سورة مريم مكية | رقم السورة: 19 - عدد آياتها : 98 عدد كلماتها : 972 - اسمها بالانجليزي : Maryam
سورة مريم مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة
بسم الله الرحمن الرحيم
كٓهيعٓصٓ (1) ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ زَكَرِيَّآ (2) إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيّٗا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا (4) وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا (6) يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسۡمُهُۥ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّٗا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا (8) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَيۡـٔٗا (9) قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَ لَيَالٖ سَوِيّٗا (10) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ أَن سَبِّحُواْ بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا (11) يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا (12) وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةٗۖ وَكَانَ تَقِيّٗا (13) وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيّٗا (14) وَسَلَٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيّٗا (15) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا (16) فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا (17) قَالَتۡ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّٗا (18) قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمٗا زَكِيّٗا (19) قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ وَلَمۡ أَكُ بَغِيّٗا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞۖ وَلِنَجۡعَلَهُۥٓ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةٗ مِّنَّاۚ وَكَانَ أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا (21) ۞فَحَمَلَتۡهُ فَٱنتَبَذَتۡ بِهِۦ مَكَانٗا قَصِيّٗا (22) فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا (23) فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ أَلَّا تَحۡزَنِي قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا (24) وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَٰقِطۡ عَلَيۡكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا (25) فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا (26) فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥۖ قَالُواْ يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـٔٗا فَرِيّٗا (27) يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا (28) فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا (29) قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا (31) وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا (32) وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا (33) ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٖۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ (36) فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ (37) أَسۡمِعۡ بِهِمۡ وَأَبۡصِرۡ يَوۡمَ يَأۡتُونَنَاۖ لَٰكِنِ ٱلظَّٰلِمُونَ ٱلۡيَوۡمَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ (38) وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ إِذۡ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ وَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (39) إِنَّا نَحۡنُ نَرِثُ ٱلۡأَرۡضَ وَمَنۡ عَلَيۡهَا وَإِلَيۡنَا يُرۡجَعُونَ (40) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِبۡرَٰهِيمَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيًّا (41) إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡـٔٗا (42) يَٰٓأَبَتِ إِنِّي قَدۡ جَآءَنِي مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِيٓ أَهۡدِكَ صِرَٰطٗا سَوِيّٗا (43) يَٰٓأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ عَصِيّٗا (44) يَٰٓأَبَتِ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٞ مِّنَ ٱلرَّحۡمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيۡطَٰنِ وَلِيّٗا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا (46) قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكَۖ سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ بِي حَفِيّٗا (47) وَأَعۡتَزِلُكُمۡ وَمَا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدۡعُواْ رَبِّي عَسَىٰٓ أَلَّآ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّٗا (48) فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا نَبِيّٗا (49) وَوَهَبۡنَا لَهُم مِّن رَّحۡمَتِنَا وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ لِسَانَ صِدۡقٍ عَلِيّٗا (50) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مُوسَىٰٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ مُخۡلَصٗا وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا (51) وَنَٰدَيۡنَٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنِ وَقَرَّبۡنَٰهُ نَجِيّٗا (52) وَوَهَبۡنَا لَهُۥ مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيّٗا (53) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا (54) وَكَانَ يَأۡمُرُ أَهۡلَهُۥ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرۡضِيّٗا (55) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِدۡرِيسَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيّٗا (56) وَرَفَعۡنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٖ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡرَٰٓءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا۩ (58) ۞فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا (60) جَنَّٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحۡمَٰنُ عِبَادَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّهُۥ كَانَ وَعۡدُهُۥ مَأۡتِيّٗا (61) لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوًا إِلَّا سَلَٰمٗاۖ وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِيهَا بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا (62) تِلۡكَ ٱلۡجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنۡ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّٗا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا (64) رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا فَٱعۡبُدۡهُ وَٱصۡطَبِرۡ لِعِبَٰدَتِهِۦۚ هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِيّٗا (65) وَيَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوۡفَ أُخۡرَجُ حَيًّا (66) أَوَ لَا يَذۡكُرُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ يَكُ شَيۡـٔٗا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحۡشُرَنَّهُمۡ وَٱلشَّيَٰطِينَ ثُمَّ لَنُحۡضِرَنَّهُمۡ حَوۡلَ جَهَنَّمَ جِثِيّٗا (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمۡ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحۡمَٰنِ عِتِيّٗا (69) ثُمَّ لَنَحۡنُ أَعۡلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمۡ أَوۡلَىٰ بِهَا صِلِيّٗا (70) وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا (71) ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا (72) وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا (73) وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَحۡسَنُ أَثَٰثٗا وَرِءۡيٗا (74) قُلۡ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَٰلَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَدًّاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلۡعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضۡعَفُ جُندٗا (75) وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ هُدٗىۗ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٞ مَّرَدًّا (76) أَفَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ ٱلۡغَيۡبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا (78) كَلَّاۚ سَنَكۡتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُۥ مِنَ ٱلۡعَذَابِ مَدّٗا (79) وَنَرِثُهُۥ مَا يَقُولُ وَيَأۡتِينَا فَرۡدٗا (80) وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةٗ لِّيَكُونُواْ لَهُمۡ عِزّٗا (81) كَلَّاۚ سَيَكۡفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمۡ وَيَكُونُونَ عَلَيۡهِمۡ ضِدًّا (82) أَلَمۡ تَرَ أَنَّآ أَرۡسَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ تَؤُزُّهُمۡ أَزّٗا (83) فَلَا تَعۡجَلۡ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمۡ عَدّٗا (84) يَوۡمَ نَحۡشُرُ ٱلۡمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحۡمَٰنِ وَفۡدٗا (85) وَنَسُوقُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرۡدٗا (86) لَّا يَمۡلِكُونَ ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا (87) وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗا (88) لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَيۡـًٔا إِدّٗا (89) تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِنۡهُ وَتَنشَقُّ ٱلۡأَرۡضُ وَتَخِرُّ ٱلۡجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوۡاْ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٗا (91) وَمَا يَنۢبَغِي لِلرَّحۡمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا (93) لَّقَدۡ أَحۡصَىٰهُمۡ وَعَدَّهُمۡ عَدّٗا (94) وَكُلُّهُمۡ ءَاتِيهِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَرۡدًا (95) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَيَجۡعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وُدّٗا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا (97) وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هَلۡ تُحِسُّ مِنۡهُم مِّنۡ أَحَدٍ أَوۡ تَسۡمَعُ لَهُمۡ رِكۡزَۢا (98) /سورة مريم
19.*سورة مريم مكية عدد آياتها : 98 .
أسماء السورة
فضائل السورة وخصائصها
بيان المكي والمدني
مقاصد السورة
موضوعات السورة
سورةُ مَريمَ
مقدمة السورة
أسماء السورة:
سُمِّيَت هذه السُّورةُ بسُورةِ (مَريمَ)
، ومما يدلُّ على ذلك:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضِيَ الله عنه، قال: (سورةُ «بني إسرائيلَ»، و«الكَهفِ»، و«مَريمَ»، و«طه»، و«الأنبياءِ»: هُنَّ مِن العِتاقِ الأُوَلِ ، وهُنَّ مِن تِلادي ) .
2- عن أبي هُريرةَ رضِى الله عنه، قال: (قدمتُ المدينةَ مهاجرًا، فصليتُ الصبحَ وراءَ سِباعٍ فقرَأ في السجدةِ الأُولَى سورةَ «مريمَ»، وفي الأُخرَى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)
فضائل السورة وخصائصها
أنَّها مِن السُّوَرِ المتقدِّمِ نزولُها، ومِن قديمِ ما حفِظ الصَّحابةُ وتعلَّموه:
كما في أثرِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضِيَ الله عنه المتقدِّمِ قريبًا.
بيان المكي والمدني:
سورةُ مَريمَ مَكِّيَّةٌ
، وحُكِي الإجماعُ على ذلك
مقاصد السورة:
تحقيقُ العُبوديَّةِ، وتعظيمُ شَأنِ الرُّبوبيَّة، وتقريرُ مَبدأِ البَعثِ
موضوعات السورة:
من أهمِّ موضوعات هذه السُّورةِ:
1- ذِكرُ قِصَّة زكريَّا عليه السلامُ.
2- ذكرُ قِصَّةِ مَريمَ ومولدِ عيسى عليهما السلامُ.
3- ذِكرُ طرفٍ من قِصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مع أبيه.
4- الإشارةُ إلى عددٍ مِن النبيينَ، ومنهم: موسى، وهارونُ، وإسماعيلُ، وإدريسُ عليهم السَّلامُ.
5- بيانُ جزاءِ المتَّقينَ وعقابِ الكافِرينَ، وفَتحُ بابِ التَّوبةِ للعاصينَ.
6- حكايةُ بَعضِ شُبهاتِ المشركينَ المتعلقةِ بالقرآنِ والبعثِ والوحدانيةِ مع الردِّ عليها، وإقامةِ الأدلةِ على وحدانيةِ الله، ونفيِ الشريكِ والولدِ، وإقامةِ الأدلةِ على أنَّ البعثَ حقٌّ.
7- بيانُ بعضِ مَشاهِدِ القيامةِ.
8- خُتِمَت السورةُ بما بَدَأت به مِن بَيانِ مَحبَّةِ اللهِ تعالى وتكريمِه لأوليائِه، وبيانِ الحِكمةِ مِن نُزولِ القُرآنِ، وهي: البِشارةُ والنِّذارةُ.
================
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات (1-6)كٓهيعٓصٓ (1) ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ زَكَرِيَّآ (2) إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيّٗا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ
شَقِيّٗا (4) وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا
(5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا (6)
غريب الكلمات:
وَهَنَ الْعَظْمُ: أي: رقَّ وضَعُف، وأصلُ (وهن): يدُلُّ على ضَعفٍ
وَاشْتَعَلَ: أي: انتَشَر، والاشتعالُ في الأصلِ: انتشارُ شُعاعِ النَّارِ، وأصلُ (شعل): يدُلُّ على انتِشارٍ وتفَرُّقٍ في الشَّيءِ الواحِدِ مِن جَوانِبِه .
شَقِيًّا: أي: خائبًا؛ يُقالُ لكُلِّ مَن سعى في أمرٍ فبطَلَ سَعيُه: قد شَقِيَ به، وإذا أدركَه قيل: قد سَعِدَ به، وأصْلُ (شقي): يدُلُّ على المعاناةِ، وخِلافِ السُّهولةِ والسَّعادةِ .
الْمَوَالِيَ: أي: الأقاربَ والعَصَبةَ مِن الوَرَثةِ الذين يَلونَه في النَّسَبِ، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ .
عَاقِرًا: أي: لا تَلِدُ؛ يُقالُ: عَقَرْتُ النَّخلَ: إذا قطعتَه مِن أصلِه، فإذا لم تلِدْ كأنَّها تعقرُ النسلَ، أي: تقطعُه. وقيل: العاقِرُ: الرَّملةُ التي لا نَبْتَ فيها، ومنه قيل للمرأةِ التي لا تَلِدُ: عاقرٌ .
رَضِيًّا: أي: مَرضيًّا في أخلاقِهِ وأفعالِه، وأصلُ (رضي): يدُلُّ على خِلافِ السُّخْطِ
.
المعنى الإجمالي:
ابتدأ الله هذه السورةَ بالحُروفِ المقَطَّعةِ التي تُبيِّنُ إعجازَ القرآنِ؛ فتُبرِزُ عجزَ الخَلْقِ عن معارضتِه بالإتيانِ بشيءٍ مِن مثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحروفِ العربيَّة التي يتحدَّثون بها!
ثمَّ قال تعالى: هذا الذي نَتلوه عليك ذِكْرُ رَحمةِ رَبِّك عَبدَه زكريَّا؛ إذ دعا ربَّه سرًّا، قال: رَبِّ إني كَبِرْتُ، ورقَّ عَظمي، وانتشَرَ الشَّيبُ في رأسي، ولم أكُنْ مِن قَبلُ حين أدعوك مَحرومًا من إجابةِ الدُّعاءِ، وإنِّي خِفتُ أقاربي وعَصَبتي مِن بعدِ مَوتي أن يُضَيِّعوا الدِّينَ والعِلمَ، ولا يقوموا بهما حَقَّ القيامِ، وكانت زوجَتي عاقِرًا لا تَلِدُ؛ فارزُقْني مِن عِندِك وَلَدًا يَرِثُ عِلْمي ونبُوَّتي، ونبُوَّةَ أجدادِه آلِ يَعقوبَ، واجعَلْ هذا الولَدَ مَرضِيًّا عندَك وعندَ عِبادِك.
تفسير الآيات:
كهيعص (1).
هذه الحروفُ المقطَّعة التي افتُتِحَت بها هذه السُّورةُ وغيرُها، تأتي لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ حيث تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن معارضتِه بمثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها
.
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2).
أي: هذا الذي نَتلوه في هذه الآياتِ، قِصَّةُ رَحمةِ رَبِّك -يا مُحمَّدُ- عَبدَه زكريَّا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
قال تعالى: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنعام: 85] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كان زكريَّاءُ نجَّارًا) ) .
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3).
أي: إذ دعا زكريَّا رَبَّه، وسأَله بنداءٍ خَفيٍّ عن النَّاسِ .
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4).
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي.
أي: قال زكريَّا: يا رَبِّ، إنِّي رقَّ عَظمي، وضعُفَت قُوَّةُ بَدَني .
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا.
أي: وانتشَرَ بَياضُ الشَّيبِ في رأسي .
وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا.
أي: ولم أكُنْ حين أدعوك مِن قَبلُ -يا رَبِّ- خائبًا مَحرومًا مَردودَ الدَّعوةِ، بل عوَّدْتَني إجابةَ دَعوتي، وقَضاءَ حاجَتي .
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5).
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي.
أي: وإنِّي -يا ربِّ- خِفتُ أن يُضَيِّعَ أقاربي مِن بَعدِ موتي الدِّينَ والعِلمَ، ولا يَقوموا بحَقِّهما .
وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا.
أي: وكانت امرأتي عَقيمًا لا تَلِدُ أصلًا .
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا.
أي: فارْزُقْني -يا رَبِّ- مِن عِندِك ولدًا يقومُ بالدِّينِ مِن بعدي حَقَّ القيامِ .
كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 38] .
وقال سُبحانَه: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء: 89] .
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6).
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ.
أي: يَرِثُ عِلمي ونبُوَّتي، ويَرِثُ مِن أجدادِه آلِ يَعقوبَ العِلمَ والنبُوَّةَ، فيكونُ نبيًّا، داعيًا إلى الله، قائمًا بدِينِه .
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا.
أي: واجعَلْ وَلَدي -يا رَبِّ- مَرْضيًّا عندك وعندَ عِبادِك، صالحًا في دينِه وخُلُقِه وأعمالِه
.
الفوائد التربوية:
1- قال الله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا أي: هذا ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا سنقُصُّه عليك، ونفصِّلُه تَفصيلًا يُعرَفُ به حالةُ نبيِّه زكريَّا، وآثارُه الصَّالحةُ، ومَناقِبُه الجميلةُ؛ فإنَّ في قَصِّها عِبرةً للمُعتبرينَ، وأُسوةً للمُقتَدينَ، ولأنَّ في تفصيلِ رحمتِه لأوليائِه، وبأيِّ سبَبٍ حَصَلتْ لهم: ما يدعو إلى محبَّةِ الله تعالى، والإكثارِ مِن ذِكرِه، ومَعرفتِه، والسَّبَبِ المُوصلِ إليه
.
2- قال الله تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا فيه استِحبابُ الإسرارِ بالدُّعاءِ ، وفي إخفاءِ الدُّعاءِ والإسرارِ به فوائِدُ عديدةٌ:
أحدُها: أنَّه أعظَمُ إيمانًا؛ لأنَّ صاحِبَه يعلَمُ أنَّ اللهَ يَسمَعُ الدُّعاءَ الخَفيَّ.
ثانيها: أنَّه أعظَمُ في الأدبِ والتعظيمِ؛ لأنَّ الملوكَ لا تُرفَعُ الأصواتُ عِندَهم، ومَن رفَعَ صَوتَه لديهم مَقَتوه، ولله المثَلُ الأعلى.
ثالثها: أنَّه أبلَغُ في التضَرُّعِ والخُشوعِ الذي هو رُوحُ الدُّعاءِ ولُبُّه ومَقصودُه.
رابعُها: أنَّه أبلَغُ في الإخلاصِ.
خامسها: أنَّه أبلَغُ في جَمعيَّةِ القَلبِ على الذِّلَّةِ في الدُّعاءِ؛ فإنَّ رَفعَ الصَّوتِ يُفَرِّقُه، فكلَّما خَفَض صَوتَه كان أبلغَ في تجريدِ هِمَّتِه وقَصدِه للمَدعُوِّ سُبحانَه.
سادسها - وهو مِن النُّكَتِ البَديعةِ جِدًّا: أنَّه دالٌّ على قُربِ صاحِبِه للقَريبِ، لا مسألةَ نداءِ البعيدِ للبَعيدِ؛ ولهذا أثنى اللهُ على عَبدِه زكريَّا بقَولِه عزَّ وجَلَّ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3] ، فلمَّا استحضَرَ القَلبُ قُربَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وأنَّه أقرَبُ إليه مِن كُلِّ قَريبٍ؛ أخفى دُعاءَه ما أمكَنَه.
سابعها: أنَّه أدعى إلى دوامِ الطَّلَبِ والسُّؤالِ؛ فإنَّ اللِّسانَ لا يَمَلُّ، والجوارِحَ لا تتعَبُ، بخلافِ ما إذا رَفَع صَوتَه، فإنَّه قد يَمَلُّ اللِّسانُ وتَضعُفُ قُواه.
ثامنها: أنَّ إخفاءَ الدُّعاءِ أبعَدُ له من القواطِعِ والمشَوِّشاتِ؛ فإنَّ الدَّاعيَ إذا أخفى دُعاءَه لم يَدرِ به أحَدٌ، فلا يحصُلُ على هذا تشويشٌ ولا غيرُه، وإذا جهَرَ به فَرَطَت له الأرواحُ البشَريَّةُ -ولا بُدَّ- ومانعَتْه وعارضَتْه، ولو لم يكُنْ إلَّا أنَّ تعَلُّقَها به يُفزِعُ عليه همَّته، فيُضعِفُ أثَرَ الدُّعاءِ، ومن له تجرِبةٌ يَعرِفُ هذا، فإذا أسَرَّ الدُّعاءَ أمِنَ هذه المَفسَدةَ.
تاسعها: أنَّ أعظَمَ النِّعمةِ الإقبالُ والتعَبُّدُ، ولكُلِّ نِعمةٍ حاسِدٌ على قَدْرِها، دَقَّت أو جَلَّت، ولا نِعمةَ أعظَمُ مِن هذه النِّعمةِ؛ فإنَّ أنفُسَ الحاسِدينَ مُتعَلِّقةٌ بها، وليس للمَحسودِ أسلَمُ مِن إخفاءِ نِعمتِه عن الحاسِدِ.
عاشرها: أنَّ الدُّعاءَ هو ذِكرٌ للمَدعُوِّ سُبحانَه وتعالى، متضَمِّنٌ للطَّلَبِ والثَّناءِ عليه بأوصافِه وأسمائِه، فهو ذِكرٌ وزيادةٌ، كما أنَّ الذِّكرَ سُمِّيَ دُعاءً لتضَمُّنِه للطَّلَبِ. والمقصودُ: أنَّ كُلَّ واحدٍ من الدُّعاءِ والذِّكرِ يتضَمَّنُ الآخَرَ ويدخُلُ فيه، وقد قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً [الأعراف: 205] فأمَرَ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَذكُرَه في نَفسِه .
3- قال الحَسَنُ البَصريُّ: (لقد أدرَكْنا أقوامًا ما كان على الأرضِ مِن عَمَلٍ يَقدِرونَ على أن يَعمَلوه في السِّرِّ، فيَكونُ علانيةً أبدًا، ولقد كان المُسلِمونَ يجتَهِدونَ في الدُّعاءِ، وما يُسمَعُ لهم صَوتٌ، إنْ كان إلَّا هَمسًا بينهم وبين رَبِّهم عزَّ وجَلَّ؛ ذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ يقولُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] ، وذلك أنَّ الله تعالى ذكَرَ عَبدًا صالِحًا ورَضِيَ قَولَه، فقال: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3] ) .
4- قَولُ الله تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا مِن فوائِدِ هذه القِصَّةِ تعليمُ آدابِ الدُّعاءِ، وهي مِن جِهاتٍ:
أحدُها: قَولُه: نِدَاءً خَفِيًّا وهو يدُلُّ على أنَّ أفضَلَ الدُّعاءِ ما هذا حالُه، ويؤكِّدُ قَولَه تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] ، ولأنَّ رَفعَ الصَّوتِ مُشعِرٌ بالقُوَّةِ والجَلادةِ، وإخفاءَ الصَّوتِ مُشعِرٌ بالضَّعفِ والانكسارِ، وعُمدةُ الدُّعاءِ الانكِسارُ والتبَرِّي عن حولِ النَّفسِ وقُوَّتِها، والاعتمادُ على فَضلِ اللهِ تعالى وإحسانِه.
ثانيها: أنَّ المُستحَبَّ للدَّاعي أن يَذكُرَ في مُقَدِّمةِ الدُّعاءِ عَجزَ النَّفسِ وضَعفَها، كما في قولِ الله تعالى حكايةً عن زكريا عليه السلامُ: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ، فالشَّيبُ دَليلُ الضَّعفِ والكِبَرِ، ورسولُ الموتِ ورائِدُه، ونذيرُه، فتوسَّلَ إلى الله تعالى بضَعفِه وعَجزِه، وهذا مِن أحَبِّ الوَسائِلِ إلى الله؛ لأنَّه يدُلُّ على التبَرِّي من الحَولِ والقُوَّةِ، وتعلُّقِ القَلبِ بحَولِ اللهِ وقُوَّتِه .
ويُستحَبُّ له أيضًا أن يَذكُرَ كَثرةَ نِعَمِ الله، على ما في قولِه تعالى حكايةً عن زكريا عليه السلامُ أيضًا: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا.
ثالثُها: أن يكونَ الدُّعاءُ لأجلِ شَيءٍ مُتعَلِّقٍ بالدِّينِ، لا لِمَحضِ الدُّنيا، كما قال: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي.
رابعُها: أن يكونَ الدُّعاءُ بلَفظِ (يا رَبِّ)، على ما في هذا الموضِعِ .
5- قَولُه تعالى: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا فيه التوسُّلُ إلى اللهِ بنِعَمِه وعوائدِه الجَميلةِ . وهذه وَسيلةٌ حَسَنةٌ: أن يُتشَفَّعَ إليه بنِعَمِه، ويُستَدَرَّ فَضلُه بفَضلِه ، فزكريا عليه السلامُ توسَّل إلى الله بإنعامِه عليه، وإجابةِ دعواتِه السابقةِ، فسأل الذي أحسَنَ سابقًا، أن يتمِّمَ إحسانَه لاحقًا
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ... فافتُتِحَتْ قِصَّةُ مريمَ وعيسى بما يتَّصِلُ بها من شُؤونِ آلِ بيتِ مريمَ وكافِلِها؛ لأنَّ في تلك الأحوالِ كلِّها تذكيرًا برحمةِ اللهِ تعالى وكرامتِه لأوليائِه
.
2- قولُ الله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا وصَفَه بالعبوديَّةِ؛ تَشريفًا له، وإعلامًا له بتَخصيصِه وتَقريبِه .
3- قَولُ الله تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا فيه سؤالٌ: أنَّ مِن شَرطِ النِّداءِ الجَهرَ، فكيف الجَمعُ بينَ كَونِه (نداءً) و(خَفيًّا)؟
الجوابُ مِن أوجُهٍ:
الوجهُ الأولُ: أنَّ زكريَّا -عليه السَّلامُ- أتَى بأقصى ما قدَرَ عليه مِن رَفعِ الصَّوتِ، إلَّا أنَّ الصَّوتَ كان ضَعيفًا لنهايةِ الضَّعفِ؛ بسبَبِ الكِبَرِ، فكان نداءً نظرًا إلى قَصدِه، وخفيًّا نظرًا إلى الواقِعِ.
الوجه الثاني: أنَّه دعا في الصَّلاةِ؛ لأنَّ الله تعالى أجابه في الصَّلاةِ؛ لِقَولِه تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران: 39] ، فكَونُ الإجابةِ في الصَّلاةِ يدُلُّ على كَونِ الدُّعاءِ في الصَّلاةِ؛ فوجب أن يكونَ النداءُ فيها خَفيًّا .
الوجهُ الثالث: أنَّه لا مُنافاةَ بينَ كَونِه (نداءً) وكونِه (خفيًّا)؛ لأنَّه نداءُ مَن يَسمَعُ الخَفاءَ .
4- قولُ الله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا فيه شَفَقةُ زكريَّا عليه السَّلامُ ونُصحُه، وأنَّ طَلَبَه للوَلدِ ليس كطَلَبِ غَيرِه؛ قَصْدُه مجرَّدُ المصلحةِ الدُّنيويَّة، وإنَّما قَصدُه مصلحةُ الدِّينِ، والخَوفُ مِن ضَياعِه .
5- قَولُ الله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي في الإخبارِ بـ خِفْتُ بلَفظِ الماضي إعلامٌ بتقادُمِ العَهدِ في ذلك .
6- في قولِه تعالى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا حُجَّةٌ في تسميةِ المخلوقينَ بأسماءِ اللهِ؛ إِذِ الوَليُّ اسمٌ مِن أسمائِه .
7- قَولُ اللهِ تعالى: يَرِثُنِي استدَلَّ به من قال: إنَّ الأنبياءَ يُورَثونَ، ورُدَّ بأنَّ المرادَ إرثُ العِلمِ والنبُوَّةِ، والأنبياءُ أعظَمُ مِن أن يهتَمُّوا بإرثِ المالِ، ويدُلُّ له قَولُه: وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ .
8- قَولُ الله تعالى: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ خُصَّ اسمُ (يعقوب) اقتداءً به نفسِه؛ إذ قال ليوسُفَ -عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ-: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ [يوسف: 6] ، ولأنَّ إسرائيلَ صار عَلَمًا على الأسباطِ كُلِّهم، وكانت قد غَلَبَت عليهم الأحداثُ
.
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا جاء نظْمُ هذا الكلامِ على طريقةٍ بديعةٍ من الإيجازِ، والعُدولِ عن الأُسلوبِ المُتعارَفِ في الإخبارِ، وأصْلُ الكلامِ: ذِكْرُ عبْدِنا زكريَّا إذ نادى ربَّه، فقال: ربِّ... إلخ، فرحِمه ربُّك؛ فكان في تَقديمِ الخبرِ بأنَّ اللهَ رحِمَه: اهتمامٌ بهذه المَنقبةِ له، والإنباءُ بأنَّ اللهَ يرحَمُ مَن الْتجَأَ إليه
.
- وفي التَّعرُّضِ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ -رَبِّكَ- المُنبئةِ عنِ التَّبليغِ إلى الكمالِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إيذانٌ بأنَّ تنزيلَ السُّورةِ عليه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تكميلٌ له صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، وأيضًا في إضافةِ (ربِّ) إلى ضَميرِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قولِه: رَبِّكَ، وإلى ضَميرِ زكريَّا في قولِه: عَبْدَهُ: تَنويهٌ بهما .
2- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا
- جُملةُ: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي مُبيِّنةٌ لجُملةِ نَادَى رَبَّهُ، وهي وما بعدَها تَمهيدٌ للمقصودِ من الدُّعاءِ، وهو قولُه: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا؛ وإنَّما كان ذلك تَمهيدًا لِما يتضمَّنُه من اضطرارِه لسُؤالِ الولدِ، واللهُ يُجيبُ المُضطَرَّ إذا دعاهُ؛ فليس سُؤالُه الولدَ سُؤالَ توسُّعٍ لمُجرَّدِ تَمتُّعٍ أو فخْرٍ، ووصَفَ من حالِه ما تشتَدُّ معه الحاجةُ إلى الولدِ حالًا ومآلًا؛ فكان وهْنُ العظْمِ وعُمومُ الشَّيبِ حالًا مُقتضيًا للاستعانةِ بالولدِ، مع ما يَقْتضيه مِن اقترابِ إبَّانِ الموتِ عادةً؛ فذلك مقصودٌ لنفْسِه، ووسيلةٌ لغيرِه وهو الميراثُ بعدَ الموتِ .
- وقَولُه: قَالَ رَبِّ بحَذفِ أداةِ النِّداءِ؛ للدَّلالةِ على غايةِ القُربِ .
- قولُه: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي فيه تأكيدُ الجُملةِ بـ (إنَّ)؛ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتَحقيقِ مَضمونِها .
- والخبرانِ من قولِه: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا مُستعملانِ في لازمِ الإخبارِ، وهو الاسترحامُ لحالِه؛ لأنَّ المُخْبَرَ عالمٌ بما تَضمَّنَه الخبرانِ .
- وقولُه: وَهَنَ الْعَظْمُ فيه إسنادُ الوهْنِ إلى العظْمِ؛ لأنَّه عمودُ البدَنِ، وبه قوامُه، وهو أصلُ بِنائِه، فإذا وهَنَ تداعى وتساقطَتْ قُوَّتُه، ولأنَّه أشدُّ ما فيه وأصلَبُه، فإذا وهَنَ كان ما وراءَه أوهَنَ. ووحَّدَه -حيث لم يقُل: (العِظام)-؛ لأنَّ الواحِدَ هو الدَّالُّ على معنى الجِنسيَّةِ، وقصْدُه: أنَّ هذا الجنسَ الَّذي هو العمودُ والقوامُ وأشَدُّ ما تركَّبَ منه الجسدُ قد أصابَه الوهْنُ، ولو جمَعَ لكان قاصدًا معنًى آخرَ، وهو أنَّه لم يَهِنْ منه بعضُ عِظامِه ولكنْ كلُّها .
- وفي قولِه: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا إطنابٌ؛ فقدِ انتقَلَ أوَّلًا: من (شِخْتُ) الدَّالِّ على ضعْفِ البدَنِ وشيْبِ الرَّأسِ إجْمالًا إلى هذا التَّفصيلِ؛ لمزيدِ التَّقريرِ. وثانيًا: من هذه المرتبةِ إلى ثالثةٍ أبلَغَ منها، وهي الكِنايةُ الَّتي هي أبلَغُ من التَّصريحِ. وثالثًا: من هذه المرتبةِ إلى رابعةٍ أبلَغَ في التَّقريرِ، وهي بِناءُ الكنايةِ على المبتدأِ، أي قولُك: أنا وهنَتْ عِظامُ بَدَني. ورابعًا: من هذه المرتبةِ إلى خامسةٍ أبلَغَ، وهي إدخالُ (إنَّ) على المبتدأِ (إنِّي وهنَتْ عِظامُ بَدَني). وخامسًا: إلى مرتبةٍ سادسةٍ، وهي سُلوكُ طريقِ الإجمالِ ثمَّ التَّفصيلِ، أي: (إنِّي وهنَتِ العِظامُ من بَدَني). وسادسًا: إلى مرتبةٍ سابعةٍ، وهي ترْكُ توسيطِ البدَنِ لادِّعاءِ اختصاصِها بالبدَنِ، بحيث لا يحتاجُ إلى التَّصريحِ بالبدنِ. وسابعًا: إلى مرتبةٍ ثامنةٍ، وهي ترْكُ جمْعِ العظْمِ إلى الإفرادِ؛ لشُمولِ الوهْنِ العِظامَ فردًا فردًا ؛ وكان الأصْلُ (اشتعَلَ شيْبُ رأْسي)، فأسنَدَ الاشتعالَ إلى الرَّأسِ؛ لإفادةِ شُمولِه لكلِّها؛ فإنَّ وِزانَه بالنِّسبةِ إلى الأصْلِ وِزانُ: (اشتعَلَ بيتُه نارًا) بالنِّسبةِ إلى (اشتعَلَ النَّارُ في بيتِه)، ولزيادةِ تَقريرِه بالإجمالِ أوَّلًا، والتَّفصيلِ ثانيًا، ولمَزيدِ تَفخيمِه بالتَّنكيرِ ، وشبَّه بياضَ الشيبِ وانتشارَه في الرأسِ بشعاعِ النارِ وانتشارِها، وأضاف الاشتعالَ إلى مكانِ الشعرِ ومنبتِه وهو الرأسُ، ولم يُضِف الرأسَ؛ اكتفاءً بعلمِ المخاطبِ أنَّه رأسُ زكريَّا عليه السلامُ . وقيل: أسندَ الاشتِعالَ إلى الرَّأسِ، وهو مكانُ الشَّعرِ الذي عَمَّه الشَّيبُ؛ لأنَّ الرَّأسَ لا يَعمُّه الشَّيبُ إلَّا بعد أن يَعُمَّ اللِّحيةَ غالِبًا، فعُمومُ الشَّيبِ في الرَّأسِ أمارةُ التوغُّلِ في كِبَرِ السِّنِّ .
- قولُه: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وقولُه: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا فيه: التَّعرُّضُ في الموضعينِ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ المُنبئةِ عن إضافةِ ما فيه صَلاحُ المربوبِ مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، لا سِيَّما توسيطِه بين (كان) وخبَرِها؛ لتَحريكِ سلسلةِ الإجابةِ بالمُبالغةِ في التَّضرُّعِ .
- وجُملةُ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أطلَقَ نفْيَ الشَّقاوةِ، والمُرادُ حُصولُ ضِدِّها -وهو السَّعادةُ- على طريقِ الكِنايةِ؛ إذ لا واسطةَ بينهما عُرْفًا، ومثْلُ هذا التَّركيبِ جَرى في كلامِ العربِ مَجْرى المثَلِ في حُصولِ السَّعادةِ من شَيءٍ .
3- قوله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا
- قولُه: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ عطْفٌ على قولِه تعالى: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مُترتِّبٌ مضمونُه على مَضمونِه؛ فإنَّ ضَعْفَ القُوى وكِبَرَ السِّنِّ من مبادئِ خوْفِه عليه السَّلامُ مَن يَلِي أمْرَه بعدَ موتِه .
- قولُه: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ يَنساقُ إليه الذِّهنُ، أي: فِعْلَ الموالي مِن بعدي، أو جَورَ الموالي .
- قولُه: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا أتى بفعْلِ (كان)؛ للدَّلالةِ على أنَّ العَقْرَ مُتمكِّنٌ منها، وثابتٌ لها؛ فلذلك حُرِمَ من الولدِ منها .
- قولُه: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا الفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبْلَها؛ فإنَّ ما ذكَرَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من كِبَرِ السِّنِّ، وضعْفِ القُوى، وعَقْرِ المرأةِ: مُوجِبٌ لانقطاعِ رجائِه عليه السَّلامُ عن حُصولِ الولَدِ بتوسُّطِ الأسبابِ العاديَّةِ، واستيهابِه على الوجْهِ الخارقِ للعادةِ، ولا يقدَحُ في ذلك أنْ يكونَ هناك داعٍ آخرُ إلى الإقبالِ على الدُّعاءِ المذكورِ من مُشاهدتِه عليه السَّلامُ للخوارقِ الظَّاهرةِ في حَقِّ مريمَ، كما يُعرِبُ عنه قولُه تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران: 38] الآيةَ، وعدَمُ ذِكْرِه هاهنا للتَّعويلِ على ذِكْرِه هناك، كما أنَّ عدَمَ ذِكْرِ مُقدِّمةِ الدُّعاءِ هناك للاكتفاءِ بذكْرِه هاهنا؛ فإنَّ الاكتفاءَ بما ذُكِرَ في موطنٍ عمَّا تُرِكَ في موطنٍ آخرَ من النُّكتِ التَّنزيليَّةِ .
- وإنَّما قدَّمَ لِي على مِنْ لَدُنْكَ؛ لأنَّه الأهمُّ في غرَضِ الدَّاعي، وهو غرَضٌ خاصٌّ يُقدَّمُ على الغرضِ العامِّ .
- وقولُه: مِنْ لَدُنْكَ تأكيدٌ لكونِه وَلِيًّا مرضيًّا، بكونِه مُضافًا إلى اللهِ تعالى، وصادرًا من عندِه .
- وتأخيرُ وَلِيًّا عن الجارَّينِ -لِي مِنْ لَدُنْكَ-؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتناءِ بكونِ الهبةِ له على ذلك الوجْهِ البديعِ، مع ما فيه من التَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ؛ فإنَّ ما حَقُّه التَّقديمُ إذا أُخِّرَ تَبْقَى النَّفسُ مُستشرِفةً، فعندَ وُرودِه لها يتمكَّنُ عندَها فضْلَ تمكُّنٍ، ولأنَّ فيه نوعَ طولٍ بما بعدَه من الوصفِ، فتأخيرُهما عن الكلِّ أو توسيطُهما بين الموصوفِ والصِّفةِ ممَّا لا يليقُ بجَزالةِ النَّظمِ الكريمِ .
4- قوله تعالى: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا.
- قولُه: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ، أي: يرِثُني به وارثٌ، ويُسمَّى في علْمِ البيانِ التَّجريدَ ، وهذا التَّجريدُ في الآيةِ هنا بـ (مِن) التَّجريديَّةِ كقولِهم: لي من فُلانٍ صديقٌ حميمٌ .
- قولُه: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا فيه توسيطُ (رَبِّ) بين مَفْعولي (اجعَلْ)؛ للمُبالغةِ في الاعتناءِ بشأْنِ ما يَسْتدعيه .
====================
سورةُ مَريمَ
الآيات (7-11)
ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ
غريب الكلمات:
سَمِيًّا: أي: أحدًا مُسمًّى قَبلَه بهذا الاسمِ، وأصلُه مِن السُّمُوِّ
، وهو الذي به رَفعُ ذِكرِ المُسَمَّى، فيُعرَفُ به .
عِتِيًّا: أي: غايةَ الكِبَرِ في السِّنِّ، حتَّى نحِل العظمُ ويَبِس، والعِتِيُّ: الكِبَرِ المُتَناهي، وكلُّ مُتَناهٍ إلى غايَتِه في كِبرٍ، أو فسادٍ، أو كفرٍ، فهو عاتٍ، وقيل: العِتِيُّ: يبسٌ في الأعضاءِ والمفاصلِ .
سَوِيًّا: أي: صَحيحًا، لا عِلَّةَ به مِن خَرَسٍ أو مَرَضٍ يمنَعُه مِن الكَلامِ، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ واعتدالٍ .
الْمِحْرَابِ: المحرابُ: الموضِعُ العالي الشَّريفُ، ويُطلَقُ على الغُرفةِ، والمسجدِ، ومقدَّمِ كلِّ مجلسٍ ومصلًّى .
بُكْرَةً: أي: أوَّلَ النهارِ، وقيل: المرادُ صلاةُ الغداةِ، وأصلُ (بكر): أوَّلُ الشيءِ وبدؤُه .
وَعَشِيًّا: أي: آخرَ النهارِ، أو: ما بعدَ الزَّوالِ إلى المغرِب، أو: من الظُّهْرِ إلى نِصْفِ اللَّيْل، أو: مِنْ زوالِ الشَّمْسِ إلى الصَّباحِ، وقيل: المرادُ صلاةُ العصرِ، وأصلُ (عشو): يدلُّ على ظلامٍ، وقلةِ وضوحِ الشيءِ
.
المعنى الإجمالي:
يبيِّنُ الله تعالى أنَّه قد أجاب بفضلِه وكرمِه دعاءَ عبدِه زكريا، وأنَّه نوديَ: يا زكريَّا، إنَّا نُبشِّرُك بإجابةِ دُعائِك، قد وَهَبْنا لك غُلامًا اسمُه يحيى، لم نُسَمِّ أحدًا قَبلَه بهذا الاسمِ، قال زكريَّا متعَجِّبًا: ربِّ كيف يكونُ لي غُلامٌ، وكانت امرأتي عقيمًا لا تَلِدُ، وقد بلغتُ النِّهايةَ في الكِبَر؟ قال: هكذا الأمرُ كما تقولُ مِن كَونِ امرأتِك عاقِرًا، وبلوغِك من الكِبَرِ عِتيًّا، ولكنَّ ربَّك قال: هذا أمرٌ سَهلٌ هيِّنٌ عليَّ، وقد خَلقتُك أنت مِن قَبلِ يحيى، ولم تكُن شَيئًا مَوجودًا. قال زكريَّا: ربِّ اجعَلْ لي علامةً على تحقُّقِ هذه البشارةِ. قال: علامتُك ألَّا تَقدِرَ على كلامِ النَّاسِ مُدَّةَ ثلاثِ ليالٍ، وأنت صحيحٌ ليس بك مَرَضٌ يمنَعُك من الكلامِ. فخرج زكريَّا على قَومِه مِن مُصَلَّاه الذي بُشِّرَ فيه بالوَلَدِ، فأشار إليهم: أنْ سَبِّحوا اللهَ أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه؛ شُكرًا له تعالى.
تفسير الآيات:
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7).
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى.
أي: فاستجاب اللهُ له ونُودِيَ
: يا زكريَّا، إنا نُبَشِّرُك بإجابةِ دُعائِك، فستُوهَبُ غُلامًا اسمُه يحيى .
كما قال تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 39] .
وقال سُبحانَه: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء: 90] .
لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا.
أي: لم نُسَمِّ أحدًا قبلَ يحيى بهذا الاسمِ .
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8).
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا.
أي: قال زكريَّا مُتعَجِّبًا: يا ربِّ كيف يُولَدُ لي غُلامٌ، وزوجتي عقيمٌ لا تَحمِلُ .
وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا.
وقد بلغتُ غايةً في كِبَر السنِّ حتى نحَلَت عظامي ويَبِسَت ؟!
كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران: 40] .
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9).
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ.
أي: قال لزكريَّا : هكذا الأمرُ كما ذكرتَ مِن أنَّ امرأتَك عاقِرٌ، وأنَّك بلغْتَ من الكِبَر عِتيًّا، فمجيءُ الولَدِ منكما والحالةُ هذه أمرٌ مُستغرَبٌ في العادةِ، ولكِنْ قال ربُّك: هذا الأمرُ يسيرٌ وسَهلٌ عليَّ .
كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران: 40] .
وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا.
أي: وقد أوجَدْتُك -يا زكريَّا- مِن قَبلِ يحيى، ولم تكنْ شيئًا موجودًا؛ فكذلك أنا قادِرٌ على إيجاد ولدٍ لك مِن زوجتِك العاقِرِ مع كِبَرِ سِنِّك، فلا تعجَبْ؛ فكما لا عجَبَ مِن خَلقِ الولَدِ في الأحوالِ المألوفةِ، كذلك لا عجَبَ مِن خَلقِ الولَدِ في الأحوالِ النَّادرةِ؛ فكلاهما إيجادٌ بعدَ عَدَمٍ .
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10).
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً.
أي: قال زكريَّا: يا رَبِّ، اجعَلْ لي علامةً أستَدِلُّ بها على حَملِ زوجتي؛ ليطمَئِنَّ قلبي .
قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا.
أي: قال اللهُ لزكريَّا: العَلامةُ التي جعَلْناها لك دليلًا على حَملِ زَوجتِك: ألَّا تَقدِرَ على الكَلامِ مع النَّاسِ ثَلاثَ ليالٍ، وأنت صحيحٌ ليس بك مَرَضٌ يمنَعُك مِن الكلامِ !
كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [آل عمران: 41] .
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11).
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ.
أي: فخرج زكريَّا على قَومِه بني إسرائيلَ مِن مُصَلَّاه الذي بُشِّرَ فيه بالوَلَدِ .
قال تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران: 39] .
فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
أي: فأشار إلى قَومِه أن سبِّحوا في أوَّلِ النَّهارِ وآخِرِه
.
الفوائد التربوية :
يُستحبُّ للمُسلِمِ أنْ يُبادِرَ إلى مَسَرَّةِ أخيه، وإعلامِه بما يُفرِحُه، ومن ذلك بِشارةُ مَن وُلِدَ له وَلَدٌ، قال تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال الله تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى سمَّاه اللهُ له «يحيى» وكان اسمًا موافِقًا لِمُسماه: يحيا حياةً حِسِّيةً، فتَتِمُّ به المنَّةُ، ويحيا حياةً مَعنويَّةً، وهي حياةُ القلبِ والرُّوحِ بالوَحيِ والعِلمِ والدِّينِ
.
2- قولُه تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا فيه فضيلَةٌ ليحيى مِن جهتينِ: الأولَى أَنَّ اللَّهَ سبحانَه هو الَّذي تولَّى تَسْمِيَتَه به، ولم يَكِلْها إِلى الأبوينِ. والجهةُ الثَّانيةُ: أنَّ تسميتَه باسمٍ لم يُوضَعْ لغيرِه يُفيدُ تشريفَه وتعظيمَه .
3- في قوله تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا إلى قوله سبحانه: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً دليلٌ على تثبيتِ الخبرِ المرويِّ وصحته: ((ليس الخَبَرُ كَالمعاينة )) ؛ وذلك أنَّ زكريا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَشْكُ إلى ربِّه وَهَنَ عَظْمِه، واشتعالَ الشيبِ في رأسه إلَّا وهو مُوقنٌ بإجابةِ دعوتِه؛ ثم بَشَّرَه اللهُ ببشارةِ الغلامِ؛ فقال ما قال -وهو عالمٌ بأنَّ ربَّه يَقْدِرُ عليه- فلا وجهَ له -واللهُ أعلمُ- غيرُ ما قُلْنا مِن أنَّ المعاينةَ في الأشياءِ أبلغُ مِن الخَبرِ، وإنْ كان الخَبرُ بالغًا عندَ المؤمنين .
4- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا جُعِلت الآيةُ الدالةُ عليه سكوتًا عن غيرِ ذكرِ الله؛ دلالةً على إخلاصِه، وانقطاعِه بكليتِه إلى الله دونَ غيرِه .
5- الإنسانُ لَمَّا كان يعلمُ أنه خُلِقَ بعد أنْ لم يكُنْ، ذُكِّرَ بذلك؛ ليَستدِلَّ به على قُدرةِ الخالقِ على تغييرِ العادةِ؛ ولهذا ذَكَر تعالى ذلك في خَلْقِ يحيى بنِ زكريا عليه السَّلامُ، وفي النَّشأةِ الثَّانيةِ؛ قال تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا، وقال تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 66 - 67] ، فذُكِّرَ الإنسانُ بما يعلَمُه مِن أنَّه خلَقَه ولم يَكُ شيئًا؛ ليَستَدِلَّ بذلك على قُدرتِه على مِثلِ ذلك، وعلى ما هو أهوَنُ منه .
6- قال تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا، وإنَّما أمَرَهم زكريا عليه السلامُ بالتَّسبيحِ؛ لئلَّا يَحسَبوا أنَّه لمَّا لم يُكلِّمْهم قد نذَرَ صمْتًا، فيَقْتدوا به فيصْمُتوا، وكان الصَّمتُ من صُنوفِ العبادةِ في الأُممِ السَّالفةِ، فأومَأَ إليهم أنْ يشْرَعوا فيما اعتادوهُ من التَّسبيحِ، أو أراد أنْ يُسبِّحوا اللهَ تَسبيحَ شُكْرٍ على أنْ وهَبَ نَبِيَّهم ابنًا يرِثُ علْمَه ، وذلك على أحدِ القولينِ في معنى التسبيحِ.
7- قولُه تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا دليلٌ على أنَّ مَن حَلَف ألَّا يُكَلِّمَ رَجُلًا، فكتَبَ إليه أو أشار: أنَّه لا يَحنَثُ؛ لأنَّ زكريَّا لم يخرِجْه مِن الآيةِ إفهامُ قومِه بما قام عندَهم مقامَ الكلامِ في الفهمِ، ولم يكُنْ كلامًا .
8- يُستحَبُّ الذِّكرُ بعدَ الصَّلاتَينِ اللَّتَينِ لا تطَوُّعَ بعدَهما، وهما: الفَجرُ والعَصرُ، فيُشرَعُ الذِّكرُ بعد صلاةِ الفَجرِ إلى أن تَطلُعَ الشَّمسُ، وبعد العَصرِ حتى تَغرُبَ الشَّمسُ، وهذان الوقتان -أعني وقتَ الفَجرِ ووقتَ العَصرِ- هما أفضَلُ أوقاتِ النَّهارِ للذِّكرِ؛ ولهذا أمرَ الله تعالى بذِكرِه فيهما في مواضِعَ مِن القرآنِ، كقَولِه تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وقَولِه: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 42] ، وقَولِه: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الإنسان: 25] ، وقَولِه: وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [آل عمران: 41] ، وقولِه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم: 17] ، وقَولِه: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [غافر: 55] ، وقَولِه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205] ، وقولِه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه: 130] ، وقَولِه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ
[ق: 39] .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا
- قولُه: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى مقولُ قولٍ محذوفٍ دَلَّ عليه السِّياقُ عقِبَ الدُّعاءِ إيجازًا، أي: قُلْنا: يا زكريَّا... إلخ
. ومعنى اسْمُهُ يَحْيَى: سَمِّه يحيى؛ فالكلامُ خبرٌ مُستعملٌ في الأمرِ .
- وفي تَعيينِ اسْمِ يحيى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تأكيدٌ للوعدِ، وتَشريفٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفي تَخصيصِه به عليه السَّلامُ حَسَبَما يُعرِبُ عنه قولُه تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، أي: شريكًا له في الاسمِ، حيث لم يُسَمَّ أحدٌ قبْلَه بيحيى: مزيدُ تَشريفٍ وتَفخيمٍ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّ التَّسميةَ بالأسامي البديعةِ المُمتازةِ عن أسماءِ سائرِ النَّاسِ تَنويهٌ بالمُسمَّى لا مَحالةَ .
2- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا استئنافٌ مَبنيٌّ على السُّؤالِ؛ كأنَّه قيلَ: فماذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينئذٍ؟ فقيلَ: قَالَ رَبِّ ...؛ ناداهُ تعالى بالذَّاتِ مع وُصولِ خطابِه تعالى إليه بتَوسيطِ الملَكِ؛ للمُبالغةِ في التَّضرُّعِ والمُناجاةِ والجِدِّ في التَّبتُّلِ إليه تعالى، والاحترازِ عمَّا عسى يُوهِمُ خِطابُه للملَكِ مِن توهُّمِ أنَّ علْمَه تعالى بما يصدُرُ عنه مُتوقِّفٌ على توسُّطِه، كما أنَّ علْمَ البشرِ بما يصدُرُ عنه سُبحانه مُتوقِّفٌ على ذلك في عامَّةِ الأوقاتِ .
- قولُه: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ (أنَّى) استفهامٌ مُستعملٌ في التَّعجُّبِ، والتَّعجُّبُ مُكنًّى به عن الشُّكرِ، فهو اعترافٌ بأنَّها عطيَّةٌ عزيزةٌ غيرُ مألوفةٍ؛ لأنَّه لا يجوزُ أنْ يسأَلَ اللهَ أنْ يهَبَ له ولدًا، ثمَّ يتعجَّبَ من استجابةِ اللهِ له . وقيل: قاله استعظامًا لقُدرةِ اللهِ تعالى، وتعجُّبًا منها، تعجُّبَ فرَحٍ وسُرورٍ، واعتدادًا بنِعمتِه تعالى عليه في ذلك بإظهارِ أنَّه من مَحْضِ لُطفِ الله -عَزَّ وعلا- وفضلِه، مع كونِه في نفْسِه من الأُمورِ المُستحيلةِ عادةً، لا استبعادًا له. وقيل: لم يقُلْه إنكارًا، إنَّما قاله ليُجابَ بما أُجيبَ به عن طلَبِه الولَدَ، وهو قولُه تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى؛ فيَزدادَ المُؤمِنون الموقِنون إيقانًا، ويرتدِعَ المُبطِلون. وقيل: كان ذلك منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ استفهامًا عن كيفيَّةِ حُدوثِه .
- وفيه إيجازٌ؛ فظاهِرُ الكلامِ يُوهِمُ أنَّه استبعَدَ ما وعَدَه اللهُ عزَّ وجلَّ بوُقوعِه، ولا يجوزُ لأحدٍ -بَلْهَ النَّبيِّ- النُّطْقُ بما لا يَسوغُ أو بما في ظاهِرِه الإيهامُ، فجاء الكلامُ مُوجَزًا، وتَقديرُه: هل تُعادُ لنا قُوَّتُنا وشبابُنا فنُرزقَ بغُلامٍ؟ أو هل يكونُ الولَدُ لغيرِ الزَّوجةِ العاقرِ؟ إذنْ فالمُستبعَدُ هو مَجيءُ الولدِ منهما بحالِهما، ولكنَّ الجوابَ أزال الإشكالَ؛ إذ قيل له: سيكونُ لكما الولدُ وأنتما بحالِكما .
- قولُ زكريَّا عليه السلامُ، فيما يحكيه اللهُ عنه: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا فيه البَداءةُ هاهنا بذكْرِ حالِ امرأتِه على عكْسِ قولِه الذي حكاه الله عنه في سُورةِ (آلِ عمرانَ)؛ حيث قال: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران: 40] ؛ ولعلَّ ذلك لأنَّه قد ذُكِرَ حالُه في تَضاعيفِ دُعائِه في (آلِ عمرانَ)، وإنَّما المذكورُ هاهنا بُلوغُه أقصَى مراتبِ الكِبَرِ تتمَّةً لِما ذُكِرَ قبْلُ، وأمَّا هنالك فلم يَسبِقْ في الدُّعاءِ ذِكْرُ حالِه؛ فلذلك قدَّمَه على ذِكْرِ حالِ امرأتِه؛ لِما أنَّ المُسارعةَ إلى بَيانِ قُصورِ شأنِه أنسبُ .
- قولُه: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا حالٌ من ضَميرِ المُتكلِّمِ مُؤكِّدةٌ للاستبعادِ إثرَ تأكيدٍ .
3- قولُه تعالى: قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا استِئنافٌ مَبنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ ممَّا سلَفَ. وقولُه: قَالَ رَبُّكَ ... استِئنافٌ مُقرِّرٌ لمضمونِه، أي: قال عَزَّ وعلا: الأمْرُ كما وعدْتُ، وهو واقعٌ لا مَحالةَ، وتوسيطُ قَالَ بينَ الجُملتينِ مُشعِرٌ بمزيدِ الاعتناءِ بكلٍّ نهما. وقيل: (ذلك) إشارةٌ إلى ما قاله زكريَّا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، أي: قال تعالى: الأمْرُ كما قلْتَ؛ تَصديقًا له فيما حَكاهُ من الحالةِ المُباينةِ للولادةِ في نفْسِه وفي امرأتِه، وقولُه تعالى: قَالَ رَبُّكَ ... استِئنافٌ مسوقٌ لإزالةِ استبعادِه بعدَ تقريرِه، أي: قال تعالى: وهو مع بُعْدِه في نفْسِه عليَّ هيِّنٌ. وقيل: (ذلك) في قولِه: كَذَلِكَ إشارةٌ إلى مُبْهَمٍ يُفسِّرُه قولُه تعالى: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. ويجوزُ أنْ يكونَ المُشارُ إليه بقولِه: كَذَلِكَ هو القولَ المأخوذَ من قَالَ رَبُّكَ، أي: إنَّ قولَ ربِّكَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ بلَغَ غايةَ الوُضوحِ في بابِه، بحيثُ لا يَبينُ بأكثَرِ مما علِمْتَ؛ فيكونُ جاريًا على طريقةِ التَّشبيهِ، وعلى هذا الاحتمالِ فجُملةُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ تعليلٌ لإبطالِ التَّعجُّبِ إبطالًا مُستفادًا من قولِه: كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ، ويكونُ الانتقالُ من الغَيبةِ في قولِه: قَالَ رَبُّكَ إلى التَّكلُّمِ في قولِه: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ الْتفاتًا، ومُقْتضى الظَّاهرِ: هو عليه هيِّنٌ .
- وفُصِلَت جُملةُ: قَالَ كَذَلِكَ عن الَّتي قبْلَها، أي: لم تُعْطَفْ عليها؛ لأنَّها جرَتْ على طريقةِ المُحاورةِ، وهي جوابٌ عن تعجُّبِه. والمقصودُ منه إبطالُ التَّعجُّبِ الَّذي في قولِه: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم: 8] .
- وقولُه: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ جوابًا لسُؤالٍ ناشئٍ عن قولِه: كَذَلِكَ؛ لأنَّ تقريرَ منشأِ التَّعجُّبِ يُثيرُ ترقُّبَ السَّامعِ أنْ يعرِفَ ما يُبطِلُ ذلك التَّعجُّبَ المُقرَّرَ، وهي أيضًا جُملةٌ مُقرِّرةٌ للوَعدِ المذكورِ، دالَّةٌ على إنجازِه، داخلةٌ في حيِّزِ (قال) الأوَّلِ؛ كأنَّه قيل: قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: مثْلَ ذلك القولِ البديعِ قلْتُ -وذلك على أحدِ القولينِ في القائلِ-، أي: مثْلَ ذلك الوعدِ الخارقِ للعادةِ وعدْتُ: هو علَيَّ خاصَّةً هيِّنٌ، وإنْ كان في العادةِ مُستحيلًا. ثمَّ أُخرِجَ القولُ الثَّاني هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ مخرَجَ الالتفاتِ؛ جرْيًا على سَننِ الكبرياءِ لتَربيةِ المَهابةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ. ثمَّ أسنَدَ -في قولِه: رَبُّكَ- إلى اسمِ الرَّبِّ المُضافِ إلى ضَميرِه عليه السَّلامُ؛ تَشريفًا له، وإشعارًا بعلَّةِ الحُكْمِ؛ فإنَّ تذكيرَ جَريانِ أحكامِ رُبوبيَّتِه تعالى عليه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- مِن إيجادِه مِن العَدمِ، وتَصريفِه في أطوارِ الخَلْقِ من حالٍ إلى حالٍ، شيئًا فشيئًا، إلى أنْ يبلُغَ كمالَه اللَّائقَ به: ممَّا يَقلعُ أساسَ استبعادِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لحُصولِ الموعودِ، ويُورِثُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الاطمئنانَ بإنجازِه لا مَحالةَ. ثمَّ الْتفَتَ في قولِه: عَلَيَّ من ضَميرِ الغائبِ العائدِ إلى الرَّبِّ إلى ياءِ العَظمةِ؛ إيذانًا بأنَّ مدارَ كونِه هيِّنًا عليه سُبحانه هو القُدرةُ الذَّاتيَّةُ لا رُبوبيَّتُه تعالى له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خاصَّةً، وتَمهيدًا لِما يعقُبُه .
- وجُملةُ: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا قيل: إنَّها جُملةٌ مُستأنَفةٌ مُقرِّرةٌ لِما قبْلَها، والمُرادُ به ابتداءُ خلْقِ البشرِ هو الواقعُ إثرَ العدَمِ المحضِ، لا ما كان بعدَ ذلك بطريقِ التَّوالُدِ المُعتادِ. وإنَّما لم يُنسَبْ ذلك إلى آدمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو المخلوقُ من العدَمِ حقيقةً، بأنْ يُقالَ: وقد خلقْتُ أباك أو آدمَ من قبْلُ ولم يَكُ شيئًا، مع كِفايتِه في إزالةِ الاستبعادِ بقياسِ حالِ ما بُشِّرَ به على حالِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: لتأكيدِ الاحتجاجِ به، وتَوضيحِ منهاجِ القياسِ؛ حيث نَبَّهَ على أنَّ كلَّ فردٍ من أفرادِ البشرِ له حظٌّ من إنشائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من العدمِ. ولمَّا كان خلْقُ آدمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على هذا النَّمطِ السَّاري إلى جميعِ أفرادِ ذُرِّيتِه، أبدعَ من أنْ يكونَ ذلك مقصورًا على نفْسِه، كما هو المفهومُ من نِسبةِ الخلْقِ المذكورِ إليه، وأدلَّ على عِظَمِ قُدرتِه تعالَى، وكمالِ علْمِه وحكمتِه، وكان عدَمُ زكريَّا حينئذٍ أظهَرَ عنده وأجْلى، وكان حالُه أولى بأنْ يكونَ مِعيارًا لحالِ ما بُشِّرَ به؛ نسَبَ الخلْقَ المذكورَ إليه، كما نسَبَ الخلْقَ والتَّصويرَ إلى المُخاطبينَ في قولِه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف: 11] ؛ توفيةً لمقامِ الامتنانِ حَقَّه، فكأنَّه قيل: وقد خلقْتُك مِن قبْلُ في تضاعيفِ خلْقِ آدمَ ولم تكُنْ إذ ذاك شيئًا أصلًا، بلْ عدمًا بحتًا، ونفيًا صِرفًا . وقيل: الجُملةُ في موضعِ الحالِ مِن ضَميرِ الغَيبةِ الَّذي في قولِه: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أي: إيجادُ الغُلامِ لكَ هيِّنٌ عليَّ في حالِ كوني قد خلقْتُك مِن قبْلِ هذا الغُلامِ ولم تكُنْ موجودًا، أي: في حالِ كونِه مُماثِلًا لخلْقي إيَّاكَ، فكما لا عجَبَ من خلْقِ الولدِ في الأحوالِ المألوفةِ، كذلك لا عجَبَ من خلْقِ الولدِ في الأحوالِ النَّادرةِ؛ إذ هما إيجادٌ بعدَ عدمٍ .
4- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا
- قولُه: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً في هذا الاستعجالِ تَعريضٌ بطلَبِ المُبادرةِ به؛ ولذلك حُذِفَ مُتعلِّقُ آَيَةً .
- قولُه: اجْعَلْ لِي آَيَةً اللَّامُ في ﯕ مُتعلِّقةٌ بـ اجْعَلْ، وتقديمُها على المفعولِ به؛ للاعتناءِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ. أو مُتعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقَعَ حالًا من آَيَةً؛ إذ لو تأخَّرَ لكان صِفَةً لهَا. وقيل: اجْعَلْ بمعنى التَّصييرِ لمَفعولينِ؛ أوَّلُهما: آَيَةً، وثانيهما: الظَّرفُ لِي، وتقديمُه لأنَّه لا مُسوِّغَ لكونِ آَيَةً مُبتدأً عندَ انحلالِ الجُملةِ إلى مُبتدأٍ وخبرٍ سِوى تقديمِ الظَّرفِ؛ فلا يتغيَّرُ حالُهما بعدَ وُرودِ النَّاسخِ اجْعَلْ .
- قولُه: ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ذكَرَ اللَّياليَ هنا، والأيَّامَ في (آلِ عمرانَ) في قولِه: قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران: 41] ؛ للدَّلالةِ على أنَّه استمَرَّ عليه المنعُ من كلامِ النَّاسِ والتَّجرُّدُ للذِّكرِ والشُّكرِ ثلاثةَ أيَّامٍ وليالِيهنَّ .
- قولُه: ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا سَوِيًّا حالٌ من فاعلِ تُكَلِّمَ مُفيدٌ لكونِ انتفاءِ التَّكلُّمِ بطريقِ الاضطرارِ دونَ الاختيارِ، أي: تُمنَعَ الكلامَ، فلا تُطيقَ به حالَ كونِك سَوِيَّ الخلْقِ، سليمَ الجوارحِ، ما بك شائبةُ بَكَمٍ ولا خَرَسٍ، وعلى هذا فذِكْرُ الوصفِ لمُجرَّدِ تأكيدِ الطُّمأنينةِ، وإلَّا فإنَّ تأجيلَه بثلاثِ ليالٍ كافٍ في الاطمئنانِ على انتفاءِ العاهةِ .
5- قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
- قولُه: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فيه تعديةُ لفظةِ فَخَرَجَ بـ عَلَى؛ لأنَّه ضمَّنَ (خرَجَ) معنى (طلَعَ) .
- قولُه: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا خَصَّ التَّسبيحَ بالذِّكرِ؛ لأنَّ العادةَ جاريةٌ أنَّ كلَّ مَن رأى أمْرًا عجِبَ منه، أو رأى فيه بديعَ صَنعةٍ أو غريبَ حِكمةٍ يقولُ: سُبحانَ اللهِ! سُبحانَ الخالقِ! فلمَّا رأى حُصولَ الولدِ من شيخٍ وعاقرٍ عجِبَ من ذلك، فسبَّحَ، وأمَرَ بالتَّسبيحِ
===================
سورةُ مَريمَ
الآيات (12-15)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
غريب الكلمات:
وَحَنَانًا: أي: رَحمةً ومحبَّة، وأصلُ (حنن): يَدلُّ على الإشفاقِ والرِّقَّةِ
.
جَبَّارًا: أي: متكبِّرًا، متعاليًا عن قَبولِ الحقِّ، ويُقالُ للقاهرِ غيرَه: جبارٌ، وقيل: هو الذي يَضربُ، ويقتُلُ على الغضبِ، وأصلُ (جبر) هنا: جنسٌ مِن العظمةِ والعلُوِّ .
عَصِيًّا: أي: عاصيًا، والعَصِيُّ: ذو العصيانِ، وعَصَى عِصيانًا: إذا خرَج عن الطاعةِ، وأصلُه أن يتمنَّعَ بعَصاه .
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ: أي: سَلامةٌ وأمانٌ، وأصلُ (سلم): يدلُّ على صِحَّةٍ وعافيةٍ
.
المعنى الإجمالي:
أوجَد الله تعالى هذا الغلامَ المبشَّرَ به، وهو يحيى عليه السلامُ، وبيَّن سبحانَه ما أمَره به، وما منَحه مِن صفاتٍ فاضلةٍ، فقال تعالى: يا يحيى، خُذِ التَّوراةَ بجِدٍّ واجتِهادٍ؛ بحِفظِ ألفاظِها، وفَهمِ مَعانيها، والعَمَلِ بها، والدعوةِ لاتِّباعِها، وأعطيناه الفَهمَ لكِتابِ اللهِ، والحُكمَ به وهو صغيرُ السِّنِّ. وآتيناه رَحمةً ومَحبَّةً مِن عندِنا، وطهارةً مِن الذُّنوب، وكان مُطيعًا لله تعالى، وكان بارًّا بوالِدَيه مُطيعًا لهما، ولم يكُنْ متكَبِّرًا ولا عاصيًا. وسلامٌ مِن اللهِ على يحيى وأمانٌ له يومَ وُلِد، ويومَ يموتُ، ويومَ يُبعَثُ حيًّا يومَ القيامةِ.
تفسير الآيات:
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12).
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ.
أي: فوُلِد لزكريَّا يحيى، وقال اللهُ له: يا يحيى، خُذِ التَّوراةَ بجِدٍّ واجتهادٍ وعَزمٍ؛ فَهمًا لمعانيها، وعَمَلًا بما فيها، وحَملًا للنَّاسِ على اتِّباعِها
.
وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا.
أي: وأعطَينا يحيى الفَهمَ لكِتابِ اللهِ، والعِلمَ بأحكامِه، والعَمَلَ به، والحُكمَ به في حالِ صِغَرِه وصِباه قبلَ بُلوغِه .
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13).
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا.
أي: وأعْطَيْنا يحيى رَحمةً مِن عِندِنا .
وَزَكَاةً.
أي: وطهارةً مِن الذُّنوبِ والآفاتِ، ونقاءً مِن الخبائِثِ .
وَكَانَ تَقِيًّا.
أي: وكان مُمتَثِلًا لأوامِرِ رَبِّه، مُجتَنِبًا لنواهيه .
كما قال تعالى: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 39] .
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14).
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ.
أي: وكان مُسارِعًا في طاعةِ والِدَيه، كثيرَ الإكرامِ والإحسانِ إليهما قَولًا وفِعلًا .
وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا.
أي: ولم يكُنْ مُتكَبِّرًا عن عبادةِ اللهِ، ولا مُترفِّعًا على أبويه وغيرِهما مِن النَّاسِ، ولا مُستَخِفًّا بحقوقِ العبادِ، بل كان مُتواضِعًا مُتذلِّلًا، طائعًا لا يعصي ربَّه ولا والِدَيه، ولا يَظلِمُ عِبادَ اللهِ .
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15).
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ.
أي: وتحيَّةٌ مِن اللهِ ليحيى يومَ وُلِد، وأمانٌ وسَلامةٌ له من الشَّيطانِ، ومِن كُلِّ ما يكرَهُ .
وَيَوْمَ يَمُوتُ.
أي: وتحيةٌ مِنَ اللهِ على يحيى يومَ يموتُ، وأمانٌ وسَلامةٌ له مِن كُرَبِ الموتِ، وعذابِ القَبرِ وفِتنَتِه .
وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.
أي: وتحيَّةٌ مِنَ اللهِ ليحيى، وأمانٌ وسلامةٌ له حين نبعَثُه حيًّا يومَ القيامةِ، فيأمَنُ مِن الفَزعِ والأهوالِ وعذابِ النَّارِ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا فيه ردٌّ لِمَن قال: إنَّ النبُوَّةَ لم تحصُلْ لأحدٍ إلَّا بعدَ الأربعينَ
، وهذا على القولِ بأنَّ الْحُكْمَ هنا المرادُ به: النبوةُ.
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً يدُلُّ على أنَّ فِعلَ العبدِ خَلقٌ لله تعالى؛ لأنَّه تعالى جَعَلَ طَهارةَ يحيى عليه السَّلامُ وزَكاتَه منه تعالى .
3- قَولُ الله تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا أي: لم يكُنْ مُتجَبِّرًا مُتكَبِّرًا عن عبادةِ اللهِ، ولا مُترفِّعًا على عبادِ الله، ولا على والِدَيه، بل كان مُتواضِعًا، مُتذَلِّلًا مُطيعًا، أوَّابًا لله على الدَّوامِ؛ فجمَع بينَ القيامِ بحَقِّ اللهِ، وحَقِّ خَلْقِه؛ ولهذا حصَلَت له السَّلامةُ مِنَ اللهِ في جميع ِأحواله؛ مَبادِئِها وعواقِبِها؛ فلذا قال: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، وذلك يقتضي سلامَتَه من الشَّيطانِ والشَّرِّ والعِقابِ في هذه الأحوالِ الثَّلاثةِ وما بينَها، وأنَّه سالمٌ مِن النَّارِ والأهوالِ، وأنَّه مِن أهلِ دارِ السَّلامِ .
4- قَولُه تعالى: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا إنْ قيلَ: ما الحِكمةُ في تقييدِ السَّلامِ في قِصَّةِ يحيى عليه السَّلامُ بهذه الأوقاتِ الثَّلاثةِ، وكذلك المسيحُ في قَولِه: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 33] ؟
فالجوابُ: أنَّ سِرَّه -والله أعلمُ- أنَّ طَلَبَ السَّلامةِ يتأكَّدُ في المواضِعِ التي هي مَظانُّ العَطَبِ ومواطِنُ الوَحشةِ، وكلَّما كان الموضِعُ مَظِنَّةَ ذلك تأكَّد طَلَبُ السَّلامةِ، وتعلَّقَت بها الهِمَّةُ، فذُكِرَت هذه المواطِنُ الثَّلاثةُ؛ لأنَّ السَّلامةَ فيها آكَدُ، وطَلَبَها أهمُّ، والنَّفسَ عليها أحرَصُ؛ لأنَّ العبدَ فيها قد انتقلَ مِن دارٍ كان مُستقِرًّا فيها مُوطَّنَ النَّفسِ على صُحبتِها وسُكناها، إلى دارٍ هو فيها مُعَرَّضٌ للآفاتِ والمحَنِ والبلاءِ، فإنَّ الجنينَ مِن حينِ خَرَج إلى هذه الدَّارِ انتصَبَ لبلائِها وشَدائِدِها، ولَأْوائِها ومِحَنِها وأفكارِها؛ ولهذا مِن حينِ خَرَج ابتدرَتْه طَعنةُ الشَّيطانِ في خاصرتِه، فبكى لذلك، ولِمَا حصلَ له من الوَحشةِ بفِراقِ وَطَنِه الأوَّلِ؛ فكان طَلَبُ السَّلامةِ في هذه المواطِنِ مِن آكَدِ الأمورِ.
الموطنُ الثَّاني: خروجُه مِن هذه الدَّارِ إلى دارِ البَرزخِ عندَ الموتِ، ونِسبةُ الدُّنيا إلى تلك الدَّارِ كنِسبةِ دارِه في بطنِ أمِّه إلى الدُّنيا تقريبًا وتمثيلًا، وإلَّا فالأمرُ أعظَمُ مِن ذلك وأكبَرُ، وطلَبُ السَّلامةِ أيضًا عند انتقالِه إلى تلك الدَّارِ مِن أهَمِّ الأمورِ.
الموطنُ الثالث: مَوطِنُ يومِ القيامةِ، يومَ يَبعَثُ الله تعالى الأحياءَ، ولا نِسبةَ لِما قَبلَه مِن الدُّورِ إليه، وطلَبُ السَّلامةِ فيه آكَدُ مِن جميعِ ما قَبلَه؛ فإنَّ عَطَبَه لا يُستدرَكُ، وعَثْرتَه لا تُقالُ، وسَقَمَه لا يُداوَى، وفَقْرَه لا يُسَدُّ.
فتأمَّلْ كيف خَصَّ هذه المواطِنَ بالسَّلامِ؛ لشِدَّةِ الحاجةِ إلى السلامةِ فيها، وتأمَّلْ ما في السَّلامِ مع الزيادةِ على السَّلامةِ مِن الأُنسِ، وذَهابِ الوَحشةِ، ثمَّ أنزِلْ ذلك على الوَحشةِ الحاصلةِ للعَبدِ في هذه المواطِنِ الثلاثةِ؛ عند خُروجِه إلى عالمِ الابتلاءِ، وعند مُعاينتِه هَولَ المَطلَعِ إذا قَدِمَ على اللهِ وحيدًا مجرَّدًا عن كلِّ مُؤنِسٍ إلَّا ما قدَّمه من صالحِ عَمَلٍ، وعند موافاتِه القيامةَ مع الجَمعِ الأعظَمِ؛ ليصيرَ إلى إحدى الدارَينِ التي خُلِقَ لها، واستُعمِلَ بعَمَلِ أهلِها؛ فأيُّ موطنٍ أحَقُّ بطلَبِ السَّلامةِ مِن هذه المواطِنِ التي يكونُ الإنسانُ فيها في غايةِ الضَّعفِ والحاجةِ، وقِلَّةِ الحِيلةِ والفَقرِ إلى اللهِ، وعَظيمِ الهَولِ ؟!
عن ابنِ عُيَينةَ قال: (أوحَشُ ما يكونُ الخَلقُ في ثلاثةِ مَواطِنَ: يومَ يُولَدُ فيرى نفسَه خارجًا مِمَّا كان فيه، ويومَ يموتُ فيرَى قَومًا لم يكُنْ عايَنَهم، ويومَ يُبعَثُ فيرَى نفسَه في محشَرٍ عظيمٍ. قال: فأكرَمَ اللهُ فيها يحيى بنَ زكريَّا، فخصَّه بالسَّلامِ عليه؛ فقال: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)
.
بلاغة الآيات :
1- قولُه تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا استئنافٌ طُوِيَ قبْلَه جُمَلٌ كثيرةٌ؛ مُسارَعةً إلى الإنباءِ بإنجازِ الوعدِ الكريمِ، والتَّقديرُ: فلمَّا وُلِدَ يحيى وكبِرَ، وبلَغَ السِّنَّ الَّذي يُؤمَرُ فيه، قال اللهُ له...
، وهو مقولُ قولٍ محذوفٍ، بقرينةِ أنَّ هذا الكلامَ خِطابٌ ليحيى؛ فلا مَحالةَ أنَّه صادرٌ من قائلٍ، ولا يُناسِبُ إلَّا أنْ يكونَ قولًا من اللهِ تعالى. وهذا ابتداءُ ذِكْرِ فضائلِ يحيى، وطُوِيَ ما بين ذلك؛ لعدَمِ تعلُّقِ الغرضِ به، والسِّياقُ يدُلُّ عليه .
2- قولُه تعالى: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا جعْلُ حنانِ يحيى من لدُنِ اللهِ: إشارةٌ إلى أنَّه مُتجاوِزٌ المُعتادَ بينَ النَّاسِ. وجِيءَ في وصْفِه بالتَّقوى بفعْلِ (كَانَ)؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِه مِن الوصفِ .
- وقولُه: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا عطْفٌ على الْحُكْمَ، وتنوينُ (حَنَانًا) وتنكيرُه؛ للتَّفخيمِ، ومِنْ مُتعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقَعَ صِفةً له مُؤكِّدةً لِما أفادَه التَّنوينُ من الفخامةِ الذَّاتيَّةِ بالفخامةِ الإضافيَّةِ، أي: وآتيناهُ رحمةً عظيمةً، كائنةً من جنابِنا، أو رحمةً في قلْبِه وشفقةً على أبويه وغيرِهما .
3- قوله تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا
- قولُه: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ فيه عطْفُ بُرورِه بوالديهِ على كونِه تقيًّا؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِه من هذا الوصفِ. والبَرُّ -بفتحِ الباءِ- وصْفٌ على وزْنِ المصدرِ؛ فالوصفُ به مُبالغةٌ .
- قولُه: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا المُبالغةُ مُنصرِفةٌ إلى النَّفيِ لا إلى المنفيِّ، أي: لم يكُنْ عاصيًا بالمرَّةِ .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال تعالى هنا في قصَّةِ يحيى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا، وفي قصَّةِ عيسى عليه السَّلامُ قال: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم: 32] ؛ فاختلَفَ الوصفانِ في الآيتينِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ اللهَ سُبحانه وصَفَ يحيى عليه السَّلامُ بعِظَمِ التَّقوى في قولِه: وَكَانَ تَقِيًّا، وتقيٌّ: فعيلٌ من التَّقوى، وهو من أبنيةِ المُبالغةِ؛ فيُفْهَمُ الوفاءُ بوُجوهِ التَّقوى حتَّى لا يكونَ من الموصوفِ به معصيةٌ ولا تقصيرٌ، فالمُرادُ بقولِه: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا نفْيٌ للمعاصي جُملةً؛ ثمَّ نُوسِبَ بينَ هذا الوصفِ وما تقدَّمَه وَسَيِّدًا وَحَصُورًا؛ فورَدَ بلفظِ المُبالغةِ مثْلَه. وأمَّا قولُه في قصَّةِ عيسى عليه السَّلامُ: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا؛ فملحوظٌ في ذلك ما جرَى لأتْباعِه عليه السَّلامُ، وما وَقَعوا فيه مِن العظيمةِ حينَ قالوا: هو ابنُ اللهِ -تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا-، فاستحقُّوا الوصفَ بالشَّقاءِ بمقالِهم، والشَّقِيُّ مُستحِقٌ العذابَ الأُخرويَّ .
ووجهٌ آخَرُ: أنَّ الأوَّلَ: إخبارٌ مِن اللهِ تعالى ببركتِه وسلامِه عليه. والثاني: إخبارُ عيسى عليه السَّلامُ عن نَفسِه؛ فناسَبَ عَدَمُ التَّزكيةِ لِنَفسِه بنَفيِ المعصيةِ؛ أدبًا مع اللهِ تعالى، وقال: شَقِيًّا أي: بعُقوقِ أمِّي، أو بعيدًا مِن الخيرِ .
4- قولُه تعالى: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، أي: إنَّ إكرامَ اللهِ مُتمكِّنٌ من أحوالِه الثَّلاثةِ المذكورةِ. وهذا كنايةٌ على أنَّه بمَحلِّ العنايةِ الإلهيَّةِ في هذه الأحوالِ، والمُرادُ باليومِ: مُطلَقُ الزَّمانِ الواقعِ فيه تلك الأحوالُ، وجِيءَ بالفعلِ المُضارعِ في وَيَوْمَ يَمُوتُ؛ لاستحضارِ الحالةِ الَّتي مات فيها .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قال تعالى هنا: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ...، فقاله في قصَّةِ يحيى مُنكَّرًا، وقال بعدُ في قصَّةِ عيسى: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ... مُعرَّفًا؛ لأنَّ الأوَّلَ من اللهِ، والقليلُ منه كثيرٌ، والثَّاني من عيسى، و(أل) للاستغراقِ أو للعهْدِ، أي: ذلك السَّلامُ الموجَّهُ إلى يحيى مُوجَّهٌ إليَّ .
وقيل: الحِكمةُ في تسليمِ اللهِ تعالى على يحيى بلَفظِ النَّكِرةِ، وتَسليمِ المسيحِ على نَفسِه بلَفظِ المعرفةِ: أنَّ في دُخولِ اللامِ في السَّلامِ فوائِدَ، وهي: قَصدُ التبَرُّكِ باسمِه السَّلامِ، والإشارةُ إلى طَلَبِ السَّلامِ له، وسُؤالُها من اللهِ باسمِ السَّلامِ، وقَصدُ عُمومِ السَّلامِ؛ لذا كان ذلك هو الأحسَنَ في سلامِ العبادِ؛ ولذلك دخَلَت الألفُ واللامُ في سلامِ عيسى على نفسِه. ولَمَّا كان المتكَلِّمُ بالسَّلامِ على يحيى هو اللهَ تعالى في قَولِه تعالى: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ فلم يَقصِدْ تبَرُّكًا بذِكرِ الاسمِ، كما يَقصِدُ العَبدُ؛ فإنَّ التبَرُّكَ استِدعاءُ البَرَكةِ واستِجلابُها، والعبدُ هو الذي يَقصِدُ ذلك، ولا قَصَدَ أيضًا تعرُّضًا وطلَبًا على ما يَقصِدُه العَبدُ، ولا قصَدَ العُمومَ، وهو أيضًا غيرُ لائقٍ هنا؛ لأنَّ سلامًا منه سُبحانَه كافٍ مِن كُلِّ سَلامٍ، ومُغنٍ عن كلِّ تحيةٍ، ومُقَرِّبٌ مِن كلِّ أمنيةٍ؛ فأدنى سَلامٍ منه -ولا أدنى هناك- يَستغرِقُ الوَصفَ، ويُتِمُّ النِّعمةَ، ويَدفَعُ البُؤسَ، ويُطيِّبُ الحياةَ، ويَقطَعُ موادَّ العَطَبِ والهلاكِ؛ فلم يكُنْ لذِكرِ الألفِ واللَّامِ هنا معنًى .
وقيل: إنَّما دخَلَ الألفُ واللَّامُ؛ لأنَّ النَّكرةَ إذا تكرَّرتْ تعرَّفَتْ. وقيل: نكرةُ الجنسِ ومعرفتُه سواءٌ؛ تقولُ: لا أشرَبُ ماءً، ولا أشرَبُ الماءَ، فهُما سواءٌ . وقيل: سلامُ عيسى أرجحُ؛ لأنَّه تعالى أقامَه في ذلك مَقامَ نفْسِه، فسلَّمَ نائبًا عن اللهِ تعالى
===============
سورةُ مَريمَ
الآيات (16-21)
ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
غريب الكلمات:
انْتَبَذَتْ: أي: اعتَزَلتْ، وانفَرَدَتْ، وتنحَّتْ، من النبْذَة، (بضمِّ النونِ وفتحِها)، وهي الناحيةُ، وأصلُ (نبذ): يدلُّ على الطَّرحِ والإلقاءِ
.
سَوِيًّا: أي: مُعتَدِلًا تامًّا، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ واعتدالٍ .
زَكِيًّا: أي: طاهِرًا مِن الذُّنُوبِ، يَنْمو على النَّزاهةِ والعِفَّةِ، وأصلُ (زكي): يدُلُّ على نَماءٍ وزِيادةٍ .
بَغِيًّا: أي: زانيةً، وأصلُ (بغي) هنا: يدلُّ على جِنسٍ مِن الفَسادِ .
مَقْضِيًّا: أي: محكومًا به، مفروغًا منه، سابقًا في علمِ الله أنَّه كائنٌ، فهو واقعٌ لا مَحالةَ، وأصلُ (قضي): يدُلُّ على إحكامِ أمرٍ، وإنفاذِه لجِهَتِه
.
المعنى الإجمالي:
بعدَ أن ذكَر الله تعالى جانبًا مِن قصةِ زكريا ويحيى -عليهما السلام- وما فيها مِن العجبِ؛ ذكَر قصةً أخرَى أعجبَ منها، وهي قصةُ مريمَ، وميلادِ ابنِها عيسى عليه السلامُ، فقال تعالى: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- في هذا القُرآنِ خَبَرَ مَريمَ إذ تباعَدَت عن أهلِها، فاتَّخَذت لها مَكانًا جهة الشَّرقِ. فجعَلَت بينَها وبينَ أهلِها سِترًا يَستُرُها عنهم وعن النَّاسِ، لتتفَرَّغَ للعبادةِ، فأرسَلْنا إليها جبريلَ، فتمثَّل لها في صورةِ رجلٍ تامِّ الخَلْقِ، جَميلِ الصُّورةِ. قالت مريمُ له: إنِّي أستجيرُ بالرَّحمن ِمنك أن تنالَني بسوءٍ إنْ كُنتَ تتقي اللهَ فستنتهي بتعوُّذي منك. قال لها المَلَكُ: إنَّما أنا رسولُ رَبِّك بعَثَني إليك؛ لأهَبَ لكِ غلامًا طاهرًا من الذُّنوبِ. قالت مريمُ للمَلَك: كيف يكونُ لي غُلامٌ ولم يمسَسْني بشَرٌ بنكاحٍ، ولم أكُن زانيةً؟! قال لها المَلَكُ: هكذا الأمرُ كما تَصِفينَ مِن أنَّه لم يَمسَسْكِ بَشَرٌ، ولم تكوني بَغِيًّا، ولكِنَّ رَبَّك قال: خلْقُ الغُلامِ منك مِن غيرِ أبٍ عليَّ سَهلٌ؛ ولِيَكونَ هذا الغُلامُ عَلامةً للنَّاسِ تدُلُّ على قُدرةِ اللهِ تعالى، ورحمةً منَّا به وبك وبالنَّاسِ، وكان خلقُه على هذه الحالةِ قَضاءً سابِقًا مُقَدَّرًا.
تفسير الآيات:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى قِصَّةَ زكريَّا -عليه السَّلامُ- وأنَّه أوجَدَ منه في حالِ كِبَرِه وعُقمِ زَوجتِه ولدًا زكيًّا طاهِرًا مُباركًا- عطَفَ بذِكرِ قِصَّةِ مَريمَ في إيجادِه ولَدَها عيسى -عليهما السَّلامُ- منها مِن غيرِ أبٍ؛ فإنَّ بينَ القِصَّتينِ مُناسَبةً ومُشابَهةً؛ ولهذا ذكَرَهما في (آلِ عِمرانَ)، وهاهنا، وفي سورةِ (الأنبياءِ)، يَقرِنُ بين القِصَّتينِ؛ لتقارُبِ ما بينهما في المعنى، ليَدُلَّ عِبادَه على قُدرتِه، وعَظمةِ سُلطانِه، وأنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ
.
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الله تعالى قِصَّةَ زكريَّا -عليه السَّلامُ- وطلَبَه الولدَ، وإجابةَ الله إيَّاه، فوُلِدَ له من شَيخٍ فانٍ، وعَجوزٍ له عاقرٍ، وكان ذلك مما يُتعَجَّبُ منه- أردفه بما هو أعظَمُ في الغَرابةِ والعَجَبِ، وهو وُجودُ ولَدٍ مِن غَيرِ ذَكَرٍ ، فقال تعالى:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ.
أي: واتْلُ -يا مُحمَّدُ- في القُرآنِ خبَرَ مَريمَ عليها السَّلامُ .
إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا.
أي: حينَ تنحَّتْ عن أهلِها وانفَرَدتْ وَحدَها في موضعٍ جِهةَ المَشرِقِ .
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17).
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا.
أي: فجعَلَت مَريمُ بينَها وبينَ أهلِها حاجِزًا يَستُرُها عنهم وعن النَّاسِ؛ حتى تتفَرَّغ لعبادةِ اللهِ .
فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا.
أي: فأرسَلْنا إلى مَريمَ جِبريلَ فجاءَها على هيئةِ رَجُلٍ مُعتَدِلِ الخِلْقةِ، جَميلِ الصُّورةِ .
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18).
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ.
أي: قالت مَريمُ وهي خائِفةٌ: إني ألتَجئُ وأعتَصِمُ بالرَّحمنِ منك -أيُّها الرَّجُلُ- أن تنالَني بسُوءٍ .
إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا.
أي: إنْ كُنتَ ذا تقوى تجتَنِبُ ما حرَّم اللهُ، ولا تُقدِمُ على الفُجورِ، فستنتهي بتعوُّذي منك .
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19).
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ.
أي: قال جِبريلُ لِمَريمَ: إنَّما أنا مَلَكٌ مُرسَلٌ من الله إليك، ولستُ كما تظُنِّينَ، فلا تخافي مني .
لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ لِيَهَبَ بإخبارِ جِبريلَ عليه السَّلامُ عن اللهِ عزَّ وجَلَّ، أي: لِيَهَبَ لكِ اللهُ غُلامًا .
2- قِراءةُ لِأَهَبَ بإسناد الفِعلِ إلى جبريلَ عليه السَّلامُ؛ وذلك لأنَّ الله أمَرَ جِبريلَ أن ينفُخَ الرُّوحَ في مَريمَ، فهو سببٌ في وجودِ غُلامِها .
لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا.
أي: قال جِبريلُ لِمَريمَ: أرسَلَني اللهُ إليكِ؛ لأكونَ سَبَبًا في هبةِ غلامٍ لك طاهِرٍ من الذُّنوبِ والخِصالِ الذَّميمةِ .
كما قال تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 45، 46].
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20).
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ.
أي: قالت مَريمُ: كيف يكونُ لي غُلامٌ ألِدُه، ولم يَقرَبْني أحدٌ بنِكاحٍ ؟!
كما قال تعالى: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران: 47] .
وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا.
أي: ولم يكُنْ مِن دَأبي الفُجورُ والوقوعُ في الفاحِشةِ، فكيف يكونُ لي ولَدٌ ؟!
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21).
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ.
أي: قال جبريلُ لِمَريمَ: هكذا الأمرُ كما ذكرتِ مِن أنَّه لم يمسَسْكِ بشَرٌ، ولم تكوني بَغيًّا، ولكِنْ قال ربُّكِ: خلْقُ الغُلامِ منك مِن غيرِ أبٍ سَهلٌ ويَسيرٌ عليَّ !
وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ.
أي: ونخلُقُ ولَدَكِ الذي تَلِدينَه مِن غيرِ أبٍ؛ لنجعَلَ ذلك عَلامةً للنَّاسِ، ودَلالةً تَدُلُّهم على كمالِ قُدرةِ الخالِقِ العَجيبةِ، وعَظمةِ سُلطانِه، وتَوحيدِه سُبحانَه .
كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً [المؤمنون: 50] .
وَرَحْمَةً مِنَّا.
أي: ونبيًّا يدعو إلى اللهِ؛ رَحمةً منَّا له ولكِ وللنَّاسِ، خُصوصًا مَن آمَنَ به واتَّبَعه .
كما قال تعالى: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران: 49 - 51] .
وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا.
أي: وكان خَلْقُ اللهِ للولَدِ منكِ مِن غيرِ أبٍ أمرًا قد قضاه اللهُ وقَدَّرَه؛ فوقوعُه كائِنٌ لا محالةَ
.
كما قال تعالى: قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47] .
الفوائد التربوية:
1- أحسَنُ الطُّرُقِ في التَّعليمِ والتَّفهيمِ: الأخذُ مِن الأقرَبِ فالأقرَبِ، مُترقِّيًا إلى الأصعَبِ فالأصعَبِ؛ فالله تعالى قدَّم قِصَّةَ يحيى على قِصَّةِ عيسى-عليهما السَّلامُ-؛ لأنَّ خَلقَ الولَدِ مِن شَيخينِ فانيَينِ أقرَبُ إلى مناهِجِ العاداتِ مِن تَخليقِ الولَدِ لا مِن الأبِ البتَّةَ
.
2- قال الله تعالى: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا فجمَعَت مريمُ عليها السَّلامُ بينَ الاعتِصامِ برَبِّها، وبينَ تخويفِ ذلك الشَّابِّ، وترهيبِه وأمْرِه بلُزومِ التقوى، وهي في تلك الحالةِ الخاليةِ، والشَّبابِ، والبُعدِ عن النَّاسِ، وهو في ذلك الجمالِ الباهِرِ، والبَشَريَّةِ الكاملةِ السَّويَّة، ولم ينطِقْ لها بسوءٍ أو يتعَرَّضْ لها، وإنما ذلك خَوفٌ منها، وهذا أبلغُ ما يكونُ مِن العِفَّةِ، والبُعدِ عن الشَّرِّ وأسبابِه، وهذه العِفَّةُ -خصوصًا مع اجتِماع الدَّواعي، وعدَمِ المانِعِ- مِن أفضَلِ الأعمالِ؛ ولذلك أثنى اللهُ عليها، فقال: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم: 12] ، وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 91] ، فأعاضها اللهُ بعِفَّتِها ولدًا مِن آياتِ اللهِ، ورسولًا مِن رُسُلِه .
3- قَولُ مَريمَ للمَلَكِ: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي: إن كُنتَ تخافُ اللهَ، تذكيرٌ له بالله، وهذا هو المشروعُ في الدَّفعِ: أن يكونَ بالأسهَلِ فالأسهَلِ، فخَوَّفَته أوَّلًا بالله عزَّ وجَلَّ .
4- قَولُ الله تعالى: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ يدُلُّ على كَمالِ قُدرةِ الله تعالى، وعلى أنَّ الأسبابَ جَميعَها لا تستَقِلُّ بالتأثيرِ، وإنَّما تأثيرُها بتقديرِ اللهِ، فيُرِي تعالى عبادَه خَرْقَ العوائِدِ في بعضِ الأسبابِ العاديَّةِ؛ لئلَّا يَقِفوا مع الأسبابِ، ويَقطَعوا النَّظَرَ عن مُقَدِّرِها ومُسَبِّبِها
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا فأخبَرَ هذا الرُّوحُ الذي تمثَّلَ لها بشَرًا سَوِيًّا أنَّه رسولُ رَبِّها، فدَلَّ الكلامُ على أنَّ هذا الرُّوحَ عينٌ قائِمةٌ بنَفسِها، ليسَت صِفةً لِغَيرِها، وأنَّه رسولٌ مِن اللهِ، ليس صفةً مِن صفاتِ الله؛ ولهذا قال جماهيرُ العُلَماءِ: إنَّه جبريلُ عليه السَّلامُ؛ فإنَّ اللهَ سمَّاه الرُّوحَ الأمينَ، وسمَّاه رُوحَ القُدُسِ، وسمَّاه جبريلَ، وهكذا عندَ أهلِ الكتابِ أنَّه تجسَّد مِن مريمَ ومِن رُوحِ القُدُسِ، لكنْ ضُلَّالُهم حيثُ يظنُّونَ أنَّ رُوحَ القُدُسِ حياةُ اللهِ، وأنَّه إلهٌ يَخلُقُ ويَرزُقُ ويُعبَدُ! وليس في شيءٍ مِن الكُتُب الإلهيَّةِ ولا في كلامِ الأنبياء أنَّ اللهَ سمَّى صفتَه القائمةَ به رُوحَ القُدُسِ، ولا سمَّى كلامَه ولا شيئًا مِن صفاتِه ابْنًا، وهذا أحدُ ما يَثبُتُ به ضَلالُ النَّصارى وأنَّهم حرَّفوا كلامَ الأنبياءِ، وتأوَّلوه على غيرِ ما أرادتِ الأنبياءُ
.
2- قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا، أي: جبريلَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وسُمِّيَ بذلك؛ لأنَّ الدِّينَ يحيا به وبوحيِه . وقيل: إنَّما سُمِّي جبريلُ رُوحًا؛ لأنَّه بمنزلةِ الأرواحِ للأبدانِ تحيا بما يأتي مِن البيانِ عن الله عزَّ وجلَّ مَن يُهدَى به .
3- قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا... وخِطابُ الملائكةِ لمريمَ لا يقتَضي النبُوَّةَ؛ لأنَّ النبيَّ مَن يُوحَى إليه بشَرعٍ، ومريمُ لم يُوحَ إليها بشَيءٍ مِن الشَّرعِ، ولكِنَّه كان خِطابًا للبِشارةِ بواقعةٍ مُعَيَّنةٍ دالَّةٍ على علُوِّ مَنزِلتِها، واصطفاءِ الله سُبحانه وتعالى لها ، ولأنَّ الملائكةَ قد كَلَّموا مَن ليس بنبيٍّ إجماعًا .
4- قال الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا السَّوِيُّ: المُسَوَّى، أي: التَّامُّ الخَلقِ، وإنَّما تمثَّلَ لها كذلك؛ لِوُجوهٍ ذكَرَها العُلماءُ، منها:
الوجه الأول: للتناسُبِ بينَ كَمالِ الحقيقةِ، وكَمالِ الصُّورةِ.
الوجه الثاني: أُرسِلَ حَسَنَ الشَّكلِ؛ لئلَّا تَشتَدَّ نُفرتُها ورَوْعُها منه .
الوجه الثالث: كان تمثيلُه على ذلك الحُسنِ الفائِقِ والجَمالِ الرَّائقِ؛ لابتلائِها وسَبْرِ عِفَّتِها، ولقد ظهَرَ منها مِنَ الوَرَعِ والعَفافِ ما لا غايةَ وراءَه ، ففي ذلك إشارةٌ إلى كَمالِ عِصمَتِها؛ إذ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا .
5- في قَولِه تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا إثباتُ الملائكةِ، وأنَّهم أحياءٌ، ناطِقونَ، مُنفَصِلونَ عن الآدميِّينَ، يُخاطِبونَهم، ويَرَونَهم في صُورِ الآدميينَ؛ الأنبياءُ وغيرُ الأنبياءِ، كقَولِه تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر: 51- 54] ، وغيرُ الأنبياءِ، كما رأتْهم سارةُ امرأةُ الخليلِ عليه السَّلامُ، وكما كان الصَّحابةُ يرَون جبريلَ إذا جاء؛ لَمَّا جاء في صورةِ أعرابيٍّ ، وتارةً في صورةِ دِحْيةَ الكَلْبِيِّ .
6- قولُه تعالى: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ لِياذُها باللهِ وعياذُها به وقْتَ التَّمثيلِ دليلٌ على أنَّه أوَّلَ ما تمثَّلَ لها استعاذتْ من غيرِ جرْيِ كلامٍ بينهما .
7- قولُه تعالى: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا إنْ قال قائِلٌ: الهِبةُ مِن اللهِ تعالى، فلِمَ أخبَرَ جِبريلُ عن نَفسِه؟
والجوابُ مِن وُجوهٍ:
الأولُ: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ يقولُ اللهُ تعالى: لِأَهَبَ لَكِ، فهو على الحِكايةِ، وحَملَ الحكايةَ على المعنى، على تأويلِ: قال: أُرسِلْتُ إليكِ؛ لأهَبَ لك، فحُذِفَ مِن الكلامِ (أُرسِلْتُ)؛ لدَلالةِ ما ظهَرَ على ما حُذِفَ.
الثَّاني: جِبريلُ عليه السَّلامُ قال لمريم: إنَّما أنا رَسولُ ربِّك أرسلني لأهَبَ لك؛ إذ كان النافِخَ في جَيبِها بأمرِ الله، فتكونُ الهِبةُ في المعنى مِنَ الله، وهي في اللَّفظِ مُسنَدةٌ إلى جبريلَ؛ لأنَّ الرَّسولَ والوكيلَ قد يُسنِدانِ هذا النَّحوَ إلى أنفُسِهم، وإن كان الفِعلُ للمُوكَّلِ والمُرسَلِ؛ للعِلمِ بأنَّه في المعنى للمُرسِلِ، وأنَّ الرَّسولَ مُترجِمٌ عنه .
الثَّالثُ: أنه جَعَل الهبةَ مِن قِبَلِه؛ لكونِه سببًا فيها مِن جهةِ كونِ الإعلامِ لها مِن جِهتِه .
8- قَولُ الله تعالى: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا فيه سُؤالٌ: أنَّ قَولَ مَريمَ عليها السَّلامُ: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يدخُلُ تحتَه قَولُها: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا فلماذا أعادَته؟ وممَّا يؤكِّدُ هذا السُّؤالَ أنَّ في سورةِ (آلِ عِمرانَ) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [آل عمران: 47] فلم تَذكُرِ البِغاءَ؟
والجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّها جعَلَت المسَّ عِبارةً عن النِّكاحِ الحَلالِ؛ لأنَّه كنايةٌ عنه؛ لِقَولِه: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] ، والزِّنا ليس كذلك.
الوجهُ الثاني: أنَّ إعادتَها لِتَعظيمِ حالِها، كقَولِه تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238] ، وقَولِه: وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] ، فكذا هاهنا: أنَّ مَن لم تُعرَفْ مِن النِّساءِ بزَوجٍ، فأغلَظُ أحوالِها إذا أتَت بوَلَدٍ أن تكونَ زانيةً، فأُفرِدَ ذِكرُ البِغاءِ -بعد دُخولِه في الكَلامِ الأوَّلِ- لأنَّه أعظَمُ ما في بابِه .
9- قولُها: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا لم تقُلْ: (بغيَّةً)؛ لأنَّ «بغيًّا» غالبٌ في النِّساءِ، وقلَّما يقولُ العربُ: رجلٌ بغيٌّ؛ فتَرَكوا التَّاءَ فيه إجراءً له مَجْرَى حائضٍ، وعاقرٍ. أو هو: «فعيلٌ» بمعنى فاعلٍ، فتَرَكوا التَّاءَ فيه كما في قولِه تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] ، أو لموافقةِ الفواصلِ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا
- قولُه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَم ... عطْفٌ على جُملةِ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ [مريم: 2] ، عطْفَ القِصَّةِ على القصَّةِ؛ فلا يُراعَى حُسْنُ اتِّحادِ الجُملتينِ في الخبريَّةِ والإنشائيَّةِ، على أنَّ ذلك الاتِّحادَ ليس بمُلتزَمٍ، وفي افتتاحِ القصَّةِ بهذا زيادةُ اهتمامٍ بها، وتَشويقٌ للسَّامعِ أنْ يتعرَّفَها ويَتدبَّرَها
.
- وقدِ اختُصَّتْ هذه السُّورةُ بزيادةِ كلمةِ فِي الْكِتَابِ بعدَ كلمةِ وَاذْكُرْ؛ وفائدةُ ذلك: التَّنبيهُ إلى أنَّ ذِكْرَ مَن أُمِرَ بذكْرِهم كائنٌ بآياتِ القُرآنِ، وليس مُجرَّدَ ذكْرِ فضْلِه في كلامٍ آخرَ من قولِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. ولم يأْتِ مثْلُ هذه الجُملةِ في سُورةٍ أُخرى؛ لأنَّه قد حصَلَ علْمُ المُرادِ في هذه السُّورةِ؛ فعُلِمَ أنَّه المُرادُ في بقيَّةِ الآياتِ الَّتي جاء فيها لفظُ (اذكُرْ) .
- وفي قولِه: إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا نكَّرَ المكانَ إبهامًا له؛ لعدَمِ تعلُّقِ الغرضِ بتَعيينِ نوعِه؛ إذ لا يُفيدُ كمالًا في المقصودِ من القصَّةِ. وأمَّا التَّصدِّي لوصْفِه بأنَّه شرقيٌّ، فللتَّنبيهِ على أَصْلِ اتِّخاذِ النَّصارى الشَّرقَ قِبْلةً لصلواتِهم ، فذِكْرُ كونِ المكانِ شرقيًّا نُكتةٌ بديعةٌ من تاريخِ الشَّرائعِ، مع ما فيه مِن مُؤاخاةِ الفواصلِ .
2- قوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا
- قولُه: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا، أي: جبريلَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، عبَّرَ عنه بذلك؛ توفيةً للمقامِ حَقَّه .
- قولُه: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا تَعليقُ الإرسالِ به، وإضافتُه إلى ضَميرِ الجلالةِ دَلَّا على أنَّه مِن الملائكةِ .
3- قوله تعالى: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
- جُملةُ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ خبريَّةٌ، ولذلك أُكِّدَت بحرفِ التَّأكيدِ (إنَّ). وذِكْرُها صِفَةَ (الرَّحمنِ) دونَ غيرِها من صفاتِ اللهِ؛ لأنَّها أرادتْ أنْ يرحَمَها اللهُ بدفْعِ من حسِبَتْه داعرًا عليها ، فذِكْرُه تعالى بعُنوانِ الرَّحمانيَّةِ؛ للمُبالغةِ في العياذِ به تعالى، واستجلابِ آثارِ الرَّحمةِ الخاصَّةِ الَّتي هي العِصمةُ ممَّا دهَمها .
- وقولُها: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا تذكيرٌ له بالموعظةِ بأنَّ عليه أنْ يتَّقِيَ ربَّه، ومجيءُ هذا التَّذكيرِ بصِيغَةِ الشَّرطِ المُؤذِنِ بالشَّكِّ في تَقواهُ: قصْدٌ لتهييجِ خشيَتِه، وكذلك اجتلابُ فعْلِ الكونِ -كُنْتَ- الدَّالِّ على كونِ التَّقوى مُستقِرَّةً فيه، وهذا أبلَغُ وعْظٍ وتذكيرٍ وحَثٍّ على العملِ بتَقواهُ .
- قولُه: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا جوابُ الشَّرطِ محذوفٌ دَلَّ عليه ما قبْلَه، أي: فإنِّي عائذةٌ منك، أو فتتَّعِظُ بتَعويذي، أو فلا تتعرَّضْ لي. ويجوزُ أنْ يكونَ للمُبالغةِ، أي: إنْ كنتَ تقيًّا مُتورِّعًا، فإنِّي أتعوَّذُ منك؛ فكيف إذا لم تكنْ كذلك ؟! أو تعليقُها الاستعاذةَ على شرطِ تقواهُ؛ لأنَّه لا تنفَعُ الاستعاذةُ ولا تُجْدي إلَّا عندَ مَن يتَّقي اللهَ .
4- قوله تعالى: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا
- قولُه: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ فيه قصرٌ إضافيٌّ، أي: لستُ بشرًا؛ ردًّا على قولِها: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا المُقْتضي اعتقادَها أنَّه بشرٌ .
5- قوله تعالى: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا
- إنَّما قالت: بَشَرٌ؛ مُبالغةً في بَيانِ تنزُّهِها مِن مبادئِ الولادةِ .
- وقولُها: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا تبرئةٌ لنفْسِها من البغاءِ بما يَقْتضيه فعْلُ الكونِ من تمكُّنِ الوصفِ الَّذي هو خبَرُ الكونِ، والمقصودُ منه تأكيدُ النَّفيِ .
6- قوله تعالى: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا
- قولُه: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ...، أي: إنَّ الأمْرَ كما قلْتِ، وهو عُدولٌ عن إبطالِ مُرادِها من المُراجعةِ إلى بَيانِ هونِ هذا الخلْقِ في جانبِ القُدرةِ، على طريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ .
- قولُه: وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ إمَّا علَّةٌ لمُعلَّلٍ محذوفٍ، أي: ولنجعَلَ وهْبَ الغلامِ آيةً لهم وبُرهانًا يَستدِلُّونَ به على كَمالِ قُدرتِنا نفعَلُ ذلك. أو معطوفٌ على علَّةٍ أُخرى مُضمَرةٍ، أي: لنُبيِّنَ به عِظَمَ قُدرتِنا، ولنجعَلَه آيةً... إلخ .
- والالتفاتُ إلى نُونِ العظمةِ في قولِه: وَلِنَجْعَلَهُ؛ لإظهارِ كَمالِ الجلالةِ ؛ فقولُه: وَلِنَجْعَلَهُ عطفٌ على فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا باعتبارِ ما في ذلك من قولِ الرُّوحِ لها: لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا؛ فوقَعَ الْتفاتٌ من طريقةِ الغيبةِ إلى طريقةِ التَّكلُّمِ .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ فالكلامُ في الموضعينِ على لسانِ الملَكِ من عندِ اللهِ، ولكنَّه أُسْنِدَ في هذه القصَّةِ إلى الملَكِ؛ لأنَّه جوابٌ عن خِطابِها إيَّاهُ، وأُسْنِدَ في قصَّةِ زكريَّا إلى اللهِ؛ لأنَّ كلامَ الملَكِ كان تبليغَ وحيٍ عن اللهِ جوابًا من اللهِ عن مُناجاةِ زكريَّا
===============
سورةُ مَريمَ
الآيات (22-26)
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
غريب الكلمات:
قَصِيًّا: أي: نائيًا بَعيدًا، وأصلُ (قصو): يدُلُّ على بُعدٍ وإبعادٍ
.
فَأَجَاءَهَا: أي: ألجَأها واضْطرَّها، يُقالُ: جاء بها وأجاءَها: بمعنًى .
الْمَخَاضُ: أي: وجَعُ الوِلادةِ، وهو الطَّلْقُ، وسُمِّي مخاضًا مِن المَخْضِ، وهو الحركةُ الشَّديدةُ؛ لشدَّةِ تحرُّكِ الجنينِ في بطنِها إذا أرادَ الخروجَ، وأصلُ المخضِ: تحريكُ سقاءِ اللبنِ وهزُّه؛ ليجتمِعَ زُبدُه وسَمنُه .
نَسْيًا مَنْسِيًّا: أي: شَيئًا حَقيرًا لا يُؤبَهُ له، وأصلُ (نسي): يدُلُّ على تَركِ الشَّيءِ وإغفالِه .
سَرِيًّا: أي: جَدولًا ونَهرًا صغيرًا، وسُمِّيَ النَّهرُ سَرِيًّا؛ لأنَّ الماءَ يسري فيه، أي: يمُرُّ جاريًا. وقيل: بل ذلك من السَّرْوِ، أي: الرِّفعةِ، والإشارةُ بذلك إلى عيسى عليه السَّلامُ .
جَنِيًّا: أي: مَجْنيًّا غَضًّا طَرِيًّا، وجَنَى الشَّجرةِ: ما جُنِيَ منها، وأصلُ (جني): يدُلُّ على أخْذِ الثَّمرةِ مِن شَجَرِها .
وَقَرِّي عَيْنًا: أي: طِيبي نَفسًا، وأصلُه من القُرِّ، أي: البَردِ، فَقَرَّتْ عينه، أي: بَرَدَت، وقيل: هو من القَرارِ؛ لأنَّ اللهَ أعطاها ما تَسكُنُ به عينُها فلا تطمَحُ إلى غيرِه .
صَوْمًا: أي: صَمتًا، والصَّوْمُ في الأصلِ: الإمساكُ عن الفِعلِ مَطعمًا كان أو كلامًا أو مَشيًا
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ الله تعالى عن مشهدٍ آخرَ مِن مشاهدِ تلك القصةِ العجيبةِ، حينَ حمَلت مريمُ بعيسى عليه السلامُ، وعندما جاءَها المخاضُ، فيقولُ تعالى: فحَمَلت مريمُ بعيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فتباعَدَت به إلى مَكانٍ بعيدٍ عن النَّاسِ، فألجأها طَلْقُ الحَملِ ووجعُ الولادةِ إلى جِذعِ النَّخلةِ، فقالت: يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا اليومِ، وكنتُ شيئًا لا يُعرَفُ ولا يُذكَرُ! فناداها مولودُها عيسى مِن تحتِها عندما وضَعتْه: أنْ لا تَحزني، قد جعل ربُّكِ تحت قَدَميك جَدْولَ ماءٍ، وحَرِّكي جِذعَ النَّخلةِ تُسَاقِطْ عليك النَّخلةُ رطبًا طريًّا طيِّبًا، فكُلي من الرُّطَب، واشرَبي من الماءِ، وطِيـبي نفسًا، ولا تحزني، فإنْ رأيتِ مِن النَّاسِ أحدًا فسَألَكِ عن أمْرِك، فقولي له: إني أوجَبْتُ على نفسي لله سُكوتًا، فلن أكَلِّمَ اليومَ أحدًا من النَّاسِ.
تفسير الآيات:
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22).
فَحَمَلَتْهُ.
أي: فحَمَلَت مريمُ بعيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ
.
فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا.
أي: فتنحَّت بحَمْلِها إلى مكانٍ بعيدٍ عن النَّاسِ .
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23).
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ.
أي: فألجأَها ألمُ الطَّلْقِ إلى جِذعِ نَخلةٍ .
قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.
أي: قالت: يا ليتني مِتُّ قبل أن أحمِلَ هذا الغلامَ مِن غيرِ زَوجٍ، وكنتُ شَيئًا حقيرًا يُترَكُ ويُنسَى فلا يَخطُرُ على بالٍ !
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24).
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي.
أي: فناداها مولودُها عيسَى مِن تَحتِها عندما وضَعَتْه قائِلًا لها: لا تَحزَني .
قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا.
أي: قد أجرى ربُّك تحت قَدَميك نهرًا صغيرًا؛ لتَشربي منه .
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25).
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ.
أي: وحَرِّكي جِذعَ النَّخلةِ .
تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا.
أي: تُسْقِطْ عليكِ النَّخلةُ رُطَبًا طَرِيًّا طيِّبًا نافعًا .
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26).
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا.
أي: فكُلي من الرُّطَبِ، واشرَبي مِن ماءِ النَّهرِ، وطيبي نفسًا، وافرَحي ولا تحزَني .
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا.
أي: فإنْ رأيتِ أحدًا من النَّاسِ يُريدُ أن يُكلِّمَكِ فقُولي : إنِّي أوجبتُ على نفسي للرَّحمنِ أن أُمسِكَ عن الكلامِ .
فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا.
أي: فلن أكلِّمَ اليومَ أحدًا من النَّاسِ
.
الفوائد التربوية :
1- قَولُ الله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فيه أمرٌ بالسَّبَبِ في الرزقِ، وتكَلُّفِ الكَسبِ
، واستُدِلَّ مِن هذه الآيةِ على أنَّ الرِّزقَ وإن كان محتومًا، فإنَّ اللهَ تعالى قد وكلَ ابنَ آدمَ إلى سعيٍ ما فيه؛ لأنَّه أمَرَ مريمَ بهَزِّ النَّخلةِ؛ لترى آيةً، وكانت الآيةُ تكونُ بألَّا تَهُزَّ ، فأخذ بعضُ العُلَماءِ مِن هذه الآيةِ أنَّ السَّعيَ والتسَبُّبَ في تحصيلِ الرِّزقِ أمرٌ مأمورٌ به شرعًا، وأنَّه لا ينافي التوكُّلَ على الله جلَّ وعلا، وهذا أمرٌ كالمعلومِ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ: أنَّ الأخذَ بالأسبابِ في تحصيلِ المنافِعِ، ودَفعِ المضارِّ في الدُّنيا؛ أمرٌ مأمورٌ به شَرعًا لا ينافي التوكُّلَ على اللهِ بحالٍ؛ لأنَّ المكَلَّفَ يتعاطى السَّبَبَ امتِثالًا لأمرِ رَبِّه، مع عِلمِه ويقينِه أنَّه لا يقَعُ إلَّا ما يشاءُ اللهُ وُقوعَه، فهو متوكِّلٌ على اللهِ، عالمٌ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا ما كتَبَ اللهُ له مِن خيرٍ أو شَرٍّ، ولو شاء الله تَخلُّفَ تأثيرِ الأسبابِ عن مُسَبِّباتِها، لتخلَّفَ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أمَرَها اللهُ تعالى بأن تنذرَ الصَّومَ؛ لئلَّا تَشرعَ مع مَن اتَّهمها في الكلامِ لِمَعنيين:
أحدُهما: أنَّ كلامَ عيسى عليه السَّلامُ أقوى في إزالةِ التُّهمةِ مِن كلامِها، وفيه دَلالةٌ على أنَّ تفويضَ الأمرِ إلى الأفضَلِ أَولى.
والثاني: كراهةُ مُجادلةِ السُّفهاءِ، وفيه أنَّ السُّكوتَ عن السَّفيهِ واجِبٌ، ومِن أذَلِّ النَّاسِ سَفيهٌ لم يجِدْ مُسافِهًا
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قولُه تعالى حكايةً عن مريمَ: وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا تمنَّتْ لو كانت شيئًا لا يُؤْبَهُ له، من شأْنِه وحقِّه أنْ يُنْسى في العادةِ، وقد نُسِيَ وطُرِحَ، فوُجِدَ فيه النِّسيانُ الَّذي هو حقُّه؛ وذلك لِما لحِقَها مِن فرطِ الحياءِ والخجلِ مِن النَّاسِ على حُكمِ العادةِ البشريَّةِ، لا كراهةً لحُكمِ اللهِ. أو لشدَّةِ التَّكليفِ عليها إذا بَهَتوها وهي عارفةٌ ببَراءةِ السَّاحةِ، وبضِدِّ ما عِيبَتْ به، مِن اختصاصِ اللهِ إيَّاها بغايةِ الإجلالِ والإكرامِ؛ لأنَّه مقامٌ دَحْضٌ، قلَّما تثبُتُ عليه الأقدامُ: أنْ تعرِفَ اغتباطَكَ بأمْرٍ عظيمٍ وفضْلٍ باهرٍ، تستحِقُّ به المدحَ وتستوجِبُ التَّعظيمَ، ثمَّ تراهُ عندَ النَّاسِ -لجَهْلِهم به- عيبًا يُعابُ به ويُعنَّفُ بسَببِه، أو لخوفِها على النَّاسِ أنْ يَعْصوا اللهَ بسببِها
.
2- قَولُ اللهِ تعالى إخبارًا عن مريمَ عليها السَّلامُ: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا فيه دَليلٌ على جوازِ تمنِّي الموتِ عندَ الفِتنةِ؛ فإنَّها عَرَفَت أنَّها ستُبتلَى وتُمتحَنُ بهذا المولودِ الذي لا يحمِلُ النَّاسُ أمرَها فيه على السَّدادِ، ولا يصَدِّقونها في خبرِها، وبعدما كانت عندَهم عابِدةً ناسِكةً تُصبِحُ عِندَهم -فيما يظنُّونَ- عاهرةً زانيةً ، فمريمُ تمنَّت الموتَ مِن جهةِ الدِّينِ؛ إذ خافت أن يُظَنَّ بها الشَّرُّ في دينِها وتُعيَّرَ؛ فيَفتِنَها ذلك، وهذا مباحٌ، وعلى هذا الحَدِّ تمنَّاه جماعةٌ مِن الصالحينَ. ونَهيُ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن تمنِّي الموتِ إنَّما هو لِضُرٍّ نَزَل بالبَدَنِ .
3- قولُه تعالى: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا في هذا دليلٌ على مقامِ صبْرِها وصدْقِها في تلقِّي البَلوَى الَّتي ابتلاها اللهُ تعالى؛ فلذلك كانت في مقامِ الصِّدِّيقيَّةِ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فيه أصلٌ لِما يقولُه الأطبَّاءُ: إنَّ الرُّطَبَ ينفَعُ النُّفَساءَ ، وقال عمرُو بنُ مَيمونٍ: (ما من شَيءٍ خَيرٌ للنُّفَساءِ مِن التَّمرِ والرُّطَبِ، ثمَّ تلا هذه الآيةَ الكريمةَ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) .
5- قال الله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فأُعْطِيَت رُطبًا دونَ التَّمرِ؛ لأنَّ الرُّطبَ أشهَى للنَّفْسِ؛ إذ هو كالفاكهةِ، وأمَّا التَّمرُ فغِذاءٌ .
6- إنْ قيل: ما كان حزنُها لفقْدِ الطَّعامِ والشَّرابِ حتَّى تُسلَّى بالسَّريِّ والرُّطبِ؟
فالجوابُ: لم تقَعِ التَّسليةُ بهما مِن حيثُ إنَّهما طعامٌ وشرابٌ، ولكنْ من حيثُ إنَّهما مُعجزتانِ تُريانِ النَّاسَ أنَّها من أهلِ العصمةِ، والبُعدِ من الرِّيبةِ، وأنَّ مثْلَها ممَّا قَرَفوها به بمَعزلٍ، وأنَّ لها أُمورًا إلهيَّةً خارجةً عن العاداتِ، خارقةً لِما ألِفُوا واعتادوا، حتَّى يتبيَّنَ لهم أنَّ وِلادَها من غيرٍ فحْلٍ ليس ببِدْعٍ مِن شأنِها .
7- قصةُ مريمَ فيها كرامةٌ مِن عِدَّةِ أوجُهٍ:
الأول: أنَّه فقد قيلَ لها: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا وهي امرأةٌ نُفَساءُ، والمرأةُ النُّفَساءُ عادةً تكونُ ضعيفةً، والهَزُّ بجِذعِ النَّخلةِ لا يتأتَّى، بل إنَّه صَعبٌ؛ فإنَّ الرجُلَ القَويَّ إذا هزَّها مِن أسفَلَ لا تهتَزُّ، لكنَّ مَريمَ قيل لها: هُزِّي بجِذعِ النَّخلةِ، فهَزَّت؛ فاهتَزَّت النَّخلةُ، وهذه كرامةٌ.
الثاني: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، والعادةُ أنَّ الرُّطَبَ إذا تساقَطَ مِن فَوقِ النَّخلةِ، فإنَّه يَفسُدُ ويتفضَّخُ ، لكِنَّه في شأنِها بَقِيَ رُطَبًا جَنيًّا، وهذه كرامةٌ!
الثالث: أنَّه ولَمَّا جاءت تحمِلُ الولَدَ فقالوا لها مُعرِّضينَ لها بالزِّنا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: 28] ، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم: 29] فكلَّمَهم، وهذه كرامةٌ.
فهذه كراماتٌ، وهي في الحقيقةِ تُشبِهُ آياتِ الأنبياءِ، لكِنَّ الفَرقَ بينهما أنَّ آياتِ الأنبياءِ تأتي من النبيِّ، وكرامةَ الأولياءِ تأتي مِن وليٍّ مُتَّبِعٍ للنبيِّ .
8- النكرةُ في سياقِ الشَّرطِ تَعُمُّ؛ يُستفاد ذلك مِن قولِه تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي ...
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا
- قولُه: فَحَمَلَتْهُ ... الفاءُ للتَّفريعِ والتَّعقيبِ، أي: فحمَلَتْ بالغُلامِ في فورِ تلك المُراجعةِ
. وفي الكلامِ إيجازٌ، والتَّقديرُ: فاطمأنَّتْ إلى قولِه، فدنا منها، فنفَخَ في جَيبِ درعِها، فوصَلَتِ النَّفخةُ إلى بطْنِها، فحمَلَتْ .
2- قوله تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا
- قولُه: جِذْعِ النَّخْلَةِ التعريفُ فيه إمَّا أن يكونَ مِن تعريفِ الأسماءِ الغالبةِ؛ كتعريفِ النجمِ، كأنَّ تلك الصحراءَ كان فيها جذعُ نخلةٍ متعارَفٌ عندَ الناسِ، فإذا قيل: «جذع النخلة». فُهِمَ منه ذاك، وإمَّا أن يكونَ تعريفَ الجنسِ .
- وجُملةُ: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ السَّامعَ يتشوَّفُ إلى معرفةِ حالِها عندَ إبَّانِ وضْعِ حمْلِها بعدما كان أمْرُها مُستتِرًا غيرَ مكشوفٍ بينَ النَّاسِ، وقد آنَ أنْ ينكشِفَ؛ فيُجابُ السَّامعُ بأنَّها تمنَّتِ الموتَ قبْلَ ذلك، فهي في حالةٍ من الحُزنِ ترى أنَّ الموتَ أهونُ عليها من الوُقوعِ فيها .
3- قوله تعالى: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا
- قولُه: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا على القولِ بأنَّ قائلَ هذا هو عيسى عليه السَّلامُ؛ فهذا إرهاصٌ لعيسى، وكرامةٌ لأُمِّه عليهما السَّلامُ، وقُيِّدَ بقولِه: مِنْ تَحْتِهَا لتحقيقِ ذلك، ولإفادةِ أنَّه ناداها عندَ وضْعِه قبْلَ أنْ ترفَعَه؛ مُبادرةً للتَّسليةِ والبشارةِ، وتَصويرًا لتلك الحالةِ الَّتي هي حالةُ تَمامِ اتِّصالِ الصَّبيِّ بأُمِّه .
- قولُه: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا جُملةٌ خبريَّةٌ مُرادٌ بها التَّعليلُ لانتفاءِ الحزْنِ المفهومِ من النَّهيِ عنه في قوله: أَلَّا تَحْزَنِي، أي: أنَّ حالتَك حالةٌ جديرةٌ بالمسرَّةِ دونَ الحزنِ؛ لِما فيها من الكرامةِ الإلهيَّةِ . والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِها؛ لتَشريفِها، وتأكيدِ التَّعليلِ، وتكميلِ التَّسليةِ .
4- قوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا
- الباءُ في قولِه: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ صلةٌ للتَّأكيدِ، كما في قولِه تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ... [البقرة: 195] ، أو لإلصاقِ الفعْلِ بمدخولِها، أي: افْعَلي الهزَّ بجذْعِها، أو هُزِّي الثَّمرةَ بهَزِّه .
- قولُه: رُطَبًا جَنِيًّا هو كِنايةٌ عن حَدثانِ سُقوطِه، أي: عن طَراوتِه، ولم يكُنْ من الرُّطبِ المخبوءِ من قبْلُ؛ لأنَّ الرُّطبَ متى كان أقرَبَ عهدًا بنخلتِه كان أطيبَ طعمًا .
5- قوله تعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا
- قولُه: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، جُملةُ فَكُلِي وما بعْدَها فذلكةٌ للجُمَلِ الَّتي قبْلَها مِن قولِه: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، أي: فأنتِ في بحبوحةِ عيشٍ .
- وقدَّم الأكلَ على الشُّربِ؛ لأنَّ احتياجَ النُّفَساءِ إلى أكلِ الرُّطَبِ أشَدُّ مِن احتياجِها إلى شُربِ الماءِ؛ لِكَثرةِ ما سال منها مِنَ الدِّماءِ . أو لأنَّه لَمَّا كانت العادةُ تقديمَ الأكلِ على الشُّربِ، تقدَّمَ في الآيةِ ، وهذا هو المُطَّرِدُ في القُرآنِ الكريمِ في جَميعِ المواضِعِ.
- قولُه: وَقَرِّي عَيْنًا قُرَّةُ العينِ: كنايةٌ عن السُّرورِ، وهي كنايةٌ ناشئةٌ عن ضدِّها، وهو سُخْنةُ العينِ الَّتي هي أثرُ البكاءِ اللَّازمِ للأسفِ والحزنِ، فلمَّا كُنِّي عن الحزنِ بسُخْنةِ العينِ؛ أتْبَعوا ذلك بأنْ كنَّوْا عن السُّرورِ بضِدِّ هذه الكنايةِ فقالوا: قُرَّةُ عينٍ، وأقرَّ اللَّهُ عينَه، وقُرَّةُ العينِ تشمَلُ هناءَ العيشِ، وتشمَلُ الأُنسَ بالطِّفلِ المولودِ. وفي كونِه قُرَّةَ عينٍ كِنايةٌ عن ضمانِ سَلامتِه، ونَباهةِ شأْنِه .
- قولُه: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا قيل: إنَّه مُرتَّبٌ على مُقدَّرٍ بينه وبينَ الشَّرطِ، تقديرُه: فإمَّا تريِنَّ مِن البشرِ أحدًا، فيسأَلْكِ الكلامَ، فقولي: إنِّي نذرْتُ... إلخ، وبهذا سقَطَ ما قيلَ مِن أنَّ قولَها: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا كلامٌ بعدَ النَّذرِ؛ إذ هو بهذا التَّقديرِ مِن تَمامِ النَّذرِ لا بعْدَه . وقيل: المعنى: فانْذِري صومًا، وإنْ لقيتِ من البشرِ أحدًا، فقولي: إنِّي نذرْتُ صومًا، فحُذِفَتْ الجُملةُ للقرينةِ .
- قولُه: إِنْسِيًّا نِكرةٌ في سياقِ النَّفيِ؛ فيُفيدُ العُمومَ، أي: لنْ أُكلِّمَ أحدًا، وعُدِلَ عن (أحدٍ) إلى إِنْسِيًّا؛ لرعايةِ فاصلةِ الياءِ
================
سورةُ مَريمَ
الآيات (27-36)
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ
غريب الكلمات:
فَرِيًّا: أي: عظيمًا عجيبًا مُنكَرًا، وأصلُ (فري): يدلُّ على قطعِ الشَّيءِ، كأنَّه مِمَّا يخرِقُ العادةَ، أو يُقطَعُ بكونِه عجيبًا نادرًا
.
الْمَهْدِ: المَهدُ: ما يُهيَّأُ للصَّبيِّ، والمَهدُ: الحِجْرُ، وأصلُ (مهد): يدلُّ على التَّوطئةِ للشَّيءِ وتَسهيلِه .
يَمْتَرُونَ: أي: يَشُكُّونَ ويختَلِفونَ، والمِريَةُ: التَّردُّدُ في الأمرِ، وهي أخصُّ مِن الشَّكِّ، والامتراءُ والمُماراةُ: المحاجَّةُ فيما فيه مِريةٌ
.
مشكل الإعراب:
1- قَولُه تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا
وَبَرًّا: معطوفٌ على مُبَارَكًا مَنصوبٌ، أي: جعلني مباركًا وبَرًّا. أو مَنصوبٌ بإضمارِ فعلٍ، أي: وجعلني برًّا. واختِير هذا على الأوَّلِ؛ لأنَّ فيه فَصلًا كثيرًا بجُملةِ (أوصانِي) ومُتعلِّقِها
.
2- قوله تعالى: ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ
قَوْلَ الْحَقِّ في نصبِه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه مَصدرٌ مؤكِّدٌ لِمَضمونِ الجملةِ، مفعولٌ مُطلَقٌ لفِعلٍ مَحذوفٍ، أي: أقولُ قولَ الحق، وهو مِنْ إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه، أي: القولَ الحَقَّ، كقولِك: هو عبدُ اللهِ حَقًّا، والحَقَّ لا الباطِلَ. وتكونُ جملتُه على هذا التقدير اعتراضًا بين الصِّفةِ والموصوف؛ لأنَّ التقديرَ: ذلك عيسى بنُ مريمَ الذي فيه يمترون. والثاني: أن يكونَ مَنصوبًا على المدحِ إذا أُريد بـ قَوْلَ الْحَقِّ كلمةُ اللهِ. وسُمِّي عيسى قولًا كما سُمِّي كلمةً؛ لأنَّه عنها نشأ. والثالث: أن يكونَ منصوبًا على الحالِ من عيسَى. وقُرئَ قَوْلَ الْحَقِّ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مُبتدأٍ محذوفٍ، أي: هو قَولُ الحَقِّ. أو خبَرٌ ثانٍ لـ ذَلِكَ. وقيل: صفةٌ لعيسى أو بدلٌ منه. وقيل: عيسَى بدلٌ أو عطفٌ بيان، و قَوْلَ الْحَقِّ خَبَرٌ لـ ذَلِكَ
.
المعنى الإجمالي:
يذكرُ الله تعالى ما حدَث عندما جاءَتْ مريمُ بوليدِها إلى قومِها، فيقولُ سبحانه: فأتت مريمُ قَومَها تَحمِلُ مَولودَها، فلمَّا رأَوها كذلك قالوا لها: يا مَريمُ، لقد فَعلتِ مُنكَرًا عَظيمًا! يا أختَ الرَّجُلِ الصَّالحِ هارونَ، ما كان أبوكِ رجُلَ سَوءٍ يرتكِبُ الفواحِشَ، وما كانت أمُّكِ امرأةَ سَوءٍ تأتي الفاحشةَ! فأشارت مَريمُ إلى مَولودِها عيسى ليُكلِّموه، فقالوا مُنكِرينَ عليها: كيف نكَلِّمُ طِفلًا رَضيعًا لا يزالُ في مَهدِه؟! فنطَق عيسى قائلًا: إنِّي عبدُ اللهِ، قضى بإعطائي الإنجيلَ وجَعْلِي نبيًّا، وجعَلَني عظيمَ الخَيراتِ وكثيرَ النفعِ للناسِ حيثُما وُجِدْتُ، وأوصاني بالمُحافَظةِ على الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ ما بَقِيتُ حَيًّا، وجعَلني بارًّا بوالِدتي، ولم يجعَلْني مُتكَبِّرًا، ولا شَقيًّا عاصيًا لرَبِّي، والتحيةُ والسَّلامةُ والأمانُ عليَّ مِن اللهِ يومَ وُلِدتُ، ويومَ أموتُ، ويومَ أُبعَثُ حيًّا يومَ القيامةِ.
ثم يقولُ الله تعالى لرسولِه محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: ذلك هو عيسى بنُ مريمَ، وتلك حقيقتُه، قولَ الحَقِّ الذي شَكَّ فيه اليهودُ والنَّصارى. لا يليقُ بالله تعالى أن يتَّخِذَ مِن عبادِه وخَلْقِه ولَدًا، تنزَّه وتقدَّسَ عن ذلك، إذا قضى أمرًا فإنَّما يقولُ له: «كُنْ»، فيكونُ كما شاءه وأرادَه.
ويخبرُ تعالى أنَّ عيسى عليه السلامُ قال لِقَومِه أيضًا وهو في مهدِه: إنَّ اللهَ ربِّي وربُّكم، فاعبدُوه وَحدَه لا شريكَ له، هذا طريقٌ قَويمٌ لا اعوِجاجَ فيه، مَن سلَكَه اهتَدَى.
تفسير الآيات:
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27).
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ.
أي: فجاءت مَريمُ إلى قَومِها وهي تَحمِلُ عيسى دونَ أن تُخفِيَه، مُطمَئِنَّةً إلى أمرِ اللهِ، غيرَ مُكتَرِثةٍ بما سيقولُه النَّاسُ عنها
.
قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا.
أي: فلمَّا رآها قَومُها وهي تَحمِلُ مولودًا، قالوا: يا مريمُ، لقد فَعلتِ مُنكَرًا عَظيمًا !
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28).
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ.
أي: يا أُختَ الرجُلِ الصَّالحِ هارونَ ، لم يكُنْ أبوك رجلًا يقارِفُ الفاحِشةَ !
عن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((لَمَّا قَدِمتُ نَجرانَ سَألوني فقالوا: إنَّكم تقرؤونَ يَا أُخْتَ هَارُونَ، وموسى قبلَ عيسى بكذا وكذا، فلمَّا قَدِمتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سألتُه عن ذلك، فقال: إنَّهم كانوا يُسَمُّونَ بأنبيائِهم والصَّالحينَ قَبلَهم )) .
وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا.
أي: ولم تكُنْ أمُّك -يا مَريمُ- زانيةً فتَتأسَّيْ بها، فكيف قارفتِ ذلك وأنتِ مِن أولئك القَومِ الصَّالحينَ ؟!
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29).
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ.
أي: فلم تُكَلِّمْ مَريمُ قَومَها، وأشارت إلى ابنِها عيسى أنْ كَلِّموه؛ لِيُجيبَهم بدلًا منها .
قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا.
أي: قال قَومُ مَريمَ مُنكِرينَ عليها: كيف نكَلِّمُ رَضيعًا لا يزالُ في فِراشِه، وليس في استطاعتِه الكَلامُ ؟!
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30).
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ.
أي: فنطَقَ عيسَى وهو صبيٌّ في المَهدِ، فقال: إنِّي عبدُ اللهِ؛ فهو الذي يستَحِقُّ العبادةَ وَحْدَه، لا شَريكَ له .
آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا.
أي: قضى اللهُ وقَدَّرَ مِن قبلُ أنَّه سيُؤتيني الإنجيلَ، وسيَجعَلُني نَبيًّا .
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قال عيسى عليه السَّلامُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا فأخبَرَهم بأنَّه عبدُ الله، وأنَّ اللهَ عَلَّمَه الكتابَ، وجَعَله من جملةِ أنبيائِه، فهذا مِن كَمالِه لنَفسِه؛ ذكَرَ بَعدَه تكميلَه لِغَيرِه، فقال :
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ.
أي: وجعَلَني ذا برَكاتٍ، كثيرَ الخَيراتِ، ومِن ذلك أن أكونَ نفَّاعًا للخَلقِ، مُعَلِّمًا للخيرِ في أيِّ مكانٍ وزَمانٍ أكونُ فيه .
وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا.
أي: وأوصاني اللهُ أن أحافِظَ على الصَّلاةِ والزَّكاةِ في مُدَّةِ حياتي .
كما قال تعالى لنَبيِّه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] .
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32).
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي.
أي: وجعَلَني اللهُ بارًّا بوالِدتي مريمَ، مُطيعًا لها، محسنًا إليها غايةَ الإحسانِ .
وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا.
أي: ولم يجعَلْني اللهُ مُستَكبرًا عن عبادتِه وبِرِّ أمِّي، ولا غليظًا في مُعاملةِ النَّاسِ مُترَفِّعًا عليهم، بل جعَلَني خاضِعًا خاشِعًا مُتذَلِّلًا له، متواضِعًا لعبادِه، سَعيدًا في الدُّنيا والآخرةِ .
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33).
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ.
أي: والتحيَّةُ مِنَ اللهِ عليَّ، والسَّلامةُ والأمانُ لي يومَ وُلِدتُ، ومِن ذلك السلامةُ مِن طَعنِ الشَّيطانِ عندَ الولادةِ .
عن أبي هُريرةَ رضِي اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((ما مِن بَني آدمَ مَولودٌ إلَّا يَمَسُّه الشَّيطانُ حين يُولَدُ، فيَستَهِلُّ صارِخًا مِن مَسِّ الشَّيطانِ، غيرَ مَريمَ وابنِها) )، ثمَّ يقولُ أبو هريرةَ: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36] )) .
وفي روايةٍ: ((كُلُّ بني آدمَ يَطْعُنُ الشَّيطانُ فِي جنبَيْه بإِصبعِه حينَ يُولَدُ غيرَ عيسى بنِ مريمَ؛ ذَهَب يَطْعُنُ فطَعَن في الحجابِ ) .
وَيَوْمَ أَمُوتُ.
أي: وتحيةٌ مِن اللهِ يومَ أموتُ وسَلامةٌ وأمانٌ لي مِن كُلِّ سُوءٍ؛ ككُرَبِ الموتِ، وسُوءِ الخاتمةِ، وعذابِ القَبرِ وفِتنَتِه .
وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.
أي: وتحيةٌ مِنَ اللهِ وسَلامةٌ وأمانٌ لي يومَ القيامةِ حينَ يَبعَثُني حيًّا فيُؤَمِّنُني مِن الفزَعِ والأهوالِ، وعذابِ النَّارِ .
ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34).
أي: ذلك العَظيمُ القَدرِ، العالي المَنزِلة الذي أخبَرتُكم بشأنِه هو عيسى بنُ مَريمَ، فهذه صِفتُه، وتلك حقيقةُ نَشأتِه، قَولَ الحَقِّ، الذي فيه يختلفُ النَّاسُ ويشُكُّون، فكذلك فاعتَقِدوا، لا كما يظنُّ اليهودُ أنَّه ابنُ زِنا، ولا كما يظُنُّ النَّصارى أنَّه اللهُ أو ابنُ اللهِ أو ثالثُ ثلاثةٍ !!
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالَى أنَّه خَلَقه عبدًا نَبِيًّا، نَزَّه نفسَه المُقدَّسةَ، فقالَ :
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ.
أي: ما ينبغي لله أن يَجعلَ له ولَدًا، تنزَّه اللهُ عن الوَلَدِ والنَّقصِ، وعن كلِّ ما لا يليقُ بكَمالِه .
كما قال تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النساء: 171] .
وقال سُبحانه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [الأنعام: 100] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم: 92] .
إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
أي: إذا أراد اللهُ إحداثَ شَيءٍ فإنَّما يقولُ له: كُنْ، فيَصيرُ مَوجودًا كما يشاءُ بلا كُلفةٍ ولا مَشقَّةٍ، كما خلقَ عيسى بنَ مَريمَ بكَلِمةِ (كُنْ)، فصار مخلوقًا بدونِ أبٍ .
كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] .
وقال سُبحانه: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] .
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36).
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.
أي: قال عيسى لِقَومِه وهو في مَهدِه: ولأنَّ اللهَ رَبِّي ورَبُّكم فاعبُدوه وَحدَه لا شريكَ له .
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ.
أي: هذا الذي جئتُكم به مِن عندِ اللهِ هو طريقٌ قويمٌ، لا اعوِجاجَ فيه، فمَن سلَكَه اهتَدَى، ومَن خالفَه ضلَّ وغوَى
.
الفوائد التربوية :
1- في قوله تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا إشارةٌ إلى أنَّ الإنسانَ إذا زنى؛ فقد يُبْتَلَى نسْلُه بالزِّنا، والعياذُ بالله
.
2- قوله تعالى: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فيه تَنبيهٌ على أنَّ الفواحشَ من أولادِ الصَّالحينَ أفحَشُ .
3- في قوله تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا تنبيهٌ على أَثَرةِ المرأةِ ذاتِ الأصلِ الطاهرِ، والمنبتِ الطيبِ، واجتنابِ ذواتِ المنابتِ الخبيثةِ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال الله تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا إن قيل: (أَتَتْ بِهِ) يُغني عن تَحْمِلُهُ فما فائدةُ التَّكريرِ؟
فالجوابُ: أنَّه لَمَّا ظَهَرت منه آياتٌ، جاز أن يتوهَّمَ السَّامِعُ من فَأَتَتْ بِهِ أن يكونَ ساعيًا على قَدَميه، فيكونَ سَعيُه آيةً كنُطقِه، فقطع ذلك التوهُّمَ، وأعلَمَ أنَّه كسائرِ الأطفالِ، وهذا مِثلُ قَولِ العَرَبِ: نظَرْتُ إلى فُلانٍ بعَيني، فنَفَوا بذلك نظَرَ العَطفِ والرَّحمةِ، وأثبَتوا أنَّه نظَرُ عَينٍ
.
2- جُملةُ: تَحْمِلُهُ حالٌ من تاءِ فَأَتَتْ، وهذه الحالُ للدَّلالةِ على أنَّها أتَتْ مُعلِنةً به غيرَ ساترةٍ؛ لأنَّها قد علِمَتْ أنَّ اللهَ سيُبرِّئُها ممَّا يُتَّهمُ به مثْلُ مَن جاء في حالتِها .
3- في قَولِه تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ دلالةٌ على أنَّ الإشارةَ وإنْ قامتْ في الإفهامِ مَقامَ الكلامِ فليستْ بكَلامٍ؛ لأنَّ مَريمَ كانت نَذَرتْ ألَّا تُكَلِّمَ أحدًا، فلم تُخرِجْها الإشارةُ إلى ابنِها عيسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن النَّذر، ولا عَدَّتْ كلامَها مما يُخرِجُها منه .
4- قوله تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا إنَّما أشارَتْ إليه؛ لِما تقدَّم لها مِن وعدِه أنَّه يجيبُهم عنها، ويُغنيها عن الكلامِ، وقيل: بوحيٍ مِن الله إليها .
5- قال الله تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا الذُّريَّةُ -في الغالِبِ- بَعضُها مِن بعضٍ، في الصَّلاحِ وضِدِّه .
6- في قَولِه تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ردٌّ على الغُلاةِ في المَسيحِ، وعلى الجُفاةِ النَّافينَ عنه ما أنعَمَ اللهُ به عليه .
7- قال الله تعالى حِكايةً عن عيسى حينَ تكلَّمَ في المهدِ صَبيًّا: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أنطقَه اللهُ تعالى به أوَّلًا؛ لأنَّه أوَّلُ المقاماتِ، وللرَّدِّ على مَن يَزعُمُ رُبوبيَّتَه ، ففي ذلك أعظمُ زجرٍ للنَّصارَى عن دعواهم أنَّه الله أو ابنُه أو إلهٌ معه . قال مُقاتِلٌ: (أقَرَّ على نفسِه بالعُبوديَّةِ لله عزَّ وجَلَّ أوَّلَ ما تكَلَّمَ؛ لِئَلَّا يُتَّخَذَ إلهًا) .
8- قال الله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا كلامُ عيسى هذا مِمَّا أهمَلَتْه أناجيلُ النَّصارى؛ لأنَّهم طَوَوا خبَرَ وُصولِها إلى أهلِها بعد وَضعِها، وهو طَيٌّ يُتعَجَّبُ منه، ويدُلُّ على أنَّها كُتِبَت في أحوالٍ غيرِ مَضبوطةٍ، فأطلَعَ اللهُ تعالى عليه نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
9- قال الله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا هذه الكَلِمةُ التي نَطقَ بها عيسى في أوَّلِ خِطابِه لهم، ذكرها اللهُ جَلَّ وعلا عنه في مواضِعَ أُخَرَ، كقولِه تعالى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 72] ، وقَولِه: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران: 51] ، وقَولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف: 63-64] ، وقال هنا: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم: 36] ، وقَولِه: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 117] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ .
10- قال الله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا مع أنَّ الذي اشتَدَّت الحاجةُ إليه في ذلك الوَقتِ إنَّما هو نفيُ تُهمةِ الزِّنا عن مَريمَ عليها السَّلامُ، إلَّا أنَّ عيسى عليه السلامُ لم يَنُصَّ على ذلك، وإنَّما نَصَّ على إثباتِ عُبوديَّةِ نَفسِه، كأنَّه جَعَل إزالةَ التُّهمةِ عن اللهِ تعالى أَولى من إزالةِ التُّهمةِ عن الأمِّ؛ فلهذا أوَّلَ ما تكَلَّمَ إنَّما تكَلَّمَ بها .
11- قولُه تعالى: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ...: فيه تنبيهٌ على بَراءةِ أُمِّه ممَّا اتُّهِمَتْ به؛ لأنَّه تعالى لا يخُصُّ بولدٍ موصوفٍ بالنُّبوَّةِ والخلالِ الحميدةِ إلَّا مُبرَّأةً مُصطفاةً .
12- قال المسيحُ عليه السَّلامُ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ، فبَرَكاتُ أولياءِ الله الصَّالحينَ باعتبارِ نَفعِهم للخَلقِ بدُعائِهم إلى طاعةِ اللهِ، وبدُعائِهم للخَلقِ، وبما يُنزِلُ اللهُ مِن الرَّحمةِ ويَدفَعُ من العذابِ بسَبَبِهم- حقٌّ موجودٌ .
13- في قولِ الله تعالى: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا إنْ قلْتَ: كيف أُمِرَ بذلك مع أنَّه كان طِفلًا، وخِطابُ التَّكليفِ إنَّما يكونُ بعدَ البُلوغِ والتَّمييزِ؟
فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يدُلُّ على أنَّه أوصاهُ بأداءِ ذلك في الحالِ، بل أوصاهُ في الحالِ بالأداءِ بعدَ البُلوغِ والتَّمييزِ. وقيل: إنَّ اللهَ صَيَّره عقِبَ وِلادتِه بالغًا مُميِّزًا؛ بدليلِ قولِه تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ [آل عمران: 59] ، فكما أنَّه تعالى خلَقَ آدمَ تامًّا كاملًا دَفعةً، فكذا القولُ في عيسى عليهما السَّلامُ، وهو أقرَبُ إلى ظاهرِ قولِه: مَا دُمْتُ حَيًّا، فما أوصاهُ بذلك إلَّا بعدَ بُلوغِه وتَمييزِه.
فإنْ قلْتَ: الزَّكاةُ إنَّما تجِبُ على الأغنياءِ، وعيسى لم يزَلْ فقيرًا، لابِسًا كِساءً مُدَّةَ مُكثِه في الأرضِ، مع علْمِه تعالى بحالِه؛ فكيف أوصاهُ بها؟!
فالجواب: المُرادُ بالزَّكاةِ هنا: تزكيةُ النَّفسِ وتطهيرُها من المعاصي، لا زكاةُ المالِ . وقيل: بلْ على حقيقتِها، وهذا أمْرٌ خاصٌّ به، وقرينةُ الخُصوصِ قولُه: مَا دُمْتُ حَيًّا؛ لدلالتِه على استغراقِ مُدَّةِ حياتِه بإيقاعِ الصَّلاةِ والصَّدقةِ، أي: أنْ يُصلِّيَ ويتصدَّقَ في أوقاتِ التَّمكُّنِ من ذلك؛ فالاستغراقُ المُستفادُ من قولِه: مَا دُمْتُ حَيًّا استغراقٌ عُرفيٌّ مُرادٌ به الكثرةُ .
14- عن عبدِ اللهِ بنِ واقدٍ أبي رجاء، عن بعضِ أهلِ العِلمِ، قال: (لا تجِدُ عاقًّا إلَّا وجَدْتَه جبَّارًا شقيًّا، ثمَّ قرأ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) .
15- قال اللهُ تعالى عن المسيحِ عليه السَّلامُ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا فبيَّنَ أنَّ اللهَ هو الذي جعله بَرًّا بوالِدتِه، ولم يَجعَلْه جبَّارًا شَقيًّا، وهذا صريحُ قولِ أهلِ السُّنةِ في أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خالقُ أفعالِ العِبادِ .
16- قوله: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي قد خَصَّه اللهُ تعالى بذلك بينَ قومِه، قيل: لأنَّ بِرَّ الوالدينِ كان ضعيفًا في بني إسرائيلَ يومئذٍ، وبخاصَّةٍ الوالدة؛ لأنَّها تُستضعَفُ؛ لأنَّ فرطَ حنانِها وشفقَتِها قد يُجرِّئانِ الولَدَ على التَّساهُلِ في البِرِّ بها .
17- قولُه تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي إشارةٌ إلى تنزيهِ أُمِّه عن الزِّنا؛ إذْ لو كانت زانيةً لَمَا كانَ الرَّسولُ المعصومُ مأمورًا بتعظيمِها .
18- قولهُ تعالى حكايةً عن عيسى عليه السلامُ: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ... احتَجَّ مالِكٌ -رحمه الله- بهذه الآيةِ على القَدَريَّةِ، فقال: (ما أشَدَّها على أهلِ القَدَرِ! أخبَرَ عيسى عليه السَّلامُ بما قُضِيَ مِن أمْرِه، وبما هو كائِنٌ إلى أن يموتَ) .
19- قال تعالى حكايةً عن عيسى عليه السلامُ: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا أعظَمُ أحوالِ الإنسانِ احتياجًا إلى السَّلامةِ هي هذه الأحوالُ الثَّلاثةُ، وهي يومُ الوِلادةِ، ويومُ الموتِ، ويَومُ البَعثِ؛ فجَميعُ الأحوالِ التي يُحتاجُ فيها إلى السَّلامةِ واجتِماعِ السَّعادةِ مِن قِبَلِه تعالى طَلَبَها؛ لِيَكونَ مَصونًا عن الآفاتِ والمخافاتِ في كلِّ الأحوالِ .
20- القضاءُ في قَولِه تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هو القضاءُ الكونيُّ، ويقابلُه القضاءُ الدينيُّ، كما في قَولِه تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] أي: أمَرَ .
21- قَولُه تعالى: فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيه إثباتُ القَولِ لله .
22- في قَولِه تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ دَلالةٌ على أنَّ قولَ اللهِ يكونُ بصَوتٍ مَسموعٍ؛ لِقَولِه تعالى: فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، ولَهُ صريحةٌ في توجيهِ القَولِ للمَقولِ له، ولولا أنه يَسمَعُه لَمَا صار في توجيهِه له فائدةٌ؛ ولهذا يَسمَعُه المُوَجَّهُ إليه الأمرُ، فيَمتثِلُ ويكونُ .
23- في قَولِه تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ دَلالةٌ على أنَّ قَولَ اللهِ يكونُ بحروفٍ؛ لِقَولِه تعالى: كُنْ، وهي كلمةٌ بحرفينِ، فإن قال قائل: كيف يمكِنُ أن نتصَوَّرَ هذا ونحن نقولُ: ليس كمِثْلِه شَيءٌ، وأنتم تقولون: إنَّه بحروفٍ؟
فالجوابُ: نعم، الحروفُ هي الحروفُ، لكِنَّ كيفيَّةَ الكلامِ وحقيقةَ النُّطقِ بها أو القَولِ، لا يُماثِلُ نُطقَ المَخلوقِ وقَولَه، ومِن هنا نَعرِفُ أنَّنا لا نكونُ مُمَثِّلةً إذا قلنا: إنَّه بحرفٍ وصَوتٍ مَسموعٍ؛ لأننا نقول: صَوتٌ ليس كأصواتِ المخلوقينَ، بل هو حَسَبَ ما يليقُ بعَظَمتِه وجلالِه .
24- في قولِه تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ دَلالةٌ على أنَّه ليس بينَ أمْرِ اللهِ بالتَّكوينِ وتكوُّنِه تراخٍ، بل يكونُ على الفوريَّةِ؛ وذلك لقَولِه تعالى: فَيَكُونُ بالفاءِ، والفاءُ تدلُّ على الترتيبِ والتَّعقيبِ .
25- قولُ الله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ يدُلُّ على أنَّ مُدبِّرَ النَّاسِ ومُصلِحَ أمورِهم هو اللهُ تعالى، على خِلافِ قَولِ المنَجِّمينَ: إنَّ مُدَبِّرَ النَّاسِ ومُصلِحَ أمورِهم في السَّعادةِ والشَّقاوةِ هي الكواكِبُ !
26- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فيه الإقرارُ بتَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ وتوحيدِ الإلهيَّةِ، والاستِدلالُ بالأوَّلِ على الثَّاني
.
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا دلَّتِ الفاءُ في فَأَتَتْ على أنَّ مريمَ جاءت أهْلَها عقِبَ انتهاءِ الكلامِ الَّذي كلَّمَها ابنُها
.
- قولُه: قَالُوا يَا مَرْيَمُ الجُملةُ مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا. وقال قومُها هذه المقالةَ توبيخًا لها ، وفي الكلامِ إيجازٌ بالحذفِ؛ أي: فلمَّا رأَوْها وابنَها قالوا: ... .
- قولُه: شَيْئًا فَرِيًّا، أي: فعَلْتِ شيئًا عظيمًا بديعًا مُنكَرًا، من: فرَى الجلدَ، أي: قطَعَه، أو جئتِ مجيئًا عجيبًا؛ عُبِّرَ عنه بالشَّيءِ؛ تحقيقًا للاستغرابِ .
2- قولُه تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا استئنافٌ لتجديدِ التَّعييرِ، وتأكيدِ التَّوبيخِ .
- وجُملةُ: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا تقريرٌ لأنَّ ما جاءت به فَرِيٌّ .
- قولُهم: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا لمَّا اتَّهموها بما اتَّهموها، نَفَوا عن أبويْها السُّوءَ لمُناسَبةِ الولادةِ، ولم ينُصُّوا على إثباتِ الصَّلاحِ -وإنْ كان نفيُ السُّوءِ يُوجِبُ الصَّلاحَ، ونفْيُ البغاءِ يُوجِبُ العِفَّةَ-؛ لأنَّهما بالنِّسبةِ إليهما نقيضانِ ، وقَصدوا بهذا الكلامِ الكنايةَ عن كونِها أتتْ بأمْرٍ ليس من شأْنِ أهْلِها، أي: أتَتْ بسُوءٍ ليس من شأْنِ أبيها، وبِغاءٍ ليس من شأْنِ أُمِّها، وخالَفَتْ سيرةَ أبويْها؛ فكانت امرأةَ سَوءٍ، وكانت بَغيًّا، وما كان أبوها امرأَ سَوءٍ، ولا كانت أُمُّها بغيًّا؛ فكانت مُبتكِرةً الفواحشَ في أهْلِها، وهم أرادوا ذَمَّها؛ فأتَوا بكلامٍ صريحُه ثناءٌ على أبويها مُقتضٍ أنَّ شأْنَها أنْ تكونَ مثْلَ أبويْها .
3- قوله تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
- قولُه: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا لَمَّا كانت إشارتُها بمنزلةِ مُراجعةِ كلامٍ، حكَى حِوارَهم الواقعَ عقِبَ الإشارةِ بجُملةِ القولِ مفصولةً غيرَ معطوفةٍ .
- قولُه: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا الفعلُ كَانَ لإيقاعِ مضمونِ الجُملةِ في زمانٍ ماضٍ مُبهَمٍ يصلُحُ لقريبِه وبَعيدِه، وهو هاهنا لقريبِه خاصَّةً، والدَّالُّ عليه مَبْنى الكلامِ، وأنَّه مسوقٌ للتَّعجُّبِ؛ فعلى هذا يكونُ: نُكَلِّمُ للحالِ الحاضرةِ . أو يكونُ نُكَلِّمُ حكايةَ حالٍ ماضيةٍ، أي: كيفَ عُهِد قبلَ عيسَى أن يكلِّمَ النَّاسُ صبيًّا في المهدِ فيما سلَف مِن الزمانِ حتَّى نكلِّمَ هذا ؟!
- قولُه: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا إنكارٌ وتهكُّمٌ بها، أي: إنَّ مَن كان في المهدِ يُربَّى لا يُكلَّمُ ؛ فالاستفهامُ للإنكارِ؛ أنْكَروا أنْ يُكلِّموا مَن ليس من شأْنِه أنْ يتكلَّمَ، وأنْكَروا أنْ تُحيلَهم على مُكالمتِه، أي: كيف نترقَّبُ منه الجوابَ، أو كيف نُلْقي عليه السُّؤالَ؛ لأنَّ الحالتينِ تَقتضيانِ التَّكلُّمَ ؟!
- وزيادةُ فعْلِ الكونِ في مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ المظروفيَّةِ في المهدِ مِن هذا الَّذي أُحيلوا على مُكالمتِه، وذلك مُبالغةٌ منهم في الإنكارِ، وتعجُّبٌ من استخفافِها بهم، ففعْلُ (كان) زائدٌ للتَّوكيدِ؛ ولذلك جاء بصِيغَةِ الماضي؛ لأنَّ (كان) الزَّائدةَ تكونُ بصِيغَةِ الماضي غالبًا ، وهذا على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ.
4- قوله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا استئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ من سياقِ النَّظمِ الكريمِ؛ كأنَّه قيل: فماذا كان بعدَ ذلك؟ فقيل: قال عيسى عليه السَّلامُ... .
- والتَّعبيرُ في آَتَانِيَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا بصِيغَةِ الماضي؛ إمَّا باعتبارِ ما سبَقَ في القضاءِ المحتومِ، أو بجعْلِ المُحقَّقِ وُقوعُه لا مَحالةَ واقعًا .
5- قوله تعالى عن عيسى: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا
- قولُه: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا كونُه مُبارَكًا أعمُّ من كونِه نبيًّا عُمومًا وجْهِيًّا ؛ فلم يكُنْ في قولِه: وَجَعَلَنِي نَبِيًّا غُنْيةٌ عن قولِه: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا .
- قولُه: أَيْنَ مَا كُنْتُ شرطٌ، وجزاؤُه محذوفٌ تقديرُه: جعَلني مُبارَكًا، وحُذِفَ؛ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه .
- والتَّعميمُ الَّذي في قولِه: أَيْنَ مَا كُنْتُ تعميمٌ للأمكنةِ، فهو حيثُما حَلَّ تحُلُّ معه البركةُ .
- قولُه: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فيه استعمالُ صِيغَةِ الماضِي في (أوصاني)، باعتبارِ ما سبَقَ في القدَرِ المحتومِ، أي: قدَّرَ وصيَّتي بالصَّلاةِ والزَّكاةِ .
6- قوله تعالى عن عيسى: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا
- في قولِه: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا التَّعريفُ في (السَّلام) قيل: إنَّه للعهْدِ الذِّكري، والمعنى: ذلك السَّلامُ المُوجَّهُ إلى يحيى في المواطنِ الثَّلاثةِ مُوجَّهٌ إليَّ. وقيل: اللَّامُ للجنسِ والتَّعريضِ باللَّعنِ على أعدائِه، فإذا قال: جنْسُ السَّلامِ عليَّ خاصَّةً؛ فقد عَرَّضَ بأنَّ ضِدَّه عليكم، ونظيرُه قولُه تعالى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه: 47] ، يعني: أنَّ العذابَ على مَن كذَّبَ وتولَّى، وكان المقامُ مَقامَ مُناكرةٍ وعِنادٍ، فهو مَئِنَّةٌ لنحوِ هذا من التَّعريضِ . وقيل: جيءَ بالسَّلامِ هنا مُعرَّفًا باللَّامِ الدَّالَّةِ على الجنسِ؛ مُبالغةً في تعلُّقِ السَّلامِ به، حتَّى كأنَّ جنْسَ السَّلامِ بأجمَعِه عليه، وهذا مُؤذِنٌ بتفضيلِه على يحيى؛ إذ قيل في شأنِه: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ. ويجوزُ جعْلُ اللَّامِ للعهدِ، أي: سلامٌ إليه، وهو كنايةٌ عن تَكريمِ اللهِ عبْدَه بالثَّناءِ عليه في الملأِ الأعلى وبالأمْرِ بكَرامتِه، ومُؤذِنٌ أيضًا بتمهيدِ التَّعريضِ باليهودِ؛ إذ طَعَنوا فيه وشَتَموه في الأحوالِ الثَّلاثةِ، فقالوا: وُلِدَ مِن زِنًا، وقالوا: مات مَصلوبًا، وقالوا: يُحشَرُ مع الملاحدةِ والكفرةِ؛ لأنَّهم يَزعمون أنَّه كفَرَ بأحكامٍ من التَّوراةِ !
7- قوله تعالى: ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ
- قولُه: ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ... اعتراضٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قبْلَه ، أي: الَّذي تقدَّمَ نعْتُه هو عيسَى بنُ مريمَ لا ما يصِفُه النَّصارى، وهو تكذيبٌ لهم فيما يصِفونَه على الوجْهِ الأبلغِ والطَّريقِ البُرهانيِّ؛ حيث جعَلَه موصوفًا بأضدادِ ما يصِفونَه، ثمَّ عكَسَ الحُكمَ ؛ فهو اعتراضٌ بين الجُملِ المقولةِ في قولِه: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: 30] مع قولِه: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [مريم: 36] ، أي: ذلك المذكورُ هو عيسى بنُ مريمَ لا كما تزعُمُ النَّصارى واليهودُ. والإشارةُ لتمييزِ المذكورِ أكمَلَ تَمييزٍ؛ تعريضًا بالرَّدِّ على اليهودِ والنَّصارى جميعًا؛ لأنَّهم لمَّا وصَفوه بغيرِ ما هو صِفَتُه جُعِلوا بمنزلةِ مَن لا يعرِفونَه، فاجْتُلِبَ اسمُ الإشارةِ؛ ليتميَّزَ الموصوفُ أكمَلَ تَمييزٍ عندَ الَّذين يُريدونَ أنْ يعرِفوهُ حقَّ معرفتِه. والمقصودُ بالتَّمييزِ تمييزُ صِفاتِه الحقيقيَّةِ عن الصِّفاتِ الباطلةِ الَّتي ألْصَقوها به، لا تمييزُ ذاتِه عن الذَّواتِ؛ إذ ليستْ ذاتُه بحاضرةٍ وقْتَ نُزولِ الآيةِ، أي: تلك حقيقةُ عيسى عليه السَّلامُ وصِفَتُه . فقوله: ذَلِكَ إشارةٌ إلى من فُصِّلَت نُعوتُه الجليلةُ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للدَّلالةِ على عُلوِّ مَرتبتِه، وبُعدِ مَنزلتِه، وامتيازِه بتلك المناقبِ الحميدةِ عن غيرِه، ونُزولِه منزلةَ المُشاهَدِ المحسوسِ .
8- قوله تعالى: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
- جُملةُ: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ تقريرٌ لمعنى العُبوديَّةِ، أو تفصيلٌ لمضمونِ جُملةِ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ؛ فتكونُ بمنزلةِ بَدلِ البعضِ أو الاشتمالِ منها؛ اكتفاءً بإبطالِ قولِ النَّصارى بأنَّ عيسى ابنُ اللهِ؛ لأنَّه أهمُّ بالإبطالِ؛ إذ هو تقريرٌ لعُبوديَّةِ عيسى، وتنزيهٌ للهِ تعالى عمَّا لا يليقُ بجَلالِ الأُلوهيَّةِ مِن اتِّخاذِ الولدِ، ومن شائبةِ الشِّركِ، ولأنَّه القولُ النَّاشئُ عن الغُلوِّ في التَّقديسِ، فكان فيما ذُكِرَ من صفاتِ المدحِ لعيسى ما قد يُقوِّي شُبهتَهم فيه بخلافِ قولِ اليهودِ؛ فقد ظهَرَ بُطلانُه بما عُدِّدَ لعيسى من صفاتِ الخيرِ .
- وصِيغَةُ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ تُفيدُ انتفاءَ الولدِ عنه تعالى بأبلغِ وجهٍ؛ لأنَّ لامَ الجُحودِ تُفيدُ مُبالغةَ النَّفيِ، وأنَّه ممَّا لا يُلاقي وُجودَ المنفيِّ عنه، ولأنَّ في قولِه: أَنْ يَتَّخِذَ إشارةً إلى أنَّه لو كان له ولدٌ، لكان هو خلَقَه واتَّخذَه، فلم يَعْدُ أنْ يكونَ من جُملةِ مخلوقاتِه. وجُملةُ: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بيانٌ لجُملةِ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ؛ لإبطالِ شُبهةِ النَّصارى .
- ولَمَّا كان المقامُ يقتَضي النَّفيَ العامَّ، أكَّدَه بـ (مِن) فقال: مِنْ وَلَدٍ .
9- قوله تعالى عن عيسى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
- قولُه: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ عُطِفَ على قولِه: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، فيكونُ محكيًّا، وقولُه: ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إلى يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ جُمَلَ اعتراضٍ، أخبَرَ اللهُ تعالى بها رسولَه عليه السَّلامُ .
- وجُملةُ: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ تذييلٌ وفذلكةٌ لِما سبَقَه. والإشارةُ إلى مضمونِ ما تقدَّمَ ، والمُرادُ بالصِّراطِ المُستقيمِ: اعتقادُ الحقِّ، شُبِّهَ بالصِّراطِ المُستقيمِ على التَّشبيهِ البليغِ؛ شُبِّهَ الاعتقادُ الحقُّ في كونِه موصلًا إلى الهُدى بالصِّراطِ المُستقيمِ في إيصالِه إلى المكانِ المقصودِ باطمئنانِ بالٍ، وعُلِمَ أنَّ غيرَ هذا كبُنَيَّاتِ الطَّريقِ، مَن سلَكَها ألْقَت به في المخاوفِ والمتالفِ .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وقال في الزُّخرفِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [الزخرف: 64] بزيادةِ (هو)؛ لأنَّه تعالى ذكَرَ قصَّةَ عيسى عليه السَّلامُ هنا مُستوفاةً، فأغْنى ذلك عن التَّأكيدِ، بخلافِه ثَمَّ .
==============
سورةُ مَريمَ
الآيات (37-40)
ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ
غريب الكلمات :
الْأَحْزَابُ: أي: اليهودُ والنَّصارى، والحزبُ: الجماعةُ مِن الناسِ، أو: جماعةٌ فيها غِلَظٌ، والطَّائفةُ مِن كلِّ شيءٍ حزبٌ، وأصلُ (حزب): يدُلُّ على تَجَمُّعِ الشَّيءِ
.
مَشْهَدِ: أَيْ: شُهودِ، والشَّهادةُ: الحضورُ مع المشاهدةِ، إمَّا بالبصرِ، أو بالبصيرةِ، وأصلُ (شهد): يدلُّ على حضورٍ وعِلْمٍ وإعلامٍ .
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ: أي: ما أشَدَّ سَمْعَهم، وما أنفَذَ بَصَرَهم! وأصلُ (سمع): يدُلُّ على إيناسِ الشَّيءِ بالأُذُنِ، وأصلُ (بصر): يدُلُّ على إبصارِ الشَّيءِ، والعِلمِ به
.
المعنى الإجمالي:
يبيِّنُ الله سبحانه موقفَ أهلِ الكتابِ مِن عيسى عليه السلامُ، فيقول تعالى: فاختَلَفت اليهودُ والنَّصارى في أمرِ عيسى عليه السَّلامُ؛ فمنهم غالٍ فيه وهم النَّصارى، ومنهم جافٍ عنه وهم اليهودُ، قالوا: إنَّه -حاشاه- ابنُ زنا؛ فوَيلٌ للَّذينَ كَفَروا مِن شُهودِ يومِ القيامةِ العَظيمِ الهَولِ، ما أشدَّ سَمعَهم وبصَرَهم يومَ القيامةِ! لكنِ الظَّالِمونَ اليومَ في هذه الدُّنيا في ضلالٍ واضحٍ عن الحَقِّ.
ثم يأمرُ الله تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يخوِّفَ المشركينَ مِن أهوالِ يومِ القيامةِ، فيقول تعالى: وأنذِرْ -يا مُحمَّدُ- النَّاسَ يومَ النَّدامةِ حينَ يُقضى الأمرُ، ويُحكَمُ بينَ العبادِ، وهم اليومَ في هذه الدُّنيا في غَفلةٍ عمَّا أُنذِروا به، وهم لا يُؤمِنونَ باللهِ ولا بالبَعثِ والجَزاءِ في الآخرةِ.
ثم يذكرُ سبحانه ما يدلُّ على كمالِ قدرتِه، وشمولِ مُلكِه، فيقولُ: إنَّا نحن الوارِثونَ للأرضِ ومَن عليها، وإلينا مَصيرُهم، فنُجازيهم على أعمالِهم.
تفسير الآيات:
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37).
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ.
أي: فاختلف اليهودُ والنَّصارى في أمرِ عيسى، فزعم اليَهودُ أنَّه ابنُ زِنا، وزعم بعضُ النَّصارى أنَّه ابنُ اللهِ، وزعم بعضُهم أنَّه ثالِثُ ثلاثةٍ، وزعَمَ بَعضُهم أنَّه اللهُ -تعالى اللهُ عمَّا يَقولونَ عُلُوًّا كبيرًا- وقال آخَرونَ في شأنِه القَولَ الحَقَّ: أنَّه عبدُ اللهِ ورَسولُه
.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
أي: فوَيلٌ للكافرينَ الذين اعتَقَدوا في عيسى مُعتَقَدًا باطِلًا، ولِغَيرِهم من الكُفَّارِ، مِن حُضورِهم وشُهودِهم يومَ القيامةِ المُمتَلئَ بالشدائدِ والأهوالِ، المُشتَمِلَ على الجَزاءِ بالأعمالِ، وما سيُلاقونَه فيه مِن العَذابِ والنَّكالِ .
كما قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 63 - 65] .
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38).
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا.
أي: ما أسمَعَ الكافرينَ، وما أبصَرَهم للحَقِّ الذي كانوا يُنكِرونَه، يومَ قُدومِهم علينا يومَ القيامةِ !
كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12] .
لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
أي: لكِنِ الكافِرونَ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكَذِبِ والافتراءِ على اللهِ: هم اليومَ في الدُّنيا في ضَلالٍ واضحٍ عن الحَقِّ، لا يَسمَعونَه ولا يُبصِرونَه ولا يَعقِلونَه !
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه عقَّب تَحذيرَهم من عذابِ الآخرةِ، والنِّداءَ على سُوءِ ضَلالِهم في الدُّنيا، بالأمرِ بإنذارِهم؛ استِقصاءً في الإعذارِ لهم .
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ.
أي: وخوِّفِ النَّاسَ يومَ القيامةِ -يا مُحمَّدُ- يومَ يَندَمُ الظَّالِمونَ على تَفريطِهم في الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وعلى ما فاتهم مِن الثَّوابِ، وعلى ما يُصيبُهم مِن العذابِ .
كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 166- 167] .
وقال سُبحانَه: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء: 46] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 33] .
وقال سُبحانه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 56] .
إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ.
أي: حينَ فُرغَ مِن الحسابِ والحُكمِ بينَ العبادِ، فيَدخُلُ المُؤمِنونَ الجنَّةَ، ويَدخُلُ الكافِرونَ النَّارَ، ويُذبَحُ الموتُ بين الفَريقَينِ .
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُؤتَى بالموتِ كهَيئةِ كَبشٍ أملَحَ، فيُنادي مُنادٍ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيَشرَئِبُّونَ ويَنظُرونَ، فيقولُ: هل تَعرِفونَ هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموتُ، وكُلُّهم قد رآه، ثمَّ ينادي: يا أهلَ النَّارِ، فيَشرَئِبُّونَ ويَنظُرونَ، فيقولُ: وهل تَعرِفونَ هذا؟ فيقولونَ: نعم، هذا الموتُ، وكُلُّهم قد رآه، فيُذبَحُ، ثُمَّ يقولُ: يا أهلَ الجنَّةِ خُلودٌ فلا مَوتَ، ويا أهلَ النَّارِ خُلودٌ فلا موتَ، ثمَّ قرأ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، وهؤلاء في غَفلةِ أهلِ الدُّنيا وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رَضِي الله عنهما، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا صار أهلُ الجنَّةِ إلى الجنَّةِ، وصار أهلُ النَّارِ إلى النَّارِ، أُتيَ بالموتِ حتى يُجعَلَ بين الجنَّةِ والنَّارِ، ثمَّ يُذبَحُ، ثم يُنادي مُنادٍ: يا أهلَ الجنَّةِ لا موتَ، ويا أهلَ النَّارِ لا موتَ، فيزدادُ أهلُ الجنَّةِ فَرَحًا إلى فَرَحِهم، ويزدادُ أهلُ النَّارِ حُزنًا إلى حُزنِهم)) .
وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ.
أي: والحالُ أنَّ الكافرينَ في الدُّنيا في غَفلةٍ وذُهولٍ عَمَّا أُنذِروا به، وعمَّا ينتَظِرُهم مِن العذابِ يومَ القيامةِ، فهم مُنشَغِلونَ بدُنياهم، مُعرِضونَ عَمَّا يُرادُ منهم .
كما قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 1 - 3] .
وقال سُبحانَه: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء: 97] .
وقال عزَّ وجلَّ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22] .
وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
أي: وهم في الدُّنيا لا يُؤمِنونَ باللهِ، ولا بالبَعثِ والجَزاءِ في الآخرةِ .
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40).
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.
أي: قال اللهُ تعالى: إنِّي أرِثُ وَحدي الأرضَ وكُلَّ ما عليها بعدَ مَوتِ الخلائِقِ، ولا يَملِكُها أحدٌ سواي .
كما قال تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [الحجر: 23] .
وقال سُبحانَه: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] .
وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ.
أي: وإلينا لا إلى غَيرِنا يُرَدُّ العِبادُ يومَ القيامةِ فيُبعَثونَ، وبأعمالِهم يُجازَونَ
.
الفوائد التربوية:
قال الله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ والإنذارُ هو الإعلامُ بالمَخُوفِ على وَجهِ التَّرهيبِ، والإخبارُ بصِفاتِه، وأحقُّ ما يُنذَرُ به ويُخَوَّفُ به العِبادُ يومَ الحَسرةِ حينَ يُقضى الأمرُ، فيُجمَعُ الأوَّلونَ والآخِرونَ في مَوقِفٍ واحدٍ، ويُسأَلونَ عن أعمالِهم، فمَن آمنَ باللهِ واتَّبَع رُسُلَه؛ سَعِدَ سَعادةً لا يشقى بعدَها، ومَن لم يؤمِنْ باللهِ ويتَّبِعْ رُسُلَه؛ شَقِيَ شَقاوةً لا سعادةَ بَعدَها، وخَسِرَ نَفسَه وأهلَه، فحينئذٍ يتحَسَّرُ ويندَمُ ندامةً تتقَطَّعُ منها القُلوبُ، وتنصَدِعُ منها الأفئدةُ، وأيُّ حسرةٍ أعظمُ مِن فواتِ رضا الله وجنَّتِه، واستحقاقِ سخطِه والنارِ، على وجهٍ لا يتمكَّنُ مِن الرُّجوعِ؛ ليَستأنفَ العملَ، ولا سبيلَ له إلى تغييرِ حالِه بالعودِ إلى الدُّنيا
؟!
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال اللهُ تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بعدَ قَولِه: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ولم يقُلْ: (فويلٌ لهم) ليعودَ الضَّميرُ إلى الأحزابِ؛ لأنَّ مِن الأحزابِ المُختَلِفينَ طائفةً أصابت الصَّوابَ، ووافَقَت الحَقَّ، فقالت في عيسى: إنَّه عبدُ اللهِ ورَسولُه، فآمَنوا به واتَّبَعوه، فهؤلاء مُؤمِنونَ غيرُ داخِلينَ في هذا الوَعيدِ؛ فلهذا خَصَّ اللهُ بالوعيدِ الكافرينَ
.
2- قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ لِمَن كَذَب على اللهِ وافترى، وزعَم أنَّ له وَلدًا، ولكِنْ أنظَرَهم تعالى إلى يومِ القيامةِ وأجَّلَهم؛ حِلمًا وثِقةً بقُدرتِه عليهم؛ فإنَّه الذي لا يَعجَلُ على مَن عصاه، كما جاء في الصَّحيحينِ: ((إنَّ اللهَ لَيُمْلي للظَّالمِ حتى إذا أخَذه لم يُفلِتْه. ثمَّ قرأ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] )) . وفي الصَّحيحَينِ أيضًا عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((ما أحدٌ أصبَرَ على أذًى سَمِعه مِنَ الله؛ يَدَّعونَ له الولدَ، ثمَّ يُعافيهم ويرزُقُهم! )) . وما أشار اللهُ إليه مِن أنَّه لم يُعاجِلْهم بالعذابِ، وأنَّه يُؤخِّرُ عذابَهم إلى الوَقتِ المَحدَّدِ لذلك؛ أشار له في مواضِعَ أُخَرَ، كقولِه تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم: 42] ، وقَولِه تعالى: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود: 104] ، وقَولِه تعالى: وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
[العنكبوت: 53] .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ
- الفاءُ في قولِه: فَاخْتَلَفَ لترتيبِ ما بعدَها على ما قبْلَها؛ تَنبيهًا على سُوءِ صنيعِهم بجعْلِهم ما يُوجِبُ الاتِّفاقَ منشَأً للاختلافِ؛ فإنَّ ما حُكِيَ مِن مقالاتِ عيسى عليه السَّلامُ مع كونِها نُصوصًا قاطعةً في كونِه عبدَه تعالى ورسولَه، قدِ اختلفَتِ اليهودُ والنَّصارى بالتَّفريطِ والإفراطِ
.
- وقولُه: مِنْ بَيْنِهِمْ مُتعلِّقٌ بـ (اخْتَلَفَ)، ومِنْ حرفُ توكيدٍ، أي: اخْتَلفوا بينهم .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وفي سُورةِ (الزُّخرفِ) قال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٦٥]؛ فخَصَّ الأُولى بلفظِ (كَفَروا) والثَّانيةَ (ظَلَموا)، وكِلْتا الآيتينِ في قصَّةِ عيسى عليه السَّلامُ وتوعُّدِ مَن أثبَتَ للهِ تعالى ولدًا؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ الكفرَ أَبلغُ مِن الظُّلمِ، وأشدُّ قُبحًا، وقصةُ عيسى في هذه السُّورةِ مشروحةٌ، وفيها ذِكرُ نسبتِهم إِيَّاه إلى الله تعالى، حينَ قال: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، فذُكِر بلفظِ الكفرِ، وأما قصتُه فى سورةِ الزُّخرفِ فمجمَلةٌ، فوصَفهم بلفظٍ دونَه، وهو الظُّلمُ، فكان وصْفُ مَن ذُكِرَ بالكُفرِ في المَحلِّ الَّذي اسْتُوفِيَ فيه قصَّةُ عيسى، أنسَبَ بالمحلِّ الَّذي أُجْمِلَ فيه قصَّتُه .
2- قوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
- قولُه: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ تعجُّبٌ من حِدَّةِ سمْعِهم وأبصارِهم يومئذٍ، ومعناه: أنَّ أسماعَهم وأبصارَهم يومَ القيامةِ جديرٌ بأنْ يُتعجَّبَ منها بعدَ أنْ كانوا في الدُّنيا صُمًّا عُميًا ، فقولُه: أَسْمِعْ وقولُه: وَأَبْصِرْ صِيغتَا تعجُّبٍ .
- ومعمولُ السَّمعِ والبصرِ محذوفٌ؛ لقصدِ التَّعميمِ؛ ليشمَلَ كلَّ ما يصِحُّ أنْ يُسْمَعَ وأنْ يُبْصَرَ، وهذا كنايةٌ عن التَّهديدِ .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ، وعكَسَ في (الكهفِ) فقال: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [الكهف: 26]؛ لأنَّ معناه هنا: أنَّه تعالى ذكَرَ قصصَ الأنبياءِ، فاسْمَعْها وتدبَّرْها، واستعمِلِ النَّظرَ فيها ببصيرتِك، ومعناه في (الكهفِ): أنَّه تعالى له غيبُ السَّمواتِ والأرضِ، فاجعَلْ بصيرتَك في الفكرِ في مَخلوقاتِه، وتدبَّرْها بحيثُ تصِلُ إلى معرفتِه، واسمَعْ لصفاتِه ووحِّدْهُ، فناسَبَ تَقديمُ السَّمعِ هنا، والبصرِ ثَمَّ .
- والاستدراكُ الَّذي أفادهُ قولُه: لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ راجِعٌ إلى ما يُفيدُه التَّقييدُ بالظَّرفِ في قولِه: يَوْمَ يَأْتُونَنَا من ترقُّبِ سُوءِ حالِهم يومَ القيامةِ الَّذي يَقْتضي الظَّنَّ بأنَّهم الآنَ في سَعةٍ مِن الحالِ؛ فأُفيدَ أنَّهم مُتلبِّسونَ بالضَّلالِ المُبينِ، وهو من سُوءِ الحالِ لهم؛ لِما يَتْبَعُه من اضطرابِ الرَّأيِ، والْتِباسِ الحالِ على صاحبِه، وتلك نُكتةُ التَّقييدِ بالظَّرفِ في قولِه: الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ .
- قولُه: لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فيه إظهارٌ في موضعِ الإضمارِ؛ إشعارًا بأنَّهم ظَلَموا أنفُسَهم أشَدَّ الظُّلمِ؛ حيث أغْفَلوا الاستماعَ والنَّظرَ حينَ ينفَعُهم ، وتنبيهًا على الوصفِ الذي أحلَّهم ذلك المحلَّ . ونُكتتُه: التَّخلُّصُ إلى خُصوصِ المُشرِكين؛ لأنَّ اصطلاحَ القُرآنِ إطلاقُ الظَّالمينَ على عبدةِ الأصنامِ، وإطلاقُ الظُّلمِ على عبادةِ الأصنامِ . وقيل: الظَّالِمُونَ عُمومٌ يَندرِجُ فيه هؤلاء الأحزابُ الكفَّارُ وغيرُهم من الظَّالمينَ . وسجَّلَ على إغفالِهم بأنَّه ضَلالٌ بيِّنٌ .
3- قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
- قولُه: يَوْمَ الْحَسْرَةِ أُضيفَ اليومُ إلى الحسرةِ؛ لكثرةِ ما يحدُثُ فيه من تحسُّرِ المُجرِمين على ما فرَّطوا فيه من أسبابِ النَّجاةِ؛ فكان ذلك اليومُ كأنَّه ممَّا اختَصَّتْ به الحسرةُ، فهو يومُ حَسرةٍ بالنِّسبةِ إليهم، وإنْ كان يومَ فرحٍ بالنِّسبةِ إلى الصَّالحينَ . وقيل: يتحسَّرُ المُسِيءُ على إساءتِه، والمُحسِنُ على قِلِّةِ إحسانِه . وقيل: اللَّامُ في يَوْمَ الْحَسْرَةِ للجنسِ؛ لأنَّ هذه حسراتٌ كثيرةٌ في مواطنَ عدَّةٍ، ومنها يومُ الموتِ، ومنها وقتُ أخْذِ الكتابِ بالشِّمالِ، وغيرُ ذلك .
- قولُه: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ على احتمالِ أنَّ معناه: تُمِّمَ أمْرُ اللهِ بزَجِّهِم في العذابِ، فلا مُعَقِّبَ له؛ فهو كِنايةٌ عن سُرعةِ صُدورِ الأمْرِ بتعذيبِهم، أي: قُضِيَ أمْرُهم على حينِ أنَّهم في غفْلةٍ، أي: بَهْتٍ .
- قولُه: وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فيه اختيارُ صِيغَةِ المُضارعِ ﭜ دونَ صِيغَةِ اسمِ الفاعلِ (غيرُ مُؤمِنين)؛ لِما يدُلُّ عليه المُضارِعُ من استمرارِ الفعلِ وقتًا فوقتًا؛ استحضارًا لذلك الاستمرارِ العجيبِ في طُولِه وتمكُّنِه .
4- قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
- قولُه: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ تذييلٌ لخَتْمِ القصَّةِ على عادةِ القُرآنِ في تَذييلِ الأغراضِ عندَ الانتقالِ منها إلى غيرِها، وأفاد هذا التَّذييلُ التَّعريفَ بتَهديدِ المُشرِكين، بأنَّهم لا مفَرَّ لهم من الكونِ في قبْضةِ الرَّبِّ الواحدِ الَّذي أشْرَكوا بعبادتِه بعضَ ما على الأرضِ، وأنَّ آلهتَهم ليست بمَرجُوَّةٍ لنفْعِهم؛ إذ ما هي إلَّا ممَّا يرِثُه اللهُ .
- وفي قولِه: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ تأكيدٌ بحرْفِ التَّوكيدِ (إِنَّ)؛ لدفْعِ الشَّكِّ؛ لأنَّ المُشرِكين يُنكِرون الجزاءَ، فهم يُنكِرون أنَّ اللهَ يرِثُ الأرضَ ومَن عليها بهذا المعنى، وكذلك ضميرُ الفصلِ نَحْنُ يُفيدُ التَّأكيدَ .
- قولُه: وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ فيه تَقديمُ وَإِلَيْنَا على قولِه: يُرْجَعُونَ؛ لإفادةِ قصْرِ الرُّجوعِ إليه سُبحانه وحدَه، أي: لا يَرجِعون إلى غيرِنا. ومَحملُ هذا التَّقديمِ بالنِّسبةِ إلى المُسلِمين الاهتمامُ، ومَحملُه بالنِّسبةِ إلى المُشرِكين القصْرُ
=================
سورةُ مَريمَ
الآيات (41-50)
ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ
غريب الكلمات :
صِدِّيقًا: الصِّدِّيقُ: هو المُصدِّقُ قولَه بفِعلِه، أو صدَق بقولِه واعتقادِه، وحقَّق صِدْقَه بفِعلِه، وقيل: هو مَن كثُر منه الصِّدقُ، وقيل: هو مَنْ لا يَكذِبُ قطُّ، أو مَن لا يَتأتَّى منه الكذبُ؛ لتعوُّدِه الصِّدقَ، وأصلُ (صدق): يدلُّ على قوَّةٍ في الشيءِ قولًا وغيرَه
.
سَوِيًّا: مستقيمًا مستويًا، والسَّوِيُّ يُقالُ فيما يُصانُ عن الإفراطِ والتَّفريطِ مِن حيثُ القدرُ والكيفيَّةُ، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ، واعتِدالٍ بينَ شَيئينِ .
عَصِيًّا: أي: عاصيًا أو عاقًّا، وأصلُه هنا يدلُّ على الفُرقةِ .
لَأَرْجُمَنَّكَ: الرَّجْمُ: الرَّمْيُ بالرِّجامِ، أي: الحجارةِ، والرجمُ: القتلُ؛ لأنَّهم كانوا يقتلونَ بالرَّجمِ، والرَّجمُ: الشَّتمُ والسَّبُّ؛ لأنَّه رمْيٌ بالقولِ القبيحِ، وأصلُ الرَّجمِ: يدلُّ على الرَّميِ بقولٍ كان أو بفعلِ .
مَلِيًّا: أي: حينًا طَويلًا، والإملاءُ: الإمدادُ، ومنه قيل للمُدَّة الطويلةِ: مُلاوةٌ مِن الدَّهرِ، وأصلُ (ملو): يدُلُّ على امتدادٍ في شَيءٍ؛ زَمانٍ أو غيرِه .
حَفِيًّا: أي: لطيفًا بارًّا كثيرَ الإحسانِ، والتحَفِّي: التلَطُّفُ في القَولِ والفِعلِ، وأصلُ (حفي): يدُلُّ على المُبالغةِ
.
المعنى الإجمالي:
يذكرُ الله تعالى جانبًا مِن قصةِ إبراهيمَ -عليه السلامُ-، ودعوتِه لأبيه، وما دار بينَهما مِن حوارٍ، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- لقومِك في هذا القرآنِ قِصَّةَ إبراهيمَ -عليه السَّلامُ-: إنَّه كان كثيرَ الصِّدقِ، وكان نبيًّا رفيعَ المنزلةِ؛ إذ قال لأبيه: يا أبتِ، لماذا تَعبُدُ ما لا يسمَعُ ولا يُبصِرُ ولا يدفَعُ عنكَ شيئًا من دونِ الله؟! يا أبتِ، إنَّ الله أعطاني مِن العِلمِ ما لم يُعطِك، فاتَّبِعْني إلى ما أدعوك إليه أُرشِدْك طريقًا مُستقيمًا. يا أبتِ، لا تُطِعِ الشَّيطانَ فيما يُزَيِّنُ لك مِن الكُفرِ والشِّركِ؛ إنَّ الشَّيطانَ كان عاصيًا لله، مُستَكبرًا عن طاعتِه. يا أبتِ، إني أخافُ أن يمَسَّك عذابٌ مِن الرَّحمنِ إن أصرَرْتَ على كُفرِك، فتكونَ للشَّيطانِ قَرينًا في النَّارِ.
فقال له أبوه: أمُعرِضٌ أنت عن عبادةِ آلهتي يا إبراهيمُ؟ لئِنْ لم تنتَهِ عن سَبِّها لأرجُمَنَّك، واذهَبْ عني زمانًا طويلًا. قال إبراهيمُ لأبيه: سلامٌ عليك منِّي، فلا ينالُك منِّي ما تَكرهُ، وسوف أدعو اللهَ لك بالمغفرةِ؛ إنَّ ربِّي كان رَحيمًا لطيفًا مُعتَنيًا بي، يُجيبُني إذا دَعَوتُه، وأفارِقُكم وآلهَتَكم التي تَعبُدونَها مِن دونِ الله، وأدعو ربِّي مُخلِصًا؛ عسى ألَّا أشقى بدُعاءِ ربي، وإفرادي له بالعبادة.
ثم يبيِّنُ الله سبحانه ما ترتَّب على اعتزالِ إبراهيمَ للشركِ والمشركينَ فيقولُ: فلمَّا فارقهم وآلهَتَهم التي يعبدونَها مِن دونِ اللهِ رزَقْناه إسحاقَ ويعقوبَ بنَ إسحاقَ، وجعَلْناهما نبيَّينِ، ووهَبْنا لهم جميعًا -إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ- مِن رحمَتِنا فضلًا كثيرًا، وعِلمًا نافِعًا، وأعمالًا صالحةً، ورزقًا واسعًا، وذريَّةً كثيرةً، إلى غيرِ ذلك، وجعَلْنا لهم ذِكرًا حَسَنًا، وثناءً جميلًا باقيًا في النَّاسِ.
تفسير الآيات:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّن تعالى ضَلالَ مَن أثبَتَ مَعبودًا غيرَ اللهِ حَيًّا عاقِلًا فاهِمًا، وهم النَّصارى؛ تكلَّمَ في ضَلالِ مَن أثبَتَ مَعبودًا غيرَ اللهِ جمادًا، وهم عَبَدةُ الأوثانِ
؛ فذكَرَ قِصَّةَ إبراهيمَ -عليه السَّلامُ- مع أبيه؛ تذكيرًا للعَربِ بما كان إبراهيمُ عليه مِن توحيدِ الله، وتبيينِ أنَّهم سالِكو غيرِ طَريقِه ، فقال:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ.
أي: واتلُ -يا محمَّدُ- في القرآنِ خبَرَ إبراهيمَ عليه الصَّلاة والسَّلامُ، على قَومِك الذين هم مِن ذريَّتِه، ويدَّعون كَذِبًا أنَّهم على مِلَّتِه، ويتمَسَّكونَ بتَقليدِ آبائِهم، فهم يَعبُدونَ الأصنامَ والحالُ أنَّ أعظَمَ آبائِهم -إبراهيمَ- كان حنيفًا مُسلِمًا ينهَى أباه عن الشِّركِ، وعبادةِ الأصنامِ .
كما قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ [الشعراء: 69] .
إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا.
أي: إنَّ إبراهيمَ كان كثيرَ الصِّدقِ في أقوالِه وأعمالِه ومواعيدِه، بليغَ التَّصديقِ بكُلِّ ما هو أهلٌ لأن يُصَدَّقَ به، وكان نبيًّا رفيعَ القَدرِ .
كما قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] .
وقال سُبحانَه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] .
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42).
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ.
أي: اذكُرْ -يا مُحمَّدُ- إبراهيمَ حين قال لأبيه: يا أبتِ، لِماذا تعبُدُ أصنامًا لا تَسمَعُ ولا تُبصِرُ شَيئًا ؟!
وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا.
أي: ولا تدفَعُ الأصنامُ عنك -يا أبتِ- أيَّ ضَررٍ، ولا تنفَعُك بأيِّ شَيءٍ، فلِمَ تَعبُدُها ؟!
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43).
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ.
مناسبتُها لما قبلَها:
لما سألَه عن العلَّةِ في عبادةِ الصنمِ، ولا يمكنُ أن يجِدَ جوابًا؛ انتقَل معه إلى إخبارِه بأنَّه قد جاءَه مِن العلمِ ما لم يأتِه .
وأيضًا لَمَّا نبَّهَه على أنَّ ما يَعبُدُه لا يَستَحِقُّ العبادةَ، بل لا تجوزُ عبادتُه؛ لِنَقصِه مُطلَقًا، ثمَّ نَقصِه عن عابِدِه، ولن يكونَ المعبودُ دونَ العابدِ أصلًا، وكان أقَلُّ ما يَصِلُ إليه بذلك مقامَ الحَيرةِ- نبَّهَه على أنَّه أهلٌ للهِدايةِ، فقال :
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ.
أي: يا أبتِ، إنِّي قد أُعطيتُ مِن العِلمِ بالحَقِّ ما لم تُعْطَه .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: 51] .
فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا.
أي: فاقبَلْ نَصيحتي، واعبُدِ اللهَ وَحدَه، ولا تُشرِكْ به شيئًا؛ أُرشِدْك طريقًا مُستقيمًا لا اعوِجاجَ فيه، مُوصِلًا إلى نيلِ المطلوبِ، والنَّجاةِ مِن المرهوبِ .
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44).
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ.
أي: يا أبتِ، لا تُطِعِ الشَّيطانَ فيما يُزَيِّنُ لك مِن الكُفرِ والشِّركِ، فتكونَ عابدًا له .
كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 60، 61].
إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا.
أي: لأنَّ الشَّيطانَ عاصٍ للرَّحمنِ، مُستكبِرٌ عن طاعتِه، فلا تتَّبِعْه فتكونَ عاصيًا لله مِثلَه .
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما قرَّر له أنَّ عبادتَه الأصنامَ اتِّباعٌ لأمرِ الشَّيطانِ؛ انْتَقَل إلى تَوَقُّعِ حرمانِه مِنْ رحمةِ اللَّهِ بأنْ يَحِلَّ به عذابٌ مِنَ اللَّهِ، فحَذَّره مِنْ عاقبةِ أنْ يصيرَ مِن أولياءِ الشَّيطانِ .
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ.
أي: يا أبتِ إنِّي أخافُ -إن أقمْتَ على الشِّركِ، وأصرَرْتَ عليه- أن يُصيبَك عذابٌ واقِعٌ مِن الرَّحمنِ .
فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا.
أي: فتكونَ من أولياءِ الشَّيطانِ، ومُقارِنًا له في النِّيرانِ، ويتبرَّأَ منك الرَّحمنُ، فلا تكونَ لك نصرةٌ أبدًا .
كما قال تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف: 30].
وقال سُبحانه: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 63] .
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46).
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ.
أي: قال أبوه: أتُعرِضُ -يا إبراهيمُ- عن عبادةِ آلهَتي، وتَترُكُها إلى غيرِها ؟!
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ.
أي: لئِنْ لم تَترُكْ -يا إبراهيمُ- نُصحي، وذِكرَ آلهتي بسُوءٍ لأرجُمَنَّك .
وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا.
أي: وابتَعِدْ عني زَمنًا طويلًا .
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47).
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ.
أي: قال إبراهيمُ لأبيه: أنتَ في أمانٍ وسَلامةٍ مني، فلا ينالُك مني سوءٌ .
كما قال تعالى في صفةِ المؤمنينَ: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63] .
وقال سُبحانَه: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص: 55] .
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي.
أي: سأطلُبُ لك مِن ربِّي أن يستُرَ ذُنوبَك، ويتجاوَزَ عن مُؤاخَذتِك بها .
كما حكى تعالى قَولَ إبراهيمَ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: 86].
إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا.
أي: إنِّي عَهِدتُ رَبِّي لطيفًا، مُعتَنيًا بي، شديدَ البِرِّ والإكرامِ لي، كثيرَ الإحسانِ إليَّ، وقد هداني وعوَّدَني إجابةَ دُعائي .
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48).
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
أي: وأجتَنِبُكم وآلهَتَكم التي تَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ .
وَأَدْعُو رَبِّي.
أي: وأعبُدُ رَبِّي وَحدَه، وأدعوه مُخلِصًا له لا أُشرِكُ به شيئًا .
عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا.
أي: أرجو ألَّا أشقَى بدُعائي لربِّي، وإفرادي له بالعبادةِ، بل أرجو أن يجيبَني، ويتقَبَّلَ أعمالي ويُسعِدَني .
كما قال تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] .
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49).
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.
أي: فلمَّا اجتنَبَ إبراهيمُ قَومَه، واجتنَب عبادةَ أصنامِهم وهاجَر؛ رزَقْناه ابنَه إسحاقَ وحفيدَه يعقوبَ .*
كما قال تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 99، 100].
وقال سُبحانَه: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ [الأنبياء: 71- 72].
وقال عزَّ وجلَّ: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] .
وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا.
أي: وكلًّا مِن إسحاقَ ويعقوبَ جعَلْناه نبيًّا .
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50).
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا.
أي: وأعطَينا إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ عِلمًا نافِعًا، وأعمالًا صالحةً، ورزقًا واسعًا، وذريَّةً كثيرةً، وشرفًا عظيمًا، وغيرَ ذلك من الخيراتِ .
كما قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27] .
وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا.
أي: وجعَلْنا لهم ثناءً حَسَنًا، وذِكرًا جميلًا عاليًا صادقًا، مُستَمِرًّا مَنشورًا بين النَّاسِ إلى يومِ القيامةِ .
كما قال تعالى حاكيًا دُعاءَ إبراهيمَ عليه السلامُ: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ [الشعراء: 84] .
وقال سُبحانَه: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ
[ص: 45، 46].
الفوائد التربوية:
1- تأمَّلْ قولَ إبراهيمَ الخليلِ -عليه السَّلامُ- لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ابتدأ خطابَه بذِكْرِ أُبُوَّتِه الدَّالَّةِ على توقيرِه، ولم يُسَمِّه باسمِه، ثم أخرجَ الكلامَ معه مَخْرَجَ السُّؤالِ، فقال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ولم يقُلْ: «لا تعبُدْ»، ثمَّ قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فلم يقُلْ له: «جاهلٌ لا عِلْمَ عندك!»، بل عَدَل عن هذه العبارةِ إلى ألطفِ عبارةٍ تدلُّ على هذا المعنى، فقال: جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ، فأتَى بصيغةٍ تقتضي أنَّ عندي وعندك علمًا، وأنَّ الذي وصَل إليَّ لم يصلْ إليك، ولم يأتِك، فينبغي لك أن تتبعَ الحجةَ، وتنقادَ لها، ثم قال: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، وهذا مِثْلُ قولِ موسى لفرعونَ: وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ [النازعات: 19] ، ثمَّ قال: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا فنسَبَ الخوفَ إلى نفْسِه دون أبيه، كما يَفعَلُ الشفيقُ الخائفُ على مَن يُشْفِقُ عليه، وقال: يَمَسَّكَ فذكَر لفظَ المَسِّ الذي هو ألطفُ مِن غيره، ثم نَكَّرَ العذابَ، ثمَّ ذَكَرَ الرحمنَ، ولم يقلِ: «الجبارُ» ولا «القهارُ»، فأيُّ خطابٍ ألطفُ وألينُ مِن هذا
؟!
2- نصيحةُ الابنِ لأبيه أو لأمِّه أو لأقاربه ليست عقوقًا للوالِدَينِ، ولا قطيعةً للأقاربِ، بل هذا مِن بِرِّ الوالِدَينِ وصِلةِ الأقاربِ؛ فالواجِبُ على الإنسانِ أن يبَرَّ والدَيه بنصيحتِهما، وأن يصِلَ أقارِبَه بنَصيحتِهم، كما قال الله تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، وإذا غَضِبَ الوالدانِ أو الأقاربُ مِن هذه النَّصيحةِ فغَضَبُهم عليهم، وليس عليك منهم شيءٌ، ولا يُعَدُّ إغضابُهم بالنصيحةِ قطيعةً ولا عقوقًا، ولكن يجِبُ عليك أن تكون حكيمًا في النصيحةِ، بأن تتحرَّى الأحوالَ التي يكونون بها أقرَبَ إلى الإجابةِ والقَبولِ، وألَّا تُعَنِّفَ وتَسُبَّ وتَشتُمَ؛ لأنَّ هذا قد ينفِّرُ من تُوجِّهُ إليهم النصيحةَ، فإذا أتيتَ بالتي هي أحسَنُ مُخلِصًا لله عزَّ وجلَّ مُمتَثِلًا لأمرِه، ناصِحًا لعباده؛ كان في هذا خيرٌ كثيرٌ، ولا يضُرُّك غَضَبُ مَن غَضِبَ، ولنا في قِصَّةِ إبراهيمَ عليه السلامُ مع أبيه أُسوةٌ، لما نصَحه إبراهيمُ عليه السلامُ متلطفًا في خطابِه، ماذا قال له أبوه: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا فهل تجدُ غضبًا أشدَّ مِن هذا الغضبِ؟! يقول لابنِه: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ويقولُ: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا طويلًا، فماذا قال له: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا فاتَّخِذْ من هذه القصةِ عبرةً .
3- قال الله تعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ... إلى قَولِه تعالى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا فرتَّب نبيُّ الله إبراهيمُ صلَّى الله عليه وسلَّم كلامَه في غايةِ الحُسنِ؛ لأنَّه نبَّه أوَّلًا على ما يدُلُّ على المنعِ مِن عبادةِ الأوثانِ، ثمَّ أمَرَه باتِّباعِه فيما يدعو إليه مِن التوحيدِ ونبذِ الشركِ، ثمَّ نبَّه على أنَّ طاعةَ الشيطانِ غيرُ جائزةٍ في العقولِ، ثمَّ ختم الكلامَ بالوعيدِ الزَّاجِرِ عن الإقدامِ على ما لا ينبغي، ثمَّ إنَّه عليه السَّلامُ أورد هذا الكلامَ الحَسَنَ مَقرونًا باللُّطفِ والرِّفقِ؛ فإنَّ قَولَه في مُقَدِّمةِ كُلِّ كلامٍ: يَا أَبَتِ، دليلٌ على شِدَّةِ الحُبِّ، والرَّغبةِ في صَونِه عن العِقابِ، وإرشادِه إلى الصوابِ، وختَم الكلامَ بقَولِه: إِنِّي أَخَافُ وذلك يدُلُّ على شِدَّةِ تعَلُّقِ قَلبِه بمصالحِه، وإنَّما فعَل ذلك لوجوهٍ:
أحدُها: قضاءً لحَقِّ الأبوَّةِ على ما قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] . والإرشادُ إلى الدينِ مِن أعظَمِ أنواعِ الإحسانِ، فإذا انضاف إليه رعايةُ الأدبِ والرِّفقِ، كان ذلك نورًا على نور.
وثانيها: أنَّ الهاديَ إلى الحقِّ لا بدَّ أن يكونَ رفيقًا لطيفًا، يورِدُ الكلامَ لا على سبيلِ العُنفِ؛ لأنَّ إيرادَه على سبيلِ العُنفِ يصير كالسبَّبِ في إعراضِ المُستَمِع، فيكونُ ذلك في الحقيقةِ سَعيًا في الإغواءِ .
4- سمَّى اللهُ تعالى طاعةَ الشَّيطانِ في معصيتِه عِبادةً للشَّيطانِ، كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس: 60] ، وقال حاكيًا عن خليلِه إبراهيمَ أنَّه قال لأبيه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، فمن لم يحقِّقْ عُبوديَّةَ الرَّحمنِ وطاعتَه، فإنَّه يعبُدُ الشَّيطانَ بطاعتِه له، ولم يَخلُصْ مِن عبادةِ الشَّيطانِ إلَّا مَن أخلَصَ عبوديَّةَ الرَّحمنِ، وهم الذين قال اللهُ فيهم: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر: 42] ؛ فهم الذين حَقَّقوا قَولَ: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» وأخلصوا في قَولِها، وصَدَّقوا قَولَهم بفِعلِهم، فلم يلتَفِتوا إلى غَيرِ الله؛ محبَّةً ورجاءً، وخشيةً وطاعةً وتوكُّلًا، وهم الذين صَدَقوا في قَولِ: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» وهم عبادُ الله حقًّا، فأمَّا مَن قال: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» بلِسانِه، ثمَّ أطاع الشَّيطانَ وهواه في مَعصيةِ الله ومخالفتِه؛ فقد كَذَّب فِعلُه قَولَه، ونَقَص مِن كَمالِ توحيدِه بقَدرِ مَعصيةِ اللهِ في طاعةِ الشَّيطانِ والهوى. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50] وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 26] .
5- قال الله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا في ذِكرِ إضافةِ العِصيانِ إلى اسمِ الرَّحمنِ إشارةٌ إلى أنَّ المعاصيَ تمنَعُ العبدَ مِن رَحمةِ اللهِ، وتُغلِقُ عليه أبوابَها، كما أنَّ الطاعةَ أكبَرُ الأسبابِ لِنَيلِ رَحمتِه .
6- قولُه: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ التَّعبيرُ بالخوفِ الدَّالِّ على الظَّنِّ دونَ القطعِ: تأدُّبٌ مع اللهِ تعالى بألَّا يُثْبِتَ أمرًا فيما هو مِن تصرُّفِ اللهِ، وإبقاءٌ للرَّجاءِ في نفْسِ أبيه؛ لينظُرَ في التَّخلُّصِ من ذلك العذابِ بالإقلاعِ عن عبادةِ الأوثانِ .
7- قال الله تعالى: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا في ذلك تَسليةٌ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم، وتأسيةٌ فيما كان يلقَى مِن الأذى، ويُقاسي مِن قَومِه مِن العناءِ، ومِن عَمِّه أبي لهبٍ مِن الشَّدائِدِ والبلايا: بأعظَمِ آبائِه وأقرَبِهم به شَبَهًا .
8- قَولُ الله تعالى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ هذا دليلٌ على جوازِ مُتاركةِ المنصوحِ إذا ظهَر منه اللَّجاجُ .
9- قَولُ الله تعالى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ هذا دليلٌ على أنَّه تَحسُنُ مُقابلةُ الإساءةِ بالإحسانِ ، فقولُه: سَلَامٌ عَلَيْكَ توديعٌ ومُتارَكةٌ على طريقةِ مُقابلةِ السَّيِّئةِ بالحسنةِ، أي: لا أُصِيبُك بمكروهٍ بعْدُ، ولا أُشافِهُك بما يُؤذيك . ويجوزُ أنْ يكونَ قد دعا له بالسَّلامةِ؛ استمالةً له، ودليلُ ذلك أنَّه وعَدَه الاستغفارَ . وبادرَهُ بالسَّلامِ قبْلَ الكلامِ الَّذي أعقَبَه به؛ إشارةً إلى أنَّه لا يَسوؤه ذلك الهجْرُ في ذاتِ اللهِ تعالى ومَرضاتِه .
10- قال الله تعالى حاكيًا عن إبراهيمَ: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ قال بعضُ الحُكَماءِ: (من هاجر لطَلَبِ رِضا اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أكرمَه الله عزَّ وجلَّ في الدُّنيا والآخرةِ)، كما أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ هاجر مِن قَومِه في طلَبِ رِضا الله تعالى عنه، فأكرَمَه الله تعالى ، وعوَّضه أولادًا مؤمنينَ أنبياءَ، فما خسِر على اللهِ أحدٌ ترَك الكفَّارَ الفسقةَ لوجهِه ، واللَّهُ سبحانَه يَجْزي العبدَ على عملِه بما هو مِن جنسِ عملِه، ومَن تَرَك لِلَّهِ شيئًا عَوَّضه اللَّهُ خيرًا منه
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا النبيُّ يجِبُ أن يكونَ صادِقًا في كلِّ ما أخبَرَ عنه؛ لأنَّ الله تعالى صَدَّقَه، ومَن يُصَدِّقْه اللهُ فهو صادِقٌ، وإلَّا لزِمَ الكَذِبُ في كلامِ الله تعالى؛ فيلزمُ مِن هذا كَونُ الرَّسولِ صادِقًا في كُلِّ ما يقولُ، ولأنَّ الرُّسُلَ شُهَداءُ اللهِ على النَّاسِ، على ما قال اللهُ تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] ، والشَّهيدُ إنَّما يُقبَلُ قَولُه إذا لم يكُنْ كاذِبًا، فلمَّا ثَبَت أنَّ كُلَّ نبيٍّ يجِبُ أن يكونَ صِدِّيقًا، ولا يجِبُ في كلِّ صِدِّيقٍ أن يكونَ نبيًّا- ظهَرَ بهذا قُربُ مَرتبةِ الصِّدِّيقِ مِن مَرتبةِ النبيِّ؛ فلهذا انتقَلَ مِن ذِكرِ كَونِه صِدِّيقًا إلى ذِكرِ كَونِه نبيًّا
.
2- في قَولِه تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ، وقَولِه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى وقَولِه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ، وقَولِه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ دَلالةٌ على أنَّ تذكرةَ قَصصِ الأنبياءِ المتقَدِّمينَ هو ممَّا أمَرَ اللهُ به المؤمنينَ .
3- قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا فتدرَّج الخَليلُ عليه السَّلامُ بدعوة أبيه، بالأسهلِ فالأسهَلِ، فأخبَرَه بعِلمِه، وأنَّ ذلك مُوجِبٌ لاتِّباعِك إياي، وأنَّك إن أطعتَني اهتديتَ إلى صراطٍ مُستَقيمٍ، ثمَّ نهاه عن عبادةِ الشَّيطانِ، وأخبَرَه بما فيها من المضارِّ، ثمَّ حَذَّره عقابَ اللهِ ونِقمَتَه إن أقام على حالِه، وأنَّه يكونُ وليًّا للشَّيطانِ .
4- قال الله تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، فوَصَف الأوثانَ بصِفاتٍ ثلاثٍ، كُلُّ واحدةٍ منها قادِحةٌ في الإلهيَّةِ، وبيانُ ذلك مِن أوجُهٍ:
أحدها: أنَّ العبادةَ غايةُ التعظيمِ؛ فلا يَستَحِقُّها إلَّا مَن له غايةُ الإنعامِ، وهو الإلهُ الذي منه أصولُ النِّعَمِ وفُروعُها؛ قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [مريم: 36] ، وقال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة: 28] الآية، وكما يُعلَمُ بالضَّرورةِ أنَّه لا يجوزُ الاشتِغالُ بشُكرِها ما لم تكُنْ مُنعِمةً، وجَبَ ألَّا يجوزَ الاشتِغالُ بعبادتِها.
ثانيها: أنَّها إذا لم تَسمَعْ ولم تُبصِرْ، ولم تميِّزْ مَن يُطيعُها عَمَّن يَعصيها، فأيُّ فائدةٍ في عبادتِها؟! وهذا ينبِّهُك على أنَّ الإلهَ يجِبُ أن يكونَ مَوصوفًا بصِفاتِ الكَمالِ، عالِمًا بكُلِّ المعلوماتِ؛ حتى يكونَ العبدُ آمِنًا مِن وُقوعِ الغَلَطِ للمَعبودِ.
ثالثها: أنَّ الدُّعاءَ هو العبادةُ؛ فالوَثَنُ إذا لم يَسمَعْ دُعاءَ الدَّاعي، فأيُّ مَنفعةٍ في عبادتِه؟! وإذا كانت لا تُبصِرُ بتقَرُّبِ مَن يتقَرَّبُ إليها، فأيُّ مَنفعةٍ في ذلك التقَرُّبِ؟!
رابعها: أنَّ السَّامِعَ المُبصِرَ، الضَّارَّ النَّافِعَ: أفضَلُ مِمَّن كان عاريًا عن كلِّ ذلك، والإنسانُ موصوفٌ بهذه الصِّفاتِ؛ فيكونُ أفضَلَ وأكمَلَ مِن الوَثَنِ، فكيف يليقُ بالأفضَلِ عِبادةُ الأخَسِّ؟!
خامسها: إذا كانت لا تنفَعُ ولا تضُرُّ، فلا يُرجَى منها مَنفَعةٌ، ولا يُخافُ مِن ضَرَرِها، فأيُّ فائدةٍ في عبادتِها؟!
سادسها: إذا كانت لا تحفَظُ أنفُسَها عن الكَسرِ والإفسادِ، على ما حكى اللهُ تعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ أنَّه كَسَرَها، وجعَلَها جُذاذًا؛ فأيُّ رجاءٍ للغيرِ فيها ؟!
5- قال الله تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا عاب الوَثَنَ مِن ثلاثةِ أوجُهٍ؛ أحَدُها: لا يسمَعُ، وثانيها: لا يُبصِرُ. وثالثها: لا يغني عنك شيئًا، كأنه قال له: بل الإلهيَّةُ ليست إلَّا لربي؛ فإنَّه يسمَعُ ويُجيبُ دَعوةَ الداعي ويُبصِرُ، كما قال: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] ، ويقضي الحوائِجَ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل: 62] . فالآيةُ فيها دَلالةٌ على أنَّ مَنْ لا يتَّصِفُ بصِفاتِ الكَمالِ لا يصلحُ أنْ يكونَ ربًّا ولا إلهًا .
6- في قَولِه تعالى عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ردٌّ على المعتزلةِ والجَهميَّةِ، إذْ لا يُنْكِرُ إبراهيمُ على أبيه ما لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ إلَّا ومعبودُه يُبصِرُ ويَسمعُ، ويُغني عن كلِّ شَيءٍ .
7- قال تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلامُ: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا تَفريعُ أمْرِه بأنْ يتَّبِعَه على الإخبارِ بما عندَه من العلْمِ: دليلٌ على أنَّ أحقِّيَّةَ العالِمِ بأنْ يُتَّبعَ مركوزةٌ في غريزةِ العُقولِ، لم يزَلِ البشرُ يتقصَّونَ مظانَّ المعرفةِ والعلْمِ؛ لجلْبِ ما ينفَعُ، واتِّقاءِ ما يضُرُّ .
8- قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلامُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا فقال: لِلرَّحْمَنِ ولم يقُلْ: للجَبَّارِ؛ لئلَّا يُتوَهَّمَ أنَّه ما أملَى لعاصِيه مع جَبَروتِه إلَّا للعَجزِ عنه -سُبحانَه وتعالى- .
9- قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلامُ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا إنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لإمعانِه في الإخلاصِ لم يذكُرْ مِن جناياتِ الشَّيطانِ إلَّا كَونَه عاصيًا لله تعالى، ولم يَذكُرْ مُعاداتَه لآدمَ عليه السَّلامُ، كأنَّ النَّظَرَ في عِظَمِ ما ارتكبَه من ذلك العِصيانِ غَمَّى فِكرَه، وأطبَقَ على ذِهنِه. وأيضًا فإنَّ مَعصيةَ اللهِ تعالى لا تَصدُرُ إلَّا عن ضَعيفِ الرَّأي، ومَن كان كذلك كان حقيقًا ألَّا يُلتفَتَ إلى رأيِه، ولا يُجعَلَ لِقَولِه وَزنٌ .
10- قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلامُ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا كلُّ مَن كان الشَّيطانُ يُزَيِّنُ له الكُفرَ والمعاصيَ فيَتَّبِعُه في ذلك في الدنيا، فلا وليَّ له في الآخرةِ إلَّا الشَّيطانُ .
11- قال الله تعالى حكايةً عن والدِ إبراهيمَ: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا بيَّنَ الله جلَّ وعلا هنا أنَّ إبراهيمَ لَمَّا نصَح أباه النَّصيحةَ المذكورةَ، مع ما فيها مِن الرِّفقِ واللِّينِ، وإيضاحِ الحَقِّ، والتحذيرِ مِن عبادةِ ما لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ، ومِن عذابِ الله تعالى ووَلايةِ الشَّيطانِ- خاطَبَه هذا الخِطابَ العَنيفَ، وسمَّاه باسمِه لا بلَفظِ البُنُوَّة المذكِّرِ بالشَّفقةِ والعَطفِ؛ زيادةً في الإشارةِ إلى المقاطعةِ وتَوابِعِها، فلم يقُلْ له: (يا بُنَيَّ) في مقابلةِ قولِه له: يَا أَبَتِ، وأنكَر عليه أنَّه راغِبٌ عن عبادةِ الأوثانِ !
12- لمَّا كان في قولِه: لَأَرْجُمَنَّكَ فظاظةٌ وقساوةُ قلْبٍ، قابَلَه إبراهيمُ عليه السلامُ بالدُّعاءِ له بالسَّلامِ والأمْنِ، ووعَدَه بالاستغفارِ؛ قضاءً لحقِّ الأُبوَّةِ، وإنْ كان قد صدَرَ منه إغلاظٌ .
13- في قولِ الله تعالى حاكيًا عن إبراهيمَ: عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا إشارةٌ إلى أنَّهم شَقُوا بعبادةِ الأصنامِ؛ لأنَّها لا تنفَعُهم، ولا تجيبُ دُعاءَهم .
14- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا دَلالةٌ على أنَّ طاعةَ المؤمنِ تُثمِرُ له الثَّوابَ في الدُّنيا والآخرةِ .
15- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا دَلالةٌ على أنَّ الشَّيءَ إذا سُمِّيَ به شيءٌ، جاز أن يُنقلَ إلى غيرِه؛ لِسَعةِ اللِّسانِ؛ إذِ اللسانُ المعروفُ عند العامَّةِ هو الذي يُنطَقُ به، وقد نُقِلَ في هذا الموضِعِ إلى الثَّناءِ الحَسَنِ .
16- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا دَلالةٌ على أنَّ الثَّناءَ الحَسَنَ حِليةٌ جميلةٌ يُلبِسُ اللهُ عبدَه المؤمِنَ التقيَّ؛ لأنَّ لِسَانَ صِدْقٍ في هذا الموضِعِ هو الثناءُ الحَسَنُ، وإذا كان اللهُ بجودِه جعَلَه في عِداد النِّعَم، ومَدَحَ به مَن جعَلَه فيه، لم يَجُزْ للمؤمِنِ أنْ يكرَهَه، وكان له أن يفرحَ به، ويَعُدَّه مِن كِبارِ نِعَمِ اللهِ عليه .
17- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا المرادُ باللِّسانِ هاهنا: الثَّناءُ الحَسَنُ. فلمَّا كان الصِّدقُ باللِّسانِ، وهو محَلُّه، أطلَقَ اللهُ سُبحانَه ألسِنةَ العبادِ بالثَّناءِ على الصَّادقِ؛ جزاءً وِفاقًا، وعبَّرَ به عنه .
18- مِن أعظَمِ نِعَمِ اللهِ على العَبدِ: أن يَرفَعَ له بينَ العالَمينَ ذِكرَه، ويُعلِيَ قَدْرَه؛ ولهذا خَصَّ أنبياءَه ورُسُلَه مِن ذلك بما ليس لِغَيرِهم، كما قال تعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص: 45، 46]، أي: خصَصْناهم بخَصيصةٍ، وهو الذِّكرُ الجَميلُ الذي يُذكَرونَ به في هذه الدَّارِ -وهذا على قَولٍ في الآيةِ- وهو لِسانُ الصِّدقِ الذي سأله إبراهيمُ الخَليلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ حيث قال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ [الشعراء: 84]، وقال سُبحانَه وتعالى عنه وعن بنيه: وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 50] ، وقال لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] ؛ فأتباعُ الرُّسُلِ لهم نَصيبٌ مِن ذلك بحَسَبِ مِيراثِهم مِن طاعتِهم ومُتابعتِهم، وكُلُّ مَن خالفَهم فإنَّه بَعيدٌ مِن ذلك بحسَبِ مُخالفتِهم ومَعصيتِهم
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا
- في قولِه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ قُدِّمَ ذِكْرُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه لمَّا كان قد جاء بالحَنيفيَّةِ وخالَفَها العربُ بالإشراكِ، وهم ورثةُ إبراهيمَ، كان لتَقديمِ ذِكْرِه على بقيَّةِ الأنبياءِ الموقعُ الجليلُ مِن البلاغةِ. وفي ذلك تَسليةٌ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما لقِيَ من مُشرِكي قومِه؛ لمُشابهةِ حالِهم بحالِ قومِ إبراهيمَ
.
- وجُملةُ: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ مُوجبِ الأمرِ؛ فإنَّ وصْفَه -عليه السَّلامُ- بذلك مِن دواعي ذِكْرِه . وهو تعليلٌ للاهتمامِ بذكْرِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ في التِّلاوةِ .
- وفيه تأكيدُ هذا الخبرِ بحرفِ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ بتَحقيقِه زيادةً في الثَّناءِ عليه .
- وقولُه: نَبِيًّا خبرٌ آخرُ لـ (كان) مُقيِّدٌ للأوَّلِ مُخصِّصٌ له، ولعلَّ هذا التَّرتيبَ للمُبالغةِ في الاحترازِ عن توهُّمِ تَخصيصِ الصِّدِّيقيَّةِ بالنُّبوَّةِ؛ فإنَّ كلَّ نَبيٍّ صِدِّيقٌ .
2- قوله تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَ