9. سرة التوبة ج2.{129 مدنية}
---
سورةُ التَّوبةِ
الآيات (75-78)
ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ
غريب الكلمات:
فَأَعْقَبَهُمْ: أي: أورَثَهم، وأصلُ (عقب): يدلُّ على تأخيرِ شيءٍ، وإتيانِه بعدَ غيرِه
.
وَنَجْوَاهُمْ: أي:
حَديثَهم بينهم، وأصلُ (نجو): يدلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ
المعنى الإجمالي:
يخبِرُ تعالى أنَّ مِن المُنافِقينَ مَن عاهد اللهَ لَئِن رزَقَهم مِن فَضلِه لَيُخرِجَنَّ الصَّدقةَ، ولَيكونَنَّ من الصَّالحينَ الذين يؤدُّونَ حَقَّ اللهِ وحَقَّ عِبادِه، فلمَّا رزَقَهم اللهُ مِن فَضلِه بَخِلوا به، وتوَلَّوا عن طاعةِ اللهِ تعالى، والوفاءِ بِعَهدِه، مُعرِضينَ ومُنصَرفينَ عن ذلك، فجعل اللهُ عاقبةَ ذلك نِفاقًا في قلوبِهم، يستمِرُّ معهم إلى يومِ يُتوَفَّونَ ويَلقَونَ اللهَ؛ بسبَبِ إخلافِهم اللهَ ما وَعَدوه، وبسببِ كَذِبِهم في كلامِهم.
ألم يعلَمْ هؤلاءِ المُنافِقونَ أنَّ الله يعلمُ ما يُخفونَه وما يتَناجَونَ به، وأنَّه تعالى علَّامٌ لِجَميعِ ما غابَ عن حواسِّ خَلْقِه.
تفسير الآيات:
وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ختم الله تعالى الآية السابقة بأنَّه أغناهم من فضلِه؛ أتبَعَها بإقامةِ الدَّليلِ عليها، وعلى أنَّهم يَقبِضونَ أيديَهم، وعلى اجترائِهم على أقبَحِ الكَذِبِ، فقال تعالى
:
وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ .
أي: ومِن المُنافِقينَ من أعطى اللهَ عَهدًا بقَولِه: واللهِ لَئِن رَزَقَنا اللهُ مِن فَضلِه، لنُخرِجَنَّ الصَّدَقةَ ممَّا أعطانا .
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ.
أي: ولَنكونَنَّ- إن بسَطَ اللهُ علينا الرِّزقَ- من جملةِ الصَّالحينَ الذين يؤدُّونَ حَقَّ اللهِ وحَقَّ عبادِه .
فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76).
فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ.
أي: فلمَّا رزَقَهم اللهُ وأعطاهم مِن فَضلِه بَخِلوا بما آتاهم، فلم يُنْفِقوا منه في حقِّ الله، ولم يتصدَّقوا بشيءٍ منه، كما حلَفوا .
وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ.
أي: وأدبَرُوا عن طاعةِ اللهِ تعالى والوفاءِ بِعَهدِه، مُعرِضينَ ومُنصَرفينَ عن ذلك .
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (77).
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ.
أي: فجعل اللهُ عاقبةَ أمرِهِم نِفاقًا كائنًا في قلوبِهم، متمكِّنًا منها، مستمرًّا فيها إلى يومِ يلقون الله تعالى، بموتِهم، وخروجِهم مِن الدُّنيا .
بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ.
أي: فجعل اللهُ في قلوبِهم النِّفاقَ، وحَرَمَهم التوبةَ منه؛ بسبَبِ إخلافِهم ما عاهدوا اللهَ عليه، مِن الصَّدَقةِ والصَّلاحِ؛ ولأنَّهم كانوا يَكذِبونَ في كلامِهم وعهدهم .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((آيةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حدَّثَ كَذَب، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خان )) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أربَعٌ مَن كُنَّ فيه كان مُنافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصلةٌ منهنَّ كانت فيه خَصلةٌ مِن النِّفاقِ حتى يدَعَها: إذا اؤتُمِنَ خان، وإذا حدَّثَ كَذَب، وإذا عاهَد غَدَر، وإذا خاصَم فَجَر )) .
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت المُعاهَدةُ سَببًا للإغناءِ في الظَّاهرِ، وكان ذلك ربَّما كان مَظِنَّةً لأنْ يتوهَّمَ مَن لا عِلمَ له أنَّ ذلك لخفاءِ أمرِ البَواطِنِ عليه سُبحانه، وكان الحُكمُ هنا واردًا على القَلبِ بالنِّفاقِ الذي هو أقبَحُ الأخلاقِ، مع عدمِ القُدرةِ لِصاحِبِه على التخلُّصِ منه، كان ذلك أدَلَّ دَليلٍ على أنَّه تعالى أعلَمُ بما في كلِّ قَلبٍ مِن صاحِبِ ذلك القَلبِ، فعَقَّبَ ذلك بالإنكارِ على مَن لا يعلَمُ ذلك، والتَّوبيخِ له والتَّقريعِ، فقال تعالى :
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ.
أي: ألم يعلَمِ المُنافِقونَ الذين يُبطِنونَ الكُفرَ، ويُظهرونَ الإسلامَ، أنَّ اللهَ يعلَمُ ما يُخفونَه مِن الكُفرِ والنِّفاقِ، ويَعلَمُ ما يتناجَونَ به فيما بينهم مِن الطَّعنِ في الإسلامِ والمُسلِمينَ، وسيُجازيهم على أعمالِهم ؟!
وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ.
أي: ألم يعلَمِ المُنافِقونَ أنَّ اللهَ يعلَمُ جَميعَ ما غاب عن حواسِّ خَلْقِه، لا يخفى عليه شَيءٌ مِن المغيَّباتِ
؟!
الفوائد التربوية:
1- قال اللهُ تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ظاهِرُ هذه الآيةِ يدُلُّ على أن نَقضَ العَهدِ، وخُلفَ الوَعدِ يُورِثانِ النِّفاقَ، فيجِبُ على المُسلمِ أن يُبالِغَ في الاحترازِ عنهما، فإذا عاهدَ اللهَ في أمرٍ، فليجتَهِدْ في الوَفاءِ به
.
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ فيه دَلالةٌ على وُجوبِ الحَذَرِ مِن إحداثِ الأفعالِ الذَّميمةِ؛ فإنَّها تُفسِدُ الأخلاقَ الصَّالحةَ، ويزدادُ الفَسادُ تمكُّنًا مِن النَّفسِ بطبيعةِ التولُّدِ الذي هو ناموسُ الوُجودِ .
3- قال الله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ هذا بيانٌ عما يُوجِبُه الكَذِبُ مع إخلافِ الوعدِ مِن النِّفاقِ، فمن أخلَفَ في المواثيقِ مع اللهِ، فقد تعرَّضَ للنِّفاقِ، وكان جزاؤُه مِن اللهِ إفسادَ قلْبِه بما يُكسِبُه النِّفاقَ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أعاد اللَّامَ الواقعةَ في جوابِ القَسَمِ في (لنكُوننَّ)؛ لتأكيدِ العَزمِ على الاستعانةِ، والتوسُّلِ بفَضلِ المالِ إلى الاستقامةِ على منهجِ الصَّلاحِ، بما هو وراءَ الصَّدَقاتِ، التي عقَدُوا العَهدَ والقَسَمَ عليها
.
2- دلَّ قولُه تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ على صِحَّةِ تَعليقِ النَّذرِ بالمِلْكِ، مِثلُ قَولِ القائل: إنْ رزَقَني اللهُ مالًا فلِلَّه عليَّ أنْ أتصدَّقَ به أو بشيءٍ منه، فهذا يصِحُّ اتِّفاقًا .
3- قَولُ الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ فيه أنَّ إخلافَ الوَعدِ والكَذِبَ، مِن خِصالِ النِّفاقِ، فيكونُ الوفاءُ والصِّدقُ مِن شُعَبِ الإيمانِ .
4- قَولُ الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ فيه المعاقبةُ على الذَّنبِ بما هو أشَدُّ منه .
5- قَولُ الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ استدلَّ به قومٌ على أنَّ مَن حلَفَ إن فعَلَ كذا، فللَّهِ عليَّ كذا، أنَّه يلزَمُه .
6- قولُه تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ النِّفاقُ إذا كان في القَلبِ، فهو الكُفرُ، فأمَّا إذا كان في الأعمالِ فهو معصيةٌ، قال النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافِقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خصلةٌ منهنَّ كانت فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حتَّى يَدَعَها إذا اؤْتُمِنَ خانَ، وإذا حَدَّث كَذَب، وإذا عاهدَ غَدَرَ ، وإذا خاصَم فَجَرَ )) .
7- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ عُطِفَت النَّجوى على السِّرِّ مع أنَّه أعَمُّ منها؛ لينبِّئَهم باطِّلاعِه على ما يتناجَونَ به من الكيدِ والطَّعنِ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
قولُه: وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ عبَّرَ عَنْ كَذِبِهِم بصيغةِ كَانُوا يَكْذِبُونَ لدَلالةِ كَانَ على أنَّ الكَذِبَ كائنٌ فيهم، ومُتمكِّنٌ منهم، ودَلالةِ المُضارِعِ يَكْذِبونَ على تَكرُّرِهِ وتَجدُّدِه
، واستمرارِه؛ لأنَّ ذلك شأنُهم الدَّائِمُ، الذي هو أخَصُّ لوازمِ النِّفاقِ، بينما عبَّرَ عن إخلافِهم الوعدَ بالفِعلِ الماضي، فقال: بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ؛ لأنَّه في حادثةٍ وَقَعَت .
2- قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اسْتِفهامٌ تَضمَّنَ التَّوبيخَ والتَّقريعَ والتَّهديدَ .
وإظهارُ اسْمِ الجلالةِ اللَّهَ في الموقِعينِ؛ لإلقاءِ الرَّوعةِ، وتَربيةِ المهابةِ .
وفي إيرادِ العِلْمِ المُتعلِّقِ بسِرِّهِم ونجواهُم بصِيغةِ الفِعْلِ أَلَمْ يَعْلَمُوا الدَّالِ على الحُدوثِ والتَّجدُّدِ، والعِلْمِ المُتعلِّقِ بالغُيوبِ الكثيرةِ الدَّائمةِ بصِيغةِ الاسْمِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ الدَّالِ على الدَّوامِ والمُبالَغةِ: فخامةٌ وجَزالةٌ لا تَخْفى .
وتَقديمُ السِّرِّ على النَّجوى؛ لأنَّ العِلمَ به أعظَمُ في الشَّاهِدِ مِنَ العِلمِ بها، مع ما في تَقديمِه وتعليقِ العِلمِ به مِن تعجيلِ إدخالِ الرَّوعةِ .
=========================
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (79-80)
ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ
غريب الكلمات:
جُهْدَهُمْ: أي: طاقَتَهم ووُسعَهم، وأصلُ (جهد): يدلُّ على مَشقَّةٍ
.
مشكل الإعراب:
قوله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
الَّذِينَ: اسمٌ مَوصولٌ مَبنيٌّ في محلِّ رفعٍ مُبتدأٌ، فِي الصَّدَقَاتِ جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بـ يَلْمِزُونَ، وَالَّذِينَ في محلِّ نصبٍ عطفًا على الْمُطَّوِّعِينَ
، أي: يلمِزونَ المطَّوِّعينَ، ويَلمِزونَ الذين لا يَجِدونَ، وجملةُ فَيَسْخَرُونَ معطوفةٌ على جملةِ يَلْمِزُونَ، وجُملة: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ في محلِّ رفْعٍ خبرُ المُبتدأِ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ، وقيلَ غيرُ ذلك
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ تعالى أنَّ المُنافِقينَ الذين يَعيبونَ المُتطَوِّعينَ مِن المؤمِنينَ الأغنياءِ، ويَعيبونَ الفُقَراءَ الذين لا يجِدونَ إلَّا شيئًا يسيرًا بحسَبِ طاقَتِهم يتصَدَّقونَ به، فيَسخَرونَ منهم- أنَّه سُبحانه سَخِرَ منهم مقابلَ ذلك، ولهم عذابٌ مُوجِعٌ في نارِ جَهنَّمَ.
ثمَّ يُخاطِبُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قائلًا له: استغفِرْ لهم- يا مُحمَّدُ- أوْ لا تستغفِرْ لهم، فلن يَغفِرَ اللهُ لهم، حتى وإن استغَفَرْتَ لهم سبعينَ مرَّةً، فلن يغفِرَ اللهُ لهم؛ ذلك بسبَبِ كُفرِهم باللهِ ورَسولِه، واللهُ لا يهدي القَومَ الفاسِقينَ.
تفسير الآيتين:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ الله تعالى أنَّه لم يكْفِ المُنافقينَ كُفرانُ نِعمةِ الغنى من غيرِ مُعاهدةٍ، حتى ارتكَبوا الكُفرانَ بمَنعِ الواجِبِ مع المعاهَدةِ؛ أخبَرَ أنَّه لم يَكفِهم أيضًا ذلك، حتى تعَدَّوه إلى عيبِ الكُرَماءِ الباذِلينَ بصِفةِ حُبِّهم لرَبِّهم ما لم يُوجِبْه عليهم
، فقال تعالى:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ.
سبَبُ النُّزولِ:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ.
عن أبي مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((لَمَّا أُمِرْنا بالصَّدقةِ كنَّا نتحامَلُ، فجاء أبو عَقيلٍ بنِصفِ صاعٍ، وجاء إنسانٌ بأكثَرَ منه، فقال المُنافِقونَ: إنَّ اللهَ لَغنِيٌّ عن صدقةِ هذا، وما فعَلَ هذا الآخَرُ إلَّا رِئاءً، فنزلت: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُم ... الآية)) .
وعن كعبِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه- في حديثِ الثَّلاثةِ الذين خُلِّفوا- قال: ((بينما رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلك، رأى رجلًا مُبَيِّضًا ، يزولُ به السَّرابُ ، فقال: كنْ أبا خيثمةَ، فإذا هو أبو خيثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصَدَّقَ بصاعِ التَّمرِ حين لَمَزه المُنافِقونَ)) .
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ.
أي: المُنافِقونَ الذين يَعيبونَ المُتطوِّعينَ مِن المؤمِنينَ الأغنياءِ في صَدَقاتِهم الكبيرةِ، فيَزعُمونَ أنَّهم يُراؤونَ بها .
وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ.
أي: ويَعيبونَ أيضًا المتطَوِّعينَ مِن المُؤمِنينَ الفُقَراءِ، الذين لا يجِدونَ ما يتصدَّقونَ به إلَّا شيئًا يَسيرًا بِقَدرِ طاقَتِهم، فيَستَهِزئُون بهم .
سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ.
أي: سَخِرَ اللهُ مِن هؤلاء المُنافِقينَ، في مُقابِلِ سُخرِيَتِهم من المؤمِنينَ .
كما قال تعالى عن المُنافقينَ: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 14-15] .
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: وللمُنافِقينَ يومَ القِيامةِ عَذابٌ مُؤلمٌ في نارِ جهنَّمَ .
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80).
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.
أي: سواءٌ طلَبْتَ- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُنافِقينَ المغفِرةَ، أو لم تطلُبْها لهم، فلَن يغفِرَ اللهُ لهم .
عن ابنِ عبَّاسٍ، عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنهم، أنَّه قال: ((لَمَّا مات عبدُ اللهِ بنُ أُبيٍّ ابنُ سَلولَ، دُعِيَ له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُصلِّيَ عليه، فلمَّا قام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وثَبْتُ إليه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أتصلِّي على ابنِ أُبيٍّ، وقد قال يومَ كذا وكذا: كذا وكذا؟! أُعدِّدُ عليه قَولَه، فتبسَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال: أخِّرْ عني يا عُمَرُ، فلمَّا أكثَرْتُ عليه، قال: إنِّي خُيِّرتُ فاختَرْتُ، لو أعلَمُ أنِّي إن زِدتُ على السَّبعينَ يُغفَرْ له، لَزِدْتُ عليها، قال: فصلَّى عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ انصَرَف، فلم يمكُثْ إلَّا يسيرًا، حتى نزَلَت الآيتانِ مِن براءةَ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 84] قال: فعَجِبْتُ بعدُ مِن جُرأتي على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَئذٍ، واللهُ ورسولُه أعلَمُ )) .
إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ.
أي: إنْ تسألِ اللهَ المَغفِرةَ- يا مُحمَّدُ- لذنوبِ هؤلاءِ المُنافِقينَ سَبعينَ مَرَّةً، فلَن يستُرَها اللهُ عليهم، ولن يتجاوَزَ عن مؤاخَذتِهم بها .
كما قال تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المنافقون: 6] .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ.
أي: عدمُ مَغفرةِ اللهِ ذنوبَ المُنافِقينَ، بسبَبِ كُفرِهم باللهِ سُبحانه وتعالى وبرَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
أي: واللهُ لا يُوفِّقُ للإيمانِ به وبِرَسولِه القَومَ الخارِجينَ عن طاعتِه، المُؤْثِرينَ للكُفرِ به، المصرِّينَ على فِسْقِهم
.
الفوائد التربوية:
1- قال اللهُ تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ مَن أطاعَ اللهَ وتطَوَّعَ بخَصلةٍ مِن خِصالِ الخَيرِ؛ فإنَّ الذي ينبغي هو إعانَتُه، وتنشيطُه على عَملِه، وهؤلاء قصَدوا تثبيطَهم بما قالوا فيهم، وعابُوهم عليه
.
2- قال الله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في هذه الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ لَمْزَ المؤمِنِ والسُّخريةَ منه، مِن الكبائِرِ؛ لِما يَعقُبُهما من الوَعيدِ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- النكتةُ في عَطْفِ الخاصِّ، وهو قَولُه تعالى: الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ على العامِّ، وهو قَولُه تعالى: الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هي: التَّنويهُ بهذا الخاصِّ؛ لأنَّ السُّخريةَ مِن المُقِلِّ أشدُّ مِن المُكْثِرِ غالبًا
.
2- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين فيه دليلٌ على أنَّ جاحِدَ نبوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يُطلَقُ عليه كافرٌ .
3- الكافِرُ لا ينفَعُه الاستغفارُ ولا العمَلُ ما دام كافرًا؛ يُبيِّنُ ذلك قَولُ الله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ .
4- قوله تعالى: سَبْعِينَ مَرَّةً غيرُ مُرادٍ به المقدارُ من العَدَدِ، بل هذا الاسمُ مِن أسماءِ العَدَد التي تُستعمَلُ في معنى الكَثرةِ .
5- في قولِه تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ دلالةٌ على أنَّ الاستغفارَ للناس نافعُهم ولاحِقٌ بهم؛ لأنَّ الذي حالَ بينَ أهلِ هذه الآيةِ وبينَ استغفارِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لهم هو كُفْرُهم لا غيرُه .
6- جَرَت سنَّةُ الله تعالى في الرَّاسِخينَ في فُسوقِهم وتمرُّدِهم- المُصِرِّينَ على نِفاقِهم، الذين أحاطت بهم خطاياهم- أن يَفقِدوا الاستعدادَ للتَّوبةِ والإيمانِ، فلا يَهتَدونَ إليهما سبيلًا؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
.
بلاغة الآيتين:
1- قَولُه تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اخْتيرَ المضارعُ في قولِه: يَلْمِزُونَ، وقولِه: فَيَسْخَرُونَ؛ للدَّلالةِ على تَكرُّر هذا منهم
.
قولُه: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إيرادُ الجُمْلةِ اسْميَّةً؛ للدَّلالةِ على الاسْتِمرارِ، وتَنوينُ العذابِ وصِفتِه عَذَابٌ أَلِيمٌ؛ للتَّهويلِ والتَّفخيمِ .
2- قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
قولُه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الأَمْرُ فيه مُبالَغةٌ في الإياسِ ، وتصويرُهُ بصورةِ الأَمْرِ للمُبالَغةِ في بيانِ اسْتِوائهِما، كأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمِرَ بامْتِحانِ الحالِ بأنْ يَسْتغفِرَ تارةً، ويَتْرُكَ أُخْرى؛ ليَظْهَرَ له جليةُ الأَمْرِ، كما في قولِه تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ [التوبة: 53] .
وقولُه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... بيانٌ للعِلَّةِ التي لأجْلِها لا يَنْفَعُهم اسْتِغفارُ الرَّسولِ لهم، وإنْ بَلَغَ سَبْعينَ مَرَّةً، وهي كُفْرُهم وفِسْقُهم .
قولُه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ تَذييلٌ مُؤكِّدٌ لِما قَبْلَهُ مِنَ الحُكْمِ؛ فإنَّ مَغْفرةَ الكافِرِ إنَّما هي بالإقلاعِ عَنِ الكُفْرِ، والإقبالِ إلى الحَقِّ، والمُنْهمِكُ فيه المطبوعُ عليه بمَعْزِلٍ مِن ذلك .
==============
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (81-82)
ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
غريب الكلمات:
الْمُخَلَّفُونَ: أي: الذين تخلَّفوا عن غزوةِ تبوكَ، وأصلُ (خلف): يدلُّ على مجيءِ شَيءٍ بعد شيءٍ، وقيامِه مَقامَه
.
خِلَافَ: أي: بعدَ، أو مُخالِفينَ
.
المعنى الإجمالي:
يخبِرُ اللهُ تعالى أنَّ المنافقينَ الذين ترَكَهم اللهُ، ولم يوفِّقْهم للجهادِ، فَرِحوا بقُعودِهم بعد خروجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى تَبوكَ، مُخالفينَ أمْرَه بالنُّهوضِ للجِهادِ، وكَرِهوا أن يُجاهِدوا الكفَّارَ بأموالِهم وأنفُسِهم؛ لنُصرةِ دينِ اللهِ، وإعلاءِ كَلِمتِه، وقال بعضُهم لبعضٍ: لا تخرُجوا مع المُسلمينَ إلى تَبوكَ لِغَزوِ الرُّومِ في شدَّةِ الحَرِّ، فأمر اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: إنَّ نارَ جهنَّمَ أشَدُّ حرًّا، لو كان يفهمونَ عن اللهِ، ويعقلونَ كَلامَه.
فلْيَضحكِ المُنافقونَ قليلًا في هذه الدُّنيا الزَّائلةِ، ولْيَبكوا في الآخرةِ الأبديَّةِ كثيرًا في نار جهنَّمَ؛ جزاءً من اللهِ بسبَبِ ما كانوا يعملونَه في الدُّنيا، من الكُفرِ والنِّفاقِ والمعاصي.
تفسير الآيتين:
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما ظهَرَ مِن النِّفاقِ والهُزءِ من الذين خَرَجوا معه إلى غزوةِ تَبوكَ مِن المُنافقين؛ ذكرَ حالَ المُنافِقينَ الذين لم يَخرُجوا معه، وتخلَّفوا عن الجهادِ، واعتَذَروا بأعذارٍ وعِلَلٍ كاذبةٍ، حتى أذِنَ لهم، فكشفَ اللهُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أحوالِهم، وأعلَمَه بسوءِ فِعالِهم
.
وأيضًا لَمَّا علَّلَ سُبحانَه عدَمَ المَغفِرةِ للمُنافِقينَ بفِسقِهم؛ علَّلَ رُسوخَهم في الفِسقِ .
وأيضًا مُناسبةُ وُقوعِها في هذا الموضِعِ أنَّ فَرَحَ المنافقينَ بتخَلُّفِهم قد قوِيَ لَمَّا استغفَرَ لهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وظنُّوا أنَّهم استغفَلوه فقَضَوا مَأرَبَهم، ثمَّ حَصَّلوا الاستغفارَ؛ ظنًّا منهم أنَّ مُعاملةَ اللهِ إيَّاهم تجري على ظواهرِ الأمورِ .
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ.
أي: فَرِحَ المُنافِقونَ- الذين تَرَكَهم اللهُ، ولم يُوفِّقْهم للجهادِ- بقُعودِهم بعد خروجِ رَسولِ اللهِ إلى تَبوكَ؛ مخالفةً منهم لأمْرِه بالنُّهوضِ للجِهادِ .
وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ.
أي: وكَرِهَ هؤلاءِ المُنافِقونَ أن يجاهِدوا الكفَّارَ ببَذلِ أموالِهم، وغَزْوِهم بأنفُسِهم لنُصرةِ دِينِ اللهِ سبحانَه، وإعلاءِ كَلِمتِه تعالى .
وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ.
أي: وقال المُنافِقونَ بعضُهم لبعضٍ: لا تَخرجُوا مع المسلمينَ إلى تبوكَ؛ لِغَزوِ الرُّومِ في وَقتِ شدَّةِ الحرِّ .
قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا.
أي: قلْ- يا محمَّدُ- للمُنافِقينَ الذين يتعلَّلونَ عن الجهادِ بسبَبِ شِدَّةِ الحَرِّ: نارُ جهنَّمَ التي يدخُلُها في الآخرةِ مَن خالف أمْرَ اللهِ، وعَصى رسولَ الله- أشَدُّ حرارةً مِن حَرِّ الدُّنيا الذي لا تريدونَ النَّفرَ فيه، فاتَّقوها بالجِهادِ .
لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ.
أي: لو كان هؤلاء المُنافقون يفهمونَ عن اللهِ تعالى، ويعقِلونَ كَلامَه، لَنَفَرُوا مَعَ الرَّسُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْحَرِّ؛ لِيَتَّقوا به حَرَّ جهنَّمَ، الَّذي هو أضعافُ أضعافِ هذا، ولما فرُّوا مِن المشقةِ الخفيفةِ المنقضيةِ، إلى المشقَّةِ الشديدةِ الدائمةِ .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: 56] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((نارُكم هذه التي يوقِدُ ابنُ آدمَ- جُزءٌ مِن سبعينَ جُزءًا مِن حَرِّ جهنَّمَ، قالوا: واللهِ إن كانت لَكافيةً يا رسولَ اللهِ! قال: فإنَّها فُضِّلَت عليها بتِسعةٍ وسِتِّينَ جُزءًا، كلُّها مثلُ حَرِّها )) .
وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: سمعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ أهونَ أهلِ النَّارِ عذابًا يومَ القيامةِ لَرَجلٌ تُوضَعُ في أخمَصِ قَدَميه جَمرتانِ، يغلي مِنهما دماغُه )) .
وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أدنى أهلِ النَّارِ عذابًا، ينتعِلُ بنَعلَينِ مِن نارٍ، يغلي دماغُه من حرارةِ نَعلَيه )) .
ثُمَّ قال اللَّهُ جلَّ جلالُه، مُتَوَعِّدًا لهؤلاءِ المنافِقينَ على صَنيعِهم هذا :
فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82).
فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا.
أي: فلْيضحَكِ المُنافِقونَ قليلًا في هذه الدُّنيا الزَّائلةِ، ولْيَبكوا في الآخرةِ الأبديَّةِ كَثيرًا، في نارِ جهنَّمَ .
جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ.
أي: فسَيبكي المُنافِقونَ كثيرًا في الآخرةِ؛ جزاءً مِن اللهِ لهم بسبَبِ ما كانوا يعمَلونَه في الدُّنيا من الكُفرِ والنِّفاقِ والمعاصي
.
الفوائد التربوية:
في قَولِه تعالى: وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا إشارةٌ إلى أنَّه ينبغي لِمَن لا يصبِرُ على حرِّ الشَّمسِ في الدُّنيا أنْ يجتَنِبَ من الأعمالِ ما يَستوجِبُ به صاحبُه دُخولَ النَّارِ؛ فإنَّه لا قوَّةَ لأحدٍ عليها ولا صبْرَ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال الله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ قَولُه: الْمُخَلَّفُونَ لفظٌ يقتضي تحقيرَهم، وأنَّهم الذين أبعَدَهم اللهُ مِن رِضاه، وهذا أمكَنُ في هذا مِن أن يُقالَ (المتخَلِّفون)، ولم يفرَحْ إلَّا مُنافِقٌ، فخرج من ذلك الثلاثةُ الذين خُلِّفوا، وتاب اللهُ عليهم، وأصحابُ العُذرِ
.
2- قال الله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ ذِكرُ فَرَحِهم دَلالةٌ على نفاقِهم؛ لأنَّهم لو كانوا مؤمنينَ لكان التخلُّفُ نَكدًا عليهم ونَغصًا، كما وقعَ للثَّلاثةِ الذين خُلِّفوا فتاب اللهُ عليهم .
3- مِن نُكتةِ اختيارِ لَفْظِ خِلَافَ دُونَ (خَلْفَ)- معَ أنَّ (خِلاف) لغةٌ في خَلْف- أنَّه يُشيرُ إلى أنَّ قُعودَهم كان مُخالفةً لإرادةِ رَسولِ اللهِ، حين استنفَرَ النَّاسَ كُلَّهم للغَزوِ .
4- قال الله تعالى: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا المؤمِنُ يَدفَعُ- بِصَبرِه على الحرِّ والبَردِّ في سَبيلِ اللهِ- حرَّ جهنَّمَ وبَردَها؛ والمنافِقُ يفِرُّ مِن حرِّ الدُّنيا وبَرْدِها، حتى يقعَ في حرِّ جهنَّمَ وزَمهريرِها
.
بلاغة الآيتين:
1- قَولُه تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ
قولُه: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ.. هذه الآيةُ تَقْتضي التَّوبيخَ والوعيدَ، ولَفْظةُ الْمُخلَّفُونَ تَقْتضي الذَّمَ والتَّحقيرَ
، وهذا فيه اسْتِجهالٌ لهم؛ لأنَّ مَنْ تَصوَّنَ مِنْ مَشقَّةِ ساعةٍ، فوَقَعَ بذَلِكَ التَّصونِ في مَشقَّةِ الأَبَدِ، كان أَجْهلَ مِنْ كُلِّ جاهلٍ ، فأظهَرَ الوصفَ بالتخَلُّفِ الْمُخَلَّفُونَ موضِعَ الضَّميرِ (فَرِحوا)؛ زيادةً في تهجينِ ما رَضُوا به لأنفُسِهم .
وقال: وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا، ولم يَقُلْ: (وكَرِهوا أنْ يَخْرجوا إلى الغزوِ)؛ إيذانًا بأنَّ الجِهادَ في سَبيلِ اللهِ- مَعْ كونِهِ مِنْ أَجَلِّ الرَّغائبِ، وأَشْرفِ المطالِبِ التي يَجِبُ أنْ يَتنافَسَ فيها المتنافِسونَ- قد كَرِهوهُ، كما فَرِحوا بأقبحِ القبائحِ، الذي هو القُعودُ خِلافَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
وفي قولِه: (فَرِحَ وكَرِهوا) مُقابَلةٌ مَعنويَّةٌ؛ لأنَّ الفَرَحَ مِن ثَمَراتِ المَحبَّةِ .
والفَرَحُ بالإقامةِ يدُلُّ على كراهةِ الذَّهابِ؛ إلَّا أنه تعالى أعاده للتأكيدِ .
وفي قولِه: بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ تنويهٌ بالمؤمنينَ، وبتحمُّلِهم المشاقَّ العظيمةَ لوَجْهِ اللهِ تعالى، وبما فَعَلوا مِنْ بَذْلِ أموالِهم وأرواحِهم في سَبيلِ اللهِ تعالى، وإيثارِهم ذلك على الدَّعةِ والخَفْضِ .
قولُه: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا خَبَرٌ مُسْتَعملٌ في التَّذكيرِ بما هو مَعْلومٌ- لأنَّ كونَ نارِ جَهنَّمَ أشدَّ حرًّا مِنْ حَرِّ القيظِ أَمْرٌ مَعلومٌ، لا يتعلَّقُ الغرضُ بالإخبارِ عنه-؛ تعريضًا بتجهيلِهم؛ لأنَّهم حَذِروا مِنْ حَرٍّ قليلٍ، وأَقْحَموا أَنْفُسَهم فيما يَصيرُ بِهم إلى حَرٍّ أَشَدَّ، فيكونُ هذا التَّذكيرُ كِنايةً عَنْ كونِهم واقعينَ في نارِ جَهنَّمَ؛ لأَجْلِ قُعودِهم عَنِ الغزوِ في الحَرِّ .
وجُمْلةُ: لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ تَتميمٌ للتَّجهيلِ والتَّذكيرِ، أي: يُقالُ لهم ذلك لو كانوا يَفْقهونَ الذِّكرى، ولكِنَّهُمْ لا يَفْقهونَ، فلا تُجْدي فيهم الذِّكرى والموعظةُ ، وهذه الجملةُ أيضًا اعْتِراضٌ تذييليٌّ مِنْ جِهتِه سُبْحانَه وتعالى غيرُ داخلٍ تَحْتَ القولِ المأمورِ بِه، وهو مُؤكِّدٌ لِمَضمونِه ، ولَفْتُ الكلامِ إلى الغَيبةِ يدُلُّ على أنَّ أعظَمَ المُرادِ بهذا الوَعظِ ضُعَفاءُ المُؤمِنينَ؛ لئلَّا يتشبَّهوا بهم طَمعًا في الحِلمِ .
2- قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
قولُه: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا إخبارٌ عمَّا يؤولُ إليهِ حالُهم في الدُّنيا والآخِرةِ، أي: فسَيَضْحكونَ قليلًا، ويبكونَ كثيرًا؛ إلَّا أنَّه أَخْرَجَه على صِيغةِ الأَمْرِ؛ للدَّلالةِ على أنَّه حَتْمٌ واجِبٌ، لا يكونُ غيرُه، وعلى تَحتُّمِ وقوعِ المُخبَرِ به؛ فإنَّ أَمْرَ الآمرِ المُطاعِ ممَّا لا يَكادُ يتخلَّفُ عنه المأمورُ .
ويَجوزُ أن يكونَ (الضَّحِك) كنايةً عَنِ الفَرَحِ، و(البُكاء) كِنايةً عَنِ الغَمِّ .
قولُه: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فيه الجَمْعُ بين صِيغتَي الماضي والمُسْتقبَلِ كَانُوا يَكْسِبُونَ؛ للدَّلالةِ على الاسْتِمرارِ التَّجدُّدي ما داموا في الدُّنيا .
====================
سورةُ التَّوبةِ
الآيات (83-85)
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ
غريب الكلمات:
الْخَالِفِينَ: المتخلِّفين
بعدَ القومِ، أو المتخلِّفينَ لعذرٍ، كالنساءِ والأطفالِ والعَجزةِ وأهلِ الأعذارِ، والخالفُ: المتأخِّر لنقصانٍ أو قصورٍ، ومَن يَخْلُف الرجلَ في مالِه وبيتِه، وقيل: الخالفُ: الفاسدُ، مِن: خَلَف، أي: فَسَد
.
المعنى الإجمالي:
يقولُ الله تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنْ ردَّك اللهُ تعالى مِن غَزوةِ تَبوكَ إلى جماعةٍ مِن هؤلاء المُنافِقينَ الذين تخَلَّفوا عنك في المدينةِ بلا عُذرٍ، فاستأذَنوك للخُروجِ معك للجِهادِ في غزوةٍ أخرى؛ فقل لهم: لن تخرُجوا معيَ أبدًا، ولن تقاتِلوا معيَ عدُوًّا؛ وذلك لأنَّكم رَضِيتُم بالتخَلُّفِ عن الجهادِ، حين دُعيتُم أوَّلَ مَرَّةٍ للخُروجِ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى تَبوكَ، فاقعُدوا مع المتخَلِّفينَ عن الجهادِ.
ثم ينهَى اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يصلِّيَ على أيِّ أحدٍ مِن هؤلاء المُنافِقينَ إذا مات، أو يقِفَ على قَبرِه، لأنَّهم كَفَروا باللهِ ورَسولِه، وماتوا وهم فاسِقونَ.
وينهاه أيضًا عن أن يستحسِنَ أموالَهم وأولادَهم، فيغتَرَّ بها؛ فاللهُ تعالى إنَّما يريدُ أن يعذِّبَهم بها في الدُّنيا، وأن تَخرُجَ أرواحُهم وهم مستمِرُّون على كُفرِهم.
تفسير الآيات:
فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ (83).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ الله تعالى مَخازِيَ المُنافِقينَ، وسُوءَ طَريقَتِهم؛ بيَّنَ أنَّ الصَّلاحَ في ألَّا يستصحِبَهم في غزَواتِه؛ لأنَّ خُروجَهم معه يُوجبُ أنواعًا من الفسادِ
.
وأيضًا لما قال الله تعالى: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ... فُرِّع على الغضبِ عليهم وتهديدِهم عقابٌ آخرُ لهم، بإبعادِهم عن مشاركةِ المسلمين في غزواتِهم .
وأيضًا لَمَّا كان المسرورُ بشيءٍ، الكارِهُ لضِدِّه، النَّاهي عنه؛ لا يفعَلُ الضِّدَّ إلَّا تكلُّفًا، ولا قَلْبَ له إليه، وكان هذا الدِّينُ مَبنيًّا على العِزَّةِ والغِنى؛ أتبَعَ ذلك بقَولِه مُسبِّبًا عن فَرَحِهم بالتخَلُّفِ :
فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ.
أي: فإن أرجَعَك اللهُ وردَّك- يا مُحمَّدُ- من غزوةِ تَبوكَ، إلى جماعةٍ من هؤلاءِ المُنافِقينَ- الذين تخلَّفوا عنك في المدينةِ بغَيرِ عُذرٍ، وفَرِحوا بذلك- فاستأذَنوك للخُروجِ معك للجِهادِ في غزوةٍ أُخرَى .
فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا.
أي: فقُل- يا مُحمَّدُ- عقوبةً لهم: لن تَصحبوني أبدًا في أيِّ سَفرٍ؛ للجِهادِ، ولا لغَيرِه، كالنُّسُك، ولن تُقاتِلوا معيَ عدُوًّا من الأعداءِ أبدًا .
كما قال تعالى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الفتح: 15] .
إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
أي: وذلك لأنَّكم رَضِيتُم- أيُّها المُنافِقونَ- بالتخلُّفِ عن الجهادِ، حين دُعيتُم أوَّلَ مرَّةٍ للخروجِ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى تَبوكَ .
كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .
فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ.
أي: فاقعُدوا- أيُّها المنافقونَ- مع المتخَلِّفينَ عن الجهادِ، من الأشرارِ الفاسدينَ الذين تخلَّفوا بغيرِ عُذرٍ، ومن المَعذُورينَ مِن المَرضى والضُّعَفاءِ، والنِّساءِ والصِّبيانِ .
وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ (84).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الله تعالى أمَرَ رَسولَه بأن يسعى في تخذيلِ المُنافِقينَ، وإهانَتِهم وإذلالِهم، فالذي سبق ذِكرُه في الآيةِ الأولى- وهو مَنْعُهم من الخروجِ معه إلى الغَزَواتِ- سببٌ قويٌّ من أسبابِ إذلالِهم وإهانتِهم، وهذا الذي ذكَرَه في هذه الآيةِ- وهو مَنعُ الرَّسولِ من أن يصلِّيَ على من مات منهم- سببٌ آخَرُ قويٌّ في إذلالِهم وتَخذيلِهم .
وأيضًا لَمَّا انقضى الكلامُ على الاستغفارِ للمُنافقينَ، النَّاشئِ عن الاعتذارِ والحَلِف الكاذِبَينِ، وكان الإعلامُ بأنَّ اللهَ لا يغفِرُ لهم، مَشُوبًا بصورةِ التَّخييرِ في الاستغفارِ لهم، وكان ذلك يُبقي شيئًا مِن طَمَعِهم في الانتفاعِ بالاستغفارِ؛ لأنَّهم يحسَبونَ المعامَلةَ الرَّبانيَّةَ تجري على ظواهِرِ الأعمالِ والألفاظِ- تهيَّأ الحالُ للتَّصريحِ بالنَّهيِ عن الاستغفارِ لهم، والصَّلاةِ على موتاهم ، فقال تعالى:
وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا.
سبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ عبَّاسٍ، عن عُمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنهم، أنَّه قال: ((لَمَّا مات عبدُ الله بنُ أُبيٍّ ابنُ سلولَ، دُعِيَ له رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُصَلِّيَ عليه، فلمَّا قام رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وثَبْتُ إليه، فقلتُ: يا رسولَ الله، أتُصلِّي على ابنِ أُبيٍّ، وقد قال يومَ كذا وكذا: كذا وكذا؟! أعَدِّدُ عليه قَولَه، فتبسَّمَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال: أخِّرْ عنِّي يا عُمرُ، فلمَّا أكثَرْتُ عليه، قال: إنِّي خُيِّرتُ فاختَرتُ، لو أعلَمُ أنِّي إن زدْتُ على السَّبعينَ يُغفَرْ له لَزِدْتُ عليها. قال: فصلَّى عليه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثم انصرَفَ، فلم يمكُثْ إلَّا يسيرًا، حتى نزَلَت الآيتانِ مِن براءةَ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ. قال: فعَجِبْتُ بعدُ مِن جُرأتي على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَئذٍ، واللهُ ورسولُه أعلَمُ )) .
وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا.
أي: ولا تُصَلِّ- يا مُحمَّدُ- على أحدٍ من هؤلاءِ المُنافِقينَ إذا مات، أبدًا .
عن أبي قَتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دُعِيَ لِجِنازةٍ سأل عنها، فإن أُثنِيَ عليها خيرًا، قام فصلَّى عليها، وإن أُثنِيَ عليها غيرَ ذلك، قال لأهلِها: شأنَكم بها، ولم يُصَلِّ عليها)) .
وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ.
أي: ولا تَقُم- يا مُحمَّدُ- على قبرِ أحدٍ مِن هؤلاء المُنافِقينَ؛ لِتَولِّي دَفنِه، والاستغفارِ والدُّعاءِ له .
إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ.
أي: لا تُصَلِّ على المُنافقينَ إذا ماتوا، ولا تقُمْ على قُبورِهم؛ لأنَّهم كَفروا باللهِ سُبحانه، وكَفَروا برَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ.
أي: وماتوا وهم خارِجونَ عن الإيمانِ، وطاعةِ الرَّحمنِ .
وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما يدلُّ على شَقاوةِ المُنافقين في الحياةِ الآخرةِ، كان ذلك قد يُثيرُ في نفوسِ النَّاسِ أنَّ المنافقين حصَّلوا سعادةَ الحياةِ الدُّنيا، بكثرةِ الأموالِ والأولادِ، وخَسِروا الآخرةَ. وربَّما كان في ذلك حَيرةٌ لبعضِ المُسلمين أن يقولوا: كيف منَّ الله عليهم بالأموالِ والأولادِ، وهم أعداؤه وبُغَضاءُ نبيِّه. وربَّما كان في ذلك أيضًا مَسلاةٌ لهم بين المُسلمين، فأعلمَ اللهُ المُسلِمينَ أنَّ تلك الأموالَ والأولادَ- وإن كانت في صورةِ النِّعمةِ- فهي لهم نِقمةٌ وعذابٌ، وأنَّ اللهَ عذَّبهم بها في الدُّنيا ، فقال تعالى:
وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ.
أي: ولا تَستحسِنْ- يا مُحمَّدُ- أموالَ المُنافِقينَ وأولادَهم، ممَّا أنعَمْنا عليهم؛ استدراجًا لهم .
إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا.
أي: إنَّما يريدُ اللهُ أن يعذِّبَ المُنافقينَ بأموالِهم وأولادِهم في حياتِهم الدُّنيا، بالهُمومِ والغُمومِ، بأخذِ الزَّكاةِ منهم، وبما أُلزِموا بالإنفاقِ فيه، وبما يعتري أموالَهم وأولادَهم من مصائِبَ وتعبٍ في جمعِ الأموالِ، ووَجَلٍ في حِفظِها، وخوفٍ مِن زَوالِها، وغَيرِ ذلك .
كما قال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131] .
وقال سبحانه: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56] .
وعن زيدِ بنِ ثابتٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن كانت الدُّنيا همَّه، فرَّقَ اللهُ عليه أمْرَه، وجعَلَ فَقرَه بين عينَيه، ولم يأتِه مِن الدُّنيا إلَّا ما كُتِبَ له، ومَن كانت الآخرةُ نيَّتَه، جمَعَ اللهُ له أمْرَه، وجعَل غِناه في قَلبِه، وأتَتْه الدُّنيا وهي راغمةٌ )) .
وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ.
أي: ويريدُ اللهُ أن تَخرُجَ أرواحُ المُنافِقينَ مِن أجسادِهم، وهم مُقيمونَ على كُفرِهم
.
الفوائد التربوية:
1- قال الله تعالى: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا لا خِزيَ أعظَمُ مِن أن يكونَ إنسانٌ قد رفَضَه الشَّرعُ ورَدَّه، كالجَمَلِ الأجرَبِ
.
2- قال الله تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ الرجُلَ إذا ظهَرَ له من بعضِ مُتعلِّقيه مَكرٌ وخِداعٌ وكيدٌ، ورآه مُشَدِّدًا فيه مُبالغًا في تقريرِ مُوجِباتِه، فإنَّه يجِبُ عليه أن يقطَعَ العُلقةَ بينه وبينه، وأن يحتَرِزَ عن مُصاحَبتِه .
3- ينبغي الحذرُ مِن أمرينِ لهما عواقِبُ سُوءٍ:
أحدُهما: ردُّ الحَقِّ؛ لِمُخالفَتِه هواك؛ فإنَّك تُعاقَبُ بتَقليبِ القَلبِ، ورَدِّ ما يَرِدُ عليك مِن الحَقِّ رأسًا، ولا تَقبَلُه إلَّا إذا برَزَ في قالبِ هواك؛ قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110] فعاقَبَهم على ردِّ الحَقِّ أوَّلَ مَرَّةٍ بأنْ قَلَّبَ أفئِدَتَهم وأبصارَهم بعد ذلك.
والثاني: التَّهاونُ بالأمرِ إذا حضر وَقتُه؛ فإنَّك إن تهاونْتَ به ثبَّطَك الله وأقعَدَك عن مراضيه وأوامرِه؛ عقوبةً لك، قال تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ فمن سَلِمَ مِن هاتَينِ الآفتَينِ والبليَّتَينِ العظيمَتينِ، فلْيَهْنِه السَّلامةُ .
4- المُتثاقِلُ المتخَلِّفُ عن المأمورِ به عند انتهازِ الفُرصةِ، لا يُوفَّقُ له بعدَ ذلك، ويُحالُ بينه وبينه؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ الله تعالى: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ .
5- إنَّ مِن جزاءِ السَّيِّئةِ السَّيِّئةَ بعدَها، كما أنَّ مِن ثوابِ الحسنةِ الحسنةَ بعدَها؛ لذا عَلَّلَ قولَه لهم: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا بقولِه: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وهذا كقولِه تعالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110] .
6- إنَّ طُلَّابَ الدُّنيا ومُحِبِّيها ومُؤثِريها على الآخرةِ، يُعَذَّبونَ بها، فهم مُعذَّبونَ بالحِرصِ على تحصيلِها، والتَّعَبِ العظيمِ في جَمعِها، ومُقاساةِ أنواعِ المَشاقِّ في ذلك، فلا تجِدُ أتعَبَ ممَّن الدُّنيا أكبَرُ هَمِّه، وهو حريصٌ بِجُهدِه على تحصيلِها، وهذا هو معنى تعذيبِهم بها، ومِن أبلَغِ العذابِ في الدُّنيا: تَشتيتُ الشَّملِ، وتفَرُّقُ القُلوبِ، وكونُ الفَقرِ نُصبَ عَينَيِ العَبدِ لا يُفارِقُه، ولولا سَكرةُ عُشَّاقِ الدُّنيا بحُبِّها، لاستَغاثوا مِن هذا العذابِ! فمُحِبُّ الدُّنيا لا ينفَكُّ مِن ثلاثٍ: همٍّ لازمٍ، وتعَبٍ دائمٍ، وحَسرةٍ لا تنقضي. قال تعالى: وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال الله تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ هذه الآيةُ دَليلٌ على أنَّ مَن ظهَرَ منه نِفاقٌ وتَخذيلٌ، لا يجوزُ للإمامِ أن يستصحِبَه في الغَزوِ؛ اقتداءً برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما أمَرَه اللهُ به، مِن مُباعَدتِهم عن الجَماعةِ التي تَصحَبُ في السَّفرِ، وتَنصُرُ على العَدُوِّ، مِن أهلِ الطَّاعةِ
.
2- قال اللهُ تعالى: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِعلُ: رَضِيتُمْ يدلُّ على أنَّ ما ارتكَبوه من القُعودِ عمَلٌ مِن شأنِه أن يأباه النَّاسُ حتى أُطلِقَ على ارتكابِه فِعلُ (رَضِيَ) المُشعِرُ بالمحاولة والمُراوضة؛ جُعِلوا كالذي يحاوِلُ نَفسَه على عمَلٍ، وتأبى حتى يُرضِيَها، كَقولِه تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] .
3- قَولُ الله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ فيه تحريمُ الصَّلاةِ على الكافِرِ، والوقوفِ على قَبرِه، والدُّعاءِ له، والاستغفارِ .
4- قَولُ الله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ فيه دليلٌ على مشروعيَّةِ الصَّلاةِ على المؤمنينَ، والوقوفِ عند قُبورِهم للدُّعاءِ لهم؛ فإنَّ تَقييدَ النَّهيِ بالمنافقينَ يدُلُّ على أنَّه قد كان مُتقرِّرًا في المؤمِنينَ .
5- قولُه تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ دليلٌ على انتفاعِ المقبورِ بوقوفِ مَن يقفُ عنده مِن الدَّاعينَ؛ إِذْ كلُّ ما مُنِعَ منه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه الآيةِ هي عقوبةٌ للمقبورِ لا محالةَ .
6- مَن كان مُظهِرًا للإسلامِ؛ فإنَّه تجري عليه أحكامُ الإسلامِ الظَّاهرةُ: مِن المُناكَحة والمُوارَثةِ، وتغسيلِه والصَّلاةِ عليه، ودَفنِه في مقابرِ المُسلمين ونحوِ ذلك؛ لكِن مَن عُلِمَ منه النِّفاقُ والزَّندقةُ، فإنَّه لا يجوزُ لِمَن عَلِمَ ذلك منه الصَّلاةُ عليه، وإن كان مُظهِرًا للإسلامِ؛ فإنَّ اللهَ نهى نبيَّه عن الصَّلاةِ على المُنافِقينَ. فقال: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ فكُلُّ مَن لم يُعلَمْ منه النِّفاقُ وهو مُسلِمٌ، يجوزُ الاستغفارُ له والصَّلاةُ عليه، بل يُشرَعُ ذلك ويُؤمَرُ به، كما قال تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ .
7- قوله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ استدلَّ به على أنَّ الإمامَ إذا حضرَ جنازةً؛ فهو المُقَدَّمُ عليها في الصلاةِ دونَ الأولياءِ، كما تكونُ في سائرِ الصلاةِ؛ إذ لو كان الأولياءُ أحقَّ منه- كما يزعم مَن يقولُ: إنَّ الصلاةَ على الميتِ مِن الأمورِ الخاصةِ؛ فيتقدمُ الوليُّ عليه- كان النهيُ واقعًا على مَنْعِ وَلِيِّ عبدِ الله بنِ أُبَيٍّ ابنِ سلولَ، النازلِ فيه هذه الآيةُ، مِن الصلاةِ عليه، لا على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذي هو الإمامُ .
8- قَولُ الله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ لَمَّا ذكَرَ في تعليلِ هذا النهيِ كَونَه كافرًا، وصَفَه بعد ذلك بكونِه فاسقًا- مع أنَّ الفِسقَ أدنى حالًا مِن الكُفرِ- لأنَّ الكافِرَ قد يكونُ عَدلًا في دينِه، وقد يكونُ فاسقًا في دينِه خَبيثًا مَمقوتًا عند قَومِه، والكَذِبُ والنِّفاقُ والخِداعُ والمكرُ والكَيدُ، أمرٌ مُستقبَحٌ في جميعِ الأديان، فالمُنافِقونَ لَمَّا كانوا موصوفينَ بهذه الصِّفاتِ، وصَفَهم اللهُ تعالى بالفِسقِ بعد أن وصَفَهم بالكُفرِ؛ تَنبيهًا على أنَّ طريقةَ النِّفاقِ طَريقةٌ مَذمومةٌ عند كلِّ أهلِ العالَم .
9- قَولُ الله تعالى: وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ تقدَّمَ نظيرُه في السورةِ، وأعيدَ هنا؛ لأنَّ أشدَّ الأشياءِ جَذبًا للقلوبِ، وجَلبًا للخواطِرِ إلى الاشتغالِ بالدُّنيا، هو الاشتغالُ بالأموالِ والأولادِ، وما كان كذلك يجِبُ التحذيرُ عنه مرَّةً بعد أخرى .
وقيل: وجهُ تَكريرِها تأكيدُ هذا المعنى وإيضاحُه؛ لأنَّ النَّاسَ كانوا يُفتَنونَ بصلاحِ حالِ المُنافقينَ في دنياهم .
وقيل: أُعيدَ ذلك؛ لأنَّ تجدُّدَ النُّزولِ له شأنٌ في تقريرِ ما نزَلَ له وتأكيدِه، وإرادة أن يكونَ على بالٍ مِن المخاطَبِ لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقِدَ أنَّ العمَلَ به مهِمٌّ يفتقِرُ إلى فضلِ عنايةٍ به، لا سيَّما إذا تراخى ما بين النُّزولين. فأشبه الشَّيءَ الذي أهَمَّ صاحِبَه، فهو يرجِعُ إليه في أثناءِ حَديثِه، ويتخلَّصُ إليه. وإنَّما أعيدَ هذا المعنى لِقوَّتِه فيما يجِبُ أن يَحذَر منه .
وقيل: ظاهِرُه أنَّه تكريرٌ، وليس بتكريرٍ؛ لأنَّ الآيتينِ في فَريقينِ مِن المنافقينَ، ولو كان تكريرًا لكان مع تباعُدِ الآيتينِ لِفائدةِ التَّأكيدِ والتَّذكيرِ .
وقيل: أراد بالأُولى لا تُعَظِّمْهم في حالِ حياتهم بسبَبِ كَثرةِ المالِ والولَدِ، وبالثانيةِ لا تُعَظِّمهم بعد وفاتِهم لمانعِ الكُفرِ والنِّفاق
.
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ
قولُه: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فيه دُخولُ (إنْ) هنا- وهي للمُمكِنِ وقوعُه غالبًا-؛ إشارةً إلى أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يعلمُ بمُسْتقبلاتِ أَمْرِهِ مِنْ أَجَلٍ وغيرِهِ إلَّا أنْ يُعْلِمَه اللهُ
.
قولُه: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا فيه مِن مَحاسِن البَلاغةِ: الانْتِقالُ بالنَّفي مِنَ الشَّاقِّ عليهم- وهو الخروجُ إلى الغُزاةِ- إلى الأشقِّ، وهو قِتالُ العَدوِّ؛ لأنَّه عُظمُ الجِهادِ، وثمرةُ الخروجِ، ومَوضِعُ بارقةِ السُّيوفِ التي تحتها الجَنَّةُ، ثُمَّ عَلَّلَ انْتِفاءَ الخروجِ والقِتالِ بكونِهِم رَضُوا بالقُعودِ أوَّلَ مَرَّةٍ، ورِضاهم ناشئٌ عن نِفاقِهم وكُفْرِهم وخِداعِهم، وعصيانِهم أمْرَ اللهِ في قولِهِ: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا، وقالوا هم: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ؛ فعلَّلَ بالمُسبَّبِ، وهو الرِّضا النَّاشئُ عَنِ السَّببِ، وهو النِّفاقُ .
وقَولُ الله تعالى: وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إخبارٌ بمعنى النَّهيِ؛ للمُبالغةِ .
وجُمْلةُ: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مُستأنَفةٌ؛ للتَّعدادِ عليهم والتَّوبيخِ، أي: إنَّكُمْ تُحِبُّونَ القُعودَ، وتَرْضونَ به، فقد زِدْتُكم منه .
2- قولُه تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ
قولُه: مَاتَ... ووَمَاتُوا ماضٍ بمَعْنى المُسْتقبلِ؛ وإنَّما قيل: (مَاتَ)، و(ماتوا) بلَفْظِ الماضي- والمَعْنى على الاسْتِقبالِ- على تقديرِ الكونِ والوجودِ؛ لأنَّه كائنٌ موجودٌ لا محالةَ؛ فموتُهم غيرُ مَوجودٍ في حالِ التَّكلُّمِ ولا قَبْلَه، وإنَّما جِيءَ بصيغةِ الماضي؛ تَنْبيهًا على تَحقُّقِ وقوعِ الموتِ لا مَحالةَ .
وجُمْلةُ: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ تعليلٌ للمَنْعِ مِنَ الصَّلاةِ والاسْتِغفارِ لهم، والقيامِ بما يَقْتضي الامْتِناعَ مِنْ ذلك، وهو الكُفْرُ والموافاةُ عليهِ ؛ فهي تعليليَّةٌ للنَّهي وَلَا تُصَلِّ...؛ ولِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ، وقد أَغْنى وجودُ (إِنَّ) في أوَّلِها عنْ فاءِ التَّفريعِ .
3- قولُه تعالى: وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
قولُه: وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ تكريرٌ لِما سَبَقَ، وتقريرٌ لِمَضْمونِهِ بالإخبارِ بوقوعِه .
وفيه تَقديمُ الأموالِ على الأولادِ، مَعَ كونِهِمْ أَعزَّ مِنْها؛ إمَّا لعُمومِ مَسيسِ الحاجةِ إليها بحَسَبِ الذَّاتِ وبحَسَبِ الأفرادِ والأوقاتِ؛ فإنَّها ممَّا لا بُدَّ منه لكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الآباءِ والأمهاتِ والأولادِ في كُلِّ وقتٍ وحينٍ، حتَّى إنَّ مَنْ له أولادٌ ولا مالَ لَهُ، فهو وأولادُهُ في ضيقٍ ونَكالٍ، وأمَّا الأولادُ فإنَّما يَرْغَبُ فيهم مَنْ بَلَغَ مَبلَغَ الأُبوَّة ، وقيل: لأنَّها أقدَمُ في الوجودِ منهم .
وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا: وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ، وقال تعالى قَبْلَ ذلك في السُّورةِ نَفْسِها: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ، فهناك تَشابُهٌ واخِتْلافٌ بين ألفاظِ الآيتينِ، وذلك على النحوِ الآتي:
بَدأتِ الآيةُ الأُوْلى بالفاءِ والثَّانيةِ بالواوِ؛ لأنَّ الآيةَ الثَّانيةَ مَعطوفةٌ على ما قَبْلَها؛ فسِياقُ الآياتِ السَّابقةِ يَقْتضي العَطْفَ، فهو نَهْيٌ عُطِفَ على وَلَا تُصَلِّ، وَلَا تَقُمْ، وَلَا تُعْجِبْكَ فناسبتِ الواو، أمَّا الآيةُ الأُوْلى فالفاءُ للاسْتِئنافِ، وليس هناك عَطفٌ، وقيل: مُناسَبةُ الفاءِ أنَّهُ عَقِبَ قولِه: وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ، أي: للإنفاقِ، فهم مُعجَبونَ بَكْثرةِ الأموالِ والأولادِ؛ فنَهاه عَنِ الإعجابِ بفاءِ التَّعقيبِ.
الآيةُ الأولى فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ... وردتْ في سِياقِ الإنفاقِ، أي: إنفاق الأموالِ، قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ، وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ، فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ؛ فالكلامُ كلُّهُ- إذنْ- في الإنفاقِ في الآياتِ التي قَبْلها وبَعْدَها، أمَّا الآيةُ الثَّانيةُ فسِياقُ الآياتِ قَبْلَها وبَعْدَها في الِجهادِ، وليس الإنفاق، فلمَّا كان السِّياقُ في الأموالِ أَضافَ لَا، وفَصَلَ الأولادَ والأموالَ للتَّوكيدِ، وقيل: ذِكْرُ لَا مُشْعِرٌ بالنَّهي عَنِ الإعجابِ بكلِّ واحدٍ واحدٍ على انْفِرادٍ، ويتضمَّنُ ذلك النَّهيَ عَنِ المجموعِ، ولم تذكرْ في الثانيةِ؛ فكان نهيًا عن إعجابِ المَجموعِ، ويَتضمَّنُ ذلك النَّهيَ عَنِ الإعجابِ بكلِّ واحدٍ واحدٍ، فدلَّتِ الآيتانِ بمَنْطوقِهما ومَفهومِهما على النَّهيِ عن الإعجابِ بالأموالِ والأولادِ مُجْتمعين ومُنْفرِدين.
لِيُعَذِّبَهُمْ زِيادةُ اللَّام في الآيةِ الأُوْلى زيادةٌ في التَّوكيدِ؛ لأنَّ السِّياقَ في الأموالِ والإنفاقِ، وكما أكَّدَ بـ(لا) أكَّدَ باللَّام بمعنى (إنَّما يُريدُ اللهُ أنْ يُعَذِّبَهم)؛ فزِيادةُ اللَّامِ قِياسيَّةٌ للتَّوكيدِ (تؤكِّدُ معنى الإرادةِ)، فلمَّا كانوا مُتعلِّقينَ بالمالِ تعلُّقًا شديدًا أكَّدَ باللَّامِ ليُعذِّبَهُمْ بها، فكان التَّعذيبُ أشدَّ، وقيل: أَتى باللَّامِ المُشْعِرةِ بالتَّعليلِ، ومفعولُ يُرِيدُ محذوفٌ، أي: إنَّما يُريدُ اللهُ ابْتِلاءَهم بالأموالِ والأولادِ لِتَعذيبِهم، وأتى بـ(أَنْ)؛ لأنَّ مَصَبَّ الإرادةِ هو التَّعذيبُ، أي: (إنَّما يُريدُ اللهُ تعذيبَهم)؛ فَقَدِ اخْتَلفَ مُتعلِّقُ الفِعْلِ في الآيتينِ، هذا الظَّاهِرُ، وإنْ كان يَحْتَمِلُ زيادةَ اللَّامِ، والتَّعليل بـ(أَنْ).
وذَكَرَ (الحياةَ الدُّنيا) في الآيةِ الأُولى و(الدُّنيا) في الآيةِ الثَّانيةِ: فأمَّا الآيةُ الأولى فهي في سياقِ الأموالِ، والأموالُ عِنْدَ النَّاسِ هي مَبْعثُ الرَّفاهيةِ والحياةِ والسَّعادةِ، والمالُ هو عَصَبُ الحياةِ، أمَّا الآيةُ الثَّانيةُ فهي في الجِهادِ، وهو مَظِنَّةُ مُفارَقةِ الحياةِ في القِتالِ، فاقْتَضى السَّياقُ ذِكْرَ (الحياةِ) في الآيةِ الأُوْلى، وحَذْفَها في الآيةِ الثَّانيةِ ، وقيل: أَثْبَتَ (في الحياةِ) على الأصلِ، وحُذِفتْ هنا تنبيهًا على خِسَّةِ الدُّنيا، وأنَّها لا تَستحِقُّ أنْ تُسمَّى حياةً، ولا سيَّما حين تَقدَّمَها ذِكْرُ موتِ المنافقينَ، فنَاسَبَ ألَّا تُسمَّى حياةً .
======================
سورةُ التَّوبةِ
الآيات (86-89)
ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
غريب الكلمات:
أُولُو الطَّوْلِ: أي: ذَوو الغِنى والسَّعةِ، وأصلُ (طول): يدُلُّ على فَضْلٍ، وامْتِدادٍ في الشَّيءِ
.
الْخَوَالِفِ: أي: النِّساءِ، وأصلُ (خلف): يدلُّ على مجيءِ شَيءٍ بعد شيءٍ، وقيامِه مَقامَه
.
المعنى الإجمالي:
يقولُ اللهُ تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وإذا أُنزِلَت سورةٌ مِن القُرآنِ فيها الأمرُ بالإيمانِ باللهِ، والجهادِ مع رَسولِه، استأذَنَك في التخلُّفِ عن الجهادِ أصحابُ الأموالِ مِن المُنافِقينَ، وقالوا: دَعْنا نكُنْ مع القاعدينَ، رَضُوا أن يكونوا في منازِلِهم مع النِّساءِ، وختم اللهُ على قلوبِهم، فهم لا يَفهَمونَ.
لكن إنْ تخلَّفَ هؤلاء المُنافِقونَ عن الجهادِ فلا ضيرَ؛ لأنَّه قد نهض إليه مَن هو خيرٌ منهم؛ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه، فقد جاهدوا بأموالِهم وأنفُسِهم، وأولئك لهم النِّعَمُ الكثيرةُ في الدُّنيا والآخرةِ، وأولئك هم الذين ظَفِروا بما طَلَبوا مِن النَّعيمِ، أعدَّ اللهُ لهم بساتينَ تجري من تحتِ أشجارِها ومَبانيها الأنهارُ، ماكثينَ فيها أبدًا، ذلك الفوزُ العظيمُ.
تفسير الآيات:
وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ (86).
مَناسبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لما بيَّنَ اللهَ تعالى في الآياتِ المتقَدِّمةِ أنَّ المُنافِقينَ احتالوا في رُخصةِ التخَلُّفِ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والقعودِ عن الغَزوِ؛ زادَ في هذه الآيةِ دقيقةً أُخرَى، وهي أنَّه متى نزَلَت آيةٌ مُشتَمِلةٌ على الأمرِ بالإيمانِ، وعلى الأمرِ بالجهادِ مع الرَّسولِ، استأذَنَ أولو الثَّروةِ والقُدرةِ منهم في التخلُّفِ عن الغَزوِ، وقالوا لرَسولِ اللهِ: ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ أي: مع الضُّعَفاءِ مِن النَّاسِ، والسَّاكِنينَ في البلَدِ
.
وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ.
أي: وإذا أُنزِلَت عليك- يا محمَّدُ- سورةٌ من القرآنِ، فيها أمرُ النَّاسِ بالإيمانِ باللهِ، وجِهادِ الكُفَّارِ مع رسولِ اللهِ؛ استأذَنَك في التخَلُّفِ عن الجهادِ أصحابُ الغِنى والأموالِ مِن المُنافِقينَ !
وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ.
أي: وقال لك المُنافِقونَ- يا مُحمَّدُ: اترُكْنا نكُنْ مع القاعدينَ في بُيوتِهم؛ مِنَ الضُّعَفاءِ والمَرضى والعاجزينَ عن الجِهادِ .
رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (87).
رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ.
أي: رَضِيَ المُنافقونَ المُستأذِنونَ في التخَلُّفِ عن الجهادِ أن يكونوا في مَنازِلِهم مع النِّساءِ !
وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ.
أي: وختَمَ اللهُ على قلوبِ المُنافِقينَ بسبَبِ تَخلُّفِهم عن الجهادِ بلا عُذرٍ، فهم لا يَفهَمونَ مواعِظَ اللهِ، وأنَّ الجِهادَ خَيرٌ لهم في الدُّنيا والآخرةِ .
كما قال اللهُ تعالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون: 3] .
وقال سبحانه: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون: 7] .
لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا شرحَ حالَ المُنافقينَ في الفِرارِ عن الجِهادِ؛ بيَّنَ أنَّ حالَ الرَّسولِ والذين آمَنوا معه بالضِّدِّ منه؛ حيث بذَلُوا المالَ والنَّفسَ في طلَبِ رِضوانِ اللهِ، والتقَرُّبِ إليه .
لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ.
أي: لكنْ الرَّسولُ محمدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأصحابُه الذين آمَنوا معه، قد جاهَدوا الكُفَّارَ ببَذلِ أموالِهم وقاتَلوهم بأنفُسِهم، فهم ليسُوا كالمُنافِقينَ المتخَلِّفينَ، فلئن تخَلَّفَ هؤلاء المنافِقونَ عن الجهادِ، فلا ضَيرَ؛ لأنَّه قد نهضَ إليه مَن هو خيرٌ منهم .
كما قال تعالى: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [التوبة: 44] .
وقال سبحانه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] .
وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ.
أي: والرَّسولُ والذين آمَنوا معه، وجاهَدوا بأموالِهم وأنفُسِهم؛ لهم النِّعَمُ الكثيرةُ الحَسَنةُ في الدُّنيا والآخرةِ .
كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55] .
وقال سُبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 10-13] .
وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
أي: وأولئكَ هم الذينَ ظَفِروا بما طَلَبوا منَ النَّعيمِ .
أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89).
أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ.
أي: هيَّأَ اللهُ لِرَسولِه وللمُؤمِنينَ معه بساتينَ تجري مِن تَحتِ أشجارِها ومَبانيها الأنهارُ .
كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] .
خَالِدِينَ فِيهَا .
أي: لابثينَ فيها، لا يَموتونَ، ولا يُخرَجونَ منها أبدًا .
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
أي: دُخولُ الجنَّاتِ التي أعدَّها اللهُ للرَّسولِ وللمُؤمِنينَ معه، هو النَّجاةُ العظيمةُ، والظَّفَرُ الكبيرُ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ قدَّمَ الأمرَ بالإيمانِ على الأمرِ بالجِهادِ؛ لأنَّ الجِهادَ بغَيرِ الإيمانِ لا يُفيدُ شَيئًا
.
2- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ في تخصيصِ أُولُو الطَّولِ بالذكرِ وجهانِ: الأوَّل: أنَّ الذمَّ لهم ألزمُ؛ لأجلِ كونِهم قادرينَ على السَّفرِ والجهادِ. والثَّاني: أنَّه تعالى ذكَرَ أولي الطَّولِ؛ لأنَّ مَن لا مالَ له ولا قُدرةَ على السَّفَرِ، لا يحتاجُ إلى الاستئذانِ؛ لأنَّه مَعذورٌ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ عطفَ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ على اسْتَأْذَنَكَ لِمَا بينَهما من المغايرةِ في الجملةِ، بزيادةٍ في المعطوفِ؛ لأنَّ الاستِئذانَ مُجمَلٌ، وقولَهم المحكيَّ فيه بيانُ ما استأذَنوا فيه، وهو القُعودُ، وفي نَظْمِه إيذانٌ بتَلفيقِ مَعذِرتِهم، وأنَّ الحقيقةَ هي رغبتُهم في القُعودِ؛ ولذلك حُكِيَ قَولُهم بأن ابتُدِئَ بـ ذَرْنَا المقتضي الرَّغبةَ في تَرْكِهم بالمدينةِ، وبأن يكونوا تبَعًا للقاعِدينَ الذين فيهم العُجَّزُ والضُّعَفاءُ والجُبَناءُ؛ لِما تُؤذِنُ به كَلمةُ (مع) من الإلحاقِ والتَّبَعيَّةِ .
4- قال اللهُ تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ اختيارُ فِعل رَضُوا إشعارٌ بأنَّ ما تلبَّسوا به من الحالِ، مِن شأنِه أن يتردَّدَ العاقِلُ في قَبولِه .
5- في قولِ اللهِ تعالى: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ دليلٌ على جُبنِ المُنافِقينَ وضُعَفاءِ الإيمانِ، ورضاهم لأنفُسِهم بالذُّلِّ والهَوانِ ، فلو فَقِه المنافِقونَ حَقيقةَ الفِقهِ، لم يَرضَوا لأنفُسِهم بالحالِ التي تحُطُّهم عن منازِلِ الرِّجالِ، ولم يَرضَوا أن يكونوا مع النِّساءِ المتخَلِّفاتِ عن الجهادِ .
6- في قولِه تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ دليلٌ على أنَّ النساءَ لا جهادَ عليهنَّ، وإنْ أَطَقْنَه؛ لأنَّه سبحانه قد ذَكَرَ الخوالفَ مرَّتين في الآيةِ الأُولَى والثانية ولم يخرجهنَّ، إنَّما أَخرجَ مَن تَشَبَّه في التخلفِ عنه بمَن لا جهادَ عليه؛ ورضِي الكينونةَ معه عمَّا هو مندوبٌ إليه .
7- قَولُ الله تعالى: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، قوله: مَعَهُ في موضعِ الحالِ من (الذينَ) لتدُلَّ على أنَّهم أتباعٌ له في كلِّ حالٍ، وفي كلِّ أمرٍ، فإيمانُهم معه؛ لأنَّهم آمنوا به عندَ دَعوتِه إيَّاهم، وجهادُهم بأموالِهم وأنفُسِهم معه، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الخَيراتِ المبثوثةَ لهم في الدُّنيا والآخرةِ تابعةٌ لِخَيراتِه ومَقاماتِه .
8- قَولُ الله تعالى: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ لَمَّا كان السِّياقُ لبُخلِ المنافقينَ بالنَّفسِ والمالِ، ولِسَلبِ النَّفعِ مِن أموالِهم وأولادِهم، اقتصَرَ في مدحِ أوليائِه على الجهادِ بالنَّفسِ والمالِ، ولم يَذكُرِ السَّبيلَ .
9- قَولُ الله تعالى: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قَولُه: الْخَيْرَاتُ تعريضٌ بذوي الأموالِ مِن المُنافِقينَ؛ لأنَّ الخيرَ يُطلَقُ على المالِ، وتَحليتُه بـ (أل) تدلُّ على استغراقِه لجَميعِ منافِعِ الدَّارينِ .
10- قال الله تعالى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ الإعدادُ: التَّهيئةُ، وفيه إشعارٌ بالعِنايةِ .
11- في قولِه تعالى: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ إلى قولِه سبحانه: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ شاهدٌ لكل مَن حَضَرَ مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزوةَ تبوك مِن أصحابِه بالجنةِ، فكلُّ مَن شَهِدَ غزوةَ تبوك مِن أصحابِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهو معه في الجنةِ على ما كان فيه بشهادةِ هذه الآيةِ له، وهي حقٌّ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ
قولُه: اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ فيه الْتِفاتٌ؛ إذْ هو خُروجٌ مِنْ لَفْظِ الغَيبةِ- وهو قولُه: رَسُولِهِ- إلى ضَميرِ الخِطابِ في اسْتَأْذَنَكَ، فلو جاءَ على الأصلِ لقِيلَ: استأذَنَه
.
وقولُه: وَقَالُوا عَطْفٌ تَفسيريٌّ لـاسْتَأْذَنَكَ، وهو مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِ ما اسْتأذَنوا فيه- يعني القُعودَ .
2- قوله تعالى:رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ
قولُه: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ... اسْتِئنافٌ؛ لبيانِ سُوءِ صَنيعِهم، وعَدَمِ امْتِثالِهم لِكِلا الأمرينِ، وإنْ لم يَردُّوا الأوَّلَ صريحًا .
وفيه تَهجينٌ لهم، ومبالَغةٌ في الذَّمِّ؛ لأنَّ كونَهم رَضُوا بأنْ يَكونوا قاعِدينَ مَعَ النِّساءِ في المدينةِ أبْلغُ ذَمٍّ لهم وتَهجينٍ؛ لأنَّهم نَزَّلوا أَنفُسَهم مَنْزِلةَ النِّساءِ العَجَزَةِ اللَّواتي لا مُدافعةَ عندَهنَّ .
3- قوله تعالى:لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
قولُه: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فيه تَعريضٌ بأنَّ الذين لَمْ يُجاهِدوا دونَ عُذْرٍ ليسوا بمُؤمنينَ .
قَولُ اللهِ تعالى: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ عُطِفَت جملةُ: وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ على جملةِ جَاهَدُوا ولم تُفصَل- مع جوازِ الفَصلِ- ليدُلَّ بالعطفِ على أنَّها خبرٌ عن (الذين آمنوا)، أي: على أنَّها مِن أوصافِهم وأحوالِهم؛ لأنَّ تلك أدلُّ على تمكُّنِ مَضمونِها فيهم مِن أن يُؤتى بها مُستأنفةً، كأنَّها إخبارٌ مُستأنَفٌ .
قَولُ الله تعالى: وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الإتيانُ باسمِ الإشارةِ؛ لإفادةِ أنَّ استحقاقَهم الخَيراتِ والفَلاحَ، كان لأجل جهادِهم .
قَولُ اللهِ تعالى: وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ في التعبيرِ بأداةِ البُعدِ إشارةٌ إلى عُلوِّ مَقامِ أوليائِه، وبُعدِ مَنالِه إلَّا بفَضلٍ منه تعالى .
قوله: وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فيه تَكريرُ اسْمِ الإشارةِ وَأُولَئِكَ؛ للتَّنويهِ لشأنِهِمْ، ولِرَفعِ مَكانِهم .
4- قَولُه تعالى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ اسْتِئنافٌ بيانيٌّ لجوابِ سؤالٍ يَنشأُ عَنِ الإخبارِ بـ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ .
=======================
سورةُ التَّوبةِ
الآيات (90-93)
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ
غريب الكلمات:
الْمُعَذِّرُونَ: أي: المُعتَذِرونَ الَّذين لَهُم عُذرٌ، وَقد يكون المعَذِّرُ غيرَ مُحِقٍّ، فالمعنى المقصِّرونَ بِغَيْر عُذرٍ. والعُذْرُ: تحرِّي الإنسانِ ما يمحو به ذُنوبَه
.
الْأَعْرَابِ: أي: سُكَّانِ الباديةِ، وأصلُ (عرب): يدلُّ على الإبانةِ والإفصاحِ .
حَرَجٌ: أي: إثمٌ، والحرَجُ كذلك: الشكُّ والضِّيقُ، وأصلُ الحَرَجِ: تجمُّعُ الشَّيءِ وضِيقُه .
تَفِيضُ: أي: تَسيلُ، وفَيضُ العَينِ مِن الدَّمعِ: امتلاؤُها منه، ثمَّ سَيلانُه منها كفَيضِ النَّهرِ من الماءِ، وفيضِ الإناءِ، وأصلُ (فيض): يدلُّ على جَرَيانِ الشَّيءِ بِسُهولةٍ .
السَّبِيلُ: أي: العقوبةُ والمأثَمُ، ويُستعمَلُ السَّبيلُ لكُلِّ ما يُتوصَّلُ به إلى شيءٍ، خيرًا كان أو شرًّا، وأصلُ (سبل): يدلُّ على امتدادِ شَيءٍ
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ تعالى أنَّ المُعتَذرينَ مِن الأعرابِ أتَوا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليأذَنَ لهم في التخلُّفِ عن الجهادِ، وقعدَ عن المجيءِ للاعتذارِ المُنافِقونَ الذين كَذَبُوا اللهَ ورَسولَه، وأخبَرَ أنَّه سيُصيبُ الكافرينَ مِن الأعرابِ عَذابٌ مُؤلِمٌ مُوجِعٌ.
ثم ذكَر الله تعالى الأعذارَ المقبولةَ في التخلُّفِ عن الجهادِ، فقال: ليس هناك إثمٌ في التخلُّفِ عن الجهادِ مِن قِبَل الضُّعَفاءِ والمَرضى، والذين لا يجِدونَ مالًا يتجهَّزونَ به، إذا كانوا ناصحينَ لله ورسولِه، ما على المُحسنينَ مِن طريقٍ لِمُؤاخَذتِهم وعُقوبتِهم، واللهُ غفورٌ رحيم. ولا عقوبةَ أيضًا على الذين إذا أتَوْك- يا مُحمَّدُ- يطلبونَ منك ما يركبونَ عليه للغَزوِ معك، قلتَ لهم مُعتذرًا: لا أجِدُ ما تَركبونَ عليه، فانصَرَفوا مِن عِندِك، وهم يَبكونَ مِن الحَزَنِ على عدَمِ تَوفُّرِ ما يتجَهَّزونَ به للجِهادِ.
ثم بيَّن تعالى أحكامَ أصحابِ الأعذارِ الكاذبةِ، فقال: إنَّما العقوبةُ والمؤاخذةُ على المنافقينَ الذين يَستأذِنونَك في التخلُّفِ عن الجهادِ وهم أغنياءُ، رضُوا بأن يكونُوا في بيوتِهم مع النِّساءِ، وختَمَ اللهُ على قلوبِهم، فهم لا يَعلَمونَ.
تفسير الآيات:
وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا شرَحَ الله تعالى أحوالَ المُنافِقينَ الذين كانوا في المدينةِ؛ ابتدأ في هذه الآيةِ بشَرحِ أحوالِ المنافقينَ مِن الأعرابِ
.
وأيضًا لَمَّا خَتمَ قَصصَ أهلِ المَدَرِ بذَمِّ أُولي الطَّولِ منهم بتخلُّفِهم، وكان ذمُّهم إنَّما هو لِكَونِهم قادرينَ على الخروجِ في ذلك الوَجهِ، وقدَّمَهم لِكَثرةِ سمَاعِهم للحِكمةِ، وكان أهلُ الوَبَرِ أقدَرَ النَّاسِ على السَّفَرِ؛ لأنَّ مبنى أمرِهم على الحَلِّ والارتحالِ، فهم أجدَرُ بالذمِّ؛ لأنَّهم في غايةِ الاستعدادِ لذلك- تلاهم بهم، فقال تعالى :
وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ.
القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:
قراءةُ الْمُعْذِرُونَ بسكونِ العينِ وتخفيفِ الذالِ، بمعنى: الذينَ جاؤوا بعُذرٍ صحيحٍ .
قراءةُ الْمُعَذِّرُونَ بفتحِ العينِ وتشديدِ الذالِ، أي: المُعتذرونَ، قيل: بمعنى اعتذروا بحقٍّ، فتكونُ بمعنَى القراءةِ الأُولَى، وقيل: المعنى: المقصِّرون الذين أوْهَموا أنَّ لهم عذرًا، ولا عُذرَ لهم .
وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ.
أي: وأتى المُعتَذِرونَ مِن سكَّانِ البوادي التي حولَ المدينةِ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليأذَنَ لهم في التخلُّفِ عن الجِهادِ .
وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ.
أي: وقعَدَ عن المجيءِ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للاعتذارِ إليه عن الجهادِ معه، الأعرابُ المُنافِقونَ الذين كَذَبوا اللهَ ورَسولَه في دَعواهم الإيمانَ المُقتضيَ للخُروجِ للجِهادِ .
سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: سيصيبُ الكافرينَ مِن الأعرابِ عذابٌ مُؤلِمٌ .
لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ الله تعالى حالَ مَن تخلَّفَ عن الجهادِ مع القُدرةِ عليه؛ ذكرَ حالَ مَن له عُذرٌ في تَركِه ، فقال تعالى:
لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ.
أي: ليس على ضُعَفاءِ الأبدانِ، العاجِزينَ عن الخُروجِ للقِتالِ، ولا على المرضى الذين لا يَقدِرونَ على الجهادِ، ولا على الفُقَراءِ الذين لا يجِدونَ مالًا يتجهَّزونَ به- إثمٌ في تخلُّفِهم عن الجِهادِ .
كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح: 17] .
إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ.
أي: إذا أخلَصوا إيمانَهم وأعمالَهم وقَصدَهم وحُبَّهم في حال قُعودِهم، وبَذَلوا جُهدَهم في نُصرةِ الإسلامِ، ونَفْعِ المُسلِمينَ .
عن تميمٍ الدَّاريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الدِّينُ النَّصيحةُ. قلنا: لِمَن؟ قال: لِلَّهِ ولِكتابِه ولِرَسولِه ولأئمَّةِ المُسلِمينَ وعامَّتِهم )) .
مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ.
أي: ليس على المُحسِنينَ الذين نصَحوا للَّه ورَسولِه من طريقٍ إلى مؤاخَذتِهم وعُقوبتِهم .
وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
أي: والله ساتِرٌ ذُنوبَ المُحسِنينَ، ومُتجاوِزٌ عن مؤاخَذتِهم بها، رحيمٌ بهم فلا يعاقِبُهم عليها، بل يُثيبُهم ثوابَ القادِرينَ العامِلينَ .
وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (92).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الضُّعَفاءَ والمرضى والفُقَراءَ، وبَيَّنَ أنَّه يجوزُ لهم التخلُّفُ عن الجِهادِ، بشَرطِ أن يكونوا ناصِحينَ لله ورسولِه، وبيَّنَ كَونَهم مُحسِنينَ، وأنَّه ليس لأحدٍ عليهم سبيلٌ- ذكَرَ قِسمًا آخرَ مِن المعذورينَ، فقال :
وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ.
أي: ولا عقوبةَ على الذين إذا أتَوْك- يا مُحمَّدُ- يسألونَك ما يَركَبونَ عليه في غزوةِ تَبوكَ، قلتَ لهم مُعتذرًا: لا أجِدُ ما تركبونَ عليه، فانصرفوا مِن عِندِك، وهم يبكونَ مِن الحَزَنِ على عدَمِ توفُّرِ ما يتجهَّزونَ به للجِهادِ .
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (93).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ كُلَّ أولئك ما عليهم مِن سَبيلٍ، بَقِيَ بيانُ مَن عليهم السَّبيلُ في تلك الحالِ، فذَكَرَهم ، فقال:
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء.
أي: إنَّما العُقوبةُ- يا مُحمَّدُ- على المُنافِقينَ الذين يَستأذنِونَك في التخَلُّفِ عن الجهادِ، وهم أغنياءُ قادِرونَ على الخُروجِ معك للقِتالِ .
رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ.
أي: رَضِيَ المُنافِقونَ الذين يستأذِنونَك في التخَلُّفِ عن الجهادِ، بالقُعودِ في بيوتِهم مع النِّساءِ اللاتي لا يجِبُ عليهنَّ الجِهادُ .
وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.
أي: وختَمَ اللهُ على قلوبِ المُنافِقينَ عُقوبةً لهم، فهم لا يَعلمونَ سُوءَ عاقِبةِ تخلُّفِهم عن الجهادِ عاجلًا وآجلًا، ولا ما يفوتُهم بذلك مِن مَصالحِ الدُّنيا والآخرةِ
.
الفوائد التربوية:
1- إذا أحسَنَ العَبدُ فيما يَقدِرُ عليه، سقَطَ عنه ما لا يقدِرُ عليه؛ نَستفيدُ ذلك مِن قَولِ اللهِ تعالى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ
.
2- قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ قال بعضُ العُلَماءِ: هذا-واللهِ- بُكاءُ الرِّجالِ؛ بكَوا على فَقْدِهم رواحِلَ يُحمَلونَ عليها إلى الموتِ، في مواطِنَ تُراقُ فيها الدِّماءُ في سبيلِ اللهِ، وتُنزَعُ فيها رؤوسُ الرِّجالِ عن كواهلِها بالسُّيوفِ، فأمَّا من بكى على فَقْدِ حظِّه من الدُّنيا وشَهواتِه العاجلةِ، فذلك شبيهٌ ببُكاءِ الأطفالِ والنِّساءِ على فَقْدِ حُظوظِهم العاجلةِ
.
الفوائد العلمية واللطائف :
1- قَولُ اللهِ تعالىلَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ فيه رفعُ الجِهادِ عن الضَّعيفِ والمريضِ، ومَن لا يجِدُ نَفقةً ولا أُهبةً للجِهادِ، ولا مَحمَلًا
.
2- قال اللهُ تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ في الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ النُّصحَ في الدِّينِ واجبٌ، وأنَّه يدخُلُ في ذلك الأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المُنكَر، والشَّهاداتُ والأحكامُ، والفَتاوى وبيانُ الأدلَّةِ .
3- قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذه الآيةُ أصلٌ في سُقوطِ التَّكليفِ عن العاجزِ، فكُلُّ من عجَزَ عن شيءٍ سَقَط عنه، فتارةً إلى بدَلٍ هو فِعلٌ، وتارةً إلى بدَلٍ هو غُرمٌ، ولا فَرقَ بين العَجزِ من جهةِ القُوَّةِ، أو العَجزِ مِن جهةِ المالِ .
4- قال الله تعالى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ هذه الآيةُ أصلٌ في رَفعِ العِقابِ عن كلِّ مُحسنٍ .
5- فائدةُ قَولِه: إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بعدما ذكَرَ عُذرَهم: أنَّ المَعذورَ يكونُ على قِسمينِ: أحدُهما فريقٌ منهم يغتَنِمونَ عُذرَهم، فهؤلاء ليسوا ممَّن نصحَ للَّهِ ورَسولِه، وفريقٌ يتمَنَّونَ أنْ لم يكُنْ لهم عذرٌ فيتمَكَّنوا من الجهادِ، فهؤلاء هم الذينَ نَصَحوا لله ورسولِه .
6- قَولُ الله تعالى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ يُستدَلُّ به على أنَّ مَن أحسَنَ على غيرِه، في نفسِه أو في مالِه، ونحو ذلك، ثمَّ ترتَّبَ على إحسانِه نَقصٌ أو تلَفٌ، أنَّه غيرُ ضامنٍ؛ لأنَّه مُحسِنٌ، ولا سبيلَ على المُحسنينَ، كما أنَّه يدُلُّ على أنَّ غيرَ المُحسِنِ- وهو المُسيءُ- كالمُفَرِّط، أنَّ عليه الضَّمانَ .
7- قال اللهُ تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَولُه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إشارةٌ إلى أنَّ كُلَّ أحدٍ عاجِزٌ محتاجٌ للمغفرةِ والرَّحمةِ؛ إذ الإنسانُ لا يخلو من تفريطٍ ما، فلا يقالُ: إنَّه نفى عنهم الإثمَ أوَّلًا، فما الاحتياجُ إلى المغفرةِ المقتضيةِ للذَّنبِ؟ فإن أريدَ ما تقدَّمَ مِن ذُنوبِهم دخلوا بذلك الاعتبارِ في المُسيءِ .
8- دلَّ قَولُه تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ على أنَّ العادِمَ للنَّفَقةِ، الطَّالِبَ للإعانةِ، إذا لم تحصُلْ له، فلا حرَجَ عليه. وفيه إشارةٌ إلى أنَّ المعونةَ إذا بُذِلَت له من الإمامِ، لَزِمَه الخروجُ .
9- دلَّ قولُه تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ على أنَّ العاجزَ بمالِه لا يُعْذَرُ حتى يبذُلَ جُهدَه، ويتحقَّقَ عَجزُه؛ فإنَّ اللهَ سُبحانه إنَّما نفى الحرجَ عن هؤلاءِ العاجِزينَ بعد أنْ أتَوْا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليحمِلَهم .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ هذه قصَّةُ البكَّائينَ صَرَّحَ بها-وإن كانوا داخلينَ في الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ- إظهارًا لِشَرفِهم وتقريرًا؛ لأنَّ النَّاصِحَ- وإن اجتهَدَ- لا غنى له عن العَفوِ؛ حيثُ بيَّنَ أنَّهم- مع اجتهادِهم في تحصيلِ الأسبابِ، وتحسُّرِهم عند فَواتِها بما أفاض أعيُنَهم- ممَّن لا سبيلَ عليه، أو ممَّن لا حرَجَ عليه، المَغفورِ له .
11- قال اللهُ تعالى: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا دلَّت الآيةُ على جوازِ البُكاءِ، وإظهارِ الحُزنِ على فواتِ الطَّاعةِ، وإن كان معذورًا .
12- دلَّ قولُه تعالى: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ على قُوَّةِ رغبةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، في الأعمالِ الصَّالحةِ المُوجِبةِ للدَّرَجاتِ العُلا، والنَّعيمِ المُقيمِ؛ وأنَّهم كانوا يَحزَنونَ على العَجزِ عن شَيءٍ مِن الطَّاعاتِ ممَّا يَقْدِرُ عليه غيرُهم .
13- قولُه تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ لم يُمدَحوا على نَفسِ الحزنِ، وإنَّما مُدِحوا على ما دلَّ عليه الحزنُ مِن قُوَّةِ إيمانِهم؛ حيث تخلَّفوا عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِعَجزِهم عن النَّفقةِ، ففيه تعريضٌ بالمُنافِقينَ الذين لم يَحزَنوا على تخلُّفِهم، بل غَبَطوا نفوسَهم به .
14- في قوله تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ دليلٌ على أنَّ تمنِّي المالِ ليُطاعَ اللهُ فيه، والحزنَ على فواتِه طاعةٌ، وهو رَدٌّ على مَن يزعمُ مِن متنطعي المتصوفة أنَّ عَدَمَ المالِ أربحُ للمرء مِن وجودِه - وإنْ كان ناويًا طاعةَ اللهِ فيه- للمخاطرةِ دونَ القيامِ بالطاعةِ، وأداءِ حقِّ اللهِ فيه
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قوله: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ فيه مِن لَطائِفِ بَلاغةِ القرآنِ: اختيارُ صِيغةِ (المُعذِّرين)؛ لتشمَلَ الذين صَدَقوا في العُذرِ، والذين كَذَبوا فيه
.
وجملةُ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ مُستأنَفة لابتداءِ وعيدٍ، وتَنكيرُ عَذَابٌ؛ للتَّهويلِ .
2- قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
قولُه: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ... اسْتِئنافٌ بيانيٌّ لجوابِ سؤالٍ مُقدَّرٍ يَنْشأُ عَنْ تهويلِ القُعودِ عَنِ الغزوِ، وما تَوجَّهَ إلى المُخلَّفينَ مِنَ الوعيدِ .
قوله: وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ.. فيه إعادةُ حَرْفِ النَّفْي لَا في عَطْفِ الضُّعفاءِ والمَرْضى؛ لتوكيدِ نَفْي المؤاخذةِ عَنْ كُلِّ فريقٍ بخُصوصِهِ .
قولُه: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ اسْتِئنافٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما سَبَق، أي: ليس عليهم جُناحٌ، ولا إلى مُعاتَبتِهم سبيلٌ، وهذه الجُمْلةُ واقعةٌ مَوقِعَ التَّعليلِ لنَفْي الحَرَجِ عنهم، والمعنى: ليس على الضُّعفاءِ، ولا على مَنْ عُطِفَ عليهم حَرَجٌ إذا نَصَحوا للهِ ورَسولِهِ؛ لأنَّهم مُحْسنونَ، غيرُ مُسيئينَ .
ووُضِعَ المُحْسِنينَ مَوضِعَ الضَّميرِ؛ للدَّلالةِ على انْتِظامِهم بنُصْحِهم للهِ ورسولِهِ في زُمرةِ المُحْسنينَ، أو ليكونَ تعليلًا لنَفْي الحَرَجِ عنهم، أي: ما على جِنْسِ المُحْسنينَ مِنْ سبيلٍ، وهم مِن جُمْلتِهم .
و(مِن) في قولِه: مِنْ سَبِيلٍ صِلةٌ للتَّأكيدِ، وهي مؤكِّدةٌ لشُمولِ النَّفي لكُلِّ سبيلٍ .
قولُه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييلٌ مؤيِّدٌ لِمَضمونِ ما ذُكِرَ، وهو يُشيرُ إلى أنَّ بهم حاجةً إلى المغفرةِ، وإنْ كان تَخلُّفُهم بعُذْرٍ .
3- قوله تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ
قوله: قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ في إيثارِ التعبيرِ بـ لَا أَجِدُ على (لَيْسَ عِنْدي): تَلطيفٌ للكَلامِ، وتَطييبٌ لقُلوبِ السَّائلينَ؛ كأنَّهُ صلَّى الله عليه وسلَّم يَطْلُبُ ما يَسألونَهُ على الاسْتِمرارِ فلا يَجِدُه .
و(مِنْ) في قولِه: وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ للبيانِ، وهي مَعَ المجرورِ في مَحلِّ النَّصْبِ على التَّمييزِ، والتَّقديرُ: تَفيضُ دَمْعًا، وهو أَبْلَغُ مِنْ (يَفيضُ دَمْعُها)؛ لأنَّ العَينَ جُعِلتَ كأنَّ كُلَّها دَمْعٌ فائضٌ .
4- قوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
قولُه: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ صِيغةُ قَصرٍ، والقَصْرُ فيه إضافيٌّ بالنِّسبةِ للأصنافِ الذين نُفِي أنْ يكونَ عليهم سَبيلٌ، وفي هذا الحَصْرِ تأكيدٌ للنَّفي السَّابقِ، أي: لا سَبيلَ عِقابٍ إلَّا على الذين يَسْتأذنونَكَ وهم أغنياءُ .
وقولُه: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ اسْتِئنافٌ تعليليٌّ لِما سَبَقَ، وهو اسْتِئنافٌ قُصِدَ منه التَّعجيبُ مِنْ دَناءةِ نُفوسِهم، وقِلَّةِ رُجْلَتِهم؛ بأنَّهم رَضُوا لأَنْفُسِهم بأنْ يَكونوا تَبَعًا للنِّساءِ، كأنَّهُ قيل: ما بالُهم اسْتأذَنوا وهم أغنياءُ؟! فقيل: رَضُوا بالدَّناءةِ والضَّعةِ، والانْتِظامِ في جُملةِ الخَوالفِ .
==========================
سورةُ التَّوبةِ
الآيات (94-96)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ
غريب الكلمات:
انْقَلَبْتُمْ: أي: رَجعْتُم، وأصلُ (قلب): يدلُّ على ردِّ الشَّيءِ مِن جِهةٍ إلى جهةٍ
.
رِجْسٌ: أي: نجسٌ، والرجسُ كذلك: القذرُ والمنتنُ، وأصلُ (رجس): يدلُّ على اختلاطٍ
.
المعنى الإجمالي:
يُخاطِبُ اللهُ تعالى المؤمِنينَ قائلًا لهم: إنَّ المُنافِقينَ المُتخلِّفينَ عن الجهادِ بلا عُذرٍ، سيعتَذِرونَ إليكم إذا رَجَعْتُم إليهم مِن سفَرِكم وجهادِكم، فقلُ لهم يا مُحمَّدُ: لا تعتَذِروا، لن نُصَدِّقَكم؛ قد أعلَمَنا اللهُ بأسرارِكم، وعَرَفْنا كذِبَكم في اعتذارِكم، وسيرى اللهُ عمَلَكم ورسولُه، ثمَّ تُرجَعونَ بعد مَوتِكم إلى عالِمِ كُلِّ سِرٍّ وعلانِيةٍ، وظاهرٍ وباطنٍ، فيُخبِرُكم بما كُنتم تَعمَلونَه في الدُّنيا، ويُجازيكم عليه.
سيَحلِفونَ لكم باللهِ إذا رجَعْتُم إليهم من غزوةِ تَبوكَ: إنَّهم لم يستَطيعوا الخروجَ معكم؛ لكي تُعرِضوا عنهم؛ فلا توبِّخوهم على قعودِهم ولا تعاتبوهم، فأعْرِضوا عنهم؛ احتقارًا وإهانةً لهم؛ لأنَّهم نَجَسٌ وقَذَرٌ، ومَصيرُهم في الآخرةِ نارُ جهنَّمَ؛ بسبَبِ ما كسَبوا.
يحلِفُ لكم هؤلاءِ المُنافِقونَ لِتَرضَوا عنهم، فإن تَرضَوا عنهم، فلا ينفَعُهم رِضاكم، ولا ينبغي أن يكونَ منكم رضًا عنهم؛ فإنَّ اللهَ لا يَرضى عن القَومِ الفاسِقينَ.
تفسير الآيات:
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94).
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ.
أي: يَعتَذِرُ إليكم المُنافِقونَ المتخَلِّفونَ عن الجِهادِ بلا عُذرٍ، إذا رَجَعْتُم- أيُّها المؤمِنونَ- إليهم من سَفَرِكم وجِهادِكم
.
قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ.
أي: قلُ لهم- يا مُحمَّدُ-: لا تعتَذِروا إلينا؛ إذ لن نصَدِّقَكم في اعتذارِكم الكاذِبِ .
قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ.
أي: قد أخبَرَنا اللهُ بأسرارِكم- أيُّها المنافِقونَ- وعَلِمْنا كذِبَكم في اعتذارِكم .
وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ.
أي: وسيرى اللهُ ورَسولُه أعمالَكم- أيُّها المنافِقونَ- في الدُّنيا، ويَظهَرُ صِدقُكم أو كذِبُكم في التَّوبةِ مِن النَّفاقِ .
ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: ثمَّ تُرجَعونَ- أيُّها المُنافِقونَ- بعد مَوتِكم إلى اللهِ الذي يعلَمُ كُلَّ سِرٍّ وعلانيةٍ، وظاهرٍ وباطنٍ، فيُخبِرُكم بما كنتُم تَعملونَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، ويُجازيكم عليه .
سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (95).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن المنافِقينَ في الآيةِ الأولى أنَّهم يعتَذِرونَ؛ ذكَرَ في هذه الآيةِ أنَّهم كانوا يؤكِّدونَ تلك الأعذارَ بالأيمانِ الكاذبةِ ، فقال تعالى:
سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ.
أي: سيحلِفُ المُنافِقونَ المتخَلِّفونَ، باللَّهِ لكم- أيُّها المؤمنونَ- إذا رجَعْتُم إليهم مِن غزوةِ تبوكَ: إنَّهم ما استطاعُوا الخروجَ مَعَكم للجهادِ؛ لِتَترُكوا تأنيبَهم ومعاتَبتَهم .
فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ.
أي: فاترُكوا- أيُّها المؤمنونَ- تأنيبَهم ولَومَهم؛ احتقارًا وإهانةً لهم؛ لا مسامحةً وعفوًا، لأنَّهم نجَسٌ وقذَرٌ، خَبيثةٌ بَواطِنُهم، وقبيحةٌ أعمالُهم .
كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] .
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ.
أي: ومصيرُ المُنافِقينَ في الآخرةِ نارُ جهنَّمَ؛ مجازاةً لهم بسببِ ذُنوبِهم التي كانوا يَعمَلونَها في الدُّنيا .
عن كعبِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نِعمةٍ قطُّ، بعد إذ هدَاني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسِي مِن صِدقِي رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألَّا أكونَ كَذَبتُه فأَهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا، إنَّ الله قال للذينَ كَذَبوا- حين أنزَلَ الوَحيَ- شَرَّ ما قال لأحَدٍ: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) .
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ السَّابقةِ أنَّهم يحلِفونَ باللهِ؛ لِيُعرِضَ المسلِمونَ عن إيذائِهم- بَيَّنَ أيضًا هنا أنَّهم يحلِفونَ لِيَرضى المسلِمونَ عنهم، ثمَّ إنَّه تعالى نهى المُسلِمينَ عن أن يَرضَوا عنهم ، فقال:
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ.
أي: يحلِفُ هؤلاءِ المُنافِقونَ لكم- أيُّها المؤمِنونَ- بالكَذِبِ؛ مِن أجلِ أن ترضَوا عنهم، فتَستَديموا مُعاملَتَهم السَّابقةَ، كأنَّهم لم يُذنِبوا .
فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ.
أي: فإنْ تَرضَوا- أيُّها المؤمِنونَ- عن المُنافِقينَ، فَرِضاكم عنهم لا ينفَعُهم، ولا ينبغي لكم أن ترضَوا عنهم؛ فإنَّ اللهَ لا يرضَى عن القومِ الخارجينَ عن طاعَتِه
.
الفوائد التربوية:
1- قال اللهُ تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ مِن الفِقهِ في الآيةِ أنَّ مِن آدابِ الإسلامِ تحاميَ كلِّ ذَنبٍ أو تقصيرٍ يحتاجُ فاعِلُه إلى الاعتذارِ
.
2- العمَلُ هو ميزانُ الصِّدقِ مِن الكَذِبِ، وأمَّا مجرَّدُ الأقوالِ، فلا دلالةَ فيها على شيءٍ مِن ذلك، قال الله تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ .
3- في قَولِه تعالى: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إرشادٌ إلى أنَّه لا ينبغي لأحدٍ أنْ يزكِّيَ عملَه، وإنَّما يُفوِّضُه إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى .
4- في قَولِ الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ذكَرَ العِلَّةَ في وجوبِ الإعراضِ عنهم، فقال: إِنَّهُمْ رِجْسٌ والمعنى: أنَّ خُبثَ باطِنِهم رِجسٌ رُوحانيٌّ، فكما يجِبُ الاحترازُ عن الأرجاسِ الجُسمانيَّة، فوجوبُ الاحترازِ عن الأرجاسِ الرُّوحانيَّةِ أَولى؛ خَوفًا من سَرَيانِها إلى الإنسانِ، وحَذرًا مِن أن يميلَ طَبعُ الإنسانِ إلى تلك الأعمالِ .
5- قال الله تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ فإن رَضِيَ المسلِمونَ عنهم وأعرضوا عن لَوْمِهم؛ فإنَّ اللهَ لا يرضى عن المُنافِقينَ، وهذا تحذيرٌ للمُسلِمينَ من الرِّضا عن المُنافِقينَ بطريقِ الكِنايةِ؛ إذ قد عَلِمَ المُسلِمونَ أنَّ ما لا يُرضي اللهَ، لا يكونُ للمُسلِمينَ أن يرضَوا به
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- في قولِه تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ حجةٌ في تَرْكِ قَبولِ الاعتذارِ ممَّن يُعْرَفُ كَذِبُهُ، بأيِّ وجهٍ عُرِفَ منه؛ بعد أنْ يكونَ يقينًا
.
2- قَولُ اللهِ تعالى: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّةِ لله، الواقعةِ بمشيئتِه تعالى وقُدرَتِه .
3- لم يُذكرِ المُؤمِنونَ في قَولِه تعالى: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ لأنَّ هذا خِطابٌ للمُنافِقينَ؛ وهم لم يَكونوا يُطْلِعونَ المؤمِنينَ على ما في بُطونِهم .
4- قَولُ اللهِ تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ فيه إثباتُ الرِّضا لله عن المُحسِنينَ، والغضَبِ والسَّخَطِ على الفاسقينَ .
5- في قولِه تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ دليلٌ على أنَّ مَن لم يُقْبَلْ عُذْرُه مِن الكذَّابين بغيرِ يمينٍ؛ فحَلَفَ قُبِلَ منه؛ لأنَّ اللهَ تبارك وتعالى لم يأمرْ برَدِّ اليمينِ عليهم، كما أَمَرَ برَدِّ الاعتذارِ، حيث قال سبحانه: قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ، فإنَّما أخْبَر سبحانَه عن نفسِه بأنَّه لا يرضَى عنهم- وإنْ رضِي عنهم المحلوفُ له- ويؤيدُ هذا المعنَى حديثُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن حَلَفَ بالله فلْيَصْدُقْ، ومَن حُلِفَ له بالله فلْيَرْضَ، ومَن لم يَرْضَ بالله فليس مِن الله )) ، فالمُتَعَذَّرُ إليه ينبغي له أنْ يَقْبَلَ يمينَ المعتذرِ على الظاهر؛ ويَكِلَ سريرتَه إلى الله تعالى .
6- قَولُ الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لم يُذكَرِ المحلوفُ عليه؛ للدَّلالةِ على شُمولِه لكُلِّ ما يُعتَذرُ عنه .
7- في قَولِه تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ دَلالةٌ على أنَّ أحكامَ الإسلامِ تجري على الظَّاهِرِ؛ فلم يَجعَلِ اللهُ تعالى لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يقضِيَ عليهم في الدُّنيا بخلافِ ما أظهَروا، وقد جعلَ اللهُ حُكْمَه عليهم على سرائِرِهم، فأعلَمَ نبيَّه أنَّهم في الدَّركِ الأسفَلِ مِن النَّارِ، وجعَلَ حُكْمَ نبيِّه عليهم في الدُّنيا على علانِيَتِهم، بإظهارِ التَّوبةِ وما قامَتْ عليه بيِّنَةٌ من المسلِمينَ، وبما أقرُّوا بِقَولِه، وبما جَحَدوا به .
8- المنافقونَ هم أخبثُ بني آدَمَ وأقذَرُهم وأرذَلُهم؛ فقد قال تعالى واصفًا لهم: إِنَّهُمْ رِجْسٌ والرِّجسُ مِن كُلِّ جِنسٍ أخبَثُه وأقذرُه .
9- قال الله تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ هذه الآيةُ وما قَبْلَها دليلٌ على أنَّ المنافِقينَ تُحقَنُ دِماؤُهم؛ بسبَبِ الشَّهادَتينِ، ولا تجوزُ مُوالاتُهم والرِّضا عنهم .
10- قَولُه تعالى: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ شرطٌ يتضَمَّنُ النَّهيَ عن الرِّضا عنهم، وحُكمُ هذه الآيةِ يستمِرُّ في كلِّ مَغموصٍ عليه ببدعةٍ ونَحوِها، فإنَّ المؤمِنَ ينبغي أن يُبغِضَه، ولا يرضَى عنه لسبَبٍ مِن أسبابِ الدُّنيا .
11- في قَولِه تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ إرشادٌ إلى أنَّ رِضا المُسلِمينَ عن القَومِ الفاسِقينَ، ليس مِمَّا يُحبُّه اللهُ ويَرضاه، وهو سُبحانَه لا يرضَى عنهم
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
قولُه: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ استِئْنافٌ لِبَيانِ ما يتَصدَّرون له عِندَ القُفولِ إليهِم
.
قولُه: قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا تَخْصيصُ هذا الخِطابِ برسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ تَعميمِه فيما سبَق لأصحابِه أيضًا؛ لأنَّ الجوابَ وظيفتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَّا اعتِذارُهم فكان شامِلًا للمُسلمين شُمولَ الرُّجوعِ لهم .
قولُه: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ استِئْنافٌ تعليليٌّ للنَّهيِ: لَا تَعْتَذِرُوا، مبنيٌّ على سؤالٍ نشَأ مِن قِبَلِهم، مُتفرِّعٍ على ادِّعاءِ الصِّدقِ في الاعتِذارِ، كأنَّهم قالوا: لِمَ لا نَعتَذِرُ؟ فقيل: لأنَّا لا نُصدِّقُكم أبدًا ؛ فالجُملةُ علَّةٌ للنَّهيِ عَن الاعتِذارِ؛ لأنَّ غرَضَ المعتَذِرِ أن يُصدَّقَ فيما يَعتَذِرُ به، فإذا علِم أنَّه لا يُصدَّقُ، ترَك الاعتذارَ .
قولُه: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ جمَعَ ضميرَ المتكلِّمِ في نُؤْمِنَ- نَبَّأَنَا؛ للمُبالَغةِ في حَسْمِ أطماعِهِم مِن التَّصديقِ رأسًا؛ ببَيانِ عدَمِ رَواجِ اعتِذارِهم عندَ أحَدٍ مِن المؤمِنين أصلًا .
قولُه: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ تعليلٌ لنفيِ تَصْديقِهم، أي: قد نبَّأَنا اللهُ مِن أخبارِكم بما يَقْتَضي تَكذيبَكم ، وهذه الجُملَةُ علَّةٌ لانتِفاءِ تَصْديقِهم؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ إذا أوحَى إلى رسولِه الإعلامَ بأخبارِهم، وما في ضَمائرِهم مِن الشَّرِّ والفسادِ، لم يَستَقِمْ معَ ذلك تَصديقُهم في مَعاذيرِهم .
قولُه: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ تقديمُ مَفعولِ الرُّؤيةِ عَمَلَكُمْ على ورَسُولُهُ المعطوفِ على الفاعِلِ اللَّهُ؛ للإيذانِ باختلافِ حالِ الرُّؤيتَينِ وتَفاوُتِهما، وللإشعارِ بأنَّ مَدارَ الوعيدِ هو عِلمُه عزَّ وجلَّ بأعمالِهم .
قولُه: ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فيه وَضْعُ المُظهَرِ عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ مَوضِعَ المُضمَرِ- حيثُ لم يَقُلْ: (إليه)- لِتَشديدِ الوَعيدِ؛ فإنَّ عِلمَه سُبحانَه وتَعالى بجَميعِ أعمالِهم الظَّاهرةِ والباطنةِ، وإحاطتَه بأحوالِهم البارزةِ والكامِنةِ ممَّا يوجِبُ الزَّجرَ العَظيمَ ، ففي الإظهارِ تنبيهٌ على أنَّه لا يَعزُبُ عنه شيءٌ مِن أعمالِهم، زيادةً في التَّرغيبِ والتَّرهيبِ؛ ليعلَموا أنَّه لا يخفى على اللهِ شَيءٌ .
2- قولُه تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
قولُه: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ... الجُملةُ مُستأنَفةٌ ابتِدائيَّةٌ، تَعْدادٌ لأحوالِهم، ومَعناها ناشئٌ عن مضمونِ جُملةِ لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ؛ تنبيهًا على أنَّهم لا يَرْعَوُون عَن الكذبِ، ومُخادَعةِ المسلِمين .
قولُه: إِنَّهُمْ رِجْسٌ تعليلٌ للأمرِ بالإعراضِ، ووُقوعُ (إنَّ) في أوَّلِها مُؤْذِنٌ بمَعنى التَّعليلِ ؛ فالجُملةُ تَعليلٌ لِتَرْكِ مُعاتبَتِهم، يَعْني: أنَّ المُعاتَبةَ لا تَنفَعُ فيهم ولا تُصلحُهم، إنَّما يُعاتَبُ الأديمُ ذو البَشَرةِ ، والمؤمنُ يُوبَّخُ على زَلَّةٍ تَفرُطُ منه؛ ليُطهِّرَه التوبيخُ بالحملِ على التَّوبةِ والاستغفارِ، وأمَّا هؤلاء فأرجاسٌ لا سبيلَ إلى تَطهيرِهم .
والإعراضُ في قَوله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُم إعراضُ إهانةٍ واحتقارٍ، لا إعراضُ صَفحٍ وإعذارٍ، وهذا التعبيرُ مِن أسلوبِ الحَكيمِ: وهو قَبولُ ما يَبغونَ من الإعراضِ عنهم، ولكِنْ على غيرِ الوَجهِ الذي يرجونَه منه، بل على ضِدِّه .
3- قولُه تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ فيه احتراسٌ؛ لئلَّا يَتوهَّمَ مُتوهِّمٌ أنَّ رِضا المؤمنين يَقتضِي رِضَا الله عنهم .
قوله: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ على القولِ بأنَّ المرادَ به النهيُ؛ فيكون فيه نهيُ المُخاطَبِينَ عن الرِّضا عنهم، والاغتِرارِ بمعاذيرِهم الكاذبةِ على أَبلغِ وجهٍ وآكدِه؛ فإنَّ الرِّضا عمَّن لا يَرضَى عنه الله تعالى ممَّا لا يَكادُ يصدُرُ عن المؤمنِ ؛ فأبرز النَّهيَ عن الرِّضا في صورةٍ شَرطيَّةٍ، لأنَّ الرِّضا مِن الأمورِ القَلبيَّةِ التي تَخفَى، وخرَج مخرجَ المتردِّدِ فيه، وجُعِلَ جوابُه انتفاءَ رضا الله عنهم؛ فصار رضا المؤمنين عنهم أبعدَ شيءٍ في الوقوعِ؛ لأنَّه معلومٌ منهم أنَّهم لا يَرْضَونَ عمَّن لا يَرضَى اللهُ عنهم ، وهو أيضًا تحذيرٌ للمُسلِمينَ مِن الرِّضا عن المُنافِقين بطريقِ الكنايةِ؛ إذ قد علم المسلمون أنَّ ما لا يُرضِي اللهَ لا يكونُ للمُسلِمينَ أن يَرْضَوْا به .
قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ فيه وضْعُ المُظهَرِ عَنِ الْقَوْمِ الفَاسِقِينَ مَوضِعَ ضَميرِهم (عنهم)؛ فعدَل عن الإتيانِ بضَميرِ (هم) إلى التَّعبيرِ بصِفتِهم؛ للتسجيل عليهم بالخُروجِ عن الطاعةِ، المُستوجِبِ لِمَا حلَّ بهم مِن السُّخطِ، وللإيذانِ بشُمولِ الحُكمِ لِمَن شارَكهم في ذلك الفسق؛ ففيه دَلالةٌ على ذَمِّهم، وتَعليلِ عَدمِ الرِّضا عنهم؛ فاشتملَ الكلامُ على خبَرٍ وعلى دَليلِه؛ فأفاد مَفادَ كلامَينِ؛ إذ التقديرُ: (فإنْ تَرْضَوا عنهم فإنَّ الله لا يَرضَى عنهم؛ لأنَّ الله لا يَرضَى عن القومِ الفاسِقين) ، وأيضًا ليدُلَّ ذلك على أنَّ بابَ التوبةِ مَفتوحٌ، وأنَّهم مهما تابوا هم أو غيرُهم، فإنَّ الله يتوبُ عليهم، ويرضَى عنهم، وأمَّا ما داموا فاسِقينَ، فإنَّ اللهَ لا يرضَى عليهم، لوجودِ المانِعِ مِن رضاه، وهو خروجُهم عمَّا رَضِيَه اللهُ لهم من الإيمانِ والطَّاعةِ، إلى ما يُغضِبُه من الشِّرك، والنِّفاقِ، والمعاصي .
======================
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (97-98)
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ
غريب الكلمات:
مَغْرَمًا: أي: غُرمًا وخُسرانًا، وأصلُ (غرم): يدلُّ على مُلازمةٍ
.
وَيَتَرَبَّصُ: أي: ينتَظِرُ، وأصلُ التربُّصِ: الانتظارُ والتمَكُّثُ .
الدَّوَائِرَ: أي: دوائِرَ الزَّمانِ بالمَكروهِ. ودوائِرُ الزَّمانِ: صُروفُه التي تأتي مرَّةً بخيرٍ ومرَّةً بشَرٍّ. والدائرةُ تكونُ في المَكروهِ، وأصلُ (دور): يدلُّ على إحداقِ الشَّيءِ بالشَّيءِ مِن حوالَيه
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ تعالى أنَّ الأعرابَ أشَدُّ كُفرًا باللهِ، وأشَدُّ نِفاقًا مِن كُفَّارِ ومُنافِقي أهلِ الحضَرِ، وأَولى وأحرى ألَّا يَعلَموا الحلالَ والحَرامَ، والشَّرائِعَ التي أنزَلَها اللهُ على رَسولِه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واللهُ عليمٌ حَكيمٌ.
ويُخبِرُ أنَّ مِن الأعرابِ مَن يحتَسِبُ ما يُنفِقُه في الخيرِ غُرمًا وخَسارةً، فيُنفِقُ وهو كارهٌ، لا يرجو ثوابًا عندَ الله تعالى، ويتربَّصُ بالمُسلِمينَ المصائِبَ، واختلالَ الأمورِ، وغَلَبةَ الأعداءِ عليهم، جعَلَ اللهُ عليهم وَحْدَهم المصائِبَ التي تَسوؤُهم، وتُفسِدُ أمورَهم، واللهُ سَميعٌ عَليمٌ.
تفسير الآيتين:
الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ عَزَّ وجَلَّ أحوالَ المُنافِقينَ بالمدينةِ؛ ذكَرَ مَن كان خارجًا منها، ونائيًا عنها مِن الأعرابِ
.
وأيضًا لَمَّا رتَّبَ اللهُ سُبحانه الاستئذانَ في القُعودِ، والرِّضا بما فيه من الدَّناءةِ، على عدَمِ الفِقهِ تارةً، والعِلمِ أُخرَى، وختَمَ بصِنفِ الأعرابِ؛ بيَّنَ أنَّ الأعرابَ أوْلَى بذلك؛ لِكَونِهم أعرَقَ في هذا الوصفِ، وأجرأَ على الفِسقِ؛ لبُعدِهم عن مَعدِنِ العِلمِ، وصَرفِهم أفكارَهم في غير ذلك مِن أنواع المَخازي لتحصيلِ المال، الذي كلَّما داروا عليه طار عنهم فأبعَدَ، فهم لا يزالونَ في همِّه، قد شغَلَهم ذلك عن كُلِّ هَمٍّ، وهم يحسَبونَ أنَّهم يُحسِنونَ صُنعًا .
الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا.
أي: سُكَّانُ البوادي أشَدُّ كُفرًا باللهِ، وأشَدُّ نِفاقًا، مِن كفَّارِ ومُنافقي أهلِ الحضَرِ في المُدنِ والقُرى .
وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ.
أي: والأعرابُ أَوْلى وأحرَى بألَّا يَعلَموا الحلالَ والحرامَ، والشَّرائِعَ التي أنزَلَها اللهُ على رَسولِه محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أي: واللهُ عليمٌ بخَلقِه، لا يخفى عليه شيءٌ مِن أحوالِهم، فيعلَمُ مُنافِقَهم وكافِرَهم، ويَعلَمُ مَن يستحِقُّ أن يُعلِّمَه منهم العِلمَ والإيمانَ، ممَّن لا يستحِقُّ، كأولئك الأعرابِ، حكيمٌ في تدبيرِ خَلْقِه ومُجازاتِهم، فيضَعُ كُلَّ شَيءٍ في موضِعِه اللَّائِقِ به .
وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا.
أي: ومِن سُكَّانِ البوادي من يَعُدُّ ما يُنفِقُه في الخيرِ غُرمًا ونَقصًا وخَسارةً، فيُنفِقُ ما يُنفِقُ مُكرَهًا لا يرجو ثوابَه عند اللهِ تعالى .
وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ.
أي: ومِن الأعرابِ مَن ينتَظِرُ أن تحُلَّ بكم- أيُّها المُسلِمونَ- المصائِبَ، واختلالَ الأمورِ، وغَلَبةَ الأعداءِ عليكم .
عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ.
أي: جعَلَ اللهُ على الأعرابِ المُنافِقينَ- وَحْدَهم- المصائِبَ التي تَسوؤُهم، وتُفسِدُ أمورَهم، لا عليكم أيُّها المؤمِنونَ .
كما قال تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح: 6] .
وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي: واللهُ سَميعٌ لأقوالِ عِبادِه من الأعرابِ المُنافِقينَ وغَيرِهم، عليمٌ ببواطِنِهم، عليمٌ بتَدبيرِهم، وبمن يستحِقُّ منهم النَّصرَ، ومَن يستحِقُّ الخِذلانَ
.
الفوائد التربوية:
1- في قَولِه تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فضيلةُ العِلمِ، وأنَّ فاقِدَه أقربُ إلى الشرِّ ممَّن يَعرِفُه؛ لأنَّ اللهَ ذَمَّ الأعرابَ، وأخبَرَ أنَّهم أشَدُّ كُفرًا ونِفاقًا، وذكرَ السَّبَب الموجِبَ لذلك، وأنَّهم أجدَرُ ألَّا يَعلَموا حدودَ ما أنزَلَ اللهُ على رسولِه
.
2- في قَولِه تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أنَّ العِلمَ النَّافِعَ الذي هو أنفَعُ العلومِ، معرفةُ حُدودِ ما أنزَلَ الله على رسولِه، من أصولِ الدِّينِ وفُروعِه؛ كمَعرفةِ حُدودِ الإيمانِ والإسلامِ والإحسانِ، والتَّقوى والفَلاحِ، والطَّاعةِ والبِرِّ، والصِّلةِ والإحسانِ، والكُفرِ والنِّفاقِ، والفُسوقِ والعِصيانِ، والزِّنا والخَمرِ والرِّبا، ونحو ذلك؛ فإنَّ في معرفتها يتمَكَّنُ مِن فِعْلِها- إن كانت مأمورًا بها- أو تَرْكِها- إن كانت محظورةً- ومِن الأمرِ بها، أو النَّهيِ عنها .
3- لَمَّا ذكر اللهُ المُنافِقينَ الذين استأذَنُوه في التخلُّفِ عن الجهادِ في غزوةِ تَبوكَ، وذَمَّهم، وهؤلاء كانوا من أهلِ المَدينةِ؛ قال سبحانه: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ؛ فإنَّ الخَيرَ كُلَّه- أصلَه وفَصْلَه- مُنحصِرٌ في العلمِ والإيمانِ كما قال سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ [الروم: 56] وضِدُّ الإيمانِ: إمَّا الكُفرُ الظَّاهِرُ، أو النِّفاقُ الباطِنُ، ونقيضُ العِلمِ: عَدَمُه
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- في قَولِه تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا أنَّ الكُفرَ والنِّفاقَ يَزيدُ وينقُصُ، ويَغلُظُ ويخِفُّ بحسَبِ الأحوالِ
.
2- قَولُ اللهِ تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ إن كان اللهُ تعالى قد وصفَ العرَبَ بالجهلِ في القرآنِ، بِقَولِه تعالى: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فكيف يصيرُ الاحتجاجُ بألفاظِهم وأشعارِهم على كتابِ اللهِ تعالى وسنَّةِ رَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؟ فالجواب: هذا وصفٌ مِن اللهِ تعالى لهم بالجَهلِ في أحكامِ القُرآنِ لا في ألفاظِه، ونحن لا نحتَجُّ بلُغَتِهم في بيانِ الأحكامِ، بل نحتَجُّ بلُغَتِهم في بيانِ مَعاني الألفاظِ؛ لأنَّ القُرآنَ والسنَّةَ جاءا بلُغَتِهم .
3- قال الله تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَمَّا كانت الغِلظةُ والجَفاءُ في أهلِ البوادي، لم يبعَثِ اللهُ منهم رسولًا، وإنما كانت البَعثةُ مِن أهلِ القُرى، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى .
4- في قَولِه تعالى عن الأعرابِ: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مدحٌ للحافِظينَ لِحُدودِ الله، وذَمٌّ لِمَن لا يعرفُ حدَّ الحَلالِ منَ الحَرامِ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ هؤلاء وإن كانوا من جملةِ مُنافقي الأعرابِ، فتخصيصُهم بالتَّقسيمِ هنا منظورٌ فيه إلى ما اختُصُّوا به من أحوالِ النِّفاقِ؛ لأنَّ التَّقاسيمَ في المقاماتِ الخِطابيَّةِ والمجادلاتِ، تعتمِدُ اختلافًا ما في أحوالِ المُقَسِّم، ولا يُعبأُ فيها بدخولِ القسمِ في قَسيمِه
.
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ استِئنافٌ ابتِدائيٌّ رجَع به الكلامُ إلى أحوالِ (المُعذِّرين مِن الأعرابِ)، و(الَّذين كذَبوا اللهَ ورسولَه مِنهم)، وما بينَ ذلك استِطرادٌ دَعا إليه قَرْنُ الَّذين كذَبوا اللهَ ورسولَه في الذِّكرِ معَ الأعرابِ، فلمَّا تَقضَّى الكلامُ على أولئك تخلَّص إلى بقيَّةِ أحوالِ الأعرابِ؛ وللتَّنبيهِ على اتِّصالِ الغرَضَينِ وقعَ تَقديمُ المسنَدِ إليه، وهو لفظُ الْأَعْرَابُ؛ للاهتِمامِ به مِن هذه الجِهَةِ، ومِن وراءِ ذلك تنبيهُ المسلِمين لأحوالِ الأعرابِ؛ لأنَّهم لِبُعدِهم عَن الاحتِكاكِ بهم، والمُخالَطةِ معَهم قد تَخْفَى عليهم أحوالُهم، ويَظُنُّون بجَميعِهم خيرًا
.
وإنَّما أعادَ هذه الأحكامَ؛ لأنَّ المقصودَ مِنها مُخاطَبةُ مُنافِقي الأعرابِ؛ ولهذا السَّببِ بيَّن أنَّ كُفرَهم ونِفاقَهم أشدُّ، وجَهْلَهم بحُدودِ ما أنزَل اللهُ أكمَلُ .
ولفظةُ الْأَعْرَابُ لفظةٌ عامَّةٌ، ومَعْناها الخُصوصُ، وهم جَمعٌ مُعيَّنون مِن مُنافِقي الأعرابِ، كانوا يُوالون مُنافِقي المدينةِ، فانصرَف هذا اللَّفظُ إليهم، وهذا مَعلومٌ بالوُجودِ، وكيف كان الأمرُ، وهو مِن بابِ وصْفِ الجِنْسِ بأحَدِ أفرادِه أو بَعضِهم؛ كما في قولِه تعالى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] ؛ إذ ليس كلُّهم كما ذُكِر .
وجملةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْييلٌ لهذا الإفصاحِ عَن دَخيلَةِ الأعرابِ وخُلقِهم، أي: عليمٌ بهِم وبِغَيرِهم، وحَكيمٌ في تَمييزِ مَراتبِهم .
2- قوله تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
قوله: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ السَّوْءِ بالفَتحِ مصدرٌ، وأُضيفَ إلى الدَّائرةِ- الَّتي هي في الأصلِ مصدرٌ أو اسمُ فاعلٍ، مِن دارَ يَدورُ، وسُمِّي به عاقبةُ الزَّمانِ (أي: حادثته) للمُبالَغةِ؛ مِثلُ: رَجُلُ صِدْقٍ . وقيلَ: معنى الدَّائرةِ يَقتَضي مَعنى السَّوْءِ؛ وإنَّما هي إضافةُ بيانٍ وتأكيدٍ، كما قالوا: شَمسُ النَّهارِ .
=================
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (99-100)
ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ
غريب الكلمات:
وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ: أي: دعاءَ الرَّسولِ واستغفارَه، وأصلُ (صلى): يدلُّ على الدُّعاءِ
.
المعنى الإجمالي:
يُبَيِّنُ تعالى أنَّ مِن الأعرابِ مَن يؤمِنُ باللهِ تعالى وبِيَومِ القيامةِ، ويحتَسِبُ ما يُنفِقُه في الخيرِ عند اللهِ، يرجو به القُرْبَ منه عزَّ وجلَّ، ويبتغي دعاءَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند أخْذِ الصَّدَقةِ منه، ألَا إنَّ دُعاءَ الرَّسولِ قُربةٌ عَظيمةٌ لهم، تُقَرِّبُهم إلى ربِّهم، سيُدخِلُهم ربُّهم في رَحمتِه؛ إنَّه غَفورٌ رَحيمٌ.
ثمَّ أخبَرَ الله تعالى أنَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذين سبَقوا بالإيمانِ مِن المُهاجِرينَ والأنصارِ، والتَّابعينَ لهم الذين سَلَكوا طريقَهم المُستَقيمَ في الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ؛ رَضِيَ الله عنهم، ورَضُوا عنه، وأعَدَّ لهم جنَّاتٍ تَجري من تحتِ أشجارِها ومبانيها الأنهارُ، لابثينَ فيها على الدَّوامِ، ذلك هو الفَوزُ العظيمُ.
تفسير الآيتين:
وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى أنَّه حصَلَ في الأعرابِ مَن يتَّخِذُ إنفاقَه في سبيلِ اللهِ مَغرمًا؛ بيَّنَ أيضًا أنَّ فيهم قومًا مُؤمِنينَ صالِحينَ مُجاهِدينَ، يتَّخِذُونَ إنفاقَهم في سبيلِ اللهِ مَغنمًا
، فقال:
وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.
أي: ومِن سُكَّانِ البوادي مَن يُؤمِنُ باللهِ تعالى، وبِيَومِ القيامةِ وما فيه من الثَّوابِ والعِقابِ .
وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ.
أي: ويحتَسِبُ ما يُنفِقُه في الخيرِ عندَ اللهِ، يرجو به القُرْبَ منه سُبحانَه وتعالى .
وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ.
أي: ويبتغي الأعرابُ المؤمِنونَ بنَفَقاتِهم أيضًا دعاءَ الرَّسولِ لهم عند أخْذِه صَدَقاتِهم .
كما قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 103] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ أبي أوفَى رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أتاه قومٌ بصَدَقتِهم قال: اللهُمَّ صَلِّ على آلِ فُلانٍ، فأتاه أبي بصَدَقتِه، فقال: اللهمَّ صَلِّ على آلِ أبي أوفى )) .
أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ.
أي: ألا إنَّ صلواتِ الرَّسولِ قُربةٌ عظيمةٌ لهم، تقرِّبُهم إلى الله تعالى .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: أنا عند ظَنِّ عبدي بي، وأنا معه حين يذكُرُني، إن ذَكَرني في نفسِه، ذكَرْتُه في نفسي، وإن ذكَرَني في ملأٍ، ذكرتُه في ملأٍ هم خَيرٌ منهم، وإن تقرَّبَ منِّي شِبرًا، تقرَّبتُ إليه ذِراعًا، وإن تقرَّبَ إليَّ ذِراعًا، تقرَّبتُ منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هَرولةً )) .
سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ.
أي: سيُدخِلُ اللهُ هؤلاء الأعرابَ المؤمنينَ في جملةِ عِبادِه المرحومينَ أصحابِ الجنَّةِ .
كما قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 27 - 30] .
إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ غفورٌ لذُنوبِهم فيَستُرُها لهم، ويتجاوَزُ عن مؤاخَذتِهم بها، رحيمٌ بهم في الدُّنيا والآخرةِ، فلا يعذِّبُهم، بل يُفيضُ عليهم نِعَمَه، ويوفِّقُهم للخيرِ، ويُثيبُهم عليه .
وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى فضائِلَ الأعرابِ الذين يتَّخِذونَ ما يُنفِقونَ قُرباتٍ عند اللهِ وصَلَواتِ الرَّسولِ، وما أعَدَّ لهم مِن الثَّوابِ؛ بيَّنَ أنَّ فوقَ مَنزلتِهم منازِلَ أعلى وأعظَمَ منها، وهي منازِلُ السَّابقينَ الأوَّلينَ ، فعقَّبَ بذِكرِ القُدوةِ الصَّالحةِ والمَثَل الكاملِ في الإيمانِ والفَضائِلِ، والنُّصرةِ في سَبيلِ الله؛ لِيَحتَذيَ متطلِّبُ الصَّلاحِ حَذْوَهم، ولئلَّا يخلوَ تقسيمُ القبائِلِ السَّاكنةِ بالمَدينةِ وحَوالَيها وبَواديها، عن ذِكرِ أفضَلِ الأقسامِ تَنويهًا به، وبهذا تمَّ استقراءُ الفِرَقِ وأحوالِها .
وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ .
أي: وأصحابُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذين سَبَقوا المُسلِمينَ أوَّلًا إلى الإيمانِ، مِن الذين تركوا قومَهم، وفارَقُوا أوطانَهم، ومِن أهلِ المدينةِ الذين نَصَروا الرَّسولَ على الكافرينَ، وآوَوْا أصحابَه المهاجِرينَ .
كما قال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 8-9] .
وعن غَيلانَ بنِ جَريرٍ، قال: قلتُ لأنَسِ بنِ مالكٍ: (أرأيتَ اسمَ الأنصارِ، كُنتُم تُسَمَّونَ به أم سمَّاكم اللهُ؟ قال: بل سَمَّانا اللهُ عَزَّ وجَلَّ) .
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ.
أي: والتَّابعونَ للسَّابِقينَ مِن المهاجِرينَ والأنصارِ، الذين سَلَكوا طريقَهم المستقيمَ في الإيمانِ، والعمَلِ الصَّالحِ .
كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] .
رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ.
أي: رَضِيَ اللهُ عن الصَّحابةِ السَّابقينَ، والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ، لِمَا أطاعُوه، ورَضُوا هم عن اللهِ؛ لما أنعَمَ عليهم في الدُّنيا، وأثابَهم في الآخرةِ .
كما قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] .
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ.
أي: وهيَّأَ اللهُ تعالى لأصحابِ النبيِّ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ، جَنَّاتٍ في الدَّارِ الآخرةِ تجري تحت أشجارِها وغُرَفِها وقصورِها الأنهارُ .
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
أي: لابثينَ فيها على الدَّوامِ بلا انتهاءٍ، فلا يموتونَ فيها، ولا عنها ينتَقِلونَ .
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
أي: دُخولُ الجنَّةِ والخلودُ فيها أعظَمُ فَوزٍ يحصُلُ به كلُّ مرغوبٍ، وينَدفِعُ به كلُّ مَحذورٍ
.
الفوائد التربوية:
1- قال اللهُ تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ينبغي للمؤمِنِ أن يؤدِّيَ ما عليه من الحُقوقِ، مُنشرِحَ الصَّدرِ، مطمَئِنَّ النَّفسِ، ويحرِصَ أن تكونَ مَغنَمًا، لا مَغرمًا
.
2- في قوله تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ مع قوله سبحانه: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ حجةٌ في إبطالِ أعمالِ الرياءِ، وإحباطِ أَجْرِ النفقةِ إذا لم تُحْتَسَبْ، وفيه الحَثُّ على استشعارِ الاحتسابِ فيها، واتِّخاذِها قُرْبَةً .
3- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ إرشادٌ كريمٌ إلى أنَّه لا يُكتَفى بمجَرَّدِ الدَّعوَى في اتِّباعِ الصَّحابةِ الكِرامِ، وإنَّما لا بدَّ أنْ يكونَ المتَّبِعُ مُحسِنًا بأداءِ الفَرائِضِ، واجتنابِ المَحارِمِ؛ لئلَّا يقَعَ الاغترارُ بمجَرَّدِ الموافَقةِ بالقَولِ .
4- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ إرشادٌ كريمٌ إلى أنْ يُحسِنَ المُتَّبِعُ لهم القولَ فيهم، ولا يقدَحَ فيهم، وقد اشتَرَط اللهُ ذلك؛ لعِلْمِه بأنَّه سيكون أقوامٌ ينالونَ منهم، وهذا مِثلُ قَولِه تعالى بعد أنْ ذكَرَ المُهاجِرينَ والأنصارَ: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
[الحشر: 10] .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- لا بدَّ في جميعِ الطَّاعاتِ مِن تقَدُّمِ الإيمانِ؛ قال اللهُ تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ
.
2- قال الله تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ في هذه الآيةِ دَليلٌ على أنَّ الأعرابَ كأهلِ الحاضِرةِ؛ منهم الممدوحُ، ومنهم المذمومُ، فلم يذُمَّهم اللهُ على مجرَّدِ تَعَرُّبِهم وباديَتِهم، إنَّما ذَمَّهم على تَرْكِ أوامِرِ الله، وأنَّهم في مَظِنَّةِ ذلك .
3- قوله تعالى: وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ جُمِعَ قُرُبات باعتبارِ تعدُّدِ الإنفاقِ، فكُلُّ إنفاقٍ هو قُربةٌ عند الله؛ لأنَّه يُوجِبُ زيادةَ القُرْبِ .
4- قوله تعالى: وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ جُمِعَت كلمةُ (صلوات)؛ لأنَّ كلَّ إنفاقٍ يقَدِّمونَه إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعو لهم بسبَبِه دعوةً، فبتكَرُّرِ الإنفاقِ تتكرَّرُ الصَّلاةُ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ فيه تفضيلُ السَّابقِ إلى الإسلامِ والهِجرةِ، وأنَّ السَّابقينَ مِن الصَّحابةِ أفضَلُ ممَّن تلاهم .
6- قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أخبَرَ اللهُ العظيمُ أنَّه قد رَضِيَ عن السَّابقينَ الأوَّلينَ مِن المهاجِرينَ والأنصارِ والذين اتَّبَعوهم بإحسانٍ، فيا ويلَ مَن أبغَضَهم أو سبَّهم، أو أبغَضَ أو سَبَّ بَعضَهم!
ولا سيَّما سيِّدُ الصَّحابةِ بعد الرَّسولِ وخَيرُهم وأفضَلُهم، الصِّدِّيقُ الأكبَرُ، والخليفةُ الأعظَمُ أبو بكرِ بنُ أبي قُحافةَ، رَضِيَ اللهُ عنه وأَرضاه؛ فإنَّ الطَّائفةَ المَخذولةَ مِن الرَّافضةِ يعادُونَ أفضَلَ الصَّحابةِ، ويُبغِضُونَهم ويَسُبُّونَهم، عياذًا باللهِ من ذلك. وهذا يدلُّ على أنَّ عُقولَهم مَعكوسةٌ، وقلوبَهم مَنكوسةٌ، فأين هؤلاء من الإيمانِ بالقُرآنِ، إذ يسُبُّونَ مَن رَضِيَ اللهُ عنهم؟! وأمَّا أهلُ السنَّةِ فإنَّهم يترَضَّونَ عَمَّن رَضِيَ الله عنه، ويَسبُّونَ مَن سَبَّه اللهُ ورَسولُه، ويُوالونَ مَن يوالي اللهَ، ويُعادونَ مَن يُعادي اللهَ، وهم مُتَّبِعونَ لا مُبتدِعونَ، ويقتَدونَ ولا يَبتَدُونَ؛ ولهذا هم حِزبُ اللهِ المُفلِحونَ، وعِبادُه المؤمِنونَ .
7- قَولُ الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ يدخُلُ في هذا اللَّفظِ التَّابِعونَ، وسائِرُ الأمَّةِ، لكِنْ بِشَرطِ الإحسانِ .
8- دلَّ قولُه تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ على وجوبِ اتِّباعِ الصَّحابةِ الكِرامِ، ووجهُ الدَّلالةِ أنَّ اللهَ تعالى أثنى على مَن اتَّبَعَهم، فإذا قالوا قولًا فاتَّبَعَهم متَّبِعٌ عليه قبل أنْ يَعرِفَ صِحَّتَه، فهو متَّبِعٌ لهم، فيجِبُ أنْ يكون محمودًا على ذلك، وأنْ يستحِقَّ الرِّضوانَ .
9- اقتضى قولُه تعالى: اتَّبَعُوهُمْ الثناءَ على مَن يتَّبِعُ كلَّ واحدٍ منهم؛ لأنَّه حُكْمٌ عُلِّقَ عليهم، فقد تناولَهم مجتَمِعينَ ومُنفَرِدينَ، والأصلُ في الأحكامِ المعَلَّقةِ بأسماءٍ عامَّةٍ ثُبوتُها لكُلِّ فردٍ مِن تلك المسَمَّياتِ .
10- اللهُ سُبحانه رَضِيَ عن الصَّحابةِ السَّابقِينَ رِضًا مُطلقًا، بِقَولِه تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ فَرَضِيَ عن السَّابقينَ مِن غَيرِ اشتراطِ إحسانٍ، ولم يرضَ عن التَّابعينَ إلَّا أن يتَّبِعوهم بإحسانٍ وقال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] .
11- دلَّ قولُه تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أنَّهم مِن أهلِ الثَّوابِ في الآخرةِ؛ وأنَّهم يموتونَ على الإيمانِ الذي به يستحِقُّونَ ذلك، فالرِّضا مِن اللهِ صِفةٌ أَزَليَّةٌ؛ فلا يرضى إلَّا عن عبدٍ عَلِمَ أنَّه يُوافِقُه على مُوجِبات الرِّضا، ومَن رَضِيَ اللهُ عنه لم يسخَطْ عليه أبدًا .
12- كلُّ مَن أخبَرَ اللهُ أنَّه رَضِيَ عنه؛ فإنَّه مِن أهلِ الجنَّةِ- وإنْ كان رِضاه عنه بعد إيمانِه وعملِه الصَّالحِ- فإنه يَذْكُرُ ذلك في مَعْرِضِ الثَّناءِ عليه والمَدحِ له، فلو علِمَ أنَّه يَتعقَّبُ ذلك ما يُسخِطُ الرَّبَّ، لم يكن مِن أهلِ ذلك
.
بلاغة الآيتين:
قولُه تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ؛ فإنَّه لَمَّا ذكَر تعالى مَن يتَّخِذُ ما يُنفِقُ مَغرَمًا في قولِه: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا- ذَكَر مُقابِلَه، وهو مَن يتَّخِذُ ما يُنفِقُ مَغنَمًا: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ، وذَكَر هنا الأصلَ الَّذي يتَرتَّبُ عليه إنفاقُ المالِ في القُرباتِ، وهو الإيمانُ باللهِ واليومِ الآخِرِ؛ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ إذ جَزاءُ ما يُنفِقُ إنَّما يَظهَرُ ثوابُه الدَّائمُ في الآخِرَةِ، وفي قصَّةِ أولئك اكتَفى بذِكْرِ نَتيجةِ الكُفرِ، وعدَمِ الإيمانِ، وهو اتِّخاذُه ما يُنفِقُ مَغرَمًا، وتَربُّصُه بالمؤمِنينَ الدَّوائِرَ، فقال: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ
.
قولُه: أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ في استِئْنافِ هذه الجُملةِ، وتَصديرِها بحَرفَيِ التَّنبيهِ والتَّحقيقِ (ألَا، إنَّ)، المُؤْذِنَينِ بثَباتِ الأمرِ وتمكُّنِه: شهادةٌ مِن اللهِ بصِحَّةِ ما اعتَقَده مِن إنفاقِه، فهِي مُستَأنَفةٌ مَسوقةٌ مَساقَ البِشارةِ لهم بقَبولِ ما رَجَوه، ومِثلُه قولُه: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وما في السِّينِ مِن تَحقيقِ الوَعدِ .
وقولُه: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ أيضًا جملةٌ واقِعةٌ مَوقِعَ البيانِ لجُملَةِ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ؛ لأنَّ القُربةَ عِندَ اللهِ هي الدَّرَجاتُ العُلا ورِضْوانُه، وذلك مِن الرَّحمةِ .
وقَولُ اللهِ تعالى: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ هذا أبلَغُ مِن مِثلِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم برحمة منه [التوبة:21] ، فإنَّ معنَى إدخالِهم فيها أن يكونوا مَغْمورين فيها، وتكونَ هي محيطةً بهم، شاملةً لهم .
قولُه تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
في هذه الآيةِ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، فإنَّه تَعالى لَمَّا بَيَّن فَضائِلَ الأعرابِ المؤمِنين المتصَدِّقين، وما أعَدَّ لهم مِن النَّعيمِ، بيَّن حالَ هؤلاءِ السَّابِقين وما أعَدَّ لهم، وشَتَّانَ ما بينَ الإعدادَينِ والثَّناءَينِ؛ فهُناك قال: أَلَا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ، وهنا: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وهناك: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، وهنا: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ، وهناك ختَم: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وهنا: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .
وفيه تَقديمُ الْمُهَاجِرِينَ؛ لفَضلِهم وشرَفِهم .
وجملة: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خبَرٌ عَن السَّابِقُونَ، وتَقديمُ المُسنَدِ إليه وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ على خبَرِه الفِعليِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لقَصدِ التَّقوِّي والتَّأكيدِ .
قولُه: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث خالَفَت هذه الآيةُ أخَواتِها؛ إذ لم تُذكَرْ فيها (مِنْ) معَ (تَحْتَهَا)- في غالِبِ المَصاحِفِ، وفي رِوايةِ جُمهورِ القُرَّاءِ- فكانَت خالِيةً مِن التَّأكيدِ؛ إذ ليسَ لِحَرفِ (مِن) مَعنًى معَ أسماءِ الظُّروفِ إلَّا التَّأكيدُ، ويَكونُ خُلُوُّ الجملةِ مِن التَّأكيدِ؛ لِحُصولِ ما يُغْني عنه مِن إفادةِ التَّقوِّي بتَقديمِ المسنَدِ إليه على الخَبَرِ الفِعليِّ، ومِن فِعْلِ (أَعَدَّ) المُؤْذِنِ بكَمالِ العِنايةِ، فلا يَكونُ المعَدُّ إلَّا أكمَلَ نَوعِه .
قولُه: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ في التَّعبيرِ باسْمِ الإشارةِ وما فيه مِن مَعنى البُعدِ: بيانٌ لِبُعدِ مَنزلتِهم في مَراتِبِ الفضلِ، وعِظَمِ الدَّرجةِ مِن مُؤمِني الأعرابِ .
=======================
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (101-102)
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ
غريب الكلمات:
مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ: أي: عَتَوا فيه ومَرِنوا عليه، وأصلُ (مرد): يدلُّ على تجريدِ الشَّيءِ مِن قِشرِه، أو ما يعلوه مِن شَعْرِه
.
خَلَطُوا: أي: تعاطَوْا هذا مرَّةً وذاك مرَّةً، وأصلُ الخَلطِ: الجَمعُ بين أجزاءِ الشَّيئينِ
.
المعنى الإجمالي:
يقول اللهُ تعالى: إنَّ مِن سكانِ البوادي الذين حولَكم- أيُّها المسلمونَ- مُنافقينَ، ومن أهلِ المدينةِ النبويَّةِ منافِقونَ تَمَرَّنوا على النِّفاقِ حتى أصبَحَ سَجِيَّةً لهم، واستمَرُّوا عليه ولم يتوبوا، لا تعلَمُهم يا محمَّدُ، نحن نعلَمُهم، سنعَذِّبُهم مرَّتينِ: في الدُّنيا وفي القَبرِ، ثم يُردُّونَ إلى عذابٍ عَظيمٍ في نارِ جهنَّمَ.
وقومٌ آخرونَ أقرُّوا بذُنوبِهم، جمعوا عملًا صالحًا وعملًا سيِّئًا، لعلَّ اللهَ أن يقبَلَ تَوبتَهم؛ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ.
تفسير الآيتين:
وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا استوفى الأقسامَ الأربعةَ: قِسمَيِ الحضَرِ وقِسمَيِ البَدوِ، ثمَّ خلَطَ بين قِسمَينِ منهم تشريفًا للسَّابقِ، وتَرغيبًا للَّاحقِ؛ خلط بين الجميعِ على وجهٍ آخرَ، ثم ذكرَ منهم فِرَقًا؛ منهم مَن نجَزَ الحكم بجزائِه بإصرارٍ أو مَتابٍ. ومنهم من أخَّرَ أمْرَه إلى يومِ الحسابِ، وابتدأ الأقسامَ بالمستورِين الذين لا يعلمُهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ ليَعلمَ أهلُ ذلك القِسمِ أنَّه- سُبحانه- عالمٌ بالخفايا، فلا يزالوا أذلَّاءَ؛ خَوفًا ممَّا هدَّدَهم به
.
وأيضًا بعدَ أن بيَّنَ تعالى حالَ كَمَلةِ المؤمنينَ كُلِّهم؛ قفَّى عليه بذِكرِ مَرَدةِ المُنافِقينَ مِن أهلِ البَدوِ والحَضَر، وعطَفَهم عليهم من بابِ عَطفِ الضِّدِّ على الضِّدِّ .
وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ
أي: ومِن سكَّانِ البوادي الذين حولَ مَدينَتِكم- أيُّها المسلمونَ- مُنافِقونَ .
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ.
أي: ومِن أهلِ المدينةِ النَّبويَّةِ مُنافقونَ تمرَّنوا على النِّفاقِ، حتى أصبح سجيَّةً لهم مِن غيرِ تكلُّفٍ، ومَهَروا في إتقانِه، فلا يَشعُرُ به الآخرونَ، واستمرُّوا عليه، ولم يَتوبوا .
لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ.
أي: لا تعلَمُ- يا مُحمَّدُ- نفاقَ هؤلاءِ المَرَدةِ مِن المُنافِقينَ، ولكِنْ نحن نعلَمُهم .
سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ.
أي: سنعذِّبُ هؤلاء الذين مَرَدوا على النِّفاقِ، في الدُّنيا وفي القَبرِ .
ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ.
أي: ثم يُرَدُّ هؤلاء المُنافِقونَ بعد تعذيبِهم مرَّتينِ، إلى عذابٍ عظيمٍ في نارِ جَهنَّمَ .
كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] .
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن تعالَى حالَ المنافقينَ المتخَلِّفينَ عنِ الغَزاةِ؛ رغبةً عنها، وتكذيبًا وشَكًّا؛ شَرَع في بيانِ حالِ المذنِبينَ الَّذينَ تأخَّروا عنِ الجهادِ كَسَلًا وميلًا إِلى الرَّاحَةِ، معَ إيمانِهم وتصديقِهم بالحَقِّ ، فقال تعالى:
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا.
أي: وقومٌ آخَرونَ أقَرُّوا بذُنوبِهم بتخَلُّفِهم عن الجهادِ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوةِ تَبوكَ، جَمَعوا عملًا صالحًا بالتَّوبةِ وغَيرِها من الطَّاعاتِ، وعملًا سَيِّئًا بالتخَلُّفِ عن الجهادِ وغيرِ ذلك من المعاصي والسَّيِّئاتِ .
عن سَمُرةَ بنِ جُندَبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لنا: ((أتاني الليلةَ آتيانِ فابتَعَثاني، فانتهَينا إلى مدينةٍ مَبنيَّةٍ بلَبِنِ ذَهَبٍ، ولَبِنِ فِضَّةٍ، فتلقَّانا رجالٌ شَطرٌ مِن خَلْقِهم كأحسَنِ ما أنت راءٍ، وشطرٌ كأقبَحِ ما أنت راءٍ، قالا لهم: اذهَبُوا فقَعُوا في ذلك النَّهرِ، فوَقَعوا فيه، ثمَّ رَجَعوا إلينا، قد ذهَبَ ذلك السُّوءُ عنهم، فصاروا في أحسَنِ صُورةٍ، قالا لي: هذه جَنَّةُ عَدْنٍ، وهذاك مَنزِلُك، قالا: أمَّا القَومُ الذين كانوا شَطرٌ منهم حَسَنٌ، وشَطرٌ منهم قَبيحٌ، فإنَّهم خَلَطوا عملًا صالحًا وآخَرَ سَيِّئًا، تجاوَزَ اللهُ عنهم)) .
عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.
أي: سيقبلُ اللهُ توبةَ أولئك الذين اعتَرَفوا بذُنوبِهم .
إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ غَفورٌ يَستُرُ ذُنوبَ مَن تابَ إليه، ويتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها، رحيمٌ بهم، فلا يُعَذِّبُهم بها
.
كما قال عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر: 7-9] .
الفوائد التربوية:
قَولُه تعالى: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ استُدِلَّ بالآيةِ على أنَّه لا ينبغي الإقدامُ على دعوى معرفةِ الأمورِ الخَفيَّةِ من أعمالِ القَلبِ ونَحوِها
.
قال الله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذه الآيةُ دلَّت على أن المُخَلِّطَ الذي خلطَ الأعمالَ الصَّالحةَ بالأعمالِ السَّيِّئةِ؛ من التجرُّؤِ على بعضِ المُحَرَّمات، والتقصيرِ في بعضِ الواجِباتِ، مع الاعترافِ بذلك والنَّدَمِ، والرَّجاءِ بأن يغفِرَ اللهُ له- أنَّه تحت الخَوفِ والرَّجاءِ، وهو إلى السَّلامةِ أقرَبُ، وأمَّا المخَلِّطُ الذي لم يَعتَرِف ويَندَمْ على ما مضى منه، بل لا يزالُ مُصرًّا على الذُّنوبِ، فإنَّه يُخافُ عليه أشَدَّ الخَوفِ .
عن أبي عُثمانَ النَّهديِ قال: ما في القرآنِ آيةٌ أرجى عندي لهذه الأمَّةِ مِن قَولِه تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا... .
قال اللهُ تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا... هذه الآيةُ عامَّةٌ في كلِّ المُذنِبينَ الخاطئينَ المُخلِصينَ المُتَلوِّثينَ .
قال الله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مُجرَّدُ الاعترافِ بالذَّنبِ لا يكونُ تَوبةً، فأمَّا إذا اقتَرَن به النَّدمُ على الماضي، والعزمُ على ترْكِه في المستقبَلِ، وكان هذا النَّدمُ والتَّوبةُ لأجلِ كَونِه مَنهِيًّا عنه مِن قِبَلِ الله تعالى؛ كان هذا المجموعُ تَوبةً، فقَولُه تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يقتضي أنَّ هذه التَّوبةَ إنَّما تحصُلُ في المستقبَلِ. وقَولُه: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ دلَّ على أنَّ ذلك الاعترافَ حصل في الماضي، وذلك يدلُّ على أنَّ ذلك الاعترافَ ما كان نَفسَ التَّوبةِ، بل كان مُقَدِّمةً للتَّوبةِ، وأنَّ التَّوبةَ إنَّما تحصُلُ بَعدَها .
في قَولِه تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ بيانُ أنَّ اعترافَ المُذنِبِ بِذَنبِه مع النَّدَمِ عليه، هي توبةٌ مقبولةٌ؛ فإنَّ (عسى) من اللهِ واجِبةٌ
؛ لأنَّها إطماعٌ، ومَن أكرمُ مِن الله حتَّى يحقِّقَ ما أطمَع فيه عبدَه ؟!!
الفوائد العلمية واللطائف:
قال الله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ... العِبرةُ في هذا السِّياقِ أنَّ هؤلاءِ المُنافِقينَ فَريقانِ: فَريقٌ عُرِفوا بأقوالٍ قالوها، وأعمالٍ عَمِلوها، وفريقٌ مَرَدوا على النِّفاقِ وحَذِقوه، حتى صار أملَسَ ناعِمًا لا يكادُ يَشعُرُ أحَدٌ بِشَيءٍ يَستَنكِرُه منه، فيظهَر عليه، وكلٌّ من الفريقينِ يُوجَدُ في كلِّ عَصرٍ
.
دلَّ قولُه تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ أنَّه لم يكُنْ مِن المُهاجِرينَ مَن نافقَ، وإنَّما كان النِّفاقُ في قبائِلِ الأنصارِ، لَمَّا ظَهرَ الإسلامُ بالمدينةِ، ودخل فيه مِن قبائِلِ الأَوْسِ والخزرَجِ، ولَمَّا صار للمُسلِمينَ دارٌ يمتَنِعونَ بها ويُقاتِلون، دَخلَ في الإسلامِ مِن أهلِ المدينةِ وممَّنْ حولَهم مِن الأعراب مَن دَخلَ- خوفًا وتقيَّةً- وكانوا مُنافِقينَ .
دلَّ قولُه تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ مع قَولِه تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ على أنَّ مَن لم يعتَرِفْ بذَنْبِه مِن هؤلاءِ، كان مِن المُنافِقينَ .
قَولُه تعالى: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ لا ينافي قَولَه تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد: 30] ؛ لأنَّ هذا من باب التوسُّمِ فيهم بصِفاتٍ يُعرَفونَ بها، لا أنَّه يَعرِفُ جميعَ مَن عِندَه مِن أهلِ النِّفاقِ والرَّيبِ على التَّعيينِ ، وقيل: لا تَنافيَ؛ لأن آيةَ النَّفيِ نزلت قبل آيةِ الإثباتِ .
لَمَّا كشفَ اللهُ المُنافِقينَ بسورةِ براءة بِقَولِه: وَمِنْهُم وَمِنْهُم صار يُعرفُ نفاقُ ناسٍ منهم لم يكن يُعرفُ نفاقُهم قبل ذلك، كما قال تعالى: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، فإنَّ اللهَ وصَفهم بصفاتٍ علِمَها الناسُ منهم؛ وما كان الناسُ يجزمون بأنها مستلزمةٌ لنفاقهم- وإنْ كان بعضُهم يظنُّ ذلك وبعضُهم يعْلَمُه- فلم يكنْ نفاقُهم معلومًا عند الجماعة؛ بخلافِ حالِهم لمّا نزل القرآنُ .
قولُه تعالى: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ فيه دليلٌ على الردِّ على مَن يزعمُ الكشفَ والاطلاعَ على المغيَّباتِ بمجردِ صفاءِ القلبِ، وتجرُّدِ النَّفسِ عن الشواغلِ، وبعضُهم يتساهلونَ في هذا البابِ جدًّا .
استُدِلَّ بِقَولِه تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ على إثباتِ عَذابِ القَبرِ؛ حيث كان العذابُ الأولُ عذابًا في الدُّنيا، والثَّاني عذابًا في القَبرِ .
قَولُ الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَسَى منه سُبحانه وتعالى واجِبةٌ؛ لأنَّ هذا دأْبُ الملوكِ، ولعلَّ التَّعبيرَ بها يفيدُ- مع الإيذانِ بأنَّه لا يجِبُ عليه لأحدٍ شَيءٌ ، وأنَّ كُلَّ إحسانٍ يَفعَلُه، فإنَّما هو على سبيلِ الفَضلِ- إشارةً إلى أنَّهم صاروا كغَيرِهم مِن خُلَّصِ المؤمنينَ غَيرِ المعصومينَ في مُواقعةِ التَّقصيرِ، وتَوقُّعِ الرحمةِ مِن اللهِ بالرُّجوعِ بهم إلى المُراقبةِ، فكما أنَّ أولئك مَعدودونَ في حِزبِ الله مع هذا التَّقصيرِ المرجُوِّ له العَفوُ، فكذلك هؤلاءِ .
من كان مؤمِنًا وعَمِلَ عَملًا صالحًا لوَجهِ الله تعالى، فإنَّ الله لا يَظلِمُه، بل يُثيبُه عليه، وأمَّا ما يفعَلُه مِن المُحَرَّم اليسيرِ، فيستَحِقُّ عليه العُقوبةَ، ويُرجى له من اللهِ التَّوبةُ، كما قال الله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وإن مات ولم يتُبْ، فهذا أمْرُه إلى الله، هو أعلَمُ بمقدارِ حَسَناتِه وسَيِّئاتِه، لا يُشهَدُ له بجنَّةٍ ولا نارٍ، بخلافِ الخوارِجِ والمُعتَزلةِ، فإنَّهم يقولونَ: إنَّ مَن فعَلَ كبيرةً أحبَطَت جميعَ حَسَناتِه، وأهلُ السُّنَّةِ والجماعة لا يقولونَ بهذا الإحباطِ، بل أهلُ الكبائِرِ معهم حسَناتٌ وسيِّئاتٌ، وأمرُهم إلى اللهِ تعالى
.
بلاغة الآيتين:
قولُه تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ
قوُله: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ فيه تقديمُ المجرورِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّه خبرٌ، لا نَعتٌ. و(مِن) في قَولِه: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ للتَّبعيضِ، و(مِن) في قولِه: مِنَ الْأَعْرَابِ لبَيانِ (مَن) المَوصولةِ
.
قولُه: لَا تَعْلَمُهُمْ في تعليقِ نفْيِ العِلمِ بهم معَ أنَّه مُتعلِّقٌ بحالِهم- مبالَغةٌ في ذلك، وإيماءٌ إلى أنَّ ما هُم فيهِ مِن صِفَةِ النِّفاقِ لِعَراقَتِهم ورُسوخِهم فيها صارَت بمَنزِلَةِ ذاتيَّاتِهم أو مُشخَّصاتِهم؛ بحيث لا يُعَدُّ مَن لا يَعرِفهم بتِلك الصِّفَةِ عالِمًا بهم .
قولُه: نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ جملةٌ مستأنَفةٌ، والخبَرُ مُستعمَلٌ في الوعيدِ؛ ففيه تهديدٌ، ورَتَّب عليه قَولِه: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ .
فـسَنُعَذِّبُهُم وعيدٌ لهم، وتحقيقٌ لعَذابِهم حسَبَما عَلِم اللهُ فيهِم مِن مُوجِباتِه، والسِّينُ للتَّأكيدِ .
وأيضًا قولُه: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ استِئْنافٌ بيانيٌّ للجَوابِ عن سؤالٍ يُثيرُه قولُه: نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، وهو أن يَسأَلَ سائلٌ عَن أثَرِ كَونِ اللهِ تَعالى يَعلَمُهم، فأَعْلَم أنَّه سيُعذِّبُهم على نِفاقِهم، ولا يُفْلِتُهم منه عدَمُ عِلمِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بهِم .
وفي تغييرِ السبكِ مِن نونِ العظمةِ في قولِه: سَنُعَذِّبُهُمْ إلى ما لم يسمَّ فاعلُه في قولِه يُرَدُّونَ؛ لأنَّ في بنائِه لما لم يُسمَّ فاعلُه مِن التعظيمِ ما فيه، فيناسبُ العذابَ العظيمَ .
قولُه تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
قولُه: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ... فيه ما يُعرَفُ في البلاغةِ بالحَذفِ المقابليِّ (الاحتِباكِ)، وهو: أن يَجتَمِعَ في الكلامِ مُتَقابِلان، فيُحذَفَ مِن واحدٍ مِنهُما مُقابِلُه؛ لدَلالةِ الآخَرِ عليه، فأصلُ الكلامِ: «خَلَطوا عمَلًا صالِحًا بسَيِّئٍ، وآخَرَ سيِّئًا بصالحٍ»؛ لأنَّ الخلْطَ يَسْتَدعي مَخلوطًا ومَخلوطًا به، أي: تارةً أطاعوا وخلَطوا الطَّاعةَ بمَعصيةٍ، وتارةً عصَوْا وتدارَكوا المعصيةَ بالتَّوبةِ ، وهو من ألطَفِ شاهِدٍ لنوعِ الاحتباكِ، ولعلَّ التعبيرَ بما أفهَمَ ذلك إشارةٌ إلى تَساوي العَمَلينِ، وأنَّه ليس أحَدُهما بأولَى مِن الآخَرِ أن يكونَ أصلًا .
قولُه: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عبَّر بفِعْلِ الرَّجاءِ (عَسَى)، وهي مِن كلامِ اللهِ تعالى المخاطَبِ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهي كنايةٌ عن وُقوعِ المرجُوِّ، وأنَّ اللهَ قد تاب علَيهم، ولكِنَّ ذِكْرَ فِعْلِ الرَّجاءِ يَستَتبِعُ مَعنى اختِيارِ المتكلِّمِ في وُقوعِ الشَّيءِ وعدَمِ وُقوعِه، وإنَّما جاء بلَفظِ (عسى)؛ ليَكونَ المؤمِنُ على وجَلٍ؛ إذ لَفظةُ (عسى) طمَعٌ وإشفاقٌ، فأُبرِزَتِ التَّوبةُ في صورتِه ؛ لِيَأمُلوا ولا يتَّكِلوا .
وأيضًا في قولِه: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عبَّر بقولِه تعالى: أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ معَ أنَّه لم تُذكَرَ توبتُهم؛ لأنَّه إذا ذُكِر اعتِرافُهم بذُنوبِهم، وهو دليلٌ على التَّوبةِ، فقد ذُكِرَت توبتُهم ، فالاعترافُ بالذَّنبِ كنايةٌ عن التَّوبةِ منه؛ لأنَّ الإقرارَ بالذَّنبِ الفائتِ إنَّما يَكونُ عِندَ النَّدمِ والعزمِ على عدَمِ العَودِ إليه، ولا يُتَصوَّرُ فيه الإقلاعُ الَّذي هو مِن أركانِ التَّوبةِ؛ لأنَّه ذنبٌ مَضى، ولكن يُشترَطُ فيه العزمُ على أنْ لا يَعودَ .
وجملةُ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييلٌ مُناسِبٌ للمَقامِ، حيث ختَم ذلك بما دلَّ على قَبولِ التَّوبةِ، وذلك صفةُ الغُفرانِ والرَّحمةِ .
===========================
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (103-104)
ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
غريب الكلمات:
وَتُزَكِّيهِمْ: أي: تُطَهِّرُهم، وتُنَمِّيهم وتَرفَعُهم، وأصلُ (زكو): يدلُّ على نماءٍ وزيادةٍ
.
وَصَلِّ: أي: استَغفِرْ وادعُ لهم .
سَكَنٌ: أي: تثبيتٌ لهم، وطُمأنينةٌ وسكونٌ، وأصلُ (سكن): يدلُّ على خِلافِ الاضطرابِ والحَرَكةِ
.
المعنى الإجمالي:
يأمُرُ الله نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يأخُذَ مِن أموالِ المُسلِمينَ صَدَقةً يُطَهِّرُهم بها مِن دَنَس ذُنوبِهم، ويُزَكِّيهم بها، كما أمَرَه بالدُّعاءِ لهم عند أخذِ الصَّدَقاتِ؛ لأنَّ دُعاءَه لهم طُمأنينةٌ، وراحةٌ لِقُلوبِهم، واللهُ سَميعٌ عَليمٌ.
ألم يَعلَموا أنَّ الله وَحْدَه هو مَن يَقبَلُ التَّوبةَ مِن التَّائبينَ، ويقبَلُ صَدَقاتِ عِبادِه، وأنَّه هو التَّوابُ الرَّحيمُ.
تفسير الآيتين:
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّهم لَمَّا أظهَروا التَّوبةَ والنَّدامةَ، عن تخلُّفِهم عن غزوةِ تَبوكَ، وهم أقَرُّوا بأنَّ السَّبَبَ الموجِبَ لذلك التخَلُّفِ حُبُّهم للأموالِ، وشِدَّةُ حِرصِهم على صَونِها عن الإنفاقِ، فكأنَّه قيل لهم: إنَّما يظهرُ صِحَّةُ قَولِكم في ادِّعاءِ هذه التَّوبةِ والنَّدامةِ، لو أخرَجتُم الزَّكاةَ الواجِبةَ، ولم تُضايقوا فيها؛ لأنَّ الدَّعوى لا تتقَرَّرُ إلَّا بالمعنى، وعند الامتحانِ يُكرَمُ الرَّجُلُ أو يهانُ؛ فإن أدَّوا تلك الزَّكَواتِ عن طِيبةِ النَّفسِ، ظهَرَ كَونُهم صادقينَ في تلك التَّوبةِ والإنابةِ، وإلَّا فهم كاذِبونَ مُزَوِّرونَ بهذا الطَّريقِ
.
وأيضًا لَمَّا كان مِن شَرطِ التَّوبةِ تَدارُكُ ما يمكِنُ تَدارُكُه ممَّا فات، وكان التخلُّفُ عن الغَزوِ مُشتَمِلًا على أمرينِ، هما: عدمُ المُشاركةِ في الجهادِ، وعَدَمُ إنفاقِ المالِ في الجهادِ؛ جاء في هذه الآيةِ إرشادٌ لِطَريقِ تَدارُكِهم ما يمكِنُ تَدارُكُه ممَّا فات، وهو: نفعُ المُسلِمينَ بالمالِ .
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
أي: خُذ- يا محمَّدُ- من أموالِ المُسلِمينَ صَدقةً تُطَهِّرُهم مِن دَنَسِ ذُنوبِهم .
عن جابِرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((والصَّدَقةُ تُطفِئُ الخَطيئةَ كما يُطفِئُ الماءُ النَّارَ )) .
وَتُزَكِّيهِم بِهَا.
أي: وتُنَمِّي أموالَهم، وتزيدُ في أخلاقِهم الحسَنةِ، وأعمالِهم الصَّالحةِ، وفي ثوابِهم الدُّنيويِّ والأُخرويِّ .
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ.
أي: وادْعُ- يا مُحمَّدُ- للمُسلِمينَ عند أخْذِك صَدَقاتِهم؛ لأنَّ دُعاءَك لهم طُمأنينةٌ، وراحةٌ لقُلوبِهم .
عن عبدِ اللهِ بنِ أبي أوفى رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أتاه قومٌ بصَدَقَتِهم قال: اللَّهُمَّ صَلِّ عليهم، فأتاه أبي أبو أوفَى بصَدَقتِه، فقال: اللهُمَّ صَلِّ على آلِ أبي أوفَى ) .
وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي: واللهُ سَميعٌ لأقوالِ عبادِه، مُجيبٌ لِدُعائِهم- ومن ذلك سماعُه دُعاءَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عليمٌ بنِيَّاتِهم وأحوالِهم، ويُجازيهم بحسَبِ أعمالِهم .
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن القومِ الذينَ تقَدَّمَ ذِكرُهم أنَّهم تابوا عن ذُنوبِهم، وأنَّهم تصَدَّقوا، وهناك لم يُذكَرْ إلَّا قولُه: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وما كان ذلك صريحًا في قَبولِ التَّوبةِ؛ ذكَرَ في هذه الآيةِ أنَّه يقبَلُ التَّوبةَ، وأنَّه يأخُذُ الصَّدَقاتِ، والمقصودُ ترغيبُ مَن لم يتُبْ في التوبةِ، وترغيبُ كلِّ العُصاةِ في الطاعةِ .
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ.
أي: ألَم يَعلَمُوا أنَّ اللهَ وَحْدَه هو الذي يقبَلُ التَّوبةَ من التَّائبينَ، ويقبَلُ الصَّدَقاتِ مِن عبادِه إذا كانت طيِّبةً خالصةً للهِ ربِّ العالَمينَ ؟
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّها النَّاسُ، إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللهَ أمَرَ المؤمنينَ بما أمَرَ به المُرسَلينَ، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] ثمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفَرَ أشعَثَ أغبَرَ، يمُدُّ يَدَيه إلى السَّماءِ: يا ربِّ، يا ربِّ، ومَطعَمُه حَرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، ومَلبَسُه حَرامٌ، وغُذِيَ بالحرامِ، فأنَّى يُستجابُ لذلك؟!)) .
وعن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما تصدَّقَ أحدٌ بصدقةٍ من طيِّبٍ- ولا يقبلُ اللهُ إلَّا الطَّيِّبَ- إلَّا أخَذَها الرَّحمنُ بيَمينِه، وإن كانت تَمرةً، فتَربُو في كفِّ الرَّحمنِ حتى تكونَ أعظمَ من الجبلِ، كما يُربِّي أحدُكم فَلُوَّه أو فصيلَه ) .
وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
أي: وأيضًا ألم يعلموا أنَّ الله كثيرُ التَّوبةِ عن عبادِه، ويعفو عمَّن تاب إليه، ولو تكرَّرَ منه الذَّنبُ مِرارًا، واسِعُ الرَّحمةِ بالتَّائبينَ، فلا يُعاقِبُهم بل يُثيبُهم
.
الفوائد التربوية:
1- في قَولِ الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا أنَّ العَبدَ لا يُمكِنُه أن يتطهَّرَ ويتزكَّى حتى يُخرِجَ زكاةَ مالِه، وأنَّه لا يُكَفِّرُها شيءٌ سوى أدائِها؛ لأنَّ الزكاةَ والتطهيرَ متوقِّفٌ على إخراجِها
.
2- قال الله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يُؤخَذُ من المعنى أنَّه ينبغي إدخالُ السُّرورِ على المؤمِنِ بالكلامِ اللَّيِّنِ، والدُّعاءِ له، ونحو ذلك ممَّا يكونُ فيه طُمأنينةٌ وسكونٌ لِقَلبِه مشروعٌ .
3- قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يُؤخَذُ من المعنى أنَّه ينبغي تنشيطُ مَن أنفَقَ نفقةً، وعَمِلَ عملًا صالحًا، بالدُّعاءِ له والثَّناءِ ونحوِ ذلك
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً فيه دَلالةٌ على وجوبِ الزَّكاةِ في جميعِ الأموالِ، وهذا إذا كانت للتِّجارةِ ظاهرةً، فإنَّها أموالٌ تُنمَّى ويُكتسَبُ بها، فمِنَ العَدلِ أن يُواسى منها الفُقراءُ، بأداءِ ما أوجَبَ الله فيها من الزَّكاةِ، وما عدا أموالَ التِّجارةِ، فإن كان المالُ يُنمَّى، كالحُبوب، والثِّمار، والماشية المُتَّخَذة للنَّماءِ والدَّرِّ والنَّسل، فإنها تجِبُ فيها الزكاةُ، وإلَّا لم تجِبْ فيها؛ لأنَّها إذا كانت للقِنيةِ، لم تكُن بمنزلةِ الأموالِ التي يتَّخِذُها الإنسانُ في العادةِ مالًا يُتمَوَّلُ، ويُطلَبُ منه المقاصِدُ الماليَّةُ، وإنَّما صُرِفَ عن الماليَّةِ بالقِنيةِ ونَحوِها
.
2- قَولُ الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً يُستدَلُّ به في وجوبِ الزَّكاةِ في الماشيةِ والثِّمارِ؛ لأنَّها أكثَرُ أموالِ الصَّحابةِ إذ ذاك .
3- قَولُ الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً يدلُّ على أنَّ القَدرَ المأخوذَ بعضُ تلك الأموالِ لا كُلُّها؛ إذ مقدارُ ذلك البعضِ غيرُ مذكورٍ هاهنا بصريحِ اللَّفظِ، بل المذكورُ هاهنا قولُه: صَدَقَةً، ومعلومٌ أنَّه ليس المرادُ منه التَّنكيرَ حتى يكفِيَ أخْذُ أيِّ جزءٍ كان، وإن كان في غايةِ القِلَّةِ، مثل الحبَّةِ الواحدة من الحِنطةِ، أو الجزءِ الحَقيرِ مِن الذَّهَب، فوجبَ أن يكونَ المرادُ منه صدَقةً مَعلومةَ الصِّفةِ والكيفيَّة والكمِّيَّة عندَهم، حتى يكونَ قَولُه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً أمرًا بأخذِ تلك الصَّدَقةِ المعلومةِ، فحينئذٍ يزولُ الإجمالُ، ومعلومٌ أنَّ تلك الصَّدَقةَ ليست إلَّا الصَّدَقاتِ التي وصَفَها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبيَّنَ كَيفيَّتَها، فكان قَولُه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً أمرًا بأن يأخُذَ تلك الأشياءَ المخصوصةَ والأعيانَ المخصوصةَ، وظاهِرُ الآيةِ للوُجوبِ .
4- ظاهِرُ عُمومِ قَولِ الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً يوجِبُ الزكاةَ في مالِ المَديونِ، وفي مالِ الضَّمانِ .
5- قَولُ الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً فيه دليلٌ على أنَّ الإمامَ هو الذي يتولَّى أخذَ الصَّدَقاتِ وينظُرُ فيها .
6- قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ إنَّما حسُنَ جعْلُ الصَّدَقةِ مُطهِّرةً؛ لِما جاء أنَّ الصَّدَقةَ أوساخُ النَّاسِ، فإذا أُخِذَت الصَّدَقةُ فقد اندَفَعَت تلك الأوساخُ، فكان اندفاعُها جاريًا مَجرى التَّطهيرِ، والله أعلم .
7- قَولُ اللهِ تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ فيه استحبابُ الدُّعاءِ مِن الإمامِ أو نائِبِه لِمَن أدَّى زكاتَه بالبَرَكةِ، وأنَّ ذلك ينبغي أن يكونَ جهرًا، بحيث يسمَعُه المتصَدِّقُ فيسكُنُ إليه .
8- في قَولِه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ دليلٌ على أنَّ عمَلَ الحسَناتِ يُطَهِّرُ النفسَ ويزكِّيها من الذُّنوبِ السَّالفةِ .
9- في قَولِه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا دليلٌ على أنَّ الصَّدَقةَ تُوجبُ الطَّهارةَ من الذُّنوبِ، وتُوجِبُ الزكاةَ، التي هي العمَلُ الصالحُ .
10- التَّطهيرُ من الذَّنبِ يكونُ إمَّا بألَّا يفعلَه العبدُ، وإمَّا بأنْ يتوبَ منه، كما في قَولِه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا .
11- قَولُ الله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ في التَّعبيرِ بأخذِ اللهِ تعالى بعدَ قَولِه للنبيِّ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تشريفٌ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ بِكونِه تعالى هو الذي يأخُذُ ما أمَرَه بأخْذِه ، كما أنَّ في إسنادِ الأخذِ إليه سُبحانه بعد أمْرِه لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأخْذِها، تشريفًا عظيمًا لهذه الطَّاعةِ، ولِمَن فعَلَها .
12- قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، في قولِه: تُطَهِّرُهُمْ إشارةٌ إلى مقامِ التَّخليةِ عن السَّيِّئاتِ، وقولُه: وَتُزَكِّيهِمْ إشارةٌ إلى مقامِ التَّحليةِ بالفضائِلِ والحَسَناتِ، ولا جرَمَ أنَّ التَّخليةَ مُقَدَّمةٌ على التَّحليةِ .
13- دلَّ قولُه تعالى: إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أنَّ المُؤمِنَ ينتَفِعُ بما ليس مِن سَعْيِه- كما قد ثبَتَ بالنُّصوصِ المُتواتِرةِ وإجماعِ سَلَفِ الأمَّةِ- كدُعاءِ المُصَلِّينَ للمَيِّتِ، ولِمَن زاروا قبرَه مِن المُؤمِنينَ .
14- قَولُ الله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ نزَّلَ جميعَهم منزلةَ مَن لا يعلَمُ قَبولَ التَّوبةِ؛ لأنَّ حالَهم حالُ مَن لا يعلَمُ ذلك، سواءٌ في ذلك مَن يعلَمُ قَبولَها، ومن لا يعلَمُ حَقيقةً، وكان الكلامُ أيضًا مَسوقًا للتَّحضيضِ
.
بلاغة الآيتين:
1- قولُه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
قولُه: إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ تعليلٌ للأَمرِ بالصَّلاةِ علَيهِم بأنَّ دُعاءَه سكَنٌ لهم، أي: سبَبُ سكَنٍ لهم، أي: خيرٍ
، مع ما فيه مِن التَّأكيدِ بـ(إنَّ) واسميَّةِ الجُملةِ.
2- قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
قولُه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ استئنافٌ بيانيٌّ ناشئٌ عن التَّعليلِ بقولِه: إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لهم؛ لأنَّه يُثيرُ سؤالَ مَن يَسأَلُ عَن مُوجِبِ اضطِرابِ نُفوسِهم بعدَ أن تابوا، فيَكونُ الاستِفْهامُ تقريرًا مَشوبًا بتَعْجيبٍ مِن تَردُّدِهم في قَبولِ توبتِهم، والمقصودُ منه التَّذكيرُ بأمرٍ معلومٍ؛ لأنَّهم جرَوْا على حالِ نِسْيانِه، ويَكونُ ضميرُ يَعْلَمُوا عائدًا إلى الَّذين اعتَرَفوا بذُنوبِهم .
قولُه: أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، هُوَ للتَّخصيصِ والتَّأكيدِ أنَّ اللهَ تعالى مِن شأنِه قَبولُ توبةِ التَّائبين، ومعنى التَّخصيصِ في هُوَ أنَّ ذلك ليس إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما اللهُ سُبحانَه هو الَّذي يَقبَلُ التَّوبةَ ويَرُدُّها، فاقصِدوه بها، ووَجِّهوها إليه .
قَولُ الله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ هذه الجملةُ الاسميَّةُ المؤكَّدةُ بـ(أنَّ) وبضميرِ الفَصلِ (هو)، الدَّالَّة على الحصرِ، وما فيها من صيغةِ المبالغةِ بمعنى الكثرةِ مِن التَّوبةِ، ومُبالغةِ الصِّفةِ الرَّاسخة من الرَّحمةِ؛ تفيدُ أعظَمَ البُشرى للتَّائِبينَ، وأبلغَ التَّرغيبِ في التَّوبة للمُذنِبينَ .
======================
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (105-106)
ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ
غريب الكلمات:
مُرْجَوْنَ: أي: مُؤَخَّرونَ، وأصلُ (رجأ): يدلُّ على التَّأخيرِ
.
المعنى الإجمالي:
يقول اللهُ تعالى لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قلْ- يا محمدُ-: اعمَلُوا؛ فإنَّ اللهَ سَيَرى أعمالَكم كُلَّها، فيُجازِيكم عليها، ويرى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمِنونَ ما يُطلِعُهم اللهُ عليه منها، فيَشهَدونَ عليكم بالخَيرِ أو الشَّرِّ، وسَتُرجَعونَ يومَ القيامةِ إلى الله الذي يعلَمُ الغَيبَ والشَّهادةَ، فيُخبِرُكم بما كُنتم تَعملونَ.
ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّ مِن المتخَلِّفينَ عن غزوةِ تَبوكَ قَومًا آخرينَ مُؤخَّرٌ حُكمُهم إلى أن يقضِيَ اللهُ تعالى فيهم بما شاء؛ إمَّا أن يُعَذِّبَهم أو أنْ يتوبَ عليهم، والله عليمٌ حَكيمٌ.
تفسير الآيتين:
وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الذي هو في قُوَّةِ إخبارِهم بأنَّ اللهَ يقبَلُ التَّوبةَ، وكانت التَّوبةُ تَرفَعُ المؤاخذةَ بما مضى؛ أُمِروا بالعمَلِ عَقِبَ الإعلامِ بِقَبولِ تَوبتِهم؛ لأنَّهم لَمَّا قُبِلَت توبتُهم، كان حقًّا عليهم أن يَدُلُّوا على صِدقِ تَوبتِهم، وفَرطِ رَغبتِهم في الارتقاءِ إلى مراتِبِ الكمالِ؛ حتى يَلحَقوا بالذينَ سَبقوهم، وذلك بالزيادةِ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ؛ لجَبرِ ما فات من الأوقاتِ التي كانت حقيقةً بأن تُعمَرَ بالحَسَناتِ، فعُمِرَت بالسَّيِّئاتِ، فقال تعالى
:
وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ.
أي: وقُل- يا مُحمَّدُ-: اعمَلوا ؛ فسيَرَى اللهُ أعمالَكم كُلَّها؛ ظاهِرَها وخَفِيَّها، فيُجازيكم عليها، ويرى رسولُ اللهِ والمؤمِنونَ ما يُطلِعُهم اللهُ عليه منها، فيَشهَدونَ عليكم بالخَيرِ أو الشَّرِّ .
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((مَرُّوا بجِنازةٍ، فأثنَوْا عليها خيرًا، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَجَبَت، ثمَّ مَرُّوا بأخرى، فأثنَوا عليها شَرًّا، فقال: وَجَبَت، فقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: ما وجَبَت؟! قال: هذا أثنَيتُم عليه خيرًا، فوجَبَت له الجنَّةُ، وهذا أثنَيتُم عليه شرًّا، فوجبَتْ له النَّارُ؛ أنتم شُهداءُ اللهِ في الأرضِ )) .
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.
أي: وقُلْ- يا محمَّدُ-: وسَتُرجَعون يوم القيامةِ إلى الله الذي يعلَمُ ما غاب وما يُشاهَدُ، فيَعلمُ سرائِرَكم وعلانِيتَكم، لا يخفَى عليه شيءٌ من أمورِكم .
كما قال الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] .
وقال الله عزَّ وجلَّ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 62] .
فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: فيُخبِرُكم اللهُ يَومَئذٍ بما كُنتم تعملونَه في الدُّنيا من خيرٍ أو شرٍّ، ويُجازيكم عليه .
كما قال تعالى: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الزمر: 7] .
وقال سُبحانه: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] .
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا فريقٌ آخَرُ عُطِفَ خَبَرُه على خبَرِ الفِرَقِ الآخَرِينَ، والمرادُ بهؤلاءِ مَن بَقِيَ من المخَلَّفينَ لم يتُبِ اللهُ عليه، وكان أمْرُهم موقوفًا إلى أن يقضِيَ اللهُ بما يشاءُ .
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.
أي: ومِنَ المتخَلِّفينَ عن غزوةِ تَبوكَ قومٌ آخَرونَ مُؤخَّرٌ حُكمُهم إلى أن يقضِيَ اللهُ فيهم بما شاء؛ إمَّا أن يُعَذِّبَهم بذُنوبِهم، وإمَّا أن يوفِّقَهم للتَّوبةِ فيتوبَ عليهم .
وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أي: واللهُ عليمٌ بكلِّ شَيءٍ، ومن ذلك عِلمُه بأحوالِ هذا الفَريقِ ونيَّاتِه، وبما يستحِقُّونَه مِن عُقوبةٍ أو عفْوٍ، حكيمٌ في حُكمِه فيهم، وفي جميعِ أقوالِه وأفعالِه، فيَضَع كلَّ شَيءٍ في مَوضعِه اللَّائقِ به
.
الفوائد التربوية:
1- قَولُه تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ترغيبٌ عظيمٌ للمُطيعينَ، وترهيبٌ عَظيمٌ للمُذنِبينَ، فكأنَّه تعالى قال: اجتَهِدوا في المستقبَلِ؛ فإنَّ لِعَمَلِكم في الدُّنيا حُكمًا، وفي الآخرةِ حُكمًا؛ أمَّا حُكمُه في الدُّنيا فهو أنَّه يراه اللهُ، ويراه الرَّسولُ، ويراه المُسلِمونَ، فإنْ كان طاعةً حصَلَ منه الثَّناءُ العَظيمُ، والثَّوابُ العظيمُ في الدُّنيا والآخرةِ، وإن كان معصيةً حصَلَ منه الذَّمُّ العظيمُ في الدُّنيا، والعقابُ الشَّديدُ في الآخرة، فثبَت أنَّ هذه اللَّفظةَ الواحدةَ جامعةٌ لِجَميعِ ما يَحتاجُ المرءُ إليه في دينِه ودُنياه، ومَعاشِه ومَعادِه
.
2- قَولُ الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فيه تحذيرٌ مِن التَّقصيرِ، أو مِن ارتكابِ المعاصي؛ لأنَّ كَونَ عَمَلِهم بمرأًى من اللهِ، ممَّا يبعَثُ على جَعْلِه يُرضِي اللهَ تعالى
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- الرؤيةُ المذكورةُ في قَولِه تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ المقصودُ منها هنا: لازِمُهَا، وهو إحصاءُ ذلك العمَلِ، والجزاءُ عليه بالثَّوابِ والعِقابِ
.
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ يدلُّ على كونِه تعالى رائيًا للمرئيَّاتِ؛ لأنَّ الرُّؤيةَ المُعدَّاةَ إلى مفعولٍ واحدٍ، هي الإبصارُ، والمُعدَّاةَ إلى مفعولينِ هي العِلمُ ، فالرؤيةُ صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، وليس رؤيةُ اللهِ تعالى أعمالَ بني آدَمَ كرؤيةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنـيَن، وإن كان اسمُ الرُّؤيةِ يقَعُ على الجميعِ .
3- قَولُ الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إن قيل: ما الفائدةُ في ذِكرِ الرَّسولِ والمؤمنينَ بعد ذِكرِ اللهِ في أنَّهم يَرَونَ أعمالَ هؤلاء التَّائبينَ؟ قيل: فيه وجوهٌ:
الوجه الأول: أنَّ أجدَرَ ما يدعو المرءَ إلى العمَلِ الصَّالحِ ما يحصُلُ له من المَدحِ والتَّعظيمِ والعِزِّ الذي يلحَقُه عند ذلك، فإذا عَلِمَ أنَّه إذا فعَلَ ذلك الفِعلَ عَظَّمَه الرَّسولُ والمؤمنونَ، عَظُمَ فَرَحُه بذلك، وقَوِيَت رَغبتُه فيه، وممَّا يُنَبِّه على هذه الدقيقةِ أنَّه ذكَرَ رُؤيةَ الله تعالى أوَّلًا، ثم ذكَرَ عَقيبَها رؤيةَ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمُؤمنين، فكأنَّه قيل: إن كنتَ من المُحقِّينَ المُحَقِّقينَ في عبوديَّةِ الحَقِّ، فاعمَلِ الأعمالَ الصَّالحةَ لله تعالى، وإن كنتَ من الضُّعَفاءِ المَشغولين بثناءِ الخَلْقِ، فاعمَلِ الأعمالَ الصَّالحةَ لِتَفوزَ بثَناءِ الخَلقِ، وهو الرَّسولُ والمؤمنونَ.
الوجه الثاني: أنَّ المؤمنينَ شُهَداءُ الله يومَ القيامةِ، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] والرَّسولُ شهيدُ الأمَّةِ، كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] فثَبَت أنَّ الرَّسولَ والمُؤمنينَ شُهداءُ اللهِ يومَ القيامةِ، والشَّهادةُ لا تصِحُّ إلَّا بعد الرُّؤيةِ، فذكَرَ اللهُ أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمؤمنينَ يَرَونَ أعمالَهم، والمقصودُ التَّنبيهُ على أنَّهم يَشهَدونَ يومَ القيامةِ عند حضورِ الأوَّلِينَ والآخِرينَ، بأنَّهم أهلُ الصِّدقِ والسَّدادِ، والعَفافِ والرَّشادِ .
الوجه الثالث: أنَّ عَطفَ وَرَسُولُهُ على اسمِ الجلالة؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو المبلِّغُ عن الله، وهو الذي يتولَّى مُعامَلَتَهم على حسَبِ أعمالِهم، وعَطْفَ الْمُؤْمِنُونَ لأنَّ الذين تابُوا قد رَجَعوا إلى جماعةِ الصَّحابةِ، فإنْ عَمِلوا مِثلَهم كانوا بمحَلِّ الكرامةِ منهم، وإلَّا كانوا ملحوظينَ مِنهم بعَينِ الغَضَبِ والإنكارِ، وذلك ممَّا يَحذَرُه كلُّ أحدٍ هو مِن قَومٍ يَرمُقونَه شَزْرًا، ويَرونَه قد جاء نُكْرًا .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ يَهدينا إلى أنَّ مَرضاةَ جماعةِ المُؤمِنينَ القائِمينَ بحُقوقِ الإيمانِ، المقَرَّرةِ صِفاتُهم في القرآنِ، تلي مرضاةَ اللهِ ورسولِه، وأنَّهم لا يَجتَمِعونَ على ضلالةٍ .
5- قَولُ الله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إن قيل: إنَّ كلمةَ (إمَّا) للشَّكِّ، واللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عنه؟ فجوابُه: أنَّ المرادَ منه: لِيَكنْ أمرُهم على الخوفِ والرَّجاءِ، فجعَلَ أناسٌ يقولون: هَلَكوا إذْ لم يُنْزِلِ اللهُ تعالى لهم عُذرًا. وآخَرونَ يَقولونَ: عسى اللهُ أن يغفِرَ لهم . فحِكمةُ إبهامِ أمْرِ هؤلاءِ عليهم: إثارةُ الهَمِّ والخَوفِ في قلوبِهم؛ لتصِحَّ تَوبَتُهم، وحكمةُ إبهامِه على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ: تَرْكُهم مُكالَمتَهم ومُخالَطتَهم؛ تربيةً للفَريقينِ على ما يجِبُ في أمثالِهم مِن الذينَ يُؤثِرونَ الرَّاحةَ، ونِعمةَ العَيشِ على طاعةِ اللهِ ورَسولِه، والجهادِ في سبيلِه .
6- قَولُ الله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ قَدَّمَ قَولَه: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ تخويفًا لهم، حملًا على المبادرةِ إلى التَّوبةِ، وتَصفِيَتِها والإخلاصِ فيها، وحَثًّا على أن يكونَ الخَوفُ- ما دام الإنسانُ صَحيحًا- أغلَبَ، وثَنَّى بِقَولِه: وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أي: إن تابُوا؛ ترجيةً لهم وترقيقًا لِقُلوبِهم بالتَّذكيرِ بِمَنزلِ الأُنسِ الذي أخرَجُوا أنفُسَهم منه، ومَنَعُوها مِن حُلولِه
.
بلاغة الآيتين:
1- قولُه تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
قولُه: وَقُلِ اعْمَلُوا صيغةُ أمرٍ، ضمَّنَها الوعيدَ
.
قولُه: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ خبرٌ فيه وعيدٌ لهم، وتحذيرٌ مِن عاقبةِ الإصرارِ، والذُّهولِ عن التَّوبةِ ، أو هو تأكيدٌ للتَّرغيبِ والتَّرهيبِ، والسِّينُ للتَّأكيدِ ، فتَفْريعُ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ زيادةٌ في التَّحضيضِ .
قولُه: وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فيه وضعُ الظَّاهرِ مَوضِعَ المضمَرِ- حيثُ لم يَقُلْ: (وستُرَدُّون إليه)- لتَهويلِ الأمرِ، وتَرْبيَةِ المهابةِ .
2- قوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
قولُه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تذييلٌ مناسبٌ لإبهامِ أمرِهم على النَّاسِ، أي: واللهُ عَليمٌ بما يَليقُ بهِم مِن الأمرَينِ، مُحكِمٌ تَقديرَه حينَ تتَعلَّقُ به إرادتُه .
==================
سورةُ التَّوبةِ
الآيات (107-110)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ
غريب الكلمات:
ضِرَارًا: أي: مُضارَّةً، وأصلُ (ضرر): خِلافُ النَّفعِ
.
وَإِرْصَادًا: أي: ترقُّبًا بالعَداوةِ. وَيُقَال أرصدتُ له الشَّيْء، إِذا جعلتَه له عدَّةً. والرَّصَدُ: الاستعداد للترقُّبِ، وأصلُ (رصد): يدلُّ على التهيُّؤِ لرِقْبَةِ شَيءٍ على مَسلَكِه .
أُسِّسَ: أي: ابتُدِئ أساسُه، وأصلُ (أس): يدلُّ على الأصلِ والشَّيءِ الوطيدِ الثَّابتِ .
شَفَا جُرُفٍ هَارٍ: الشَّفَا: الحرفُ والحَدُّ، ويُضربُ به المثلُ في القربِ مِن الهلاكِ، والجُرُفُ والجُرْفُ: المكان الَّذى يأْكله الماءُ فيجْرُفُه أى: يذهبُ به، وما ينجَرِفُ بالسُّيولِ مِن الأودِيَةِ، وأصلُه مِن الجرفِ والاجْتِرافِ، وهو اقتلاعُ الشَّيءِ مِن أصلِه، والهار: الساقِط، يقال: هارَ البناءُ، وتَهَوَّرَ: إذا سقط، وانْهارَ .
رِيبَةً: أي: شكًّا ونِفاقًا، وأصلُ (ريب): يدلُّ على شَكٍّ .
تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ: أي: تتصَدَّعَ قُلوبُهم فيَموتوا، وأصلُ (قطع): يدلُّ على صَرمٍ وإبانةِ شَيءٍ مِن شَيءٍ
.
المعنى الإجمالي :
يُخبِرُ اللهُ تعالى عن فريقٍ آخر من المُنافِقينَ بَنَوا مسجِدًا في المدينةِ مُضارَّةً للمُؤمنِينَ، ولِمَسجِدِهم الذي يجتَمِعونَ فيه، وكُفرًا باللهِ عَزَّ وجَلَّ، وتَفريقًا بين جماعةِ المُسلِمينَ، وإعدادًا وانتظارًا لِمَجيءِ مَن حاربَ اللهَ ورسولَه مِن قَبلِ بناءِ المَسجِدِ، وقد بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّهم مع هذه المقاصِدِ الخَبيثةِ سَيَحلِفونَ لكم- أيُّها المُؤمِنونَ- أنَّهم ما أرادوا مِن بِنائِه إلَّا الحُسنى، واللهُ يشهَدُ إنَّهم لكاذِبونَ.
ثم نهى اللهُ نَبِيَّه أن يُصلِّيَ في مسجِدِ المُنافِقينَ في أىِّ وقتٍ مِن الأوقاتِ، وبيَّنَ أنَّ المسجِدَ الذي أُسِّسَ على تقوى اللهِ مِن أوَّلِ يَومٍ بُنِيَ فيه- أَولى بأنْ يُصَلِّيَ فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ فيه رِجالًا يحبُّونَ أن يتطَهَّروا من النَّجاساتِ والذُّنوبِ، واللهُ يحِبُّ المُتَطَهِّرينَ.
ثمَّ بيَّن تعالى أنه لا يستوي مَن أسَّسَ بُنيانَه على تقوى مِن الله تعالى، ومَن أسَّسَ بُنيانَه على طَرَفِ حُفرةٍ يُوشِكُ أن تنهارَ بما بُنِيَ عليها، فانهارَت الحُفرةُ بالبُنيانِ والباني في نارِ جَهنَّمَ، واللهُ لا يهدي القَومَ الظَّالِمينَ.
وأخبَرَ تعالى أنَّه لا يزالُ مَسجِدُ الضِّرارِ الذي بناه المُنافِقونَ يُورِثُهم شَكًّا ونِفاقًا في قُلوبِهم إلى أن تتصَدَّعَ قُلوبُهم فيموتوا على ذلك، واللهُ عليمٌ حَكيمٌ.
تفسير الآيات:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107).
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَرَ طرائِقَ ذَميمةً لأصنافِ المُنافِقينَ أقوالًا وأفعالًا؛ ذكَرَ أنَّ منهم من بالغَ في الشَّرِّ حتى ابتَنى مَجمعًا للمُنافِقينَ، يُدبِّرونَ فيه ما شاؤُوا من الشَّرِّ، وسَمَّوه مَسجِدًا
، فقال تعالى:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا
أي: ومِنهم- أي المُنافِقينَ- الذين بَنَوا مَسجِدًا في المدينةِ؛ مُضارَّةً للمُؤمِنينَ ولِمَسجِدِهم الذي يجتَمِعونَ فيه، وكُفرًا باللهِ عزَّ وجلَّ .
وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: وبَنى المُنافِقونَ مَسجِدَهم؛ لأجلِ التَّفريقِ بين جماعةِ المُؤمِنينَ، فيصلِّي بعضُهم في مسجِد، وبَعضُهم في مسجِد آخر، فيتفَرَّقوا ويختَلِفوا بسبب ذلك .
وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ.
أي: وبَنَوه كذلك إعدادًا وانتظارًا وترقُّبًا لمَجيءِ مَن حاربَ اللهَ ورسولَه مِن قَبلِ بِناءِ هذا المسجِدِ .
وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى.
أي: وسيَحلِفُ لكم المُنافقونَ الذين بَنَوا مسجِدَ الضِّرارِ أنَّهم ما أرادوا ببِنائِه إلَّا الخَيرَ للمُسلمينَ والرِّفقَ بهم؛ إحسانًا إلى الضُّعَفاءِ والعاجِزينَ منهم، بجَعْلِهم مسجِدَ الضِّرارِ أقرَبَ إليهم مِن غَيرِه .
وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
أي: واللهُ يَشهَدُ إنَّ المُنافِقينَ لكاذِبونَ في حَلِفِهم ذلك، وإنَّما بَنَوه ضِرارًا، وكُفرًا باللهِ، وتفريقًا بين المُؤمِنينَ، وإرصادًا لِمَن حارَبَ اللهَ ورسولَه .
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108).
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا.
أي: لا تُصَلِّ- يا مُحمَّدُ- في مسجِدِ المُنافِقينَ ما عِشْتَ أبدًا .
لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ.
أي: لَمسجِدٌ أُسِّسَ بنيانُه على تقوى اللهِ مِن أوَّلِ يَومٍ ابتدَأَ بانُوه في تأسيسِه- وهو مسجِدُ قُباءٍ، ومِثلُه بل أولَى منه في الحُكمِ المَسجِدُ النَّبويُّ- أَولى بأن تقومَ فيه- يا مُحمَّدُ- للصَّلاةِ والعبادةِ .
عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه، قال: ((دَخَلْتُ على رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بيتِ بعضِ نسائِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أَيُّ المسجدَيْنِ الَّذي أُسِّسَ على التَّقوَى؟ قال: فأخَذَ كَفًّا مِن حَصْباءَ، فضَرَب به الأرضَ، ثُمَّ قال: هو مَسجِدُكم هذا. لِمسجدِ المدينةِ )) .
عن أبي سعيدٍ أيضًا قال: ((امترَى رجلٌ مِن بني خدرةَ، ورجلٌ مِن بني عمرِو بنِ عوفٍ في المسجدِ الذي أُسِّس على التقوَى، فقال الخدريُّ: هو مسجدُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقال الآخرُ: هو مسجدُ قباء، فأتيا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك، فقال هو هذا- يعني مسجدَه- وفي ذلك خيرٌ كثيرٌ) ) .
فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ.
أي: في مسجدِ قُباءٍ رِجالٌ من أصحابِ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم يُحبُّونَ أن يتطهَّروا مِن النَّجاساتِ ومِنَ الذُّنوبِ .
وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.
أي: واللهُ يُحبُّ المتطَهِّرينَ المُبالِغينَ في الطَّهارةِ مِن النَّجاساتِ، ومِنَ الذُّنوبِ والسَّيِّئاتِ .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] .
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا بيانٌ مُستأنَفٌ للفَرقِ بين أهلِ المَسجِدَينِ في مقاصِدِهما منهما: أهلِ مسجِدِ الضِّرارِ الذينَ زادوا به رِجسًا إلى رِجسِهم، وأهلِ مَسجِدِ التَّقوى، وهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنصارُه الذين يحبُّونَ أكمَلَ الطَّهارةِ لِظاهِرِهم وباطِنِهم، فاستفادوا بذلك محبَّةَ الله لهم .
وأيضا هي تفريعٌ على قَولِه تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ؛ لزيادةِ بَيانِ أحقيَّةِ المسجِدِ المؤسَّسِ على التَّقوى بالصَّلاةِ فيه، وبيانِ أنَّ تَفضيلَ ذلك المسجِدِ في أنَّه حقيقٌ بالصَّلاةِ فيه تفضيلٌ مَسلوبُ المُشاركةِ؛ لأنَّ مَسجِدَ الضِّرارِ ليس حقيقًا بالصَّلاةِ فيه بعدَ النَّهيِ؛ لأنَّ صَلاةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لو وقعَتْ لأكسَبَت مقصِدَ واضِعيه رَواجًا بين الأمَّةِ، وهو غَرَضُهم: التَّفريقُ بين جماعاتِ المُسلِمين .
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ.
أي: أيُّ البانِينَ خَيرٌ؛ مَن أسَّسَ بناءَ مَسجِدٍ مُتَّقيًا لله، مُخلِصًا له، طالبًا رِضاه، أم مَن أسَّسَ بناءَ مَسجِدٍ بنفاقٍ وكُفرٍ وضلالٍ، فهو كمَن يبني بناءً على طَرَفِ حُفرةٍ يُوشِكُ أن تنهارَ بما بُنيَ عليها ؟!
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((صلاةٌ في مسجِدي هذا أفضَلُ مِن ألفِ صَلاةٍ فيما سِواه، إلَّا المسجِدَ الحَرامَ )) .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تشُدُّوا الرِّحالَ إلَّا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ: مسجدي هذا، والمسجِدِ الحَرامِ، والمسجِدِ الأقصى)) .
وعن سَهلِ بنِ حُنَيفٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من تطَهَّرَ في بيتِه، ثمَّ أتى مسجِدَ قُباءٍ، فصلَّى فيه صلاةً؛ كان له كأجرِ عُمرةٍ)) .
فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
أي: فانهار الجُرُفُ بالبُنيانِ والباني جميعًا في نارِ جهنَّمَ .
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
أي: واللهُ لا يوفِّقُ هؤلاءِ الذين بَنَوا مسجِدَ الضِّرارِ، ولا يُوفِّقُ غَيرَهم ممَّن يظلِمُ نفسَه بالكُفرِ والنِّفاقِ، لا يوفِّقُهم لِما فيه مصالِحُ دِينِهم ودُنياهم وآخِرتِهم، ما داموا مُقيمينَ على ظُلمِهم .
كما قال تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 86] .
لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110).
لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ.
أي: لا يزالُ مَسجِدُ الضِّرارِ الذي بناه المُنافِقونَ يُورِثُهم نِفاقًا في قلوبِهم، وشَكًّا في الإسلامِ .
إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ .
أي: حتَّى تتصَدَّعَ قُلوبُهم فيَموتوا على شَكِّهم ونِفاقِهم .
وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أي: واللهُ عليمٌ بكلِّ شيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بأحوالِ المُنافِقينَ، فيعلَمُ ما في قُلوبِهم، وما تصيرُ إليه أمورُهم في الدُّنيا والآخرةِ، حكيمٌ يضَعُ كلَّ شَيءٍ في موضِعِه اللَّائقِ به، ومِن ذلك حِكمَتُه في الحُكمِ على أولئك المُنافِقينَ ومُجازاتهم
.
الفوائد التربوية:
1- المَعصيةُ تؤثِّرُ في البِقاعِ، وكذلك الطَّاعةُ تؤثِّرُ في الأماكِنِ؛ نستفيدُ ذلك مِن قَولِ الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا فقد أثَّرَت معصيةُ المُنافِقينَ في مسجِدِ الضِّرارِ، ونُهِيَ عن القيامِ فيه، وأثَّرَت الطَّاعةُ في مسجِدِ قُباء، حتى قال الله فيه: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ
.
2- كلُّ حالةٍ يحصُلُ بها التَّفريقُ بين المُؤمِنينَ، فإنَّها من المعاصي التي يتعيَّنُ تَركُها وإزالتُها، كما أنَّ كُلَّ حالةٍ يحصُلُ بها جمعُ المُؤمِنينَ وائتِلافُهم، يتعَيَّنُ اتِّباعُها والأمرُ بها والحثُّ عليها؛ نستفيدُ ذلك مِن قَولِ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا فعلَّلَ اللهُ اتِّخاذَهم لمسجدِ الضِّرارِ بهذا المقصِدِ المُوجِبِ للنَّهيِ عنه، كما يوجِبُ ذلك الكُفرُ والمُحاربةُ للَّه ورَسولِه .
3- العَملُ- وإن كان فاضلًا- تُغيِّرُه النيَّةُ الفاسِدةُ، فينقلِبُ منهيًّا عنه؛ نستفيدُ ذلك من قولِ الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا فقَلَبَت نيَّةُ أصحابِ مَسجِدِ الضِّرارِ عمَلَهم إلى هذه الحالِ .
4- مِن أعظَمِ خِصالِ النِّفاقِ العَمَليِّ: أن يعمَلَ الإنسانُ عمَلًا، ويُظهِرُ أنَّه قصَدَ به الخيرَ، وإنَّما عَمِلَه ليتوصَّلَ به إلى غرَضٍ له سيِّئٍ، فيتِمُّ له ذلك، ويتوصَّلُ بهذه الخديعةِ إلى غَرَضِه، ويفرَحُ بمَكرِه وخِداعِه، وحَمْدِ النَّاسِ له على ما أظهَرَه، وتوصَّلَ به إلى غرَضِه السيِّئِ الذي أبطَنَه، وهذا قد حكاه اللهُ في القرآنِ عن المنافقينَ، فقال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ .
5- قَولُه تعالى: وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يدلُّ على أنَّ المقصِدَ الأكبَرَ والغرَضَ الأظهَرَ مِن وضْعِ الجماعةِ: تأليفُ القُلوبِ والكَلِمةِ على الطَّاعةِ، وعقدُ الذِّمامِ والحُرمةِ بفِعلِ الدِّيانةِ حتى يقَعَ الأُنسُ بالمُخالطةِ، وتصفوَ القُلوبُ مِن وَضَرِ الأحقادِ .
6- الطَّاعةُ لا تكونُ طاعةً إلَّا عند الرَّهبةِ والرَّغبةِ؛ نَستفيدُ ذلك مِن قَولِ اللهِ تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ أي: للخَوفِ مِن عقابِ اللهِ، والرَّغبةِ في ثوابِه .
7- العملُ المبنيُّ على الإخلاصِ والمُتابَعةِ، هو العمَلُ المؤسَّسُ على التَّقوى، الموصِلُ عامِلَه إلى جنَّاتِ النَّعيمِ، والعمَلُ المبنيُّ على سوءِ القَصدِ وعلى البِدَعِ والضَّلالِ، هو العمَلُ المؤسَّسُ على شَفا جُرُفٍ هارٍ، فانهار به في نارِ جهنَّمَ؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ .
8- قال الله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ في هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ كُلَّ شَيء ابتُدِئَ بنيَّةِ تَقوى اللهِ تعالى والقَصدِ لِوَجهِه الكريمِ، فهو الذي يَبقى ويسعَدُ به صاحِبُه، ويصعَدُ إلى اللهِ ويُرفَعُ إليه
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا فيه أنَّ اتِّخاذَ المسجِدِ الذي يُقصَدُ به الضِّرارُ لِمَسجِدٍ آخَرَ بِقُربِه- مُحَرَّمٌ، ويجِبُ هدمُ مَسجِدِ الضِّرارِ، الذي اطُّلِعَ على مقصودِ أصحابِه
.
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا فيه النَّهيُ عن الصَّلاةِ في أماكِنِ المَعصيةِ، والبعدُ عنها، وعن قُربِها .
3- كلُّ عمَلٍ فيه مُضارَّةٌ لِمُسلمٍ، أو فيه معصيةٌ لله، أو فيه تفريقٌ بين المُؤمِنينَ، أو فيه مُعاونةٌ لِمَن عادى اللهَ ورَسولَه؛ فإنَّه مُحرَّمٌ مَمنوعٌ منه، وعَكسُه بِعَكسِه؛ نستفيدُ ذلك مِن قَولِ الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا .
4- قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ يَدخُلُ في معنى مسجدِ الضِّرارِ: مَن بنى أبنيَةً يُضاهي بها مساجدَ المُسلِمينَ لِغَيرِ العباداتِ المَشروعةِ؛ مِن المَشاهِدِ وغَيرِها، لا سيَّما إذا كان فيها مِن الضِّرارِ والكُفرِ والتَّفريقِ بين المُؤمِنينَ، والإرصادِ لأهلِ النِّفاقِ والبِدَعِ المُحَادِّينَ للَّه ورَسولِه- ما يَقْوَى بها شَبَهُها .