الأربعاء، 17 يناير 2024

4.سورة النساء {ح4.}



  فقرة 1..
سُورةُ النِّساءِ
الآيات (144-147)
ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ
غريب الكلمات:

أَوْلِيَاءَ: جمْع وليٍّ، وهو النَّصيرُ، وأصل (وَلِيَ) يدلُّ على القُرْب، سواءٌ من حيث: المكان، أو النِّسبة، أو الدِّين، أو الصَّداقة، أو النُّصرة، أو الاعتقاد، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه
.
سُلْطَانًا: أي: حُجَّة، وأصل السُّلطان: القوَّة والقهر، من التَّسلُّط؛ ولذلك سُمِّي السُّلطانُ سُلطانًا .
الدَّرْكِ: مَنزِلٌ من منازلِ أهلِ النَّار، فالنَّار دركاتٌ، أي: طبقاتٌ بعضُها دونَ بعضٍ، والدَّرك: أقْصَى قعرِ البحر، وأصل (درك): هو لحوقُ الشَّيءِ بالشَّيءِ ووصولُه إليه .
وَاعْتَصَمُوا: استمسَكوا وامتنَعوا به، والاعتصام: التَّمسُّك بالشَّيء، وأصل العِصمة: المنعُ، ومنه يُقال: عَصَمَه الطَّعامُ، أي: منَعَه من الجوعِ، والعِصمةُ أيضًا الإمساكُ، والملازَمة
مشكل الإعراب:

قوله: مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ:
مَا: فيها وجهانِ: أحدهما: أنَّها استفهاميَّةٌ، وعليه تكونُ في محلِّ نصبٍ بـ: (يفعل)، وقُدِّم المفعولُ به؛ لكونِه له صدرُ الكلام، والباءُ على هذا سَببيَّةٌ متعلِّقة بـ: يَفْعَلُ، والاستفهامُ هنا معناه النَّفي، والمعنى: أنَّ اللهَ لا يَفعلُ بعذابِكم شيئًا؛ لأنَّه لا يجلبُ لنفسِه بعذابكم نفعًا، ولا يدفَعُ عنها به ضرًّا، فأيُّ حاجةٍ له في عذابِكم؟! والوجه الثَّاني: أنَّ مَا نافية، كأنَّه قيل: لا يُعذِّبُكم اللهُ، وعلى هذا فالباءُ زائدةٌ (صلة)، ولا تَتعلَّق بشيءٍ
المَعنَى الإجماليُّ:

يَنهى اللهُ عبادَه المؤمنين عن اتِّخاذِ الكافرينَ أولياءَ يُناصِرونهم، ويُصادِقونهم، ويثِقُون بهم مِن دون المؤمنين؛ فإنَّ ذلك موجِبٌ لأنْ يجعَلوا لله عليهم حُجَّةً، فيستحقُّوا العقوبةَ على ذلك.
ثمَّ أخبَر تعالى أنَّ مَصيرَ المنافقينَ المكانُ الأسفلُ من جَهنَّم، وخاطَب نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لن يجِدَ لهؤلاء المنافقين مَن ينصُرُهم مِن عذابِ الله، إلَّا الَّذين تابوا مِن نِفاقِهم، وأصلَحوا أعمالَهم الظَّاهرةَ والباطنة، واعتَصَموا بالله، وأَخلَصوا له دِينَهم، فأولئك مع المؤمنين، وسوف يُعطي اللهُ المؤمنين ثوابًا عظيمًا.
ثمَّ يخبِرُ تعالى أنَّه في غِنًى عن عذابِهم، إنْ شكَروه وآمَنوا وكان اللهُ شاكرًا عليمًا.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى أنَّ مِن صفاتِ المنافقين اتِّخاذَ الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين، المستلزمَ للنَّهيِ عن ذلك الاتِّخاذِ، نهى عبادَه المؤمنين أن يتَّصِفوا بهذه الحالةِ القبيحةِ، وأن يُشابهوا المنافِقين، فقال
:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أي: لا تَجعَلوا الكفَّارَ أولياءَ لكم من غيرِ أَهلِ دِينكم مِن المؤمنين، فتُؤازِروهم وتُصاحِبوهم وتُسرُّوا إليهم بالمودَّةِ، وتُفشُوا أحوالَ المؤمنين الباطنةَ إليهم، وتَثِقوا بهم، وتَعتمِدوا عليهم .
كما قال تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28] .
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا
أي: هل تُريدون أن تجعَلوا لله تعالى عليكم حُجَّةً واضحةً باتِّخاذِكم الكافرين أولياءَ مِن دون المؤمنين، فتَستوجبوا منه ما استوجَبَه أهلُ النِّفاقِ باستحقاقِ العقوبة ؟
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهاهم سبحانه عن فِعلِ المنافقين استأنَف بَيانَ جزائِهم عنده ، فقال:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
أي: إنَّ المُنافِقين في قَعرِ جهنَّمَ وأسفلِ طبقاتِها يومَ القيامة، جَزاءً على كُفرِهم الغليظِ .
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا
أي: ولنْ تجِدَ لهؤلاء المنافقين- يا محمَّدُ- ناصرًا يَنصُرُهم مِن الله تعالى، فيُنقِذُهم مِن عذابِه، ويَدفَعُ عنهم أليمَ عقابِه .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا
أي: إلَّا التَّائبين مِن نِفاقِهم، الَّذين رجَعوا للحقِّ وندِموا على سيِّئاتِهم .
وَأَصْلَحُوا
أي: وأصلَحوا أعمالَهم الظَّاهرةَ والباطنةَ فعَمِلوا بما أمَرهم اللهُ تعالى به، وانتهَوْا عمَّا نهاهم عنه، وأصلحوا ما أفسدوه .
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
أي: واعتصَموا برَبِّهم في جَميعِ أمورِهم، والْتَجَؤوا إليه في جَلْبِ مَنافعِهم ودَفْعِ المضارِّ عنهم .
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
أي: قَصَدوا وجهَ اللهِ تعالى بأعمالهم الظَّاهرةِ والباطنةِ، وسَلِمُوا من الرِّياءِ والنِّفاقِ .
فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
أي: فهؤلاء المُنافقون بعدَ تَوبتِهم وإصلاحِهم واعتِصامِهم بالله تعالى وإخلاصِهم له مع المؤمنين في الدُّنيا والآخرةِ، يَكونون في زُمرتِهم يومَ القيامة، ويَدخُلونَ معهم الجنَّةَ .
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا
أي: وسوفَ يُعطي اللهُ تعالى المؤمنين ثوابًا عظيمًا، لا يعلَمُ كُنْهَهُ إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ؛ ممَّا لا عينٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خطَرَ على قلبِ بشَرٍ .
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان معنى الاستثناءِ في الآيةِ السابقةِ: أنَّه لا يُعذِّبُهم، وأنَّهم يَجِدون الشَّفيعَ بإذنِه- قال مؤكِّدًا لذلك على وجهِ الاستنتاجِ، مُنكِرًا على مَن ظَنَّ أنَّه لا يَقبَلُهم بعد الإغراقِ في المهالِكِ :
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ
أي: ما يصنَعُ اللهُ تعالى- أيُّها المنافِقون- بعذابِكم، إن شكَرْتموه على نِعَمِه، فقُمتُم بطاعتِه، وآمنتم حقًّا بما يجبُ عليكم الإيمانُ به؟ فإنَّه لا حاجةَ لله سبحانه في أن يُعذِّبَكم؛ إذ لا يَجتلِبُ إلى نفْسِه بعَذابِكم نفعًا، ولا يدفَعُ عنها ضرًّا .
وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى شاكرٌ لِمَن شكَر له، فيُثيبُهم على ما عمِلوا، أكثرَ ممَّا عمِلوا، عليمٌ بإيمانِ مَن آمَن قلبُه به، وعليمٌ بمن يستحقُّ الشُّكر مِن عبادِه، ويُجازيه على ذلك أوفرَ الجزاء

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- في قوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا: التَّحذيرُ مِن المعاصي؛ فإنَّ فاعلَها يجعَلُ لله عليه سلطانًا مُبِينًا
.
2- أنَّه لا بدَّ لِمَن أفسَد أن يُصلِحَ مُقابلَ إفسادِه، ولا تَكفي التَّوبةُ المجرَّدةُ، فلا بدَّ مِن إصلاحِ ما أفسَد وَأَصْلَحُوا .
3- في قولِه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ أنَّ مَن كان معتصمًا بغيرِ الله، فإنَّ مِن تحقيقِ توبتِه أن يعدِلَ عن الاعتِصامِ بغير الله إلى الاعتصامِ بالله؛ لأنَّ الدَّاءَ يُداوَى بدواءٍ مقابلٍ؛ فالاعتصامُ بغيرِ الله شِركٌ، يُداوَى بالاعتصامِ بالله عزَّ وجلَّ، ولكلِّ داءٍ دواءٌ يُناسِبُه .
4- أنَّ مِن تمام التَّوبةِ إخلاصَ المشرِكِ؛ لقوله: وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، والمنافِقون عندهم إشراكٌ؛ لأنَّهم يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا .
5- خصَّ اللهُ تعالى الاعتِصامَ والإخلاصَ بالذِّكرِ في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ، مع دخولِهما في قوله: وَأَصْلَحُوا، فهما من جملةِ الإصلاحِ؛ وذلك لشدَّةِ الحاجةِ إليهما، خُصوصًا في هذا المقام الحرِجِ الَّذي يمكِّنُ مِن القلوبِ النِّفاقَ، فلا يُزِيله إلَّا شدَّةُ الاعتصامِ بالله، ودوامُ اللَّجَأِ والافتقارِ إليه في دفعِه، ولكونِ الإخلاصِ منافيًا كلَّ المنافاة للنِّفاق؛ فذَكَرَهما لفضلِهما وتوقُّفِ الأعمالِ الظَّاهرةِ والباطنة عليهما، ولشدَّةِ الحاجةِ في هذا المقامِ إليهما .
6- يُستفادُ من قوله تعالى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ أنَّ مَن لم يشكُرِ اللهَ، أو مَن لم يُؤمِنْ به فإنَّه عُرْضةٌ للانتقامِ والعذاب؛ لأنَّ اللهَ سبحانه نفى العذابَ عمَّن شكَر وآمَن، وهذا يدلُّ على أنَّ مَن لم يشكُرْ ويؤمِنْ فإنَّه معرَّضٌ لعقابِه، وهذا هو الواقعُ؛ قال الله تبارك وتعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]

.
الفوائدُ العِلميَّة واللَّطائِف:

1- في هذه الآية: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا: دليلٌ على كمالِ عدلِ اللهِ، وأنَّ الله لا يُعَذِّبُ أحًدا قبل قيام الحُجَّةِ عليه
.
2- أنَّ اللهَ سبحانه له سلطانٌ وحُجَّةٌ على مَن خالَفَ أمْرَه، ويدلُّ على هذا قولُه تعالى حين ذكَر إرسالَ الرُّسلِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، فهنا لو لم يُرسَلِ الرُّسُلَ صارتِ الحُجَّةُ للنَّاسِ على اللَّهِ، وإذا أُرسِلَ الرُّسُلُ وبُيِّنَتِ الأحكامُ صارتِ الحُجَّةُ للهِ على العباد .
3- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فيه وجوبُ موالاةِ المؤمنين ومُناصرتِهم؛ لأنَّ المؤمنين إخوةٌ، فما أصابَ أحدَهم فقد أصاب الآخَرَ، وما حصَلَ مِن ضررٍ وجَب على جميعِ المؤمنين إزالتُه على حسَبِ الحالِ والإمكان .
4- قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، والسَّببُ في كونِ المنافقِ أشدَّ عذابًا من الكافرِ؛ لأنَّه مِثلُه في الكفر، وضمَّ إليه نوعًا آخَرَ من الكُفرِ، وهو الاستهزاءُ بالإسلامِ وبأهله، وبسببِ أنَّهم لَمَّا كانوا يُظهِرون الإسلامَ يمكِنُهم الاطِّلاعُ على أسرار المسلمين، ثمَّ يُخبِرون الكفَّارَ بذلك فكانت تتضاعَفُ المِحنةُ مِن هؤلاء المنافقين؛ فلهذه الأسبابِ جعَل اللهُ عذابهم أزيدَ مِن عذابِ الكفَّار فهم شرُّ أهلِ النَّار بما جمَعوا بين الكفرِ والنِّفاقِ ومُخادعةِ الله والمؤمنين وغشِّهم؛ فأرواحُهم أسفلُ الأرواحِ، وأنفسُهم أخَسُّ الأنفسِ .
5- إنَّما كان مُستَقرُّ المنافقين فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، أي: لأنَّ ذلك أخفى ما في النَّار وأستَرُه وأخبَثُه، كما أنَّ كُفرَهم أخْفَى الكُفرِ وأخبثُه وأستَرُه .
6- في قوله تعالى: فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أنَّ طَبقاتِ النَّار تُسمَّى دركاتٍ، وسُمِّيَت بذلك؛ لأنَّها مُتدارِكةٌ متتابِعةٌ إلى أسفلَ، كما أنَّ الدَّرجَ متراقيَةٌ إلى فوقَ .
7- أنَّ هؤلاء المنافقين فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وهذا لا يَعني أنَّ غيرَهم لا يُشاركونهم، بل قد يُشارِكُهم غيرُهم، لكنَّنا نجزِمُ بأنَّ المنافقين فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ، وأنَّ مَن سواهم قد يكونون فيه، وقد لا يكونون فيه .
8- قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا كان المُنافِقُ متَّصِفًا بنقائضِ هذه الأوصافِ مِن الكُفرِ وفَساد ِالأعمالِ والموالاة للكافرين والاعتزازِ بهم، والمراءاة للمؤمنين- شرَط في تَوبتِهم ما يُناقِضُ تلك الأوصافَ، وهي التَّوبةُ مِن النِّفاقِ، وهي الوصفُ المحتوي على بقيَّةِ الأوصافِ من حيثُ المعنى، ثمَّ فصَّل ما أجمَلَ فيها، وهو الإصلاحُ للعَملِ المستأنَفِ المقابِلُ لفسادِ أعمالهم الماضية، ثمَّ الاعتصامُ بالله في المستقبَل، وهو المقابلُ لموالاةِ الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي، ثمَّ الإخلاص لدِين اللهِ، وهو المقابلُ للرِّياء الَّذي كان لهم في الماضي .
9- في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، أنَّ المنافقَ تُقبَلُ توبتُه، وأنَّ مَن اتَّصَف بهذه الصِّفات فإنَّه يكونُ مع المؤمنين، ولو كان قبل ذلك منافقًا؛ لأنَّ هذه الصِّفاتِ تنتشلُه من النِّفاقِ إلى الإيمان، فهذه معيَّةُ المؤمنين، لا شكَّ أنَّها منزلةٌ عالية؛ كما قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ .
10- أنَّ الله سبحانه غنيٌّ عن عذابِ الخَلْقِ إذا قاموا بالشُّكر والإيمان؛ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ .
11- لَمَّا ذكَر أنَّ هؤلاء مع المؤمنينَ لم يقُلْ: (وسوف يُؤتيهم أجرًا عظيمًا)، مع أنَّ السِّياقَ فيهم، بل قال: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا؛ لأنَّ هذه القاعدةَ الشَّريفة لم يزَلِ اللهُ يُبدِئُ فيها ويُعيدُ: إذا كان السِّياقُ في بعضِ الجزئيَّاتِ، وأراد أن يُرتِّبَ عليه ثوابًا أو عقابًا، وكان ذلك مُشتركًا بينه وبين الجِنس الدَّاخِل فيه، رتَّبَ الثَّوابَ في مقابلةِ الحُكمِ العامِّ الَّذي تندرج تحتَه تلك القضيةُ وغيرُها؛ ولئلَّا يُتوهَّمَ اختصاصُ الحُكمِ بالأمر الجُزئيِّ؛ فهذا مِن أسرارِ القرآن البديعةِ؛ فالتَّائبُ مِن المنافقين مع المؤمنين، وله ثوابُهم

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ: استئناف ابتدائيٌّ؛ لأنَّه توجيهُ خِطابٍ بعدَ الانتهاءِ من الإخبارِ عن المنافِقين بطريقِ الغَيبة
، وقد نُهوا عن موالاةِ الكَفَرةِ صَريحًا في هذه الآية، وإنْ كان ما تقدَّمَ في بيانِ حالِ المنافقين، مَزْجرةً عن ذلك؛ مُبالغةً في الزَّجر والتَّحذير .
2- قوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا: استئناف بيانيٌّ؛ لأنَّ النَّهيَ عن اتِّخاذِ الكافرين أولياءَ ممَّا يبعَثُ النَّاسَ على معرفةِ جزاء هذا الفِعل مع قصد التَّشهيرِ بالمنافقين، والتَّسجيل عليهم، أي: إنَّكم إنِ استمررتُم على موالاةِ الكافرين، جعَلتُم للهِ عليكم حُجَّةً واضحةً على فَسادِ إيمانكم، فهذا تعريضٌ بالمنافقين .
- والاستفهام في قولِه: أَتُرِيدُونَ مُستعمَلٌ في معنى التَّحذيرِ والإنذار .
3- قوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ: جملةٌ مستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ إذ هي عَودٌ إلى أحوالِ المنافقين، وتأكيدُ الخبر بـ: (إنَّ) لإفادة أنَّه لا مَحِيصَ لهم عنه .
4- قوله: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا أتى بـ(سوف)؛ لأنَّ إيتاءَ الأجرِ يكونُ يومَ القيامة، وهو زمانٌ مستقبَل ليس حاضرًا، و(سوف) أبلغُ في التَّنفيسِ من السِّينِ .
5- قوله: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ: جملة استئنافيَّةٌ مسُوقةٌ لبيانِ أنَّ مدارَ تعذيبِهم وجودًا وعَدَمًا إنَّما هو كُفرُهم لا شيء آخَر، فيكون مُقرِّرًا لِمَا قبله من إثابتِهم عن توبتِهم .
- وقوله: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ استفهامٌ إنكاريٌّ- على القولِ بأنَّ مَا استفهاميَّة- مُفيدٌ للنَّفيِ على أَبلغِ وجهٍ وآكَدِه .
- وقوله: إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ: فيه تقديمُ الشُّكرِ على الإيمان؛ لأنَّ العاقلَ ينظُرُ إلى ما عليه من النِّعمةِ العظيمة في خَلْقِه وتَعريضِه للمنافعِ، فيشكُرُ شُكرًا مبهَمًا، فإذا انتَهى به النَّظرُ إلى مَعرفةِ المنعِمِ آمَنَ به، ثمَّ شكَر شُكرًا مُفصَّلًا، فكان الشُّكرُ متقدِّمًا على الإيمانِ، وكأنَّه أصلُ التَّكليفِ ومدارُه .
5- قوله: وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا: اعْتِرَاضٌ في آخرِ الكلام، وهو إعلامٌ بأنَّ اللهَ لا يُعطِّلُ الجزاءَ الحسَنَ عن الَّذين يُؤمنون به، ويَشكُرون نِعمَه الجمَّةَ، والإيمانُ بالله وصفاتِه أوَّلُ درجاتِ شُكرِ العبدِ ربَّه .
- وأتَى بصِفة الشُّكر شَاكِرًا باسمِ الفاعِل بلا مبالغةٍ؛ ليدلَّ على أنَّه يَتقبَّلُ ولو أقلَّ شيءٍ مِن العمل ويُنمِّيه .
- وأتَى بصفة العِلم عَلِيمًا على صِيغةِ (فعيل)؛ للمُبالغةِ في وصْفِه سبحانه بالعِلمِ بجميعِ المعلوماتِ ، وفيه تحذيرٌ، وندبٌ إلى الإخلاصِ للهِ تَعالَى ، مع ما في الجَمْعِ بين صِفَتَي شَاكِرًا عَلِيمًا مِن البَلاغةِ والمناسبةِ الحَسنةِ للسِّياق.


========2..


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (148-152)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ
غريب الكلمات:

بِالسُّوءِ: السُّوء اسمٌ جامعٌ للآفات، ثم استُعمل في كلِّ ما يُستقبحُ، وهو أيضًا كلُّ ما يغمُّ الإنسان
.
سَبِيلًا: فِعلًا وطريقًا، والسَّبِيلُ: الطَّريق الذي فيه سُهولة، وأصل (سبل): امْتِدَادِ شَيْءٍ .
مُهِينًا: مُذِلًّا، والهوان: الاستخفاف، أو أن يُذَلَّ الإنسانُ من جهة متسلِّط مستخِفٍّ به، وأصله يدلُّ على احتقارٍ وحقارة في الشيء

.
مشكل الإعراب:

قوله: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ:
في هذا الاستثناءِ قولان: أحدهما: أنَّه استثناء منقطع، ويكون المستثنى مَنْ في موضِعِ نصْب، تَقديرُه: لكنْ مَنْ ظُلِمَ له أنْ يَنتصِفَ مِن ظالِمِه بما يُوازي ظُلامتَه. والثاني: أنَّه متَّصل، ومَنْ مُستثنًى مِن (أحَد) المُقدَّرِ الذي هو فاعلٌ للمَصدرِ الجَهْرَ، والمعنى: لا يحبُّ أن يَجهرَ أحدٌ بالسُّوء إلَّا مَن يُظلَم فيَجهر؛ كأنْ يَدعوَ الله بكشفِ السُّوءِ الذي أصابه، أو يَشكوَ ذلك إلى إمام، أو حاكمٍ، فعلى هذا يجوزُ أن يكونَ المستثنَى مَنْ في موضِع رفْعٍ بدلًا مِن المستثنَى منه المحذوفِ؛ إذ التقديرُ: أنْ يَجهَرَ أحدٌ. وأنْ يكونَ في موضِع نصْب على أصلِ الاستِثْناء مِن (أحد) المقدَّر، والتقديرُ: لا يُحبُّ اللهُ أنْ يَجْهَرَ أحدٌ بالسُّوءِ إلَّا المظلومُ، أو المظلومَ- رفعًا ونصبًا. وقيل غيرُ ذلك

.
المعنى الإجمالي:

يُخبِر تعالى أنَّه لا يُحبُّ أن يجهرَ أحدٌ مِن عبادِه بالسيِّئ من القول، إلَّا مَن ظُلِم؛ فلا حرَجَ عليه أن يخبر بما أسيء إليه كأن يشتكيَ ممَّن ظلَمه، أو يقولَ للنَّاس إنَّه ظالم، أو يَدْعوَ عليه، وكان الله سميعًا عليمًا.
ثم يُخاطب عبادَه قائلًا لهم: إنَّهم إنْ يُظهروا الخير أو يُخفوه، أو يَعفوا عمَّن أساء إليهم؛ فإنَّه جلَّ وعلا عَفوٌّ يصفَحُ عن ذنوب عباده مع قُدرته على معاقبتِهم عليها؛ فلْيَعفوا هم أيضًا عمَّن أساء إليهم.
ثم بيَّن تعالى أنَّ الذين يَكفُرون بالله ورُسله، ويُريدون أن يُفرِّقوا بين الله ورُسُله؛ بالإيمانِ به عزَّ وجلَّ والكُفرِ بالرُّسل، ويقولون: نؤمن ببعض الرُّسل ونَكفُر ببعضٍ منهم، ويريدون بهذا أن يَسلُكوا طريقًا يُوصلهم إلى اللهِ ، فأخبر تعالى أنَّ هؤلاء هم الكافرون حقًّا، ولا ينفعهم ما يَدَّعون من إيمانهم ببعض الرُّسل، وتوعَّدهم تعالى بكونِه أعدَّ للكافرين عذابًا مُخزيًا مُذلًّا.
وأمَّا الذين آمَنوا بالله ورُسُله ولم يُفرِّقوا بَينهم؛ إذْ آمنوا بهم جميعًا، ولم يَكفُروا ببعضهم ويَدَّعوا الإيمانَ بالبَعض الآخَر، فوعَدهم الله - ووعْدُه الحقُّ - بأنَّه سوف يُعطيهم جزاءَ إيمانهم، وسيُثيبهم عليه، وكان الله غفورًا رحيمًا.
تفسير الآيات:

لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها
لَمَّا شوَّه الله حالَ المنافقين، وشَهَّر بفضائحِهم تشهيرًا طويلًا، كان الكلامُ السَّابق بحيث يُثير في نفوس السَّامعين نُفورًا من النِّفاق وأحواله، وبُغضًا للملموزين به، وخاصَّة بعد أنْ وصفَهم باتِّخاذ الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين، وأنَّهم يَستهزئون بالقرآن، ونَهَى المسلمين عن القعود معهم؛ فحَذَّر اللهُ المسلمين من أن يَغيظهم ذلك على مَن يَتوسَّمون فيه النِّفاق، فيُجاهروهم بقول السُّوء، ورخَّص لِمَن ظُلِم من المسلمين أن يَجهرَ لظالِمِه بالسُّوء؛ لأنَّ ذلك دفاعٌ عن نفسه
، فقال تعالى:
لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ
أي: إنَّ الله تعالى يُبغض- أيُّها الناسُ- جَهْرَ أحدٍ منكم بالقول السيِّئ، كالشَّتمِ والقَذْف والسَّبِّ، ونحوِ ذلك .
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
أي: أمَّا مَن ظُلم؛ فلا حرَجَ عليه أن يُخبِرَ بما أُسيء به إليه، كأنْ يدعوَ على مَن ظلَمَه ويتشكَّى منه، أو أن يقول له: أنت ظلمتني، أو يقول للناس: إنه ظالم، من غير أن يَكذِبَ عليه، ولا يَزيد على مظلمتِه، ولا يَتعدَّى بشَتمِه غيرَ ظالِمِه .
وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا
أي: إنَّ الله تعالى سميعٌ لِمَا تَجهرون به من سوءِ القولِ وغير ذلك من أقوالِكم, عليمٌ بما تُخفون منها، وعليمٌ بنِيَّاتكم ومَصدرِ أقوالكم, ومُحْصٍ ذلك كلَّه عليكم، فيُجازي كلًّا منكم بحَسَبه؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشرٌّ، فاحْذروا أن تقولوا ما لا يَرضاه، أو أن تُخفوا في قلوبِكم ما لا يحبُّه .
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها
لـمَّا نَهَى الله سبحانه عن الجَهرِ بالسُّوء، ورخَّص فيه لِمَن ظُلِم، ندَب المرخَّصَ لهم إلى العفوِ وقولِ الخيرِ ؛ فقال:
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ
أي: إن تُظهروا - أيُّها الناسُ - جميلًا من القول أو الفِعل، أو تتركوا إظهارَه فتُخفوه .
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ
أي: أو تَصْفَحوا عن إساءةِ مَن أساء إليكم بقولٍ أو فِعل .
فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا
أي: فإنَّ الله تعالى يَصفَح عن ذُنوب عبادِه مع قُدرتِه على عِقابهم عليها؛ فاعْفوا أنتم أيضًا- أيُّها الناسُ- عمَّن أتى إليكم ظُلمًا, ولا تَجهروا له بالسُّوء من القول، وإنْ قدَرتُم على الإساءةِ إليه, كما يَعفو عنكم ربُّكم مع قُدرتِه على عِقابِكم وأنتم تَعصونه، والجزاءُ من جِنس العملِ؛ فمَن عفَا للهِ سبحانه عفَا اللهُ تعالى عنه .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ
أي: إنَّ الكافرين بالله تعالى وبرُسله عليهم السَّلام مِن اليهودِ والنَّصارى وغيرِهم .
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ
أي: ويُريدون أن يُؤمنوا بالله تعالى، ويَكفُروا برُسُلِه الَّذين أرْسلَهم إلى خَلْقِه؛ فيُكذِّبوهُم .
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
أي: ويقولون: نؤمن ببعض الرُّسُل، ونكفُر ببعضهم، كما فعلتِ اليهود؛ فكَفروا بعيسى ومحمَّد صلَّى الله عليهما وسلَّم، وزَعَموا الإيمانَ بموسى عليه السَّلام. وكما فعَلتِ النَّصارى؛ فكفروا بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ وزَعَموا الإيمانَ بعيسى عليه السَّلام .
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا
أي: ويُريدون بإيمانهم ببعض الرُّسل دون بعضٍ سُلوكَ طريقٍ يُوصلهم إلى الله تعالى ويُنجِّيهم من عذابِه .
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها
جاءَ ذِكر هذه الآية عقِبَ ما قَبلَها؛ لئلَّا يُتوهَّم أنَّ مرتبة هؤلا الكفَّار الذين وصَفَهم اللهُ تعالى متوسِّطةٌ بين الإيمانِ والكُفر ، فقال تعالى:
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا
أي: إنَّ كُفرَ هؤلاء الكفار محقَّقٌ لا محالة, وهم مُستحقُّونَ عذابَ الله تعالى حقًّا؛ فاستيقِنوا ذلك أيُّها المؤمنون, ولا يُشكِّكنَّكم في أمْرِهم انتحالُهم الكذبَ بدَعْوى أنَّهم يُقرُّون ببعض الرسل؛ فلو كانوا مؤمنين حقًّا بِمَن زعَموا الإيمانَ بهم، لآمَنوا بغيرِهم من الرُّسل عليهم السَّلام .
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
أي: إنَّ الله تعالى قد هيَّأ لهؤلاء الكفَّار وغيرهم من الكافِرين عذابًا مخزيًا ومُذلًّا لهم، كما تَكبَّروا عن الإيمانِ الحقِّ بالله تعالى، واستهانوا بـِمَن كفَروا به من الرُّسل عليهم السَّلام .
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ (152)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها
لَمَّا ذكَر الله عزَّ وجلَّ حالَ الذين يؤمنون ببعض ويَكفُرون ببعض، ذكَر حالَ الذين يَجمعون في الإيمانِ بين الجميع ، فقال تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
أي: إنَّ المؤمنينَ بالله تعالى حقًّا، وبجميعِ رُسلِه الكرام عليهم السَّلام، دون أن يُفرِّقوا بينهم بالإيمانِ ببعضهم والكُفرِ ببعضهم .
أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ
أي: إنَّ هؤلاءِ المؤمنين بالله تعالى ورُسُله عليهم السَّلام جميعًا، سوف يُعطيهم اللهُ عزَّ وجلَّ جزاءَهم وثوابَهم على إيمانهم به سبحانه وبجَميعِ رُسلِه عليهم السَّلام .
وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا
أي: إنَّ الله تعالى غفورٌ لِمَن آمَن به وبجميعِ رُسله، فيَغفِر لهم السيِّئات، رحيمٌ بهم بتفضُّله عليهم بالهدايةِ إلى طريق الحقِّ وتقبُّل الحسَنات

.
الفوائِد التربويَّة:

1- في قوله تعالى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ: حُسْن دِين الإسلام، وأنَّه يدعو إلى التراضي وعدَمِ الجهر بالسوء، وأنْ لا نفضحَ أحدًا بسوئه؛ ولهذا كانتِ الغِيبةُ من كبائر الذُّنوب، وهي ذِكرُك أخاك بما يكره
.
2- عدالةُ الإسلام، ووجْه ذلك: أنَّه رخَّص للمظلومِ أن يجهرَ بالقول، لكن بحسَب مظلمتِه ولا يَزيد؛ قال تعالى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ .
3- في قوله سبحانه: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ: أنَّ الدينَ الإسلاميَّ لا يَكبِت النفوسَ، بل يوسِّع لها ويَشرح الصُّدور، وجهُ ذلك: أنَّه رخَّص للمظلوم أن يجهر بالسُّوء بقدر مظلِمته؛ لأنَّ ذلك تنفيسٌ عن نفسِه بلا شكٍّ .
4- قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ: مَن كان كاملَ الإيمان، عاليَ الأخلاق، فلا فَرقَ عنده في إبداء الخير وإخفائِه من جِهة نفْسِه؛ فهو يُرجِّح أحدَ الأمرين على الآخر بنيَّة صالحة، أو منفعة بيِّنة، ومَن ليس كذلك ينبغي أن يُرجِّح الإخفاءَ؛ حتى لا يكون له هوًى فيه، ومن بواعث الإبداءِ قصدُ القدوة، ومن بواعث الإخفاءِ قصدُ السِّتر، وحِفظ كرامة مَن يُوجَّه إليه الخيرُ، كالصدقة على الفقراء المتعفِّفين .
5- أنَّ الإحسانَ إلى النَّاس يكونُ إمَّا بإعطاء الخير ظاهرًا أو خفيًّا، وإمَّا بدفْع السوء، وذلك بالعفوِ عنه؛ لقوله: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ؛ فالعفو عن السوء خيرٌ، فيُستفاد من ذلك فضيلةُ العفوِ عن السُّوءِ .
6- الإشارةُ إلى أنَّ مَن عفَا عن الخَلْق عفوًا في محلِّه فلْيُبشر بعفو الله تعالى؛ لقوله: فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا .
7- في قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ... فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا: إرشادٌ إلى التفقُّه في معاني أسماء الله وصِفاته، وأنَّ الخَلْق والأمر صادرٌ عنها، وهي مقتضيةٌ له، ولهذا تُعلَّل الأحكامُ بالأسماءِ الحُسنى؛ فإنَّه لَمَّا ذكَر عمَلَ الخيرِ والعفوَ عن المسيء رتَّب على ذلك بأنْ أحالنا على معرفةِ أسمائه وأنَّ ذلك يُغنينا عن ذِكر ثوابِها الخاصِّ .
8- قوله: فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا فيه استحبابِ العفوِ مع القُدرة، والإشارة إلى أنَّه إذا كان الله تعالى مبالغًا في العفو عمَّن أساء مع كمال قُدرته على المؤاخذة ، فأنتم مِن باب أوْلَى عليكم أن تعفوا؛ لأنَّكم ليس لديكم القدرة في الانتصار للنَّفس، والانتقام مِن المجرم كالذي عندَ الله عزَّ وجلَّ ، وإيرادُه في معرض جواب الشَّرط إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا... يدلُّ على أنَّ العمدةَ هو العفوُ مع القُدرة
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- قوله تعالى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فيه إباحةُ الجهرِ بالسُّوء للمظلومِ أو مشروعيَّته له هو من بابِ الضَّرورات; لأنَّه ارتكابُ أخفِّ الضَّررينِ، والضروراتُ تُقدَّر بقَدرِها، كما قال أهلُ الأصول؛ فلا يجوزُ للمظلومِ أن يتَّبع هواه في الاسترسال والتَّمادي في الجهرِ بالسوء، بما لا دَخلَ له في منْع الظلمِ والتَّخلُّص منه، وأَطْر الظالم على الحقِّ
.
2- في ختم الآية بقوله تعالى: وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا بعد ذكر ما يُمنع وما يُباح مِن الكلام: تحذيرٌ مِن التَّكلُّم بما يُغضِب الله فيُعاقبكم على ذلِك، وفيه أيضًا ترغيبٌ في القول الحسَن .
3- أنَّ معاقِد الخيراتِ على كثرتِها محصورةٌ في أمرين: صِدقٍ مع الحقِّ، وخُلُقٍ مع الخَلْق، والذي يتعلَّقُ بالخَلق محصورٌ في قِسمين: إيصالُ نفْعٍ إليهم، ودَفْعُ ضرَرٍ عنهم؛ فقوله: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ إشارةٌ إلى إيصال النَّفْع إليهم، وقوله: أَوْ تَعْفُوا إشارةٌ إلى دفْع الضَّرَر عنهم، فدخل في هاتينِ الكلمتينِ جميعُ أنواع الخيرِ وأعمال البِرِّ .
4- أنَّ عفو الله تعالى أكملُ أنواع العَفو؛ لأنَّه عفوٌ مع القُدرة؛ لقوله: فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا .
5- كلمة قَدِيرًا قد أفادتْ بوضعها هنا الدَّلالةَ على عِظمِ الجزاءِ على العمل الذي رغَّبَتْ فيه الآية .
6- قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ يتضمن الإيمانَ بكلِّ ما أخبر الله به عن نفْسِه، وبكلِّ ما جاءتْ به الرُّسُلُ من الأخبار والأحكام .
7- أنَّ الكفر ببعض الرُّسُل كفرٌ بالجميع؛ لقوله: أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا، ويدلُّ على هذا أيضًا قولُه تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 95] مع أنَّ نوحًا كان أوَّلَ الرُّسُل، ومع ذلك جعل تكذيب قومِه له تَكذيبًا لجميعِ الرُّسل؛ لأنَّ التكذيبَ بالرسول كأنَّه تكذيبٌ بالجنس، أي: بجِنس الرِّسالة .
8- إنَّما قال: وَلَمْ يُفرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ مع أنَّ التفريق يَقتضي شيئين فصاعدًا، إلَّا أنَّ لفظ (أحَد) يستوي فيه الواحدُ والجمْع، والمذكَّر والمؤنَّث، ويدلُّ عليه وجهان: الأوَّل: صحَّة الاستثناء. والثاني: قوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ [الأحزاب: 32].
9- تمام مِنَّة الله سبحانه على العِباد؛ حيث سمَّى الثواب أجْرًا، ومن المعلوم أنَّ الأجر ثابتٌ لزومًا للمُستأجَر، والذي أوجب هذا الأجرَ هو اللهُ تعالى؛ أوجبَه على نفْسِه، وهذا يدلُّ على تمامِ فضْله عزَّ وجلَّ ومِنَّته؛ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ...: فيه إيجاز بالحَذْف، والتقدير: (لا يحبُّ الله الجهرَ بالسُّوءِ مِن القول ولا الإسرارَ به...) كما يُعلَم مِن نهيِه تعالى عن النَّجْوى بالإثم والعُدوان ومعصية الرَّسول، وأمْره بالتناجي بالبرِّ والتقوى فقط. وإنما خصَّ الجهر هنا بالذِّكر؛ لمناسبةِ بيان مفاسدِ الكفَّارِ والمنافقين في هذا السِّياق، ولأنَّ الجهرَ بالسُّوءِ أشدُّ ضررًا من الإسرارِ به; لأنَّ ضررَه وفسادَه يَفشُو في جمهورِ الناس حتى لا يكادَ يَسلَمُ منه أحدٌ
.
2- قوله: وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا: خبَرٌ فيه تهديدٌ وتحذيرٌ مِن التعدِّي في الجهر المأذونِ فيه، يعني فليتَّقِ اللهَ ولا يقُلْ إلَّا الحق ولا يقذف مستورًا بسوء؛ فإنَّه يصير عاصيًا لله بذلك، وهو تعالى سميعٌ لِما يقوله، عليمٌ بما يضمره ، ومن كان سميعًا عليمًا فيوشك أن يُوقِع العقوبةَ بمَن خالف أمْرَه وعصاه.
3- قولُه: يَكْفُرُونَ: جِيء بالمضارعِ هنا؛ للدَّلالة على أنَّ هذا أمرٌ متجدِّد فيهم مستمرٌّ؛ لأنَّهم لو كفروا في الماضي ثم رجعوا لَمَا كانوا أحرياءَ بالذمِّ .
4- قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا: (حَقًّا) مصدر مؤكِّد لمضمون الجُملة الخبريَّة، أي: هم الذين كفروا كفرًا حقًّا، أي: يَقينًا محقَّقًا .
- وأفاد تعريفُ جُزأي الجُملة، والإتيان بضمير الفَصْل (هم)؛ تأكيدَ قصْرِ صفة الكفر عليهم، بتنزيل كُفر غيرِهم في جانب كُفرهم منزلةَ العَدم . والإتيان بضمير الفَصْل فيه أيضًا؛ لئلَّا يُتوهَّم أنَّ ذلك الإيمانَ ينفعهم .
5- قوله: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا: فيه إظهارٌ في مقام الإضمارِ- حيث قال: لِلْكَافِرِينَ ولم يقُل: (لهم)-؛ ذمًّا لهم، وتَجسيدًا لكفرهم كأنَّه بمنزلةِ المرئيِّ بالبصر. والإظهارُ في موضِع الإضمارِ ليس تطويلًا وزيادة بلا فائدةٍ، بل له فَوائِدُ؛ منها: قصْدُ العموم، وتطبيقُ الوَصْف على أولئك الذين يَعودُ الضميرُ عليهم لو كانَ موجودًا، وكذلك بَيانُ عِليَّة الحُكم، فمثلًا: في قوله: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، لو قال: (أَعتَدْنا لهم) لم يَتبيَّن لماذا أعدَّ لهم هذا العذابَ، لكن لَمَّا قال: لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، كأنَّ هذا الوصفَ يُفيد العِليَّة، أي: إنَّ العِلَّةَ في إعدادِ العَذابِ المهين لهم هو الكُفرُ .
6- قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ... الآية إلى آخِرها: جِيءَ بها لمقابلةِ المسيئين بالمحسنين، ومقابلةِ النَّذارةِ بالبشارة على عادةِ القرآن ، وهو من محاسنُ بلاغته، فالقرآن مثانٍ، إذا ذكر شيئا ذكر ضدَّه .
7- قوله: أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ: فيه التعبيرُ باسم الإشارة أُولَئِكَ؛ تَعظيمًا لهم، وجاءت بصيغة البعيدِ؛ للدَّلالة على علوِّ منزلِتهم .
- والتَّصدير بـ(سوف)؛ لتأكيدِ الوعد، والدَّلالة على أنَّه كائن لا محالة وإنْ تأخَّر .

=======3.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (153-162)
ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ
غريب الكلمات:

جَهْرَةً: أي: علانيةً ظاهرًا، وأصل الجهر: إعلانُ الشيءِ وكشفُه، وعلوُّه
.
الصَّاعِقَةُ: النَّار التي تَنزلُ من السَّماء عندَ اشتداد الرَّعد، أو الصَّوت الشَّديد من الجوِّ، والوَقعُ الشَّديدُ منَ الرَّعْدِ، أو كلُّ عذاب مُهلِك (الموت - العذاب - النار)، ومنه: صَعِق، إذا مات، وأصل (صعق): يدُلُّ على شِدَّة الصَّوت .
الْبَيِّنَاتُ: جمْع بيِّنة، وهي: الدَّلالة الواضحة؛ يُقال: بان الشيءُ وأبان، إذا اتَّضح وانكَشف .
سُلْطَانًا: أي: حُجَّة، وأصْل السُّلطان: القُوَّة والقهر، من التَّسلُّط؛ ولذلك سُمِّي السُّلطانُ سُلطانًا .
الطُّورَ: اسمُ جبلٍ مخصوصٍ، وهو يُطلق على الجبَل الشَّاهق، أو اسم لكلِّ جبل، أو الجبل المُنبِت، وأصل (طور): الامتدادُ في شيءٍ من مكانٍ أو زمان .
بِمِيثَاقِهِمْ: الميثاق: العقد المؤكَّد بيمينٍ وعهد، أو العهدُ المُحكَم، وأصل (وثق): العقد والإحكام .
لَا تَعْدُوا: لا تَتعدَّوا وتُجاوزوا ما أُمرتُم به، وأصْل التَّعدِّي: التَّجاوزُ في الشَّيء، والتقدُّم لِمَا يَنبغي الاقتصار عليه .
غَلِيظًا: أَيْ: شَدِيدًا، وخَشنًا، والغِلظة ضد الرِّقَّة .
نَقْضِهِمْ: أي: نبْذِهم إيَّاه بعدَ القَبول به، وتركِهم العملَ به، وأصل النَّقض ضِدُّ الإِبرام: وهو فكُّ تركيبِ الشيء وردُّه إلى ما كان عليه أوَّلًا؛ فنقض البناء: هدمُه، ونقض المُبرَم: حَلُّه .
غُلْفٌ: جمْع أغلف، أي: كأنَّها في غِلاف لا تَفهم، ولا تَعقِل شيئًا ممَّا يُقال، وأصل الغلف: الغشاوة، وغشيان شيءٍ لشيء .
طَبَعَ: ختَم عليها؛ فلا يَصل إليها هُدًى ولا نورٌ .
بُهْتَانًا: أي: ظُلمًا، ويُطلَق الْبُهْتَانُ على الكَذِبُ، وعلى كلِّ فِعل مُستبشَع يُتعاطى باليد والرِّجل، مِن تناوُل ما لا يجوز، والمشيِ إلى ما يَقبُح .
الْمَسِيحَ: هو عيسى عليه السَّلام؛ وسُمِّي عيسى بالمسيح؛ لأنَّه كان لا يَمسحُ بيدِه ذا عاهةٍ إلَّا برِئ .
صَلَبُوهُ: علَّقوه وشدُّوا صُلبَه على خَشَبٍ؛ ليَقتلوه .
شَهِيدًا: شاهدًا على مَن كَفَر به وكذَّبه، ولِمَن آمَن به وصَدَّقه، والشَّهادةُ قولٌ صادرٌ عن عِلمٍ حَصَل بمشاهدة بصيرة أو بصَر .
الرِّبَا: أصْل الرِّبا الزِّيادة، وخُصَّ في الشَّرع بالزِّيادة على رأسِ المالِ دون وجْه حقٍّ .
الرَّاسِخُونَ: الثَّابتون، جمْع: راسخ، ورُسوخُ الشَّيءِ في الشَّيء، هو ثبوتُه وولوجُه فيه

.
مشكل الإعراب:

1- قوله: فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً:
جَهْرَةً: مصدَر، أو مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال؛ وعليه: فيجوز أن تكون جهرةً من صِفة القول أو السُّؤال، أو من صِفة السَّائلين، أي: فقالوا مُجاهِرين، أو: سألوا مجاهرين؛ فتكون في محلِّ نصْبٍ على الحال، أو منصوبةً على المصدَر مِن نوع الفِعل (أرنا)؛ فإنَّ الجهرة نوعٌ من الرُّؤية، مثل (قعَد القرفصاءَ)، ويجوز أن تكون نعتًا لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه: رؤية جهرة؛ فحينئذٍ تكون نائبةً عن المفعول المطلَق
.
2- قوله: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ:
رَسُولَ: بدلٌ من المَسِيحَ، أو عطفُ بيان، أو صِفة له، أو صِفة لـعِيسَى عليه السَّلام؛ هذا على أنَّ الكلامَ ما زالَ لليهودِ، وقالوه على سَبيلِ التهكُّم والاستهزاءِ، كقولِ فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] ، ويجوزُ أنْ يَضَعَ اللَّهُ الذِّكرَ الحسَنَ مكانَ ذِكرِهم القبيحِ في الحِكاية عنهم؛ رفعًا لعيسى عمَّا كانوا يَذكُرونه به، وتعظيمًا لِمَا أرادوا بمثلِه، وقيل غيرُ ذلك .
3- قوله: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ:
إلَّا اتِّباعَ: مستثنى مُنقطِع، وهو منصوب؛ لأنَّ اتباع الظنِّ ليس من جِنس العِلم، والنَّصبُ هو أصلُ الاستثناءِ المنقطع في لُغةِ الحجاز، ويَجوزُ في لُغة تميم الإِبدالُ من (عِلمٍ) لفظًا فيجرُّ، أو على الموضِع فيُرفَعُ؛ لأنَّ قولَه: عِلْمٍمَرفوعُ المحلِّ على الابتداءِ، ومِنْ زائدةٌ فيه .
4- قوله: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا:
يَقِينًا: في نَصْبه أوجه؛ منها: أنَّه حالٌ منصوبة من واوِ الجماعةِ في قَتَلُوهُ، أي: وما قتلوه مُتيقِّنين لقتْله أنَّه عيسى عليه السَّلام أو غيره. ومنها: أنه نعتٌ لمصدر محذوف، أي: قَتْلًا يَقينًا؛ فيكون نائبًا عن المفعول المطلق. ومنها: أنَّه منصوبٌ بفِعلٍ مِن لفظه حُذِف للدَّلالة عليه، أي: ما تيقَّنوه يقينًا، ويكون مؤكِّدًا لمضمون الجملة المنفية قبله، وقيل غير ذلك .
5- قوله: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا:
كَثِيرًا منصوبٌ على أنه نعتٌ لمفعول به محذوف، أي: أُناسًا كثيرًا. أو على أنَّه نائبٌ عن المفعول المطلَق (وهو المصدر)، أي: صَدًّا كثيرًا. وقيل غير ذلك .
6- قوله: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا:
والْمُقِيمينَ الصَّلَاةَ والْمُؤتُونَ الـزَّكَاةَ:
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ: لكِنْ: مخفَّفة، وهي حرفُ استدراكٍ لا عمَلَ لها. والرَّاسخون: مبتدأ مرفوع، وخبره إمَّا قوله يُؤْمِنُونَ... أو قوله: أُولِئَكَ سَنُؤْتِيهِمْ على ما سيأتي بيانُه.
والْمُقِيمينَ: على قِراءة الجمهور بالياء ؛ ففي إعرابه عدَّة أوجه: أظهرُها: أنه منصوبٌ على القطع الذي يُفيد المدح، أي: وأمْدَح - أو أعني، أو أخصُّ - المقيمين، وهذا القطع مفيد لبيان فضل الصلاة، فكثر الكلام في الوصف بأن جعل في جملة أخرى. وعلى هذا الوجه يجب أن يكون خبر الرَّاسِخُونَ هو جملة: يُؤْمِنُونَ...، وليس: أُولِئَكَ سَنُؤْتِيهِمْ؛ لأنَّ القطعَ إنَّما يَكونُ بعدَ تمامِ الكلام.
وقيل: إنَّه مجرورٌ عطفًا على (مَا)؛ أي: يُؤمنون بِـما أُنزل إليك وبالمقيمين الصَّلاة، والمراد بهم: الملائكة أو الأنبياء. وقيل: التقدير: وبدِين المقيمين، فيكون المرادُ بهم: المسلمين. وعليه يكون الخبر جملة أُولِئَكَ سَنُؤْتِيهِمْ، وتكون جملة (يُؤمِنون بما ...) جملةَ اعتراض؛ لأنَّ فيه تأكيدًا وتسديدًا للكلام، ويكون (يؤمنون) يعود على (الراسخون) و(المؤمنون) جميعًا، ويجوزُ أن تكون جملة (يؤمنون) حالًا منهما. وقيل غير ذلك .
والْمُؤتُونَ: في رفْعه أوجهٌ؛ أظهرها: أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوف، ويكون من باب القَطعِ على المدح المذكور في نَصْب (والمقيمين). ومنها: أنَّه معطوفٌ على الضمير المستكنِّ في (الرَّاسخون)، وجاز ذلِك للفَصل. ومنها: أنَّه معطوفٌ على الضَّمير في (المؤمنون)، أو على الضَّمير في (يؤمنون). ومنها: أنَّه مبتدأٌ أوَّل، وخَبَره أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ، فيكون (أولئك) مبتدأً ثانيًا، و (سنؤتيهم) خبَرَ المبتدأ الثاني، والجملةُ خبرَ المبتدأِ الأوَّل (المُؤتونَ). وعلى هذا الوجهِ يجبُ أنْ يكونَ خبَرُ الرَّاسِخُونَ هو جُملة: يُؤْمِنُونَ أيضًا.
والصَّلَاةَ والـزَّكَاةَ: كلٌّ منهما مفعولٌ به لاسم الفاعِل العامِل عمَلَ فِعله (المقيمين) (الْمُؤتُونَ)

.
المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى لنبيِّه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إنَّ أهل التوراة من اليهود يَطلُبون منك على سبيلِ التعنُّت أن تُنزِّل عليهم كتابًا من السَّماء، فيَنبغي ألَّا تكترثَ لذلك؛ فقد سألوا موسى ما هو أعظمُ من ذلك، بأنْ يُريهم اللهَ عِيانًا، فعُوقبوا بالصَّعق، بسبب ما ارتكبوه، ثم أنْجاهم اللهُ فعادوا لقبيح أفعالهم، فعَبَدوا العِجلَ بعدَما رأوا الآياتِ الواضحةَ التي جاء بها موسى، ثم عفَا الله عن ذلك، وأعطى موسى آياتٍ بيِّناتٍ، وحججًا واضحاتٍ، تدلُّ على صِدق ما جاء به.
ثم أخبَر تعالى أنَّه رفَعَ فوقَهم الجبلَ؛ تخويفًا لهم حين امتنعوا عن العمل بالتوارة التي أُخذَ عليهم العهد الموثَّق أن يلتزموا بها، وأخبر أنَّه أمَرَهم تعالى عند دُخولهم أحدَ أبواب بيت المقدس، أن يَدخُلوه وهم سجودٌ، ونهاهم عن الاعتداء يومَ السبت فيَقعوا فيما حرَّمه عليهم، وأخَذ عليهم سبحانه عهدًا مؤكَّدًا شديدًا أنْ يفعلوا ما أُمروا به، ويَجتنبوا ما نُهوا عنه.
ثم أخبر تعالى أنَّ طَرْدَهم من رحمته كان بسبب نَقْضهم للعهودِ التي عاهدوا اللهَ عليها، وكُفرِهم بآيات الله، وقَتْلِهم الأنبياءَ بلا سببٍ يستوجب قتْلَهم، وبسببِ قولهم: إنَّ قلوبهم في أغلفةً وأغطية، فلا يعقلون بها، وقد كذَبوا في ذلك، بل ختَم الله عليها؛ بسببِ كُفرهم، فلا يؤمنون بما طُلب منهم الإيمانُ به إلَّا بشيءٍ يسير، كذلك كان إبعادُهم من رحمته سبحانه وتعالى بسبب كُفرِهم واتِّهامهم مريمَ بالوقوع في الزِّنا كذبًا وافتراءً. وبقولهم: إنَّهم قتَلوا المسيح عيسى ابنَ مريم رسولَ الله تعالى، وما قتلوه وما صَلبوه، ولكن أُلقي شبهُه على شخصٍ آخَرَ فظنُّوه عيسى عليه السَّلام, وأمَّا الذين اختلفوا في شأنِه من اليهود والنصارى فهُم في شكٍّ وحَيرة منه، وليس معهم سوى مُجرَّدِ ظُنون، وما قتلوه متيقِّنِين من أنه عيسى عليه السَّلام، بل رفَعَه الله إليه فلم يَنالوا منه عليه السَّلام، وكان الله عزيزًا حكيمًا.
ثمَّ أخبَر تعالى أنَّه لا يَبقى أحدٌ من أهل الكتاب بعد أن يَنزل عيسى في آخِرِ الزمان إلَّا وسيُؤمن به قبلَ موته، وسيكون عليه السَّلام شاهدًا عليهم يومَ القيامة.
وبيَّن اللهُ سبحانه بعدَ ذلك أنَّه بسببِ ظُلم اليهود وصَدِّهم عن سبيله كثيرًا، حرَّم عليهم بعضَ الطيِّبات التي كان أَحلَّها لهم من قبلُ؛ عقوبةً لهم على ذلك، وعلى أخذهم للرِّبا وقد نُهوا عنه، وعلى استيلائِهم على أموال النَّاس بدون وجهِ حقٍّ، وأعدَّ الله لِمَن كَفَر منهم عذابًا مؤلِمًا.
ثم وضَّح تعالى أنَّه ليس كلُّ اليهود متَّصِفون بتلك الصِّفات السيِّئة؛ فالذين ثبَت العلمُ في صُدروهم وانتفعوا به، والمؤمنون منهم باللهِ وكُتبه ورُسله جميعًا، هؤلاء يؤمنون بما أُنزل إلى رسولِ الله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ وهو القُرآن، وبما أُنزل من قبله من الكتُب المتقدِّمة، والذين يُقيمون الصَّلاة على أتمِّ الوجوه، ويُعطون الزكاة لِمَن يستحقُّها، والذين يُؤمنون بالله تعالى وباليوم الآخِر وما يكون فيه، أولئك وعَدَ الله أنَّه سيُؤتيهم أجرًا وثوابًا كبيرًا، وهو الجنة.
تفسير الآيات:

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى معاذيرَ أهل الكتابين في إنكارهم رِسالةَ محمد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أعقَبَ ذلك بذِكر شيءٍ من اقتراحهم مجيءَ المعجزات على وَفقِ مطالبهم
، فقال تعالى:
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ
أي: يسألك أهلُ التوراة من اليهود يا محمَّد، على سبيل التعنُّت والعِنادِ أن تُنزِّل عليهم كتابًا من السَّماء جملةً واحدة، مكتوبًا بخطٍّ سماويٍّ، كما كانت ألواحُ التَّوراة، يَشهَدُ لك بالصِّدق, ويأمُرهم باتباعك .
فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ
أي: لا يَعظُمنَّ عليك يا محمَّد، سؤالُهم ذلك، ولا تعجبنَّ منه؛ فإنَّه ليس بغريبٍ من أمرهم، بل سبَق لهم طلبُ ما هو أعظمُ من ذلك من موسى عليه السَّلام، الذي يَزعُمون أنَّهم يؤمنون به !
فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً
أي: فقالوا لموسى عليه السَّلام: نُريد رُؤيةَ الله تعالى عِيانًا نَنظُر إليه؛ كي نُصدِّقَك .
كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] .
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ
أي: عُوقبوا بالصَّعق؛ بسببِ عُدوانهم وعِنادهم فهَلَكوا، ثم أحياهم اللهُ .
كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 55 - 56] .
ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
أي: ثم اتَّخذ هؤلاء الذين سألوا موسى رؤيةَ ربِّهم عِيانًا، بعدَما أحياهم اللهُ تعالى من صَعقتِهم، اتخذوا العجلَ إلهًا يعبدونه، مِن بعدِ ما رأوا بأبصارهم الأدلَّةَ الواضحةَ، والمعجزاتِ الباهرةَ التي جرَت لموسى عليه السَّلام !
فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ
أي: فعَفوْنا لعبدةِ العجل عن عِبادتهم إيَّاه. وقد جعَل الله تعالى توبتَهم: أن يَقتُل بعضُهم بعضًا .
كما قال سبحانه: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 54] .
وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا
أي: وأَعطينا موسى عليه السَّلام حُجَّةً واضحة، تُبِين عن صِدقه ونبوَّته، وهي الآياتُ البيِّنات، والحُججُ الباهرات التي أُعطيها .
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ
أي: حين امتَنعوا من العملِ بالتوراة التي عُهِد إليهم الالتزامُ بها عهدًا مؤكَّدًا، رفَعْنَا فوق رؤوسهم جبلًا لتخويفهم؛ كي يُقرُّوا بما عُوهِدوا عليه، ويَعمَلوا به بقوَّة .
كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 63] .
وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
أي: وأمَرْناهم أن يَخضعوا لله سبحانه بالفِعل والقولِ عند دُخولِهم أحدَ أبواب بيت المقدس، بأنْ يدخُلوا رُكَّعًا متواضعين، وأن يَطلُبوا من الله تعالى أن يَضعَ عنهم ذُنوبَهم وخطاياهم .
وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ
أي: وقُلنا لهم: لا تَتجاوزوا في يوم السَّبت ما أُبيح لكم إلى ما حُرِّم عليكم .
كما قال تعالى:وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) [الأعراف: 163] .
وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا
أي: وأَخذْنا عليهم عهدًا مؤكَّدًا شديدًا بأنْ يَعملوا بما أمرَهم اللهُ تعالى به، ويَنتهوا عمَّا نهاهم عنه .
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ
أي: فبسببِ نقضِهم عهودَهم، التي عاهدوا اللهَ تعالى أن يأخذوا بها، طَرَدْناهم وأبعدناهم من رحمتِنا .
كما قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً... [المائدة: 13] .
وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ
أي: وبسبب كُفرهم بالأدلَّة والحُجج والمعجزاتِ، التي شاهدوها دالَّةً على الحقِّ بوضوحٍ .
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
أي: وبسببِ قيامِهم بقَتْلِ الأنبياءِ الكرام عليهم السَّلام بغير سببٍ يَستحقُّون به القتل .
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ
أي: وبسببِ قولهم: قلوبُنا داخلةٌ في غِلاف وأَغطيةٍ، فلا نَعقِل بها .
كقوله تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت: 5] .
بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ
أي: ليس الأمرُ كما زعَموا من أنَّ قلوبَهم غُلف؛ فقد كذَبوا في ذلك، وإنَّما ختَم الله تعالى على قلوبِهم؛ بسببِ كُفرهم .
فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا
أي: إنَّهم آمنوا بشيءٍ يسيرٍ ممَّا وجب عليهم الإيمانُ به، لكنَّه إيمانٌ لا ينفعهم؛ لأنَّه مغمورٌ بما كفروا به، كإيمانهم ببعضِ الأنبياء وكُفرهم ببعضهم .
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
أي: وبسبب كُفرهم وبسبب افترائِهم على مريمَ عليها السَّلام برَمْيِها بالوقوعِ في الزِّنا .
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ
أي: وبسببِ دَعواهم قتْل عيسى عليه السَّلام .
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ
أي: والحقُّ أنَّهم لم يَقتُلوا عيسى عليه السَّلام، ولم يَصلِبوه كما يَدَّعون، ولكن أُلقي شبهُه على شخصٍ آخِرَ؛ فظنُّوه هو .
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
أي: إنَّ الذين اختلفوا من اليهود والنَّصارى في شأنِ عيسى عليه السَّلام- هل هو الذي قُتِل وصُلِب أم غيره- يُخالج نُفوسَهم الشكُّ، وتنتابهم الحَيرةُ من هذا الأمر .
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ
أي: مِن غير أن يكونَ لهم عِلمٌ جازم بمَن قتلوه حقًّا؛ أهو عيسى عليه السَّلام أم غيره، وإنَّما غايةُ ما لديهم هو مجرَّدُ ظنونٍ لا تَرقى إلى درجةِ اليقين .
وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا
أي: وما قتَلوه متيقِّنين أنَّه عيسى عليه السَّلام .
بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ
أي: ليس الأمرُ كما ظنُّوا من أنَّهم قتلوه وصلبوه, ولكنَّ الحقيقةَ هي أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد رفَعه إليه في السَّماء؛ فلم يَظفروا به .
كما قال تعالى: إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران: 55] .
وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
أي: إنَّ الله تعالى ذو قدْرٍ عظيمٍ، منيع الجَناب، غالبٌ على أمره، قاهرٌ لأعدائه ومنتقِمٌ منهم، ذو حكمةٍ في تدبيره وقَضائه؛ فيضع كلَّ شيءٍ في موضعه اللائق به سبحانه، ومِن عِزَّته وحِكمته عزَّ وجلَّ: رفْعُه لعيسى عليه السَّلام، ومنعُ أعدائه من الوصول إليه .
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
مُناسبةُ هذه الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى فضائح اليهود وقبائحَ أفعالهم، وأَوْضَح أنَّهم قَصدوا قتْل عيسى عليه السَّلام، وأنَّه ما حصَل لهم ذلك المقصود، وأنَّه حصَل لعيسى أعظمُ المناصب، وأجلُّ المراتب- بَيَّن تعالى أنَّ هؤلاء اليهودَ الذين كانوا مبالغين في عَداوته لا يخرُج أحدٌ منهم من الدُّنيا إلَّا بعدَ أن يؤمن به ، فقال:
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
أي: إنَّه لا يَبقى أحدٌ من أهل الكِتاب بعد نُزولِ عيسى عليه السَّلام في آخِر الزَّمان، عند اقترابِ السَّاعة، وظهورِ علاماتها الكِبار، إلَّا آمَن به قبلَ موته عليه السَّلام .
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((والذي نَفْسي بيدِه، ليُوشِكنَّ أن يَنزلَ فيكم ابنُ مريمَ حَكمًا عدلًا، فيَكسِرَ الصَّليبَ، ويَقتُلَ الخِنزيرَ، ويضعَ الجزيةَ، ويَفيضَ المالُ حتى لا يقبلَه أحدٌ، حتى تكونَ السجدةُ الواحدةُ خيرًا من الدُّنيا وما فيها، ثم يقولُ أبو هريرةَ: واقرؤوا- إنْ شئتم -: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)) .
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا
أي: ويوم القِيامة يكونُ عيسى عليه السَّلام شاهدًا على أهل الكِتاب من اليَهود والنَّصارى، الذين تعارَضتْ أقوالُهم فيه بتكذيبِ مَن كفَر به منهم, وتَصديق مَن آمَن به منهم، فيما أَتاهم به من عند الله، وبإبلاغِه رسالةَ ربِّه ومولاه، وشاهدًا على أعمالهم التي شاهدَها منهم قَبلَ رفْعِه إلى السَّماء، وبعد نُزوله إلى الأرض .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 116 - 118] .
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا (160)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا بَيَّن فَضائحَ أعمالِ اليهودِ، وقبائحَ الكافرين وأفعالَهم، ذكر عقيبه تشديده تعالى عليهم في الدنيا وفي الآخرة ، فقال:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
أي: بسبب ظُلم اليهود- بما ارْتكبوه من الذُّنوب العَظيمة- حرَّم الله تعالى عليهم؛ عقوبةً لهم، عددًا من الطيِّبات التي أحلَّها لهم سبحانه من قبلُ .
كما قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [الأنعام: 146] .
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا
أي: وبسببِ صدِّهم أنفُسَهم عن اتِّباع الحقِّ، وصدِّهم الناسَ أيضًا عن طريقِ الهُدى صدًّا كثيرًا، فقد قالوا على الله تعالى الباطِل, وبدَّلوا كتابَ الله، وحرَّفوا معانيَه عن وجوهِه، وكتَموا ما فيه- كأمْر مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ وبيان صِفته للنَّاس- وقتَلوا خلقًا من الأنبياء، وكذَّبوا عيسى ومحمدًا عليهما الصَّلاة والسَّلام .
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ
أي: وبسببِ تَناوُلهم الرِّبا، والحال أنَّهم قد نُهوا عن أخْذه، فقامتْ عليهم الحُجَّةُ في ذلك .
وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
أي: وبسبب استيلائِهم على أموالِ الناسِ بغير حقٍّ .
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
أي: وهيَّأْنا للكفَّارِ من هؤلاء اليهود عذابًا موجعًا .
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها
لَمَّا ذَكَر الله تعالى معايبَ أهل الكتاب، ذكَر الممدوحين منهم ، فقال:
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ
أي: ليس كلُّ اليهود على تِلك الأوصاف السيِّئة؛ فالذين ثبَت العِلمُ النافع في قلوبِهم، ورسَخَ الإيقانُ في أفئدتهم، والمؤمنون بالله تعالى وجميعِ كُتبِه ورُسلِه عليهم السَّلام .
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
أي: يُؤمِنون بالقُرآنِ الذي أُنزل إليك يا محمَّدُ، وبالكتُب السابقة التي أُنزلتْ على الأنبياء عليهم السَّلام من قَبْلك .
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ
أي: والذين يُؤدُّون الصلاةَ على وجه الاستقامة والتَّمام، فيأتون بها تامَّةَ الشروط، مستوفيةَ الأركان والواجبات، ويُكمِّلونها بالمستحبَّات .
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
أي: والذين يُعطون زكاةَ أموالهم أهلَها المستحقِّين لها .
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
أي: والذين يُؤمنون باللهِ تعالى، ويُؤمنون بالبَعثِ بعد الموت، والجزاءِ على الأعمالِ؛ خيرِها وشرِّها .
أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا
أي: أولئك الذين هذه صِفتُهم- ممن جمعوا بين العِلم والإيمانِ والعملِ الصالح- سنُعطيهم جزاءً وثوابًا كبيرًا, وهو الجنة

.
الفوائِد التربويَّة :

1- النَّظر إلى عاقبة التعنُّت في الدِّين؛ قال الله تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ فأخذتْهم الصاعقة بتعنُّتِهم وسؤالِهم ما ليس لهم أن يَسألوه
.
2- أنَّ الذَّنب كلَّما عظُم كان أسرعَ للعقوبة؛ لقوله: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، والفاء تدلُّ على الترتيب والتعقيب؛ ولهذا أخذتْهم الصَّاعقةُ في الحال، فماتوا جميعًا .
3- أنَّ مَن تحيَّل على محارمِ الله مِن هذه الأمَّة ففيه شبهٌ من اليهود، سواء كان في البَيع أو في الشِّراء، أو فيما أحلَّ الله من الطعام وحرَّم، أو في النِّكاح .
4- الكُفر المتزايد يَزيد تَعاصي القلوب عن تلقِّي الإرشاد؛ يستفاد ذلك من قول الله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا .
5- وجوب اقتِناع الإنسان بحُكم الله، ورِضاه بقَدَره، فوجوب اقتناعه بحُكم الله؛ لأنَّه إذا آمن أنه لحِكمةٍ، وجَبَ أن يقتنع به؛ قال تعالى: وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا؛ ولهذا كان السَّلف الصالح لا يُقنعون النفوسَ عند الإشكال إلَّا بالنُّصوص، وأمَّا الرِّضا بقضائه، فالمراد: أنْ يرضَى الإنسان بقضاء الله لا بالمقضيِّ؛ لأنَّ المقضيَّ فيه تفصيل، لكن القضاء من حيثُ هو قضاءُ الله يجب عليه أن يَرضَى به، وهذا من تمامِ توحيد الربوبيَّة .
6- اقتراف الذُّنوب والظُّلم موجبٌ للتَّشديد في الدُّنيا والآخِرة، وجامع لنكد الدَّارين؛ وسبب لحرمان الخير الشرعيِّ والقدري، قال الله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، وفي ذلك بيانُ فُحش الظُّلم، والتقبيح له، والتحذير منه .
7- أنَّ الجزاءَ مِن جِنس العَمل؛ قال الله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ؛ فمُنعوا مستلذَّات تلك المآكِل بما مَنَعوا أنفسَهم وغيرَهم من لذاذةِ الإيمان .
8- في قوله تعالى: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ إلى قوله: أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا بيانُ فَضيلةِ العالِمِين بأحكام اللهِ تعالى، العامِلين بتِلك الأحكام .
9- أنَّ العِلم سببٌ للإيمان؛ لقوله: يُؤْمِنُونَ، ولا شكَّ أنَّه كلَّما ازداد الإنسان علمًا، ازداد إيمانًا وبصيرةً بتوفيق الله عزَّ وجلَّ

.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- قول الله تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فيه الاستدلالُ على حالتهم بحالةِ أسلافهم، من قَبيل الاستدلال بأخلاق الأُمم والقبائل على أحوالِ العَشائر منهم
.
2- دِفاع اللهِ تعالى عن الرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنَّه سلَّاه وقال: لا تتعجب ولا تستكبر هذا السؤال فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ .
3- أنَّ ما جاءت به الرُّسلُ فهو حُجَّة ظاهرة لا تَخفى إلَّا على مَن أعْمَى اللهُ قلبَه؛ لقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ .
4- إثباتُ الأسباب، وأنَّ لها أثرًا في حُصولِ المسبَّبات؛ لقوله: بِظُلْمِهِمْ؛ فإنَّ الباء للسببيَّة .
5- قوله: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فيه دليل على العُذر بالجهل .
6- أنَّ إيمانَ بني إسرائيل إيمانُ إكراه؛ لأنَّ أيَّ قادرٍ يقول: أنا سأُسقط عليك حجارةً من السَّماء إنْ لم تؤمن، فيؤمن المُهدَّدُ على إكراه، وعليه: فالمؤمن على إكراهٍ لا بدَّ أن يكون إيمانه ضعيفًا، إذا زال الإكراهُ ربما يَرجِع إلى الكفر؛ قال تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ .. .
7- إثباتُ الأسباب الشرعيَّة، وكذلك إثبات الأسباب القدريَّة من باب أَوْلى؛ لقوله: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ والباء للسببيَّة، وإثبات الأسباب المؤثِّرة في مُسبَّباتها من مقتضى حِكمة الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الشيء لو وقَع صُدفةً هكذا لكان سفهًا، والإنسان الذي يفعل الشيءَ اعتباطًا بدون سبب موجب له لا يعد حكيمًا، لكن الذي يفعل الشيء بأسبابه والمؤثرات فيه هذا هو الحكيم، والله عزَّ وجلَّ قد ربط المسببات بالأسباب، ولكن لقصورنا ونقصنا قد نعلم السبب وقد لا نعلمه .
8- أنَّ نقْضَ الميثاق سببٌ لِلَعنةِ الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الآيةَ على تقديرِ محذوف، وهو: (لعنَّاهم)، أي: فبما نقضهم ميثاقهم.... لعنَّاهم .
9- أنَّ كلَّ مَن احتجَّ بالقَدَر على الشَّرْع، فحُجَّتُه داحضةٌ؛ لأنَّ هؤلاء احتجُّوا بقَدَرِ الله على شَرْعِه، حيث قالوا: قُلُوبُنَا غُلْفٌ فأبطل اللهُ تعالى حُجَّتَهم بقوله: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا، فمن كَفَر، ولم يعلمِ اللهُ فيه خيرًا، طبَع على قلبِه؛ فلا يَهتدي أبدًا، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] فمَن زاغ عن الحقِّ فهو السبب .
10- في قوله تعالى: وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ إثباتُ الآيات لله، وآياتُ الله تعالى نوعان: كونيَّة وشرعيَّة؛ فالكونيَّة جميعُ المخلوقات، فكلُّ المخلوقات دالَّةٌ على خالقها عزَّ وجلَّ، وعلى قُدرتِه وعِلمه، وحِكمتِه ورحمته، وغير ذلك ممَّا يتعلَّق بهذه المخلوقات، والآيات الشرعية: هي ما أنزله الله على رسله من الوحي .
11- عُتوُّ بني إسرائيل؛ حيث اعْتَدَوْا على مَن أتَوْا بشَرْع يَهدُون الناس به، فقتلوا: الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، بل قتَلوا الَّذِينَ يَأمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران: 21] ولو كانوا غيرَ أنبياء !
12- أنَّ قتْلَ الأنبياء لا يُمكن أن يكون بحَقٍّ، وقوله: بِغَيْرِ حَقٍّ بيانٌ للواقِع، وليس قيدًا احترازيًّا، وهو كثيرٌ في القرآن .
13- أنَّ اليهود باؤوا بإثم قَتْل المسيح أَخْذًا بإقرارهم، حيث قالوا: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ؛ لأنَّ الله جعَلَ الإقرارَ شهادة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النساء: 135] ولهذا نقول: اليهود قتَلوا المسيح حكمًا ولم يقتلوه واقعًا؛ لأنهم أقروا بأنهم قتلوه، ولكنهم لم يقتلوه واقعًا في الحقيقة، فحكم قتل المسيح ثابت على اليهود بإقرارهم .
14- نِسبة الإنسان إذا لم يكُن له أبٌ إلى أُمِّه، وتُؤخذ من قوله: عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ .
15- فائدة نحويَّة: أنَّ الإنسان إذا اشتهر بلقبِه، فلا بأس أن يُقدَّم على اسم العَلَم؛ لأنَّه قدَّم المسيح، في قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ، وإلَّا فالأصل أن يُقدَّم الاسم أولًا، ثم اللَّقب، ثم الكُنية، لكن إذا اشتهَر باللَّقب فإنَّه يُقدَّم، مثل أن تقول: الإمام أحمد بن حنبل، أو أحمد بن حنبل الإمام؛ فالأوَّل مُقدَّم؛ لأنَّه مشتهرٌ به .
16- سَفاهةُ النَّصارى وقِلَّة تمييزهم؛ إذ إنَّهم يَعبُدون الصَّليب ويُعظِّمونه، ولو كانوا عُقلاءَ لكسروه؛ صليبٌ يُصلَب عليه نبيُّهم- على زعمِهم- ثم يذهبون إلى تقديسه! لو أُخِذ بظاهر الحال لقِيل: هذا دليلٌ على بُغضهم لعيسى عليه السَّلامُ .
17- أنَّ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسَّلام حيٌّ؛ لقوله: بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وهذا يقتضي رَفْعَه برُوحه وجَسَدِه، كما عُرِج بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ برُوحه وجسَدِه إلى السموات .
18- في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أنَّ الكتابيَّ قد يؤمن إيمانَ اضطرارٍ إمَّا عند موته- على قول-، أو إذا نَزَل عيسى، ولكن النصوص تدلُّ على أنَّ الإيمانَ الاضطراريَّ لا ينفع، وأنَّ الإيمان لا ينفع إذا حضَر الأجلُ؛ لقوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء: 18] ، ولكن الإيمان الاضطراري في غير هذا الحال قد يَرْسَخُ في قلْبِ المرء، فقد يُؤمِنُ أولًا خوفًا من السَّيف، ثم يَرسَخُ الإيمان في قلبه ويثبت، ويكون إيمانًا حقيقيًّا يُثاب عليه، وينجو به من النَّارِ .
19- قوله تعالى: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا فيه التحذيرُ من كلِّ أنواع الصدِّ عن سبيلِ اللهِ؛ فالصَّد لا يتقيَّد بصيغةٍ معيَّنة، بل كلُّ ما فيه صدٌّ عن سبيل الله سواء بالتخذيل، أو بالإرجاف، أو بالإيعاد، أو بالوعد، أو بغير ذلك فإنَّه داخلٌ في التَّحذير من ذلك .
20- أنَّ المتعاطِين للرِّبا من هذه الأمَّة مُشبهون لليهود؛ لقوله: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ .
21- أنَّ أخْذ الرِّبا مُحرَّمٌ، سواء كان للأكْل، أو للشُّرب، أو للبس، أو للاقتناء، أو لأيِّ غرَضٍ كان؛ لعموم قوله: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا .
22- قول الله تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ في الآية دليل على أنَّ النهي للتحريم .
23- أنَّ الحُجَّة لا تقوم إلَّا بعدَ بُلوغها، وأنَّ مَن فعَل شيئًا لا يَدري عن حُكمه، فهو غير مُؤاخَذٍ به؛ لقوله: وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ .
24- أنَّه لا يمكن أنْ يتمَّ الإيمان إلَّا بالإيمان بما جاء به الرسولُ عليه الصلاة والسَّلام؛ لقوله: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فكلُّ إنسان يدَّعي أنه مؤمن دون أن يُؤمن بما أُنزل على محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فإنَّه كافرٌ، وكاذب في دَعواه؛ لأنَّ دِينَ الإسلام الذي جاء به محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ ناسخٌ لجميع الأديان .
25- الإشارة إلى أنَّه لا نبيَّ بَعد محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لقوله: مِنْ قَبْلِكَ ولم يقُلْ: (من بعدك)، وهذا هو الواقع، لكن الآية فيها الإشارةُ، وليس فيها التصريح .
26- فضيلةُ إقامة الصَّلاة وإيتاء الزكاة؛ لأنَّ الله تعالى نصَّ عليهما من بين سائر الأعمال، وإقامة الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة قرينتانِ في كتابِ الله . وأيضًا لَمَّا كانتِ الصلاةُ أعظمَ دعائم الدِّين، نُصب قولُه: والمُقِيمِينَ على المدحِ من بين هذه المرفوعات؛ إظهارًا لفضلِها

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ: جيء بالفِعل المضارع هنا يَسْأَلُكَ؛ إمَّا لقصْد استحضارِ حالتهم العجيبة في هذا السُّؤال، حتى كأنَّ السامعَ يَراهم، وإمَّا للدَّلالة على تَكرارِ السؤالِ وتجدُّدِه المرةَ بعد الأخرى، بأنْ يكونوا ألَـحُّوا في هذا السؤال؛ لقصد الإعناتِ
.
2- قوله: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى: الفاء في (فَقَدْ) فاء الفصيحة، دالَّة على مُقدَّر دلَّت عليه صيغةُ المضارع المراد منها التعجُّب، أي: فلا تعجب من هذا؛ فإنَّ ذلِك شنشنةٌ- أي: عادةٌ- قديمةٌ لأسلافهم مع رسولِهم؛ إذ سألوه معجزةً أعظم من هذا .
- وفيه: إسنادُ السُّؤال إليهم، وإن كان وُجِد من آبائهم في أيام موسى عليه السَّلام - وهم النقباء السَّبعون-؛ لأنَّهم كانوا على مذهبهم، وراضين بسؤالهم، ومُضاهين ومُشاكِلين لهم في التعنُّت .
3- قوله: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ فيه عطفُ جملة اتِّخاذهم العجلَ بحرف (ثم) المفيدِ في عطفِه الجُملَ معنى التَّراخي الرُّتبي؛ لأنَّ اتخاذهم العجل إلهًا أعظمُ جُرمًا ممَّا حُكِيَ قبله .
4- قوله: فَعَفَوْنَا: عبَّر الربُّ الجليل عن نفْسه سبحانه بضمير الجَمْع؛ للتَّعظيم، وليست للتعدد كما زعَم النصرانيُّ الخبيث؛ فإنَّ النصرانيَّ يقول: الآلهة متعدِّدة .
5- قولُه تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ فيه إيجازٌ بالحذف، حيث نزَع الجارَّ فقال: فَوْقَهُمْ ولم يقل: (مِنْ فَوقِهم)؛ لأنَّه لَمَّا كان الطور قد ملأ جِهةَ الفوق بأنْ وارى جميعَ أبدانهم ولم يسلم أحدٌ منهم من ذلك، نَزَع الجار؛ دلالةً على ذلك .
6- قوله تعالى: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ: فيه مناسبةٌ حسنةٌ؛ فإنَّه قال في سورة آل عمران: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 21] ؛ فلكونِه هنا في سورة النساء في سِياق طَعنِهم في القُرآنِ الذي هو أعظمُ الآياتِ عبَّر- مع جَمْع الكثرة الْأَنْبِيَاءَ وتنكير حَقٍّ- بالمصدرِ المُفْهِم قَتْلهم؛ لأنَّ الاجتراءَ على القَتلِ صارَ لهم خُلقًا وصِفةً راسخةً، بخِلاف ما مَضَى في آل عِمران؛ فإنَّه بالمضارع وَيَقْتُلُونَ الذي ربَّما دلَّ على العُروضِ .
7- قوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ... وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا فيه عطف قوله: وَبِكُفْرِهِمْ مرةً ثانية على قوله: فَبِمَا نَقْضِهِمْ، ولم يَستغنِ عنه بقولِه: وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وأُعيد مع ذلك حرفُ الجر الذي يُغني عنه حرفُ العطف؛ قصدًا للتأكيد، واعتُبر العطفُ لأجْل بعد ما بين اللَّفظينِ، ولأنَّه في مقام التهويلِ لأمر الكُفر، فالمتكلِّم يَذكُره ويُعيده؛ ليري أنه لا ريبةَ في إناطة الحُكم به .
8- قوله: وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ: فيه استدراك ؛ لرَفْع التوهُّم، والمستدرَك هو ما أفادَه قوله: وَما قَتَلُوهُ؛ من كون هذا القولِ لا شُبهة فيه، وأنَّه اختلاق محض؛ فبيَّن بالاستدراك أنَّ أصل ظنِّهم أنهم قتلوه أنَّهم توهَّموا أنَّهم قتلوه .
9- قوله: يَقِينًا بعد قوله: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ فيه تأكيدٌ لقوله: وَما قَتَلُوهُ كقولك: ما قتلوه حقًّا، أي حقَّ انتفاءُ قتْلِه حقًّا، وفيه تهكُّم؛ لأنَّه إذا نفى عنهم العلمَ نفيًا كليًّا بحرف الاستغراق (ما)، ثم قيل: وما علموه علمَ يقين وإحاطة لم يكُن إلَّا تهكُّمًا بهم ،ونُصب يَقِينًا على النِّيابة عن المفعول المطلق المؤكِّد لمضمون جملة قبله؛ لأنَّ مضمون وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بعد قوله: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ إلى قوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ يدلُّ على أنَّ انتفاءَ قتلهم إيَّاه أمرٌ متيقَّن؛ فصحَّ أن يكون يقينًا مؤكدًا لهذا المضمون ، فاليقين هنا عائد إلى نفي القتل، والذي أوجب هذا أنَّ اليهود لهم دِعايةٌ قويَّة فيما يذهبون إليه؛ فمِن أجْل هذه الدِّعاية القوية قُوبلوا بهذه التأكيدات التي تدلُّ على أنَّهم لم يَقتُلوا عيسى، وهذا من رحمة الله وحِكمته، أما كونه من رحمته؛ فلئلَّا يعلق في قلوب المسلمين من هذه الدعاية، وأمَّا كونه من حِكمة الله؛ فلأجْل أن يتبيَّن الأمرُ كما هو، حتى لا يكون ملتبسًا .
10- قوله: وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا: تذييل حسنٌ ومناسبٌ لقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ؛ لأنَّه لَمَّا عزَّ فقد حقَّ لعزه أن يُعزَّ أولياءَه، ولَمَّا كان حكيمًا؛ فقد أتْقن صُنع هذا الرفع فجعله فِتنةً للكافرين، وتبصرةً للمؤمنين ، وفيه مناسبة حسنة في ختْم الآية بهذَينِ الاسمينِ الكريمين؛ وَجهُها أنَّ هؤلاءِ اليهود جاؤوا مغالبين يُريدون أن يقتُلوا رسولًا من رسل الله عزَّ وجلَّ، فناسب أن يختم الآية بقوله: عَزِيزًا حَكِيمًا وهي الحَكيمُ هنا محمولٌ على معنى الحُكم، وهو أظهرُ مِن حمْله هنا على مَعْنى الحِكمة؛ فإنَّ الحَكيمَ يأتي لهذا وهذا، يعني: هو الحاكِمُ عزَّ وجلَّ؛ ولذلك منَعَ هؤلاءِ مِن إفسادِهم وقتْلهم النبيَّ .
11- قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الذِّينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ...:
- فيه: تنكير (ظلم) للتعظيم .
- وتقديم السَّبب (الظُّلم) على المسبَّب (تحريم الطيِّبات)؛ للتَّنبيه على فُحش الظلم، والتقبيح له، والتحذير منه ، وأيضًا هذا التقديم يُفيد الحصر، أي: حرَّم عليهم ذلك بسبب الظُّلمِ لا بسببٍ آخَرَ، وقد أبهم ما حرَّم عليهم هنا; لأنَّ الغرضَ من السياق العبرةُ بكونه عقوبةً، لا بيانُه في نَفْسِه، كما أبهم الظلم الذي كان سببًا له; ليعلمَ القارئ والسامع أنَّ أيَّ نوع من الظلم يكون سببًا للعقاب في الدُّنيا قبل الآخرة .
- والإظهار في مقام الإضمار - حيث قال: فَبِظُلْمٍ مِنَ الذِّينَ هَادُوا، ولم يقل: (فبِظُلمهم) -؛ حتى تأتيَ الضمائر متتابعةً من قوله: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ إلى آخره؛ ولأنَّ في الموصول وصِلته من قوله: الَّذِينَ هَادُوا ما يَقتضي التنزُّهَ عن الظُّلم لو كانوا كما وَصَفوا أنفسهم، فصدور الظُّلم عن الذين هادُوا محلُّ استغراب .
12- قولُه: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فيه استدراكٌ ناشئ على ما يُوهمه الكلام السابق ابتداءً من قوله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ من توغُّلهم في الضلالة حتى لا يُرجى لأحد منهم خير وصلاح، فاستدرك بأنَّ الراسخين في العِلم منهم ليسوا كما تُوهِّم؛ فهم يؤمنون بالقرآن مِثل عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، وكان مجيء (لكن) هنا في غايةِ الحُسن؛ لأنَّها داخلةٌ بين نَقيضينِ وجَزائهما، وهم الكافِرون والعذابُ الأليم، والمؤمنونَ والأجرُ العظيم .
13- قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فيه ذكر الخَاصِّ بعد العامِّ، فإنَّ الإيمان بهذا داخلٌ في قولِه قبلَه: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ؛ وذلك لأهميَّته؛ فإنَّ مدارَ الإيمان كلِّه على الإيمانِ بالله؛ لأنَّا نؤمن بأنَّ الرُّسل رسل الله، وأنَّ الكتب كتب الله، وأنَّ الملائكة عباد الله، وهلمَّ جرًّا، فالركيزةُ الأولى هي الإيمان بالله عزَّ وجل، وما بعدَه يُعدُّ فروعًا أو جِهاتٍ متعدِّدةً من الإيمان بالله .
14- قوله: أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا
- فيه: بيان علوِّ مرتبةِ هؤلاء المتَّصفين بهذه الصفات، يُؤخَذ ذلك من الإشارة إليهم بإشارة البعيد، ولم يقل: (هؤلاء)، ولم يقل: (فإننا سنؤتيهم)، بل قال: أُولَئِكَ، والإشارة إلى المشار إليه بالبُعد تدلُّ على علو مرتبته، كما في قوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] مع أنَّه بين أيدينا، لكن لعلوِّ مرتبته أُشير إليه بإشارة البَعيد ذَلِكَ .
- تنكير أجرًا، ووصفه بـعظيمًا؛ للدَّلالة على أنَّه أجرٌ عظيم لا تُتصوَّر عظمتُه .


=========4.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (163-166)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ
غريب الكلمات:

زَبُورًا: الزَّبور هو الكتاب المنزَّل على داود عليه السَّلام، وهو في الأصل: كلُّ كتابٍ ذو حِكمة، من الزَّبر، وهو الكِتابة والقِراءة، وقيل: مِن زَبَرَه، إذا دَفَعه
.
حُجَّةٌ: دَلالة مبيِّنة للمَحجَّة، وبُرهان وسُلطان

.
مشكل الإعراب:

1- قوله: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ:
رُسُلًا: قِراءة الجُمهور بالنَّصب في الموضِعين، وفي نصْبه ثلاثة أوجه: الأوَّل: أنَّه منصوبٌ على الاشتغال، أي: بفِعل محذوفٍ، تقديرُه: وقَصصنا رُسلًا، على حَذْف مضاف، أي: قصصنا أخبارَهم، فيكون قَدْ قَصَصْنَاهُمْ - ومثله لَمْ نَقْصُصْهُمْ - لا محلَّ له؛ لأنَّه مفسِّرٌ لذلك العاملِ المضمَر (قصصنا). الثَّاني: أنه منصوبٌ عطفًا على معنى الآية قبلها أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ، أي: أَرسَلنا ونبَّأْنا نوحًا ورَسُلًا. الثالث: أنَّه منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ به لفِعل محذوف، والتقدير: (وأَرْسَلْنا رسلًا)، وعلى الوجهين الأخيرين فيكون قَدْ قَصَصْناهم - ومثله لَمْ نَقْصُصْهُمْ - في محلِّ نصب؛ لأنَّه صِفةٌ لـ رُسُلًا. وعلى قِراءة ورسلٌ بالرَّفْع في الموضعين؛ فيكون مبتدأ، وجملة قَدْ قَصَصْناهم في محلِّ رفع خبر؛ وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ للعطف أو للتَّفْصيل
.
2- قوله: رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ:
رُسُلًا: منصوبٌ على أنَّه بَدَلٌ من قولِه: وَرُسُلًا قد قَصَصْنَاهُمْ في قِراءة النَّصب. أو مَنصوبٌ على القَطع المراد منه المدحُ، وتقديرُه: أعني - أو أمدح - رُسلًا. وقيل: منصوبٌ على الحالِ الموطِّئة ، وقيل: منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ به لفِعل محذوف، أي: أَرْسَلْنا رسلًا

.
المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ، بأنَّه أَوْحى إليه مِثلَ ما أوحى إلى نوحٍ والأنبياء مِن بعدِه، وأوحى اللهُ إلى إبراهيم وإسماعيل، وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ، وعيسى، وأيُّوب ويُونسَ، وهارون وسُليمان، عليهم جميعًا السَّلام، وأعطى سبحانه وتعالى داودَ عليه السَّلام كتابًا اسمُه الزَّبور.
وأخبره تعالى أنَّه أَوْحى إلى رُسلٍ قد قص عليه نبأهم في القرآن قبلَ أن تنزلَ هذه الآية، وأنَّ هناك رسلًا غيرَهم قد أَوْحى الله إليهم، لكن لم يقصص عليه أخبارهم في كتابه، وقد كَلَّم الله موسى تكليمًا بدون واسطةٍ.
هؤلاء الرُّسل أرسلهم اللهُ إلى عِباده مبشرين لأهل الطاعة بسعادة الدَّارين، ومنذرين للعصاةِ والمكذِّبين بالشَّقاء في الدُّنيا والآخرة؛ وذلك حتى لا يكونَ للناس أيُّ عُذرٍ يحتجُّون به بعدَ إرسال الرسل، وكان الله عزيزًا حكيمًا.
ثم يقول الله لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إنْ يكفُرْ بك يا محمَّدُ مَن كفَر، فإنَّ الله يَشهَدُ بما أَنزله عليك من كتاب عظيم، وهو القُرآن الكريم، فإنَّه أَنزله تعالى بعِلمه، والملائكةُ كذلك يَشهدونَ على صِدق ما جِئتَ به؛ فلا يَحْزُنْكَ تكذيبُ مَن كذَّب، ولا كُفرُ مَن كَفَر، وحَسْبُك بربِّك تعالى شاهدًا على صِدق ما أَتيتَ به.
تفسير الآيات:

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حَكَى الله تعالى أنَّ اليهود سألوا الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يُنزِّل عليهم كتابًا من السَّماء، وذكَر تعالى بعده أنَّهم لا يطلُبون ذلك لأجْل الاسترشاد، ولكن لأجْل العِناد واللِّجاج، وحكى أنواعًا كثيرةً من فضائحهم وقبائحهم، وامتدَّ الكلامُ إلى هذا المقام- شَرَع سبحانه في الجوابِ عن تِلك الشبهة، بأنه لم يكن عدم إنزال الكتاب على هؤلاء الأنبياء المذكورين في الآية دفعة واحدة مكتوبًا بخطٍّ سماويٍّ قادحًا في نبوَّتهم، بل كفى في إثبات نبوَّتهم ظهورُ نوعٍ واحد من أنواع المعجزات عليهم، علمنا أنَّ هذه الشبهة زائلةٌ، وأنَّ إصرار اليهود على طلب هذه المعجزة باطل
، فقال تعالى:
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ
أي: إنَّا أعلمناك- يا محمدُ- بشرعِنا، كما أعلمنا أيضًا نوحًا ومَن جاء بعدَه مِن الأنبياءِ عليهم السَّلامُ .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا ذكَر سبحانه اشتراكَ النبيين في وحيه إليهم، خصَّ بعضهم بالذكر ، فقال:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ
أي: وأعلمنا بشرعنا أيضا كلًّا مِن إبراهيمَ وإسماعيلَ، وإسحاقَ ويعقوبَ والأنبياء من ذرية يعقوب، وعيسى، وأيُّوبَ ويونسَ وهارون وسليمانَ عليهم الصَّلاة والسَّلام .
وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا
أي: وأَعْطينا داودَ عليه السَّلام كتابًا يُسمَّى بالزَّبور .
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ
أي: وأَوْحينا إلى رُسلٍ قد أتينا على ذِكرهم لك في القُرآن من قبلِ نُزولِ هذه الآية .
وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
أي: وأَوْحينا أيضًا إلى رُسلٍ آخرين لم نَأتِ على ذِكرهم لك في القُرآن .
وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا
أي: وخاطَب اللهُ عزَّ وجلَّ بكلامِه موسى عليه السَّلام دون واسطةٍ، بكلامٍ واضح بحرف وصوت، سمعه منه موسى عليه السلام .
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
أي: أَرسلتُهم رسلًا إلى عِبادي مبشِّرين مَن أطاعني وآمَن برُسلي بالسَّعادةِ الدنيويَّة والأُخرويَّة، ومُحذِّرين مَن عصاني وكذَّب رُسلي بشقاوةِ الدَّارين .
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
أي: لئلَّا يَبقَى لمعتذرٍ عُذرٌ؛ فلا يحتجُّ مَن كفر بالله تعالى وضلَّ عن سبيله بأنَّ الرِّسالة لم تبلغْه .
كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه: 134] .
وقال سبحانه: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 47] .
وعن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((ولا أَحدَ أحبُّ إليه العذرُ من اللهِ؛ ومن أجْلِ ذلك بعَثَ المبشِّرين والمنذرين... )) .
وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((وليسَ أحدٌ أحبَّ إليه العذرُ من اللهِ؛ مِن أجْلِ ذلك أَنزلَ الكتابَ، وأرسل الرُّسلَ )) .
وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
أي: إنَّ الله تعالى ذُو عزَّة، ومِن عِزَّته: قَهرُه وانتقامُه ممَّن كفَر به وعصاه بَعدَ بلوغِ رِسالتَه إليه، وهو ذو حِكمةٍ سبحانه فيَضع كلَّ شيءٍ في موضعِه اللَّائق به، ومِن حِكمته عزَّ وجلَّ: أنْ أَرْسل إلى عِبادِه الرُّسلَ، وأَنزل عليهم الكتُبَ .
لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (166)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى أنَّه أَوْحى إلى رسوله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، كما أَوْحى إلى إخوانِه من المُرسَلين عليهم السَّلام- أخبَر هنا بشهادتِه تعالى على رِسالتِه، وصِحَّة ما جاء به ، فقال:
لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ
أي: وإنْ كفَرَ بك مَن كفَر يا محمَّد، فالله تعالى يَشهَدُ لك بأنَّه أَنزل عليك القرآنَ العظيم .
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
أي: إنَّ إنزالَ الله تعالى للقرآنِ صادرٌ عن عِلم؛ فيعلم بماذا نزَلَ وكَيف نزَل، وعلى مَن نزَل، ويعلم حالةَ الذي أَنزله عليه، وكذلك نزَلَ القرآنُ مشتملًا على عُلومٍ إلهيَّة، وأحكامٍ شرعيَّة، وأخبارٍ غَيبيَّة، ممَّا هو مِن عِلم الله تعالى الذي أراد أن يُطلع العِبادَ عليه .
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ
أي: ويَشهد لك بصِدقِ رِسالتك، وصِحَّة ما أُنزل عليك، ملائكةُ الله جلَّ وعلا؛ فلا يَحزُنْك تكذيبُ مَن كذَّبك .
وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا
أي: وحَسْبُك بالله شاهدًا على صِدقك دون مَن سواه مِن خَلْقِه

.
الفوائِد التربويَّة:

1- قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ...، فكلُّ محسنٍ له من الثَّناء الحسَن بين الأنام بحسَبِ إحسانِه، والرسل- خصوصًا المسمَّون في هذه الآية- في المرتبةِ العُليا من الإحسان
.
2- أنَّه يَنبغي للإنسانِ الدَّاعي إلى الله أن يُعامِل الناسَ بما كانتْ تُعامِلُ به الرُّسلُ أقوامَها؛ فتارةً يُبشِّر، وتارةً يُنذر؛ لأنَّه إنْ سلك سبيلَ البشارة دائمًا أَدخلَ الناسَ في الإرجاء، وإنْ سلَك سبيلَ الإنذار دائمًا أَدْخل الناس في القُنوط واليأس؛ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ .
3- بيانُ رَحمةِ الله تعالى بعِباده؛ حيث أَرْسل إليهم الرُّسلَ يُعلِّمونهم ويُرشدونهم، ويَهدونهم إلى دِين الله، ولولا الرحمةُ ما أَرسلَ إليهم، قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ

.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- في ذِكر هؤلاء الرُّسل وتَعدادهم من التنويه بِهم، والثناء الصَّادق عليهم، وشَرْح أحوالهم ما يزدادُ به المؤمنُ إيمانًا بهم، ومحبَّةً لهم، واقتداءً بهَدْيهم، واستنانًا بسُنَّتهم، ومعرفةً بحقوقهم، قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ
.
2- خَصَّ بعضَ النبيِّين الذين جاؤوا من بعد نوح بالذِّكر؛ لشهرتِهم، وعلوِّ مقامِهم عند أهل الكتاب، فقال: وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ .
3- أنَّ أوَّل الرُّسُل نوحٌ عليه السَّلام؛ لقوله: وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وهذا هو الحقُّ، وليس قَبلَه رسول، أمَّا النبوَّة فكانتْ قبل نوح؛ فإنَّ آدمَ عليه الصلاة والسَّلام كان نبيًّا .
4- في قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ بدأ اللهُ تعالى بذِكر نوحٍ؛ لأنَّه أقدمُ نبيٍّ مُرسَل ذُكر في كتُب أهلِ الكِتاب، وإنَّما تنهض الحُجَّةُ على الناس إذا كانت مُقدِّماتها معروفةً عندهم .
5- قولُ الله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ... وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا عُطفت جملة وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا على إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، ولم يُعطف اسم داود على بقيَّة الأسماء المذكورة قبله؛ للإيماءِ إلى أنَّ الزبور مُوحًى بأنْ يكون كتابًا ، كسائرِ الكتبِ المنزلةِ.
6- في قوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أنَّ الله تعالى قصَّ أنباءَ بعضِ الرُّسُلِ ولم يقصَّ أنباء آخرين؛ لبعدهم عن منطقةِ رِسالة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
7- إثباتُ التعليل لأحكام الله القدريَّة، كما هو ثابتٌ في الأحكام الشرعيَّة، ويُؤخذ من لام التَّعليل في قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وهذا ثابتٌ بأدلَّة كثيرة، أوصلها بعضُهم إلى ألف دليلٍ على أنَّ أفعال الله وأحكامه مُعلَّلة، ولو لم يكُن مِن ذلك إلَّا اسم الله (الحَكيم)، لكان هذا كافيًا؛ فكلُّ ما فَعَله فلِحِكمة، وكل ما شرَعه فلِحِكمة .
8- أنَّ الله تعالى يحبُّ الإعذارَ من الناس؛ لأنَّه أرسل الرسل؛ قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ .
9- الآية لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ مُطلقَة، والمتبادر منها أنَّ مِن حِكمة إرسال الرُّسل قَطْعَ حُجَّة الناس واعتذارهم بالجهل، عندما يُحاسبهم الله تعالى في الآخِرة، ويَقضي بعذابهم، ومفهومُه ومفهومُ سائرِ الآيات: أنَّه لولا إرسالُ الرُّسل، لكان للناس أن يحتجُّوا في الآخِرة على عذابها، وعلى عذاب الدنيا الذي كان أصابَهم بظُلمهم. واستدلَّ بها كثيرٌ من العلماء على امتناع مؤاخذةِ الله الناس وتعذيبهم على تَرْكِ الهداية التي لا تُعرَف إلَّا من الرُّسلِ عليهم السَّلام، ويستدلُّون بآيةِ الإسراء وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] على نجاةِ أهلِ الفَترة وكلِّ مَن لم تَبلُغْه الدَّعوة .
10- يُستفادُ من قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ العُذر بالجَهل حتى في أصول الدِّين؛ لأنَّ الرسل يأتون بالأصول والفروع، فإذا كان الإنسانُ جاهلًا لم يأتِه رسولٌ، فله حُجَّةٌ على الله، ولا يمكن أن تثبُتَ الحُجَّةُ على الله إلَّا إذا كان معذورًا، لكن العذر بالجهل ليس على إطلاقِه من كلِّ وجهٍ، فيُشترط عدمُ التَّفريط في التعلُّم، فإنْ كان مفرِّطًا فلا عذر .
11- إثبات الشَّهادة لله، من قوله: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ، وقوله: وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا، وهو سبحانه وتعالى شاهدٌ على كلِّ أعمال الخلق، وعلى كلِّ ما يَحدُث في السَّماء والأرض، بل على ما لا يَحدُث لو حدَث كيف كان .
12- يُستفادُ من قوله تعالى: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أنَّ إنزال الله للقرآن كان بعِلمِه، فلا يتطرَّق إليه أيُّ خلل؛ لأنَّه يعلم متى نزل، وبماذا نزل، وكيف نزل، وعلى مَن نزل، ولا يمكن أن يتطرَّق اختلافٌ أو ادِّعاءُ نقْص أو ادِّعاء زيادة؛ لأنَّ الله أنزله بعِلمه؛ أي: أن إنزاله مقرونٌ بعلم الله، فمَن ادَّعى أنَّ فيه زيادةً أو نقصًا، فقد رمى الله تعالى بالجهل؛ لأنَّ الله أنزله بعِلِمه سبحانه، وكذلك نزَل القرآنُ بما يعلم الله تعالى أنَّه مُصلِحٌ للخلق .
13- في قوله تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ أنَّ الملائكة ذاتُ عقول، فهي تعلمُ، وتسمع، وتقول، خلافًا لِمَن قال: إنَّهم لا عقولَ لهم .
14- في قوله تعالى: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ عنايةُ الله سبحانه وتعالى برسولِه، وبما أوحاه إليه؛ حيث ذكَر أنَّ الله يشهد به، وكذلك الملائكة، وكثرةُ سِياق الأدلَّة على الشيء تدلُّ على العناية به، وهو كذلك .
15- قال تعالى: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ الأمورُ العظيمة لا يُستشهد عليها إلَّا الخواصُّ، كما قال تعالى في الشهادة على التوحيد: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وكفَى بالله شهيدًا

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فيه التأكيد بـ(إنَّ)؛ للاهتمامِ بهذا الخبر، أو لتنزيل المردود عليهم منزلةَ مَن يُنكر كيفيةَ الوحي للرُّسل
.
2- قوله: كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ فيه: تشبيهٌ بجِنس الوحي، وإنِ اختلفتْ أنواعه؛ فإنَّ الوحي إلى محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان بأنواع من الوحي، ورد بيانُها في حديثِ عائشةَ في الصحيحِ عن سؤالِ الحارثِ بنِ هشامٍ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: كيف يأتيك الوحي ؟ بخلاف الوحي إلى غيره ممَّن سماهم الله تعالى؛ فإنَّه يحتمل بعضًا من الأنواع، على أنَّ الوحي لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان منه الكتابُ (القرآن) ولم يكن لبعضِ مَن ذُكِر معه كتاب .
3- قوله: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا:
غيَّر الأسلوب: فعدَل عن العَطفِ إلى ذِكر فِعْلٍ آخَر - حيث لم يقل: (وإلى موسى)، أي: وأَوْحينا إلى موسى-؛ لأنَّ لهذا النوعِ من الوحي مزيدَ أهميَّة .
وتَكْلِيمًا مصدر مؤكِّد لفِعله، والتوكيد بالمصدر يَرجِع إلى تأكيد النِّسبة وتحقيقها مِثل (قد) و(إن)، وقد أَكَّد هنا بالمصدر؛ دَلالةً على وقوع الفِعل على حقيقتِه لا على مجازِه؛ فمعنى قوله: تَكْلِيمًا هنا: أنَّ الله تعالى كلَّم موسى كلامًا حقيقيًّا، بحيث لا يحتمل أنَّ الله أرسل إليه جبريلَ بكلام، أو أَوْحى إليه في نفْسِه . والقاعدةُ: أنَّ التوكيدَ بالمصدرِ يَنفي احتمالَ المجازِ ويَرْفَعُ تَوهُّمَه .
4- قولُه تعالى: بَعْدَ الرُّسُلِ:
لَمَّا كان المرادُ استغراقَ النَّفي لجميع الزمان المتعقَّب للإرسال، أسقط الجارَّ، فقال: بَعْدَ ولم يقل: (مِنْ بَعْد)، أي: انتفى ذلك انتفاءً مستغرقًا لجميعِ الزَّمان الذي يوجد بعد إرسالِ الرُّسل وتبليغهم للناس .
وفيه: إظهارٌ في مقام الإضمار في قوله: بَعْدَ الرُّسُلِ - حيث لم يقُلْ: (بعدهم) -؛ للاهتمام بهذه القضية، وللدلالة على استقلالها في الدَّلالة على معناها؛ حتى تسير مسرى الأمثال .
5- قوله: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ فيه: استدراك عن مفهوم ما قبله؛ لأنَّ ما تقدَّم من قوله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ مسوقٌ مساق بيان تعنُّتِهم ومكابرتهم عن أن يشهدوا بصِدق الرسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وصِحَّة نِسبة القرآن إلى الله تعالى؛ فكان هذا المعنى يستلزمُ أنَّهم يأبون من الشهادة بصِدق الرسول، وأنَّ ذلك يُحزن الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فجاء الاستدراكُ بقوله: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ، أي: لم يشهدْ أهلُ الكتاب، لكن اللهُ شَهِدَ، وشهادةُ الله خيرٌ من شهادتهم .

======5.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (167-170)
ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ
غريب الكلمات:

صَدُّوا: أَعْرَضوا وعدَلوا، ويُطلق الصدُّ أيضًا على الانصرافِ عن الشَّيءِ، والامتناع عنه، وأصْل (صد): الصَّرْف والمنْع

.
مشكل الإعراب:

قوله: فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ:
خَيْرًا: منصوبٌ على أنَّه خبَرُ (كان) المحذوفةِ مع اسمِها، والتقديرُ: فآمِنُوا يَكُنِ الإِيمانُ خيرًا لَكُم
. أو مَنصوبٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ واجبِ الإِضمارِ، تقديرُه: وأتُوا أو اقْصُدوا خيرًا لكم؛ لأنَّه لَمَّا أمَرَهم بالإيمان؛ فهو يُريدُ إخراجَهم من أمْرٍ وإدخالَهم فيما هو خيرٌ منه. وقيل: إنَّه مَنصوبٌ على الحالِ مِن المصدرِ الذي تَضمَّنه الفِعلُ، والتَّقدير: فآمِنوا حالَ كَونِ الإيمانِ خيرًا. وقيل غير ذلِك

.
المعنى الإجمالي:

يُخبر تعالى أنَّ الذين كفروا وأعْرَضوا عن سلوك طريق الحقِّ، ومنعوا غيرَهم من سلوكِه، قد ضلُّوا ضلالًا عظيمًا.
إنَّ الذين كفروا وظَلموا أنفسَهم بعدمِ إيمانهم لم يكُن الله ليغفر لهم ذُنوبهم، ولم يكن ليُوفِّقَهم لسلوكِ الطَّريق القويم الذي يُوصل لنعيمه، لكن سيَهديهم إلى سلوك طريق الباطِل الموصل لجهنم؛ ليمكثوا فيها أبدًا، وكان هذا الأمرُ على الله هيِّنًا يسيرًا.
ثم خاطَب الله تعالى جميعَ الناس، قائلًا لهم: إنَّ ما أتاهم به رسولُ الله محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ هو الحقُّ من عنده جلَّ وعلا؛ فلْيُؤمنوا به؛ فهذا خيرٌ لهم في الدارين، فإنْ أَبَوْا وكفروا فإنَّ الله غنيٌّ عنهم، فهو الذي يملك جميع ما في السَّموات والأرض، وكان الله عليمًا حكيمًا.
تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أخبر سبحانه عن رسالة الرُّسل عليهم الصلاة والسلام، وأخبر برسالة خاتمهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وشهِد بها، وشهِدتْ ملائكتُه- لزم من ذلك ثبوتُ الأمر المقرَّر والمشهود به، فوجَب تصديقُهم، والإيمانُ بهم واتِّباعُهم، لذا أتبع ذلك بوصْفِ مَن كفر بهم، وصدَّ عن سبيل الله زجرًا عن مِثل حاله، وتقبيحًا لِمَا أَبدى من ضلاله
، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ
أي: إنَّ الكفَّار الذين أعرضوا عن اتِّباع الحقِّ، وسَعَوْا في منْع الناس من اتِّباعه .
قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا
أي: قد انحرَفوا عن طريق الحقِّ، وبَعُدوا منه بعدًا عظيمًا .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا
أي: إنَّ الكفَّارَ الظالمين لأنفسِهم بالكُفر، وبالصدِّ عن سبيلِه، ومخالفةِ أوامرِه، وارتِكابِ نواهيه .
لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
أي: لم يكُنِ الله تعالى ليسترَ عليهم ذُنوبَهم، ويتجاوزَ عن مؤاخذتِهم بها .
وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا
أي: ولم يكُنِ الله تعالى ليوفِّقَهم لسلوك طريق الحقِّ الذي يَصِلُون به إلى الجنة .
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (169)
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
أي: لكنَّ اللهَ تعالى يَهديهم لسلوك طريق الباطِل، الذي يَصِلون به إلى جهنَّمَ، فيمكثون فيها بلا نهايةٍ ولا انقطاع .
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا
أي: إنَّ تخليدَ هؤلاء الكفَّار في جهنَّمَ أمرٌ هيِّنٌ على الله تعالى، الذي لا يَصعُب عليه شيءٌ سبحانه .
يَا أيُّها الناسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا أجاب عن شُبهة اليهودِ على الوجوه الكثيرة، وبيَّن فسادَ طريقتهم، ذكَر خطابًا عامًّا يعمُّهم، ويعمُّ غيرَهم في الدعوة إلى دِين محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام ، فقال:
يَا أيُّها الناسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ
أي: يَا أيُّها الناسُ إنَّ ما أتاكم به محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ من الله تعالى فهو حقٌّ، وبَعْثَته عليه الصَّلاة والسَّلام حقٌّ .
فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ
أي: فآمِنوا بما جاءكم به محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ واتَّبعوه، فإنَّ الإيمان به خير لكم في الدُّنيا والآخرة من الكُفر به .
كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
أي: وإنْ كفرتُم بالرسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ وبما جاء به، فاعْلَموا أنَّ الله تعالى غنيٌّ عنكم وعن إيمانكم، ولا يتضرَّر بكُفركم؛ إذ يملك جميعَ ما في السَّموات وما في الأرض .
كما قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: 8] .
وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
أي: إن َّالله تعالى عليمٌ بما أنتم صائرون إليه من الإيمان أو الكفر، عليمٌ بمَن يستحقُّ الهدايةَ منكم فيَهديه، وبمَن يستحقُّ الضلالة منكم فيُضِلُّه، حكيمٌ في جميع أقواله وأفعالِه وشَرْعه وقدَره، فيضع سبحانه كلَّ شيءٍ في موضعِه اللائق به

.
الفوائِد التربويَّة:

1- الكُفر والظُّلم من شأنهما أن يُخيِّمَا على القلب بغشاوةٍ تمنعُه من وصول الهُدَى إليه، فليحذرْ منهما، يُرشد إلى ذلك قولُ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ
.
2- وجوبُ الإيمان بالحقِّ ممَّن جاء به؛ لقوله: فَآمِنُوا بعد قوله: قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ .
3- في قوله تعالى: فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ أنَّ الإيمانَ كلَّه خيرٌ؛ خيرٌ في الدنيا، وخيرٌ في الآخرة، فالإيمان خيرٌ للمؤمنين في أبدانهم، وقلوبِهم وأرواحهم؛ وذلك لِمَا يَترتَّب عليه من المصالح والفوائد؛ فكلُّ ثوابٍ عاجِلٍ وآجِل فمِن ثمرات الإيمان، فالنَّصر والهُدى، والعلم والعمل الصالح، والسرور والأفراح، والجَنَّة وما اشتملَتْ عليه من النَّعيم، كلُّ ذلك مُسبَّب عن الإيمان، حتى في المعيشة وإنْ كانت ضنكًا، فهي عند المؤمن خيرٌ .
4- قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ نادى الله تعالى بهذه الآية جميعَ الناس في سِياق خِطاب أهل الكتاب؛ لأنَّ الحُجَّة إذا قامت عليهم بشهادة الله تعالى بنبوَّة محمد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ووجَب عليهم الإيمانُ به، فبالأَوْلى تقومُ على غيرهم ممَّن ليس لهم كتابٌ ككتابهم

.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّ مَن آمن واستقام على سبيل الله، ودعا الناسَ إليه فهو على الهُدَى، ويُعرف ذلك من المقابِل والضدِّ؛ فإنَّه إذا ثبَت الحُكم لشيءٍ ثبَتَ نقيضُه لضده؛ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا
.
2- إثبات الأفعال الاختياريَّة لله عزَّ وجلَّ؛ يعني: أنَّه يفعل ما يشاءُ بإرادته متى شاء؛ لقوله: لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ، والمغفرة فِعلٌ اختياريٌّ، وهذا الذي عليه السَّلَفُ الصالح أهلُ السُّنة والجماعة .
3- إثبات الخلودِ الأبديِّ؛ لقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، والخلودُ الأبديُّ يتضمَّن أبديَّةَ المكان الذي يكون فيه الخلودُ، وعلى هذا يكونُ في الآية دليلٌ واضحٌ على أبديَّة الخلود في النَّار .
4- عمومُ رِسالة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ لجميعِ الناس؛ لقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ .
5- إلزامُ قَبول ما جاء به الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ عقلًا، كما هو لازمٌ شرعًا؛ ووجه ذلك قوله: مِنْ رَبِّكُمْ، فإذا كان من ربِّنا، وهو مالكُنا وخالقُنا والمتصرِّف فينا كيف يشاء، وجب علينا قَبولُه .
6- في قوله تعالى: يَا أيُّها الناسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ أنَّ ما جاء به الرسولُ عليه الصَّلاة والسَّلام هو الحقُّ، ولا يصحُّ أن يُقال: كلُّ ما يُنسب للرسول حقٌّ، بل كلُّ ما جاء به؛ لأنَّ هناك أحاديثَ ضعيفةً، وأحاديثَ موضوعة، لكن كلُّ ما جاء به الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ فهو حقٌّ .
7- إثبات الربوبيَّة العامَّة؛ لقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ بالإضافة إلى قوله: مِنْ رَبِّكُمْ، وربوبيَّة الله سبحانه وتعالى عامَّة وخاصَّة؛ فالعامة كقوله تعالى: رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2] ، والخاصة كقوله: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف: 122] ، وقوله: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92-93] ، وقوله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65] ، والأمثلة على هذا كثيرة .
8- قوله تعالى: يَا أيُّها الناسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ يفيد أنَّ إرسالَ الرُّسل من مقتضى الربوبيَّة؛ لأنَّه تصرُّفٌ في الخَلق، وفِعل من أفعال الله، وكلُّ ما كان كذلك فهو داخلٌ تحت مضمون الربوبيَّة .
9- قول الله تعالى: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ هذا من إقامة العِلَّة مقام المعلول؛ إذ المراد: أنَّ الله تعالى له الغِنى المطَلق، فإنْ تستمرُّوا على كُفرانكم، يكُنْ الكفران شرًّا لكم، ولا يضرُّه تعالى من ذلك شيءٌ

.
بلاغة الآيات:

1- وقوله: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فيه- على جَعْلِ الفِعل (صَدَّ) متعدِّيًا- إِيجازٌ بالحذف، حيث حذفَ المفعول، وتقديره: (الناسَ)، أي: وصدُّوا الناسَ عن سبيل الله؛ لقصد التَّكثيرِ
.
2- قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا... بيان لجملة قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا؛ لأنَّ السامع يترقب معرفة جزاء هذا الضلال؛ فبينته هذه الجملة . وإعادة الموصول وصِلته في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا دون أن يذكر ضميرهم؛ لتبنى عليه صلة (وظلموا)، ولأنَّ في تكرير الصلة تنديدًا عليهم . وقد يُقصد بـ(الظلم) هنا الشرك، كما هو شائع في استعمال القرآن كقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ؛ فيكون من عطف الأخصِّ على الأعم في الأنواع .
3- قوله: لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ: الإتيان بلام الجحود في (ليغفر) أبلغُ من الإتيان بالفعل المجرَّد عنها؛ فالجملة التي على صيغة جحود تقتضي تحقيق النفي .
4- قوله: وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا فيه: استثناء لتأكيد الشيء بما يشبه ضدَّه؛ لأنَّ الكلام مسوق للإنذار، والاستثناء فيه رائحةُ إطماع، ثم إذا سمع المستثنى تبين أنه من قبيل الإنذار .
وفيه: تهكُّم؛ لأنَّه استثنى من الطَّريق المعمول لـ(يهديهم)، وليس الإقحام بهم في طريق جهنم بهدًى؛ لأنَّ الهدى هو إرشاد الضال إلى المكان المحبوب؛ ولذلك عقبه بقوله: وَكَانَ ذَلِكَ أي الإقحام بهم في طريق النار عَلَى اللهِ يسيرًا؛ إذ هم عبيده يصرفهم إلى حيث يشاء، ولأنَّه لا يُعجزه شيء سبحانه وتعالى .
5- قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: فيه: توجيه الخِطاب إلى الناس جميعًا؛ ليكون تذييلًا وتأكيدًا لِمَا سبقه؛ إذ قد تهيَّأ من القوارع السالفة ما قامت به الحجة، واتسعت المحجة، فكان المقام للأمر باتباع الرسول والإيمان .
6- قوله: قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ:
فيه تعدية الفِعل إلى ضمير المخاطبين في قوله: جَاءَكُمُ ترغيبًا لهم في الإيمان؛ لأنَّ الذي يجيء مهتمًّا بناس يكون حقًّا عليهم أنْ يتبعوه، وأيضًا في طريق الإضافة من قوله: رَبِّكُمْ ترغيبٌ ثانٍ؛ لِمَا تدلُّ عليه من اختصاصهم بهذا الدِّين، الذي هو آتٍ مِن ربِّـهم .
- وإيراده عليه الصَّلاةُ والسَّلام بعنوان الرِّسالة الرَّسُولُ؛ لتأكيد وجوب طاعته، والتعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين (رَبِّكم)؛ للإيذان بأنَّ ذلك لتربيتهم وتبليغهم إلى كمالهم اللائق بهم؛ ترغيبًا لهم في الامتثال بما بعده مِن الأمر .
- وذَكر الرَّسُول هاهنا مُعرَّفًا بـ(ال) وهي للعهد الذهني؛ لأنَّ أهل الكتاب قد بُشِّروا به، وكانوا ينتظرون بَعثتَه .
7- قوله: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلهِ مَا فِي السَّمواتِ وَالْأَرْضِ:
- فيه: تعريضٌ بالمخاطَبين، أي: إنَّ كفرَكم لا يُفلتُكم من عِقابه؛ لأنَّكم عبيدُه؛ لأنَّ له ما في السَّموات وما في الأرض .
- ولم يُؤكَّد بتكرير (ما)، وإنْ كان الخطابُ مع المضطربين؛ لأنَّ قيامَ الأدلَّة أوصل إلى حدٍّ من الوضوحِ بشهادةِ الله ما لا مَزيدَ عليه .

======6.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (171-175)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ
غريب الكلمات:

لَا تَغْلُوا: لا تُجاوزوا الحدَّ، وترتفِعوا عن الحقِّ، أو لا تَزيدوا ولا تُفرِطوا فيه، وأصل الغُلوِّ: الإفراط ومجاوزة الحدِّ، والزِّيادة
.
وَكَلِمَتُهُ: سُمِّي عيسى عليه السَّلام (كلِمة)؛ لكونه موجدًا بالكلمة (كن)؛ كما في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] .
أَلْقَاهَا: أمَر بها، أو أَعْلَمَ بها، وأصْلُ الإلقاء: طرْح الشيءِ حيث تَلْقاه .
يَسْتَنْكِفَ: يَأنَف، مِن: نكف الدَّمعَ، إذا مَسَحه عن خدِّه بإصبعيه أنفةً من أن يُرى أثَرُ البكاء عليه، وأصلُ نكف: يدلُّ على قطْعِ شيءٍ وتنحيتِه .
فَسَيَحْشُرُهُمْ: يَبعثُهم ويَجمُعهم، والحشر: إخراجُ الجماعة عن مقرِّهم وإزعاجهم عنه إلى الحربِ ونحوها، وأصلُ (حشر): السَّوْق، والبَعْث والانبعاث .
وَلِيًّا: أصْل (ولي) يدلُّ على القُرْب، سواء من حيث: المكان، أو النِّسبة، أو الدِّين، أو الصَّداقة، أو النُّصرة، أو الاعتقاد، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه .
نَصِيرًا: ناصرًا، وعونًا، وأصل نصر: يدلُّ على إتيان خيرٍ، وإيتائِه .
بُرْهَانٌ: حُجَّةٌ ودَلالةٌ واضحة، وأصله: وضوحُ الشَّيء .
وَاعْتَصَمُوا: استَمسَكوا وامتنعوا به، وأصلُ العِصمة: المنْع- ومنه يُقال: عَصَمَه الطَّعامُ؛ أي: مَنعَه من الجوع-، والإمساك، والملازمة .
وَفَضْلٍ: أي: عطاءٍ زائِد؛ فأصلُ الفضل الزِّيادة، وكلُّ عَطيَّة لا تلزم مَن يُعطي، يُقال لها: فضل، والإفضال: الإحسان

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَة:
ثَلَاثَة: خبر مبتدأ محذوف، والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محل نصب بالقول أي: ولا تقولوا: «آلهتنا ثلاثةٌ» يدلُّ عليه قوله بعد ذلك: إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ وقيل: تقديره: الأقانيمُ ثلاثة أو المعبود ثلاثة، وقيل: تقديره: الله ثالث ثلاثة، ثم حُذف المضاف وأقيم المضافُ إليه مُقامه، موافقةَ قوله: لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ
[المائدة: 73] .
قوله: انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ :
خَيْرًا مَنصوبٌ على أنَّه خبَرُ (كان) مَحذوفةٍ مع اسمِها، والتقديرُ: انْتَهُوا يَكُنِ الانتهاءُ خيرًا. أو منصوبٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ واجبِ الإِضمارِ، تقديرُه: انتُهوا وأتُوا خيرًا لكم؛ وقيل غير ذلِك

.
المعنى الإجمالي:

يُوجِّه الله تعالى الخِطاب إلى أهل الكتاب بأنْ لَا يُجاوزوا الحقَّ في الدِّين، وينهاهم عن الافتراء عليه سبحانه، ثم يرد على النصارى الذي غلوا في عيسى عليه السلام فزعموا أنه ابن الله، مقررا أنَّ المسيح عيسى بن مريم رسولٌ من رسل الله، خَلَقه بكلمتِه التي أوصلها إلى مريمَ، وروح من الأرواح التي خلقها الله، وليس ابنًا له، كما يعتقدون؛ ثم وجههم إلى الإيمان به سبحانه وبجميعِ رُسله، ونهاهم أن يقولوا: إنَّ الآلهة ثلاثة، وأمرهم بالانتهاء عن هذه المقولةِ الشَّنيعة، والاعتقادِ الكُفري، فإن انتهاءهم عن ذلك خيرٌ لهم فالله تعالى ليس ثالث ثلاثة إنما هو المنفردُ بالألوهيَّة، ولا تَنبغي العبادةُ إلَّا له، تنزَّه أن يكون له ولد؛ فإنَّ جميع مَن في السموات والأرض خَلْقُه وعبيده؛ فكيف يكون له منهم زوجةٌ أو ولد؟! وكفَى به سبحانه وتعالى وكيلًا فلا يحتاج إلى ابن يساعده، أو يعينه في حفظ الملك. .
ثم بيَّن تعالى أنَّ عيسى بن مريم عليه السلام لن يأنفَ أن يكون عبدًا لله، ولا الملائكةُ المقرَّبون يأنفون من ذلك، ومَن يأنفْ من عِبادة الله ويمتنع عنها ، فإنَّ الله سيحشرهم جميعًا إليه، وسيُعاملهم بما يستحقُّونه؛ فأمَّا مَن آمن وعَمِل الصالحاتِ، فسيؤتيهم اللهُ ثوابَ أعمالهم وافيًا، ويَزيدُهم من فضله الواسع، وأمَّا مَن أَنِف وامتنع وتكبَّر، فسيُعذِّبه الله عذابًا موجعًا، ولن يجدَ مَن يتولَّاه، أو ينصره من دون الله.
ثم وجَّه الله تعالى الخطابَ للناس كافَّةً، أنَّه قد جاءهم منه حُججٌ وأدلَّة قاطِعة تُبيِّن الحقَّ من الباطل، وأنزل إليهم القرآن، نورًا واضحًا يَهتدون به؛ فأمَّا المؤمنون بالله تعالى، والمعتمدون عليه في كلِّ شؤونهم، فسيُدخلهم الله تعالى في رحمته، ويَزيدُهم من فضله الواسع، وسيدلُّهم ويُوفِّقهم لسلوك الطَّريق القويم الموصل إلى مَرْضاته.
تفسير الآيات:

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (171)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لمَّا دحض الله تعالى شُبهات اليهود وأقام الحُجَّة عليهم، وقدْ غلَوا في تحقير عيسى وإهانته، والكُفرِ به، ففرَّطوا كلَّ التفريط- قفَّى بدَحْض شُبهات النصارى الذين غلَوا في تعظيمه وتقديسه، فأَفرطوا كلَّ الإفراط
، فقال عزَّ مِن قائل:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ
أي: يا أهلَ الإنجيل من النَّصارى لا تتجاوزوا الحقِّ في دِينكم فتُفْرِطُوا فيه؛ فإنَّهم قد تجاوزوا حدَّ التصديق بعيسى عليه السَّلام، حتى رفَعوه عن مقام النبوَّة والرِّسالة إلى مقام الربوبيَّة، الذي لا يَليقُ بغير الله عزَّ وجلَّ .
وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ
أي: لا تَفتروا على اللهِ عزَّ وجلَّ بأنْ تَجعلوا له صاحبةً وولدًا .
قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] .
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ
أي: ما المسيحُ- أيُّها النصارى الغالُون في دِينهم- ابنٌ لله تعالى كما تَزْعُمون, ولكنَّه عيسى ابنُ مريم, لا نَسبَ له غير ذلك، فهو عبدٌ من عباد الله تعالى، وخَلْقٌ من خلْقه، ورسولٌ من رُسله .
كما قال الله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَام [المائدة: 75] .
وعن عُمرَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، قال: ((لا تُطْروني ، كما أطْرَتِ النَّصارى ابنَ مريمَ، فإنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه )) .
عن أنسِ بنِ مالكٍ، أنَّ رجلًا قالَ: يا مُحمَّدُ، يا سيِّدَنا وابنَ سيِّدِنا، وخَيرَنا وابنَ خيرِنا، فَقالَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((يا أيُّها الناسُ، عليكُم بقولِكُم، ولا يَستَهْوينَّكمُ الشَّيطانُ، أَنا مُحمَّدُ بنُ عبدِ الله، عبدُ اللهِ ورسولُه، واللهِ ما أُحبُّ أنْ ترفعوني فوقَ منزلَتي الَّتي أَنزلَني اللهُ عزَّ وجلَّ )) .
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
أي: خَلَقه بالكلمة التي أُرسل بها جبريلُ عليه السَّلام إلى مريم .
كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] .
وَرُوحٌ مِنْهُ
أي: إنَّ عيسى عليه السَّلام رُوحٌ مِن خَلْق الله سبحانه؛ فقد أَرسل اللهُ تعالى جبريلَ عليه السَّلام، فنَفَخ في فَرْج مريمَ عليها السَّلام، فحمَلتْ بإذن الله عزَّ وجلَّ .
كما قال تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 91] .
وقال سبحانه: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم: 12] .
عن عُبادَةَ بنِ الصَّامت رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((مَن شَهِدَ أنْ لا إله إلَّا اللهُ وحْدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأنَّ عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ ورُوحٌ منه، والجَنَّةَ حقٌّ، والنَّارَ حقٌّ، أَدْخَله اللهُ الجنةَ على ما كان من العملِ )) .
وفي روايةٍ: ((أدخله اللهُ مِن أيِّ أبوابِ الجنَّةِ الثَّمانيةِ شاء )) .
فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ
أي: فآمِنوا بالله تعالى الواحدِ الأحد، الذي لا صاحبةَ له ولا ولدَ، وآمِنوا برُسله وبما جاؤوكم به من عند الله عزَّ وجلَّ .
وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ
أي: ولا تقولوا: الأرباب ثلاثة، فتجعلوا عيسى وأمَّه شَريكينِ لله سبحانه وتعالى .
كما قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الآية [المائدة: 17، 72].
وقال عزَّ وجلَّ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة: 73].
وقال سبحانه: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ الآية [المائدة: 116] .
انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ
أي: انتَهوا عن قولِ ذلِك واعتقادِه، فإنَّ الانتهاء عن ذلك خيرٌ لكم .
إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ
أي: ما الله سبحانه بثالثِ ثلاثةٍ، ولكن الله تعالى هو المنفردُ بالألوهيَّة، الذي لا تَنبغي العبادةُ إلَّا له؛ فلا ولدَ له, ولا والدَ, ولا صاحبةَ له, ولا شريكَ .
سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
أي: تنزَّه وتقدَّس الرَّبُّ عزَّ وجلَّ عن أن يكونَ له ولدٌ .
لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أي: إنَّ جميعَ ما في السَّموات وجميعَ ما في الأرض مُلكه وخَلقُه وعَبيدُه؛ فكيف يكون له منهم صاحبةٌ أو ولد؟! .
كما قال سبحانه: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام: 101] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 88 - 95] .
وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا
أي: وحسْبُ الخلق كلِّهم اللهُ تعالى وحده، فهو القائمُ بشؤون كلِّ شيء، والحافظ لكلِّ شيء والمدبِّر له، فلا يُحتاج معه إلى غيرِه سبحانه من ولدٍ، أو صاحبةٍ، أو غيرهما .
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها
لَمَّا ذَكَر تعالى غلوَّ النصارى في عيسى عليه السَّلام، وذكَر أنَّه عبدُه ورسولُه، ذكر هنا أنَّه لا يستنكفُ عن عبادة ربِّه، لا هو وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فنزَّههم عن الاستنكافِ، ونفْيُ الشَّيءِ فيه إثباتُ ضدِّه فقال:
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلهِ
أي: لن يأنفَ ويمتنعَ عيسى عليه السَّلام عن عبادة ربِّه عزَّ وجلَّ .
وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
أي: ولن يأنفَ ويمتنع أيضًا من الإقرارِ لله تعالى بالعبوديَّة له وحده، ملائكتُه المقرَّبون .
وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
أي: ومَن يأنفْ ويمتنعْ عن عِبادة ربِّه، ويَترفَّعْ عنها ويتعالَ عليها .
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا
أي: فسيبعثُ الله سبحانه يومَ القيامة المستنكفين والمستكبرين عن عِبادته, فيجمعهم جَمِيعًا عنده، فيفصل بينهم بحُكمه العَدْل .
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أي: فأمَّا الذين جمَعوا بين الإيمان المأمور به وعَملِ الأعمال الصالحات من واجباتٍ ومُستحبَّات .
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
أي: فيؤتيهم من الثَّواب على قدْرِ إيمانهم وأعمالهم الصَّالحة، جزاءً وافيًا كاملًا .
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
أي: ويَزيدهم على ما لهم من الأجور والثَّواب في الدُّنيا والآخِرة، زيادةً من فضله وإحسانِه، وسَعَةِ كرَمه ورحمتِه سبحانه .
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
أي: وأمَّا الذين أنِفوا وامتنعوا عن عبادةِ الله تعالى، وترفَّعوا عنها، وتعالَوْا عليها .
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
أي: فسيُعذِّبهم الله تعالى عذابًا موجِعًا لهم .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] .
وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
أي: ولا يَجِدون أحدًا من الخَلْق يتولَّاهم فيحصُل لهم ما يَطلُبون، ولا مَن يَنصرُهم فيدفعُ عنهم ما يَحذرون .
يَا أيُّها الناسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أنْ أزاح الله تعالى شُبهَ جميع المخالفين من سائر الفِرَق: اليهود، والنصارى، والمنافقين، وأقام الحُجَّة عليهم، وأقام الأدلَّةَ القاطعة على حَشْر جميع المخلوقات، فثَبَتَ أنَّهم كلَّهم عبيدُه؛ عمَّ في الإرشاد لطفًا منه بهم ، فقال:
يَا أيُّها الناسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ
أي: يا أيُّها الناسُ قد جاءتْكم من الله تعالى حُججٌ قاطعةٌ للعُذر، وأدلَّةٌ واضحةٌ مزيلة للشُّبهات، تُبيِّن الحقَّ وضدَّه .
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا
أي: وأنزلْنا إليكم ضياءً واضحًا، هو القرآن الذي أنزله اللهُ تعالى على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، يُبيِّن لكم طريقَ الحقِّ الهادي إلى ما فيه الفوزُ الأبديُّ لكم، والنجاةُ من عذاب الله تعالى إنْ سلكتموها، واستنرتم بضَوئِه .
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ
أي: فأمَّا المؤمنون بالله تعالى، المعتمدون عليه في جميعِ أمورِهم .
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ
أي: فسيتغمَّدهم الله تعالى برحمةٍ خاصَّة، فيُوفِّقهم للخيرات، ويَجزل لهم المثوبات، ويَدفع عنهم المكروهات، ويُدخلهم الجَنَّة، ويَزيدهم ثوابًا، ورَفعًا في درجاتهم، من فَضْله عليهم، وإحسانه سبحانه إليهم .
وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا
أي: يُوفِّقهم ويُسدِّدهم لسلوك طريق مَن أنعم الله تعالى عليه من أهل طاعتِه, ولاقتفاء آثارِهم, واتِّباع دِينهم، فيوفِّقهم للعِلم النَّافع، والعمل الصالح

.
الفوائِد التربويَّة :

1- أنَّه لا يجوزُ لنا أن نغلوَ في دِيننا، سواء ما يتعلَّق برسولنا صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أو بأعمالنا، يُرشدنا إلى ذلك قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وعلى هذا: فمَن أحبَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أكثرَ من محبَّةِ الله، فهو غالٍ فيه عليه الصلاة والسَّلام، ومَن نَزَّله منزلةَ الربِّ، وزعم أنَّه يتصرَّف في الكون، فهو غالٍ فيه، ومَن زعَم أنَّ غيره ممَّن هو دونه يتصرَّف في الكون، فهو غالٍ فيه، فالغلوُّ هو مجاوزة الحد في كل شيء
.
2- في قوله تعالى: وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا ما يُوجب للإنسان صِدقَ الاعتماد على الله عزَّ وجلَّ، وأن يعتمدَ على الله وحده؛ لقوله تعالى: وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا، فاجعل اعتمادَك على الله؛ فإنَّه كافيك، ولو أنَّنا صَدَقْنا في ذلك لكانَ اللهُ حَسْبَنا، ومَن كان الله حسْبَه، فقد تمَّ له أمرُه .
3- الترهيب من الكِبر؛ يُرشد إلى ذلك قولُ الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، أي: مؤلِمًا، بما وجَدوا من لذاذة الترفُّع والتكبُّر .
4- أنَّ مَن آمَن واعتَصَم بالله، فإنَّه سوف ينالُ الرحمةَ العاجلةَ والآجلة؛ لقوله: فَسَيُدْخِلُهُمْ، والسِّين تدلُّ على القُرب، وأنعمُ الناس بالًا، وأشدُّهم انشراحًا في الصُّدور هم المؤمنون المعتصِمون بالله .
5- في قوله: مِن رَّبِّكُمْ ما يدلُّ على شرف هذا البُرهان وعظمته، حيث كان من رَبِّكُمْ الذي ربَّاكم التربيةَ الدِّينيَّة والدنيويَّة، فمِن تربيته لكم التي يُحمد عليها ويُشكر، أن أوصلَ إليكم البيِّنات؛ ليهديَكم بها إلى الصِّراط المستقيم، والوصول إلى جنَّات النَّعيم

.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- النَّهي عن الغلوِّ في الدِّين؛ لقوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وإذا نهى الله أُمَّةً عن شيءٍ، وقصَّه علينا فهو عِبرةٌ لنا
.
2- إثبات رِسالة عيسى ابن مريم، وبيان أنَّه لا يستحقُّ من أمر الربوبية شيئًا، وتُؤخَذ من قوله: رَسُولُ اللهِ .
3- إطلاق السَّبب على مُسبَّبه، لقوله: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ؛ فإنَّ عيسى ليس هو الكلمة نفْسَها، لكنَّه خُلِق بالكلمة، فأُطلق السبب وأُريد المسبَّب .
4- أنَّ عيسى عليه الصلاة والسَّلام مِن أشرف عباد الله وأكرمهم عليه؛ لأنَّه أضافه إلى نفْسه، فقال: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، والإضافة للتخصيص والتَّكريم .
5- قوله: فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ: أُمِروا بالإيمان بالله مع كونِهم مؤمنين به؛ لأنَّهم لَمَّا وصفوا الله بما لا يَليق فقد أَفسدوا الإيمان، وليكون الأمرُ بالإيمان بالله تمهيدًا للأمر بالإيمان برسله، وهو المقصود .
6- قول الله تعالى: وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا (ثلاثة) خبر مبتدأ محذوف، وحُذِف؛ ليصلح لكلِّ ما يصلح تقديرُه من مذاهب النصارى من التثليث؛ فإنَّ النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله .
7- الاستطراد بذِكر ما يُشارك الشيءَ وإن لم يكُن له ذِكر؛ لقوله: وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ؛ فإنَّها ذُكرت إلى جانب المسيح؛ لأنَّ مِن الناس مَن يَعبُد الملائكة، ويدَّعي أنهم بناتُ الله .
8- قال تعالى: وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ الاستنكاف غيرُ الاستكبار، فالاستنكافُ بالقلب؛ بأنْ يكونَ الإنسان عنده أنفةٌ وكبرياء قلبيَّة عن عبادة الله، والاستكبار أن يدَعَ العبادة ويستكبر عنها، ويحتقرَها، ويحتقرَ الرسول؛ كقولهم: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا [الفرقان: 41] .
9- الردُّ على الجبريَّة؛ يُؤخذ من قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فأضاف العملَ إليهم، والجبريَّة يقولون: إنَّ الإنسان لا يَعمل، ولا يُضاف العملُ إليه إلا مجازًا، وأنَّ عمله ليس باختياره ولا بقَصدِه .
10- في قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ بيان مِنَّة الله عزَّ وجلَّ؛ حيث سمَّى الثواب أجرًا، كأنَّه استأجر أجراءَ يعملون فيأجرهم، مع أنَّ فائدة العمل للعامل نفْسِه، بينما الأُجراء في غير المعاملة مع الله يكون العملُ لِمَن دفَع الأجرة، أمَّا هذا فالعمل للإنسان، ومع ذلك يَأجُره الله عزَّ وجلَّ .
11- أنَّ ثواب الأعمال الصالحة يَزيد على ما قدَّره الله تعالى مِنْ أنَّ الحسنةَ بعشْر أمثالها، لقوله: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ .
12- أنَّ القرآن الكريم نازلٌ لجميع الخلق؛ لقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ، ويترتَّب على هذا عمومُ رسالة النبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
13- أنَّ القرآن الكريم فيه بيانٌ لكلِّ شيء؛ لأنَّ النور لا بدَّ أن تستبينَ به كلُّ الأشياء؛ كالنَّهار إذا طلَع بانتْ به الأشياء، وكالحُجرة إذا أسرجتها فلا بدَّ أن يَبينَ منها ما كان خافيًا، فالقرآن تبيانٌ لكلِّ شيء؛ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا .
14- قول الله تعالى: فَسَيُدْخِلُهُم لعلَّ السِّين ذُكرت؛ لتفيدَ مع تحقيق الوعد الحثَّ على المثابرة والمداومة على العمل؛ إشارةً إلى عِزَّة ما عنده تعالى .
15- أنَّ الرحمة تُطلق صفةً من صفات الله، وتُطلق على ما كان من آثارها، وهذه الآية من إطلاق آثارِ الصِّفة؛ لأنَّه قال: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ فيه: تجريدٌ للخطاب، وتخصيص له بالنصارى؛ زجرًا لهم عمَّا هم عليه من الكفر والضلال
، وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضًا بأنهم خالفوا كتابهم .
2- قوله: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ: فيه عطفُ الخاص وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ - على العامِّ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ؛ للاهتمام بالنَّهي عن الافتراءِ الشَّنيع .
3- قوله: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ:
- هي جملة مبيِّنة للحدِّ الذي كان الغلوُّ عنده؛ فإنَّه مُجمَل، ومبيِّنة للمراد من قول الحقِّ، ولكونِها تتنزَّل من التي قبلها منزلةَ البيان فُصِلت عنها من غير عطفٍ بالواو ، وأيضًا هي جملة مستأنفة؛ مسوقة لتعليل النَّهي عن القول الباطل المستلزم للأمْر بضدِّه وهو الحق، أي: إنَّه مقصورٌ على رُتبة الرِّسالة لا يتخطَّاها .
- وفيه قصرُ موصوفٍ على صفة، حيثُ قصر المسيحَ على صِفات ثلاث: صفة الرسالة، وصفة كونه كلمةَ الله أُلقيت إلى مريم، وصفة كونه رُوحًا من عند الله؛ والقصد من هذا القصر إبطالُ ما أحدثه غلوُّهم في هذه الصفات غلوًّا أخرجها عن كُنهها؛ فإنَّ هذه الصفاتِ ثابتةٌ لعيسى، وهم مُثبِتون لها فلا يُنكَر عليهم وصفُ عيسى بها؛ فأفاد القصرُ أنَّ عيسى مقصورٌ على صفة الرِّسالة، والكلمة، والرُّوح، لا يتجاوز ذلك إلى ما يُزاد على تلك الصِّفات من كون المسيح ابنًا لله، واتِّحاد الإلهية به، وكون مريمَ صاحبةً .
- وقوله: رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ فيه: تقديمُ كونه عليه السَّلام رسولَ الله في الذِّكر مع تأخُّره عن كونه كلمته تعالى، ورُوحًا منه في الوجود؛ لتحقيقِ الحقِّ من أوَّل الأمر بما هو نصٌّ فيه غير محتمل للتأويل، وتعيين مآل ما يَحتمِله، وسدِّ باب التأويل الزائغ .
4- قوله: فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ: فيه احتراسٌ؛ حيث أُريد بالرُّسل: جميعهم، أي: لا تكفروا بواحد من رسله، وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهَّم متوهِّمون أن يُعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى عليه السَّلام مبالغةً في نفْي الإلهية عنه .
5- قوله: إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ: فيه حصْر بـ(إنَّما)؛ للدلالة على انفرادِ الله تعالى بالألوهيَّة، وأنَّ الله تعالى هو الإلهُ وحْدَه، وقوله: وَاحِدٌ زيادة تأكيد لذلك الحصرِ .
6- قوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ فيه تقديم ما حقُّه التأخير لَهُ؛ لإفادة الحصر في انفراد الله تعالى وحده بالمُلك .
7- قوله: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أنْ يَكونَ عَبْدًا للهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ:
- جملة استئنافية، مقرِّرة لِمَا سبق من التنزيه .
- وفي قوله: عَبْدًا لِلَّهِ أظهرَ الحرفَ الذي تُقدَّر الإضافة عليه وهو (اللام) في قوله: لِلهِ؛ لأنَّ التنكيرَ هنا أظهرُ في العبوديَّة، أي: عبدًا من جُملة العبيد، ولو قال: (عبد الله) لأوهمتِ الإضافة أنَّه العبدُ الخِصِّيص (الأخصُّ مِن الخاصِّ)، أو أنَّ ذلك عَلَم له .
وقوله: وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فيه: إيجاز بالحذف، حيث إنَّ المراد: (ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدًا لله) .
وفيه: تخصيصُ المقرَّبين لكونِهم أرفعَ الملائكة درجةً، وأعلاهم منزلةً .
8- قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا... فيه: بيان لحال الفريق المطويِّ ذِكرُه في الإجمال (وهو الفريق الذي لم يستنكف)، قُدِّم على بيان حال ما يُقابله؛ إبانةً لفضله، ومسارعةً إلى بيان كون حشْرِه أيضًا معتبرًا في الإجمال، وإيرادُه بعنوان الإيمان والعمل الصالح لا بوصف عدم الاستنكاف المناسِب لِما قبله وما بعده؛ للتنبيه على أنه المستتبع لِمَا يعقبه من الثمرات . وتقديم ثواب المؤمنين على عِقاب المستنكفين؛ لأنَّهم إذا رأوا أولًا ثواب المطيعين، ثم شاهدوا بَعدَه عقاب أنفسهم، كان ذلك أعظم في الحسرة .
9- قوله تعالى: وَاعْتَصَمُوا بِهِ جاء بصيغة الافتعال؛ للدَّلالةِ على الاجتهاد في ذلك؛ لأنَّ النفس داعيةٌ إلى الإهمال المنتِج للضلال .
10- قوله: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا فيه: تقديم ذِكر الوعدِ بإدخال الجَنَّةِ على الوعدِ بالهدايةِ إليه على خِلاف الترتيب في الوجودِ بين الموعودين؛ للمسارعةِ إلى التبشير بما هو المقصدُ الأصليُّ قبلُ .

=======7.


سُورةُ النِّساءِ
الآية (176)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ
غريب الكلمات:

يَسْتَفْتُونَكَ: يَسألُونَك عن بيانِ الحُكم، ويَطلُبون الفتوى، والفُتيا والفتوى هي الجوابُ عمَّا يُشكِل من الأحكام، وأصل (فتي): تَبيين حُكم
.
الْكَلَالَةِ: هو الرَّجُل يموت ولا ولدَ له ولا والدَ، مصدرٌ من تَكلَّله النَّسَب, أي: أحاط به؛ فالابنُ والأبُ طرفانِ للرَّجُل, فإذا مات ولم يُخلِّفْهما, فقد مات عن ذَهاب طَرفَيْه, فسُمِّي كلالةً؛ لذَهاب طرفيه المحيطينِ به .
هَلَكَ: ماتَ، وأصل (هَلَكَ): يدلُّ على كَسرٍ وسُقوطٍ؛ ولذلك يُقالُ للميِّت: هَلَكَ .
حَظِّ: نصيب مقدَّر، وأصل حظظ: النَّصِيبُ والجَدُّ .
تَضِلُّوا: تَعدِلُوا عن الطريقِ المستقيم، وأصلُ الضلال: خِلافُ الهُدى، وضَياعُ الشيءِ وذَهابُه في غيرِ حقِّه

.
المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى لنبيِّه: يَسألُك أصحابك أن تُبيِّن لهم الحُكم الشرعيَّ في توريث الكلالة، وهو مَن مات وليس له ولدٌ ولا والدٌ يرثه، فقل لهم يا محمَّد: إنَّ الله تعالى هو الذي يفتيكم في ذلك؛ إذا مات شخصٌ ولم يترك والدًا، ولا أولادًا- لا مِن الذُّكور ولا الإناث- وترك أختًا شقيقةً أو لأبٍ؛ فإنَّ نَصيبَها من الميراث في هذه الحالة هو النِّصف، فإذا ماتت الأخت قبل أخيها ولم يكُن لها ولدٌ- ذكرًا كان أو أُنثى- ولا والدٌ يَرثانِها ورث مالَها كلَّه ، فإنْ كان معه صاحبُ فرضٍ- كزوجٍ- أَخَذ فَرْضَه، وما بقِي فلأخِيها.
ثم ذكَر صُورتين أُخريين فقال: فإنْ كانتَا أُختين فأَكْثَر، فإنَّ لهما ثُلُثَيْ ما يترُك أخوهما، وإنْ كان الورثةُ لهذا الأخ المتوفى إخوة سواء كانوا ذكورًا وإناثًا، فيأخذ الذَّكرُ مثلَ نَصيبِ اثنتين من الأخواتِ، يُبيِّن الله أحكامَه للنَّاس؛ حتى لا يَضلُّوا، والله بكلِّ شيءٍ عليمٌ.
تفسير الآية:

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
عن البَراءِ رضي اللهُ عنه قال: (آخِرُ سورةٍ نزلَتْ: بَراءةٌ، وآخِرُ آيةٍ نزلَتْ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ)
.
وعن عُمرَ رضي الله عنهما، قال: ((إنِّي لا أَدَعُ بعدي شيئًا أهمَّ عندي من الكَلَالَة، ما راجعتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ في شيءٍ ما راجَعْتُه في الكَلَالَة، وما أَغْلَظَ لي في شيءٍ ما أَغْلَظَ لي فيه، حتى طَعَنَ بإصبعِه في صدري، فقال: يا عمرُ، ألَا تَكْفيك آيةُ الصَّيْفِ التي في آخِرِ سورةِ النِّساء؟ وإنِّي إنْ أَعشْ أَقْضِ فيها بقضيةٍ، يَقضي بها مَن يقرأُ القُرآنَ ومَن لا يقرأُ القرآنَ )) .
سبب النُّزول:
عن جابرِ بن عبد الله رضي الله عنه، قال: ((مرضتُ فأتاني رسولُ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّمَ وأبو بكرٍ يُعوداني ماشيينِ، فأُغمي عليَّ، فتوضَّأ ثم صبَّ عليَّ من وَضوئِه فأَفقتُ، قلت: يا رسولَ الله، كيف أَقضي في مالي؟ فلمْ يردَّ عليَّ شيئًا حتى نزلتْ آيةُ الميراث : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)) .
يَسْتَفْتُونَكَ
أي: يَطلُب الصحابةُ منك- يا محمَّدُ- إخبارَهم عن الحُكم الشرعيِّ للكَلالة .
قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ
أي: قُلْ لهم- يا محمَّد-: الله عزَّ وجلَّ هو الذي يُخبركم عن حُكم الكَلالة، أي: عمَّن مات وليس له ولدٌ- ذكرًا كان أو أُنثى- ولا والدٌ يَرِثُه .
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ
أي: إذا مات إنسانٌ وليس له ولدٌ- ذكرٌ أو أُنثى- ولا والدٌ، وله أختٌ شقيقةٌ أو لأبٍ، فإنَّها ترِثُ نِصفَ متروكات أخيها، مِن نقود وعَقار وأثاثٍ، وغير ذلك .
وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ
أي: إنَّ الأخَ الشَّقيقَ أو لأبٍ يرِثُ جميعَ ممتلكاتِ أُخته إذا ماتتْ ولم يكن لها ولدٌ، ولا والد يَرِثها، فإنْ فُرِضَ أنَّ معه مَن له فرض- كزوجٍ، أو أمٍّ، أو أخٍ من أمٍّ-، صُرِفَ إليه فَرْضُه، وصُرِفَ الباقي إلى الأخِ .
فعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أَلْحِقوا الفرائضَ بأهلها، فما بقِيَ فهو لأَوْلى رَجُلٍ ذَكَرٍ )) .
فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ
أي: فإنْ كان لِمَن يموت كلالةً، أُختان شقيقتان أو لأبيه، فلهما ثُلُثَا ما ترَك أخوهما، وكذا ما زاد على الأُختين، فله حُكمهما .
وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
أي: وإنْ كان للميِّت إخوةٌ من الذكور والإناث، فنصيبُ الذَّكر منهم من التركة مِثلُ نصيب اثنتين من أَخواتِه، وذلك إذا كان الميِّت يُورَث كلالةً, وكان إخوته وأخواته شقيقات أو لأبيه .
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا
أي: يبيِّن الله تعالى لكم أحكامَه، ومنها قِسمة مواريثكم, وحُكم الكلالة فيها؛ كيلَا تضلُّوا في أمْر المواريث وقِسمتها، فتجوروا عن الحقِّ, وتُخطئوا الصواب .
وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
أي: إنَّ الله تعالى عالِمٌ بجميع الأشياء، وما فيه المصلحةُ لعِباده، ومن ذلك: قِسمة مواريثِهم وما يستحقُّه كلُّ واحدٍ من أقرباء المتوفَّى، ويعلم أيضًا حاجتَهم إلى العِلم والبيان

.
الفوائِد التربويَّة :

في قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا الحثُّ على العِلم بالرجوع إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّنا لا نعلم بيانَ اللهِ عزَّ وجل إلَّا عن طريق الكتاب والسُّنَّة، وكل إنسان يفرُّ من الضلال ويُريد البيانَ والهدى، فنقول: طريق ذلك أن تَحرِصَ على اتِّباع الكتاب والسُّنَّة

.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قد يُشكل عليه بعضُ الشيء، فيُفتي اللهُ تعالى به؛ لقوله: قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ ولم يقُلْ: فأفْتِني فأَفْتيَهم
.
2- في قوله تعالى: قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ: إطلاقُ الإفتاء على الله، وهذا فِعلٌ من الأفعال، وإنْ كان هو قولًا، ويجوزُ أن نشتقَّ منه وصفًا لله، ولا يجوز أن نشتقَّ من ذلك اسمًا لله؛ لأنَّ الوصف أوسعُ وأعم .
3- أنَّ ترتيب الآيات توقيفيٌّ، ووجه ذلك: أنَّ هذه الآية لها صِلةٌ بآيات المواريث التي في أوَّل السورة، ولو كان اجتهاديًّا، لكان مقتضى الاجتهاد أن تُربط مع أخواتها، وأنْ تُذكر هناك، لكن لَمَّا كان ترتيبُ القرآن توقيفيًّا في آياته، صار محلُّها هنا .
4- المراد بالأخت في قوله تعالى: وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ الأخت الشقيقة أو التي للأب فقط، بقرينة مخالفة نَصيبها لنصيبِ الأُخت للأمِّ المقصودة في آية الكلالة الأُولى، وبقرينة قوله: وَهُوَ يَرِثُهَا؛ لأنَّ الأخ للأمِّ لا يرث جميعَ المال إنْ لم يكن لأخته للأمِّ ولدٌ؛ إذ ليس له إلَّا السُّدُسُ .
5- أنَّ الميراث يَدخُل في ملك الوارث شاءَ أم أبى، وتُؤخذ من قوله: فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ، وقوله: فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ؛ فاللَّام للتَّمليك .
6- أنَّ الرقيق المملوك لا يَرِث، وتُؤخذ من اللام التي هي للتمليك في قوله: فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ، وقوله: فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ ونحوهما؛ إذ إنَّ العبد المملوك لا يملك، فالعبدُ المملوك مُلكُه لسيِّده، ولأنه لو وَرِث الأخ من أخته إذا كان رقيقًا، لكان حقيقة الأمر أنَّ سيِّدَه هو الذي ورِثَ، وهو أجنبيٌّ منها .
7- تفضيل الذَّكَر على الأُنثى في التَّعصيب؛ لقوله: فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ والحِكمة: فضل الذُّكورة على الأُنوثة؛ ولأنَّ الذَّكر عليه مُتطلَّبات في الحياة من نكاح، وإنفاق على غيرِه، وغير ذلك .
8- الردُّ على أهل التفويض في صِفات الله عزَّ وجلَّ، الذين يقولون: إنَّنا لا نعلم معانيَ صفاته عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه إذا لم نعلمْ، لزِمَ من ذلك أنْ لا بيانَ في القرآن، والله عزَّ وجلَّ يقول: يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، ولأنَّ الضلال في باب الصفات أعظمُ من الضلال في باب الأحكام؛ لأنَّ الضَّلال في باب الصِّفات يَتعلَّقُ بالخالق عزَّ وجلَّ، والضلال في الأحكام إنَّما هو في العِبادة، وبينهما فَرْقٌ .
9- قال تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ النُّكتة في الاكتِفاء بنَفْي الولد، وعدم اشتراط نفْي الوالد في الآية، مع أنَّه لا بدَّ من كونه- أيضًا- لا والدَ له، تظهر بوجوه:
الوجه الأوَّل: أنَّه داخلٌ في مفهومِ الكلالة لُغةً.
الوجه الثَّاني: أنَّ الأكثر أنَّ الإنسان يموت عن تَرِكة، بعد موت والديه؛ لأنَّ المال الذي يتركُه إمَّا أن يكون وَرِثه منهما، وإمَّا أن يكون اكتسبه، وإنَّما يكون الكسبُ في سِنِّ الشباب والكهولة، ويقلُّ في هذه الحال بقاءُ الوالدين، فلمْ يُراعَ في الذِّكر إيجازًا.
الوجه الثالث- وهو العُمدة-: أنَّ عدم إرث الإخوة والأخوات مع الوالد الذي يُدلون به قدْ عُلِم من آيات الفرائض التي أُنزلت أولًا وتَقدَّمت في أوائل السورة، ومضَتِ السُّنَّة في بيانها، والعمل بها على ذلِك، وعُلم أيضًا من القاعدة القياسيَّة المأخوذةِ من تلك الآيات، ومِن هذه الآية، وهي كونُ الأصل في الإرث أن يكونَ للذَّكَر مِن كلِّ صِنف مِثلُ حظِّ الأُنثيين، ومن قاعدة حَجْب الوالد لأولادِه .
10- قال تعالى: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ عبَّر بالعدد، فقال: اثْنَتَيْنِ دون (أختين)؛ لأنَّ الكلام في الإخوة، والعِبرة في الفَرْض بالعدد .
11- من مباحث اللَّفظ والأسلوب في الآية: أنَّها تدلُّ على أنَّ المعلوم من السِّياق له حُكمُ المذكور في اللَّفظ، حتَّى في إعادة الضمير عليه؛ فلا يَتعيَّن تقديرُ لفظ المرء في بيان مرجِع ضَمير وَهُوَ يَرِثُهَا، بل يصحُّ أن نقول: إنَّ المعنى: وهو، أي: أخوها، يرِثها... إلخ، ومثله قوله: فَإِنْ كَانَتَا: وَإِنْ كَانُوا .
12- قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ الآية الأخيرة (هذه) ذيلٌ للسورة في فتوى متمِّمة لأحكام الفرائض التي في أوائلها، وأمَّا فائدة الأحكام أو المسائل التي تُجعل ذيلًا أو مُلحًقا لكتاب أو قانون؛ فهي أنَّ الذهن يتنبهَ إليها أفضلَ تنبُّهٍ، فلا يَغفُل عنها كما يَغفُل عمَّا يكون مندمجًا في أثناء أحكام أو مسائل كثيرة من ذلك النوع، فكأنَّ جَعْل هذه الآية مفردةً على غير فواصل السورة يُراد به توجيهُ النفوس إليها؛ لئلَّا تغفل عنها

.
بلاغة الآية:

1- قوله: يَسْتَفْتُونَكَ: عبَّر بصيغة المضارع؛ لأنَّ شأن السُّؤال يتكرَّر، والتعبيرُ بصيغة المضارع في مادَّة السؤال طريقةٌ مشهورة، فشاع إيرادُه بصيغة المضارع، نحو: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة: 189] ، وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ [البقرة: 219] ، وقد يغلب استعمالُ بعض صِيغ الفعل في بعض المواقع، ومنه غَلبةُ استعمال المضارع في الدُّعاء في مقام الإنكار: كقول عائشة رضي الله عنها: (يَرْحَمُ اللهُ أبا عبد الرحمن)
- تعني: ابن عمر. وقولهم: (يغفر الله له)، ومنه غلبة الماضي مع لا النافية في الدعاء إذا لم تُكرَّر (لا)، نحو: فلا رجَعَ. على أنَّ (الْكَلَالَةِ) قد تكرَّر فيها السؤال قبل نزول الآية وبعدَها .
2- قوله: قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ: فيه تقديمُ المسنَد إليه اللهُ؛ للاهتمام لا للقَصر؛ إذ قد عَلِم المستفتون أنَّ الرسول لا يَنطِق إلَّا عن وحيٍ؛ فإنهم لَمَّا استفتوه فإنما طلبوا حُكم الله، فإسناد الإفتاءِ إلى الله تنويهٌ بهذه الفَريضة .
3- قوله: وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ: فيه إيجازٌ بالحذف؛ إذ التَّقدير: (ويرث الأختَ امرؤٌ إن هلكت أخته ولم يكن لها ولد)، وعُلم معنى الأخوة من قوله: وَلَهُ أُخْتٌ، وهذا إيجازٌ بديع، ومع غايةِ إيجازِه فهو في غايةِ الوضوحِ .
4- قوله: يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا: قوله: أَنْ تَضِلُّوا أصله (لئلَّا تَضِلُّوا)، حُذفت منه اللام و(لا)، وهو تعليلٌ لـ(يبين)، والمقصود التعليل بنفي الضلال لا لوقوعه؛ لأنَّ البيان يُنافي التضليل، فحُذفت (لا) النافية، وحَذْفها موجودٌ في مواقِع من كلامِهم إذا اتَّضح المعنى  
====

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...