الجمعة، 19 يناير 2024

19.*سورة مريم مكية عدد آياتها : 98 .



19.*سورة مريم مكية عدد آياتها : 98 .



سورة مريم مكية | رقم السورة: 19 - عدد آياتها : 98 عدد كلماتها : 972 - اسمها بالانجليزي : Maryam
سورة مريم مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

بسم الله الرحمن الرحيم
كٓهيعٓصٓ (1) ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ زَكَرِيَّآ (2) إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيّٗا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا (4) وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا (6) يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسۡمُهُۥ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّٗا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا (8) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَيۡـٔٗا (9) قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَ لَيَالٖ سَوِيّٗا (10) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ أَن سَبِّحُواْ بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا (11) يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا (12) وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةٗۖ وَكَانَ تَقِيّٗا (13) وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيّٗا (14) وَسَلَٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيّٗا (15) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا (16) فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا (17) قَالَتۡ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّٗا (18) قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمٗا زَكِيّٗا (19) قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ وَلَمۡ أَكُ بَغِيّٗا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞۖ وَلِنَجۡعَلَهُۥٓ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةٗ مِّنَّاۚ وَكَانَ أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا (21) ۞فَحَمَلَتۡهُ فَٱنتَبَذَتۡ بِهِۦ مَكَانٗا قَصِيّٗا (22) فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا (23) فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ أَلَّا تَحۡزَنِي قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا (24) وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَٰقِطۡ عَلَيۡكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا (25) فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا (26) فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥۖ قَالُواْ يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـٔٗا فَرِيّٗا (27) يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا (28) فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا (29) قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا (31) وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا (32) وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا (33) ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٖۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ (36) فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ (37) أَسۡمِعۡ بِهِمۡ وَأَبۡصِرۡ يَوۡمَ يَأۡتُونَنَاۖ لَٰكِنِ ٱلظَّٰلِمُونَ ٱلۡيَوۡمَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ (38) وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ إِذۡ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ وَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (39) إِنَّا نَحۡنُ نَرِثُ ٱلۡأَرۡضَ وَمَنۡ عَلَيۡهَا وَإِلَيۡنَا يُرۡجَعُونَ (40) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِبۡرَٰهِيمَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيًّا (41) إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡـٔٗا (42) يَٰٓأَبَتِ إِنِّي قَدۡ جَآءَنِي مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِيٓ أَهۡدِكَ صِرَٰطٗا سَوِيّٗا (43) يَٰٓأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ عَصِيّٗا (44) يَٰٓأَبَتِ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٞ مِّنَ ٱلرَّحۡمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيۡطَٰنِ وَلِيّٗا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا (46) قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكَۖ سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ بِي حَفِيّٗا (47) وَأَعۡتَزِلُكُمۡ وَمَا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدۡعُواْ رَبِّي عَسَىٰٓ أَلَّآ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّٗا (48) فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا نَبِيّٗا (49) وَوَهَبۡنَا لَهُم مِّن رَّحۡمَتِنَا وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ لِسَانَ صِدۡقٍ عَلِيّٗا (50) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مُوسَىٰٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ مُخۡلَصٗا وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا (51) وَنَٰدَيۡنَٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنِ وَقَرَّبۡنَٰهُ نَجِيّٗا (52) وَوَهَبۡنَا لَهُۥ مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيّٗا (53) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا (54) وَكَانَ يَأۡمُرُ أَهۡلَهُۥ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرۡضِيّٗا (55) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِدۡرِيسَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيّٗا (56) وَرَفَعۡنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٖ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡرَٰٓءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا۩ (58) ۞فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا (60) جَنَّٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحۡمَٰنُ عِبَادَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّهُۥ كَانَ وَعۡدُهُۥ مَأۡتِيّٗا (61) لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوًا إِلَّا سَلَٰمٗاۖ وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِيهَا بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا (62) تِلۡكَ ٱلۡجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنۡ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّٗا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا (64) رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا فَٱعۡبُدۡهُ وَٱصۡطَبِرۡ لِعِبَٰدَتِهِۦۚ هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِيّٗا (65) وَيَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوۡفَ أُخۡرَجُ حَيًّا (66) أَوَ لَا يَذۡكُرُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ يَكُ شَيۡـٔٗا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحۡشُرَنَّهُمۡ وَٱلشَّيَٰطِينَ ثُمَّ لَنُحۡضِرَنَّهُمۡ حَوۡلَ جَهَنَّمَ جِثِيّٗا (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمۡ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحۡمَٰنِ عِتِيّٗا (69) ثُمَّ لَنَحۡنُ أَعۡلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمۡ أَوۡلَىٰ بِهَا صِلِيّٗا (70) وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا (71) ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا (72) وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا (73) وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَحۡسَنُ أَثَٰثٗا وَرِءۡيٗا (74) قُلۡ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَٰلَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَدًّاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلۡعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضۡعَفُ جُندٗا (75) وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ هُدٗىۗ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٞ مَّرَدًّا (76) أَفَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ ٱلۡغَيۡبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا (78) كَلَّاۚ سَنَكۡتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُۥ مِنَ ٱلۡعَذَابِ مَدّٗا (79) وَنَرِثُهُۥ مَا يَقُولُ وَيَأۡتِينَا فَرۡدٗا (80) وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةٗ لِّيَكُونُواْ لَهُمۡ عِزّٗا (81) كَلَّاۚ سَيَكۡفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمۡ وَيَكُونُونَ عَلَيۡهِمۡ ضِدًّا (82) أَلَمۡ تَرَ أَنَّآ أَرۡسَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ تَؤُزُّهُمۡ أَزّٗا (83) فَلَا تَعۡجَلۡ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمۡ عَدّٗا (84) يَوۡمَ نَحۡشُرُ ٱلۡمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحۡمَٰنِ وَفۡدٗا (85) وَنَسُوقُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرۡدٗا (86) لَّا يَمۡلِكُونَ ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا (87) وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗا (88) لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَيۡـًٔا إِدّٗا (89) تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِنۡهُ وَتَنشَقُّ ٱلۡأَرۡضُ وَتَخِرُّ ٱلۡجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوۡاْ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٗا (91) وَمَا يَنۢبَغِي لِلرَّحۡمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا (93) لَّقَدۡ أَحۡصَىٰهُمۡ وَعَدَّهُمۡ عَدّٗا (94) وَكُلُّهُمۡ ءَاتِيهِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَرۡدًا (95) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَيَجۡعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وُدّٗا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا (97) وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هَلۡ تُحِسُّ مِنۡهُم مِّنۡ أَحَدٍ أَوۡ تَسۡمَعُ لَهُمۡ رِكۡزَۢا (98) /سورة مريم
===========
 

 19.*سورة مريم مكية عدد آياتها : 98 .

أسماء السورة

فضائل السورة وخصائصها

بيان المكي والمدني

مقاصد السورة

موضوعات السورة

 

سورةُ مَريمَ

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

سُمِّيَت هذه السُّورةُ بسُورةِ (مَريمَ)

، ومما يدلُّ على ذلك:

1- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضِيَ الله عنه، قال: (سورةُ «بني إسرائيلَ»، و«الكَهفِ»، و«مَريمَ»، و«طه»، و«الأنبياءِ»: هُنَّ مِن العِتاقِ الأُوَلِ ، وهُنَّ مِن تِلادي ) .

2- عن أبي هُريرةَ رضِى الله عنه، قال: (قدمتُ المدينةَ مهاجرًا، فصليتُ الصبحَ وراءَ سِباعٍ فقرَأ في السجدةِ الأُولَى سورةَ «مريمَ»، وفي الأُخرَى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)


فضائل السورة وخصائصها

 

أنَّها مِن السُّوَرِ المتقدِّمِ نزولُها، ومِن قديمِ ما حفِظ الصَّحابةُ وتعلَّموه:

كما في أثرِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضِيَ الله عنه المتقدِّمِ قريبًا.

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ مَريمَ مَكِّيَّةٌ

، وحُكِي الإجماعُ على ذلك

مقاصد السورة:

 

تحقيقُ العُبوديَّةِ، وتعظيمُ شَأنِ الرُّبوبيَّة، وتقريرُ مَبدأِ البَعثِ

موضوعات السورة:

 

من أهمِّ موضوعات هذه السُّورةِ:

1- ذِكرُ قِصَّة زكريَّا عليه السلامُ.

2- ذكرُ قِصَّةِ مَريمَ ومولدِ عيسى عليهما السلامُ.

3- ذِكرُ طرفٍ من قِصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مع أبيه.

4- الإشارةُ إلى عددٍ مِن النبيينَ، ومنهم: موسى، وهارونُ، وإسماعيلُ، وإدريسُ عليهم السَّلامُ.

5- بيانُ جزاءِ المتَّقينَ وعقابِ الكافِرينَ، وفَتحُ بابِ التَّوبةِ للعاصينَ.

6- حكايةُ بَعضِ شُبهاتِ المشركينَ المتعلقةِ بالقرآنِ والبعثِ والوحدانيةِ مع الردِّ عليها، وإقامةِ الأدلةِ على وحدانيةِ الله، ونفيِ الشريكِ والولدِ، وإقامةِ الأدلةِ على أنَّ البعثَ حقٌّ.

7- بيانُ بعضِ مَشاهِدِ القيامةِ.

8- خُتِمَت السورةُ بما بَدَأت به مِن بَيانِ مَحبَّةِ اللهِ تعالى وتكريمِه لأوليائِه، وبيانِ الحِكمةِ مِن نُزولِ القُرآنِ، وهي: البِشارةُ والنِّذارةُ.

================

سورةُ مَريمَ

بسم الله الرحمن الرحيم

كٓهيعٓصٓ (1) ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ زَكَرِيَّآ (2) إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيّٗا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا (4) وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا (6) يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسۡمُهُۥ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّٗا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا (8) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَيۡـٔٗا (9) قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَ لَيَالٖ سَوِيّٗا (10) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ أَن سَبِّحُواْ بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا (11) يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا (12) وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةٗۖ وَكَانَ تَقِيّٗا (13) وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيّٗا (14) وَسَلَٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيّٗا (15) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا (16) فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا (17) قَالَتۡ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّٗا (18) قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمٗا زَكِيّٗا (19) قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ وَلَمۡ أَكُ بَغِيّٗا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞۖ وَلِنَجۡعَلَهُۥٓ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةٗ مِّنَّاۚ وَكَانَ أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا (21) ۞فَحَمَلَتۡهُ فَٱنتَبَذَتۡ بِهِۦ مَكَانٗا قَصِيّٗا (22) فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا (23) فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ أَلَّا تَحۡزَنِي قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا (24) وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَٰقِطۡ عَلَيۡكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا (25) فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا (26) فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥۖ قَالُواْ يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـٔٗا فَرِيّٗا (27) يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا (28) فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا (29) قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا (31) وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا (32) وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا (33) ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٖۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ (36) فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ (37) أَسۡمِعۡ بِهِمۡ وَأَبۡصِرۡ يَوۡمَ يَأۡتُونَنَاۖ لَٰكِنِ ٱلظَّٰلِمُونَ ٱلۡيَوۡمَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ (38) وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ إِذۡ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ وَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (39) إِنَّا نَحۡنُ نَرِثُ ٱلۡأَرۡضَ وَمَنۡ عَلَيۡهَا وَإِلَيۡنَا يُرۡجَعُونَ (40) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِبۡرَٰهِيمَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيًّا (41) إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡـٔٗا (42) يَٰٓأَبَتِ إِنِّي قَدۡ جَآءَنِي مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِيٓ أَهۡدِكَ صِرَٰطٗا سَوِيّٗا (43) يَٰٓأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ عَصِيّٗا (44) يَٰٓأَبَتِ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٞ مِّنَ ٱلرَّحۡمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيۡطَٰنِ وَلِيّٗا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا (46) قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكَۖ سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ بِي حَفِيّٗا (47) وَأَعۡتَزِلُكُمۡ وَمَا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدۡعُواْ رَبِّي عَسَىٰٓ أَلَّآ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّٗا (48) فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا نَبِيّٗا (49) وَوَهَبۡنَا لَهُم مِّن رَّحۡمَتِنَا وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ لِسَانَ صِدۡقٍ عَلِيّٗا (50) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مُوسَىٰٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ مُخۡلَصٗا وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا (51) وَنَٰدَيۡنَٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنِ وَقَرَّبۡنَٰهُ نَجِيّٗا (52) وَوَهَبۡنَا لَهُۥ مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيّٗا (53) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا (54) وَكَانَ يَأۡمُرُ أَهۡلَهُۥ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرۡضِيّٗا (55) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِدۡرِيسَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيّٗا (56) وَرَفَعۡنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٖ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡرَٰٓءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا۩ (58) ۞فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا (60) جَنَّٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحۡمَٰنُ عِبَادَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّهُۥ كَانَ وَعۡدُهُۥ مَأۡتِيّٗا (61) لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوًا إِلَّا سَلَٰمٗاۖ وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِيهَا بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا (62) تِلۡكَ ٱلۡجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنۡ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّٗا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا (64) رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا فَٱعۡبُدۡهُ وَٱصۡطَبِرۡ لِعِبَٰدَتِهِۦۚ هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِيّٗا (65) وَيَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوۡفَ أُخۡرَجُ حَيًّا (66) أَوَ لَا يَذۡكُرُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ يَكُ شَيۡـٔٗا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحۡشُرَنَّهُمۡ وَٱلشَّيَٰطِينَ ثُمَّ لَنُحۡضِرَنَّهُمۡ حَوۡلَ جَهَنَّمَ جِثِيّٗا (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمۡ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحۡمَٰنِ عِتِيّٗا (69) ثُمَّ لَنَحۡنُ أَعۡلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمۡ أَوۡلَىٰ بِهَا صِلِيّٗا (70) وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا (71) ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا (72) وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا (73) وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَحۡسَنُ أَثَٰثٗا وَرِءۡيٗا (74) قُلۡ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَٰلَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَدًّاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلۡعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضۡعَفُ جُندٗا (75) وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ هُدٗىۗ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٞ مَّرَدًّا (76) أَفَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ ٱلۡغَيۡبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا (78) كَلَّاۚ سَنَكۡتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُۥ مِنَ ٱلۡعَذَابِ مَدّٗا (79) وَنَرِثُهُۥ مَا يَقُولُ وَيَأۡتِينَا فَرۡدٗا (80) وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةٗ لِّيَكُونُواْ لَهُمۡ عِزّٗا (81) كَلَّاۚ سَيَكۡفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمۡ وَيَكُونُونَ عَلَيۡهِمۡ ضِدًّا (82) أَلَمۡ تَرَ أَنَّآ أَرۡسَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ تَؤُزُّهُمۡ أَزّٗا (83) فَلَا تَعۡجَلۡ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمۡ عَدّٗا (84) يَوۡمَ نَحۡشُرُ ٱلۡمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحۡمَٰنِ وَفۡدٗا (85) وَنَسُوقُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرۡدٗا (86) لَّا يَمۡلِكُونَ ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَٰنِ عَهۡدٗا (87) وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗا (88) لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَيۡـًٔا إِدّٗا (89) تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِنۡهُ وَتَنشَقُّ ٱلۡأَرۡضُ وَتَخِرُّ ٱلۡجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوۡاْ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٗا (91) وَمَا يَنۢبَغِي لِلرَّحۡمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا (93) لَّقَدۡ أَحۡصَىٰهُمۡ وَعَدَّهُمۡ عَدّٗا (94) وَكُلُّهُمۡ ءَاتِيهِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَرۡدًا (95) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَيَجۡعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وُدّٗا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا (97) وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هَلۡ تُحِسُّ مِنۡهُم مِّنۡ أَحَدٍ أَوۡ تَسۡمَعُ لَهُمۡ رِكۡزَۢا (98) /سورة مريم

 

الآيات (1-6)كٓهيعٓصٓ (1) ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ زَكَرِيَّآ (2) إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيّٗا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ

 شَقِيّٗا (4) وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا

 (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا (6)

غريب الكلمات:

وَهَنَ الْعَظْمُ: أي: رقَّ وضَعُف، وأصلُ (وهن): يدُلُّ على ضَعفٍ

وَاشْتَعَلَ: أي: انتَشَر، والاشتعالُ في الأصلِ: انتشارُ شُعاعِ النَّارِ، وأصلُ (شعل): يدُلُّ على انتِشارٍ وتفَرُّقٍ في الشَّيءِ الواحِدِ مِن جَوانِبِه .

شَقِيًّا: أي: خائبًا؛ يُقالُ لكُلِّ مَن سعى في أمرٍ فبطَلَ سَعيُه: قد شَقِيَ به، وإذا أدركَه قيل: قد سَعِدَ به، وأصْلُ (شقي): يدُلُّ على المعاناةِ، وخِلافِ السُّهولةِ والسَّعادةِ .

الْمَوَالِيَ: أي: الأقاربَ والعَصَبةَ مِن الوَرَثةِ الذين يَلونَه في النَّسَبِ، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ .

عَاقِرًا: أي: لا تَلِدُ؛ يُقالُ: عَقَرْتُ النَّخلَ: إذا قطعتَه مِن أصلِه، فإذا لم تلِدْ كأنَّها تعقرُ النسلَ، أي: تقطعُه. وقيل: العاقِرُ: الرَّملةُ التي لا نَبْتَ فيها، ومنه قيل للمرأةِ التي لا تَلِدُ: عاقرٌ .

رَضِيًّا: أي: مَرضيًّا في أخلاقِهِ وأفعالِه، وأصلُ (رضي): يدُلُّ على خِلافِ السُّخْطِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

ابتدأ الله هذه السورةَ بالحُروفِ المقَطَّعةِ التي تُبيِّنُ إعجازَ القرآنِ؛ فتُبرِزُ عجزَ الخَلْقِ عن معارضتِه بالإتيانِ بشيءٍ مِن مثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحروفِ العربيَّة التي يتحدَّثون بها!

ثمَّ قال تعالى: هذا الذي نَتلوه عليك ذِكْرُ رَحمةِ رَبِّك عَبدَه زكريَّا؛ إذ دعا ربَّه سرًّا، قال: رَبِّ إني كَبِرْتُ، ورقَّ عَظمي، وانتشَرَ الشَّيبُ في رأسي، ولم أكُنْ مِن قَبلُ حين أدعوك مَحرومًا من إجابةِ الدُّعاءِ، وإنِّي خِفتُ أقاربي وعَصَبتي مِن بعدِ مَوتي أن يُضَيِّعوا الدِّينَ والعِلمَ، ولا يقوموا بهما حَقَّ القيامِ، وكانت زوجَتي عاقِرًا لا تَلِدُ؛ فارزُقْني مِن عِندِك وَلَدًا يَرِثُ عِلْمي ونبُوَّتي، ونبُوَّةَ أجدادِه آلِ يَعقوبَ، واجعَلْ هذا الولَدَ مَرضِيًّا عندَك وعندَ عِبادِك.

تفسير الآيات:

 

كهيعص (1).

هذه الحروفُ المقطَّعة التي افتُتِحَت بها هذه السُّورةُ وغيرُها، تأتي لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ حيث تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن معارضتِه بمثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها

.

ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2).

أي: هذا الذي نَتلوه في هذه الآياتِ، قِصَّةُ رَحمةِ رَبِّك -يا مُحمَّدُ- عَبدَه زكريَّا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

قال تعالى: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنعام: 85] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كان زكريَّاءُ نجَّارًا) ) .

إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3).

أي: إذ دعا زكريَّا رَبَّه، وسأَله بنداءٍ خَفيٍّ عن النَّاسِ .

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4).

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي.

أي: قال زكريَّا: يا رَبِّ، إنِّي رقَّ عَظمي، وضعُفَت قُوَّةُ بَدَني .

وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا.

أي: وانتشَرَ بَياضُ الشَّيبِ في رأسي .

وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا.

أي: ولم أكُنْ حين أدعوك مِن قَبلُ -يا رَبِّ- خائبًا مَحرومًا مَردودَ الدَّعوةِ، بل عوَّدْتَني إجابةَ دَعوتي، وقَضاءَ حاجَتي .

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5).

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي.

أي: وإنِّي -يا ربِّ- خِفتُ أن يُضَيِّعَ أقاربي مِن بَعدِ موتي الدِّينَ والعِلمَ، ولا يَقوموا بحَقِّهما .

وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا.

أي: وكانت امرأتي عَقيمًا لا تَلِدُ أصلًا .

فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا.

أي: فارْزُقْني -يا رَبِّ- مِن عِندِك ولدًا يقومُ بالدِّينِ مِن بعدي حَقَّ القيامِ .

كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 38] .

وقال سُبحانَه: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء: 89] .

يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6).

يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ.

أي: يَرِثُ عِلمي ونبُوَّتي، ويَرِثُ مِن أجدادِه آلِ يَعقوبَ العِلمَ والنبُوَّةَ، فيكونُ نبيًّا، داعيًا إلى الله، قائمًا بدِينِه .

وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا.

أي: واجعَلْ وَلَدي -يا رَبِّ- مَرْضيًّا عندك وعندَ عِبادِك، صالحًا في دينِه وخُلُقِه وأعمالِه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا أي: هذا ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا سنقُصُّه عليك، ونفصِّلُه تَفصيلًا يُعرَفُ به حالةُ نبيِّه زكريَّا، وآثارُه الصَّالحةُ، ومَناقِبُه الجميلةُ؛ فإنَّ في قَصِّها عِبرةً للمُعتبرينَ، وأُسوةً للمُقتَدينَ، ولأنَّ في تفصيلِ رحمتِه لأوليائِه، وبأيِّ سبَبٍ حَصَلتْ لهم: ما يدعو إلى محبَّةِ الله تعالى، والإكثارِ مِن ذِكرِه، ومَعرفتِه، والسَّبَبِ المُوصلِ إليه

.

2- قال الله تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا فيه استِحبابُ الإسرارِ بالدُّعاءِ ، وفي إخفاءِ الدُّعاءِ والإسرارِ به فوائِدُ عديدةٌ:

أحدُها: أنَّه أعظَمُ إيمانًا؛ لأنَّ صاحِبَه يعلَمُ أنَّ اللهَ يَسمَعُ الدُّعاءَ الخَفيَّ.

ثانيها: أنَّه أعظَمُ في الأدبِ والتعظيمِ؛ لأنَّ الملوكَ لا تُرفَعُ الأصواتُ عِندَهم، ومَن رفَعَ صَوتَه لديهم مَقَتوه، ولله المثَلُ الأعلى.

ثالثها: أنَّه أبلَغُ في التضَرُّعِ والخُشوعِ الذي هو رُوحُ الدُّعاءِ ولُبُّه ومَقصودُه.

رابعُها: أنَّه أبلَغُ في الإخلاصِ.

خامسها: أنَّه أبلَغُ في جَمعيَّةِ القَلبِ على الذِّلَّةِ في الدُّعاءِ؛ فإنَّ رَفعَ الصَّوتِ يُفَرِّقُه، فكلَّما خَفَض صَوتَه كان أبلغَ في تجريدِ هِمَّتِه وقَصدِه للمَدعُوِّ سُبحانَه.

سادسها - وهو مِن النُّكَتِ البَديعةِ جِدًّا: أنَّه دالٌّ على قُربِ صاحِبِه للقَريبِ، لا مسألةَ نداءِ البعيدِ للبَعيدِ؛ ولهذا أثنى اللهُ على عَبدِه زكريَّا بقَولِه عزَّ وجَلَّ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3] ، فلمَّا استحضَرَ القَلبُ قُربَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وأنَّه أقرَبُ إليه مِن كُلِّ قَريبٍ؛ أخفى دُعاءَه ما أمكَنَه.

سابعها: أنَّه أدعى إلى دوامِ الطَّلَبِ والسُّؤالِ؛ فإنَّ اللِّسانَ لا يَمَلُّ، والجوارِحَ لا تتعَبُ، بخلافِ ما إذا رَفَع صَوتَه، فإنَّه قد يَمَلُّ اللِّسانُ وتَضعُفُ قُواه.

ثامنها: أنَّ إخفاءَ الدُّعاءِ أبعَدُ له من القواطِعِ والمشَوِّشاتِ؛ فإنَّ الدَّاعيَ إذا أخفى دُعاءَه لم يَدرِ به أحَدٌ، فلا يحصُلُ على هذا تشويشٌ ولا غيرُه، وإذا جهَرَ به فَرَطَت له الأرواحُ البشَريَّةُ -ولا بُدَّ- ومانعَتْه وعارضَتْه، ولو لم يكُنْ إلَّا أنَّ تعَلُّقَها به يُفزِعُ عليه همَّته، فيُضعِفُ أثَرَ الدُّعاءِ، ومن له تجرِبةٌ يَعرِفُ هذا، فإذا أسَرَّ الدُّعاءَ أمِنَ هذه المَفسَدةَ.

تاسعها: أنَّ أعظَمَ النِّعمةِ الإقبالُ والتعَبُّدُ، ولكُلِّ نِعمةٍ حاسِدٌ على قَدْرِها، دَقَّت أو جَلَّت، ولا نِعمةَ أعظَمُ مِن هذه النِّعمةِ؛ فإنَّ أنفُسَ الحاسِدينَ مُتعَلِّقةٌ بها، وليس للمَحسودِ أسلَمُ مِن إخفاءِ نِعمتِه عن الحاسِدِ.

عاشرها: أنَّ الدُّعاءَ هو ذِكرٌ للمَدعُوِّ سُبحانَه وتعالى، متضَمِّنٌ للطَّلَبِ والثَّناءِ عليه بأوصافِه وأسمائِه، فهو ذِكرٌ وزيادةٌ، كما أنَّ الذِّكرَ سُمِّيَ دُعاءً لتضَمُّنِه للطَّلَبِ. والمقصودُ: أنَّ كُلَّ واحدٍ من الدُّعاءِ والذِّكرِ يتضَمَّنُ الآخَرَ ويدخُلُ فيه، وقد قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً [الأعراف: 205] فأمَرَ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَذكُرَه في نَفسِه .

3- قال الحَسَنُ البَصريُّ: (لقد أدرَكْنا أقوامًا ما كان على الأرضِ مِن عَمَلٍ يَقدِرونَ على أن يَعمَلوه في السِّرِّ، فيَكونُ علانيةً أبدًا، ولقد كان المُسلِمونَ يجتَهِدونَ في الدُّعاءِ، وما يُسمَعُ لهم صَوتٌ، إنْ كان إلَّا هَمسًا بينهم وبين رَبِّهم عزَّ وجَلَّ؛ ذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ يقولُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] ، وذلك أنَّ الله تعالى ذكَرَ عَبدًا صالِحًا ورَضِيَ قَولَه، فقال: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3] ) .

4- قَولُ الله تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا مِن فوائِدِ هذه القِصَّةِ تعليمُ آدابِ الدُّعاءِ، وهي مِن جِهاتٍ:

أحدُها: قَولُه: نِدَاءً خَفِيًّا وهو يدُلُّ على أنَّ أفضَلَ الدُّعاءِ ما هذا حالُه، ويؤكِّدُ قَولَه تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] ، ولأنَّ رَفعَ الصَّوتِ مُشعِرٌ بالقُوَّةِ والجَلادةِ، وإخفاءَ الصَّوتِ مُشعِرٌ بالضَّعفِ والانكسارِ، وعُمدةُ الدُّعاءِ الانكِسارُ والتبَرِّي عن حولِ النَّفسِ وقُوَّتِها، والاعتمادُ على فَضلِ اللهِ تعالى وإحسانِه.

ثانيها: أنَّ المُستحَبَّ للدَّاعي أن يَذكُرَ في مُقَدِّمةِ الدُّعاءِ عَجزَ النَّفسِ وضَعفَها، كما في قولِ الله تعالى حكايةً عن زكريا عليه السلامُ: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ، فالشَّيبُ دَليلُ الضَّعفِ والكِبَرِ، ورسولُ الموتِ ورائِدُه، ونذيرُه، فتوسَّلَ إلى الله تعالى بضَعفِه وعَجزِه، وهذا مِن أحَبِّ الوَسائِلِ إلى الله؛ لأنَّه يدُلُّ على التبَرِّي من الحَولِ والقُوَّةِ، وتعلُّقِ القَلبِ بحَولِ اللهِ وقُوَّتِه .

ويُستحَبُّ له أيضًا أن يَذكُرَ كَثرةَ نِعَمِ الله، على ما في قولِه تعالى حكايةً عن زكريا عليه السلامُ أيضًا: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا.

ثالثُها: أن يكونَ الدُّعاءُ لأجلِ شَيءٍ مُتعَلِّقٍ بالدِّينِ، لا لِمَحضِ الدُّنيا، كما قال: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي.

رابعُها: أن يكونَ الدُّعاءُ بلَفظِ (يا رَبِّ)، على ما في هذا الموضِعِ .

5- قَولُه تعالى: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا فيه التوسُّلُ إلى اللهِ بنِعَمِه وعوائدِه الجَميلةِ . وهذه وَسيلةٌ حَسَنةٌ: أن يُتشَفَّعَ إليه بنِعَمِه، ويُستَدَرَّ فَضلُه بفَضلِه ، فزكريا عليه السلامُ توسَّل إلى الله بإنعامِه عليه، وإجابةِ دعواتِه السابقةِ، فسأل الذي أحسَنَ سابقًا، أن يتمِّمَ إحسانَه لاحقًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ... فافتُتِحَتْ قِصَّةُ مريمَ وعيسى بما يتَّصِلُ بها من شُؤونِ آلِ بيتِ مريمَ وكافِلِها؛ لأنَّ في تلك الأحوالِ كلِّها تذكيرًا برحمةِ اللهِ تعالى وكرامتِه لأوليائِه

.

2- قولُ الله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا وصَفَه بالعبوديَّةِ؛ تَشريفًا له، وإعلامًا له بتَخصيصِه وتَقريبِه .

3- قَولُ الله تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا فيه سؤالٌ: أنَّ مِن شَرطِ النِّداءِ الجَهرَ، فكيف الجَمعُ بينَ كَونِه (نداءً) و(خَفيًّا)؟

الجوابُ مِن أوجُهٍ:

الوجهُ الأولُ: أنَّ زكريَّا -عليه السَّلامُ- أتَى بأقصى ما قدَرَ عليه مِن رَفعِ الصَّوتِ، إلَّا أنَّ الصَّوتَ كان ضَعيفًا لنهايةِ الضَّعفِ؛ بسبَبِ الكِبَرِ، فكان نداءً نظرًا إلى قَصدِه، وخفيًّا نظرًا إلى الواقِعِ.

الوجه الثاني: أنَّه دعا في الصَّلاةِ؛ لأنَّ الله تعالى أجابه في الصَّلاةِ؛ لِقَولِه تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران: 39] ، فكَونُ الإجابةِ في الصَّلاةِ يدُلُّ على كَونِ الدُّعاءِ في الصَّلاةِ؛ فوجب أن يكونَ النداءُ فيها خَفيًّا .

الوجهُ الثالث: أنَّه لا مُنافاةَ بينَ كَونِه (نداءً) وكونِه (خفيًّا)؛ لأنَّه نداءُ مَن يَسمَعُ الخَفاءَ .

4- قولُ الله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا فيه شَفَقةُ زكريَّا عليه السَّلامُ ونُصحُه، وأنَّ طَلَبَه للوَلدِ ليس كطَلَبِ غَيرِه؛ قَصْدُه مجرَّدُ المصلحةِ الدُّنيويَّة، وإنَّما قَصدُه مصلحةُ الدِّينِ، والخَوفُ مِن ضَياعِه .

5- قَولُ الله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي في الإخبارِ بـ خِفْتُ بلَفظِ الماضي إعلامٌ بتقادُمِ العَهدِ في ذلك .

6- في قولِه تعالى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا حُجَّةٌ في تسميةِ المخلوقينَ بأسماءِ اللهِ؛ إِذِ الوَليُّ اسمٌ مِن أسمائِه .

7- قَولُ اللهِ تعالى: يَرِثُنِي استدَلَّ به من قال: إنَّ الأنبياءَ يُورَثونَ، ورُدَّ بأنَّ المرادَ إرثُ العِلمِ والنبُوَّةِ، والأنبياءُ أعظَمُ مِن أن يهتَمُّوا بإرثِ المالِ، ويدُلُّ له قَولُه: وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ .

8- قَولُ الله تعالى: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ خُصَّ اسمُ (يعقوب) اقتداءً به نفسِه؛ إذ قال ليوسُفَ -عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ-: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ [يوسف: 6] ، ولأنَّ إسرائيلَ صار عَلَمًا على الأسباطِ كُلِّهم، وكانت قد غَلَبَت عليهم الأحداثُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا جاء نظْمُ هذا الكلامِ على طريقةٍ بديعةٍ من الإيجازِ، والعُدولِ عن الأُسلوبِ المُتعارَفِ في الإخبارِ، وأصْلُ الكلامِ: ذِكْرُ عبْدِنا زكريَّا إذ نادى ربَّه، فقال: ربِّ... إلخ، فرحِمه ربُّك؛ فكان في تَقديمِ الخبرِ بأنَّ اللهَ رحِمَه: اهتمامٌ بهذه المَنقبةِ له، والإنباءُ بأنَّ اللهَ يرحَمُ مَن الْتجَأَ إليه

.

- وفي التَّعرُّضِ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ -رَبِّكَ- المُنبئةِ عنِ التَّبليغِ إلى الكمالِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إيذانٌ بأنَّ تنزيلَ السُّورةِ عليه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تكميلٌ له صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، وأيضًا في إضافةِ (ربِّ) إلى ضَميرِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قولِه: رَبِّكَ، وإلى ضَميرِ زكريَّا في قولِه: عَبْدَهُ: تَنويهٌ بهما .

2- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا

- جُملةُ: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي مُبيِّنةٌ لجُملةِ نَادَى رَبَّهُ، وهي وما بعدَها تَمهيدٌ للمقصودِ من الدُّعاءِ، وهو قولُه: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا؛ وإنَّما كان ذلك تَمهيدًا لِما يتضمَّنُه من اضطرارِه لسُؤالِ الولدِ، واللهُ يُجيبُ المُضطَرَّ إذا دعاهُ؛ فليس سُؤالُه الولدَ سُؤالَ توسُّعٍ لمُجرَّدِ تَمتُّعٍ أو فخْرٍ، ووصَفَ من حالِه ما تشتَدُّ معه الحاجةُ إلى الولدِ حالًا ومآلًا؛ فكان وهْنُ العظْمِ وعُمومُ الشَّيبِ حالًا مُقتضيًا للاستعانةِ بالولدِ، مع ما يَقْتضيه مِن اقترابِ إبَّانِ الموتِ عادةً؛ فذلك مقصودٌ لنفْسِه، ووسيلةٌ لغيرِه وهو الميراثُ بعدَ الموتِ .

- وقَولُه: قَالَ رَبِّ بحَذفِ أداةِ النِّداءِ؛ للدَّلالةِ على غايةِ القُربِ .

- قولُه: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي فيه تأكيدُ الجُملةِ بـ (إنَّ)؛ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتَحقيقِ مَضمونِها .

- والخبرانِ من قولِه: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا مُستعملانِ في لازمِ الإخبارِ، وهو الاسترحامُ لحالِه؛ لأنَّ المُخْبَرَ عالمٌ بما تَضمَّنَه الخبرانِ .

- وقولُه: وَهَنَ الْعَظْمُ فيه إسنادُ الوهْنِ إلى العظْمِ؛ لأنَّه عمودُ البدَنِ، وبه قوامُه، وهو أصلُ بِنائِه، فإذا وهَنَ تداعى وتساقطَتْ قُوَّتُه، ولأنَّه أشدُّ ما فيه وأصلَبُه، فإذا وهَنَ كان ما وراءَه أوهَنَ. ووحَّدَه -حيث لم يقُل: (العِظام)-؛ لأنَّ الواحِدَ هو الدَّالُّ على معنى الجِنسيَّةِ، وقصْدُه: أنَّ هذا الجنسَ الَّذي هو العمودُ والقوامُ وأشَدُّ ما تركَّبَ منه الجسدُ قد أصابَه الوهْنُ، ولو جمَعَ لكان قاصدًا معنًى آخرَ، وهو أنَّه لم يَهِنْ منه بعضُ عِظامِه ولكنْ كلُّها .

- وفي قولِه: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا إطنابٌ؛ فقدِ انتقَلَ أوَّلًا: من (شِخْتُ) الدَّالِّ على ضعْفِ البدَنِ وشيْبِ الرَّأسِ إجْمالًا إلى هذا التَّفصيلِ؛ لمزيدِ التَّقريرِ. وثانيًا: من هذه المرتبةِ إلى ثالثةٍ أبلَغَ منها، وهي الكِنايةُ الَّتي هي أبلَغُ من التَّصريحِ. وثالثًا: من هذه المرتبةِ إلى رابعةٍ أبلَغَ في التَّقريرِ، وهي بِناءُ الكنايةِ على المبتدأِ، أي قولُك: أنا وهنَتْ عِظامُ بَدَني. ورابعًا: من هذه المرتبةِ إلى خامسةٍ أبلَغَ، وهي إدخالُ (إنَّ) على المبتدأِ (إنِّي وهنَتْ عِظامُ بَدَني). وخامسًا: إلى مرتبةٍ سادسةٍ، وهي سُلوكُ طريقِ الإجمالِ ثمَّ التَّفصيلِ، أي: (إنِّي وهنَتِ العِظامُ من بَدَني). وسادسًا: إلى مرتبةٍ سابعةٍ، وهي ترْكُ توسيطِ البدَنِ لادِّعاءِ اختصاصِها بالبدَنِ، بحيث لا يحتاجُ إلى التَّصريحِ بالبدنِ. وسابعًا: إلى مرتبةٍ ثامنةٍ، وهي ترْكُ جمْعِ العظْمِ إلى الإفرادِ؛ لشُمولِ الوهْنِ العِظامَ فردًا فردًا ؛ وكان الأصْلُ (اشتعَلَ شيْبُ رأْسي)، فأسنَدَ الاشتعالَ إلى الرَّأسِ؛ لإفادةِ شُمولِه لكلِّها؛ فإنَّ وِزانَه بالنِّسبةِ إلى الأصْلِ وِزانُ: (اشتعَلَ بيتُه نارًا) بالنِّسبةِ إلى (اشتعَلَ النَّارُ في بيتِه)، ولزيادةِ تَقريرِه بالإجمالِ أوَّلًا، والتَّفصيلِ ثانيًا، ولمَزيدِ تَفخيمِه بالتَّنكيرِ ، وشبَّه بياضَ الشيبِ وانتشارَه في الرأسِ بشعاعِ النارِ وانتشارِها، وأضاف الاشتعالَ إلى مكانِ الشعرِ ومنبتِه وهو الرأسُ، ولم يُضِف الرأسَ؛ اكتفاءً بعلمِ المخاطبِ أنَّه رأسُ زكريَّا عليه السلامُ . وقيل: أسندَ الاشتِعالَ إلى الرَّأسِ، وهو مكانُ الشَّعرِ الذي عَمَّه الشَّيبُ؛ لأنَّ الرَّأسَ لا يَعمُّه الشَّيبُ إلَّا بعد أن يَعُمَّ اللِّحيةَ غالِبًا، فعُمومُ الشَّيبِ في الرَّأسِ أمارةُ التوغُّلِ في كِبَرِ السِّنِّ .

- قولُه: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وقولُه: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا فيه: التَّعرُّضُ في الموضعينِ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ المُنبئةِ عن إضافةِ ما فيه صَلاحُ المربوبِ مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، لا سِيَّما توسيطِه بين (كان) وخبَرِها؛ لتَحريكِ سلسلةِ الإجابةِ بالمُبالغةِ في التَّضرُّعِ .

- وجُملةُ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أطلَقَ نفْيَ الشَّقاوةِ، والمُرادُ حُصولُ ضِدِّها -وهو السَّعادةُ- على طريقِ الكِنايةِ؛ إذ لا واسطةَ بينهما عُرْفًا، ومثْلُ هذا التَّركيبِ جَرى في كلامِ العربِ مَجْرى المثَلِ في حُصولِ السَّعادةِ من شَيءٍ .

3- قوله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا

- قولُه: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ عطْفٌ على قولِه تعالى: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مُترتِّبٌ مضمونُه على مَضمونِه؛ فإنَّ ضَعْفَ القُوى وكِبَرَ السِّنِّ من مبادئِ خوْفِه عليه السَّلامُ مَن يَلِي أمْرَه بعدَ موتِه .

- قولُه: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ يَنساقُ إليه الذِّهنُ، أي: فِعْلَ الموالي مِن بعدي، أو جَورَ الموالي .

- قولُه: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا أتى بفعْلِ (كان)؛ للدَّلالةِ على أنَّ العَقْرَ مُتمكِّنٌ منها، وثابتٌ لها؛ فلذلك حُرِمَ من الولدِ منها .

- قولُه: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا الفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبْلَها؛ فإنَّ ما ذكَرَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من كِبَرِ السِّنِّ، وضعْفِ القُوى، وعَقْرِ المرأةِ: مُوجِبٌ لانقطاعِ رجائِه عليه السَّلامُ عن حُصولِ الولَدِ بتوسُّطِ الأسبابِ العاديَّةِ، واستيهابِه على الوجْهِ الخارقِ للعادةِ، ولا يقدَحُ في ذلك أنْ يكونَ هناك داعٍ آخرُ إلى الإقبالِ على الدُّعاءِ المذكورِ من مُشاهدتِه عليه السَّلامُ للخوارقِ الظَّاهرةِ في حَقِّ مريمَ، كما يُعرِبُ عنه قولُه تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران: 38] الآيةَ، وعدَمُ ذِكْرِه هاهنا للتَّعويلِ على ذِكْرِه هناك، كما أنَّ عدَمَ ذِكْرِ مُقدِّمةِ الدُّعاءِ هناك للاكتفاءِ بذكْرِه هاهنا؛ فإنَّ الاكتفاءَ بما ذُكِرَ في موطنٍ عمَّا تُرِكَ في موطنٍ آخرَ من النُّكتِ التَّنزيليَّةِ .

- وإنَّما قدَّمَ لِي على مِنْ لَدُنْكَ؛ لأنَّه الأهمُّ في غرَضِ الدَّاعي، وهو غرَضٌ خاصٌّ يُقدَّمُ على الغرضِ العامِّ .

- وقولُه: مِنْ لَدُنْكَ تأكيدٌ لكونِه وَلِيًّا مرضيًّا، بكونِه مُضافًا إلى اللهِ تعالى، وصادرًا من عندِه .

- وتأخيرُ وَلِيًّا عن الجارَّينِ -لِي مِنْ لَدُنْكَ-؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتناءِ بكونِ الهبةِ له على ذلك الوجْهِ البديعِ، مع ما فيه من التَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ؛ فإنَّ ما حَقُّه التَّقديمُ إذا أُخِّرَ تَبْقَى النَّفسُ مُستشرِفةً، فعندَ وُرودِه لها يتمكَّنُ عندَها فضْلَ تمكُّنٍ، ولأنَّ فيه نوعَ طولٍ بما بعدَه من الوصفِ، فتأخيرُهما عن الكلِّ أو توسيطُهما بين الموصوفِ والصِّفةِ ممَّا لا يليقُ بجَزالةِ النَّظمِ الكريمِ .

4- قوله تعالى: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا.

- قولُه: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ، أي: يرِثُني به وارثٌ، ويُسمَّى في علْمِ البيانِ التَّجريدَ ، وهذا التَّجريدُ في الآيةِ هنا بـ (مِن) التَّجريديَّةِ كقولِهم: لي من فُلانٍ صديقٌ حميمٌ .

- قولُه: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا فيه توسيطُ (رَبِّ) بين مَفْعولي (اجعَلْ)؛ للمُبالغةِ في الاعتناءِ بشأْنِ ما يَسْتدعيه .

====================

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (7-11)

ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ

غريب الكلمات:

 

سَمِيًّا: أي: أحدًا مُسمًّى قَبلَه بهذا الاسمِ، وأصلُه مِن السُّمُوِّ

، وهو الذي به رَفعُ ذِكرِ المُسَمَّى، فيُعرَفُ به .

عِتِيًّا: أي: غايةَ الكِبَرِ في السِّنِّ، حتَّى نحِل العظمُ ويَبِس، والعِتِيُّ: الكِبَرِ المُتَناهي، وكلُّ مُتَناهٍ إلى غايَتِه في كِبرٍ، أو فسادٍ، أو كفرٍ، فهو عاتٍ، وقيل: العِتِيُّ: يبسٌ في الأعضاءِ والمفاصلِ .

سَوِيًّا: أي: صَحيحًا، لا عِلَّةَ به مِن خَرَسٍ أو مَرَضٍ يمنَعُه مِن الكَلامِ، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ واعتدالٍ .

الْمِحْرَابِ: المحرابُ: الموضِعُ العالي الشَّريفُ، ويُطلَقُ على الغُرفةِ، والمسجدِ، ومقدَّمِ كلِّ مجلسٍ ومصلًّى .

بُكْرَةً: أي: أوَّلَ النهارِ، وقيل: المرادُ صلاةُ الغداةِ، وأصلُ (بكر): أوَّلُ الشيءِ وبدؤُه .

وَعَشِيًّا: أي: آخرَ النهارِ، أو: ما بعدَ الزَّوالِ إلى المغرِب، أو: من الظُّهْرِ إلى نِصْفِ اللَّيْل، أو: مِنْ زوالِ الشَّمْسِ إلى الصَّباحِ، وقيل: المرادُ صلاةُ العصرِ، وأصلُ (عشو): يدلُّ على ظلامٍ، وقلةِ وضوحِ الشيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يبيِّنُ الله تعالى أنَّه قد أجاب بفضلِه وكرمِه دعاءَ عبدِه زكريا، وأنَّه نوديَ: يا زكريَّا، إنَّا نُبشِّرُك بإجابةِ دُعائِك، قد وَهَبْنا لك غُلامًا اسمُه يحيى، لم نُسَمِّ أحدًا قَبلَه بهذا الاسمِ، قال زكريَّا متعَجِّبًا: ربِّ كيف يكونُ لي غُلامٌ، وكانت امرأتي عقيمًا لا تَلِدُ، وقد بلغتُ النِّهايةَ في الكِبَر؟ قال: هكذا الأمرُ كما تقولُ مِن كَونِ امرأتِك عاقِرًا، وبلوغِك من الكِبَرِ عِتيًّا، ولكنَّ ربَّك قال: هذا أمرٌ سَهلٌ هيِّنٌ عليَّ، وقد خَلقتُك أنت مِن قَبلِ يحيى، ولم تكُن شَيئًا مَوجودًا. قال زكريَّا: ربِّ اجعَلْ لي علامةً على تحقُّقِ هذه البشارةِ. قال: علامتُك ألَّا تَقدِرَ على كلامِ النَّاسِ مُدَّةَ ثلاثِ ليالٍ، وأنت صحيحٌ ليس بك مَرَضٌ يمنَعُك من الكلامِ. فخرج زكريَّا على قَومِه مِن مُصَلَّاه الذي بُشِّرَ فيه بالوَلَدِ، فأشار إليهم: أنْ سَبِّحوا اللهَ أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه؛ شُكرًا له تعالى.

تفسير الآيات:

 

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7).

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى.

أي: فاستجاب اللهُ له ونُودِيَ

: يا زكريَّا، إنا نُبَشِّرُك بإجابةِ دُعائِك، فستُوهَبُ غُلامًا اسمُه يحيى .

كما قال تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 39] .

وقال سُبحانَه: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء: 90] .

لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا.

أي: لم نُسَمِّ أحدًا قبلَ يحيى بهذا الاسمِ .

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8).

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا.

أي: قال زكريَّا مُتعَجِّبًا: يا ربِّ كيف يُولَدُ لي غُلامٌ، وزوجتي عقيمٌ لا تَحمِلُ .

وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا.

وقد بلغتُ غايةً في كِبَر السنِّ حتى نحَلَت عظامي ويَبِسَت ؟!

كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران: 40] .

قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9).

قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ.

أي: قال لزكريَّا : هكذا الأمرُ كما ذكرتَ مِن أنَّ امرأتَك عاقِرٌ، وأنَّك بلغْتَ من الكِبَر عِتيًّا، فمجيءُ الولَدِ منكما والحالةُ هذه أمرٌ مُستغرَبٌ في العادةِ، ولكِنْ قال ربُّك: هذا الأمرُ يسيرٌ وسَهلٌ عليَّ .

كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران: 40] .

وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا.

أي: وقد أوجَدْتُك -يا زكريَّا- مِن قَبلِ يحيى، ولم تكنْ شيئًا موجودًا؛ فكذلك أنا قادِرٌ على إيجاد ولدٍ لك مِن زوجتِك العاقِرِ مع كِبَرِ سِنِّك، فلا تعجَبْ؛ فكما لا عجَبَ مِن خَلقِ الولَدِ في الأحوالِ المألوفةِ، كذلك لا عجَبَ مِن خَلقِ الولَدِ في الأحوالِ النَّادرةِ؛ فكلاهما إيجادٌ بعدَ عَدَمٍ .

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10).

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً.

أي: قال زكريَّا: يا رَبِّ، اجعَلْ لي علامةً أستَدِلُّ بها على حَملِ زوجتي؛ ليطمَئِنَّ قلبي .

قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا.

أي: قال اللهُ لزكريَّا: العَلامةُ التي جعَلْناها لك دليلًا على حَملِ زَوجتِك: ألَّا تَقدِرَ على الكَلامِ مع النَّاسِ ثَلاثَ ليالٍ، وأنت صحيحٌ ليس بك مَرَضٌ يمنَعُك مِن الكلامِ !

كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [آل عمران: 41] .

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11).

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ.

أي: فخرج زكريَّا على قَومِه بني إسرائيلَ مِن مُصَلَّاه الذي بُشِّرَ فيه بالوَلَدِ .

قال تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران: 39] .

فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا.

أي: فأشار إلى قَومِه أن سبِّحوا في أوَّلِ النَّهارِ وآخِرِه

 

.

الفوائد التربوية :

 

يُستحبُّ للمُسلِمِ أنْ يُبادِرَ إلى مَسَرَّةِ أخيه، وإعلامِه بما يُفرِحُه، ومن ذلك بِشارةُ مَن وُلِدَ له وَلَدٌ، قال تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى سمَّاه اللهُ له «يحيى» وكان اسمًا موافِقًا لِمُسماه: يحيا حياةً حِسِّيةً، فتَتِمُّ به المنَّةُ، ويحيا حياةً مَعنويَّةً، وهي حياةُ القلبِ والرُّوحِ بالوَحيِ والعِلمِ والدِّينِ

.

2- قولُه تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا فيه فضيلَةٌ ليحيى مِن جهتينِ: الأولَى أَنَّ اللَّهَ سبحانَه هو الَّذي تولَّى تَسْمِيَتَه به، ولم يَكِلْها إِلى الأبوينِ. والجهةُ الثَّانيةُ: أنَّ تسميتَه باسمٍ لم يُوضَعْ لغيرِه يُفيدُ تشريفَه وتعظيمَه .

3- في قوله تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا إلى قوله سبحانه: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً دليلٌ على تثبيتِ الخبرِ المرويِّ وصحته: ((ليس الخَبَرُ كَالمعاينة )) ؛ وذلك أنَّ زكريا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَشْكُ إلى ربِّه وَهَنَ عَظْمِه، واشتعالَ الشيبِ في رأسه إلَّا وهو مُوقنٌ بإجابةِ دعوتِه؛ ثم بَشَّرَه اللهُ ببشارةِ الغلامِ؛ فقال ما قال -وهو عالمٌ بأنَّ ربَّه يَقْدِرُ عليه- فلا وجهَ له -واللهُ أعلمُ- غيرُ ما قُلْنا مِن أنَّ المعاينةَ في الأشياءِ أبلغُ مِن الخَبرِ، وإنْ كان الخَبرُ بالغًا عندَ المؤمنين .

4- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا جُعِلت الآيةُ الدالةُ عليه سكوتًا عن غيرِ ذكرِ الله؛ دلالةً على إخلاصِه، وانقطاعِه بكليتِه إلى الله دونَ غيرِه .

5- الإنسانُ لَمَّا كان يعلمُ أنه خُلِقَ بعد أنْ لم يكُنْ، ذُكِّرَ بذلك؛ ليَستدِلَّ به على قُدرةِ الخالقِ على تغييرِ العادةِ؛ ولهذا ذَكَر تعالى ذلك في خَلْقِ يحيى بنِ زكريا عليه السَّلامُ، وفي النَّشأةِ الثَّانيةِ؛ قال تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا، وقال تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 66 - 67] ، فذُكِّرَ الإنسانُ بما يعلَمُه مِن أنَّه خلَقَه ولم يَكُ شيئًا؛ ليَستَدِلَّ بذلك على قُدرتِه على مِثلِ ذلك، وعلى ما هو أهوَنُ منه .

6- قال تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا، وإنَّما أمَرَهم زكريا عليه السلامُ بالتَّسبيحِ؛ لئلَّا يَحسَبوا أنَّه لمَّا لم يُكلِّمْهم قد نذَرَ صمْتًا، فيَقْتدوا به فيصْمُتوا، وكان الصَّمتُ من صُنوفِ العبادةِ في الأُممِ السَّالفةِ، فأومَأَ إليهم أنْ يشْرَعوا فيما اعتادوهُ من التَّسبيحِ، أو أراد أنْ يُسبِّحوا اللهَ تَسبيحَ شُكْرٍ على أنْ وهَبَ نَبِيَّهم ابنًا يرِثُ علْمَه ، وذلك على أحدِ القولينِ في معنى التسبيحِ.

7- قولُه تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا دليلٌ على أنَّ مَن حَلَف ألَّا يُكَلِّمَ رَجُلًا، فكتَبَ إليه أو أشار: أنَّه لا يَحنَثُ؛ لأنَّ زكريَّا لم يخرِجْه مِن الآيةِ إفهامُ قومِه بما قام عندَهم مقامَ الكلامِ في الفهمِ، ولم يكُنْ كلامًا .

8- يُستحَبُّ الذِّكرُ بعدَ الصَّلاتَينِ اللَّتَينِ لا تطَوُّعَ بعدَهما، وهما: الفَجرُ والعَصرُ، فيُشرَعُ الذِّكرُ بعد صلاةِ الفَجرِ إلى أن تَطلُعَ الشَّمسُ، وبعد العَصرِ حتى تَغرُبَ الشَّمسُ، وهذان الوقتان -أعني وقتَ الفَجرِ ووقتَ العَصرِ- هما أفضَلُ أوقاتِ النَّهارِ للذِّكرِ؛ ولهذا أمرَ الله تعالى بذِكرِه فيهما في مواضِعَ مِن القرآنِ، كقَولِه تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وقَولِه: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 42] ، وقَولِه: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الإنسان: 25] ، وقَولِه: وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [آل عمران: 41] ، وقولِه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم: 17] ، وقَولِه: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [غافر: 55] ، وقَولِه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205] ، وقولِه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه: 130] ، وقَولِه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ

 

[ق: 39] .

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا

- قولُه: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى مقولُ قولٍ محذوفٍ دَلَّ عليه السِّياقُ عقِبَ الدُّعاءِ إيجازًا، أي: قُلْنا: يا زكريَّا... إلخ

. ومعنى اسْمُهُ يَحْيَى: سَمِّه يحيى؛ فالكلامُ خبرٌ مُستعملٌ في الأمرِ .

- وفي تَعيينِ اسْمِ يحيى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تأكيدٌ للوعدِ، وتَشريفٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفي تَخصيصِه به عليه السَّلامُ حَسَبَما يُعرِبُ عنه قولُه تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، أي: شريكًا له في الاسمِ، حيث لم يُسَمَّ أحدٌ قبْلَه بيحيى: مزيدُ تَشريفٍ وتَفخيمٍ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّ التَّسميةَ بالأسامي البديعةِ المُمتازةِ عن أسماءِ سائرِ النَّاسِ تَنويهٌ بالمُسمَّى لا مَحالةَ .

2- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا استئنافٌ مَبنيٌّ على السُّؤالِ؛ كأنَّه قيلَ: فماذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينئذٍ؟ فقيلَ: قَالَ رَبِّ ...؛ ناداهُ تعالى بالذَّاتِ مع وُصولِ خطابِه تعالى إليه بتَوسيطِ الملَكِ؛ للمُبالغةِ في التَّضرُّعِ والمُناجاةِ والجِدِّ في التَّبتُّلِ إليه تعالى، والاحترازِ عمَّا عسى يُوهِمُ خِطابُه للملَكِ مِن توهُّمِ أنَّ علْمَه تعالى بما يصدُرُ عنه مُتوقِّفٌ على توسُّطِه، كما أنَّ علْمَ البشرِ بما يصدُرُ عنه سُبحانه مُتوقِّفٌ على ذلك في عامَّةِ الأوقاتِ .

- قولُه: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ (أنَّى) استفهامٌ مُستعملٌ في التَّعجُّبِ، والتَّعجُّبُ مُكنًّى به عن الشُّكرِ، فهو اعترافٌ بأنَّها عطيَّةٌ عزيزةٌ غيرُ مألوفةٍ؛ لأنَّه لا يجوزُ أنْ يسأَلَ اللهَ أنْ يهَبَ له ولدًا، ثمَّ يتعجَّبَ من استجابةِ اللهِ له . وقيل: قاله استعظامًا لقُدرةِ اللهِ تعالى، وتعجُّبًا منها، تعجُّبَ فرَحٍ وسُرورٍ، واعتدادًا بنِعمتِه تعالى عليه في ذلك بإظهارِ أنَّه من مَحْضِ لُطفِ الله -عَزَّ وعلا- وفضلِه، مع كونِه في نفْسِه من الأُمورِ المُستحيلةِ عادةً، لا استبعادًا له. وقيل: لم يقُلْه إنكارًا، إنَّما قاله ليُجابَ بما أُجيبَ به عن طلَبِه الولَدَ، وهو قولُه تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى؛ فيَزدادَ المُؤمِنون الموقِنون إيقانًا، ويرتدِعَ المُبطِلون. وقيل: كان ذلك منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ استفهامًا عن كيفيَّةِ حُدوثِه .

- وفيه إيجازٌ؛ فظاهِرُ الكلامِ يُوهِمُ أنَّه استبعَدَ ما وعَدَه اللهُ عزَّ وجلَّ بوُقوعِه، ولا يجوزُ لأحدٍ -بَلْهَ النَّبيِّ- النُّطْقُ بما لا يَسوغُ أو بما في ظاهِرِه الإيهامُ، فجاء الكلامُ مُوجَزًا، وتَقديرُه: هل تُعادُ لنا قُوَّتُنا وشبابُنا فنُرزقَ بغُلامٍ؟ أو هل يكونُ الولَدُ لغيرِ الزَّوجةِ العاقرِ؟ إذنْ فالمُستبعَدُ هو مَجيءُ الولدِ منهما بحالِهما، ولكنَّ الجوابَ أزال الإشكالَ؛ إذ قيل له: سيكونُ لكما الولدُ وأنتما بحالِكما .

- قولُ زكريَّا عليه السلامُ، فيما يحكيه اللهُ عنه: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا فيه البَداءةُ هاهنا بذكْرِ حالِ امرأتِه على عكْسِ قولِه الذي حكاه الله عنه في سُورةِ (آلِ عمرانَ)؛ حيث قال: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران: 40] ؛ ولعلَّ ذلك لأنَّه قد ذُكِرَ حالُه في تَضاعيفِ دُعائِه في (آلِ عمرانَ)، وإنَّما المذكورُ هاهنا بُلوغُه أقصَى مراتبِ الكِبَرِ تتمَّةً لِما ذُكِرَ قبْلُ، وأمَّا هنالك فلم يَسبِقْ في الدُّعاءِ ذِكْرُ حالِه؛ فلذلك قدَّمَه على ذِكْرِ حالِ امرأتِه؛ لِما أنَّ المُسارعةَ إلى بَيانِ قُصورِ شأنِه أنسبُ .

- قولُه: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا حالٌ من ضَميرِ المُتكلِّمِ مُؤكِّدةٌ للاستبعادِ إثرَ تأكيدٍ .

3- قولُه تعالى: قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا استِئنافٌ مَبنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ ممَّا سلَفَ. وقولُه: قَالَ رَبُّكَ ... استِئنافٌ مُقرِّرٌ لمضمونِه، أي: قال عَزَّ وعلا: الأمْرُ كما وعدْتُ، وهو واقعٌ لا مَحالةَ، وتوسيطُ قَالَ بينَ الجُملتينِ مُشعِرٌ بمزيدِ الاعتناءِ بكلٍّ نهما. وقيل: (ذلك) إشارةٌ إلى ما قاله زكريَّا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، أي: قال تعالى: الأمْرُ كما قلْتَ؛ تَصديقًا له فيما حَكاهُ من الحالةِ المُباينةِ للولادةِ في نفْسِه وفي امرأتِه، وقولُه تعالى: قَالَ رَبُّكَ ... استِئنافٌ مسوقٌ لإزالةِ استبعادِه بعدَ تقريرِه، أي: قال تعالى: وهو مع بُعْدِه في نفْسِه عليَّ هيِّنٌ. وقيل: (ذلك) في قولِه: كَذَلِكَ إشارةٌ إلى مُبْهَمٍ يُفسِّرُه قولُه تعالى: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. ويجوزُ أنْ يكونَ المُشارُ إليه بقولِه: كَذَلِكَ هو القولَ المأخوذَ من قَالَ رَبُّكَ، أي: إنَّ قولَ ربِّكَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ بلَغَ غايةَ الوُضوحِ في بابِه، بحيثُ لا يَبينُ بأكثَرِ مما علِمْتَ؛ فيكونُ جاريًا على طريقةِ التَّشبيهِ، وعلى هذا الاحتمالِ فجُملةُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ تعليلٌ لإبطالِ التَّعجُّبِ إبطالًا مُستفادًا من قولِه: كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ، ويكونُ الانتقالُ من الغَيبةِ في قولِه: قَالَ رَبُّكَ إلى التَّكلُّمِ في قولِه: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ الْتفاتًا، ومُقْتضى الظَّاهرِ: هو عليه هيِّنٌ .

- وفُصِلَت جُملةُ: قَالَ كَذَلِكَ عن الَّتي قبْلَها، أي: لم تُعْطَفْ عليها؛ لأنَّها جرَتْ على طريقةِ المُحاورةِ، وهي جوابٌ عن تعجُّبِه. والمقصودُ منه إبطالُ التَّعجُّبِ الَّذي في قولِه: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم: 8] .

- وقولُه: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ جوابًا لسُؤالٍ ناشئٍ عن قولِه: كَذَلِكَ؛ لأنَّ تقريرَ منشأِ التَّعجُّبِ يُثيرُ ترقُّبَ السَّامعِ أنْ يعرِفَ ما يُبطِلُ ذلك التَّعجُّبَ المُقرَّرَ، وهي أيضًا جُملةٌ مُقرِّرةٌ للوَعدِ المذكورِ، دالَّةٌ على إنجازِه، داخلةٌ في حيِّزِ (قال) الأوَّلِ؛ كأنَّه قيل: قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: مثْلَ ذلك القولِ البديعِ قلْتُ -وذلك على أحدِ القولينِ في القائلِ-، أي: مثْلَ ذلك الوعدِ الخارقِ للعادةِ وعدْتُ: هو علَيَّ خاصَّةً هيِّنٌ، وإنْ كان في العادةِ مُستحيلًا. ثمَّ أُخرِجَ القولُ الثَّاني هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ مخرَجَ الالتفاتِ؛ جرْيًا على سَننِ الكبرياءِ لتَربيةِ المَهابةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ. ثمَّ أسنَدَ -في قولِه: رَبُّكَ- إلى اسمِ الرَّبِّ المُضافِ إلى ضَميرِه عليه السَّلامُ؛ تَشريفًا له، وإشعارًا بعلَّةِ الحُكْمِ؛ فإنَّ تذكيرَ جَريانِ أحكامِ رُبوبيَّتِه تعالى عليه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- مِن إيجادِه مِن العَدمِ، وتَصريفِه في أطوارِ الخَلْقِ من حالٍ إلى حالٍ، شيئًا فشيئًا، إلى أنْ يبلُغَ كمالَه اللَّائقَ به: ممَّا يَقلعُ أساسَ استبعادِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لحُصولِ الموعودِ، ويُورِثُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الاطمئنانَ بإنجازِه لا مَحالةَ. ثمَّ الْتفَتَ في قولِه: عَلَيَّ من ضَميرِ الغائبِ العائدِ إلى الرَّبِّ إلى ياءِ العَظمةِ؛ إيذانًا بأنَّ مدارَ كونِه هيِّنًا عليه سُبحانه هو القُدرةُ الذَّاتيَّةُ لا رُبوبيَّتُه تعالى له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خاصَّةً، وتَمهيدًا لِما يعقُبُه .

- وجُملةُ: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا قيل: إنَّها جُملةٌ مُستأنَفةٌ مُقرِّرةٌ لِما قبْلَها، والمُرادُ به ابتداءُ خلْقِ البشرِ هو الواقعُ إثرَ العدَمِ المحضِ، لا ما كان بعدَ ذلك بطريقِ التَّوالُدِ المُعتادِ. وإنَّما لم يُنسَبْ ذلك إلى آدمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو المخلوقُ من العدَمِ حقيقةً، بأنْ يُقالَ: وقد خلقْتُ أباك أو آدمَ من قبْلُ ولم يَكُ شيئًا، مع كِفايتِه في إزالةِ الاستبعادِ بقياسِ حالِ ما بُشِّرَ به على حالِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: لتأكيدِ الاحتجاجِ به، وتَوضيحِ منهاجِ القياسِ؛ حيث نَبَّهَ على أنَّ كلَّ فردٍ من أفرادِ البشرِ له حظٌّ من إنشائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من العدمِ. ولمَّا كان خلْقُ آدمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على هذا النَّمطِ السَّاري إلى جميعِ أفرادِ ذُرِّيتِه، أبدعَ من أنْ يكونَ ذلك مقصورًا على نفْسِه، كما هو المفهومُ من نِسبةِ الخلْقِ المذكورِ إليه، وأدلَّ على عِظَمِ قُدرتِه تعالَى، وكمالِ علْمِه وحكمتِه، وكان عدَمُ زكريَّا حينئذٍ أظهَرَ عنده وأجْلى، وكان حالُه أولى بأنْ يكونَ مِعيارًا لحالِ ما بُشِّرَ به؛ نسَبَ الخلْقَ المذكورَ إليه، كما نسَبَ الخلْقَ والتَّصويرَ إلى المُخاطبينَ في قولِه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف: 11] ؛ توفيةً لمقامِ الامتنانِ حَقَّه، فكأنَّه قيل: وقد خلقْتُك مِن قبْلُ في تضاعيفِ خلْقِ آدمَ ولم تكُنْ إذ ذاك شيئًا أصلًا، بلْ عدمًا بحتًا، ونفيًا صِرفًا . وقيل: الجُملةُ في موضعِ الحالِ مِن ضَميرِ الغَيبةِ الَّذي في قولِه: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أي: إيجادُ الغُلامِ لكَ هيِّنٌ عليَّ في حالِ كوني قد خلقْتُك مِن قبْلِ هذا الغُلامِ ولم تكُنْ موجودًا، أي: في حالِ كونِه مُماثِلًا لخلْقي إيَّاكَ، فكما لا عجَبَ من خلْقِ الولدِ في الأحوالِ المألوفةِ، كذلك لا عجَبَ من خلْقِ الولدِ في الأحوالِ النَّادرةِ؛ إذ هما إيجادٌ بعدَ عدمٍ .

4- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا

- قولُه: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً في هذا الاستعجالِ تَعريضٌ بطلَبِ المُبادرةِ به؛ ولذلك حُذِفَ مُتعلِّقُ آَيَةً .

- قولُه: اجْعَلْ لِي آَيَةً اللَّامُ في ﯕ مُتعلِّقةٌ بـ اجْعَلْ، وتقديمُها على المفعولِ به؛ للاعتناءِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ. أو مُتعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقَعَ حالًا من آَيَةً؛ إذ لو تأخَّرَ لكان صِفَةً لهَا. وقيل: اجْعَلْ بمعنى التَّصييرِ لمَفعولينِ؛ أوَّلُهما: آَيَةً، وثانيهما: الظَّرفُ لِي، وتقديمُه لأنَّه لا مُسوِّغَ لكونِ آَيَةً مُبتدأً عندَ انحلالِ الجُملةِ إلى مُبتدأٍ وخبرٍ سِوى تقديمِ الظَّرفِ؛ فلا يتغيَّرُ حالُهما بعدَ وُرودِ النَّاسخِ اجْعَلْ .

- قولُه: ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ذكَرَ اللَّياليَ هنا، والأيَّامَ في (آلِ عمرانَ) في قولِه: قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران: 41] ؛ للدَّلالةِ على أنَّه استمَرَّ عليه المنعُ من كلامِ النَّاسِ والتَّجرُّدُ للذِّكرِ والشُّكرِ ثلاثةَ أيَّامٍ وليالِيهنَّ .

- قولُه: ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا سَوِيًّا حالٌ من فاعلِ تُكَلِّمَ مُفيدٌ لكونِ انتفاءِ التَّكلُّمِ بطريقِ الاضطرارِ دونَ الاختيارِ، أي: تُمنَعَ الكلامَ، فلا تُطيقَ به حالَ كونِك سَوِيَّ الخلْقِ، سليمَ الجوارحِ، ما بك شائبةُ بَكَمٍ ولا خَرَسٍ، وعلى هذا فذِكْرُ الوصفِ لمُجرَّدِ تأكيدِ الطُّمأنينةِ، وإلَّا فإنَّ تأجيلَه بثلاثِ ليالٍ كافٍ في الاطمئنانِ على انتفاءِ العاهةِ .

5- قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا

- قولُه: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فيه تعديةُ لفظةِ فَخَرَجَ بـ عَلَى؛ لأنَّه ضمَّنَ (خرَجَ) معنى (طلَعَ) .

- قولُه: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا خَصَّ التَّسبيحَ بالذِّكرِ؛ لأنَّ العادةَ جاريةٌ أنَّ كلَّ مَن رأى أمْرًا عجِبَ منه، أو رأى فيه بديعَ صَنعةٍ أو غريبَ حِكمةٍ يقولُ: سُبحانَ اللهِ! سُبحانَ الخالقِ! فلمَّا رأى حُصولَ الولدِ من شيخٍ وعاقرٍ عجِبَ من ذلك، فسبَّحَ، وأمَرَ بالتَّسبيحِ

===================

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (12-15)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ

غريب الكلمات:

 

وَحَنَانًا: أي: رَحمةً ومحبَّة، وأصلُ (حنن): يَدلُّ على الإشفاقِ والرِّقَّةِ

.

جَبَّارًا: أي: متكبِّرًا، متعاليًا عن قَبولِ الحقِّ، ويُقالُ للقاهرِ غيرَه: جبارٌ، وقيل: هو الذي يَضربُ، ويقتُلُ على الغضبِ، وأصلُ (جبر) هنا: جنسٌ مِن العظمةِ والعلُوِّ .

عَصِيًّا: أي: عاصيًا، والعَصِيُّ: ذو العصيانِ، وعَصَى عِصيانًا: إذا خرَج عن الطاعةِ، وأصلُه أن يتمنَّعَ بعَصاه .

وَسَلَامٌ عَلَيْهِ: أي: سَلامةٌ وأمانٌ، وأصلُ (سلم): يدلُّ على صِحَّةٍ وعافيةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

أوجَد الله تعالى هذا الغلامَ المبشَّرَ به، وهو يحيى عليه السلامُ، وبيَّن سبحانَه ما أمَره به، وما منَحه مِن صفاتٍ فاضلةٍ، فقال تعالى: يا يحيى، خُذِ التَّوراةَ بجِدٍّ واجتِهادٍ؛ بحِفظِ ألفاظِها، وفَهمِ مَعانيها، والعَمَلِ بها، والدعوةِ لاتِّباعِها، وأعطيناه الفَهمَ لكِتابِ اللهِ، والحُكمَ به وهو صغيرُ السِّنِّ. وآتيناه رَحمةً ومَحبَّةً مِن عندِنا، وطهارةً مِن الذُّنوب، وكان مُطيعًا لله تعالى، وكان بارًّا بوالِدَيه مُطيعًا لهما، ولم يكُنْ متكَبِّرًا ولا عاصيًا. وسلامٌ مِن اللهِ على يحيى وأمانٌ له يومَ وُلِد، ويومَ يموتُ، ويومَ يُبعَثُ حيًّا يومَ القيامةِ.

تفسير الآيات:

 

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12).

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ.

أي: فوُلِد لزكريَّا يحيى، وقال اللهُ له: يا يحيى، خُذِ التَّوراةَ بجِدٍّ واجتهادٍ وعَزمٍ؛ فَهمًا لمعانيها، وعَمَلًا بما فيها، وحَملًا للنَّاسِ على اتِّباعِها

.

وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا.

أي: وأعطَينا يحيى الفَهمَ لكِتابِ اللهِ، والعِلمَ بأحكامِه، والعَمَلَ به، والحُكمَ به في حالِ صِغَرِه وصِباه قبلَ بُلوغِه .

وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13).

وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا.

أي: وأعْطَيْنا يحيى رَحمةً مِن عِندِنا .

وَزَكَاةً.

أي: وطهارةً مِن الذُّنوبِ والآفاتِ، ونقاءً مِن الخبائِثِ .

وَكَانَ تَقِيًّا.

أي: وكان مُمتَثِلًا لأوامِرِ رَبِّه، مُجتَنِبًا لنواهيه .

كما قال تعالى: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 39] .

وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14).

وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ.

أي: وكان مُسارِعًا في طاعةِ والِدَيه، كثيرَ الإكرامِ والإحسانِ إليهما قَولًا وفِعلًا .

وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا.

أي: ولم يكُنْ مُتكَبِّرًا عن عبادةِ اللهِ، ولا مُترفِّعًا على أبويه وغيرِهما مِن النَّاسِ، ولا مُستَخِفًّا بحقوقِ العبادِ، بل كان مُتواضِعًا مُتذلِّلًا، طائعًا لا يعصي ربَّه ولا والِدَيه، ولا يَظلِمُ عِبادَ اللهِ .

وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15).

وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ.

أي: وتحيَّةٌ مِن اللهِ ليحيى يومَ وُلِد، وأمانٌ وسَلامةٌ له من الشَّيطانِ، ومِن كُلِّ ما يكرَهُ .

وَيَوْمَ يَمُوتُ.

أي: وتحيةٌ مِنَ اللهِ على يحيى يومَ يموتُ، وأمانٌ وسَلامةٌ له مِن كُرَبِ الموتِ، وعذابِ القَبرِ وفِتنَتِه .

وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.

أي: وتحيَّةٌ مِنَ اللهِ ليحيى، وأمانٌ وسلامةٌ له حين نبعَثُه حيًّا يومَ القيامةِ، فيأمَنُ مِن الفَزعِ والأهوالِ وعذابِ النَّارِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا فيه ردٌّ لِمَن قال: إنَّ النبُوَّةَ لم تحصُلْ لأحدٍ إلَّا بعدَ الأربعينَ

، وهذا على القولِ بأنَّ الْحُكْمَ هنا المرادُ به: النبوةُ.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً يدُلُّ على أنَّ فِعلَ العبدِ خَلقٌ لله تعالى؛ لأنَّه تعالى جَعَلَ طَهارةَ يحيى عليه السَّلامُ وزَكاتَه منه تعالى .

3- قَولُ الله تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا أي: لم يكُنْ مُتجَبِّرًا مُتكَبِّرًا عن عبادةِ اللهِ، ولا مُترفِّعًا على عبادِ الله، ولا على والِدَيه، بل كان مُتواضِعًا، مُتذَلِّلًا مُطيعًا، أوَّابًا لله على الدَّوامِ؛ فجمَع بينَ القيامِ بحَقِّ اللهِ، وحَقِّ خَلْقِه؛ ولهذا حصَلَت له السَّلامةُ مِنَ اللهِ في جميع ِأحواله؛ مَبادِئِها وعواقِبِها؛ فلذا قال: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، وذلك يقتضي سلامَتَه من الشَّيطانِ والشَّرِّ والعِقابِ في هذه الأحوالِ الثَّلاثةِ وما بينَها، وأنَّه سالمٌ مِن النَّارِ والأهوالِ، وأنَّه مِن أهلِ دارِ السَّلامِ .

4- قَولُه تعالى: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا إنْ قيلَ: ما الحِكمةُ في تقييدِ السَّلامِ في قِصَّةِ يحيى عليه السَّلامُ بهذه الأوقاتِ الثَّلاثةِ، وكذلك المسيحُ في قَولِه: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 33] ؟

فالجوابُ: أنَّ سِرَّه -والله أعلمُ- أنَّ طَلَبَ السَّلامةِ يتأكَّدُ في المواضِعِ التي هي مَظانُّ العَطَبِ ومواطِنُ الوَحشةِ، وكلَّما كان الموضِعُ مَظِنَّةَ ذلك تأكَّد طَلَبُ السَّلامةِ، وتعلَّقَت بها الهِمَّةُ، فذُكِرَت هذه المواطِنُ الثَّلاثةُ؛ لأنَّ السَّلامةَ فيها آكَدُ، وطَلَبَها أهمُّ، والنَّفسَ عليها أحرَصُ؛ لأنَّ العبدَ فيها قد انتقلَ مِن دارٍ كان مُستقِرًّا فيها مُوطَّنَ النَّفسِ على صُحبتِها وسُكناها، إلى دارٍ هو فيها مُعَرَّضٌ للآفاتِ والمحَنِ والبلاءِ، فإنَّ الجنينَ مِن حينِ خَرَج إلى هذه الدَّارِ انتصَبَ لبلائِها وشَدائِدِها، ولَأْوائِها ومِحَنِها وأفكارِها؛ ولهذا مِن حينِ خَرَج ابتدرَتْه طَعنةُ الشَّيطانِ في خاصرتِه، فبكى لذلك، ولِمَا حصلَ له من الوَحشةِ بفِراقِ وَطَنِه الأوَّلِ؛ فكان طَلَبُ السَّلامةِ في هذه المواطِنِ مِن آكَدِ الأمورِ.

الموطنُ الثَّاني: خروجُه مِن هذه الدَّارِ إلى دارِ البَرزخِ عندَ الموتِ، ونِسبةُ الدُّنيا إلى تلك الدَّارِ كنِسبةِ دارِه في بطنِ أمِّه إلى الدُّنيا تقريبًا وتمثيلًا، وإلَّا فالأمرُ أعظَمُ مِن ذلك وأكبَرُ، وطلَبُ السَّلامةِ أيضًا عند انتقالِه إلى تلك الدَّارِ مِن أهَمِّ الأمورِ.

الموطنُ الثالث: مَوطِنُ يومِ القيامةِ، يومَ يَبعَثُ الله تعالى الأحياءَ، ولا نِسبةَ لِما قَبلَه مِن الدُّورِ إليه، وطلَبُ السَّلامةِ فيه آكَدُ مِن جميعِ ما قَبلَه؛ فإنَّ عَطَبَه لا يُستدرَكُ، وعَثْرتَه لا تُقالُ، وسَقَمَه لا يُداوَى، وفَقْرَه لا يُسَدُّ.

فتأمَّلْ كيف خَصَّ هذه المواطِنَ بالسَّلامِ؛ لشِدَّةِ الحاجةِ إلى السلامةِ فيها، وتأمَّلْ ما في السَّلامِ مع الزيادةِ على السَّلامةِ مِن الأُنسِ، وذَهابِ الوَحشةِ، ثمَّ أنزِلْ ذلك على الوَحشةِ الحاصلةِ للعَبدِ في هذه المواطِنِ الثلاثةِ؛ عند خُروجِه إلى عالمِ الابتلاءِ، وعند مُعاينتِه هَولَ المَطلَعِ إذا قَدِمَ على اللهِ وحيدًا مجرَّدًا عن كلِّ مُؤنِسٍ إلَّا ما قدَّمه من صالحِ عَمَلٍ، وعند موافاتِه القيامةَ مع الجَمعِ الأعظَمِ؛ ليصيرَ إلى إحدى الدارَينِ التي خُلِقَ لها، واستُعمِلَ بعَمَلِ أهلِها؛ فأيُّ موطنٍ أحَقُّ بطلَبِ السَّلامةِ مِن هذه المواطِنِ التي يكونُ الإنسانُ فيها في غايةِ الضَّعفِ والحاجةِ، وقِلَّةِ الحِيلةِ والفَقرِ إلى اللهِ، وعَظيمِ الهَولِ ؟!

عن ابنِ عُيَينةَ قال: (أوحَشُ ما يكونُ الخَلقُ في ثلاثةِ مَواطِنَ: يومَ يُولَدُ فيرى نفسَه خارجًا مِمَّا كان فيه، ويومَ يموتُ فيرَى قَومًا لم يكُنْ عايَنَهم، ويومَ يُبعَثُ فيرَى نفسَه في محشَرٍ عظيمٍ. قال: فأكرَمَ اللهُ فيها يحيى بنَ زكريَّا، فخصَّه بالسَّلامِ عليه؛ فقال: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قولُه تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا استئنافٌ طُوِيَ قبْلَه جُمَلٌ كثيرةٌ؛ مُسارَعةً إلى الإنباءِ بإنجازِ الوعدِ الكريمِ، والتَّقديرُ: فلمَّا وُلِدَ يحيى وكبِرَ، وبلَغَ السِّنَّ الَّذي يُؤمَرُ فيه، قال اللهُ له...

، وهو مقولُ قولٍ محذوفٍ، بقرينةِ أنَّ هذا الكلامَ خِطابٌ ليحيى؛ فلا مَحالةَ أنَّه صادرٌ من قائلٍ، ولا يُناسِبُ إلَّا أنْ يكونَ قولًا من اللهِ تعالى. وهذا ابتداءُ ذِكْرِ فضائلِ يحيى، وطُوِيَ ما بين ذلك؛ لعدَمِ تعلُّقِ الغرضِ به، والسِّياقُ يدُلُّ عليه .

2- قولُه تعالى: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا جعْلُ حنانِ يحيى من لدُنِ اللهِ: إشارةٌ إلى أنَّه مُتجاوِزٌ المُعتادَ بينَ النَّاسِ. وجِيءَ في وصْفِه بالتَّقوى بفعْلِ (كَانَ)؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِه مِن الوصفِ .

- وقولُه: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا عطْفٌ على الْحُكْمَ، وتنوينُ (حَنَانًا) وتنكيرُه؛ للتَّفخيمِ، ومِنْ مُتعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقَعَ صِفةً له مُؤكِّدةً لِما أفادَه التَّنوينُ من الفخامةِ الذَّاتيَّةِ بالفخامةِ الإضافيَّةِ، أي: وآتيناهُ رحمةً عظيمةً، كائنةً من جنابِنا، أو رحمةً في قلْبِه وشفقةً على أبويه وغيرِهما .

3- قوله تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا

- قولُه: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ فيه عطْفُ بُرورِه بوالديهِ على كونِه تقيًّا؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِه من هذا الوصفِ. والبَرُّ -بفتحِ الباءِ- وصْفٌ على وزْنِ المصدرِ؛ فالوصفُ به مُبالغةٌ .

- قولُه: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا المُبالغةُ مُنصرِفةٌ إلى النَّفيِ لا إلى المنفيِّ، أي: لم يكُنْ عاصيًا بالمرَّةِ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال تعالى هنا في قصَّةِ يحيى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا، وفي قصَّةِ عيسى عليه السَّلامُ قال: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم: 32] ؛ فاختلَفَ الوصفانِ في الآيتينِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ اللهَ سُبحانه وصَفَ يحيى عليه السَّلامُ بعِظَمِ التَّقوى في قولِه: وَكَانَ تَقِيًّا، وتقيٌّ: فعيلٌ من التَّقوى، وهو من أبنيةِ المُبالغةِ؛ فيُفْهَمُ الوفاءُ بوُجوهِ التَّقوى حتَّى لا يكونَ من الموصوفِ به معصيةٌ ولا تقصيرٌ، فالمُرادُ بقولِه: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا نفْيٌ للمعاصي جُملةً؛ ثمَّ نُوسِبَ بينَ هذا الوصفِ وما تقدَّمَه وَسَيِّدًا وَحَصُورًا؛ فورَدَ بلفظِ المُبالغةِ مثْلَه. وأمَّا قولُه في قصَّةِ عيسى عليه السَّلامُ: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا؛ فملحوظٌ في ذلك ما جرَى لأتْباعِه عليه السَّلامُ، وما وَقَعوا فيه مِن العظيمةِ حينَ قالوا: هو ابنُ اللهِ -تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا-، فاستحقُّوا الوصفَ بالشَّقاءِ بمقالِهم، والشَّقِيُّ مُستحِقٌ العذابَ الأُخرويَّ .

ووجهٌ آخَرُ: أنَّ الأوَّلَ: إخبارٌ مِن اللهِ تعالى ببركتِه وسلامِه عليه. والثاني: إخبارُ عيسى عليه السَّلامُ عن نَفسِه؛ فناسَبَ عَدَمُ التَّزكيةِ لِنَفسِه بنَفيِ المعصيةِ؛ أدبًا مع اللهِ تعالى، وقال: شَقِيًّا أي: بعُقوقِ أمِّي، أو بعيدًا مِن الخيرِ .

4- قولُه تعالى: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، أي: إنَّ إكرامَ اللهِ مُتمكِّنٌ من أحوالِه الثَّلاثةِ المذكورةِ. وهذا كنايةٌ على أنَّه بمَحلِّ العنايةِ الإلهيَّةِ في هذه الأحوالِ، والمُرادُ باليومِ: مُطلَقُ الزَّمانِ الواقعِ فيه تلك الأحوالُ، وجِيءَ بالفعلِ المُضارعِ في وَيَوْمَ يَمُوتُ؛ لاستحضارِ الحالةِ الَّتي مات فيها .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قال تعالى هنا: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ...، فقاله في قصَّةِ يحيى مُنكَّرًا، وقال بعدُ في قصَّةِ عيسى: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ... مُعرَّفًا؛ لأنَّ الأوَّلَ من اللهِ، والقليلُ منه كثيرٌ، والثَّاني من عيسى، و(أل) للاستغراقِ أو للعهْدِ، أي: ذلك السَّلامُ الموجَّهُ إلى يحيى مُوجَّهٌ إليَّ .

وقيل: الحِكمةُ في تسليمِ اللهِ تعالى على يحيى بلَفظِ النَّكِرةِ، وتَسليمِ المسيحِ على نَفسِه بلَفظِ المعرفةِ: أنَّ في دُخولِ اللامِ في السَّلامِ فوائِدَ، وهي: قَصدُ التبَرُّكِ باسمِه السَّلامِ، والإشارةُ إلى طَلَبِ السَّلامِ له، وسُؤالُها من اللهِ باسمِ السَّلامِ، وقَصدُ عُمومِ السَّلامِ؛ لذا كان ذلك هو الأحسَنَ في سلامِ العبادِ؛ ولذلك دخَلَت الألفُ واللامُ في سلامِ عيسى على نفسِه. ولَمَّا كان المتكَلِّمُ بالسَّلامِ على يحيى هو اللهَ تعالى في قَولِه تعالى: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ فلم يَقصِدْ تبَرُّكًا بذِكرِ الاسمِ، كما يَقصِدُ العَبدُ؛ فإنَّ التبَرُّكَ استِدعاءُ البَرَكةِ واستِجلابُها، والعبدُ هو الذي يَقصِدُ ذلك، ولا قَصَدَ أيضًا تعرُّضًا وطلَبًا على ما يَقصِدُه العَبدُ، ولا قصَدَ العُمومَ، وهو أيضًا غيرُ لائقٍ هنا؛ لأنَّ سلامًا منه سُبحانَه كافٍ مِن كُلِّ سَلامٍ، ومُغنٍ عن كلِّ تحيةٍ، ومُقَرِّبٌ مِن كلِّ أمنيةٍ؛ فأدنى سَلامٍ منه -ولا أدنى هناك- يَستغرِقُ الوَصفَ، ويُتِمُّ النِّعمةَ، ويَدفَعُ البُؤسَ، ويُطيِّبُ الحياةَ، ويَقطَعُ موادَّ العَطَبِ والهلاكِ؛ فلم يكُنْ لذِكرِ الألفِ واللَّامِ هنا معنًى .

وقيل: إنَّما دخَلَ الألفُ واللَّامُ؛ لأنَّ النَّكرةَ إذا تكرَّرتْ تعرَّفَتْ. وقيل: نكرةُ الجنسِ ومعرفتُه سواءٌ؛ تقولُ: لا أشرَبُ ماءً، ولا أشرَبُ الماءَ، فهُما سواءٌ . وقيل: سلامُ عيسى أرجحُ؛ لأنَّه تعالى أقامَه في ذلك مَقامَ نفْسِه، فسلَّمَ نائبًا عن اللهِ تعالى

===============

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (16-21)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ

غريب الكلمات:

 

انْتَبَذَتْ: أي: اعتَزَلتْ، وانفَرَدَتْ، وتنحَّتْ، من النبْذَة، (بضمِّ النونِ وفتحِها)، وهي الناحيةُ، وأصلُ (نبذ): يدلُّ على الطَّرحِ والإلقاءِ

.

سَوِيًّا: أي: مُعتَدِلًا تامًّا، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ واعتدالٍ .

زَكِيًّا: أي: طاهِرًا مِن الذُّنُوبِ، يَنْمو على النَّزاهةِ والعِفَّةِ، وأصلُ (زكي): يدُلُّ على نَماءٍ وزِيادةٍ .

بَغِيًّا: أي: زانيةً، وأصلُ (بغي) هنا: يدلُّ على جِنسٍ مِن الفَسادِ .

مَقْضِيًّا: أي: محكومًا به، مفروغًا منه، سابقًا في علمِ الله أنَّه كائنٌ، فهو واقعٌ لا مَحالةَ، وأصلُ (قضي): يدُلُّ على إحكامِ أمرٍ، وإنفاذِه لجِهَتِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

بعدَ أن ذكَر الله تعالى جانبًا مِن قصةِ زكريا ويحيى -عليهما السلام- وما فيها مِن العجبِ؛ ذكَر قصةً أخرَى أعجبَ منها، وهي قصةُ مريمَ، وميلادِ ابنِها عيسى عليه السلامُ، فقال تعالى: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- في هذا القُرآنِ خَبَرَ مَريمَ إذ تباعَدَت عن أهلِها، فاتَّخَذت لها مَكانًا جهة الشَّرقِ. فجعَلَت بينَها وبينَ أهلِها سِترًا يَستُرُها عنهم وعن النَّاسِ، لتتفَرَّغَ للعبادةِ، فأرسَلْنا إليها جبريلَ، فتمثَّل لها في صورةِ رجلٍ تامِّ الخَلْقِ، جَميلِ الصُّورةِ. قالت مريمُ له: إنِّي أستجيرُ بالرَّحمن ِمنك أن تنالَني بسوءٍ إنْ كُنتَ تتقي اللهَ فستنتهي بتعوُّذي منك. قال لها المَلَكُ: إنَّما أنا رسولُ رَبِّك بعَثَني إليك؛ لأهَبَ لكِ غلامًا طاهرًا من الذُّنوبِ. قالت مريمُ للمَلَك: كيف يكونُ لي غُلامٌ ولم يمسَسْني بشَرٌ بنكاحٍ، ولم أكُن زانيةً؟! قال لها المَلَكُ: هكذا الأمرُ كما تَصِفينَ مِن أنَّه لم يَمسَسْكِ بَشَرٌ، ولم تكوني بَغِيًّا، ولكِنَّ رَبَّك قال: خلْقُ الغُلامِ منك مِن غيرِ أبٍ عليَّ سَهلٌ؛ ولِيَكونَ هذا الغُلامُ عَلامةً للنَّاسِ تدُلُّ على قُدرةِ اللهِ تعالى، ورحمةً منَّا به وبك وبالنَّاسِ، وكان خلقُه على هذه الحالةِ قَضاءً سابِقًا مُقَدَّرًا.

تفسير الآيات:

 

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى قِصَّةَ زكريَّا -عليه السَّلامُ- وأنَّه أوجَدَ منه في حالِ كِبَرِه وعُقمِ زَوجتِه ولدًا زكيًّا طاهِرًا مُباركًا- عطَفَ بذِكرِ قِصَّةِ مَريمَ في إيجادِه ولَدَها عيسى -عليهما السَّلامُ- منها مِن غيرِ أبٍ؛ فإنَّ بينَ القِصَّتينِ مُناسَبةً ومُشابَهةً؛ ولهذا ذكَرَهما في (آلِ عِمرانَ)، وهاهنا، وفي سورةِ (الأنبياءِ)، يَقرِنُ بين القِصَّتينِ؛ لتقارُبِ ما بينهما في المعنى، ليَدُلَّ عِبادَه على قُدرتِه، وعَظمةِ سُلطانِه، وأنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الله تعالى قِصَّةَ زكريَّا -عليه السَّلامُ- وطلَبَه الولدَ، وإجابةَ الله إيَّاه، فوُلِدَ له من شَيخٍ فانٍ، وعَجوزٍ له عاقرٍ، وكان ذلك مما يُتعَجَّبُ منه- أردفه بما هو أعظَمُ في الغَرابةِ والعَجَبِ، وهو وُجودُ ولَدٍ مِن غَيرِ ذَكَرٍ ، فقال تعالى:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ.

أي: واتْلُ -يا مُحمَّدُ- في القُرآنِ خبَرَ مَريمَ عليها السَّلامُ .

إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا.

أي: حينَ تنحَّتْ عن أهلِها وانفَرَدتْ وَحدَها في موضعٍ جِهةَ المَشرِقِ .

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17).

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا.

أي: فجعَلَت مَريمُ بينَها وبينَ أهلِها حاجِزًا يَستُرُها عنهم وعن النَّاسِ؛ حتى تتفَرَّغ لعبادةِ اللهِ .

فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا.

أي: فأرسَلْنا إلى مَريمَ جِبريلَ فجاءَها على هيئةِ رَجُلٍ مُعتَدِلِ الخِلْقةِ، جَميلِ الصُّورةِ .

قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18).

قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ.

أي: قالت مَريمُ وهي خائِفةٌ: إني ألتَجئُ وأعتَصِمُ بالرَّحمنِ منك -أيُّها الرَّجُلُ- أن تنالَني بسُوءٍ .

إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا.

أي: إنْ كُنتَ ذا تقوى تجتَنِبُ ما حرَّم اللهُ، ولا تُقدِمُ على الفُجورِ، فستنتهي بتعوُّذي منك .

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19).

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ.

أي: قال جِبريلُ لِمَريمَ: إنَّما أنا مَلَكٌ مُرسَلٌ من الله إليك، ولستُ كما تظُنِّينَ، فلا تخافي مني .

لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ لِيَهَبَ بإخبارِ جِبريلَ عليه السَّلامُ عن اللهِ عزَّ وجَلَّ، أي: لِيَهَبَ لكِ اللهُ غُلامًا .

2- قِراءةُ لِأَهَبَ بإسناد الفِعلِ إلى جبريلَ عليه السَّلامُ؛ وذلك لأنَّ الله أمَرَ جِبريلَ أن ينفُخَ الرُّوحَ في مَريمَ، فهو سببٌ في وجودِ غُلامِها .

لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا.

أي: قال جِبريلُ لِمَريمَ: أرسَلَني اللهُ إليكِ؛ لأكونَ سَبَبًا في هبةِ غلامٍ لك طاهِرٍ من الذُّنوبِ والخِصالِ الذَّميمةِ .

كما قال تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 45، 46].

قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20).

قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ.

أي: قالت مَريمُ: كيف يكونُ لي غُلامٌ ألِدُه، ولم يَقرَبْني أحدٌ بنِكاحٍ ؟!

كما قال تعالى: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران: 47] .

وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا.

أي: ولم يكُنْ مِن دَأبي الفُجورُ والوقوعُ في الفاحِشةِ، فكيف يكونُ لي ولَدٌ ؟!

قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21).

قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ.

أي: قال جبريلُ لِمَريمَ: هكذا الأمرُ كما ذكرتِ مِن أنَّه لم يمسَسْكِ بشَرٌ، ولم تكوني بَغيًّا، ولكِنْ قال ربُّكِ: خلْقُ الغُلامِ منك مِن غيرِ أبٍ سَهلٌ ويَسيرٌ عليَّ !

وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ.

أي: ونخلُقُ ولَدَكِ الذي تَلِدينَه مِن غيرِ أبٍ؛ لنجعَلَ ذلك عَلامةً للنَّاسِ، ودَلالةً تَدُلُّهم على كمالِ قُدرةِ الخالِقِ العَجيبةِ، وعَظمةِ سُلطانِه، وتَوحيدِه سُبحانَه .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً [المؤمنون: 50] .

وَرَحْمَةً مِنَّا.

أي: ونبيًّا يدعو إلى اللهِ؛ رَحمةً منَّا له ولكِ وللنَّاسِ، خُصوصًا مَن آمَنَ به واتَّبَعه .

كما قال تعالى: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران: 49 - 51] .

وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا.

أي: وكان خَلْقُ اللهِ للولَدِ منكِ مِن غيرِ أبٍ أمرًا قد قضاه اللهُ وقَدَّرَه؛ فوقوعُه كائِنٌ لا محالةَ

 

.

كما قال تعالى: قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47] .

الفوائد التربوية:

 

1- أحسَنُ الطُّرُقِ في التَّعليمِ والتَّفهيمِ: الأخذُ مِن الأقرَبِ فالأقرَبِ، مُترقِّيًا إلى الأصعَبِ فالأصعَبِ؛ فالله تعالى قدَّم قِصَّةَ يحيى على قِصَّةِ عيسى-عليهما السَّلامُ-؛ لأنَّ خَلقَ الولَدِ مِن شَيخينِ فانيَينِ أقرَبُ إلى مناهِجِ العاداتِ مِن تَخليقِ الولَدِ لا مِن الأبِ البتَّةَ

.

2- قال الله تعالى: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا فجمَعَت مريمُ عليها السَّلامُ بينَ الاعتِصامِ برَبِّها، وبينَ تخويفِ ذلك الشَّابِّ، وترهيبِه وأمْرِه بلُزومِ التقوى، وهي في تلك الحالةِ الخاليةِ، والشَّبابِ، والبُعدِ عن النَّاسِ، وهو في ذلك الجمالِ الباهِرِ، والبَشَريَّةِ الكاملةِ السَّويَّة، ولم ينطِقْ لها بسوءٍ أو يتعَرَّضْ لها، وإنما ذلك خَوفٌ منها، وهذا أبلغُ ما يكونُ مِن العِفَّةِ، والبُعدِ عن الشَّرِّ وأسبابِه، وهذه العِفَّةُ -خصوصًا مع اجتِماع الدَّواعي، وعدَمِ المانِعِ- مِن أفضَلِ الأعمالِ؛ ولذلك أثنى اللهُ عليها، فقال: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم: 12] ، وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 91] ، فأعاضها اللهُ بعِفَّتِها ولدًا مِن آياتِ اللهِ، ورسولًا مِن رُسُلِه .

3- قَولُ مَريمَ للمَلَكِ: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي: إن كُنتَ تخافُ اللهَ، تذكيرٌ له بالله، وهذا هو المشروعُ في الدَّفعِ: أن يكونَ بالأسهَلِ فالأسهَلِ، فخَوَّفَته أوَّلًا بالله عزَّ وجَلَّ .

4- قَولُ الله تعالى: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ يدُلُّ على كَمالِ قُدرةِ الله تعالى، وعلى أنَّ الأسبابَ جَميعَها لا تستَقِلُّ بالتأثيرِ، وإنَّما تأثيرُها بتقديرِ اللهِ، فيُرِي تعالى عبادَه خَرْقَ العوائِدِ في بعضِ الأسبابِ العاديَّةِ؛ لئلَّا يَقِفوا مع الأسبابِ، ويَقطَعوا النَّظَرَ عن مُقَدِّرِها ومُسَبِّبِها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا فأخبَرَ هذا الرُّوحُ الذي تمثَّلَ لها بشَرًا سَوِيًّا أنَّه رسولُ رَبِّها، فدَلَّ الكلامُ على أنَّ هذا الرُّوحَ عينٌ قائِمةٌ بنَفسِها، ليسَت صِفةً لِغَيرِها، وأنَّه رسولٌ مِن اللهِ، ليس صفةً مِن صفاتِ الله؛ ولهذا قال جماهيرُ العُلَماءِ: إنَّه جبريلُ عليه السَّلامُ؛ فإنَّ اللهَ سمَّاه الرُّوحَ الأمينَ، وسمَّاه رُوحَ القُدُسِ، وسمَّاه جبريلَ، وهكذا عندَ أهلِ الكتابِ أنَّه تجسَّد مِن مريمَ ومِن رُوحِ القُدُسِ، لكنْ ضُلَّالُهم حيثُ يظنُّونَ أنَّ رُوحَ القُدُسِ حياةُ اللهِ، وأنَّه إلهٌ يَخلُقُ ويَرزُقُ ويُعبَدُ! وليس في شيءٍ مِن الكُتُب الإلهيَّةِ ولا في كلامِ الأنبياء أنَّ اللهَ سمَّى صفتَه القائمةَ به رُوحَ القُدُسِ، ولا سمَّى كلامَه ولا شيئًا مِن صفاتِه ابْنًا، وهذا أحدُ ما يَثبُتُ به ضَلالُ النَّصارى وأنَّهم حرَّفوا كلامَ الأنبياءِ، وتأوَّلوه على غيرِ ما أرادتِ الأنبياءُ

.

2- قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا، أي: جبريلَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وسُمِّيَ بذلك؛ لأنَّ الدِّينَ يحيا به وبوحيِه . وقيل: إنَّما سُمِّي جبريلُ رُوحًا؛ لأنَّه بمنزلةِ الأرواحِ للأبدانِ تحيا بما يأتي مِن البيانِ عن الله عزَّ وجلَّ مَن يُهدَى به .

3- قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا... وخِطابُ الملائكةِ لمريمَ لا يقتَضي النبُوَّةَ؛ لأنَّ النبيَّ مَن يُوحَى إليه بشَرعٍ، ومريمُ لم يُوحَ إليها بشَيءٍ مِن الشَّرعِ، ولكِنَّه كان خِطابًا للبِشارةِ بواقعةٍ مُعَيَّنةٍ دالَّةٍ على علُوِّ مَنزِلتِها، واصطفاءِ الله سُبحانه وتعالى لها ، ولأنَّ الملائكةَ قد كَلَّموا مَن ليس بنبيٍّ إجماعًا .

4- قال الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا السَّوِيُّ: المُسَوَّى، أي: التَّامُّ الخَلقِ، وإنَّما تمثَّلَ لها كذلك؛ لِوُجوهٍ ذكَرَها العُلماءُ، منها:

الوجه الأول: للتناسُبِ بينَ كَمالِ الحقيقةِ، وكَمالِ الصُّورةِ.

الوجه الثاني: أُرسِلَ حَسَنَ الشَّكلِ؛ لئلَّا تَشتَدَّ نُفرتُها ورَوْعُها منه .

الوجه الثالث: كان تمثيلُه على ذلك الحُسنِ الفائِقِ والجَمالِ الرَّائقِ؛ لابتلائِها وسَبْرِ عِفَّتِها، ولقد ظهَرَ منها مِنَ الوَرَعِ والعَفافِ ما لا غايةَ وراءَه ، ففي ذلك إشارةٌ إلى كَمالِ عِصمَتِها؛ إذ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا .

5- في قَولِه تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا إثباتُ الملائكةِ، وأنَّهم أحياءٌ، ناطِقونَ، مُنفَصِلونَ عن الآدميِّينَ، يُخاطِبونَهم، ويَرَونَهم في صُورِ الآدميينَ؛ الأنبياءُ وغيرُ الأنبياءِ، كقَولِه تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر: 51- 54] ، وغيرُ الأنبياءِ، كما رأتْهم سارةُ امرأةُ الخليلِ عليه السَّلامُ، وكما كان الصَّحابةُ يرَون جبريلَ إذا جاء؛ لَمَّا جاء في صورةِ أعرابيٍّ ، وتارةً في صورةِ دِحْيةَ الكَلْبِيِّ .

6- قولُه تعالى: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ لِياذُها باللهِ وعياذُها به وقْتَ التَّمثيلِ دليلٌ على أنَّه أوَّلَ ما تمثَّلَ لها استعاذتْ من غيرِ جرْيِ كلامٍ بينهما .

7- قولُه تعالى: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا إنْ قال قائِلٌ: الهِبةُ مِن اللهِ تعالى، فلِمَ أخبَرَ جِبريلُ عن نَفسِه؟

والجوابُ مِن وُجوهٍ:

الأولُ: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ يقولُ اللهُ تعالى: لِأَهَبَ لَكِ، فهو على الحِكايةِ، وحَملَ الحكايةَ على المعنى، على تأويلِ: قال: أُرسِلْتُ إليكِ؛ لأهَبَ لك، فحُذِفَ مِن الكلامِ (أُرسِلْتُ)؛ لدَلالةِ ما ظهَرَ على ما حُذِفَ.

الثَّاني: جِبريلُ عليه السَّلامُ قال لمريم: إنَّما أنا رَسولُ ربِّك أرسلني لأهَبَ لك؛ إذ كان النافِخَ في جَيبِها بأمرِ الله، فتكونُ الهِبةُ في المعنى مِنَ الله، وهي في اللَّفظِ مُسنَدةٌ إلى جبريلَ؛ لأنَّ الرَّسولَ والوكيلَ قد يُسنِدانِ هذا النَّحوَ إلى أنفُسِهم، وإن كان الفِعلُ للمُوكَّلِ والمُرسَلِ؛ للعِلمِ بأنَّه في المعنى للمُرسِلِ، وأنَّ الرَّسولَ مُترجِمٌ عنه .

الثَّالثُ: أنه جَعَل الهبةَ مِن قِبَلِه؛ لكونِه سببًا فيها مِن جهةِ كونِ الإعلامِ لها مِن جِهتِه .

8- قَولُ الله تعالى: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا فيه سُؤالٌ: أنَّ قَولَ مَريمَ عليها السَّلامُ: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يدخُلُ تحتَه قَولُها: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا فلماذا أعادَته؟ وممَّا يؤكِّدُ هذا السُّؤالَ أنَّ في سورةِ (آلِ عِمرانَ) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [آل عمران: 47] فلم تَذكُرِ البِغاءَ؟

والجوابُ مِن وَجهَينِ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّها جعَلَت المسَّ عِبارةً عن النِّكاحِ الحَلالِ؛ لأنَّه كنايةٌ عنه؛ لِقَولِه: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] ، والزِّنا ليس كذلك.

الوجهُ الثاني: أنَّ إعادتَها لِتَعظيمِ حالِها، كقَولِه تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238] ، وقَولِه: وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] ، فكذا هاهنا: أنَّ مَن لم تُعرَفْ مِن النِّساءِ بزَوجٍ، فأغلَظُ أحوالِها إذا أتَت بوَلَدٍ أن تكونَ زانيةً، فأُفرِدَ ذِكرُ البِغاءِ -بعد دُخولِه في الكَلامِ الأوَّلِ- لأنَّه أعظَمُ ما في بابِه .

9- قولُها: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا لم تقُلْ: (بغيَّةً)؛ لأنَّ «بغيًّا» غالبٌ في النِّساءِ، وقلَّما يقولُ العربُ: رجلٌ بغيٌّ؛ فتَرَكوا التَّاءَ فيه إجراءً له مَجْرَى حائضٍ، وعاقرٍ. أو هو: «فعيلٌ» بمعنى فاعلٍ، فتَرَكوا التَّاءَ فيه كما في قولِه تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] ، أو لموافقةِ الفواصلِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا

- قولُه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَم ... عطْفٌ على جُملةِ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ [مريم: 2] ، عطْفَ القِصَّةِ على القصَّةِ؛ فلا يُراعَى حُسْنُ اتِّحادِ الجُملتينِ في الخبريَّةِ والإنشائيَّةِ، على أنَّ ذلك الاتِّحادَ ليس بمُلتزَمٍ، وفي افتتاحِ القصَّةِ بهذا زيادةُ اهتمامٍ بها، وتَشويقٌ للسَّامعِ أنْ يتعرَّفَها ويَتدبَّرَها

.

- وقدِ اختُصَّتْ هذه السُّورةُ بزيادةِ كلمةِ فِي الْكِتَابِ بعدَ كلمةِ وَاذْكُرْ؛ وفائدةُ ذلك: التَّنبيهُ إلى أنَّ ذِكْرَ مَن أُمِرَ بذكْرِهم كائنٌ بآياتِ القُرآنِ، وليس مُجرَّدَ ذكْرِ فضْلِه في كلامٍ آخرَ من قولِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. ولم يأْتِ مثْلُ هذه الجُملةِ في سُورةٍ أُخرى؛ لأنَّه قد حصَلَ علْمُ المُرادِ في هذه السُّورةِ؛ فعُلِمَ أنَّه المُرادُ في بقيَّةِ الآياتِ الَّتي جاء فيها لفظُ (اذكُرْ) .

- وفي قولِه: إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا نكَّرَ المكانَ إبهامًا له؛ لعدَمِ تعلُّقِ الغرضِ بتَعيينِ نوعِه؛ إذ لا يُفيدُ كمالًا في المقصودِ من القصَّةِ. وأمَّا التَّصدِّي لوصْفِه بأنَّه شرقيٌّ، فللتَّنبيهِ على أَصْلِ اتِّخاذِ النَّصارى الشَّرقَ قِبْلةً لصلواتِهم ، فذِكْرُ كونِ المكانِ شرقيًّا نُكتةٌ بديعةٌ من تاريخِ الشَّرائعِ، مع ما فيه مِن مُؤاخاةِ الفواصلِ .

2- قوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا

- قولُه: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا، أي: جبريلَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، عبَّرَ عنه بذلك؛ توفيةً للمقامِ حَقَّه .

- قولُه: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا تَعليقُ الإرسالِ به، وإضافتُه إلى ضَميرِ الجلالةِ دَلَّا على أنَّه مِن الملائكةِ .

3- قوله تعالى: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا

- جُملةُ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ خبريَّةٌ، ولذلك أُكِّدَت بحرفِ التَّأكيدِ (إنَّ). وذِكْرُها صِفَةَ (الرَّحمنِ) دونَ غيرِها من صفاتِ اللهِ؛ لأنَّها أرادتْ أنْ يرحَمَها اللهُ بدفْعِ من حسِبَتْه داعرًا عليها ، فذِكْرُه تعالى بعُنوانِ الرَّحمانيَّةِ؛ للمُبالغةِ في العياذِ به تعالى، واستجلابِ آثارِ الرَّحمةِ الخاصَّةِ الَّتي هي العِصمةُ ممَّا دهَمها .

- وقولُها: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا تذكيرٌ له بالموعظةِ بأنَّ عليه أنْ يتَّقِيَ ربَّه، ومجيءُ هذا التَّذكيرِ بصِيغَةِ الشَّرطِ المُؤذِنِ بالشَّكِّ في تَقواهُ: قصْدٌ لتهييجِ خشيَتِه، وكذلك اجتلابُ فعْلِ الكونِ -كُنْتَ- الدَّالِّ على كونِ التَّقوى مُستقِرَّةً فيه، وهذا أبلَغُ وعْظٍ وتذكيرٍ وحَثٍّ على العملِ بتَقواهُ .

- قولُه: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا جوابُ الشَّرطِ محذوفٌ دَلَّ عليه ما قبْلَه، أي: فإنِّي عائذةٌ منك، أو فتتَّعِظُ بتَعويذي، أو فلا تتعرَّضْ لي. ويجوزُ أنْ يكونَ للمُبالغةِ، أي: إنْ كنتَ تقيًّا مُتورِّعًا، فإنِّي أتعوَّذُ منك؛ فكيف إذا لم تكنْ كذلك ؟! أو تعليقُها الاستعاذةَ على شرطِ تقواهُ؛ لأنَّه لا تنفَعُ الاستعاذةُ ولا تُجْدي إلَّا عندَ مَن يتَّقي اللهَ .

4- قوله تعالى: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا

- قولُه: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ فيه قصرٌ إضافيٌّ، أي: لستُ بشرًا؛ ردًّا على قولِها: إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا المُقْتضي اعتقادَها أنَّه بشرٌ .

5- قوله تعالى: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا

- إنَّما قالت: بَشَرٌ؛ مُبالغةً في بَيانِ تنزُّهِها مِن مبادئِ الولادةِ .

- وقولُها: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا تبرئةٌ لنفْسِها من البغاءِ بما يَقْتضيه فعْلُ الكونِ من تمكُّنِ الوصفِ الَّذي هو خبَرُ الكونِ، والمقصودُ منه تأكيدُ النَّفيِ .

6- قوله تعالى: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا

- قولُه: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ...، أي: إنَّ الأمْرَ كما قلْتِ، وهو عُدولٌ عن إبطالِ مُرادِها من المُراجعةِ إلى بَيانِ هونِ هذا الخلْقِ في جانبِ القُدرةِ، على طريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ .

- قولُه: وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ إمَّا علَّةٌ لمُعلَّلٍ محذوفٍ، أي: ولنجعَلَ وهْبَ الغلامِ آيةً لهم وبُرهانًا يَستدِلُّونَ به على كَمالِ قُدرتِنا نفعَلُ ذلك. أو معطوفٌ على علَّةٍ أُخرى مُضمَرةٍ، أي: لنُبيِّنَ به عِظَمَ قُدرتِنا، ولنجعَلَه آيةً... إلخ .

- والالتفاتُ إلى نُونِ العظمةِ في قولِه: وَلِنَجْعَلَهُ؛ لإظهارِ كَمالِ الجلالةِ ؛ فقولُه: وَلِنَجْعَلَهُ عطفٌ على فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا باعتبارِ ما في ذلك من قولِ الرُّوحِ لها: لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا؛ فوقَعَ الْتفاتٌ من طريقةِ الغيبةِ إلى طريقةِ التَّكلُّمِ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ فالكلامُ في الموضعينِ على لسانِ الملَكِ من عندِ اللهِ، ولكنَّه أُسْنِدَ في هذه القصَّةِ إلى الملَكِ؛ لأنَّه جوابٌ عن خِطابِها إيَّاهُ، وأُسْنِدَ في قصَّةِ زكريَّا إلى اللهِ؛ لأنَّ كلامَ الملَكِ كان تبليغَ وحيٍ عن اللهِ جوابًا من اللهِ عن مُناجاةِ زكريَّا

===============

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (22-26)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ

غريب الكلمات:

 

قَصِيًّا: أي: نائيًا بَعيدًا، وأصلُ (قصو): يدُلُّ على بُعدٍ وإبعادٍ

.

فَأَجَاءَهَا: أي: ألجَأها واضْطرَّها، يُقالُ: جاء بها وأجاءَها: بمعنًى .

الْمَخَاضُ: أي: وجَعُ الوِلادةِ، وهو الطَّلْقُ، وسُمِّي مخاضًا مِن المَخْضِ، وهو الحركةُ الشَّديدةُ؛ لشدَّةِ تحرُّكِ الجنينِ في بطنِها إذا أرادَ الخروجَ، وأصلُ المخضِ: تحريكُ سقاءِ اللبنِ وهزُّه؛ ليجتمِعَ زُبدُه وسَمنُه .

نَسْيًا مَنْسِيًّا: أي: شَيئًا حَقيرًا لا يُؤبَهُ له، وأصلُ (نسي): يدُلُّ على تَركِ الشَّيءِ وإغفالِه .

سَرِيًّا: أي: جَدولًا ونَهرًا صغيرًا، وسُمِّيَ النَّهرُ سَرِيًّا؛ لأنَّ الماءَ يسري فيه، أي: يمُرُّ جاريًا. وقيل: بل ذلك من السَّرْوِ، أي: الرِّفعةِ، والإشارةُ بذلك إلى عيسى عليه السَّلامُ .

جَنِيًّا: أي: مَجْنيًّا غَضًّا طَرِيًّا، وجَنَى الشَّجرةِ: ما جُنِيَ منها، وأصلُ (جني): يدُلُّ على أخْذِ الثَّمرةِ مِن شَجَرِها .

وَقَرِّي عَيْنًا: أي: طِيبي نَفسًا، وأصلُه من القُرِّ، أي: البَردِ، فَقَرَّتْ عينه، أي: بَرَدَت، وقيل: هو من القَرارِ؛ لأنَّ اللهَ أعطاها ما تَسكُنُ به عينُها فلا تطمَحُ إلى غيرِه .

صَوْمًا: أي: صَمتًا، والصَّوْمُ في الأصلِ: الإمساكُ عن الفِعلِ مَطعمًا كان أو كلامًا أو مَشيًا

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ الله تعالى عن مشهدٍ آخرَ مِن مشاهدِ تلك القصةِ العجيبةِ، حينَ حمَلت مريمُ بعيسى عليه السلامُ، وعندما جاءَها المخاضُ، فيقولُ تعالى: فحَمَلت مريمُ بعيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فتباعَدَت به إلى مَكانٍ بعيدٍ عن النَّاسِ، فألجأها طَلْقُ الحَملِ ووجعُ الولادةِ إلى جِذعِ النَّخلةِ، فقالت: يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا اليومِ، وكنتُ شيئًا لا يُعرَفُ ولا يُذكَرُ! فناداها مولودُها عيسى مِن تحتِها عندما وضَعتْه: أنْ لا تَحزني، قد جعل ربُّكِ تحت قَدَميك جَدْولَ ماءٍ، وحَرِّكي جِذعَ النَّخلةِ تُسَاقِطْ عليك النَّخلةُ رطبًا طريًّا طيِّبًا، فكُلي من الرُّطَب، واشرَبي من الماءِ، وطِيـبي نفسًا، ولا تحزني، فإنْ رأيتِ مِن النَّاسِ أحدًا فسَألَكِ عن أمْرِك، فقولي له: إني أوجَبْتُ على نفسي لله سُكوتًا، فلن أكَلِّمَ اليومَ أحدًا من النَّاسِ.

تفسير الآيات:

 

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22).

فَحَمَلَتْهُ.

أي: فحَمَلَت مريمُ بعيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ

.

فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا.

أي: فتنحَّت بحَمْلِها إلى مكانٍ بعيدٍ عن النَّاسِ .

فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23).

فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ.

أي: فألجأَها ألمُ الطَّلْقِ إلى جِذعِ نَخلةٍ .

قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.

أي: قالت: يا ليتني مِتُّ قبل أن أحمِلَ هذا الغلامَ مِن غيرِ زَوجٍ، وكنتُ شَيئًا حقيرًا يُترَكُ ويُنسَى فلا يَخطُرُ على بالٍ !

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24).

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي.

أي: فناداها مولودُها عيسَى مِن تَحتِها عندما وضَعَتْه قائِلًا لها: لا تَحزَني .

قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا.

أي: قد أجرى ربُّك تحت قَدَميك نهرًا صغيرًا؛ لتَشربي منه .

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25).

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ.

أي: وحَرِّكي جِذعَ النَّخلةِ .

تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا.

أي: تُسْقِطْ عليكِ النَّخلةُ رُطَبًا طَرِيًّا طيِّبًا نافعًا .

فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26).

فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا.

أي: فكُلي من الرُّطَبِ، واشرَبي مِن ماءِ النَّهرِ، وطيبي نفسًا، وافرَحي ولا تحزَني .

فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا.

أي: فإنْ رأيتِ أحدًا من النَّاسِ يُريدُ أن يُكلِّمَكِ فقُولي : إنِّي أوجبتُ على نفسي للرَّحمنِ أن أُمسِكَ عن الكلامِ .

فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا.

أي: فلن أكلِّمَ اليومَ أحدًا من النَّاسِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ الله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فيه أمرٌ بالسَّبَبِ في الرزقِ، وتكَلُّفِ الكَسبِ

، واستُدِلَّ مِن هذه الآيةِ على أنَّ الرِّزقَ وإن كان محتومًا، فإنَّ اللهَ تعالى قد وكلَ ابنَ آدمَ إلى سعيٍ ما فيه؛ لأنَّه أمَرَ مريمَ بهَزِّ النَّخلةِ؛ لترى آيةً، وكانت الآيةُ تكونُ بألَّا تَهُزَّ ، فأخذ بعضُ العُلَماءِ مِن هذه الآيةِ أنَّ السَّعيَ والتسَبُّبَ في تحصيلِ الرِّزقِ أمرٌ مأمورٌ به شرعًا، وأنَّه لا ينافي التوكُّلَ على الله جلَّ وعلا، وهذا أمرٌ كالمعلومِ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ: أنَّ الأخذَ بالأسبابِ في تحصيلِ المنافِعِ، ودَفعِ المضارِّ في الدُّنيا؛ أمرٌ مأمورٌ به شَرعًا لا ينافي التوكُّلَ على اللهِ بحالٍ؛ لأنَّ المكَلَّفَ يتعاطى السَّبَبَ امتِثالًا لأمرِ رَبِّه، مع عِلمِه ويقينِه أنَّه لا يقَعُ إلَّا ما يشاءُ اللهُ وُقوعَه، فهو متوكِّلٌ على اللهِ، عالمٌ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا ما كتَبَ اللهُ له مِن خيرٍ أو شَرٍّ، ولو شاء الله تَخلُّفَ تأثيرِ الأسبابِ عن مُسَبِّباتِها، لتخلَّفَ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أمَرَها اللهُ تعالى بأن تنذرَ الصَّومَ؛ لئلَّا تَشرعَ مع مَن اتَّهمها في الكلامِ لِمَعنيين:

أحدُهما: أنَّ كلامَ عيسى عليه السَّلامُ أقوى في إزالةِ التُّهمةِ مِن كلامِها، وفيه دَلالةٌ على أنَّ تفويضَ الأمرِ إلى الأفضَلِ أَولى.

والثاني: كراهةُ مُجادلةِ السُّفهاءِ، وفيه أنَّ السُّكوتَ عن السَّفيهِ واجِبٌ، ومِن أذَلِّ النَّاسِ سَفيهٌ لم يجِدْ مُسافِهًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه تعالى حكايةً عن مريمَ: وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا تمنَّتْ لو كانت شيئًا لا يُؤْبَهُ له، من شأْنِه وحقِّه أنْ يُنْسى في العادةِ، وقد نُسِيَ وطُرِحَ، فوُجِدَ فيه النِّسيانُ الَّذي هو حقُّه؛ وذلك لِما لحِقَها مِن فرطِ الحياءِ والخجلِ مِن النَّاسِ على حُكمِ العادةِ البشريَّةِ، لا كراهةً لحُكمِ اللهِ. أو لشدَّةِ التَّكليفِ عليها إذا بَهَتوها وهي عارفةٌ ببَراءةِ السَّاحةِ، وبضِدِّ ما عِيبَتْ به، مِن اختصاصِ اللهِ إيَّاها بغايةِ الإجلالِ والإكرامِ؛ لأنَّه مقامٌ دَحْضٌ، قلَّما تثبُتُ عليه الأقدامُ: أنْ تعرِفَ اغتباطَكَ بأمْرٍ عظيمٍ وفضْلٍ باهرٍ، تستحِقُّ به المدحَ وتستوجِبُ التَّعظيمَ، ثمَّ تراهُ عندَ النَّاسِ -لجَهْلِهم به- عيبًا يُعابُ به ويُعنَّفُ بسَببِه، أو لخوفِها على النَّاسِ أنْ يَعْصوا اللهَ بسببِها

.

2- قَولُ اللهِ تعالى إخبارًا عن مريمَ عليها السَّلامُ: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا فيه دَليلٌ على جوازِ تمنِّي الموتِ عندَ الفِتنةِ؛ فإنَّها عَرَفَت أنَّها ستُبتلَى وتُمتحَنُ بهذا المولودِ الذي لا يحمِلُ النَّاسُ أمرَها فيه على السَّدادِ، ولا يصَدِّقونها في خبرِها، وبعدما كانت عندَهم عابِدةً ناسِكةً تُصبِحُ عِندَهم -فيما يظنُّونَ- عاهرةً زانيةً ، فمريمُ تمنَّت الموتَ مِن جهةِ الدِّينِ؛ إذ خافت أن يُظَنَّ بها الشَّرُّ في دينِها وتُعيَّرَ؛ فيَفتِنَها ذلك، وهذا مباحٌ، وعلى هذا الحَدِّ تمنَّاه جماعةٌ مِن الصالحينَ. ونَهيُ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن تمنِّي الموتِ إنَّما هو لِضُرٍّ نَزَل بالبَدَنِ .

3- قولُه تعالى: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا في هذا دليلٌ على مقامِ صبْرِها وصدْقِها في تلقِّي البَلوَى الَّتي ابتلاها اللهُ تعالى؛ فلذلك كانت في مقامِ الصِّدِّيقيَّةِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فيه أصلٌ لِما يقولُه الأطبَّاءُ: إنَّ الرُّطَبَ ينفَعُ النُّفَساءَ ، وقال عمرُو بنُ مَيمونٍ: (ما من شَيءٍ خَيرٌ للنُّفَساءِ مِن التَّمرِ والرُّطَبِ، ثمَّ تلا هذه الآيةَ الكريمةَ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) .

5- قال الله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فأُعْطِيَت رُطبًا دونَ التَّمرِ؛ لأنَّ الرُّطبَ أشهَى للنَّفْسِ؛ إذ هو كالفاكهةِ، وأمَّا التَّمرُ فغِذاءٌ .

6- إنْ قيل: ما كان حزنُها لفقْدِ الطَّعامِ والشَّرابِ حتَّى تُسلَّى بالسَّريِّ والرُّطبِ؟

فالجوابُ: لم تقَعِ التَّسليةُ بهما مِن حيثُ إنَّهما طعامٌ وشرابٌ، ولكنْ من حيثُ إنَّهما مُعجزتانِ تُريانِ النَّاسَ أنَّها من أهلِ العصمةِ، والبُعدِ من الرِّيبةِ، وأنَّ مثْلَها ممَّا قَرَفوها به بمَعزلٍ، وأنَّ لها أُمورًا إلهيَّةً خارجةً عن العاداتِ، خارقةً لِما ألِفُوا واعتادوا، حتَّى يتبيَّنَ لهم أنَّ وِلادَها من غيرٍ فحْلٍ ليس ببِدْعٍ مِن شأنِها .

7- قصةُ مريمَ فيها كرامةٌ مِن عِدَّةِ أوجُهٍ:

الأول: أنَّه فقد قيلَ لها: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا وهي امرأةٌ نُفَساءُ، والمرأةُ النُّفَساءُ عادةً تكونُ ضعيفةً، والهَزُّ بجِذعِ النَّخلةِ لا يتأتَّى، بل إنَّه صَعبٌ؛ فإنَّ الرجُلَ القَويَّ إذا هزَّها مِن أسفَلَ لا تهتَزُّ، لكنَّ مَريمَ قيل لها: هُزِّي بجِذعِ النَّخلةِ، فهَزَّت؛ فاهتَزَّت النَّخلةُ، وهذه كرامةٌ.

الثاني: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، والعادةُ أنَّ الرُّطَبَ إذا تساقَطَ مِن فَوقِ النَّخلةِ، فإنَّه يَفسُدُ ويتفضَّخُ ، لكِنَّه في شأنِها بَقِيَ رُطَبًا جَنيًّا، وهذه كرامةٌ!

الثالث: أنَّه ولَمَّا جاءت تحمِلُ الولَدَ فقالوا لها مُعرِّضينَ لها بالزِّنا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: 28] ، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم: 29] فكلَّمَهم، وهذه كرامةٌ.

فهذه كراماتٌ، وهي في الحقيقةِ تُشبِهُ آياتِ الأنبياءِ، لكِنَّ الفَرقَ بينهما أنَّ آياتِ الأنبياءِ تأتي من النبيِّ، وكرامةَ الأولياءِ تأتي مِن وليٍّ مُتَّبِعٍ للنبيِّ .

8- النكرةُ في سياقِ الشَّرطِ تَعُمُّ؛ يُستفاد ذلك مِن قولِه تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي ...

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا

- قولُه: فَحَمَلَتْهُ ... الفاءُ للتَّفريعِ والتَّعقيبِ، أي: فحمَلَتْ بالغُلامِ في فورِ تلك المُراجعةِ

. وفي الكلامِ إيجازٌ، والتَّقديرُ: فاطمأنَّتْ إلى قولِه، فدنا منها، فنفَخَ في جَيبِ درعِها، فوصَلَتِ النَّفخةُ إلى بطْنِها، فحمَلَتْ .

2- قوله تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا

- قولُه: جِذْعِ النَّخْلَةِ التعريفُ فيه إمَّا أن يكونَ مِن تعريفِ الأسماءِ الغالبةِ؛ كتعريفِ النجمِ، كأنَّ تلك الصحراءَ كان فيها جذعُ نخلةٍ متعارَفٌ عندَ الناسِ، فإذا قيل: «جذع النخلة». فُهِمَ منه ذاك، وإمَّا أن يكونَ تعريفَ الجنسِ .

- وجُملةُ: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ السَّامعَ يتشوَّفُ إلى معرفةِ حالِها عندَ إبَّانِ وضْعِ حمْلِها بعدما كان أمْرُها مُستتِرًا غيرَ مكشوفٍ بينَ النَّاسِ، وقد آنَ أنْ ينكشِفَ؛ فيُجابُ السَّامعُ بأنَّها تمنَّتِ الموتَ قبْلَ ذلك، فهي في حالةٍ من الحُزنِ ترى أنَّ الموتَ أهونُ عليها من الوُقوعِ فيها .

3- قوله تعالى: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا

- قولُه: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا على القولِ بأنَّ قائلَ هذا هو عيسى عليه السَّلامُ؛ فهذا إرهاصٌ لعيسى، وكرامةٌ لأُمِّه عليهما السَّلامُ، وقُيِّدَ بقولِه: مِنْ تَحْتِهَا لتحقيقِ ذلك، ولإفادةِ أنَّه ناداها عندَ وضْعِه قبْلَ أنْ ترفَعَه؛ مُبادرةً للتَّسليةِ والبشارةِ، وتَصويرًا لتلك الحالةِ الَّتي هي حالةُ تَمامِ اتِّصالِ الصَّبيِّ بأُمِّه .

- قولُه: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا جُملةٌ خبريَّةٌ مُرادٌ بها التَّعليلُ لانتفاءِ الحزْنِ المفهومِ من النَّهيِ عنه في قوله: أَلَّا تَحْزَنِي، أي: أنَّ حالتَك حالةٌ جديرةٌ بالمسرَّةِ دونَ الحزنِ؛ لِما فيها من الكرامةِ الإلهيَّةِ . والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِها؛ لتَشريفِها، وتأكيدِ التَّعليلِ، وتكميلِ التَّسليةِ .

4- قوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا

- الباءُ في قولِه: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ صلةٌ للتَّأكيدِ، كما في قولِه تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ... [البقرة: 195] ، أو لإلصاقِ الفعْلِ بمدخولِها، أي: افْعَلي الهزَّ بجذْعِها، أو هُزِّي الثَّمرةَ بهَزِّه .

- قولُه: رُطَبًا جَنِيًّا هو كِنايةٌ عن حَدثانِ سُقوطِه، أي: عن طَراوتِه، ولم يكُنْ من الرُّطبِ المخبوءِ من قبْلُ؛ لأنَّ الرُّطبَ متى كان أقرَبَ عهدًا بنخلتِه كان أطيبَ طعمًا .

5- قوله تعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا

- قولُه: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، جُملةُ فَكُلِي وما بعْدَها فذلكةٌ للجُمَلِ الَّتي قبْلَها مِن قولِه: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، أي: فأنتِ في بحبوحةِ عيشٍ .

- وقدَّم الأكلَ على الشُّربِ؛ لأنَّ احتياجَ النُّفَساءِ إلى أكلِ الرُّطَبِ أشَدُّ مِن احتياجِها إلى شُربِ الماءِ؛ لِكَثرةِ ما سال منها مِنَ الدِّماءِ . أو لأنَّه لَمَّا كانت العادةُ تقديمَ الأكلِ على الشُّربِ، تقدَّمَ في الآيةِ ، وهذا هو المُطَّرِدُ في القُرآنِ الكريمِ في جَميعِ المواضِعِ.

- قولُه: وَقَرِّي عَيْنًا قُرَّةُ العينِ: كنايةٌ عن السُّرورِ، وهي كنايةٌ ناشئةٌ عن ضدِّها، وهو سُخْنةُ العينِ الَّتي هي أثرُ البكاءِ اللَّازمِ للأسفِ والحزنِ، فلمَّا كُنِّي عن الحزنِ بسُخْنةِ العينِ؛ أتْبَعوا ذلك بأنْ كنَّوْا عن السُّرورِ بضِدِّ هذه الكنايةِ فقالوا: قُرَّةُ عينٍ، وأقرَّ اللَّهُ عينَه، وقُرَّةُ العينِ تشمَلُ هناءَ العيشِ، وتشمَلُ الأُنسَ بالطِّفلِ المولودِ. وفي كونِه قُرَّةَ عينٍ كِنايةٌ عن ضمانِ سَلامتِه، ونَباهةِ شأْنِه .

- قولُه: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا قيل: إنَّه مُرتَّبٌ على مُقدَّرٍ بينه وبينَ الشَّرطِ، تقديرُه: فإمَّا تريِنَّ مِن البشرِ أحدًا، فيسأَلْكِ الكلامَ، فقولي: إنِّي نذرْتُ... إلخ، وبهذا سقَطَ ما قيلَ مِن أنَّ قولَها: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا كلامٌ بعدَ النَّذرِ؛ إذ هو بهذا التَّقديرِ مِن تَمامِ النَّذرِ لا بعْدَه . وقيل: المعنى: فانْذِري صومًا، وإنْ لقيتِ من البشرِ أحدًا، فقولي: إنِّي نذرْتُ صومًا، فحُذِفَتْ الجُملةُ للقرينةِ .

- قولُه: إِنْسِيًّا نِكرةٌ في سياقِ النَّفيِ؛ فيُفيدُ العُمومَ، أي: لنْ أُكلِّمَ أحدًا، وعُدِلَ عن (أحدٍ) إلى إِنْسِيًّا؛ لرعايةِ فاصلةِ الياءِ

================

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (27-36)

ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ

غريب الكلمات:

 

فَرِيًّا: أي: عظيمًا عجيبًا مُنكَرًا، وأصلُ (فري): يدلُّ على قطعِ الشَّيءِ، كأنَّه مِمَّا يخرِقُ العادةَ، أو يُقطَعُ بكونِه عجيبًا نادرًا

.

الْمَهْدِ: المَهدُ: ما يُهيَّأُ للصَّبيِّ، والمَهدُ: الحِجْرُ، وأصلُ (مهد): يدلُّ على التَّوطئةِ للشَّيءِ وتَسهيلِه .

يَمْتَرُونَ: أي: يَشُكُّونَ ويختَلِفونَ، والمِريَةُ: التَّردُّدُ في الأمرِ، وهي أخصُّ مِن الشَّكِّ، والامتراءُ والمُماراةُ: المحاجَّةُ فيما فيه مِريةٌ

 

.

مشكل الإعراب:

 

1- قَولُه تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا

وَبَرًّا: معطوفٌ على مُبَارَكًا مَنصوبٌ، أي: جعلني مباركًا وبَرًّا. أو مَنصوبٌ بإضمارِ فعلٍ، أي: وجعلني برًّا. واختِير هذا على الأوَّلِ؛ لأنَّ فيه فَصلًا كثيرًا بجُملةِ (أوصانِي) ومُتعلِّقِها

.

2- قوله تعالى: ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ

قَوْلَ الْحَقِّ في نصبِه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه مَصدرٌ مؤكِّدٌ لِمَضمونِ الجملةِ، مفعولٌ مُطلَقٌ لفِعلٍ مَحذوفٍ، أي: أقولُ قولَ الحق، وهو مِنْ إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه، أي: القولَ الحَقَّ، كقولِك: هو عبدُ اللهِ حَقًّا، والحَقَّ لا الباطِلَ. وتكونُ جملتُه على هذا التقدير اعتراضًا بين الصِّفةِ والموصوف؛ لأنَّ التقديرَ: ذلك عيسى بنُ مريمَ الذي فيه يمترون. والثاني: أن يكونَ مَنصوبًا على المدحِ إذا أُريد بـ قَوْلَ الْحَقِّ كلمةُ اللهِ. وسُمِّي عيسى قولًا كما سُمِّي كلمةً؛ لأنَّه عنها نشأ. والثالث: أن يكونَ منصوبًا على الحالِ من عيسَى. وقُرئَ قَوْلَ الْحَقِّ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مُبتدأٍ محذوفٍ، أي: هو قَولُ الحَقِّ. أو خبَرٌ ثانٍ لـ ذَلِكَ. وقيل: صفةٌ لعيسى أو بدلٌ منه. وقيل: عيسَى بدلٌ أو عطفٌ بيان، و قَوْلَ الْحَقِّ خَبَرٌ لـ ذَلِكَ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يذكرُ الله تعالى ما حدَث عندما جاءَتْ مريمُ بوليدِها إلى قومِها، فيقولُ سبحانه: فأتت مريمُ قَومَها تَحمِلُ مَولودَها، فلمَّا رأَوها كذلك قالوا لها: يا مَريمُ، لقد فَعلتِ مُنكَرًا عَظيمًا! يا أختَ الرَّجُلِ الصَّالحِ هارونَ، ما كان أبوكِ رجُلَ سَوءٍ يرتكِبُ الفواحِشَ، وما كانت أمُّكِ امرأةَ سَوءٍ تأتي الفاحشةَ! فأشارت مَريمُ إلى مَولودِها عيسى ليُكلِّموه، فقالوا مُنكِرينَ عليها: كيف نكَلِّمُ طِفلًا رَضيعًا لا يزالُ في مَهدِه؟! فنطَق عيسى قائلًا: إنِّي عبدُ اللهِ، قضى بإعطائي الإنجيلَ وجَعْلِي نبيًّا، وجعَلَني عظيمَ الخَيراتِ وكثيرَ النفعِ للناسِ حيثُما وُجِدْتُ، وأوصاني بالمُحافَظةِ على الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ ما بَقِيتُ حَيًّا، وجعَلني بارًّا بوالِدتي، ولم يجعَلْني مُتكَبِّرًا، ولا شَقيًّا عاصيًا لرَبِّي، والتحيةُ والسَّلامةُ والأمانُ عليَّ مِن اللهِ يومَ وُلِدتُ، ويومَ أموتُ، ويومَ أُبعَثُ حيًّا يومَ القيامةِ.

ثم يقولُ الله تعالى لرسولِه محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: ذلك هو عيسى بنُ مريمَ، وتلك حقيقتُه، قولَ الحَقِّ الذي شَكَّ فيه اليهودُ والنَّصارى. لا يليقُ بالله تعالى أن يتَّخِذَ مِن عبادِه وخَلْقِه ولَدًا، تنزَّه وتقدَّسَ عن ذلك، إذا قضى أمرًا فإنَّما يقولُ له: «كُنْ»، فيكونُ كما شاءه وأرادَه.

ويخبرُ تعالى أنَّ عيسى عليه السلامُ قال لِقَومِه أيضًا وهو في مهدِه: إنَّ اللهَ ربِّي وربُّكم، فاعبدُوه وَحدَه لا شريكَ له، هذا طريقٌ قَويمٌ لا اعوِجاجَ فيه، مَن سلَكَه اهتَدَى.

تفسير الآيات:

 

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27).

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ.

أي: فجاءت مَريمُ إلى قَومِها وهي تَحمِلُ عيسى دونَ أن تُخفِيَه، مُطمَئِنَّةً إلى أمرِ اللهِ، غيرَ مُكتَرِثةٍ بما سيقولُه النَّاسُ عنها

.

قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا.

أي: فلمَّا رآها قَومُها وهي تَحمِلُ مولودًا، قالوا: يا مريمُ، لقد فَعلتِ مُنكَرًا عَظيمًا !

يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28).

يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ.

أي: يا أُختَ الرجُلِ الصَّالحِ هارونَ ، لم يكُنْ أبوك رجلًا يقارِفُ الفاحِشةَ !

عن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((لَمَّا قَدِمتُ نَجرانَ سَألوني فقالوا: إنَّكم تقرؤونَ يَا أُخْتَ هَارُونَ، وموسى قبلَ عيسى بكذا وكذا، فلمَّا قَدِمتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سألتُه عن ذلك، فقال: إنَّهم كانوا يُسَمُّونَ بأنبيائِهم والصَّالحينَ قَبلَهم )) .

وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا.

أي: ولم تكُنْ أمُّك -يا مَريمُ- زانيةً فتَتأسَّيْ بها، فكيف قارفتِ ذلك وأنتِ مِن أولئك القَومِ الصَّالحينَ ؟!

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29).

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ.

أي: فلم تُكَلِّمْ مَريمُ قَومَها، وأشارت إلى ابنِها عيسى أنْ كَلِّموه؛ لِيُجيبَهم بدلًا منها .

قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا.

أي: قال قَومُ مَريمَ مُنكِرينَ عليها: كيف نكَلِّمُ رَضيعًا لا يزالُ في فِراشِه، وليس في استطاعتِه الكَلامُ ؟!

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30).

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ.

أي: فنطَقَ عيسَى وهو صبيٌّ في المَهدِ، فقال: إنِّي عبدُ اللهِ؛ فهو الذي يستَحِقُّ العبادةَ وَحْدَه، لا شَريكَ له .

آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا.

أي: قضى اللهُ وقَدَّرَ مِن قبلُ أنَّه سيُؤتيني الإنجيلَ، وسيَجعَلُني نَبيًّا .

وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُوَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا قال عيسى عليه السَّلامُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا فأخبَرَهم بأنَّه عبدُ الله، وأنَّ اللهَ عَلَّمَه الكتابَ، وجَعَله من جملةِ أنبيائِه، فهذا مِن كَمالِه لنَفسِه؛ ذكَرَ بَعدَه تكميلَه لِغَيرِه، فقال :

وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ.

أي: وجعَلَني ذا برَكاتٍ، كثيرَ الخَيراتِ، ومِن ذلك أن أكونَ نفَّاعًا للخَلقِ، مُعَلِّمًا للخيرِ في أيِّ مكانٍ وزَمانٍ أكونُ فيه .

وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا.

أي: وأوصاني اللهُ أن أحافِظَ على الصَّلاةِ والزَّكاةِ في مُدَّةِ حياتي .

كما قال تعالى لنَبيِّه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] .

وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32).

وَبَرًّا بِوَالِدَتِي.

أي: وجعَلَني اللهُ بارًّا بوالِدتي مريمَ، مُطيعًا لها، محسنًا إليها غايةَ الإحسانِ .

وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا.

أي: ولم يجعَلْني اللهُ مُستَكبرًا عن عبادتِه وبِرِّ أمِّي، ولا غليظًا في مُعاملةِ النَّاسِ مُترَفِّعًا عليهم، بل جعَلَني خاضِعًا خاشِعًا مُتذَلِّلًا له، متواضِعًا لعبادِه، سَعيدًا في الدُّنيا والآخرةِ .

وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33).

وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ.

أي: والتحيَّةُ مِنَ اللهِ عليَّ، والسَّلامةُ والأمانُ لي يومَ وُلِدتُ، ومِن ذلك السلامةُ مِن طَعنِ الشَّيطانِ عندَ الولادةِ .

عن أبي هُريرةَ رضِي اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((ما مِن بَني آدمَ مَولودٌ إلَّا يَمَسُّه الشَّيطانُ حين يُولَدُ، فيَستَهِلُّ صارِخًا مِن مَسِّ الشَّيطانِ، غيرَ مَريمَ وابنِها) )، ثمَّ يقولُ أبو هريرةَ: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36] )) .

وفي روايةٍ: ((كُلُّ بني آدمَ يَطْعُنُ الشَّيطانُ فِي جنبَيْه بإِصبعِه حينَ يُولَدُ غيرَ عيسى بنِ مريمَ؛ ذَهَب يَطْعُنُ فطَعَن في الحجابِ ) .

وَيَوْمَ أَمُوتُ.

أي: وتحيةٌ مِن اللهِ يومَ أموتُ وسَلامةٌ وأمانٌ لي مِن كُلِّ سُوءٍ؛ ككُرَبِ الموتِ، وسُوءِ الخاتمةِ، وعذابِ القَبرِ وفِتنَتِه .

وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.

أي: وتحيةٌ مِنَ اللهِ وسَلامةٌ وأمانٌ لي يومَ القيامةِ حينَ يَبعَثُني حيًّا فيُؤَمِّنُني مِن الفزَعِ والأهوالِ، وعذابِ النَّارِ .

ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34).

أي: ذلك العَظيمُ القَدرِ، العالي المَنزِلة الذي أخبَرتُكم بشأنِه هو عيسى بنُ مَريمَ، فهذه صِفتُه، وتلك حقيقةُ نَشأتِه، قَولَ الحَقِّ، الذي فيه يختلفُ النَّاسُ ويشُكُّون، فكذلك فاعتَقِدوا، لا كما يظنُّ اليهودُ أنَّه ابنُ زِنا، ولا كما يظُنُّ النَّصارى أنَّه اللهُ أو ابنُ اللهِ أو ثالثُ ثلاثةٍ !!

مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذَكَر تعالَى أنَّه خَلَقه عبدًا نَبِيًّا، نَزَّه نفسَه المُقدَّسةَ، فقالَ :

مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ.

أي: ما ينبغي لله أن يَجعلَ له ولَدًا، تنزَّه اللهُ عن الوَلَدِ والنَّقصِ، وعن كلِّ ما لا يليقُ بكَمالِه .

كما قال تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النساء: 171] .

وقال سُبحانه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [الأنعام: 100] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم: 92] .

إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

أي: إذا أراد اللهُ إحداثَ شَيءٍ فإنَّما يقولُ له: كُنْ، فيَصيرُ مَوجودًا كما يشاءُ بلا كُلفةٍ ولا مَشقَّةٍ، كما خلقَ عيسى بنَ مَريمَ بكَلِمةِ (كُنْ)، فصار مخلوقًا بدونِ أبٍ .

كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] .

وقال سُبحانه: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] .

وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36).

وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.

أي: قال عيسى لِقَومِه وهو في مَهدِه: ولأنَّ اللهَ رَبِّي ورَبُّكم فاعبُدوه وَحدَه لا شريكَ له .

هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ.

أي: هذا الذي جئتُكم به مِن عندِ اللهِ هو طريقٌ قويمٌ، لا اعوِجاجَ فيه، فمَن سلَكَه اهتَدَى، ومَن خالفَه ضلَّ وغوَى

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- في قوله تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا إشارةٌ إلى أنَّ الإنسانَ إذا زنى؛ فقد يُبْتَلَى نسْلُه بالزِّنا، والعياذُ بالله

.

2- قوله تعالى: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فيه تَنبيهٌ على أنَّ الفواحشَ من أولادِ الصَّالحينَ أفحَشُ .

3- في قوله تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا تنبيهٌ على أَثَرةِ المرأةِ ذاتِ الأصلِ الطاهرِ، والمنبتِ الطيبِ، واجتنابِ ذواتِ المنابتِ الخبيثةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا إن قيل: (أَتَتْ بِهِ) يُغني عن تَحْمِلُهُ فما فائدةُ التَّكريرِ؟

فالجوابُ: أنَّه لَمَّا ظَهَرت منه آياتٌ، جاز أن يتوهَّمَ السَّامِعُ من فَأَتَتْ بِهِ أن يكونَ ساعيًا على قَدَميه، فيكونَ سَعيُه آيةً كنُطقِه، فقطع ذلك التوهُّمَ، وأعلَمَ أنَّه كسائرِ الأطفالِ، وهذا مِثلُ قَولِ العَرَبِ: نظَرْتُ إلى فُلانٍ بعَيني، فنَفَوا بذلك نظَرَ العَطفِ والرَّحمةِ، وأثبَتوا أنَّه نظَرُ عَينٍ

.

2- جُملةُ: تَحْمِلُهُ حالٌ من تاءِ فَأَتَتْ، وهذه الحالُ للدَّلالةِ على أنَّها أتَتْ مُعلِنةً به غيرَ ساترةٍ؛ لأنَّها قد علِمَتْ أنَّ اللهَ سيُبرِّئُها ممَّا يُتَّهمُ به مثْلُ مَن جاء في حالتِها .

3- في قَولِه تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ دلالةٌ على أنَّ الإشارةَ وإنْ قامتْ في الإفهامِ مَقامَ الكلامِ فليستْ بكَلامٍ؛ لأنَّ مَريمَ كانت نَذَرتْ ألَّا تُكَلِّمَ أحدًا، فلم تُخرِجْها الإشارةُ إلى ابنِها عيسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن النَّذر، ولا عَدَّتْ كلامَها مما يُخرِجُها منه .

4- قوله تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا إنَّما أشارَتْ إليه؛ لِما تقدَّم لها مِن وعدِه أنَّه يجيبُهم عنها، ويُغنيها عن الكلامِ، وقيل: بوحيٍ مِن الله إليها .

5- قال الله تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا الذُّريَّةُ -في الغالِبِ- بَعضُها مِن بعضٍ، في الصَّلاحِ وضِدِّه .

6- في قَولِه تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ردٌّ على الغُلاةِ في المَسيحِ، وعلى الجُفاةِ النَّافينَ عنه ما أنعَمَ اللهُ به عليه .

7- قال الله تعالى حِكايةً عن عيسى حينَ تكلَّمَ في المهدِ صَبيًّا: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أنطقَه اللهُ تعالى به أوَّلًا؛ لأنَّه أوَّلُ المقاماتِ، وللرَّدِّ على مَن يَزعُمُ رُبوبيَّتَه ، ففي ذلك أعظمُ زجرٍ للنَّصارَى عن دعواهم أنَّه الله أو ابنُه أو إلهٌ معه . قال مُقاتِلٌ: (أقَرَّ على نفسِه بالعُبوديَّةِ لله عزَّ وجَلَّ أوَّلَ ما تكَلَّمَ؛ لِئَلَّا يُتَّخَذَ إلهًا) .

8- قال الله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا كلامُ عيسى هذا مِمَّا أهمَلَتْه أناجيلُ النَّصارى؛ لأنَّهم طَوَوا خبَرَ وُصولِها إلى أهلِها بعد وَضعِها، وهو طَيٌّ يُتعَجَّبُ منه، ويدُلُّ على أنَّها كُتِبَت في أحوالٍ غيرِ مَضبوطةٍ، فأطلَعَ اللهُ تعالى عليه نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

9- قال الله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا هذه الكَلِمةُ التي نَطقَ بها عيسى في أوَّلِ خِطابِه لهم، ذكرها اللهُ جَلَّ وعلا عنه في مواضِعَ أُخَرَ، كقولِه تعالى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 72] ، وقَولِه: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران: 51] ، وقَولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف: 63-64] ، وقال هنا: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم: 36] ، وقَولِه: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 117] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ .

10- قال الله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا مع أنَّ الذي اشتَدَّت الحاجةُ إليه في ذلك الوَقتِ إنَّما هو نفيُ تُهمةِ الزِّنا عن مَريمَ عليها السَّلامُ، إلَّا أنَّ عيسى عليه السلامُ لم يَنُصَّ على ذلك، وإنَّما نَصَّ على إثباتِ عُبوديَّةِ نَفسِه، كأنَّه جَعَل إزالةَ التُّهمةِ عن اللهِ تعالى أَولى من إزالةِ التُّهمةِ عن الأمِّ؛ فلهذا أوَّلَ ما تكَلَّمَ إنَّما تكَلَّمَ بها .

11- قولُه تعالى: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ...: فيه تنبيهٌ على بَراءةِ أُمِّه ممَّا اتُّهِمَتْ به؛ لأنَّه تعالى لا يخُصُّ بولدٍ موصوفٍ بالنُّبوَّةِ والخلالِ الحميدةِ إلَّا مُبرَّأةً مُصطفاةً .

12- قال المسيحُ عليه السَّلامُ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ، فبَرَكاتُ أولياءِ الله الصَّالحينَ باعتبارِ نَفعِهم للخَلقِ بدُعائِهم إلى طاعةِ اللهِ، وبدُعائِهم للخَلقِ، وبما يُنزِلُ اللهُ مِن الرَّحمةِ ويَدفَعُ من العذابِ بسَبَبِهم- حقٌّ موجودٌ .

13- في قولِ الله تعالى: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا إنْ قلْتَ: كيف أُمِرَ بذلك مع أنَّه كان طِفلًا، وخِطابُ التَّكليفِ إنَّما يكونُ بعدَ البُلوغِ والتَّمييزِ؟

فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يدُلُّ على أنَّه أوصاهُ بأداءِ ذلك في الحالِ، بل أوصاهُ في الحالِ بالأداءِ بعدَ البُلوغِ والتَّمييزِ. وقيل: إنَّ اللهَ صَيَّره عقِبَ وِلادتِه بالغًا مُميِّزًا؛ بدليلِ قولِه تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ [آل عمران: 59] ، فكما أنَّه تعالى خلَقَ آدمَ تامًّا كاملًا دَفعةً، فكذا القولُ في عيسى عليهما السَّلامُ، وهو أقرَبُ إلى ظاهرِ قولِه: مَا دُمْتُ حَيًّا، فما أوصاهُ بذلك إلَّا بعدَ بُلوغِه وتَمييزِه.

فإنْ قلْتَ: الزَّكاةُ إنَّما تجِبُ على الأغنياءِ، وعيسى لم يزَلْ فقيرًا، لابِسًا كِساءً مُدَّةَ مُكثِه في الأرضِ، مع علْمِه تعالى بحالِه؛ فكيف أوصاهُ بها؟!

فالجواب: المُرادُ بالزَّكاةِ هنا: تزكيةُ النَّفسِ وتطهيرُها من المعاصي، لا زكاةُ المالِ . وقيل: بلْ على حقيقتِها، وهذا أمْرٌ خاصٌّ به، وقرينةُ الخُصوصِ قولُه: مَا دُمْتُ حَيًّا؛ لدلالتِه على استغراقِ مُدَّةِ حياتِه بإيقاعِ الصَّلاةِ والصَّدقةِ، أي: أنْ يُصلِّيَ ويتصدَّقَ في أوقاتِ التَّمكُّنِ من ذلك؛ فالاستغراقُ المُستفادُ من قولِه: مَا دُمْتُ حَيًّا استغراقٌ عُرفيٌّ مُرادٌ به الكثرةُ .

14- عن عبدِ اللهِ بنِ واقدٍ أبي رجاء، عن بعضِ أهلِ العِلمِ، قال: (لا تجِدُ عاقًّا إلَّا وجَدْتَه جبَّارًا شقيًّا، ثمَّ قرأ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) .

15- قال اللهُ تعالى عن المسيحِ عليه السَّلامُ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُوَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا فبيَّنَ أنَّ اللهَ هو الذي جعله بَرًّا بوالِدتِه، ولم يَجعَلْه جبَّارًا شَقيًّا، وهذا صريحُ قولِ أهلِ السُّنةِ في أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خالقُ أفعالِ العِبادِ .

16- قوله: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي قد خَصَّه اللهُ تعالى بذلك بينَ قومِه، قيل: لأنَّ بِرَّ الوالدينِ كان ضعيفًا في بني إسرائيلَ يومئذٍ، وبخاصَّةٍ الوالدة؛ لأنَّها تُستضعَفُ؛ لأنَّ فرطَ حنانِها وشفقَتِها قد يُجرِّئانِ الولَدَ على التَّساهُلِ في البِرِّ بها .

17- قولُه تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي إشارةٌ إلى تنزيهِ أُمِّه عن الزِّنا؛ إذْ لو كانت زانيةً لَمَا كانَ الرَّسولُ المعصومُ مأمورًا بتعظيمِها .

18- قولهُ تعالى حكايةً عن عيسى عليه السلامُ: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ... احتَجَّ مالِكٌ -رحمه الله- بهذه الآيةِ على القَدَريَّةِ، فقال: (ما أشَدَّها على أهلِ القَدَرِ! أخبَرَ عيسى عليه السَّلامُ بما قُضِيَ مِن أمْرِه، وبما هو كائِنٌ إلى أن يموتَ) .

19- قال تعالى حكايةً عن عيسى عليه السلامُ: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا أعظَمُ أحوالِ الإنسانِ احتياجًا إلى السَّلامةِ هي هذه الأحوالُ الثَّلاثةُ، وهي يومُ الوِلادةِ، ويومُ الموتِ، ويَومُ البَعثِ؛ فجَميعُ الأحوالِ التي يُحتاجُ فيها إلى السَّلامةِ واجتِماعِ السَّعادةِ مِن قِبَلِه تعالى طَلَبَها؛ لِيَكونَ مَصونًا عن الآفاتِ والمخافاتِ في كلِّ الأحوالِ .

20- القضاءُ في قَولِه تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هو القضاءُ الكونيُّ، ويقابلُه القضاءُ الدينيُّ، كما في قَولِه تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] أي: أمَرَ .

21- قَولُه تعالى: فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيه إثباتُ القَولِ لله .

22- في قَولِه تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ دَلالةٌ على أنَّ قولَ اللهِ يكونُ بصَوتٍ مَسموعٍ؛ لِقَولِه تعالى: فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، ولَهُ صريحةٌ في توجيهِ القَولِ للمَقولِ له، ولولا أنه يَسمَعُه لَمَا صار في توجيهِه له فائدةٌ؛ ولهذا يَسمَعُه المُوَجَّهُ إليه الأمرُ، فيَمتثِلُ ويكونُ .

23- في قَولِه تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ دَلالةٌ على أنَّ قَولَ اللهِ يكونُ بحروفٍ؛ لِقَولِه تعالى: كُنْ، وهي كلمةٌ بحرفينِ، فإن قال قائل: كيف يمكِنُ أن نتصَوَّرَ هذا ونحن نقولُ: ليس كمِثْلِه شَيءٌ، وأنتم تقولون: إنَّه بحروفٍ؟

فالجوابُ: نعم، الحروفُ هي الحروفُ، لكِنَّ كيفيَّةَ الكلامِ وحقيقةَ النُّطقِ بها أو القَولِ، لا يُماثِلُ نُطقَ المَخلوقِ وقَولَه، ومِن هنا نَعرِفُ أنَّنا لا نكونُ مُمَثِّلةً إذا قلنا: إنَّه بحرفٍ وصَوتٍ مَسموعٍ؛ لأننا نقول: صَوتٌ ليس كأصواتِ المخلوقينَ، بل هو حَسَبَ ما يليقُ بعَظَمتِه وجلالِه .

24- في قولِه تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ دَلالةٌ على أنَّه ليس بينَ أمْرِ اللهِ بالتَّكوينِ وتكوُّنِه تراخٍ، بل يكونُ على الفوريَّةِ؛ وذلك لقَولِه تعالى: فَيَكُونُ بالفاءِ، والفاءُ تدلُّ على الترتيبِ والتَّعقيبِ .

25- قولُ الله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ يدُلُّ على أنَّ مُدبِّرَ النَّاسِ ومُصلِحَ أمورِهم هو اللهُ تعالى، على خِلافِ قَولِ المنَجِّمينَ: إنَّ مُدَبِّرَ النَّاسِ ومُصلِحَ أمورِهم في السَّعادةِ والشَّقاوةِ هي الكواكِبُ !

26- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فيه الإقرارُ بتَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ وتوحيدِ الإلهيَّةِ، والاستِدلالُ بالأوَّلِ على الثَّاني

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا دلَّتِ الفاءُ في فَأَتَتْ على أنَّ مريمَ جاءت أهْلَها عقِبَ انتهاءِ الكلامِ الَّذي كلَّمَها ابنُها

.

- قولُه: قَالُوا يَا مَرْيَمُ الجُملةُ مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا. وقال قومُها هذه المقالةَ توبيخًا لها ، وفي الكلامِ إيجازٌ بالحذفِ؛ أي: فلمَّا رأَوْها وابنَها قالوا: ... .

- قولُه: شَيْئًا فَرِيًّا، أي: فعَلْتِ شيئًا عظيمًا بديعًا مُنكَرًا، من: فرَى الجلدَ، أي: قطَعَه، أو جئتِ مجيئًا عجيبًا؛ عُبِّرَ عنه بالشَّيءِ؛ تحقيقًا للاستغرابِ .

2- قولُه تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا استئنافٌ لتجديدِ التَّعييرِ، وتأكيدِ التَّوبيخِ .

- وجُملةُ: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا تقريرٌ لأنَّ ما جاءت به فَرِيٌّ .

- قولُهم: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا لمَّا اتَّهموها بما اتَّهموها، نَفَوا عن أبويْها السُّوءَ لمُناسَبةِ الولادةِ، ولم ينُصُّوا على إثباتِ الصَّلاحِ -وإنْ كان نفيُ السُّوءِ يُوجِبُ الصَّلاحَ، ونفْيُ البغاءِ يُوجِبُ العِفَّةَ-؛ لأنَّهما بالنِّسبةِ إليهما نقيضانِ ، وقَصدوا بهذا الكلامِ الكنايةَ عن كونِها أتتْ بأمْرٍ ليس من شأْنِ أهْلِها، أي: أتَتْ بسُوءٍ ليس من شأْنِ أبيها، وبِغاءٍ ليس من شأْنِ أُمِّها، وخالَفَتْ سيرةَ أبويْها؛ فكانت امرأةَ سَوءٍ، وكانت بَغيًّا، وما كان أبوها امرأَ سَوءٍ، ولا كانت أُمُّها بغيًّا؛ فكانت مُبتكِرةً الفواحشَ في أهْلِها، وهم أرادوا ذَمَّها؛ فأتَوا بكلامٍ صريحُه ثناءٌ على أبويها مُقتضٍ أنَّ شأْنَها أنْ تكونَ مثْلَ أبويْها .

3- قوله تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا

- قولُه: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا لَمَّا كانت إشارتُها بمنزلةِ مُراجعةِ كلامٍ، حكَى حِوارَهم الواقعَ عقِبَ الإشارةِ بجُملةِ القولِ مفصولةً غيرَ معطوفةٍ .

- قولُه: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا الفعلُ كَانَ لإيقاعِ مضمونِ الجُملةِ في زمانٍ ماضٍ مُبهَمٍ يصلُحُ لقريبِه وبَعيدِه، وهو هاهنا لقريبِه خاصَّةً، والدَّالُّ عليه مَبْنى الكلامِ، وأنَّه مسوقٌ للتَّعجُّبِ؛ فعلى هذا يكونُ: نُكَلِّمُ للحالِ الحاضرةِ . أو يكونُ نُكَلِّمُ حكايةَ حالٍ ماضيةٍ، أي: كيفَ عُهِد قبلَ عيسَى أن يكلِّمَ النَّاسُ صبيًّا في المهدِ فيما سلَف مِن الزمانِ حتَّى نكلِّمَ هذا ؟!

- قولُه: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا إنكارٌ وتهكُّمٌ بها، أي: إنَّ مَن كان في المهدِ يُربَّى لا يُكلَّمُ ؛ فالاستفهامُ للإنكارِ؛ أنْكَروا أنْ يُكلِّموا مَن ليس من شأْنِه أنْ يتكلَّمَ، وأنْكَروا أنْ تُحيلَهم على مُكالمتِه، أي: كيف نترقَّبُ منه الجوابَ، أو كيف نُلْقي عليه السُّؤالَ؛ لأنَّ الحالتينِ تَقتضيانِ التَّكلُّمَ ؟!

- وزيادةُ فعْلِ الكونِ في مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ المظروفيَّةِ في المهدِ مِن هذا الَّذي أُحيلوا على مُكالمتِه، وذلك مُبالغةٌ منهم في الإنكارِ، وتعجُّبٌ من استخفافِها بهم، ففعْلُ (كان) زائدٌ للتَّوكيدِ؛ ولذلك جاء بصِيغَةِ الماضي؛ لأنَّ (كان) الزَّائدةَ تكونُ بصِيغَةِ الماضي غالبًا ، وهذا على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ.

4- قوله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا استئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ من سياقِ النَّظمِ الكريمِ؛ كأنَّه قيل: فماذا كان بعدَ ذلك؟ فقيل: قال عيسى عليه السَّلامُ... .

- والتَّعبيرُ في آَتَانِيَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا بصِيغَةِ الماضي؛ إمَّا باعتبارِ ما سبَقَ في القضاءِ المحتومِ، أو بجعْلِ المُحقَّقِ وُقوعُه لا مَحالةَ واقعًا .

5- قوله تعالى عن عيسى: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُوَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا

- قولُه: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا كونُه مُبارَكًا أعمُّ من كونِه نبيًّا عُمومًا وجْهِيًّا ؛ فلم يكُنْ في قولِه: وَجَعَلَنِي نَبِيًّا غُنْيةٌ عن قولِه: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا .

- قولُه: أَيْنَ مَا كُنْتُ شرطٌ، وجزاؤُه محذوفٌ تقديرُه: جعَلني مُبارَكًا، وحُذِفَ؛ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه .

- والتَّعميمُ الَّذي في قولِه: أَيْنَ مَا كُنْتُ تعميمٌ للأمكنةِ، فهو حيثُما حَلَّ تحُلُّ معه البركةُ .

- قولُه: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فيه استعمالُ صِيغَةِ الماضِي في (أوصاني)، باعتبارِ ما سبَقَ في القدَرِ المحتومِ، أي: قدَّرَ وصيَّتي بالصَّلاةِ والزَّكاةِ .

6- قوله تعالى عن عيسى: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا

- في قولِه: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا التَّعريفُ في (السَّلام) قيل: إنَّه للعهْدِ الذِّكري، والمعنى: ذلك السَّلامُ المُوجَّهُ إلى يحيى في المواطنِ الثَّلاثةِ مُوجَّهٌ إليَّ. وقيل: اللَّامُ للجنسِ والتَّعريضِ باللَّعنِ على أعدائِه، فإذا قال: جنْسُ السَّلامِ عليَّ خاصَّةً؛ فقد عَرَّضَ بأنَّ ضِدَّه عليكم، ونظيرُه قولُه تعالى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه: 47] ، يعني: أنَّ العذابَ على مَن كذَّبَ وتولَّى، وكان المقامُ مَقامَ مُناكرةٍ وعِنادٍ، فهو مَئِنَّةٌ لنحوِ هذا من التَّعريضِ . وقيل: جيءَ بالسَّلامِ هنا مُعرَّفًا باللَّامِ الدَّالَّةِ على الجنسِ؛ مُبالغةً في تعلُّقِ السَّلامِ به، حتَّى كأنَّ جنْسَ السَّلامِ بأجمَعِه عليه، وهذا مُؤذِنٌ بتفضيلِه على يحيى؛ إذ قيل في شأنِه: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ. ويجوزُ جعْلُ اللَّامِ للعهدِ، أي: سلامٌ إليه، وهو كنايةٌ عن تَكريمِ اللهِ عبْدَه بالثَّناءِ عليه في الملأِ الأعلى وبالأمْرِ بكَرامتِه، ومُؤذِنٌ أيضًا بتمهيدِ التَّعريضِ باليهودِ؛ إذ طَعَنوا فيه وشَتَموه في الأحوالِ الثَّلاثةِ، فقالوا: وُلِدَ مِن زِنًا، وقالوا: مات مَصلوبًا، وقالوا: يُحشَرُ مع الملاحدةِ والكفرةِ؛ لأنَّهم يَزعمون أنَّه كفَرَ بأحكامٍ من التَّوراةِ !

7- قوله تعالى: ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ

- قولُه: ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ... اعتراضٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قبْلَه ، أي: الَّذي تقدَّمَ نعْتُه هو عيسَى بنُ مريمَ لا ما يصِفُه النَّصارى، وهو تكذيبٌ لهم فيما يصِفونَه على الوجْهِ الأبلغِ والطَّريقِ البُرهانيِّ؛ حيث جعَلَه موصوفًا بأضدادِ ما يصِفونَه، ثمَّ عكَسَ الحُكمَ ؛ فهو اعتراضٌ بين الجُملِ المقولةِ في قولِه: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: 30] مع قولِه: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [مريم: 36] ، أي: ذلك المذكورُ هو عيسى بنُ مريمَ لا كما تزعُمُ النَّصارى واليهودُ. والإشارةُ لتمييزِ المذكورِ أكمَلَ تَمييزٍ؛ تعريضًا بالرَّدِّ على اليهودِ والنَّصارى جميعًا؛ لأنَّهم لمَّا وصَفوه بغيرِ ما هو صِفَتُه جُعِلوا بمنزلةِ مَن لا يعرِفونَه، فاجْتُلِبَ اسمُ الإشارةِ؛ ليتميَّزَ الموصوفُ أكمَلَ تَمييزٍ عندَ الَّذين يُريدونَ أنْ يعرِفوهُ حقَّ معرفتِه. والمقصودُ بالتَّمييزِ تمييزُ صِفاتِه الحقيقيَّةِ عن الصِّفاتِ الباطلةِ الَّتي ألْصَقوها به، لا تمييزُ ذاتِه عن الذَّواتِ؛ إذ ليستْ ذاتُه بحاضرةٍ وقْتَ نُزولِ الآيةِ، أي: تلك حقيقةُ عيسى عليه السَّلامُ وصِفَتُه . فقوله: ذَلِكَ إشارةٌ إلى من فُصِّلَت نُعوتُه الجليلةُ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للدَّلالةِ على عُلوِّ مَرتبتِه، وبُعدِ مَنزلتِه، وامتيازِه بتلك المناقبِ الحميدةِ عن غيرِه، ونُزولِه منزلةَ المُشاهَدِ المحسوسِ .

8- قوله تعالى: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

- جُملةُ: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ تقريرٌ لمعنى العُبوديَّةِ، أو تفصيلٌ لمضمونِ جُملةِ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ؛ فتكونُ بمنزلةِ بَدلِ البعضِ أو الاشتمالِ منها؛ اكتفاءً بإبطالِ قولِ النَّصارى بأنَّ عيسى ابنُ اللهِ؛ لأنَّه أهمُّ بالإبطالِ؛ إذ هو تقريرٌ لعُبوديَّةِ عيسى، وتنزيهٌ للهِ تعالى عمَّا لا يليقُ بجَلالِ الأُلوهيَّةِ مِن اتِّخاذِ الولدِ، ومن شائبةِ الشِّركِ، ولأنَّه القولُ النَّاشئُ عن الغُلوِّ في التَّقديسِ، فكان فيما ذُكِرَ من صفاتِ المدحِ لعيسى ما قد يُقوِّي شُبهتَهم فيه بخلافِ قولِ اليهودِ؛ فقد ظهَرَ بُطلانُه بما عُدِّدَ لعيسى من صفاتِ الخيرِ .

- وصِيغَةُ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ تُفيدُ انتفاءَ الولدِ عنه تعالى بأبلغِ وجهٍ؛ لأنَّ لامَ الجُحودِ تُفيدُ مُبالغةَ النَّفيِ، وأنَّه ممَّا لا يُلاقي وُجودَ المنفيِّ عنه، ولأنَّ في قولِه: أَنْ يَتَّخِذَ إشارةً إلى أنَّه لو كان له ولدٌ، لكان هو خلَقَه واتَّخذَه، فلم يَعْدُ أنْ يكونَ من جُملةِ مخلوقاتِه. وجُملةُ: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بيانٌ لجُملةِ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ؛ لإبطالِ شُبهةِ النَّصارى .

- ولَمَّا كان المقامُ يقتَضي النَّفيَ العامَّ، أكَّدَه بـ (مِن) فقال: مِنْ وَلَدٍ .

9- قوله تعالى عن عيسى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ

- قولُه: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ عُطِفَ على قولِه: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، فيكونُ محكيًّا، وقولُه: ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إلى يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ جُمَلَ اعتراضٍ، أخبَرَ اللهُ تعالى بها رسولَه عليه السَّلامُ .

- وجُملةُ: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ تذييلٌ وفذلكةٌ لِما سبَقَه. والإشارةُ إلى مضمونِ ما تقدَّمَ ، والمُرادُ بالصِّراطِ المُستقيمِ: اعتقادُ الحقِّ، شُبِّهَ بالصِّراطِ المُستقيمِ على التَّشبيهِ البليغِ؛ شُبِّهَ الاعتقادُ الحقُّ في كونِه موصلًا إلى الهُدى بالصِّراطِ المُستقيمِ في إيصالِه إلى المكانِ المقصودِ باطمئنانِ بالٍ، وعُلِمَ أنَّ غيرَ هذا كبُنَيَّاتِ الطَّريقِ، مَن سلَكَها ألْقَت به في المخاوفِ والمتالفِ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وقال في الزُّخرفِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [الزخرف: 64] بزيادةِ (هو)؛ لأنَّه تعالى ذكَرَ قصَّةَ عيسى عليه السَّلامُ هنا مُستوفاةً، فأغْنى ذلك عن التَّأكيدِ، بخلافِه ثَمَّ .

==============

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (37-40)

ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ

غريب الكلمات :

 

الْأَحْزَابُ: أي: اليهودُ والنَّصارى، والحزبُ: الجماعةُ مِن الناسِ، أو: جماعةٌ فيها غِلَظٌ، والطَّائفةُ مِن كلِّ شيءٍ حزبٌ، وأصلُ (حزب): يدُلُّ على تَجَمُّعِ الشَّيءِ

.

مَشْهَدِ: أَيْ: شُهودِ، والشَّهادةُ: الحضورُ مع المشاهدةِ، إمَّا بالبصرِ، أو بالبصيرةِ، وأصلُ (شهد): يدلُّ على حضورٍ وعِلْمٍ وإعلامٍ .

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ: أي: ما أشَدَّ سَمْعَهم، وما أنفَذَ بَصَرَهم! وأصلُ (سمع): يدُلُّ على إيناسِ الشَّيءِ بالأُذُنِ، وأصلُ (بصر): يدُلُّ على إبصارِ الشَّيءِ، والعِلمِ به

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يبيِّنُ الله سبحانه موقفَ أهلِ الكتابِ مِن عيسى عليه السلامُ، فيقول تعالى: فاختَلَفت اليهودُ والنَّصارى في أمرِ عيسى عليه السَّلامُ؛ فمنهم غالٍ فيه وهم النَّصارى، ومنهم جافٍ عنه وهم اليهودُ، قالوا: إنَّه -حاشاه- ابنُ زنا؛ فوَيلٌ للَّذينَ كَفَروا مِن شُهودِ يومِ القيامةِ العَظيمِ الهَولِ، ما أشدَّ سَمعَهم وبصَرَهم يومَ القيامةِ! لكنِ الظَّالِمونَ اليومَ في هذه الدُّنيا في ضلالٍ واضحٍ عن الحَقِّ.

ثم يأمرُ الله تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يخوِّفَ المشركينَ مِن أهوالِ يومِ القيامةِ، فيقول تعالى: وأنذِرْ -يا مُحمَّدُ- النَّاسَ يومَ النَّدامةِ حينَ يُقضى الأمرُ، ويُحكَمُ بينَ العبادِ، وهم اليومَ في هذه الدُّنيا في غَفلةٍ عمَّا أُنذِروا به، وهم لا يُؤمِنونَ باللهِ ولا بالبَعثِ والجَزاءِ في الآخرةِ.

ثم يذكرُ سبحانه ما يدلُّ على كمالِ قدرتِه، وشمولِ مُلكِه، فيقولُ: إنَّا نحن الوارِثونَ للأرضِ ومَن عليها، وإلينا مَصيرُهم، فنُجازيهم على أعمالِهم.

تفسير الآيات:

 

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37).

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ.

أي: فاختلف اليهودُ والنَّصارى في أمرِ عيسى، فزعم اليَهودُ أنَّه ابنُ زِنا، وزعم بعضُ النَّصارى أنَّه ابنُ اللهِ، وزعم بعضُهم أنَّه ثالِثُ ثلاثةٍ، وزعَمَ بَعضُهم أنَّه اللهُ -تعالى اللهُ عمَّا يَقولونَ عُلُوًّا كبيرًا- وقال آخَرونَ في شأنِه القَولَ الحَقَّ: أنَّه عبدُ اللهِ ورَسولُه

.

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ.

أي: فوَيلٌ للكافرينَ الذين اعتَقَدوا في عيسى مُعتَقَدًا باطِلًا، ولِغَيرِهم من الكُفَّارِ، مِن حُضورِهم وشُهودِهم يومَ القيامةِ المُمتَلئَ بالشدائدِ والأهوالِ، المُشتَمِلَ على الجَزاءِ بالأعمالِ، وما سيُلاقونَه فيه مِن العَذابِ والنَّكالِ .

كما قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 63 - 65] .

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38).

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا.

أي: ما أسمَعَ الكافرينَ، وما أبصَرَهم للحَقِّ الذي كانوا يُنكِرونَه، يومَ قُدومِهم علينا يومَ القيامةِ !

كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12] .

لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.

أي: لكِنِ الكافِرونَ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكَذِبِ والافتراءِ على اللهِ: هم اليومَ في الدُّنيا في ضَلالٍ واضحٍ عن الحَقِّ، لا يَسمَعونَه ولا يُبصِرونَه ولا يَعقِلونَه !

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه عقَّب تَحذيرَهم من عذابِ الآخرةِ، والنِّداءَ على سُوءِ ضَلالِهم في الدُّنيا، بالأمرِ بإنذارِهم؛ استِقصاءً في الإعذارِ لهم .

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ.

أي: وخوِّفِ النَّاسَ يومَ القيامةِ -يا مُحمَّدُ- يومَ يَندَمُ الظَّالِمونَ على تَفريطِهم في الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وعلى ما فاتهم مِن الثَّوابِ، وعلى ما يُصيبُهم مِن العذابِ .

كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 166- 167] .

وقال سُبحانَه: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء: 46] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 33] .

وقال سُبحانه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 56] .

إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ.

أي: حينَ فُرغَ مِن الحسابِ والحُكمِ بينَ العبادِ، فيَدخُلُ المُؤمِنونَ الجنَّةَ، ويَدخُلُ الكافِرونَ النَّارَ، ويُذبَحُ الموتُ بين الفَريقَينِ .

عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُؤتَى بالموتِ كهَيئةِ كَبشٍ أملَحَ، فيُنادي مُنادٍ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيَشرَئِبُّونَ ويَنظُرونَ، فيقولُ: هل تَعرِفونَ هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموتُ، وكُلُّهم قد رآه، ثمَّ ينادي: يا أهلَ النَّارِ، فيَشرَئِبُّونَ ويَنظُرونَ، فيقولُ: وهل تَعرِفونَ هذا؟ فيقولونَ: نعم، هذا الموتُ، وكُلُّهم قد رآه، فيُذبَحُ، ثُمَّ يقولُ: يا أهلَ الجنَّةِ خُلودٌ فلا مَوتَ، ويا أهلَ النَّارِ خُلودٌ فلا موتَ، ثمَّ قرأ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، وهؤلاء في غَفلةِ أهلِ الدُّنيا وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)) .

وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رَضِي الله عنهما، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا صار أهلُ الجنَّةِ إلى الجنَّةِ، وصار أهلُ النَّارِ إلى النَّارِ، أُتيَ بالموتِ حتى يُجعَلَ بين الجنَّةِ والنَّارِ، ثمَّ يُذبَحُ، ثم يُنادي مُنادٍ: يا أهلَ الجنَّةِ لا موتَ، ويا أهلَ النَّارِ لا موتَ، فيزدادُ أهلُ الجنَّةِ فَرَحًا إلى فَرَحِهم، ويزدادُ أهلُ النَّارِ حُزنًا إلى حُزنِهم)) .

وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ.

أي: والحالُ أنَّ الكافرينَ في الدُّنيا في غَفلةٍ وذُهولٍ عَمَّا أُنذِروا به، وعمَّا ينتَظِرُهم مِن العذابِ يومَ القيامةِ، فهم مُنشَغِلونَ بدُنياهم، مُعرِضونَ عَمَّا يُرادُ منهم .

كما قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 1 - 3] .

وقال سُبحانَه: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء: 97] .

وقال عزَّ وجلَّ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22] .

وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.

أي: وهم في الدُّنيا لا يُؤمِنونَ باللهِ، ولا بالبَعثِ والجَزاءِ في الآخرةِ .

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40).

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.

أي: قال اللهُ تعالى: إنِّي أرِثُ وَحدي الأرضَ وكُلَّ ما عليها بعدَ مَوتِ الخلائِقِ، ولا يَملِكُها أحدٌ سواي .

كما قال تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [الحجر: 23] .

وقال سُبحانَه: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] .

وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ.

أي: وإلينا لا إلى غَيرِنا يُرَدُّ العِبادُ يومَ القيامةِ فيُبعَثونَ، وبأعمالِهم يُجازَونَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال الله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ والإنذارُ هو الإعلامُ بالمَخُوفِ على وَجهِ التَّرهيبِ، والإخبارُ بصِفاتِه، وأحقُّ ما يُنذَرُ به ويُخَوَّفُ به العِبادُ يومَ الحَسرةِ حينَ يُقضى الأمرُ، فيُجمَعُ الأوَّلونَ والآخِرونَ في مَوقِفٍ واحدٍ، ويُسأَلونَ عن أعمالِهم، فمَن آمنَ باللهِ واتَّبَع رُسُلَه؛ سَعِدَ سَعادةً لا يشقى بعدَها، ومَن لم يؤمِنْ باللهِ ويتَّبِعْ رُسُلَه؛ شَقِيَ شَقاوةً لا سعادةَ بَعدَها، وخَسِرَ نَفسَه وأهلَه، فحينئذٍ يتحَسَّرُ ويندَمُ ندامةً تتقَطَّعُ منها القُلوبُ، وتنصَدِعُ منها الأفئدةُ، وأيُّ حسرةٍ أعظمُ مِن فواتِ رضا الله وجنَّتِه، واستحقاقِ سخطِه والنارِ، على وجهٍ لا يتمكَّنُ مِن الرُّجوعِ؛ ليَستأنفَ العملَ، ولا سبيلَ له إلى تغييرِ حالِه بالعودِ إلى الدُّنيا

 

؟!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بعدَ قَولِه: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ولم يقُلْ: (فويلٌ لهم) ليعودَ الضَّميرُ إلى الأحزابِ؛ لأنَّ مِن الأحزابِ المُختَلِفينَ طائفةً أصابت الصَّوابَ، ووافَقَت الحَقَّ، فقالت في عيسى: إنَّه عبدُ اللهِ ورَسولُه، فآمَنوا به واتَّبَعوه، فهؤلاء مُؤمِنونَ غيرُ داخِلينَ في هذا الوَعيدِ؛ فلهذا خَصَّ اللهُ بالوعيدِ الكافرينَ

.

2- قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ لِمَن كَذَب على اللهِ وافترى، وزعَم أنَّ له وَلدًا، ولكِنْ أنظَرَهم تعالى إلى يومِ القيامةِ وأجَّلَهم؛ حِلمًا وثِقةً بقُدرتِه عليهم؛ فإنَّه الذي لا يَعجَلُ على مَن عصاه، كما جاء في الصَّحيحينِ: ((إنَّ اللهَ لَيُمْلي للظَّالمِ حتى إذا أخَذه لم يُفلِتْه. ثمَّ قرأ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] )) . وفي الصَّحيحَينِ أيضًا عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((ما أحدٌ أصبَرَ على أذًى سَمِعه مِنَ الله؛ يَدَّعونَ له الولدَ، ثمَّ يُعافيهم ويرزُقُهم! )) . وما أشار اللهُ إليه مِن أنَّه لم يُعاجِلْهم بالعذابِ، وأنَّه يُؤخِّرُ عذابَهم إلى الوَقتِ المَحدَّدِ لذلك؛ أشار له في مواضِعَ أُخَرَ، كقولِه تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم: 42] ، وقَولِه تعالى: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود: 104] ، وقَولِه تعالى: وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

 

[العنكبوت: 53] .

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ

- الفاءُ في قولِه: فَاخْتَلَفَ لترتيبِ ما بعدَها على ما قبْلَها؛ تَنبيهًا على سُوءِ صنيعِهم بجعْلِهم ما يُوجِبُ الاتِّفاقَ منشَأً للاختلافِ؛ فإنَّ ما حُكِيَ مِن مقالاتِ عيسى عليه السَّلامُ مع كونِها نُصوصًا قاطعةً في كونِه عبدَه تعالى ورسولَه، قدِ اختلفَتِ اليهودُ والنَّصارى بالتَّفريطِ والإفراطِ

.

- وقولُه: مِنْ بَيْنِهِمْ مُتعلِّقٌ بـ (اخْتَلَفَ)، ومِنْ حرفُ توكيدٍ، أي: اخْتَلفوا بينهم .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وفي سُورةِ (الزُّخرفِ) قال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٦٥]؛ فخَصَّ الأُولى بلفظِ (كَفَروا) والثَّانيةَ (ظَلَموا)، وكِلْتا الآيتينِ في قصَّةِ عيسى عليه السَّلامُ وتوعُّدِ مَن أثبَتَ للهِ تعالى ولدًا؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ الكفرَ أَبلغُ مِن الظُّلمِ، وأشدُّ قُبحًا، وقصةُ عيسى في هذه السُّورةِ مشروحةٌ، وفيها ذِكرُ نسبتِهم إِيَّاه إلى الله تعالى، حينَ قال: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، فذُكِر بلفظِ الكفرِ، وأما قصتُه فى سورةِ الزُّخرفِ فمجمَلةٌ، فوصَفهم بلفظٍ دونَه، وهو الظُّلمُ، فكان وصْفُ مَن ذُكِرَ بالكُفرِ في المَحلِّ الَّذي اسْتُوفِيَ فيه قصَّةُ عيسى، أنسَبَ بالمحلِّ الَّذي أُجْمِلَ فيه قصَّتُه .

2- قوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

- قولُه: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ تعجُّبٌ من حِدَّةِ سمْعِهم وأبصارِهم يومئذٍ، ومعناه: أنَّ أسماعَهم وأبصارَهم يومَ القيامةِ جديرٌ بأنْ يُتعجَّبَ منها بعدَ أنْ كانوا في الدُّنيا صُمًّا عُميًا ، فقولُه: أَسْمِعْ وقولُه: وَأَبْصِرْ صِيغتَا تعجُّبٍ .

- ومعمولُ السَّمعِ والبصرِ محذوفٌ؛ لقصدِ التَّعميمِ؛ ليشمَلَ كلَّ ما يصِحُّ أنْ يُسْمَعَ وأنْ يُبْصَرَ، وهذا كنايةٌ عن التَّهديدِ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ، وعكَسَ في (الكهفِ) فقال: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [الكهف: 26]؛ لأنَّ معناه هنا: أنَّه تعالى ذكَرَ قصصَ الأنبياءِ، فاسْمَعْها وتدبَّرْها، واستعمِلِ النَّظرَ فيها ببصيرتِك، ومعناه في (الكهفِ): أنَّه تعالى له غيبُ السَّمواتِ والأرضِ، فاجعَلْ بصيرتَك في الفكرِ في مَخلوقاتِه، وتدبَّرْها بحيثُ تصِلُ إلى معرفتِه، واسمَعْ لصفاتِه ووحِّدْهُ، فناسَبَ تَقديمُ السَّمعِ هنا، والبصرِ ثَمَّ .

- والاستدراكُ الَّذي أفادهُ قولُه: لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ راجِعٌ إلى ما يُفيدُه التَّقييدُ بالظَّرفِ في قولِه: يَوْمَ يَأْتُونَنَا من ترقُّبِ سُوءِ حالِهم يومَ القيامةِ الَّذي يَقْتضي الظَّنَّ بأنَّهم الآنَ في سَعةٍ مِن الحالِ؛ فأُفيدَ أنَّهم مُتلبِّسونَ بالضَّلالِ المُبينِ، وهو من سُوءِ الحالِ لهم؛ لِما يَتْبَعُه من اضطرابِ الرَّأيِ، والْتِباسِ الحالِ على صاحبِه، وتلك نُكتةُ التَّقييدِ بالظَّرفِ في قولِه: الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ .

- قولُه: لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فيه إظهارٌ في موضعِ الإضمارِ؛ إشعارًا بأنَّهم ظَلَموا أنفُسَهم أشَدَّ الظُّلمِ؛ حيث أغْفَلوا الاستماعَ والنَّظرَ حينَ ينفَعُهم ، وتنبيهًا على الوصفِ الذي أحلَّهم ذلك المحلَّ . ونُكتتُه: التَّخلُّصُ إلى خُصوصِ المُشرِكين؛ لأنَّ اصطلاحَ القُرآنِ إطلاقُ الظَّالمينَ على عبدةِ الأصنامِ، وإطلاقُ الظُّلمِ على عبادةِ الأصنامِ . وقيل: الظَّالِمُونَ عُمومٌ يَندرِجُ فيه هؤلاء الأحزابُ الكفَّارُ وغيرُهم من الظَّالمينَ . وسجَّلَ على إغفالِهم بأنَّه ضَلالٌ بيِّنٌ .

3- قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

- قولُه: يَوْمَ الْحَسْرَةِ أُضيفَ اليومُ إلى الحسرةِ؛ لكثرةِ ما يحدُثُ فيه من تحسُّرِ المُجرِمين على ما فرَّطوا فيه من أسبابِ النَّجاةِ؛ فكان ذلك اليومُ كأنَّه ممَّا اختَصَّتْ به الحسرةُ، فهو يومُ حَسرةٍ بالنِّسبةِ إليهم، وإنْ كان يومَ فرحٍ بالنِّسبةِ إلى الصَّالحينَ . وقيل: يتحسَّرُ المُسِيءُ على إساءتِه، والمُحسِنُ على قِلِّةِ إحسانِه . وقيل: اللَّامُ في يَوْمَ الْحَسْرَةِ للجنسِ؛ لأنَّ هذه حسراتٌ كثيرةٌ في مواطنَ عدَّةٍ، ومنها يومُ الموتِ، ومنها وقتُ أخْذِ الكتابِ بالشِّمالِ، وغيرُ ذلك .

- قولُه: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ على احتمالِ أنَّ معناه: تُمِّمَ أمْرُ اللهِ بزَجِّهِم في العذابِ، فلا مُعَقِّبَ له؛ فهو كِنايةٌ عن سُرعةِ صُدورِ الأمْرِ بتعذيبِهم، أي: قُضِيَ أمْرُهم على حينِ أنَّهم في غفْلةٍ، أي: بَهْتٍ .

- قولُه: وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فيه اختيارُ صِيغَةِ المُضارعِ ﭜ دونَ صِيغَةِ اسمِ الفاعلِ (غيرُ مُؤمِنين)؛ لِما يدُلُّ عليه المُضارِعُ من استمرارِ الفعلِ وقتًا فوقتًا؛ استحضارًا لذلك الاستمرارِ العجيبِ في طُولِه وتمكُّنِه .

4- قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ

- قولُه: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ تذييلٌ لخَتْمِ القصَّةِ على عادةِ القُرآنِ في تَذييلِ الأغراضِ عندَ الانتقالِ منها إلى غيرِها، وأفاد هذا التَّذييلُ التَّعريفَ بتَهديدِ المُشرِكين، بأنَّهم لا مفَرَّ لهم من الكونِ في قبْضةِ الرَّبِّ الواحدِ الَّذي أشْرَكوا بعبادتِه بعضَ ما على الأرضِ، وأنَّ آلهتَهم ليست بمَرجُوَّةٍ لنفْعِهم؛ إذ ما هي إلَّا ممَّا يرِثُه اللهُ .

- وفي قولِه: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ تأكيدٌ بحرْفِ التَّوكيدِ (إِنَّ)؛ لدفْعِ الشَّكِّ؛ لأنَّ المُشرِكين يُنكِرون الجزاءَ، فهم يُنكِرون أنَّ اللهَ يرِثُ الأرضَ ومَن عليها بهذا المعنى، وكذلك ضميرُ الفصلِ نَحْنُ يُفيدُ التَّأكيدَ .

- قولُه: وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ فيه تَقديمُ وَإِلَيْنَا على قولِه: يُرْجَعُونَ؛ لإفادةِ قصْرِ الرُّجوعِ إليه سُبحانه وحدَه، أي: لا يَرجِعون إلى غيرِنا. ومَحملُ هذا التَّقديمِ بالنِّسبةِ إلى المُسلِمين الاهتمامُ، ومَحملُه بالنِّسبةِ إلى المُشرِكين القصْرُ

=================

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (41-50)

ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ

غريب الكلمات :

 

صِدِّيقًا: الصِّدِّيقُ: هو المُصدِّقُ قولَه بفِعلِه، أو صدَق بقولِه واعتقادِه، وحقَّق صِدْقَه بفِعلِه، وقيل: هو مَن كثُر منه الصِّدقُ، وقيل: هو مَنْ لا يَكذِبُ قطُّ، أو مَن لا يَتأتَّى منه الكذبُ؛ لتعوُّدِه الصِّدقَ، وأصلُ (صدق): يدلُّ على قوَّةٍ في الشيءِ قولًا وغيرَه

.

سَوِيًّا: مستقيمًا مستويًا، والسَّوِيُّ يُقالُ فيما يُصانُ عن الإفراطِ والتَّفريطِ مِن حيثُ القدرُ والكيفيَّةُ، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ، واعتِدالٍ بينَ شَيئينِ .

عَصِيًّا: أي: عاصيًا أو عاقًّا، وأصلُه هنا يدلُّ على الفُرقةِ .

لَأَرْجُمَنَّكَ: الرَّجْمُ: الرَّمْيُ بالرِّجامِ، أي: الحجارةِ، والرجمُ: القتلُ؛ لأنَّهم كانوا يقتلونَ بالرَّجمِ، والرَّجمُ: الشَّتمُ والسَّبُّ؛ لأنَّه رمْيٌ بالقولِ القبيحِ، وأصلُ الرَّجمِ: يدلُّ على الرَّميِ بقولٍ كان أو بفعلِ .

مَلِيًّا: أي: حينًا طَويلًا، والإملاءُ: الإمدادُ، ومنه قيل للمُدَّة الطويلةِ: مُلاوةٌ مِن الدَّهرِ، وأصلُ (ملو): يدُلُّ على امتدادٍ في شَيءٍ؛ زَمانٍ أو غيرِه .

حَفِيًّا: أي: لطيفًا بارًّا كثيرَ الإحسانِ، والتحَفِّي: التلَطُّفُ في القَولِ والفِعلِ، وأصلُ (حفي): يدُلُّ على المُبالغةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يذكرُ الله تعالى جانبًا مِن قصةِ إبراهيمَ -عليه السلامُ-، ودعوتِه لأبيه، وما دار بينَهما مِن حوارٍ، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- لقومِك في هذا القرآنِ قِصَّةَ إبراهيمَ -عليه السَّلامُ-: إنَّه كان كثيرَ الصِّدقِ، وكان نبيًّا رفيعَ المنزلةِ؛ إذ قال لأبيه: يا أبتِ، لماذا تَعبُدُ ما لا يسمَعُ ولا يُبصِرُ ولا يدفَعُ عنكَ شيئًا من دونِ الله؟! يا أبتِ، إنَّ الله أعطاني مِن العِلمِ ما لم يُعطِك، فاتَّبِعْني إلى ما أدعوك إليه أُرشِدْك طريقًا مُستقيمًا. يا أبتِ، لا تُطِعِ الشَّيطانَ فيما يُزَيِّنُ لك مِن الكُفرِ والشِّركِ؛ إنَّ الشَّيطانَ كان عاصيًا لله، مُستَكبرًا عن طاعتِه. يا أبتِ، إني أخافُ أن يمَسَّك عذابٌ مِن الرَّحمنِ إن أصرَرْتَ على كُفرِك، فتكونَ للشَّيطانِ قَرينًا في النَّارِ.

فقال له أبوه: أمُعرِضٌ أنت عن عبادةِ آلهتي يا إبراهيمُ؟ لئِنْ لم تنتَهِ عن سَبِّها لأرجُمَنَّك، واذهَبْ عني زمانًا طويلًا. قال إبراهيمُ لأبيه: سلامٌ عليك منِّي، فلا ينالُك منِّي ما تَكرهُ، وسوف أدعو اللهَ لك بالمغفرةِ؛ إنَّ ربِّي كان رَحيمًا لطيفًا مُعتَنيًا بي، يُجيبُني إذا دَعَوتُه، وأفارِقُكم وآلهَتَكم التي تَعبُدونَها مِن دونِ الله، وأدعو ربِّي مُخلِصًا؛ عسى ألَّا أشقى بدُعاءِ ربي، وإفرادي له بالعبادة.

ثم يبيِّنُ الله سبحانه ما ترتَّب على اعتزالِ إبراهيمَ للشركِ والمشركينَ فيقولُ: فلمَّا فارقهم وآلهَتَهم التي يعبدونَها مِن دونِ اللهِ رزَقْناه إسحاقَ ويعقوبَ بنَ إسحاقَ، وجعَلْناهما نبيَّينِ، ووهَبْنا لهم جميعًا -إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ- مِن رحمَتِنا فضلًا كثيرًا، وعِلمًا نافِعًا، وأعمالًا صالحةً، ورزقًا واسعًا، وذريَّةً كثيرةً، إلى غيرِ ذلك، وجعَلْنا لهم ذِكرًا حَسَنًا، وثناءً جميلًا باقيًا في النَّاسِ.

تفسير الآيات:

 

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّن تعالى ضَلالَ مَن أثبَتَ مَعبودًا غيرَ اللهِ حَيًّا عاقِلًا فاهِمًا، وهم النَّصارى؛ تكلَّمَ في ضَلالِ مَن أثبَتَ مَعبودًا غيرَ اللهِ جمادًا، وهم عَبَدةُ الأوثانِ

؛ فذكَرَ قِصَّةَ إبراهيمَ -عليه السَّلامُ- مع أبيه؛ تذكيرًا للعَربِ بما كان إبراهيمُ عليه مِن توحيدِ الله، وتبيينِ أنَّهم سالِكو غيرِ طَريقِه ، فقال:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ.

أي: واتلُ -يا محمَّدُ- في القرآنِ خبَرَ إبراهيمَ عليه الصَّلاة والسَّلامُ، على قَومِك الذين هم مِن ذريَّتِه، ويدَّعون كَذِبًا أنَّهم على مِلَّتِه، ويتمَسَّكونَ بتَقليدِ آبائِهم، فهم يَعبُدونَ الأصنامَ والحالُ أنَّ أعظَمَ آبائِهم -إبراهيمَ- كان حنيفًا مُسلِمًا ينهَى أباه عن الشِّركِ، وعبادةِ الأصنامِ .

كما قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ [الشعراء: 69] .

إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا.

أي: إنَّ إبراهيمَ كان كثيرَ الصِّدقِ في أقوالِه وأعمالِه ومواعيدِه، بليغَ التَّصديقِ بكُلِّ ما هو أهلٌ لأن يُصَدَّقَ به، وكان نبيًّا رفيعَ القَدرِ .

كما قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] .

وقال سُبحانَه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] .

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42).

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ.

أي: اذكُرْ -يا مُحمَّدُ- إبراهيمَ حين قال لأبيه: يا أبتِ، لِماذا تعبُدُ أصنامًا لا تَسمَعُ ولا تُبصِرُ شَيئًا ؟!

وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا.

أي: ولا تدفَعُ الأصنامُ عنك -يا أبتِ- أيَّ ضَررٍ، ولا تنفَعُك بأيِّ شَيءٍ، فلِمَ تَعبُدُها ؟!

يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43).

يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ.

مناسبتُها لما قبلَها:

لما سألَه عن العلَّةِ في عبادةِ الصنمِ، ولا يمكنُ أن يجِدَ جوابًا؛ انتقَل معه إلى إخبارِه بأنَّه قد جاءَه مِن العلمِ ما لم يأتِه .

وأيضًا لَمَّا نبَّهَه على أنَّ ما يَعبُدُه لا يَستَحِقُّ العبادةَ، بل لا تجوزُ عبادتُه؛ لِنَقصِه مُطلَقًا، ثمَّ نَقصِه عن عابِدِه، ولن يكونَ المعبودُ دونَ العابدِ أصلًا، وكان أقَلُّ ما يَصِلُ إليه بذلك مقامَ الحَيرةِ- نبَّهَه على أنَّه أهلٌ للهِدايةِ، فقال :

يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ.

أي: يا أبتِ، إنِّي قد أُعطيتُ مِن العِلمِ بالحَقِّ ما لم تُعْطَه .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: 51] .

فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا.

أي: فاقبَلْ نَصيحتي، واعبُدِ اللهَ وَحدَه، ولا تُشرِكْ به شيئًا؛ أُرشِدْك طريقًا مُستقيمًا لا اعوِجاجَ فيه، مُوصِلًا إلى نيلِ المطلوبِ، والنَّجاةِ مِن المرهوبِ .

يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44).

يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ.

أي: يا أبتِ، لا تُطِعِ الشَّيطانَ فيما يُزَيِّنُ لك مِن الكُفرِ والشِّركِ، فتكونَ عابدًا له .

كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 60، 61].

إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا.

أي: لأنَّ الشَّيطانَ عاصٍ للرَّحمنِ، مُستكبِرٌ عن طاعتِه، فلا تتَّبِعْه فتكونَ عاصيًا لله مِثلَه .

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما قرَّر له أنَّ عبادتَه الأصنامَ اتِّباعٌ لأمرِ الشَّيطانِ؛ انْتَقَل إلى تَوَقُّعِ حرمانِه مِنْ رحمةِ اللَّهِ بأنْ يَحِلَّ به عذابٌ مِنَ اللَّهِ، فحَذَّره مِنْ عاقبةِ أنْ يصيرَ مِن أولياءِ الشَّيطانِ .

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ.

أي: يا أبتِ إنِّي أخافُ -إن أقمْتَ على الشِّركِ، وأصرَرْتَ عليه- أن يُصيبَك عذابٌ واقِعٌ مِن الرَّحمنِ .

فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا.

أي: فتكونَ من أولياءِ الشَّيطانِ، ومُقارِنًا له في النِّيرانِ، ويتبرَّأَ منك الرَّحمنُ، فلا تكونَ لك نصرةٌ أبدًا .

كما قال تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف: 30].

وقال سُبحانه: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 63] .

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46).

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ.

أي: قال أبوه: أتُعرِضُ -يا إبراهيمُ- عن عبادةِ آلهَتي، وتَترُكُها إلى غيرِها ؟!

لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ.

أي: لئِنْ لم تَترُكْ -يا إبراهيمُ- نُصحي، وذِكرَ آلهتي بسُوءٍ لأرجُمَنَّك .

وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا.

أي: وابتَعِدْ عني زَمنًا طويلًا .

قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47).

قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ.

أي: قال إبراهيمُ لأبيه: أنتَ في أمانٍ وسَلامةٍ مني، فلا ينالُك مني سوءٌ .

كما قال تعالى في صفةِ المؤمنينَ: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63] .

وقال سُبحانَه: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص: 55] .

سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي.

أي: سأطلُبُ لك مِن ربِّي أن يستُرَ ذُنوبَك، ويتجاوَزَ عن مُؤاخَذتِك بها .

كما حكى تعالى قَولَ إبراهيمَ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: 86].

إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا.

أي: إنِّي عَهِدتُ رَبِّي لطيفًا، مُعتَنيًا بي، شديدَ البِرِّ والإكرامِ لي، كثيرَ الإحسانِ إليَّ، وقد هداني وعوَّدَني إجابةَ دُعائي .

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48).

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.

أي: وأجتَنِبُكم وآلهَتَكم التي تَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ .

وَأَدْعُو رَبِّي.

أي: وأعبُدُ رَبِّي وَحدَه، وأدعوه مُخلِصًا له لا أُشرِكُ به شيئًا .

عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا.

أي: أرجو ألَّا أشقَى بدُعائي لربِّي، وإفرادي له بالعبادةِ، بل أرجو أن يجيبَني، ويتقَبَّلَ أعمالي ويُسعِدَني .

كما قال تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] .

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49).

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.

أي: فلمَّا اجتنَبَ إبراهيمُ قَومَه، واجتنَب عبادةَ أصنامِهم وهاجَر؛ رزَقْناه ابنَه إسحاقَ وحفيدَه يعقوبَ .*

كما قال تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 99، 100].

وقال سُبحانَه: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ [الأنبياء: 71- 72].

وقال عزَّ وجلَّ: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] .

وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا.

أي: وكلًّا مِن إسحاقَ ويعقوبَ جعَلْناه نبيًّا .

وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50).

وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا.

أي: وأعطَينا إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ عِلمًا نافِعًا، وأعمالًا صالحةً، ورزقًا واسعًا، وذريَّةً كثيرةً، وشرفًا عظيمًا، وغيرَ ذلك من الخيراتِ .

كما قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27] .

وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا.

أي: وجعَلْنا لهم ثناءً حَسَنًا، وذِكرًا جميلًا عاليًا صادقًا، مُستَمِرًّا مَنشورًا بين النَّاسِ إلى يومِ القيامةِ .

كما قال تعالى حاكيًا دُعاءَ إبراهيمَ عليه السلامُ: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ [الشعراء: 84] .

وقال سُبحانَه: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ

 

[ص: 45، 46].

الفوائد التربوية:

 

1- تأمَّلْ قولَ إبراهيمَ الخليلِ -عليه السَّلامُ- لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ابتدأ خطابَه بذِكْرِ أُبُوَّتِه الدَّالَّةِ على توقيرِه، ولم يُسَمِّه باسمِه، ثم أخرجَ الكلامَ معه مَخْرَجَ السُّؤالِ، فقال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ولم يقُلْ: «لا تعبُدْ»، ثمَّ قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فلم يقُلْ له: «جاهلٌ لا عِلْمَ عندك!»، بل عَدَل عن هذه العبارةِ إلى ألطفِ عبارةٍ تدلُّ على هذا المعنى، فقال: جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ، فأتَى بصيغةٍ تقتضي أنَّ عندي وعندك علمًا، وأنَّ الذي وصَل إليَّ لم يصلْ إليك، ولم يأتِك، فينبغي لك أن تتبعَ الحجةَ، وتنقادَ لها، ثم قال: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، وهذا مِثْلُ قولِ موسى لفرعونَ: وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ [النازعات: 19] ، ثمَّ قال: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا فنسَبَ الخوفَ إلى نفْسِه دون أبيه، كما يَفعَلُ الشفيقُ الخائفُ على مَن يُشْفِقُ عليه، وقال: يَمَسَّكَ فذكَر لفظَ المَسِّ الذي هو ألطفُ مِن غيره، ثم نَكَّرَ العذابَ، ثمَّ ذَكَرَ الرحمنَ، ولم يقلِ: «الجبارُ» ولا «القهارُ»، فأيُّ خطابٍ ألطفُ وألينُ مِن هذا

؟!

2- نصيحةُ الابنِ لأبيه أو لأمِّه أو لأقاربه ليست عقوقًا للوالِدَينِ، ولا قطيعةً للأقاربِ، بل هذا مِن بِرِّ الوالِدَينِ وصِلةِ الأقاربِ؛ فالواجِبُ على الإنسانِ أن يبَرَّ والدَيه بنصيحتِهما، وأن يصِلَ أقارِبَه بنَصيحتِهم، كما قال الله تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، وإذا غَضِبَ الوالدانِ أو الأقاربُ مِن هذه النَّصيحةِ فغَضَبُهم عليهم، وليس عليك منهم شيءٌ، ولا يُعَدُّ إغضابُهم بالنصيحةِ قطيعةً ولا عقوقًا، ولكن يجِبُ عليك أن تكون حكيمًا في النصيحةِ، بأن تتحرَّى الأحوالَ التي يكونون بها أقرَبَ إلى الإجابةِ والقَبولِ، وألَّا تُعَنِّفَ وتَسُبَّ وتَشتُمَ؛ لأنَّ هذا قد ينفِّرُ من تُوجِّهُ إليهم النصيحةَ، فإذا أتيتَ بالتي هي أحسَنُ مُخلِصًا لله عزَّ وجلَّ مُمتَثِلًا لأمرِه، ناصِحًا لعباده؛ كان في هذا خيرٌ كثيرٌ، ولا يضُرُّك غَضَبُ مَن غَضِبَ، ولنا في قِصَّةِ إبراهيمَ عليه السلامُ مع أبيه أُسوةٌ، لما نصَحه إبراهيمُ عليه السلامُ متلطفًا في خطابِه، ماذا قال له أبوه: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا فهل تجدُ غضبًا أشدَّ مِن هذا الغضبِ؟! يقول لابنِه: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ويقولُ: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا طويلًا، فماذا قال له: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا فاتَّخِذْ من هذه القصةِ عبرةً .

3- قال الله تعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ... إلى قَولِه تعالى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا فرتَّب نبيُّ الله إبراهيمُ صلَّى الله عليه وسلَّم كلامَه في غايةِ الحُسنِ؛ لأنَّه نبَّه أوَّلًا على ما يدُلُّ على المنعِ مِن عبادةِ الأوثانِ، ثمَّ أمَرَه باتِّباعِه فيما يدعو إليه مِن التوحيدِ ونبذِ الشركِ، ثمَّ نبَّه على أنَّ طاعةَ الشيطانِ غيرُ جائزةٍ في العقولِ، ثمَّ ختم الكلامَ بالوعيدِ الزَّاجِرِ عن الإقدامِ على ما لا ينبغي، ثمَّ إنَّه عليه السَّلامُ أورد هذا الكلامَ الحَسَنَ مَقرونًا باللُّطفِ والرِّفقِ؛ فإنَّ قَولَه في مُقَدِّمةِ كُلِّ كلامٍ: يَا أَبَتِ، دليلٌ على شِدَّةِ الحُبِّ، والرَّغبةِ في صَونِه عن العِقابِ، وإرشادِه إلى الصوابِ، وختَم الكلامَ بقَولِه: إِنِّي أَخَافُ وذلك يدُلُّ على شِدَّةِ تعَلُّقِ قَلبِه بمصالحِه، وإنَّما فعَل ذلك لوجوهٍ:

أحدُها: قضاءً لحَقِّ الأبوَّةِ على ما قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] . والإرشادُ إلى الدينِ مِن أعظَمِ أنواعِ الإحسانِ، فإذا انضاف إليه رعايةُ الأدبِ والرِّفقِ، كان ذلك نورًا على نور.

وثانيها: أنَّ الهاديَ إلى الحقِّ لا بدَّ أن يكونَ رفيقًا لطيفًا، يورِدُ الكلامَ لا على سبيلِ العُنفِ؛ لأنَّ إيرادَه على سبيلِ العُنفِ يصير كالسبَّبِ في إعراضِ المُستَمِع، فيكونُ ذلك في الحقيقةِ سَعيًا في الإغواءِ .

4- سمَّى اللهُ تعالى طاعةَ الشَّيطانِ في معصيتِه عِبادةً للشَّيطانِ، كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس: 60] ، وقال حاكيًا عن خليلِه إبراهيمَ أنَّه قال لأبيه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، فمن لم يحقِّقْ عُبوديَّةَ الرَّحمنِ وطاعتَه، فإنَّه يعبُدُ الشَّيطانَ بطاعتِه له، ولم يَخلُصْ مِن عبادةِ الشَّيطانِ إلَّا مَن أخلَصَ عبوديَّةَ الرَّحمنِ، وهم الذين قال اللهُ فيهم: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر: 42] ؛ فهم الذين حَقَّقوا قَولَ: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» وأخلصوا في قَولِها، وصَدَّقوا قَولَهم بفِعلِهم، فلم يلتَفِتوا إلى غَيرِ الله؛ محبَّةً ورجاءً، وخشيةً وطاعةً وتوكُّلًا، وهم الذين صَدَقوا في قَولِ: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» وهم عبادُ الله حقًّا، فأمَّا مَن قال: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» بلِسانِه، ثمَّ أطاع الشَّيطانَ وهواه في مَعصيةِ الله ومخالفتِه؛ فقد كَذَّب فِعلُه قَولَه، ونَقَص مِن كَمالِ توحيدِه بقَدرِ مَعصيةِ اللهِ في طاعةِ الشَّيطانِ والهوى. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50] وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 26] .

5- قال الله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا في ذِكرِ إضافةِ العِصيانِ إلى اسمِ الرَّحمنِ إشارةٌ إلى أنَّ المعاصيَ تمنَعُ العبدَ مِن رَحمةِ اللهِ، وتُغلِقُ عليه أبوابَها، كما أنَّ الطاعةَ أكبَرُ الأسبابِ لِنَيلِ رَحمتِه .

6- قولُه: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ التَّعبيرُ بالخوفِ الدَّالِّ على الظَّنِّ دونَ القطعِ: تأدُّبٌ مع اللهِ تعالى بألَّا يُثْبِتَ أمرًا فيما هو مِن تصرُّفِ اللهِ، وإبقاءٌ للرَّجاءِ في نفْسِ أبيه؛ لينظُرَ في التَّخلُّصِ من ذلك العذابِ بالإقلاعِ عن عبادةِ الأوثانِ .

7- قال الله تعالى: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا في ذلك تَسليةٌ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم، وتأسيةٌ فيما كان يلقَى مِن الأذى، ويُقاسي مِن قَومِه مِن العناءِ، ومِن عَمِّه أبي لهبٍ مِن الشَّدائِدِ والبلايا: بأعظَمِ آبائِه وأقرَبِهم به شَبَهًا .

8- قَولُ الله تعالى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ هذا دليلٌ على جوازِ مُتاركةِ المنصوحِ إذا ظهَر منه اللَّجاجُ .

9- قَولُ الله تعالى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ هذا دليلٌ على أنَّه تَحسُنُ مُقابلةُ الإساءةِ بالإحسانِ ، فقولُه: سَلَامٌ عَلَيْكَ توديعٌ ومُتارَكةٌ على طريقةِ مُقابلةِ السَّيِّئةِ بالحسنةِ، أي: لا أُصِيبُك بمكروهٍ بعْدُ، ولا أُشافِهُك بما يُؤذيك . ويجوزُ أنْ يكونَ قد دعا له بالسَّلامةِ؛ استمالةً له، ودليلُ ذلك أنَّه وعَدَه الاستغفارَ . وبادرَهُ بالسَّلامِ قبْلَ الكلامِ الَّذي أعقَبَه به؛ إشارةً إلى أنَّه لا يَسوؤه ذلك الهجْرُ في ذاتِ اللهِ تعالى ومَرضاتِه .

10- قال الله تعالى حاكيًا عن إبراهيمَ: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ قال بعضُ الحُكَماءِ: (من هاجر لطَلَبِ رِضا اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أكرمَه الله عزَّ وجلَّ في الدُّنيا والآخرةِ)، كما أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ هاجر مِن قَومِه في طلَبِ رِضا الله تعالى عنه، فأكرَمَه الله تعالى ، وعوَّضه أولادًا مؤمنينَ أنبياءَ، فما خسِر على اللهِ أحدٌ ترَك الكفَّارَ الفسقةَ لوجهِه ، واللَّهُ سبحانَه يَجْزي العبدَ على عملِه بما هو مِن جنسِ عملِه، ومَن تَرَك لِلَّهِ شيئًا عَوَّضه اللَّهُ خيرًا منه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا النبيُّ يجِبُ أن يكونَ صادِقًا في كلِّ ما أخبَرَ عنه؛ لأنَّ الله تعالى صَدَّقَه، ومَن يُصَدِّقْه اللهُ فهو صادِقٌ، وإلَّا لزِمَ الكَذِبُ في كلامِ الله تعالى؛ فيلزمُ مِن هذا كَونُ الرَّسولِ صادِقًا في كُلِّ ما يقولُ، ولأنَّ الرُّسُلَ شُهَداءُ اللهِ على النَّاسِ، على ما قال اللهُ تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] ، والشَّهيدُ إنَّما يُقبَلُ قَولُه إذا لم يكُنْ كاذِبًا، فلمَّا ثَبَت أنَّ كُلَّ نبيٍّ يجِبُ أن يكونَ صِدِّيقًا، ولا يجِبُ في كلِّ صِدِّيقٍ أن يكونَ نبيًّا- ظهَرَ بهذا قُربُ مَرتبةِ الصِّدِّيقِ مِن مَرتبةِ النبيِّ؛ فلهذا انتقَلَ مِن ذِكرِ كَونِه صِدِّيقًا إلى ذِكرِ كَونِه نبيًّا

.

2- في قَولِه تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ، وقَولِه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى وقَولِه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ، وقَولِه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ دَلالةٌ على أنَّ تذكرةَ قَصصِ الأنبياءِ المتقَدِّمينَ هو ممَّا أمَرَ اللهُ به المؤمنينَ .

3- قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا فتدرَّج الخَليلُ عليه السَّلامُ بدعوة أبيه، بالأسهلِ فالأسهَلِ، فأخبَرَه بعِلمِه، وأنَّ ذلك مُوجِبٌ لاتِّباعِك إياي، وأنَّك إن أطعتَني اهتديتَ إلى صراطٍ مُستَقيمٍ، ثمَّ نهاه عن عبادةِ الشَّيطانِ، وأخبَرَه بما فيها من المضارِّ، ثمَّ حَذَّره عقابَ اللهِ ونِقمَتَه إن أقام على حالِه، وأنَّه يكونُ وليًّا للشَّيطانِ .

4- قال الله تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، فوَصَف الأوثانَ بصِفاتٍ ثلاثٍ، كُلُّ واحدةٍ منها قادِحةٌ في الإلهيَّةِ، وبيانُ ذلك مِن أوجُهٍ:

أحدها: أنَّ العبادةَ غايةُ التعظيمِ؛ فلا يَستَحِقُّها إلَّا مَن له غايةُ الإنعامِ، وهو الإلهُ الذي منه أصولُ النِّعَمِ وفُروعُها؛ قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [مريم: 36] ، وقال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة: 28] الآية، وكما يُعلَمُ بالضَّرورةِ أنَّه لا يجوزُ الاشتِغالُ بشُكرِها ما لم تكُنْ مُنعِمةً، وجَبَ ألَّا يجوزَ الاشتِغالُ بعبادتِها.

ثانيها: أنَّها إذا لم تَسمَعْ ولم تُبصِرْ، ولم تميِّزْ مَن يُطيعُها عَمَّن يَعصيها، فأيُّ فائدةٍ في عبادتِها؟! وهذا ينبِّهُك على أنَّ الإلهَ يجِبُ أن يكونَ مَوصوفًا بصِفاتِ الكَمالِ، عالِمًا بكُلِّ المعلوماتِ؛ حتى يكونَ العبدُ آمِنًا مِن وُقوعِ الغَلَطِ للمَعبودِ.

ثالثها: أنَّ الدُّعاءَ هو العبادةُ؛ فالوَثَنُ إذا لم يَسمَعْ دُعاءَ الدَّاعي، فأيُّ مَنفعةٍ في عبادتِه؟! وإذا كانت لا تُبصِرُ بتقَرُّبِ مَن يتقَرَّبُ إليها، فأيُّ مَنفعةٍ في ذلك التقَرُّبِ؟!

رابعها: أنَّ السَّامِعَ المُبصِرَ، الضَّارَّ النَّافِعَ: أفضَلُ مِمَّن كان عاريًا عن كلِّ ذلك، والإنسانُ موصوفٌ بهذه الصِّفاتِ؛ فيكونُ أفضَلَ وأكمَلَ مِن الوَثَنِ، فكيف يليقُ بالأفضَلِ عِبادةُ الأخَسِّ؟!

خامسها: إذا كانت لا تنفَعُ ولا تضُرُّ، فلا يُرجَى منها مَنفَعةٌ، ولا يُخافُ مِن ضَرَرِها، فأيُّ فائدةٍ في عبادتِها؟!

سادسها: إذا كانت لا تحفَظُ أنفُسَها عن الكَسرِ والإفسادِ، على ما حكى اللهُ تعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ أنَّه كَسَرَها، وجعَلَها جُذاذًا؛ فأيُّ رجاءٍ للغيرِ فيها ؟!

5- قال الله تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا عاب الوَثَنَ مِن ثلاثةِ أوجُهٍ؛ أحَدُها: لا يسمَعُ، وثانيها: لا يُبصِرُ. وثالثها: لا يغني عنك شيئًا، كأنه قال له: بل الإلهيَّةُ ليست إلَّا لربي؛ فإنَّه يسمَعُ ويُجيبُ دَعوةَ الداعي ويُبصِرُ، كما قال: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] ، ويقضي الحوائِجَ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل: 62] . فالآيةُ فيها دَلالةٌ على أنَّ مَنْ لا يتَّصِفُ بصِفاتِ الكَمالِ لا يصلحُ أنْ يكونَ ربًّا ولا إلهًا .

6- في قَولِه تعالى عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ردٌّ على المعتزلةِ والجَهميَّةِ، إذْ لا يُنْكِرُ إبراهيمُ على أبيه ما لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ إلَّا ومعبودُه يُبصِرُ ويَسمعُ، ويُغني عن كلِّ شَيءٍ .

7- قال تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلامُ: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا تَفريعُ أمْرِه بأنْ يتَّبِعَه على الإخبارِ بما عندَه من العلْمِ: دليلٌ على أنَّ أحقِّيَّةَ العالِمِ بأنْ يُتَّبعَ مركوزةٌ في غريزةِ العُقولِ، لم يزَلِ البشرُ يتقصَّونَ مظانَّ المعرفةِ والعلْمِ؛ لجلْبِ ما ينفَعُ، واتِّقاءِ ما يضُرُّ .

8- قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلامُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا فقال: لِلرَّحْمَنِ ولم يقُلْ: للجَبَّارِ؛ لئلَّا يُتوَهَّمَ أنَّه ما أملَى لعاصِيه مع جَبَروتِه إلَّا للعَجزِ عنه -سُبحانَه وتعالى- .

9- قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلامُ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا إنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لإمعانِه في الإخلاصِ لم يذكُرْ مِن جناياتِ الشَّيطانِ إلَّا كَونَه عاصيًا لله تعالى، ولم يَذكُرْ مُعاداتَه لآدمَ عليه السَّلامُ، كأنَّ النَّظَرَ في عِظَمِ ما ارتكبَه من ذلك العِصيانِ غَمَّى فِكرَه، وأطبَقَ على ذِهنِه. وأيضًا فإنَّ مَعصيةَ اللهِ تعالى لا تَصدُرُ إلَّا عن ضَعيفِ الرَّأي، ومَن كان كذلك كان حقيقًا ألَّا يُلتفَتَ إلى رأيِه، ولا يُجعَلَ لِقَولِه وَزنٌ .

10- قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلامُ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا كلُّ مَن كان الشَّيطانُ يُزَيِّنُ له الكُفرَ والمعاصيَ فيَتَّبِعُه في ذلك في الدنيا، فلا وليَّ له في الآخرةِ إلَّا الشَّيطانُ .

11- قال الله تعالى حكايةً عن والدِ إبراهيمَ: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا بيَّنَ الله جلَّ وعلا هنا أنَّ إبراهيمَ لَمَّا نصَح أباه النَّصيحةَ المذكورةَ، مع ما فيها مِن الرِّفقِ واللِّينِ، وإيضاحِ الحَقِّ، والتحذيرِ مِن عبادةِ ما لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ، ومِن عذابِ الله تعالى ووَلايةِ الشَّيطانِ- خاطَبَه هذا الخِطابَ العَنيفَ، وسمَّاه باسمِه لا بلَفظِ البُنُوَّة المذكِّرِ بالشَّفقةِ والعَطفِ؛ زيادةً في الإشارةِ إلى المقاطعةِ وتَوابِعِها، فلم يقُلْ له: (يا بُنَيَّ) في مقابلةِ قولِه له: يَا أَبَتِ، وأنكَر عليه أنَّه راغِبٌ عن عبادةِ الأوثانِ !

12- لمَّا كان في قولِه: لَأَرْجُمَنَّكَ فظاظةٌ وقساوةُ قلْبٍ، قابَلَه إبراهيمُ عليه السلامُ بالدُّعاءِ له بالسَّلامِ والأمْنِ، ووعَدَه بالاستغفارِ؛ قضاءً لحقِّ الأُبوَّةِ، وإنْ كان قد صدَرَ منه إغلاظٌ .

13- في قولِ الله تعالى حاكيًا عن إبراهيمَ: عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا إشارةٌ إلى أنَّهم شَقُوا بعبادةِ الأصنامِ؛ لأنَّها لا تنفَعُهم، ولا تجيبُ دُعاءَهم .

14- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا دَلالةٌ على أنَّ طاعةَ المؤمنِ تُثمِرُ له الثَّوابَ في الدُّنيا والآخرةِ .

15- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا دَلالةٌ على أنَّ الشَّيءَ إذا سُمِّيَ به شيءٌ، جاز أن يُنقلَ إلى غيرِه؛ لِسَعةِ اللِّسانِ؛ إذِ اللسانُ المعروفُ عند العامَّةِ هو الذي يُنطَقُ به، وقد نُقِلَ في هذا الموضِعِ إلى الثَّناءِ الحَسَنِ .

16- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا دَلالةٌ على أنَّ الثَّناءَ الحَسَنَ حِليةٌ جميلةٌ يُلبِسُ اللهُ عبدَه المؤمِنَ التقيَّ؛ لأنَّ لِسَانَ صِدْقٍ في هذا الموضِعِ هو الثناءُ الحَسَنُ، وإذا كان اللهُ بجودِه جعَلَه في عِداد النِّعَم، ومَدَحَ به مَن جعَلَه فيه، لم يَجُزْ للمؤمِنِ أنْ يكرَهَه، وكان له أن يفرحَ به، ويَعُدَّه مِن كِبارِ نِعَمِ اللهِ عليه .

17- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا المرادُ باللِّسانِ هاهنا: الثَّناءُ الحَسَنُ. فلمَّا كان الصِّدقُ باللِّسانِ، وهو محَلُّه، أطلَقَ اللهُ سُبحانَه ألسِنةَ العبادِ بالثَّناءِ على الصَّادقِ؛ جزاءً وِفاقًا، وعبَّرَ به عنه .

18- مِن أعظَمِ نِعَمِ اللهِ على العَبدِ: أن يَرفَعَ له بينَ العالَمينَ ذِكرَه، ويُعلِيَ قَدْرَه؛ ولهذا خَصَّ أنبياءَه ورُسُلَه مِن ذلك بما ليس لِغَيرِهم، كما قال تعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص: 45، 46]، أي: خصَصْناهم بخَصيصةٍ، وهو الذِّكرُ الجَميلُ الذي يُذكَرونَ به في هذه الدَّارِ -وهذا على قَولٍ في الآيةِ- وهو لِسانُ الصِّدقِ الذي سأله إبراهيمُ الخَليلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ حيث قال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ [الشعراء: 84]، وقال سُبحانَه وتعالى عنه وعن بنيه: وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 50] ، وقال لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] ؛ فأتباعُ الرُّسُلِ لهم نَصيبٌ مِن ذلك بحَسَبِ مِيراثِهم مِن طاعتِهم ومُتابعتِهم، وكُلُّ مَن خالفَهم فإنَّه بَعيدٌ مِن ذلك بحسَبِ مُخالفتِهم ومَعصيتِهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا

- في قولِه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ قُدِّمَ ذِكْرُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه لمَّا كان قد جاء بالحَنيفيَّةِ وخالَفَها العربُ بالإشراكِ، وهم ورثةُ إبراهيمَ، كان لتَقديمِ ذِكْرِه على بقيَّةِ الأنبياءِ الموقعُ الجليلُ مِن البلاغةِ. وفي ذلك تَسليةٌ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما لقِيَ من مُشرِكي قومِه؛ لمُشابهةِ حالِهم بحالِ قومِ إبراهيمَ

.

- وجُملةُ: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ مُوجبِ الأمرِ؛ فإنَّ وصْفَه -عليه السَّلامُ- بذلك مِن دواعي ذِكْرِه . وهو تعليلٌ للاهتمامِ بذكْرِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ في التِّلاوةِ .

- وفيه تأكيدُ هذا الخبرِ بحرفِ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ بتَحقيقِه زيادةً في الثَّناءِ عليه .

- وقولُه: نَبِيًّا خبرٌ آخرُ لـ (كان) مُقيِّدٌ للأوَّلِ مُخصِّصٌ له، ولعلَّ هذا التَّرتيبَ للمُبالغةِ في الاحترازِ عن توهُّمِ تَخصيصِ الصِّدِّيقيَّةِ بالنُّبوَّةِ؛ فإنَّ كلَّ نَبيٍّ صِدِّيقٌ .

2- قوله تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا

- قولُه: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ فيه افتتاحُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ خِطابَه أباهُ بندائِه يَا أَبَتِ، مع أنَّ الحضرةَ مُغنيةٌ عن النِّداءِ؛ قصدًا لإحضارِ سمْعِه وذِهْنِه لتلقِّي ما سيُلْقِيه إليه .

- وقد كُرِّرتْ يَا أَبَتِ أربعَ مرَّاتٍ؛ لأنَّه ذكَرَها للاستعطافِ ، وقيل: تَكرارُ النِّداءِ أربَعَ مرَّاتٍ اقتضاهُ مَقامُ استنزالِه إلى قَبولِ الموعظةِ؛ لأنَّها مقامُ إطنابٍ .

- قولُه: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا استفهَمَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ عن السَّببِ الحاملِ لأبيه على عِبادةِ الصَّنمِ، وهو مُنتفٍ عنه السَّمعُ والبصرُ، والإغناءُ عنه شيئًا؛ تَنبيهًا على شُنْعةِ الرَّأيِ، وقُبْحِه وفسادِه في عِبادةِ مَن انتفَتْ عنه هذه الأوصافُ .

- قولُه: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا كِنايةٌ عن التَّعجيزِ عن إبداءِ المسؤولِ عنه؛ فهو مِن التَّوريةِ في مَعنيينِ يَحتمِلُهما الاستفهامُ .

- ومعمولُ يَسْمَعُ ويُبْصِرُ مَنسيٌّ ولا يُنْوَى، أي: ما ليس به استماعٌ ولا إبصارٌ؛ لأنَّ المقصودَ نفْيُ هاتينِ الصِّفتينِ دونَ تَقييدٍ بمُتعلِّقٍ .

3- قوله تعالى: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا

- قولُه: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ في إعادةِ نِدائِه بوصْفِ الأُبُوَّةِ: تأكيدٌ لإحضارِ الذِّهنِ، ولإمحاضِ النَّصيحةِ المُستفادِ من النِّداءِ الأوَّلِ .

- وقال: مِنَ الْعِلْمِ على سَبيلِ التَّبعيضِ، أي: شيء من العلْمِ ليس معك .

4- قوله تعالى: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا

- قولُه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ فيه إعادةُ النِّداءِ في قولِه: يَا أَبَتِ؛ لزيادةِ تأكيدِ ما أفادهُ النِّداءُ الأوَّلُ والثَّاني. وفيه: إيجازٌ بالحذفِ؛ حيث إنَّ الكلامَ معناهُ: لا تعبُدِ الأصنامَ؛ لأنَّ اتِّخاذَها مِن تَسويلِ الشَّيطانِ للَّذين اتَّخذوها ووضَعُوها للنَّاسِ، وعِبادتَها مِن وَساوسِ الشَّيطانِ للَّذين سَنُّوا سننَ عِبادتِها، ومِن وَساوسِه للنَّاسِ الَّذين أطاعوهم في عِبادتِها، فمَن عبَدَ الأصنامَ فقد عبَدَ الشَّيطانَ، وكفَى بذلك ضَلالًا معلومًا. وفي هذا تَبغيضٌ لعبادةِ الأصنامِ؛ لأنَّ في قرارةِ نُفوسِ النَّاسِ بُغْضَ الشَّيطانِ، والحذَرَ من كيْدِه .

- قولُه: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا تعليلٌ لمُوجِبِ النَّهيِ، فهو تَعليلٌ للنَّهيِ عن عبادتِه وعبادةِ آثارِ وَسوستِه بأنَّه شديدُ العصيانِ للرَّبِّ واسعِ الرَّحمةِ. وتأكيدٌ له ببَيانِ أنَّه مُستعصٍ على ربِّك الَّذي أنعَمَ عليك بفُنونِ النِّعمِ، ولا ريبَ أنَّ المُطيعَ للعاصي عاصٍ، وكلُّ مَن هو عاصٍ حقيقٌ بأنْ يَسترِدَّ منه النِّعمَ، وينتقِمَ منه .

- وفي قولِه: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا بعدَ قولِه: لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ إظهارُ اسمِ الشَّيطانِ في مَقامِ الإضمارِ؛ إذ لم يقُلْ: (إنَّه كان للرَّحمنِ عصيًّا)؛ لإيضاحِ إسنادِ الخبرِ إلى المُسنَدِ إليه، ولزيادةِ التَّنفيرِ من الشَّيطانِ؛ لأنَّ في ذِكْرِ صَريحِ اسْمِه تَنبيهًا إلى النُّفرةِ منه، ولتكونَ الجُملةُ موعظةً قائمةً بنفْسِها .

- وجاء لفظُ (الرَّحمنِ) هنا؛ تَنبيهًا على سَعةِ رحمتِه، وأنَّ مَن هذا وصْفُه هو الَّذي يَنْبغي أنْ يُعبَدَ ولا يُعْصى، ولإظهارِ كَمالِ شَناعةِ عصيانِه؛ حيث عصى مَن هذه صِفَتُه، وارتكَبَ من ذلك ما طرَدَه مِن هذه الرَّحمةِ .

- والاقتصارُ على ذِكْرِ عصيانِه من بينِ سائرِ جِناياتِه؛ لأنَّه مِلاكُها، أو لأنَّه نَتيجةُ مُعاداتِه لآدمَ عليه السَّلامُ وذُرِّيتِه؛ فتَذكيرُه داعٍ لأبيه إلى الاحترازِ عن مُوالاتِه وطاعتِه .

- وذكْرُ وصْفِ عَصِيًّا الَّذي هو من صِيَغِ المُبالغةِ في العصيانِ، مع زيادةِ فعْلِ (كان)؛ للدَّلالةِ على أنَّه لا يُفارِقُ عِصيانَ ربِّه، وأنَّه مُتمكِّنٌ منه، فلا جرَمَ أنَّه لا يأمُرُ إلَّا بما يُنافي الرَّحمةَ، أي: بما يُفْضي إلى النِّقمةِ، ولذلك اخْتِيرَ وصْفُ الرَّحمنِ من بينِ صفاتِ اللهِ تعالى؛ تَنبيهًا على أنَّ عِبادةَ الأصنامِ تُوجِبُ غضَبَ اللهِ، فتُفْضي إلى الحرمانِ من رَحمتِه، فمَن كان هذا حالَهُ فهو جديرٌ بألَّا يُتَّبَعَ .

5- قوله تعالى: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا خوَّفَه إبراهيمُ سُوءَ العاقبةِ، وتأدَّبَ معه؛ إذ لم يُصرِّحْ بلُحوقِ العذابِ به، بل أخرَجَ ذلك مَخرجَ الخائفِ، وأتى بلفظِ (المَسِّ) الَّذي هو ألطَفُ من المُعاقبةِ، ونكَّرَ (العذابَ)، ورتَّبَ على مَسِّ العذابِ ما هو أكبرُ منه، وهو ولايةُ الشَّيطانِ، كما قال في مُقابلِ ذلك: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] . وقيل: في الكلامِ تَقديمٌ وتأخيرٌ، والتَّقديرُ: إنِّي أخافُ أنْ تكونَ وليًّا في الدُّنيا للشَّيطانِ، فيمسَّكَ في الآخرةِ عذابٌ من الرَّحمنِ. وقيل: لا يتعيَّنُ أنَّ العذابَ يكونُ في الآخرةِ، بل يَحْتَمِلُ أنْ يُحمَلَ العذابُ على الخِذلانِ من اللهِ، فيَصيرَ مُواليًا للشَّيطانِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ مَسُّ العذابِ في الدُّنيا بأنْ يُبْتَلى على كُفرِه بعذابٍ في الدُّنيا، فيكون ذلك العذابُ سببًا لِتَماديه على الكُفرِ، وصَيرورتِه إلى ولايةِ الشَّيطانِ إلى أنْ يُوافى على الكُفْرِ .

- وكلمةُ (مِن) مُتعلِّقةٌ بمُضمرٍ وقَعَ صِفةً للعذابِ، مُؤكِّدةٌ لِما أفادهُ التَّنكيرُ في (عذاب) من الفخامةِ الذَّاتيَّةِ بالفخامةِ الإضافيَّةِ .

- وذِكْرُ الخوفِ والمَسِّ وتَنكيرُ العذابِ؛ إمَّا للمُجامَلةِ، وإبرازِ الاعتناءِ بأمْرِه، أو لخفاءِ العاقبةِ .

- قولُه: أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ عبَّرَ عن الجلالةِ بوصْفِ (الرَّحمنِ)؛ للإشارةِ إلى أنَّ حُلولَ العذابِ ممَّن شأْنُه أنْ يَرْحَمَ إنَّما يكونَ لفظاعةِ جُرمِه إلى حدِّ أنْ يَحرِمَه مِن رَحمتِه مَن شأْنُه سَعةُ الرَّحمةِ .

- قولُه: فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا كُنِّي بالولايةِ عن المُقارَنةِ في المصيرِ .

- وهذه الآياتُ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ إلى قولِه: فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا بلغَتْ ذِروةَ البلاغةِ، وانطوَتْ على معاجزَ تُذهِلُ العُقولَ؛ فمنها الاستدراجُ ، وحسنُ التَّرتيبِ والاتِّساق، وكلُّ هذا ظاهرٌ في هذه الآياتِ: فحين أراد إبراهيمُ أنْ ينصَحَ أباهُ ويَعِظَه فيما كان مُتورِّطًا فيه من الخطَأِ العظيمِ، والارتكابِ الشَّنيعِ؛ رتَّبَ الكلامَ معه في أحسنِ اتِّساقٍ، مع استعمالِ المُجامَلةِ واللُّطفِ والرِّفقِ، والأدبِ الجميلِ والخُلقِ الحسنِ؛ وذلك أنَّه طلَبَ منه أوَّلًا: العلَّةَ في خطئِه؛ لأنَّ المعبودَ لو كان حيًّا مُميزًا سميعًا بصيرًا، مُقتدِرًا على الثَّوابِ والعقابِ، نافعًا ضارًّا، إلَّا أنَّه بعضُ الخلْقِ: لاسْتُخِفَّ عقْلُ مَن أهَّلَه للعبادةِ، ووصَفَه بالرُّبوبيةِ، ولسُجِّلَ عليه بالغيِّ المُبينِ، والظُّلمِ العظيمِ، وإنْ كان أشرَفَ الخلْقِ، وأعلاهم منزلةً، فما ظنُّك بمَن وجَّهَ عِبادتَه إلى جمادٍ ليس به حسٌّ ولا شُعورٌ؟! ثمَّ ثَنَّى بدعوتِه إلى الحقِّ مُترفِّقًا به مُتلطِّفًا، ثمَّ ثلَّثَ بتَثبيطِه ونهْيِه عمَّا كان عليه بأنَّ الشَّيطانَ الَّذي استعصى على ربِّك الرَّحمنِ، الَّذي جميعُ ما عندَك مِن النِّعمِ مِن عندِه، وهو عدُوُّك الَّذي لا يُريدُ بك إلَّا كلَّ هلاكٍ وخزْيٍ ونكالٍ، هو الَّذي ورَّطَك في هذه الضَّلالةِ، وزيَّنَها لك، فأنت إنْ حقَّقتَ النَّظرَ عابدٌ الشَّيطانَ، ثمَّ ربَّعَ بتخويفِه سُوءَ العاقبةِ، وبما يجُرُّه ما هو فيه مِن التَّبعةِ والوبالِ، ولم يخْلُ ذلك مِن حُسنِ الأدبِ؛ حيث لم يُصرِّحْ بأنَّ العقابَ لاحقٌ له، وأنَّ العذابَ لاصقٌ به، ولكنَّه قال: أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ .

6- قولُه تعالى: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا استئنافٌ مَبنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ من صدْرِ الكلامِ، كأنَّه قيلَ: فماذَا قال أبوهُ عندما سمِعَ منه عليه السَّلامُ هذه النَّصائحَ الواجبةَ القَبولِ؟ فقيل: قال مُصِرًّا على عِنادِه: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ، بتَوجيهِ الإنكارِ إلى نفْسِ الرَّغبةِ، مع ضرْبٍ مِن التَّعجُّبِ؛ كأنَّ الرَّغبةَ عنها ممَّا لا يَصدُرُ عن العاقلِ، فضْلًا عن تَرغيبِ الغيرِ عنها .

- ولمَّا أطلَعَه على سَماجةِ صُورةِ أمْرِه، وهدَمَ مذهبَه بالحُججِ القاطعةِ، وناصَحَه المُناصحةَ العجيبةَ، مع تلك المُلاطفاتِ، فقابَلَ استعطافَه ولُطفَه في الإرشادِ بفظاظةِ الكُفرِ وغِلظةِ العنادِ؛ فناداهُ باسْمِه، ولم يُقابِلْ: (يا أَبَتِ) بـ (يا بُنَيَّ). وقدَّمَ الخبرَ على المُبتدأِ في قولِه: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ؛ لأنَّه كان أهمَّ عنده، وهو عنده أعْنى. وصَدَّرَه بالهمزةِ؛ لإنكارِ نفْسِ الرَّغبةِ عن آلهتِه على ضرْبٍ من التَّعجُّبِ، وأنَّ آلهتَه ما يَنْبغي أنْ يَرْغَبَ عنها أحدٌ، كأنَّها ممَّا لا يرغَبُ عنها عاقلٌ. وفي هذا سُلوانٌ وثلْجٌ لصدْرِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عمَّا كان يَلْقَى مِن مثْلِ ذلك من كُفَّارِ قومِه ؛ فالاستفهامُ في ﮧ للإنكارِ؛ إنكارًا لِتَجافي إبراهيمَ عن عِبادةِ أصنامِهم. وإضافةُ الآلهةِ إلى ضَميرِ نفْسِه إضافةَ ولايةٍ وانتسابٍ إلى المُضافِ؛ لقصْدِ تَشريفِ المُضافِ إليه. وقد جاء في جوابِه دعوةَ ابْنِه بمُنتهَى الجفاءِ والعُنْجُهيَّةِ بعكْسِ ما في كلامِ إبراهيمَ من اللِّينِ والرِّقَّةِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّه كان قاسيَ القلْبِ، بعيدَ الفَهمِ، شديدَ التَّصلُّبِ في الكُفرِ .

- والنِّداءُ في قولِه: يَا إِبْرَاهِيمُ تَكملةٌ لجُملةِ الإنكارِ والتَّعجُّبِ؛ لأنَّ المُتعجَّبَ مِن فعْلِه مع حُضورِه يُقْصَدُ بندائِه تَنبيهُه على سُوءِ فعْلِه، كأنَّه في غَيبةٍ عن إدراكِ فعْلِه؛ فالمُتكلِّمُ يُنزِّلُه منزلةَ الغائبِ، فيُناديه لإرجاعِ رُشدِه إليه، فيَنْبغي الوقْفُ على قولِه: يَا إِبْرَاهِيمُ .

- وجُملةُ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ مُستأنفةٌ، واللَّامُ في قولِه: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ مُوطِّئةٌ للقسمِ؛ تأكيدًا لكونِه راجِمَه إنْ لم يَنْتهِ عن كُفرِه بآلهتِهم ، وهو تَهديدٌ وتحذيرٌ عمَّا كان عليه من العِظَةِ والتَّذكيرِ، أي: واللهِ لئِن لمْ تَنتهِ عمَّا كنْتَ عليه من النَّهيِ عن عِبادتِها، لَأرجُمنَّك .

- ومُتعلِّقُ تَنْتَهِ محذوفٌ، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ: عن مُخاطَبتي بما خاطبْتَني به، ودَعَوتني إليه، وأنْ يكونَ: لئنْ لم تَنتهِ عن الرَّغبةِ عن آلِهَتي .

- قولُه: لَأَرْجُمَنَّكَ الرَّجمُ: الرَّميُ بالحجارةِ، وهو كِنايةٌ مَشهورةٌ في معنى القتْلِ بذلك الرَّميِ ، وهذا على قولٍ في التفسيرِ.

- وجُملةُ: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا عطْفٌ على جُملةِ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ؛ وذلك أنَّه هدَّدَه بعُقوبةٍ آجلةٍ إنْ لم يُقلِعْ عن كُفرِه بآلهتِهم، وبعُقوبةٍ عاجلةٍ، وهي طردُه من مُعاشرتِه، وقطْعِ مُكالمتِه. وإنَّما أمَرَ أبو إبراهيمَ ابْنَه بهِجرانِه، ولم يُخْبِرْه بأنَّه هو يهجُرُه؛ ليدُلَّ على أنَّ هذا الهِجرانَ في معنى الطَّردِ والخلْعِ؛ إشعارًا بتَحقيرِه . وقيل: عطَفَ وَاهْجُرْنِي على معطوفٍ عليه مَحذوفٍ، يدُلُّ عليه لَأَرْجُمَنَّكَ، أي: فاحْذَرْني واهجُرْني؛ لأنَّ لَأَرْجُمَنَّكَ تَهديدٌ وتقريعٌ .

7- قوله تعالى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا

- قولُه: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي جُملةٌ مُستأنفةٌ، وعلامةُ الاستقبالِ والفعْلُ المُضارعُ في قولِه: سَأَسْتَغْفِرُ مُؤذنانِ بأنَّه يُكرِّرُ الاستغفارَ في المُستقبلِ .

- قولُه: إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا تعليلٌ لِما يَتضمَّنُه الوعدُ بالاستغفارِ من رَجاءِ المغفرةِ؛ استجابةً لدعوةِ إبراهيمَ بأنْ يُوفِّقَ اللهُ أبا إبراهيمَ للتَّوحيدِ، ونبْذِ الإشراكِ .

8- قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا

- جُملةُ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عطْفٌ على جُملةِ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، أي: يقَعُ الاستغفارُ في المُستقبلِ، ويقَعُ اعتزالي إيَّاكم الآنَ؛ لأنَّ المُضارِعَ غالبٌ في الحالِ .

- وضَميرُ جماعةِ المُخاطبينَ في وَأَعْتَزِلُكُمْ عائدٌ إلى أبي إبراهيمَ وقومِه؛ تَنزيلًا لهم منزلةَ الحُضورِ في ذلك المجلسِ؛ لأنَّ أباهُ واحدٌ منهم، وأمْرُهم سواءٌ، أو كان هذا المقالُ جَرى بمَحضرِ جماعةٍ منهم .

- قولُه: وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عطَفَ على ضميرِ القومِ أصنامَهم؛ للإشارةِ إلى عداوتِه لتلك الأصنامِ؛ إعلانًا بتَغييرِ المُنكرِ، وعبَّرَ عن الأصنامِ بطريقِ الموصوليَّةِ بقولِه: وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ للإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخبرِ، وعلَّةِ اعتزالِه إيَّاهم وأصنامَهم: بأنَّ تلك الأصنامَ تُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ، وأنَّ القومَ يَعْبدونها، فذلك وجْهُ اعتزالِه إيَّاهم وأصنامَهم .

- قولُه: وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا زاد على الإعلانِ باعتزالِ أصنامِهم الإعلانَ بأنَّه يَدْعو اللهَ؛ احتراسًا من أنْ يَحْسَبوا أنَّه نوَى مُجرَّدَ اعتزالِ عبادةِ أصنامِهم؛ فربَّما اقْتَنعوا بإمساكِه عنهم، ولذا بيَّنَ لهم أنَّه بعكْسِ ذلك؛ يَدْعو اللهَ الَّذي لا يَعْبدونه .

- وعبَّر عن اللهِ بوصْفِ الرُّبوبيَّةِ المُضافِ إلى ضَميرِ نفْسِه رَبِّي؛ للإشارةِ إلى انفرادِه من بينِهم بعبادةِ اللهِ تعالى؛ فهو ربُّه وحدَه مِن بينِهم؛ فالإضافةُ هنا تُفيدُ معنى القصرِ الإضافيِّ، مع ما تضمَّنتْه الإضافةُ مِن الاعتزازِ برُبوبيَّةِ اللهِ إيَّاهُ، والتَّشريفِ لنفْسِه بذلك .

- قولُه: عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا في إعلانِه هذا الرَّجاءَ بينَ ظهرانَيْهم تَعريضٌ بشقاوتِهم بدُعاءِ آلهتِهم، معَ التَّواضُعِ للهِ بكلمةِ (عَسى) وما فيه من هضْمِ النَّفسِ ، والتَّنبيهِ على أنَّ الإجابةَ والإثابةَ تفضُّلٌ غيرُ واجبتينِ، وأنَّ العِبرةَ بالخاتمةِ، وذلك مِن الغيوبِ المُختصَّةِ بالعليمِ الخبيرِ . وقيل: كأنَّه احتَرز بذلك عمَّا لا بدَّ للأولياءِ مِنه في الدُّنيا مِن البلاءِ .

9- قوله تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا

- طُوِيَ ذِكْرُ اعتزالِه إيَّاهم بعدَ أنْ ذكَرَ عزْمَه عليه؛ إيجازًا في الكلامِ؛ للعلْمِ بأنَّ مثْلَه لا يعزِمُ أمرًا إلَّا نفَّذَ عزْمَه، واكتفاءً بذِكْرِ ما ترتَّبَ عليه من جعْلِ عزْمِه حدَثًا واقعًا قد حصَلَ جزاؤهُ عليه مِن ربِّه، فإنَّه لمَّا اعتزَلَ أباهُ وقومَه، واستوحَشَ بذلك الفراقِ، وهَبَه اللهُ ذُرِّيةً يأنَسُ بهم؛ إذ وهبَهُ إسحاقَ ابْنَه، ويعقوبَ ابنَ ابْنِه، وجعَلَهما نَبيَّينِ. وحسْبُك بهذه مَكرُمةً له عندَ ربِّه .

- قولُه: وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا لعلَّ تَرتيبَ هِبَتِهما على اعتزالِه هاهنا؛ لبَيانِ كمالِ عِظَمِ النِّعمِ الَّتي أعطاها اللهُ تعالى إيَّاهُ، بمُقابَلةِ مَنِ اعتزَلَهم من الأهلِ والأقرباءِ؛ فإنَّهما شَجَرتا الأنبياءِ، لهما أولادٌ وأحفادٌ، أولو شأنٍ خطيرٍ، وذُو عددٍ كثيرٍ .

- في قولِه: وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا خُصَّ إسحاقُ ويعقوبُ بالذِّكرِ؛ لأنَّهما شَجرتا الأنبياءِ، أو لأنَّه أراد أنْ يذكُرَ إسماعيلَ بفضْلِه على الانفرادِ . وقيل: إنَّما اقتصَرَ على ذكْرِ إسحاقَ ويعقوبَ دونَ ذكْرِ إسماعيلَ، فلم يقُلْ: (وهَبْنا له إسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ)؛ لأنَّ إبراهيمَ لمَّا اعتزَلَ قومَه، خرَجَ بزوجِه سارةَ قريبتِه، فهي قد اعتزلَتْ قومَها أيضًا إرضاءً لربِّها ولزوجِها، فذكَر اللهُ الموهبةَ الشَّاملةَ لإبراهيمَ ولزوجِه؛ وهي أنْ وهَبَ لهما إسحاقَ وبعْدَه يعقوبَ، ولأنَّ هذه الموهبةَ لمَّا كانت كِفاءً لإبراهيمَ على مُفارقتِه أباهُ وقومَه، كانتْ مَوْهبةَ مَن يُعاشِرُ إبراهيمَ ويُؤنِسُه، وهما إسحاقُ ويعقوبُ. أمَّا إسماعيلُ فقد أراد اللهُ أنْ يكونَ بعيدًا عن إبراهيمَ في مكَّةَ؛ ليكونَ جارَ بيتِ اللهِ، وإنَّه لجوارٌ أعظمُ مِن جوارِ إسحاقَ ويعقوبَ أباهما .

- والنُّكتةُ في ذِكْرِ يعقوبَ: أنَّ إبراهيمَ رآهُ حفيدًا وسُرَّ به؛ فقد وُلِدَ يعقوبُ قبْلَ موتِ إبراهيمَ، وأنَّ مِن يعقوبَ نشأَتْ أُمَّةٌ عظيمةٌ .

- قولُه: وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا كُلًّا مفعولٌ أوَّلُ لقولِه تعالى: جَعَلْنَا نَبِيًّا؛ قُدِّمَ عليه للتَّخصيصِ، لكنْ لا بالنِّسبةِ إلى مَن عَدَاهم، بل بالنِّسبةِ إلى بعضِهم، أي: كلَّ واحدٍ منهم جعَلْنا نَبِيًّا لا بعضَهم دونَ بعضٍ .

10- قوله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا

- قولُه: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا فيه إضافةُ اللِّسانِ إلى الصِّدقِ، ووصْفُه بالعُلوِّ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم أحِقَّاءُ بما يُثْنون عليهم، وأنَّ مَحامِدَهم لا تَخْفَى على تباعُدِ الأعصارِ، وتحوُّلِ الدُّولِ، وتبدُّلِ المِلَلِ والنِّحلِ .

- وقد رُتِّبَ جزاءُ اللهِ إبراهيمَ على نبْذِه أهْلَ الشِّركِ تَرتيبًا بديعًا؛ إذ جُوزِيَ بنعمةِ الدُّنيا وهي العقِبُ الشَّريفُ، ونِعمةِ الآخرةِ وهي الرَّحمةُ، وبأثَرِ تَيْنِك النِّعمتينِ وهو لسانُ الصِّدقِ؛ إذ لا يُذْكَرُ به إلَّا مَن حصَّلَ النِّعمتينِ

====================

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (51-58)

ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ

غريب الكلمات:

 

نَجِيًّا: أي: مُناجِيًا، وأصلُه هنا: يدلُّ على سَتْرٍ وإخْفاءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مادحًا نبيَّه موسى عليه السلامُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- في القُرآنِ لقومِك قِصَّةَ مُوسى عليه السَّلامُ، إنَّه كان مُصطفًى مُختارًا، وكان رسولًا نبيًّا، ونادَينا موسى مِن ناحيةِ جَبَلِ طُورِ سَيْناءَ الواقِعِ على يمينِ موسى، وقرَّبناه فشرَّفناه بمُناجاتِنا له بلا واسِطةٍ، ووهَبْنا لِموسى من رحمتِنا أخاه هارونَ نبيًّا يُعينُه ويُؤازِرُه.

ثمَّ يذكرُ سبحانَه جانبًا مِن فضائلِ إسماعيلَ عليه السلامُ، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- في هذا القرآنِ لقومِك خبَرَ إسماعيلَ عليه السَّلامُ، إنَّه كان صادقًا في وَعدِه، وكان رسولًا نبيًّا، وكان يأمُرُ أهلَه بإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، وكان محمودًا عندَ اللهِ في أعمالِه.

ثمَّ يخبرُ تعالى عن نبيِّه إدريسَ عليه السلامُ، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- في هذا القرآنِ لقومِك خبَرَ إدريسَ عليه السَّلامُ، إنَّه كان كثيرَ الصِّدقِ في قَولِه وعَمَلِه، ومُصَدِّقًا تصديقًا تامًّا بما أتاه من الحَقِّ، ونبيًّا يُوحى إليه، ورفَعْناه إلى السَّماءِ الرَّابعةِ.

ثم يقولُ تعالى: هؤلاء الذين قَصَصتُ عليك خبَرَهم من الأنبياءِ هم الذين أنعَمَ اللهُ عليهم بالنبُوَّةِ والعِلمِ النَّافِعِ، مِن ذُريَّةِ آدمَ، ومِن ذُريةِ مَن حمَلْنا مع نوحٍ في السَّفينةِ، ومِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ، ومِن ذُرِّيَّة يعقوبَ، وممَّن هَدَينا للإيمانِ والعملِ الصالحِ، واصطَفَينا للرِّسالةِ والنبُوَّةِ، إذا تُتلى عليهم آياتُ الرَّحمنِ، خرُّوا ساجِدينَ لله، باكينَ مِن خَشيتِه سُبحانه وتعالى.

تفسير الآيات:

 

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه أفضَتْ مُناسَبةُ ذِكرِ إبراهيمَ ويَعقوبَ -عليهما السَّلامُ- إلى أن يُذكَرَ موسى عليه السلامُ في هذا الموضع؛ لأنَّه أشرَفُ نبيٍّ مِن ذُرِّيةِ إسحاقَ ويعقوبَ، عليهما السَّلامُ

.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى

أي: واتْلُ -يا محمَّدُ- في القُرآنِ على قَومِك خبَرَ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ مُخْلَصًا بفتحِ اللَّامِ، أي: إنَّ موسى أخلصَه اللهُ، واختاره لرسالتِه، وجعَلَه نبيًّا مُرسَلًا، خالِصًا مِن الدَّنَسِ .

2- قراءةُ مُخْلِصًا بكسرِ اللَّامِ، أي: إنَّ موسى كان يُخلِصُ لله في عبادتِه، ولا يُرائي بأعمالِه أحدًا .

إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا.

أي: إنَّ موسَى كان الله تعالى قد اختاره لرسالتِه وتَكليمِه وعبادتِه، وجعَله خالصًا مِن الدَّنَسِ؛ وذلك لإخلاصِه لله في عبادتِه .

كما قال تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [الأعراف: 144] .

وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا.

أي: وكان موسى رسولًا إلى بني إسرائيلَ والقِبطِ، ونبيًّا رفيعَ القَدرِ يُوحي اللهُ إليه .

وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52).

وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ.

أي: وكلَّمْنا موسَى بصَوتٍ يَسمَعُه مِن ناحيةِ جَبَلِ طُورِ سَيناءَ الواقِعِ على يمينِ موسى، حينَ أقبَلَ مِن مَدينَ مُتوجِّهًا إلى مِصرَ .

كما قال تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه: 11- 16] .

وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا.

أي: وأدنَيْنا موسى، فسَمِع كلامَ اللهِ، وخاطَبه عن قُربٍ، بلا واسِطةٍ .

كما قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] .

وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53).

أي: وآتَينا موسى مِن رَحمتِنا له إجابةَ سُؤالِه، فجعَلْنا أخاه هارونَ نبيًّا مِثلَه؛ لِيُعينَه .

كما قال تعالى حكايةً عنه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 29 - 36] .

وقال سُبحانه حكايةً عنه: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص: 34- 35] .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان إسماعيلُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- هو الذي ساعد إبراهيمَ عليه السَّلامُ في بناءِ البَيتِ الذي كان مِن الأفعالِ التي أبقَى اللهُ بها ذِكْرَه، وشَهَر أمْرَه، وكان مُوافِقًا لِموسى عليه السَّلامُ في ظُهورِ آيةِ الماءِ الذي به حياةُ كُلِّ شَيءٍ، وإن كانت آيةُ موسى عليه السَّلامُ انقَضَت بانقضائِه، وآيتُه هو باقيةً إلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها- عَقَّب ذِكْرَه بذلك .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ.

أي: واتْلُ -يا مُحمَّدُ- في القرآنِ على قَومِك خبَرَ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلام .

إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ.

أي: إنَّ إسماعيلَ كان صادِقًا في وعودِه لرَبِّه وللنَّاسِ، يَفي بوَعدِه، ولا يُخلِفُه .

وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا.

أي: وكان رَسولًا ونبيًّا، رفيعَ القَدرِ يُوحي اللهُ إليه .

وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55).

وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.

أي: وكان يأمُرُ أهلَه بإقامةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ .

وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا.

أي: وكان محمودًا عندَ اللهِ في أعمالِه، ارتضاه اللهُ، وجعَلَه من الخواصِّ المقَرَّبينَ؛ لاجتهادِه فيما يُرضيه، فرضِي ربُّه عنه، ورضِيَ هو عن رَبِّه .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56).

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ.

أي: واتلُ -يا محمَّدُ- في القُرآنِ على قَومِك خبَرَ إدريسَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا.

أي: إنَّ إدريسَ كان كثيرَ الصِّدقِ في أفعالِه وأقوالِه، صادِقًا فيما يخبِرُ به عن اللهِ، ومُصَدِّقًا تصديقًا تامًّا بما أتاه من الحَقِّ، ونبيًّا رفيعَ القَدرِ يُوحي اللهُ إليه .

وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57).

أي: ورفَعْنا إدريسَ إلى مكانٍ ذي علوٍّ وارتفاعٍ؛ إلى السَّماءِ الرَّابعةِ .

عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: ((... ثمَّ عُرِج بنا إلى السَّماءِ الرَّابعةِ، فاستفْتَح جبريلُ عليه السَّلامُ، قِيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: محمَّدٌ، قال: وقد بُعِث إليه؟ قال: قد بُعِث إليه، فَفُتِح لنا فإذا أنا بإدريسَ، فرَحَّب ودعا لي بخيرٍ، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم: 57] )) .

وعن قتادةَ في قَولِه تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا قال: حدَّثَنا أنسُ بنُ مالكٍ أنَّ نبيَّ اللهَ صلَّى اللهُ عليه وسلم قال: ((لَمَّا عُرِجَ بي رأيتُ إدريسَ في السَّماءِ الرَّابعةِ)) .

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا انقضى كَشفُ هذه الأخبارِ العَليَّةِ المِقدارِ، الجليلةِ الأسرارِ؛ شرَعَ سُبحانَه وتعالى ينسُبُ أهلَها بأشرَفِ نَسَبِهم، ويذكُرُ المِنَنَ بينهم، فقال عزَّ مِن قائلٍ :

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ.

أي: أولئك الأنبياءُ المذكورونَ في هذه السورةِ هم الذين أنعَمَ اللهُ عليهم بالهدايةِ والنُّبـُوَّةِ، والعِلمِ النَّافِعِ، والعَمَلِ الصَّالحِ؛ مِنَ النبيِّينَ مِن ذُرِّيةِ آدَمَ، وهو إدريسُ عليه السلامُ .

وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ.

أي: ومِن ذُرِّيَّةِ مَن حَملْنا معَ نوحٍ في السَّفينةِ، وهو إبراهيمُ عليه السلامُ .

وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ.

أي: ومِن ذُرِّيةِ إبراهيمَ، وهم: إسماعيلُ، وإسحاقُ، ويعقوبُ عليهم السلامُ، ومِن ذُرِّيةِ إسرائيلَ -أي: يعقوبَ عليه السلامُ-، وهم موسَى، وهارونُ، وزكريَّا، ويحيى، وعيسَى بنُ مريمَ- عليهم السلامُ .

وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا.

أي: وممَّن هدينا للإيمانِ، والعمَلِ الصَّالحِ، وممَّن اختَرْناهم للنُّبوَّةِ .

إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا.

أي: إذا تُتلى على أولئك القومِ -الذين هَدَينا مِن النبيِّينَ- آياتُ الرَّحمنِ التي أنزلها عليهم في كُتُبِه؛ بادروا إلى السُّجودِ لله باكينَ مِن خَشيتِه تعالى

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قول الله تعالى: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا فيه أنَّ حَقَّ الصَّالحِ ألَّا يألوَ نُصحًا للأجانبِ، فضلًا عن الأقاربِ والمتَّصِلينَ، وأن يُحظِيَهم بالفوائِدِ الدِّينيةِ، ولا يفرِّطَ في شَيءٍ مِن ذلك

.

2- قال الله تعالى: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ذكَرَ اللهُ تعالى عن إسماعيلَ عليه السَّلامُ أنَّه كان يأمُرُ أهلَه بالصَّلاةِ والزكاة، وكان عندَ ربِّه مَرضيًّا؛ فالإنسانُ مَسؤولٌ عن أهلِه، مسؤولٌ عن تربيتِهم، حتى ولو كانوا صِغارًا إذا كانوا مميِّزينَ، أمَّا غيرُ الممَيِّزِ فإنَّه يُؤمَرُ بما يتحمَّلُه عَقلُه .

3- عن الحَسَنِ قال: (من كان له واعِظٌ مِن نَفسِه، كان له مِنَ اللهِ حافِظٌ، فرَحِمَ اللهُ مَن وعَظَ نَفسَه وأهلَه، فقال: يا أهلي، صلاتَكم صلاتَكم، زكاتَكم زكاتَكم، جيرانَكم جيرانَكم، مساكينَكم مساكينَكم؛ لعلَّ الله أن يرحَمَكم يومَ القيامةِ؛ فإنَّ الله عزَّ وجَلَّ أثنى على عبدٍ كان هذا عَمَلَه، فقال: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- وصفَ اللهُ تعالى نفسَه بالمناداةِ والمُناجاةِ، في قولِه: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، وقَولِه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ [القصص: 62] ، وقَولِه: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا [الأعراف: 22] ، ووصفَ عبدَه بالمناداةِ والمناجاةِ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] ، وقال: إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة: 12] ، وقال: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المجادلة: 9] ، وليست المناداةُ كالمناداةِ، ولا المناجاةُ كالمناجاةِ

.

2- قال الله تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ذَكَر مناداتَه لموسى عليه السَّلامُ ومناجاتَه إيَّاه في مواضِعَ مِن القرآنِ، ولم يَذكُرْ أنَّه فعَل ذلك بغيرِه مِن الأنبياءِ، وهذا ممَّا أجمع عليه المُسلِمونَ وأهلُ الكتابِ: أنَّ تكليمَ اللهِ تعالى لموسى من خصائِصِه التي فضَّله بها على غَيرِه من الأنبياءِ والرُّسُلِ .

3- في قَولِه تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ حُجَّةٌ على مَن يقولُ بخَلْقِ القُرآنِ؛ إذْ لا يمكنُه أنْ يقولَ في المناداةِ ما يتأوَّلُه في الكلامِ -وإنْ كان ما يتأوَّلُه فيه خطأً- وقولُه: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا أَكَّدَه بلا إشكالٍ؛ لأنَّ النَّجِيَّ لا يكونُ إلَّا مَن يُكَلَّمُ ويُحاوَرُ .

4- في قَولِه تعالى: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا حُجَّةٌ على مَن يُنْكِرُ أنَّ اللهَ جلَّ جلالُه بنَفسِه على العَرشِ، وأنَّ عِلْمَه في الأرضِ؛ إذ لو كان بنَفسِه في كلِّ مَوضعٍ -كما يزعُمونَ- ما كان لقَولِه: وَقَرَّبْنَاهُ مَعنًى، ولَمَا كان لموسى فضيلةٌ على غَيرِه؛ إذِ المعنى الذي يَذهَبُ إليه يستوي جميعُ النَّاسِ فيه -كافِرُهم ومُؤمِنُهم- وليس لِمَا يتأوَّلُه مِن أنَّ القُرْبَ قُربُ الطَّاعةِ -لَمَّا قَرَّبَه بالمناجاة- خَصيصةٌ؛ ولذا رُوِيَ في الخبر: (أنَّه قَرَّبَه حتى سَمِعَ صريفَ القَلَمِ) .

5- قال الله تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا هذه الآيةُ مِمَّا يدُلُّ على أنَّ اللهَ يتكَلَّمُ كيف شاء، مُناداةً كان الكَلامُ أو مُناجاةً ، وأنَّ اللهَ تعالى يتكلمُ بصوتٍ، فالنداءُ في لغةِ العربِ هو صوتٌ رفيعٌ، ولا يُطْلَقُ النداءُ على ما ليس بصوت -لا حقيقةً ولا مجازًا- وإذا كان النداءُ نوعًا مِن الصوتِ؛ فالدالُّ على النوعِ دالٌّ على الجنسِ بالضرورةِ ، وموسى عليه السَّلامُ سَمِعَ كلامَ الله تعالى بحَرفٍ وصَوتٍ، كما تدُلُّ عليه النُّصوصُ التي بلَغَت في الكثرةِ مَبلغًا لا ينبغي معه تأويلٌ، ولا يناسِبُ في مقابلتِه قال وقيل؛ فقد قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: 52] ، وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى [الشعراء: 10] ، نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ [القصص: 30] ، إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات: 16] ، نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا [النمل: 8] ، واللائقُ بمقتضى اللُّغةِ والأحاديثِ أن يُفسَّرَ النِّداءُ بالصَّوتِ، بل قد ورَد إثباتُ الصَّوتِ لله تعالى شأنُه في أحاديثَ لا تُحصى، وأخبارٍ لا تُستَقصَى .

6- قال اللهُ تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا النِّداءُ والنِّجاءُ أخَصُّ مِنَ التَّكليمِ؛ لأنَّه تكليمٌ خاصٌّ؛ فالنِّداءُ تكليمٌ مِن البُعدِ يَسمَعُه المنادي، والنِّجاءُ تَكليمٌ مِن القُربِ .

7- قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا، وإنَّما جُعِلَتْ تلك الهِبةُ من رحمةِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ رحِمَ مُوسى؛ إذ يسَّرَ له أخًا فصيحَ اللِّسانِ، وأكمَلَه بالإنباءِ حتَّى يُعْلَمَ مُرادُ مُوسى ممَّا يُبلِّغُه عن اللهِ تعالى .

8- قال اللهُ تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا قَولُه: وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا يدُلُّ على أنَّ الرَّسولَ لا يَلزَمُ أن يكونَ صاحِبَ شَريعةٍ؛ فإنَّ أولادَ إبراهيمَ كانوا على شريعتِه .

9- قَولُه تعالى: وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا في هذا دلالةٌ على شَرفِ إسماعيلَ على أخيه إسحاقَ؛ لأنَّه إنما وُصِفَ بالنبُوَّةِ فقط، وإسماعيلُ وُصِفَ بالنبُوَّةِ والرِّسالةِ .

10- قال الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا فرَّق تعالى ذِكْرُه أنسابَهم، وإن كان يجمَعُ جميعَهم آدمُ؛ لأنَّ فيهم من ليس مِن ولَدِ مَن كان مع نوحٍ في السَّفينةِ، وهو إدريسُ ، على القَولِ بأنَّه كان قَبلَ نوحٍ عليه السَّلامُ.

11- قال الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا لإدريسَ ونوحٍ شَرَفُ القُربِ مِن آدَمَ -على القَولِ بأنَّ إدريسَ قبلَ نوحٍ- ولإبراهيمَ شَرَفُ القُربِ مِن نوحٍ، ولإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ شَرَفُ القُربِ مِن إبراهيمَ .

12- قال الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ أي: وَمِن ذُرِّيَّةِ إسرائيلَ، وكان منهم موسى وهارونُ وزكريَّا ويحيى وعيسى، وفيه دَليلٌ على أنَّ أولادَ البَناتِ مِن الذُّرِّيَّةِ ؛ لأنَّ عيسى مِن مريمَ، وهى مِن نَسلِ يَعقوبَ .

13- قَولُ الله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ في إضافةِ الآياتِ إلى اسمِه الرَّحْمَنِ دَلالةٌ على أنَّ آياتِه تعالى مِن رَحمتِه بعِبادِه وإحسانِه إليهم؛ حيثُ هداهم بها إلى الحَقِّ، وبصَّرَهم مِن العَمى، وأنقَذَهم من الضَّلالةِ، وعَلَّمَهم مِن الجَهالةِ .

14- في قَولِه تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا حُجَّةٌ في جوازِ البُكاءِ في السُّجودِ، والاقترابِ به مِن المعبودِ ، وأنَّه لا يقطعُ الصَّلاةَ؛ لأنَّ اللَّه تعالَى قد مَدَحهم بالبكاءِ في السُّجودِ، ولم يُفَرِّقْ بينَ سجودِ الصَّلاةِ وسُجودِ التِّلاوةِ وسَجدةِ الشُّكرِ .

15- قَولُ الله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا استُدِلَّ بهذه الآيةِ على مشروعِيَّةِ سُجودِ التِّلاوةِ .

16- قَولُ الله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا فيه استِحبابُ البكاءِ عندَ تلاوةِ القُرآنِ ، وعن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه: (أنَّه قرأ سورةَ مريمَ فسجَد، وقال: هذا السجودُ، فأين البكيُّ؟) يريدُ: فأين البكاءُ .

17- قَولُ الله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا استُدِلَّ به علَى أنَّ سامِعَ السَّجدةِ وتالِيَها سَواءٌ في حكمِها، وأنَّهم جميعًا يسجُدونَ؛ لأنَّه مَدَح السَّامعينَ لها إذا سَجَدوا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا

- قولُه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى قُدِّمَ ذِكرُ مُوسى على ذكْرِ إسماعيلَ عليهما السَّلامُ؛ لئلَّا ينفصِلَ عن ذكْرِ يعقوبَ عليهما السَّلامُ

.

- قولُه: إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا فيه تَخصيصُ مُوسى بعُنوانِ (المُخلص) -بفتْحِ اللَّامِ وكسْرِها-؛ لأنَّ ذلك مَزيَّتُه، فإنَّه أخلَصَ في الدَّعوةِ إلى اللهِ، فاستخَفَّ بأعظمِ جبَّارٍ وهو فرعونُ، وجادَلَه مُجادلةَ الأكْفَاءِ، وكذلك ما حكاهُ اللهُ عنه بقولِه: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [القصص: 17] ؛ فكان الإخلاصُ في أداءِ أمانةِ اللهِ تعالى ميزتَه، ولأنَّ اللهَ اصطفاهُ لكلامِه مُباشرةً قبْلَ أنْ يُرسِلَ إليه الملَكَ بالوحيِ؛ فكان مُخلَصًا بذلك، أي: مُصطفًى .

- قولُه: وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا قَدَّمَ رَسُولًا مع كونِه أخصَّ وأعْلى؛ لأنَّ اللهَ تعالى أرسَلَه إلى الخلْقِ، فأنبَأَهم عنه ، والجمْعُ بين رَسُولًا نَبِيًّا هنا لتأكيدِ الوصفِ؛ إشارةً إلى أنَّ رسالتَه بلَغَتْ مَبلغًا قويًّا؛ فقولُه: نَبِيًّا تأكيدٌ لوصْفِ رَسُولًا .

2- قولُه تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا فيه إيجازٌ بالحذفِ، وتَقديرُ الكلامِ: وناديناهُ حينَ أقبَلَ مِن مدينَ، ورأى النَّارَ مِن الشَّجرةِ، وهو يُريدُ مَن يَهْديه إلى طريقِ مصرَ .

- وقولُه: وَنَادَيْنَاهُ صِيغَةُ المُفاعَلةِ للمُبالغةِ؛ فليس هنا حُصولُ فعْلٍ من جانبينِ .

3- قوله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا

- فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال تعالى هنا: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا، وقال في سُورةِ الفُرقانِ: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا [الفرقان: 35] ؛ اختلَفَ الوصْفُ بالنُّبوَّةِ والوزارةِ مع اتِّحادِ المقصودِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ السُّورَ المُتردِّدَ فيها ذِكْرُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ مَنوطٌ فيها ذكْرُهم بذكْرِ أُمَمِهم، وما كان من مُعاندةِ الأُمَمِ وتَكذيبِهم، وأخْذِ المُكذِّبينَ بمُرتكباتِهم، ثمَّ إنَّ سُورةَ مريمَ تضمَّنَت طائفةً عظيمةً؛ فُصِّلَ ذِكْرُ بعضِهم، وأُجْمِلَ ذِكْرُ البعضِ، وقد تجرَّدَ فيها من الإخبارِ بأحوالِهم ذِكْرُ التَّعريفِ بخصائصَ مِن مِنَحِهم، وعَليِّ أقْدارِهم، وما أُيِّدوا به من ذلك، ثمَّ إنَّ النُّبوَّةَ أعظَمُ خصائصِهم الَّتي تَساوَوا في تحمُّلِ أمانتِها، وأُفْرِدوا عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بها، ولم يُشارِكْهم فيها غيرُهم، أمَّا اسمُ الوزارةِ والوصْفُ بها فليس ممَّا يخُصُّهم، ولا ممَّا أُفْرِدوا به، فلم يكُنْ وصْفُ هارونَ عليه السَّلامُ هنا بها لِيُناسِبَ هذا القصْدَ العليَّ، ولا لِيُلائمَه. وأمَّا قولُه تعالى في سُورةِ الفُرقانِ: وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا [الفرقان: 35] فمُرتَّبٌ على سُؤالِ موسى عليه السَّلامُ في سُورةِ طه في قولِه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ [طه: 29، 30]؛ فأُعْطِيَ عليه السَّلامُ مَطْلبَه، ورَدَ هذا على التَّرتيبِ المُتقرِّرِ في المصحفِ. ثمَّ إنَّ ما اتَّصلَ بهذه الآيةِ وآيةِ سُورةِ مريمَ ممَّا قبْلَهما وبعْدَهما يَسْتدعي التَّناسُبَ في مقاطعِ الآيِ وفواصلِها، فلم يكُنْ وُرودُ الآيتينِ في السُّورتينِ على غيرِ ما ورَدَ لِيُناسِبَ؛ فجاء ذلك على ما يجِبُ من الوَجهينِ المذكورينِ، واللهُ أعلمُ بما أراد .

4- قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا

- قولُه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ فُصِلَ ذِكْرُ إسماعيلَ عن ذكْرِ أبيه وأخيه عليهم السَّلامُ؛ لإبرازِ كَمالِ الاعتناءِ بأمْرِه بإيرادِه مُستقِلًّا ؛ فتَخصيصُ إسماعيلَ بالذِّكرِ هنا تَنبيهٌ على جَدارتِه بالاستقلالِ بالذِّكرِ عقِبَ ذكْرِ إبراهيمَ وابنِه إسحاقَ؛ لأنَّ إسماعيلَ صار جَدَّ أُمَّةٍ مُستقِلَّةٍ قبْلَ أنْ يصيرَ يعقوبُ جَدَّ أُمَّةٍ، ولأنَّ إسماعيلَ هو الابنُ البِكْرُ لإبراهيمَ، وشريكُه في بناءِ الكعبةِ .

- قولُه: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ تعليلٌ لمُوجِبِ الأمرِ ، وذكَرَ إسماعيلَ عليه السَّلامُ بصِدْقِ الوعدِ -وإنْ كان ذلك موجودًا في غيرِه من الأنبياءِ-؛ تَشريفًا له وإكرامًا، كالتَّلقيبِ بنحوِ: الحليمِ، والأوَّاهِ، والصِّدِّيقِ، ولأنَّه المشهورُ مِن خِصالِه .

5- قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا

- قولُه: نَبِيًّا خبرٌ آخرُ لـ (كان) مُخصِّصٌ للأوَّلِ؛ إذ ليس كلُّ صِدِّيقٍ نَبِيًّا .

6- قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا

- اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ إشارةٌ إلى المَذكورينَ في السُّورةِ من زكريَّا إلى إدريسَ عليهم السَّلامُ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ رُتبِهم ومَنزلَتِهم في الفضْلِ . والإتيانُ به دونَ الضَّميرِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المُشارَ إليهم جديرونَ بما يُذكَرُ بعدَ اسمِ الإشارةِ لأجْلِ ما ذُكِرَ مع المُشارِ إليهم مِن الأوصافِ، أي: كانوا أحرياءَ بنعمةِ اللهِ عليهم، وكونِهم في عدادِ المَهديينَ المُجْتبينَ، وخَليقينَ بمحبَّتِهم للهِ تعالى، وتَعظيمِهم إيَّاهُ .

- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تلك وإنْ كانت نِعمًا وهدايةً واجتباءً؛ فقد زادت هذه الآيةُ بإسنادِ تلك العَطايا إلى اللهِ تعالى تَشريفًا لها؛ فكان ذلك التَّشريفُ هو الجزاءَ عليها؛ إذ لا أزْيَدَ من المُجازَى عليه إلَّا تَشريفُه .

- قولُه: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا استئنافٌ مسوقٌ لبَيانِ خشيتِهم مِن اللهِ تعالى، وإخباتِهم له، معَ حالِهم مِن عُلوِّ الرُّتبةِ، وسُموِّ الطَّبقةِ في شرَفِ النَّسَبِ، وكَمالِ النَّفسِ، والزُّلفى من اللهِ عَزَّ سُلطانُه . وقيل: مُستأنَفٌ دالٌّ على شُكرِهم نِعمَ اللهِ عليهم، وتَقريبِه إيَّاهم بالخُضوعِ له بالسُّجودِ عندَ تلاوةِ آياتِه وبالبُكاءِ .

- وعبَّر بالاسمِ في كلٍّ مِن السجودِ والبكاءِ في قولِه: سُجَّدًا وَبُكِيًّا؛ إشارةً إلى أنَّ خَوفَهم دائِمٌ،كما أنَّ خُضوعَهم دائِمٌ لِعَظمةِ الكبيرِ الجَليلِ؛ لأنَّ تلك الحَضرةَ لا تَغيبُ عنهم أصلًا

==============

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (59-63)

ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ

غريب الكلمات:

 

خَلْفٌ: الخَلْفُ: الرَّدِيءُ مِن الناسِ ومِن الكلامِ، والرَّديءُ مِن كلِّ شيءٍ، وأكثرُ ما يُستعمَلُ باللامِ الساكنةِ (خَلْفٌ) في الذمِّ، وبالفتحِ (خَلَف) في المدحِ، وأصلُه: مجيءُ شيءٍ بعدَ شيءٍ يقومُ مقامَه

.

غَيًّا: أي: شرًّا، وخُسرانًا، وهَلاكًا. أو: هو وادٍ في جهنَّمَ، وأصلُه: يدُلُّ على خِلافِ الرُّشدِ، وإظلامِ الأمرِ .

عَدْنٍ: أي: إقامَةٍ، واستقرارٍ، وثباتٍ، يُقال: عَدَن بالمكانِ، يَعْدِنُ عَدْنًا، إذا أقامَ به، واستقرَّ، وأصلُ (عدن): يدلُّ على الإقامةِ .

مَأْتِيًّا: أي: يَأْتيه أولياءُ الله، أو مفعولٌ بمعنَى فاعلٍ، أي: آتيًا، وأصلُ الإتيانِ: مجيءٌ بسهولةٍ .

لَغْوًا: أي: باطلًا مِن الكلامِ، وفُحشًا، واللغوُ: هو فضولُ الكلامِ، ويدخلُ فيه فحشُ الكلامِ وباطِلُه، وأصلُه يدلُّ على الشَّيءِ لا يُعْتَدُّ به

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبيِّنُ الله سبحانَه ما حدَث مِن الذين جاؤوا بعدَ هؤلاءِ المنعَمِ عليهم، فيقولُ: فأتى مِن بعدِ هؤلاء المنعَمِ عليهم عَقِبُ سَوءٍ أضاعوا الصَّلاةَ؛ بتركِها، أو التفريطِ في شروطِها أو أركانِها أو واجباتِها، واتَّبَعوا شَهواتِهم، مؤثرينَ لها على طاعةِ اللهِ، فسوف يَلقَونَ عذابًا شَديدًا في جهنَّمَ. لكِنْ مَن تاب منهم مِن ذَنبِه وآمَنَ برَبِّه وعَمِلَ صالِحًا، فأولئك يَدخُلونَ الجنَّةَ ولا يُنقَصونَ شَيئًا مِن حَسَناتِهم؛ يدخلونَ جناتِ خُلدٍ وإقامةٍ دائمةٍ، وهي التي وعد الرَّحمنُ بها عبادَه فآمَنوا بذلك، والحالُ أنَّهم لم يَرَوها في الدُّنيا، إنَّ وَعدَ الله لعبادِه بهذه الجنَّةِ يأتيه المؤمنون فيدخلون الجنةَ.

ثم يصِفُ الله سبحانه الجنةَ وأهلَها بما يَحْمِلُ على الاستعدادِ لها، فيقولُ: لا يَسمَعُ أهلُ الجنَّةِ فيها كلامًا باطلًا أو ساقطًا، لكن يَسمَعونَ ما يَسُرُّهم من الأقوالِ والأصواتِ السَّالمةِ مِن كُلِّ عَيبٍ، ولهم رِزقُهم فيها من الطَّعامِ والشَّرابِ وما يشتهونَ في كُلِّ يَومٍ في قَدرِ وَقتِ البُكرةِ ووَقتِ العَشيِّ مِن أيَّامِ الدُّنيا، تلك الجنَّةُ الموصوفةُ بتلك الصِّفاتِ هي التي يُعطيها اللهُ عبادَه المتَّقينَ له، بامتثالِ أوامِره واجتِنابِ نَواهيه.

تفسير الآيات:

 

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وصَفَ الأنبياءَ المذكورينَ في الآياتِ السَّابقةَ بصفاتِ المَدحِ؛ ترغيبًا لنا في التأسِّي بطريقتِهم؛ ذكَرَ بَعدَهم مَن هو بالضِّدِّ منهم

، فقال:

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ.

أي: فجاء مِن بعدِ الذين أنعَم اللهُ عليهم مِن النبيِّينَ عَقِبُ سَوءٍ أضاعُوا الصَّلاةَ؛ إمَّا بتَركِها بالكُليَّةِ، أو تَرْكِ بَعضِ أركانِها وشُروطِها، أو التَّفريطِ في واجباتِها، أو تأخيرِها عن مواقيتِها، وغير ذلك .

وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ.

أي: وأقبلوا على شَهَواتِ أنفُسِهم، وانهَمَكوا في تحقيقِ رَغَباتِها الدُّنيويَّةِ، وآثَروها على طاعةِ اللهِ .

فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا.

أي: فسوف يلقَونَ عذابًا شَديدًا يومَ القيامةِ .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7، 8].

وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد: 12].

وقال عزَّ وجلَّ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4- 5] .

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60).

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.

أي: إلَّا الذين تابوا عن إضاعةِ الصَّلواتِ، واتِّباعِ الشَّهَواتِ، وآمنوا باللهِ وما جاءت به رسُلُه، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ المشروعةَ بإخلاصٍ لله، فأدَّوا فرائِضَه، واجتَنَبوا محارِمَه؛ فأولئك يدخُلونَ الجنَّةَ، ويَنجُونَ مِن النَّارِ .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 68 - 70] .

وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا.

أي: ولا يَنقُصُهم اللهُ شَيئًا مِن حَسَناتِهم .

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61).

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ.

أي: يدخُلُ أولئك التائبونَ بساتينَ إقامةٍ دائمةٍ قد وعد الرَّحمنُ عِبادَه المؤمنينَ أن يَدخُلوها في الآخرةِ، فآمنوا بذلك، والحالُ أنَّهم لم يَرَوها في الدُّنيا .

إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا.

مناسبتُها لما قبلَها:

لَمَّا كان مِن شأنِ الوُعودِ الغائبةِ -على ما يتعارَفُه النَّاسُ بينهم- احتِمالُ عَدَمِ الوُقوعِ؛ بَيَّن أنَّ وَعدَه ليس كذلك، بقَولِه :

إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا.

أي: سيأتي المُؤمِنونَ المطيعونَ، ويَصيرونَ إلى اللهِ، وينالونَ ما وُعِدوا به، فيُدخِلُهم جنَّتَه؛ تحقيقًا لوَعدِه .

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62).

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا.

أي: لا يَسمَعُ أهلُ الجنَّةِ فيها باطِلًا وفُحشًا وكَلامًا لا ينفَعُهم، ولكِنْ يَسمَعونَ فيها ما يَسُرُّهم مِن الأقوالِ والأصواتِ السَّالمةِ مِن كُلِّ عَيبٍ، مثل تحيَّةِ اللهِ وملائكتِه لهم، وتسليمِ بعضِهم على بعضٍ .

كما قال تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 10] .

وقال سُبحانَه: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 23، 24].

وقال عزَّ وجلَّ: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58].

وقال تبارك وتعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [الواقعة: 25، 26].

وقال جلَّ جلالُه: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا [النبأ: 35].

وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا.

أي: ولأهلِ الجنَّةِ رِزقُهم في الجنَّةِ مِن الطَّعامِ والشَّرابِ وما يَشتَهونَ في كُلِّ يَومٍ في قَدرِ وَقتِ البُكرةِ ووَقتِ العَشيِّ مِن أيَّامِ الدُّنيا .

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63).

أي: هذه الجنَّةُ العاليةُ القَدرِ التي وصَفْنا بهذه الصِّفاتِ العظيمةِ نُنْزلُها ونُعْطيها مَن كان مِن عبادِنا مُتَّقِيًا لعذابِ اللهِ، بامتثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيه

 

.

كما قال سُبحانه: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 10، 11].

الفوائد التربوية:

 

1- إنَّ مِن أهمِّ وأعظَمِ أسبابِ التَّهاونِ في الصَّلاةِ اتِّبَاعَ الشَّهَواتِ؛ ولهذا قرنَ اللهُ تبارك وتعالى إضاعةَ الصَّلاةِ باتِّباعِ الشَّهَواتِ؛ فقال سُبحانَه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا

.

2- الصَّالحونَ كُلُّهم قَلَّلوا مِن عَيشِ الأجسادِ، وكثَّروا من عيشِ الأرواحِ؛ فإنَّ الأخذَ مِن عَيشِ الأجسادِ أكثَرَ مِن قَدرِ الحاجةِ يُلهي عن اللهِ، ويَشغَلُ عن خِدمتِه، فما تفرَّغ أحدٌ لطَلَبِ عَيشِ الأجسادِ، وأعطَى نفسَه حَظَّها مِن ذلك، إلَّا ونقَص حَظُّه مِن عَيشِ الأرواحِ، وربَّما مات قلبُه مِن غَفلتِه عن الله، وإعراضِه عنه، وقد ذمَّ اللهُ مَن كان كذلك؛ قال الله عزَّ وجلَّ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، ثمَّ إنَّ ما حصَّلوه مِن شَهواتِهم ينقَطِعُ ويزولُ بالموتِ، ويَنقُصُ بذلك حظُّهم عندَ الله في الآخرةِ، فإن كان ما حصَّلوه من شهواتِهم مِن حَرامٍ، فذلك هو الخُسرانُ المبينُ؛ فإنَّه يُوجِبُ العقوبةَ الشَّديدةَ في الآخرةِ .

3- قَولُ الله تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا فيه تنبيهٌ ظاهِرٌ على وجوبِ تجنُّبِ اللَّغوِ واتِّقائِه؛ حيثُ نَزَّه اللهُ عنه الدَّارَ التي لا تكليفَ فيها، وما أحسَنَ قولَه سُبحانه: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72] ، ووَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ

 

[القصص: 55] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا أنَّه إذا كان سبحانه قد تَوعَّدَ بلُقِيِّ الغَيِّ مَن يُضيعُ الصلاةَ عن وقتِها -وذلك على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ-، ويَتبعُ الشَّهواتِ، والمُؤَخِّرُ لها عن وَقتِها مُشتَغِلًا بما يَشتَهيه هو مُضيِّعٌ لها، مُتَّبِعٌ لشَهوتِه؛ فدَلَّ ذلك على أنَّه مِن الكبائِرِ؛ إِذْ هذا الوعيدُ لا يكون إلَّا على كبيرةٍ

.

2- قولُه تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا استُدِلَّ به على كُفْرِ تاركِ الصلاةِ الكفرَ الأكبرَ المُخْرِجَ عن الملة، ووجهُ الدلالةِ: أنَّ اللهَ قال في المضيِّعينَ للصلاةِ، المتَّبعينَ للشهواتِ: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ فدلَّ على أنَّهم حينَ إضاعتِهم للصلاةِ واتِّبَاعِ الشهواتِ غيرُ مؤمنين ، فلو كان مضيِّعُ الصلاةِ مؤمنًا لم يُشترَطْ في توبتِه الإيمانُ؛ فإنَّه يكونُ تحصيلًا للحاصلِ ، وذلك على أنَّ المرادَ بالإضاعةِ: التركُ.

3- في قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ذمٌّ لمَن تَرَكَ شيئًا مِن واجباتِ الصلاةِ -وإنْ كان في الظاهر مُصَلِّيًا- مثل أنْ يَتْرُكَ الوقتَ الواجبَ، أو يَتْرُكَ تكميلَ الشرائطِ والأركانِ مِن الأعمالِ الظاهرةِ والباطنةِ ، وذلك على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ.

4- شَرَط الله في قَبولِ التوبةِ ومغفرةِ الذنوبِ بها العملَ الصالحَ، كقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، وقَولِه: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [طه: 82] ، وقَولِه: فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ [القصص: 67] .

5- قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا، قَولُه: نُورِثُ فيه إشارةٌ إلى أنَّها ليست عِوَضًا عن الأعمالِ بوَجهٍ، ولم يأخُذْها أحَدٌ بالاستِحقاقِ، وإنَّما كالوارِثِ الذي أخَذَ كوارِثٍ بغيرِ مُعاوَضةٍ ولا استِحقاقٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا فُرِّعَ على الثَّناءِ عليهم اعتبارٌ وتَنديدٌ بطائفةٍ من ذُرِّياتِهم لم يَقْتدوا بصالحِ أسلافِهم، وهم الذين عناهم بقولِه: خَلْفٌ

.

- وقولُه: مِنْ بَعْدِهِمْ يشمَلُ طَبقاتٍ وقُرونًا كثيرةً، وليس قيدًا؛ لأنَّ الخلَفَ لا يكونُ إلَّا مِن بعْدِ أصْلِه، وإنَّما ذُكِرَ لاستحضارِ ذَهابِ الصَّالحينَ .

- قولُه: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ حرْفُ (سَوْفَ) دالٌّ على أنَّ لقاءَهم الغيَّ مُتكرِّرٌ في أزمنةِ المُستقبَلِ؛ مُبالغةً في وعيدِهم، وتَحذيرًا لهم من الإصرارِ على ذلك .

2- قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا

- جِيءَ في جانبِهم باسمِ الإشارةِ فَأُولَئِكَ؛ إشادةً بهم، وتَنبيهًا لهم؛ للتَّرغيبِ في تَوبتِهم ؛ فما في اسمِ الإشارةِ فَأُولَئِكَ مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ مَنزلتِهم، أي: فأولئك المَنعوتونَ بالتَّوبةِ والإيمانِ والعملِ الصَّالحِ .

- قولُه: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ جِيءَ بالمُضارعِ الدَّالِّ على الحالِ؛ للإشارةِ إلى أنَّهم لا يُمْطَلون في الجَزاءِ .

- وذِكْرُ شَيْئًا في سياقِ النَّفيِ يفيدُ نفْيَ كلِّ فردٍ من أفرادِ النَّقصِ والإجحافِ والإبطاءِ، فيُعْلَمُ انتفاءُ النَّقصِ القويِّ بالفحوى ؛ دفعًا لِما عسى أنْ يُخالِجَ نُفوسَهم من الانكسارِ بعدَ الإيمانِ، بظَنِّ أنَّ سبْقَ الكُفرِ يحُطُّ من حُسنِ مَصيرِهم ، ففيه: تنبيهٌ على أنَّ كُفرَهم السَّابقَ لا يضُرُّهم ولا ينقُصُ أُجورَهم .

3- قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا

- قولُه: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ جِيءَ بصيغةِ جمْعِ (جنَّاتٍ) مع أنَّ المُبدَلَ منه مُفردٌ؛ لأنَّه يَشتمِلُ على جنَّاتٍ كثيرةٍ .

- ووُصِفَتِ الجنَّاتُ بـ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ؛ لزيادةِ تَشريفِها وتحسينِها، وفي ذلك إدماجٌ لتَبشيرِ المُؤمِنين السَّابقينَ في أثناءِ وعْدِ المَدْعوين إلى الإيمانِ .

- والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرَّحمةِ الرَّحْمَنُ؛ للإيذانِ بأنَّ وعْدَها وإنجازَه لكَمالِ سَعةِ رحمَتِه تعالى .

- قولُه: إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا تعليلٌ لجُملةِ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ، أي: يَدْخلون الجنَّةَ وعْدًا من اللهِ واقعًا، وهذا تحقيقٌ للبِشارةِ .

- في قولِه: مَأْتِيًّا عُبِّرَ بالإتيانِ عن حُصولِ المطلوبِ المُترقَّبِ؛ تَشبيهًا لمَن يُحصِّلُ الشَّيءَ بعدَ أنْ سعَى لتَحصيلِه بمَن مَشَى إلى مكانٍ حتَّى أتاهُ، وتَشبيهًا للشَّيءِ المُحصَّلِ بالمكانِ المقصودِ .

4- قولُه تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا

- قولُه: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا كِنايةٌ عن عدَمِ صُدورِ اللَّغوِ عن أهْلِها ، وكِنايةٌ عن انتفاءِ أقلِّ المُكدِّراتِ في الجنَّةِ، وكِنايةٌ عن جعْلِ مُجازاةِ المُؤمِنين في الجنَّةِ بضِدِّ ما كانوا يُلاقُونَه في الدُّنيا من أذَى المُشرِكين ولَغْوِهم .

- قولُه: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا جِيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ ذلك ودوامِه؛ فيفيدُ التَّكرُّرَ المُستمِرَّ، وهو أخصُّ من التَّكرُّرِ المُفادِ بالفعْلِ المُضارعِ وأكثَرُ .

- وتَقديمُ الظَّرفِ وَلَهُمْ؛ للاهتمامِ بشأْنِهم. وإضافةُ (رِزْق) إلى ضَميرِهم رِزْقُهُمْ؛ لزيادةِ الاختصاصِ .

- والجمْعُ بينَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا كِنايةٌ عن استغراقِ الزَّمنِ، أي: لهم رزقُهم غيرَ محصورٍ ولا مُقدَّرٍ، بلْ كلَّما شاؤوا ، وذلك على قولٍ في تَفسيرِ الآيةِ.

5- قولُه تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا الوراثةُ أقْوَى لَفظٍ يُستعمَلُ في التَّملُّكِ والاستحقاقِ؛ من حيثُ إنَّها لا تُعْقَبُ بفسْخٍ ولا استرجاعٍ، ولا تبطلُ برَدٍّ ولا إسقاطٍ، وفيه تَشبيهٌ تَمثيليٌّ بليغٌ؛ فقد شبَّهَ عطاءَ الجنَّةِ لهم بالعَطاءِ الَّذي لا يُرَدُّ، وهو الميراثُ الَّذي يرِثُه الوارثُ؛ فلا يرجِعُ فيه المورِّثُ، أي: نُبْقيها عليهم من ثَمرةِ تَقْواهم، كما يَبْقى على الوارثِ مالُ مُورِّثِه .

- وجُملةُ: تِلْكَ الْجَنَّةُ ... مُستأنفةٌ ابتدائيَّةٌ، واسمُ الإشارةِ تِلْكَ لزيادةِ التَّمييزِ؛ تَنويهًا بشأْنِها، وأُجْرِيَت عليها الصِّفةُ بالموصولِ وصِلَتِه الَّتِي نُورِثُ ...؛ تَنويهًا بالمُتَّقينَ، وأنَّهم أهْلُ الجنَّةِ . وجِيءَ كذلك باسمِ الإشارةِ تِلْكَ؛ لتَعظيمِ شأنِ الجنَّةِ، وتَعيينِ أهْلِها؛ فإنَّ ما في اسمِ الإشارةِ من معنى البُعدِ للإيذانِ ببُعدِ مَنزلتِها، وعُلوِّ رُتبتِها .

- وقولُه: مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا فيه تشريفٌ لهم مِن جهةِ إضافةِ لفظِ العبادِ إلى الله تعالى، ولأنَّ (تَقِيًّا) أخصُّ مِن (المتَّقي)

==================

 

سورةُ مَريمَ

الآيتان (64-65)

ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ

غريب الكلمات :

 

نَسِيًّا: أي: ذا نِسيانٍ، أو: تاركًا لك، وأصلُ (نسي): يدلُّ على إغْفالِ الشيءِ، أو تركِه

.

وَاصْطَبِرْ: أي: اصبِرْ، أو: اصبِرْ صبرًا عظيمًا، أو: تحمَّلِ الصَّبرَ بجهدِك، ويُقالُ: اصْطَبر: إذا اكتسَب الصبرَ وتعلَّمَه، والاصْطِبارُ : شِدَّةُ الصَّبرِ على الأمرِ الشَّاقِّ، وأصلُ (صبر) هنا: الحبسُ والمنعُ .

سَمِيًّا: أي: مَثيلًا وشَبيهًا ونَظيرًا، فالسميُّ: المُسامي؛ فعيلٌ بمعنَى مُفاعِل، أي: المماثلِ في السموِّ والرفعةِ والشَّرَفِ، وأصلُ (سمو): يدُلُّ على العُلوِّ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: قلْ -يا جِبريلُ- لمحمَّدٍ: وما نتنَزَّلُ نحن -الملائِكةَ- من السَّماءِ إلى الأرضِ إلَّا بأمرِ رَبِّك لنا، فلا تَستبطئْ نُزولَنا، لله وحده جميعُ الجهاتِ والأماكنِ، وجميعُ الأزمانِ: الحاضرةِ والماضيةِ والمستقبلةِ، فلا نقدرُ أن ننتقلَ مِن جهةٍ إلى جهةٍ، أو في زمانٍ دونَ زمانٍ إلَّا بأمرِ ربِّك ومشيئتِه، وما كان ربُّك ناسيًا لشيءٍ مِن الأشياءِ؛ فهو رَبُّ السَّمواتِ والأرضِ وما بينهما، ومالِكُ ذلك كُلِّه وخالِقُه ومُدَبِّرُه، فاعبُدْه وَحدَه -يا محمَّدُ- واصطَبِرْ على طاعتِه؛ لأنَّه ليس كمِثلِه شَيءٌ في ذاتِه وأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه سُبحانَه؛ فيَستَحِقَّ أن يُعبَدَ مِثلَ اللهِ، وأن يُسمَّى بما يختصُّ به اللهُ مِن الأسماءِ الحُسنى.

تفسير الآيتين:

 

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

بعد أن ذكَرَ قَصَص الأنبياءِ عليهم السَّلامُ؛ تثبيتًا له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأعقَبَه بذِكرِ ما أحدَثَه الخَلْفُ بَعدَهم، وذكَرَ جزاءَ الفَريقينِ؛ أعقَبَ ذلك بقَصَصِ تأخُّرِ نُزولِ جِبريلَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ زعم المُشرِكونَ أنَّ اللهَ ودَّعَه وقلاه، وقد ردَّ عليهم زعْمَهم وأبان لهم أنَّ الأمرَ على غيرِ ما زَعَموا

.

وأيضًا لَمَّا كَشَفَت هذه السُّورةُ عن هذه القِصَصِ الغَريبةِ، وكان المتعَنِّتونَ ربَّما قالوا: نريدُ أن يخبِرَنا هذا الذي يَنزِلُ عليك بجَميعِ أنباءِ الأقدَمينَ، وأخبارِ الماضِينَ؛ كان جوابًا عن ذلك أن قيلَ: ما أُنزِلْنا عليك بأخبارِ هؤلاء إلَّا بأمرِ رَبِّك، وما نتنزَّلُ فيما يأتي أيضًا إلَّا بأمرِ ربِّك .

سببُ النُّزولِ:

عن ابنِ عَبَّاسٍ رضِيَ الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يا جِبريلُ، ما يمنَعُك أن تَزورَنا أكثَرَ مِمَّا تَزورُنا؟ فنزلت: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا إلى آخِرِ الآية، قال: كان هذا الجوابُ لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) .

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ.

أي: قُلْ -يا جبريلُ- لمحمَّدٍ: وما ننْزِلُ نحن -الملائِكةَ- من السَّماءِ إلَّا بأمرِ رَبِّك لنا بالنُّزولِ متى شاء؛ فنحن عبيدٌ مأمورونَ، ليس لنا مِن الأمرِ شَيءٌ، فلا تَستبطئْ نُزولَنا يا محمَّدُ .

كما قال تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 27].

لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ.

أي: لله وحدَه جميعُ الجهاتِ والأماكنِ، وجميعُ الأزمانِ: الحاضرةِ والماضيةِ والمستقبلةِ، فلا نقدرُ أن ننتقلَ مِن جهةٍ إلى جهةٍ، أو في زمانٍ دونَ زمانٍ إلَّا بأمرِ ربِّك ومشيئتِه .

وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.

أي: ولم يكُنْ رَبُّك -يا محمَّدُ- ذا نسيانٍ لشَيءٍ مِن الأشياءِ، فإنْ تأخَّرَ نزولُنا إليك، فليس عن نِسيانٍ منه، وإنَّما اقتضت حكمتُه ذلك، ولم يكن ربُّك لينساك ويُهمِلَك، بل لم يَزَلْ مُعتَنيًا بك؛ فلا تحزَنْ إن تأخَّرَ نزولُنا، واعلَمْ أنَّ اللهَ أراد ذلك .

كما قال تعالى: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [طه: 52] .

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا وُصِفَ اللهُ سبحانه وتعالى بنفوذِ الأمرِ، واتِّساعِ العِلمِ على وجهٍ ثبَت به ما أخبَرَ به عن الجنة، فثبَت أمرُ البعث؛ أتبع ذلك ما يُقَرِّرُه على وجهٍ أصرحَ منه وأعمَّ، فقال :

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا.

أي: خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ ومالِكُهما وما بينَهما مِن الخَلقِ، ومُدَبِّرُ ذلك كلِّه، فلو كان نَسِيًّا لم يستَقِم الوُجودُ، ولاضطربَ نظامُ الحياةِ، وهلكَت المخلوقاتُ .

فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ .

أي: فاعبُدْ رَبَّك وَحدَه مُخلِصًا له، واصبِرْ صَبرًا عظيمًا بغايةِ جُهدِك على العَمَلِ بطاعتِه .

هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا.

أي: أمَرْناك بعبادةِ اللهِ والاصطبارِ عليها؛ لأنَّه لا مثيلَ ولا شبيهَ له في صِفاتِه وأسمائِه؛ فيستحقَّ أن يُعبَدَ مِثلَ اللهِ، وأن يُسمَّى بما يختصُّ به اللهُ مِن الأسماءِ الحُسنى

 

.

كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] .

وقال سُبحانَه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4] .

الفوائد التربوية:

 

في قوله تعالى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ دليلٌ على أنَّ العبادةَ لا تخلو مِن مشقةٍ، والمؤمنُ مأمورٌ بالصَّبرِ عليها؛ إذ اسمُ الصبرِ لا يكونُ إلَّا مَقرونًا بالكَراهةِ والصُّعوبةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فيه سؤالٌ: وهو أنَّ قَولَه: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا كلامُ اللهِ، وقَولَه هنا: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ كلامُ غَيرِ اللهِ، فكيف جاز عَطْفُ هذا على ما قَبلَه مِن غيرِ فَصلٍ؟

الجواب: أنَّه إذا كانت القرينةُ ظاهِرةً لم يَقبُحْ، كما أنَّ قَولَه سُبحانَه: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم: 35] هو كلامُ اللهِ، وقولُه: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [مريم: 36] كلامُ غيرِ اللهِ، وأحَدُهما معطوفٌ على الآخَرِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ استُدِلَّ به على أنَّ الأزمنةَ ثَلاثةٌ: مُستقبَلٌ وماضٍ وحالٌ، خِلافًا لِمَن نفى الحالَ ، وهذا على القولِ بأنَّ الآيةَ في الأزمنةِ.

3- قَولُ اللهِ تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] ، وقولُه: وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه: 126] ، وقَولُه: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية: 34] ؛ لا يُعارِضُ قولَه تعالى: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [طه: 52] ، وقَولَه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا؛ لأنَّ معنى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ [الأعراف: 51] ونحوِه، أي: نتركُهم في العذابِ محرومينَ مِن كُلِّ خَيرٍ، واللهُ تعالى أعلَمُ .

4- اجتمَعَت في قولِه تعالى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أقسامُ التَّوحيدِ الثَّلاثةُ: توحيدُ الربوبيَّة، وتوحيدُ الألوهيَّة، وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ ؛ فالربوبيةُ في قولِه: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، والألوهيةُ في قولِه: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ، والأسماءُ والصفاتُ في قولِه: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا.

5- نهانا الله تعالى أن نَضرِبَ له المثَلَ، فقال: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 74] ، وأخبَرَنا -عزَّ وجَلَّ- أنَّه لا مِثلَ له، فقال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، وقال تعالى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا وبهذه الآياتِ يتبيَّنُ أنَّه لا يحِلُّ لنا أن نُمَثِّلَ صفاتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ .

6- قال الله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا يستفادُ منه أنَّ النكرةَ في سياقِ الاستفهامِ تَعُمُّ .

7- في قَولِه تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا الاستفهامُ للنفيِ، وإذا كان الاستفهامُ بمعني النفيِ كان مُشرَبًا معنى التحَدِّي، يعني: إنْ كنتَ صادِقًا فأخبِرْنا: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ؟

8- قال ابنُ عقيلِ: (كُلُّ ما انفردَ بِه اللهُ عزَّ وجلَّ، كـ «اللَّه» و«رحمن» و«خالق» لا يجوزُ التَّسمِّي به، وكلُّ ما وُجِدَ معنَاهُ في الآدَمِي: فإنْ كانَ يوجدُ تكبرًا، كالملكِ العظيم والأعظم، وملكِ الملوكِ، والجبارِ؛ فمكروهٌ، والصوابُ الجزمُ بتحريمِه، فأمَّا مَا يتسمَّى بِه المخلوقونَ مِنْ أسمائِهِ، كالسميع والبصيرِ، والقديرِ والعليم والرحيم، فإنَّ الإضافةَ قاطِعةٌ الشَّرِكةَ، وكذلك الوصفيةُ، فقولنا: زيدٌ سميعٌ بصيرٌ لا يُفيدُ إلا صفةَ المخلوقِ، وقولُنا: اللَّهُ سميعٌ بصيرٌ يفيدُ صفتَه اللائقةَ بِه، فانقطعتْ المشابهةُ بوجْهٍ من الوجوهِ؛ ولهذا قالَ تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا

- قولُه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا في إعادةِ اسمِ الرَّبِّ المُعرِبِ عن التَّبليغِ إلى الكَمالِ اللَّائقِ، مضافًا إلى ضَميرِه عليه السَّلامُ: من تَشريفِه، والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ ما لا يَخْفَى

.

- ونَسِيًّا صِيغَةُ مُبالغةٍ من: نَسِيَ، أي: كثيرَ النِّسيانِ أو شديدَه، والمقصودُ: صرْفُ المُبالغةِ إلى جانبِ نسبةِ نفْيِ النِّسيانِ عنِ اللهِ تعالى، أي: تَحقيقُ نفْيِ النِّسيانِ؛ فهو هنا كِنايةٌ عن إحاطةِ علْمِ اللهِ ، وبيانٌ لاستحالةِ النِّسيانِ عليه تعالى .

2- قولُه تعالى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا جُملةٌ مُستأنفةٌ مِن كلامِ اللهِ تعالى، كما يَقْتضيه قولُه: فَاعْبُدْهُ ...؛ ذيَّلَ بهِ الكلامَ الَّذي لَقَّنَه جبريلَ المُتضمِّنَ: أنَّ الملائكةَ لا يتصرَّفون إلَّا عن إذْنِ ربِّهم، وأنَّ أحوالَهم كلَّها في قبضَتِه بما يفيدُ عُمومَ تصرُّفِه تعالى في سائرِ الكائناتِ، ثمَّ فرَّعَ عليه أمْرَ الرَّسولِ عليه السَّلامُ بعبادتِه، فقدِ انتقَلَ الخطابُ إليه ، وهي بَيانٌ لاستحالةِ النِّسيانِ عليه تعالى؛ فإنَّ مَن بيَدِه ملكوتُ السَّمواتِ والأرضِ وما بينهما كيف يُتصوَّرُ أنْ يحومَ حولَ ساحةِ سُبحانه الغفلةُ والنِّسيانُ ؟!

وقيل: قولُه: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا تعليلٌ لإحاطةِ عِلمِه، وعدمِ نِسيانِه؛ فربوبيتُه للسَّمواتِ والأرضِ، وكونُهما على أحسَنِ نِظامٍ وأكمَلِه، ليس فيه غفلةٌ ولا إهمالٌ، ولا سُدى، ولا باطلٌ؛ برهانٌ قاطع على عِلمِه الشاملِ .

- والفاءُ في قولِه تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ لترتيبِ ما بعْدَها من مُوجبِ الأمْرينِ على ما قبْلَها، من كونِه تعالى ربَّ السَّمواتِ والأرضِ وما بينهما، ويحصُلُ منه التَّخلُّصُ إلى التَّنويهِ بالتَّوحيدِ، وتَفظيعِ الإشراكِ . وقيل: من كونِه تعالى غيرَ تاركٍ له عليه السَّلامُ، أو غيرَ ناسٍ لأعمالِ العاملينَ .

- وفي قولِه: وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ عُدِّيَ (اصْطَبِرْ) باللَّامِ -ولم يُعَدَّ بـ (على) الَّتي هي صِلَتُه، كقولِه تعالى: وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه: 132] -؛ لتَضمينِه معنى الثَّباتِ، أي: اثبُتْ للعبادةِ؛ لأنَّ العبادةَ مَراتبُ كثيرةٌ من مُجاهدةِ النَّفسِ، وقد يغلِبُ بعضُها بعضَ النُّفوسِ، فتَستطيعُ الصَّبرَ على بعضِ العباداتِ دونَ بعضٍ .

- وجُملةُ: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا واقعةٌ موقعَ التَّعليلِ للأمْرِ بعِبادتِه، والاصطبارِ عليها، والاستفهامُ إنكاريٌّ، أي: لا مُسامِيَ للهِ تعالى، أي: ليس مَن يُساميه -أي: يُضاهيه- موجودًا. وانتفاءُ تَسميةِ غيرِه من الموجوداتِ المُعظَّمةِ باسْمِه: كِنايةٌ عن اعترافِ النَّاسِ بأنْ لا مُماثِلَ له في صِفَةِ الخالقيَّةِ؛ لأنَّ المُشرِكين لم يَجتَرِئوا على أنْ يَدَّعوا لآلهتِهم الخالقيَّةَ، وبذلك يتِمُّ كونُ الجُملةِ تعليلًا للأمْرِ بإفرادِه بالعبادةِ على هذا الوجْهِ أيضًا، وقد كُنِّيَ بانتفاءِ العلْمِ بسَمِيِّه عن انتفاءِ وُجودِ سَمِيٍّ له؛ لأنَّ العلمَ يَستلزِمُ وُجودَ المعلومِ، وإذا انتفَى مُماثِلُه انتفَى مَن يَستحِقُّ العبادةَ غيرَه . فالمُرادُ بإنكارِ العلْمِ ونفْيِه: إنكارُ المعلومِ ونفْيُه على أبلَغِ وجْهٍ وآكدِه؛ فالجُملةُ تقريرٌ لِما أفادهُ الفاءُ مِن عِلِّيةِ رُبوبيَّتِه العامَّةِ لوُجوبِ عبادتِه، بل لوُجوبِ تَخصيصِها به تعالى؛ ببَيانِ استقلالِه عَزَّ وجَلَّ بذلك الاسمِ، وانتفاءِ إطلاقِه على الغيرِ بالكُلِّيةِ حقًّا أو باطلًا

================

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (66-72)

ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ

غريب الكلمات :

 

جِثِيًّا: أي: بُروكًا على رُكَبِهم، لا يستطيعونَ القيامَ ممَّا هم فيه، جمعُ جاثٍ. وقيل: چ أي: جميعًا، وقيلَ: أي: جماعاتٌ، جمعُ جَثْوَةٍ، وهي المجموعُ مِن التُّرابِ أو الحجارةِ

.

شِيعَةٍ: الشيعةُ: الفرقةُ التي شايَع بعضُها بعضًا، أي: تابَعه، والشِّيعَةُ: مَن يتقوَّى بهم الإنسانُ، ويَنْتشِرون عنه، وكلُّ قومٍ اجتَمعوا على أمرٍ فهم شيعةٌ، وأصلُه يدلُّ على معاضدةٍ ومساعفةٍ .

عِتِيًّا: أي:تمرُّدًا، والعُتُوُّ: النُّبُوُّ -أي: الارتفاعُ- عن الطاعةِ، وكلُّ مُتَناهٍ إلى غايَتِه في كِبرٍ، أو فسادٍ، أو كفرٍ فهو عاتٍ، وأصلُ (عتو) هنا: يدُلُّ على استكبارٍ .

صِلِيًّا: أي: دُخولًا، ومُقاساةً لحَرِّها، وأصلُ الصلي هنا: الإيقادُ بالنَّارِ. وقيل: أصلُه: القربُ مِن النارِ .

وَارِدُهَا: أي: مارٌّ عليها، أو: داخلُها، وأصلُ (ورد): يدلُّ على الموافاةِ إلى الشَّيءِ .

حَتْمًا: أي: أمرًا محتومًا، لازمًا، جازمًا، واجِبًا لا محيدَ عنه، والحتمُ: إيجابُ القضاءِ، والقطعُ بالأمرِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبرُ الله تعالى عن موقفِ المشركينَ مِن البعثِ، ويحكي أقوالَهم الباطلةَ، فيقولُ تعالى: ويقولُ الإنسانُ الكافِرُ مُنكِرًا للبَعثِ بعدَ الموتِ: هل إذا ما مِتُّ وفَنِيتُ أُخرَجُ مِن قبري حيًّا؟!

ويردُّ الله سبحانَه عليهم بما يُبطِلُ قولَهم، فيقولُ: أولَا يَذكُرُ هذا الكافِرُ أنَّا خَلَقْناه أوَّلَ مَرَّةٍ، ولم يكُنْ شيئًا مذكورًا؟! فالقادِرُ على إيجادِه مِن العَدَمِ قادِرٌ على إحيائِه بعدَ مَوتِه.

ثمَّ يُقسِمُ الله سبحانَه على وقوعِ البعثِ والنشورِ فيقولُ: فوربِّك -يا محمَّدُ- لنجمعَنَّ هؤلاء المُنكِرينَ للبَعثِ يومَ القيامةِ مع الشَّياطينِ الذين أضَلُّوهم، ثمَّ لنُحضِرَنَّهم حَولَ جهنَّمَ باركينَ على رُكَبِهم، ثمَّ لنأخُذَنَّ مِن كلِّ طائفةٍ أشدَّهم تمرُّدًا وكُفرًا وعِصيانًا لله، فنبدأُ بعَذابِهم، ثمَّ لنحن أعلَمُ بمَن هم أحقُّ بشدَّةِ العذابِ في النَّارِ.

ثمَّ يُبيِّنُ أنَّ الجميعَ سيرِدُ جهنَّمَ، فيقولُ: وما منكم -أيُّها النَّاسُ- أحدٌ إلَّا وارِدٌ النَّارَ، كان ذلك على ربِّك أمرًا محتومًا وقَضاءً واجبًا لا بدَّ مِن وقوعِه، ثمَّ ننجِّي الذين اتَّقَوا ربَّهم بامتِثالِ ما أمَرَ واجتنابِ ما نهى، ونتركُ الظالمينَ أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي في النَّارِ باركينَ على رُكَبِهم.

تفسير الآيات:

 

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا تضَمَّنَ قَولُه تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم: ٦٥] إبطالَ عَقيدةِ الإشراكِ به؛ ناسبَ الانتقالُ إلى إبطالِ أثَرٍ مِن آثارِ الشِّركِ، وهو نفيُ المشركينَ وُقوعَ البعثِ بعد الموتِ؛ حتى يتِمَّ انتقاضُ أصلَيِ الكُفرِ

.

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66).

أي: ويقولُ الإنسانُ الكافِرُ مُنكِرًا للبَعثِ بعدَ الموتِ: هل سأُخرَجُ بعدَ موتي وفَنائي حيًّا مِن قبري ؟!

كما قال تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد: 5].

وقال سُبحانه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] .

أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67).

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قولِه تعالى: يَذْكُرُ قراءتانِ:

1- قِراءةُ يَذْكُرُ مِنَ (الذِّكر) الذي يكونُ عَقيبَ النِّسيانِ والغَفلةِ، أي: أوَلا يتنبَّهُ الإنسانُ ويعلَمُ ؟

2- قِراءةُ يَذَّكَّرُ مِن (التذَكُّرِ) الذي هو بمعنى التدبُّر، أي: أوَلا يتدبَّرُ الإنسانُ ويتفَكَّرُ ؟

أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67).

أي: أوَلا يتنبَّهُ الكافِرُ المُنكِرُ قُدرةَ اللهِ على بَعثِه أنَّ اللهَ قد خلقَه مِن قَبلُ ولم يكُنْ شَيئًا مذكورًا؟! فالقادِرُ على إيجادِه مِن العَدَمِ قادِرٌ على إحيائِه بعدَ مَوتِه .

كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 27] .

وقال سُبحانه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 78، 79].

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال الله: كذَّبني ابنُ آدَمَ، ولم يكُنْ له ذلك، وشتَمَني، ولم يكنْ له ذلك؛ فأمَّا تكذيبُه إيَّاي فزَعَم أنِّي لا أقدِرُ أن أُعيدَه كما كان، وأمَّا شَتمُه إيَّاي فقولُه: لي ولَدٌ، فسُبحاني أن أتَّخِذَ صاحِبةً أو ولدًا! )) .

فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68).

فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ.

أي: فأُقسِمُ برَبِّك -يا محمَّدُ- لنجمَعَنَّ المُنكِرينَ للبَعثِ يومَ القيامةِ معَ شياطينِهم الذين أضَلُّوهم .

كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22- 23].

ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا.

أي: ثمَّ لنُحضِرَنَّهم حولَ جهنَّمَ أذِلَّاءَ، باركينَ على رُكَبِهم؛ مِن شِدَّةِ الأهوالِ، وفظاعةِ الأحوالِ .

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) .

أي: ثمَّ لنأخُذَنَّ بشِدَّةٍ وعُنفٍ مِن كُلِّ جماعةٍ وفِرقةٍ مِن طوائِفِ الكُفرِ والضَّلالِ أشَدَّهم تمَرُّدًا على الرَّحمنِ، وأعظَمَهم فَسادًا وكُفرًا وظُلمًا، فنبدأُ بتعذيبِهم، وإدخالِهم النَّارَ .

كما قال تعالى عن فرعونَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود: 98] .

ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنه لمَّا كان هذا النَّزعُ والتَّمييزُ مُجملًا، فقد يزعُمُ كلُّ فريقٍ أنَّ غيرَه أشدُّ عِصيانًا؛ أعلَمَ اللهُ تعالى أنَّه يعلَمُ مَن هو أولَى منهم بمِقدارِ صِلِيِّ النَّارِ؛ فإنَّها دركاتٌ مُتفاوتةٌ .

ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) .

أي: ثمَّ لنحنُ أعلَمُ بمَن هم أحقُّ بشدَّةِ العذابِ في النَّارِ مِن غَيرِهم .

وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) .

وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا .

أي: وما منكم أحدٌ -أيُّها النَّاسُ- إلَّا سيَرِدُ النَّارَ .

عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يؤتى بالجِسرِ فيُجعَلُ بين ظَهرَي جهنَّم. قُلنا: يا رسولَ اللهِ، وما الجِسرُ؟ قال: مَدحَضةٌ مَزِلَّةٌ ، عليه خطاطيفُ وكلاليبُ ، وحَسَكةٌ مُفلطحةٌ لها شوكةٌ عُقَيفاءُ -تكونُ بنَجْدٍ، يقالُ لها: السَّعدان- المؤمِنُ عليها كالطَّرفِ وكالبَرقِ وكالرِّيحِ، وكأجاويدِ الخَيلِ والرِّكابِ ؛ فناجٍ مُسَلَّمٌ، وناجٍ مَخدوشٌ، ومَكدوسٌ في نارِ جهنَّمَ، حتى يمُرَّ آخِرُهم يُسحَبُ سَحبًا)) .

وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: أخبَرَتني أمُّ مُبشِّر أنَّها سَمِعت النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ عند حفصةَ: ((لا يدخُلُ النَّارَ -إن شاء اللهُ- من أصحابِ الشَّجرةِ أحَدُ الذين بايعوا تحتَها، قالت: بلى يا رسولَ اللهِ! فانتهَرَها، فقالت حفصةُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قد قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)) .

وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أمَّا أهلُ النَّارِ الذين هم أهلُها، فإنَّهم لا يموتونَ فيها ولا يَحيَونَ، ولكِنْ ناسٌ أصابَتهم النَّارُ بذُنوبِهم -أو قال: بخطاياهم- فأماتهم إماتةً، حتى إذا كانوا فَحمًا أُذِن بالشَّفاعةِ، فجيء بهم ضبائِرَ ضبائِرَ ، فبُثُّوا على أنهارِ الجنَّةِ، ثمَّ قيل: يا أهلَ الجنَّةِ أفيضُوا عليهم، فيَنبُتونَ نباتَ الحِبَّةِ تكونُ في حَميلِ السَّيلِ ) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِي الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يموتُ لمُسلمٍ ثلاثةٌ مِن الوَلَدِ فيَلِجَ النَّارَ، إلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ )، قال أبو عبدِ اللهِ أي: البخاري: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا .

كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا .

أي: كان ورودُكم النَّارَ أمرًا واجبًا لازمًا، قضَى الله تعالى أنَّه لا بُدَّ مِن وُقوعِه لا مَحالةَ، وحتَّمه على نفسِه .

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا .

أي: ثمَّ نُخَلِّصُ الذين اتَّقوا اللهَ بامتِثالِ ما أمَرَ، واجتنابِ ما نهى، مِن النَّارِ بعدَ وُرودِ النَّاسِ إيَّاها .

وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا.

أي: ونترُكُ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والشِّركِ والمعاصي في النَّارِ بُروكًا على رُكَبِهم

 

.

الفوائد التربوية:

 

قَولُ اللهِ تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا فيه دعوةٌ للنَّظَرِ بالدَّليلِ العَقليِّ بألطَفِ خِطابٍ، وأنَّ إنكارَ مَن أنكر ذلك مبنيٌّ على غفلةٍ منه عن حالِه الأُولَى، وإلَّا فلو تذكَّرَها وأحضَرَها في ذِهنِه، لم يُنكِرْ ذلك

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِ الله تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا قال بعضُ العُلَماءِ: لو اجتَمع كلُّ الخلائقِ على إيرادِ حُجَّةٍ في البعثِ على هذا الاختصارِ، ما قَدَروا عليه؛ إذ لا شكَّ أنَّ الإعادةَ ثانيًا أهونُ مِن الإيجادِ أوَّلًا

، فهذه الحُجَّةُ في غايةِ الاختصارِ والإلزامِ للخصمِ، ويُسمَّى هذا النَّوعُ الاحتجاجَ النَّظريَّ، وبعضُهم يُسمِّيه المذهبَ الكلاميَّ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا فإن قيل: كيف أمَر تعالى الإنسانَ بالذِّكرِ مع أنَّ الذِّكرَ هو العِلمُ بما قد عَلِمَه من قبلُ، ثمَّ تخلَّلهما سهوٌ؟

الجوابُ: أن المراد: أوَلا يتفكَّرُ فيَعلَم، خصوصًا إذا قرئ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ بالتشديدِ، أمَّا إذا قرئ أَوَلَا يَذْكُرُ بالتخفيف، فالمرادُ: أو لا يعلَمُ ذلك من حالِ نَفسِه؛ لأنَّ كُلَّ أحدٍ يعلَمُ أنَّه لم يكن حيًّا في الدُّنيا ثمَّ صار حيًّا .

3- قوله تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا هذه الآيةُ أصلٌ في إلحاقِ المِثْلِ بمِثْلِه .

4- في قوله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا إشارةٌ إلى أنَّ العذابَ يَتَوَجَّهُ إلى السَّاداتِ أوَّلًا، ثم تكونُ الأتباعُ تَبَعًا لهم فيه، كما كانوا تَبَعًا لهم في الدُّنيا ، فيُعذَّب الرؤساءُ القادةُ في الكفرِ قبلَ غيرِهم، ويشدَّدُ عليهم العذابُ؛ لضلالِهم وإضلالِهم .

5- في قَولِه تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ في الوعيدِ شَديدةٌ؛ لزعمِهم أنَّ الدَّاخِلَ مِن الموحِّدينَ النارَ لا يَخْرُجُ منها أبدًا، وهذا نصُّ القرآنِ يُخْبِرُ بورودِ الجميعِ إيَّاها، وصَدْرِ المتَّقينَ عنها . وذلك على القولِ بأنَّ الورودَ هو الدخولُ.

6- في قَولِه تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا بيانُ نعمةِ اللهِ على المتَّقينَ؛ أنَّهم مع الورودِ والعُبورِ عليها وسُقوطِ غيرِهم فيها، نجَوا منها ، وذلك على القولِ بأنَّ الورودَ هو المرورُ على الصراطِ.

7- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا -على القَولِ بأنَّ الورودَ هو الدُّخولُ- فيه سؤالٌ: إذا لم يكُنْ على المؤمِنينَ عَذابٌ في دُخولِهم النَّارَ، فما الفائِدةُ في ذلك الدُّخولِ؟

الجوابُ من وجوهٍ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ ذلك ممَّا يزيدُهم سرورًا إذا عَلِموا الخلاصَ منه.

الوجهُ الثَّاني: أنَّ فيه مزيدَ غَمٍّ على أهلِ النَّارِ؛ مِن حيثُ يَرَونَ المؤمنينَ الذين هم أعداؤُهم يتخَلَّصون منها، وهم يبقَونَ فيها.

الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ فيه مزيدَ غَمٍّ على أهلِ النَّارِ؛ مِن حيثُ تَظهَرُ فضيحتُهم عند المؤمِنينَ، بل وعندَ الأولياءِ، وعندَ مَن كان يخوِّفُهم مِن النَّارِ فما كانوا يلتَفِتون إليه.

الوجهُ الرَّابعُ: أنَّ المؤمنين إذا كانوا معهم في النَّارِ يُبكِّتونَهم؛ فزاد ذلك غمًّا للكُفَّارِ، وسُرورًا للمؤمنين.

الوجهُ الخامِسُ: أنَّ المؤمِنينَ كانوا يخوِّفونَهم بالحَشرِ والنَّشرِ، ويُقيمونَ عليهم صِحَّةَ الدَّلائِلِ، فما كانوا يَقبَلونَ تلك الدَّلائِلَ، فإذا دخلوا جهنَّمَ معهم أظهَروا لهم أنَّهم كانوا صادِقينَ فيما قالوا، وأنَّ المكَذِّبينَ بالحَشرِ والنَّشرِ كانوا كاذبينَ.

الوجهُ السَّادسُ: أنَّهم إذا شاهدوا ذلك العذابَ صار ذلك سببًا لِمَزيدِ الْتِذاذِهم بنعيمِ الجنَّةِ، كما قال الشاعر :

وبضِدِّها تتبيَّنُ الأشياءُ

8- قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، على القولِ بأنَّ المرادَ بالوُرودِ: المرورُ على الصراطِ؛ فهذه أقوَى آيةٍ في ذِكرِ الصِّراطِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا

- والواوُ في قولِه: وَيَقُولُ عاطفةٌ قصَّةً على قصَّةٍ، والإتيانُ بفعْلِ (يقول) مُضارِعًا؛ لاستحضارِ حالةِ هذا القولِ؛ للتَّعجيبِ من قائلِه تَعجيبَ إنكارٍ

.

- قولُه: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ يحتمِلُ أنْ يُرادَ بالإنسانِ الجنسُ بأَسْرِه، أو يُرادَ البعضُ المعهودُ منهم: وهم الكفرةُ. فإنْ قيل: لِمَ جازتْ إرادةُ الأَناسيِّ كلِّهم، وكلُّهم غيرُ قائلينَ ذلك؟ أُجيبَ بأنَّه: لمَّا كانت هذه المقالةُ موجودةً فيمَن هو من جنْسِهم، صَحَّ إسنادُه إلى جميعِهم . ويجوزُ أنْ يكونَ وصْفٌ حُذِفَ، أي: الإنسانُ الكافرُ؛ فتكون كقولِه تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة: 3، 4].

- قولُه: أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا فيه تقديمُ الظَّرفِ (إذا)، ومَجيئُه بعدَ حرْفِ الإنكارِ (الهمزة)؛ لأنَّ المُنكَرَ كونُ ما بعدَ الموتِ وقْتَ الحياةِ .

- والاستفهامُ في قولِه: أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا استفهامٌ فيه معنى الجَحدِ والإنكارِ لوُقوعِ البعثِ ؛ فلذلك أُتِيَ بالجُملةِ المُسلَّطِ عليها الإنكارُ مُقترِنةً بلامِ الابتداءِ الدَّالَّةِ على تَوكيدِ الجُملةِ الواقعةِ هي فيها، أي: يقولُ: لا يكونُ ما حَقَّقتموه من إحيائي في المُستقبَلِ ، وإمَّا أنْ يكونَ إخبارًا على سَبيلِ الهُزءِ والسُّخريةِ بمَن يقولُ ذلك؛ إذ لمْ يُرِدْ به مُطابقةَ اللَّفظِ للمَعْنى .

- وقولُه: لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا فيه إيجازٌ بالحذفِ، والتَّقديرُ: أُخْرَجُ من القبرِ .

2- قولُه تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا الاستفهامُ استفهامُ إنكارٍ وتعجُّبٍ من ذُهولِ الإنسانِ المُنكِرِ البعثَ عن خلْقِه الأوَّلِ ، وتَوسيطُ همزةِ الإنكارِ بينه وبينَ العاطفِ مع أنَّ الأصلَ أنْ يتقدَّمَهما؛ للدَّلالةِ على أنَّ المُنكِرَ بالذَّاتِ هو المعطوفُ، وأنَّ المعطوفَ عليه إنَّما نشَأ منه؛ فإنَّه لو تذكَّرَ وتأمَّلَ أنَّا خلَقْناه مِن قبْلُ، ولم يكُ شيئًا، بل كان عدَمًا صِرْفًا، لم يقُلْ ذلك؛ فإنَّه أعجَبُ مِن جمْعِ الموادِّ بعدَ التَّفريقِ، وإيجادِ مثْلِ ما كان فيها من الأعراضِ .

- قوله: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ فيه إظهارُ الْإِنْسَانُ في موقعِ الإضمارِ؛ لأنَّ المرادَ منه الإنسانُ المذكورُ في قوله: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: 66]؛ ووُضِعَ المُظهرُ -وهو الإنسانُ- موضعَ المضمرِ؛ ليُؤذنَ بحَقارتِه ودَناءتِه، وأنَّ إعادةَ مِثلِه لا يُؤبَهُ بها -ولهذا صرَّح بقوله: وَلَمْ يَكُ شَيْئًا- ولزِيادةِ التَّقريرِ، والإشعارِ بأنَّ (الإنسانيَّة) مِن دواعي التَّفكُّرِ فيما جَرَى عليه مِن شُؤونِ التَّكوينِ التي تُحتِّمُ عليه الإقلاعَ عن القَولِ المَذكورِ -وهو قولُه: أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا- وهو السِّرُّ في إسنادِه بلَفظِ (الإنسان)، أي: ما أعجبَ الإنسانَ في إنكارِه وعَدمِ تَذكُّرِه لِمَا ذُكِرَ، وهو الذي أُعطي العَقلَ؛ لينظرَ في العواقِبِ، وأُنعِمَ عليه؛ ليَعرِفَ المُنعِمَ فيَشكُرَه ويَعبُدَه، فيُجازَى على فِعلِه !

- قولُه: مِنْ قَبْلُ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ فإنَّه لمَّا حُذِفُ المُضافُ إليه، واعتُبِرَ مُضافًا إليه مُجْملًا، ولم يُراعَ له لفْظٌ مخصوصٌ تقدَّمَ ذِكْرُه: بُنِيَتْ (قبْلُ) على الضَّمِّ، والتَّقديرُ: أنَّا خلَقْناه من قبْلِ كلِّ حالةٍ هو عليها .

3- قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا

- الفاءُ في قولِه: فَوَرَبِّكَ تفريعٌ على جُملةِ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ؛ باعتبارِ ما تضمَّنَته من التَّهديدِ .

- وفي قولِه: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ أقسَمَ اللهُ تعالى باسْمِه سُبحانه مُضافًا إلى نَبيِّه؛ تَحقيقًا للأمْرِ بالإشعارِ بعلِّيتِه، وتَفخيمًا لشأنِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورفْعِ مَنزلتِه ؛ فواوُ القسَمِ لتَحقيقِ الوعيدِ، والقسَمُ بالرَّبِّ مُضافًا إلى ضَميرِ المُخاطَبِ وهو النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إدماجٌ لتَشريفِ قدْرِه .

- قولُه: لَنَحْشُرَنَّهُمْ إثباتٌ للبعثِ بالطَّريقِ البُرهانيِّ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه، كأنَّه أمرٌ واضحٌ غنِيٌّ عن التَّصريحِ به، وإنَّما المحتاجُ إلى البَيانِ ما بعْدَ ذلك من الأهوالِ .

- وفي قولِه: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ عطْفُ (الشَّيَاطِينَ) على ضميرِ المُشرِكين لَنَحْشُرَنَّهُمْ؛ لقَصدِ تَحقيرِهم بأنَّهم يُحْشَرون مع أحقَرِ جنْسٍ وأفسَدِه، وللإشارةِ إلى أنَّ الشَّياطينَ هم سبَبُ ضلالِهم المُوجبِ لهم هذه الحالةَ، فحشْرُهم مع الشَّياطينِ إنذارٌ لهم بأنَّ مصيرَهم هو مَصيرُ الشَّياطينِ، وهو مُحقَّقٌ عندَ النَّاسِ كلِّهم؛ فلذلك عُطِفَ عليه جُملةُ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، والضَّميرُ للجميعِ .

- قولُه: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا إعدادٌ آخرُ للتَّقريبِ مِن العذابِ؛ فهو إنذارٌ على إنذارٍ، وتدرُّجٌ في إلقاءِ الرُّعبِ في قُلوبِهم؛ فحرْفُ (ثُمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ لا للمُهلةِ؛ إذ ليستِ المُهلةُ مقصودةً، وإنَّما المقصودُ أنَّهم يُنْقَلون من حالةِ عذابٍ إلى أشدَّ .

4- قوله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا

- جُملةُ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ معطوفةٌ على جُملةِ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ، إنذارٌ بعدَ إنذارٍ، وهي حالةٌ أُخرى مِن الرُّعبِ أشدُّ مِن اللَّتينِ قبْلَها، وهي حالةُ تَمييزِهم للإلقاءِ في دَركاتِ الجحيمِ على حسَبِ مَراتبِ غُلوِّهم في الكُفرِ. وفيه تَهديدٌ لعُظماءِ المُشرِكينَ، مثلِ أبي جهْلٍ وأُميَّةَ بنِ خلَفٍ ونُظرائِهم .

- وذِكْرُ صِفَةِ الرَّحمنِ هنا في قولِه: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا؛ لتفظيعِ عُتوِّهم؛ لأنَّ شديدَ الرَّحمةِ بالخلْقِ حقيقٌ بالشُّكرِ له والإحسانِ، لا بالكُفرِ به والطُّغيانِ .

- وفي الكلامِ حذْفٌ، تَقديرُه: فيُلْقيه في أشدِّ العذابِ، أو فيبدَأُ بعذابِه، ثمَّ بمَن دونَه، إلى آخرِهم عذابًا .

5- قولُه تعالى: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا

- عَطْفُ هذه الجُمَلِ: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ، ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بأداةِ البُعدِ مَقرونةً بنونِ العَظَمةِ؛ لِبُعدِ مَراتِبِها، وتصاعُدِها وترقِّيها؛ تهويلًا للمَقامِ، وتعظيمًا للأمرِ؛ لاستبعادِهم له، على أنَّه يمكِنُ أن تكونَ الحُروفُ الثَّلاثةُ للتَّرتيبِ الزَّمانيِّ، وهو في الأوَّلَينِ واضِحٌ، وأمَّا في الثَّالثِ فلأنَّ العِلمَ كِنايةٌ عن الإصلاءِ؛ لأنَّ مَن عَلِمَ ذَنبَ عَدُوِّه -وهو قادِرٌ- عَذَّبه، فكأنَّه قيل: لَنُصلِينَّ كُلًّا منهم النَّارَ على حَسَبِ استِحقاقِه؛ لأنَّا أعلَمُ بأولويَّتِه لذلك .

6- قولُه تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا

- في قولِه: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا افتنانٌ، وهو الإتيانُ في الكلامِ بمُتضادَّينِ، أو مُختلِفينِ، أو مُتَّفقينِ، والآيةُ جمعَتْ بينَ المُتضادَّينِ؛ حيث جمعَتْ بين الوعدِ والوعيدِ، وبينَ التَّبشيرِ والتَّحذيرِ، وما يلزَمُ مِن هذينِ مِن المدْحِ للمُختصِّينَ بالبشارةِ، والذَّمِّ لأهْلِ النِّذارةِ .

- قولُه: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا فيه ذِكْرُ فعْلِ (نَذَر) هنا دونَ غيرِه؛ للإشعارِ بالتَّحقيرِ، أي: نترُكُهم في النَّارِ لا نعبَأُ بهم؛ لأنَّ في فعْلِ التَّركِ معنى الإهمالِ .

- والتَّعبيرُ بقولِه: الظَّالِمِينَ إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ، والأصلُ: ونَذَرُكم أيُّها الظَّالمونَ

==================

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (73-76)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ

غريب الكلمات :

 

مَقَامًا: أي: مَنزِلًا، وأصلُ (قوم): يدلُّ على الثَّباتِ

.

نَدِيًّا: أي مَجلِسًا، والنَّدِيُّ والنَّادي: مجتمَعُ القومِ ومجلسُهم، فإِذا تفَرَّقوا فليسَ بِنَدِيٍّ، يقال: نَدَوْتُ القوم، أَنْدُوهم، نَدْوًا: إذا جمعتَهم، وأصلُ (ندي) هنا: يدُلُّ على تَجَمُّعٍ .

قَرْنٍ: أي: قومٍ وأُمَّة مِن الناسِ مُقترنِينَ في زمَنٍ واحدٍ، ويُطلَقُ القرنُ كذلك على الزَّمانِ، وأهلِ الزمانِ، وأهلِ مُدَّةٍ كان فيها نبيٌّ، أو كان فيها طَبقةٌ مِن أهلِ العِلمِ، قلَّت السِّنون أو كثُرتْ؛ وقيل: مُدَّتُه ثمانونَ سَنةً، وقيل غيرُ ذلك، وأصلُ (قرن) هنا: يدلُّ على جمْعِ شيءٍ إلى شيءٍ .

أَثَاثًا: الأثاثُ: مَتاعُ البيتِ، ويُقالُ للمالِ كلِّه إذا كثُر: أثاثٌ، وأصلُ (أثَّ): يدلُّ على كَثرةٍ وتَكاثُفٍ .

وَرِئْيًا: أي: مَنظرًا وشكلًا، وهو مِن رؤيةِ العينِ، وأصلُ (رَأَى): يدلُّ على نَظَرٍ وإبصارٍ بعينٍ أو بصيرةٍ .

فَلْيَمْدُدْ: أي: يُمهِلْ، ويُمْلِ، ويَمُدَّ، وأصلُ (مدد): يدلُّ على جَرِّ شيءٍ فِي طُولٍ، واتِّصالِ شَيءٍ بشَيءٍ في استِطالةٍ .

مَرَدًّا: أي: مَرجِعًا وعاقِبةً، وأصلُ (ردد): يدلُّ على رَجعِ الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى عن موقفِ الكافرينَ عندَ سماعِهم لآياتِ الله وما يحتجُّون به على المؤمنينَ، فيقولُ: وإذا تُتلى على النَّاسِ آياتُنا الواضِحاتُ، قال الكُفَّارُ للمُؤمِنينَ: أيُّ الفريقينِ منَّا ومنكم أفضَلُ مَنزِلًا وعيشًا ومتاعًا، وأحسَنُ مَجلِسًا في الدُّنيا؟ فكيف نكونُ على الباطِلِ وأنتم على الحَقِّ، ونحن أفضَلُ منكم في ذلك؟!

ثمَّ يرُدُّ الله تعالى على هؤلاءِ الكافرينَ المغرورينَ، فيقول: وما أكثَرَ ما أهلَكْنا قبلَ كُفَّارِ قُرَيشٍ مِن الأمَمِ، ممنْ كانوا أحسَنَ متاعًا منهم، وأجمَلَ منظرًا وصُوَرًا! قل لهم -يا محمَّدُ-: مَن كان ضالًّا عن الحَقِّ غيرَ مُتَّبِعٍ طَريقَ الهُدى، فالله يُمهِلُه ويُملي له في ضَلالِه فيَزِيدُه من النِّعَم والعُمُرِ، حتى إذا رأى هؤلاء الكافرون ما توعَّدهم الله به: إمَّا العذابَ العاجِلَ في الدُّنيا، وإمَّا قيامَ السَّاعةِ؛ فسيَعلَمُون حينئذٍ مَن هو شَرٌّ مَكانًا ومُستقَرًّا، وأضعَفُ قُوَّةً وجُندًا وناصِرًا.

ثمَّ يبينُ الله تعالى حالَ أهلِ الهدايةِ بعدَ أن بيَّن حالَ أهلِ الضلالةِ، فيقولُ: ويزيدُ اللهُ الذين اهتَدَوا لدينِه يقينًا وإيمانًا، وعلمًا نافعًا، وتوفيقًا للعمل الصَّالح. والأقوالُ الأعمالُ الصَّالحاتُ الباقياتُ التي لا زوالَ لثوابِها خَيرٌ ثوابًا عند اللهِ في الآخرةِ، وخَيرٌ مَرجِعًا وعاقبةً.

تفسير الآيات:

 

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا أقام الحُجَّةَ على مُنكري البَعثِ، وأتبَعَه بما يكونُ يومَ القيامةِ؛ أخبَرَ عنهم أنَّهم عارضوا تلك الحُجَّةَ الدَّامغةَ بحُسنِ شارتِهم في الدُّنيا، وذلك عندَهم يدُلُّ على كرامتِهم على اللهِ

.

وأيضًا فإنَّ هذا عَطفٌ على قَولِ اللهِ تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: 66] ، وهذا صِنفٌ آخَرُ مِن غُرورِ المُشرِكينَ بالدُّنيا؛ فقد أناطوا الدلالةَ على السَّعادةِ بأحوالِ طِيبِ العَيشِ في الدُّنيا، ويَرَونَ أنفُسَهم أسعَدَ مِن المؤمِنينَ .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) .

أي: وإذا تُتلى على النَّاسِ آياتُ القُرآنِ، والحالُ أنَّها دلالاتٌ واضِحاتٌ لا مِريةَ فيها، قال الكافِرونَ للمُؤمِنينَ محتَجِّينَ على بُطلانِها، وكونِهم على الحَقِّ، مُفتَخرينَ عليهم ومتعَزِّزينَ بالدُّنيا: أيُّ الفريقينِ خَيرٌ مَنزِلًا، وأفضَلُ مَسكنًا وعَيشًا ومتاعًا، وأحسَنُ مجلسًا ومجْمَعًا، وأعمَرُ وأكثَرُ غِشيانًا وورُودًا؟ نحن بما لنا من الاتِّساعِ، أم أنتم بما لكم من خُشونةِ العَيشِ ورَثاثةِ الحالِ؟! فكيف نكونُ على الباطِلِ وأنتم على الحَقِّ، ونحن أفضَلُ منكم في ذلك ؟!

كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام: 53] .

وقال سُبحانَه: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55- 56] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35] .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) .

أي: وأهلَكْنا قبل كفَّارِ قُرَيشٍ كثيرًا من كفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ، وكانوا أحسَنَ منهم في أمتعةِ مساكِنِهم، وأجمَلَ في مَنظَرِهم وصُوَرِهم، ومع ذلك أهلَكَهم اللهُ بسَبَبِ كُفرِهم؛ فلْيَخَفْ هؤلاء المُشرِكونَ نِقمةَ اللهِ بالإهلاكِ، كسُنَّةِ مَن قَبلَهم مِن الكُفَّارِ .

قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَر الله تعالى دليلَ الكافرينَ الباطلَ الدَّالَّ على شِدَّةِ عِنادِهم، وقُوَّةِ ضلالِهم؛ أخبَرَ هنا أنَّ مَن كان في الضَّلالةِ، بأن رَضِيَها لنَفسِه، وسَعى فيها، فإنَّ اللهَ يَمُدُّه منها، ويزيدُه فيها حبًّا؛ عقوبةً له على اختيارِها على الهدى .

وأيضًا فإنَّ هذا جوابُ قَولِ الكافرينَ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم: 73] ، لقَّنَ الله رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَشفَ مُغالطتِهم أو شُبهتِهم، فأعلَمَهم بأنَّ ما هم فيه من نعمةِ الدُّنيا إنَّما هو إمهالٌ مِن اللهِ إيَّاهم؛ لأنَّ ملاذَ الكافِرِ استدراجٌ، فمعيارُ التَّفرقةِ بين النِّعمةِ النَّاشئةِ عن رضا الله تعالى على عبدِه، وبين النِّعمةِ التي هي استدراجٌ لِمن كفَرَ به، هو النَّظَرُ إلى حالِ من هو في نعمةٍ، بين حالِ هُدًى، وحالِ ضلالٍ .

وأيضًا لمَّا بيَّنَ عاقبةَ أمْرِ الأُمَمِ المُهلَكةِ، معَ ما كان لهم مِنَ التَّمتُّعِ بفُنونِ الحُظوظِ العاجلةِ؛ أمَرَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يُجيبَ هؤلاء المُفتخِرين بما لهم مِن الحُظوظِ ببَيانِ مآلِ أمْرِ الفريقينِ .

قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا .

أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ: من كان مُنغَمِسًا في الضَّلالِ منَّا ومنكم، فلْيُمهِلْه اللهُ في ضلالِه، ويَزِدْه مِن النِّعَمِ والعُمُرِ؛ ليطولَ اغترارُه، ويزدادَ ضلالُه، فيكون ذلك أشَدَّ في عقوبتِه .

حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ .

أي: مَن كان في الضَّلالةِ فلْيَمدُدْ له الرَّحمنُ في ضلالتِه إلى أن يرى الضالُّونَ ما وعَدَ اللهُ أن يأتيَهم به: إمَّا بالعذابِ العاجِلِ، وإمَّا بقيامِ السَّاعةِ، فيَصيرونَ إلى النَّارِ .

فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا .

أي: فسيَعلَمُ الكُفَّارُ حين يَرَونَ ذلك مَن هو شَرٌّ مَسكَنًا، ومَن هو أضعَفُ ناصِرًا: هم أم المؤمِنونَ، وسيتبيَّنُ لهم خِلافُ ما كانوا يظنُّونَ، وبُطلانُ ما كانوا يدَّعونَ .

وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى إمدادَ الضَّالِّ في ضلالتِه، وارتباكَه في الافتخارِ بنِعَمِ الدُّنيا؛ عَقَّبَ ذلك بزيادةِ هُدًى للمُهتدي، وبذكرِ الباقياتِ التي هي بدلٌ مِن تنعُّمِهم في الدُّنيا الذي يضمَحِلُّ ولا يَثبُتُ .

وأيضًا لَمَّا أخْبَر سبحانَه عن حالِ أهلِ الضَّلالةِ، أرادَ أنْ يُبَيِّنَ حالَ أهلِ الهدايةِ، فقال :

وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى .

أي: ويزيدُ الله المهتدينَ يقينًا وإيمانًا، وعلمًا نافعًا وتوفيقًا للعمل الصَّالح، وثباتًا على الحَقِّ .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] .

وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا .

مناسبتُها لما قبلَها:

لَمَّا ذكر الله تعالى أنَّ الظَّالمينَ جَعَلوا أحوالَ الدُّنيا من المالِ والولَدِ، وحُسنِ المقامِ ونحو ذلك، علامةً لحُسنِ حالِ صاحِبِها؛ أخبَرَ هنا أنَّ الأمرَ ليس كما زعموا، بل العمَلُ الذي هو عنوانُ السَّعادةِ، ومَنشورُ الفلاحِ، هو العمَلُ بما يحِبُّه اللهُ ويرضاه .

وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا .

أي: وأعمالُ الخيرِ الصَّالحةُ -التي لا زوالَ لثوابِها مِن أقوالٍ وأفعالٍ- أفضَلُ جزاءً عندَ اللهِ لأهلِ طاعتِه، وهي خيرٌ مَرجِعًا وعاقبةً لصاحبِها في الآخرةِ، مِمَّا يفتَخِرُ به الكُفَّارُ على المُؤمِنينَ مِن زينةِ الحياةِ الدُّنيا الفانيةِ .

كما قال تعالى: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 46] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((سُبحانَ اللهِ، والحَمدُ للهِ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، والله أكبَرُ مِن الباقياتِ الصَّالحاتِ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا فيه أنَّ الاستدلالَ على خيرِ الآخرةِ بخيرِ الدُّنيا مِن أفسَدِ الأدلَّةِ، وأنَّه مِن طُرُقِ الكُفَّارِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا فيه تنبيهٌ للمُسلِمينَ ألَّا يغتَرُّوا بإنعامِ اللهِ على الضُّلَّالِ .

3- قال الله تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه يَمُدُّ للظالمينَ في ضلالِهم، ذكَرَ أنَّه يَزيدُ المهتدينَ هدايةً مِن فَضلِه عليهم ورحمتِه، والهدى يَشمَلُ العِلمَ النَّافِعَ، والعمَلَ الصَّالِحَ؛ فكُلُّ من سلك طريقًا في العلمِ والإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، زاده الله منه، وسَهَّله عليه ويسَّرَه له، ووهب له أمورًا أُخَرَ لا تدخُلُ تحت كَسبِه .

4- مِن الطرقِ التي تعينُ على حفظِ العلمِ وضبطِه: أن يهتديَ الإنسانُ بعلمِه، قال الله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى، فكُلَّما عَمِلَ الإنسانُ بعِلمِه زاده اللهُ حِفظًا وفَهمًا؛ لعُمومِ الآيةِ . وقد يُيَسِّرُ الله لطالب العِلمِ عُلومًا أُخَرَ ينتَفِعُ بها، وتكونُ مُوصِلةً له إلى الجنَّةِ، كما قيل: مَن عَمِل بما عَلِم، أورثَه اللهُ عِلمَ ما لم يعلَمْ، وكما قيل: ثوابُ الحَسَنةِ الحَسَنةُ بعدها، وقد دَلَّت هذه الآية على ذلك، وكذلك قَولُه: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ

 

[محمد: 17] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ والقَدَريَّةِ فيما يزعمونَ مِن أنَّ أفعالَ العبادِ لا صنعَ لله فيها بتةً؛ فإضافةُ أفعالِ العبادِ إليهم لا تدفعُ فعلَ الله بهم، وإرادتَه فيهم

.

2- في قَولِه تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى حُجَّةٌ على المُرجِئةِ في زيادةِ الإيمانِ ، ففيه دَليلٌ على زيادةِ الإيمانِ ونَقصِه، كما قاله السَّلَفُ الصَّالِحُ، ويدُلُّ عليه قَولُه تعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31] ، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

 

[الأنفال: 2] .

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا

- قولُه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ بَيِّنَاتٍ حالٌ مُؤكِّدةٌ مِن آَيَاتُنَا؛ لأنَّ آياتِه تعالى لا تكونُ إلَّا بهذا الوصفِ دائمًا

.

- قولُه: قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه وضْعُ الموصولِ موضعَ الضَّميرِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم قالوا ما قالوا كافِرين بما يُتْلَى عليهم، رادِّينَ له، أو قال الَّذين مَرَدوا منهم على الكُفرِ، ومَرَنوا على العُتوِّ والعِنادِ .

- والاستفهامُ في قولِهم: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ تقريريٌّ .

2- قولُه تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا خِطابٌ مِن اللهِ لرسولِه، وهذه الجُملةُ مُعترِضةٌ بين حكايةِ قولِهم، وبينَ تلْقينِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما يُجيبُهم به عن قولِهم، وموقِعُها التَّهديدُ، وما بعدَها هو الجوابُ .

- و(كَمْ) مفعولُ أَهْلَكْنَا، ومِنْ تَبيينٌ لإبهامِها، أي: كثيرًا مِن القُرونِ أهلَكْنا ؛ فذكَرَ تعالى كثرةَ ما أهلَكَ مِن القُرونِ ممَّن كان أحسَنَ حالًا منهم في الدُّنيا، ففيه مِن التَّهديدِ والوعيدِ ما لا يَخْفَى؛ كأنَّه قيل: فلْيَنْتظِرْ هؤلاءِ أيضًا مثلَ ذلك .

- قولُه: هُمْ أَحْسَنُ جُمِعَ الضَّميرُ؛ لأنَّ القرْنَ مُشتمِلٌ على أفرادٍ كثيرةٍ، فرُوعِيَ معناهُ .

3- قولُه تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا

- قولُه: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ ... فيه وصْفُهم بالتَّمكُّنِ في الضلالةِ؛ لذمِّهم، والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ، أي: مَنْ كان مُستقِرًّا في الضَّلالةِ، مغمورًا بالجهلِ والغَفلةِ عن عواقبِ الأُمورِ... .

- قولُه: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا إخراجُ الفعْلِ فَلْيَمْدُدْ على صِيغَةِ الأمْرِ؛ للإيذانِ بأنَّ ذلك ممَّا يَنْبغي أنْ يُفْعَلَ بمُوجِبِ الحِكمةِ؛ لقطْعِ المعاذيرِ، كما يُنْبِئُ عنه قولُه تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: 37] ، أو للاستدراجِ، كما ينطِقُ به قولُه تعالى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران: 178] . وقيل: المُرادُ به: الدُّعاءُ بالمدِّ والتَّنفيسِ، وعلى اعتبارِ الاستقرارِ في الضَّلالِ؛ لأنَّ المدَّ لا يكونُ إلَّا للمُصِرِّين عليها؛ إذ رُبَّ ضالٍّ يَهْديه اللهُ عَزَّ وجَلَّ .

- والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرَّحمانيَّةِ في قولِه: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، قيل: لأنَّ المدَّ من أحكامِ الرَّحمةِ الدُّنيويَّةِ ، ولأنَّ اللهَ تعالى إذا أراد العِقابَ يأتي به على وَجهِ الرَّحمةِ والنِّعمةِ؛ فيكونُ كَدَرًا بعدَ الصَّفاءِ، وألَمًا بعد الرَّاحةِ، وشِدَّةً بعد الرَّخاءِ؛ فهذا أقوى أثرًا. والحاصِلُ: لا يُتصَوَّرُ وقوعُ المدِّ المذكورِ إلَّا مِن الرَّحمنِ؛ لأنَّه أصلُه ومَنشؤُه .

- ومَدًّا مفعولٌ مُطلقٌ مُؤكِّدٌ لعاملِه، أي: فلْيمدُدْ له المدَّ الشَّديدَ، فسَيَنْتهي ذلك .

- قولُه: حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ جَمْعُ الضَّميرِ في الفعلينِ -رَأَوْا يُوعَدُونَ- باعتبارِ معنى (مَنْ)، كما أنَّ الإفرادَ في الضَّميرينِ الأوَّلينِ -مَنْ كَانَ لَهُ- باعتبارِ لفظِها .

- قولُه: فَسَيَعْلَمُونَ حرْفُ الاستقبالِ (السِّينُ)؛ لتَوكيدِ حُصولِ العلْمِ لهم حينئذٍ، وليس للدَّلالةِ على الاستقبالِ؛ لأنَّ الاستقبالَ اسْتُفِيدَ من الغايةِ .

- قولُه: إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ تَفصيلٌ للموعودِ؛ فإنَّه إمَّا العذابُ في الدُّنيا، وهو غلبةُ المُسلِمين عليهم، وتَعذيبُهم إيَّاهم قتْلًا وأسرًا، وإمَّا يومَ القيامةِ وما يَنالُهم فيه من الخزْيِ والنَّكالِ .

- قولُه: شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا مُقابِلُ قولِهم: خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم: 73] ؛ فالمكانُ يُرادِفُ المقامَ، والجُندُ: الأعوانُ؛ لأنَّ النَّدِيَّ أُريدَ به أهْلُه؛ فقُوبِلَ (أَحْسَنُ نَدِيًّا) بـ (أَضْعَفُ جُنْدًا) .

4- قوله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا

- قولُه: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى كلامٌ مُستأنفٌ، سِيقَ لبَيانِ حالِ المُهتدينَ إثْرَ بَيانِ حالِ الضَّالِّينَ . وقيل: عطْفٌ على الشَّرطيَّةِ المحكيةِ بعدَ القولِ، كأنَّه لمَّا بيَّنَ أنَّ إمهالَ الكافرِ وتَمتيعَه بالحياةِ الدُّنيا ليس لفضْلِه، أراد أنْ يُبيِّنَ أنَّ قُصورَ حظِّ المُؤمنِ منها ليس لِنَقْصِه، بل لأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أراد به ما هو خيرٌ له، وعوَّضه منه . وقيل: عطْفٌ على فَلْيَمْدُدْ؛ لِما تضمَّنَه ذلك من الإمهالِ المُفضي إلى الاستمرارِ في الضَّلالِ؛ فالمعنى على الاحتباكِ ، أي: فلْيمدُدْ له الرَّحمنُ مَدًّا، فيَزدَدْ ضلالًا، ويمُدَّ للَّذين اهْتَدوا، فيَزْدادوا هُدًى .

- قولُه: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ كلامٌ مُستأنفٌ واردٌ من جِهَتِه تعالى؛ لبَيانِ فضْلِ أعمالِ المُهتدِينَ . وقيل: عطْفٌ على جُملةِ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى، وهو ارتقاءٌ من بِشارتِهم بالنَّجاةِ إلى بشارتِهم برفْعِ الدَّرجاتِ .

- ووَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ أيضًا صِفتانِ لمَحذوفٍ معلومٍ من المقامِ، أي: الأعمالُ الباقي نَعيمُها وخيرُها، وكان مُقْتضَى الظَّاهرِ في تَرتيبِ الوصفينِ: أنْ يُقدَّمَ الصَّالِحَاتُ على وَالْبَاقِيَاتُ؛ لأنَّهما وإنْ كانا وصفينِ لموصوفٍ مَحذوفٍ، إلَّا أنَّ أعرَفَهما في وَصفيَّةِ ذلك المحذوفِ هو الصَّالحاتُ؛ لأنَّه قد شاعَ أنْ يُقالَ: الأعمالُ الصَّالحاتُ، ولا يُقال: الأعمالُ الباقياتُ، ولأنَّ بقاءَها مُترتِّبٌ على صلاحِها، فلا جرَمَ أنَّ (الصَّالحاتِ) وصفٌ قام مَقامَ الموصوفِ، وأغنى عنه كثيرًا في الكلامِ، حتَّى صار لفظُ (الصَّالحات) بمنزلةِ الاسمِ الدَّالِّ على عمَلِ خيرٍ، وخُولِف مقتضَى الظَّاهرِ هنا، فقُدِّم (الباقياتُ) للتَّنبيهِ على أنَّ ما ذُكِر قبلَه إِنَّما كان مفصولًا لأنَّه ليس بباقٍ، وهو المالُ والبنونَ، كقولِه تعالَى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ [الرعد: 26] ، فكان هذا التَّقديمُ قاضيًا لحقِّ الإيجازِ لإغنائِه عن كلامٍ محذوفٍ، تقديرُه: أنَّ ذلك زائلٌ أو ما هو بباقٍ والباقياتُ مِن الصَّالحاتِ خيرٌ منه، فكان قولُه: فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الْكَهْف: 45] مفيدًا للزَّوالِ بطريقةِ التَّمثيلِ وهو مِن دلالةِ التَّضمُّنِ، وكان قولُه: وَالْبَاقِيَاتُ مُفيدًا زوالَ غيرِها بطريقةِ الالتزامِ، فحصَل دلالتانِ غيرُ مطابقتيْنِ وهما أوقعُ في صناعةِ البلاغةِ، وحَصَل بثانِيَتِهما تأكيدٌ لمُفادِ الأولَى فجاءَ كلامًا مُؤكَّدًا مُوجَزًا .

- قولُه: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا فيه التَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضَميرِه؛ لتَشريفِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .

- قولُه: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا، إنْ قيل: كيف قيلَ: خَيْرٌ ثَوَابًا، كأنَّ لمُفاخراتِهم ثوابًا حتَّى يُجْعَلَ ثوابُ الصَّالحاتِ خيرًا منه؟!

أُجِيبَ بأنَّه: كأنَّه قيل: ثوابُهم النَّارُ، ثمَّ بنى عليه خَيْرٌ ثَوَابًا؛ ففيه ضَرْبٌ من التَّهكُّمِ الَّذي هو أغيظُ للمُتَهددِ مِن أنْ يُقالَ له: عِقابُك النَّارُ.

فإنْ قيل: فما وجْهُ التَّفضيلِ في الخيرِ، كأنَّ لمَفاخرِهم شركًا فيه؟

قيل: هذا من وجيزِ كلامِهم، يقولونَ: الصَّيفُ أحرُّ من الشِّتاءِ، أي: أبلَغُ من الشِّتاءِ في برْدِه، وإمَّا لمُجرَّدِ الزِّيادةِ. وقيل: إنَّ اسمَ التَّفضيلِ ذُكِرَ على سَبيلِ المُشاكَلةِ لكلامِهم السَّابقِ . وأيضًا: فإنَّ صِيغةَ التَّفضيلِ قد تُطلَقُ في القُرآنِ واللُّغةِ ويُرادُ بها مُجرَّدُ الاتِّصافِ، لا تَفضيلُ شيءٍ على شيءٍ .

- وفيه تَكريرُ الخيرِ؛ لمَزيدِ الاعتناءِ ببَيانِ الخيريَّةِ، وتأكيدٍ لها

================

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (77-84)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ

غريب الكلمات:

 

تَؤُزُّهُمْ أَزًّا: أي: تُغويهم إغواءً، وتُزعِجُهم إزعاجًا، وتحرِّكهم، وأصلُ (أزز): يدُلُّ على التَّحريكِ والإزعاجِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى عن مقالةٍ أُخرَى مِن مقالاتِ الكفَّارِ الباطلةِ، ويردُّ على قائلِها أبلغَ ردٍّ، فيقول: انظُرْ مُتعَجِّبًا -يا مُحمَّدُ- إلى هذا الذي كفَرَ بآياتِ القُرآنِ، وقال: لأُعطَينَّ في الآخرةِ -إن كانت حقًّا- أموالًا وأولادًا.

ثمَّ يردُّ الله عليه، فيقول: أطَّلَع الغَيبَ فرأى أنَّ له مالًا ووَلَدًا، أم له عندَ اللهِ عَهدٌ بذلك؟! ليس الأمرُ كما يَزعُمُ ذلك الكافرُ، سنكتُبُ ما يقولُ مِن كَذِبٍ وافتراءٍ على اللهِ، ونَزيدُه في الآخرةِ عذابًا زائدًا؛ بسَبَبِ كَذِبِه وافترائِه، ونَسلُبُ مالَه وولَدَه في الدُّنيا بمَوتِه عن جميعِ ذلك، ويأتينا يومَ القيامةِ فَردًا وَحدَه، لا مالَ معه ولا ولَدَ.

ثمَّ يخبرُ الله تعالى عن تعززِ المشركينَ بأصنامِهم، فيقول: واتخذَ المُشرِكونَ آلهةً يَعبُدونَها من دونِ الله؛ لينالوا بها العِزَّ، وتمنَعَهم من عذابِ اللهِ. ويردُّ عليهم، فيقولُ سبحانَه: ليس الأمرُ كما يَزعُمونَ؛ فستكفُرُ هذه الآلهةُ في الآخرةِ بعِبادةِ المشركينَ لها، وتكونُ بخلافِ ما ظنُّوا.

ثمَّ يُبيِّنُ الله عزَّ وجلَّ استحواذَ الشياطينِ على هؤلاء الكافرينَ، فيقولُ: ألم تَرَ -يا محمَّدُ- أنَّا سلَّطْنا الشَّياطينَ على الكافرينَ؛ لتُغويَهم وتدفَعَهم إلى الكُفرِ والمعاصي دفعًا، فلا تستعجِلْ بطَلَبِ وُقوعِ العذابِ على هؤلاء الكافرينَ؛ إنما نؤخِّرُ تَعذيبَهم إلى أجَلٍ معدودٍ مَضبوطٍ، فإذا جاءَ الوقتُ المحدَّدُ لذلك أهلَكْناهم.

تفسير الآيات:

 

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَرَ الدَّلائِلَ على صِحَّةِ البَعثِ، ثمَّ أورد شُبهةَ المُنكِرينَ، وأجاب عنها؛ أورد عنهم الآنَ ما ذكَروه على سبيلِ الاستهزاءِ؛ طعنًا في القَولِ بالحَشرِ

.

وأيضًا فهو تفريعٌ على قولِه: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: 66] وما اتَّصلَ به من الاعتراضِ والتَّفريعاتِ، والمُناسبةُ: أنَّ قائلَ هذا الكلامِ كان في غُرورٍ مثْلِ الغُرورِ الَّذي كان فيه أصحابُه، وهو غُرورُ إحالةِ البعثِ .

سَبَبُ النُّزولِ:

عن خَبَّابِ بنِ الأرَتِّ رَضِيَ الله عنه، قال: (جئتُ العاصَ بنَ وائلٍ السَّهميَّ أتقاضاه حقًّا لي عندَه، فقال: لا أُعْطيك حتى تَكفُرَ بمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقلتُ: لا حتى تموتَ ثمَّ تُبعَثَ، قال: وإنِّي لميتٌ ثمَّ مَبعوثٌ؟! قلتُ: نعم، قال: إنَّ لي هناك مالًا وولدًا فأقضيكه! فنزلت هذه الآيةُ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا) .

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) .

أي: انظُرْ مُتعَجِّبًا -يا محمَّدُ - إلى هذا الذي كفَرَ بآياتِ القُرآنِ، وقال: واللهِ ليعطينِّي اللهُ في الآخرةِ -على تقديرِ قيامِها- مالًا وأولادًا، مع كُفرِه باللهِ وتكذيبِه بآياتِه، ومِن جُملتِها آياتُ البعثِ بعدَ الموتِ ؟!

أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) .

أي: هل عَلِمَ هذا الكافِرُ -المتألِّي على اللهِ- عِلمَ الغَيبِ، فعَلِمَ أنَّ له في الآخرة مالًا وولدًا، أم له عهدٌ عند اللهِ بأنَّه سيعطيه ذلك ؟!

كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) .

كَلَّا .

أي: ليس الأمرُ على ما قالَ هذا الكافرُ مِن أنَّه يُؤْتَى المالَ والولدَ؛ فهو مخطِئٌ فيما يقولُه ويتَمَنَّاه .

سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ .

أي: ستَكتُبُ الملائكةُ الحَفَظةُ بأمْرِنا ما يقولُ هذا الكافِرُ المفتري على اللهِ أنَّه سيُعطيه في الآخرةِ مالًا وولدًا، وسنُجازيه في الآخرةِ على كَذِبِه وكُفرِه .

كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [يونس: 21] .

وقال سُبحانه: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] .

وقال عزَّ وجلَّ: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 9 - 12].

وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا .

أي: ونزيدُ هذا الكافِرَ في الآخرةِ عذابًا زائدًا؛ بسَبَبِ قَولِه الكَذِبَ على رَبِّه .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 69، 70].

وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) .

أي: ونَسلُبُ مالَه وولَدَه في الدُّنيا بمَوتِه عن جميعِ ذلك، فيصيرُ ذلك إلينا دونَه، ويأتينا يومَ القيامةِ وَحدَه لا مالَ معه ولا ولَدَ .

كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم: 40].

وقال سُبحانه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93 - 95] .

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) .

أي: واتخذَ المُشرِكونَ أوثانًا يَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ؛ مِن أجلِ أن ينالوا بها العِزَّ، وتمنَعَهم مِن عذابِ اللهِ، وتُقرِّبَهم إليه، وتنصُرَهم، وتشفَعَ لهم .

كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] .

وقال سُبحانه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ [يس: 74] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] .

كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) .

كَلَّا .

أي: ليس الأمرُ كما ظنُّوا مِن أنَّ آلهتَهم تكونُ لهم عزًّا؛ فهي لا تستطيعُ أن تمنَعَهم من العذابِ، أو تنصُرَهم، أو تشفَعَ لهم، أو تقرِّبَهم إلى اللهِ .

كما قال تعالى: أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ [الأنبياء: 43] .

سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا .

أي: ولكن ستَكفُرُ تلك المعبوداتُ يومَ القيامةِ بعبادةِ المُشرِكينَ لها، وتتبرَّأُ منهم، وتكونُ بخلافِ ما ظنُّوا فيهم، فتكونُ أعوانًا عليهم في خصومتِهم وتكذيبِهم والتبرؤِ منهم، ويَؤولُ بهم ذلك إلى الذلِّ والهوانِ !

كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [النحل: 86، 87].

وقال سُبحانَه: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ [يونس: 28، 29].

وقال عزَّ وجلَّ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا [الفرقان: 17 - 19].

وقال تبارك وتعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص: 62-64] .

وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: 13-14] .

وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5-6] .

أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ حالَ الكُفَّارِ مع الأصنامِ في الآخرة؛ ذكَرَ بَعدَه حالَهم مع الشياطينِ في الدُّنيا؛ فإنَّهم يتولَّونَهم، وينقادونَ لهم، فقال :

أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) .

أي: ألم تَرَ -يا محمَّدُ- أنَّا سلَّطْنا الشَّياطينَ على الكافرينَ باللهِ، فتهيِّجُهم بالإغواءِ والتَّزيينِ إلى الكُفرِ والمعاصي، وتُزعِجُهم إليها إزعاجًا ؟

كما قال تعالى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [فصلت: 25] .

وقال سُبحانَه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 36، 37].

فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) .

فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ .

أي: فلا تَستعجِلْ -يا محمَّدُ- بطَلَبِ وُقوعِ الهلاكِ والعذابِ على أولئك الكافرينَ .

كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [الأحقاف: 34، 35].

إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا .

أي: إنَّما نَعُدُّ الأعوامَ والشُّهورَ والأيَّامَ، فنُمهِلُهم ونؤخِّرُ تَعذيبَهم إلى أجَلٍ معدودٍ مَضبوطٍ، فإذا جاءَ الوقتُ المحدَّدُ لذلك أهلَكْناهم

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- ما عَلَّقَ العبدُ رجاءَه وتوكُّلَه بغيرِ اللهِ إلَّا خاب مِن تلك الجهةِ، ولا استنصرَ بغيرِ اللهِ إلَّا خُذِلَ؛ قال الله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا هذا من عُقوبةِ الكافرينَ أنَّهم لَمَّا لم يعتَصِموا باللهِ ولم يتمَسَّكوا بحبلِ اللهِ، بل أشركوا به، ووالَوا أعداءَه مِن الشياطينِ؛ سَلَّطهم عليهم، وقيَّضَهم لهم، فجُعِلَت الشياطينُ تؤزُّهم إلى المعاصي أزًّا، وتُزعِجُهم إلى الكُفرِ إزعاجًا، فيُوسوِسونَ لهم، ويُوحون إليهم، ويُزَيِّنونَ لهم الباطِلَ، ويقبِّحونَ لهم الحَقَّ، فيدخُلُ حُبُّ الباطِلِ في قلوبِهم ويتشَرَّبُها، فيسعَى فيه سعيَ المحِقِّ في حَقِّه، فينصُرُه بجُهدِه ويُحارِبُ عنه، ويجاهدُ أهلَ الحَقِّ في سبيلِ الباطِلِ، وهذا كلُّه جزاءً له على تولِّيه مَن ولِيَه، وتولِّيه لعدُوِّه؛ جُعِلَ له عليه سلطانٌ، وإلَّا فلو آمَن بالله وتوكَّلَ عليه، لم يكُنْ له عليه سلطانٌ، كما قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ

 

[النحل: 99-100] .

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا دلالةٌ على أن المُخْبِرَ عن خَبَرٍ يحصلُ في المستقبلِ لا يكون إلَّا بطريقينِ: إمَّا اطِّلاعُه على الغيبِ -وهو العلمُ بما سيكونُ-، وإمَّا أنْ يكونَ قد اتَّخَذَ عندَ الرحمنِ عهدًا -واللهُ مُوْفٍ بعهدِه-؛ فالأولُ عِلْمٌ بالخبرِ، والثاني عِلْمٌ بالأمرِ، الأولُ عِلْمٌ بالكلماتِ الكونيةِ، والثاني عِلْمٌ بالكلماتِ الدينيةِ

.

2- قَولُه تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا في هذه الآيةِ الكَريمةِ رَدٌّ على العاصِ بنِ وائلٍ السَّهميِّ قَولَه: إنَّه يؤتى يومَ القيامةِ مالًا وولدًا، بالدَّليلِ المعروفِ عندَ الأصوليِّينَ بـ (السَّبرِ والتَّقسيمِ) ، وضابِطُ هذا الدَّليلِ العظيمِ أنَّه مُتركِّبٌ مِن أصلَينِ:

أحدُهما: حَصرُ أوصافِ المحَلِّ بطَريقٍ مِن طُرُقِ الحَصرِ، وهو المعبَّرُ عنه بالتَّقسيمِ عند الأصوليِّينَ .

والثَّاني: هو اختيارُ تلك الأوصافِ المحصورةِ، وإبطالُ ما هو باطِلٌ منها، وإبقاءُ ما هو صحيحٌ منها، وهذا الأخيرُ هو المعبَّرُ عنه عندَ الأصوليِّينَ بـ (السَّبرِ) ، والتَّقسيمُ الصَّحيحُ في هذه الآيةِ الكريمةِ يحصُرُ أوصافَ المحَلِّ في ثلاثةٍ، والسَّبرُ الصَّحيحُ يُبطِلُ اثنينِ منها ويصَحِّحُ الثالِثَ، وبذلك يَتِمُّ إلقامُ العاصِ بنِ وائلٍ الحَجَرَ في دَعواه أنَّه يُؤتى يومَ القيامةِ مالًا وولدًا.

أمَّا وَجهُ حَصرِ أوصافِ المحَلِّ في ثلاثةٍ، فهو أنَّا نَقولُ: قولُك إنَّك تُؤتَى مالًا وولدًا يومَ القيامةِ لا يخلو مُستَنَدُك فيه مِن واحدٍ مِن ثلاثةِ أشياءَ:

الأوَّلُ: أن تكونَ اطَّلَعتَ على الغَيبِ، وعَلِمتَ أنَّ إيتاءَك المالَ والولَدَ يومَ القيامةِ ممَّا كَتَبه اللهُ في اللَّوحِ المحفوظِ.

والثَّاني: أن يكونَ اللهُ أعطاك عَهدًا بذلك، فإنَّه إن أعطاك عَهدًا لن يُخلِفَه.

الثالث: أن تكونَ قُلتَ ذلك افتراءً على اللهِ مِن غَيرِ عَهدٍ، ولا اطِّلاعِ غَيبٍ.

وقد ذكَر تعالى القِسمَينِ الأوَّلَينِ في قَولِه: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا مُبطِلًا لهما بأداةِ الإنكارِ، ولا شَكَّ أنَّ كِلا هَذينِ القِسمَينِ باطِلٌ؛ لأنَّ العاصِ المذكورَ لم يطَّلِعِ الغَيبَ، ولم يتَّخِذْ عند الرَّحمنِ عَهدًا؛ فتعَيَّنَ القِسمُ الثَّالِثُ، وهو أنَّه قال ذلك افتراءً على اللهِ، وقد أشار تعالى إلى هذا القِسمِ الذي هو الواقِعُ بحَرفِ الزَّجرِ والرَّدعِ، وهو قَولُه: كَلَّا، أي: ليس الأمرُ كذلك، لم يطَّلِعِ الغَيبَ، ولم يتَّخِذْ عندَ الرَّحمنِ عَهدًا، بل قال ذلك افتراءً على اللهِ؛ لأنَّه لو كان أحَدُهما حاصِلًا لم يَستوجِبِ الرَّدعَ عن مقالتِه كما ترى .

3- قَولُ اللهِ تعالى: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا فيه سؤالٌ: لم قال: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ بسينِ التَّسويفِ، وهو كما قاله، كُتِبَ مِن غيرِ تأخيرٍ؛ قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٨]؟

الجوابُ فيه مِن أوجهٍ:

الأول: سيظهرُ له، ويعلَمُ أنَّا كتَبْنا.

الثاني: أنَّ المتوعِّدَ يقولُ للجاني: سوف أنتَقِمُ منك، وإن كان في الحالِ في الانتقامِ، ويكونُ غَرَضُه من هذا الكلام محضَ التهديدِ، فكذا هاهنا .

الثالث: سَننتقِمُ منه انتقامَ مَن كتَبَ جريمةَ العدُوِّ وحفِظَها عليه، يعني: أنَّه لا يُخِلُّ بالانتصارِ، وإنْ تطاولَ به الزَّمانُ واستأخَرَ .

الرابع: لتحقيقِ أنَّ ذلك واقعٌ لا مَحالةَ، كقولِه تعالى: قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف: 98].

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا الاتخاذُ: جعْلُ الشَّخصِ الشَّيءَ لنَفسِه، فجُعِلَ الاتخاذُ هنا الاعتقادَ والعبادةَ. وفي فِعلِ الاتخاذِ إيماءٌ إلى أنَّ عقيدتَهم في تلك الآلهةِ شَيءٌ مُصطلحٌ عليه، مختلقٌ لم يأمر اللهُ به، كما قال تعالى عن إبراهيم: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: 95] .

5- في قَولِه تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ إيماءٌ إلى أنَّ الحَقَّ يقتضي أن يتَّخِذوا اللهَ إلهًا؛ إذ بذلك تقرَّر الاعتِقادُ الحَقُّ مِن مبدأِ الخليقةِ، وعليه دَلَّت العُقولُ الرَّاجِحةُ .

6- في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا حُجَّةٌ على المعتزلةِ والقَدَريَّةِ في إرسالِ الشَّياطينِ، وهو دليلٌ على أنَّ الشَّيطانَ مخلوقٌ نِقمةً لِمَن حَقَّتْ عليه كلمةُ ربِّه؛ يُزعجُه إلى معاصيه وإلى الكُفرِ، بإرسالِ ربِّه عليه .

7- الإرسالُ في قولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا إرسالٌ كونيٌّ قَدَرِيٌّ، كإرسالِ الرِّياحِ، وليس بإرسالٍ دينيٍّ شرعيٍّ؛ فهو إرسالُ تسليطٍ، بخلافِ قولِه في المؤمنين: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر: 42] ، فهذا السلطانُ المَنْفِيُّ عنه على المؤمنينَ هو الذي أرسلَ به جُندَه على الكافرينَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا

- قولُه: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ الاستفهامُ في قولِه: أَفَرَأَيْتَ مُستعملٌ في التَّعجيبِ من كُفرِ هذا الكافرِ، والمقصودُ مِن الاستفهامِ: لفتُ الذِّهنِ إلى معرفةِ هذه القصَّةِ، أو إلى تذكُّرِها إنْ كان عالمًا بها، وعبَّرَ عنه بالموصولِ؛ لِما في الصِّلةِ من منشَأِ العجَبِ، ولا سيَّما قَولِه: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا

؛ فالهمزةُ للتَّعجيبِ من حالِه، والإيذانِ بأنَّها من الغرابةِ والشَّناعةِ بحيث يجِبُ أنْ تُرى، ويُقضَى منها العجَبُ، والفاءُ للعطفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيه المقامُ، أي: أنظَرْتَ فرأيتَ الَّذي كفَرَ بآياتِنا الباهرةِ الَّتي حقُّها أنْ يؤمِنَ بها كلُّ مَن يُشاهِدُها ؟! وقيل: لمَّا كانتِ الرُّؤيةُ أقْوَى سنَدِ الإخبارِ، اسْتُعْمِلَ (أَرَأَيْتَ) بمعنى الإخبارِ، والفاءُ للتَّعقيبِ، والمعنى: أخبِرْ بقصَّةِ هذا الكافرِ عقِبَ حديثِ أولئك .

2- قوله تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا

- قولُه: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ردٌّ لكلمتِه الشَّنعاءِ، وإظهارٌ لبُطلانِها إثرَ ما أُشيرَ إليه بالتَّعجيبِ منها ، ولاختيارِ هذه الكلمةِ شأنٌ، والمعنى: أوَ قدْ بلَغَ من عظَمةِ شأنِه أنِ ارْتَقى إلى علْمِ الغيبِ الَّذي توحَّدَ به الواحدُ القهَّارُ ؟!

- أيضًا قولُه: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ جوابٌ لكلامِه على طريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ، بحمْلِ كلامِه على ظاهرِ عبارتِه من الوعْدِ بقضاءِ الدَّينِ من المالِ الَّذي سيجِدُه حينَ يُبْعَثُ؛ فالاستفهامُ في قولِه: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ إنكاريٌّ وتَعجيبيٌّ. و(اطَّلع): افتَعَلَ مِن طلَعَ؛ للمُبالغةِ في حُصولِ فعْلِ الطُّلوعِ وهو الارتقاءُ، ولذلك يقال لمكانِ الطُّلوعِ: مَطْلعٌ بالتَّخفيفِ، ومُطَّلعٌ بالتَّشديدِ .

- قولُه: أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا اخْتِيرَ هنا مِن أسمائِه الرَّحمنُ؛ لأنَّ استحضارَ مَدلولِه أجدَرُ في وفائِه بما عهِدَ به مِن النِّعمةِ المزعومةِ لهذا الكافرِ ، ولأنَّ في ذكْرِ هذا الاسمِ تورُّكًا على المُشرِكين الَّذين قالوا: وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان: 60] .

- وفي قولِه: أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا إيجازٌ بالحذفِ؛ فمُتعلِّقُ العهدِ محذوفٌ يدُلُّ عليه السِّياقُ، تَقديرُه: بأنْ يُعطِيَه مالًا وولدًا .

3- قولُه تعالى: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا في هذه الآيةِ والَّتي بعْدَها إيجازٌ؛ لأنَّه لو حُكِيَ كلامُه لطال .

- في قولِه: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا جُرِّدَ الفعْلُ هاهنا لمعنى الوعيدِ، وأُكِّدَ بالمصدرِ مَدًّا؛ دَلالةً على فرْطِ غضَبِه عليه .

4- قولُه تعالى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا

- قولُه: وَنَرِثُهُ كِنايةٌ عن لازمِه، وهو الهلاكُ، والمقصودُ: تذكيرُه بالموتِ، أو تَهديدُه بقُرْبِ هلاكِه ، وفيه بِشارةٌ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونِكايةٌ وكمَدٌ للعاصِ بنِ وائلٍ .

5- قولُه تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا عطْفٌ على جُملةِ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ؛ فضميرُ (اتَّخَذُوا) عائدٌ إلى الَّذين أشْرَكوا؛ لأنَّ الكلامَ جرَى على بعضٍ منهم .

- قولُه: لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا أجْرَى على الآلهةِ ضَميرَ العاقلِ؛ لأنَّ المُشرِكين الَّذين اتَّخَذوهم توهَّمُوهم عُقلاءَ مُدبِّرينَ. وأخبَرَ عنها بالمصدرِ عِزًّا؛ لتَصويرِ اعتقادِ المُشرِكين في آلهتِهم أنَّهم نفْسُ العِزِّ، أي: أنَّ مُجرَّدَ الانتماءِ لها يُكسِبُهم عِزًّا .

6- قوله تعالى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا

- قولُه: كَلَّا ردْعٌ لهم عن ذلك الاعتقادِ الباطلِ، وإنكارٌ لوُقوعِ ما عَلَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ .

- الواوُ في قولِه: سَيَكْفُرُونَ وَيَكُونُونَ إمَّا أنْ ترجِعَ إلى آَلِهَةً، ويكونُ قولُه: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا في مُقابلةِ لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، والمُرادُ: ضِدُّ العِزِّ، وهو الذُّلُّ والهوانُ، أي: يكونونَ عليهم ضِدًّا لِما قصَدوه وأرادوهُ، كأنَّه قيل: ويكونونَ عليهم ذُلًّا، لا لهم عِزًّا، أو يكونونَ عليهم عونًا. ومعنى كونِ الآلهةِ عونًا عليهم: أنَّهم وَقودُ النَّارِ وحصَبُ جهنَّمَ، ولأنَّهم عُذِّبوا بسبَبِ عبادتِها، وإنْ رجعَتِ الواوُ في سَيَكْفُرُونَ و(يَكُونُونَ) إلى المُشرِكين؛ فالمعنى: ويكونونَ عليهم -أي: أعدائِهم- ضِدًّا، أي: كَفرةً بهم بعدَ أنْ كانوا يَعْبُدونها ، ويكونُ حرفُ الاستقبالِ للحُصولِ قريبًا، أي: سيكفُرُ المُشرِكون بعبادةِ الأصنامِ ويَدْخلون في الإسلامِ، ويكونونَ ضِدًّا على الأصنامِ؛ يَهْدِمون هياكِلَها ويلْعَنونها، فهو بِشارةٌ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ دِينَه سَيظهَرُ على دِينِ الكُفرِ. وفي هذه المُقابَلةِ طِباقٌ مرَّتينِ .

- قَولُه: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا، وحَّد ضِدًّا، وإن كان خبرًا عن جَمعٍ، ولم يقُلْ: (أضدادًا)؛ ووجهُ ذلك: أنَّ لفظَ (الضِّدِّ) هو مصدرٌ في الأصلِ، والمصادرُ مُوَحَّدةٌ مُذكَّرةٌ. أو وحَّدَه إشارةً إلى اتِّفاقِ كَلمتِهم، بحيثُ إنَّهم لِفَرطِ تضامُنِهم وتوافُقِهم كشيءٍ واحدٍ. وقيل: هو مفردٌ في معنى الجمعِ .

7- قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا استئنافٌ بَيانيٌّ لجوابِ سُؤالٍ يَجيشُ في نفْسِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ من إيغالِ الكافرينَ في الضَّلالِ: جماعتِهم وآحادِهم، وما جرَّهُ إليهم مِن سُوءِ المصيرِ، ابتداءً مِن قولِه تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، وما تخلَّلَ ذلك مِن ذكْرِ إمهالِ اللهِ إيَّاهم في الدُّنيا، وما أعَدَّ لهم مِن العذابِ في الآخرةِ، وهي مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً [مريم: 81] وجُملةِ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ [مريم: 85] . وأيضًا هي كالتَّذييلِ لتلك الآياتِ والتَّقريرِ لمضمونِها؛ لأنَّها تَستخلِصُ أحوالَهم، وتتضمَّنُ تَسليةَ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن إمهالِهم، وعدَمِ تَعجيلِ عقابِهم .

- والمُرادُ بقولِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا ... تَعجيبُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعدَ الآياتِ الَّتي ذُكِرَ فيها العُتاةُ والمَردةُ من الكُفَّارِ، وأقاويلُهم، ومُعاندتُهم للرُّسلِ، واستهزاؤُهم بالدِّينِ: مِن تَماديهم في الغيِّ، وإفراطِهم في العنادِ، وتَصميمِهم على الكُفرِ، واجتماعِهم على دفْعِ الحقِّ بعدَ وُضوحِه، وانتفاءِ الشَّكِّ عنه، وانهماكِهم لذلك في اتِّباعِ الشَّياطينِ وما تُسَوِّلُ لهم . وفيه تَنبيهٌ على أنَّ جميعَ ذلك منهم بإضلالِ الشَّياطينِ وإغوائِهم، لا لأنَّ له مُسوِّغًا ما في الجُملةِ ؛ فقولُه: أَلَمْ تَرَ استفهامٌ تَعجيبيٌّ، ومثْلُه شائعٌ في كلامِ العربِ؛ يَجْعلون الاستفهامَ على نفْيِ فعْلٍ، والمُرادُ حُصولُ ضِدِّه بحَثِّ المُخاطَبِ على الاهتمامِ بتحصيلِه، أي: كيف لم تَرَ ذلك. ونُزِّلَ إرسالُ الشَّياطينِ على الكافرين-لاتِّضاحِ آثارِه- مَنزلةَ الشَّيءِ المَرئيِّ المُشاهَدِ؛ فوقَعَ التَّعجيبُ مِن مَرآهُ بقولِه: ألَمْ تَرَ ذلك .

- قولُه: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا إمَّا حالٌ مُقدَّرةٌ مِن الشَّيَاطِينَ، أو استئنافٌ وقَعَ جَوابًا عمَّا نشَأَ من صدْرِ الكلامِ؛ كأنَّه قيل: ماذا يفعَلُ الشَّياطينُ بهم حينئذٍ؟ فقيل: تؤُزُّهم، أي: تُغْريهم، وتُهيِّجُهم على المعاصي تَهييجًا شديدًا بأنواعِ الوساوسِ والتَّسويلاتِ .

- وفي قولِه: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا شبَّهَ اضطرابَ اعتقادِهم، وتناقُضَ أقوالِهم، واختلاقَ أكاذيبِهم: بالغَليانِ في صُعودٍ وانخفاضٍ، وفرقعةٍ وسُكونٍ .

- وإرسالُ الشَّياطينِ عليهم: تَسخيرُهم لها، وعدَمُ انتفاعِهم بالإرشادِ النَّبويِّ المُنقِذِ من حبائلِها، وذلك لكُفرِهم وإعراضِهم عنِ استماعِ مواعظِ الوحيِ. وللإشارةِ إلى هذا المعنى عَدَلَ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ في قولِه: عَلَى الْكَافِرِينَ، وجعَلَ تَؤُزُّهُمْ حالًا مُقيِّدًا للإرسالِ؛ لأنَّ الشَّياطينَ مُرسَلةٌ على جميعِ النَّاسِ، ولكنَّ اللهَ يحفَظُ المُؤمِنين من كيدِ الشَّياطينِ على حسَبِ قُوَّةِ الإيمانِ، وصلاحِ العملِ. وفرَّعَ على هذا الاستئنافِ وهذه التَّسليةِ قولَه: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ .

8- قولُه تعالى: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا الفاءُ في قولِه: فَلَا؛ للإشعارِ بكونِ ما قبْلَها مَظنَّةً لوُقوعِ المَنهيِّ عنه، مُحوِجةً إلى النَّهيِ .

- وعبَّرَ بـ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ مُعدًّى بحرفِ الاستعلاءِ (على)؛ إكرامًا للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ بأنْ نُزِّلَ منزلةَ الَّذي هلاكُهم بيَدِه، فنُهِيَ عن تَعجيلِه بهلاكِهم. وذلك إشارةٌ إلى قَبولِ دُعائِه عندَ ربِّه، فلو دعا عليهم بالهلاكِ لَأهلَكَهم اللهُ؛ كيْلَا يرُدَّ دعوةَ نَبيِّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .

- قولُه: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا تعليلٌ لمُوجبِ النَّهيِ ببَيانِ اقترابِ هلاكِهم ، وأفادتْ جُملةُ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا تعليلَ النَّهيِ عن التَّعجيلِ عليهم؛ لأنَّ (إنَّما) مُركَّبةٌ من (إنَّ) و(ما)، و(إنَّ) تفيدُ التَّعليلَ. وفي هذا إنذارٌ باقترابِ استئصالِهم .

- وإِنَّمَا للقصْرِ، أي: ما نحنُ إلَّا نعُدُّ لهم، وهو قصْرُ موصوفٍ على صِفَةٍ قصْرًا إضافيًّا، أي: نعُدُّ لهم، ولسْنا بناسينَ لهم كما يظنُّون، أو لسْنا بتاركِينهم من العذابِ، بل نُؤخِّرُهم إلى يومٍ موعودٍ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، وقال في سُورةِ (الأحقافِ): وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف: 35] ؛ ولعلَّ سبَبَ الاختلافِ بينَ هذه الآيةِ وبينَ ما في سُورةِ (الأحقافِ): أنَّ المُرادَ هنا استعجالُ الاستئصالِ والإهلاكِ، وهو مُقدَّرٌ كونُه على يَدِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فلذلك قيل هنا: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، أي: انتظِرْ يومَهم الموعودَ، وهو يومُ بدرٍ؛ ولذلك عقَّبَ بقولِه: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا، أي: نُنْظِرُهم ونُؤجِّلُهم، وأنَّ العذابَ المقصودَ في سُورةِ (الأحقافِ) هو عذابُ الآخرةِ؛ لوُقوعِه في خلالِ الوعيدِ لهم بعذابِ النَّارِ؛ لقولِه هنالك: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف: 34، 35].

=====================

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (85-95)

ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ

غريب الكلمات:

 

وَفْدًا: أي: رُكبانًا، واحِدُهم وافِدٌ، فالوافدُ في الغالبِ يكونُ راكِبًا، يُقالُ: وَفَدتُ على فُلانٍ: إذا قَدِمتَ عليه، وأصلُ (وفد): يدُلُّ على إشرافٍ وطُلوعٍ

.

وِرْدًا: أي: مُشاةً عِطاشًا، وأصلُه: الورودُ على الماءِ، والواردُ على الماءِ يكونُ عطشانَ، وأصلُ (ورد): يدلُّ على المُوافاةِ إلى الشَّيءِ .

إِدًّا: أي: عَظيمًا مُنكَرًا، وأصلُ (أدد): يدُلُّ على عِظَمِ الشَّيءِ وشِدَّتِه .

يَتَفَطَّرْنَ: أي: يتشَقَّقْنَ ويَتصدَّعْنَ، وأصلُ (فطر): يدلُّ على فَتحِ شَيءٍ، وإبرازِه .

وَتَخِرُّ: أي: تَسقُطُ، وأصلُ (خرر): يدلُّ على اضطرابٍ، وسُقوطٍ مع صَوتٍ .

هَدًّا: الهَدُّ: الهدمُ له وقعٌ، وسُقوطُ شَيءٍ ثَقيلٍ، وأصلُ (هدد): يدُلُّ على كَسرٍ وهَدمٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يبيِّنُ الله سبحانَه عاقبةَ المتقينَ، وعاقبةَ المجرمينَ يومَ القيامةِ، فيقول: اذكُرْ -يا مُحمَّدُ- يومَ نَجمَعُ المتَّقينَ إلى الرَّحمنِ وإلى دارِ كرامتِه راكبينَ مُكَرَّمينَ، ونسوقُ الكافرينَ إلى النَّارِ مُشاةً عِطاشًا، لا يملِكُ هؤلاء الكُفَّارُ الشَّفاعةَ لأنفُسِهم ولا لأحدٍ، إنَّما يَملِكُها مَنِ اتخَذَ عند الرَّحمنِ عَهدًا بذلك، وهم المؤمِنونَ باللهِ ورُسُلِه.

ثمَّ يحكي الله تعالى أقوالًا أخرى، مِن أقوالِ الكافرينَ الباطلةِ، فيقولُ: وقال هؤلاء الكُفَّارُ: اتخذَ الرَّحمنُ ولَدًا! لقد جِئتمُ شَيئًا عظيمًا مُنكرًا، تكاد السَّمواتُ يتشقَّقْنَ مِن فظاعةِ ذلكم القَولِ، وتتصَدَّعُ الأرضُ، وتَسقُطُ الجبالُ سُقوطًا سريعًا فتتَفتَّتْ؛ غضبًا لله وإجلالًا له سُبحانَه؛ لِنسبَتِهم إليه الولدَ -تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا- وما يصِحُّ للرَّحمنِ ولا يليقُ بعَظَمتِه أن يتَّخِذَ ولَدًا، فما مِن أحدٍ مِن أهلِ السَّمواتِ، ومِن أهل الأرضِ، إلَّا سيأتي الرَّحمنَ يومَ القيامةِ ذَليلًا خاضِعًا مُقِرًّا له بالعبوديَّةِ، لقد أحصى اللهُ سُبحانه وتعالى خَلْقَه كُلَّهم، وعَلِمَ عَدَدَهم، فلا يخفَى عليه أحَدٌ منهم، وسوف يأتي كُلُّ فَردٍ مِن الخَلقِ رَبَّه يومَ القيامةِ وَحدَه، لا مالَ له ولا ولَدَ معه ولا نصيرَ.

تفسير الآيات:

 

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) .

أي: اذكُرْ -يا محمَّدُ- يومَ القيامةِ حين نجمعُ الذين اتَّقَوا اللهَ بامتثالِ ما أمرَ، واجتنابِ ما نهى، فنقودُهم إلى الرَّحمنِ راكبينَ في رِفعةٍ وعلوٍّ، فيَقدَمونَ إلى جنَّتِه، ومحَلِّ ضِيافتِه، ودارِ كرامتِه ورِضوانِه

.

كما قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر: 73] .

وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما يدُلُّ على كرامةِ أوليائِه؛ أتبَعَه ما يدُلُّ على إهانةِ أعدائِه، فقال :

وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) .

أي: ونسوقُ الكُفَّارَ والعُصاةَ إلى جَهنَّمَ عِطاشًا مُشاةً؛ إذلالًا لهم .

عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا كان يومُ القيامةِ أذَّنَ مُؤذِّنٌ: تتبَعُ كُلُّ أمَّةٍ ما كانت تعبُدُ، فلا يبقَى مَن كان يعبُدُ غيرَ اللهِ، مِن الأصنامِ والأنصابِ إلَّا يتساقطونَ في النَّارِ، حتى إذا لم يبقَ إلَّا مَن كان يعبُدُ اللهَ، بَرٌّ أو فاجِرٌ وغُبَّراتُ أهلِ الكِتابِ، فيُدعَى اليهودُ فيُقالُ لهم: مَن كنتم تعبُدونَ؟ قالوا: كنَّا نعبُدُ عزيرَ ابنَ اللهِ! فيُقالُ لهم: كذبتُم؛ ما اتخذَ اللهُ مِن صاحبةٍ ولا ولدٍ، فماذا تَبغونَ؟ فقالوا: عَطِشْنا رَبَّنا فاسْقِنا، فيُشارُ ألا تَرِدونَ؟ فيُحشَرونَ إلى النَّارِ كأنَّها سرابٌ يَحطِمُ بَعضُها بعضًا، فيتَساقَطونَ في النَّارِ، ثم يُدعَى النَّصارى، فيُقالُ لهم: مَن كنتُم تعبُدونَ؟ قالوا: كنَّا نعبُدُ المسيحَ ابنَ الله! فيُقالُ لهم: كذبتُم، ما اتخذَ اللهُ مِن صاحبةٍ ولا ولدٍ، فيُقالُ لهم: ماذا تبغونَ؟ فكذلك مِثل الأوَّلِ ...)) .

لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) .

أي: ليس للكافرينَ مِن الشَّفاعةِ شَيءٌ يومَ القيامةِ، فلا يَشفَعونَ لأحَدٍ، ولا يستَحِقُّونَ أن يشفَعَ لهم أحدٌ، لكنْ من كان مؤمِنًا بالله موحِّدًا ومطيعًا له؛ فإنَّه يشفعُ لِغَيرِه، وينتَفِعُ بشَفاعةِ غَيرِه له .

كما قال تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18] .

وقال سُبحانه: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] .

وقال تعالى: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 86] .

وقال عزَّ وجلَّ: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه: 109] .

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قَرَّر تعالى في هذه السورةِ الشَّريفةِ عُبوديَّةَ عيسى عليه السَّلامُ، وذكَرَ خَلْقَه مِن مريمَ بلا أبٍ؛ شرَع في مقامِ الإنكارِ على من زعمَ أنَّ له ولدًا، تعالى وتقَدَّسَ وتنَزَّه عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا .

وأيضًا لما ردَّ الله تعالى على عبدةِ الأوثانِ؛ عاد إلى الردِّ على مَن أثبتَ له ولدًا .

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) .

أي: وقال هؤلاء الكافِرونَ: اتَّخذَ الرَّحمنُ ولدًا له !

لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) .

أي: لقد قلتُم قولًا عَظيمًا مُنكَرًا، بافترائِكم على اللهِ أنَّ له ولدًا .

كما قال تعالى: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [الإسراء: 40] .

وقال سُبحانه: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف: 4-5] .

تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) .

تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ .

أي: تكاد السَّمواتُ على عَظَمتِها وإحكامِها تتشَقَّقُ قِطَعًا عند سماعِها ذلك القَولَ العَظيمَ المنكَرَ؛ إعظامًا للرَّبِّ، وإجلالًا له سُبحانَه .

وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ.

أي: وتكادُ الأرضُ تتصَدَّعُ؛ تعظيمًا لله سُبحانَه .

وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا.

أي: وتكادُ الجِبالُ على صلابتِها تسقُطُ سَريعًا، فتندَكُّ وتتفَتَّتُ .

أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) .

أي: من أجلِ أنَّ المُشرِكينَ نَسَبوا للرَّحمنِ ولَدًا .

وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) .

أي: وما يصِحُّ ولا يليقُ بالرَّحمنِ أن يتَّخِذَ ولَدًا؛ فلا مِثلَ له مِن خَلقِه، ولا احتياجَ له إليهم؛ فجميعُ الخلائقِ عَبيدٌ له، وهو الغنيُّ الحميدُ .

كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة: 116] .

وقال سُبحانه: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ [مريم: 35] .

وقال عزَّ وجَلَّ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4] .

وعنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ: كَذَّبني ابنُ آدَمَ، ولم يكنْ له ذلك، وشتَمَني، ولم يكنْ له ذلك! فأمَّا تكذيبُه إيَّاي فزَعَم أنِّي لا أقدِرُ أن أُعيدَه كما كان، وأمَّا شَتمُه إيَّاي فقولُه: لي ولدٌ، فسُبحاني أن أتخِذَ صاحِبةً أو ولدًا !)) .

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) .

أي: ما مِن أحدٍ مِن أهلِ السَّمواتِ ومَن أهلِ الأرضِ إلَّا سيأتي إلى الرَّحمنِ يومَ القيامةِ ذَليلًا خاضِعًا، مقِرًّا له بعبوديَّتِه، فكيف يكونُ أحدٌ مِن خَلقِه ولدًا له، والحالُ أنَّ الجميعَ مِلكُه وعَبيدُه، يتصَرَّفُ فيهم كما يشاءُ؟ أمَّا هم فليس لهم من المُلكِ والتصَرُّفِ شيءٌ !

لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) .

أي: لقد أحصى الرَّحمنُ عَدَدَ خَلْقِه كُلِّهم؛ ذَكَرِهم وأُنثاهم، وصَغيرِهم وكبيرِهم، فلا يخفَى عليه أحَدٌ منهم .

وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) .

أي: وكُلُّ واحدٍ مِن الخلائِقِ سيأتي إلى اللهِ يومَ القيامةِ بعدَ بَعثِه مِن الموتِ وَحيدًا، لا أولادَ معه، ولا مالَ له، ولا أنصارَ، ليس معه إلا عَمَلُه، فيقضي اللهُ فيه بحُكمِه، ويُجازيه، ويوَفِّيه حسابَه، فكيف يُتصوَّرُ في بالٍ أو يَقَعُ في خيالٍ أن يكونَ شَيءٌ مِن خَلْقِه وعَبيدِه له ولدًا، أو معه شريكًا

 

؟!

كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: 94] .

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- في قَولِه تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا رَدٌّ على مَن يقولُ: إنَّ اللهَ -جلَّ جلالُه- بنَفسِه في كلِّ مكانٍ، ولو كان -جَلَّ وتعالى- كذلك، ما كان لِحَشْرِهم إليه معنًى؛ إذ هو معهم حيثُ يكونونَ

!

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا يدُلُّ على أنَّهم يُساقُونَ إلى النَّارِ بإهانةٍ واستخفافٍ، كأنَّهم نَعَمٌ عطاشٌ تُساقُ إلى الماءِ !

3- نسبةُ الولدِ إلى الله مسبَّةٌ له تبارَك وتعالَى؛ لذا أخبَرَ الله تعالى أنَّه: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا وما ذاك إلا لتضَمُّنِه شَتْمَ الربِّ تبارك وتعالى؛ والتنَقُّصَ به، ونسبةَ ما يمنعُ كمالَ رُبُوبيَّتِه وقُدرتِه وغناه إليه .

4- العبوديَّةُ نوعانِ: عامَّةٌ وخاصَّةٌ؛ فالعبوديَّةُ العامَّةُ عبوديَّةُ أهلِ السَّمواتِ والأرضِ كُلِّهم لله؛ بَرِّهم وفاجِرِهم، مؤمِنِهم وكافِرِهم، فهذه عبوديَّةُ القَهرِ والمِلك؛ قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 88 - 93] فهذا يدخُلُ فيه مؤمِنُهم وكافِرُهم. وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ [الفرقان: 17] فسَمَّاهم عبادَه مع ضلالِهم، لكنَّها تسميةٌ مُقَيَّدةٌ بالإشارةِ، وأمَّا المُطلقةُ فلم تجئْ إلَّا لأهلِ النَّوعِ الثاني الآتي.

وأمَّا النوع الثاني: فعبوديَّةُ الطَّاعةِ والمحبَّة، واتباع الأوامِرِ؛ قال تعالى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: 68] ، وقال: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 17-18] ، وقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63] ، وقال تعالى عن إبليسَ: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 39-40] ، فقال تعالى عنهم: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر: 42] .

5- قَولُ اللهِ تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَمَّا كان مِن العبيدِ مَن يعصَى على سيدِه، عبَّر بالإتيانِ في قولِه: آَتِي الرَّحْمَنِ، أي: منقادٌ له طوعًا أو كرهًا، في كلِّ حالةٍ، وكلِّ وقتٍ، عَبْدًا: مُسخَّرًا مقهورًا خائفًا راجيًا، فكيف يكونُ العبدُ ابنًا أو شريكًا؟! فدلَّت الآيةُ على التنافي بينَ العبوديةِ والولِديَّةِ؛ فلا يجتمعانِ في حالٍ واحدةٍ؛ فهي مِن الدَّليلِ على أنَّ مَن مَلَكَ ابنَه عَتَق عليه؛ لأنَّ الولدَ لا يكونُ عبدًا لأبيه في حُكْمِ هذه الآيةِ ؛ فالولادةُ والمِلكُ لا يجتَمِعانِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا

- قولُه: يَوْمَ منصوبٌ على الظَّرفيَّةِ بفعْلٍ مُؤخَّرٍ قد حُذِفَ؛ للإشعارِ بضيقِ العبارةِ عن حصْرِه وشرْحِه؛ لكَمالِ فَظاعةِ ما يقَعُ فيه من الطَّامَّةِ التَّامَّةِ، والدَّواهي العامَّةِ. وقيل: منصوبٌ على المفعوليَّةِ بمُضمرٍ مُقدَّمٍ خُوطِبَ به النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: اذكُرْ لهم بطريقِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ يومَ نحشُرُ... إلخ. وقيل: على الظَّرفيَّةِ لقولِه تعالى: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ. والَّذي يَقْتضيه مقامُ التَّهويلِ، وتَسْتدعيه جزالةُ التَّنزيلِ: أنْ يَنتصِبَ بأحدِ الوجهينِ الأوَّلينِ، ويكونَ هذا استئنافًا مُبيِّنًا لبعضِ ما فيه من الأُمورِ الدَّالَّةِ على هولِه

. وقيل: الظَّرفُ وما أُضِيفَ الظَّرفُ إليه: إدماجٌ بُيِّنَت به كرامةُ المُؤمِنين، وإهانةُ الكافرينَ .

- وعُدِّيَ نَحْشُرُ بـ إِلَى الرَّحْمَنِ تَعظيمًا لهم وتَشريفًا. وذكَرَ صِفَةَ الرَّحمانيَّةِ إِلَى الرَّحْمَنِ الَّتي خصَّهم بها كرامةً؛ إذ لفْظُ (الحشرِ) فيه: جمْعٌ مِن أماكنَ مُتفرِّقةٍ، وأقطارٍ شاسعةٍ على سَبيلِ القهْرِ، فجاءت لفظةُ (الرَّحمن) مُؤذنةً بأنَّهم يُحْشرون إلى مَن يرحَمُهم، ولفظُ (السَّوقِ) فيه إزعاجٌ، وعُدِّيَ بـ إِلَى جَهَنَّمَ؛ تَفظيعًا لهم، وتَبشيعًا لحالِ مَقرِّهم. ولفظةُ (الوفدِ) مُشعِرةٌ بالإكرامِ والتَّبجيلِ ؛ فذُكِرَ المُتَّقونَ بلفظِ التَّبجيلِ، وهو أنَّهم يُجْمَعون إلى ربِّهم الَّذي غمَرَهم برحْمتِه، وخَصَّهم برضوانِه وكرامتِه، كما يفِدُ الوفَّادُ على المُلوكِ، مُنتظرينَ للكرامةِ عندَهم، وذُكِرَ الكافرونَ بأنَّهم يُساقونَ إلى النَّارِ بإهانةٍ واستخفافٍ، كأنَّهم نَعَمٌ عِطاشٌ تُساقُ إلى الماءِ .

- وقولُه: وِرْدًا حالٌ قُصِدَ منها التَّشبيهُ؛ فلذلك جاءت جامدةً؛ لأنَّ معنى التَّشبيهِ يجعَلُها كالمُشتَقِّ؛ حيث شَبَّههم بالأنعامِ الَّتي تُساقُ قُدَّامَ رُعاتِها، يجعلونَها أمامَهم؛ لِتَرْهَبَ زجْرَهم وسِياطَهم، فلا تتفلَّتْ عليهم .

- ولما كان مَن يرِدُ الماءَ لا يردُه إلَّا لعطشٍ، أُطلِق الوردُ على العطاشِ؛ تسميةً للشيءِ بسببِه .

2- قولُه تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا عطْفٌ على جُملةِ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ [مريم: 66] ، أو على جُملةِ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً [مريم: 81] ؛ إتمامًا لحكايةِ أقوالِهم، وهو القولُ بأنَّ للهِ ولدًا، وهو قولُ المُشرِكين: الملائكةُ بناتُ اللهِ؛ فصريحُ الكلامِ رَدٌّ على المُشرِكين، وكِنايتُه تعريضٌ بالنَّصارى الَّذين شابَهوا المُشرِكين في نِسبةِ الولدِ إلى اللهِ؛ فهو تَكملةٌ للإبطالِ الَّذي في قولِه تعالى آنفًا: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ ... إلخ. والضَّميرُ عائدٌ إلى المُشرِكين، فيُفْهَمُ منه: أنَّ المقصودَ من حكايةِ قولِهم ليس مُجرَّدَ الإخبارِ عنهم، أو تعليمَ دينِهم، ولكنْ تفظيعُ قولِهم وتَشنيعُه .

- وفي تكرُّرِ اسمِ (الرَّحمنِ) في هذه الآياتِ أربَعَ مرَّاتٍ في قولِه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، وقولِه: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وقولِه: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، وقولِه: إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا: إيماءٌ إلى أنَّ وَصْفَ الرَّحمنِ الثَّابتَ للهِ، والَّذي لا يُنْكِرُ المُشرِكون ثُبوتَ حقيقتِه للهِ، وإنْ أنْكَروا لفظَهُ، يُنافي ادِّعاءَ الولدِ له؛ لأنَّ (الرَّحمنَ) وصْفٌ يدُلُّ على عُمومِ الرَّحمةِ وتكثُّرِها. ومعنى ذلك: أنَّها شامِلةٌ لكلِّ موجودٍ؛ فذلك يَقْتضي أنَّ كلَّ موجودٍ مُفتقِرٌ إلى رحمةِ اللهِ تعالى، ولا يتقوَّمُ ذلك إلَّا بتحقُّقِ العُبوديَّةِ فيه؛ لأنَّه لو كان بعضُ الموجوداتِ ابنًا للهِ تعالى، لاسْتَغنَى عن رَحمتِه؛ لأنَّه يكونُ بالبُنوَّةِ مُساويًا له في الإلهيَّةِ المُقتضيةِ الغِنى المُطلَقَ، ولأنَّ اتِّخاذَ الابنِ يتطلَّبُ به مُتَّخِذُه بِرَّ الابنِ به ورَحمتَه له، وذلك يُنافي كونَ اللهِ مُفيضَ كلِّ رحمةٍ؛ فذِكْرُ هذا الوصفِ عندَ قولِه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، وقولِه: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا: تَسجيلٌ لغَباوتِهم، وذِكرُه عندَ قولِه: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا: إيماءٌ إلى دليلِ عدَمِ لياقةِ اتِّخاذِ الابنِ باللهِ، وذِكرُه عندَ قولِه: إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا: استدلالٌ على احتياجِ جميعِ الموجوداتِ إليه، وإقرارِها له بملْكِه إيَّاها . وقيل: لاختيارِ هذا الاسمِ في هذه السُّورةِ شأنٌ؛ ولعلَّه لأنَّ مَساقَ هذا الكلامِ فيها لتَعدادِ نِعَمِه الجِسامِ، وشرْحِ حالِ الشَّاكرين لها، والكافرينَ بها . وأيضًا في اختصاصِ (الرَّحمنِ) وتَكريرِه مرَّاتٍ من الفائدةِ: أنَّه هو الرَّحمنُ وحْدَه، لا يَستحِقُّ هذا الاسمَ غيرُه، من قِبَلِ أنَّ أُصولَ النِّعمِ وفُروعَها منه؛ فمَن أضاف إليه ولدًا، فقد جعَلَه كبعضِ خلْقِه، وأخرَجَه بذلك عن استحقاقِ اسمِ الرَّحمنِ .

3- قولُه تعالى: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا جُملةٌ مُستأنفةٌ لبَيانِ ما اقتضَتْه جُملةُ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا من التَّشنيعِ والتَّفظيعِ . وهو رَدٌّ لمقالتِهم الباطلةِ، وتَهويلٌ لأمْرِها بطريقِ الالتفاتِ المنْبِئِ عن كَمالِ السَّخطِ، وشدَّةِ الغضبِ، المُفصِحِ عن غايةِ التَّشنيعِ والتَّقبيحِ، وتَسجيلٌ عليهم بنهايةِ الوقاحةِ والجهلِ والجراءةِ .

- وإنَّما قيل: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا وهو خِطابٌ للحاضِرِ، بعدَ قَولِه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا وهو خِطابٌ للغائِبِ؛ لفائدةٍ حَسَنةٍ، وهي زيادةُ التَّسجيلِ عليهم بالجَراءةِ على الله تعالى، والتعَرُّضِ لسَخَطِه، وتنبيهٌ لهم على عِظَمِ ما قالوه، كأنَّه يُخاطِبُ قَومًا حاضِرينَ بينَ يديه مُنكِرًا عليهم، ومُوَبِّخًا لهم .

4- قوله تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا

- قولُه: تَكَادُ السَّمَوَاتُ ... إلخ صِفَةٌ لـ إِدًّا، أو استئنافٌ ببَيانِ عظيمِ شأْنِه في الشِّدَّةِ والهولِ .

- وفي قولِه: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ جمَعَ بينَ يَتَفَطَّرْنَ وبينَ وَتَنْشَقُّ تَفنُّنًا في استعمالِ المُترادفِ؛ لدفْعِ ثقَلِ تَكريرِ اللَّفظِ. والكلامُ جارٍ على المُبالغةِ في التَّهويلِ مِن فظاعةِ هذا القولِ، بحيثُ إنَّه يبلُغُ إلى الجماداتِ العظيمةِ، فيُغيِّرُ كيانَها .

5- قوله تعالى: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا

- قولُه: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ فيه تأكيدُ ما أُفِيدَ من قولِه: مِنْهُ، وزيادةُ بَيانٍ لمعادِ الضَّميرِ المجرورِ في قولِه: ﯜ؛ اعتناءً ببَيانِه .

6- قوله تعالى: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا

- لعلَّ تَرتيبَ الحُكمِ بصِفَةِ الرَّحمانيَّةِ، ووضْعَ (الرَّحمنِ) موضِعَ الضَّميرِ؛ للإِشعارِ بأنَّ كلَّ ما عداهُ نِعمةٌ ومُنْعَمٌ عليه، فلا يُجانِسُ مَن هو مبدَأُ النِّعمِ كلِّها، ومُولي أُصولِها وفُروعِها؛ فكيف يُمكِنُ أنْ يتَّخِذَه ولدًا؟! ثمَّ صرَّحَ به في قولِه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ... .

7- قوله تعالى: لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا

- جُملةُ: لَقَدْ أَحْصَاهُمْ عطْفٌ على جُملةِ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، مُستأنفةٌ ابتدائيَّةٌ؛ لتَهديدِ القائلينَ هذه المقالةَ، فضمائرُ الجمْعِ عائدةٌ إلى ما عاد إليه ضميرُ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا وما بعدَه، أي: لقد علِمَ اللهُ كلَّ مَن قال ذلك وعَدَّهم؛ فلا يَنفلِتُ أحدٌ منهم من عقابِه .

- إنْ قيل: ما فائدةُ ذِكْرِ العدِّ بعدَ الِإحصاءِ، مع أنَّ الإحصاءَ هو العدُّ أو الحصرُ، والحصرُ لا يكونُ إلَّا بعدَ معرفةِ العددِ؟

والجوابُ: له معنًى ثالثٌ وهو العلمُ، كقولِه تعالى: وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28] ، أي: علِمَ عدَدَ كلِّ شَيءٍ، فالمعنى هنا: لقد علِمَهم، وعَدَّهم عَدًّا .

8- قوله تعالى: وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا

- قولُه: آَتِيهِ في صِيغَةِ الفاعلِ من الدَّلالةِ على إتيانِهم ما ليس في صِيغَةِ المُضارعِ لو قيل: يأْتِيه، فإذا كان شأنُه تعالى وشأنُهم كما ذُكِرَ؛ فأنَّى يُتَوهَّمُ احتمالُ أنْ يتَّخِذَ شيئًا منهم ولدًا ؟! وفي ذلك تَعريضٌ بأنَّهم آتونَ لِما يَكْرهون مِن العذابِ والإهانةِ إتيانَ الأعزلِ إلى مَن يتمكَّنُ من الانتقامِ منه .

- وأفردَ سُبحانَه آَتِيهِ لَمَّا كان المقصودُ الإشارةَ إلى أنَّهم وإنْ أتَوه جميعًا؛ فكلُّ واحدٍ منهم منفردٌ عن كلِّ فريقٍ مِن صاحبٍ أو قريبٍ أو رفيقٍ، بل هو وَحدَه منفردٌ، فكأنَّه إنما أتاه وَحدَه -وإنْ أتاه مع غيرِه- لانقطاعِ تبعيَّتِه للغيرِ، وانفرادِه بشأنِ نفْسِه

===============

 

سورةُ مَريمَ

الآيات (96-98)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ

غريب الكلمات:

 

وُدًّا: أي: محبَّةً، والوُدُّ: محبَّةُ الشيءِ، وتمنِّي كونِه، وأصلُ (ودد): يدلُّ على محبَّةٍ

.

لُدًّا: اللُّدُّ: جمعُ ألَدَّ، وهو الخَصِمُ الجَدِلُ، شَدِيدُ الخُصومةِ، وأصلُ (لدد): يدُلُّ على خِصامٍ .

تُحِسُّ: أي: ترَى، وتجِدُ، وتعلمُ، والإحساسُ: العلمُ بإحدَى الحواسِّ، وأَحْسَسْتُه: أدركتُه بحاسَّتي .

رِكْزًا: أي: صَوتًا خَفِيًّا لا يُفهَمُ، وأصلُ (ركز): يدلُّ على صوتٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يختمُ الله عزَّ وجلَّ السورةَ ببيانِ ما أعدَّه لعبادِه المؤمنينَ، فيقولُ: إنَّ الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ سيجعَلُ لهم الرَّحمنُ محبَّةً في قُلوبِ عبادِه.

ثمَّ يُبيِّنُ الحكمةَ التي مِن أجلِها يسَّر القرآنَ، فيقولُ: فإنَّما يسَّرْنا هذا القرآنَ بلِسانِك العربيِّ -يا محمَّدُ- لتبَشِّرَ به المتَّقينَ بأنَّ لهم الجنَّةَ في الآخرةِ، والكرامةَ في الدُّنيا، وتخوِّفَ به المكَذِّبينَ شَديدي الخُصومةِ بالباطِلِ.

ثمَّ يختمُ ببيانِ سُنَّتِه في الظالمينَ، فيقولُ: وأهلَكْنا كثيرًا من الأُمَمِ السَّابقةِ قبلَ كُفَّارِ قُرَيشٍ؛ بسَبَبِ كُفرِهم باللهِ وتكذيبِهم رُسُلَه، فهل ترَى منهم أحدًا، أو تَسمَعُ لهم صوتًا خفيًّا، كلا؛ فقد هَلَكوا، فكذلك الكُفَّارُ مِن قَومِك نُهلِكُهم كما أهلَكْنا مَن قَبلَهم إنْ لم يُبادِروا بالتَّوبةِ.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا فُصِّلتْ قبائحُ أحوالِ الكفرةِ؛ عُقِّبَ ذلك بذكْرِ مَحاسنِ أحوالِ المُؤمِنين

.

وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا رَدَّ على أصنافِ الكَفَرةِ، وبالَغ في شَرحِ أحوالِهم في الدُّنيا والآخرةِ؛ ختَمَ السُّورةَ بذِكرِ أحوالِ المؤمنينَ، فقال :

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) .

أي: إنَّ الذين آمنوا باللهِ ورُسُلِه وبما جاؤوا به مِن عندِ اللهِ، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ : يُحبُّهم اللهُ، ويجعلُ لهم في الدُّنيا محبَّةً في قلوبِ عِبادِه .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريلَ فقال: إنِّي أحبُّ فلانًا فأحِبَّه، فيُحِبُّه جبريلُ، ثمَّ ينادي في السَّماءِ فيقولُ: إنَّ اللهَ يحبُّ فلانًا فأحِبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السَّماءِ، ثمَّ يُوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ، وإذا أبغَضَ عبدًا دعا جبريلَ فيقولُ: إنِّي أُبغِضُ فُلانًا فأبغِضْه، فيُبغِضُه جِبريلُ، ثمَّ ينادي في أهلِ السَّماءِ: إنَّ اللهَ يُبغِضُ فُلانًا فأبغِضوه، فيُبغِضونَه، ثمَّ تُوضَعُ له البَغضاءُ في الأرضِ )) .

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا احتَوَت السُّورةُ على عِبَرٍ وقَصَصٍ وبِشاراتٍ ونُذُرٍ، جاء هنا في التَّنويهِ بالقُرآنِ، وبَيانِ بعضِ ما في تنزيلِه مِن الِحكَمِ .

وأيضًا لَمَّا كان إنزالُ هذا القَولِ الثَّقيلِ ثمَّ تَيسيرُه حِفظًا وعَمَلًا- سَببًا لِما جُعِل لأهلِ الطَّاعةِ في الدُّنيا مِنَ الوُدِّ، بما لهم مِنَ التحَلِّي والتزَيُّنِ بالصَّالحاتِ، والتخَلِّي والتصَوُّنِ مِنَ السيِّئاتِ؛ الدَّالِّ على ما لهم عندَ مَولاهم مِن عَظيمِ العِزِّ والقُربِ؛ قال :

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ .

أي: فإنَّما يسَّرْنا القرآنَ بلُغتِك العربيَّةِ -يا محمَّدُ- وسهَّلْنا قراءةَ ألفاظِه، وفَهْمَ معانيه؛ لتبشِّرَ بالقرآنِ الذين يمتَثِلونَ الأوامِرَ، ويجتَنِبونَ النَّواهيَ بأنَّ لهم الجنَّةَ في الآخرةِ، والعزَّ في الدُّنيا .

كما قال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان: 58] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9] .

وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا .

أي: وتُنذِرَ بالقُرآنِ -يا محمَّدُ- قَومَك الشَّدِيدي المخاصَمةِ والمجادلةِ بالباطِلِ لرَدِّ الحَقِّ، فتُحَذِّرَهم من وُقوعِ الهَلاكِ والعذابِ عليهم .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا ذُكِروا بالعنادِ والمُكابَرةِ؛ أُتْبِعَ بالتَّعريضِ بتَهديدِهم على ذلك، بتَذكيرِهم بالأُمَمِ الَّتي استأصَلَها اللهُ لجَبروتِها وتَعنُّتِها؛ لتكونَ لهم قياسًا ومثَلًا ، فقال تعالى:

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ .

أي: وأهلَكْنا كثيرًا مِن الأُمَمِ الماضيةِ قبلَ كُفَّارِ قُرَيشٍ؛ بسَبَبِ كُفرِهم باللهِ، وتكذيبِهم رُسُلَه، ورُكوبِهم معاصيَه .

كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [ق: 36] .

هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ .

أي: فهل ترَى -يا محمَّدُ- أو تشعُرُ بشَخصٍ واحدٍ مِن تلك الأُمَمِ الماضيةِ التي أهلَكْناها ؟!

كما قال تعالى: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة: 8] .

أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا .

أي: أو هل تَسمَعُ لهم صَوتًا خَفِيًّا؟! كلا؛ فقد بادوا وهَلَكوا، وبَقِيَت أخبارُهم عِبرةً للمُعتَبِرينَ، ولم يبقَ منهم عينٌ ولا أثَرٌ، قد خلَت منهم دورُهم، وانتقلوا إلى دارٍ لا ينفَعُهم فيها إلَّا الإيمانُ والعَمَلُ الصالحُ، فكذلك هؤلاء المُشرِكونَ -يا محمَّدُ- صائرونَ إلى ما صار إليه أولئك، إن لم يبادِروا بالتَّوبةِ قَبلَ وُقوعِ الهلاكِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا هذا مِن نِعَمِه تعالى على عبادِه الذين جمعوا بينَ الإيمانِ والعَمَلِ الصالح: أنْ وَعَدَهم أنَّه يجعَلُ لهم وُدًّا، أي: محبَّةً ووِدادًا في قلوبِ أوليائِه، وأهلِ السَّماءِ والأرضِ، وإذا كان لهم في القلوبِ وُدٌّ تيسَّرَ لهم كثيرٌ مِن أمورهم، وحصَل لهم مِن الخيراتِ والدَّعواتِ والإرشادِ والقَبولِ والإمامةِ ما حصل، وإنَّما جعل اللهُ لهم وُدًّا؛ لأنَّهم وَدُّوه، فودَّدَهم إلى أوليائِه وأحبابِه

.

2- ختَم الله تعالى السورةَ بموعظةٍ بليغةٍ، فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ لأنَّهم إذا تأمَّلوا وعَلِموا أنَّه لا بدَّ مِن زوالِ الدُّنيا، والانتهاءِ إلى الموتِ؛ خافوا ذلك وخافوا أيضًا سُوءَ العاقبةِ في الآخرةِ، فكانوا فيها إلى الحَذَرِ مِن المعاصي أقرَبَ، ثمَّ أكَّدَ تعالى ذلك فقال: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ؛ لأنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إذا لم يُحِسَّ منهم أحدًا برؤيةٍ أو إدراكٍ أو وجدانٍ، ولا يسمعُ لهم ركزًا -وهو الصَّوتُ الخَفِيُّ- دَلَّ ذلك على انقراضِهم وفنائِهم بالكُليَّةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ الله تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا لَمَّا ذكرَ تعالى أنه يبشِّرُ بالقرآنِ المتَّقينَ، ذكَرَ في مقابلتِه مَن هو في مخالفةِ التَّقوى أبلغُ، وأبلَغُهم الألَدُّ الذي يتمَسَّكُ بالباطِلِ، ويجادِلُ فيه ويتشَدَّدُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا

- التَّعرُّضُ لعُنوانِ الرَّحمانيةِ في قولهِ: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا؛ لِما أنَّ الموعودَ مِن آثارِها

.

- قولُه: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا السِّينُ: إمَّا لأنَّ السُّورةَ مكِّيَّةٌ، وكان المُؤمِنون حينئذٍ مَمْقوتينَ بين الكفرةِ، فوعَدَهم اللهُ تعالى ذلك إذا ظهَرَ الإسلامُ وفشا. وإمَّا أنْ يكونَ ذلك يومَ القيامةِ؛ يُحبِّبُهم إلى خلْقِه بما يُعْرَضُ من حَسناتِهم، ويُنْشَرُ من دِيوانِ أعمالِهم . ولعلَّ إفرادَ هذا بالوعدِ مِن بينِ ما سيُؤْتَون يومَ القيامةِ من الكراماتِ السَّنيَّةِ؛ لِما أنَّ الكفرةَ سيقَعُ بينهم يومئذٍ تباغضٌ وتضادٌّ وتقاطعٌ وتلاعُنٌ . واحتملَ أنْ يكونَ ذلك الوُدُّ في الدُّنيا على الإطلاقِ. وقيل: في الكلامِ حذْفٌ، والتَّقديرُ: سيُدْخِلُهم دارَ كرامتِه، ويجعَلُ لهم وُدًّا بسبَبِ نزْعِ الغِلِّ من صُدورِهم، بخلافِ الكُفَّارِ .

2- قولُه تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا إيذانٌ بانتهاءِ السُّورةِ؛ فإنَّ شأْنَ الإتيانِ بكلامٍ جامعٍ بعدَ أفنانِ الحديثِ: أنْ يُؤذِنَ بأنَّ المُتكلِّمَ سيَطْوي بِساطَه. وذلك شأنُ التَّذييلاتِ والخواتمِ، وهي ما يُؤذِنُ بانتهاءِ الكلامِ؛ فلمَّا احتوَتِ السُّورةُ على عِبَرٍ وقصَصٍ، وبشاراتٍ ونُذرٍ، جاء هنا في التَّنويهِ بالقُرآنِ، وبَيانِ بعضِ ما في تَنزيلِه مِن الحِكَمِ؛ فيجوزُ جعْلُ الفاءِ فَصيحةً مُؤذِنةً بكلامٍ مُقدَّرٍ يدُلُّ عليه المذكورُ، كأنَّه قيل: بلِّغْ ما أنزَلْنا إليك، ولو كرِهَ المُشرِكون ما فيه مِن إبطالِ دِينِهم، وإنذارِهم بسُوءِ العاقبةِ؛ فما أنزلناهُ إليك إلَّا للبشارةِ والنِّذارةِ، ولا تعبَأْ بما يحصُلُ معَ ذلك مِن الغيظِ أو الحقْدِ. ويجوزُ أنْ تكونَ الفاءُ للتَّفريعِ على وعيدِ الكافرينَ بقولِه: لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 94، 95]، ووعْدِ المُؤمِنين بقولِه: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96]، والمُفرَّعُ هو مضمونُ لِتُبَشِّرَ بِهِ ... إلخ وَتُنْذِرَ بِهِ ... إلخ، أي: ذلك أثَرُ الإعراضِ عمَّا جئْتَ به مِن النِّذارةِ، وأثَرُ الإقبالِ على ما جئْتَ به مِن البشارةِ ممَّا يسَّرناهُ بلسانِك؛ فإنَّا ما أنزلناهُ عليك إلَّا لذلك . أو الفاءُ لتعليلِ أمرٍ يَنساقُ إليه النَّظمُ الكريمُ؛ كأنَّه قيل بعدَ إيحاءِ السُّورةِ الكريمةِ: بلِّغْ هذا المُنزَّلَ، أو بشِّرْ به وأنذِرْ؛ فإنَّما يسَّرناهُ بلسانِك العربيِّ المُبينِ .

- وضَميرُ الغائبِ في يَسَّرْنَاهُ عائدٌ إلى القُرآنِ بدلالةِ السِّياقِ، وبذلك عُلِمَ أنَّ التَّيسيرَ تَسهيلُ قِراءةِ القُرآنِ، وهذا إدماجٌ للثَّناءِ على القُرآنِ بأنَّه مُيسَّرٌ للقراءةِ؛ كقولِه تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17].

- وفي قولِه: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا حُسْنُ مُقابلةِ المُتَّقينَ بقومٍ لُدٍّ؛ لأنَّ التَّقوَى امْتِثالٌ وطاعةٌ، والشِّركَ عصيانٌ ولَدَدٌ. وفيه تَعريضٌ بأنَّ كُفْرَهم عن عنادٍ، وهم يَعْلمونَ أنَّ ما جاء به محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الحقُّ، كما قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] . وإيقاعُ لفْظِ (القومِ) عليهم؛ للإشارةِ إلى أنَّ اللَّددَ شأْنُهم، وهو الصِّفةُ الَّتي تقوَّمَت منها قوميَّتُهم .

- وعبَّرَ عن الكُفَّارِ بـ (قومٍ لُدٍّ)؛ ذمًّا لهم بأنَّهم أهْلُ إيغالٍ في المِراءِ والمُكابَرةِ، أي: أهْلُ تَصميمٍ على باطلِهم .

3- قولُه تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا الجُملةُ معطوفةٌ على جُملةِ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ [مريم: 97] باعتبارِ ما تضمَّنَته من بِشارةِ المُؤمِنينَ ونِذارةِ المُعاندينَ؛ لأنَّ في التَّعريضِ بالوعيدِ لهم نِذارةً لهم، وبِشارةً للمُؤمِنين باقترابِ إراحتِهم من ضَرِّهم . وقيل: الجُملةُ استئنافٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه، أي: هل تشعُرُ بأحدٍ منهم ؟

- وفي قولِه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا ... تخويفٌ لهم وإنذارٌ بالهلاكِ، وتَجْريءٌ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على إنذارِهم .

- قولُه: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ الاستفهامُ إنكاريٌّ معناه النَّفيُ، أي: لا تُحِسُّ .

- قولُه: أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا كِنايةٌ عن اضمحلالِهم، كُنِّيَ باضمحلالِ لوازمِ الوُجودِ عنِ اضمحلالِ وُجودِهم .

- وممَّا انطوَتْ عليه خواتيمُ سُورةِ مريمَ من فُنونٍ البلاغةِ: التَّكرارُ؛ فقد تكرَّرَ ذكْرُ (الرَّحمنِ) سِتَّ عشْرةَ مرَّةً في السُّورةِ، مُعظمُها في خواتيمِها، والفائدةُ فيه: أنَّه هو الرَّحمنُ وحْدَه، لا يَستحِقُّ هذا الاسمَ غيرُه، وخلَقَ لهم جميعَ مُتطلباتِهم الَّتي بها قوامُ مَعايشِهم، فهلِ اعتبَرَ الإنسانُ، أم لا يزالُ الغطاءُ مَسدولًا على عينيْه، والوَقْرُ يَغْشى أُذنيه؟! فمَن أضاف إليه ولدًا جعَلَه كالأَناسيِّ المخلوقةِ، وأخرَجَه بذلك عن استحقاقِ هذا الاسمِ الجديرِ به وحْدَه 

=19.*سورة مريم مكية عدد آياتها : 98 .=


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...