

أي: فإن انتَهى الكُفَّارُ عن الشِّركِ وأسلَموا؛ فإنَّ اللهَ لا يخفى عليه ما يَعمَلونَ في الظَّاهِرِ والباطِنِ، فيُجازيهم عليه، فكُفُّوا عن قِتالِهم، وإنْ لم تعلَموا بواطِنَهم .

كما قال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 5] .

وعن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((بَعَثَنا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَرِيَّةٍ، فصَبَّحْنا الحُرُقاتِ مِن جُهَينةَ، فأدركْتُ رجلًا، فقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فطَعَنْتُه فوقَعَ في نفسي مِن ذلك، فذَكَرْتُه للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أقالَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ وقَتَلْتَه؟! قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما قالها خوفًا مِن السِّلاحِ، قال: أفَلَا شقَقْتَ عن قَلْبِه، حتى تعلَمَ أقالَها أم لا؟! فما زالَ يكرِّرُها عليَّ حتى تمنَّيتُ أنِّي أسلَمْتُ يومَئذٍ )) .

وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40).

وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ.

أي: وإنْ أعرَضَ الكُفَّارُ عن الإيمانِ، وأصَرُّوا على الكُفرِ والقتالِ، فقاتِلوهم، وأيقِنُوا أنَّ اللهَ وليُّكم وسيِّدُكم، الذي يُعينُكم، ويَنصُرُكم عليهم .

نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.

أي: الله عزَّ وجلَّ هو نِعْمَ المُعينُ لأوليائِه، ونِعْمَ النَّاصِرُ لهم، الذي ينصُرُهم على أعدائِهم

 

.

كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا [النساء: 45] .

وقال سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج: 78] .

الفوائد التربوية:

 

مَن كان في حمايةِ اللهِ تعالى وفي حِفظِه وكِفايتِه، كان آمِنًا من الآفاتِ، مَصونًا عن المُخالفاتِ، قال تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- مِن لُطفِ اللهِ تعالى بعبادِه أنَّه لا يمنَعُه كُفرُ العبادِ، ولا استمرارُهم في العنادِ، مِن أن يَدعُوَهم إلى طريقِ الرَّشادِ والهُدى، وينهاهم عما يُهلِكُهم من أسبابِ الغَيِّ والرَّدَى؛ قال الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ

.

2- الإسلامُ يَهدِمُ ما كان قَبلَه بنَصِّ الكتابِ العزيزِ؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ احتجَّ به أبو حنيفةَ رحمه الله، على أنَّ المُرتَدَّ إذا أسلَمَ لا يلزَمُه قَضاءُ العِباداتِ المتروكةِ في حالِ الرِّدَّةِ وقَبلَها .

4- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ فيه حُجَّةٌ لِمَن رأى الاستتابةَ واجِبةً؛ فقد أمرَ اللهُ رَسولَه أن يُخبِرَ جَميعَ الذين كفَروا أنَّهم إن انتَهَوا غُفِرَ لهم ما سلفَ، وهذا معنى الاستِتابةِ، والمرتَدُّ مِن الذين كَفَروا، والأمرُ للوُجوبِ، فعُلمَ أنَّ استتابةَ المُرتَدِّ واجبةٌ، ولا يقالُ: فقد بلَغَهم عُمومُ الدَّعوةِ إلى الإسلامِ؛ لأنَّ هذا الكُفرَ أخصُّ من ذلك الكفرِ، فإنَّه يُوجِبُ قَتلَ كُلِّ مَن فَعَله، ولا يجوزُ استبقاؤُه وهو لم يُستتَبْ مِن هذا الكُفرِ .

5- قَولُ الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ فيه دليلٌ على قَبولِ توبةِ الزِّنديقِ؛ فإنَّ قَولَه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يتناوَلُ جمَيعَ أنواعِ الكُفرِ، فإنْ قيلَ: الزِّنديقُ لا يُعلَمُ مِن حالِه أنَّه هل انتَهى مِن زَندقَتِه أم لا؟ فالجوابُ: أحكامُ الشَّرعِ مَبنيَّةٌ على الظَّواهِرِ، فلما رجَعَ وجَبَ قَبولُ قَولِه فيه .

6- الكُفرُ الذي يَعقُبُه الإيمانُ الصَّحيحُ، لا يَبقى على صاحِبِه منه ذَمٌّ، هذا معلومٌ بالاضطرارِ مِن دِينِ الإسلامِ، بل مِن دِينِ الرُّسُلِ كُلِّهم، كما قال اللهُ تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ .

7- قَولُ الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ فيه أنَّ الحَربيَّ إذا أسلَمَ لم يُؤخَذْ بِشَيءٍ ممَّا عَمِلَه في الجاهليَّة: لا مِن حُقوقِ اللهِ، ولا مِن حُقوقِ العبادِ .

8- قَوْله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ هذه لطيفةٌ مِنَ اللهِ سُبحانَه مَنَّ بها على الخَليقةِ؛ وذلك أنَّ الكُفَّارَ يقتَحِمونَ الكُفرَ والجرائِمَ، ويَرتكبونَ المعاصِيَ، ويَرتكبونَ المآثِمَ، فلو كان ذلك يُوجِبُ مُؤاخَذتَهم لَما استدرَكوا أبدًا توبةً، ولا نالَتْهم مغفرةٌ، فيسَّرَ اللهُ عليهم قَبولَ التَّوبةِ عند الإنابةِ، وبذَلَ المَغفرةَ بالإسلامِ، وهَدَمَ جَميعَ ما تقَدَّمَ؛ ليكونَ ذلك أقرَبَ إلى دخولِهم في الدِّينِ، وأدعَى إلى قَبولِهم كلمةَ الإسلامِ، وتأليفًا على الملَّةِ، وترغيبًا في الشَّريعةِ؛ فإنَّهم لو عَلِموا أنَّهم يُؤاخَذونَ لَما أنابوا ولا أسلَموا .

9- أُطلِقَت الوَلايةُ في القُرآنِ بالنِّسبةِ إلى الله جلَّ وعلا إطلاقَينِ:

أُطلِقَ المولى بمعنى الوَلايةِ الخاصَّةِ، وهي: النَّصرُ والتَّمكينُ والتَّوفيقُ، كقوله هنا: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ وقولِه: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ [التحريم: الآية 4] وهذا كثيرٌ في القُرآنِ؛ ولذا قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: الآية 11] أي: لا مَولى لهم وَلايةَ نَصرٍ وتَمكينٍ.

وأُطلِقَ المولى بمعنَى ولايةِ خَلقٍ وقُدرةٍ ورُبوبيَّةٍ ومِلكٍ، وهو في قَولِه: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ [الأنعام: 62] وهي في الكفَّارِ؛ لأنَّه مولى الكُفَّارِ ولايةَ مِلكٍ وتصرُّفٍ ونُفوذٍ وقُدرةٍ، ومولى المؤمنينَ ولايةَ نَصرٍ وتمكينٍ وثوابٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ

هذا كلامٌ جارٍ على عادةِ القُرآنِ في تَعقيبِ التَّرهيبِ بالتَّرغيبِ، والوعيدِ بالوَعدِ، والعَكس،  فأنذَرَهم بما أنذَرَ، وتوعَّدَهم بما تَوعَّد، ثم ذكَّرَهم بأنَّهم مُتمَكِّنونَ مِن التَّدارُكِ، وإصلاحِ ما أفسَدُوا، فأمَرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يَقولَ لهم ما يفتَحُ لهم بابَ الإنابةِ

.

- وقَولُه: وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ تَعريضٌ بالوعيدِ بأنَّهم سيَلقَونَ ما لَقِيَه الأوَّلونَ، والقَرينةُ على إرادةِ التَّعريضِ بالوعيدِ أنَّ ظاهِرَ الإخبارِ بمُضِيِّ سُنَّةِ الأوَّلينَ، وهو من الإخبارِ بِشَيءٍ مَعلومٍ للمُخبَرينَ به، وبهذا الاعتبارِ حَسُنَ تأكيدُه بـ(قد)؛ إذ المرادُ تأكيدُ المعنى التَّعريضي .

2- قوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

- عَمَّمَ الخِطابَ في قوله وَقَاتِلُوهُمْ لزيادةِ تَرغيبِ المؤمنينَ في القِتالِ .

- وقولُه: فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ كنايةٌ عن حُسنِ مُجازاتِه إيَّاهم؛ لأنَّ القادِرَ على نَفعِ أوليائِه ومُطيعِيه لا يحولُ بينه وبين إيصالِ النَّفعِ إليهم إلَّا خفاءُ حال مَن يُخلِصُ إليه، فلما أُخبِرُوا بأنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ على انتهائِهم عن الكُفرِ إنِ انتَهَوا عنه، وكان ذلك لا يُظَنُّ خلافُه؛ عُلِمَ أنَّ المقصودَ لازِمُ ذلك .

3- قَولُه تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ

- افتتاحُ جُملةِ جوابِ الشَّرطِ بـ فَاعْلَمُوا؛ لقَصدِ الاهتمامِ بهذا الخَبرِ وتحقيقِه .

- وقولُه: نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ جملةٌ مُستأنفةٌ؛ لأنَّها إنشاءُ ثناءٍ على اللهِ، فكانت بمَنزلةِ التَّذييلِ .

=========

 

سُورة الأنفالِ

الآيتان (41-42)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات:

 

غَنِمْتُمْ: المَغنَمُ والغنيمةُ: ما أُصيبَ مِن أموالِ المُحاربينَ قهرًا. وأصلُ (غنم) يدلُّ على إفادةِ شَيءٍ لم يُملَك مِن قَبلُ

.

بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا: أي: بِجانب الوادي ممَّا يلي المدينةَ. وأصلُ (عدو) يدلُّ على تَجاوُزٍ في الشَّيءِ .

بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى: أي: بالجانِبِ الأبعدِ مِن المدينةِ. وأصلُ (قصو) يدلُّ على بُعدٍ وإبعادٍ .

وَالرَّكْبُ: أي: راكِبو الإبِلِ، والمقصودُ عِيرُ أبي سفيانَ أي: ركبُ التجارةِ. وَأصلُ (ركب): يدلُّ على عُلوِّ شيءٍ شَيئًا .

بَيِّنَةٍ: أي: حُجَّةٍ. والبيِّنةُ كذلك: الدَّلالةُ الواضِحةُ؛ يقالُ: بان الشيءُ وأبان، إذا اتَّضَحَ وانكَشَفَ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ

أَنَّمَا غَنِمْتُمْ: (ما) في أنَّما اسمُ أنَّ، وهي موصولةٌ بمعنى (الذي)، وغَنِمْتُمْ صِلَتُها، وعائِدُها محذوفٌ، أي: غَنِمتُموه. ومِنْ شَيْءٍ جارٌّ ومجرورٌ مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ، حالٌ مِن عائِدِ الصِّلةِ، والتقديرُ: ما غَنِمتُموه كائنًا من شَيءٍ، أي: قليلًا أو كثيرًا. فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ: الفاءُ داخلةٌ تشبيهًا للموصولِ بالشَّرطِ، و(أنَّ) وما عَمِلَتْ فيه في محلِّ رفعٍ، خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُه: فحُكمُه أنَّ لِلَّه خُمُسَه، والجملةُ مِن هذا المبتدأِ والخَبرِ في محَلِّ رَفعٍ، خَبرُ (أنَّ). وأَنَّما غَنِمْتُمْ وما بعدَها سدَّ مسدَّ مفعولَي اعْلَمُوا

 

.

المعنى الإجمالي:

 

اعلَموا- أيُّها المؤمنونَ- أنَّ ما تظفرونَه مِن الكُفَّارِ غنيمةً بعدَ انتِصارِكم عليهم؛ فحُكمُه أنَّ لله خُمُسَه، وللرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولِقرابَتِه مِن بني هاشمٍ وحُلفائِهم من بني المطَّلبِ، ولليتامى والمساكينِ، وللمُسافِرِ الذي يحتاجُ المالَ في سَفَرِه، وأمَّا بقيةُ الأخماسِ الأربعةِ فهي للمقاتلينَ، إن كُنتم آمَنتُم باللهِ تعالى، وما أنزَلَ على عبدِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن آياتِ القرآنِ، يومَ فَرَقَ اللهُ بين الحقِّ والباطِلِ، وذلك يوم التقى جمعُ المسلمينَ وجمعُ الكفَّار ببدرٍ، واللهُ على كلِّ شَيءٍ قديرٌ حيثُ نصَركم أيُّها المسلمونَ على قلةِ عددِكم، وخذَل الكفارَ على كثرتِهم.

فاذكروا - أيُّها المُؤمنونَ- حين كنتم على جانِبِ وادي بدرٍ الأقرَبِ للمدينةِ، وهم على الجانِبِ الأبعَدِ، وأصحابُ الإبِلِ الذين معهم تجارةُ المُشركينَ أسفَلَ منكم ممَّا يلي ساحِلَ البَحرِ، ولو تواعَدْتُم- أنتم والمشركونَ- على مكانٍ وزمانٍ تتقاتلونَ فيه، لَما اجتمَعتُم في ذلك المَوعِد، ولكنَّ الله دبَّر لهذا التلاقي لِيَقضيَ أمرًا مُقَدَّرًا لا بدَّ مِن وقوعِه، لِيَهلِكَ مَن هلكَ باستمرارِه على الكُفرِ بعد قيامِ الحجَّةِ عليه، ويؤمِنَ مَن آمنَ بعد ظهورِ الحُجَّة له، وإنَّ اللهَ لَسميعٌ عليمٌ.

تفسير الآيتين:

 

وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ بالمُقاتلةِ في قَولِه: وَقَاتِلُوهُمْ وكان مِن المَعلومِ أنَّ عند المُقاتلةِ قد تحصُلُ الغنيمةُ؛ لا جرَمَ ذَكَرَ تعالى حُكمَ الغنيمةِ

.

وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ.

أي: واعلَمُوا - أيُّها المؤمنونَ الغانِمونَ- أنَّ أيَّ مالٍ تأخذونَه مِن الكفَّارِ قَهرًا، إذا انتصَرتُم عليهم ، فحقُّه أنَّ للَّهِ خُمُسَه، يُصرَفُ فيما أمَرَ اللهُ به .

عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((قَدِمَ وَفدُ عبدِ القَيسِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّا- هذا الحيَّ- مِن ربيعةَ، وقد حالتْ بينَنا وبَينَك كُفَّارُ مُضَرَ، فلا نَخلُصُ إليك إلَّا في شَهرِ الحرامِ، فمُرْنا بأمرٍ نَعمَلُ به، وندعو إليه مَن وَراءَنا، قال: آمُرُكم بأربَعٍ، وأنهاكم عن أربَعٍ: الإيمانُ باللهِ، ثمَّ فَسَّرَها لهم فقال: شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الَّزكاةِ، وأنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ ما غَنِمْتُم )) .

وعن عبدِ اللهِ بنِ شَقيقٍ، عن رجُلٍ مِن بُلقينَ، قال: ((أتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو بوادي القُرى، وهو يَعرِضُ فَرسًا، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما تقولُ في الغنيمةِ؟ فقال: لِلَّه خُمُسُها، وأربعةُ أخماسٍ للجَيشِ. قلتُ: فما أحدٌ أَوْلَى به مِن أحَدٍ؟ قال: لا، ولا السَّهمُ تَستخرِجُه مِن جَنبِك، ليس أنت أحَقَّ به مِن أخيك المُسلِم)) .

وَلِلرَّسُولِ.

أي: ولِمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ يتصَرَّفُ فيما جعَلَه اللهُ له من الخُمُسِ بما شاء في مصالِحِه ومصالِحِ المُسلمين .

عن عمرِو بنِ عَبَسةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: صلَّى بنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بَعيرٍ مِن المَغنمِ، فلمَّا سلَّم أخَذَ وَبرةً مِن جَنبِ البَعيرِ، ثمَّ قال: ((ولا يحِلُّ لي مِن غَنائِمِكم مِثلُ هذا إلَّا الخُمُسُ، والخُمُسُ مَردودٌ فيكم )) .

وَلِذِي الْقُرْبَى.

أي: ولقرابةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بني هاشمٍ وبني المطَّلِبِ .

عن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((مَشَيتُ أنا وعثمانُ بنُ عُفَّانَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلنا: يا رسولَ اللهِ، أعطيتَ بني المُطَّلِب وتركتَنا، ونحنُ وهم منكَ بِمَنزلةٍ واحدةٍ! فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّما بنو المُطَّلِبِ وبنو هاشمٍ شَيءٌ واحِدٌ )). ولم يقسِمِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لبني عبدِ شَمسٍ، ولا لبني نَوفَل، قال ابنُ إسحاقَ: عبدُ شمسٍ وهاشمٌ والمُطَّلِبُ: إخوةٌ لأُمٍّ، وأمُّهُم عاتكةُ بنتُ مُرَّةَ، وكان نَوفَل أخاهم لأبيهم .

وَالْيَتَامَى.

أي: ولِيَتامى المُسلمينَ، الذين مات آباؤُهم وهم أطفالٌ .

وَالْمَسَاكِينِ.

أي: وللمُحتاجينَ مِن المُسلِمينَ .

وَابْنِ السَّبِيلِ.

أي: وللمُسافِرِ المُحتاجِ للمالِ في سَفَرِه .

إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ.

أي: امتَثِلوا- أيُّها المؤمنونَ- ما شَرَعْناه لكم في قِسمةِ الغَنائِمِ، إن كُنتُم آمَنتُم باللهِ تعالى، وآمَنتُم بما أنزَلْنا على عَبدِنا محمَّدٍ، مِن آياتِ كِتابِنا ، يومَ فرَقَ اللهُ بين الحَقِّ والباطِلِ، يومَ الْتَقى جمعُ المُسلمينَ وجَمعُ الكُفَّارِ بِبَدرٍ .

وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

أي: واللهُ على كلِّ شَيءٍ قديرٌ، لا يُعجِزُه شَيءٌ، ومِن ذلك قُدرَتُه على نَصرِ المُؤمنينَ على الكافرينَ، وإن كانوا قِلَّةً أذلَّةً، كما وقع يومَ بَدرٍ .

إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ لهم يومَ مُلتَقاهم، صوَّرَ لهم حالَتَهم الموضِّحةَ للأمرِ، المُبَيِّنةَ لِمَا كانوا فيه مِن اعترافِهم بالعَجزِ؛ تذكيرًا لهم بذلك، رَدعًا عن المُنازَعةِ، وردًّا إلى المُطاوَعةِ، فقال :

إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ.

أي: فرَقَ اللهُ بينَ الحَقِّ والباطِلِ حينَ كُنتم نازلينَ بِضَفَّةِ وادي بَدرٍ، التي هي أقرَبُ إلى المدينةِ، ومُشرِكو قُريشٍ نازِلونَ بِضَفَّةِ وادي بَدرٍ، التي هي أبعَدُ من المدينةِ، وأصحابُ الإبِلِ الذين معهم تجارةُ المُشركينَ؛ في موضعٍ أسفَلَ منكم ممَّا يلي ساحِلَ البَحرِ .

وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ.

أي: ولو اتَّفَقتُم- أيُّها المؤمنونَ- مع المُشركينَ على القتالِ في مكانٍ وزمانٍ مُحَدَّدينِ؛ لَمَا اجتمَعْتُم في ذلك المَوعِد .

وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً.

أي: ولكِن جَمَعَكم اللهُ ببدرٍ على غيرِ ميعادٍ بينكم وبينهم؛ لِينصُرَ اللهُ المؤمنينَ ويُعِزَّهم، ويُهلِكَ الكافرينَ ويُذِلَّهم، وكان ذلك قضاءً مُقدَّرًا لا بدَّ مِن وُقوعِه .

عن كعبِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنَّما خرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُسلمونَ، يريدونَ عيرَ قُريشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بينهم وبين عَدُوِّهم على غيرِ مِيعادٍ) .

لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ.

أي: جمعَ اللهُ بين المؤمنينَ والكافرينَ بِبَدرٍ، ونصَرَ المؤمنينَ عليهم؛ وفرَق بين الحقِّ والباطِلِ؛ من أجلِ أن يستمِرَّ في الكُفرِ مَن استمَرَّ فيه بعد قيامِ الحُجَّةِ عليه، ووضوحِ الأمرِ ببطلانِ الكُفْرِ، فلا يبقَى له عذرٌ عندَ الله، ويؤمِنَ مَن آمنَ بعد ظُهورِ الحجَّةِ له، ووضوحِ الأمرِ بما لا شكَّ فيه أنَّ الإسلامَ حقٌّ .

كما قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 122] .

وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.

أي: وإنَّ اللهَ لَسَميعٌ لِجَميعِ الأصواتِ، ومِن ذلك أنه سميعٌ لدُعائِكم، وتَضَرُّعِكم، واسْتِغاثَتِكم به، عليمٌ بكُلِّ شَيءٍ؛ فيعلمُ الظواهرَ والضمائرَ والسرائرَ، والغيبَ والشهادةَ، وكلِّ ما يفعلُه خلقُه، لا تخفَى عليه خافِيةٌ، ومِن ذلك علمُه أنَّكم تستحِقُّون النَّصْرَ على أعدائِكم الكفرةِ المعانِدينَ، فاتَّقوا ربَّكم في منطِقِكم أنْ تنطِقوا بغيرِ حَقٍّ، وفي قُلوبِكم أنْ تعتقِدوا فيها غيرَ الرَّشَدِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

- قال الله تعالى: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ الغَرَضُ مِن التَّقييدِ بهذا الوَقتِ وبتلك الحالةِ: إحضارُها في ذِكرِهم؛ لأجلِ ما يلزَمُ ذلك من شُكرِ نِعمةِ الله، ومِن حُسنِ الظَّنِّ بوَعدِه، والاعتمادِ عليه في أمورِهم؛ فإنَّهم كانوا حينئذٍ في أشَدِّ ما يكونُ فيه جيشٌ تِجاهَ عَدُوِّه؛ لأنَّهم يعلمونَ أنَّ تلك الحالةَ كان ظاهِرُها مُلائمًا للعَدُوِّ؛ إذ كان العدوُّ في شَوكةٍ، واكتمالِ عُدَّةٍ، وقد تمهَّدَت له أسبابُ الغَلَبةِ بحُسنِ مَوقِعِ جيشِه؛ إذ كان بالعُدوةِ التي فيها الماءُ لِسُقياهم، والتي أرْضُها مُتوسِّطةُ الصَّلابةِ، فأمَّا جَيشُ المسلمينَ فقد وَجَدوا أنفُسَهم أمامَ العَدُوِّ في عُدوةٍ تَسوخُ في أرضِها الأرجُلُ؛ مِن لِينِ رَملِها، مع قِلَّةِ مائِها، وكانت العِيرُ قد فاتت المسلمينَ، وحلَّتْ وراءَ ظُهورِ جَيشِ المُشركينَ، فكانت في مأمَنٍ مِن أن ينالَها المُسلمونَ، وكان المُشركونَ واثِقينَ بتَمَكُّنِهم مِنَ الذَّبِّ عن عِيرِهم، فكانت ظاهرةُ هذه الحالةِ ظاهرةَ خَيبةٍ وخَوفٍ للمُسلمينَ، وظاهرةَ فَوزٍ وقُوَّةٍ للمُشركينَ، فكان مِن عجيبِ عِنايةِ اللهِ بالمُسلمينَ أنْ قَلَب تلك الحالةَ رأسًا على عَقِبٍ، فأنزل مِن السَّماءِ مَطَرًا تعبَّدَت به الأرضُ لِجَيشِ المُسلمينَ، فساروا فيها غيرَ مَشقوقٍ عليهم، وتطَهَّروا وسَقَوا، وصارت به الأرضُ لِجَيشِ المُشركينَ وَحلًا يثقُلُ فيها السَّيرُ، وفاضت المياهُ عليهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فيه أنَّ تخليةَ الخُمُس للأصنافِ الخمسةِ مِنَ الإيمانِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ استدَلَّ بِعُمومِه مَن قال باستحقاقِ الأغنياءِ مِن الأربعةِ المَذكورينَ أو بَعضِهم، كالفُقَراءِ، ومَن قال باستواءِ ذَكَرِهم وأُنثاهم .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ استُدِلَّ بإضافةِ الغَنيمةِ لهم، على أنَّ الغانِمينَ مَلَكوها بمجَرَّدِ الغَنيمةِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ دلَّ على جوازِ قسمةِ الغنائمِ في دارِ الحربِ، كما هو قولُ الشافعيِّ رحمه الله؛ لأنَّ قوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى... يقتضي ثبوتَ الملكِ لهؤلاء في الغنيمةِ، وإذا حصَل الملكُ لهم فيه، وجَب جوازُ القسمةِ؛ لأنَّه لا معنَى للقسمةِ على هذا التقديرِ إلا صرفُ الملكِ إلى المالكِ، وذلك جائزٌ بالاتفاقِ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ افتتاحُه بِقَولِه: وَاعْلَمُوا للاهتمامِ بِشَأنِه، والتَّنبيهِ على رعايةِ العَمَلِ به؛ فإنَّ المقصودَ بالعِلمِ تَقَرُّرُ الجَزمِ بأنَّ ذلك حُكمُ اللهِ، والعَمَلُ بذلك المَعلومِ .

6- قال الله تعالى: وَلِذِي الْقُرْبَى وهم قَرابةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِن بَني هاشِمٍ وبني المُطَّلِب، وأضافَه اللهُ إلى القرابةِ دليلًا على أنَّ العِلَّةَ فيه مُجرَّدُ القَرابةِ، فيستوي فيه غَنِيُّهم وفَقيرُهم، ذَكَرُهم وأُنثاهم .

7- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْيَتَامَى جعَلَ اللهُ لهم خُمُسَ الخُمُسِ رحمةً بهم؛ حيث كانوا عاجزينَ عن القِيامِ بمَصالِحِهم، وقد فُقِدَ مَن يقومُ بمَصالِحِهم .

8- قولُه تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أضاف اللهُ الغنيمةَ إلى الغانمينَ، وأخرَج منها خُمسَها، فدلَّ على أنَّ الباقيَ لهم، يُقسَمُ على ما قَسَمه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: للراجلِ سهمٌ، وللفارسِ سهمانِ لفرسِه، وسهمٌ له، وأمَّا هذا الخُمسُ، فيُقسَمُ خمسةَ أسهمٍ؛ سهمٌ للهِ ولرسولِه، يُصرفُ في مصالحِ المسلمينَ العامةِ، مِن غيرِ تعيينٍ لمصلحةٍ؛ لأنَّ الله جعَله له ولرسولِه، واللهُ ورسولُه غنيَّانِ عنه، فعُلِم أنَّه لعبادِ الله. فإذا لم يُعيِّنِ الله له مصرفًا، دلَّ على أنَّ مصرفَه للمصالحِ العامةِ، والخمسُ الثاني: لذي القربَى، والخمسُ الثالثُ لليتامَى، والخمسُ الرابعُ للمساكينِ، والخمسُ الخامسُ لابنِ السبيلِ .

9- قَولُه تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ جَرَت العادةُ بِذِكرِه قُدرَتَه عند نَصْرِه الضِّعافَ مِن عبادِه المتمَسِّكينَ بِدينِه، كما قال في الأحزابِ: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب: 27] . وقال في الحُدَيبيةِ: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الفتح:21] كلُّ هذه الآياتِ على وتيرةٍ واحدةٍ، معناها: إنْ كُنتُم ضعافًا عاجزينَ، فهو- جلَّ وعَلا- قادِرٌ قَوِيٌّ، لا يَعجِزُ عن شَيءٍ؛ فإنَّه ينصُرُ أولياءَه ويُقَوِّيهم ويُقْدِرُهم على مَن هو أقوى مِنهم

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيه الانتقالُ لبيانِ ما أُجمل مِن حُكمِ الأنفال، الذي افتُتحتْ به السُّورةُ؛ ناسَبَ الانتقالَ إليه ما جَرَى مِنَ الأمْر بقِتالِ المشرِكينَ إنْ عادوا إلى قِتالِ المُسلِمينَ. والافتتاحُ بـواعْلَمُوا؛ للاهتِمامِ بشأنِه، والتَّنبيهِ على رِعايةِ العَملِ به؛ فإنَّ المقصودَ بالعِلمِ تَقرُّرُ الجزمِ بأنَّ ذلك حُكمُ اللهِ، والعملُ بذلك المعلومِ؛ فيكونُ واعْلَمُوا كنايةً مُرادًا به صريحُه ولازمُه

.

- وقولُه: مِنْ شَيْءٍ بيانٌ لعُمومِ (ما)؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ المقصودَ غنيمةٌ مُعيَّنةٌ خاصَّةٌ .

- وفيه أيضًا: حُسنُ تَركيبٍ؛ حيثُ أفْرَد كَينونةَ الخُمْسِ لله، وفَصَل بين اسمِه تعالى وبين المعاطيفِ بقولِهِ: خُمُسَهُ؛ ليَظْهَرَ انفرادُه تعالى بكينونةِ الخُمُسِ له، ثمَّ أَشْرَكَ المعاطيفَ معه على سَبيلِ التَّبعيَّةِ له، ولم يأتِ التركيبُ (فأنَّ للهِ خُمُسه وللرِّسولِ ولذي القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيل خُمُسه) .

- وإعادةُ اللامِ في وَلِذِي الْقُرْبَى دون غيرِهم مِن الأصنافِ الثَّلاثةِ؛ لدَفْعِ تَوهُّمِ اشتراكِهم في سَهمِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لمزيدِ اتِّصالِهم به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

- وفي قولِه: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ جِيءَ في الشَّرطِ بحرفِ (إنْ) التي شأنُ شَرطِها أن يكونَ مشكوكًا في وقوعِه؛ زيادةً في حثِّهم على الطاعةِ، حيثُ يَفرِضُ حالَهم في صُورةِ المشكوكِ في حُصولِ شَرْطِه؛ إلهابًا لهم؛ ليَبْعثَهم على إظهارِ تحقُّقِ الشَّرطِ فيهم ؛ فهو من بابِ خِطابِ التَّهييجِ .

- إضافةُ (يومٍ) إلى (الفُرْقانِ) في قولِه: يَوْمَ الْفُرْقَانِ إضافةُ تنويهٍ به، وتشريفٍ .

- قولُه: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اعتراضٌ بتذييل الآياتِ السَّابقةِ، وهو مُتعلِّقٌ ببعضِ جُمْلةِ الشَّرْطِ في قولِهِ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ؛ فإن ذلك دليلٌ على أنَّه لا يَتعاصَى على قُدرتِه شيءٌ .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ خَتَم بصِفةِ القُدرةِ قَدِيرٌ؛ لأنَّه تعالى نصَرَ المؤمنينَ على قِلَّتهم على الكافرينَ على كَثْرتِهم ذلك اليومَ .

2- قوله: إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ

- كَانَ تدلُّ على تحقُّق ثُبوتِ معنى خَبرِها لاسمِها من الماضي؛ فمعنى كَانَ مَفْعُولًا أنَّه ثَبَتَ له في عِلْمِ اللهِ أنَّه يُفعَل ، وعبَّر بقولِه: مَفْعُولًا لتَحقُّق كَوْنه .

- وتَنكيرُ أَمْرًا هنا؛ للتَّعظيمِ .

- وقولُه: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ فيه دخولُ لامِ التَّعليلِ على فِعْل ليَهْلِكَ وهو تأكيدٌ لِلَّامِ الدَّاخِلةِ على ليَقْضِيَ في الجُملةِ المُبدَل منها .

- ودلَّ معنى المجاوزةِ الذي في عَنْ على أنَّ المعنى أنْ يكونَ الهلاكُ والحياةُ صادرَينِ عن بيِّنةٍ، وبارزَينِ منها .

- قولُه: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ تذييلٌ يشيرُ إلى أنَّ الله سميعُ دُعاءِ المسلمين طلبَ النَّصْرِ، وسميعُ ما جرَى بينهم مِن الحوارِ في شأنِ الخروجِ إلى بَدْرٍ، ومِن مودَّتهم أن تكونَ غيرُ ذاتِ الشَّوكةِ هي إحْدى الطائفتَينِ التي يُلاقونها، وغير ذلك، وعليمٌ بما يجولُ في خواطِرهم من غير الأمورِ المسموعةِ، وبما يَصْلُح بهم، ويُبْنى عليه مَجْدُ مُستقبلِهم .

======

 

سُورة الأنفالِ

الآيتان (43-44)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ

غريب الكلمات:

 

وَلَتَنَازَعْتُمْ: أي: وَلاختَلَفتُم، والتَّنازُع: التَّجاذُبُ والتَّخاصُمُ والتَّجادُلُ، وأصلُ (نزع) يدُلُّ على قَلعِ شَيءٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا

يُرِيكَهُمُ: (يُري)

فِعلٌ مُضارِعٌ مَرفوعٌ، والكاف في محلِّ نَصبٍ، مَفعولٌ به أوَّلُ. و(هم) في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ به ثانٍ، و(قَلِيلًا) حالٌ- على القَولِ بأنَّ الرُّؤيا المناميَّةَ تتعدَّى لمفعولٍ به واحدٍ، كالرُّؤيةِ البَصَريَّةِ- أو مفعولٌ به ثالثٌ- على القَولِ بأنَّ الرُّؤيا المناميَّةَ تتعدَّى لاثنينِ كالرُّؤيةِ العِلميَّةِ، و(كَثِيرًا) كـ(قَلِيلًا) إعرابًا.

يُرِيكُمُوهُمْ: الرُّؤيةُ هنا بصريَّةٌ لا غيرُ؛ لأنَّها كانت في اليَقَظةِ. وعلى ذَلك فالكافُ في محلِّ نصبٍ، مفعولٌ به أوَّلُ، والميمُ للجَمعِ، وقد أُشبِعَت ضَمَّتُها إلى الواوِ، و (هم) في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ به ثانٍ. و(قَلِيلًا) حالٌ لا غيرُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: اذكُر- يا مُحمَّدُ- حين أراك اللهُ في نَومِك جيشَ الكُفَّارِ في بَدرٍ قليلًا، فأعلَمْتَ أصحابَك بما رأيتَ، فَقَوِيتْ قُلوبُهم على قتالِ الكُفَّارِ، ولو أراكهم اللهُ في نَومِك كثيرًا، فأخبَرْتَ المُسلمينَ بذلك؛ لَجَبُنوا وتنازَعوا في قتالِ المُشركينَ، ولكِنَّ اللهَ سلَّم من ذلك؛ إنَّه عليمٌ بذاتِ الصُّدورِ.

وتأكيدًا لما حصَل مِن بُشرَى الرُّؤيا فقد أراكم الله في الواقعِ جيشَ الكفَّارِ قليلًا؛ لتتشَجَّعوا على قِتالِهم، وقلَّلَكم في أعيُنِهم لِيَستَهينوا بقتالِكم؛ لِيقضيَ اللهُ أمرًا مُقدَّرًا لا بدَّ مِن وُقوعِه؛ مِن قتالِ بعضِكم بعضًا يومَ بَدرٍ، وانتصارِ المسلمينَ، وإهلاكِ الكافرينَ، وإلى الله وَحدَه تُرجَعُ الأمورُ.

تفسير الآيتين:

 

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً.

أي: اذكُر حين

أراك اللهُ في نَومِك- يا مُحمَّدُ- جيشَ الكافرينَ في بدرٍ، وهم قليلٌ، فأخبَرتَ المُسلمينَ برؤياك، فَقَوِيَت قُلوبُهم على قتالِ الكافرينَ .

وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ.

أي: ولو أراكَ اللهُ عَددَ الكافرينَ في منامِك كثيرًا، وأخبرتَ المُسلمينَ بذلك؛ لَجَبُنوا وخافوا، واختَلَفوا في قتالِ المُشرِكينَ .

وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ.

أي: ولكنَّ اللهَ سلَّم المسلمينَ مِن الفَشَلِ والتَّنازُعِ؛ بسبَبِ ما أراك في نَومِك مِن قِلَّةِ عَددِ الكافرينَ، فقَوِيَت قلوبُهم، وتجرَّؤوا على قتالِ عَدُوِّهم .

إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.

أي: إنَّ اللهَ عليمٌ بما تُخفيه الصُّدورُ؛ مِن الإيمانِ والكُفرِ، والوساوسِ وغيرِ ذلك، لا يخفَى عليه شيءٌ سُبحانَه .

وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ (44).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ تعالى ما نشأ عن رُؤيَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن قِلَّتِهم، وما كان ينشأُ عن رؤيتِه الكثرةَ لو وقَعَت؛ أتبَعَه ما فعل مِن اللُّطفِ في رؤيتِهم بأنفُسِهم يقظةً .

وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً.

أي: واذكروا حين أراكُم اللهُ في اليقظةِ- أيُّها المؤمنونَ- جيشَ الكافرينَ قليلًا عندَ اللقاءِ؛ لِتَتشجَّعوا على قتالِهم .

عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (لقد قُلِّلوا في أعيُنِنا يومَ بَدرٍ، حتى قُلْتُ لرَجُلٍ إلى جانِبي: تُراهم سبعينَ؟ قال: لا، بل هم مئةٌ، حتى أخَذْنا رجُلًا منهم فسَأَلْناه، قال: كنَّا ألفًا) .

وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ.

أي: وقَلَّلَكم في أعيُنِ الكافرينَ؛ لِيَرَوكم أقَلَّ ممَّا أنتم عليه، فيَستَهينوا بقتالِكم .

لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً.

أي: خيَّل اللهُ لكُلِّ فَريقٍ قِلَّةَ الفَريقِ الآخَرِ؛ لأجلِ أن يقَعَ ما قدَّره مِن قتالِ بَعضِهم بعضًا في بدرٍ، وانتصارِ المُسلمينَ، وإهلاكِ الكافرينَ .

وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ.

أي: وإلى اللهِ تعالى وَحدَه تَصيرُ جَميعُ أمورِ الخَلائقِ، فيحكُم فيهم بحُكمِه العَدلِ

 

.

كما قال تعالى: أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] .

الفوائد التربوية:

 

في قول الله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تنبيهٌ على أنَّ أمورَ الدُّنيا غيرُ مَقصودةٍ، وإنَّما المرادُ منها ما يَصلُحُ أن يكونَ زادًا لِيَومِ المَعادِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا إذا قيل: كيف يريهم الله قليلًا في منامه، ورؤيا الأنبياءِ حَقٌّ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعلَمُ أنَّهم حوالَي ألف؟ والجوابُ: أنَّ رُؤيا النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حقٌّ، وتأويلَها حَقٌّ؛ لأنَّ معنى رؤياه أنَّ اللهَ قَلَّلَ كُلًّا مِن الطَّائِفَتينِ في عينِ الأُخرَى في اليَقظةِ، وهو معنى قَولِه: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ لَمَّا كان الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مَحميًّا مِن الفَشلِ، معصومًا مِن النَّقائِصِ؛ أسنَدَ الفَشلَ إلى من يُمكِنُ ذلك في حَقِّه، فقال تعالى: لَفَشِلْتُمْ .

3- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا فيه أنَّ القَضاءَ والقَدَرَ قائمانِ بِسُنَنِه تعالى في الأسبابِ والمُسَبَّبات، فهو لو شاء لخَلَقَ في القلوبِ والأذهانِ ما أراده بتأثيرِ مَنامِ الرَّسولِ، وبتقليلِ كُلٍّ مِن الجَمعينِ في أعيُنِ الآخَرِ، مِن غيرِ أن يُرَتِّبَهما على هذينِ السَّبَبينِ، ولكنَّه ناط كلَّ شَيءٍ بِسَببٍ، وخلقَ كلَّ شَيءٍ بِقَدَرٍ .

4- قال الله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ هذا مِن بَديعِ صُنعِ اللهِ تعالى؛ إذ جعَلَ للشَّيءِ الواحِدِ أثَرَينِ مُختَلِفينِ، وجعَلَ للأثرَينِ المُختَلِفينِ أثرًا مُتَّحِدًا، فكان تخيُّلُ المسلمينَ قِلَّةَ المشركينَ مُقَوِّيًا لِقُلوبِهم، وزائدًا لِشَجاعَتِهم، ومُزيلًا للرُّعبِ عنهم، فعَظُم بذلك بأسُهم عند اللِّقاء؛ لأنَّهم ما كان لِيَفُلَّ من بأسِهم إلَّا شُعورُهم بأنَّهم أضعَفُ مِن أعدائِهم عَددًا وعُددًا، فلمَّا أُزيلَ ذلك عنهم بِتَخييلِهم قِلَّةَ عَدُوِّهم، خَلُصَت أسبابُ شِدَّتِهم ممَّا يُوهِنُها، وكان تخيُّلُ المُشركينَ قِلَّةَ المسلمين- أي كَونَهم أقَلَّ ممَّا هم عليه في نَفسِ الأمرِ- بَردًا على غَلَيانِ قُلوبِهم مِن الغَيظِ، وغارًّا إيَّاهم بأنَّهم سيَنالونَ التغَلُّبَ عليهم بأدنى قِتالٍ، فكان صارِفًا إيَّاهم عن التأهُّبِ لقِتالِ المُسلِمينَ، حتى فاجأهم جَيشُ المُسلمينَ، فكانت الدَّائرةُ على المُشرِكينَ، فنتج عن تخيُّلِ القِلَّتَينِ انتصارُ المُسلمينَ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

- قوله: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا أُسنِدَت الإراءةُ إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّ رُؤيا النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحيٌ بمَدْلولِها

.

- وفي قولِه: يُرِيكَهُمُ جاء التعبيرُ بصِيغة المُضارِع؛ لاسْتِحضارِ حالةِ الرُّؤيا العجيبةِ .

- قولُه: وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ مفعولُ سَلَّمَ ومُتعلَّقُه محذوفان إيجازًا؛ إذ دلَّ عليه قولُه: لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ والتَّقديرُ: سَلَّمَكم من الفَشلِ والتَّنازُعِ بأنْ سلَّمكم مِن سببِهما، وهو إراءتُكم واقعَ عددِ المشركينَ .

- وقولُه: وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ فيه وضْعُ الظَّاهِر موضِعَ المُضمَرِ- حيثُ لم يَقُلْ: ولكنَّه سلَّم-؛ وذلك لقَصْدِ زِيادةِ إسنادِ ذلك إلى اللهِ، وأنَّه بعنايته، واهتمامًا بهذا الحادثِ .

- قولُه: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ تذييلٌ للمِنَّةِ، أي: أَوْحى إلى رَسولِه بتلك الرُّؤيا الرَّمزيَّةِ؛ لعِلْمِه بما في الصُّدورِ البشريَّةِ من تأثُّر النُّفوسِ بالمشاهداتِ والمحسوساتِ أَكْثرَ ممَّا تتأثَّر بالاعتقاداتِ .

2- قَولُه تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا فيه تَكرارُ قوله: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا حيثُ ذَكَره في الآيةِ المتقدِّمةِ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال: 42] ، وليس ذلِك محضَ تَكرارٍ؛ فالمقصودُ مِن ذِكرِه في الآيةِ المُتقدِّمةِ هو أنَّه تعالى فَعَل تِلك الأفعالَ ليَحصُلَ استيلاءُ المؤمنين على المشرِكينَ، على وجهٍ يكونُ مُعجزِةً دالَّةً على صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمقصودُ مِن ذِكرِه هاهنا: أنَّه تَعالَى قلَّلَ عَددَ المؤمنِينَ في أعينِ المُشرِكين؛ فبَيَّن هاهنا أنَّه إنَّما فَعَل ذلِك ليَصيرَ ذلك سببًا لئلَّا يُبالِغَ الكُفَّارُ في تَحصيلِ الاستعدادِ والحذَرِ؛ فيصيرُ ذلك سببًا لانكسارِهم .

- قوله: الْتَقَيْتُمْ الالتقاءُ افتعالٌ من اللِّقاءِ، وصيغةُ الافتعالِ فيه دالَّة على المُبالَغةِ .

- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ خُولِفَ الأسلوبُ في حكايةِ إراءةِ المُشركينَ، وحكايةِ إراءةِ المُسلمينَ؛ لأنَّ المُشركينَ كانوا عددًا كثيرًا، فناسب أن يَحكيَ تقليلَهم بإراءَتِهم قليلًا، المؤذنة بأنَّهم ليسُوا بالقَليلِ. وأمَّا المُسلمونَ فكانوا عددًا قليلًا بالنِّسبةِ لعَدُوِّهم، فكان المناسِبُ لِتَقليلِهم: أن يُعَبِّرَ عنه بأنَّه (تقليلٌ)، المؤذِن بأنَّه زيادةٌ في قِلَّتِهم .

- قولُه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تَذييلٌ معطوفٌ على ما قَبْلَه عطفًا اعتراضيًّا، وهو اعتراضٌ في آخِر الكلامِ ، وفي هذا التَّذييلِ تنبيهٌ على أنَّ الحَوْلَ بأجمعِه للهِ تعالى، وأنَّ كلَّ أمرٍ فله وإليه .

- والتعريفُ في قولِه: الْأُمُورُ للاستغراقِ، أي: جميعُ الأشياءِ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...