الخميس، 18 يناير 2024

6 سورة الانعام ج2.{156}

 


6 سورة الانعام ج2.{156} 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (46 - 50)

ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ

غريب الكلمات :

 

وَخَتَمَ: الخَتْمُ على الشَّيءِ: هو الطَّبْع عليه ووسْمُه، وسدُّه ورَبْطُه، والخاتِم بمنزلة الطَّابِع

.

نُصَرِّفُ: أي: نبيِّن ونوضِّح ونُفَسِّر، والصَّرْف: ردُّ الشَّيءِ من حالةٍ إلى حالةٍ، أو إبدالُه بغيرِه، وأصل (صرف): يدلُّ على رَجْعِ الشَّيءِ .

يَصْدِفُونَ: أي: يُعْرِضون، ويَعدِلون عن الحَقِّ، والصُّدُوف: الإعراضُ عن الشَّيء؛ يُقال: صَدَفَ عن الشَّيء، أي: أعرض عنه إعراضًا شديدًا يجري مجرى الصَّدَف، أي: الميل في أرجُل البعير، وأصل (صدف): يدلُّ على المَيْلِ .

جَهْرَةً: أي: علانيةً ظاهرًا، وأصل (جهر): إعلانُ الشَّيءِ وكَشفُه وعُلُوُّه .

مُبَشِّرِينَ: مُخبِرينَ بما يَسُرُّ؛ يُقال: أبشرتُ الرَّجُلَ وبشَّرْتُه: أخبرتُه بسارٍّ بسَط بشَرةَ وجْهِه، وأصل (بشر): ظهورُ الشَّيءِ مع حُسنٍ وجمالٍ .

مُنْذِرِينَ: مُخبِرينَ ومُبلِّغين ومُحذِّرين ومُخوِّفين، والإنذارُ: إخبارٌ فيه تخويفٌ، أو الإبلاغُ .

خَزَائِنُ اللهِ: الخَزْن: حِفظُ الشَّيء في الخِزانةِ، ثم يُعبَّرُ به عن كلِّ حِفْظ؛ كحِفْظِ السرِّ ونحوِه، وأصل (خزن): يدلُّ على صيانةِ الشَّيء

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يأمرُ اللهُ نبيَّهُ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ للمشركين: أخبِروني إنْ أخَذَ اللهُ سَمْعَكم؛ فأصمَّكم، وأخَذَ أبصارَكم؛ فأعماكم، وطبَعَ على قلوبكم؛ فلم تفقهوا شيئًا، فهل هناك إلهٌ غيرُ اللهِ قادرٌ على إرجاعِ ذلك لكم؛ فتعبدوه أو تُشْرِكوه في عبادةِ ربِّكم؟ انظُرْ أيُّها الرَّسولُ كيف نتابِعُ عليهم الحُجَجَ، ونوضِّحُها، ثم هم يُعْرِضون عنها!

ثم يأمُرُ اللهُ نبيَّه أنْ يقولَ لهؤلاءِ المشركينَ: أخْبِروني إنْ أتاكُم عذابُ اللهِ فجأةً، وأنتم لا تشعرونَ به، أو أتاكم عقابُه ظاهرًا عِيانًا؛ هل يُهلَك بذلِك العذابِ إلَّا أنتُم لِظُلْمِكم؟!

ثمَّ يخبِرُ تعالى أنَّه ما يُرْسِلُ المرسَلينَ إلَّا مُبَشِّرينَ مَن أطاع بالفَوْزِ العظيم، ومُنذرِينَ مَن عصَى بالخُسرانِ المُبين، فمَن آمَنَ وأصلح فلا خوفٌ عليهم فيما يَسْتَقبلونَ، ولا هم يَحزنونَ على ما مضَى، والذين كذَّبوا بآيات الله ينالُهم العذابُ بِسببِ فِسقِهم.

ثم يأمُرُه سبحانَه بأنْ يُخْبِرَهم لَمَّا كَثُرَ اقتراحُهم عليه، وتعنُّتُهم بإنزالِ الآياتِ التي تضطرُّهم إلى الإيمانِ، أنَّه لم يكُنْ عِندَه خزائنُ الله حتَّى يأتيَهم بما اقترَحوه من الآياتِ، وأنْ يقولَ لهم: إنَّه لا يعلمُ الغَيْبَ حتى يُخْبِرَهم به، ويُعَرِّفَهم بما سيكونُ في مُستقبَلِ الدَّهْرِ، ولا يدَّعي أنَّه مَلَكٌ حتى يُكَلِّفوه من الأفعالِ الخارقَةِ للعادَةِ ما لا يُطيقُه البَشَر، وإنَّما هو رسولٌ أرسلَه اللهُ للدَّعوة، ولا يقولُ ما يقولُ، ويفعلُ ما يفعلُ، إلَّا وَفْقًا لوَحْيِ الله؛ فهل يَستوي مَن اتَّبَعَ الحَقَّ وهُدِيَ إليه، ومَن ضَلَّ عنه ولم ينقَدْ له؟! أفلا تتفكَّرونَ؟!

تفسير الآيات :

 

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا ذَكَر تعالى آنفًا: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام: 25] وكان ذلك تنبيهًا لهم على عَدَمِ إجداءِ هذه المواهِبِ عليهم مع صلاحيتها للانتفاعِ- هدَّدَهم هنا بزوالِها بالكلِّيةِ إن داموا على تعطيلِ الانتفاعِ بها فيما أمر به خالِقُها، فقال تعالى

:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم.

أي: قل- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ المُشركينَ: أخبروني إنْ سَلَبَكم اللهُ سَمْعَكم وأبصارَكم، فأصمَّكم وأعماكم، وطبَع على قلوبِكم، فتركَكم بلا عقلٍ .

مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ.

أي: هل ثَمَّ إلهٌ غيرُ الله يَقْدِرُ على أنْ يَرُدَّ عليكم الأسماعَ والأبصارَ والأفهامَ إذا سلبَها اللهُ منكم، فتعبدوه أو تُشْرِكوه في عِبادة ربِّكم ؟

انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ.

مُناسَبَتُها لما قَبْلها:

لَمَّا غَمَرَهم اللهُ تعالى بالأدلَّةِ على الوحدانيَّةِ، وصِدْقِ الرَّسولِ، وأبطَلَ شُبَهَهم، في كثيرٍ مِمَّا تقدَّمَ من آياتٍ- عقَّب ذلك كُلَّه بالتعجيبِ من قوَّةِ الأدِلَّةِ، مع استمرارِ الإِعراضِ والمكابرةِ، فقال تعالى :

انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ.

أي: انظُرْ- يا محمَّدُ- كيف نُتابِعُ عليهم الحُجَجَ ونُنَوِّعُها، ونَضْرِبُ لهم الأمثالَ والعِبَرَ ونُبَيِّنُها؛ تارةً بالوعدِ، وتارةً بالوعيدِ، وتارةً بالابتلاءِ بالسرَّاءِ، وتارةً بالضرَّاءِ، وغير ذلك؛ ليعتَبِروا ويَذَّكَّرُوا، فيُنِيبوا ويَعْلَموا أنَّ ما يَعبدونَ من دونه سبحانه باطِلٌ وضَلالٌ .

ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ.

أي: ثُمَّ هم مع مُتابَعَتِنا عليهم الحُجَجَ، وتنبيهِنا إيَّاهم بالعِبَر، وإيضاحِ الحَقِّ، وتبيُّنِه لهم بهذا البيانِ التَّامِّ- يُعْرِضُون عن ذلك كُلِّه، ويَنصرفونَ عن الحَقِّ .

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47).

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً.

أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ المشركينَ: أخبروني إنْ أتاكُم عِقابُ اللهِ على ما تُشْركون به بعدَ بيانِ الحقِّ واتِّضاحِه، فجأةً على حينِ غِرَّةٍ، وأنتم لا تَشعرونَ، أو أتاكم عِقابُه وأنتُم تُعاينونَه ظاهرًا بعدَ أن ترَوْا مُقَدِّماتِه .

هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ.

أي: لا يُهْلِكُ اللهُ منَّا ومنكم إلَّا مَن كان يَعبدُ غيرَه، فيُحيطُ العذابُ بالظَّالِمينَ أنفُسَهم بالشِّرْكِ باللهِ عزَّ وجلَّ، وينجو الذين كانوا يعبدونَ اللهَ وحْدَه لا شريكَ له .

كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82] .

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (48).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا كان صُدوفُهم وإعراضُهم يَتعلَّلون له بأنَّهم يَرُومونَ آياتٍ على وَفْقِ مُقْتَرَحِهم، وأنَّهم لا يَقْنعونَ بآياتِ الوحدانيَّةِ، ألَا تَرَى إلى قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء: 90] إلى آخِرِ ما حُكِيَ عنهم في تلك الآيَةِ- أنبأَهُم اللهُ بأنَّ إرسالَ الرُّسُل للتبليغِ والتبشيرِ والنَّذارةِ، لا للتلهِّي بهم باقتراحِ الآياتِ ، فقال تعالى:

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ.

أي: وما نُرْسِلُ رُسُلَنا إلَّا ببشارةِ مَن أطاعَهم بالخيراتِ، والفَوْزِ بالجنَّاتِ، وبإنذارِ مَن عصاهم بالنِّيرانِ، والنِّقْمات والعُقُوباتِ .

فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.

أي: فمَن آمَنَ قلبُه بما جاء به الرُّسُل الكرامُ ممَّا وجب الإيمانُ به، وأصلَحَ عَمَلَه بالإخلاصِ لله تعالى واتِّباعِهم؛ فلا خَوْفٌ عليه فيما يَستقبِلُ، ولا هو يَحْزَن على ما مَضَى .

وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (49).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ حالَ المصْلِحينَ، أتْبَعَه بذكْرِ حالِ المفْسدينَ؛ فقال :

وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (49).

أي: وأمَّا الذين كذَّبوا برُسُلِنا، ودافعوا حُجَّتنا، فإنَّهم ينالُهم العذابُ؛ جزاءً لهم على كُفْرِهم، وخُروجِهم عن أوامِرِ اللهِ تعالى، وارتكابِ مناهيه .

قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (50).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا تَقَضَّت المجادلةُ مع المُشْركينَ في إبطالِ شِرْكِهم، ودَحْضِ تعاليلِ إنكارِهم نبوَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ بأنَّهم لا يُؤمنونَ بنُبُوتِه إلَّا إذا جاء بآيةٍ على وَفْقِ هواهم، وأُبْطِلَت شُبْهَتُهم بقوله: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [الأنعام: 48] ، وكان محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ممَّن شَمِلَه لفظُ المُرْسَلين- نَقَل الكلامَ إلى إبطالِ معاذيرِهم، فأعْلَمَهم اللهُ حقيقةَ الرِّسالةِ، واقترانِها بالآياتِ، فبيَّنَ لهم أنَّ آيةَ صِدْقِ الرَّسولِ تجيءُ على وَفْقِ دعواه الرِّسالةَ، فلو ادَّعى أنَّه مَلَكٌ، أو أنَّه بُعِثَ لإنقاذِ النَّاسِ من أَرزاء الدُّنيا، ولإدْناءِ خيراتِها إليهم، لكان مِن عُذْرِهم أنْ يسألوه آياتٍ تؤيِّدُ ذلك، فأمَّا والرَّسولُ مبعوثٌ للهُدى، فآيتُه أنْ يكونَ ما جاء به هو الهُدى، وأنْ تكون مُعجزَتُه هو ما قارَنَ دَعْوَتَه، ممَّا يَعْجِز البَشَرُ عن الإتيانِ بِمِثْلِه في زَمَنِهم .

قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ.

أي: قل- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ المشْركينَ: لستُ أقولُ لكم إنِّي أمْلِكُ خزائِنَ رِزْقِ الله تعالى .

وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ.

أي: ولا أقولُ لكم: إنِّي أعلمُ غُيوبَ الأشياءِ الخَفِيَّةِ التي لا يَعْلَمُها إلَّا اللهُ وحده، الذي لا يَخفَى عليه شيءٌ .

كما قال تعالى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188] .

وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ.

أي: ولا أدَّعي أنِّي مَلَكٌ، فأكونَ نافِذَ التصرُّفِ قويًّا، غنيًّا عن الأكلِ والمالِ، أشاهِدُ مِن أَمْرِ الله تعالى ما لا يُشاهِدُه البَشَر .

إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ.

أي: ما أتَّبِعُ إلَّا وَحْيَ اللهِ الذي يُوحيه إليَّ، فأَمضِي لِوَحْيِه، وأَأْتَمِرُ لأمْرِه، لستُ أخرجُ عنه قِيدَ شِبْرٍ ولا أدْنى منه، وهذا مُنتهَى أمْري وأعلاه، فأعْمَلُ به في نفْسي، وأدْعو الخَلْقَ كُلَّهم إلى ذلك، كما أُوحِيَ إليَّ .

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ.

أي: قل- يا محمَّدُ- لهم: هل يستوي الذي عَمِيَ عن الحَقِّ وأَعْرَض عنه، مع من أَبْصَرَ الحَقَّ وانقادَ إليه ؟

كما قال تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد: 19] .

أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ.

أي: أتَغْفُلونَ وتُعْرِضونَ عن تلك الآياتِ والحُجَجِ، فلا تتفكَّرونَ فيها حتى تَفْهموها، وتَعْلَموا صِحَّةَ ما أَدْعوكم إليه، فتختاروا اتِّباعَ الحَقِّ

 

؟!

الفوائد التربوية :

 

1- قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ... هذه الآيةُ الكريمةُ ينبغي لِكُلِّ مسلمٍ أن يَعتبرَ بها، فيعلمَ أنَّ اللَّهَ شقَّ له في وَجْهِه عَيْنَيْنِ، وصبَغَ له بعضَهما بصبغٍ أسودَ، وبعضَهما بصبغٍ أبيضَ، وأعطاه لهما سِلْكًا من جفونِه، وجعلَ لعَيْنيه شحمًا؛ لئلَّا يُجَفِّفَهما الهواءُ، وجعلَ ماءَ عينِه مِلْحًا؛ لئلَّا تُنْتِنَ الشحمةُ، وجعلَ له عقلًا، وهو هذا العقلُ الذي يُمَيِّزُ به بين الأشياءِ، ويفعلُ به هذه الأفعالَ الغريبةَ العجيبةَ، وأعطاه حاسَّةَ السَّماعِ، كُلُّ هذا أعطاه له؛ ليبذُلَ هذه النِّعَمَ فيما يُرْضِي رَبَّهُ جلَّ وعلا؛ فلا ينبغي منه ولا يَجْمُلُ به أنْ يَستعينَ بِنِعَمِ رَبِّهِ على مَعصيةِ خالقِه جلَّ وعلا، فهذا عَمَلٌ لا يليقُ بعاقلٍ؛ ثم إنَّه يُلَاحِظُ قُدرةَ اللَّهِ وعظمتَه وجلالَه، وأنه قادرٌ على أن يَنزِعَ منه السَّمعَ والبصرَ والعقلَ فيتركَه كالجمادِ لا يسمعُ شيئًا، ولا يُبصرُ شيئًا، ولا يعقِلُ شيئًا، فلا ملجأَ له غيرُ اللَّهِ يُزِيلُ ذلك عنه؛ وَلِذَا قال: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ

.

2- قوله تعالى: إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ... فيه تذكيرٌ لهم بأنَّ اللهَ هو خالِقُ أسماعِهم وأبصارِهم وألبابِهم؛ فليس غَيرُه جديرًا بأنْ يعبدوه .

3- قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ فيه بيانُ رحمةِ الله عزَّ وجلَّ؛ حيث صَرَّف الآياتِ للعبادِ، ولو شاء لَتَرَك التَّصريفَ وجَعَل النَّاسَ يتخبَّطونَ خَبْط عَشْواء، لكنْ مِن نعمةِ الله عزَّ وجلَّ ورَحْمتِه بعِباده أنَّه يُريهِم الآياتِ ويُصَرِّفُها ويُنوِّعها لهم، فإذا لم يؤمنْ بهذه الآيةِ آمَنَ بالآيةِ الأخرى وحَصَلَ المقصودُ، وكم من إنسانٍ تفوتُه آياتٌ كثيرةٌ لا يعتَبِرُ بها، ثم يُصابُ بآيةٍ واحدةٍ فيَعتبِرُ !

4- التحذيرُ من نزولِ العذابِ؛ إمَّا بغتةً، وإمَّا جهرةً؛ فلا يأمَنِ الإنسانُ إذا كان عاصيًا أن يَنزِلَ به العذابُ، لكنْ أيظُنُّ أنَّ العذابَ هو عقوبةُ الجَسَدِ فقط، فرغمَ أنَّ عقوبةَ الجَسَد عذابٌ في حدِّ ذاتِها إلَّا أنَّ هناك ما هو أكبرُ منها، وهو الإعراضُ عن دِين الله عزَّ وجلَّ؛ كما قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ [المائدة: 49] .

5- قوله تعالى: هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ فيه وعْدٌ مِنَ اللهِ تعالى بأنَّه مُنْجي المؤمنينَ .

6- قوله تعالى: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فيه تشجيعُ الإنسانِ على الإيمانِ والعمل ِالصَّالحِ، والحثُّ على ذلك بذِكْر عاقبةِ هذا المؤمِنِ المُصْلحِ .

7- يُستَفاد من قوله تعالى: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ أنَّ الإيمانَ وَحْده لا يكفي، بل لا بدَّ معه من إصلاحٍ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- المرادُ مِن قَولِه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ الدَّلالةُ على وجودِ الصَّانعِ الحكيمِ المُختارِ؛ لأنَّ أشرَفَ أعضاءِ الإنسانِ هو السَّمْع والبَصَر والقَلْب؛ والأذنُ محلُّ القوَّةِ السَّامعة، والعينُ محلُّ القوَّةِ الباصِرَةِ، والقلبُ محلُّ الحياةِ والعِلْم والعَقْل، فلو زالتْ هذه الصِّفاتُ عن هذه الأعضاءِ اختلَّ أمرُ الإنسانِ، وبطَلَت مصالِحُه في الدُّنيا والدِّينِ، ومِن المعلومِ بالضَّرورةِ أنَّ القادِرَ على تحصيلِ هذه القُوى فيها، وَصْونِها عن الآفاتِ والمخافاتِ ليس إلَّا الله، وإذا كان الأمرُ كذلك كان المُنْعِم بهذه النِّعَم العالِيَةِ، والخيراتِ الرَّفيعةِ هو الله سبحانه وتعالى؛ فوجَبَ أن يقال: المُستحِقُّ للتعظيمِ والثَّناءِ والعبوديَّةِ ليس إلَّا الله تعالى

، وقوله تعالى: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ فيه دليلٌ على توحيدِ الله تعالى، وأنَّه المتصَرِّفُ في العالَمِ، الكاشِفُ للعَذاب، والرادُّ لِمَا شاء بعدَ الذَّهاب ، كما أنَّه دليلُ بُطلانِ الشِّرْكِ؛ فإذا لم يكن غيرُ الله يأتي بذلك، فلِمَ يَعبدونَ معه من لا قدرةَ له على شيءٍ إلَّا إذا شاءَه اللهُ ؟!

2- التَّشنيعُ على هؤلاء الذين صُرِّفَت لهم الآياتُ فأَعرضوا؛ لقوله: انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ .

3- ما المرادُ بقوله: هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ مع العِلْمِ بأنَّ العذابَ إذا نزلَ لم يَحصُلْ فيه التمييزُ؟ والجواب: أنَّ الهلاكَ وإنْ عمَّ الأبرارَ والأشرارَ في الظَّاهرِ، إلَّا أنَّ الهلاكَ في الحقيقةِ مختصٌّ بالظَّالِمينَ الشِّريرينَ؛ لأنَّ الأخيارَ يَستوجبونَ بسببِ نُزُولِ تلك المضارِّ بهم أنواعًا عظيمةً من الثَّوابِ، والدَّرجاتِ الرفيعةِ عند اللهِ تعالى، فذاك وإنْ كان بلاءً في الظَّاهرِ، إلَّا أنَّه يُوجِبُ سعاداتٍ عظيمةً، أمَّا الظَّالِمونَ فإذا نزَلَ البلاءُ بهم فقد خَسِروا الدُّنيا والآخرةَ معًا؛ فلذلك وَصَفَهم اللهُ تعالى بكونِهم هالِكينَ، وذلك تنبيهٌ على أنَّ المؤمِنَ التقيَّ النقيَّ هو السَّعيدُ، سواءٌ كان في البلاءِ أو في الآلاءِ والنَّعْماءِ، وأنَّ الفاسِقَ الكافِرَ هو الشقيُّ، كيف دارت قضيَّتُه، واختلفت أحوالُه، والله أعلم .

4- في قوله: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ دَلالةٌ على أنَّ الأنبياءَ إنَّما بُعِثوا مُبَشِّرينَ بالثَّوابِ على الطَّاعاتِ، ومُنذرينَ بالعقابِ على المعاصي، ولا قُدرَةَ لهم على إظهارِ الآياتِ والمُعجزاتِ، بل ذلك مُفَوَّضٌ إلى مشيئةِ الله وحِكْمَتِه .

5- قوله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ فيه بيانُ منَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ على عِبادِه بإرسالِ الرُّسُل، وحِكمةُ اللهِ عزَّ وجلَّ تقضي بإرسالِ الرُّسُل؛ لأنَّ العقلَ البَشريَّ لا يستقلُّ بمعرفةِ ما يجب لله من الأسماءِ والصِّفاتِ والأحكامِ، ولا يُمكِنُ أن يستقلَّ بمعرفةِ العباداتِ، فالنَّاسُ مضطرُّونَ غايةَ الضَّرورةِ إلى الرُّسُل، قال الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، أي: على دينٍ واحدٍ، فلما كثُروا تفَرَّقوا واختلفَوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213] .

6- قوله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فيه أنَّ رسالةَ الرُّسُل تتضمَّنُ هذينِ الشَّيئينِ، وهما: البِشارةُ والإِنْذارُ؛ فالبشارةُ تكونُ لِمَن أطاع واتَّبعَ الرُّسُل، والإنذارُ بالعقوبةِ يكونُ لِمَن كذَّبَ، ويتفرَّعُ على هذا أنَّ الرُّسُل عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يأتوا بمجرَّدِ الأحكامِ، أي: لمجرَّدِ أن يقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، بل قَرَنوا ذلك بالبِشارَةِ والإنذارِ؛ لأنَّ البِشارةَ تَحمِلُ الإنسانَ على فِعْل المأمورِ؛ فلو بُشِّر إنسانٌ بأنَّه سيحصُل على كَنزٍ في المكانِ الفلانيِّ لوُجِدَ يُسابِقُ، فيفعل ما يُوصله إليه، والإنذارُ يحصُلُ به البُعدُ عن المعاصي، وعلى هذا تتركَّبُ دعوةُ الرُّسُل .

7- قَوْله تعالى: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ ووَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فيهما بيانُ حِكْمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ في انقسامِ النَّاسِ بالنِّسبةِ إلى قَبُولِ دَعوةِ الرُّسُل إلى قِسْمَينِ: مؤمنٌ يعملُ عملًا صالحًا، ومُكَذِّبٌ يرتكِبُ المعاصِيَ، هذا من الحِكْمةِ بل ومِنَ الرَّحْمة؛ لأنَّه لو لم يكُنْ كُفْرٌ لم يُعرَف قَدْرُ الإسلامِ، ومِن رحمةِ اللهِ وحِكْمَتِه أنَّه قسَّمَ النَّاسَ إلى قِسْمينِ؛ لأنَّه لولا هذا الانقسامُ لَمَا حَصَلَت فُروضٌ من الشَّريعةِ: مِثل الجِهادِ، والأَمْر بالمعروفِ والنَّهْي عن المنكَر، والامتحان والاختِبار؛ لأنَّ النَّاسَ كُلَّهم كانوا سيصيرونَ على وتيرةٍ واحدةٍ، لكنْ إذا انقَسَمُوا إلى مؤمنٍ وكافرٍ، حصَل الامتحانُ والاختبارُ للمؤمِنِ والكافِرِ، فلا تَظُنَّ أنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أزاغَ قُلُوبَ الكافرينَ أنَّ في ذلك لَغْوًا، بل هو عَيْنُ الحِكْمةِ .

8- أنَّ التكذيبَ بآياتِ اللهِ سببٌ للعقوبة؛ لقولِه: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ .

9- أنَّ هؤلاءِ المكذِّبينَ سيُصيبُهم العذابُ مباشرةً؛ لقوله: يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ، وإنْ أَفْلَتوا من العذابِ في الدُّنيا فلن يُفْلِتوا منه في الآخِرةِ .

10- أنَّ الفِسْقَ يُطْلَق على الكُفْرِ؛ لقوله: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، والتَّكذيبُ بالآياتِ كُفْرٌ، ثمَّ قال: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ .

11- قولُه تعالى: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فيه تمامُ عَدْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ حيث إنَّه لم يُعَذِّبْ هؤلاء إلَّا لأنَّهمُ استَحَقُّوا العذابَ لفِسْقِهم؛ جزاءً وِفاقًا .

12- أنَّ كُلَّ ما صُدِّرَ بــقُل بالنِّسْبةِ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان دليلًا على أهَمِّيتِه، وأنَّ اللهَ تعالى أوْصَى نَبِيَّه أن يُبَلِّغَه خاصَّةً؛ مِمَّا يدلُّ على العِنايةِ به .

13- أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَبْرَأَ مِن دَعْوى هذه الثَّلاثةِ بقولِه تعالى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وكذلك قال نوحٌ عليه السَّلامُ: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [هود: 31] ، فهذا أوَّلُ أُولِي العَزْمِ، وأَوَّلُ رسولٍ بَعَثَه اللهُ تعالى إلى أهْلِ الأَرْضِ، وهذا خاتَمُ الرُّسُلِ وخاتَمُ أُولِي العَزْمِ؛ كلاهما يَتَبَرَّأُ من ذلك .

14- يُؤخَذُ من قوله تعالى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ أنَّه إذا كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم لا يَمْلِك خزائنَ الله، فإنَّه لا يجوزُ أن يُطْلَبَ الرِّزْقُ منه مباشرةً؛ لأنَّه لو طُلِبَ الرِّزْقُ من الرَّسولِ مُباشرةً لكان هذا شِرْكًا، وتجاوزًا لِمَا هو عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

15- في قَوْلِه تعالى: وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ قد يقولُ قائلٌ: أليس النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحدِّثُ عن أشياءَ مُستقبَلةٍ، فكيفَ قيلَ: وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ فالجوابُ: بلى، ولكِنْ بِوَحْيٍ من الله عزَّ وجلَّ، والله تبارك وتعالى يَعْلَمُ الغَيْبَ؛ ولِهذا نقولُ: كُلُّ ما أخبَرَ به النبيُّ صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم مِنْ أمورِ المُسْتَقبلِ؛ فهو بِوَحْيٍ خاصٍّ من الله عزَّ وجلَّ، وحينئذٍ لا يُنافي ما أَخْبَر به من أمورِ الغَيبِ ما ذكره اللهُ تعالى في هذه الآيَةِ: وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ؛ لأنَّ عِلْمَه بالمستقبَلِ بما أَوْحَى اللهُ إليه، ليس عِلْمًا ذاتيًّا أدْرَكَه بنفْسِه، لكنَّه عِلْمٌ مِنْ عِند الله، كما أنَّ الإنسانَ يرى الرُّؤْيا الصَّالحةَ في المنامِ، وينتفعُ بها في المُستقبَل، و((الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جزءٌ من سِتَّةٍ وأربعينَ جُزءًا من النبوَّةِ )) .

16- أنَّ المَلَك قد يَتصوَّرُ بصُورةِ إنسانٍ؛ لقوله: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ؛ لأنَّه لولا أنَّه يُمْكِن تصوُّرُه بصورةِ إنسانٍ ما احْتِيجَ إلى النَّفيِ؛ إذ إنَّه معلومٌ بدونِ نَفيٍ، وهذا هو الواقِعُ، وقد جاء جبريلُ عليه السلامُ بصورةِ البَشَر .

17- قوله تعالى: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ردٌّ على الذين قالوا: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فإنَّ الملائكةَ لا يُمْكنُ أن يَنْزِلوا ليكونوا رُسُلًا إلى البَشَر، كما قال الله عزَّ وجلَّ: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ [الأنعام: 9] .

18- لَمَّا كانَ عِلْمُ الغيبِ أمرًا يُمْكِن أن يَظْهَرَ على لسانِ البَشَر، بل قد يدَّعيه كثيرٌ من النَّاسِ كالكُهَّانِ وضُرَّابِ الرَّمْل والمُنَجِّمينَ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد أخبر بأشياءَ من المُغَيَّباتِ، وطابقَتْ ما أخبَرَ به- نفى علمَ الغيبِ من أصله؛ فقال: وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ تنصيصًا على مَحْضِ العبوديَّةِ والافتقارِ، وأنَّ ما صَدَر عنه من إخبارٍ بِغَيبٍ إنَّما هو من الوَحْيِ الواردِ عليه لا من ذاتِ نَفْسِه، فقال: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوْحَى إِلَيَّ كما قالَ فيما حَكَى اللهُ عنه: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: 188] .

19- الفائدةُ مِن ذِكْر نفيِ الأحوالِ الثلاثةِ في قوله تعالى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ:

قيل: ليُظْهِرَ الرَّسولُ مِن نَفْسِه التواضُعَ لله، والاعترافَ بعُبودِيَّتِه؛ حتى لا يُعتقَدَ فيه مِثْلُ اعتقادِ النَّصارى في المسيحِ عليه الصَّلاة والسَّلام.

وقيل: إنَّ القومَ كانوا يقترحونَ عليه إظهارَ المُعْجزاتِ القاهِرَةِ، فكان المقصودُ من هذا الكلامِ إظهارَ العَجْزِ والضَّعفِ، وأنَّه لا يَستَقِلُّ بتحصيلِ هذه المعْجزاتِ التي طَلَبوها منه.

وقيل: إنَّ المرادَ مِن قَولِه: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ، أي: لا أدَّعي كوني موصوفًا بالقُدْرةِ، وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، أي: ولا أدَّعي كوني موصوفًا بِعْلِم الله تعالى، وبمجموعِ هذينِ الكلامينِ حصل أنَّه لا يدَّعي الإلهيَّة، ثمَّ قال: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وذلك؛ لأنَّه ليس بعد الإلهيَّة درجةٌ أعلى حالًا من الملائكةِ، فصار حاصلُ الكلامِ كأنَّه يقولُ: لا أدَّعي الإلهيَّةَ، ولا أدَّعي المَلَكيَّةَ، ولكنْ أدَّعي الرِّسالَةَ، وهذا مَنْصِبٌ لا يَمْتنعُ حصولُه للبَشَر، فكيف أَطْبَقْتُم على استنكارِ قولي ؟!

20- في قوله تعالى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ جاء النَّفيُ على سبيلِ الترقِّي، فنفى أوَّلًا ما يتعلَّقُ به رغباتُ النَّاسِ أجمعينَ من الأرزاقِ التي هي قِوامُ الحياةِ الجُسمانيَّة، ثم نفى ثانيًا ما يتعلَّق به، وتتشوَّف إليه النُّفوسُ الفاضِلَة من معرفةِ ما يَجْهلونَ، وتَعَرُّف ما يقعُ من الكوائنِ، ثمَّ نفى ثالثًا ما هو مختصٌّ بذاتِه من صفةِ الملائكةِ التي هي مُبايِنةٌ لصفةِ البشريَّةِ، فترقَّى في النَّفيِ من عامٍّ إلى خاصٍّ إلى أخصَّ، ثمَّ حَصَر ما هو عليه في أحوالِه كُلِّها بقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوْحَى إِلَيَّ أي: أنا مُتَّبِعٌ ما أوحى اللهُ غيرَ شارعٍ شيئًا مِن جِهَتي .

21- قولُه تعالى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ فيه أمْرُ اللهِ تعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُعلِنَ للنَّاس أنَّه لا يعلمُ الغيبِ؛ ولذا لَمَّا رُمِيتَ عائشةُ رضي الله عنها بالإفكِ، لم يعلمْ أهي بريئةٌ أم لا حتَّى أخبره اللهُ تعالى بقولِه: أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور: 26] ، وقد ذَبَح إبراهيمُ عليه السَّلام عِجلَه للملائكةِ، ولا عِلمَ له بأنَّهم ملائكةٌ حتى أخبروه، وقالوا له: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 70] ، ويعقوبُ عليه السلام ابيضَّتْ عيناه من الحزنِ على يُوسُفَ، وهو في مصرَ لا يَدري خبرَه حتى أظهرَ الله خبْرَ يُوسُف، ونوحٌ عليه السَّلام ما كان يَدري أنَّ ابنه الذي غَرِق ليس مِن أهلِه الموعودِ بنجاتِهم حتى قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ الآية [هود: 45] ، ولم يعلمْ حقيقةَ الأمرِ حتى أخْبَره الله بقوله: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 46] ، والملائكةُ عليهم السَّلام لَمَّا قال لهم: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة: 31-32] ؛ فقد ظهَر أنَّ أعلمَ المخلوقاتِ- وهم الرُّسُل، والملائكة- لا يَعلمون مِن الغيبِ إلَّا ما عَلَّمهم اللهُ تعالى، وهو تعالى يُعلم رُسلَه من غيبِه ما شاءَ .

22- أنَّ الشَّرائِعَ توقيفيَّةٌ، فلا يجوزُ لأحدٍ أن يبتدعَ منها شيئًا؛ لقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ؛ ولهذا قرَّرَ أهْلُ العِلمِ أنَّ الأصلَ في العباداتِ المَنْعُ والحَظْرُ، وأنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أن يتعبَّدَ لله تعالى بشيءٍ إلَّا ما أَذِنَ اللهُ فيه شَرْعًا، وهذا حقٌّ مستنِدٌ إلى آياتٍ متعدِّدةٍ، وإلى قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَنْ أَحْدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو رَدٌّ )) .

23- بعد أن قال الله تعالى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ أكَّدَ ذلك عزَّ وجلَّ بقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ؛ وذلك لأنَّ العَمَلَ بغيرِ الوَحيِ يجري مَجرى عملِ الأعمى، والعَمَلُ بمقتضى نُزُولِ الوَحْيِ يجري مَجرى عَمَلِ البَصيرِ .

24- في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ حجَّةٌ مِن حُجَج الله تعالى للمُستقِلِّينَ في هدايةِ الدِّينِ، على المُقَلِّدينَ فيه لآبائِهم ومشايخِهم الجاهلين

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ استئنافٌ ابتدائيٌّ عاد به إلى الجدالِ معهم في إشراكِهم باللهِ تعالى بعدَ أنِ انصرَفَ الكلامُ عنه بخصوصِه من قَوْلِه تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً

[الأنعام: 19] .

- وهذا الكلامُ جارٍ مَجرَى التهديدِ والتَّخويفِ، واخْتِيرَ فيه التهديدُ بانتزاعِ سَمْعِهم وأبصارِهم وسَلْبِ الإدراكِ من قلوبِهم؛ لأنَّهم لم يَشْكُروا نعمةَ هذه المواهِبِ، بل عَدِموا الانتفاعَ بها .

- ولم يؤكِّدْ هنا خِطابَ الضَّمير (التاء) بـ(الكاف) في قَوْلِه أَرَأَيْتُمْكما أكَّدَه في قَوْلِه أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الأنعام: 40] ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا تهديدَهم بإتيانِ العذابِ أو السَّاعةِ، كان ذلك أعظَمَ من هذا التهديدِ، فأكَّد خِطابَ الضميرِ بحَرْفِ الخطابِ (الكاف)، فقيل: أَرَأَيْتَكُمْ، ولَمَّا كان التهديدُ هنا أخَفَّ من ذلك لم يُؤَكَّد به، بل اكتُفِيَ بخطابِ الضَّميرِ، فقيل أَرَأَيْتُمْ .

- وفيه أمرٌ لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتكريرِ التبكيتِ عليهم، وتثنيةِ الإلزامِ بعدَ تكمِلَةِ الإلزامِ الأوَّلِ؛ ببيان أنَّه أمرٌ مستمِرٌّ لم يَزَلْ جاريًا في الأُمَم .

- وقوله: إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ فيه تمثيلٌ؛ لأنَّ اللهَ هو معطي السَّمْع والبَصَر فإذا أزالَها كانت تلك الإزالةُ كحالةِ أخْذِ ما كان أعطاه، فشُبِّهَت هيئةُ إعدامِ الخالقِ بَعضَ مواهِبِ مخلوقِه بهيئةِ انتزاعِ الآخِذِ شيئًا من مَقَرِّه؛ فالهيئة المُشبَّهةُ هنا عقليَّةٌ غيرُ محسوسةٍ، والهيئةُ المُشَبَّهةُ بها محسوسةٌ .

- قوله تعالى: سَمْعَكُمْ ذُكِرَ السَّمعُ مُفردًا؛ لأنَّه مصدرٌ دالٌّ على الجِنسِ، فكان في قوَّةِ الجَمعِ، فعمَّ بإضافتِه إلى ضَميرِ المخاطَبينَ، ولا حاجةَ إلى جَمْعِه، والعربُ إذا نَعَتَتْ بالمصدرِ ألْزَمَتْه الإفرادَ والتذكيرَ، ولأنَّ كُلَّ مفردٍ هو اسمُ جنسٍ، فمِن أساليبِ اللغةِ العربيةِ أن يُطْلَقَ مفردُه مُرَادًا به الجمعُ؛ نظرًا إلى أنَّ أصلَه اسمٌ شاملٌ للجنسِ. وهذا كثيرٌ في القرآنِ، وفي كلامِ العربِ؛ كقولِه: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: آية 74] يعني: أئمةً، وغيره من الآياتِ .

- قوله: سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ فيه تقديمُ السَّمْعِ على الأبصارِ؛ وقد اطَّرد تقديمُ السَّمعِ على البَصر وما يَجري مَجراه في القرآنِ الكريم؛ وذلك لأنَّ السَّمعَ هو طريقُ تلقِّي الوحي، ولأنَّ السَّمع أهمُّ من البصر، وأفضلُ فائدةً لصاحبِه من البَصرِ؛ فإنَّ التقديمَ مُؤذِنٌ بأهميَّة المُقدَّمِ؛ وذلك لأنَّ السَّمعَ آلةُ تَلقِّي المعارفِ التي بها كمالُ العقل، وهو وسيلةُ بُلوغِ دَعوةِ الأنبياءِ إلى أفهامِ الأممِ على وجهٍ أكملَ مِن بُلوغِها بواسطة البصرِ لو فُقِدَ السَّمع، ولأنَّ السَّمعَ ترِدُ إليه الأصواتُ المسموعةُ من الجهاتِ الستِّ بدون توجُّه، بخلافِ البصرِ؛ فإنَّه يحتاجُ إلى التوجُّهِ بالالتفاتِ إلى الجهاتِ غيرِ المُقابلة؛ فما يحصُل من ضروبِ المعرفةِ عن طريقِ السَّمع لا يَحصُل عن البَصر، والبصرُ يَتوقَّفُ في تَحصيلِه للعلمِ على وسائطَ لا يتوقَّف عليها السَّمع؛ وكم من أناس فقَدوا نِعمةَ الإبصار فلم يَقعُدوا عن طلبِ العِلم، بل كانوا مِن المُبرَّزين فيه. أو قدَّم السَّمعَ؛ لأنَّ إدراكَ السَّمعِ أقدَمُ مِن إدراك البَصرِ؛ فإنَّ الإنسانَ يَسمعُ أوَّلًا كلامًا فينظر إلى قائلِه؛ ليعرفَه، ثم يَتفكَّر بقَلبِه في ذلك الكلامِ؛ ليفهمَ معناه .

- قوله: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ الاستفهامُ في قوله: مَنْ مستعمَلٌ في التقريرِ يُقصَد منه إلجاءُ السَّامعينَ إلى النَّظَر في جوابِه، فيُوقِنوا أنَّه لا إلهَ غيرُ اللهِ يأتيهم بذلك؛ لأنَّه الخالِقُ للسَّمْعِ والأبصارِ والعقولِ .

- وفيه لَطيفةٌ لغويَّة، حيثُ وحَّد الهاءَ في بِهِ في قوله: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ، وقدْ مَضَى الذِّكرُ قبلَ ذلِك بالجَمْعِ في قوله: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ؛ قيل: لأنَّ معنَى مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ، أي: بما ذُكِرَ مِمَّا أَخَذَه اللَّهُ منكم، كقولِه جلَّ وعلا: لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة: آية 68]، أي: ذلِكَ المذكور، ولم يقُل: (ذَلِكُمَا)؛ فجائزٌ أنْ تكونَ معنيًّا بها: مَن إلهٌ غيرُ اللهِ يأتيكم بما أُخِذ منكم مِن السَّمع والأبصارِ والأفئدة، فتكون موحَّدةً لتوحيدِ (ما)، والعربُ تفعلُ ذلك؛ إذا كَنَّتْ عن الأفعالِ وحَّدت الكنايةَ، وإنْ كَثُرَ ما يُكنَّى بها عنه مِن الأفاعيل، كقولهم: إقبالُك وإدبارُك يُعجبني. وجائزٌ أن تكون الهاء عائدةً على السَّمعِ، فتكون موحَّدةً لتوحيدِ السَّمع. وقيل: إنَّ الهاء التي في (به) كنايةٌ عن الهُدَى .

- قوله: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ الجملةُ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا، وهي تَتنزَّلُ منزلةَ التَّذييلِ للآياتِ السَّابقةِ؛ فإنَّه لَمَّا غَمَرَهم بالأدلَّةِ على الوحدانيَّةِ، وصِدْقِ الرَّسولِ، وأبطَلَ شُبَهَهم؛ عقَّبَ ذلك كلَّه بالتَّعجيبِ من قُوَّةِ الأدلَّةِ مع استمرارِ الإعراضِ والمكابَرَةِ، والأمرُ في قوله: انْظُرْ مستعملٌ في التعجيبِ مِن حالِ إعراضِهم ؛ فهو تعجيبٌ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من عدمِ تأثُّرهم بما عايَنوا مِن الآياتِ الباهرةِ، أي: انظر كيف نُكرِّرها ونُقرِّرها مصروفةً من أسلوبٍ إلى أسلوبٍ؛ تارةً بترتيبِ المقدِّمات العقليَّة، وتارةً بطريقِ الترغيبِ والترهيبِ، وتارةً بالتنبيهِ والتذكيرِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ !

- قوله: ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ثُمَّ في هذا المكانِ للاستبعادِ؛ لاستبعادِ صُدوفِهم، أي إعراضِهم عن تِلك الآيات بعدَ تصريفِها على هذا النَّمطِ البديعِ الموجِبِ للإقبالِ عليها، والتَّراخي المفهومُ بـ (ثم) للاستبعادِ؛ لأنَّه يُسْتَبْعَدُ عندَ العقولِ السليمةِ أنْ يكونَ اللَّهُ مع عَظمتِه وجلالِه، ومع ما يُحْسِنُ به إلى الإنسانِ يُصرِّفُ له الآياتِ، ومع هذا هم يَصدفُون !

- وجيءَ بالمُسْنَدِ في جملةِ هُمْ يَصْدِفُونَ فعلًا مضارعًا للدَّلالة على تجدُّدِ الإعراضِ منهم، وتقديم المُسْنَد إليه هم على الخبَرِ الفِعليِّ يَصْدِفُونَ؛ لِتَقَوِّي الحُكْمِ .

2- قوله: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ استئنافٌ للتَّهديدِ والتوعُّد، وإعذارٌ لهم بأنَّ إعراضَهم لا يَرجِعُ بالسُّوءِ إلَّا عليهم، ولا يَضُرُّ بغيرهم ، وهو تبكيتٌ آخَرُ لهم بإلجائِهِم إلى الاعترافِ باختصاصِ العذابِ بِهِم .

- قوله تعالى: بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً أوْقَعَ الجهرةَ هنا في مُقابلة البَغْتةِ، وكان الظَّاهِرُ أن تُقابَلَ البَغتةُ بالنَّظْرةِ، أو أن تُقابَلَ الجهرةُ بالخُفْيَةِ، إلَّا أنَّ البغتةَ لَمَّا كانت وقوعَ الشَّيءِ من غير شعورٍ به، كان حصولُها خفيًّا؛ فحَسُنَ مقابلَتُه بالجَهرةِ، فالعذابُ الذي يجيءُ بغتةً هو الذي لا تسبِقُه علامةٌ، ولا إعلامٌ به، والذي يجيء جهرةً هو الذي تسبِقُه علامةٌ؛ كما في قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف: 24]، أو يسبِقُه إعلامٌ به؛ كما في قوله تعالى: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] .

- قوله: هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الاستفهامُ في قوله: هَلْ بمعنى النَّفيِ؛ ولذلك دَخَلت (إلَّا)، وهو مُستعمَلٌ في الإنكارِ والتقريرِ، أي: قلْ لهم تقريرًا لهم باختصاصِ الهلاكِ بهم: أخبروني إن أتاكُم عذابُه تعالى حَسَبما تستحقُّونَه: هل يُهلَك بذلك العذابِ إلَّا أنتم .

- ولَمَّا كانَ المُخَوَّفُ بالذَّاتِ هو الهُلاك، مِن غير نَظَرٍ إلى تَعيينِ الفاعلِ، بُنِيَ الفِعلُ يُهْلَكُ للمَفعولِ .

- وفيهِ وَضْعُ الظَّاهِرِ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ مَوضِعَ المُضْمَر- حيثُ لم يَقُلْ: (هلْ يُهلَكُ غيرُكم)- وإنَّما وُضِعَ موضِعَه؛ تَسجيلًا عليهم بالظُّلْم، وإيذانًا بأنَّ مناطَ إهلاكِهِم ظُلْمُهم، الذي هو وَضْعُهم الكُفرَ موضِعَ الإيمانِ .

3- قوله: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ كلامٌ مستأنَفٌ، مَسُوقٌ لبيانِ وظائِفِ مَنْصِب الرِّسالةِ على الإطلاقِ، وتحقيقِ ما في عُهْدةِ الرُّسُلِ عليهم السلامُ، وفيه: إظهارُ أنَّ ما يقترحُه الكَفَرةُ عليه- عليه السلامُ- ليس مما يتعلَّقُ بالرِّسالةِ أصلًا .

- والتعبيرُ بصيغةِ المضارعِ نُرْسِلُ دون الماضي (أَرْسَلْنا)؛ لبيانِ أنَّ ذلك أمرٌ مستمرٌّ جَرَت عليه العادةُ الإلهيَّةُ، وللدَّلالةِ على تجدُّدِ الإرسالِ مُقارِنًا لهذين الحالَينِ، أي: ما أرسَلْنا، وما نُرْسِل، فقوله: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ حالان مُقَدَّرتانِ باعتبارِ المُستقبلِ، ومُحَقَّقتانِ باعتبارِ الماضي .

- والقَصْرُ بـ(ما... وإلَّا) هو الذي يُسَمِّيهِ البلاغيون: قصرًا إضافيًّا؛ لأنَّه يُرْسِلُهم بأعمالٍ أُخَرَ طيبةٍ من تعليمِ الآدابِ والمكارمِ، وغيرِ ذلك ممَّا هو زائدٌ على البِشارةِ والإنذارِ؛ للردِّ على مَن زعموا أنَّه إنْ لم يأتهم بآيةٍ كما اقترحوا فليس برسولٍ مِن عند الله، فهو قَصْرُ قَلْبٍ، أي: لم نُرْسِلِ الرَّسولَ للإعجابِ بإظهارِ خوارقِ العاداتِ ، فحَصَرَ اللهُ تعالى وظيفةَ الرُّسُل في البِشارة والإنذارِ؛ حتى لا يدَّعيَ مُدَّعٍ أنَّ وظيفةَ الرُّسُل تتعلَّق بالربوبيَّة، وأنَّ لهم نصيبًا من تدبيرِ الخَلْقِ، فالرُّسُل ليس لهم إلَّا أن يُبشِّروا النَّاسَ، ويُنذِروهم فقط، أمَّا أن يَهْدُوهم، أو يَرْزقوهم، أو يدفعوا عنهم السُّوءَ؛ فليسَ من وظائِفِهم .

- وقد كنَّى بالتَّبشيرِ والإنذارِ عن التَّبليغِ؛ لأنَّ التَّبليغَ يَسْتلزِمُ الأَمْرينِ، وهما التَّرغيبُ والتَّرهيبُ، فحَصَل بهذه الكِنايةِ إيجازٌ؛ إذِ استغنى بذِكْرِ اللَّازِمِ عن الجَمْع بينه وبين المَلزومِ .

4- قوله: يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فيه: كِنايةٌ عن قُرْبِ العذابِ؛ حيثُ جَعَلَ العذابَ ماسًّا لهم؛ كأنَّه حيٌّ يَفعلُ بهم ما يُريدُ مِنَ الآلامِ .

- وجِيءَ بِخَبَرِ (كان) جملةً مضارعيَّةً يَفْسُقُونَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ فِسْقَهم كان متجدِّدًا مُتكرِّرًا، وللدَّلالةِ أيضًا على الاستمرارِ؛ لأنَّ (كان) إذا لم يُقْصَدْ بها انقضاءُ خَبَرِها فيما مضَى، دَلَّتْ على استمرارِ الخَبَر بالقَرينةِ؛ كقولِه تعالى: وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 96] .

5- قوله: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ

- قوله: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ استئنافٌ ابتدائيٌّ انتقل بِه الكلامُ مِن غَرَضٍ إلى غَرَضٍ، وهو استئنافٌ مبنيٌّ على ما أُسِّسَ من السُّنَّة الإلهيَّةِ في شأنِ إرسالِ الرُّسُلِ، وإنزالِ الكُتُب؛ مسوقٌ لإظهارِ تَبَرُّئِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مما يدورُ عليه مقترحاتُهم، وقد افتتحَ الكلامَ بالأمْرِ بالقولِ؛ للاهتمامِ بإبلاغِه .

- وفي قوله: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ خاطبَهم مخاطبةً غيرَ الأُولى، يَعني: كرَّر المخاطبةَ لَكُمْ؛ لأنَّ المقامَ هنا- وهو نفيُ أن يكون مَلَكًا- أبلغُ وأشدُّ، والإتيان بكافِ الخِطاب يدلُّ على شِدَّة توجيهِ الخِطاب للمُخاطَب، كما في قولِ الخَضِر لموسى في الآيةِ الأُولى: قَالَ أَلَمْ أَقُل إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا [الكهف: 72] ، وفي الثانية: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا [الكهف: 75] .

- وأعادَ قولَه: لَا أَقُولُ لَكُمْ في قولِه: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ، ولم يُعِدْها في نَفْيِ عِلْم الغَيبِ؛ حيث قال: وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، ونُكتةُ ذلك: أنَّ نفيَ عِلم الغيبِ ونَفْيَ التصرُّفِ في خزائنِ الله يؤلِّفانِ التبرُّؤَ من دَعْوَى واحدةٍ، هي دعوَى الصِّفاتِ الخاصَّةِ بالله تعالى، وأمَّا نفيُ ادِّعاءِ المَلَكِيَّة فهو شيءٌ آخرُ، فأُعيدَ العامِلُ لإفادة ذلك، كأنَّه قال: إنَّني لا أدَّعي صفاتِ الإله حتى تطلُبوا منِّي ما لا يقدِرُ عليه أو ما لا يَعْلَمُه إلَّا اللهُ، ولا أدَّعي أنِّي مَلَك- وهو دون ما قَبْلَه- حتى تطلبوا منِّي ما جعله الله في قدرةِ الملائكةِ، ولم يجعَلْه من مقدورِ البَشَرِ، بل ادَّعَيْتُ أنِّي عبدُ اللهِ ورسولُه، وإنَّما وظيفةُ العبدِ الطاعةُ، ووظيفةُ الرَّسولِ التبليغُ، وعبَّر عن هذا بقولِه: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ أي: ما أفعلُ مِن حيثُ أنا عبدٌ رسولٌ إلَّا اتِّباعَ ما يُوحِيه إليَّ مَن أَرْسَلَني، مِن تَبليغِ دِينِه بالتبشيرِ والإنذارِ والعَمَلِ به .

- وفي قوله: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ مناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ كرَّر ضَميرَ الخِطابِ المجرورَ مِن قَولِه: لَكُمْ وفي سُورة هودٍ قال: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [هود: 31] بغيرِ تكريرِ الخِطابِ؛ وذلِك لأنَّ الواردَ في سُورةِ هودٍ إنَّما هو حِكايةُ قَولِ نوحٍ عليه السَّلامُ مُتلطِّفًا، ومشْفِقًا من حالِ قَومِه، ويُلْحَظ ذلك من النَّظَرِ فيما استَفْتَحَ به خطابَه لهم، وذلك بقوله: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ... الآية، وقوله: وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إلى قوله إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ، فهو عليه السَّلامُ يُلاطِفُهم، ويَظهَرُ من كلامه عظيمُ الإشفاقِ مِن حالِهم، وإرادتُه ما به نجاتُهم من العذابِ، فهذا كلُّه استلطافٌ في الدُّعاءِ، لا يلائِمُه تَكرارُ كلمةٍ تُفْهِمُ تعنيفًا أو توبيخًا، والتأكيدُ والتَّكرارُ يُفْهِمانِ ذلك، ويَرِدانِ حيثُ يُقْصَد.

وأمَّا قولُه تعالى هنا في آيةِ الأنعام: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ فوارِدٌ في أثناءِ كلامٍ أمَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتبليغه عُتاةَ قُريشٍ والعربِ؛ توبيخًا لهم وتقريعًا؛ فقيل له: قُلْ والمراد: قلْ لهم يا محمَّدُ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ... الآية، فعَنى به من يقولُ: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا فمن يصدُرْ عنه هذا وأشباهُه ممَّا يُنْبئُ عن الإزراءِ، وفسادِ الظَّاهِرِ والباطِنِ، فَهُم المَقولُ لهم: لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ...، فتكَرَّر فيها قولُه: لَكُمْ تأكيدًا يُفْهِم التَّعنيفَ ويُناسِبُ التَّوبيخَ والتَّقريعَ .

وقيل: كرَّر في هذِه الآية قوله: لَكُمْ؛ لعدمِ ذِكْرِه قبلَها وبعدَها، ولم يُكرِّر قولَه: لَكُمْ في سورةِ هودٍ؛ لأَنَّه تقدَّم فيها قولُه تعالى: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ وعَقِبَه وَمَا نَرَى لَكُمْ وَبعدَه أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ فَلَمَّا تكَرَّرَ (لكم) فِي القِصَّةِ أَربعَ مَرَّاتٍ اكْتفى بذلك .

- وتقديمُ المسْنَدِ، وهو قوله: عِنْدِي على قوله: خَزَائِنُ اللَّهِ؛ للاهتمامِ به، لِمَا فيه مِن الغَرابةِ والبِشَارةِ للمُخْبَرينَ به .

- قوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ جملةٌ مستأنفَةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّه لَمَّا نفى أن يقولَ هذه المقالاتِ، كان المقامُ مثيرًا سؤالَ سائلٍ يقولُ: فماذا تدَّعي بالرِّسالةِ، وما هو حاصِلُها؟ لأنَّ الجَهَلةَ يَتوهَّمونَ أنَّ معنى النبوةِ هو تلك الأشياءُ المتبَرَّأُ منها في قوله: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ... إلخ، فيُجابُ بقولِه: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ، أي: ليستِ الرِّسالةُ إلَّا التبليغَ عَنِ الله تعالى بواسطةِ الوَحْيِ .

- قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ خِتامٌ للمجادَلَةِ معهم، وتذييلٌ للكلامِ المُفْتَتَحِ بقوله: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ، أي: قلْ لهم هذا التذييلَ عَقِبَ ذلك الاستدلالِ .

- وتكريرُ الأمرِ قُلْ؛ لتَثنيةِ التَّبكيتِ، وتَأكيدِ الإلزامِ .

- والاستفهامُ في قوله: هَلْ استفهامٌ إنكاريٌّ، والمرادُ إنكارُ استواءِ من لا يعلمُ ما ذُكِرَ من الحقائِقِ ومن يَعْلَمُها، وفيه من الإشعارِ بكمالِ ظُهُورها، ومن التَّنفيرِ عن الضَّلالِ، والتَّرغيبِ في الاهتداءِ ما لا يخفى .

- وفيه تشبيهُ حالةِ من لا يَفْقَهُ الأدلَّةَ، ولا يُفَكِّك بين المعاني المتشابهةِ بحالةِ الأعمى الذي لا يَعْرِف أين يَقْصِد، ولا أين يَضَعُ قدَمَه، وتشبيهُ حالةِ من يُمَيِّزُ الحقائقَ، ولا يلتبسُ عليه بعضُها ببعضٍ بحالةِ القَوِيِّ البَصَرِ؛ حيث لا تختلطُ عليه الأشباحُ، وهذا تمثيلٌ لحالِ المشركينَ في فسادِ الوَضْعِ لأدِلَّتِهم، وعُقْم أَقْيِسَتِهم، ولحالِ المؤمنينَ الذين اهتَدَوْا، ووضعوا الأشياءَ مَوَاضِعَها، أو تمثيلٌ لحالِ المُشْركينَ التي هم متلبِّسونَ بها، والحالِ المطلوبة منهم التي نَفَروا منها؛ ليعلموا أيُّ الحالينِ أَوْلى بالتخلُّقِ .

- قوله: أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ توبيخٌ وتقريعٌ لهم، والاستفهامُ للإنكارِ، وهو معطوفٌ بالفاءِ على الاستفهامِ الأَوَّلِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ؛ لأنَّه مترتِّبٌ عليه؛ لأنَّ عدمَ استواءِ الأعمى والبصيرِ بديهيٌّ، لا يسَعُهُم إلَّا الاعترافُ بعَدَمِ استوائِهما؛ فلا جَرَمَ أن يتفرَّعَ عليه إنكارُ عدمِ تفكُّرِهم في أنَّهم بأيِّهما أشبَهُ

======================

.

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (51 - 55)

ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ

غريب الكلمات :

 

شَفِيعٌ: أي: ناصِر ومُعينٌ، والشَّفاعةُ: الانضمامُ إلى آخَرَ؛ نُصْرةً له، وسؤالًا عنه، وشَفَعَ فلانٌ لفلانٍ: إذا جاء ملتمِسًا مَطْلَبَه، ومُعِينًا له؛ فأصل الشَّفْع: ضمُّ الشَّيءِ إلى مِثْلِه

.

بِالْغَدَاةِ: الغَداةُ هِي أوَّلُ النَّهارِ، أو وَقتُ الضُّحى، أو مِن طُلوعِ الفَجْرِ إلى الظُّهرِ، وأصْلُ (غدو): يدلُّ على زمانٍ .

وَالْعَشِيِّ: العشيُّ هو آخِرُ النَّهارِ مِن وقْتِ العَصرِ إلى اللَّيلِ، أو مِن الظُّهر إلى نِصْفِ اللَّيلِ، وأصل (عشو): يدلُّ على ظلامٍ، وقِلَّة وضوحٍ في الشَّيءِ .

فَتَنَّا: أي: اختبَرْنا وابتَلَينا وامتحَنَّا .

سُوءًا: السوءُ: هو كُلُّ ما يسوءُ صاحبَه إذا رآه في صحيفتِه، وهو اسمٌ جامعٌ للآفاتِ، وهو أيضًا كلُّ ما يَغُمُّ الإنسانَ، ويُستعمَلُ في كلِّ ما يُستقبَحُ .

بِجَهَالَةٍ: الجهالةُ فِعلُ الشَّيءِ بخلافِ ما حقُّه أن يُفعَلَ، وأصل (جهل): خلافُ العِلْم .

وَلِتَسْتَبِينَ: أي: لتَظْهَرَ ولتنكشِفَ، وأصل (بين): الانكشافُ

 

.

مشكل الإعراب :

 

1- قوله تعالى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ

فَتَطْرُدَهُمْ: الفاءُ سَببيَّة، و(تطردَ): منصوبٌ في جَوابِ النَّفْيِ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ بـ(أنْ) مُضمَرة بعدَ الفاءِ؛ على إرادةِ انتفاءِ الطَّرْدِ؛ لانتفاءِ كَوْنِ حسابِهم عليه، وحسابِه عليهم، أي: ما يكون مؤاخذةُ كلِّ واحدٍ بحسابِ صاحبِه؛ فكيف يقَعُ طردٌ؟!

فَتَكُونَ: مَنصوبٌ بالعَطْفِ على فَتَطْرُدَهُمْ؛ على وجْهِ التَّسبيبِ؛ لأنَّ كونَه ظالِمًا مُسَبَّبٌ عن طَرْدِهم. أو منصوبٌ بـ(أنْ) مُضمرةً على أنَّه جوابُ النَّهْيِ الذي في أوَّلِ الآيةِ وَلَا تَطْرُدِ، وتكونُ الجُملتانِ- مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ وجوابُ الأولى فَتَطْرُدَهُمْ- اعتراضًا بين النَّهْيِ وجوابِه

.

2- قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

أَنَّهُ... فَأَنَّهُ: قُرِئَ بفتحِ «أنَّ» في الموضعينِ وبِكَسْرِهما؛ فعلى قِراءةِ الفتحِ فيهما تكونُ أنَّهُ الأُولى في مَوضِع نَصْبٍ بدلًا من الرَّحْمةَ، أي: كتَب أنَّهُ مَن عَمِلَ. وأمَّا فَتْحُ الثَّانيةِ فَأَنَّهُ فعلى: أنَّها في مَحلِّ رفعٍ مبتدأٌ، والخبرُ محذوفٌ، أي: فغُفرانُه ورحمتُه حاصِلانِ أو كائنان، أو فعَلَيه غُفرانُه ورَحْمتُه. أو على: أنَّها في محلِّ رفْعٍ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فأمْرُه أو شَأْنُه أنَّه غفورٌ رحيمٌ.

وأمَّا على قِراءة كَسْرِ الهَمزةِ: فكَسْرُ الأُولى (إِنَّهُ) على أنَّها مستأنفَةٌ، وأنَّ الكَلامَ تامٌّ قَبْلَها، وجِيءَ بها وبما بَعْدَها كالتَّفسيرِ لِقَوْله: كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة، أو على إضمارِ (قال)، فكُسِرَت (إنَّ) بَعْدَه، وأمَّا كَسْرُ الثَّانِيةِ (فإِنَّهُ) فعَلى الاستئنافِ، بمعنى أنَّها في صَدْرِ جملةٍ وَقَعَت خبرًا لـ مَنْ الموصولةِ، أو جوابًا لها إنْ كانَتْ شرطًا .

3- قوله تعالى: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ

وَلِتَسْتَبِينَ: قُرِئَ ولِتَسْتَبينَ بالتاءِ، وقُرِئ (وَلِيَسْتَبينَ) بالياءِ، وقُرِئ سَبِيلُ بالرَّفْع والنَّصْب، وهذه القِراءاتُ دائرةٌ على تَذكيرِ (السَّبيل) وتأنيثِه، وتَعَدِّي الفعلِ (استبان) ولُزُومِه، وكِلاهما جاء فيه الأمرانِ؛ فالسَّبيلُ يُذكَّر ويُؤنَّثُ؛ قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف: 146] فذَكَّر السَّبيلَ، وقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف: 108] فأنَّثَ السبيلَ. وأمَّا الفِعلُ (استبانَ) فيكونُ متعدِّيًا؛ نحو: استَبَنْتُ الشَّيْءَ، ويكون لازمًا؛ نحو: استبانَ الصُّبْحُ.

فمَنْ قرأ بالتَّاءِ ورَفَعَ (السَّبيل): فالسَّبيلُ فاعِلٌ للفِعْلِ (تَسْتَبِينَ) على لغَةِ التَّأنيثِ، والفِعلُ لازِمٌ.

ومَن قرأ بالياءِ ورَفَع (السَّبيل): فالسَّبيلُ فاعِلٌ للفِعل (يَسْتَبينَ) على لُغة التَّذْكيرِ، والفِعْلُ لازِمٌ أيضًا.

ومن قرأ بالتَّاءِ ونَصَبَ (السَّبيل): فإنَّ الفاعِلَ ضميرُ المخاطَب المستَتِر، تقديره: (أنت)، و(السَّبيلَ) مفعولٌ به منصوبٌ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يَأمرُ اللهُ نبيَّهُ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يُنْذِرَ بالقرآنِ الذين يخافونَ أن يُحْشَروا إلى ربِّهم، ليس لهم غير اللهِ وليٌّ ينصرُهم، ولا شفيعٌ يشفعُ لهم عنده فيُخَلِّصَهم مِن عذابِه، لعلَّهم يتَّقونَ؛ فيمتثلون ما أمَر الله به، ويجتنبونَ ما نهَى عنه.

ثم يَنهى اللهُ تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن طَرْدِ الذين يَدْعونَه عزَّ وجلَّ في أوَّلِ النَّهارِ وآخِرَه، مُخْلِصينَ له تعالى في ذلك، وأَعْلَمَه أنَّ كلًّا له حسابُه؛ فلا هو صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سيُحاسَبُ على ما يعملونَه، ولا هم سيُحاسَبونَ على عَمَلِه، حتَّى يَطرُدَهم؛ فإنَّه إنْ فعَلَ ذلك فسيكونُ من الظَّالمينَ.

ثم يُخبِرُ تعالى أنَّه كذلك يَخْتَبر ويَبتلي النَّاسَ بعضَهم ببعضٍ، فيجعلُ بعضَهم غنيًّا، وبعضَهم فقيرًا، وبعضَهم شريفًا، وبعضَهم وضيعًا، فإذا ما آمن الفقيرُ والضَّعيفُ كان ذلك فتنةً للغنيِّ والشَّريفِ، وترتَّب عليه أن يقولوا لِمَن يَرون أنَّهم دونَهم؛ ممَّن آمنَ: أهؤلاءِ منَّ اللهُ عليهم بالهدايةِ مِن بَيْنِنا، لو كان خيرًا لكنَّا نحنُ أَوْلى به، فاللهُ تعالى يَرُدُّ عليهم بأنَّه هو أعلَمُ بمن يقومُ بِشُكْره، فيوفِّقُه ويَهديه.

ثم أمَرَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يقولَ للمؤمنينَ بآياتِ اللهِ، مُرَحِّبًا بهم إذا جاؤوه: سلامٌ عليكم، وأنْ يُبَشِّرَهم برحمَتِه التي أوجَبَها على نَفْسِه عزَّ وجلَّ، وأنْ يُعْلِمَهم أنَّه مَن اقترفَ منهم ذنبًا بجهالةٍ، ثم تاب عن ذلك الذَّنْب وأصلَحَ، فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ.

ثمَّ أخبرَه تعالى أنَّه كذلك يُوضِّحُ الآياتِ؛ لتتبيَّنَ طريقُ المُشْرِكين المُوصِلَةُ إلى سَخَطه وعذابِه ليُمكِنَ اجتنابُها، ومن أجْل أنْ يَتبيَّنَ الحقُّ من الباطلِ.

تفسير الآيات :

 

وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) .

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا وَصَفَ تعالى الرُّسُلَ بكونِهم مُبَشِّرينَ ومُنذِرينَ، أَمَرَ الرَّسولَ في هذه الآيةِ بالإنذارِ

، فقال:

وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ.

أي: وأنذرْ بهذا القرآنِ- يا محمَّدُ- مَن يَنتفعُ به حقًّا، وهم الذين يخافونَ الحشرَ إلى رَبِّهِمْ، ويوقنون بالانتقالِ مِن هذه الدَّارِ الفانِيةِ، إلى الدَّارِ الباقيةِ، فيَستصحِبونَ إليها ما ينفَعُهم، ويَدَعُون ما يضرُّهم .

لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ.

أي: والحالُ أنَّه ليس لهم يَومَئذٍ من عذابِ الله- إنْ عَذَّبَهم- وليٌّ مِن دُونِ اللهِ ينصرُهم، فيستنقِذُهم من العذابِ، ولا شفيعٌ يتوسَّطُ لهم عندَ الله تعالى، فيُخَلِّصهم من العِقابِ .

لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.

أي: أنذِرْهم كي يتَّقوا اللهَ تعالى وعذابَه؛ بامتثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهِيه .

وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بإنذارِ غيرِ المتَّقينَ لعلَّهم يتَّقونَ؛ أردَفَ ذلك بتقريبِ المتَّقينِ وإكرامِهم، ونهاه عن طَرْدِهم، ووَصَفَهم بموافقةِ ظاهِرِهم لباطِنِهم؛ مِن دُعاءِ رَبِّهم، وخُلُوصِ نِيَّاتِهم .

سببُ النُّزولِ:

عَن سَعدِ بنِ أَبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: ((كنَّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ستَّةَ نَفَرٍ، فقال المُشركونَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اطرُدْ هؤلاءِ؛ لا يجتَرِئونَ علينا. قال: وكنتُ أنا وابنُ مسعودٍ، ورجلٌ من هُذَيلٍ، وبلالٌ، ورجلانِ لستُ أُسمِّيهما، فوقَعَ في نفسِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شاءَ اللهُ أن يقعَ، فحدَّث نفسَه، فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)) .

وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.

أي: ولا تُقْصِ- يا محمَّدُ- هؤلاءِ الذينَ هم في العملِ لله تعالى دائبونَ، فيلازمونَ دُعاءَ رَبِّهِم دعاءَ مسألةٍ، ودعاءَ عبادةٍ، في أوَّلِ النَّهارِ وآخِرَه؛ بإخلاصٍ لله تعالى وطَلَبًا لوَجْهِه الكريمِ، فهؤلاء اجْعَلْهم جُلَساءَك وخاصَّتَك، ولا تُبْعِدْهم عنك؛ لأجْل أنَّ الكُفَّارَ يُريدونَ ذلك، فليسوا مُستحقِّينَ للطَّرْدِ والإعراضِ عنهم، بل هم مُستحقُّونَ لتقريبِهم؛ فهم الصَّفْوةُ مِن الخَلْقِ وإنْ كانوا فقراءَ، والأعِزَّاءُ في الحقيقةِ، وإنْ كانوا عندَ النَّاسِ أذلَّاءَ .

مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ.

أي: كلٌّ له حسابُه؛ فله عملُه الصَّالحُ، وعليه عَمَلُه الطَّالحُ، وحسابُه على اللهِ عزَّ وجلَّ وَحْدَه، ولستَ محاسَبًا- يا محمَّدُ- بما يفعلُ أصحابُك الضُّعفاءُ، كما أنَّهم ليسوا مُحاسَبينَ بما تفعلُ؛ حتَّى يَكونَ ذلك سَببًا فى طَرْدِهم .

كما حَكَى الله تعالى عن نوحٍ وقَوْمِه، فقال: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الشعراء: 111- 115].

وعن ابنِ عبَّاسٍ رضِي الله عنهما، أنَّ هِرَقْلَ قال لأبي سفيانَ: ((سَأَلْتُكَ: أشرافُ النَّاسِ يتَّبِعونَه أم ضُعَفاؤُهم، فزَعَمْتَ أنَّ ضُعفَاءَهُم اتَّبَعوه، وهمُ أتباعُ الرُّسُل )) .

فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ.

أي: فإنْ طردْتَهم- يا مُحمَّدُ- فإنَّك تكونُ بذلك مِن المتجاوِزِينَ لحُدُودِ الله تعالى، الذين يَضَعونَ الأشْياءَ في غَيْرِ مواضِعِها الصَّحيحةِ واللائِقَةِ بها، ومن ذلك إبعادُ من يستحِقُّ القُرْبَ من أجلِ إرضاءِ وتقريبِ من يستحِقُّ البُعْدَ .

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53).

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ.

أي: كما فَتَنَ اللهُ تعالى هؤلاءِ الأغنياءَ من الكفَّارِ بأولئك الفُقراءِ من المؤمنينَ، كذلك أيضًا يَبتَلي النَّاسَ، ويَمتحِنُ بعضَهم ببعضٍ؛ فبعضُهم غنيٌّ؛ وبعضُهم فقيرٌ، وبعضُهم شريفٌ، وبعضُهم وضيعٌ، فإذا مَنَّ اللهُ بالإيمانِ على الفقيرِ أو الوضيعِ؛ كان ذلك موضِعَ محنةٍ للغنيِّ والشَّريفِ .

لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا.

أي: إنَّما اختبَرْنا النَّاسَ بالغِنى والفَقْرِ، والعِزِّ والذُّلِّ، والقوَّةِ والضَّعْف، والهُدى والضَّلال؛ كي يقولَ مَن أضلَّهم اللهُ للذين هداهم الله ووفَّقَهم: أهؤلاءِ مَنَّ اللهُ عليهم مِن بَيْنِنا بالهدايةِ إلى الحقِّ، وهم فقراءُ ضعفاءُ أذِلَّاءُ، ونحن أغنياءُ أقوياءُ شُرَفاءُ؟ كلَّا! بل لو كان خيرًا لهُدِينا نحنُ إليه؛ لأنَّنا أَوْلى منهم بذلك .

فقال اللهُ تعالى ردًّا عليهم:

أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.

أي: أليسَ هو سبحانه أعلمَ بِمَن شَكَر نِعَمَه- وأعظَمُها نِعمَةُ الإيمانِ- بأقوالِه وأفعالِه؛ فيُوفِّقَه ويهديَه؛ جزاءً له على شُكْرِه، ممَّن هو لها كافرٌ؛ فيَخْذُله ويُضِله؛ جزاءً على كُفْره؟

واللهُ تعالى حَكيمٌ، لا يضَعُ فَضْلَه عند مَن ليس له بأهلٍ، غنيًّا كان أو فقيرًا؛ فإنَّ الثَّوابَ والعِقابَ لا يَستحِقُّه أحدٌ إلَّا جزاءً على عَمَلِه الذي اكتسَبَه، لا على غناه وفَقْرِه، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69] .

وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا نهى اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن طَرْدِهم، عَلَّمَه كيف يُلاطِفُهم ، فقال تعالى:

وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ.

أي: وإذا جاءَكَ- يا محمَّدُ- المُصَدِّقونَ، المُقِرُّون بتنزيلِنا وأدِلَّتِنا وحُجَجِنا، المُنقادونَ إليها بقُلُوبِهم وجَوارِحِهم؛ فحيِّهم ورحِّبْ بهم، وأكْرِمْهم بإلقاءِ السَّلامِ عليهم، وهو دعاءٌ لهم بأن يُسلِّمَهم اللهُ تعالى من جميعِ الآفاتِ والشُّرورِ .

كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.

أي: وبَشِّرْهم برحمةِ الله الواسِعَةِ الشَّامِلَةِ؛ فقد أوجَبَها على نَفْسِه الكريمةِ؛ تفضُّلًا منه وإحسانًا .

عن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ اللهَ كتبَ كتابًا قبل أن يخلُقَ الخلقَ: إنَّ رحمتي سبَقَتْ غضبي، فهو مكتوبٌ عندَه فوقَ العرشِ )) .

أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التفسيرِ:

هذه الآيَةُ فيها ثلاثُ قراءاتٍ:

1- أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

بفَتْح همزةِ (أنَّ) في الموضعين أَنَّهُ فأَنَّهُ، والمعنى: كتَبَ ربُّكم على نفْسِه المغفرةَ، وهي بدَلٌ من الرَّحْمة، كأنَّه قال: كتَب ربُّكم على نفْسِه الرَّحْمةَ، وهي المغفرةُ للمُؤمنين التائِبين .

2- أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

بفَتْح همزةِ (أنَّ) في الموضع الأوَّل أَنَّهُ، وكسْرِها في الموضِع الثاني فَإِنَّهُ؛ فالفَتْحُ على الإبدالِ من الرَّحمة، والكَسْر في (فَإِنَّهُ) لوُقوعِها بعد الفاءِ في جَوابِ (مَن) على القَوْلِ بشَرطيَّتِها .

3- إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

بكسرِهما جميعًا على مذهبِ الحِكاية، كأنَّه لَمَّا قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمة قال: إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ودخلتِ الفاءُ جوابًا للجزاءِ فكُسرت (إنَّ)؛ لأنَّها دخلتْ على ابتداءٍ وخبرٍ، كأنَّك قُلتَ: فهُو غفورٌ رحيمٌ، إلَّا أنَّ الكلامَ بـ (إنَّ) أوكَدُ .

أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.

أي: مَنِ اقترفَ منكم ذنبًا، والحالُ أنَّه متَّصِفٌ بالجَهالةِ- حيث آثَرَ دُنياه على أُخراه، وعَمِيَ عن عواقِبِ اقترافِ فِعْلِ ما لا يَنبغي فِعْلُه- ثم رجَع عمَّا ارتكَبَه، وأقلَعَ ونَدِمَ وعَزَمَ على ألَّا يعودَ إليه، وقام بإصلاحِ جميعِ ما أفسَدَه من الأعمالِ الظَّاهِرةِ والباطِنَةِ، إذا وُجِدَ ذلك كُلُّه فاللهُ تعالى غفورٌ، فيَسْتُر ذَنْبَه، ويتجاوَزُ عن مؤاخَذَتِه به، رحيمٌ به، ومِن رَحْمَتِه أنْ تابَ عليه، وتَرَكَ عِقابَه على الذَّنبِ بعد تَوبتِه منه .

وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55).

وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ.

أي: وكما وضَّحْنا، فيما تقدَّم من هذه السُّورةِ، حُجَّتَنا على المشركينَ، وبيَّنَّا أدِلَّتَنا، وميَّزْنا طريقَ الهُدى من الضَّلالِ، فكذلك نوضِّحُ أيضًا أدلَّتَنا في إثباتِ كلِّ حقٍّ، ورَدِّ كُلِّ باطلٍ .

وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ.

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التفسيرِ:

في قوله تعالى: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قِراءتانِ :

1- قِراءة وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ على مَعنى: وَلِتَسْتَبِينَ أنتَ- يا محمَّدُ- سَبيلَ المُجْرمينَ .

2- قراءة وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ على معنى: ولِتَظْهَرَ طَريقُ المُجرمينَ .

وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ.

أي: فصَّل اللهُ تعالى آياتِهِ؛ لتَظْهَرَ لك ولغيرِك- يا محمَّدُ- طريقُ المُشركينَ المُوصِلَةُ إلى سَخَطِ الله وعذابِه؛ ليُمكِنَ اجتنابُها، وليَتَبيَّنَ الحَقُّ من الباطلِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- في قوله تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ وجوبُ الإنذارِ بالقُرآنِ، ويتفرَّعُ على هذا أنَّ خيرَ ما يُنذَر به هو القرآنُ، يعني هو أبلغُ المواعِظِ في الإنذارِ، لكنْ كما قال الله عزَّ وجلَّ: لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ

[ق: 37] .

2- أنَّه لا ينتفِعُ بالإنذارِ بالقُرآنِ إلَّا الذين يؤمنونَ باليومِ الآخِرِ؛ لقوله: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ .

3- في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَفْتِنُ بعضَ النَّاسِ ببعضٍ، فيَضِلُّ أَحَدُهم بسبَبِ الآخَرِ، وهذا واقِعٌ، مثلًا: يُفتَحُ بابُ مُساهمةٍ في الخيرِ، فيَسْبِقُ فلانٌ وفلانٌ، فيقولُ الآخرونَ: شيءٌ تَدَخَّلَ فيه فُلانٌ لا نوافِقُ عليه ولا نُريدُه، ولا يُمْكِنُ أن يَسْبِقَنا إليه .

4- في قوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بيانُ أنَّ المسلِمَ إذا أقدمَ على الذَّنْبِ مع العِلْمِ بكونه ذنبًا ثمَّ تابَ منه توبةً حقيقيَّةً؛ فإنَّ اللهَ تعالى يقبلُ توبتَه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- في قوله تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ خصَّ الذين يخافونَ الحَشْرَ؛ لأنَّ انتفاعَهم بذلك الإنذارِ أكملُ؛ وذلك أنَّ خَوْفَهم يحمِلُهم على إعدادِ الزَّادِ ليومِ المَعَادِ، وهم أجدَرُ مِن غَيْرِهم بفَهْم حقيقةِ الرِّسالَةِ

.

2- قوله تعالى: أَنْ يُحْشَرُوا فيه إثباتُ الحَشْرِ إلى الله عزَّ وجلَّ، وهذا يكونُ يومَ القيامةِ؛ تُحشَرُ الخلائقُ على ربِّها عزَّ وجلَّ؛ ليقضي بينهم قضاءً دائرًا بين العَدْلِ والفَضْلِ؛ العدْلُ للكُفَّار، والفَضْل للمؤمنينَ .

3- يُستَفاد من قوله تعالى: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ إثباتُ الشَّفاعةِ؛ لأنَّه لولا وجودُها ما صحَّ نَفْيُها .

4- في قوله تعالى: وَلَا تَطْرُدِ.. كمالُ عدْلِ الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه خاطَبَ نبيَّهُ بهذا الخطابِ القويِّ من أجل قومٍ من أصحابِه، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عند اللهِ أعظَمُ جاهًا، وأعلى منزلةً، لكنَّ الله عزَّ وجلَّ حَكَمٌ عدْلٌ يقضي بالحَقِّ سبحانه وتعالى .

5- في قَولِه تعالى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ أنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ إن طَرَدَ الصَّالحينَ مِن مَجلِسِه يخافُ أن يُوصَلَ إلى درجةِ الظَّالمينَ، ففيه التَّحذيرُ من إيذاءِ الصَّالحينَ .

6- قال تعالى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وبيَّنَ في آياتٍ أُخَرَ أنَّ طَرْدَ ضعفاءِ المسلمين الذي طَلَبَه كفَّارُ العربِ مِن نَبِيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فنهاه اللهُ عنه؛ طَلَبَه أيضًا قومُ نوحٍ مِن نوحٍ عليه السلامُ فأبى؛ كقوله تعالى عنه: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا الآية [هود: 29] ، وقوله: وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ الآية [هود: 30] ، وقوله: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 114] ، وهذا مِن تشابُه قلوبِ الكُفَّارِ المذكورِ في قوله تعالى: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ الآية [البقرة: 118] .

7- في قوله تعالى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ خصَّ الله الغَداةَ والعَشِيَّ بالذِّكْر؛ لأنَّ الشُّغْل فيهما غالِبٌ على النَّاسِ، ومَن كان في هَذينِ الوَقْتينِ يَغْلِبُ عليه ذِكْرُ اللهِ ودعاؤُه، كان في وقتِ الفَراغِ أغلَبَ عليه .

8- إثباتُ وَجْهِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لقوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، والوَجْهُ صفةٌ حقيقيَّةٌ لله عزَّ وجلَّ، يجب علينا أن نؤمِنَ بذلك، ولكن على حدِّ قولِه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] ، وأمَّا من فسَّر ذلك بأنَّ المرادَ بالوَجْهِ الثَّوابُ؛ فقد أخطَأَ؛ لأنَّ ذلك مخالِفٌ لظاهِرِ اللَّفْظِ، ومخالِفٌ لإجماعِ السَّلَفِ، ثمَّ إنَّ الله عزَّ وجلَّ قال في القرآنِ الكريمِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26- 27] جعَلَه وصفًا للوَجْهِ، ولا يُمكِنُ أن يُقالَ: إنَّ الثَّوابَ هو الموصوفُ بأنَّه ذو الجلالِ والإكرامِ، وتأمَّلْ هذا مع قولِه تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 78] فـ (ذي) بالجَرِّ صفةٌ لـ (رَبِّ)، ولم تكن بالرَّفْعِ صفةً للاسْمِ، مع أنَّ أسماءَ اللهِ عزَّ وجلَّ لها من الجلالة والتَّعظيمِ ما لها .

9- لم يُكتَفَ بقَولِه: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ عنْ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ؛ لأنَّ الجُملتينِ جُعِلَتا بمنزلةِ جملةٍ واحدةٍ، وقُصِدَ بهما مؤدًّى واحِدٌ، وهو المعنيُّ في قوله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] ، ولا يُفيدُ هذا المعنى إلَّا الجُملتانِ جميعًا، كأنَّه قيل: لا تؤاخَذُ أنت ولا هم بحسابِ صاحِبِه .

10- قولُه: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ يدلُّ على نفْيِ الرِّياسةِ الدِّينيَّةِ المعهودةِ في المِلَل الأُخرى، وهي سيطرةُ رُؤساءِ الدِّينِ على أهْلِ دِينِهم في عقائِدِهم وعباداتِهم، ومحاسَبَتُهم عليها، وعقابُ مَن يَرون عِقابَه منهم حتى بالطَّرْد من الدِّينِ، والحِرمانِ من حُقوقِه، ويجبُ في بعضِ تلك المِلَل أنْ يَعترفَ كُلُّ مكَلَّفٍ مِن ذَكَرٍ وأنثى للرَّئيسِ الدِّينيِّ بأعمالِه النفسيَّة والبَدَنيَّة، وللرئيسِ أنْ يغفِرَ له ما يَعترِفُ به من المعاصي، ويعتقدونَ أنَّ مغفرةَ الله تعالى تَتْبَعُ مغفرَتَه، وإذا كان اللهُ تعالى لم يجعَلْ للرَّسولِ الذي أوجَبَ طاعَتَه حقَّ محاسبَةِ النَّاسِ على أعمالِهِم الدينيَّة ونِيَّتِهم فيها، ولا حَقَّ طَرْدِهم مِن حَضْرَتِه- دَعْ حَقَّ طَرْدِهم مِنَ الدِّينِ- فكيف يُمْكِن أن يكون لمن دُونَه مِنَ الأُمَراءِ أو القضاةِ أو غَيرِهم من الرُّؤساءِ مثلُ هذا الحَقِّ ؟!

11- لَمَّا نهى اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن طَرْدِهم مُبَيِّنًا أنَّه ضررٌ لغيرِ فائدةٍ؛ في قوله: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ؛ سَبَّبَ عن هذا النَّهْيِ قولَه: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ أي: بِوَضْعِك الشَّيءَ في غير مَحَلِّه؛ فإنَّ طَردَكَ هؤلاءِ ليس سببًا لإيمانِ أولئك، وليس هدايَتُهم إلَّا إلينا، وقد طلبوا منَّا فيك لَمَّا فَتَنَّاهم بتَخْصِيصِك بالرِّسالَةِ ما لم يَخْفَ عليكَ مِن قَوْلِهم: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: 8] ونحوِه مِمَّا أرادوا به الصَّرْفَ عنك، فكما لم نَقْبَلْهم فيكَ فلا تَقْبَلْهم أنتَ في أوليائِنا؛ فإنَّا فتَنَّاهم بكَ حتى سألوا فيك ما سألوا، وتَمَنَّوْا ما تَمَنَّوْا .

12- أنَّ مَنْعَ الإنسانِ حَقَّه ظُلمٌ، وإنْ لم يكنْ عدوانًا بِضَرْبٍ أو أخْذِ مالٍ، لكن إذا منعه حقَّه فإنَّه ظالمٌ؛ لقوله: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إلى قوله: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وهذا حقٌّ؛ ولهذا قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ )) ، مع أنَّ هذا لم يأخُذْ مِن مالِ الفقيرِ، لكنْ ماطَلَه، يعني: مَنَعَ حَقَّه، فكلُّ من مَنَع صاحِبَ حَقٍّ حقَّه فهو ظالمٌ له، كما لو اعتدى بأخْذِ شيءٍ مِن مالِه .

13- استُدِلَّ بقوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ على مسألةِ خَلْقِ الأفعالِ من وجهينِ: الأول: أنَّ قوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ تصريحٌ بأنَّ إلقاءَ تلك الفِتنةِ مِنَ الله تعالى، والمرادُ من تلك الفتنةِ ليس إلَّا اعتراضَهم على الله في أنْ جَعَلَ أولئك الفقراءَ رؤساءَ في الدِّينِ، والاعتراضُ على اللهِ كُفرٌ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى هو الخالِقُ للكُفْرِ. والثاني: أنَّه تعالى حَكَى عنهم أنَّهم قالوا: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أي: مَنَّ عليهم بالإيمانِ بالله، ومتابعةِ الرَّسولِ، وذلك يدلُّ على أنَّ هذا المعنى إنَّما حَصَلَ من الله تعالى؛ لأنَّه لو كان المُوجِدُ للإيمان هو العبدَ؛ فاللهُ ما مَنَّ عليه بهذا الإيمانِ، بل العبدُ هو الذي مَنَّ على نَفسِه بهذا الإيمانِ .

14- جاء لفْظُ الشُّكْرِ هنا في قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ في غايةٍ من الحُسْنِ؛ إذ تقدَّمَ مِن قولهم: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ أي: أنعمَ عليهم، فناسَبَ ذِكْرُ الإنعامِ لفظَ الشُّكْرِ .

15- قد عُلِمَ مِن قَولِه: أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أنَّه أيضًا أعلَمُ بأضدادِهم، وضِدُّ الشُّكْرِ هو الكُفْرُ، كما قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] فهو أعلمُ بالذين يأتونَ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مُسْتهزئينَ مُتَكبِّرينَ، لا هَمَّ لهُم إلَّا تحقيرُ الإسلامِ والمُسلمينَ، وقد استفرَغُوا وُسْعَهم وَلُبَّهُم في مجادلةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتضليلِ الدَّهماءِ في حقيقةِ الدِّينِ؛ ففي الكلامِ تعريضٌ بالمشركينَ .

16- في قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ دليلٌ على أنَّه لا يَمتنِعُ تسميةُ ذاتِ اللهِ تعالى بالنَّفْسِ، وأيضًا قوله تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] يدلُّ عليه .

17- قال تعالى: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ في هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ: لِمَ خَصَّ سبيلَ المجرمين، ولم يَذْكُرْ سبيلَ المؤمنين؟ وللعلماءِ عَنْهُ جَوَابَانِ: أحدُهما: أنَّ سبيلَ المجرمين إذا عُرِفَتْ، عُرِفَتْ منها سبيلُ المسلمين؛ لأنَّ الأشياءَ تُعْرَفُ بأضدادِها، وإذا عَرَفَ الإنسانُ الشرَّ عرفَ أنَّ مُقَابِلَهُ هو الخيرُ؛ فالضِّدَّانِ إذا كانَا بحيثُ لا يَحصُل بينهما واسطةٌ، متى بانتْ خاصيَّةُ أحدِ القِسمينِ بانتْ خاصيةُ القِسمِ الآخَر، والحقُّ والباطلُ لا واسطةَ بينهما؛ فمتى استبانتْ طريقةُ المجرِمينَ فقد استبانتْ طريقةُ المحقِّين أيضًا لا محالةَ. والثاني: أنَّ في الآيةِ هنا حَذْفَ الواوِ والمعْطوف، أي: لتَستبينَ سبيلُ المجرمين وسبيلُ المؤمنين؛ قالوا: ومنه: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] ، أي: والبردَ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ [الأنعام: 13] ، أي: وما تَحَرَّكَ، وحَذْفُ الواوِ وما عَطَفَتْ إنْ دَلَّ المقامُ عليه مَعروفٌ في كلامِ العربِ . وقيل: لا يُحتاج إلى ذلك؛ لأنَّ المقامَ إنَّما يَقتضي ذِكْرَ المجرِمين فقط؛ إذ هُم الذين أثاروا ما تَقدَّم ذِكْرُه

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

- قوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ فيه تعريضٌ بأنَّ المشركينَ لا ينْجَع فيهم الإنذارُ؛ لأنَّهم لا يُؤمِنونَ بالحَشْرِ؛ فكيف يخافونَه، وخوفُ الحَشرِ يَقتضي الإيمانَ بوقوعِه

؟

- في قوله تعالى: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ تعريضٌ بالمشركينَ الذين اتَّخذوا شُفعاءَ وأولياءَ غيرَ اللهِ .

- قولُه: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ رجاءٌ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعليلِ لِلأمرِ بإنذارِ المؤمنينَ؛ لأنَّهم يُرجَى تَقواهم، بخلافِ من لا يؤمنونَ بالبَعْثِ .

2- قوله: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ

- قوله: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ اعتراضٌ وسِّط بين النهيِ وَلَا تَطْرُدِ وجوابِه فَتَكُونَ؛ تقريرًا له، ودفعًا لِمَا عسَى يُتوهَّم كونُه مسوِّغًا لطردِهم من أقاويل الطاعنِينَ في دِينهم، كدأبِ قومِ نوحٍ عليه السلامُ؛ حيث قالوا: مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود: 27] ، أي: ما عليك شيءٌ ما مِنْ حسابِ إيمانِهم، وأعمالِهم الباطنةِ حتى تتصدَّى له، وتَبنيَ على ذلك ما تراه مِن الأحكامِ، وإنَّما وظيفتُك- حسَبَما هو شأنُ مَنصِبِ النبوَّة- اعتبارُ ظواهرِ الأعمالِ، وإجراءُ الأحكامِ على مُوجِبِها، وأمَّا بواطنُ الأمورِ فحِسابُها على العَليمِ بذاتِ الصُّدورِ .

- وذُكِرَ قولُه تعالى: وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ مع أنَّ الجوابَ قد تمَّ بما قَبْلَه مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ؛ للمبالغةِ في بيانِ انتفاءِ كَوْنِ حسابِهم عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بنَظْمِه في سِلْك ما لا شُبهةَ فيه أصلًا .

- وقوله: وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فيه حُسْنُ اعتنائِه تعالى بنبِيِّه وتشريفِه بخِطابِه؛ حيثُ بدأ به في الجُملتينِ معًا، فقال: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، ثمَّ قال: وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ؛ فقَدَّمَ خِطابَه في الجملتينِ، وكان مقتضى التَّركيبِ الأَوَّلِ لو لُوحِظَ؛ أن يكونَ التَّركيبُ الثَّاني: (وما عليهم من حسابِكَ مِن شيءٍ)، لكنَّه قدَّمَ خِطابَ الرَّسولِ وأَمْرَه؛ تشريفًا له عليهم، واعتناءً بمخاطَبَتِه . وقيل: تقديمُ خِطابِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الموضِعينِ في قوله: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ جاءَ على الأصْلِ العامِّ في اللُّغَةِ، وهو تقديمُ الأهَمِّ بحسَبِ سياقِ الكلامِ، والأَهَمُّ في الأَوَّلِ النَّفيُ، وفي الثاني المنفيُّ، يعني: أنَّ الأهمَّ في كلِّ موضعٍ ما يتعلَّق به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه تعليلٌ لانتفاء عمَلٍ له (وهو الطَّرد) مترتِّبٌ على ذلك النفيِ، ولو كان الثاني تعليلًا لعملٍ لهم لقال: (وما عليهم من حِسابِك مِن شيءٍ فيَطردُوك) .

- وفيه تعريضٌ بالمشركينَ بأنَّهم أظهروا أنَّهم أرادوا بِطَرْدِ ضُعفاءِ المؤمنينَ عن مجلسِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ النُّصْحَ له؛ ليكتَسِبَ إقبالَ المشركينَ عليه، والإطماع بأنَّهم يُؤمِنونَ به، فيَكْثُر مُتَّبِعوه .

- وقوله: مِنْ شَيْءٍ (مِن) زائدةٌ لتوكيدِ النَّفيِ؛ للتَّنصيصِ على الشُّمولِ في سياقِ النَّفيِ .

- وقد اجتَمَع في هذه الآية خمسةُ مُؤَكِّدات؛ وهي: (مِن) البيانيَّة، و(مِن) الزائدةِ، وتقديمُ المعمولِ، وصيغةُ الحصْرِ في قوله: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، والتأكيدُ بالتَّتميمِ بنَفيِ المقابِلِ في قوله: وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ؛ فإنَّه شبيهٌ بالتَّوكيدِ اللَّفظيِّ، وكلُّ ذلِك للتَّنصيصِ على منتهى التَّبرئَةِ من محاوَلَةِ إجابَتِهم لاقتراحِهم .

- قوله: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ فيه تعريضٌ بالذين سألوا طَرْدَهم لإرضاءِ كبريائِهِم؛ بأنَّهم ظالِمونَ معتادون على الظُّلْم، وإعادة فِعل الطَّرْد دون الاقتصارِ على قوله: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ؛ لإفادةِ تأكيدِ ذلك النَّهيِ .

3- قوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ استئنافٌ مُبيِّن لِمَا نشأ عنه ما سَبَقَ من النهيِ ؛ لأنَّ السَّامِعَ لَمَّا شعر بقصَّةٍ أومَأَ إليها قولُه تعالى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم الآية، يأخُذُه العَجَب من كبرياءِ عُظماءِ أهْلِ الشِّرْكِ، وكيف يَرْضَونَ البقاءَ في ضلالةٍ؛ تكبُّرًا عن غِشْيانِ مَجْلسٍ فيه ضعفاءُ النَّاسِ من الصَّالحين، فأُجيبَ بأنَّ هذا الخَلْقَ العجيبَ فتنةٌ لهم، خَلَقَها اللهُ في نُفوسِهم بسوءِ خُلُقِهم .

- والكاف في قوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ؛ لتأكيدِ ما أفادَه اسمُ الإشارةِ (ذلك) مِن الفخامة ، وتُفيدُ التَّشبيهَ المقصودَ منه التعجُّبُ من المشَبَّهِ، بأنَّه بلغ الغايةَ في العَجَب .

- قوله: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا الاستفهامُ مُستعمَلٌ في التعجُّبِ والإنكارِ، غرضُهُم منه إنكارُ أنْ يُخَصَّ هؤلاءِ مِن بينهم بإصابةِ الحَقِّ، والسَّبْقِ إلى الخيرِ؛ فغَرَضُهم بذلك إنكارُ وقوعِ المنِّ رأسًا على طريقةِ قولِهم: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ، لا تحقيرُ الممنونِ عليهم مع الاعترافِ بوُقوعِه بطريقِ الاعتراضِ عليه تعالى، وإنما قالوا: مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ على سَبيلِ التهكُّم ومجاراةِ الخَصْم؛ إنكارًا منهم لأنْ يكونَ المؤمنون مِن الفُقراءِ والعَبيدِ على الحقِّ، وممنونًا عليهم مِن بَينهم بالخَيرِ، أي: حيثُ اعتقَدَ المؤمنونَ أنَّ اللهَ مَنَّ عليهم بمعرفةِ الحقِّ، وحَرَمَ صناديدَ قريشٍ؛ فلذلك تعجَّبَ أولئكَ من هذا الاعتقادِ، أي: كيف يُظَنُّ أنَّ اللهَ يَمُنُّ على فَقراءَ وعبيدٍ، ويتركُ سادةَ أهْلِ الوادي ؟!

- والإشارةُ هَؤُلَاءِ مستعمَلةٌ في التَّحقيرِ أو التَّعجُّبِ .

- وتقديمُ المُسنَدِ إليه أَهَؤُلَاءِ على الخَبَرِ الفِعليِّ مَنَّ اللَّهُ؛ لقَصْدِ تَقويةِ الخبرِ .

- قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ تذييلٌ للجملةِ كُلِّها؛ فهو من كلامِ اللهِ تعالى، وليس مِن مقولِ القَوْلِ؛ ولذلك فُصِلَ- أي لم يُعْطَف بالواوِ .

- والاستفهامُ في قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؛ لتقريرِ عِلمِه البالغِ بذلك، أي: أليسَ الله بأعلمَ بالشَّاكرين لِنِعَمِه حتى تَستبعِدوا إنعامَه عليهم، وفيه مِنَ الإشارةِ إلى أنَّ أولئك الضُّعفاءَ عارفون بحقِّ نِعَم الله تعالى في تنزيل القرآنِ والتوفيقِ للإيمان، شاكِرون له تعالى على ذلِك، مع التعريضِ بأنَّ القائلين بمعزلٍ من ذلك .

4- قوله: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمة أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

في هذِه الآية مناسبةٌ حسنةٌ؛ إذ سِيقَ هذا المقولُ أحْسَنَ مَساقٍ؛ أمَرَه أوَّلًا أن يقولَ للمؤمنينَ: سلامٌ عليكم، فبدأ أوَّلًا بالسَّلامةِ والأمْنِ لِمَن آمَنَ، ثم خاطَبَهم ثانيًا بوجوبِ الرَّحْمةِ، وأسنَد الكتابةَ إلى ربِّهم، أي: كتَب النَّاظِرُ لكم في مَصالِحِكم، والذي يُرَبِّيكم ويَمْلِكُكم، الرَّحْمةَ؛ فهذا تبشيرٌ بعُمومِ الرَّحْمةِ، ثم أبدلَ منها شيئًا خاصًّا، وهو غُفرانُه ورَحْمَتُه لِمَن تاب وأصلَحَ وهذا على أحدِ الأوجهِ في الآيةِ.

- قوله: وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا عَطْفٌ على قَولِه وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، وهو ارتقاءٌ في إكرامِ الذينَ يَدعونَ رَبَّهُم بالغَداةِ والعَشِيِّ؛ فهم المرادُ بِقَولِه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا؛ وُصِفوا هنا بالإيمان بآياتِ الله عزَّ وجلَّ، كما وُصفوا في الآيةِ التي قبلها بالمداومةِ على عِبادتِه تعالى بالإخلاصِ، وتأخيرُ وصفِهم بالإيمانِ مع تقدُّمه على الوصفِ الأوَّلِ؛ لأنَّ مدارَ الوَعدِ بالرَّحْمة والمغفرةِ هو الإيمانُ بها، كما أنَّ مناطَ النهْيِ عن الطردِ فيما سبَق هو المداومةُ على العبادةِ .

- قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ في التعرُّضِ لعنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم رَبُّكُمْ إظهارُ اللُّطْفِ بهم والإشعارُ بعلَّة الحُكْمِ .

5- قوله: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمينَ الجملةُ تذييلٌ للكلامِ الذي مضى مبتَدَأً بقوله تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهم [الأنعام: 51] .

- والمجرِمون في قوله: سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ هم المشركِون، وُضِعَ الظاهرُ موضعَ المضمرِ؛ للتنصيصِ على أنَّهم المرادُ، ولإجراءِ وصْفِ الإجرامِ عليهم. وخصَّ المجِرمين؛ لأنَّهم المقصودُ من هذه الآياتِ كلِّها؛ لإيضاحِ خفيِّ أحوالِهم للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمسلمين

 

.

====================

 

 

غريب الكلمات

المعنى الإجمالي

تفسير الآيات

الفوائد التربوية

الفوائد العلمية واللطائف

بلاغة الآيات

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (56 - 58)

ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات :

 

أَهْوَاءَكُمْ: جمْعُ هوًى، وهو مَيْلُ النَّفسِ إلى الشَّهوةِ، وأصلُه: الخلوُّ والسُّقوطُ؛ ولذلك يقال للآراءِ الزائفةِ: أهواءٌ

.

بَيِّنَةٍ: أي: بصيرةٍ ودَلالةٍ ويقينٍ وحُجَّةٍ وبُرهانٍ، وأصْلُ (بَيَنَ): الانكشافُ .

الْفَاصِلِينَ: جمْع فاصِلٍ، وهو مَن يُبيِّنُ ويميِّزُ بين المُحقِّ والمبطِل، والفصلُ: إبانةُ أحد الشَّيئين من الآخَرِ، حتى يكون بينهما فُرجةٌ، وأصل (فصل): يدلُّ على تمييزِ الشَّيءِ من الشَّيءِ وإبانتِه عنه

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يأمرُ الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يُخبِرَ المشركينَ أنَّه نُهي عن عِبادةِ جميعِ ما يعبدونَ مِن دونِ الله تعالى، وأن يقولَ لهم: إنَّه لا يتَّبِعُ أهواءَهم الباطلةَ؛ فإنَّه إنِ اتَّبَعَها فقد ضلَّ عن طريقِ الحَقِّ، وما هو من المُهتدينَ إن فعَل ذلك.

وأمَرَه أنْ يُخبِرَهم أنَّه على بيِّنةٍ وبصيرةٍ من ربِّه، بينما هم قد كذَّبوا بالحقِّ الذي جاء مِن عندِ الله، وأنْ يخبِرَهم أيضًا أنَّه ليس بِيَدِه ما يَستعجلونَ به مِن العذابِ.

فالحكمُ لله تعالى وحدَه، إنْ شاء عجَّلَ لكم ما سأَلْتُموه من العذابِ، وإنْ شاء أَنْظَرَكم وأجَّلَكم، بِحَسَب ما تقتضيه حِكْمَتُه، وكلُّ ما يتلوه عزَّ وجلَّ في كتابِه هو الحقُّ الواضِحُ، وهو سبحانه خيرُ من يَفْصِلُ في القضايا، فيُبَيِّن المُحِقَّ من المُبْطِل.

وأَمَرَه أنْ يقولَ لهم: إنَّه لو كان بِيَدِه ما يَستعجلونَه من العذابِ، لعاجَلَهم بإيقاعِ ما يستحقُّونَه منه، لكنْ أمْرُ ذلك إلى اللهِ، وهو أعلمُ بالظَّالمين ومتى يُمْهِلُهم، وأعلمُ بالوقت الذي يُوقِع عليهم فيه العذابَ.

تفسير الآيات :

 

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) .

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا كان محطُّ حالِهم في السُّؤالِ طرْدَ الضُّعفاءِ؛ قَصْدَ اتِّباعِ أهوائِهم- أمَرَه تعالى بأنْ يُخْبِرَهم أنَّه مبايِنٌ لهم- لِمَا بيَّنَ له بالبيانِ الواضِحِ من سوءِ عاقبَةِ سَبيلِهم- مُبايَنةً لا يُمكِنُ معها اتِّباعُ أهوائهم، وهي المُبايَنَة في الدِّين

.

وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى في الآيةِ المتقدِّمةِ ما يدلُّ على أنَّه يُفَصِّلُ الآياتِ؛ ليَظْهَر الحقُّ، وليَسْتَبينَ سبيلُ المُجْرمينَ؛ ذكَرَ في هذه الآيةِ أنَّه تعالى نهى عن سُلُوكِ سَبيلِهم ، فقال تعالى:

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ.

قل- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ المشركينَ الذين يَدْعونَ مع اللهِ آلهةً أخرى: إنَّ رَبِّي نهاني عن عِبادةِ جميعِ المعبوداتِ التي تعبدونَها وتلجؤونَ إليها مِن دُونِه سبحانه .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر: 65-66] .

قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ.

أي: قُلْ لهم- يا محمَّدُ-: لا أتَّبِع أهواءَكم الباطلةَ في عبادةِ غيرِ الله تعالى، والإشراكِ به، ولا أوافِقُكم على ذلك .

قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ.

أي: فإنِ اتَّبعتُ أهواءَكم فقد خرجتُ عن طريقِ الهدى، وصِرْتُ مِثْلَكم على غيرِ استقامةٍ .

قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) .

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا نفَى أنْ يكون الهوى مُتَّبعًا؛ نبَّه على ما يَجِبُ اتِّباعُه .

وأيضًا لَمَّا انتهى تعالى من إبطالِ الشِّرْك بدليلِ الوحيِ الإلهيِّ، المؤيِّدِ للأدلَّة السَّابقةِ في قوله: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ..- انتقلَ إلى إثباتِ صِدْقِ الرِّسالةِ بدليلٍ من الله، مُؤَيِّدٍ للأدلَّةِ السَّابقةِ أيضًا؛ لِيَيْئَسوا من محاولةِ إرجاعِ الرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلام- عن دَعوتِه إلى الإسلامِ، وتَشكيكِه في وَحْيِه بقولِهم: ساحِرٌ، مجنونٌ، شاعرٌ، أساطيرُ الأوَّلينَ، وَلِيَيْئَسوا أيضًا من إدخالِ الشَّكِّ عليه في صِدْقِ إيمانِ أصحابِه، وإلقاءِ الوَحشَةِ بينه وبينهم، بما حاولوا مِن طَرْدِه أصحابَه عن مجلِسِه حين حضورِ خُصُومِه، فأمَرَه الله أن يقولَ لهم إنَّه على يقينٍ مِن أمْرِ ربِّه، لا يتزعزعُ ؛ قال تعالى:

قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي.

أي: قلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاء: إنِّي على بصيرةٍ، وحُجَّةٍ قاطعةٍ، قد أبانت بيقينٍ صِحَّةَ توحيدِ ربِّي مِن غيرِ إشراكِ شيءٍ به، وأوضَحَتْ صِحَّةَ شريعَتِه التي أوحاها إليَّ .

وَكَذَّبْتُم بِهِ.

أي: ولكنَّكم- أيُّها المُشركونَ- كذَّبْتُم بالحَقِّ الذي جاءَني مِن عند الله تعالى، وهو لا يَستحِقُّ هذا منكم، ولا يليقُ به إلَّا الإيمانُ .

مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ.

مناسَبَتُها لما قَبْلَها:

لَمَّا ذَكَر بيِّنَتَه وتكذيبَهم به، قفَّى بِرَدِّ شُبهةٍ تخطُر عند ذلك بالبالِ، ومن شأنِها أنْ يقعَ عنها منهم السُّؤالُ، وهي أنَّ اللهَ أنذَرَهم عذابًا يَحُلُّ بهم إذا أصرُّوا على عنادِهم وكُفْرِهم، ووَعَدَ بأنْ يَنصُرَ رسولَه عليهم، وقد استعجلوا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك، فكان عَدَمُ وقوعِه شبهةً لهم على صِدْق القرآنِ؛ لجَهْلِهم بسُنَنِ الله تعالى في شُؤونِ الإنسانِ، فأمَرَ اللهُ تعالى رسولَه أن يقولَ لهم :

مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ.

أي: ليس الذي تَتعجَّلونَه مِن عذابِ الله تعالى بيَدِي، ولا أنا على ذلك بقادرٍ .

كما حَكَى اللهُ تعالى عنهم أنَّهم قالوا: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص: 16] .

وقال عنهم: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] .

إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ.

أي: إنَّما يرجِعُ أمْرُ ذلك إلى الله تعالى، فإنْ شاء عجَّلَ لكم ما سأَلْتُموه من العذابِ، وإنْ شاء أَنْظَرَكم وأجَّلَكم، بِحَسَب ما تقتضيه حِكْمَتُه، فالحكمُ الكونيُّ، والحُكم الشرعيُّ لله تعالى وحْدَه .

يَقُصُّ الْحَقَّ.

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التفسيرِ:

في قوله تعالى: يَقُصُّ الْحَقَّ قِراءتان:

1- يَقُصُّ من القَصَصِ، فالمعنى: أنَّ جميعَ ما أنبَأَ به اللهُ تعالى أو أمَرَ به؛ فهو مِنَ أقاصيصِ الحَقِّ .

2- يَقْضِ مِنْ: قضَى يقضي: إذا حَكَم وفَصَل؛ فالمعنى: أنَّ اللهَ تعالى يقضي القَضَاءَ الحقَّ .

يَقُصُّ الْحَقَّ.

أي: يتْلو علينا في كتابِه الحقَّ الواضِحَ، الذي لا لبْسَ فيه، والذي تنقَطِعُ به حُجَجُهم .

وعلى قِراءةِ (يَقْضِ الحَقَّ) يكونُ المعنى: يَقضِي القَضاءَ الحقَّ، الذي لا جوْرَ فيه ولا حَيْفَ، بيني وبينكم .

وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ.

أي: وهو خَيْرُ مَن فَصَلَ القضايا، فبَيَّن وميَّز بين المحِقِّ والمبْطِل، وحَكَم بين عِبادِه؛ فأنْصَفَ بينهم، وأحقَّ الحَقَّ سبحانه وتعالى .

قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58).

قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.

أي: قلُ- يا محمَّدُ- لهؤلاء المُستعجلينَ بالعذابِ؛ جهلًا منهم وعنادًا وظلمًا: لو أنَّ بِيَدِي ما تتعجَّلونَه من العذاب لعاجَلْتُكم بإيقاعِ ما تستحقُّونه منه .

وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ.

أي: ولكنَّ ذلك الأمرَ بِيَدِ الله، الذي هو أعلمُ بوقْتِ إرسالِه على الظَّالمينَ الذين يَضَعونَ عبادتَهم- التي لا تَنبغي أنْ تكونَ إلَّا للهِ- في غَيرِ مَوضِعها، فيَعبدونَ مَن دُونَه، وهو أعلمُ بوقْتِ الانتقامِ منهم، ولا يَخفَى عليه شيءٌ مِن أحوالِهم، فيُمْهِلُهم ولا يُهْمِلُهم عزَّ وجلَّ

 

.

الفوائد التربوية :

 

قولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، في قوله: (أهواءكم) تنبيهٌ على السببِ الذي حصَل منه الضَّلالُ، وتنبيهٌ لمن أرادَ اتِّباعَ الحقِّ، ومجانبةَ الباطلِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- بُنِي الفعلُ نُهِيتُ لِمَا لم يُسَمَّ فاعِلُه؛ للاستغناءِ عن ذِكْرِ الفاعِلِ؛ لظُهُورِ المرادِ، أي: نهاني اللهُ

.

2- قوله تعالى: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ فيه تأكيدٌ لقَطْعِ أَطماعِهم، وإشارةٌ إلى الموجِبِ للنَّهيِ، وعلَّةِ الامتناعِ عن متابعَتِهم، وبيانٌ لمبدأ ضلالِهم، والسَّبَبِ الذي منه وقَعُوا في الضَّلالِ وأنَّ ما هم عليه هوًى، وليس بهُدًى، وتنبيهٌ لِمَن تحرَّى الحقَّ على أنْ يتَّبعَ الحُجَّة، ولا يُقلِّد؛ لذا قال: لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ دون (لا أتَّبِعُكم)؛ للإشارةِ إلى أنَّهم في دِينِهم تابعونَ للهَوى، نابذونَ لدليلِ العَقلِ، وفي هذا تجهيلٌ لهم في إقامةِ دِينِهِم على غيرِ أصلٍ مَتينٍ .

3- إنْ قيلَ: فما الجَمْعُ بين قوله في هذه الآيةِ: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ، وبين ما ثَبَتَ في الصَّحيحَينِ مِن قوْلِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِمَلَك الجبالِ حين استأمَرَه ليُطْبِقَ على من آذاه الأَخْشَبينِ، فقال له: ((بَلْ أَرجُو أن يُخْرِجَ اللهُ من أصلابِهم من يَعْبُدُ اللهَ، لا يُشْرِكُ به شيئًا )) ، فقد عَرَضَ عليه عذابَهم واستئصالَهم، فاسْتَأْنَى بهم، وسألَ لهم التأخيرَ؛ لعلَّ اللهَ أن يُخرِجَ مِن أصلابِهم مَن لا يُشْرِكُ به شيئًا؟

فالجوابُ- واللهُ أعلمُ-: أنَّ هذه الآيَةَ دلَّتْ على أنَّه لو كان إليه وقوعُ العذابِ الذي يطلبونَه حالَ طَلَبِهم له؛ لأَوْقَعَه بهم، وأمَّا الحديثُ، فليس فيه أنَّهم سألوه وقوعَ العذابِ بهم، بل عَرَضَ عليه مَلَكُ الجبالِ أنَّه إن شاء أطْبَقَ عليهِمُ الأَخْشَبَينِ- وهما جَبَلا مكَّةَ اللَّذانِ يكتنفانِها جنوبًا وشمالًا- فلهذا استأنى بهم وسألَ الرِّفْقَ لهم .

4- قوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فيه دلالةٌ على أنَّ العَبدَ لا يَقدِرُ على أمرٍ من الأمور إلَّا إذا قضاه اللهُ، فيَمتنِعُ منه فِعلُ الكُفرِ إلَّا إذا قضَى اللهُ وحَكَم به، وكذلك في جميعِ الأفعالِ؛ لأنَّ قولَه: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يُفيد القَصْرَ؛ ففيه ردٌّ على المعتزلةِ الذين يقولون: لا يشاءُ الله تعالى الكُفرَ مِن الكافِرِ، ولا المعصيةَ مِن العاصِي .

5- في قوله: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أُسْنِدَ الفعلُ إلى المفعولِ؛ إشارةً إلى أنَّه لو كان عندَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما يَستعجلونَ به وقُضِيَ؛ لَمَا قُضِيَ إلَّا بمشيئةِ اللهِ تعالى وقُدْرتِه

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قولُه: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ استئنافٌ ابتدائيٌّ عاد به الكلامُ إلى إبطالِ الشِّرْك بالتبرِّي من عبادةِ أصنامِهم، بطريقةٍ أخرى لإبطالِ عِبادةِ الأصنامِ- بعدَ أنْ أبطلَ إلهيةَ الأصنامِ بطريقِ الاستدلالِ- وهي أنَّ اللهَ نهى رسولَه عليه الصَّلاة والسَّلام عن عِبادتِها، وعن اتِّباعِ أهواءِ عَبَدتِها

.

- وأُجْرِيَ على الأصنامِ في قولِه: الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ اسمُ الموصولِ الموضوعِ للعُقلاءِ؛ لأنَّهم عامَلوهم معاملةَ العُقلاءِ، فأتَى لهم بما يَحكي اعتقادَهم، أو لأنَّهم عَبَدوا الجِنَّ وبعضَ البَشَر، فغُلِّبَ العُقلاءُ من معبوداتِهم .

- قوله: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ استئنافٌ آخرُ ابتدائيٌّ، وأُعيدَ الأمرُ بالقولِ قُلْ زيادةً في الاهتمامِ بالاستئنافِ واستقلالِه؛ ليكونَ هذا النفيُ شاملًا للاتِّباعِ في عبادةِ الأصنامِ، وفي غيرِها من ضلالَتِهم . أو كرَّر الأمرَ بقوله: قُلْ مع قُرْبِ العهدِ؛ اعتناءً بشأنِ المأمورِ به، أو إيذانًا باختلافِ المَقولينِ؛ من حيثُ إنَّ الأوَّلَ مِن قَوْلِه: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حكايةٌ لِمَا مِن جِهَتِه تعالى من النَّهيِ، والثاني من قوله: قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ حكايةٌ لِمَا مِن جِهَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من الانتهاءِ عمَّا ذُكِرَ من عبادة ما يعبدونَه .

- قوله: قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ استئنافٌ مؤكِّدٌ لانتهائه عمَّا نُهِيَ عنه، مُقَرِّرٌ لكونِهم في غايةِ الضَّلالِ والغَوايةِ، أي: إنِ اتَّبعتُ أهواءَكم فقدْ ضلَلْتُ .

- وفيه تعريضٌ بأنَّهم ليسوا مِن المُهتدين .

- وقوله: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ مُؤَكِّد لِقَولِه: قَدْ ضَلَلْتُ، والتعبيرُ بالجُملة الاسميَّة في قوله: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ؛ للدَّلالة على الثُّبوتِ والدَّوامِ والاستمرارِ، أي: دوامِ النَّفْي واستمرارِه، لا نفْي الدَّوامِ والاستمرار، وجاءتْ جملةُ قَدْ ضَلَلْتُ فِعْليَّةً؛ لتدُلَّ على التجدُّدِ؛ فحَصلَ نَفْيُ تجدُّدِ الضَّلالِ وثُبوته .

- وقدْ أُتي بالخَبرِ بالجارِّ والمجرور، فقيل: مِنَ الْمُهْتَدِينَ، ولم يقُلْ: (وما أنا مهتدٍ)؛ لأنَّ المقصودَ نفيُ الجملةِ التي خبَرُها مِنَ الْمُهْتَدِينَ؛ فإنَّ التَّعريفَ في الْمُهْتَدِينَ تعريفُ الجِنسِ، فإخبارُ المتكلِّمِ عن نفْسِه بأنَّه مِن المهتدين يُفيد أنَّه واحدٌ من الفِئة التي تُعرَف عندَ الناسِ بفِئة المهتدين؛ فيُفيد أنَّه مهتدٍ إفادةً بطريقةٍ تُشبه طريقةَ الاستدلالِ؛ فهو مِن قَبيلِ الكنايةِ التي هي إثباتُ الشَّيءِ بإثباتِ مَلزومِه، وهي أبلغُ مِن التَّصريحِ .

2- قوله: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ استئنافٌ ابتدائيٌّ مَسوقٌ مَسَاقَ التَّعريضِ بالمُشْركينَ في أنَّهم على اضطرابٍ مِن أمْرِ آلهَتِهِم، وعلى غيرِ بصيرةٍ .

- وتنكيرُ لفظةِ بَيِّنَةٍ للتفخيم .

- قوله: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ الباءُ التي عُدِّيَ بها فِعلُ كَذَّبْتُمْ هي لتأكيدِ لُصوقِ معنى الفعلِ بمفعولِه؛ كما في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ [المائدة: 6] ؛ فلذلك يدُلُّ فعْلُ التكذيبِ إذا عُدِّيَ بالباءِ على معنى الإنكارِ، أي: التكذيبِ القَوِيِّ .

- قوله: ما عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ حالَهم في الإصرارِ على التَّكذيبِ، مِمَّا يزيدُهم عِنادًا عندَ سَماعِ تَسْفيهِ أحلامِهم، وتنقُّصِ عقائِدِهم .

- قوله: وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ اعتراضٌ تذييليٌّ مُقَرِّرٌ لمضمونِ ما قبله، مشيرٌ إلى أنَّ قَصَّ الحقِّ هاهنا بطريقٍ خاصٍّ هو الفصلُ بين الحَقِّ والباطِلِ، هذا هو الذي تستدعيه جزالةُ التَّنزيلِ .

3- قوله: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ قولَه: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يُثيرُ سؤالًا في نفس السامِعِ؛ أن يقول: فلو كان بِيَدِك إنزالُ العذابِ بهم، ماذا تصنعُ؟ فأجيب بقوله: لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ... .

- قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ تذييلٌ، أي: اللهُ أعلمُ منِّي ومِن كلِّ أحدٍ بحكمةِ تأخيرِ العذابِ، وبوقْتِ نزولِهِ؛ لأنَّه العليمُ الخبيرُ، الذي عنده ما تستعجلونَ به ، وهو في معنى الاستدراكِ؛ كأنه قال: ولكنَّ الأمْرَ إلى الله سبحانه وتعالى، وهو أعلمُ بمن ينبغي أن يُؤخَذَ وبِمَن ينبغي أن يُمْهَلَ منهم .

- والتعبيرُ بالظَّالمينَ في قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ إظهارٌ في مقامِ ضميرِ الخطاب، والمعنى: (واللهُ أعلمُ بكم)؛ فوُضِعَ الظَّاهِرُ المُشعِرُ بوصْفِهِم بالظُّلم موضعَ المضمَر؛ لإشعارِهم بأنَّهم ظالمونَ في شِرْكِهم؛ إذِ اعتَدَوْا على حقِّ الله، وظالمونَ في تكذيبِهم؛ إذ اعتَدَوْا على حقِّ اللهِ ورسولِه، وظالمونَ في معامَلَتِهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ

 

.=====================

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (59 - 62)

ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غريب الكلمات :

 

جَرَحْتُمْ: أي: كَسَبْتُم، والاجتراحُ: اكتسابُ الإِثْمِ، وأصلُ (جَرَحَ): الكسْبُ، وشقُّ الجِلْد

.

تَوَفَّتْهُ: أي: بالموتِ؛ يقال: توفَّيْتُ الشَّيءَ واستوفيتُه، إذا أخَذْتَه كُلَّه حتَّى لم تتركْ منه شيئًا، ومنه يُقال للميِّت: تَوفَّاه اللهُ، وأصلُ (وفى) يدلُّ على إكمالٍ وإتمامٍ،  ومنه الوفاءُ: تمامُ الشَّيء، وإتمامُ العَهدِ، والقيامُ بمقتضاه، وإكمالُ الشَّرطِ .

لَا يُفَرِّطُونَ: أي: لا يُضَيِّعون ما أُمِروا به، ولا يُقَصِّرونَ فيه، وأصل (فرط): يدلُّ على إزالةِ شيءٍ من مكانِه، وتنحيتِه عنه

 

.

مشكل الإعراب :

 

قوله تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ

وَرَقَةٍ: فاعل تَسْقُطُ وهو مجرورٌ لفظًا، مرفوعٌ محلًّا بضمَّة مُقدَّرة؛ لاشتغالِ مَحلِّها بحركةِ حرْفِ الجرِّ الزَّائد، ومِنْ زائدةٌ للتأكيدِ، أفادتِ العمومَ، وقوله: إِلَّا يَعْلَمُهَا حالٌ من وَرَقَةٍ، وجاءتِ الحالُ مِن النَّكرةِ؛ لاعتمادِها على النَّفيِ، والتقدير: ما تَسقطُ مِن ورقةٍ إلَّا عالِمًا هو بها. ويجوزُ أنْ تكونَ الجملةُ نعتًا لورقةٍ.

وَلَا حَبَّةٍ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ: كلُّها مجرورةٌ، عَطفًا على لفْظِ وَرَقَةٍ.

إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ: استثناءٌ جارٍ مجرَى التوكيدِ، وهو بدلٌ مِن الاستثناءِ الأوَّلِ إِلَّا يَعْلَمُهَا بدلَ الكلِّ- على أنَّ الكتابَ الْمُبِينَ عِبارةٌ عن عِلمِه تعالى- أو بدلَ الاشتمالِ على أنَّه عبارةٌ عن اللَّوحِ المحفوظِ. وقد قُرِئ الأخيرانِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ بالرَّفعِ، عطفًا عَلى محلِّ وَرَقَةٍ. وقيل: رفْعُهما بالابتداءِ، والخبرُ حينئذٍ قولُه: إِلَّا فِي كتاب مُّبِينٍ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبرُ تعالى أنَّ عنده خزائنَ الغيبِ لا يعلَمُها إلَّا هو سبحانه، ويعلمُ ما في البَرِّ والبحر، وما مِن ورقةِ شَجَرٍ تسقطُ إلَّا وهو يعلَمُها، ولا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرضِ، ولا شيءٍ رَطْبٍ ولا يابسٍ إلَّا وهو مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ.

وهو تعالى الذي يَقْبِضُ أرواحَ الخلْقِ باللَّيلِ عند النَّومِ، ويَعلمُ ما كَسَبوا من أعمالٍ بالنهارِ، ثم يُوقِظُهم مِن منامِهِم؛ ليقْضِيَ اللهُ الأجَلَ الذي حدَّدَه لحياتِهم، ثُمَّ إليه وَحْدَه عزَّ وجلَّ مرجِعُهم يومَ القيامةِ، ثم يُخبِرُهم بما كانوا يَعملونَه في حياتِهم.

وهو عزَّ وجلَّ القاهرُ فوقَ عبادِه، الذي خضَعَ له كلُّ شيءٍ، وهو الذي يُرسِلُ على العبادِ حفَظَةً من الملائكةِ؛ حتى إذا جاء أحدًا من العبادِ الموتُ، تَوَفَّتْه رسلُ اللهِ من الملائكةِ، وهم لا يُفَرِّطونَ.

ثمَّ بعدَ الموتِ يُرَدُّون إلى اللهِ مولاهُمُ الحَقِّ، هو وحْدَه مَن له الحُكْم، فيتولَّى الحُكْمَ بينهم بالعَدْلِ، وهو أسرَعُ الحاسبينَ.

تفسير الآيات :

 

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) .

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وقال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ بعد قَولِه: مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، انتَقل من خاصٍّ إلى عامٍّ، وهو عِلْمُ اللهِ بجَميعِ الأمورِ الغيبيَّةِ؛ فقال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ؛ فاندرَجَ في هذا العامِّ ما استعجلوا وقوعَه وغَيْرُه

.

وأيضًا لَمَّا أمَرَ الله تعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُبَيِّنَ للمشركينَ أنَّه على بَيِّنةٍ من رَبِّه فيما بلَّغَهم إيَّاه من رسالَتِه، وأنَّ ما يَستعجلونَ به من عذابِ اللهِ ونَصْرِه عليهم- تعجيزًا أو تهكُّمًا أو عنادًا- ليس عنده، وإنَّما هو عند الله، الذي قَضَتْ سُنَّتُه أن يكون لكُلِّ شيءٍ أجَلٌ وموعِدٌ، لا يَتقدَّمُ ولا يتأخَّرُ عنه، وأنَّه تعالى هو الذي يَقضي الحَقَّ، ويقُصُّه على رسولِه، وبِيَدِه تنفيذُ وَعْدِه ووعيدِه- قفَّى على ذلك ببيانِ كونِ مفاتحِ الغيبِ عنده، وكونِ التصرُّفِ في الخَلْق بِيَدِه، وكونِه هو القاهِرَ فوقَ عِبادِه، لا يُشارِكُه أحدٌ مِن رُسُلِه ولا غيرُهم في ذلك حتى يصِحَّ أن يُطالِبُوا به ، فقال عزَّ وجلَّ:

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ.

أي: وعندَه خزائنُ الغيبِ، فيعلَمُ جميعَ ما غاب عن خَلْقِه، فلم يَطَّلِعوا عليه، وأعلَمُ المخلوقاتِ- وهم الرُّسُلُ والملائكةُ- لا يَعلمونَ من الغيبِ إلَّا ما عَلَّمَهم اللهُ تعالى، وهو تعالى يُعَلِّم رسُلَه مِن غَيْبِه ما شاء .

كما قال سبحانه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران: 179] .

وقوله: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 26-27] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34] .

وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((مفاتيحُ الغيبِ خَمسٌ، لا يَعلمُها إلَّا اللهُ: لا يَعلمُ ما في غَدٍ إلَّا اللهُ، ولا يَعلمُ ما تَغيضُ الأرحامُ إلَّا اللهُ، ولا يَعلمُ متى يأتي المطرُ أحدٌ إلَّا اللهُ، ولا تَدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ، ولا يعلمُ متى تقومُ السَّاعةُ إلَّا اللهُ )) .

وعن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، أنَّها قالت: ((... ومَن زعمَ أنَّه- أي النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم- يُخبرُ بما يَكونُ في غدٍ، فقد أعظمَ علَى اللهِ الفِرْيَةَ، واللهُ يقولُ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] )) .

وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.

أي: ويَعلمُ أيضًا مع ذلك جميعَ ما يعلَمُه النَّاسُ، فعِلمُه مُحيطٌ بجميعِ الموجوداتِ، بَرِّيِّها وبَحْرِيِّها؛ لا يَخفى عليه من ذلك شيءٌ، فيَعلمُ ما في البَراري والقِفَار؛ من الحيواناتِ والأشجارِ، والرِّمالِ والحَصَى والتُّراب، وغيرِ ذلك، وما في البحارِ؛ مِن حيواناتِها ومعادِنِها وصَيْدِها، وغير ذلك .

وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا.

أي: وما مِن ورقةِ شَجَرٍ تقَعُ في أيِّ مكانٍ من الأرض إلَّا واللهُ عزَّ وجلَّ يَعْلَمُها، فهو سبحانَه يعلمُ الحركاتِ حتى مِن الجماداتِ .

وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ.

أي: وَلا حَبَّةٍ من حبوبِ الثِّمارِ والزُّروعِ، وحبوبِ البُذورِ التي يَبْذُرها الخَلْقُ؛ وبُذورِ النَّوابِتِ البَرِّيَّة التي يُنشئُ منها أصنافَ النَّباتاتِ، مظروفةٍ في ظُلُماتِ الأَرْضِ؛ لا تحولُ بينها وبين رؤيةِ الله تعالى لها وعِلْمِه بها، وكذا كلُّ شيءٍ آخَرَ من رطْبٍ أو يابسٍ؛ قد أُثْبِتَ في اللَّوحِ المحفوظِ، مكتوبًا فيه عدَدُه ومَبْلَغُه، والوَقْتُ الذي يوجَدُ فيه، والذي يَفنى فيه، وغير ذلك، واللَّوحُ المحفوظُ يُبِينُ عن صِحَّة ما أُثبتَ فيه بوجودِ الشَّيءِ في الواقع، كما أُثبِتَ من قبلُ .

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا ذكر تعالى استئثارَه بالعِلْم التامِّ للكليَّاتِ والجزئيَّاتِ؛ ذكَرَ استئثارَه بالقُدرةِ التامَّةِ؛ تنبيهًا على ما تختصُّ به الإلهيَّةُ، وذَكَرَ شيئًا محسوسًا قاهرًا للأنام، وهو التوفِّي باللَّيلِ، والبَعْثُ بالنَّهارِ وكِلاهما ليس للإنسان فيه قُدرةٌ، بل هو أمرٌ يُوقِعُه اللهُ تعالى بالإنسانِ ، فقال تعالى:

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ.

أي: واللهُ هو الذي يتوفَّى أرواحَكم باللَّيلِ وفاةَ النَّومِ، فيَقبِضُها من أجسادِكم .

كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر: 42] .

وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ.

أي: ويعلمُ ما كَسَبْتُم من الأعمالِ بالنَّهارِ .

ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى.

أي: ثم يُوقِظُكم مِنْ منامِكم في النَّهارِ؛ ليقضِيَ اللهُ الأجَلَ الذي حدَّده لحياتِكم، فيَبْلُغَ مدَّتَه ونهايَتَه .

ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.

مناسبتها لما قبلها:

لَمَّا ذَكَر تعالى أنَّه يُنيمُهم أولًا، ثمَّ يُوقظُهم ثانيًا؛ كان ذلك جاريًا مجْرَى الإحياءِ بعدَ الإماتةِ؛ لا جَرَمَ استدلَّ بذلِك على صِحَّةِ البعثِ والقِيامة، فقال :

ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ.

أي: ثمَّ إلى الله وَحْدَه معادُكم ومصيرُكم يومَ القيامةِ .

ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.

أي: ثم يُخبِرُكم بما كنتُم تَعملونَه في حياتِكم الدُّنيا، ويُجازيكم بذلك، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ .

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ (61) .

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا ذكَر الله تعالى في الآيةِ السابقةِ النَّومَ والموتَ، وهو سبحانَه خلَقَهما، فغَلَبَا شِدَّةَ الإنسانِ كيفَما بلغَتْ- بَيَّنَ عَقِبَ ذِكْرِهما أنَّ الله هو القادِرُ الغالِبُ دونَ الأصنامِ، فالنَّومُ قهْرٌ؛ لأنَّ الإنسانَ قد يُريدُ ألَّا ينامَ فيغْلِبُه النَّومُ، والموْتُ قهْرٌ، وهو أظْهَرُ ، فقال تعالى:

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ.

أي: واللهُ تعالى هو الذي قَهَر كلَّ شيءٍ، وخضَعَ له كلُّ شيءٍ، الغالِبُ خَلْقَه بقُدرَتِه، العالي عليهم بتذليلِه لهم، وخلقِه إيَّاهم، النافذةُ فيهم مَشيئَتُه؛ فليسوا يَملِكونَ مِن الأَمرِ شيئًا، ولا يَتحرَّكون أو يَسكُنونَ إلَّا بإذْنِه سبحانَه .

وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً.

أي: وَقد وكَّلَ بكم حَفَظةً من الملائكةِ؛ يحفظونَكم، ويَحفظونَ عليكم أعمالَكم ويُحْصُونها .

كما قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] .

وقال سبحانه: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10- 12].

حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ.

أي: إنَّ ربَّكم يحفَظُكم وأعمالَكم في حياتِكم، بالملائِكَةِ الموَكَّلين بكم، إلى أنْ يَحْضُرَكم الموتُ، فإذا جاء ذلك أحدَكم تَوفَّتْه ملائكَتُنا الموَّكلونَ بقَبْضِ الأرواح، لا يَزيدونَ ساعةً ممَّا قَدَّرَه اللهُ وقَضَاه، ولا يَنْقُصونَ، ولا يُنَفِّذونَ ذلك إلَّا بحَسَب التقاديرِ الرَّبانيَّةِ، ولا يُفرِّطون أيضًا في حِفْظ رُوحِ المتوفَّى، بل يحفظونَها ويُنْزِلونَها حيثُ شاءَ الله تعالى، فإنْ كان مِن الأبرارِ فهو في عِلِّيِّينَ، وإنْ كان مِن الفُجَّار فهو في سِجِّينٍ .

ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62).

ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ.

أي: ثمَّ بعدَ الموتِ والحياةِ البَرزَخِيَّة يُرَدُّ العبادُ المُتَوفَّونَ بالموتِ، فيَرْجِعون يومَ القيامةِ إلى الله سَيِّدِهم، الذي تولَّى أمورَهم بحُكْمِه القَدَريِّ، فنَفَّذَ فيهم ما شاءَ مِن تَدبيرِه، وتولَّاهم بحُكْمِه الشَّرعيِّ، فأَرْسَل إليهم الرُّسُلَ، وأنزَلَ عليهم الكُتُبَ، وتولَّى رَزْقَهم وبَعْثَهم وغيرَ ذلك، وهو سبحانه الحقُّ الذي ليس بباطلٍ .

أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ.

أي: رُدُّوا إليه؛ ليتولَّى الحُكمَ فيهم بالعَدْلِ، فيُثِيبَهم على ما قدَّموا من الخيراتِ، ويُعاقِبَهم على ما اكتْسَبُوا من السيِّئاتِ؛ فله سبحانه وَحْدَه الحُكمُ والقَضاءُ دون مَن سواه مِن جميعِ خَلْقِه .

وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ.

أي: وهو أسرَعُ مَن حَسَب عَددَكم وأعمالَكم وآجالَكم، وغيرَ ذلك من أمورِكم- أيُّها النَّاسُ- وأحصاها وعَرَفَ مَقاديرَها ومَبَالِغَها، لا يَخفَى عليه منها خافيةٌ؛ لكمالِ عِلْمِه وحِفْظِه لأعمالِكم

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ذِكْرُه تعالى للورقةِ والحَبَّةِ فيه تنبيهٌ للمُكَلَّفينَ على أمْرِ الحِسابِ، وإعلامٌ بأنَّه لا يَفوتُه مِن كُلِّ ما يَصنعونَ في الدُّنيا شيءٌ؛ لأنَّه إذا كان لا يُهْمِلُ من الأحوالِ التي ليس فيها ثوابٌ وعقابٌ وتكليفٌ، فبأَلَّا يُهْمِلَ الأحوالَ المشتمِلَةَ على الثَّوابِ والعقابِ أَوْلى

.

2- قال تعالى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ في الإخبارِ أنَّه عزَّ وجلَّ يَعلمُ ما يقَعُ في النَّهارِ تَحذيرٌ مِن اكتِسابِ ما لا يَرْضَى اللهُ باكتِسابِه بالنِّسبةِ للمُؤمنينَ، وتهديدٌ للمُشركينَ .

3- في قوله تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً التَّحذيرُ مِن ارتِكابِ المعاصي .

4- قال تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ، فقوله: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ يَتضمَّنُ وعدًا ووعيدًا؛ لأنَّه لَمَّا أُتِيَ بِحَرْف المُهْلَةِ في الجمَل المتقدِّمةِ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ..، وكان المُخاطَبونَ فريقَينِ: فريقٌ صالِحٌ، وفريقٌ كافِرٌ، وذَكَرَ أنَّهم إليه يُرجَعونَ؛ فالصَّالحونَ لا يُحِبُّون المُهلَةَ، والكافِرونَ بعَكْسِ حالِهِم، فعُجِّلَتِ المَسَرَّةُ للصَّالحين، والمَسَاءَةُ للمُشركينَ بقوله: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ هذه الآيةُ دلَّتْ على عِلْمِه المحيطِ بجميعِ الأشياءِ؛ الذي لا يَنِدُّ عنه شيءٌ في الزَّمانِ ولا في المكانِ، في الأَرْضِ ولا في السَّماءِ، في البَرِّ ولا في البَحرِ، في جوفِ الأرضِ ولا في طِباقِ الجَوِّ، من حيٍّ ومَيِّتٍ ويابسٍ ورَطْبٍ، كما أفادتْ أيضًا عُمومَ عِلمِه تعالى بالكليَّاتِ والجُزئيَّاتِ، وفي هذا إبطالٌ لقولِ جمهورِ الفلاسفةِ أنَّ اللهَ يعلمُ الكليَّاتِ خاصَّةً، ولا يَعلَمُ الجزئيَّاتِ

.

2- في قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ... دقيقةٌ جليلةٌ، وهي: أنَّ قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ لما كان قضيَّةً عقليَّةً محضة مجردة، ذَكَر بعده مِثالًا من الأمورِ المحسوسةِ الداخلةِ تحتَ القضيَّةِ العقليَّةِ الكليَّةِ المحضةِ المجرَّدة؛ ليصيرَ ذلك المعقولُ- بمعاونةِ هذا المثالِ المحسوسِ- مفهومًا لكلِّ أحد؛ فقال أولًا: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، ثمَّ أكَّد هذا المعقولَ الكليَّ المجرَّدَ بجزئيٍّ محسوسٍ فقال: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؛ وذلك لأنَّ أحدَ أقسامِ مَعلوماتِ اللهِ هو جميعُ دوابِّ البَرِّ والبَحرِ، والحسُّ والخيالُ قد وقَفَ على عظمةِ أحوالِ البَرِّ والبحرِ، فذِكْرُ هذا المحسوسِ يَكشِفُ عن حقيقةِ عظمةِ ذلك المعقولِ .

3- في قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ الحكمةُ مِن تَخصيصِ هذه الأشياءِ بالذِّكْرِ: أنَّ المعلومَ أو ما يتعلَّقُ به العِلْمُ: إمَّا موجودٌ، وإمَّا معدومٌ، والموجودُ إمَّا حاضِرٌ مشهودٌ، وإمَّا غائِبٌ في حُكم المفقودِ، وليس في الوجودِ شيءٌ غائِبٌ عن اللهِ تعالى، فعِلْمُه تعالى بالأشياءِ إمَّا عِلْمُ غيبٍ، وهو عِلْمُه بالمعدومِ، وإمَّا عِلْمُ شهادةٍ، وهو عِلْمُه بالموجودِ، وأمَّا أهلُ العِلم مِن الخَلْقِ فمِنَ الموجوداتِ ما هو حاضِرٌ مشهودٌ لدَيهم، ومنها ما هو حاضِرٌ غيرُ مشهودٍ؛ لأنَّه لم يَخْلُق لهم آلَةً للعِلم به؛ كعالَم الجِنِّ والملائكةِ مع الإنس، ومنها ما هو غائِبٌ عن شُهودِهم، وهم مستعِدُّونَ لإدراكِه، لو كان حاضرًا، وما هو غائبٌ وهم غيرُ مستعِدِّينَ لإدراكِه لو حضَر، فكلُّ ما خُلِقوا غيرَ مستعدِّينَ لإدراكِه من موجودٍ ومعدومٍ؛ فهو غيبٌ حقيقيٌّ بالنِّسبةِ إليهم، وكلُّ ما خُلِقوا مُستعَدِّينَ لإدراكِه دائمًا أو في بعضِ الأحوال فهو- إنْ غاب عنهم- غيبٌ إضافيٌّ، وقد بيَّنَ اللهُ تعالى لنا في هذه الآيةِ أنَّ خزائِنَ عالَمِ الغَيبِ كلَّها عنده، وعنده مفاتيحُها وأسبابُها المُوصِلَة إليها، وأنَّ عنده مِن عِلْمِ الشَّهادة ما ليس عند غيرِه، وذَكَرَ على سَبيلِ المَثَل عِلْمَه بكلِّ ما في البرِّ والبحرِ مِن ظاهِرٍ وخفيٍّ، ثم خَصَّ بالذِّكْرِ ثلاثةَ أشياءَ مِمَّا في البرِّ: إحاطة عِلْمِه بكلِّ ورقةٍ تَسقُط مِن نَبْتَةٍ، وكلِّ حبَّة تسقُطُ في ظلماتِ الأرضِ، وكُلِّ رَطْبٍ ويابسٍ؛ فهذه الأشياءُ مِن عالَم الشَّهادةِ تدخُلُ في عالَم الغيبِ، ثم تَبْرُز في عالَم الشَّهادةِ، وعِلْمُ اللهِ تعالى محيطٌ بكلِّ شيءٍ منها على كَثرَتِها، ودِقَّةِ بعضِها وصِغَرِه، وتنقُّلُه في أطوارِ الخَلْقِ والتَّكوينِ، وما يَتْبَعُهما من الصُّوَر والمَظاهِرِ، وحَسْبُكَ هذا الإيماءُ مِن حِكمةِ تخصيصِها بالذِّكْرِ .

4- قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ لَمَّا جاءَ القُرآنُ العظيمُ بأنَّ الغيبَ لا يَعلمُه إلَّا اللهُ، كان جميعُ الطُّرُق التي يُرادُ بها التوصُّل إلى شيءٍ من عِلْمِ الغيب- غيرَ الوَحْيِ- مِنَ الضَّلالِ المُبِينِ، وبعضٌ منها يكون كُفْرًا؛ ولذا ثبَتَ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قال: ((مَنْ أتى عَرَّافًا فسأَلَه عن شيءٍ، لم تُقْبَلْ له صلاةٌ أربعينَ ليلة )) ، ولا خِلافَ بين العُلماء في مَنْعِ العِيافَةِ ، والكَهَانةِ ، والعِرَافةِ ، والطَّرْقِ ، والزَّجْرِ ، والنُّجومِ ، وكلُّ ذلك يدخُلُ في الكَهانة؛ لأنَّها تَشمَلُ جميعَ أنواعِ ادِّعاءِ الاطِّلاعِ على عِلْمِ الغَيبِ، وقد سُئِلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الكُهَّانِ، فقال: ((لَيْسُوا بِشَيْءٍ)) .

5- قوله: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ دلَّ على إثباتِ عِلْمِ اللهِ تعالى، دون نَفْيِ عِلْمِ غيرِه، وذلك عِلْمُ الأمورِ الظَّاهرة، وقد عُطِفَ على جُملةِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، أو على جملةِ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ المشتملَتَينِ على إثباتِ عِلْمٍ لله ونَفْي عِلْمٍ عن غيره؛ لإفادةِ تعميمِ عِلْمِه تعالى بالأشياءِ الظَّاهِرَة المتفاوِتَةِ في الظُّهورِ، بعدَ إفادَةِ عِلْمِه بما لا يَظهَرُ للنَّاسِ .

6- لَمَّا كَشَف الله عن عظمةِ قَوْلِه: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ بِذْكر البَرِّ والبحر في قوله: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ- كشَفَ عن عظمةِ البَرِّ والبحر بقوْلِه: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا؛ وذلك لأنَّ العقلَ يستحضِرُ جميعَ ما في وَجْهِ الأرض من المُدُن والقرى، والمفاوِزِ والجبالِ والتِّلالِ، ثم يَستحضِرُ كَمْ فيها من النَّجْم والشَّجَر، ثم يَستحضرُ أنَّه لا يتغيَّرُ حالُ ورقةٍ إلَّا والحقُّ سبحانه يعلَمُها، ثمَّ يتجاوَزُ من هذا المثال إلى مثالٍ آخَرَ أشَدَّ هيئةً منه، وهو قوله: وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ؛ وذلك لأنَّ الحبَّةَ في غاية الصِّغَر، وظُلُمات الأرضِ موضِعٌ يَبْقى أكبرُ الأجسامِ وأعظَمُها مَخفيًّا فيها، فإذا سمع أنَّ تلك الحبَّةَ الصغيرة المُلْقاةَ في ظلماتِ الأرض، على اتِّساعها وعَظَمتِها، لا تخرجُ عن عِلْم الله تعالى البتَّةَ، صارتْ هذه الأمثلة منبهةً على عظمةٍ عظيمةٍ، وجلالةٍ عاليةٍ من المعنى المشار ِإليه بقوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ بحيث تتحيَّرُ العقولُ فيها، وتتقاصرُ الأفكارُ والألبابُ عن الوصولِ إلى مباديها، ثم إنَّه تعالى لَمَّا قَوَّى أمْرَ ذلك المعقولِ المَحْضِ المجرَّد بذِكر هذه الجزئيَّاتِ المحسوسَةِ- فبَعْدَ ذِكْرِها عاد إلى ذِكر تلك القضيَّةِ العقليَّة المحضةِ المجرَّدةِ بعبارةٍ أخرى فقال: وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وهو عينُ المذكورِ في قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ .

7- في قولِه تعالى: وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، قد يقولُ قائلٌ: ما وَجْهُ إثباتِه تعالى في اللَّوحِ المحفوظِ والكتابِ الْمُبينِ ما لا يَخْفَى عليه، وهو بجَميعِه عالِمٌ لا يُخافُ نِسيانُه؟ قيل: للهِ تعالى فِعْلُ ما شاء. وجائِزٌ أنْ يكونَ كان ذلك منه امتحانًا منه لِحَفَظَته، واختبارًا للمُتَوِكِّلينَ بكتابةِ أعمالهم؛ فإنَّهم فيما ذُكِرَ مأمورونَ بكتابةِ أعمالِ العبادِ، ثم بِعَرْضِها على ما أثْبَتَه اللهُ من ذلك في اللَّوح المحفوظِ، حتى أثبَتَ فيه ما أثبتَ كلَّ يومٍ. وقيل: إنَّ ذلِك معنى قوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29] ، وجائزٌ أنْ يكونَ ذلك لغيرِ ذلك ممَّا هو أعلمُ به، إمَّا بحُجَّةٍ يحتجُّ بها على بعضِ ملائِكَتِه، وإمَّا على بَني آدَمَ، وغير ذلك .

8- في قولِه: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أَسْنَدَ اللهُ عزَّ وجلَّ التوفِّي إلى ذَاتِه المقدَّسةِ؛ لأنَّه لا يُنفَرُ منه هنا؛ إذِ المرادُ به النومُ، وهو وسيلةٌ للدَّعةِ والرَّاحةِ، وأَسْنَدَه إلى غَيرِه في قوله: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا، وقوله: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة: 11] ؛ لأنَّه يُنفَر منه، إذ المرادُ به الموتُ .

9- إنَّما قال: فَوْقَ عِبَادِهِ؛ لأنَّه وصَفَ نَفسَه تعالى بقَهرِه إيَّاهم، ومِن صِفَةِ كُلِّ قاهِرٍ شيئًا، أن يكونَ مُستعلِيًا عليه .

10- قوله تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ذَكَر العلماءُ في الفائدةِ مِن جَعْل الملائكةِ مُوكَّلينَ على بَني آدَمَ يَكتُبون أعمالَهم وُجوهًا؛ منها: أنَّ المكلَّفَ إذا عَلِمَ أنَّ الملائكةَ- وهم الكرامُ الكاتبون- مُوكَّلونَ به؛ يُحصُونَ عليه أعمالَه، ويكتبونها في صحائف تُعرَضُ على رُؤوسِ الأشهادِ في مواقفِ القِيامة؛ فإذا عَلِم أنَّ أعمالَه تُكتَب عليه وتُعرَضُ على رؤوس الأشهاد، كان هذا أَزْجرَ له عن القبائحِ والمعاصِي، وأنَّ العبدَ إذا وَثِق بلُطفِ سَيِّدِه، واعتمَدَ على عَفْوِه وسَتْرِه، لم يَحتشِمْ منه احتشامَه مِن خَدَمِه المطَّلعين عليه. ومنها: أنَّه يحتملُ في الكتابةِ أنْ يكونَ الفائدةُ فيها أنْ تُوزَنَ تلك الصَّحائفُ يومَ القيامةِ. ومنها: أنَّ الله تعالى يَفعلُ ما يشاءُ ويَحكُمُ ما يُريد، ويجِبُ علينا الإيمانُ بكلِّ ما ورَدَ به الشرعُ، سواء عقَلَنْا الوجهَ فيه أو لم نعقِلْ .

11- في قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ دليلٌ على ثُبُوتِ عِصْمَةِ الملائكةِ على الإطلاقِ، كما قال تعالى: لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ .

12- الجَمْعُ بين قولِه هنا: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا، وقولِه: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِيْنَ مَوْتِهَا [الزمر: 42] ، وقولِه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة: 11] أنَّ المُتَوَفِّي في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى، فإذا حضَرَ أجَلُ العبدِ أَمَرَ اللهُ تعالى ملَكَ الموتِ أن يقبِضَ رُوحَه، ولِمَلَكِ الموتِ أعوانٌ من الملائكةِ، يأمُرُهم بِنَزْع رُوحِ ذلك العبدِ مِن جَسَدِه، فإذا وَصَلَتْ إلى الحُلقومِ تَوَلَّى قَبْضَها مَلَكُ الموتِ بِنَفْسِه، فحصل الجمعُ بين الآياتِ .

13- وَصْفُ الاسمِ الكريم بـ(مولاهم الحَقِّ) في قوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ يدلُّ على أنَّ رَدَّهُم إليه حَتْمٌ؛ لأنَّه هو سيِّدُهم الحقُّ الذي يتولَّى أمورَهم، ويَحْكُم بينهم بالحَقِّ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ

- قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ... عطْفٌ على جملةِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ على طَريقةِ التخلُّصِ، والمناسبةُ في هذا التخلُّص هي الإخبارُ بأنَّ اللهَ أعلَمُ بحالةِ الظَّالمينَ؛ فإنَّها غائبةٌ عن أعيُنِ النَّاسِ، فاللهُ أعلمُ بما يناسِبُ حالَهم من تَعجيلِ الوعيدِ أو تأخيرِه، وهذا انتقالٌ لبيانِ اخْتِصاصِه تعالى بعلمِ الغيبِ، وسَعَةِ عِلمِه، ثُمَّ سَعَةِ قدرتِه، وأنَّ الخلقَ في قبضَةِ قدرتِه

.

- وتقديمُ الظَّرفِ وَعِنْدَهُ؛ لإفادةِ الاختصاصِ، أي: عِندَه لا عِنْدَ غيرِه .

- قوله: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قُدِّمَ ذِكْرُ البَرِّ؛ لأنَّ الإنسانَ قد شاهَدَ أحوالَ البَرِّ، وكثرةَ ما فيه من المُدُنِ والقُرى والمَفاوِز والجبالِ والتِّلالِ، وكثرةَ ما فيها من الحيوانِ والنَّباتِ والمعادِن. وأمَّا البحرُ فإحاطةُ العَقلِ بأحوالِه أقَلُّ إلَّا أنَّ الحِسَّ يدلُّ على أنَّ عجائِبَ البِحارِ في الجملةِ أكثرُ، وطُولُها وعَرْضُها أعظمُ، وما فيها من الحيواناتِ وأجناسِ المخلوقاتِ أعجَبُ. فإذا استحضَرَ الخَيالُ صورةَ البحرِ والبَرِّ على هذه الوجوهِ، ثمَّ عَرَفَ أنَّ مجموعَها قِسْمٌ حقيرٌ من الأقسامِ الدَّاخِلةِ تحت قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ فيصيرُ هذا المثالُ المحسوسُ مُقَوِّيًا ومُكَمِّلًا للعظمةِ الحاصِلَةِ تحت قولِه: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ . أو قُدِّم ذِكرُ البَرِّ على البَحرِ على طريقةِ الترقِّي مِن الأدْنَى إلى ما هو أعظمُ منه؛ فإنَّ قِسمَ البَحرِ من الأرضِ أعظمُ مِن قِسم البَرِّ، وخفاياه أكثرُ وأعظمُ .

- قوله: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ عطْفٌ على جملةِ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؛ لقَصْدِ زيادةِ التَّعميمِ في الجزئيَّاتِ الدَّقيقةِ؛ فإحاطَةُ العِلْمِ بالخفايا مع كونِها مِن أضْعَفِ الجزئيَّاتِ مؤذِنٌ بإحاطَةِ العِلْمِ بما هو أعظَمُ وأَوْلى به .

- وزيادةُ حرفِ مِنْ؛ لتأكيدِ النَّفْيِ؛ ليفيدَ العمومَ نصًّا .

- قوله: لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ فيه تأكيدٌ لمضمونِ ما قبله، وإيذانٌ بأنَّ المرادَ هو الاختصاصُ من حيثُ العلمُ، لا مِن حيثُ القدرةُ، أي: إنَّ ما تستعجلونَه من العذابِ ليس مقدورًا لي حتى أُلْزِمَكم بتعجيلِه، ولا معلومًا لدَيَّ لِأُخبِرَكم وقتَ نزولِه، بل هو مِمَّا يختصُّ به تعالى قدرةً وعلمًا، فيُنْزِلُه حَسَبما تقتضيه مشيئَتُه المَبنِيَّة على الحِكَم والمصالِحِ .

- وفي الآية حُسْنُ ترتيبٍ لهذه المعلوماتِ؛ فبدَأَ أولًا بأمْرٍ معقولٍ لا نُدرِكُه نحن بالحِسِّ، وهو قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ، ثم ثانيًا بِأَمرٍ نُدرِكُ كثيرًا منه بالحِسِّ، وهو وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وفيه عمومٌ، ثمَّ ثالثًا بجُزْأَينِ لطيفينِ؛ أحدُهما عُلويٌّ: وهو سقوطُ وَرقةٍ مِن عُلْوٍ إلى أسفَلَ، والثاني سُفْلِيٌّ: وهو اختفاءُ حبَّةٍ في بطن الأَرضِ .

2- قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

- قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ صيغةُ قَصْرٍ؛ لتعريفِ جُزْأَيِ الجُملةِ، أي: هو الذي يتوفَّى الأنفُسَ دون الأصنامِ؛ فإنَّها لا تَملِكُ موتًا ولا حياةً .

- وفيه إطلاقُ التَّوفِّي على النَّوْمِ؛ لشَبَهِ النَّومِ بالمَوتِ في انقضاءِ الإدراكِ والعَمَلِ؛ لِمَا بينهما من المشاركَةِ في زَوالِ الإحساسِ والتَّمييزِ؛ فإنَّ أصْلَ التوفِّي قبضُ الشَّيء بتمامِه. وفائدته: التقريبُ لكيفيَّةِ البَعْثِ يومَ القيامة؛ فالمراد بقوله: يَتَوَفَّاكُمْ يُنِيمُكم بقرينةِ قوله: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ، أي في النَّهار .

- وتخصيصُ التوفِّي باللَّيلِ والجَرْح بالنَّهارِ، مع تحقُّقِ كُلٍّ منهما فيما خُصَّ بالآخَرِ؛ للجَرْيِ على سَنَنِ العادةِ ، فوَقَع الاقتصارُ على الإخبارِ بِعِلْمِه تعالى ما يَكسِبُ النَّاسُ في النَّهار دون الليل؛ رَعْيًا للغالِبِ؛ لأنَّ النهارَ هو وقتُ أكثرِ العملِ والاكتسابِ .

- وتوسيطُ قولِه: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ بينَ قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وقوله: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ؛ لقَصْدِ الامتنانِ بنِعمةِ الإمهالِ، أي: ولولا فَضْلُه لَمَا بَعَثَكم في النَّهارِ؛ مع عِلْمِه بأنَّكم تكتسبونَ في النَّهارِ عبادةَ غَيرِه، ويكتسِبُ بعضُكم بعضَ ما نهاهُم عنه؛ كالمؤمنين .

- وصِيغةُ الماضي في قوله: جَرَحْتُمْ؛ للدَّلالةِ على التحقُّق .

3- قوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ

- قوله: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً: وَيُرْسِلُ عَطْفٌ عَلَى الْقاهِرُ فيدلُّ على التَّخصيصِ بقَرينةِ المقامِ، أي: هو الذي يُرسِلُ عليكم حَفَظةً دونَ غَيرِه، والقَصْرُ هنا حقيقيٌّ، فلا يستدعي رَدَّ اعتقادِ مخالِفٍ، والمقصودُ الإعلامُ بهذا الخَبَر الحقِّ؛ ليَحْذَرَ السَّامعونَ من ارتكاب المعاصي .

- وفيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَلَيْكُمْ على المفعولِ الصَّريحِ حَفَظَةً؛ للاعتناءِ بالمقَدَّمِ، والتشويقِ إلى المؤَخَّرِ .

- ولفظَةُ (على) في قوله: عَلَيْكُمْ مُشعِرَةٌ بالعُلُوِّ والاستعلاء؛ لتَمَكُّنِ الحَفَظةِ منَّا جُعِلوا كأنَّ ذلك علينا، ويَحتملُ أن يكون متعلِّقًا بِـحفَظَةً أي: ويُرسِلُ حفَظَةً عليكم، أي: يَحفظون عليكم أعمالَكم، كما قال: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ [الانفطار: 10]، كما تقول: حَفِظْتُ عليك ما تَعْمَل .

4- قوله: أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ فيه تقديمُ المجرورِ في قوله: لَهُ الْحُكْمُ للاختصاصِ، أي: له لا لغَيرِه، فإنْ كان المرادُ مِن الحُكْمِ جِنْسَ الحُكْم فقَصْرُه على الله؛ إمَّا حقيقيٌّ للمبالَغَةِ؛ لعدمِ الاعتدادِ بحُكْم غيرِه، وإمَّا إضافيٌّ للرَّدِّ على المشركين، أي: ليس لأصنامِكم حُكْمٌ معه. وإنْ كان المرادُ مِن الحُكْم الحِسابَ، أي: الحُكم المعهود يومَ القيامةِ، فالقصْرُ حقيقيٌّ، وربَّما تَرجَّحَ هذا الاحتمالُ بقوله عَقِبَه: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ، أي: ألَا له الحِسَاب، وهو أسرعُ من يحاسِبُ، فلا يتأخَّر جزاؤُه .

- قوله: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ تذييلٌ؛ ولذلك ابتُدِئَ بأداةِ الاستفتاحِ المؤْذِنَةِ بالتَّنبيه إلى أهميَّةِ الخَبَر

==============

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (63- 67)

ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ

غريب الكلمات :

 

تَضَرُّعًا: أي: تذلُّلًا، وأصل (ضرع): يدلُّ على لِينٍ في الشَّيء

.

كَرْبٍ: أي: غَمٍّ شديدٍ، وأصل (كرب): يدلُّ على شِدَّةٍ وقوَّةٍ .

يَلْبِسَكُمْ: أي: يَخلِطَ أمرَكم، وأصل (لبس): يدلُّ على مخالَطَةٍ ومُداخَلَة .

شِيَعًا: أي: فِرَقًا مُختلفينَ، أو أحزابًا متفرِّقينَ، وأصل (شيع): يدلُّ على مُعاضدَةٍ ومُساعَفةٍ، وعلى بَثٍّ وَإِشادَةٍ .

وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ: أي: يُسَلِّطَ بعضَكم على بعضٍ بالقِتالِ والحرْبِ، فتتقاتلوا. وأصلُ (ذوق): اختبارُ الشَّيءِ من جهة تطعُّمٍ ، وأصلُ (بأس): الشِّدَّةُ وما ضاهاها .

يَفْقَهُونَ: أي: يَفْهَمون؛ يُقال: فَقِهْتُ الكلامَ: إذا فَهمْتَه حقَّ فَهْمِه، والفِقْه: هو التوصُّلُ إلى عِلْم غائبٍ بعِلْم شاهدٍ، وأصل (فقه): يدلُّ على إدراكِ الشَّيءِ، والعِلْم به

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يأمُرُ اللهُ نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَسألَ المشركين عمَّن يُنَجِّيهم من ظُلُماتِ البَرِّ والبَحر، وهم يَدْعُونَه مُظْهرينَ التذلُّلَ والخُضُوع، ويَدْعون سرًّا، يقولون: لَئِنْ أَنجَيْتَنا مِمَّا نحن فيه يا ربُّ لنكوننَّ لك من الشَّاكرينَ، المُعترفينَ بنِعَمِك، المُخْلصينَ لك في العبادَةِ.

ثمَّ بيَّن أنَّهم بعدَ النَّجاةِ يُشركونَ بربِّهم سِواه، فقال تعالى: قلُ لهم- يا محمَّدُ-: هو اللهُ الذي يُنَجِّيكم من هذه الضَّائقَةِ، ومن كُلِّ كَرْبٍ يمرُّ بكم، ثم أنتم تُشرِكونَ به غيرَه في حال الرَّخاءِ.

وأمَرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقول لهم أيضًا: إنَّ الله هو القادِرُ على أنْ يبعثَ عليهم عذابًا يأتيهم مِن فوقِ رُؤُوسِهم كالرَّجْم، أو مِن تحت أرجُلِهم كالخَسْف، أو يَخْلِطَهم فِرَقًا مختلفةً، وأحزابًا مُتفرِّقةً، ويُسَلِّطَ بعضَهم على بعضٍ، فيَقتُل بعضُهم بعضًا، ثم أمَرَ الله تعالى نبيَّه أن ينظرَ كيف ينَوِّعُ لهم الحُجَجَ، ويُظْهِرُ لهم الحقَّ؛ لعلَّهم يَفهمونَه، ويتركونَ ما هم فيه من الشِّرْكِ بالله تعالى.

ثم أخبَر اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ قومَه، وهم قريشٌ، كذَّبوا بالقرآنِ، وهو الحقُّ، وأمَرَه أنْ يقولَ لهم: إنَّه ليس عليهم بحَفيظٍ ولا رقيبٍ، إنَّما عليه البلاغُ.

ثمَّ هدَّدهم سبحانه وتوعَّدهم قائلًا: لكلِّ خَبَرٍ يُخبِرُ به الله تعالى وقْتٌ يقعُ فيه، لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، وسوف يعلَمُ المُشْركون ما يُوعَدونَ به من العذابِ، حين يَحُلُّ بهم في وقته الذي أرادَه الله تعالى.

تفسير الآيات :

 

قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا تقدَّمَ ذِكْرُ الدَّلائلِ على أُلوهيَّتِه تعالى من العِلم التامِّ، والقُدرةِ الكامِلَةِ؛ ذَكَرَ نوعًا من أثرهما، وهو الإنجاءُ من الشدائدِ

، فقال:

قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.

أي: قلْ- يا مُحمَّدُ- للمشركينَ مُلْزِمًا لهم بما أثبتوه من توحيدِ الربوبيَّة، على ما أنكروا من توحيدِ الألوهيَّة: مَنِ الذي يُنجِّيكم في مَفاوزِ البَرِّيَّةِ البَعيدةِ الأطرافِ، إذا ضَلَلْتم فيها فتحيَّرتُم، وفي اللُّجَجِ البَحريَّة، إذا الرِّيحُ العاصِفةُ هاجتْكم، أو أخطأْتُم فيها طريقَكم، فتعَذَّر عليكم الخروجُ من تلك الشَّدائدِ ؟

تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.

أي: تَدْعونَه مُظهرينَ التذلُّلَ والفَقْرَ والخُضوعَ، وتَدْعونه سِرًّا، قائلين وأنتُم في تلك الحال: لئنْ أخرجْتَنا يا ربُّ، مِن هذه الضائقةِ والشِّدةِ التي وقَعْنا فيها، لنكُونَنَّ ممن يعترف بنِعْمَتِك، ويوحِّدُك بالشُّكر، ويخلصُ لك العبادةَ .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس: 22] .

قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ (64).

قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ.

أي: قلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ المشركينَ: اللهُ هو القادِرُ على تَفريجِ الكَرْبِ إذا حَلَّ بكم، فيُنَجِّيكم من عَظيمِ ما حلَّ بكم في البَرِّ والبَحرِ؛ مِن هَمِّ الضَّلالِ، وخَوْفِ الهلاك، ومن كُلِّ كَرْبٍ آخَرَ، لا آلِهَتُكم التي تُشْرِكون بها في عِبادتِه، وتعبدونَها من دونه؛ فهي لا تَقدِرُ لكم على نَفْعٍ ولا ضُرٍّ .

ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ.

أي: ثم أنتُم بعدَ تفضُّلِه عليكم بكَشْفِ كَرْبِكم، تُشْرِكون به في حالِ الرَّخاءِ، فلا تَفُونَ لله تعالى بما قُلْتُم، وتنسَونَ نِعَمَه عليكم .

كما قال تعالى: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس: 23] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] .

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) .

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا كانوا بإشراكِهم كأنَّهم يَظنُّون أنَّ الشِّدةَ زالتْ عنهم زوالًا لا يعودُ، وكان اللَّائقُ بهم دوامَ التذلُّلِ؛ إمَّا وفاءً وإما خوفًا- أخبَرَهم ترهيبًا لهم من سَطْوَتِه، وتحذيرًا مِن بالِغِ قُدرَتِه، أنَّ شِدَّتَهم تلك التي أذلَّتْهم لم تَزَلْ في الحقيقةِ؛ فإنَّ قدرةَ المَلِك عليها حالةَ الرَّخاءِ كقُدرَتِه عليها في وقْتِها سواءً؛ فإنَّه خالِقُ الحالتَينِ وأسبابِهما وما فيهما، فقال :

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ.

أي: قل- يا محمَّدُ- لهؤلاء المُشركينَ: إنَّ الذي ينجِّيكم من ظُلُماتِ البَرِّ والبحر، ومِن كُلِّ كَرْبٍ، ثم تعودونَ للإشراكِ به؛ قادرٌ على إرسالِ العذابِ إليكم بالرَّجْم أو الطُّوفانِ، وغير ذلك مما ينزِلُ عليكم من فوقِ رُؤوسِكم، أو بالخَسْفِ وما أشبَهَه، مِمَّا يأتيكم من تحتِكم .

كما قال تعالى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء: 66- 69] .

أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً.

أي: أو يَخلِطَكم فِرَقًا مختلفةً، وأحزابًا مفترِقَةً .

عن جابرِ بن عبدِ الله رضِيَ الله عنهما، قال: ((لَمَّا نزَلَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ. قال: أعوذُ بوجهِك، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، قال: أعوذُ بوجْهِك، فلما نزَلتْ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، قال: هاتانِ أهوَنُ، أو: أيسَرُ )) .

وعن ثَوبانَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إنَّ اللهَ زَوَى ليَ الأرضَ، فرأيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أمَّتي سيبلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي منها، وأُعْطِيتُ الكَنْزينِ: الأَحمرَ والأبيضَ، وإنِّي سألتُ ربِّي لِأمَّتي ألَّا يُهْلِكَها بسَنَةٍ عامَّةٍ، وألَّا يُسَلِّطَ عليهم عدُوًّا مِن سِوى أنفُسِهم، فيستبيحَ بَيضَتَهم ، وإنَّ ربِّي قال: يا محمَّدُ، إنِّي إذا قضيتُ قضاءً فإنَّه لا يُرَدُّ، وإنِّي أعطيتُك لأُمَّتِك ألَّا أُهْلِكَهم بسَنَةٍ عامَّةٍ، وألَّا أُسَلِّطَ عليهم عدُوًّا مِن سِوى أنفُسِهم، يَستبيحُ بيضَتَهم، ولو اجتمَعَ عليهم مَنْ بأقطارهِا- أو قال مَنْ بينَ أقطارِها- حتى يكونَ بعضُهم يُهْلِكُ بعضًا، ويَسْبي بعضُهم بعضًا )) .

وعن جابِرِ بن عَتيكٍ؛ أنه قال: ((جاءَنا عبدُ اللهِ بنُ عمَرَ في بني معاوِيَةَ- قريةٍ من قُرى الأنصارِ- فقال لي: هل تَدري أين صلَّى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مَسْجِدِكم هذا؟ فقلْتُ: نعم. فأشرْتُ إلى ناحيةٍ منه، فقال: هل تَدْري ما الثَّلاثُ التي دَعا بهنَّ فيه؟ فقلتُ: نعمْ. فقال: وأخْبِرْني بهنَّ، فقلتُ: دعا ألَّا يُظْهِرَ عليهم عدوًّا مِن غَيرِهم، ولا يُهْلِكَهم بالسِّنينَ، فأُعْطِيَهُما، ودعا بألَّا يَجعَلَ بأسَهم بينهم، فمُنِعَها. قال: صَدَقْتَ، فلا يزالُ الهَرْجُ إلى يومِ القيامةِ )) .

وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ.

أي: ويُسلِّطَ بعضَكم على بعضٍ، فيَقتُلَ بعضُكم بعضًا في الفِتنةِ .

انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.

أي: انظرْ- يا محمَّدُ- إلى تنويعِ حُجَجِنا على هؤلاء المشركينَ، وإيضاحِنا للحَقِّ؛ ليفهموا ذلك ويتدبَّروه، ويزدَجِروا عمَّا هم عليه من الشِّرْك بالله تعالى .

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا كان الإنسانُ ربَّما حصَلَ له اللَّومُ بسبب قومِه؛ كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذا المقامِ بِمَعْرِضِ أن يَخافَ عاقبةَ ذلك، ويقول: فماذا أصنَعُ بهم؟ فقال تعالى- مُعلِمًا أنَّه ليس عليه بأسٌ مِن تكذيبِهم :

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ.

أي: وكذَّبتْ قريشٌ- يا محمَّدُ- بالقرآنِ الذي جِئْتَهم به، وهو الحقُّ الذي لا مِرْيَةَ فيه، ولا شَكَّ يعتريه .

قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ.

أي: قل لهم- يا محمَّدُ-: لستُ عليكم بحَفيظٍ ولا رقيبٍ، ولستُ مُوَكَّلًا بكم، وإنَّما عليَّ البلاغُ، فأبلِّغُكم ما أُرْسِلْتُ به إليكم .

لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67).

لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ.

أي: لكلِّ خَبَرٍ وقتٌ يستقرُّ فيه، وزمانٌ لا يتقدَّمُ عنه ولا يتأخَّرُ، وغايةٌ يَتبيَّنُ عندها حَقُّه من باطِلِه، وصِدْقُه مِن كَذِبِه .

وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.

أي: وسوف تعلمونَ- أيُّها المُشركونَ المُكذِّبونَ- ما تُوعَدُون به مِن العذابِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- في قوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الدَّلالةُ على كَمالِ القُدرة الإلهيَّةِ، وكمالِ الرَّحْمة والفضْل والإحسانِ

.

2- قولُه تعالى: لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يدلُّ على أنَّهم لم يَكونوا قَبْلَ الوُقوعِ في هذه الشَّدائِدِ شَاكرينَ لِأَنْعُمِه .

3- قوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ وَضَعَ تُشْرِكُونَ مَوْضِعَ (لا تَعبُدون)؛ تَنبيهًا على أنَّ مَن أشْرَكَ في عِبادَةِ الله تعالى؛ فكأنَّه لم يَعْبُدْه .

4- قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ .... المقصودُ التَّهديدُ بتَذكيرِهم بأنَّ القادِرَ مِن شأنِه أن يُخافَ بَأْسُه .

5- قال تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ لَمَّا كان لفظُ العذاب في قوله: عَذَابًا نكرةً؛ جازَ حَمْلُه على كلِّ عذابٍ يأتي من فوقِ الرؤوسِ ومن تحت الأرجُلِ، ولولا أنَّ هذا الإبهامَ مرادٌ لأجْلِ هذا الشُّمولِ، لصَرَّحَ بالمرادِ، كمَّا صَرَّح به في مِثْلِ قوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك: 16- 17] ، وحِكمةُ مِثل هذا الإبهامِ في القُرآنِ أنْ ينطَبِقَ معنى اللَّفْظِ على ما يدلُّ عليه ممَّا يحدُث في المستقبَل، أو ينكشِفُ للنَّاسِ فيه ما كان خفيًّا عنهم؛ إذ ورد في وَصْفِ القرآنِ أنَّه لا تَنتهي عجائِبُه، وأنَّ فيه نبأَ مَن قَبْلَ الذين نَزَلَ في زمانهم، ومَنْ كان معهم، ومَن يَجيءُ بَعْدَهم، وما في هذه الآيةِ يشمَلُ ما لم يكُنْ في زمَنِ تنزيلِ القرآنِ ولا فيما قبْلَه بحسَبِ ما يَعلم البَشَرُ؛ فقد أرسل اللهُ على الأمَمِ في الحروبِ المعاصِرَة عذابًا مِن فَوْقِها بما تقذِفُه الطَّيَّاراتُ من المقذوفاتِ النارِيَّة، والسُّمومِ البُخاريَّة والغازِيَّة التي لم تُعْرَف من قبلُ، وعذابًا من تحتَها بما يتفجَّرُ من الألغامِ النارِيَّة، وبما تُرسِلُه المراكبُ الغوَّاصةُ في البحر التي اختُرِعَت في هذا العصرِ، ولَبَسَها شِيَعًا متعادِيَةً، وأذاقَ بعضَها بأسَ بعضٍ، فحَلَّ بها مِنَ التقتيلِ والتَّخريبِ ما لم يُعهَدْ له نظيرٌ في الأرض .

6- قوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا عَطَفَ عليه وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ؛ لأنَّ مِن عواقِبِ ذلك اللَّبْسِ التقاتُلَ .

7- في قوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ عظيمُ التَّوبيخِ لهم، ودقيقُ التقريعِ، وذلك لأنَّهم كان يَنبغي عليهم أن يُسَرُّوا بسِيادَةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لكونِه منهم؛ لأنَّ القبيلةَ إذا ساد أحدُهم عَزَّتْ به؛ فإنَّ عِزَّه عِزُّها، وشَرَفَه شَرَفُها، ولا سيَّما إذا كان مِن بَيْتِ الشَّرَفِ، ومَعْدِنِ السِّيادة، وإذا سَفُلَ أحدُها اهتمَّتْ به غايةَ الاهتمامِ، وسَتَرَتْ عيوبَها مهما أمكَنَها؛ فإنَّ عارَه لاحِقٌ لها

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الاستفهامُ المُسْتَعْمَل في قوله: مَنْ يُنَجِّيكُمْ يراد به التقريرُ والإنكارُ والتَّوبيخُ، والتوقيفُ على سُوءِ مُعتقَدِهم عند عِبادةِ الأصنامِ، وترْك الذي يُنجِّي من الشَّدائدِ، ويُلجأُ إليه في كشْفِها؛ لكَوْنِ ذلك لا يُنازِعونَ فيه بحَسَب عَقائِد الشِّرْك

.

- وإعادة الأَمْرِ بالقَوْلِ قُل؛ للاهتمامِ .

- وخَصَّ لَفْظَ الظُّلُمَات بالذِّكرِ؛ لِمَا تَقرَّرَ في النُّفوسِ مِن هَولِ الظُّلمةِ .

2- قَوْلُه: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ قَدَّمَ المُسْنَد إليه اللَّهُ على الخَبَرِ الفِعليِّ يُنَجِّيكُمْ؛ لإفادَةِ الاختصاصِ، أي: اللهُ ينَجِّيكم لا غَيْرُه؛ ولأجل ذلك صَرَّحَ بالفِعْل المستفْهَمِ عنه يُنَجِّيكُمْ .

- وفيه إطنابٌ؛ حيث زاد قولَه: وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ؛ لإفادةِ التَّعميمِ .

- قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ فيه تقديمُ المُسنَد إليه أَنْتُمْ على الخَبرِ الفِعليِّ تُشْرِكُونَ؛ لمجرَّدِ الاهتمامِ بخَبرِ إسنادِ الشِّرْك إليهم، أي: أنتم، الذين تتضَرَّعونَ إلى الله باعترافِكم، تُشْركونَ به من قَبْلُ ومِن بَعْدُ .

- وجاء بالفِعل تُشْرِكُونَ بصيغةِ المُضارِعِ؛ لإفادَةِ تجدُّد شِرْكِهم، وأنَّ ذلك التجدُّدَ والدَّوامَ عليه أعْجَبُ .

3- قوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ

- قوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ استئنافٌ ابتدائيٌّ، عَقَّبَ به ذِكْرَ النِّعمَة التي في قوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ بذِكْرِ القُدرةِ على الانتقامِ؛ تخويفًا للمُشركينَ ، ولبيانِ أنَّه القادِرُ على إلقائِهم في المهالِكِ إِثْرَ بيانِ أنَّه هو المنَجِّي لهم منها، وفيه وعيدٌ ضمنيٌّ بالعذابِ؛ لإشراكِهم المذكورِ .

- وتعريفُ المسنَد والمُسنَد إليه في قوله: هُوَ الْقَادِرُ أفاد القَصْرَ؛ فأفاد اختصاصَه تعالى بالقُدرة على بَعْثِ العذابِ عليهم، وأنَّ غيرَه لا يَقْدِر على ذلك؛ فلا يَنبغي لهم أن يَخْشَوُا الأصنامَ، ولو أرادوا الخيرَ لأنفُسِهم، لخافوا اللهَ تعالى، وأفرَدُوه بالعِبادةِ لِمَرْضاتِه، فالقَصْرُ المستفادُ إضافيٌّ .

- وقيل: لم يَصُغْ قولَه: الْقَادِرُ صِيغةَ مبالغةٍ في قوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ؛ لأنَّهم لم يكونوا يُنْكِرونَ قُدرَتَه، إنما كانوا يَدَّعونَ المشارَكَةَ التي نفاها بالتَّخصيصِ، على أنَّ التعريفَ يُفيدُ به المبالغة .

- وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَلَيْكُمْ على المفعولِ الصَّريحِ عَذَابًا؛ للاعتناءِ به، والمسارَعَةِ إلى بيانِ كَوْنِ المبعوثِ مِمَّا يضرُّهم، ولتهويلِ أمْرِ المؤخَّر .

- قوله: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ على قراءةِ (وَنُذِيقَ) بنونِ العَظَمَةِ، يكون فيه التفاتٌ؛ لتهويلِ الأمْرِ، والمبالغةِ في التحذيرِ، ونِسبةُ ذلك إلى اللهِ على سبيلِ العَظَمَةِ والقُدْرَةِ القاهِرةِ .

- قوله: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ: في الأمْر بالنظر انْظُرْ تنزيلٌ للمعقولِ منزِلَةَ المحسوسِ؛ لِقَصْدِ التعجُّبِ منه .

- قوله: لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ استئنافٌ بيانيٌّ؛ جوابٌ لسؤالِ سائلٍ عن فائِدَةِ تصريفِ الآياتِ، وذلك رجاءَ حُصُولِ فَهْمِهم؛ لأنَّهم لعنادِهم كانوا في حاجَةٍ إلى إحاطةِ البيانِ بأفهامِهم؛ لعلَّها تتذكَّر وتَرْعَوي .

- وفيه تَكرارٌ لِمَا سبَقَ نظيرُه في هذه السُّورة مع الاختلافِ في ختامِ كلِّ آيةٍ، وهي قولُه: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ، وهنا قال: لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ، وإنَّما كرَّره طلبًا للرغبةِ في إيمانِ المذكورينَ؛ إِذِ التَّقديرُ: انظُرْ كيفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ)، أي: يُعْرِضون عنها، فلا تُعْرِضْ عنهم، بل كرِّرْها لهم؛ (لعلَّهم يَفْقَهون)، أي: يَفهمون؛ وإنَّما ختَم الأُولى بقوله: ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ، والثانيةَ بقوله: لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ؛ لأنَّ الإعراضَ عن الشَّيءِ أقبحُ من عدم فَهْمِه، فوُصِفوا بالأوَّلِ في الآيةِ الأولى؛ تَبَعًا لِما وُصِفوا به قبْلَها من قسوةِ قلوبِهم، ونسيانِهم ما ذُكِّروا به وغيرِهما، وذلك مفقودٌ في الثانيةِ .

4- قوله: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ

- التَّعبيرُ عنهم بـقَوْمِكَ للتَّسجيلِ عليهم بسوءِ مُعامَلَتِهم لِمَن هو من أنْفُسِهم ، والمراد: بَعْضُهم؛ فإنَّ منهم أفاضِلَ المُسلمينَ والصِّديقَ وعليًّا رَضِيَ اللهُ عنهما .

- والتعديةُ بـ(على) في قوله: عَلَيْكُمْ؛ لتضمُّنه معنى الغَلَبَة والسُّلْطة، أي: لسْتُ بقَيِّمٍ عليكم، يمنعُكم من التكذيبِ .

5- قوله: لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ مستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ قولَه: وَهُوَ الْحَقُّ يُثيرُ سؤالَهم أن يقولوا: فمتى يَنْزِل العذابُ؟ فأُجيبوا بقولِه: لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ

 

=====================.

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (68 - 70)

ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ

غريب الكلمات :

 

يَخُوضُونَ: أي: يَكذِبون ويَسْتَهزؤونَ، وأصلُ الخوضِ: هو الشُّروعُ في الماءِ والمرورُ فيه، ومِنه الشُّروعُ في الأمورِ؛ يُقال: تخاوَضُوا في الحَديثِ والأمرِ، أي: تَفاوَضُوا وتداخَلَ كلامُهم، وأكثرُ ما ورَدَ الخوضُ في القرآنِ فيما يُذَمُّ الشُّروعُ فيه، وأصل (خوض): توسُّطُ شيءٍ، ودخولٌ

.

وَذَرِ: أي: اترُكْ؛ يقال: فلان يَذَرُ الشَّيءَ، أي: يقذِفُه؛ لقلَّةِ اعتدادِه به .

وَغَرَّتْهُمُ: أي: أصابتْ غِرَّتَهم، ونالتْ منهم ما تريدُه، والغِرَّةُ: غفلةٌ في اليقظةِ، والغِرار: غفلةٌ مع غفوةٍ، والغُرورُ: كُلُّ ما يغرُّ الإنسانَ من مالٍ وجاهٍ وشهوةٍ وشيطانٍ، وأصلُ ذلك من الغُرِّ، وهو الأثرُ الظَّاهِرِ من الشَّيء .

تُبْسَلَ: أي: تُرتَهنَ، وتُسْلَمَ للهَلَكَة، والبَسْل: ضمُّ الشَّيءِ ومَنْعُه، وأصل (بسل): منَعَ وحَبَس .

حَمِيمٍ: الحميمُ: الماءُ الشَّديدُ الحرارةِ، وأصل (حمم): يدلُّ على الحرَارةِ، وعلى معانٍ أخرى متفاوِتَةٍ

 

.

مشكل الإعراب :

 

1- قَوْلُه تعالى: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

وَلَكِنْ ذِكْرَى: (الواو) عاطِفَةٌ للجُمَلِ لا المُفرداتِ. ولَكِنْ حَرْفُ استدراكٍ لا عَمَلَ له.  وذِكْرَى يَجوزُ فيها النَّصْبُ والرَّفعُ، وعلامةُ الإعراب مُقدَّرةٌ عل آخِرِها للتعذُّرِ؛ أمَّا النَّصْبُ فعَلى المصْدَرِ بفِعْلٍ مَحذوفٍ؛ والتقديرُ: (ولَكِنْ ذَكِّرُوهم ذِكْرى)، أو (ولكنْ يُذَكِّرونَهم ذِكْرى). وأمَّا الرَّفْعُ فعَلَى أنَّها مُبتدأٌ، والخبرُ محذوفٌ؛ تقديرُه: ولَكِنْ عليهم ذِكْرى. أو على أنَّه خَبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ؛ والتَّقديرُ: هو ذِكْرى؛ أي: الواجِبُ ذِكْرى، أو التقدير: هذا ذِكْرَى؛ أي النَّهْيُ عَنْ مُجالَسَتِهم ذِكْرَى، وعلى كُلٍّ فالجُملةُ معطوفةٌ بالواوِ على جُملةِ: وما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ

.

2- قوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ

أَنْ تُبْسَلَ: مَصدرٌ مُؤَوَّلٌ في مَحلِّ نَصبٍ، مَفعولٌ مِن أَجْلِه؛ والتقديرُ: مَخافةَ أنْ تُبسَل أو كَراهَةَ أنْ تُبْسَلَ، أو لِئَلَّا تُبْسَلَ. ويجوز أنْ يكونَ في محَلِّ جَرٍّ على البَدَلِ من الهاءِ في بِهِ  والتقدير: وذَكِّرْ بارْتِهانِ النُّفُوسِ، وحَبْسِها بِما كَسَبَتْ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يُعْرِضَ عنِ الذينَ يَتكلَّمونَ في آياتِ الله بالتَّكذيبِ والاستهزاءِ والباطِلِ، وأن ينصرفَ عن مجالِسِهم حتى يَشْرَعوا في كلامٍ آخَرَ غيرِه، فإنْ أَنساه الشيطانُ النَّهْيَ عن ذلك، فجَلَس معهم ثمَّ تذكَّرَ فلْيَقُمْ عنهم، ولا يَجْلِسْ بعد الذِّكرى مع القَوْمِ الظَّالِمين.

ثم بيَّن تعالى أنَّه ليس على المُتَّقينَ- الذين اجتَنبوا الجُلُوسَ مع أولئك الخائِضينَ في آياتِ الله بالباطِلِ- شيءٌ مِن حسابِهم على ما ارْتَكبوا، ولكنْ عليهم تذكيرُ الكافرينَ بالموعظةِ والبيانِ؛ لعلَّهم يتَّقونَ.

ثم أمَرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَدَعَ الذين جَعلوا حَظَّهم مِن الدِّينَ اللَّعِبَ واللَّهْو؛ مُستهزئينَ بآياتِ اللهِ، ويُعْرِضَ عنهم، وأَمَرَه أن يذَكِّرَ النَّاسَ بالقرآنِ؛ ليؤمِنوا ويتَّبِعوا الحَقَّ، حتى لا تُحْبَسَ نفسٌ بذُنُوبها وكُفْرِها عمَّا يُنَجِّيها في الدُّنيا والآخرة، وتُسْلَمَ للعذابِ والهلاكِ، ليس لها حينئذٍ أحَدٌ يُنْقِذُها من عذاب الله، ولا شَفيعٌ يَطْلُبُ لها العفْوَ من الله جلَّ وعلا، وحتى إنْ بَذَلَت تلك النَّفْسُ كُلَّ فِداءٍ لِتفتدِيَ به، لا يُقْبَل منها، وهؤلاءِ هم الذين أُسْلِمُوا لعذابِ الله، وحُبِسُوا به؛ بسبَبِ ما ارتكبوه من المعاصي والآثامِ في الدُّنيا، أولئك لهم شرابٌ شديدُ الحرارةِ، وعذابٌ مُوجِعٌ؛ جزاءَ كُفْرِهم في الدُّنيا.

تفسير الآيات :

 

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) .

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ تعالى في قوله: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيْلٍ أنَّ الذين يُكَذِّبون بهذا الدِّينِ لا يَجِبُ على الرَّسولِ أنْ يُلازِمَهم، وأنْ يكونَ حفيظًا عليهم- بَيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ أولئك المُكَذِّبينَ إنْ ضَمُّوا إلى كُفْرِهم وتَكذيبِهم الاستهزاءَ بالدِّينِ، والطَّعْنَ في الرَّسولِ؛ فإنَّه يجبُ الاحترازُ عن مُقارَنَتِهم، وتَرْكُ مُجالَسَتِهم

.

وأيضًا لَمَّا أَمَرَ الله نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بما يقولُ جوابًا لتكذيبِهم في الآيةِ السَّابقةِ، تَقدَّمَ إليه فيما يفعَلُ وَقتَ خَوضِهم في التكذيبِ ؛ فقال:

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.

أي: وإذا رأيتَ- يا محمَّدُ- المشركينَ الذين يَخُوضونَ في آياتِنا، التي أنْزَلْناها إليك، بالتَّكذيبِ والاستهزاءِ، وغيرِ ذلك مِمَّا يُخالِفُ الحَقَّ، فقُمْ عنهم، ولا تَجْلِسْ معهم حتَّى يأخذوا في كلامٍ آخَرَ، غيرِ ما كانوا فيه مِن التَّكذيبِ والاستهزاءِ .

قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140] .

وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.

أي: وإنْ أنساكَ الشيطانُ- يا محمدُ- نَهْيَنا عن الجُلوسِ مع أولئك الخائضينَ، والإعراضَ عنهم، ثم تذكَّرْتَ ذلك؛ فقُمْ عنهم، ولا تَقْعُدْ مع القَومِ الَّذين خاضُوا فيما لا يحلُّ لهم الخَوْضُ فيه .

وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69).

أي: إذا تجنَّبَهم المُتَّقون؛ فلم يَجْلِسوا معهم في ذلك، وأَعْرَضوا عنهم- كما أُمِرُوا- فقد تخلَّصوا من إثْمِ خَوْضِ الكُفَّار فيما يَخوضُون فيه مِن الباطِلِ، ولا يُحاسَبون على شيءٍ من ذلك، ولكنْ عليهم الذِّكرى للكافرينَ بالموعظةِ والبَيانِ؛ لِيَتَّقُوا اللهَ عزَّ وجلَّ؛ فيترُكوا الخَوْضَ في آياتِه سبحانه، ولا يَعُودُوا إلى ذلك .

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70).

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.

أي: ودَعْ- يا محمَّدُ- هؤلاءِ الذين جَعَلوا نصيبَهم مِن دِينِ اللهِ تعالى اللَّعبَ بآياتِه، واللهوَ والاستهزاءَ بها إذا سَمِعوها، وقد اغترُّوا بزِينةِ الحياةِ الدُّنيا، فنَسُوا المعادَ إلى الله تعالى، والمصيرَ إليه بعد المماتِ؛ فأعرِضْ عنهم، واتْرُكْهم .

وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ.

أي: وذكِّر النَّاسَ- يا محمَّدُ- بهذا القرآنِ، ومِنهم هؤلاء الذين يَخوضُون في آياتِنا وغيرُهم منَ الكُفَّار والمشركينَ؛ ليؤمنوا ويتَّبِعوا الحقَّ الذي جاءَهم مِن عِندِ الله تعالى؛ كيلا تُحْبَسَ نفسٌ بذُنوبها وكُفْرِها بِرَبِّها، عمَّا فيه نجاتُها في الدُّنيا والآخرة، وتُسْلَمَ للعذابِ والهلاكِ .

لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ.

أي: ليسَ لها حينَ تُسْلَمُ بذُنُوبِها، وتُرْتَهَن بآثامِها، أحدٌ يَنصُرُها، فيُنْقِذُها من عذابِ الله تعالى، ولا شفيعٌ يَطْلُب لها العَفْوَ مِن الله عزَّ وجلَّ .

وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا.

أي: ولو بَذَلَتِ النَّفسُ التي أُبْسِلَت بما كسَبَت، كلَّ فِداءٍ لتفتَدِيَ به؛ لا يُقبَل منها .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91] .

أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ.

أي: وهؤلاءِ الذين إنْ فَدَوْا أنفُسَهم مِن عذابِ الله يومَ القيامةِ كُلَّ فداءٍ لم يُؤخَذْ منهم، هم الذين أُسْلِمُوا لعذابِ الله، فحُبسوا به؛ جزاءً بما كسبوا في الدُّنيا من الآثامِ والأوزارِ، لهم شرابٌ شديدُ الحرارةِ، يَشوي وجوهَهم، ويُقطِّعُ أمعاءَهم، ولا يَرويهم مِن عَطَشٍ، ولهم مع ذلك عذابٌ مُوجِعٌ؛ بسبَبِ كُفْرِهم في الدُّنيا بالله، وإنكارِهم توحيدَه، وعِبادَتِهم معه آلهةً دونَه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- في ذَمِّ الخوضِ بالباطِلِ في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ حَثٌّ على البَحْثِ والنَّظَرِ والمُناظرَةِ بالحَقِّ

.

2- سببُ النَّهيِ عن مُجالسةِ الخائضينَ في آياتِ اللهِ بالباطِلِ في قوله: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أنَّ الإقبالَ على الخائضينَ، والقعودَ معهم، أقلُّ ما فيه أنَّه إقرارٌ لهم على خَوْضِهم، وإغراءٌ بالتَّمادِي فيه، وأكبَرُه أنَّه رِضاءٌ به، ومُشاركةٌ فيه . كما أن الإعراضِ عنهم فيه زَجْرُهم، وقَطْعُ الجدالِ معهم؛ لعلَّهم يَرْجِعون عن عِنادِهِم .

3- قولُه تعالى: فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يَشْمَلُ الخائضينَ بالباطِلِ، وكلَّ مُتكلِّمٍ بِمُحَرَّمٍ، أو فاعِلٍ لمُحَرَّمٍ؛ فإنَّه يَحْرُم الجُلُوسُ والحضورُ عند حُضُورِ المُنْكَر، الذي لا يَقْدِرُ على إزالَتِه .

4- قوله تعالى: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فيه دَليلٌ على أنَّه إذا كان التَّذكيرُ والوعظُ مِمَّا يَزيدُ الموعوظَ شَرًّا إلى شَرِّه، كانَ تَرْكُهُ هو الواجِبَ؛ لأنَّه إذا ناقَضَ المقصودَ كان تَرْكُه مقصودًا .

5- قوله تعالى: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فيه دليلٌ على أنَّه يَنبغي أن يَسْتَعمِلَ المُذَكِّرُ مِن الكلامِ ما يكون أقرَبَ إلى حُصولِ مقصودِ التَّقوى .

6- قولُه تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا ... إلى قولِه: لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ فيه بيانُ أنَّ وُجوهَ الخَلاصِ على تلك النَّفْسِ مُنسَدَّةٌ، فلا وَلِيَّ يتولَّى دَفْعَ ذلك المحذورِ، ولا شفيعَ يَشفَعُ فيها، ولا فِدْيَةَ تُقبَل؛ ليَحْصُلَ الخلاص بسبَبِ قَبُولها؛ حتى لو جُعِلَتِ الدُّنيا بأسْرِها فِديةً من عذابِ الله لم تنفَعْ. فإذا كانت وجوهُ الخلاصِ هي هذه الثلاثةَ في الدُّنيا، وثبَتَ أنَّها لا تُفيدُ في الآخرَةِ البتَّةَ، وظهر أنَّه ليس هناك إلَّا الإبسالُ، الذي هو الارتهانُ والانغلاقُ والاستسلامُ؛ فليس لها البتَّةَ دافِعٌ من عذابِ الله تعالى، وإذا تصوَّرَ المرءُ كيفيَّةَ العقابِ على هذا الوجْهِ يكادُ يُرْعَدُ إذا أقدَمَ على معاصي اللهِ تعالى

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- الخوضُ في قوله تعالى: يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أكْثرُ ما وردَ في القُرآنِ وردَ فيما يُذمُّ الشُّروعُ فيه، وإنَّما عَبَّر عن انتقالِهم إلى حَديثٍ آخَرَ بالخَوضِ؛ لأنَّهم لا يَتحدَّثون إلَّا فيما لا جَدْوَى له مِن أحوالِ الشِّرْكِ، وأُمورِ الجاهليَّةِ

.

2- يُؤخَذُ من قوله تعالى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ أنَّ الأَعراضَ البَشَريَّةَ الجائزَةَ على الأنبياءِ التي لا تُخِلُّ بتبليغٍ، قد يكونُ بعضُها مِن أثَرِ عَمَلِ الشَّيطانِ .

3- قوله تعالى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى يُفيدُ أنَّ التكليفَ ساقِطٌ عنِ النَّاسي .

4- قال تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا... المرادُ من هذه الآيةِ وما في معناها: إبطالُ أصْلٍ من أصول الوثنيَّةِ، وهو تعليقُ النَّجاةِ في الآخرة- كنَيْل كثيرٍ من المقاصِدِ في الدنيا- بتقديمِ الفِديَةِ لله تعالى، أو بشفاعةِ الشَّافعينَ عنده، أي: بوساطةِ الوُسَطَاء- وتقريرُ أصلِ الدِّينِ الإلهيِّ، وهو أنَّ النَّجاةَ في الآخِرة، ورضوانَ اللهِ، والقُرْبَ منه، لا يُنالُ إلَّا بما شَرَعه اللهُ على ألْسِنَةِ رُسُلِه من الإيمانِ والإسلامِ؛ وبعِبارةٍ أخرى بالعمل الصَّالِحِ الذي تتزكَّى به الأنفُسُ مع الإيمانِ الإذْعانيِّ باللهِ وبِرُسُلِه وما جاؤُوا به، ومِن إبسالِهم كَسْبُهم للسيِّئاتِ والخطايا، واتِّخاذُهم الدِّينَ لَعِبًا ولهْوًا، وغرورُهم بالحياةِ الدُّنيا، فلا تنفَعُهم شفاعةٌ، ولا تُقبَلُ منهم فِديةٌ .

5- في قوله تعالى: لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ خُصَّ الشَّرابُ مِن الحَميمِ من بين بقيَّةِ أنواعِ العذابِ المذكورِ مِن بعدُ؛ للإشارَةِ إلى أنَّهم يَعطَشونَ فلا يَشْربونَ إلَّا ماءً يَزيدُهم حرارةً على حرارةِ العَطَشِ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

- قوله: الَّذِينَ يَخُوضُونَ فيه العُدولُ عن الإتيانِ بالضَّميرِ إلى الإتيانِ بالاسْمِ الظَّاهِرِ، وهو اسمُ الموصولِ الَّذِينَ، فلم يقُلْ: وإذا رأيتَهم فأعْرِضْ عنهم؛ للدَّلالةِ على أنَّ الذين يخوضونَ في الآياتِ فريقٌ خاصٌّ من القومِ الذين كذَّبوا بالقرآنِ أو بالعذابِ؛ فعمومُ القَوْمِ أنكَرُوا وكذَّبوا دون خوضٍ في آيات القرآنِ، فأولئك قِسْمٌ، والذين يَخوضونَ في الآياتِ قِسْمٌ كان أبذى وأقْذَعَ، وأشَدَّ كفرًا وأشنَعَ، وهم المتصَدُّونَ للطَّعنِ في القرآن، وهؤلاء أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالإعراضِ عن مجادَلَتِهم، وتَرْكِ مَجالِسِهم؛ حتى يَرْعَوُوا عن ذلك، ولو أُمِرَ الرَّسولُ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بالإعراضِ عن جميع المُكذِّبينَ، لتعطَّلَت الدَّعوة والتَّبليغُ

.

- وجاءَ تعريفُ هؤلاء بالموصوليَّة الَّذِيْنَ يَخُوضُونَ دون أن يُقالَ (الخائضينَ) أو (قومًا خائضينَ)؛ لأنَّ الموصولَ فيه إيماءٌ إلى وجْهِ الأمرِ بالإعراضِ لأنَّه أمرٌ غريبٌ، إذ شأنُ الرَّسول- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- أن يمارِسَ النَّاسَ لعَرْضِ دعوةِ الدِّينِ، فأمْرُ اللهِ إيَّاه بالإعراضِ عن فريقٍ منهم يحتاجُ إلى توجيهٍ واستئناسٍ. وذلك بالتعليلِ الذي أفاده الموصولُ وصِلَتُه، أي: فأعرِضْ عنهم؛ لأنَّهم يخوضون في آياتنا، وهذه الآيةُ أحسنُ ما يُمَثَّلُ به لمجيءِ الموصولِ للإيماءِ إلى إفادةِ تعليلِ ما بُنِيَ عليه من خَبَرٍ أو إنشاءٍ؛ ألَا ترى أنَّ الأمْرَ بالإعراضِ حُدِّدَ بغايةِ حصولِ ضِدِّ الصِّلَةِ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيْثٍ غَيْرِه .

- قوله: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ في عَطْفِ حالةِ النِّسيانِ زِيادةٌ في تأكيدِ الأمْرِ بالإعراضِ .

- قوله: مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: معهم؛ فوُضِعَ الظَّاهِرُ موضِعَ المُضْمَرِ؛ دلالةً على أنَّهم ظَلَمُوا بوضْعِ التكذيبِ والاستهزاءِ مَوضِعَ التَّصديقِ والاستعظامِ ، والإظهارُ في مقام الإضمار أيضًا؛ لزيادةِ فائدةِ وَصْفِهم بالظُّلم، فيُعْلَم أنَّ خَوْضَهم في آياتِ اللهِ ظُلْمٌ، فيُعْلَم أنَّه خَوضُ إنكارٍ للحَقِّ، ومكابرةٍ للمُشاهدَةِ .

2- قوله: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ

- قوله: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أمْرٌ متضَمِّنٌ للتَّهديدِ والوعيدِ لهم .

- وذِكْرُ الحياةِ هنا في قولِه: وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا له موقِعٌ عَظيمٌ، وهو أنَّ هَمَّهم من هذه الدُّنيا هو الحياةُ فيها، لا ما يُكْتَسَب فيها من الخيراتِ التي تكون بها سعادةُ الحياةِ في الآخرةِ، أي: غرَّتْهم الحياةُ الدُّنيا، فأوهَمَتْهم أنْ لا حياةَ بَعْدَها .

- قوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ مُستأنَفٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ الكلامَ يُثيرُ سؤالَ سائلٍ يقولُ: فما حالُ الذينَ اتَّخَذوا دينَهم لعبًا ولَهْوًا من حالِ النفوسِ التي تُبْسَل بما كَسَبَتْ؟ فأجيبَ بأنَّ أولئك هم الذين أُبْسِلوا بما كَسَبوا .

- والتعريفُ للجُزأَينِ أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا أفاد القَصْرَ، أي: أولئك هم المُبْسَلون لا غيرُهم، وهو قَصْر مبالغةٍ؛ لأنَّ إبسالَهم هو أشَدُّ إبسالٍ يقع فيه النَّاسُ؛ فجُعِلَ ما عداه كالمعدومِ .

- وقوله: لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ فيه تأكيدٌ وتفصيلٌ لذلك، والمعنى: هم بينَ ماءٍ مُغْلًى يتجرجَرُ في بُطونِهم، ونارٍ تشتعِلُ بأبدانِهم بسبَبِ كُفْرِهم .

- وفي قوله: بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ زِيدَ فِعلُ (كان)؛ ليدلَّ على تَمَكُّن الكُفرِ منهم واستِمرارِهم عليه؛ لأنَّ فِعْلَ مادَّةِ الكونِ يدُلُّ على الوجودِ؛ فالإخبارُ به عن شيءٍ مُخْبَرٍ عنه بغيرِه أو موصوفٍ بغيرِه لا يُفيدُ فائدةَ الأوصافِ، سِوى أنَّه أفاد الوجودَ في الزَّمَن الماضي، وذلك مُستعمَلٌ في التمكُّنِ

 

.

===============

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (71 - 73)

ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ

غريب الكلمات :

 

وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا: أي نرجِعُ إلى الكُفر، والارْتِدَادُ والرِّدَّةُ: الرجوعُ من الإسلامِ إلى الكُفْرِ، لكنَّ الرِّدَّة تختصُّ بالكُفر، والارتدادُ يُستعمَلُ فيه وفي غيره، والعَقِب: مؤخَّر الرِّجْل

.

اسْتَهْوَتْهُ: أي: هَوَتْ به وذهَبَتْ، فضَلَّ في الأرضِ في حالِ حَيْرَتِه، أو ذهبَتْ به مَرَدَةُ الجنِّ في المفاوز البعيدة، والهوى: ميلُ النَّفْس إلى الشَّهوةِ، وقيل: سُمِّيَ بذلك؛ لأنه يَهوِي بصاحِبِه في الدُّنيا إلى كلِّ داهِيَةٍ، وفي الآخِرَة إلى الهاوِيَة .

الصُّورِ: أي: القَرْنُ يَنْفُخُ فيه إسرافيلُ عليه السَّلام

 

.

مشكل الإعراب :

 

قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ

وَيَوْمَ: مفعولٌ به لفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: اذكُرْ، أو معطوفٌ على الضَّميرِ المنصوبِ في قوله: اتَّقُوه في الآيَةِ السَّابقةِ، على حذْفِ مُضافٍ، أي: واتَّقوا عذابَ يومِ يقولُ، ويجوز أن يكون ظرفَ زمانٍ منصوبًا، مُتعلِّقًا بمحذوفٍ خبر مقدَّم للمبتدأِ المؤخَّر قَوْلُه، والحَقُّ صِفَتُه، أي: وقولُه الحقُّ في يومِ يقولُ: كُنْ فيكونُ.

كُنْ: فعلُ أمْرٍ تامٌّ، وفاعلُه ضميرٌ مستَتِرٌ تقديره «أنت» يرجِعُ إلى كلِّ ما خَلَقَ الله.

فَيَكُونُ: مرفوعٌ، وهو فعل تامٌّ أيضًا، أي: «فهو يكونُ»، فجملةُ «يكون» ليستْ داخلةً في مقولِ القَوْلِ، بل هي جملةٌ مستقلَّةٌ مُستأنَفَةٌ، وفاعله أيضًا ضميرٌ مستتِرٌ تقديره «هو» يرجِع إلى كلِّ ما خَلَق الله، ويجوز أن يكون فاعِلُه: قَوْلُهُ، والحَقُّ صفةٌ لـقَوْلُهُ، أي: فيوجَدُ قولُه الحَقُّ، ويكون الكلامُ على هذا تامًّا على الحَقُّ

 

. ويجوز أنْ يكونَ قَوْلُه مبتدأً، والْحَقُّ خَبَره.

المعنى الإجمالي :

 

يأمُر اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يقولَ للمُشركينَ: أَندْعُو مِن دونِ اللهِ ما لا يَملِكُ لنا نفعًا، ولا يستطيعُ أن يُلْحِقَ بنا ضُرًّا، ونَرجِعُ إلى الضَّلال والكُفْر بعد أنْ هدانا اللهُ إلى الإسلامِ، فنكونَ كرجلٍ أَغْوَتْه الشياطينُ عن مقصِدِه، وله أصحابٌ يدعونَه للطَّريقِ المُوصِل لبُغْيَتِه، ويطلبونَ منه أنْ يِأتِيَهم؛ ليكونَ معهم على الهُدى، قلْ لهم يا محمَّدُ: إنَّ هدى الله هو الهدى الحَقُّ، وأُمِرْنا أن ننقادَ لله تعالى، ونَستَسْلِمَ لشَرْعِه، وأُمْرِنا بإقامةِ الصَّلاةِ، وأن نَتَّقيَه عزَّ وجلَّ، وهو سبحانه مَن إليه تُجْمَعون يومَ القيامة، فيُجازيكم على أعمالِكم خَيرِها وشَرِّها.

وهو سبحانه الذي خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ بالحقِّ، ويومَ القِيامةِ الذي يكونُ بقَوْلِ الله: كُنْ فيكونُ، فقولُه تعالى لا مِرْيَةَ فيه، وهو الصِّدْقُ، واللهُ عزَّ وجلَّ له المُلْك وَحْدَه سبحانه في يومِ القِيامة، هو عالِمُ الغيبِ والشَّهادةِ لا يَخفَى عليه شيءٌ، وهو الحكيمُ الخبيرُ.

تفسير الآيات :

 

قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) .

قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا.

أي: قل- يا محمَّدُ- لهؤلاء المشركين: أَندْعُو مِن دون اللهِ ما لا يَقْدِرُ على نَفعِنا أو ضُرِّنا، فنَخُصه بالعبادةِ دون الله، ونَدَعُ عِبادةَ الذي بِيَدِه وحده الضُرُّ والنَّفْعُ؟

.

وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ.

أي: ونَرجِعُ القَهْقَرى بعدَ هدايةِ اللهِ تعالى لنا إلى ما كنَّا فيه مِن الضَّلال .

كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا.

أي: فيكون مَثَلُنا في ذلك مَثَلَ الرَّجُلِ الذي أضَلَّتْه الشياطينُ عن طريقِه المُوصِل إلى مقْصِدِه، فبَقِيَ في حَيرَةٍ، وله أصحابٌ يَدْعونَه إلى الطَّريقِ الصَّحيحِ الذي هم عليه مُقيمونَ، يقولون له: ائْتِنا فكُنْ معنا على استقامةٍ وهُدًى، والشَّياطينُ يدْعونَه إلى الضَّلالِ والرَّدَى .

قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ.

أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ المشرِكينَ: إنَّ طريقَ اللهِ الذي أوضَحَه لنا، وسبيلَه الذي أَمَرَنا بلُزومِه، هو الهُدى والاستقامةُ التي لا شكَّ فيها، وما عداه فهو ضلالٌ وهلاكٌ .

وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

أي: وأَمَرَنا ربُّنا وربُّ كُلِّ شيءٍ بأنْ ننقادَ لتوحيدِه، ونستسلِمَ لأوامِرِه ونواهيِه، ونَخْضَعَ له بالذِّلَّة والطَّاعة والعبوديَّة، فنُخْلِصَ ذلك له دونَ ما سواه .

وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72).

وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ.

أي: وأُمِرْنا بإقامةِ الصَّلاة، وذلك أداؤُها بحُدودِها وأركانِها وشروطِها وسُنَنِها، وبتقواه في جميعِ الأحوالِ بِفِعْل ما أمَرَ به، واجتنابِ ما نَهَى عنه .

وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.

أي: وربُّ العالمين سبحانه هو الذي تُجمَعون إليه يومَ القيامَةِ، فيُجازيكم بأعمالِكم؛ خيرِها وشَرِّها .

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73).

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ.

أي: وهو سبحانَه الذي خَلَق السَّمواتِ والأرضَ لحِكَمٍ عَظيمةٍ؛ منها: إظهارُ صُنْعِه وقُدرَتِه ووَحدانِيَّتِه، ومنها تكليفُ العبادِ فيأمُرُهم وينهاهم ثم يبعَثُهم؛ ليجازِيَهم بأعمالِهم خَيْرِها وشَرِّها، فيُثِيبَهم ويعاقِبَهم .

كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] .

وقال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر: 85] .

وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ.

أي: ويومَ القِيامةِ الذي يكونُ بقَوْلِ الله: كُنْ فيكونُ عن أمْره كلَمْحِ البَصرِ، أو هو أقربُ، فقوله تعالى لا مِرْيَةَ فيه، وهو الصِّدْقُ الواقِعُ لا محالةَ، ولا يقولُ سبحانه شيئًا عَبثًا .

وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ.

أي: وهو المنفَرِدُ يومَ القيامةِ بالملْك وحدَه دون مَن سواه، فلا مُنازِعَ له فيه، ولا مُدَّعِيَ له في ذلِك اليومِ الَّذي يَنفُخُ فيه المَلَكُ في القَرْنِ .

كما قال عزَّ وجلَّ: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] .

وكما قال سبحانه: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان: 25- 26] .

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.

أي: هو سبحانه يَعلَمُ ما يَغيبُ عن العِبادِ وما يُشاهِدونَه، فلا يَخْفَى عليه شيءٌ .

وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.

أي: وهو الذي له الحِكمةُ التَّامَّةُ، فيُتقِنُ كلَّ شيءٍ خَلَقَه، ويضعُ كُلَّ شيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به؛ ومِن ذلك تَدبيرُه وتصريفُه خَلْقَه مِن حالِ الوجودِ إلى العَدمِ، ثمَّ مِن حالِ العَدَمِ والفناءِ إلى الوجودِ، ثم مجازاتُهم بما يُجازيهم به من ثوابٍ أو عِقابٍ، وهو المحيطُ علمًا بالسَّرائرِ والبواطِنِ، والمُطَّلِعُ على الخَفايا، فهو خبيرٌ بكلِّ ما يعملونَه، ويَكْسِبونَه مِن خيرٍ وشَرٍّ، حافظٌ ذلك عليهم؛ ليجازيَهم على كلِّ ما قدَّموه

 

.

الفوائد التربوية :

 

 

- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيه تذكيرُ المؤمنينَ بهذا اليومِ؛ تحريضًا على إقامةِ الصَّلاةِ والتَّقوى

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قال تعالى: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا المقصودُ مِن هذه الآيةِ الردُّ على عَبَدة الأصنامِ، وهي مؤكِّدةٌ لقوله تعالى قبلَ ذلك: قُلْ إِنِّي نُهِيْتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فقال: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ..، أي: أَنَعبدُ من دونِ اللهِ النَّافِعِ الضَّارِّ ما لا يَقدِرُ على نَفْعِنا ولا على ضُرِّنا، ونُرَدُّ على أعقابِنا راجِعينَ إلى الشِّرْكِ بعد أنْ أنقَذَنا اللهُ منه، وهَدانا للإسلامِ

؟!

2- قال تعالى: وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ... العربُ تقول فيمَن عَجَز بعد قُدرةٍ، أو سَفُل بعدَ رِفعةٍ، أو أحجَمَ بعد إقدامٍ على مَحمَدةٍ: نَكَصَ على عَقِبَيْه، وارتَدَّ على عَقِبَيْه، ورَجَع القَهْقَرَى، والأصلُ فيه رجوعُ الهزيمةِ أو الخَيبةِ، والعَجْزُ عن السَّيْر المحمودِ، ثم صار يُطْلَق على كلِّ تحوُّلٍ مذمومٍ .

3- في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ... وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لَمَّا بَيَّنَ سبحانَه أوَّلًا أنَّ الهُدى النَّافعَ هو هُدَى اللهِ، أردَفَ ذلك الكلامَ الكليَّ بذِكْر أشرفِ أقسامِه على التَّرتيبِ، وهو الإسلامُ، والصَّلاةُ، والتَّقْوى، ثم بيَّنَ منافِعَ هذه الأعمالِ؛ فقال: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، يعني: أنَّ منافِعَ هذه الأعمالِ إنَّما تَظهَرُ في يومِ الحَشرِ والبَعْثِ والقيامةِ .

4- قوله: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أتى بالبَعثِ الذي هم له مُنكِرون؛ لكثرةِ ما أقام مِن الأدلَّةِ على تمامِ القُدرةِ، في سياقٍ دالٍّ على أنَّه ممَّا لا مجالَ للخلافِ فيه، وأنَّ النَّظَر إنَّما هو فيما وراءَ ذلك، وهو أنَّ عَمَلَهم للباطِلِ سوَّغ تنزيلَهم منزلةَ مَن يَعتقِدُ أنَّه يُحشَر إلى غيره سبحانه ممَّن لا قدرةَ له على جَزائِهم، فأخبَرَهم أنَّ الحَشْرَ إليه لا إلى غيرِه؛ لأنَّه لا كلامَ هناك لسواه، فلا عِلَقَ بينَ المحشورينَ، ولا تناصُرَ كما في الدُّنيا، والجُملةُ مع ذلك كالتَّعليلِ للأمْرِ بالتَّقوى .

5- في قولِه تعالى: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ لَمَّا جُعِل اليَومُ ظَرْفًا للمُلْك، ناسَبَ أن يُعَرَّفَ اليومُ بما هو مِن شِعارِ الملْك والجُند، وهو النَّفْخُ في الصُّور .

6- قوله تعالى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ لَمَّا ذَكَر خَلْقَ الخَلْقِ وسُرعةَ إيجادِه لِمَا يَشاءُ، وتَضمَّنَ البَعْثُ إفناءَهم قبلَ ذلك- ناسَبَ ذِكْرَ الوَصفِ بالحَكيمِ، ولَمَّا ذَكَر أنَّه عالِمُ الغَيبِ والشَّهادةِ ناسَبَ ذِكْر الوَصفِ بالخَبيرِ؛ إذ هي صفةٌ تدلُّ على عِلْمِ ما لَطُفَ إدراكُه من الأشياءِ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ

- قوله: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ لتأييسِ المشركينَ منِ ارتدادِ بعضِ المسلمينَ عن الدِّينِ

.

- والاستفهامُ في قوله: أَنَدْعُو للإنكارِ والتَّأْييسِ؛ فهو استفهامٌ بمعنى الإنكارِ؛ أي: لا يَقعُ شيءٌ مِن هذا .

- قوله: وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا إيثارُ نُرَدُّ على (نَرتَدُّ)؛ لتوجيهِ الإنكارِ إلى الارتدادِ برَدِّ الغَيْرِ، تَصريحًا بمخالفَةِ المُضلِّين، وقطعًا لأطماعِهم الفارغةِ، وإيذانًا بأنَّ الارتدادَ من غيرِ رادٍّ ليس في حَيِّزِ الاحتمالِ ليُحتاجَ إلى نَفْيِه وإنكارِه ؛ فعبَّر اللهُ تعالى بالفِعلِ المبنيِّ للمَفعولِ في وَنُرَدُّ بدَل التعبير بـ(نرتد)، أو (نرجِع)؛ لأنَّ هذا التحوُّلَ المذمومَ ليس مِن شأنِه أنْ يقَعَ من عاقلٍ؛ لأنَّ العاقلَ إذا وصَلَ إلى مَرتبةٍ عاليةٍ مِن العِلمِ والكمالِ؛ فإنَّه لا يَختارُ الرجوعَ عنها، واستبدال الذي هو أدْنَى بالذي هو خيرٌ وأعلى، فإذا كانتْ فطرتُه وعقلُه يأبيانِ عليه هذه الرِّدَّةَ والنكوصَ؛ فكيف يُردُّ، وهو لا يرتدُّ ؟!

- والتَّعبيرُ بالرَّدِّ على الأعقابِ؛ لزِيادةِ تَقبيحِه بتَصويرِه بصُورةِ ما هو عَلَمٌ في القُبحِ، مع ما فيه مِن الإشارَةِ إلى كَونِ الشِّركِ حالةً قد تُرِكَت، ونُبِذتْ وراءَ الظَّهْر .

- قوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ تَشبيهٌ تمثيليٌّ؛ حيث شُبِّهَ فيه مَن خَلَصَ مِن الشِّرْك، ثم نَكَصَ على عَقِبَيْه، بحالِ مَن ذَهَبت به الشَّياطينُ في الصحراء البعيدة، وأضلَّتْه بعدَما كان على الجادَّةِ المُستقيمَةِ؛ ففيه تَشبيهُ حالةِ مَن فُرِضَ ارتدادُه إلى ضَلالةِ الشِّركِ بعدَ هُدَى الإسلامِ- لِدعوةِ المشركينَ إيَّاه، وتَرْكِه أصحابَه المُسلمينَ الذين يَصدُّونه عنه- بحالِ الذي فَسَدَ عقلُه باستهواءٍ مِن الشَّياطينِ والجِنِّ، فَتَاهَ في الأرضِ بعدَ أنْ كان عاقلًا عارفًا بمسالِكها، وتَرَك رُفقتَه العقلاءَ يَدْعُونه إلى موافَقتِهم. وهذا التركيبُ البديعُ صالحٌ للتفكيك بأنْ يُشبَّه كلُّ جزءٍ مِن أجزاءِ الهيئةِ المشبَّهةِ بجزءٍ من أجزاءِ الهيئةِ المشبَّهة بها؛ بأنْ يُشبَّه الارتدادُ بعدَ الإيمانِ بذَهابِ عقلِ المجنونِ، ويُشبَّه الكفرُ بالهُيامِ في الأرضِ، ويُشبَّه المشركونَ الذين دَعَوْهم إلى الارتدادِ بالشياطينِ، وتُشبَّه دعوةُ اللهِ الناسَ للإيمانِ ونُزولُ الملائكةِ بوحيه بالأصحابِ الذين يَدْعُون إلى الهُدَى .

- قوله: لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا فيه إيثارُ لفْظِ الهُدَى هنا؛ لِمَا فيه من المناسَبَةِ للحالَةِ المُشَبَّهة .

- قوله: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى مستأنفةٌ استئنافَ تكريرٍ لِمَا أُمِرَ أنْ يقولَه للمشركينَ حين يَدْعُون المُسْلمين إلى الرُّجوعِ إلى ما كانوا عليه في الجاهلِيَّة .

- وقد خُوطِبوا بصِيغةِ القَصرِ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى؛ فجِيءَ بتعريفِ الجُزأَينِ، وضميرِ الفصلِ، وحرْف التوكيدِ، فاجتمعَ في الجملةِ أربعةُ مؤكِّداتٍ؛ لأنَّ القَصْرَ بمنزلةِ مؤكِّدينِ؛ إذ ليس القَصْرُ إلَّا تأكيدًا على تأكيدٍ، وضميرُ الفصل تأكيدٌ، و (إنَّ) تأكيدٌ؛ فكانتْ مقتضى حالِ المشركينَ المُنكرينَ أنَّ الإسلامَ هُدًى .

- وقوله: لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فيه ذِكْرُ اسمِ اللهِ تَعالى بوَصْفِ الرُّبوبيَّةِ لجَميعِ الخَلْق دون اسْمِه العَلَم؛ إشارةً إلى تَعليلِ الأمْرِ وأحقِّيَّتِه؛ إذْ لا يستحِقُّ العبادةَ مِن العبادِ إلَّا ربُّهم الذي خَلَقَهم، وغَذَّاهم بِنِعَمِه .

2- قوله: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

- في تَخْصيصِ الصَّلاةِ بالذِّكْرِ من بينِ أنواعِ الشَّرائعِ، وعَطْفِها على الأَمرِ بالإسلامِ، وقَرْنِها بالأمْرِ بالتَّقوى- دليلٌ على تفخيمِ أَمْرِها، وعِظَم شأنِها .

- قوله: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ اشتَمَلَ على عِدَّةِ مُؤَكِّدات، وهي: صِيغةُ الحَصرِ بتَعريفِ الجُزأينِ وَهُوَ الَّذِي، وتقديمُ معمولِ تُحْشَرُونَ وهو إِلَيْهِ المُفيدُ للتَّقوِّي؛ لأنَّ المقصودَ تحقيقُ وقوعِ الحَشْر على من أنْكَرَه من المشركينَ، وتحقيقُ الوَعْدِ والوعيد للمؤمنينَ، والحَصْر هنا حقيقيٌّ؛ إذ هم لم يُنكِروا كونَ الحَشر إلى الله، وإنَّما أنكروا وقوعَ الحَشْر، فسَلَك في إثباتِه طريقَ الكِنايةِ بِقَصْرِه على اللهِ تعالى المُستَلْزِم وقوعَه، وأنَّه لا يكونُ إلَّا إلى اللهِ، تَعريضًا بأنَّ آلهَتَهم لا تُغني عنهم شيئًا .

- وهو جملةٌ خبريَّةٌ تَتضمَّنُ التَّنبيهَ والتَّخويفَ لِمَن ترَكَ امتثالَ ما أُمِرَ به مِن الإسلامِ والصَّلاةِ واتِّقاءِ الله؛ وإنما تظهرُ ثَمَراتُ فِعْل هذه الأعمالِ وحَسَراتُ تَرْكِها يومَ الحَشْر والقيامَةِ .

3- قوله: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ

- قوله: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ

(يَوْمَ) ظرفٌ وقعَ خبرًا مُقَدَّمًا- على أحَدِ الأوجُهِ في الآيةِ-؛ للاهتمامِ به، والمبتدأُ هو قَوْلُهُ والْحَقُّ صِفَةٌ للمُبتدأِ، وأصلُ التَّركيبِ: (وقَوْلُه الحقُّ يَومَ يقولُ كُنْ فيكونُ)، ونكتةُ الاهتمامِ بتقديمِ الظَّرْفِ الردُّ على المُشركينَ المُنْكرينَ وقوعَ هذا التكوينِ بعد العَدَمِ .

- وقوله: قَوْلُهُ الْحَقُّ صِيغةُ قَصْرٍ للمبالغةِ؛ أي: هو الحقُّ الكامِلُ؛ لأنَّ أقوالَ غيرِه، وإن كان فيها كثيرٌ من الحَقِّ، فهي معرَّضةٌ للخَطَأِ، وما كان فيها غيرَ مُعَرَّضٍ للخَطَأِ، فهوُ راجعٌ إلى فَضلِ اللَّهِ .

- وقوله: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فيه بِناءُ يُنْفَخُ للمَفعولِ؛ تعظيمًا للنَّفْخَةِ .

- وقوله: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ كالفَذْلكةِ للآيةِ

 

.

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (74 - 79)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ

غريب الكلمات :

 

مَلَكُوتَ: أي: مُلْك، أو هُو أعظمُ المُلْك، وهو مُختصٌّ بمُلْكِ اللهِ تعالى؛ والملكوتُ مَصدرٌ من المُلْك، كالرَّغبوتِ مِنَ الرَّغبة، والرَّهبوتِ من الرَّهبة؛ زِيدَتْ فيه الواوُ والتاءُ، وبني على (فَعَلُوت)، وهو بِناءُ مُبالغةٍ؛ فالملكوتُ أبلغُ مِن المُلك؛ لفَخامةِ لفْظِه، وأصلُ (ملك): يدُلُّ على قُوَّةٍ في الشَّيءِ وصِحَّةٍ

.

الْمُوقِنِينَ: جمْع موقِنٍ، واليقينُ من صفاتِ العلمِ، يُقال: علم يَقِينٍ، وهو سكونُ الفَهمِ، وثبوتُ الحُكم، واليَقينُ: زوالُ الشَّكِّ، أو الاعتقادُ الجازمُ الثَّابِتُ المطابِق للواقِع .

جَنَّ عَلَيهِ: أي: أظلَمَ عليه وسَترَه، وغَطَّى عليه، وأصل (جنن): السَّتْرُ والتستُّر .

الْآفِلِينَ: أي: الغائبينَ عن العُيونِ، أي: مِن: أَفَل إذا غابَ، والأُفُول: غَيبوبةُ النيِّراتِ؛ كالقَمَر والنُّجومِ .

بَازِغًا: أي: طالعًا منتَشِرَ الضَّوءِ، أو مُبتدِئًا في الطُّلوعِ، وأصلُ البُزوغِ: طلوعُ الشَّيءِ وظهورُه .

فَطَرَ: أي: خلَق، وأصلُ الفَطْر: فتْحُ الشَّيءِ وإبرازُه، أو الشقُّ طولًا .

حَنِيفًا: أي: مقبلًا على الله، مُعرضًا عما سِواه، وقيل: مُستقيمًا، أو: مائلًا عَنِ الشِّرك والدِّينِ الباطِلِ؛ قَصدًا إلى التَّوحيدِ والدِّين الحقِّ المُستقيمِ، والدِّينُ الحنيفُ هو الإقبالُ على اللهِ وحدَه، والإعراضُ عما سِواه، وهو الإخلاصُ، والحنفُ: الميلُ عن الشيءِ بالإقبالِ على آخرَ، فالحَنَفُ: مَيلٌ عن الضَّلالِ إلى الاستقامةِ، وأصْله: مَيلٌ في إبْهامَي القَدمينِ، كلُّ واحدةٍ على صاحبتِها

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يقول تعالى: اذكرُ- يا محمَّدُ- حينَ قال إبراهيمُ لأبيهِ المُشْرِك: أتجعَلُ الأصنامَ آلهةً تَعبُدُها من دون اللهِ، إنِّي أراك وقومَك الذين يعبدونَ الأصنامَ في ضلالٍ بَيِّنٍ، وانحرافٍ واضحٍ عن الطَّريقِ المستقيمِ.

ثم يُخبِر تعالى أنَّه كما وفَّقَ إبراهيمَ في دِينِه، فهداه لتوحيدِه عزَّ وجلَّ، كذلك يُريه ما تشتَمِلُ عليه السَّمواتُ والأرضُ مِن مُلْكٍ عَظيمٍ وواسعٍ؛ ليستدلَّ بذلك على وحدانيَّة الله، واستحقاقِه وَحْدَه للعبادة، ولِيَكونَ من المُوقنينَ.

فحِين أظلَمَ عليه اللَّيل رأى كوكبًا، فقال على وجه التنزُّلِ مع الخَصْم: هذا ربِّي، فلَمَّا غاب ذلك الكوكَبُ قال إبراهيمُ عليه السَّلامُ: لا أحِبُّ المعبودَ المُتَغَيِّر، الذي يغيبُ وينصرِفُ عمَّن عَبَده، فلَمَّا رأى القَمَر في أوَّلِ طلوعه قال تنزُّلًا مع الخصم: هذا ربِّي، فلمَّا غاب قال إبراهيمُ: لَئِنْ لم يُوفِّقْني ربِّي لِلحَقِّ لأكونَنَّ من القومِ الضَّالِّينَ.

فلَمَّا رأى الشَّمْس في أوَّلِ طُلُوعها قال تنزُّلًا: هذا الطَّالِعُ ربِّي، وهو أكبرُ من الكوكَبِ والقمرِ، فلَمَّا غابت الشَّمْس قال إبراهيم: إنِّي أبْرَأُ من كلِّ ما تعبدونَه مع اللهِ، إنِّي أخلَصْتُ قَصْدي، وأَفْرَدْتُ العبادةَ لله الذي أبدَعَ السَّمواتِ والأرضَ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، مائلًا عن الشِّرْك، مستقيمًا على التَّوحيدِ، وما أنا مِن المشْركينَ مع الله تعالى غَيرَه.

تفسير الآيات :

 

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا قال الله تعالى: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا، ناسَبَ ذِكْرَ هذه الآيةِ هنا، وكان التَّذكارُ بقِصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مع أبيه وقومِه أنسَبَ؛ لرُجوعِ العَرَب إليه؛ إذ هو جَدُّهم الأعلى، فذُكِّروا بأنَّ إنكارَ هذا النبيِّ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم عليكم عِبادَةَ الأصنامِ هو مِثْلُ إنكارِ جَدِّكم إبراهيمَ على أبيه وقَوْمِه عِبادَتَها

، فقال تعالى:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً.

أي: واذكُرْ- يا محمَّدُ- حين قال إبراهيمُ عليه السَّلام لأبيهِ آزَرَ مُفارِقًا دِينَه، وعائبًا عبادَتَه الأصنامَ: أتَعبُدُ الأصنامَ من دون الله عزَّ وجلَّ ؟!

إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ.

أي: إنِّي أراك وقومَك الذين يَعبُدونَ الأصنامَ في عُدولٍ واضِحٍ عن الصِّراطِ المستقيمِ، وانحرافٍ بيِّنٍ عن الطَّريقِ القويم، يَتبيَّنُ لكلِّ من أبصره مِمَّن له عقلٌ صحيح؛ حيث عبدْتُم مَن لا يَستحِقُّ مِن العبادةِ شيئًا، وتركتُم عبادةَ خالِقِكم ورازِقِكم سبحانه وتعالى !

كما قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم: 41- 48] .

وعن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يَلْقَى إبراهيمُ أباه آزرَ يومَ القيامةِ، وعلى وَجْهِ آزرَ قتَرةٌ وغَبَرةٌ، فيقول له إبراهيمُ: ألم أقُلْ لك لا تَعصِني؟ فيقول أبوه: فاليومَ لا أَعصيكَ، فيقول إبراهيمُ: يا ربِّ، إنَّك وعدْتَني ألَّا تُخزيَني يومَ يُبعثونَ، فأيُّ خِزيٍ أَخْزى مِن أبي الأَبعدِ؟ فيقول اللهُ تعالى: إنِّي حرَّمتُ الجنَّةَ على الكافرينَ، ثم يُقال: يا إبراهيمُ، ما تحتَ رِجْلَيك؟ فينظر، فإذا هو بذِيخٍ مُلتطِّخٍ ، فيُؤخذُ بقَوائمِه فيُلقَى في النَّارِ )) .

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75).

أي: وكما بصَّرْنا إبراهيمَ عليه السَّلامُ في دِينه فوفَّقناه لتوحيدِ الله تعالى، خلافًا لِمَا كان عليه أبوه وقومُه من الضَّلالِ؛ نُرِيه أيضًا مُلْك السَّمواتِ والأرض، فيَرَى ما أبدَعَه اللهُ تعالى فيهما من مَخلوقاتٍ؛ كالشَّمْس والقَمَر والنُّجومِ والشَّجَر والدوابِّ وغير ذلك، ويَتبيَّنُ له ببصيرتِه ما اشتمَلَت عليه من أدلَّةِ وحدانيَّة اللهِ عزَّ وجلَّ، واستحقاقِه للعبادة وَحْده لا شريكَ له، ويَصِلُ إلى دَرجةِ اليقينِ؛ فلا يتطرَّقُ إليه شكٌّ أو وهْمٌ في ذلك مُطلقًا .

قال عزَّ وجلَّ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الأعراف: 185] .

وقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 105- 106] .

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا كانت الأمورُ السماويَّةُ مُشاهَدةً لجميعِ الخَلْقِ: دَانِيهم وقاصِيهم، وهي أشرفُ مِنَ الأرضيَّةِ، فإذا بَطَلَت صلاحيتُها للإلهيَّة، بَطَلَت الأرضيَّةُ من بابِ الأَوْلى- نَصَبَ لهم الحِجَاجَ في أَمْرِها، فقال مسبِّبًا عن الإراءةِ المذكورةِ :

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي.

أي: فلمَّا واراه اللَّيلُ، وتغشَّاه بظَلامِه، أبصَرَ بعينِه كوكبًا حين طَلَع، فقال على وجْهِ التنزُّلِ مع قومِه : هذا ربِّي .

فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ.

أي: فلمَّا غاب ذلك الكوكبُ وذهَبَ؛ قال إبراهيمُ عليه السَّلام: لا أُحِبُّ المعبودَ المتغيِّرَ، المُسَخَّر، والذي يغيبُ وينصرِفُ عمَّن عَبَدَه؛ لأنَّه لا يُمكِن أنْ يكونَ مَن هذا حالُه هو القائِمَ بمصالح عبادِه، المدبِّرَ لشؤون العالَم، الذي بيده النَّفْعُ والضُّرُّ، وعليه فلا يَصْلُح أن يكون إلهًا يستحِقُّ أن يُعبَدَ .

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا بصَّرَهم قُصورَ صغيرِ الكواكِبِ رَقِيَ النَّظَرُ إلى أكبَرَ منه، فسبَّبَ عن الإعراضِ عن الكواكِبِ لقصورِه قولَه :

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي.

أي: فلمَّا رأى إبراهيمُ عليه السَّلامُ القَمَرَ في أوَّلِ طلوعِه قال تنزُّلًا: هذا ربِّي .

فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ.

أي: فلمَّا غاب القمرُ قال إبراهيم عليه السَّلامُ: لئِنْ لم يُوفِّقْني ربِّي لإصابةِ الحَقِّ لأكونَنَّ من القومِ الذين أخطَؤوا طريقَ الحَقِّ، فلم يُصيبُوا الهُدَى .

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) .

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ.

أي: فلمَّا رأى إبراهيمُ عليه السَّلامُ الشَّمْسَ في أوَّلِ طُلُوعِها قال تنزُّلًا: هذا الطَّالِعُ المُنير ربِّي، وهو أكبرُ من الكوكَبِ ومن القَمَر .

فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ.

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا ثبَتَ بالدَّليلِ أنَّ هذه الكواكِبَ لا تَصلُحُ للربوبيَّة والإلهيَّة؛ لا جَرَم تبرَّأَ من الشِّرْك .

فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ.

أي: فلمَّا غابتِ الشَّمْسُ قال إبراهيمُ لقومِه: إنِّي أتبرَّأُ مِن كلِّ ما تَعبُدونَه مع اللهِ عزَّ وجلَّ .

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا أنكَرَ على أبيه عِبادةَ الأصنامِ وضَلَّلَه وقَوْمَه، ثم استدَلَّ على ضلالِهم بقضايا العُقولِ؛ إذ لا يُذعِنونَ للدَّليلِ السَّمعيِّ؛ لتوقُّفِه في الثُّبوتِ على مُقدِّماتٍ كثيرةٍ، وأَبْدَى تلك القضايا منوطةً بالحِسِّ الصادِقِ- تبرَّأَ من عِبادتِهم وأكَّد ذلك بـ(إنَّ)، ثمَّ أخبَرَ أنَّه وجَّه عبادَتَه لمُبدِع العالَم الذي هذه النَّيِّراتُ المُستَدَلُّ بها بَعْضُه، ثمَّ نفَى عن نفْسِه أنْ يكونَ من المُشْرِكين؛ مبالغةً في التبرُّؤِ منهم .

وأيضًا لَمَّا أبطَلَ جميعَ مذهَبِهم، أظهَرَ التوجُّهَ إلى الإلهِ الحَقِّ، وأنَّه قدِ انكشَفَ له الصَّوابُ بهذا النَّظَر، والمرادُ هم، ولكنَّ سَوْقَه على هذا الوَجْه أَدْعى لقَبولِهم إيَّاه، فقال مُستنتِجًا عمَّا دَلَّ عليه الدَّليلُ العقليُّ في الملكوتِ :

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.

أي: إنِّي قدْ أخلصْتُ قَصْدي، وأفرَدْتُ عِبادتي لِمَن يَستحِقُّ ذلك، وهو اللهُ تعالى؛ لأنَّه الذي أَبْدَع خَلْقَ السَّمواتِ والأرضِ، على غير مثالٍ سَبَقَ؛ فهو القادِرُ وحْده على أن يُنْشِئَ الخَلْقَ من العَدَم إلى الوجودِ .

كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21-22] .

وقال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيل النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْس وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] .

حَنِيفًا.

أي: مائلًا عن الشِّرْك، مستقيمًا على التَّوحيدِ، مُقبلًا على الله تعالى، مُعْرِضًا عمَّا سِواه .

وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

مناسَبَتُها لما قَبْلَها:

لَمَّا تَبرَّأَ إبراهيمُ مِن أصنامِهم بقولِه: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، تَبَرَّأَ من القَوْمِ ، فقال:

وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

أي: ولسْتُ ممَّن يَدينُ بِدِينِكم، ويتَّبِعُ مِلَّتَكم- أيُّها المشركونَ- ولستُ أُشِركُ بربِّي شَيئًا

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120- 123] .

الفوائد التربوية :

 

1- قولُه تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا في إنكارِ إبراهيمَ على أبيه دَليلٌ على الإنكارِ على مَن أُمِر الإنسانُ بإكرامِه، إذا لم يَكُنْ على طَريقةٍ مُستقيمةٍ، وعلى البَدَاءةِ بمن يقرُبُ من الإنسانِ؛ كما قال: وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الْأَقْرَبِيْنَ

.

2- في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا التنبيهُ على اقتفاءِ مَن سَلَفَ مِن صالحي الآباءِ والأجدادِ؛ فقد احتجَّ سبحانه على مُشرِكي العَرَب بأحوالِ إبراهيم عليه السَّلام؛ وذلك لأنَّه يَعترفُ بفَضْلِه جميعُ الطَّوائفِ والمِلَل؛ فالمشرِكونَ كانوا معترفينَ بفَضْلِه، مُقِرِّين بأنَّهم مِن أولادِه، واليهودُ والنَّصارى والمسلمونَ كُلُّهم مُعَظِّمونَ له، مُعترفونَ بجلالةِ قَدْرِه، فلا جَرَمَ ذَكَرَ اللهُ حكايةَ حالِه في مَعْرِض الاحتجاجِ على المُشركينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- في قولِه تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً اشتَمَلَ كلامُ إبراهيمَ عليه السَّلام في هذه الآيَةِ على ذِكْرِ الحُجَّة العقليَّةِ على فسادِ قَولِ عَبَدَة الأصنامِ من وجهينِ: الأوَّلُ: أنَّ قوله: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً يدلُّ على أنَّهم كانوا يَقولونَ بكَثرةِ الآلِهَةِ، إلَّا أنَّ القولَ بكَثرةِ الآلهةِ باطلٌ بالدَّليلِ العقليِّ، الذي فُهِمَ مِن قوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا، والثاني: أنَّ هذه الأصنامَ لو حَصَلَت لها قدرةٌ على الخيرِ والشَّرِّ لكان الصَّنمُ الواحدُ كافيًا، فلمَّا لم يكُنِ الواحِدُ كافيًا دلَّ ذلك على أنَّها وإن كثُرت فلا نَفْعَ فيها البتَّةَ

.

2- في قوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً أي: اذكرْ قولَه، وحِكمةُ التَّذكيرِ بوقتِه التَّنبيهُ على أنَّ هذا لم يَزلْ ثابتًا مُقرَّرًا على ألْسنةِ جميعِ الأنبياءِ في جميعِ الدُّهور، وكان في هذه المحاجَّةِ التصريحُ بما لَوَّح إليه أوَّلَ هذه السورةِ مِن إبطالِ هذا المذهبِ، وانعطَفَ هذا على ذاكَ أيَّ انعطافٍ! وصار كأنَّه قيل: ثمَّ الذين كفروا بربِّهم يعدلون الأصنامَ والنجومَ والنورَ والظُّلمةَ، فنبِّهْهم يا رسولَ اللهِ على ذلك؛ بأنَّه لا مُتصرِّفَ غيرُنا، اذكرْ لهم أنِّي أنا الذي خلقتُهم وخلقتُ جميعَ ما يُشاهِدون مِن الجواهرِ والأعراضِ، فإنْ تَنبَّهوا فهو حظُّهم، وإلَّا فاذْكُرْ لهم مُحاجَّةَ خليلِنا إبراهيمَ عليه السَّلامُ، إذ قال: لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً .

3- قوله تعالى: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ فيه دليلٌ على هِدايةِ إبراهيمَ وعِصمَتِه مِن سَبْق ما يُوهِم ظاهِرُ قولِه: هَذَا رَبِّي مِن نِسبةِ ذلك إليه على أنَّه أخبَرَ عن نَفْسِه، وإنَّما ذلك على سَبيلِ التنزُّلِ مع الخَصْمِ، وتقريرِ ما يَبني عليه مِن استحالةِ أن يكون متَّصفًا بصفاتِ المخلوقين .

4- قال تعالى: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فائدةُ عَطفِ وَقَوْمَكَ على ضَميرِ المخاطَبِ، مع العِلم بأنَّ رؤيتَه أباه في ضَلالٍ تَقتضي أنْ يرَى مماثِلِيه في ضلالٍ أيضًا- أنَّ المقامَ مقامُ صراحةٍ، لا يُكتَفَى فيه بدَلالةِ الالْتزامِ، ولِيُنبِّئَه من أوَّلِ وهْلةٍ على أنَّ موافقةَ جَمْع عظيمٍ إيَّاه على ضَلالِه لا تُعَضِّدُ دِينَه، ولا تُشَكِّك مَن يُنْكِر عليه ما هو فيه .

5- في قوله: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِيْنَ احتجَّ عليهم بالأُفولِ دون البُزوغِ، وكِلاهما انتقالٌ من حالٍ إلى حالٍ؛ في قوله: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْس بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ؛ لأنَّ الاحتجاجَ بالأُفولِ أظهَرُ؛ لأنَّه انتقالٌ مع خفاءٍ واحتجابٍ، والبزوغُ وإنْ كان طرأَ بعدَ أُفولٍ، لكنَّ الأفولَ السَّابقَ غيرُ مشاهَدٍ لهم؛ فكان الأفولُ أخْصرَ في الاحتجاجِ مِن أنْ يقولَ: إنَّ هذا البازغَ كان مِن قبلُ آفِلًا ، وإنَّما تريَّثَ إلى أُفولِ القَمَرِ فاستدلَّ به على انتفاءِ إلهيَّتِه، ولم يَنْفِها عنه بمُجرَّدِ رُؤيَتِه بازغًا، مع أنَّ أُفُولَه مُحقَّقٌ بحَسَب المعتادِ؛ لأنَّه أرادَ أن يُقيمَ الاستدلالَ على أَساسِ المشاهَدةِ، على ما هو المعروفُ في العُقولِ؛ لأنَّ المشاهدةَ أقوى .

6- جاء بلفْظِ الْآفِلِيْنَ ليدُلَّ على أنَّ ثَمَّ آفلينَ كثيرينَ، ساواهم هذا الكوكبُ في الأُفولِ، فلا مزيةَ له عليهم في أن يُعبَدَ؛ للاشتراكِ في الصِّفةِ الدالَّةِ على الحدوثِ .

7- قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي لم يأتِ في الكواكب (رأى كوكبًا بازغًا)؛ لأنَّه أوَّلًا ما ارتقبَ حتَّى بزَغَ الكوكبُ؛ لأنَّه بإظلام اللَّيل تظهرُ الكواكبُ بخلاف حالِه مع القَمَر والشَّمْس؛ فإنَّه لَمَّا أوضَحَ لهم أنَّ هذا النَّيِّرَ- وهو الكوكَبُ الذي رآه- لا يَصلُحُ أن يكون ربًّا؛ ارتقَبَ ما هو أنورُ منه وأَضْوَأُ؛ على سَبيلِ إلحاقِه بالكوكبِ، والاستدلالِ على أنَّه لا يَصلُح للعِبادةِ، فرآه أوَّلَ طُلوعِه وهو البزوغُ، ثم عَمِلَ كذلك في الشَّمْس؛ ارتقَبَها إذ كانتْ أنْوَرَ من القَمَرِ وأضْوَأَ وأكبَرَ جِرْمًا وأعَمَّ نَفْعًا؛ فقال ذلك على سَبيلِ الاحتجاجِ عليهم، وبَيَّن أنَّها مُساوِيَةٌ للقَمَر والكواكِبِ في صفةِ الحدوثِ .

8- قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِيْ رَبِّيْ لَأَكُوْنَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّيْنَ يدلُّ على أنَّ الهدايةَ ليستْ إلَّا مِن اللهِ تعالى .

9- قال في الشَّمْس هَذَا مع أنَّها مؤنَّثةٌ، ولم يَقُلْ (هَذِه)؛ لوجوهٍ: أحدُها: أنَّ الشَّمْس بمعنى الضِّياءِ والنورِ، فحُمِلَ اللَّفظُ على التأويلِ فذُكِّرَ. وثانيها: أنَّ الشَّمْس لم يحصُلْ فيها علامةُ التأنيثِ، فلمَّا أشبَهَ لفظُها لفظَ المُذكَّر، وكان تأويلُها تأويلَ النُّورِ؛ صَلَح التَّذكيرُ من هاتين الجِهَتينِ، وثالثها: أراد: هذا الطَّالِعُ، أو هذا الذي أراه، ورابعُها: المقصودُ منه رعايةُ الأدَبِ، وهو ترْكُ التأنيثِ عندَ ذِكْرِ اللَّفظِ الدَّالِّ على الربوبيَّة، وخامسها: لوجود المُسَوِّغ، وهو تذكيرُ الخبَرِ؛ إظهارًا لتعظيمِها، إبعادًا عن التُّهمةِ، وسادسها: للتَّنبيهِ من أوَّلِ الأَمْرِ على أنَّ المؤنَّثَ لا يَصْلُح للربوبيَّةِ .

10- في قولِه تعالى: فَلَمَا أَفَلَتْ مسألةٌ: لَمَّا كانَ الأُفولُ حاصلًا في الشَّمْس، والأُفولُ يمنعُ من صفةِ الربوبيَّة، وإذا ثبت امتناعُ صفةِ الربوبيَّة للشَّمس كان امتناعُ حصولها للقمرِ ولسائرِ الكواكبِ أَوْلَى، وبهذا الطَّريقِ يظهر أن ذِكْرَ هذا الكلام في الشَّمْس يُغني عن ذِكْره في القَمَر والكواكب، فلِمَ لم يقتصِرْ على ذِكْر الشَّمْس رعايةً للإيجازِ والاختصارِ؟

قلنا: إنَّ الأخْذَ من الأدْوَنِ فالأدونِ، مترقيًا إلى الأعلى فالأعلى؛ له نوعُ تأثيرٍ في التقريرِ والبيانِ والتَّأكيدِ، لا يحصُل مِن غيره، فكان ذِكْرُه على هذا الوَجْه أَوْلى .

11- في قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، قد يقول قائلٌ: هَبْ أنَّه ثبت بالدَّليل أنَّ الكواكبَ والشَّمْس والقَمرَ لا تصلحُ للربوبيَّة والإلهيَّة، لكنْ لا يلزمُ مِن هذا القَدْر نفيُ الشَّريكِ مُطلقًا، وإثباتُ التَّوحيد، فلِمَ فَرَّعَ على قيامِ الدَّليل على كونِ هذه الكواكِبِ غيرَ صالحةٍ للربوبيَّة، الجَزْمَ بإثباتِ التوحيدِ مطلقًا.

والجوابُ: أنَّ القومَ كانوا مُساعدينَ على نفْيِ سائرِ الشُّركاءِ، وإنَّما نازعوا في هذه الصورةِ المُعَيَّنة، فلمَّا ثبت بالدَّليلِ أنَّ هذه الأشياءَ ليست أربابًا ولا آلهةً، وثبت بالاتِّفاقِ نَفْيُ غيرِها؛ لا جَرَمَ حصل الجَزْمُ بنفيِ الشُّركاءِ على الإطلاقِ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ الاستفهامُ للإنكارِ والتَّوبيخِ، وقدْ نبَّه بهذا الإنكارِ على أنَّ مَعرفةَ بُطلانِ ما هو مُتدَيَّنٌ به لا يحتاجُ إلى كثيرِ تأمُّلٍ، بل هو أمرٌ بديهيٌّ أو قريبٌ منه؛ فإنَّهم يُباشِرونَ أمْرها بجميعِ جوانبِهم، ويَعلَمون أنَّها مصنوعةٌ، وليستْ بصانعةٍ، وكثرتُها تدلُّ على بُطلانِ إلهيتِها بما أشارَ إليه قولُه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا

[الأنبياء: 22] .

- وعبَّر بصيغةِ الافتعالِ في (تتَّخِذ)- فهو افتعالٌ من الأخْذِ- للدَّلالة على التكلُّفِ للمبالغةِ في تَحصيل الفِعلِ، وأنَّ ذلك مُصطنَعٌ مُفتعَلٌ، وأنَّ الأصنامَ ليست أهلًا للإلهيَّة، وفي ذلك تعريضٌ بسخافةِ عَقْلِه؛ أن يجعَلَ إلهَه شيئًا هو صَنَعَه .

- وفي ذِكْره أَصْنَامًا آلِهَةً بالجمْعِ تقبيحٌ عظيمٌ لِفِعْلِهم .

- قوله: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ جملةٌ مُبَيِّنةٌ للإنكارِ في جملة: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً، وأكَّدَ الإخبارَ بحرْفِ التأكيدِ؛ لِمَا يتضمَّنُه ذلك الإخبارُ مِن كَوْنِ ضَلالِهم بيِّنًا .

2- قوله: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جملةُ اعتراضٍ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، وهما قوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وجملةُ الاستدلالِ عليهم بإفرادِ المعبودِ، وكونِه لا يُشْبِه المخلوقين فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيل...؛ إذ إنَّ أباه وقومَه كانوا يعبدونَ الأصنامَ والكواكِبَ، فأراد أن يُنَبِّهَهم على ضلالَتِهم، ويُرْشِدَهم إلى الحقِّ من طريقِ المُناظَرةِ والاستدلالِ .

3- قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي

- فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ قَصَر الفِعلَ جَنَّ- وإنْ كان مُتعدِّيًا-؛ دَلالةً على شِدَّةِ ظلامِ تلك اللَّيلةِ؛ ولذلك عدَّاه بأداةِ الاستعلاءِ فقال: عَلَيْهِ اللَّيْلُ، أي وقَعَ السَّترُ عليه ؛ فقوله: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ يُقصَد به المبالغةُ في السَّترِ بالظُّلْمَةِ حتَّى صارتْ كأنَّها غِطاءٌ؛ إذ الأصْلُ أنْ يُقالَ: جَنَّه اللَّيلُ، أي: أخْفاهُ .

- قوله: قَالَ هَذَا رَبِّي جملةٌ مستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ جوابًا لسؤالٍ ينشأُ عن مَضمونِ جملةِ (رأى كوكبًا)، وهو أنْ يسأل سائِلٌ: فماذا كان عِندَما رآه؟ فيكون قولُه: قَالَ هَذَا رَبِّي جوابًا لذلِك .

- واسمُ الإشارةِ هَذَا هنا لقَصْدِ تمييزِ الكوكَبِ مِنْ بينِ الكواكِبِ، ولكِنْ إجراؤُه على نظيرَيهِ في قوله حينَ رأى القَمَر، وحين رأى الشَّمْس: «هذا ربِّي- هذا ربِّي» يُعَيِّن أن يكون القَصْدُ الأصليُّ منه هو الكنايةَ بالإشارةِ عن كونِ المشارِ إليه أمرًا مطلوبًا مبحوثًا عنه، فإذا عُثِرَ عليه أُشِيرَ إليه .

- وتعريف الجزأينِ في قولِه: هَذَا رَبِّي مفيدٌ للقصر؛ لأنه لم يقل: هذا ربٌّ؛ فدلَّ على أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ أراد استدراجَ قومِه، فابتدأ بإظهارِ أنَّه لا يرى تعدُّدَ الآلهَةِ؛ لِيصِلَ بهم إلى التوحيدِ، واستبقى واحدًا من معبوداتِهم، ففَرَض استحقاقَه الإلهيَّةَ؛ كيلا ينفرُوا من الإصغاءِ إلى استدلالِه .

4- قوله: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ

- قوله: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي التقديرُ: فطَلَع القمرُ، فلمَّا رآه بازغًا، فحُذِفت الجملةُ للإيجازِ، وهو يقتضي أنَّ القَمَرَ طلَعَ بعد أُفُولِ الكوكبِ .

- وأفاد تعريفُ الجزأينِ هَذَا رَبِّي أنه أكثرُ ضوءًا من الكوكب؛ فإذا كان استحقاقُ الإلهيَّة بسبب النُّور، فالذي هو أشدُّ نورًا أَوْلَى بها من الأَضْعَفِ .

- قوله: قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فيه تعريضٌ حسنٌ؛ حيث عرَّض في كلامِه بأنَّ له ربًّا يهديه، وهم لا يُنكِرون عليه ذلك؛ لأنَّهم قائلون بعدَّةِ أربابٍ، وفي هذا تهيئةٌ لنفوسِ قَومِه لِمَا عَزَمَ عليه من التَّصريحِ بأنَّ له ربًّا غيرَ الكواكب، ثم عرَّضَ بقومِه أنَّهم ضالُّون، وهيَّأَهم قبل المصارَحَةِ للعِلْمِ بأنَّهم ضالُّون؛ لأنَّ قَوْلَه: لَأَكُوْنَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّيْنَ يُدخِل على نفوسِهم الشَّكَّ في معتقَدِهم أن يكونَ ضَلالًا؛ ولأجَل هذا التعريضِ لم يقُلْ: لأكونَنَّ ضالًّا، وقال: لَأَكُوْنَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّيْنَ ليشيرَ إلى أنَّ في الناس قومًا ضالِّين، يعني: قومَه .

- والتعريضُ بضلالهم هنا أصرحُ وأقْوَى مِن قولِه أوَّلًا: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، وإنَّما ترقَّى إلى ذلك؛ لأنَّ الخُصومَ قد أقامَتْ عليه الاستدلالَ الأوَّلَ حُجَّةً، فأَنِسُوا بالقَدْحِ في مُعتقَدِهم، ولو قيل هذا في الأوَّل، فلعَلَّهم كانوا يَنْفِرون، ولا يُصغونَ إلى الاستدلالِ، فما عرَّض إبراهيمُ عليه السَّلام بأنَّهم في ضلالةٍ إلَّا بعد أن وَثِقَ بإصغائِهم إلى تمامِ المقصودِ، واستماعِهم إلى آخِرِه؛ ولذلك ترقَّى في النَّوبةِ الثالثةِ إلى التَّصريحِ بالبراءةِ منهم، والتقريعِ بأنَّهم على شِرْكٍ، حين قيامِ الحُجَّة عليهم، ووضوحِ الحَقِّ، وبلوغِه من الظُّهورِ غايةَ المقصودِ ؛ فعرَّض بضلالِهم في أمْرِ القَمَر؛ لأنه أَيِسَ منهم في أمْرِ الكوكب؛ ولهذا أعْلَن في أمْرِ الشَّمْس البَراءةَ منها عن طريقِ استدراجِ الخَصْمِ، وإيقاعِه تحتَ الحُجَّةِ .

5- قوله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فيه التأكيدُ بـ(إنَّ)، ثم الإخبارُ أنَّه وجَّه عبادَتَه لِمُبدِع العالَم، الذي هذه النيِّراتُ المستدَلُّ بها بعضُه، ثم نفى عن نفْسِه أن يكون من المشركينَ؛ مبالغةً في التبرُّؤِ منهم ؛ فإنَّ قوله: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أفاد تأكيدًا لجملة إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِيْ فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا أيضًا

 

.

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (80 - 83)

ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ

غريب الكلمات :

 

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ: أي: غالَبُوه وجادَلُوه وخاصَموه، والمُحاجَّة: أنْ يَطْلُبَ كلُّ واحدٍ أن يَرُدَّ الآخَرَ عن حُجَّتِه ومَحَجَّتِه، والحُجَّةُ: البُرهانُ والسُّلطانُ، وأَصْلُ (حجج): قَصْدُ جادَّةِ الطَّريقِ

.

سُلْطَانًا: حُجَّةً، وأصلُه مِن القوَّة والقَهْر .

يَلْبِسُوا: أي: يَخلِطوا، وأصلُ اللَّبْس: المخالَطَة والمُداخَلَة .

دَرَجَاتٍ: منازلَ يبلُغُها بعمَلِه، وأَصْلُ (درج): يدُلُّ على مُضيِّ الشَّيءِ، والمضيِّ في الشَّيءِ

 

.

مشكل الإعراب :

 

1- قوله تعالى: أَتُحَاجُّونِّي: يُقرأُ بتَشديدِ النُّونِ على إدغامِ نونِ الرَّفْعِ في نُونِ الوِقايةِ، والأصل تُحاجُّونَنِي

، ويُقرأُ بالتَّخفيفِ على حَذْفِ إحْدى النُّونَينِ، وفي المحذوفَةِ وجهانِ: أحدهما: هي نونُ الوِقايةِ؛ لأنها الزائدةُ التي حصَل بها الاستثقالُ. والثاني: المحذوفةُ نونُ الرَّفْعِ؛ لأنَّ الحاجةَ دعتْ إلى نونٍ مكسورةٍ من أجْلِ الياءِ، ونونُ الرفعِ لا تُكسَرُ .

2- قوله تعالى: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ

دَرَجَاتٍ: منصوبٌ، وعلامةُ نصْبِه الكسرةُ، ويُقْرَأُ بالتَّنوين، وبالإضافةِ؛ فأمَّا على قِراءةِ التنوينِ؛ فـدَرَجَاتٍ ظرفُ مكانٍ، أي: نَرفَعُ مَن نشاءُ في مراتبَ ومنازِلَ، أو منصوبٌ على حذْفِ حرْفِ الجرِّ، أي: إلى منازِلَ وإلى درجاتٍ. ويجوزُ أن يَنتصبَ على التَّمييزِ، ويكون منقولًا من المفعوليَّةِ، فيَؤُول إلى قِراءةِ الجَماعةِ؛ إذ الأصلُ: نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ بالإِضافةِ، ثم حُوِّلَ؛ كقوله: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا [القمر: 12] أي: عيونَ الأَرْضِ. ومَنْ على هذا: مفعولٌ به للفِعل نَرْفَعُ. أمَّا على قِراءةِ الإضافةِ: (نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ) فـ «دَرجَاتِ» مفعولٌ به لـنَرْفَعُ، ورَفْعُ دَرَجةِ الإنسانِ رَفْعٌ له

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ أنَّه جادَلَه قومُه في توحيدِه ربَّه، وبراءَتِه من الأصنامِ، فقال لهم: أتجادلونَني في توحيدي لِلَّهِ، وقد هداني سبحانه للحَقِّ، ووفَّقَني لاتِّباعه، ولا أخافُ آلِهَتَكم التي تُشْرِكونها مع الله في العبادةِ أنْ توقِعَ بي ضُرًّا، إلَّا أن يريدَ ربِّي شيئًا، أحاط علمُه جلَّ وعلا بكلِّ شيءٍ، أفلا تتذكَّرونَ؟ وكيف أخافُ آلهَتَكم التي أشركتموها مع اللهِ، وهي لا تضرُّ ولا تنفَعُ، بينما أنتُم لم تَخافوا مِنَ اللهِ في إشراكِكم معه غيرَه، مِمَّا لم يُعْطِكم عليه حُجَّةً ولا بُرهانًا، وهو القادِرُ على كلِّ شيءٍ؛ فأيُّ الفريقينِ أحقُّ بالأمنِ: مَن وَحَّدَ اللهَ الذي بِيَده الضُّرُّ والنَّفعُ، أو مَن أشرَكَ به مَن لا ينفَعُ ولا يَضُرُّ بلا برهانٍ؟! أخبروني إنْ كنتُم تعلمونَ.

فقال تعالى جوابًا عن سُؤالِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: الذين آمَنوا ولم يَخْلِطوا إيمانَهم بِشِرْكٍ، أولئك هم الذين لهم الأمْنُ، وهم المُوَفَّقونَ لطريقِ الحَقِّ.

ثم أخْبَر تعالى أنَّ تلك حُجَّتُه آتاها إبراهيمَ على قَومِه، وأنَّه تعالى يرفعُ مَن يشاءُ درجاتٍ؛ إنَّه حكيمٌ عليمٌ.

تفسير الآيات :

 

وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) .

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا أَعْلنَ إبراهيمُ- عليه السَّلامُ- مُعتقَدَه لقَومِه، كما في قولِه تعالى على لسانِ إبراهيمَ: إِنِّيْ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 79] ، أخَذُوا في محاجَّتِه

؛ قال تعالى:

وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ.

أي: وجادَل إبراهيمَ قومُهُ فيما ذهَبَ إليه مِن توحيدِ الله تعالى، وبَراءَتِه من الأصنامِ .

قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ.

أي: أتُجادِلونَني في أمْرِ توحيدي اللهَ تعالى، وعبادَتِه وحْدَه دون ما سِواه، والحالُ أنَّه قد بصَّرَني بالحقِّ، ووفَّقَني لاتِّباعِه ؟

وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا.

أي: ولا أَرهَبُ آلهتَكم التي تَدْعونها من دون اللهِ؛ أن تنالَني بسُوءٍ أو مكروهٍ؛ فهي لا تنفعُ ولا تضرُّ، لكن إذا شاءَ اللهُ تعالى أنْ ينالَني ذلك فسيكونُ؛ فله ما شاء سبحانه، ولا يَضرُّ ولا ينفَعُ إلَّا هو عزَّ وجلَّ .

كما قال تعالى: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 53- 57] .

وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا.

أي: أحاط عِلمُ ربِّي سبحانَه بكلِّ شيءٍ؛ فلا تَخفَى عليه خافيةٌ، لا كآلِهَتِكم التي لا تعلَمُ شيئًا .

أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ.

أي: أفلا تتَّعِظونَ، فتَعْقِلوا بُطلانَ عِبادَتِكم لآلهَةٍ لا تَقدِرُ على ضُرٍّ ولا على نفْعٍ، ولا تعلَمُ شيئًا، وتعْقِلوا خطأَ تَرْكِكم عِبادةَ مَن خَلَقَكم، وخَلَقَ كلَّ شيءٍ، الذي له القُدرةُ على كلِّ شيءٍ، والعالِم بكلِّ شيءٍ، وتَعلَموا أنَّه المُستَحِقُّ وحْدَه للعبوديَّةِ ؟

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81).

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا.

أي: وكيف أَرهَبُ آلهَتَكم التي أشركتُموها مع اللهِ، وهي عاجزةٌ لا تضرُّ ولا تنفَعُ، بينما أنتُم لا تخافونَ مِن اللهِ الذي خَلَقَكم ورَزَقَكم، والقادرِ على كلِّ شيءٍ؛ لا تَخافون منه في إشراكِكم به ما لم يُنزِّلْ به عليكم حُجَّةً ولا بُرهانًا ؟!

فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.

أي: فأيُّ الطائفتينِ أجدَرُ بالأمْنِ والسَّلامةِ؛ الذي عبَدَ مَن بِيَدِه الضُّرُّ والنَّفْعُ، أو الذي عَبَد مَن لا يَضُرُّ ولا ينفَعُ بلا دليلٍ؟ فإنْ كنتم تعلمونَ صِدْقَ ما أقولُ لكم، وحقيقَةَ ما أحتجُّ به عليكم، فأجيبوني، وأخْبِروني أيُّ الفريقينِ أحَقُّ بالأمْنِ ؟

فقال الله تعالى جوابًا عن سؤالِ إبراهيمَ السَّابقِ، وفاصلًا بين الفريقينِ :

الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82).

أي: الذين آمنوا حقًّا، ولم يَخلِطوا إيمانَهم بِشِرْك، هم الآمنونَ من المخاوِفِ في الدارَينِ، السَّالكونَ طريقَ الحَقِّ .

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضي اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا نَزَلَت هذه الآيةُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، شقَّ ذلك على أصحابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقالوا: أيُّنا لم يَظلمْ نفسَه؟ فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ليس كما تظنُّونَ، إنَّما هو كما قال لُقمانُ لابنِه: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) .

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا كان إبراهيمُ عليه السَّلامُ قدِ انتصَبَ لإظهارِ حُجَّةِ اللهِ في التَّوحيدِ، والذَّبِّ عنها، وكان التقديرُ- تنبيهًا للسَّامِعِ على حُسْنِ ما مضَى؛ نَدْبًا لتدبُّرِه-: هذِه مقاولةُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لأبيه وقوْمِه؛ عَطَفَ عليه قولَه، مُعَدِّدًا وجوهَ نِعَمِه عليه، وإحسانِه إليه، دالًّا على إثبات&#