أخبار سلاجقة الروم مختصر سلجوقنامه
الكتاب: أخبار سلاجقة الروم - تعريب
المؤلف: مجهول - من أهل القرن السابع الهجري
تعريب: محمد سعيد جمال الدين
عدد الأجزاء:1
الناشر: المركز القومي للترجمة - القاهرة
الطبعة: الثانية - 2007م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
__________
أعده للشاملة: محمود
الجيزي - عفا الله عنه
مقدمة الطبعة الثانية
لولا كتاب «الأوامر العلائية» الذى ألّفه حسين بن محمد الرّغدى المعروف بابن البيبى باللغة الفارسية فى القرن السابع الهجرى/ الثالث عشر الميلادى، لضاع تاريخ دولة من أهم الدولة الإسلامية، هى دولة «سلاجقة الروم»، التى مكّنت للحضارة الإسلامية من التوطن والاستقرار فى بلاد الروم (آسيا الصغرى)، والتى ظلت لقرون عديدة متطاولة- ومنذ أيام الصراع الذى قام بين الفرس والروم فى عهد الإمبراطوريتين الساسانية والروم الشرقية- موضع تنازل دائم لا تخضع لإحداهما فترة حتى تعود بعدها إلى الإمبراطورية الأخرى.
وحين سيطر السلاجقة على إيران فى النصف الأول من القرن الخامس الهجرى/ الحادى عشر الميلادى واصلوا التوسّع غربا حتى اصطدموا بالروم الشرقيين على مشارف تلك المنطقة وألحقوا بهم هزيمة منكرة وأسروا إمبراطورهم فى معركة فاصلة تعرف بموقعة «ملازگرد» (سنة 463 هـ/ 1071 م) كانت بمثابة تمهيد لحسم هذا النزاع الطويل لصالح السلاجقة بصورة نهائية وقاطعة.
ولم يضيّع السلاجقة وقتا، وإنما تحركوا بسرعة لفرض الأمر الواقع؛ فأسسوا فى سنة 470 هـ/ 1078 م دولة فى آسيا الصغرى عرفت بسلاجقة الروم، ظلت تتوسع بالتدريج حتى شمل نفوذها بلاد الأرمن والقوقاز والروس.
واستمرت دولة سلاجقة الروم نحو قرنين ونصف انتشرت فيها مظاهر الحضارة الإسلامية، واستقرت فى تلك المنطقة حتى انتقل الدّور من هذه الدولة إلى دولة أخرى ناشئة فتيّة برز دورها المؤثر فى الأحداث الجارية فى المنطقة حين أخذ نجم دولة سلاجقة الروم فى الأفول، وظل يتوارى رويدا رويدا حتى غاب وراء الأفق البعيد.
(المقدمة/1)
ولولا كتاب «الأوامر العلائية» الذى ألفه ابن البيبى فى ذكر أخبار هذه الدولة ووقائعها لمحيت صفحتها من الوجود، ولم يبق لها من أثر.
لقد ألّف ابن البيبى كتابه بأمر من «الصاحب علاء الدين عطا ملك الجوينى» حاكم العراق بعد انقضاء الخلافة العباسية فى بغداد (ت 681 هـ/ 1281 م)، كان الصاحب «عطا ملك» رجلا يعرف ما للتاريخ من أهمية وقيمة فى اكتساف المعرفة، وفى تحقيق التواصل بين الأجيال المتعاقبة، بل كان هو نفسه أول من ألّف فى تاريخ المغول حين أخرج كتابه القيّم «جهانگشاى» - أى فاتح العالم- باللغة الفارسية فى ثلاثة أجزاء، معتمدا على روايات شفهية موثقة من شهود عدول، وعلى وثائق فائقة القيمة، بهدف التعريف- بطريقة موضوعية وبنظرة حيادية- بهؤلاء الأقوام (المغول) الذين برزوا فجأة على مسرح الأحداث ولم يكن أحد يعرف من أمرهم شيئا.
ويبدو أن الصاحب عطا ملك خشى على أخبار دولة سلاجقة الروم أن تضيع وتندثر، فكلّف ابن البيبى بتدوين تاريخها حين رآه جديرا بالنهوض بهذا العمل بحكم قربه من مصادر صنع القرار فى بلاط السلاجقة ومراقبته للأحداث الجارية أمام عينيه من كثب، واطّلاعه على الوثائق والأسانيد المهمة، فامتثل ابن البيبى للأمر.
لكن الميل إلى إظهار القدرة على البلاغة غلبت ابن البيبى وهو يدوّن تاريخ تلك الدولة، فبالغ فى استخدام المحسّنات البديعية والصور البيانية، وبذلك احتجبت الأحداث التاريخية وكادت أن تختفى تماما وراء هذا الركام الهائل من المحسنات والصّور، فضلا عن أن المؤلف حشد كتابه بالعديد من الشواهد والأشعار العربية؛ مما أدى إلى تضخم حجم الكتاب، وجعل قراءته مهمة صعبة عسيرة.
ورأى رجل- عاش فى
عصر ابن البيبى وما زال اسمه مجهولا حتى الآن- أن يختصر الكتاب ويهذّبه، فحذف ما
فيه من حشو وزوائد، واقتصر على مجرد توصيف الوقائع وبيان الأحداث التاريخية،
مستخدما الألفاظ نفسها التى استخدمها ابن البيبى، وأطلق ذلك الرجل المجهول على
عمله هذا عنوان «مختصر سلجوقنامه».
(المقدمة/2)
كان هذا المختصر هو الذى قمت برجمته إلى العربية، استنادا إلى طبعة «ليدن» بهولندا، سنة 1902 م، والتى توفّر على إخراجها المستشرق الهولندى «هوتسما».
وهذه هى الطبعة الثانية من الترجمة، كانت الطبعة الأولى قد صدرت عن مركز الوثائق والدراسات الإنسانية بجامعة قطر- الدوحة- سنة 1995 م، ثم نفدت منذ سنوات؛ مما حدا بالمركز القومى للترجمة فى مصر أن يعيد طبع هذه الترجمة ضمن إصدارات المشروع القومى للترجمة، وفى مناسبة انعقاد ندوة «ترجمة المصادر التاريخية فى اللغات الشرقية»، وهى الندوة التى عقدها المجلس الأعلى للثقافة يومى 26 و 27 أبريل سنة 1906 م.
ولا يسعنى إلا أن أنوّه بالجهد المشكور والعمل المبرور الذى ينهض به المركز القومى للترجمة ممثلا فى مديره الأستاذ الدكتور/ جابر عصفور من أجل تزويد المكتبة العربية بترجمات لأمهات الكتب التى ألفت باللغات الشرقية بعامة واللغة الفارسية بخاصة.
والله ولىّ التوفيق
محمد السعيد جمال الدين
(المقدمة/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
بهذا المجلّد نقدّم للمكتبة العربيّة- لأوّل مّرة- ترجمة لأوفى مصدر في تاريخ دولة سلاجقة الرّوم، وأعني به كتاب «مختصر سلجوقنامه» الذي يعدّ تلخيصا واختصارا لكتاب «الأوامر العلائية في الأمور العلائية» لابن البيبي مؤرّخ تلك الدّولة الفتيّة التي نشأت في آسيا الصّغرى في منتصف القرن الخامس الهجري، وظلّت قائمة لا تزعزعها الخطوب والمحن التي توالت عليها من كلّ جانب: من الصّليبيين في الغرب، والمغول في الشرق، وغيرهم، ولا تصرفها الأحداث الجسام التي منيت بها عن التشبّث بما تستطيع من الأقاليم في تلك البلاد، وأخذت تطاول الزّمن حتى شاء لها القدر ألّا تسلم الرّاية في النّهاية إلّا بعد أن مهّدت لقيام الدّولة العثمانية في آسيا الصغرى، واتّساع رقعتها بعد ذلك حتى شملت أوربا وبلاد الشام ومصر والبحر الأبيض المتوسّط وشمال إفريقيا.
كانت دولة سلاجقة
الرّوم قد نشأت في أعقاب الهزيمة التي ألحقها السّلاجقة الأتراك بالإمبراطورية
البيزنطية في سنة 413 هـ (1071 م) في موقعة «ملازكرد»؛ وبانهيار الجيش البيزنطي
وتراجعه السّريع أمام السّلاجقة انفتح لهم سبيل السيطرة على آسيا الوسطى وجعلها
قاعدة للنّفوذ والتوسّع في بلاد الأرمن والقفقاز والرّوس.
(المقدمة/4)
واندفع السّلاجقة في اجتياحهم- عند ذاك- لمنطقة آسيا الصغرى حتى بلغوا «نيقية» على ساحل بحر «مرمرة» فاتّخذوها عاصمة لدولتهم التى أسّست في سنة 470 هـ (1078 م) كجناح من أجنحة الإمبراطورية السّلجوقية العظمى التي كانت تتمركز في إيران. وقد أطلق على هذا الجناح اسم «سلاجقة الروم».
ثم ما لبثوا- بعد بضعة أعوام- أن نقلوا عاصمتهم إلى «قونية» تحت الضّغط المتواصل للحملات الصليبية.
كان «سليمان بن قتلمش بن إسرائيل بن أرسلان بن سلجوق» قد أبلى بلاء حسنا فى معركة «ملازكرد» وفتوحات الأناضول، فأصدر السلطان ملكشاه (ت: 485 هـ- 1092 م) قرارا بتنصيبه ملكا لذلك الجناح الشّمالي الغربي من الإمبراطورية، وما لبث «سلاجقة الرّوم» أن استقلوا بدولتهم التي تعاقب أبناء سليمان بن قتلمش على عرشها حتى انقضت في النهاية سنة 708 هـ (1309 م) بوفاة آخر سلاطينها غياث الدين مسعود الثالث.
كانت الدّولة السّلجوقية الكبرى قد انقسمت بعد وفاة السلطان ملكشاه إلى عدّة دول مستقلّة، سمّيت كلّ واحدة منها باسم المنطقة التي تسيطر عليها، فكانت هناك دولة سلاجقة إيران والعراق، وسلاجقة كرمان، وسلاجقة الرّوم.
واحتفظ لنا التاريخ بتسجيل للوقائع والأحداث التي جرت في كل دولة من تلك الدّول (1).
_________
(1) انظر سلاجقة العراق: تاريخ دولة آل سلجوق (بالعربية) للعماد الإصفهاني، وقد اختصره الفتح بن علي بن محمد البنداري، ونشر بمصر سنة 1900 م. وفي سلاجقة إيران والعراق: راحة الصّدور وآية السّرور (بالفارسية) لنجم الدين أبي بكر محمد الرّاوندي، نشر في ليدن 1921. وقد ترجمه إلى العربية الأساتذة: إبراهيم الشواربي، وعبد النّعيم حسنين، وفؤاد الصيّاد، ونشر بالقاهرة سنة 1960 م. وفي-
(المقدمة/5)
أولا: الكتاب
أمّا دولة سلاجقة الرّوم فلا نجد مصدرا عني بأخبارها بقدر ما عني كتاب «الأوامر العلائيّة في الأمور العلائيّة» لحسين بن محمد بن علي الجعفري الرّغدي المعروف بابن البيبي، والذي أتمه بأحداث سنة 679 هـ، قبل زوال تلك الدولة بنحو ربع قرن. فلقد خصّ «ابن البيبي» سلاجقة الرّوم دون غيرهم بكتابه، وسجّل ما رأى وسمع من الوقائع والأحداث التي جرت منذ أواخر عهد السلطان قلج أرسلان الثاني (ت: 588 هـ) خامس سلاطين السّلاجقة حتى سنة 679 بداية عهد السلطان غياث الدين مسعود.
ولم يتمكّن المؤلف من تسجيل أحداث الفترة الأولى من ظهور دولة السّلاجقة في آسيا الصغرى وتأسيسها على يد «سليمان بن قتلمش» لأن المصادر التي قد أرّخت لذلك العصر قد أعوزته، ولم يكن بوسعه- كما أشار في مقدّمة كتابه- الاعتماد في التأريخ لتلك الفترة على «أقوال النّقلة وأقاصيص السّمّار لبعد عهدهم» من تلك الأحداث، فضلا عما في أقوالهم من تباين واختلاف.
ولذلك حرمت الفترة التي تسبق عهد السلطان «غياث الدين كيخسرو» أبي السلطان «علاء الدين كيقباد» من تسجيل تاريخيّ وتوثيقيّ مفصّل يضارع ما حظيت به أحداث الفترة التّالية من تاريخ تلك الدّولة.
ومع أنّ عنوان كتاب «الأوامر العلائية» - الذي هو أصل هذا المختصر- عربي، فإن الكتاب مؤلّف باللغة الفارسية شأنه في ذلك شأن العديد من الكتب
_________
- سلاجقة كرمان: كتاب تاريخ سلاجقة كرمان لمحمد بن إبراهيم، نشره هوتسما سنة 1882 - 1902 م بهولندا.
(المقدمة/6)
التّاريخية القيّمة التي ألّفت بتلك اللّغة، واختار لها مؤلّفوها عناوين عربية، مثل:
«جامع التّواريخ» و «روضة الصّفا» و «حبيب السّير» وغيرها.
وما اختار «ابن البيبي» هذا العنوان لكتابه إلا لأنّه- كما صرّح هو-:
«جاء متضمّنا لمقامات عزائم السلطان الأعظم علاء الخلق والدين كيقباد- أنار الله برهانه- برمّتها، فمن أجل ذلك سمي بالأوامر العلائيّةّ في الأمور العلائيةّ».
ولا يعني هذا اختصاص الكتاب بالتأريخ لعهد السلطان علاء الدين كيقباد وحده، بل يشتمل على تاريخ سلاطين تلك الدّولة- ومن بينهم السلطان علاء الدين نفسه- من سنة 588 إلى سنة 679؛ غير أن السلطان علاء الدين كان شامة بينهم، بل واسطة العقد فيهم، ولعلّ هذا هو السبب في أن المؤلّف عنون الكتاب باسمه.
وإذا تأمّلنا عنوان الكتاب وجدنا مؤلّفه يكرّر كلمة «العلائيّة» مرّتين:
الأوامر العلائية في الأمور العلائية، فهل الكلمة في كلتا الحالتين منسوبة إلى السلطان علاء الدين كيقباد؟ أم أنّ هناك «علاء الدين» آخر نسب إليه شطر العنوان؟
إذا نظرنا إلى خاتمة الكتاب وجدنا المؤلّف يشير إلى أنّ الكتاب قد تمّ تأليفه بمقتضى الحكم المطاع «للجناب الأعلى ملك الوزراء أبي المعالى عطا ملك بن محمد- أعلى الله شأنه» (1). فما ألّف الكتاب إذن إلّا بناء على أوامر صدرت
_________
(1) خصّ «ابن البيبي» علاء الدين عطاملك بمدح مستطاب في الشعر والنثر على السّواء، ووصفه بأوصاف بليغة في مقدّمة كتابه، ثم عاد في الخاتمة وأنشد قصيدة عربيّة في مدح علاء الدين مطلعها:-
(المقدمة/7)
إليه من «علاء الدين عطا ملك الجويني» حاكم العراق من قبل المغول والمؤرّخ الفارسي المعروف (ت 681 هـ- 1281 م).
فأوامر علاء الدين عطاملك قد صدرت للمؤلّف بالتأريخ للأمور التي جرت في عهد السلطان علاء الدين كيقباد، ومن هنا جاء عنوان الكتاب:
«الأوامر العلائية في الأمور العلائية».
وقد حظيّ الكتاب منذ زمن تأليفه بشهرة واسعة بين الناس، بيد أنّه كان يحمل في طيّاته بعض عوامل القصور الذّاتي التي حالت دون انتفاع النّاس واستفادتهم به على نطاق واسع، ومن أهم هذه العوامل:
1 - ضخامة حجم الكتاب؛ إذ تقع النّسخة الوحيدة التي عثر عليها منه في 744 صفحة من القطع الكبير.
2 - الأسلوب الذي ألّف به. نعم، لقد أحسن مؤلّفه التأليف وأجاد التّصنيف، وحقّق الوقائع والأحداث، لكنّه ساق ذلك كله بأسلوب ينطوي على الكثير من المبالغة والإغراق في استخدام المحسّنات البلاغية والبديعيّة، وحرص على إظهار التمكّن من استعمال أساليب الصّنعة اللّفظية من سجع، وجناس، وطباق وتشبيه ونحوه فبدا المؤلف وكأنه لا يرمي إلى بيان الوقائع التاريخية فحسب، بل يسعى كذلك إلى إظهار مهارته في الكتابة وبراعته في الإنشاء.
3 - كثرة استخدام الكلمات والشّواهد العربيّة التي قد تبدو صعبة على من لا يلمّ إلماما كافيا بالعربيّة وآدابها من قرّاء الفارسية.
_________
-
كهف الأنام علاء الدّين سيّدنا ... علّامة الدّهر، زان الملك والحسبا
(الأوامر العلائية، ص 5 - 9، 743).
(المقدمة/8)
ولا شكّ أن العاملين الثّاني والثّالث قد ساعدا على تضخّم حجم الكتاب حتى بلغت عدّة صفحاته نحو سبعمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير (1)، الأمر الذي أدّى بالضّرورة إلى ندرة النّسخ المتاحة أمام المثقّفين المعاصرين للمؤلّف للإفادة به.
هذه العوامل الثّلاثة مجتمعة هي التي حفزت أحد الأدباء في عصر المؤلّف نفسه على النّهوض بتلخيص الكتاب وتهذيبه وتخليصه مما به من فضول وحشو زائد، والاقتصار منه على القدر المناسب من الاستشهادات العربيّة والفارسيّة، والتّركيز- قدر الإمكان- على سياقة الأخبار التاريخيّة دون إطناب أو إطالة، لكي تكون هذه الثّروة النّادرة من المعلومات التّاريخية بمتناول كلّ إنسان.
ولقد أتمّ هذا الأديب الفاضل- والذي ظل اسمه مجهولا لا يعرف إلى وقتنا هذا- عمله الهام في نحو أربعة عشر شهرا، حيث بدأ التّلخيص في شعبان سنة 683، وأتمّه في شوّال سنة 684 هـ (وكان «ابن البيبي» نفسه لا يزال على قيد الحياة) وأطلق على كتابه اسم «مختصر سلجوقنامه»، وكتب في مقدّمته أنّ جماعة من إخوانه لما اشتكوا من كبر حجم كتاب «الأوامر العلائية»: «وبقوا محرومين من مطالعته والإفادة منه تعهّد هذا العبد الضّعيف ... أن يفي .. بمقاصد الكتاب ومغازيه دون إطناب في الأوصاف وإغراق في التّشبيهات، كي يكون كلّ إنسان قادرا على تحصيل نسخة وتحقيق المطلوب، فيصل نفعه لعموم الخلق».
_________
(1) انظر: كتاب الأوامر العلائيّة في الأمور العلائية، نشر عدنان صادق إرزي، أنقرة 1956 م.
(المقدمة/9)
ولقد التزم صاحب هذا المختصر بما تعهّد به من الوفاء بمقاصد الكتاب الأصلي ومغازيه فلم يحذف من موضوعات الكتاب شيئا وإنّما حافظ على التّسلسل الموضوعي الذي انتهجه ابن البيبي، وفي المرّة التي عدل فيها عن اختصار أحد الفصول، أتى بنبذة عن مضمونه في الفصل الذي يليه مباشرة، للدّلالة على التزامه بما تعهّد به منذ البداية (1).
وكان أهمّ ما حرص عليه صاحب المختصر، هو الاحتفاظ بألفاظ «ابن البيبي» وعباراته نفسها، فقلّما استخدم ألفاظا وعبارات من عنده، ولذلك جاء المختصر بمثابة صورة مصغّرة من كتاب «الأوامر العلائية» وإن كانت تنزع في أسلوبها إلى البساطة والسّهولة متى قورنت بأصلها الأوّل.
وإمعانا في التيّسير على القارئ عمد صاحب المختصر إلى الأبواب التي أوردها «ابن البيبي» شعرا في «الأوامر العلائية» وبخاصّة عند ذكره لحروب السلطان علاء الدين كيقباد (2) فحوّل تلك الأبواب إلى نثر سهل لا صنعة فيه.
وكانت نتيجة هذا الجهد كلّه أن خرج ذلك الأديب- المجهول الهويّة- على النّاس بهذا المختصر الذي يبلغ عدد صفحاته في أصوله الفارسيّة 337 صفحة من القطع المتوسّط، أي أنّه اختصر من كتاب «الأوامر العلائية» أكثر من نصفه، وأطلق عليه اسم «مختصر سلجوقنامه»؛ وهو الذي نقدّم ترجمته العربية اليوم بعنوان رئيسي هو «أخبار سلاجقة الروم» لتقريب موضوعه إلى القرّاء العرب.
_________
(1) انظر فيما يلي ص 157.
(2) انظر: الأوامر العلائية، ص 122 - 127، 317 - 319، 392 - 406، 671 - 679.
(المقدمة/10)
وواضح أنّ المختصر كان- من حيث عناية النّاس به واهتمامهم بالانتفاع بمادتّه- أوفر حظا من الكتاب الأصلي نفسه. ففي القرن التّاسع الهجري نقل أحد الأدباء الأتراك كتاب «مختصر سلجوقنامه» إلى التّركيّة، وقدّمه حوالي سنة 827 هـ إلى السلطان العثماني مراد الثّاني، وهو أمر لم يتح لكتاب «الأوامر العلائيّة» نفسه، فيما نعلم.
وفي العصر الحديث عثر المستشرق الهولندي المعروف «م. هـ. هوتسما» (المتوفّى سنة 1943 م) على نسخة من هذا المختصر في «المكتبة الوطنّية بباريس» تحت عنوان: «تواريخ آل سلجوق، وهذا المجلّد مشتمل على مختصر سلجوقنامه، وأصله تأليف «ناصر الملّة والدين يحيى بن محمد المعروف بابن البيبي». وقام «هوتسما» بطبع الكتاب- معتمدا على هذه النسخة الوحيدة- بمطبعة «بريل» في «ليدن» بهولندا سنة 1902 م (1)، ونفدت نسخ هذه الطبعة بعد نشرها بزمن يسير، وأصبح من المتعذّر العثور على نسخة منها.
حتى قام الدكتور «محمد جواد مشكور» - الأستاذ بجامعة طهران- فى سنة 1971 م بتصوير طبعة «هوتسما» وضمّنها كتابه «أخبار سلاجقة روم» الذي جمع فيه- إلى جانب المختصر- الكثير من النّصوص التّاريخية الفارسية عن تلك الدّولة وزوّدها بالعديد من الهوامش والتّعليقات الضّافية والتي أفاد في كتابة العديد منها بكتاب «الأوامر العلائية» بعد طبعه في تركيا سنة 1956 م.
_________
(1)
M.H.Houtsma, Histoire des Seldjoucides d Asie Mineure, d, Apres l Abrege de Seldjouknameh d ibn- Bibi, Texts Persan, publie d apres le Ms de Paris, Leide E.J.Brill, 1920.
(المقدمة/11)
وكان الأستاذ «عدنان صادق أرزي» قد عثر على نسخة خطّية وحيدة لكتاب الأوامر العلائية بمكتبة «آيا صوفيا» في استانبول نسخت في سنة تأليفها (سنة 679 هـ) وقدّمت لغياث الدين كيخسرو الثّالث، فقام الأستاذ عدنان إرزي بطبع هذه النّسخة نفسها بحيث تكون مطابقة للمخطوط الأصلي بطريقة «الفاكسميل»، ونشرها بأنقرة سنة 1956 (1).
ثانيا- مؤلّف الأوامر العلائية (2)
هو الأمير ناصر الدين حسين بن علي الجعفري الرّغدي، المعروف بابن البيبي، من أدباء القرن السّابع الهجرى ومؤرّخيه.
وقد عرف المؤلف بابن البيبي نسبة إلى أمّه «بي بي» المنجّمة التي كانت تتمتّع بقدر كبير من النّفوذ في عهد السلطان «علاء الدين كيقباد». ويصل نسبها القريب إلى اثنين من كبار الفقهاء في عصر السّلاجقة في خراسان، فأبوها «كمال الدين السّمناني» رئيس الشّافعية في نيسابور، وجدّها لأبيها الإمام الربّاني «محمد بن يحيى» رئيس الحنفيّة في نيسابور، والذي قتل في فتنة الغزّ بخراسان سنة 548 هـ (أوائل سنة 1154 م).
وفي بلاط السلطان جلال الدين خوارزمشاه، عملت «بي بي» وزوجها مجد الدين، وكان من سادات «جرجان». وحين سافر أحد أمراء السلطان «علاء الدين كيقباد» في سفارة لبلاط السلطان جلال الدين خوارزمشاه وجد
_________
(1) انظر المقدّمة التركية التي كتبها الأستاذ عدنان إرزي لكتاب الأوامر العلائية، ص 5.
(2) راجع الأوامر العلائية، ص 10، 442، ومختصر سلجوقنامه، ص 194 وانظر فيما يلي ص 234 - 235.
(المقدمة/12)
هذه السّيدة مسموعة الكلمة عند جلال الدين لمهارتها في أحكام النجوم، فلمّا عاد الأمير إلى مليكه حكى له حكاية هذه السّيدة على سبيل التندّر.
وكانت «بي بي» فاتحة خير لكلّ من زوجها: مجد الدين محمّد، وابنها ناصر الدين حسين مؤلّف كتاب الأوامر العلائية.
ولم يمرّ وقت طويل حتى قتل السلطان جلال الدين، فدعيت «بي بي» المنجّمة وزوجها للعمل في خدمة «علاء الدين كيقباد». فلما أثبتت مهارتها في علم النجوم وموافقة أحكامها- غالبا- للقضاء والقدر، طلبت إلى السلطان تعيين زوجها «مجد الدين محمّد التّرجمان» رئيسا لديوان الإنشاء الخاصّ بالسلطان، فتحقّق لها ما أرادت وأصبح زوجها من الملازمين الدّائمين للسلطان في الحضّر والسّفر، وبلغ من ثقة السلطان به أنّه لم يكن يرى أحدا أصلح منه لحمل الرّسائل إلى البلاطات الكبرى كبغداد والشّام والخوارزميين، والإسماعيلية، والمغول، ولذلك لقّب مجد الدين بلقب «التّرجمان» وتوفي سنة 670 هـ.
أمّا مؤلّف الأوامر العلائيّة (الذي يعدّ هذا المختصر صورة مصغّرة من كتابه) فلا نكاد نعرف عنه إلّا معلومات ضئيلة للغاية، فقد منح لقب الأمير، حين صار أميرا لديوان الإنشاء بعد اعتزال أبيه للعمل، فيما يبدو، وكان يلقّب بأمير ديوان «الطّغرا» حيث كان يتولى كتابة المراسيم والأوامر السلطانية ويمسك أختام السلطنة، وقد تزوّج ناصر الدين حسين من ابنة أمير الأمراء «كمال الدين كاميار» الذي حظي بمكانه بارزة لدى السلطان «علاء الدين كيقباد» بعد أن تيسّر للسلطان- بفضل كفاءته وخبرته- الاستيلاء على أرمينيا وبلاد الكرج وأجزاء من بلاد الشّام، غير أنّ كمال الدين لم يلبث أن قتل في أوائل عهد
(المقدمة/13)
السلطان «غياث الدين كيخسرو» سنة 634 هـ.
هذا هو مجمل لما ورد من أخبار المؤلّف، وهو يدلّنا على مدى ما لديه من مؤهّلات تمكّنه من مراقبة الأحداث من كثب، وتسجيلها باعتباره شاهد عيان لها.
على أننا إذا تأمّلنا كتاب «الأوامر العلائيّة» وجدنا مؤلّفه من كبار أدباء الفرس، ومن أصحاب اللّسانين العربي والفارسي، بل ينظم الشعر بكلتا اللغتين، وله اطّلاع واسع عميق بالعربيّة وآدابها.
والحقّ أن «علاء الدين عطاملك الجويني» - وهو المؤرّخ الثّبت وصاحب المدرسة التوثيقية في كتابة التّاريخ عند الفرس- لم يكن ليعهد إلى ابن البيبي بكتابة تأريخ لسلاجقة الرّوم إلا إذا كان قد أنس فيه القدرة وأيقن أنه يمتلك عدّة النّهوض بأعباء هذا العمل الكبير، فهو بحكم منصبه في ديوان سلاجقة الرّوم قادر على الاطلاع على الوثائق التاريخيّة الهامّة، مراقب للأحداث والوقائع، مطّلع على ما يحاك من مؤامرات القصور ويدبّر فيها من دسائس، فضلا عن مكانة أبيه «مجد الدين الترّجمان» وأمّه «بيبي المنجّمة» في بلاط السّلاجقة، مما أتاح له فرصة سماع الكثير من الأحداث التي لم يشهدها بنفسه من أقرب المصادر وأوثقها. لقد عاش ابن البيبي وتربى في كنف هذه الدّولة، وتبوّأ مركزا يقرّبه من سلاطينها «فخط في هذا المجلد ما جرى من الأمور في السّنين والشّهور في بلاد الرّوم مما قد رأى وسمع» (1). وبفضل هذا التثبّت جاء الكتاب سجلا ناطقا لكل مظاهر الحياة السّياسية، والعسكرية، والاقتصادية والاجتماعية، والثّقافية والمعمارية، والحضارية بعامّة في دولة سلاجقة الرّوم.
_________
(1) «مما قد شاهد وسمع» هي نفس عبارة عطاملك الجويني في مقدمة جهانكشاي، طبع ليدن سنة 1911، 1: 3.
(المقدمة/14)
ثالثا- هذه الترجمة
وقد اعتمدت في نقل كتاب «مختصر سلجوقنامه» إلى العربية على نسخة المستشرق الهولندي «هوتسما»، والتي نشرها في ليدن سنة 1902 م.
غير أني صادفت منذ الوهلة الأولى صعوبات جمّة في التّرجمة، لامتلاء تلك الطّبعة بكلمات وعبارات محّرفة أو مصحّفة غير مستقيمة المعنى ولا واضحة الغرض، يحتاج إصلاحها إلى وقت طويل وفحص في المعاجم غير قليل، وتحوّط من الخطأ، وتفهّم لما يقتضيه السّياق من المعاني والأغراض، ومعرفة بأساليب الكتابة الفارسيّة ومصطلحاتها في ذلك العصر. وبدا لي نقل الكتاب في ظلّ هذا التّحريف والتّصحيف أمرا بعيد المنال،
إلى أن يسّر الله- عزّ وجلّ- لي الحصول على نسخة مصوّرة من كتاب «الأوامر العلائية» وهو أصل هذا المختصر، فعمدت إلى مقارنة المختصر بالأصل، وأمكن من خلال المقارنة إصلاح المحرّف والمصحّف من الكلمات، وتكميل النّاقص من الجمل، وتحقيق الأعلام وضبطها، وضبط الملتبس من الألفاظ، وإيضاح الغامض من العبارات. وقد نبّهت على ذلك كلّه في حواشي الترجمة، وأشرت اختصارا إلى كتاب الأوامر العلائية بالحرفين أ. ع.
وأودّ أن أنبه إلى أنّ صاحب هذا المختصر لم يستطع منذ البداية أن يتخلّص من إسار طريقة «ابن البيبي» في الكتابة، وإنما سايره كلّ المسايرة، وحذا حذوه وتابعه فنقل عباراته بنصّها- كما أسلفنا، واقتصر جلّ عمله على حذف الفقرات التي رآها لا تضيف كثيرا إلى توصيف الوقائع وبيان الأحداث التاريخيّة، واكتفى من العبارات بما يعين على أداء المعنى دون إطناب فاستبعد بذلك سائر العبارات التي تؤدي المعنى نفسه. ولم يتدخّل في تغيير ما انتقاه من عبارات
(المقدمة/15)
الأصل إلا لماما، ولم يضف من عنده شيئا، اللهم إلا بعض العبارات الإنشائية في عديد من المواضع (1)؛ ولذلك ظلّت مسحة من التكلّف والحلية اللفظية عالقة بالأسلوب، ولقد كان ذلك- على كلّ حال- طابع العصر.
ولقد حاولت- ما استطعت- أن أحافظ على أسلوب الكتاب وأن أنقل في التّرجمة كلّ ما يرمي المؤلّف إلى بيانه، لكى تصبح هذه التّرجمة صورة صادقة للنصّ الفارسي. وأثبتّ أرقام صفحات الأصل الفارسي في الهامش الجانبيّ للصفحات لكي يتيسّر بذلك الرّجوع إلى الأصل عند الحاجة.
أما الآيات القرآنية التي وردت في المتن فقد رددتها إلى مواضعها من كتاب الله العزيز، وأشرت في الهوامش إلى ما اشتمل عليه المتن الفارسي من نصوص وأمثال وعبارات عربيّة. أما الأشعار العربيّة فقد استطعت ردّ بعضها إلى قائليها من شعرائنا العرب، من الذين جرت أشعارهم مجرى الأمثال في آداب الأمم الإسلاميّة بعامّة والأدب الفارسي بخاصّة.
ثم عمدت في الحواشي إلى التّعريف بالمجاهيل وبعض الأعلام، وشرح بعض صور التّعبير المألوفة في الفارسية لتقريبها إلى القارئ العربي، وزوّدت المجلّد بخريطة تفصيلية تشتمل على معظم أسماء الأقاليم والمدن الواردة بالتّرجمة، ثم ذيّلته بفهارس للأعلام والأماكن والشعوب والطوائف (1).
وأرجو أن تكون التّرجمة بذلك قد نالت حظّها من العناية.
_________
(1) أبقيت في الترجمة على الحروف الفارسية الواردة في أسماء الأعلام. وإليك بيان بكيفية نطق هذه الحروف: پ تنطق مثل حرف (P) في الإنجليزية. چ ينطق مثل حرفي (CH) في الإنجليزية. گ ينطق مثل حرف (G) في كلمة Garden الإنجليزية، أو مثل الجيم المصرية في اللهجة العامية.
(المقدمة/16)
وبعد، فإن هذا العمل- الذي يمثّل إضافة حقيقية للمكتبة العربية هي في أمسّ الحاجة إليه لندرة الأعمال التي تعالج موضوعه- ما كان يمكن أن يخرج بهذه الصّورة لولا التّشجيع الذي لقيته من جامعة قطر ممثّلة في مديرها الفاضل الأستاذ الدكتور عبد الله جمعة الكبيسي، والأستاذ الجليل الدكتور عثمان سيّد أحمد مدير مركز الوثائق والدّراسات الإنسانية، والأستاذ الكريم الدكتور عادل حسن غنيم رئيس وحدة بحوث التّاريخ والوثائق، وسائر الإخوة الأفاضل أعضاء الوحدة، فجزاهم الله عن العلم وأهله خير الجزاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
محمد السعيد جمال الدين
القاهرة:
ضحوة الإثنين 24 ربيع الثاني 1414 هـ 11 أكتوبر 1993 م
(المقدمة/17)
المصادر والمراجع التي رجعنا إليها في تحقيق الكتاب وتحرير حواشيه
أولا: المصادر العربية:
- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، لمحمد فؤاد عبد الباقي.
- أطلس التاريخ الإسلامي، للدكتور حسين مؤنس.
- الأعلام للزركلي.
- تاج العروس، لمحب الدين السيد محمد مرتضى الزبيدي.
- تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصر إسماعيل بن حمّاد الجوهري.
- تاريخ الأدب في إيران، لإدوارد براون، ترجمة الدكتور إبراهيم الشواربي.
- دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة الجديدة بالإنجليزية.
- ديوان الحماسة، لأبي تمّام حبيب بن أوس الطائي، طبع فرايتاج.
- الشّرق الإسلامي في عهد الإيلخانيين، للدكتور فؤاد عبد المعطي الصيّاد، طبع مركز الوثائق والدراسات الإنسانية، جامعة قطر.
- صبح الأعشى في كتابة الإنشا، لشهاب الدين أبي العباس أحمد القلقشندي.
- صحيح البخاري، للإمام أبي جعفر محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري.
- عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، لبدر الدين محمود العيني، (عصر سلاطين المماليك)، تحقيق الدكتور محمد محمد أمين.
(المقدمة/18)
- علاء الدين عطاملك الجويني، حاكم العراق بعد انقضاء الخلافة العباسيّة في بغداد، للدكتور محمد السّعيد جمال الدين.
- القاموس المحيط، لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي.
- الكامل في التاريخ، لعز الدين على بن أبي الكرم، المعروف بابن الأثير، طبع أوربا.
- كشّاف اصطلاحات الفنون، للتّهانوي.
- معجم الأسرات الحاكمة، لزامباور.
- معجم البلدان، لياقوت الحموي (شهاب الدين أبو عبد الله).
- معجم الدّولة العثمانية، للدكتور حسين مجيب المصري.
- معجم شواهد العربية لعبد السّلام هارون، طبع مصر.
- المعجم الوسيط، أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
- المعرّب من الكلام الأعجمي، لأبي منصور موهوب الجواليقي.
- مفرّج الكروب في أخبار بني أيّوب، لجمال الدين محمد بن واصل.
- النّجوم الزّاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لجمال الدين أبي المحاسن يوسف، ابن تغري بردي.
- نهاية الأرب فى فنون الأدب، لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النّويري.
- وفيات الأعيان، للقاضي أبي العباس شمس الدين، ابن خلّكان.
(المقدمة/19)
ثانيا: المصادر الفارسية:
- الأوامر العلائية لناصر الحسين بن محمد الرّغدي المعروف بابن البيبي، النسّخة المصوّرة عن مخطوط آيا صوفيا رقم 2985 - نشر عدنان إرزي، أنقرة.
- برهان قاطع، لابن خلف التبريزي.
- تاريخ أدبيات در إيران، للدكتور ذبيح الله صفا.
- تاريخ جهانگشاي، لعلاء الدين عطا ملك الجويني، تحقيق محمد بن عبد الوهّاب القزويني، طبع ليدن.
- تاريخ گزيده، لحمد الله بن أبي بكر المستوفي القزويني، باهتمام إدوارد براون.
- تاريخ مغول، لعبّاس إقبال.
- حبيب السّير، لغياث الدين بن حسام الدين الحسيني المعروف ب «خواندامير».
- راحة الصّدور، لمحمد بن علي بن سليمان الراوندي، تصحيح محمد إقبال.
- روضة الصّفا، لمير محمد بن سيد برهان الدين (مير خواند).
- فرهنك ادبيات فارسي دري زهراى خانلري.
- فرهنك انكليسى فارسي لاشتاين جاس.
- فرهنك جديد لفريدون- كار.
- فرهنك عميد لحسن عميد.
- لغت نامه دهخدا لعلي أكبر دهخدا.
(المقدمة/20)
بداية النص المحقق
(1/)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[تقديم]
ربّ تمّم وأعن
بعد حمد البارى والسلام الدائم المتواصل على السيد المختار، عليه السلام وعلى آله الأخيار.
فإنّه لا يخفي على من يطالع هذه الأوراق أن كتاب «سلجوق نامه» كتاب عديم النّظير فقيد المثل، من منشآت الصّدر العلّامة نادرة الزمان مالك الطّغرا (1) ناصر الملّه والدين يحيى بن محمد، المعروف بابن البيبي، دامت فضائله. وقد استخدم فيه أسلوبا بارعا وساق فيه الكلام على وجه لا قدرة لصاحب صنعة على مجاراته ومباراته.
غير أن جماعة الإخوان لما اشتكوا من كبر حجمه وبقوا محرومين من مطالعته والإفادة منه تعهّد هذا الضّعيف والتزم- مع قلّة البضاعة في الصّناعة- أن يفي- في أجزاء معدودة- بمقاصد الكتاب ومغازيه دون إطناب في الأوصاف وإغراق في التّشبيهات، كي يكون كلّ إنسان قادرا على تحصيل (2) نسخة وتحقيق المطلوب، فيصل نفعه لعموم الخلق. والله وليّ ذلك.
_________
(1) الطغرا: وهي الطرّة التي تكتب في أعلى المناشير فوق البسملة، بالقلم الجليّ، تتضمن اسم الملك وألقابه، وهي تنسب إلى الشخص الذى يكون شغله ومنصبه كتابة الطغرا وألقاب الملوك والأمراء على الفرامين والمناشير وتحرير الأوامر وإمساك الأختام السلطانية، والكلمة أعجمية محرّفة من الطرّة العربية. راجع لغت نامه لعلي أكبر دهخدا.
(2) في الأصل: بى تحصيل، أي دون تحصيل، وقد قرأها الدكتور محمد جواد مشكور: به تحصيل؛ انظر أخبار سلاجقة الروم، طبع طهران. 135 هـ. ش، المقدمة، ص بيست ونه.
(1/1)
مقدمة
قد اعتذر مؤلّف الأصل في الدّيباجه أوّلا، فقال إنّ كيفية وصول السّلطان سليمان بن قتلمش بن اسرائيل إلى السّلطة، وأحوال أمرائه الكبار كالأمير منكوجك، والأمير أرتق، والأمير دانشمند ليست من الأمور المحقّقة. ومن المتعذّر تماما وجود الكتب التي أرّخت لذلك العصر، وليس بالإمكان- بسبب (1) اختلاف الرّوايات- الوثوق بأقوال النّقلة وأقاصيص السّمّار لبعد عهدهم.
/ ومن ثمّ فقد بدأ [المؤلّف] من عهد دولة السّلطان غياث الدين كيخسرو، والد السلطان علاء الدين كيقباد.
ذكر تنصيب السّلطان قليج ارسلان للأمير غياث الدين كيخسرو وليّا للعهد
حين تبّدلت حلّة شباب السّلطان السّعيد قليج ارسلان الأرجوانية برداء المشيب القشيب، ووصل مركب الحياة الكاملة البهيج، وحلّ وقت الوداع وتفرّق الاجتماع، استدعى [السّلطان] غياث الدّين كيخسرو، وكان أصغر الأولاد، وقد اختصّ من بين إخوته الأحد عشر بشرف ملازمة أبيه، وقال له:
يا بنىّ، اعلم أنّه قد دنا ارتحالي من هذا الفناء، وها أنذا أتأهّب للتزوّد بزاد طريق المعاد. وأنت بحمد الله بشرى الثّمار في حديقة الملك، ونوّار روضة الألطاف الإلهيّة. ما أسعد العرش بأن يجلس عليه مثلك؛ وليس لنا أن نؤثر أحدا عليك.
_________
(1) في الأصل، بحسب، والمعنى بها لا يستقيم.
(1/2)
وأنا ما اخترتك على الإخوان إلا لما رأيته فيك من لياقة للملك؛ إنني أنصبك على رأس الخلق، وما الخلق إلا ودائع الحقّ، وأنا إنما أعهد بالملك إليك وبالرّوح لرضوان (1). «يا بنيّ لا تشرك بالله إن الشّرك لظلم عظيم .... يا بنيّ أقم الصّلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الأمور، ولا تصعّر خدّك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحبّ كلّ مختال فخور» (2).
يا بنيّ، إنما يسأل الملوك عن العدل: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلّكم تذكّرون» (3) الدنيا فرّارة ما قرت لأحد أبدا، إنما هي كسجم السحاب ليس له من دوام، وبكاؤها كابتسام البرق لا يصدر عن رضا وارتياح، إن أضحك ساعة أبكى سنة، وإذا أتى بسيّئة/ جعلها سنّة.
فلمّا وعظه بتلك الوصايا البليغة، أمر فاجتمع أركان الحضرة وأعيان السّلطنة. ولما رأى صفّة الديوان غاصّة بالخاصّ والعامّ قال: قد بلغت شمس إقبالي درجة الزّوال، ومعلوم أنّ الملك لا يبقى بلا مالك، كما لا تبقى المدينة بغير مدبّر، شعر:
- يمضي واحد ويحلّ محلّه آخر ... لا يدع الله الدنيا بغير حاكم.
_________
(1) خازن الجنّة.
(2) سورة لقمان: 13: 18.
(3) سورة النحل: 9.
(1/3)
وإنّ ابني كيخسرو ذا الوجه الّذي يشبه وجه «منوتشهر» (1) إنما يتحلّى بالآداب السّلطانية، وهو في حلبة هذا المضمار يتمتّع بالسّبق والبروز على إخوانه، وعلى ملوك سائر الديار. ولقد منحته ولاية العهد، وفتحت أمامه باب هذه الدّولة، وأجريت حكمه في الولاية والرعيّة طالما كنت على قيد الحياة، وجعلته وارثا للتاج والخاتم، ونحّيت نفسي جانبا. إنّما عليكم أن تبايعوه، وأن يتبين منكم رسوخ القدم- كالصّخرة الصّماء- على محبّته والولاء له.
فما لبث أعيان الدولة- بعد البكاء والعويل والسّكوت الطّويل- أن رأوا أن الانقياد لأوامر السّلطان من أوجب الواجبات، وقالوا: السلطان غياث الدين بطلنا، وهو عندنا في الظاهر والباطن والغيبة والحضور سواء، نسلك طريق الغلظة والحدّة- كالسّيف والسّنان- مع خصوم دولته. وأضافوا إلى تلك المواثيق من الحلف والأيمان ما لا يمكن لتأويل أن ينقضه عند أهل الإيمان.
وبعد الحلف على درء المخالفة ونصب راية الموافقة، وإحكام أحكام النّصرة والمعاضدة، أقروّه على السلطنة [شعر]:
- جلس السلطان مبارك القدم بيمن القدوم ... فوق عرش السّلطنة في بسيط خطّة الرّوم.
ووقف قادة الأطراف بجوار العرش يمينا ويسارا، وجعل ما لا حصر له من الدّرهم والدينار نثارا، ووصلت الخلع والتّشريفات الثمينة من خزانة السلطنة/ إلى طبقات الأمراء والكبراء، فازداد بذلك النّوال ميل الكافّة، وقضوا في السّرور والطّرب أياما عشرة، ولم يدعوا في شرعة اللهو والطّرب من بقيّة إلا جرعة السّاقي.
_________
(1) منوتشهر، من ملوك الفرس القدماء، وقد وصف ببهاء الطلعة.
(1/4)
ثم ما لبث أن التفت إلى عمارة البلاد والأمصار، ونقلت الأخبار إلى أطراف المملكة. وكانت هذه الحكاية في سنة ثمان وثمانين وخمسماية.
ذكر اجتماع الإخوان بالملك ركن الدين وتحريضه على التمّرد
حين بلغ الخبر مسامع الإخوان تحرّكت بواعث الحسد- عند كل منهم- في باطن الجسد، وجلس كلّ أخ على نار، مع أن كلا منهم كان مستحوذا على إقليم ومستوليا على مملكة؛ فكانت توقات مع توابع ركن الدين سليمانشاه، ونكيسار مع مضافات ناصر الدين بركيا رقشاه بينما تولى آبلستان مغيث الدين طغرلشاه، وقيصرية نور الدين سلطانشاه، وسيواس وآقسرا قطب الدّين ملكشاه، وملطيّة معزّ الدّين قيصر شاه، وأراكلية سنجر شاه، ونكيده ارسلانشاه، وأماسية نظام الدّين أرغون شاه، وأنكورية محيى الدّين مسعود شاه، وبرغلو غيّاث الدّين كيخسرو.
ولم يكن يعود من أعمال تلك الدّيار على ديوان سلطنة الوالد شىء قطّ قلّ أو كثر، بل كانوا يقدمون على أبيهم مرة واحدة في السّنة، ويعودون بعد تحقّق المقصود.
مجمل القول أن الملوك حين تحرّكت فيهم نوازع الغلبة وبواعث السيطرة، تجمعوا عند ركن الدّين سليمانشاه، وكان أخاهم الأكبر، وأخذوا في تفنيد رأي أبيهم وتوهين فكره، وذهبوا إلى أنه إنما تيمّم ببقايا الزّبال مع وجود الماء الزّلال، وتشبّث بحيلة الثعلب الأعرج رغم أن صولة الفهد على أهبة الاستعداد [بيت]:/
(1/5)
- لن نرضى بما حكم الأب ... كيف نزيل هذا الشّنار ونمسح هذا العار.
وذكروا من هذا النوع من الكلام المغشوش (1) ما يشبه العهن المنفوش.
ونظرا لما كان يتمتع به الملك ركن الدين من دهاء وعقل أجاب بقوله:
إن سيّد العالم- خلّد الله أيّامه- حاكم موفّق، كل ما يأمر به ويقوله إنما يذعن له الفلك رغبا ورهبا. ولما كانت ذاته الشريفة هي السبب في تكوين طينتنا نحن فإن عدم ارتسام أحكامه وامتثال أمره مفض إلى العقوق ومؤدّ لنكران الحقوق: [شعر]:
- لا أبيع رضاه بملك ما في الأرض جميعافما لتراب الكثيب الفاني ذلك المقدار.
سيّما وأن سيماه الكريمة قد تغيّرت .. ومعين ترفه ونعيمه قد تكدّر، فالنهوض لنقض أحكامه- وهو ما يجعله مضغة في الأفواه وأضحوكة للأشباه- أمر بعيد عن الرأي السديد. إن غياث الدين وإن كان صغير السن (2) قد التحق بمدرسة: «وعلّمناه من لدنّا علما» (3)، وأتقن فيها استيعاب الآداب الملوكية، وأخرجها من القوة إلى الفعل، «والله يؤيد بنصره من يشاء» (4). وحين سمع الإخوة هذه النصائح نبذوا ما كان قد تسلل إلى رؤوسهم من هواجس سوداوية،
_________
(1) كذا في الأصل مغشوش، والمغشوش: غير الخالص (المعجم الوسيط).
(2) في الأصل پسين خردست: متأخرا صغيرا، وفي الأوامر العلائية [ص 28] بسنّ خردست: صغير السن، وهو الأصح كما هو واضح.
(3) تضمين من القرآن الكريم، سورة الكهف: 65.
(4) سورة آل عمران: 13.
(1/6)
وآب كل منهم إلى ملكه خاسرا خائبا.
وفي أثناء هذه الحالات وصل الخبر بأن السلطان «قلج ارسلان» قد التحق بدار الجنان، وجلس غياث الدين منفردا على مسند الملك، واستوى على العرش.
ذكر سماع السلطان ركن الدين وفاة أبيه، وصرف همّته لانتزاع الملك من قبضة أخيه
حين علم الملك ركن الدين في شهور سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بوفاة أبيه أشعل القلب بنار احترق بها لفراقه، وبعد شرائط العزاء ولوازم البكاء دفع برسل مسرعين إلى أعوانه وأعضاده حيث تتجمّع الأجناد في الأغوار والأنجاد.
وغادر بنفسه توقات دون أن يصطحب معه جندا، وما كاد يصل إلى آقسرا حتى لحق به جيش ضخم جدا، فبلغ الجميع «قونية» في خدمة ركاب مظلّته الملكية، فشهر أهل «قونية» درع المقاومة في وجوههم، وظل ستون ألفا من حملة الأقواس طيلة أربعة أشهر، وبصورة يومية، مشتبكين في الطّعان والنّزال مع عساكر الملك ركن الدين. وفي النهاية أرسلوا رسولا إلى الملك واصطلحوا على أن ينطلق السلطان غياث الدين مع أبنائه وأتباعه وأشياعه إلى أية ناحية يرتضيها خاطره، ويصل سالما إلى مقصده، ثم يدخل الملك المدينة من بعد ذلك فيبايعه أهلها على الولاء له. فأبرم العهود وفقا لما التمسوه، وأرسلها. فعرضت جميعا في حضرة السلطان، ووقعت منه موقع الحمد والاستحسان، وأمر بأن يذهب اثنان آخران من أهل المدينة ممن لهم علم بظواهر الأمور وبواطنها، إلى حضرة الملك
(1/7)
بهدف التأكيد، وأن يحصلوا على وثيقة ورسالة خطّية منه مؤكّدة بأقسام القسم والأيمان الغلاظ.
ففعلا ذلك في الحال وحين طالع السلطان العهود آثر تسكين روع القلب وجيشان النفس (1)، واختار الجلاء مضطرّا.
ذكر جلاء غياث الدين كيخسرو والوقائع التي شاهدها فى غربته
في سنة ست وتسعين وخمسمائة، عند صلاة العشاء، وقد ظهرت الكواكب الدرارى في/ الدّغل اللازوردى للقبة الزرقاء كأنّها الزهور النّديّة، غادر السلطان المدينة في كوكبة من الخواصّ وسلك طريق آقشهر قاصدا «ستنبول».
ولفرط الاستعجال واضطراب الحال عرض للملك عز الدين كيكاوس والملك علاء الدين كيقباد ما أدى إلى غيابهما عند ذاك عن خدمة أبيهما، ولم ينتبه لهما السلطان، وانطلق مسرعا من المدينة.
فلما وصل إلى قرية لاديق من أعمال قونية استخفّ رعاياها بغلمانه وخواصّه، وجرحوا بعضهم، وعرّضوا الأمتعة للتّلف، فحزن السلطان لذلك وسلك طريق «لا رنده» وكتب- متعجلا- رسالة تتضمن العتاب إلى أخيه، وشكا مما لحق بعرق السلطنة النجيب من إهانة وإذلال.
وحين دخل ركن الدين المدينة في اليوم التالي، وجلس على العرش، سلّم
_________
(1) الترجمة الحرفية: سكّن روع الرّوع، وجيشان الجأش، والرّوع: القلب، والجأش: النفس.
(1/8)
الرسل الرسالة، فهاج وماج من فرط الغضب، غير أنه كظم غيظه كسبا للوقت، وصاح في الرسل قائلا: مثل هذا يجب أن يحلّ بمخالفي الدولة، والمخلّفين من أنصارها (1). ثم أومأ خفية إلى بعض أفراد حاشيته بأن يعملوا على تهدئة خواطرهم (2). وأمر بأن ينادى في الناس بأن كل من أغار على أخي السلطان وألحق الأذى والضرر بمن معه، عليه أن يتقدّم ويعدّ ذلك سببا للتقرّب والزّلفى.
فاغترّ أولئك المجاهيل بهذه المغريات، وبادر كل منهم يستبق غيره حتى تجمّعوا بأجمعهم في الديوان وقد أحضر كل منهم بصحبته كل ما كان قد استلبه، وهو يقصد بذلك أن يروّج سوقه. فأسلم السلطان كل فوج إلى جماعة، واستدعى الملكين (3) وأجلسهما على العرش فوق ركبتيه، وأبدى عطفه وحدبه عليهما، وخيّرهما بين الإقامة والارتحال، فاختارا السفر واللحاق بأبيهما، وتحدّرت رغما عنهما/ العبرات مدرارا على وجنتيهما كحّبات الرمّان. فأخذت السلطان رقّة لهما، وسيّرهما مع أهلهما بمودّة صادقة وقد زوّدهما بالخلع النفيسة من الأحزمة المرصّعة وما يوافقها ويجانسها.
ثم أمر بصلب الجناة العصاة من شرفات سور المدينة وسلب كسوة الحياة من أبدانهم المرتعشة، وإضرام النار في القرية، ولذلك ظل اسم «سوخته» (4) يطلق على «لاديق» إلى وقتنا هذا. وقال السلطان: هذا ما لابد أن يلحق بمن يستخفّ بالسلاجقة من جزاء وعقاب.
_________
(1) الترجمة الحرفية: ومخلّفي تلك الشيعة.
(2) يعني تهدئة خواطر الرّسل.
(3) يعني عز الدين كيكاوس وعلاء الدين كيقباد. وكانا قد تخلفا عن مصاحبة أبيهما عند مغادرته قونية، كما مرّ.
(4) ومعناها: المحترقة.
(1/9)
ظل السلطان في مكانه لا يبرح إلى أن وصل ابناه، فلما وصلا عرضا ما لقياه من عطف عمّهما. وتقدّم رسل السلطان ركن الدين بأعذار واهية (1)، فاستمع إليها السلطان غياث الدين بحسن الإصغاء، ثم أعادهم مكرّمين معزّزين من حيث أتوا، وشرع هو في دخول ممالك الأرمن التي كانت في ذلك الوقت ملكا لليفون تكفور.
ذكر وصول السلطان غياث الدين لأرمينيا
حين جاء ليفون الخبر بقدوم السلطان، خفّ للاستقبال إجلالا كما يخفّ الظمآن للماء الزّلال، فلما ألقى نظرة على المظلّة المباركة، نزل من فوق جواده، وأصبح الجسد كلّه لسانا ناطقا بالترحيب بالسلطان.
واتفق للسلطان أن توقّف شهرا هناك، ثم انطلق موليا وجهه شطر آبلستان.
وبلغ الملك مغيث الدين ابن قلج ارسلان [ملك آبلستان] (2) الغاية (3) في ما تقتضيه الأخوّة من ولاء وخدمة. فأحضر قاضي المدينة وأئمتها في خلاء فسيح، وأقرّ بأن ملك آبلستان وتوابعه- كما ولّانيه أبي- أشهد على نفسى أنا طغرلشاه بأنه ملك سيّدى وأخي السلطان غياث الدين كيخسرو، ثم قدّم الصكّ/ لحضرة السلطان في الاجتماع العام. فقال السلطان:
_________
(1) «تقدموا بأعذار واهية فاسدة عن البقاء مدة في خدمة السلطان، فأصغى لمعاذيرهم بحسن الاستماع، وسمح لهم بالعودة مع التشريفات والكرامات» الأوامر العلائية ص 139.
(2) إضافة من الأوامر العلائية ص 40.
(3) في الأصل والأوامر العلائية 40: برعايت رسانيد، وينبغي أن تقرأ: برعايت رسانيد. والملاحظ بصفة عامة أن نسخة الأوامر العلائية لا تهتم بإثبات النقط.
(1/10)
قبلناه، ثم رددناه إليه بشهادة الحاضرين. وتوجه إلى ملطيه بعد بضعة أيام.
فلما بلغ الخبر الملك معز الدين قيصر شاه استعد للضيافة والاستقبال، وذهب في جملة من الاقارب والأتباع للترحيب، فلما رأى السلطان من بعيد، ترجل وسارع بتقبيل اليد، واعتذر عن غدر أخيه واجلائه له من بلاده، وخلوّ سرير السلطنة من جلال السلطان وأبهّته، وأظهر التفجّع والتوجّع، ثم انطلق به إلى المدينة بكل تكريم وتعظيم، ووضع قصر السلطنة بكل ما فيه من متاع البيوتات تحت تصّرف نوّاب السلطان وحجّابه، وأخذ يبدي ولاءه كل يوم بصنف من صنوف الإبداع الحسنة. وذات ليلة تقدم- أثناء المنادمة- إلى السلطان فقال وقد جثا على ركبتيه: يجول بخاطرى أن أذهب بإذن السلطان عند والد زوجتي: الملك العادل، وليقنع السلطان برقعة ملطية هذه، حتى تنقضي أيام البؤس والنّحس، وعند ذاك أعود أنا إلى هذه الديار ويجلس السلطان وفق مراده، على عرش السلطنة فقال السلطان (1) وقد تبسّم لقوله: إن الملك العادل سلطان عاقل، والأجدر بي أنا، بسبب مصاهرتك (2) أنت له، أن
_________
(1) الملك العادل: هو الملك أبو بكر بن أيوب (540 - 615) ملك دمشق وديار مصر بعد وفاة أخيه صلاح الدين، وقسّم البلاد في حياته بين أولاده، فجعل بمصر «الكامل محمدا»، وبدمشق والقدس وطبرية والأردنّ والكرك وغيرها من الحصون المجاورة لها، ابنه «المعظم عيسى» وجعل بعض ديار الجزيرة وميّافرقين وخلاط وأعمالها لابنه «الملك الأشرف موسى»، وأعطى الرّها لولده «شهاب الدين غازي»، وأعطى قلعة جعبر لولده «الحافظ أرسلانشاه» فلمّا توفي ثبت كلّ منهم في المملكة التي أعطاها له، وسترد أسماء هؤلاء الملوك جميعا فيما يلي من أحداث.
(2) في الأصل: خوشى: حسن، والأوامر 42: خويشى: قرابة، مصاهرة، وهو الأصح.
(1/11)
أذهب إليه وأرى بماذا يشير عليّ، فليبق الملك مكانه، وليترقب ما سيأتي به اللاعب بالأفلاك من حجاب الغيب من صور.
وعزم من بعد ذلك على التوجّه إلى حلب، فأخرج معزّ الدين من حريمه قلنسوة قيمتها خمسون ألف دينارا وسلّمها لخازن السلطان؛ وزوده- فوق ذلك- من الأمتعة بما لا حصر له.
ذكر التحاق السلطان بملك الشام
حين أصبح معلوما لملوك الشّام أنّ صبح الفلك الملكي قد أشرق على ديارهم/، أرسلوا الأنزال والأحمال لاستقباله، وانطلق الجيش كلّه والناس أجمعون نحوه، وترجّلوا ونالوا شرف تقبيل اليد، وتغنّوا:
قدمت قدوم البدر بيت سعوده (1)
ثم قالوا قدم سلطان العالم إلى بيته وقاعدة ملكه، ونحن إنما نضع كلّ ما لدينا لدفع وحشة الخاطر الأشرف طالما كان في الأجل تأخير وفي جعبة الإمكان سهم، وتالله ليحمينّ حمى نفسه من مداخلة الأفكار المزعجة، وليجعل من أسباب تسكين القلب المحزون قول أمير المؤمنين كرّم الله وجهه:
إن للمحن غايات، وسبيل العاقل أن ينام عنها حتى يتجاوزها، ونظم قابوس الذى قاله زمن انتكاس راية دولته (2):
_________
(1) المصراع الأول من بيت عربي، ومصراعه الثاني: وجدّك عال صاعد كصعوده.
(راجع الأوامر العلائية: ص 43).
(2) يعنى به: قابوس بن وشمگير، الملقب بشمس المعالي، أمير جرجان وبلاد الجبل وطبرستان، وليها سنة 366 هـ، وهو فارسي مستعرب، نابغة في الأدب والإنشاء، وله شعر جيد بالعربية والفارسية، توفي 3، 4 هـ. (الأعلام للّزركلي)، وراجع-
(1/12)
وفي السماء نجوم غير ذي عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
وطوال تلك المدة كان كل ملك يقيم ضيافة للسلطان ويعرض من التّقدمات ما يليق بالوليمة. وفجأة بدا للسلطان أن يتوجه إلى «آمد»، فسارع الملوك إلى تقديم الخدمات بقدر الإمكان، ولزموا ركاب السلطان بضعة أيام برسم الوداع، ثم انقلبوا عند ذاك عائدين بالتشريفات القيّمة.
وحين وصل إلى حدود آمد، أرسل الملك الصالح (وكان صهر السلطان، إذ بنى بكريمة من أولاد قلج أرسلان) أرسل أبناءه مع جملة الحشم للاستقبال، وكان قد زين قصر السلطنة بما تزدان به القصور من خزائن/ ومعدات وغلمان وجوار، ثم تهيأ هو للاستقبال بعد يومين مع كوكبة من الخواصّ، وحين وقع بصره على المظلّة المباركة ترجّل، [فأمر السّلطان الحجّاب] أن يتقدموا مسرعين وأن يجعلوا الملك يمتطي صهوة حصانه من جديد. فلما اقترب عزم على الترجّل من جديد، فأقسم السلطان عليه ألا يفعل، وأن يقبّل اليد وهو على ظهر الحصان.
وحين اقتربوا من المدينة ترجّل الملك الصّالح وأمسك بعنان فرس السلطان، وجعل يسير في الرّكاب الميمون. فلما شارفوا باب القصر نثر أبناء الملك الصالح أطباقا مملوءة بالدّنانير، ولما جلس على العرش بسط الملك الصالح مفاتيح القلاع
_________
- وفيات الأعيان لابن خلكان 1: 425 طبع مصر 1948 م وتتمة الأبيات:
قل للذي بصروف الدهر عيّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر يعلو فوقه جيف ... ويستقرّ بأقصى قعره الدرر
[الأوامر العلائية 44)
(1/13)
والبقاع في سائر بلاده أمام السلطان. فتعجب السلطان من علوّ همّته، وبالغ في مدحه ثم قال: قبلناها وبأفضل المنن قابلناها ثم رددناها إليك، متّعك الله بها وبأمثالها.
وهنالك وضعوا المائدة ثم رفعوها وتحول السلطان للحريم الملكي لرؤية شقيقته، وحين وقع نظر الملكة على جمال السلطان أكبّت بوجهها على قدم أخيها، وقالت: قد جعلت كل مالي من خدم وحشم نثارا لركاب المليك، فليتّخذ من هذه المدينة مقاما، وينتظر لطف الفعّال لما يريد ومواتاة الأقدار، فلعل المصلحة كانت في الجلاء [عن الدّيار]: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «1».
وقضى الأخ والأخت زمنا في هذه المناصحة والمحادثة، ثم توجّه إلى قصر صغير مخصص للخلوة، فدخلت الطواويس «2» الخضر سافرة لخدمة صقر الفضاء الملكي، فلاحظها بعين القبول، واستراح ساعة مع تلك الفتيات على مخدّة الدّعة ووسادة الرّاحة. ثم انطلق بعد ذلك إلى الحفل، وأخذ يزيل عن حواشي الزمن غبار الحزن بمحاورة الغليظ الرفيع من أوتار النّغم، وأسلم زمام الطبع للمسرة والحبور.
وبعد فترة من الزّمن تحرّكت نفسه للتوجّه إلى أخلاط فيمم وجهه شطر بسيط ذلك البساط.
وحين علم الملك «بلبان» / بيمن قدوم السلطان، أرسل أبناءه وأشياعه للترحيب مسيرة خمسة أيام، وسار بنفسه على الأثر، وجاء مترجّلا في ركاب
_________
(1) سورة البقرة، الآية 216.
(2) الطاووس كناية عن حور الجنة، انظر: ابن خلف التبريزى: برهان قاطع.
(1/14)
السلطان حتى عتبة البيت، وجعل كل ما كان يملكه ابتداء من أنواع النفائس إلى الروح العزيز موطأ قدم مالكه، وأتى بمفاتيح القلاع وتفاصيل خزائن البقاع فوضعها بين يدي السلطان، وأقسم بأغلظ الأيمان أنه لم يخالجه تردد في هذا الصدد، فقال السلطان: إن مجال فتوة الملك يتسع لمثل ألف مما يقول. والمأمول أن تظل أنهار السعادة تجري- بفضل الباري- في إرم (1) مرامنا، وتبدو نهاية للحلقة المفرغة للأيام. ويرجى الاعتذار عن ما أبداه الملك من ألطاف.
وبعد فترة من الإقامة هناك، توجّه نحو جانيت، ولبث بها مدّة، ثم استقل منها سفينة للسفر إلى ستنبول، وفجأة هبت ريح من مهبّ: تجري الرياح بما لا تشتهي السّفن، فتكررت حالة: وجاءهم الموج من كل مكان، فألقى بالسفينة على ساحل بحر ديار المغرب، فما كان منهم إلا أن ألقوا بمراسيهم، وحملوا الأمتعة من ذلك البلل إلى اليابسة بعيون دامعة وشفاه جافّة.
وجعل السلطان يطوف مدة في تلك الأطراف، ويقابل شراسة أخلاق المغاربة بهشاشة ألطاف المشارقة، وكان آمنا من كيد نكد الأيام في كنف رعاية أمير المؤمنين عبد المؤمن (2) - رضي الله عنه، ونال حظوة تفقّده وتعهّده مّرات عديدة، وفي النهاية ولّى عنانه صوب استانبول بعد أن أذن له الخليفة.
_________
(1) إرم، يشيع استخدامها في الأدب الفارسي بمعنى الجنّات والحدائق الغّناء، وكان شداد بن عاد قد أنشأ مثل هذه الحدائق الرائعة في شبه الجزيرة العربية أيام عاد الأولى التي سميت بعاد إرم. وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، في سورة الفجر الآية 6، 7: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ.
(2) هو عبد المؤمن بن علي بن مخلوف [487 - 558]، مؤسس دولة الموحّدين في شمال إفريقية خضع له المغربان: الأقصى والأوسط، واستولى على اشبيلية وقرطبة وغرناطة والجزائر والمهديّة وطرابلس الغرب، وسائر بلاد إفريقية. [الأعلام للزركلي].
(1/15)
ذكر وصول السلطان من المغرب إلى استانبول
عدّ فاسليوس ذلك العهد مقدم السلطان مغنما كبيرا، ورأى من الواجب أن يشارك السلطان في الحكم بل يستقلّ بملك البلاد (1). وكانا في وقت الاجتماع يجلسان على العرش سويّا فيتباسطان ويتلاطفان.
وفي تلك الأثناء كان هناك أحد الفرنجة معروفا بالشدّة والصّرامة، ومشهورا بالشجاعة والشهامة، فلقد كان يشنّ بنفسه هجوما على ألف مقاتل فيقاتلهم بمفرده. وكانت أعطيته تبلغ عشرة آلاف دينار كل عام. وذات يوم حدث بينه وبين أصحاب الديوان قيل وقال بسبب عطائه من الثّياب، فانطلق إلى فاسليوس وشرع يشكو ويطيل في شكواه ويرغي ويزبد بغير طائل. فأخذ فاسليوس يقول بالإفرنجية: السلطان حاضر اليوم، فتوقف عند هذا الحدّ، وغدا يتم التوصّل إلى حلّ يرضيك. لكن الفرنجي ظل على وقاحته، ولم يتراجع عن صلابة جبهته وحماقته، فضاق السلطان بالأمر وسأل تكفور: ماذا يقول هذا الأمير؟
فأجاب: ربما أهمل أهل الديوان في إيصال أعطيته. فقال السلطان: ما الذي يحمل العبيد على أن يبلغوا في جرأتهم هذا المدى.
وهنا سبّ الفرنجي السلطان، فأخذ الغضب منه كل مأخذ، ولفّ منديلا على يده، وبلطمة من قبضته وجّهها تحت أذن الفرنجي أطاح به من فوق كرسيّه فاقدا الوعى. فهاج الفرنجة والروم وماجوا، وحملوا على السلطان قاصدين هلاكه. فأمر فاسليوس رجاله بردّهم على أعقابهم، ونزل بنفسه من
_________
(1) راجع أ. ع، 51.
(1/16)
فوق العرش، وسكّن الفتنة. وأخرج الناس جميعا من القصر، واختلى بالسلطان فبدأ في تهدئته وأخذ يعمل على تسكين غضبه. كانت النار قد سرت في رأس السلطان من فرط الحميّة، فاغرورقت عيناه بالدموع، وما من نفس كان يتنفسه إلا وهو زفرة باردة تخرج من كبد مفعمة بالألم تهبّ على أطلال عمره.
/ قال لفاسليوس: إنك تعلم أنني ابن قلج ارسلان ومن صلب آلب ارسلان (1) وملكشاه (2)، كان أجدادي وأعمامي يجوبون العالم من مشرقه إلى مغربه فاتحين، وكان أجدادك يبعثون بالخراج والجزية إلى دور خزائنهم، وكنت أنت تسلك نفس الطريق معي، والآن إن كنت تجيز أن يستهزأ بي على هذا النحو لا لشىء إلا لأن القضاء السماوى قد ألقاني بأرضك، فإن إخواني- وكل منهم يمتلك بلدا- إن سمعوا بهذا صاحوا بالقول المأثور: آكل لحم أخي ولا أدعه لغيري، وجيّشوا الجيوش لهذا السبب، وجعلوا من ديارك مرابض للسباع والضباع.
فلم يعجل فاسليوس في الجواب حتى هدأت سورة غضب السلطان، ومن ثم دخل من باب الاعتذار والاستغفار، وقال: كل حكم يأمر به السلطان، جار على جيشي وبلادي. قال السلطان: أيكون مصداق هذا التصوّر ألا تعدل عن كل ما أقول. فأقسم فاسليوس مجدّدا بأنه لن يحيد عن أحكام السلطان.
_________
(1) تولى حكم الدولة السلجوقية بعد وفاة عمهّ طغرل سنة 455 هـ، واستطاع هزيمة البيزنطيين في موقعة ملازكرد بآسيا الصغرى سنة 463 هـ.
(2) دعي لتولى عرش الدولة السلجوقية بعد وفاة أبيه آلب ارسلان سنة 465 هـ، وبلغت تلك الدولة في عهده أقصى اتساعها.
(1/17)
قال السلطان: عليك إذن بتجهيز عدة سلاح أختارها بنفسي، وحصان يليق بالفرسان ويناسب الميدان، ويدخل الفرنجي معي في مبارزة، فإن كانت الغلبة للفرنجي تخلّصت من محنة الغربة وعنائها، وإن كان الظّفر لي استراح فاسليوس من جرأة الفرنجي وإساءته.
قال فاسليوس: حاشاى أن أسمح بمثل هذا، فلو حلّ بالمليك- لا قدّر الله- مكروه في القتال بمصادمته للفرنجي فإنني سأوسم بالحماقة لأنني دفعت سلطانا لمقابلة واحد من آحاد الجند، ولن يكون بوسعي المقام هاهنا خوفا من انتقام إخوتك.
فأقسم السلطان بأغلظ الأيمان أنه لو حدث من فاسليوس توقف في هذه القضية فسوف يقتل نفسه دون إبطاء.
/ وحين بلغ إلحاح السلطان الغاية أتوا من دار السلاح بعدّة وجهاز ملكي، فاختار السلطان عدة منها. وأخبروا الفرنجي بأن الغد يوم النّزال، فظلّ الفرنجي يهيّىء عدة القتال طيلة الليل، ثم ربط نفسه بإحكام على السّرج فوق ظهر الحصان، ودخل ساحة الميدان متأهّبا للقتال، فانقسم أهل تلك الديار من الصّغار والكبار والقارئ والأمّي، والمسلم والذمّي قسمين: فمال بعضهم نحو السلطان، وانحاز جماعة إلى الفرنجي الذي أهمّه القتال.
كان الروح الأمين يسمع السلطان في كل لحظة قول الله عز وجل وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (1). وكان السلطان قد وقف في القلب مع فاسليوس
_________
(1) سورة الفتح. الآية 3.
(1/18)
كجبل الحديد، وتلا وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (1). وسار إلى كل طرف كالشمس في برج الشرف، وأخذ يجول حول العساكر كالبدر الزاهر.
بدأ الفرنجي بالهجوم بالسّنان، فاتقاه السلطان بالدّرع، ثم أعاد المحاولة نفسها من جديد فردّها السلطان. وفي المرة الثالثة حمل عليه السلطان، وبضربة دبوس كرأس الثور مرّغ وجه من يعبد حافر حمار عيسى فى التراب، فبلغ أنينه المقيمين بخطة أسفل سافلين، [شعر]:
بضربة لم تكن منّي مخالصة ... ولا تعجّلتها جبنا ولا فرقا (2)
ولم يلق حصان الفرنجي لشدة وقع الدبوس مفرّا من الفرار، ولأن الفرنجي كان قد أوثق نفسه بإحكام على الحصان فقد بقي متدليا، فاقدا الوعي ذاهلا عن نفسه، فصاح المسلمون وفاسليوس ومن حضر من التجّار وكبار الأمراء صيحة إعجاب بلغت عنان السماء. وأراد دهماء الفرنجة إثارة الفتنة/، فأمر فاسليوس بردعهم وأنزل العقوبة ببعضهم فسكن بحر الفتنة الهائج، وأخذ السلطان من الميدان إلى داره، وقدّم الهدايا الوفيرة، وأعملوا العود والرّاح طوال تلك الليلة حتى انفلاق عمود الصباح، وأوصلوا خيط الغبوق بالصبوح (3).
وفي اليوم التالى جيء بسائر آلات الطرب- التي كان يدّخرها آباء فاسليوس وأجداده- إلى قصر السلطان، ورأوا من الواجب يومئذ إحياء موات المتعة بإراقة
_________
(1) سورة الطلاق، الآية 3.
(2) والبيت في الأوامر العلائية على النحو التالي:
بضربة مثل لمع البرق مسرعة ... من غير ما فزع منه ولا فرق
(3) الغبوق: الشرب بالعشي، والصّبوح ضّده، وهو الشرب بالغداة.
(1/19)
دم الدين- وهو في شرع الندماء أمر محلل، وفي أعقاب معاقرة الخمر انطلق لسان فاسليوس قائلا: إن محبّة ملك الإسلام قد تمكّنت من قلبي وروحي بحيث لا تقبل الانفصال عنهما بأي حال، ولو مرّت بي لحظة دون الأنس بوجود الجمال المبارك للمليك فإني أعّدها وبالا. غير أني أفضّل مصلحة ملك العالم على إرادة نفسي، فلو أن السلطان تكبّد المشقّة بضعة أيام- إلى أن تخمد نائرة حقد الفرنجة وغضبهم- وتوجه إلى الملك مفروزم وهو من أكابر قياصرة الروم، فلن يقصّر هذا المملوك- بكل ما يرد في دائرة الإمكان- في رفدكم، بل يؤدي بنفسه ما يوجبه تعظيم المليك من شروط (1) لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (2).
فوقعت هذه الكلمات موقع القبول من مسامع أشرف الملوك، واستصوب الأمر. وبعد بضعة أيّام ولّى وجهه مع الخدم والحشم صوب تلك الجزيرة، ولم يكن يلقي بالا لجور دورة الفلك لانشغاله بدوران الكأس والرّاح.
وعندما كان الملكان عز الدين وعلاء الدين يفرغان من المكتب وتعلّم الأدب (3) يقضيان وقتهما في صيد/ البّر والبحر.
قد حان الوقت الآن للبدء بذكر سلطنة السلطان ركن الدين.
...
_________
(1) قارن أ. ع، ص 57.
(2) سورة الطلاق، الآية 1.
(3) قارن أ. ع، ص 58.
(1/20)
ذكر أيام سلطنة ركن الدين سليمان شاه، وتقرير جانب من مناقبه الكريمة
كان السلطان القاهر ركن الدين سليمان شاه ملكا لم تعل في روضة الدولة دوحة مثمرة (1) تضاهيه من أولاد السلطان قلج ارسلان بل من أحفاد سلجوق (2). إن هو إلا دبوس ثقيل، وحلم بالغ على الرعية، عفّة بلغت الغاية، وورع بغير نهاية، في الحلم ذو وقار كالجبل، وفي الحكم كالقضاء المبرم لخالق الكون:
حلو الفكاهة مرّ الجدّ قد مزجت ... بقسوة البأس منه رقّة الغزل
هو في أنواع العلوم ريّان، وفي التزود من بضاعتها صاد وعطشان. ومن بين ما أنتجته قريحته هذا الدو بيت الذى قاله في حق أخيه قطب الدين ملكشاه، ملك سيواس وآقسرا، بسبب ما كان بينهما من عداء:
أيها القطب، أنا كقطر الدائرة فلست مشيحا برأسي عنك فطالما أنا كالنقطة فلينسلخ جلد جسدي من الكتف إن أنا لم أنشر علمك من فوق رأسي.
_________
(1) قارن أ. ع، 57.
(2) الجدّ الأعلى للسلاجقة، وكان رئيسا لقبيلة من قبائل الأتراك الغزّ.
(1/21)
حين خرج السلطان غياث الدين من بوّابة قونية، استقبل الأعيان والأشراف السلطان ركن الدين، فاعتذروا عما كان قد بدر منهم من تطاول، فقرأ الآية الكريمة: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ (1)، من مصحف الإغضاء وسورة الإغماض،/ وضرب عن الماضي صفحا، ودخل المدينة بالطالع المسعود في ظل المظلّة الملكية الظليل، وأضفي على العرش الملكي- بعظمة قدومه- رسما وجمالا كسرويا.
وبلغ به السخاء مبلغا جعله يوّزع خراج الجند لخمس سنوات كاملة- وكان قد تجمّع لديه دفعة واحدة- على الخاصّ والعامّ برأس الصولجان في وجود المبعوثين (2)، وكان يأخذ بيد الفضلاء والشعراء والفنانين بلطف عنايته من وهدة الفقر والفاقة إلى رياض الدّعة والنّعمة، وحين أرسل إليه إمام الكلام ظهير الدين الفاريابي (3) قصيدته المشهورة التي مطلعها:
زلف سرمستش چودر مجلس پريشانى كند ... جان اكر جان در نيندازد كران جانى كند
[وترجمتها]:
إذا ما تشوشت ذؤابته السّكرى في المحفل ... إن لم يسلم الحبيب الروح، يصاب بالسّقم
_________
(1) سورة يوسف: 92.
(2) يعني المبعوثين الذين أتوا إليه بالخراج، قارن أ. ع، ص 60.
(3) هو أبو الفضل طاهر بن محمد الفاريابي [ت 598] من شعراء الفرس الكبار في القرن السادس، مدح الكثيرين من حكام عصره.
(1/22)
سّلم مبعوثيه جائزة قدرها ألفي دينار وعشرة من الخيول وخمسة من البغال، وخمسة من الغلمان، وخمسا من الجوارى، وخمسين ثوبا من كل نوع.
ومن عدله البالغ، أنه كان له غلام يسمى إياز، محمود السيرة، وكانت رقعة خاطره بل كان جماع قلبه يميل إلى عشق ذلك القمري الوجه مانع الحبّ، غير أن الغلام كان عائدا ذات يوم من الصيد يحمل على يده صقرا، فالتقى بعجوز كانت تحمل بيدها إناء مملوءا باللبن الخثير، ولشدة تأثير حرارة الشمس واستيلاء العطش عليه وإعواز الماء اختطف الإناء وتناول ما فيه، فركضت العجوز على الأثر إلى المدينة، ووقفت على باب قصر السلطان، وجأرت بالنواح والشكوى صائحة: إن أحد الغلمان أخذ إناء اللبن الذى كنت قد وضعته لإعداد خبز لمن أعولهم من الأيتام، ولم يعطني ثمنا. فأمر السلطان بالتحّري عن أمر تلك/ المظلومة، وهنالك حضر الغلام فقالت العجوز: ها هو ذا الخصم، فأنكر الغلام خوفا من السلطان الذي قال: إن شققنا بطن الغلام ولم يكن قد تناول اللبن فلن يكون جزاؤك إلا القتل؛ فقبلت المرأة.
وفي الحال صدر الأمر إلى الجرّاح بأن يشق بطنه [قالت العجوز؛ لعلكم إن أحضرتم الجّراح فشق بطن الغلام وقلّب أمعاءه ووجدها مملوءة باللبن لزم قتل الغلام أولا وتواترت أحزان السلطان عليه بسبب ذلك، وصدق فيه المثل القائل:
نحن السبب فيما يجري لنا (1). فأمر السلطان بمعاقبة الغلام في الحال، وأنعم على العجوز بألف دينار] (2).
_________
(1) المثل الفارسي هو: از ماست كه بر ماست، وهو يعني أيضا بسبب اللبن الخاثر ما يجري لنا، وقد أرادت العجوز نفس هذا المعنى.
(2) اعتمدنا في ترجمة هذه السطور على أ. ع، ص 65 لاضطراب السياق في الأصل.
(1/23)
وعلى هذا النحو جرت السلطنة زمنا، ثم انبعث في سويداء قلبه هاجس الغزو، فعقد العزم على غزو الكرج.
وكان سبب ذلك أن تامار ملكة الكرج- وكان لها على مملكة الأبخاز ودار الملك تفليس ما لبلقيس من حكم ونفاذ أمر ونهي- كانت قد سمعت أن للسلطان قلج ارسلان اثني عشر ولدا كل منهم يتمتع بملاحة القمر في السماء وصباحة الملك في الأرض. وكانت هي- مصداقا لقول القائل: أما النساء فميلهنّ إلى الهوى- حيثما وجدت أثر أمير جميل الطلعة فصيح اللسان أخذت تدعوه بلسان التعشّق قائلة: الأذن تعشق قبل العين أحيانا؛ وكانت تجلب الصيد المقصود إلى الشباك إما بالذّهب أو بمعسول الكلام.
وكانت قد بعثت لبلاد الرّوم رسّاما، فرسم صورة كل أمير من الأمراء، فما تحركت جواذب العشق عندها إلا للملك ركن الدين سليمانشاه، فعشقت صورته، وأرسلت من ثمّ مبعوثا تطلب الزواج منه، فطرح قلج ارسلان القضية في الخلوة مع سليمانشاه وعمل على استرضائه وأخذ رأيه، ففتل سليمان حبل العتاب في ذلك الأمر/ الجلل، وقال: كيف يسمح ملك العالم أن يرسلني إلى مملكة الأبخاز- وهي مصطبة الكفر والضّلال- بهذا اليسر لتحصيل مقصد دنيويّ دنيّ، وإني لأرجو أن ينجز الله ما وعد في قوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها (1) بفتح الأبخاز، فأحشد الجند وأذرو تراب تلك الديار في الرياح، ثم آتي بتلك الفاجرة إلى أعتاب السلطان في قيد الإسار والخسار، مأخوذة بالنواصي والأقدام. ولكم أحسّ السلطان من أعماق الروح والقلب بالسرور والارتياح لعلوّ همّة ولده، فأبدى إعجابه بما قال، وطلب إليه المعذرة.
_________
(1) سورة الفتح: 20.
(1/24)
ذكر عزم السلطان ركن الدين سليمانشاه غزو الكرج، والعودة من هناك على خلاف الإرادة وذكر الملك فخر الدين بهرامشاه
كان ذلك الضّغن القديم قد تمكن في قلب السلطان، فلما أصابته نوبة السلطنة ولىّ وجهه شطر تلك الحدود بجيش ثقيل، وكان قد أرسل من قبل مبعوثين مسرعين إلى ملوك الأطراف وإخوته، كي يستعدوا للقتال والنّزال، فبادر مغيث الدين طغرلشاه ملك آبلستان بالانضمام إليه قبل غيره، كما أرسل كذلك إلى الملك فخر الدين بهرامشاه- وكان صهر السلطان ومن أحفاد منكوجك غازي (1) ووحيد دهره في لطف النّفس وحسن السيرة وعلوّ الهمة ونقاء الجيب وطهارة الذّيل وفرط الّرحمة والشّفقة، ولم يقم في أيام ملكه عرس ولا مأتم إلا وكان المأكل والمشرب فيه من مطبخه، أو يحضره بنفسه، وفي موسم الشتاء حين كانت الغلال والمحاصيل في الجبال/ والبرارى تحرم من إنعام الغمام، كان يأمر بحمل الحبوب في آنية ضخمة إلى الجبال والصحاري ونثرها علي الأرض لتطعم منها الطيور والوحوش بانتظام. وقد جعل «نظامي الكنجوى» (2) كتاب «مخزن الأسرار» باسمه، وأرسله هدية إليه فأمر له بجائزة
_________
(1) كان السلطان ألب ارسلان قد ولّاه إمارة أرزنجان في سنة 464، فأسس بها أسرة عرفت باسم بني منكوجك، أما حفيده الملك السعيد فخر الدين بهرامشاه فقد تولي إمارة أرزنجان سنة 550.
[انظر محمد جواد مشكور، مقدمه بر اخبار سلاجقه روم، صد وهشت].
(2) هو الحكيم جمال الدين أبو محمد إلياس، من كبار شعراء الفرس برع في القصص التمثيلي، وتنطوي قصصه على نزعة أخلاقية واضحة، وقد بقيت له خمس قصص من بينهما مخزن الأسرار المشار إليه في المتن.
(1/25)
قدرها خمسة آلاف دينار وخمس من البغال السّريعة السّير.
فلنعد إلى أصل الموضوع؛ ولقد دعا فخر الدين أيضا- بمقتضى الرأي الأزهر- (1) بالجند لكي تأتيه من كلّ ناحية، وتوجّه في خدمة السّلطان إلى أرزنجان.
أما علاء الدين سلتقي- ملك أرزن الروم- فقد أخذ يتباطأ في حشد الجند والامتثال والانقياد للأمر المطاع، فأمر السلطان بعزله وعهد بتلك المملكة إلى مغيث الدين طغرلشاه (2)، وتوغّل من هناك في ممالك الأبخاز بجيش في عدد النجوم على خيول كالجبال، فنفر أولئك الكفرة الفجرة جميعا في جمّ غفير، وحدثت بين الجيشين مصادمات عديدة، بحيث غطّت أجساد القتلى كل مكان في صحراء المعركة، وأوشك فتح كبير أن يطلّ بوجهه من وراء ستار الغيب، وكادوا يصفون الكفار بمن ولّوا على أدبارهم (3)، غير أن حكم وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (4) قد اختطف زمام المرام من يد أهل الإسلام، وساخت قدم الحصان الذى يحمل المظلّة في جحر يربوع فسقطت المظلة على الأرض فلما وقعت أبصار الحشم والمقاتلين في المعركة عليها ظنوا أن العدوّ ربما
_________
(1) راجع أ. ع ص 72.
(2) كان هذا آخر عهد بني سلدوق [سلتقي] بتولي إدارة أرزن الروم، وكان جدّهم الأعلى علي بن أبي القاسم المعروف ب سلدوق قد أسس فيها أسرة حاكمة حوالي سنة 496.
(3) إشارة إلى قوله تعالى: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً سورة الإسراء: 46.
(4) سورة الأحزاب: 38.
(1/26)
اقتحم القلب وحلّت بالسلطان نكبة، فألقوا باليزنيّات والمشرفيّات (1) جانبا، وتبدل الكّر بالفرّ، وأصبح الضّارب مضروبا والقاتل/ مقتولا، فصار الأسير أميرا والأمير أسيرا، (وكان ذلك على الله يسيرا) (2).
وأوقعوا بالملك فخر الدين مع جماعة من الحشم، وقبضوا عليهم، ونزل السلطان مع الملك مغيث الدين وكوكبة من الجيش في أرزن الروم، وبعد حصول الاستراحة وأسو الجراحة توجّه نحو الروم وذهب إلى قونية، وهناك أخذ يتهيأ للعودة وإعادة الدعوة، وفي أثناء ذلك انتقل إلى جوار ربه بسبب مرض ألمّ به، وكان ذلك في شهور سنة إحدى وستمائة: [شعر]:
فقدناه لما تم واعتمّ بالعلى ... كذاك كسوف البدر عند تمامه (3)
- نهاية الدنيا ليست سوى التراب ... وليس لها من نوال إلا السمّ
...
_________
(1) كذا في الأصل: يزنيات ومشرفيات، كلمتان عربيّتان، والمشرفيّة سيوف منسوبة إلى مشارف، وهي قرى من أرض العرب، [الصحاح]، أما اليزنيات، فيبدو أنها نسبة إلى ذى يزن بفتح الياء والزاى، أحد ملوك حمير. [القاموس المحيط].
(2) العبارة بين الحاصرتين مكتوبة في الأصل بالعربية.
(3) من قصيدة مطلعها:
مضى طاهر الأثواب لم يبق بعده ... كريم يرّوى الأرض فيض غمامه
راجع الأوامر العلائية ص 74.
(1/27)
ذكر أيام سلطنة عز الدين قلج ارسلان ابن ركن الدين سليمان شاه
حين انتقل السلطان ركن الدين إلى الجنّة دار السلام، أجمع أمراء الدولة- مثل نوح ألب وتوز بيك وكان كلاهما قد قدم من توقات المحروسة للانضمام إلى رايات السلطان فتقلدا المناصب الكبرى وصارا موضع الأسرار الملكية- أجمعوا على إجلاس عز الدين قلج أرسلان ابن السلطان على العرش ولم يكن قد ناهز بعد حدّ البلوغ، فبادروا بأداء النعمة/ التي أجزلها لهم الأب من خلال إمضاء مصالح الابن.
ولقد تيسّر فتح ولاية سپرطه- وكانت من أضخم القلاع على سواحل بحر المغرب- في أيام حكم ذلك الطفل المعصوم، وبايع ملوك الإسلام وقياصرة الروم وتكافرة الدّرج (1) على الولاء له، وظلت الإتاوات والأحمال ترد إلى الخزانة من الأطراف كما كانت من قبل، وسوف نعرض لانقراض تلك الدولة في موضعه.
أما مظفر الدين محمود وظهير الدين إيلي وبدر الدين يوسف أولاد ياغي بسان (2)، فلأنهم كانوا يميلون إلى غياث الدين كيخسرو، فقد أخذوا
_________
(1) إشارة إلى ملوك الأرمن، راجع ما كتبه هوتسما في هامش ص 24 من الأصل الفارسي.
(2) هو ياغي بسان نظام الدين بن كمشتكين، من أبناء دانشمند، ممن تولوا إمارة سيواس في ظل حكم سلاجقة الرّوم. وقد توفي سنة 562. انظر محمد جواد مشكور، مقدمه، صد وشصت ويك.
(1/28)
يسلكون طريق الخلاف ويتنكّبون طريق الوفاق، وكان هؤلاء الإخوة الثلاثة قادة مطاعين لدى جند الأوج، فحملوا أمراء الأطراف على الميل للسلطان، وحلفوا الأيمان، وأخذوا المواثيق والحجج، ووقع اختيارهم على زكريا الحاجب- وكان معروفا بكفاءته العالية ومشارا إليه بالبنان في فرط الّدهاء ومعرفة الألسنة واللغات- ليكون رسولهم إلى السلطان. ووضعوا تلك العهود والمكاتيب في تجويف عصا وأعطوها له، وألبسوه ثوب القساوسة، وسيّروه مزوّدا بالوعود الجميلة.
فلما وصل إلى ملك الملك مفروزم، واستدل على بيت السلطان، أخذ في الطواف حول البيت، ولبث يتحين الفرصة، فرأى عند الظهيرة أن أبناء السلطان قد أخذوا في النزهة مع جماعة من الغلمان، وبدأوا- على عادة الأطفال- في بناء طاحون (1) هناك على أطراف مرج كانت حوافّه الخضراء قد نمت وربت حول صفحة وجهه كأنها شهود. فصعد زكريا عند الملك عز الدين- وكان في الحسن بغير قرين، لم يبدع مصوّر وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ (2) مثله في/ معمل الوجود: [شعر].
- كان الزمان قد صنع في إثره شيئا فشيئا ما كان موافقا له من ناحية الحسن واختطف قبلة هي زاد الحياة الأبدية، فأسرع الأمير من فرط الغيظ والحنق
_________
(1) وشرعوا في اللهو واللعب وبدأوا في إنشاء طاحون أ. ع 78.
(2) سورة غافر: 64
(1/29)
لحضرة السلطان، وحين جاء قال مفروزم ينبغى أن تنزلوا به العقوبة، وخوفا من امتهان الشرف، عمد زكريا الحاجب إلى نهر المعرفة ليفتحه، فأزاح طرف القلنسوة عن جبهته، وعند ذلك عرفه السلطان، غير أنه ضرب صفحا عن استقصاء الأمر في ذلك الحين، وأبدى لمفروزم عذرا مناسبا للحال، وأمر أحد خواصّه باللغة الفارسية أن يحتجزه. فلما خلا القصر من الأغيار طلب السلطان زكريا، فدخل من الباب مسرعا متبخترا كأنّما هو السعادة والإقبال، وقال:
كانت نتيجة هذه الجرأة هذه القربى، قال السلطان: كيف حال أخي؟ أجاب:
هو في أوج العظمة، استولى على مملكة الأبخاز وأذعنت له ولاية الكرج. ثم تبسّم في وسط الكلام. قال السلطان: ولم الضحك؟ فاقترب منه، وأفضى إليه بما حدث برمّته، ووضع أمامه الخطوط والعهود، فلما طالع المكاتبات والعهود، انهمر الدمع من عينيه بالرغم من امتلاء قلبه بالنار بسبب جور أخيه وما رآه من ظلم لا حدّ له، وأظهر الأسف على وفاته.
ومن ثم استدعى الملك مفروزم، وقصّ عليه ما حدث، فأعلن الحداد ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع قال السلطان إنه قد أزمع التوجّه إلى/ الممالك الموروثة.
قال مفروزم: كل ما عندي فداء لك، فلتأخذوا الأهبة للرحيل، ويسير هذا العبد أيضا في ملازمة ركاب المليك. وكان من قبل قد جعل ابنته التى زوّجها للسلطان، وابنه ملازمين للحضرة السلطانية، فبذل السلطان للجميع جميل الوعود، وارتحل.
(1/30)
وحين وصل إلى أزنيق حال فاسليوس بين السلطان وبين المسير، وقال إنني قد عاهدت ابن السلطان ركن الدين باليمين المغلّظة فلا يمكن أن أدع السلطان يتجه نحو ملكه، ولبثوا بضعة أيام في هذا القيل والقال، وفي النهاية استقر الأمر على أن يسلّم لنوّاب فاسليوس ما كان السلاجقة قد فتحوه من ولاية الروم حتى حدود قونية مثل: خوناس ولاديق وغيرهما من البقاع وأن يترك السلطان أبناءه مع زكريا كرهينة هناك، ويمّر السلطان بنفسه، فإن جلس على العرش وسلّم المواضع المذكورة لمندوبي فاسليوس انصرف الأبناء من هنا. وعلى هذا الأساس تحرك السلطان ومفروزم وسائر الخواصّ إلى نواحي الأوج.
ولما انقضت بضعة أيام ذهب زكريا إلى فاسليوس وقال: إن أبناء الملوك ذوو حّس مرهف، ينتابهم الملل من الجلوس في البيت. فأذن فاسليوس بأن يركبوا للنزهة مرتين في اليوم، فيتنزهون في مروج أزنيق الأنيقة، [وأمر عددا من خواصه بملازمتهم، فغمرهم زكريا الحاجب بالإنعام والإحسان] (1)، وأخذ يستدرجهم بالإيهام والكناية إلى حيّز الدعوة، فأقسموا (2) بالإنجيل والصليب.
وذات ليلة عند صلاة العشاء ركب الأمراء، وولّوا وجوههم شطر إحدى مناطق الصيد، وفجأة بدا أمامهم خنزير بريّ واتجه نحو ممالك الإسلام خوفا من السيف والسهم، فتفاءلوا بذلك، وقالوا [شعر/]:
_________
(1) أ. ع. 81، والنص مضطرب في الأصل غاية الاضطراب في هذا الموضع.
(2) في الأصل: فأقسم بالإنجيل والصليب، قارن أ. ع 82.
(1/31)
غدت الدنيا اليوم وفق مرادنا ... وصار مسيّر الفلك عبدا لنا
صار التفويض بملك البلاد من الله باسمنا ... دون أن يمتنّ أحد بذلك علينا
ثم مضوا في طريقهم يسابقون الريح الصرصر العاتية مجتازين السهول والبيداء، وحين تبدّلت ظلمة الدّيجور بكسوة النّور كانوا قد وصلوا إلى حدود بلاد الإسلام.
كان السلطان لا يزال منشغلا بتدبير مهمات الأوج وتأليف أهواء الأمراء في تلك الناحية، فأرسل زكريا إلى السلطان رسولا يبلغه بألا يسلّم القلاع والبلاد، فقد تعدّى الأمر ذلك ووصل الأمراء مشمولين بالسلامة إلى التخوم كالنجوم، ولحقوا بحدود ملك الجدود، فقذف السلطان لدى سماعه هذا الخبر قلنسوة الاغتباط والسرور عاليا في هواء التوفيق. ثم فرغ من مهامّ الأوج، وسار متعجّلا نحو قونية.
ذكر محاصرة غياث الدين كيخسرو بن قلج ارسلان في قونية
حين علم أهل قونية بقدوم السلطان أعّدوا عدة الحرب في سترة الوفاء لابن السلطان ركن الدين سليمان شاه، وتنكّبوا عن قانون الصّلح، فحمل شيطان الغرور السلطان على أن يأمر بقطع المزارع والحدائق ببلطة الضرر وفأس البأس، وتخريب القصور والدور المحيطة بالمدينة والقريبة منها، ويشعلوا فيها النيران. فقال
(1/32)
لهم (1) السلطان قلج أرسلان إنّني أعلم أن عمّي قد وقف على قدم الانتقام وهو لن يبقي أو يحابي، وستكون نعمة كبرى لو أبقى عليّ حيّا، فلا تبددوا مصلحتكم/ بغير جدوى. فأرسلوا رسولا إلى السلطان وقرعوا باب الصلح بشرط أن يفعل مع السلطان [قلج أرسلان] ما فعله السلطان ركن الدين مع الأميرين، وأن ينصّبه ملكا على أحد الأقاليم. فإن هو أمر بصلة الرّحم، وعني بهذا الأمر أحضروا قلج أرسلان إليه، كي يشرف بالتقبيل فيحظى بالتبجيل، ومن ثمّ يدخل المليك المدينة بفأل حسن.
فراق هذا الرأى للسلطان وأمر بتنصيبه ملكا على توقات حيث كان يتولاها [أبوه] السلطان ركن الدين عندما كان ملكا، وكتب منشور بذلك.
وحين رأى أعيان قونية العهود والمناشير حملوا الأمير هانئ البال مسرورا إلى حضرة عمّه؛ فأرسل السلطان كلا من عز الدين وعلاء الدين للترحيب بالقدوم. وحين رأى ابن السلطان ركن الدين وجه عمه قبّل الأرض، وطلب أن يقف على قدميه معقود اليدين، فما تركه السلطان يفعل وإنما أجلسه عنده وقبّله على جبينه وأجلسه على ركبته وبالغ في استمالته، ومنحه هدية ملوكية، وأمر بأن يقيم بقلعة كاوله بضعة أيام، ينصرف بعدها سعيدا هانئا إلى توقات المحروسة.
_________
(1) يعني لأهل قونية، راجع أ. ع، ص 85.
(1/33)
ذكر دخول السلطان غياث الدين كيخسرو ابن قلج أرسلان قونية وجلوسه على عرش السلطنة
وفي اليوم التالي حين طلع ملك الكواكب، دخل السلطان كأنه الشمس تحت مظلة سوداء طالما كانت ملجأ وظهيرا للعالمين- دخل مدينة قونية- التي تعدّ ساعة واحدة من الحياة فيها خيرا من ألف شهر في غيرها من البلاد- بصحبة جيوش كأنها البحر الأخضر الموّاج، وحشم كرخات المطر المتواتر، فنقل القدم من ركاب حصانه- بعد أن توقف- إلى عرش آبائه الكرام، فبلغت أنواع الأفراح أرواح الخاص والعام، واتفقت أهواء الجند والعامّة على/ محبته والولاء له: [شعر].
- حين وضع تاجا كبيرا على رأسه ... ، سعد التاج به وهو أيضا سعد.
- عمّر ما كان خربا في كل مكان ... ، وحرّر (1) قلوب المحزونين من الحزن.
وأبلغ مفروزم المنزلة العليا والمرتبة القصوى، وفوّض عز الدين كيكاوس في ملك ملطية المحروسة كما فوّض علاء الدين كيقباد في حكم مملكة دانشمند (2)
_________
(1) في الأصل: شاد كرد: أسعد، والأوفق ما ورد في الأوامر العلائية ص. 9: آزاد كرد: حرّر
(2) دانشمند: نسبة إلى الملك دانشمند أحمد غازي شمس الدين، وتشمل تلك المملكة: سيواس، وآماسية، وتوقات، ونكيسار، وعثمانجق، والبستان وملطية، وغيرها. وكان دانشمند قد تولى حكم تلك البلاد من- قبل السلاجقة سنة 455، واستمرّ أولاده ثم أحفاده في حكمها حتى سنة 607.
انظر: الدكتور محمد جواد مشكور: مقدّمه بر اخبار سلاجقه روم، ص صد وشصت ويك
(1/34)
بأسرها. وأرسل إلى ملوك الأطراف وسلاطينها الرسائل والمبعوثين معلنا عن مواتاة السعادة ومساعدة الإقبال.
وكان الشيخ مجد الدين اسحاق قد انتقل- وقت جلاء السلطان- من بلاد الروم إلى ديار الشام. فدعاه السلطان بهذه الأبيات الرائقة: [شعر].
- صحة الذّات الطاهرة السماوية ... ، هي تاج أصحاب المجلس الأخوي.
- عزّ الأقران وحيد الآفاق ... ، صدر الإسلام مجد الدين اسحاق.
- العزيز الرفيق الأنيس ... ، إن هو إلا كروح الملاك.
- فليبق خالدا ليوم الحشر ... ، ولتتزايد حرمته ولتعل رتبته.
- لتنقطع عن كيانه أيدي الآفات ... ، ولتعم عن ذاته عيون الفتن.
- يا من له سيرة الولّي ... ، يا من له سنّة النّبي
، لو أقول ما جرى في هذه المدة، ... - وما نلته من جور الفلك الحرون
، يصبح المداد دما على سنّ القلم. ... -/ أرأيت مجمع الصدور الكرام
، كيف جعله الزمان حراما، ... - اختطف الملك منا ظلما
، وأسنده لا مرئ عجول لا رويّة عنده. ... - لقد امتلأ قلبى- كجمشيد (1) - بغصّة
، وأصبحت في الدنيا مشرّدا،
_________
(1) جمشيد: أحد ملوك الفرس القدماء.
(1/35)
- تارة في الشام وتارة في الأرمن ... ، تارة أتخذ الأطلال موضعا
وتارة أتخذ الدّمن، ... - تارة كالحوت في البحر
، وتارة كالنّمر بالصحراء، ... - تارة أتخذ ستنبول مقاما
وتارة أتّخذ عسكرا (1) ... ، تارة أتخذ المغرب مقاما
وتارة بلاد البربر، ... - ما كان لي- زمنا- بفعل الدهر إلا:
السيف، وظهر الحصان، وحرب الفرنج. ... - شاهدت المعارك
، أثرت الحروب ... ، سدّدت الطعان
، تلقيت الضربات. ... - ما كان غذائي- أحيانا- سوى الندامة والغم
، إذ استبدّ بي الحزن في أثر الصحاب. ... - انقطع الصحاب عني وأبعدوا كالصقور
، وتشتتوا في الدنيا مثلي. ... - ثم حين أهلّ لطف الحق بجماله
، وفت دورة الفلك أيضا. ... - كنت أرى رؤى حق،/
وأخذت أرى أثر ذلك في المنام. ... - وحين عزمت على الرحيل إلى بلاد الألمان (2)
جاءني مبشّر في أمان،
_________
(1) عسكر: إحدى مدن خوزستان.
(2) في الأصل: الأمان، والتصحيح «آلمان» من أ. ع، ص 92.
(1/36)
- وأخبرني بموت الخصم وفترة الملك ... ، وقال: هيّا اسعد، فالملك بإزائك.
-[هذه] كتب أكابر الأطراف ... ، مشفوعة برسالة من خلاصة الأشراف،
- قال: ما نحن جميعا إلا دعاة لك ... ، انهض أيها المهدى، إنما نحن ساعون إليك.
- وأخذ هاتف يدعوني كل لحظة ... - على سبيل الإلهام- قائلا: عجّل وحرّك الأقدام.
- فعدت إلى ساحل البحر، وما أشد ما ... يثيره البحر من خوف هناك والشّتا.
- مجمل القول أني قطعت البحر ... ، لا أراك الله ما رأيت.
- قدمت صوب برغلو ... وفق المراد، وجدت ملكا.
- قصد أحد المفسدين الانتقام ... ، أسرج حصان الظّلم والجفاء.
- ولأن الله كان معينا وحافظا وحاميا ... ، فقد تضاءل موضع الجرح الكبير واضمحلّ.
- وانتصر حظّنا في النهاية ... ، ودانت البلاد بأسرها،
-/ لزمت البلاد الطاعة لنا، ولكم ... ، إنما هو اسمنا في الدنيا وهو مرادكم.
- المحبوّن للخير ينصفوننا بفضلهم ... ، وصدرنا مجمع أصحابنا.
- هيا، فقد حان الوقت كي تنشد مكانا ... هاهنا، إن كانت رأسك قد أثقلها
(1/37)
السّكر فتعال إلينا.
وحين بلغت هذه اللّطائف قدوة الطّوائف سارع في القدوم وواصل السّير بالسّرى وقد زاد من أوراد الدعاء والثناء، فتحركت في السلطان أعطاف ألطافه حتى نهض استقبالا لقدومه الميمون، وبالغ في إعزاز جانبه. فأرسل الملك عز الدين لمرافقة الشيخ إلى ملطية المحروسة.
وسيّر علاء الدين كيقباد مع جماعة من القضاة إلى توقات (1). وكانت قد صدرت عن السلطان بادرة عند دخول المدينة لم تلق قبولا عند أحد قطّ، وهي قتل القاضى الترمذي، وكانوا قد نصبوه بدلا للإمام أبي الليث السمرقندي.
وكان السبب في مقتله ما نسب إليه من أن ممانعة أهل المدينة في وقت الحصار إنما كانت بسبب فتوى أصدرها، وقالوا إنه يقول إنه لا يجوز أن تؤول السلطنة إلى غياث الدين لما كان قد بدا منه- في السابق- من ولاء للكفّار، وأنه ارتكب ما نهي عنه الشرع في ديارهم. [لذلك استبد الغضب بالسلطان، وأمر بإنزال العقاب به] (2)، ولشؤم إراقة دمه بغير حق لم يأكل سكان ضواحي
_________
(1) أهمل الأصل هنا الإشارة إلى ما جاء في الأوامر العلائية من ذكر للتقاليد التي أرساها السلطان غياث الدين كيخسرو في حكم دولة سلاجقة الروم، وعلاقة السلطان والملوك بالقضاة، وحضورهم مجلس القضاء يومين محددين من كل أسبوع، والمسارعة بتنفيذ أحكام القضاء، الأوامر العلائية 94 - 95.
(2) زيادة من أ. ع، ص 94، 95.
(1/38)
قونية ونواحيها ثمرة واحدة من المزارع والبساتين طيلة ثلاث سنوات. وفي النهاية ندم (السلطان) على ما فعل، واسترضى أهل القاضي، وطلب منهم العفو والصفح.
ذكر توجه السلطان غياث الدين كيخسرو لفتح أنطاليه
كان السلطان يجلس ذات يوم على العرش كعادته المعهودة وينفذ أحكام العدل، فدخل جماعة من التجّار إلى المحكمة وقد مزّقت ثيابهم، وأهالوا التراب على رؤوسهم فقالوا: أيها الملك، يا من علا نجمك، نحن جماعة من التجار عرّضنا أنفسنا للخطر طلبا لعيش العيال من وجه حلال، وقد تحمّلنا مشاقّ الأسفار، وبسبب ذلك الكسب يظل أطفالنا أصابعهم على شفاههم، وآذانهم تسترق السمع إلى قرع الباب، وعيونهم معلّقة بالطريق فلعل أبا يرى وجه ابن له أو لعل رسالة تصل من أخ لأخيه. لقد انطلقنا من ديار مصر صوب الإسكندرية، وقدمنا من هناك بإحدى السفن إلى ثغر أنطالية. فأذاقنا حكام الفرنجة العذاب وأخذوا ما كان معنا من ناطق وصامت، ما قلّ منه أو كثر بالظلم والعدوان، وسخروا منّا فقالوا: ها هوذا السلطان العادل الغازي قد جلس في قونية وبسط بساط العدل فاحملوا إليه مظلمتكم لكي يحشد الجند، فيفعل ما يشفى صدروكم (1).
فأخذت السلطان رقّة لذلّتهم وافتقارهم وتأجّجت نار الحميّة فيه، فأقسم
_________
(1) كذا في أ. ع ص 96 (صدور شما)، وفي الأصل (صدور ما)، والمعنى به لا يستقيم.
(1/39)
بمالك الملك قائلا: لن أجلس من وقوف حتى أحصل لكم على أموالكم. فلقد ذقت مرارة الغربة، ورأيت نكاية الظالمين [شعر]:
- أنا أعلم بما بكم أيها المساكين، ... فما كانت قلنسوتي إلا من هذا النسيج.
ثم أصدر الأوامر لأطراف الممالك لدعوة الجند، فتجمّع جند كثيرون في أقل مدة، فولّى وجهه نحو ديار الكفار بجيش جرّار مؤيدا بفضل الخالق. وبعد أن طوى بضعة مراحل معدودة، وصل/ إلى تلك الحدود، فأحاط بدائرة أنطالية من كل صوب جنود لديهم من القدرة والشجاعة ما يمكّنهم من الدخول إلى فم الأسد عند اقتحام المهالك وكأنّهم دائرة السّوء، ونصبوا المجانيق، وظلّوا شهرين متتاليين يقارعون ويحاصرون من الفجر حتى العشاء.
ولأن رجال السور لم يتسرب إليهم أي نوع من الفتور، أمر السلطان بالبدء في الرمي بالسهم والقوس عوضا عن الرّمح والسّيف، وأن لا يجعلوا فرنجيا يأمن أن يتمكن من أن يلقي نظرة على مغاوير القتال من شرفات القلعة، وأن يباشر الأبطال المجرّبون الحرب، وأن ينصبوا السّلالم على القلعة، ويتبين منهم عيار الرجولة على محكّ الامتحان.
وحين بلغ هذا الأمر مسامع كتائب الجند ثاروا دفعة واحدة كأنهم الجراد والنّمل، وفي أقل من ساعة واحدة نصب على كل بدن من السلالم ما كان قرينا لأوج الفلك من فرط الطّول. وكان أول من وضع قدم الصدق وحقّق الظفر رجلا يدعى حسام الدين يولق ارسلان من جند قونية القدماء، فقد قفز بسفيه ومغفره ورداء القتال الذي يرتديه على قلعة من الحجارة كأنه النّمر،
(1/40)
وألقى بنفسه بين الفرنج، فبعث عدة أفراد منهم إلى سقر، وترك الباقون القرار وأخذوا طريق الفرار. ولم يلبث مغاوير الجند أن صعدوا إلى القلعة من كل ناحية مع سيوف من الحديد كأنها الريح التي تقطع صدر الجبل، ونصبوا علم السلطان على شرفات القلعة، ثم نزلوا من بعد ذلك إلى المدينة، وباندفاع كاسح كسروا الأقفال بضرب الرمح والعمود وفتحوا الباب.
ودخل باقي العساكر المدينة كالعقبان الكواسر. ولأن الفرنجة كانوا وقت الحصار قد أطالوا ألسنتهم بما لا يليق، أمر السلطان بالقتل العام ثلاثة أيام، وأن يبقى بساط أحمر مفروشا مدة طويلة (1) على بحر أخضر بدماء الكفّار، وأن تتهيأ للطّيور والأسماك/ وليمة لائقة من أشلاء أولئك الجفاة وجيفهم، ثم أمر بعد ذلك أن يجعلوا السيوف من الرقاب في القراب، وأن يخاطبوا أولئك المذعورين- وهم بقايا السيوف- بالسّبي والنّهب، فظلت أمواج النّهب وبحار الغارات في تلاطم وتصادم خمسة أيام أخرى، وفي اليوم السادس منح السلطان إمارة أنطالية لمبارز الدين أرتقش- وكان من خاصّة غلمان السلطان، وكان ملازما للركاب السلطاني في أيام الغربة، وقد حدثت هذه الحكاية والفتح في شعبان سنة ثلاث وستمائة.
ثم أمر بأن يدخل مع حشمه المدينة ويعطى الأمان. وأقام السلطان هناك مدّة حتى تم ترميم الثّغرات التي كانت قد حدثت في القلعة وقت المحاصرة، ثم نصب قاضيا وخطيبا وإماما ومؤذنا ومنبرا ومحرابا، وبعد الاحتياط التام لوى العنان
_________
(1) قارن أ. ع، ص 98.
(1/41)
صوب العاصمة قونية.
وحين ابتعد مرحلة في الطريق عن السّواحل أمر نوّاب إيوان السلطنة بالإقامة في منطقة دودان وتحصيل أخماس الخاصّ (السلطاني)، ودعا إليه التجار الذين كانوا قد تظلموا وظلّوا ملازمين في المعركة وكان مركبهم من الإصطبل الخاصّ ومأكلهم من المطبخ الخاصّ، وطلب قائمة بالأموال (والمتاع والقماش) (1) لكي يأخذوا منها ما هو موجود في غنائم الجند (2)، وكتب أمرا إلى الأمير مبارز الدين أن يطلب الباقي هناك ويتم تحصيل ما يبقى مفقودا من مال (السلطان) الخاص. إذ كان رفع مظلمتهم هو سبب ذلك الفتح، وما صارت الكسرة على العدو إلا لجبر حالهم. والتحق السلطان- وقد تحقق له ما أراد- بقونية.
هكذا ينبغي على العظماء أن يفعلوا ما فعل.
ذكر عزيمة السلطان لغزو بلاد الروم والترقي من ثمّ إلي درجة الشهادة
حين رجع السلطان من غزو ثغر أنطالية، وانضمت تلك المملكة الجديدة لسيطرة مماليك السلطنة القدماء، وضع جبابرة الدهر وكبار أهل العصر رؤوسهم على خط أوامره [التزاما بها] وأقدامهم على جادة عهده وميثاقه؛ فلم يكن يجول بخاطر أى إنسان أن تنحلّ عقدة تلك الدولة وتزول شمس تلك السعادة.
غير أن لاعب القدر أظهر ألعابا غريبة من وراء الستار وبيّن نقوشا عجيبة حتى
_________
(1) زيادة من أ. ع، ص 99.
(2) قارن أ. ع ص 99.
(1/42)
تحركت نواهض الهمّة وبواعث العزيمة عند السلطان لغزو بلاد الروم المسماة ب لشكري (1). وسبب ذلك- كما سبق أن ذكرنا- أنه كان يمنع السلطان من دخول بلاده أو الخروج منها لديار الإسلام. ولما تمكن [السلطان] (2) على عرش السعادة والإقبال في هذا الوقت أخذ يتلكأ ويتمهل ويتباطأ في إرسال الإتاوات وارتسام الأوامر والخدمات.
وذات يوم اختلى السلطان بأركان الدولة واستطرد في الحديث عن تدارك أمر لشكري، وقال إن لم نبادر بالهجوم لدرء فضوله وغروره فقد يؤول الأمر إلى خلل عظيم (3). قال أكابر الدولة إن نقض العهود مذموم، وعاقبته شوم واليمين الغموس يدع البلاد بلاقع، ولا يمكن أن يكون لهذا الفكر من نتيجة سوى خراب الدّيار واضطراب أحوال الدولة، إلا أن طريق الوعد والوعيد لم يغلق في هذا الصدد، وينبغي إرسال الرسل والإعراب عن العتاب البليغ والإلحاح في المطالبة، فإن جاء من طريق الاستغفار مبديا الاعتذار وجب أن تتلى حينذاك الآية الكريمة: «لا تثريب عليكم اليوم» (4)، أما إن أصر على النّفاق والشّقاق فينبغي أن نجعل من قول القائل/ آخر الدواء الكيّ حجة وبرهانا.
وهنا قال السلطان:
_________
(1) أطلق المؤرخون المسلمون لقب لشكري على الدولة البيزنطية أو امبراطور الروم البيزنطيين. انظر مثلا: نهاية الأرب للنّويري، 27: 109، طبع مصر 1985.
(2) زيادة من أ. ع ص 3، 1.
(3) كذا في أ. ع، ص 103 وفي الأصل جاى يعني مكان، وهو تصحيف.
(4) سورة يوسف: 92.
(1/43)
ووضع النّدى في موضع السّيف بالعلى ... مضرّ كوضع السّيف في موضع النّدى (1)
فلا يفيد عسل العنّاب السكّرى حيث تلزم جراحة مبضع المثقّفات الهندى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (2). فأرسل الأوامر إلى أطراف البلاد وحرّض أمراء الجند كبيرهم وصغيرهم على نيّة (3) الغزاة والجهاد، واستجابة للأمر الأعلى حضر إلى المعسكر العام للجيش كافة المقاتلين والضبّاط والقادة مع عدد كبير من الأتباع والأنصار وهم على أهبة الاستعداد، وساروا- على هيئه يطيح لهيبتها الأسد القابض على الأرض بمخالبه والنّسر المستولي على الآفاق بجناحيه- في ركاب السلطنة المعظّم.
وحين وصلوا إلى حدود آلاشهر وهى من معظمات بلاد الرّوم- كان الجواسيس قد أبلغوا لشكري بتحرّك الرايات السلطانية فأرسل برسائل الاستغاثة إلى القبائل والعشائر وحكّام البلاد والجزائر وجمع جيشا بعدد الرمل والنّمل والمطر والحصى مما لا يعدّ ولا يحصى، وتوجه لقتال جيش الاسلام بتعبئة كاملة. فهاج جند السلطان من هذه الناحية كالبحر المائج، وكان السلطان قد وقف في القلب كالشمس المنيرة قد لبس لأمة الحرب كأنها الياقوت
_________
(1) البيت للمتنبي من قصيدة يمدح بها سيف الدولة، راجع: شرح ديوان المتنبي، لعبد الرحمن البرقوقي ط بيروت، 3: 11.
(2) سورة البقرة: 6.
(3) الأوامر العلائية، ص 105: (برنيت) يعني بنيّة، وفي الأصل: ترتيب، وهو تصحيف.
(1/44)
البدخشى (1)، وعلق بساعده قوسا ذا بأس شديد كقلب الشباب وشدّ على وسطه سيفا مرصّعا بالجواهر قاطعا كأنّه دموع العاشقين، قد امتطى حصانا في قوة فيل بوسعه عبور النيّل بوثبة، يحدث ثغرة في السّبع الشداد بقفزة واحدة، ويقيم وقت الركض أرضا أخرى في السماء بتراب حوافره.
/ وحين شاهد (السلطان) تطاول الرّمح وتعدّى السهم ووقاحة الدّرع وسلاطة السّيف وخشونة السّنان وملامة العمود الثّقيل سلّ حسام الإباء لقطع الدعاوي وفصل الخصومات، ووصل وسط المعركة إلى قلب العدو فرأى لشكري واقفا، فامتنع عن مهاجمته بالسيف، وأمسك بسنان مستقيم فأراه منذ الضربة الأولى وجه الطامة الكبرى، وأطاح به من فوق ظهر الحصان إلى الأرض، وقال مخاطبا له على سبيل الخطاب: أي كندوس (2)، (يعني أيها الوغد).
وطلب عبيد الخاصّة السلطانية أن يفصلوا رأسه عن جسده، فحال السلطان دون ذلك، وأمر أن يضعوه فوق ظهر الحصان مرة أخرى ويطلقوه.
وحين علم جيش لشكري ما حل بالملك من مصيبة انهزموا، وبحكم القدر انفصل كلّ الحرّاس والمفاردة عن السلطان، وشغلوا بسلب الأسلاب.
وفجأة قابل فرنجي مغمور السلطان، فلم يلتف إليه باعتباره منصورا بالحشم. [ولم
_________
(1) الياقوت البدخشى: هو المنسوب إلى «بدخشان» بتاجيكستان الحالية، وهو أجود أنواع اليواقيت وأشّدها حمرة.
(2) كندوس: كذا، والكلمة يونانية.
(1/45)
يستخدم السلاح لزجره ودفعه] (1). فلما مرّ بالسلطان عطف عليه فجأة وبعث بروحه اللطيفة إلى الفردوس بضربة من حربته، وجمع عدّته وسلاحه وملبوسه وقدم على لشكري مع كوكبة من جيش [الروم الذى كانوا قد رجعوا منهزمين] (2). فلما رأى لشكري ذلك اللباس عرفه في الحال، فسأله: من أين جئت بهذا الملبوس؟ أجاب: سلّمت صاحبه لرضوان. قال لشكري: أيمكنك الآن أن تتجه إلى ذلك المقتول وتأتيني بجثّته قال: أستطيع. فأرسل بضعة أشخاص من شجعان الجند معه ليحملوا القالب المطهّر للسلطان، ويذهبوا به إلى لشكري. فلم رآه شرع في البكاء والعويل، وأمر بسبب هذه الحالة بأن يسلخوا جلد الفرنجي وهو حي.
وحين نما إلى علم الأمراء وقادة العسكر أن السلطان نال درجة الشهادة/ ظلوا حيارى قد طار صوابهم، وعدّوا الهزيمة غنيمة، وبدا في جيش لشكري انتعاش وارتياش (3)، فوقعوا في إثر المنهزمين من أهل الإسلام، فهلك خلق كثير في تلك الملاحم بعضهم بالقتل وبعضهم الآخر بالغرق وجماعة بالخسف في الأوحال والمخاضات، [وأسروا جماعة من كبار الأمراء مثل آينه چاشنى كير وغيره] (4)، وحملوه أسيرا إلى لشكري، وحين وقع نظر آينه على جثة
_________
(1) زيادة من الأوامر العلائية، ص. 11.
(2) الأوامر العلائية، ص 110.
(3) كذا في الأصل، كلمتان عربيتا الأصل، وارتاش فلان يعني أصاب خيرا فرئي عليه أثر ذلك (المعجم الوسيط).
(4) زيادة من الأوامر العلائية ص. 11 - 111.
(1/46)
السلطان المباركة صرخ وصاح، وأخذ يتمسح بتراب قدم السلطان. فأمر لشكرى بفكّ قيوده، وقدّم له الغزاء.
ومع أن السلطان كان قد نال درجة الشهادة فقد طيبّوه بالمسك وماء الورد، ودفنوه في مقابر المسلمين برسم العارية، ثم حملوه إلى «قونية» بعد انقشاع غمام الواقعة وسلّموه إلى رضوان في مقبرة آبائه وأجداده.
***
(1/47)
ذكر سلطنة السلطان عز الدين كيكاوس ابن كيخسرو والفتوح التي تحققت في أيامه
في سنة 608 حين اختتم كتاب أجل السلطان بالشّهادة، وانطلق من سبيل الجهاد إلى عرصات المعاد، وانخرط في سلك «أولئك هم الصدّيقون والشّهداء عند ربهم» (1) اجتمع أركان إيوان التّدبير وحفظة شرف التّاج والسّرير فقدحوا قداح الاستخارة وزناد الاستشارة؛ واستصوبوا أن يتم الاقتراع على اختيار أى من الملوك الثلاثة: «عزّ الدين كيكاوس» و «علاء الدين/ كيقباد» و «جلال الدين كيفريدون» فيسلّموا واحدا من هؤلاء الأمراء الملكيّين الثلاثة تاج الملك وسدّة الحكم. فأشار الأمير نصرة الدين [الحسن بن ابراهيم] ملك «مرعش» - وكان طومار ذكر «حاتم الطائي» قد طوي في عهد سخائه، قد زيّن بعظمة «أفريدون» (2) وجلال «كسرى» - أشار إلى «عز الدين كيكاوس» - باعتباره أكبر الأولاد وأكرم ملوك ذوى الأوتاد.
فاتفقوا جميعا على استحسان هذا الاختيار (3) وانصرفوا مسرعين من قونية إلى قيصريّة، وجاءوا بالملك من ملطيّة إلى قيصريّة في خمسة أيّام، بل أقلّ.
فخرج قادة البلاد وهم بملابس العزاء حتى «كدوك» لاستقباله، وأدخلوه المدينة في أكمل أبّهة، وأجلسوه على العرش.
وبعد ثلاثة أيام خلع الخلع على الجميع وشرّفهم بتقبيل يده، وجدّد العهود
_________
(1) الحديد: الآية 19.
(2) في الأصل: بفر فرزندى، يعني بعظمة البنوّة، والتصحيح من أ. ع ص 112.
وأفريدون: من كبار ملوك الفرس القدماء.
(3) قارن أ. ع، ص 113.
(1/48)
وقرّر المناصب.
وما إن عزموا على التوجّه إلى العاصمة «قونية» حتى سمعوا فجأة بأن الملك علاء الدين قد ولّى وجهه شطر هذه الديار، فبهتوا جميعا، وتملّكهم الإحباط واستبدّ بهم العجز.
***
(1/49)
ذكر محاصرة علاء الدين كيقباد «عز الدين كيكاوس» في قيصرية
حين سمع الملك علاء الدين كيقباد بخبر وفاة أبيه، دعا إليه مغيث الدين طغرلشاه ملك «أرزن الروم» - وكان عمّه وبينهما صلة نسب- كما أرسل الرّسل إلى «ليفون تكفور» واختار له «قيصريّة»، وسلك «ظهير الدين إيلي» بالوعود الجميلة في سلك مؤيّديه، واجتمع له من كل صوب جيش حاشد، واتّجه صوب قيصريّة، وثبت لمحاصرة أخيه، وانقضت مدّة طويلة في تلك المحاصرة، وهلك أمراء مشهورون من الجانبين/ وتسّرب العجز والاضطرار لأهل القلعة، واستولى الملل على المزاج اللطيف للسلطان.
وبمقتضى ما كان قد جرى في السابق من عهود بين السلطان وظهير الدين [پروانه]، وما أبداه من عناية بالغة في حقه، وما كان يشهده من حال يخالف الآمال، ويرى جفاء محل الوفاء، كتب هذا «الدوبيت» - من إملاء قريحته الشعرية الموزونة- على ورقة الشكوى، وأرسل بها في الخارج عند پروانه، (شعر):
أنا شمع، ذهب جسدي بسرّ القلب ... ما افترّ ثغري، ليلة، إلّا عن بكاء
پروانه الذى قال: ما أنا لك إلّا رفيق الغار ... حتى هو، رضي بضرب عنقي
واستدعى [السلطان] «مبارز الدين جاولى چاشنگير» (1) - و «زين
_________
(1) «الچاشنكيرية: وموضوعها التحدث في أمر السّماط مع الأستادار [يعني المشرف على شؤون بيوت السلطان]. ويقف على السّماط ... إلخ» (صبح الأعشى 4: 21).
(1/50)
الدين بشارة» أمير آخور (1) «ومبارز الدين بهرامشاه» أمير المجلس، وكانوا يلازمونه في «ملطية» - وقال: يتراءى لي أن نفتح باب المدينة في منتصف اللّيل، وندفع بكل قوّتنا إلى الخارج مهاجمين ونلقي بأنفسنا إلى «قونية»، فندخل الصّيد المنشود إلى الشّباك بدعم من أمراء وعساكر «الأوج».
وحين نما هذا الأمر إلى علم جلال الدين قيصر، وكان حاكم قيصرية وشحنتها وكان موضع ثقة السلطان الشّهيد وإعزازه لما كان يتمتّع به من دهاء وذكاء شديدين، أبدى تعلّة، وذهب إلى حضرة السلطان حين أقبل الليل، وطلب الخلوة، ثم قال: سمع الخادم أن مثل تلك الفكرة غير الصّائبة قد عرضت بخاطر ملك العالم، ويتعيّن ألا تعودوا لذكر مثل هذه الفكرة المفضية إلى انعدام الصّلاح وفقدان الفلاح. وقد راودت خادمكم هذا فكرة لو تم تنفيذها لانحلت العقدة على النحو المطلوب. فسأل السلطان: وما هي الفكرة؟
قال: لو أتعب السلطان نفسه واتجه إلى الحريم السلطاني/ وأتى لي خفية بحلية ثمينة من حلي النساء لكي أضعها الليلة حيث يتيسّر بها المطلوب.
فدخل السلطان الحريم، وأخذ من أخته شقّة مما تضعه النسوة على رؤوسهن يقدر ثمنها بإثني عشر ألف دينار ذهبي. وأعطاها لجلال الدين قيصر.
فخرج من المدينة في جنح الليل ومعه أحد الغلمان، وقال لحارس الباب: ترقّب عودتي، فإن سمعت صوتي افتح الباب. وانطلق إلى المعسكر الذي تعسكر فيه قوات ليفون، بحكم ما كان بينهما من صداقة.
وحين بلغ طليعة جيش ليفون قال: أبلغوا تكور أن جلال الدين قيصر
_________
(1) «إمرة أخورية: موضوعها التحدث على اصطبل السلطان وخيوله ..» (صبح الأعشى، أيضا: 18).
(1/51)
شحنة «قيصرية» يطلب الإذن باللّقاء. فأبلغوه في الحال، فقابله «تكور» وبالغ في تعظيمه. قال جلال الدين إن عندي لك أمرا دقيقا جللا، أعرضه عليك إن خلا المكان. فأمر تكور بإخراج جملة الخدم من الخيام.
قال جلال الدين: معلوم لتكور أن لا شركة له بأي وجه من الوجوه في ملك السلاجقة، فلا يلزمه أن يتعب نفسه، ويصبح شباكا لصيد يصيده غيره.
فإذا كان الملك هو مغيث الدين (1) ويطلب ملك أخيه، ويريد الملك علاء الدين أن يحل محلّ أبيه، فلست أدري ما شأن تكور؟. إن الخادم من فرط محبّته للمصلحة يرى أن ينأى بنفسه عن هذه الورطة غير المفيدة، ويعمد إلى الحفاظ على ملكه وحكمه. ثم قدم له تلك الشّقّة المرصعة بالجواهر، وقال: هذه ثمنها اثنا عشر ألف دينار مصري أقدمها لك فداء لكي تجعلنا آمنين من بأسك.
فإذا ما ارتحل جيشك، فإنني أتعهد إن استقر الملك/ للسلطان عزّ الدين كيكاوس بأن يرسل اثني عشر ألف مدّ من الغلال بصفة مخزون احتياطي لقلاع الأرمن، ويتعّهد السلطان أن لا يلحق بملك تكور أذى بأي وجه من الوجوه طيلة مدّة سلطنته طالما ظلّ تكور وفّيا لعهوده، وأن تتدعّم الصداقة بتجدّد الأيام.
وحين سمع «تكور» هذا الكلام ورأى تلك التّحفة المرصّعة بالجواهر قبل النصائح المعقولة، وقال: إنما يطمئنّ بالي حين يذهب أحد الأمناء عندي إلى السلطان فيحلف على ما قلت برمّته، ويكتب ميثاقا. [قال جلال الدين يتعين
_________
(1) يريد به مغيث الدين طغر شاه بن قلج ارسلان، عم السلطان عز الدين كيكاوس، وكان ملكا لمنطقة «آبلستان» حتى سنة 597، ثم تولى ملك «أرزن الروم» وعزل عنها لتواطئه مع عداء ادين كيقباد ضد السلطان عز الدين. وتوفى سنة 622، انظر ما سلف، ص 5، 25، 50 وانظر أيضا: زامباور: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة فى التاريخ الإسلامى، الترجمة العربية، طبع مصر، 1951 م، ج 2
(1/52)
أولا على تكور أن يعهد عهدا ويكتب ميثاقا] (1) ويرسله على يد رسوله في صحبتي. ففعل تكور مثل ما قال. وولّى جلال الدين وجهه صوب المدينة يرافقه رسول تكور.
فلما وصل إلى حضرة السلطان، بشّر السلطان بحصول المقصود، وأذن السلطان لرسول تكور بتقبيل يده، فقصّ عليه ما جرى. فأخذ السلطان القلم بيده وخط بالخط الأشرف ميثاقا، وصرف الرسول في جنح الليل. ولما رأى تكور الوثيقة وأبلغه الرسول بمشافهات السلطان، أمر قادة خدمه وحشمه بإعداد العدة للرحيل خفية دون ضجيج، حتى إذا ما تجاوزوا حدود «دولو» عند الغسق وضعوا الأحمال على الإبل وانطلقو بأجمعهم منصرفين، وعند انبلاج الصبح كانوا قد لحقوا بتخوم الأرمن.
وفي صباح اليوم نفسه أبلغ مغيث الدين طغرلشاه وعلاء الدين كيقباد أن معسكر تكور قد خلا من الخيام «كدار ما بها أدم»، فذهب التفكير بكل واحد منهم مذهبا من هذا الحدث العجيب، وخاف بعضهم بعضا- كالذئاب- فتفرقوا أيدي سبا بحيلة جلال الدين قيصر الثعلبية الماكرة. وظنّ الملك علاء الدين أن تلك الطوائف قد اتفقت مع أخيه قلبا وقالبا وأنهم يريدون أن يزجّوا به في قيد عقال أخيه أسيرا. وقال مغيث الدين: سوف يفتك بي إخوة [السلطان] بسبب ملك أرزن الروم (2)./ وفي اللّيلة التّالية سلك بدوره طريق الانهزام على مناكب الظّلام.
وارتفعت أصوات الطّبول من المدينة برحيل خيل المحاصرين، ولما لم تكن بالملك علاء الدين قدرة على المقاومة سلك طريق «أنكورية» واستولى عليها، واستظهر بما تتمتّع به من مناعة وحصانة.
_________
(1) ناقص من الأصل، والإكمال من أ. ع، ص 117.
(2) قارن أ. ع، ص 118.
(1/53)
وأعطى السلطان عزّ الدين «الحجوبية» (1) لجلال الدين قيصر، ووهب المدن الواحدة تلو الأخرى لخادم من خواصّه: «نكيدة» لزين الدين بشارة، و «ملطية» لحسام الدين يوسف، و «آبلستان» لمبارز الدين جاولي.
وفارق «ظهير الدين إيلي پروانه» الملك علاء الدين، ولحق بنكيدة، فلم يستطع البقاء فيها بسبب مضايقة الأوباش والسّفلة، ومن ثمّ لجأ إلى قلعة «لولو»، فلم يطق البقاء هناك أيضا، فتوجه إلى الشام عن طريق «سيس»، فلما وصل إلى «تلباشر» اعتلّت صحته، ولم يلبث بعد بضعة أيام أن لفظ أنفاسه، فدفنوه هناك.
ثم إن زين الدين بشارة- آمير آخور- عزم على التوجه إلى نكيده، واستمال الأهالي والأعيان بفنون الإحسان، وأرسل إلى ليفون رسلا، وأبلغه باستقرار أمر السلطنة للسلطان عزّ الدين. فأرسل ليفون الردّ مشفوعا بالهدايا.
وولى السلطان وجهه شطر «آقسرا»، ومن هناك توجه إلى «قونية»، وخرج أعيان المدينة لاستقباله حتى منزل «أبروق»، وأدخلوا السلطان المدينة بكل إجلال وتكريم، وأجلسوه على العرش، وقدّموا مائة ألف درهم وخمسة آلاف دينار أحمر رسما لحقّ القدوم. وحلفوا جميعا على الولاء للسلطان، فجدّد السلطان لهم ما بيدهم من وثائق الأملاك، والإقطاعات، وأطلق سراح المسجونين، وارتقى القلّة الفارعة للمعالي بعد الفراغ من الأفكار.
_________
(1) في الأصل: پروانكى: ويرى الدكتور محمد جواد مشكور أن مفردها: پروانه، يعادل منصب الصّدر الأعظم. انظر: مقدمه بر أخبار سلاجقه روم، صد وشصت ويك. على أنّ الأصل الذي بين أيدينا، و «الأوامر العلائية» لابن البيبي ينسبان الكلمة إلى «الحجوبية» انظر ما وصفا به «معين الدين سليمان پروانه» ب «ملك الحجاب»، ص 346 من هذا الكتاب؛ وانظر في مهامّ منصب الحجوبيّة:
صبح الأعشى: 4: 19.
(1/54)
ذكر مكارم أخلاق السلطان الغالب عز الدين كيكاوس
كان السلطان عز الدين امبراطورا سخاؤه كقطر السحاب بلا حساب، ودهاؤه- كطلعة المشتري- يتألق في قلب اللّيل البهيم، قامته تحسدها أشجار السرو النامية على حافة الغدير، وخدّه تغار منه محاسن طراز الربيع (1)، قوسه كاستدارة حواجب الأحبّة مهلكة للروح، وسهمه كدعاء المظلومين يعلو على الأفلاك ويتولدّ عنه الضرر، عقله كدين الإسلام كامل، وعدله كظل الغمام على الخاصّ والعامّ هاطل، كان يعتقد أن إجزال العطاء على القريض من الفرائض، وكان يبلغ في صلاته للشّعراء أقصى الغايات، بعثت إليه ابنة حسام الدين سالار من «الموصل» بقصيدة تشتمل على اثنتين وسبعين بيتا فأنعم عليها بمائة دينار أحمر في مقابل كل بيت، ورفع الصدر نظام الدين أحمد أرزنجاني من مرتبة الإنشاء إلى مرتبة عارض بلاد الرّوم بالقصيدة التي كان قد قالها في جواب «شمس طبسي» وأنشدها في المحفل.
لبس لباس الفتوّة من حضرة الخليفة الناصر لدين الله، وشرب كأس المروءة من حانة قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (2).
حين بلغ خبر جلوسه على العرش سمع «لشكرى» فكّر مع مستشاريه على أي وجه يبادر بمراسلة السلطان عزّ الدين، وكيف يمكن العذر عن ذلك الغدر- وإن لم يكن رضاه مقرونا به. قال بعضهم (3) إن مقتضى الحزم أن تطلق «آينه
_________
(1) كذا في الأصل: طراز بهار، وطراز كلمة فارسية معرّبة، ومعناها الشكل، الهيئة.
(2) آل عمران- آية 31.
(3) قارن أ. ع، ص 129.
(1/55)
چاشنى كير» من وثاق الأسر، وتصرفه بتحف مدهشة وهدايا منتقاة في صحبة رسلك- إلى عبودية بلاط السلطنة كي/ يتوسّط في رفع غبار الوحشة ورتق خرق العداء، فما هو إلا من بطانة الدّار وخواصّ العشّ، فكلمات اعتذاره- ولو كانت بدون عرض (1) توشك أن تكون سهما يصيب الغرض. ثم يجب بعد ذلك الاشتغال بجمع الرجال وتهيئة أسباب القتال. فإن انفتح طريق الصّلح بهذه الوسائل فهو المراد، أما إن دخلوا من طريق المشاحنة والمخاشنة ووضعوا أساس المحاربة نكون قد فرغنا من تناول الأسباب وأخذنا الأهبة والاستعداد.
استصوب «فاسليوس» هذا الرّأى وبعث هدايا لا نهاية لها من كلّ نوع في صحبة سفير كان موسوما في بلاد الرّوم بفصل الخطاب والكلمات العذاب، وعدّ استمالة جانب سيف الدين آينه- بكل ما يدخل في حدّ الإمكان- أمرا ضروريا لازما، حتى صقل مرآة ضميره تماما من صدأ الدّخل (2) والتزم بإتمام مهامّ المصالحة، وتوجّه مع الرّسل لحضرة السلطان.
وحين بلغوا حدود البلاد بادر الأمير سيف الدين في التوجّه إلى البلاط قبل الآخرين، ونال شرف تقبيل اليد، وأعلن عن وصول الرسل وخلاصة الرسالة، ومحا الغبار الذى كان قد علق بأطراف خاطر السلطان بكمّ رداء الاستعطاف، وابتغى مراضي السلطنة في العفو عن جرائم الماضي، فأقلع السلطان عن الضّغن والانتقام، وعزا مصيبة أبيه إلى القضاء والقدر، وأمر بأن يؤذن للرسل في المثول بين يديه في مجلس عام. فأبلغوا الرّسائل والمشافهات، وعرضوا التّحف والطّرف، فاقترنت الرسائل بالمحمدة والرضا، وأمر بالحفل والطرب، [ودعا
_________
(1) عرض، كذا في الأصل، كلمة عربية، والعرض المتاع.
(2) في الأصل: دخلت، والدّخل: المكر والخديعة.
(1/56)
الرسل فجيء بهم إلى مجلس الأنس] (1).
وفي اليوم التالي سمح لهم بالمثول بين يدى السلطان في خلوة (2)، فأقسموا له على رضاء ملك الروم فأمر بأن يجهزوا من الخزانة أضعاف ما كان قد أرسله [فاسليوس] وكلفّ الأمير سيف الدين ثانية بتلك الرسالة كي يعود ويسلّم المهمّات ويحضر طلل/ السلطان الشّهيد إلى العاصمة.
فانصرف الأمير سيف الدين وبصحبته الرّسل والتّحف، فلما اقتربوا خرج ملك الروم لاستقبالهم، وبالغ في توقير الأمير، وأقسم- بموجب المسوّدة التي كانت قد ابيضّت بحضرة السلطان.
وأعد في الكرّة الأخرى أضعاف ما كان قد أرسله في المرّة الأولى، وأرسل عشرين ألف دينار صدقة يتم توزيعها عند دفن السلطان [الشّهيد]، كما بعث بجثّة السلطان مع جند كثيرين إلى حدود بلاده. فعاد الأمير «سيف الدين آينه» والرسل والتحقوا بخدمة البلاط وعرضوا ما حدث، فعمر الجانبان بوفور السرور والحبور.
وحين أتوا بجثّة السلطان إلى قونية ودفنوه بجنب جده وأبيه وأخيه، ذهب السلطان لزيارة السلاطين، وضمّ ثلاثين ألفا إلى ما كان ملك الروم قد أرسله، ففرّق بعضه هناك على المساكين، وأرسل البعض الآخر إلى الزّوايا والصّوامع، وأجرى الباقي في أطراف البلاد.
...
_________
(1) زيادة من أ. ع، ص 131.
(2) في الأصل: تألقوا ثانية (بازتافتند)، ولا يستقيم بها المعنى، ولعلها: باريافتند، أى أذن لهم بالمثول في حضرة السلطان.
(1/57)
ذكر توجه السلطان إلى أنكورية ومحاصرة أخيه الملك علاء الدين
حين ظلت فرش الكرامة مبسوطة زمنا على هذا النّمط في إيوان سلطنة عزّ الدين كيكاوس، وغدت المهمّات والمصالح مضبوطة، جال بذهن السلطان: ما دام أخي في أنكورية متحصّنا بذلك المكان المنيع للغاية، فلن ننعم بالأمن الشّامل والفراغ الأصلي، ومن ثم ينبغى أن نعدّ اقتلاع جذور هذه الفتنة من أوجب/ الواجبات.
ثم أصدر الأوامر إلى الأمراء وقادة الأطراف كي يشخصوا بجمع حاشد إلى العبوديّة، وفي أيّام قلائل حضر العساكر كافة إلى ضواحى قونية المحروسة. وما إن حصل للسلطان الفراغ من ترتيب أسباب المحاصرة ومعدّات القتال حتى توجّهوا إلى حدود أنكورية بالطّالع المسعود.
وحين بلغ ذلك الملك علاء الدين شغل بتقوية القلعة كما عني بأمر الجيش وتجديد عهد الولاء والوفاء مع أهالي المدينة. فلما بلغ السلطان أنكورية اصطفّ الجيش صفّا صفّا، بهيبة تزيغ لها عيون أولي الأبصار، فأحكموا الحصار على المدينة.
وخرج الأمير «مبارز الدين عيسى الجاندار» (1) وإخوته من المدينة فوقفوا في الميدان، وبسبب خصومة حدثت في المكتب لمبارز الدين في «سيواس» مع «نجم الدين بهرامشاه الجاندار» ظل كلاهما يسلك مع الآخر طريق المعاكسة والعداء؛ فصاح مبارز الدين بأعلى صوته داعيا نجم الدين للمبارزة، فطلب نجم الدين
_________
(1) «إمرة جاندار: وموضوعها أن صاحبها يستأذن على دخول الأمراء للخدمة ويدخل أمامهم إلى الديوان ... إلخ» (صبح الأعشى 4: 20).
(1/58)
بهرامشاه الإذن من حضرة السلطان عزّ الدين ودخل الميدان. فانخرط كلاهما على الفور في القتال بالحراب كأنّهما أسد وفهد، فزاد ما تكسّر من رماحهما عن تفاريق العصّي وشتيت الحصيّ، ولم يصب أي من الغريمين بخدش- ولو خطأ- من هذا الطّعان.
فما كان منهما إلا أن مدّا أيديهما إلى علوة السرج، وانتزع كل منهما دبّوسا، فعجزا عن ذلك أيضا، فلما لم يظهر القاهر من المقهور والغالب من المغلوب أرادا امتشاق السيوف من أغمادها ليفصلا في الدعوى بحدّ الحسام، فهو البرهان القاطع. فأمر الملك علاء الدين من داخل المدينة بأن ينادى على مبارز الدين، فلما بلغ نداء النقّباء سمعه رجع، كما ذهب بهرامشاه إلى حضرة السلطان، فأعرب السلطان عن إعجابه/ بثبات قدمه، وخلع عليه.
وظلّت الاشتباكات قائمة على هذا النّمط بين الطّرفين كل يوم من أوائل الربيع حتى أوائل ربيع السنة التالية، ووضع السلطان مقابل المدينة أساس مدرسة على أمل أن يوقف عليها أوقافا ويغدق على فقهائها إن تيسر له الظّفر، وإن ظل الأمر على ما هو عليه أمر بإقامة مبنى المدرسة. فلما استخلص أنكورية وفى بالعهد والنذر وأوقف عليها. ولمّا وصلت النوبة لعلاء الدين أصدر أمرا بهدم القبّة وإبطال الأوقاف، لكن أطلال تلك المدرسة لاتزال باقية.
لنرجع إلى ما كنّا فيه. أقام كل أمير بيتا، وقضوا ذلك الشتاء. وحين وصلت راية ملك الكواكب السيّارة إلى نقطة الاعتدال الربيعي، وامتلأت ستائر الأبواب بريح الصّبا، وتجلّت عرائس الرّياض، تجاوز ضيق المحاصرين وقلّة المؤن والمحاصيل الحدّ، فأخذ سكان المدينة والمحاصرون بالقهر يتجرّعون السمّ من ساقي الدّهر، فشرعوا في قرع باب الصّلح برضا الملك علاء الدين.
(1/59)
وأرسلوا رسولا إلى الأمير سيف الدين آينه طالبين الأمان، فجاء الأمير سيف الدين بالرّسول لتقبيل يد السلطان، ولما عرض الرّسول المشافهات والمراسلات واستغاثة أهل المدينة وما كانوا قد قدّموه من شفاعة بشأن الملك علاء الدين، بدت أسارير السّرور في الجبين المبارك للسلطان، واستدعى الأمراء الكبار مثل ملك الأمراء حسام أمير چوبان وملك الأمراء سيف الدين أمير قزل- وكانا من كبار أعوان المملكة- فأقسم السلطان في حضورهم بأغلظ الأيمان بألا يلحق بالملك/ علاء الدين أي ضرر- بأى وجه كان- من قبله، أو من قبل رعايا دولته، وأن يصرف- خالي البال- لبعض القلاع التي للسلطان ثقة بها، وألا يبخلوا عليه بالعدّة الضرورية من ملبوس ومفروش ومطعوم وزوجة، وألا يأخذ السلطان أهل المدينة بالمقاومة التي أبدوها. وتمّ توقيع العهود بعد ذكر الحلف باليمين المبارك للسلطان، وسلّمت للرّسول.
وحين وصل الرّسول إلى المدينة، وأذاع الأمر، طلب أهل المدينة أعلام السلطان، ودعوا إليهم بالأمير سيف الدين آينه، فدخل الأمير سيف الدين المدينة- بأمر حضرة السلطان- بصحبة جند لابسين ملابس القتال ومعهم أعلام سلطان الدّهر وراياته، ورفع العلم بكل إجلال على قلّة القلعة، واستمال أهالي المدينة صغيرا كان أو كبيرا. ونقلوا الملك علاء الدين من قصر السلطنة إلى بيت بعض المجنّسين، واختاروا الموكّلين.
وبعد ذلك صحب الأمير سيف الدين الأعيان والكبار إلى البلاط، فنالوا شرف تقبيل اليد، واعتذروا بلسان الاستغفار، ثم دخلوا المدينة مع الأمير سيف الدين، وأعدّوا الأموال والأمتعة التى سيجعلونها نثارا على موكب السلطان [عند دخوله المدينة].
(1/60)
ثم دخل السلطان المدينة بالفأل السعيد، وجلس على العرش، وأسعد (1) طبقات الناس بأنواع الاصطناع. ثم عهدوا بالملك علاء الدين إلى سيف الدين آينه، فأخذه إلى ملطيّة المحروسة، وحبسه بقلعة «منشار» (2)، ورتّب الرّواتب ووظائف بيت الثيّاب والمطبخ والشرابخانه، وأخذ من الأمراء والقادة حجّة بأنه قد سلّم الملك إليهم بسلام، ثم عاد. ورجع السلطان إلى العاصمة.
...
_________
(1) قارن أ. ع ص 139.
(2) يشير «ابن واصل» فى كتابه «مفرج الكروب» - فى أحداث سنة 610 - (3:
219) إلى ظفر السلطان عزّ الدين كيكاوس بأخيه علاء الدين كيقباد، ويضيف أن عز الدين همّ بقتل أخيه لولا شفاعة بعض الناس فيه، فعفا عنه وتركه محبوسا.
ويعقب «ابن واصل» على هذه الواقعة بقوله: «وهذه رذيلة كانت فى البيت السلجوقى .. فإن البيت السلجوقي كان إذا ظفر واحد منهم بأخيه أو ابن عمه أعدمه، وأحسن أحواله أن يعتقله حتى يموت».
(1/61)
ذكر عصيان سكّان أنطالية وفتح ذلك الثّغر مرة ثانية على يد مماليك السلطنة
بعد مدة حمل خبال وبطر الرّاحة وأشر النّعمة كفّار أنطالية على أن يضربوا كأس العهد والميثاق بحجر التمرّد والعصيان، فأخرجوا رؤوسهم- كيهود خيبر- من ربقة الطاعة وأقدامهم من دائرة الاستقامة، ونفروا من رعاية حقوق دولة السلطنة فلبسوا السلاح، وفي جوف الليل- وبسبب ما وقع من لبس- كبس كل جماعة منهم حاكما من الحكّام، وجعلوا الشّريف والوضيع والكبير والرّضيع جرحى وقتلى لسيف الانتقام. وشغلوا حتى استولى الفلق على الغسق بإجراء الدّماء أنهارا من أبدان الحكّام صوب البحر، فما حلّ الصّباح إلا وكانت أرواح الشّهداء قد وجدت الأنس برياض القدس.
وبعد ثلاثة أيام بلغ الخبر مسامع السلطان، فظهر تغيّر عظيم في باطنه المبارك، ووقّع في الحال الأوامر باستدعاء واستحضار العساكر والأمراء، وأرسلها بيد الرّسل المسرعين إلى كافة الممالك، فلا غرو أن حلّت بصحارى قونية أعداد رجال كحبّات الرّمان، ونصب الدّهليز المبارك بصحراء «روزبه» بنيّة فتح أنطالية بفأل اليمن وطالع السّعد، وساروا في اليوم التالي.
أما الرّوم من أهل أنطالية فقد تحقق فيهم عند ذاك قول الحق تعالى:
وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ (1)، فتوسّلوا- بسبب الاضطرار والمحنة- بملوك الفرنج، فسارعوا بشحن بضعة سفن بالمحاربين وأرسلوها لمددهم، فلما شاهد الفجرة من فوق السور ما أتاهم من مدد فوق سطح البحر/ دقّوا طبول البشائر وتغنّوا بلحن السعادة بالوتر السفلي لورود أولئك الذين هم حطب جهنّم،
_________
(1) يونس، آية 54.
(1/62)
وأدخلوهم القلعة بالحفاوة البالغة والإعزاز التام، فشغل أولئك المناحيس بتدبير عدّة القتال، فركّبوا المجانيق من داخل المدينة.
وحين وقعت ظلال المظلّة السلطانية على تلك الأطلال أمر في التوّ بأن يحيط الجند بتلك الخطّة كما يحيط قطر الدائرة بالنقطة، فزحفوا مع حملة السهام زحفا ارتعدت منه عظام دي وبهمن (1)، ولم يستطع أحد منهم أن يظهر وجهه لأحد من السّور خوفا من ذلك الزحف.
وفي اليوم التالي حين وصلت أسلحة الحصار ومعدّاته ووصل المشاة، أمر فأمسكوا المغازل بالليل وصنعوا السلالم وهيّأوا المنجنيق للعمل. فلم يكن لأولئك الملاعين من حيلة إلا إلقاء الحجارة، إذ لم يكن بوسعهم أن يتحركوا فوق السّور خشية أن يصابوا بالجراح من سنان السهام. ولما طالت مدّة [المقارعة] (2) أمر السلطان بإعداد سلالم عريضة يمكن لعشرة من المشاة أن يرتقوها دفعة واحدة، وأن يصعد شجعان الجند فوق السّور فيفصلون في أصل هذا النزاع بحكم الحسام القاطع.
فعدّوا امتثال الأمر لازما، وأعدوا السّلالم على نفس المنوال، وعيّنوا الجماعة التي تحمل السلالم تحت السّور، والطّائفة التي تصعده، والفوج الذي يرمي بالسّهام.
وفي اليوم التالي سار الجيش بأسلحته، أما عقاب مظلّة المتمكّن في الأرض فقد بسط أجنحته، وتحرّكت الرّاية المنصورة، وطلب السلطان أبطال الحشم،
_________
(1) دي وبهمن: الشهران العاشر والحادي عشر من السنة الهجرية الشمسية الفارسية ودي أول شهور الشتاء ويعادل شهري ديسمبر/ يناير من السنة.
(2) إضافة من أ. ع، ص 144.
(1/63)
وبذل لهم الوعود الجميلة حتى حملوا بأسرهم حملة كعزرائيل، فأجروا من العيون النضّاخة في عروق الكفّار أنهارا صوب البحر./ وجرى قول الحق جلّ وعلا تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (1) مجرى التداول. ونصبوا السّلالم، وصعد الشّجعان بالدّبوس الثقيل والسّلاح الخفيف عشرة عشرة من كل برج كالشّمس التى امتشقت الحسام، فقتلوا الفرنجة الذين كانوا على السّور، ونزلوا وفتحوا البّوابة، فدخلت العساكر، وتجاوز تدفّق الدّماء الحدّ، وعدّوا الإبقاء والعطف على الصّغير والكبير من المحظورات، وغنموا أموال أولئك الكفرة وعيالهم حيث أخذوهم رقيقا.
وفي اليوم التالي دخل السلطان المدينة، وجلس على عرش المملكة، فقيّد الصقر المسيطر على الفضاء بقيد الصّيد ثانية، وأمر بإقامة الاحتفالات العامة، وخصّ الأمراء والقادة ورؤساء العشائر والبواسل من العساكر المنصورة، فجعلهم ينالون الحظوة بمكارم وعواطف غير محصورة.
واستمر الاحتفال بعد انتهاء القتال سبعة أيام، ثم ألقى نظرة على سائر البيوتات، فما كان فيها معدوما جعله موجودا، وما كان قليلا أحاله كثيرا، وبلغ بحدّ النّقصان غاية الكمال، وبادر بترميم السّور وزاد من ارتفاعه وسدّ كل ثلمة فيه. وعهد من جديد بقيادة الجيش للأمير مبارز الدين أرتقش كي يستميل القلوب بحكم اطّلاعه على أحوال السّواحل، ويعيد المتمرّدين والمشرّدين إلى الماء والأرض. فضمّ أموال الخونة وأملاكهم إلى ديوان الخاص، وسجّلها في دفاتر الديّوان الأعلى، وأضاف بعضها إلى الإقطاعات.
وولّى السلطان وجهه صوب قونية، وكتب رسائل الفتح والظّفر لأطراف العالم، وأرسل من تلك الغنائم تحفا لا حصر لها إلى ملوك الأطراف.
_________
(1) الطور: الآيتان 9، 10.
(1/64)
ذكر تحرّك السلطان نحو سينوب وفتحها فى عهده المبارك
حين أطلّ وجه الربيع من وراء نقاب السحاب المضمّخ بالكافور وبسط فراشو (1) الطبيعة بساطا متعدّد الألوان على وجه الجبال والصحاري حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ (2)، خطر للسلطان أن يتوجه إلى «سيواس»، فوجّه عنان من يزدان به العالم إلى تلك الناحية.
وبينما كان السلطان جالسا ذات يوم في محفل ملكي وصل فجأة رسل من محافظي ثغور «سينوب» وسلّموا رسالة مختومة لحضرة السلطان بأن «كيرالكس» تكور «جانيت» قد بالغ في الجناية، وتوّغل في ممالك السلطان، وأحدث الكثير من التّخريب والدّمار. ورغم أن السلطان قد استبد به الانفعال بسماع ذلك الخبر، فقد تجنّب إظهار انفعاله كي لا يفسد متعة الرّفاق.
وفي اليوم التّالي دعا بالأمراء وفاتحهم في الأمر، فأبعدوا النجعة بأسرهم في بيداء الغضب وغيضة الغيظ، وقالوا: لو أذن لنا سلطان العالم فإن خنجر مماليك السلطنة المتعطّش لدماء الخبثاء يروى من مقسم المفرق في رأس ذلك الحقير، ويصبح ما زرع ببلاده حصيدا لمنجل القهر الذى تمسك به الجنود المنصورة.
فسأل السلطان بعض من كانوا قد رأوا «سينوب»، فأجابوا بأنه لا يمكن أخذها بالحرب، اللهم إلا إذا حوصرت زمنا طويلا حتى يلحق بأهلها الملل لقلة المؤن ونفاد الزّاد، وألا يصل إليهم مدد من البر أو البحر، فعند ذاك وبهذه الوسيلة
_________
(1) في الأصل: فرّاشان: أى الفّراشون، و «الفرّاش: من يتولى أمر الفراش وخدمته ..
إلخ» اختاره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، انظر المعجم الوسيط.
(2) يونس: الآية 24.
(1/65)
يمكن أن يتاح فتح المدينة. فالرأى أن يبادر الجيش بالهجوم عليها، فيأخذون عيالهم رقيقا، ويخرّبون ضواحيها وأطرافها كلّية، ويتعاملون معهم على هذا النّحو سنوات.
فاستقرت/ آراء الأمراء في حضرة السلطان على هذا كله.
وفي اليوم التالي توجهوا إلى «سينوب» بعدد كبير وعدة وافرة. فأخبر الجواسيس أن «كيرالكس» يجول بتلك الديار- في غير حيطة ولا حذر- في رحلة للصيد وبصحبته خمسمائة فارس. وحين سمع القادة هذا الخبر أسرعوا كالوهم في المسير، وفجأة التقوا به في مكان الصّيد، وأمسكوا بتلابيب روحه- كموت الفجاءة- في موضع أنسه ومجلس سلوته (1). ورغم أنه حمل على القادة بضع حملات، فإنهم جاءوا به في النّهاية مقيّدا وأسيرا إلى مضارب خيام العساكر المنصورة، أما جنوده فقد قتل بعضهم وجاء الباقون «مقرّنين في الأصفاد» إلى بيت السّلاح الخاصّ، واختير لهم موكلون يتمتّعون باليقظة والانتباه. ثم أرسلوا في التوّ واللحظة رسولا وأبلغوا المسامع السلطانية بالنّصر الرّباني والفتح الفجائي.
وما إن علم السلطان بالرسالة حتى رفع أعلام الفرح رفعا تجاوزت به ذروة العيّوق ومنزل الشّعرى (2)، وأمر ببذل أقصى الاهتمام للمحافظة على ذلك المخذول المجدول (3)، لأن موكب السلطان سوف يتجشّم التوجّه إلى تلك النّاحية
_________
(1) قارن أ. ع، ص 148.
(2) العيّوق نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن، والشّعرى كوكب يطلع في الجوزاء في شدة الحر.
(3) كذا في الأصل، ولعل المراد بالمجدول، من أحكم وثاقه.
(1/66)
على الأثر، ويمكن عرض ما يقتضيه الرّأي وتستدعيه المصلحة على الأمراء (1).
وفي اليوم التالي توجّه السلطان نحو «سينوب»، فلما لحق بتلك الحدود استقبل جميع العساكر الرايات السلطانية وقد لبسوا السلاح، وقبّلوا أرض العبودية من بعيد. وحين نزل السلطان بخيمته المباركة أمر بإحضار «كيرالكس» مقيّد الأقدام. فلما اقترب من العرش قبّل الأرض بذلّة وضراعة، فعني السلطان- لفرط مروءته- بالتودّد إليه، وقال: لا ينبغي أن تتعب خاطرك، فما دامت سلامة الذّات حاصلة غدت شاملة للمرادات. وجلس لحظة ثم أذن بأن يذهب بالأوثاق إلى الوثاق.
وفي اليوم التالي أمر السلطان بأن يركب جميع الجند وهو يلبسون لأمة الحرب/ فيلتفّوا حول القلعة التي تقوم منها على اليابسة.
وأرسل إلى «كيرالكس» قائلا: مادام موكبنا السلطاني قد لحق بهذه الحدود فإن العودة دون حصول المقصود أمر محال، فيجب أن يرسل شخصا من أهله إلى المدينة لكي يقدم النّصح للمحصورين.
فاختار تكور شخصا من الأمراء الكبار كان مقيّدا في سلك باقي الأمراء، ففكّوا قيوده بأمر السلطان، وحملوه إلى تكور، فأرسل تكور برسالة على لسانه بأن يسلّموا المدينة.
فأطال أولئك المدابير اللسان بالهذيان، وقالوا إن كان «كيرالكس» قد أسر فإن له أبناء لائقين، سنقيم واحدا منهم ملكا، ولن نسلم هذه البلاد
_________
(1) قارن أ. ع، ص 149.
(1/67)
للمسلمين. فأمر السلطان بإرسال الرّسول مرة ثانية من باب إلزامهم الحجّة، فلم يكن لذلك بدوره جدوى.
وفي اليوم التالي أمر بأن يطوفوا بتكور وهو مقيّد بقيود ثقيلة حول حدود المدينة ويأخذوا في تعذيبه فإما أن يسلّموا المدينة أو يقضى على «كيرالكس».
فأخذ الجلّادون في تعذيبه، وارتفعت صرخاته وأخذ ينوح قائلا: أيها الكفرة، لأجل من تبقون على المدينة وهم سيقتلونني وسيأخذونكم أسرى مقيّدين بالقهر والقسر، فما جدوى المقاومة؟
«فكان تأثيره فيهم كتأثير الرّخاء في الصّخرة الصّماء».
وظلّ الأمر على هذا النحو طيلة النهار إلى أن حلّ الليل.
وفي اليوم التالي أمر السلطان بتعليق «كيرالكس» مقلوبا وشرعوا في عصره حتى فقد الوعي كالصّريع. فلما رأى أهل المدينة أن أمر الملك قد تجاوز الحدّ صاحوا مطالبين بعودة رسول تكور إلى المدينة، «فعندنا كلام نقوله». وحين دخل الرسول المدينة قالوا: لو أقسم السلطان ألا يقتل «تكور» وسمح له بالذهاب سالما إلى ولايته، وأعطانا الأمان لأرواحنا/ وأهلنا وأموالنا وأطفالنا وسمح بأن نذهب حيث نريد، فإننا نسلّم المدينة.
فأقسم السلطان على ذلك كلّه في حضور «تكور» والرسول، ولما حمل الرسول المواثيق إلى المدينة سكن أهلها واطمأنّوا، وطلبوا علم السلطان، وحمل جماعة من أهل تكور وفوج من الحشم المنصور سنجق (1) السلطان- بكل إجلال- إلى المدينة يوم السّبت السادّس والعشرين من جمادى الآخرة سنة 611، ونصبوه على السور.
_________
(1) مفرد سناجق، والسنجق «رايات صفر صغار» (صبح الأعشى، ص 4: 8).
(1/68)
وفي اليوم التالي صدر الأمر الأعلى فركب الجند ووقفوا في مقابل المدينة صفّا صفّا، وخرج أعيان المدينة وكبراؤها بصحبة الأمراء- الذين كانوا قد ذهبوا في الليل- وقبّلوا الأرض، ورأوا تكور في خدمة ركاب السلطنة واقفا على الأقدام، فسلّموا مفاتيح المدينة إلى مماليك السلطان بحضور تكور. واستمال السلطان بعضهم فألبسهم الخلع (1)، ثم عادوا وأعدوا النّثار، ودخل السلطان المدينة وفق الاختيار (2)، وجلس على العرش، وأقيمت الاحتفالات. وترك السلطان تكور واقفا مدة على سبيل التعظيم، ثم أمره فجلس في مكان أعلى من سائر أمراء الدولة، وبالغ في تكريمه والتمكين له، وأمضى طيلة النهار وشطرا من الليل في السرور والسعادة.
وفي اليوم التالي استدعى «تكور» قبل المسير، وطلب منه العهد والميثاق فنطق تكور بالقسم وفقا للمسوّدة التي كان قد خطها حرس (3) الديوان، وهى: بما أن السلطان يؤمّن حياتي أنا «كيرالكس» ويقّرر لي ولأولادي ملك جانيت (خارج سينوب) ومضافاتها فعليّ أن أسدّد كل سنة عشرة آلاف دينار، وخمسمائة حصان، وألفي بقرة، وعشرة آلاف حصان وخمسة/ أحمال من أنواع التحف، وأنني لن أضنّ بتزويده بالجند- بقدر ما يتسع له الإمكان- وقت طلب المدد. وقد شهد على ذلك كلّه أماثل الطرفين من قائم وقاعد.
وحين أودعوا وثيقة القسم بالخزانة قدّم السلطان تشريفة نفيسة لتكور، وأمره بأن يمتطي صهوة جواده، وكان تكور رجلا طوالا نحيف البدن، فبمجرد أن
_________
(1) قارن أ. ع، ص 152.
(2) يعني وفق اختيار المنجّمين المصاحبين للسلطان، قارن أ. ع، ص، 152.
(3) في الأصل، وأ. ع 152: نوطاران، ومعناها حرّاس، ونظّار، وخفراء المزارع.
وواضح أن الكلمة مأخوذة من العربية: ناطور. راجع: لغت نامه دهخدا.
(1/69)
وضع السلطان قدمه في الركاب أخذ الغاشية (1) من الركابي ووضعها على كتفه ومشى، فلما سار مدّة أمره السلطان بأن يعطي الغاشية للركابي، ويركب هو الحصان. وظلا يسيران في الطّريق جنبا إلى جنب يتجاذبان أطراف الحديث.
سار السلطان ساعة على أطراف السّواحل، ثم عطف العنان صوب المدينة وطلب الخوان وزين المحفل. وبذل الكثير من الإعزار لتكور حين أثرّ فيه الخمر، وأذن له بأن يحمل معه كل من يريد من أهله ومن يتّصلون به، وأن يسلك الطريق نحو إقليمه [دون مانع أو منازع] (2).
وبعد الوداع ركب سفينة وأبحر صوب «جانيت».
ثم إن السلطان أصدر أمرا بأن يتم اختيار سيّد من كفاة الأغنياء ويبعث به إلى «سينوب»، ويشترى ملكه وعقاره- برضاه- من ديوان الخاص السلطاني، ويعطى قيمة ذلك كله.
وبموجب هذا الحكم بعث إلى سينوب بسادة أعيان من نواحي البلاد.
ثم إن النواب دعوا جميع الفارّين وأعادوهم إلى الماء واليابسة، وحوّلوا الكنيسة إلى مسجد جامع، ونصبوا الخطيب والمنبر والمؤذّن، وعيّنوا حارس القلعة والمحافظين، وبادروا بترميم ثغرات السّور، وسمي أحد الأمراء قائدا للجيش، وجعل بصحبته جيش مهيب للدفاع عن ذلك الثغر.
_________
(1) الغاشية: «وهي غاشية سرج من أديم مخروزة بالذهب .. تحمل بين يديه [يعني السلطان] عند الركوب في المواكب الحفلة كالميادين والأعياد ونحوها، يحملها أحد الركابدارية، رافعا لها على يديه يلفتها يمينا وشمالا» (صبح الأعشى 4: 7).
(2) إضافة من أ. ع، ص 154.
(1/70)
/ وما لبث أن توجه من هناك إلى «سيواس»، فيتيسّر للأمراء عند ذاك الإذن بالعودة إلى الأوطان.
ذكر إرسال السلطان للشيخ مجد الدين اسحاق إلى دار السلام لإعلان فتح سينوب
وفي أثناء ذلك كان قد نما إلى السمع الأشرف أن الملك الأشرف (1) قد اقتنص باسم حضرة الخليفة بجعة بحرّية من الأجواء العليا إلى حضيض الفضاء ببنادق القوس، [وكما هى العادة المعهودة لأرباب هذه الحرفة سطّروا مكتوبا مشحونا بشهادة شهود عدول] (2) وأرسل [مع الطائر] إلى حضرة الخليفة مع تحف وفيرة في صحبة رسول. فما كان من الخلافة إلا أن زوّدت الملك الأشرف بودّ متواصل وعناية متواترة.
وحين تيسّر للسلطان فتح «سينوب» بعث الشيخ العالم قدوة الآفاق مجد الدين إسحاق وقد زوّده بالأحمال والتحف من الجواهر والبسط المنسوجة بخيوط الذّهب، والحرير الأطلسيّ المعدني والصّلبان الذهبية المرصّعة، وأواني الفضّة، لإبلاغ الخبر المبارك بذلك الفتح الجسيم الذي قرّت به أعين السلطنة وتقررت به أمور الإسلام، وطلب سروال الفتوّة.
فلما وصل الشيخ مجد الدين إلى مقرّ الخلافة وعاصمة الإمامة بالغ الخليفة في إكرام مقدمه، وأرسل معه حين أذن له بالانصراف سروال العصمة والطهارة،
_________
(1) يعني به الملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبو بكر بن أيّوب، وكان في ذلك الوقت «صاحب ديار الجزيرة كلّها، إلّا القليل، وصاحب خلاط وبلادها» (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، طبع بيروت 1966 م، 12: 337، 352).
(2) إضافة من أ. ع، ص 155.
(1/71)
ومئزر المروءة من البدن المطهّر المكرم لأمير المؤمنين، وكتاب الفتوّة (1) مع العمامة الميلاء كالعمامة (2) السّوداء والدّراعة مشفوعا بالمقرعة ومنشور السلطنة بالتوصية بإقامة حدود الشّريعة بالمملكة، وخمسة بغال سريعة السير منعّلة بنعال النّضار مع الطّوق واللّجام، وخمسة من الخيول العربيّة المبرقعة ببراقع من أطلس أسود مخيط بالذهب، وعشر من الإبل الحجازية، وغير ذلك من أصناف الألطاف وأنواع الأنعام. فزادت مسرّة السلطان بتلك التّشريفات وما كان من حسن الالتفات، وتفاخر بها وتباهى على الفلك.
...
_________
(1) نقل ابن البيبي نسخة الكتاب في الأوامر العلائية، ص 156 - 158.
(2) أشار الأستاذ «هوتسما» محقق الكتاب إلى أن النص هنا مضطرب غاية الاضطراب.
(1/72)
ذكر توجه السلطان نحو طرسوس
حين قفل السلطان راجعا بالسّعادة والحبور من فتح «سينوب»، وصلت جيوش الشتاء، فتّمرغت الشمس في تراب المذلّة كأنها رزق أرباب الفضيلة، ولبست الجوشن- كعادة القمر- من خوف سنان الزّمهرير تحت درع ثبت الغدر (1). فجلس السلطان كأنه كسرى الإقليم الرابع على فراش وثير محاط بالوسائد من جهات أربع، ووضع مثلّث البخور على مدخنة السّرور، وأمضى الشّتاء كله على هذا النّمط برطل يستوعب عشرة أمنان (2)، وبحسناء من أرض الختن (3). فلما حملت شمس المشرق عدّة العمل وارتحلت من قصر المشتري صوب شرفة برج الحمل، عزم السلطان على التوجّه إلى قيصرية المحروسة. وأخذ يأمر خواصّ الأمراء والمقرّبين للبلاط الأعلى بتمهيد قواعد العدل طيلة أيام الحياة.
ومضى أمر القضاء صادرا بأن يسير أمراء الأطراف بجميع العساكر إلى منطقة الرّعي في «بنلو» ولحق الأمراء الكبار بالبلاط، ووفقا للأمر تجمّع كافّة القادة وعامّة الأبطال بعدّتهم الكاملة في مراعي بنلو، وسارع أمراء الخلوة بأصناف الهدايا إلى حضرة السلطنة.
وفي تلك الأثناء عاد محصّلو خراج «سيس» وقد جأروا بالشكوى من ليفون تكور. فنبضت عروق الحميّة والنّخوة في السلطان عند سماعه لهذه النّبوة، واستدعى الأمراء الغائبين، وعرض القضية، فقالوا جميعا بلسان واحد إنّ عرك
_________
(1) درع ثبت الغدر: أي يثبت في القتال (انظر المعجم الوسيط)، وفي الأصل: زره غدير: درع الغدير.
(2) المن: معيار قديم كان يكال به أو يوزن ... إلخ (المعجم الوسيط).
(3) الختن: الاسم القديم لتركستان الشرقية.
(1/73)
أذن عديم الأدب هذا من أوجب المهام، ولكن يتعذّر التدخّل في هذا الموسم في ولايته لفرط الحرارة/ فإن أذن السلطان اتّخذ الجيش المنصور من ريف «بنلو» ورياضها مغنى إلى أن يحين الخريف، وتسمن الدواب، حتى إذا همدت سورة الهاجرة في كل مكان تمّ التحرّك بيمن التأييد الربّاني وجلال الدّولة السلطانية بأكبر ما يمكن من حشود، فيتم تأديبه الذي يعدّ من الضرورات.
فقرن السلطان ذلك الرأي بالرّضا. وحين حلّ أول الخريف: (شعر):
- نثرت الرياح المسك والقرنفل بدل التراب، ... ظهر اللؤلؤ والزبرجد بدل فاكهة الغصون.
تحرّكت العساكر المنصورة، وسارعت- كمسارعة الوثني صوب الصّنم- إلى البلاط الأعلى، وجاءت المظلّة الملكية من طريق وادي «كوشي» إلى «كوكري»، فكان المعسكر هناك.
وحين وصل الخبر إلى تكور بأنّ السلطان قد عزم على التوجّه إلى ولاية «سيس»، اضطرب اضطراب الزئبق، وشرب الغصص على تقصيره في الخدمة، ورأى نفسه بسبب تلك الحادثة متورّطا في مهلكة الضلال ومتخبّطا في مسبعة الآجال، ولم يجد مجالا للمشورة في مضيق تلك الدّاهية، فاضطرّ إلى جمع جيش من كل ناحية، واتّجه للحرب «كالباحث عن حتفه بظلفه».
***
(1/74)
ذكر محاصرة قلعة جنجن وفتحها على يد مماليك السلطان
حين لحق موكب السلطان بجيش ضاقت به الجبال والصحاري/ بقلعة- جنجين- ولم يكن لليفون معقل أكثر منعة منها- بدا للسلطان أن يجعل من هاتين القلعتين فاتحة [ومقدّمة النصر]. فأمر بنصب المجانيق فزلزلوا حال المقيمين في القلعة من صوت القصف المزمجر، وظلت ثلاثة أيام متواصلة تمطر أرواحهم العاجزة بحصيات الموت. فاستغاثوا طالبين الأمان من فرط العجز، وطلبوا ثلاثة أيّام مهلة، فإن لم يصل مدد من جهة تكور بانقضاء الأيّام المعدودة سلّموا القلعة.
فلما وصل الرّسول إلى تكور أجاب قائلا: إنّما أنا عاجز في أمر نفسي ولا طاقة لي على تدارككم. وحين سمع أهل القلعة ذلك الجواب طلبوا الأمان في الرّوح والأهل والمال والعيال. ووفقا لملتمسهم صدر الأمر كتابة بأن يرفعوا العلم على القلعة، ويصعد نوّاب الديوان، فأحضروا احتياط البيوت [من أسلحة وذخائر وسائر المعدّات] (1)، ونصبوا قائدا للقلعة وحرّاسا.
ثم إن السلطان توجّه صوب قلعة «كانجين» فتلقّاه أهلها بالمدافعة والممانعة، فأمر السلطان بتشغيل المجانيق، فأوقعوا في القلعة الخلل وفي أمر الكفار الزّلل، وأعدّوا السّلالم، وباشروا الحرب السلطانية، ووفقا لحكم أعتاب السلطنة قاموا بزحف عظيم وصعدوا نحو القلعة محدقين بها من كل صوب، ولم يكن رماة السّهام من الخارج يتيحون الفرصة لأهل القلعة لإلقاء نظرة على الجيش، وألقى البواسل أنفسهم في موجة واحدة من الهجوم بداخل القلعة، (وما أكثر ما جرى
_________
(1) إضافة من أ. ع، ص 164.
(1/75)
من قتل وسفك للدماء، حتى جرت جماجم القتلى كالزّوارق في شطّ دماء الأوداج) (1). ثم فتحوا باب القلعة فدخل بقيّة العساكر، وحلّ/ بالمتحصّنين في القلعة الكثير من النّكال بالغارة والنّهب والسّبي والقتل.
ولما فرغوا من تلك المهمّة صعد نواب الدّيوان إلى القلعة، وأخذوا في تسجيل الذّخائر والأسلحة، ونصبوا قائد القلعة والرجال لحفظها، ثم التفتوا لمعركة «ليفون» الملعون. وكان هو نفسه قد جاء للقتال وقد اعتراه التردّد وساوره الخوف.
وقبل طلوع الصّبح الصّادق ذهب أمير المجلس مع رجل أو اثنين من خواصّه متنكّرين قرب عساكر الكافر، كي يطّلع الأمير على كيفية حال طلائع ليفون.
وكان أمير المجلس عندئذ هو أمير طلائع [السلطان] وتحت قيادته ثلاثة آلاف من الفرسان المشهورين. وفجأة حاصرهم الكفار وقضوا على خيولهم برمي السّهام، فمشوا إلى تلّ للاحتماء به وأخذوا يدفعون أذى الكفّار بالسّهام والسّيوف والحراب.
ولما طلعت الشّمس، توجه أمراء الطّلائع لخدمة أمير المجلس، فما رأوه في مقامه المعلوم، وبعد أن اتضح الأمر اتّجهوا نحو معسكر تكور، ومن بين العسكر الخاصّ بأمير المجلس ركب مائة فارس وكانوا جميعا من الأبطال المغاوير، وكان يدخل بهم في معركة ضدّ ألف رجل، وكان يغدق عليهم الإقطاعات والإطلاقات، فصعد هؤلاء بخيولهم على جبل كان مشرفا على جيش الكافر،
_________
(1) كذا في الأصل، ولا وجود لما بين قوسين في الأوامر العلائية ص 165 ويبدو أن صاحب التلخيص قد أضاف هذه الفقرة من عنده.
(1/76)
وفجأة رأوا شخصا قد ارتقي تلا وقد أحاط به الكفّار من كل جانب فألقوا جميعا بأعنّة خيولهم دفعة واحدة، وعمدوا إلى تشتيت الكفّار الذين كانوا قد أحاطوا به وتبديدهم، وسحبوا حصانا وأركبوا أمير المجلس، فلما لحق بجنده رآهم قد اصطفّوا للقتال.
ولما كان قد اطّلع على مزاج حال الكفار/ خاطب السلطان قائلا: لقد وقف المملوك وقوفا كاملا على قوّة الجيش الأرمنيّ وشوكته، فليأمر سلطان العالم بأن تتّجه القوات- التي قد ركبت بالفعل- للقتال على هذه الهيئة.
فصدر أمر حضرة السلطنة.
فانقلبوا جميعا في الحال صائحين كالرّعد، وعمّ الهياج البحر. واصطفّت كلّ فرقة في صحراء النّزال كجبل حديدي وبحر نارىّ، ووجّهوا وجوههم- وكلّ منهم يرغي ويزبد- إلى الخصوم كأنهم الحظّ المشئوم. وجاء ليفون بدوره- وبما كان قد أجراه من حشد وتعبئة- بالفرسان والمشاة بمحاذاة الكماة من جنود السلطان. ودعا «ليفون» البارون «فاسيل» والبارون «أوشين» و «كندصطبل» إلى التقدّم بعد أن كانوا خلف الفرسان وأمام المشاة.
وفي الهجوم الأول، أطاح أمير المجلس بكند صطبل- وكان مشهورا بالشجاعة والصّرامة- على الأرض بطعنة من رمح، وأمر الأمير بوضع قيد في رقبته وسلّمه لأحد الفرسان قائلا له: اذهب عند السلطان وقل إنني أوقعت به.
وفعل مع البارون أوشين، ونوشين الفعل نفسه واللعبة المتقدّمة ذاتها، وسلّم هذين الشخصين بدورهما إلى اثنين من الفرسان فحملوهما إلى حضرة السلطان في قلب الجيش، فأمر بخلعة ثمينة للفرسان الثلاثة.
(1/77)
وفي النهاية أمسك النحس المصاحب لإخفار العهد بتلابيب آمالهم، فسلكوا طريق الهزيمة: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1) حسم أمير المجلس الأمر بثلاثة آلاف فارس، ولم تعد هناك حاجة إلى [تحرّك] (2) بقية الجيش. فقرأ أمير المجلس قول الحق تعالى وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ (3) وعاد إلى حضرة السلطان، فرفع السلطان منزلته عن كافة الأمراء، وخلع ما كان يلبسه وألبسه له.
/ حظي الجيش تلك الليلة بالرّاحة من تعب الحرب، وعناء الطّعن والضّرب، وعند الفجر تحرّك الجيش كلّه- كأنّه ريب المنون- في الجبل والصّحراء لطلب ليفون، وأخذوا يركضون يمينا ويسارا، وما عثروا على أحد إلا جعلوه قتيلا أو أسيرا للقيد والتّنكيل. واستمرّت الغارة في ولاية الأرمن على هذا النّحو أسبوعا. وفي اليوم الثّامن قفلت العساكر راجعة من أطراف ولاية الأرمن بالكثير من الغنائم ومن بينها الخيول والبغال والأسرى، وعلم أن ليفون قد لحق ببعض الحصون.
وبعد أن صار الجيش منصورا والعدوّ مقهورا والمخالف محصورا اتجه السلطان بالجيش إلى الممالك المحروسة بغنائم ليس بوسع ظهر الأرض حملها، حتى بلغ ثمن رأس الماشية في «قيصريّة» درهمين، وثمن خمسة أو ستّة من الأغنام درهما واحدا، على حين بلغ ثمن الغلام والجارية الأرمنيّة البهيّة الطّلعة خمسين.
وبحصول المراد أذن السلطان للأمراء والأجناد بالانصراف، وأقام بنفسه في قيصريّة.
_________
(1) الأنعام، الآية 45.
(2) قارن أ. ع، 167.
(3) الأحزاب، الآية 25.
(1/78)
ذكر وصول رسل ليفون بالتضرع والاستعطاف وتضعيف الخراج والتنصّل من التمادي الذي أجيز في الخدمة
حين قفل السلطان راجعا إلى الممالك المحروسة خرج ليفون من مهربه، وتشاور مع بقايا الخواصّ في تدارك تلك الرزيّة، فلم يجدوا جميعا من وسيلة سوى طريق إظهار التذلّل. فجهزّ هدايا من كل نوع وسيّرها في صحبة الكفاة، وكان مضمون رسالته: «إذا كان المغرضون قد نقلوا عنّي سوءا إلى مسامع ملك العالم فها أنذا قد نلت جزائي، فالأمراء صرعى والملك قد أدبر والجيش بأسره قد تبدّد بالقتل. والمتوقّع- لما عرف به السلطان من مرحمة سابغة- أن يتجاوز عن ذنبي ويصفح عنه/. (والحقيقة أن السلطان كان سينزع عني «ولاية سيس» ويعطيها لآخر، فما أنا إلا مملوك وابن مملوك، وأنا بعد هذا أضع حلقة العبوديّة في أذني (1)، وأضاعف الخراج، وأبعث كل عام- بخلاف المعهود- بخمسمائة فارس بكامل عدّتهم لكي يوجّههم السلطان حيث شاء).
وتشفّع [تكور] بعدد من الأمراء الكبار لقضاء هذه المهمة، حتى توسّطوا جميعا- بالاتفاق- لدى عتبة العرش الأعلى، وأزالوا ما علق بالخاطر الأشرف للسلطان العادل من غبار الوحشة. وتقرر أن يرسل إلى الخزانة العامرة كلّ سنة عشرون ألف دينار برسم الخراج، مع التّحف والأحمال التي تكون لائقة بذلك، وأن يؤدي ما بقي عليه من خراج العام الماضي. وألا يهمل بعد اليوم في أي أمر من أمور الولاء مهما دقّ وصغر.
ووفقا لهذه الشّروط أقرّه السلطان على ملك «سيس»، وحلف الأيمان،
_________
(1) قارن أ. ع 167.
(1/79)
واختار الصّاحب ضياء الدين قرا أرسلان- وكان في ذلك الوقت أمير الدّواة- للإجابة على ليفون وتحصيل بقايا الخراج، وبعث معه بمنشور مجدّد لملك تلك المملكة. وحين علم «ليفون» بقدومه استقبله بنفسه وأنزله بقصره، وبلغ الغاية القصوى في إكرام جانبه. وفي اليوم التالي قرئ أمر السلطان مع منشور تقرير المملكة على رؤوس الأشهاد، ووضع ليفون جبينه على الأرض وأخذ في الدّعاء، ونثر الكثير من الأموال.
وفي اليوم التالي كتب الصاحب ضياء الدين المسوّدة لكي يقسم تكور على ذلك كلّه ويوقّع على الوثيقة. وأرسل إلى الخزانة العشرة آلاف دينار الباقية وعشرة آلاف لستة أشهر تالية كتقدمة من خراج المستقبل، مع تحف أخرى.
وحين/ وصل ضياء الدين إلى «قيصرية» وعرض بقيّة الخراج والهدايا والتّحف والمواثيق التي بعث بها تكور، بالغ السلطان في الإحسان إلى الرّسول، وأطلق سراح الأمراء المحبوسين، وبعث بالفرامين إلى أطراف الممالك بأن أسباب النزاع قد زالت منذ اليوم، فافتحوا الطرق أمام التجار والمتردّدين ولا تلحقوا أذى بأيّ مخلوق. ثم سرّح الرسل وهم يشعرون بمسرّة بالغة.
***
(1/80)
ذكر تزوّج السلطان بكريمة من ذرّيات الملك فخر الدين بهرامشاه بن داود ملك أرزنجان
لما كان السلطان قد التزم بانتهاج الأوامر الإلهية والامتثال للأحكام النبوية في كل آرائه وعزائمه، فإنه كان يريد- بحكم النصّ: «تخيروا لنطفكم فإنّ العرق دسّاس» أن يزدان حريمه الكريم بوجود جوهرة تتألّق في الليل البهيم قد ربّيت في صدف العصمة، حسيبة الأبوين، كريمة الطرفين، وأن يجلسها إلى جانبه على سدّة السلطنة بهذه الصّفة الموزونة المتناسبة، فأجال بريد الفكر حول أطراف الدنيا، ولم يجد أسرة أشدّ احتراما وجلالا من أسرة الملك فخر الدين بهرامشاه، لأن تلك الصّدفة المشتملة على درّة الغوّاص ويتيمة الدهر كانت قد استخرجت من «عمان» الفضل والإحسان (1) والأصلاب الطّاهرة والأنساب الزّاهرة للسلطان قلج أرسلان، وانبعثت من جرثومة سلجوق (2)
ولما لم يجد بعد طول الاستخارة ويمن الاستشارة فوق هذا الاختيار مزيدا، رتب الأفانين من الهدايا الثّمينة والتّحف النّفيسة الضّنينة من الخزانة العامرة، وندب واحدا من أولي الألباب للمفاتحة في هذه الخطبة (3)، وأرسل تلك الأحمال والهدايا في صحبته.
فلما وصل الخبر للملك [فخر الدين] ابتهج واستقبل الرسول بنفسه، وأنزله بالإعزاز والتّكريم في بيت الضيافة، وعدّ المبالغة في احترام جانبه من
_________
(1) استخدم المؤلف «عمان» بمعنى البحر الذى تستخرج منه اللآلىء والدرر.
(2) سلجوق: الجد الأعلى للسلاجقة.
(3) قارن أ. ع، ص 173.
(1/81)
أوجب الواجبات/. وفي اليوم التالي دعا الحاشية لاجتماع عام، وأحضر الرسول. فأعطاه الرسول رسالة السلطان بعد أن قبّلها، وأبلغ المشافهات، وأوضح الملتمسات، وسلّم الهدايا مشفوعة ببيان تفصيلي لها إلى الخزّان.
فصاح الملك على ملأ من الناس قائلا: بأي لسان يمكن شكر مثل هذه الموهبة. فلئن كنت قد تلقيت أمرا بأن تنتظم ابنتي في زمرة السراري والجواري لكان ذلك مدعاة لفخر أعقابي وخلفي من بعدي فكيف وقد منّ عليّ بمثل هذا الفضل، قبلت على الرأس والعين، ولكن لو أذنتم لي في مهلة قدرها ثلاثة أشهر لتهيئة ما تتمّ به الواجبات، وتجهيز ما يليق بالبنات لكان ذلك مقرونا بالصّواب.
وحمّل الملك الرسول بأنواع الجوائز، وكتب بخطّه رسالة جوابية مشتملة على الانقياد والامتثال وتقلّد المنّة، وبعث بها في صحبة الرسول. ثم عمد إلى تجهيز الواجبات وإعدادها، وأحضر كلّ صانع حاذق وصائغ فائق، واستمرّ العمل ليلا ونهارا مدة ثلاثة أشهر. وهذّب ورتّب الأكاليل المجوهرة والخلاخل المعنبرة والخواتيم والمعاصم الثّمينة والملبوسات الفاخرة المرصّعة بفنون الجواهر، والبغال ذات النّعال الذهبية، وخيولا مسيرها كمسير ريح الصبا، وبخاتيّ (1) في ضخامة الجبال، في قافلة مملوءة (2) بما لا يشمله الحصر من الأحمال والنقود والمتاع.
وسيّر [الملك فخر الدين] الصّدر القاضي شرف الدين- وكان من أكابر
_________
(1) جمع بختى، وهو الجمل الخراساني، ذو السنامين.
(2) في الأصل: بر: على، والتصحيح من أ. ع، ص 175.
(1/82)
العلماء- بتحف وفيرة للإبلاغ بأن أسباب الصّلاح (1) وإبرام عقد النّكاح قد تهيّأت. فلما وصل إلى «سيواس» بذل مبارز الدين بهرامشاه أمير المجلس أنواع المكارم تكريما لقدومه الكريم، وتوجّه في صحبته إلى حضرة السلطان، وتقدم إلى «كدوك»، وعرض الأمر، فأرسل السلطان أركان الدولة لاستقبال القاضي شرف الدين، ودخلوا المدينة في أبهّة كاملة وجلال بالغ.
وفي اليوم التالي حين مثل القاضي بين يدي السلطان، رأي من الإكرام/ ما ليس له حدّ، وسأله السلطان وبالغ في السؤال عن حال الملك فخر الدين، فتحدّث القاضي شرف الدين- بعبارة كانت عين البراعة- فحمد الله- تعالى- ومدح السلطان ثم أبلغ بحال الملك، ودعا له، وأشبع الأسماع بتفاصيل الحكايات، وعرض الودائع والتّحف، التي قرنت بالقبول والشّكر. ومن هناك نزل القاضي بكل إعزاز في «الوثاق» (2)، ثم تتابعت عليه أفضال السلطان وكراماته.
وفي اليوم التالي جاء قضاة الأمصار والأئمة الكبار- وكانوا قد تجمعّوا لهذه المهمّة- إلى قصر السلطان. وكان السلطان قد أمر بقطع نقدية من الذّهب فئة الألف، والخمسمائة، والمائتين، والمائة، والخمسين مثقالا فعبّئت في سكارج السّكر، ووضعت في أطباق من ذهب وفضّة، كما أمر بأن تملأ البركة [الزرقاء] (3) المعنبرة بالزّهر والمعرّقة بالمرجان [والتي تتوسط الإيوان] (3) بماء الورد
_________
(1) في الأصل: نجاح، والأوفق ما ورد في أ. ع، الموضع السابق ذكره.
(2) لعله يريد بالوثاق مكانا بداخل القصر، لا يدخله إلا من كان مؤتمنا موثوقا به. أو هو البيت أو الدار على وجه العموم، انظر مثلا فيما سبق، ص 20.
(3) زيادة من أ. ع، ص 176.
(1/83)
بدلا من الماء، فبدت البركة كأنها سماء اتخذت لنفسها في جوف الأرض منزلا.
فوضع أمام كل إنسان طبق يناسب منزلته ويلائم رتبته، وحضر الوكلاء والشّهود من الطّرفين.
وكان القاضي صدر الدين لهاوري- الذي تولّى عقد النكاح- قد بدأ بالخطبة التي كان أمير المؤمنين المأمون قد قرأها في زواج بعض أقاربه، على سبيل الإيجاز والتبرّك، فالتفت صوب خدم الحرم، وقال: (1)
«المحمود هو الله، والمصطفى رسول الله، وخير ما عمل به كتاب الله، قال الله تعالى: وأنكحوا الأيامى ... الآية. ولو لم تكن من الصّلة آية منزّلة ولا سنّة متبعة إلا ما جعله الله في ذلك من إلف البعيد وبّر القريب لسارع إليه الموفّق المصيب وبادر نحوه العاقل اللّبيب، والسلطان الغالب عزّ الدين أبو الفتح كيكاوس ابن كيخسرو بن قلج أرسلان من قد/ عرفتموه في نسب لم تجهلوه، خطب إليكم فتاتكم «سلجوقي خاتون بنت الملك فخر الدين بهرامشاه بن داود»، وبذل من الصداق مائة ألف دينار حمرا، خمسين معجّلا وخمسين مؤجّلا، فشفّعوا شافعنا (2)، وأنكحوا خاطبنا، وقولوا خيرا تحمدوا وتؤجروا بحمد الله رب العالمين، وصلواته على محمد وآله أجمعين».
فقالوا: «قبلنا الخاطب، وبذلنا المخطوبة، لا زالت سحايب الأفضال عليهما مصوبة» (3).
فلما تمّ إبرام عقدة القعد، واستحكم حبل المواصلة بلغت صيحة بالرّفاء
_________
(1) الخطبة كلها واردة في الأصل بالعربية.
(2) في الأصل شافعيا.
(3) قارن أ. ع ص 177.
(1/84)
والبنين أعلى علّيين. وأخذ الذّهب والجوهر يتساقط كالمطر بغير حدّ ولا حصر في الصّفّة وفي ساحة القصر كما تنتثر زهور الرّبيع هنا وهناك بتحريك نسيم السّحر لأوراق الورد النديّة.
ووضعت مائدة الخاصة السلطانية ودعي إليها العامة [فمد كل إنسان يده للتّناول والتّجاذب والتّخاطف، ونال بذلك نصيبه مما حفلت به الضّيافة السلطانية من مكنوز وملبوس ومأكول ومشروب] (1)، ثم انفرط عقد الشهود كحبّات العقد فتفرّقوا، بحكم الآية الكريمة: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا (2)، وذهب القاضي شرف الدين إلى مكان إقامته، فأرسل السلطان في إثره ذهبا وخلعة وبغلا مطهّما.
وفي اليوم التالي أمر أمناء الخزانة بإعداد الأمتعة التي سيحملها معهم من يذهبون لاستدعاء الهودج، الذي عهد السلطان بأمر إحضاره إلى الأمير مبارز الدين بهرامشاه، وأمر زوجات الأمراء بالانطلاق إلى «أرزنجان» المحروسة لخدمة الملكة [وبأن يعدن في صحبتها] (3).
فلما تمّ الإعداد للأمر ارتحل أمير المجلس والقاضي شرف الدين وسائر الخواتين، وما إن لحقوا بحدود «أرزنجان» حتى تقدّم القاضي، وأخبر بوجود جيش حاشد في صحبة أمير المجلس والخواتين الشّهيرات، فرتّب الملك لكل إنسان نزلا على قدر مكانته، وخرج في صحبة وصيفات القصر ورجاله، ومعه أعيان أمرائه/ وخواصّه. فلمّا اقترب أمير المجلس من المدينة سار الملك لاستقباله
_________
(1) زيادة من أ. ع، ص 177 - 178.
(2) الأحزاب. الآية 53.
(3) زيادة من أ. ع ص 178.
(1/85)
بالأعلام والبيرق والطبول. ولما تلاقى الجمعان ووقع نظر أمير المجلس على بيرق الملك ترجّل. وحين رأى الملك طلعة أمير المجلس نزل بنفسه وتعانقا ثم ركبا بعد الملاثمة والمعانقة. وأبلغ أمير المجلس سلام سلطان الإسلام، وهنا وضع الملك رأسه على الأرض وقال: ما أنا إلا مملوك لملك العالم.
واستمرّ الحديث بينهما على هذا النّحو حتى لحقا بالمدينة، وأنزل الملك أمير المجلس وأمراء السلطان بقصره، وبسط المائدة الملكيّة، ثم أقاموا حفلا، وأداروا الكؤوس الثقيلة.
وفي اليوم التالي، أرسل أمير المجلس الأمتعة والأموال والخزائن التي كان السلطان قد بعث بها مع قائمة مفصّلة إلى حضرة الملك، والذي أثنى ثناء جزيلا على علوّ همّة السلطان، وغمر الحمّالين بالإنعام. وظلّ الطّرفان طيلة عشرة أيام مستغرقين في المتعة والسرور حتى تمّ الإعداد للرّحيل. وحين فرغوا من إعداد العدّة أرسل الملك ثلاثمائة خلعة مختلفة المستوى من الأعلى والأوسط والأدنى وثلاثمائة ألف درهم مع خيول مطهّمة إلى أمير المجلس لكي يتولّى توزيعها على الأمراء والخدم والحشم.
ثم إنّهم نقلوا الأموال وخزائن الجهاز مع الهودج المعظّم من المدينة ليلا.
وفي الفجر دقوا طبول الرّحيل وانصرفوا. فلما وصلوا إلى منطقة «أرمكسو» تقدّم أمير المجلس ومثل بين يدي السلطان، وعرض الأحوال فأمر السلطان بأن تزيّن المدينة، فزيّنوا بيوتات قصر السلطنة بأنواع الزّينة، وأعدّوا عدّة الاحتفالات والمسّرات، وخرج من حضر من زوجات الأمراء لاستقبال الهودج.
ولما/ مضى جزء من الليل دخل سائر النّسوة من الطرّفين المدينة في خدمة الهودج العالي، ودخلوا مخدع السلطان وأجلسوا الملكة على منصّة الكرامة
(1/86)
والسّعادة. وتوجه السلطان بتؤدة إلى مخدع العروس، فدخلت الخواتين- وقد توّردت منهن الوجوه واحتجبن بالحجرات، ووضع شمس السلاطين مع قمر الخواتين القدم على العرش، وركعت وصيفات الملكة ركعة الأدب فخلعن الحذاء من قدم السلطان، ووقعن فجأة على كنز ثمين في ذلك الحذاء. وخلع السلطان قلنسوته، وفكّ الحزام الملكي، وبحكم رخصة الشريعة فضّ الختم اللطيف عن تلك الصّحيفة الشّريفة.
وفي اليوم التالي، سار متبخترا صوب الدّيوان بعد الاستحمام وشغل طيلة أسبوع بشرب المدام وإكرام الأمراء الكرام. ثم أرسل خمسمائة خلعة وسبعمائة ألف سكة ومائة من الخيول ومائة من البغال المطهّمة، ومائتين من الخيول والبغال المزيّنة مع أطقم الملابس المنوعة في صحبة أمير المجلس إلى القاضي شرف الدين، فقام بدوره بتوزيعها على الأمراء كلّ بقدر مرتبته. ثم مثلوا جميعا أمام السلطان وقد لبسوا الخلع، وقبّلوا اليد؛ وحينذاك حصلوا على الإذن بالانصراف.
***
(1/87)
ذكر تحرك السلطان قاصدا الشام (1)
حين انتقل الملك الظّاهر- ملك حلب- إلى جوار الحقّ تعالى، كان ابنه- الملك العزيز- قريب العهد من مفارقة المهد، فاضطر أمراء تلك الدولة لمبايعته، وأجلسوه مكان أبيه، فصارت أمّه، وكانت أخت الملك الأشرف حاكمة البلاد، فنبض في السلطان/ عرق المطالبة بملك حلب- حيث كان في حوزة أعمامه من قبل- وقال لأعاظم مملكته: يبدو لنا أن الوهن قد ظهر الآن في ملك الملك الظّاهر فصار من يتصدّى لملك تلك الدّيار طفل وامرأة، فلو أننا قصدنا ولاية الشام بحشد كبير قبل أن يكوّنوا جيشا ويدبّروا أمرا فإن بيرقنا سوف يرفرف- بعون الحقّ- على شرفات تلك الديار، وتظهر الفسحة في رقعة البلاد.
قال الأمراء: جبلت طبيعة الملوك على دفع الأعداء وفتح البلاد، ولكن طالما أن السلطان أنعم علينا- نحن المماليك- برتبة الاستشارة، فلن يبخل علينا بالاستماع لمقالتنا؛ فلئن كان ذلك الولد- برغم صغر سنّه- قد أصبح عزيزا في ديار أبيه فإن آباءه وأجداده طالما أعربوا عن محبّتهم لهذه الأسرة [السلجوقية]، ولطالما أرسلوا الأحمال والتّحف مثلما أرسلوا العساكر وقت طلب المدد. والآن وقد بقي يتيما فلو أن أحدا قصده بسوء لاستعان بهذه الدّولة وطلب العون من هنا. فكيف إذا أرسل ملوك الأطراف يعزّون ويهّنئون وأكّدوا المثل القائل- «صداقة الآباء قرابة الأبناء» (2)، ثم جرى من جانبكم شحذ منجل القهر والبأس ليحصد بلاد ذلك الحلف؛ لن يقع ذلك موقع القبول عند كبار الملوك والسلاطين وعظماء الزمان.
_________
(1) انظر ما كتبه ابن الأثير عن هذا الموضوع في: الكامل في التاريخ، 12: 347 - 350.
(2) في مجمع الأمثال للميداني «صديق الوالد عمّ الولد». ج 1 ص 418 ط مطبعة السنّة المحمّدية بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1954.
(1/88)
قال السلطان بعد طول تفكّر: لا شك أن رعاية جانب الملوك من أوجب الواجبات، ولكن إن ارتدي أحد السلاطين سلاح الاقتدار وأسرج حصان الغلبة والسيطرة فإن عليه أن يتنكّب طريق التّصافي:
/ إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا (1)
ولا يخفى على الرأي الرزّين لكل إنسان ما تعنيه مقولة: «لا أرحام بين الملوك». فإن كان ملوك الدّيار قد أرسلوا معزّين ومهنّئين، فما أظهروا الشّهامة والطّيبة إلا بسبب عجزهم، ومن ثمّ لا ينبغي أن نجعل تلك المروءة المفتعلة عنوانا لسجلّ يتمّ فيه تدوين ما لا يفيد ولا يجدي.
وأصدر السلطان أمرا للأمير نصرة الدين صاحب «مرعش» بأن موكب السلطان سيصل إلى تلك الحدود مصحوبا بالجنود والجيوش، فيتعين عليه إذن إعداد جيشه القديم ومن يلوذ به من أهله وذويه، وأن يكوّن جيشا- بقدر ما يستطيع- من المشاة والفرسان، ويجهّز آلة الحصار. كما أصدر أمرا آخر بنفس المعنى لأمراء ملطية وسيواس، وأمرا إلى أمراء «الأوج» بدعوة العساكر المعهودة وأن يتحركوا على الفور دون تلكّؤ أو تباطؤ، وأمرا إلى الأمراء والقادة الذين كانوا في مصيف «بنلو» لكي يتوجهوا بكامل هيئتهم إلى صحراء «آبلستان».
وفي ظرف عشرين يوما تجمّع من أطراف الممالك من الجنود والحشود ما تجاوز حدّ الحصر. فانطلق السلطان مع كوكبة من الخواصّ صوب آبلستان، فلما وصلها أمر بإقامة احتفال عام واستمال أمراء العساكر، فرشّح لكل مدينة من بلاد الشّام أميرا.
_________
(1) بيت لسعد بن نعشب، انظر الحماسة (طبعة فرايتاج) ص 32.
(1/89)
وفي اليوم التالي قال السلطان بعد أن أحضرهم جميعا واستشارهم: في أي طريق ينبغي أن نسير؟ قالوا ليس هناك أسهل من طريق «مرزبان» و «رعبان» و «تلباشر»، فالمسافة من هناك إلى «حلب» أغلبها صحراء [ونادرا ما يعترض الطّريق جبل] (1). فانطلقت القوّات نحو ذلك الطّريق، ووصلوا أوّلا إلى قلعة «مرزبان»، فاستخلصوها في ثلاثة أيّام، وفي تلك/ الأيام لحق الأمير نصرة الدين صاحب «مرعش» بجيش كثيف بالسلطان، فأمره بالاتجاه من هناك صوب قلعة «رعبان»، فتيسّر أمر السّيطرة عليها بدورها، وفوّض أمر حراستها لصهر الأمير نصرة الدين، واتّجه من ثمّ إلى قلعة تلباشر، فحاصرها عشرة أيام، فلم يكن لذلك أي أثر، فأمر السلطان بقطع الأشجار وبساتين الكروم المحيطة بالقلعة ببلطة القهر، واستئصالها. فلما شهد أهل القلعة ذلك المنظر تجمّعوا عند ملكها وقالوا:
ما معاشنا إلّا من ثمار تلك الأشجار، فإن قطع جيش الروّم ما لنا من كروم ببلطة القهر فمن أين ندبّر رزقنا؟ ومن ثمّ يجب على الملك أن يلتمس لنا العذر إن نحن سلّمنا القلعة الآن.
فطلب الملك مهلة وأرسل رسولا إلى السلطان قائلا: إن أساس انتعاشي أنا وأتباعي إنّما هو من هذه القلعة، فإذا ما انتزعها عبيد السلطان منّي فلست أدري من أين تتيسر البلغة ويتحصّل القوت؛ فلو أن السلطان أقطعني من الممالك المحروسة إقطاعا واستولى على هذه القلعة بدلا عن تلك القسوة (2)، [وجعل أهل القلعة بمأمن من ضرر العساكر المنصورة] (3) سلّمنا القلعة لمماليك دولة السلطنة.
_________
(1) زيادة من أ. ع، ص 186.
(2) قارن أ. ع ص 188، والنص هنا مضطرب غاية الاضطراب.
(3) زيادة من أ. ع، أيضا.
(1/90)
فأمر السلطان بأن يكتب منشور بمنحه ولاية «هوني» إقطاعا. ووقّع بقلمه عهدا، فعاد الرسول، ورفعوا البيرق، وقرئت الخطبة باسم السلطان، ومنح السلطان قيادة حامية القلعة لأخي الأمير نصرة الدين.
ولما تمّ الفراغ من أمر القلعة تناهى إلى المسامع الشريفة أن «ظهير الدين إيلي پوانه» حين أشاح بوجهه عن ولائه للسلطان سارع إلى هذه الديار فقضى بها نحبه، وهو مدفون هنا. فأمر السلطان بالبحث عن مدفنه، وأخرجت عظام رفاته فأحرقت، وأذري ترابها في الهواء، وبذلك تحقّق له التشفيّ.
***
(1/91)
وقوف والدة الملك العزيز على مقدم السلطان لتملّك ديار الشام
حين بلغت رايات السلطنة «آبلستان»، أفشى الجواسيس الذين كانوا بالمعسكر ما جرى من أحوال للملكة وجمال الدين لولو- الحاكم ونائب الملكة- فذهلوا بما سمعوا، وبعثوا الرسل بالهدايا الوفيرة إلى الملك الأشرف أخي الملكة، وبيّنوا أن سلطان الرّوم بادر بالهجوم بجيش في عدد النّجوم على تخوم بلادنا، وإنه لو حدث وبسط سيطرته على هذه البلاد فلن تأمن منه على حياتك. ولئن كان قد علق بالخاطر الأشرف غبار من جانب الملك الظّاهر قبل هذا فالواجب إزالته بماء الرّحمة والشّفقة عملا بقول القائل «عند الشّدائد تذهب الأحقاد».
فلما بلغت القضيّة الملك الأشرف صادفت هذه الكلمات المعقولة قبولا عنده، فجمع جيشا كبيرا ولحق بحلب، فلما رأى شقيقته قال: ما للملوك من مال ينبغي أن يوجّه لمثل هذا اليوم، ولئن كان يصرف القليل مما ادّخر على مدى مائة سنة في سبيل الدّفاع، فليبذل ذلك كله رخيصا وبسخاء. فأخرجت الملكة ما كان قد ادّخر لأعوام سابقة دون أن تبقي على شيء أو تذر، وجهّزت جيشا. وفي أثناء ذلك فكّرت في حيلة من شأنها أن تجعل ثقة السلطان تنعدم تماما في جنده، ونفّذت تلك الحيلة.
فقد وقعت على رجل من سكّان بلاد الروم كان يعرف أسماء أمراء الدولة جميعا وما يحملون من ألقاب/ وكانت له صلة بمعظمهم، وبذلت له مالا وفيرا، وحلفت له الأيمان بأن هذا الأمر لو تحقّق ورجع جيش الروم لسلّمته
(1/92)
أضعاف ذلك. فكتبوا إلى كلّ أمراء الرّوم رسائل جوابيّة مزوّرة، تتضمّن التعبير عن الاغتباط بما أبدوه من وفاء وحسن عهد، وبما وعدوا به من أن يحتالوا لدفع السلطان نحو حدود الشام. فها نحن أولاء أيضا قد عقدنا النيّة على عدم المدافعة. وينبغي بذل ما في الوسع للحيطة من السلطان خشية أن يعلم بشيء من هذا الأمر، وإلا فإن كل المساعي تذهب عند ذاك هباء، وأنه قد أرسل برسم النّفقة لكلّ واحد من الأمراء أنواع من الذّهب المصري والخيول العربية في صحبة فلان، وأنهم سيروا تلك الأحمال المذكورة فعلا (1).
وقالت لذلك الرجل: تقدّم إلى حيث يعسكر جيش السلطان، وألق بنفسك في خيمة بعض المقرّبين إليه، وأفش هذا الأمر إليه على سبيل الإنذار، وقل إنني كنت في وسط جيش الشام حين وصلت رسائل سائر الأمراء إليهم، وأنهم قد أتوا بالكثير من الأموال والأمتعة من الشام لكل واحد منهم، وجهّزوها في الموضع الفلاني، وجلسوا ينتظرون الفرصة لكي يسلّموا كل واحد نصيبه منها، وإن لم تصدّقوني اذهبوا إلى الموضع المذكور لمشاهدتها.
وبهذه الفرية دخل ذلك الشخص سلّة الحيلة، ورمى بنفسه على أحد غلمان السلطان، وأسّر إليه بالأمر، فأبلغ الغلام حضرة السلطنة في الحال، فأرسل السلطان الأمناء مع ذلك الشخص- الذي كان الغلام قد دلهم عليه- إلى المكان المعلوم فأخذوا الأحمال والخزائن وذهبوا بها إلى السلطان، ووجدوا رسائل مختومة في كيس. فلما قرأ السلطان الرسائل/ نهض وانتفض وساء ظنّه بالأمراء البرآء وأمر بالقبض على ذلك الشخص كي لا يطّلع أحد على الأمر.
_________
(1) قارن أ. ع ص 191؛ وفي الأصل نزد آن كرد. وهو تصحيف بلا شك ل:
روان كردند.
(1/93)
وفي اليوم التالي أمر السلطان أمير المجلس بالتقدّم- كطليعة- مع أربعة آلاف رجل، وبأن يتقدّم في أعقابه أربعة آلاف رجل آخر بقيادة سيف الدين آينه [چاشني گير]، وسار السلطان بالقلب في إثرهما مع أربعة عشر ألفا. فلما اقترب أمير المجلس من جيش الشام، كان محمود آلپ- وهو من رؤساء العشائر في «سيواس»، وقد بلغ من العمر ثمانين عاما وشاهد أنواع الحروب وضروبها، وتلقى صنوفا من الطّعن والضرب- كان يسير على تلّ عال، وينظر إلى جيش الشام نظرة التفحّص والاختبار، فلما سبر غور قوات المقدّمة بمسبار الاستقصاء جاء إلى أمير المجلس وقال: الدّخول في صدام مع عساكر الشام بأربعة آلاف رجل أمر يبدو بعيدا عن الكفاية، فحبّذا لو أبلغ «چاشني كير» لكي يصل بالمدد بصورة أسرع، كما يتم إبلاغ قلب الجيش للمسارعة بتحريك الرّكاب السلطاني فيلحق بنا متعجّلا.
ولكي ينفذ الحكم الأزلي، ويخرج ريح الغرور من أنف المغلوب فيبدو متغلّبا، لم يلتفت أمير المجلس إليه، وصاح صيحة الحرب، فأخذ محمود يصرخ ويئن قائلا: إن التعجيل ليس مستحبا عند الله تعالى، فلم يسمع الأمير، وأجاب إجابات باردة، ورغم أنه هزم جيش العدو في الهجوم الأول، وبعث بمن يبشّر «چاشني گير»؛ فإن أحد فرسان الروم أسر- بطريق الصدفة- بيد أحد أمراء الملك الأشرف، فحملوه إلى حضرة الملك، وسألوه: هل السلطان موجود مع هذا الجيش؟ فأجاب بأن السلطان بعيد، وما هذه الآلاف الأربعة إلّا طليعة يقودها أمير المجلس، وسوف يصل الأمير «چاشني گير» / بأربعة آلاف في عقبه.
فصاح الملك الأشرف في الحال: المستغاث يا مسلمين، لا تفروا، فمدد
(1/94)
هذه القوات بعيد، فكرّوا وهم ممتلئون حميّة وحماسا، وهجم غلمان العادلي والظاهري، وقتل من الجانبين خلق كثير. فسيّر أمير المجلس فارسا إلى الأمير «چاشني گير» ليبلغه بأن العدوّ غلب فليصل مسرعا كي لا تحدث كارثة. قال چاشني گير: «أيظل يكذب حتى الآن (1)، أنذهب نحن الآن ونهزم الجيش وتعلو شهرته هو»، ولم يتقدّم خطوة واحدة، ولم يبلغ السلطان لكي ينفذ القضاء السماوي.
وأسر أمير المجلس مع فوج من الأمراء، فلما حملوا أمير المجلس إلى الملك الأشرف، خفّ لاستقباله، واستدعى الجرّاحين فجففوا جراحاته، وألبسه خلعة خاصّة، وأرسله مع سائر الأسرى إلى حلب، وعيّن الموكّلين به، وبعث بوصيّة إلى الملكة أن بالغي في تعظيم أمير المجلس، وأظهري غاية الإعزاز له.
ولما وصل الخبر لحضرة السلطنة انتابته الحمى، واستعر جحيم غضبه، وأصدر چاشني گير الأمر بأن يلبس كل العساكر لأمة الحرب، ولا ينامون (2) الليل. وفي اليوم التالي أرسل الملك الأشرف ألفين من الأعراب وطلب منهم أن يتقدّموا لتفقد أمر السلطان ومعرفة أحواله وما يكون من تحرّكه وانهزامه. فلما
_________
(1) ينقل صاحب الأوامر العلائية، ص 193 عن الأمير چاشني گير أقوالا أكثر تفصيلا وأبلغ دلالة؛ فبعد أن يأتي من أقواله بالعبارة المذكورة في المتن يضيف:
«لقد سير رسولا أبلغ بأن العدو قد لاذ بالفرار، ثم ها هو ذا يريد مددا، وحين يتحقق المراد ويغدو منتصرا دون أن يبذل جهدا، وإنما نكون نحن الذين قمنا بالعمل، تسري في العالم الصيحة بأن أمير المجلس هزم جيش الشام» ثم يشير صاحب الأوامر العلائية إلى أنه «من فرط الحسد والحقد الذي كان يشعر به أمراء الروم تجاه بعضهم .. لم يتقدم چاشني گير خطوة واحدة، بل تراجع إلى الوراء»
(2) في الأصل: بخسبند: وينامون، والتصحيح من أ. ع ص 194.
(1/95)
وصلوا رأوا الخيمة الملكية قد ضربت والجيش كلّه قد لبس لأمة الحرب. فلما ظهر الأعراب من إحدى النواحي هرب الجند فقال السلطان: يا كافري النعمة، لئن كان أحد الأمراء قد نكب فلا زال الجيش والسلطان والمظلّة والقائد باقين.
فلما سمعوا هذا العتاب السّام المرير هجموا هجمة رجل واحد، وبقفزة واحدة أحالوا فضاء الصحراء- بدماء الأعراب- مكانا للشّقائق الحمراء، وجعلوا سيل الشّقائق يتدفّق على الزمرّد [الأخضر] السّاكن.
/ فهيّأ الملك الأشرف الصّفوف، وحضّ الجيش على القتال، ثم وقف حيث هو، وقال: إن جاءوا بذلنا ما في وسعنا، وإن رجعوا فهو المراد.
وأمر السلطان بأن يتقدّموا بالدّهليز، ثم ظهرت طليعة لجيش العرب، فلقيت ما لقيه السابقون من جراحات وغارات، فتراجعت، وقالوا للملك الأشرف إن دهاليز السلطان أقيم اليوم مرّتين، ثم نصب ثانية. قال: لعل السلطان يريد القتال والأمراء يرفضون. فلما حلّ الليل تقاعس السلطان قليلا. وظل الأمراء والجند هناك، وبمجرد أن انبلج الفجر تحرّك من ثمّ متوجّها إلى آبلستان.
وحين علم الملك الأشرف برجوع السلطان انصرف بدوره إلى حلب. فلما تأكّد أن السلطان لحق بآبلستان أنهض الجيش وانطلق إلى «مرزبان» و «رعبان»، وبعد حصارهما أنزل محافظي القلعتين، وكان السلطان قد أقامهما هناك، فلما فرغ من المهمّة أطلق سراح أمراء السلطان ومحافظي القلعتين بكل احترام وتبجيل، وولى وجهه شطر حلب، فخلع على أمير المجلس (1) وبقية الأمراء خلعا وقدّم لكل منهم صلة وبعث بهم إلى حضرة السلطان، وانصرف هو إلى دمشق.
_________
(1) «الذي سبق أن قبض عليه وبعث به إلى حلب» (أ. ع، 195).
(1/96)
وتوقّف السلطان بضعة أيام في «آبلستان»، فلحق بخدمته هناك أخو نصرة الدين وصهره من قلعتي «رعبان» و «تلباشر» اللّتين سلماهما للملك الأشرف.
وكان السلطان قد أثقلت على نفسه تلك الرّسائل الجوابيّة المزوّرة، وحلّ به الاضطراب من هزيمة الطّلائع، فأمر بإعدامهما.
وفي اليوم التالي أمر بأن يحضر الأمراء جميعا إلى الديوان وأسرّ إلى خواصّه بأن يتسلّح أمراء المفاردة [وغلمان الخاصّ السلطاني] (1) خفية وينتظروا صدور الأمر. فدخل الأمراء بأسرهم وجلسوا، فطلب السلطان الرّسائل الجوابيّة من «الدواتدار» (2) وألقى بكل منها لمن كتبت له من الأمراء/. وما إن قرأها أولئك المساكين الأبرياء حتى بهتوا وذهلوا، ونطقوا قائلين: «سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» (3)، وأنكروا الأمر وقالوا لا يجوز للمليك أن يلتفت لحيلة الكائدين وينسبنا إلى العقوق والخذلان دون دليل وبرهان، وينزل بنا العقاب، فلن تكون عاقبة ذلك إلا النّدامة، وزاد نواحهم وعويلهم غير أنه ما ترك من أثر، فأمر بوضع الشيلان في أعناقهم جميعا وإدخالهم بيتا بعد وضع القيد في أيديهم ويضرموا حول البيت نارا كنار النّمرود، فأخذوا في إحراق أولئك الأبرياء، وكان الدّخان يتصاعد متجاوزا الفلك الأزرق فيصل زفيرهم وأنينهم إلى عنان السّماء. وكان أحدهم إن استطاع أن يجد ثغرة يقفز منها نحو الباب تلقفه «الفرّانون» الغلاظ الشّداد وألقوا به إلى الموكّلين بالتّنفيذ فيعيدوه إلى النّار ثانية مرغما.
_________
(1) زيادة من أ. ع، ص 195.
(2) يعني به رئيس ديوان الإنشاء.
(3) النور: 16.
(1/97)
وفي الليل- عند بطلان الحواس- أخذ يتلقى أثناء النوم الكثير من اللوم من عالم الغيب [على ارتكاب ذلك الفعل القبيح والعمل الشنيع] (1)، فكان ينهض مذعورا من نومه كمن يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ (2)، واستولى عليه الاضطراب وتملّكه النّدم لما فعل، (شعر):
- إن ضاع الكأس من اليد وانكسر الدنّ، ... فما جدوى العضّ على الشّفة وتقليب اليد.
ووجّه السلطان اللّوم إلى بقيّة الأمراء قائلا: لماذا امتنعتم عن نصحي حينذاك، فاعتذروا، وعزوا الأمر إلى القضاء السماوي.
وبسبب ذلك الوهم، تمكّن مرض السلّ من السلطان، وقيل إن ماء «سيواس» لا يناسب مزاجه، فحملوه إلى «ويران شهر»، وكانوا يأتون بماء من «الفرات» يومّيا من «ملطيّة» وينقل طازجا يدا بيد إلى الشرابخانه (3) / غير أنه لم يبلّ من مرضه. فنظم هذا الدّوبيت من إملاء قريحته الشعرية، (شعر):
- تركنا الدنيا، ومضينا، غرسنا تعب القلب، ومضينا ... - فالنوبة بعد ذلك نوبتكم، لأننا، أخذنا نوبتنا، ومضينا
_________
(1) زيادة من أ. ع، ص 195.
(2) البقرة: الآية 275.
(3) قارن أ. ع، ص 198 والشرابخانه: «بيت يشتمل على أنواع المشروب من المياه على اختلافها، والسكّر والأشربة والدّرياقات والسّفوفات والمعاجين والأقراص .. وما يجري هذا المجرى ... إلخ» (شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، طبع دار الكتب المصرية 1931 م، 8: 224).
(1/98)
وأمر بنقش هذا الدّوبيت على قبره الذي كان قد بناه- بأمر نافذ- في دار الشفّاء بسيواس. وهنالك انتقل من دنيا الفرار إلى دار القرار، واختار- وهو بعد في شرخ الشباب- مفارقة الحياة شاء أم أبى. والمأمول أن يمحو ما قدّم من حسنات كلّ ما أخّر من سيئات (1)، والله غفّار الذنوب.
ثم إنهم عهدوا به- بعد جلوس السلطان علاء الدين على عرش البلاد- إلى «رضوان»، في تلك الرّوضة المقامة هناك بدار الشّفاء بسيواس.
...
_________
(1) نقلا عن أ. ع، ص 199، والمعنى في الأصل غير واضح.
(1/99)
ذكر مشاورة الأمراء في اختيار واحد من أبناء الملوك سلطانا
حين انتقل السلطان عزّ الدين في الرّابع من شوّال سنة 617 إلى الخلد الأعلى أخفى أمراء الدولة- كالأمير «سيف الدين آينه» و «شرف الدين محمد پروانه» و «مبارز الدين جاولي» و «ومبارز الدين بهرامشاه» موت السلطان، واستشارو الصاحب (1) مجد الدين بكر- الذي لم يكن له نظير في هذا العالم- ومن أشهر ما قاله من شعر في ضرب «الدوبيت» قوله (شعر):
- قانون الوفاء أساس الظلم ... إذ كيف تتيسر الحريّة لمن يعبدك
كيف تستقيم السعادة مع الوقوع في الحزن بسببك ... فبك بطلت إقامة الأوثان
«وشمس الدين حمزة بن المؤيد الطغرائى» وكان بكر عطارد ونادرة الأيّام، قد وصل في أساليب الترسّل وقرض الشّعر إلى ميدان شاسع بل تجاوز الفلك التّاسع، ومن محامد ما يحكى عن طبعه اللّطيف هذا الدّوبيت، (شعر):
- ورد الدّرج الزمرّدي قد فتح اليوم ... والطبق الذّهبي للشقائق الحمراء قد وضع اليوم
_________
(1) سرى لقب الصّاحب على الوزراء المدنيّيين في عصر الأيوبيين والمماليك، راجع كتاب الألقاب الإسلامية في التّاريخ والوثائق والآثار، للدكتور حسن الباشا، طبع مصر 1989، ص 367 - 368.
(1/100)
- أمن أجل أن الورد لم يتولّ إمارة الرياحين ... قد عرض اليوم- على نحو ما- مائة ورقة؟!
وملك السادة «نظام الدين أحمد» أمير العارض المعروف بابن محمود الوزير، وكان تلوا للفردوسي (1) في نظم المثنويات، ومن نتاج طبعه، (شعر):
قلت: لم يعد بالوسع الخزن على طرّتك ... وليس بالإمكان تجرّع المزيد من مسك الكبد (حزنا)،
قالت: لا تحزن كذلك بسبب عيني وشفتي ... فليس بالوسع في النهاية تناول النّقل والسّكر
والصّاحب «شمس الدين الإصفهاني» الذي كان في ذلك الوقت الكاتب الخاصّ، وقال هذا الدّوبيت على البديهة باقتراح السلطان (شعر):
- نقل الليل معك يا راحة القلب ... لا يمكن وصفه من فرط اللطف
/ الشفة على الشفة والخد على الخدّ، ... وهنالك تطبعت «لورا» بطبع «سوراخان».
فلما وصل السلطان إلى هذين الموضعين وهو في طريقه إلى «آقسرا» قرّبه
_________
(1) يعني به الشاعر الفارسي أبا القاسم الفردوسي الطوسي (329 - 411 هـ)، صاحب «الشاهنامه»، وقد نظمها على نظام «المزدوج» الذي يعرف عند الفرس باسم «المثنوي»، وتكون القافية فيه بين جزئي البيت الواحد ثم تتغيّر بعد ذلك بتغيّر الأبيات.
(1/101)
إليه، وشرّفه بأن أضاف إليه المطبخ والإنشاء الخاصّ.
تشاور هؤلاء سويّا في من يجلسونه على العرش، فأشارت جماعة إلى «مغيث الدين طغرلشاه بن قلج أرسلان» صاحب أرزن الروم، وكان ملكا متمكّنا محبّا للرعيّة، بينما أصرّ البعض على تولية «كي فريدون» الأخ الأصغر للسلطان، وكان مقبوضا عليه بقلعة «قويلو».
قال الأمير مبارز الدين بهرامشاه- أمير المجلس، وسيف الدين آينه- ملك الأمراء- لا يجوز ذكر شخص آخر مع وجود الملك علاء الدين، فهو المناسب للتّاج والخاتم. قال الصاحب مجد الدين وشرف الدين محمد پروانه: كنا في «توقات» ملازمين له، وهو حقود متكبّر وجسور متنمّر. وسوف ينزل- من الآن فصاعدا- بكل شخص من الضربات ما لا يندمل بمرهم. فلم يلتفت إليهما الأمراء، وقالوا ليس بالإمكان طلب المزيد فوق الملك علاء الدين كيقباد.
فوافق الأمراء الآخرون طوعا وكرها، وتعاهدوا سويّا على تنصيب الملك علاء الدين سلطانا.
وهنا قال سيف الدين آينه: أما وأني أنا الذي حملت الملك من «أنكورية» إلى «ملطية»، فلا بد وأن يكون قد علق بخاطره غبار من ناحيتي، [فلتأذنوا لي] (1) بأن أذهب بنفسي إليه وأنال منه الأمان على حياتي. وحمل مما تركه السلطان المرحوم خاتما وعمامة كبرهان ودليل، واختار جماعة من الجند توسّم فيهم خفّة الحركة والسّرعة، وانصرف مع عدد/ من خواصّ البيت وبطانة الأعتاب السلطانية متّجها صوب ملطيّة قاصدا قلعة «كندپيرت» - السجن الثاني
_________
(1) زيادة من أ. ع، ص 206.
(1/102)
للسلطان. وخرجوا من المدينة بعد صلاة العشاء، وظلوا يركضون بخيولهم طول الليل، فوصلوا مع الصباح إلى القلعة.
كان السلطان قد جلس بعد أن أقام الصّلاة، وقد رأى تلك اللّيلة في المنام أنه جاءه رجل نوراني ذو منظر رحماني، ففك القيد من قدمه، وأمر بإحضار بغلة ذات هيكل ضخم، ثم وضع يده تحت إبط السلطان وأجلسه فوق البغلة وقال: إن همّة محبّة «عمر بن محمد السّهروردي» مع السلطان «علاء الدين كيقباد» على الدوام.
ورغم أن السلطان كان قد رأى هذا المنام وأخذ يفسّره بينه وبين نفسه، غير أنه ما إن رأى ذلك الفوج حتى استبد به الخوف والفزع، وقال لحافظ القلعة:
حاول أن تؤخّر هؤلاء حتى أجدّد غسلي وأتوضّأ، وأخلو لحظة إلى نفسي، وأصلي ركعتين استعدادا لوداع الحياة. ولم يكد الحافظ يصل إلى البوّابة حتى كان «چاشني گير» قد بلغ الباب، فسأله الحافظ ما سبب قدوم ملك الأمراء؟
قال (بيت):
- تمّ الوفاء بما كان القدر به يعد، ... وتمّ ما كانت الأيّام تبغي من عمل
فأراه عمامة وخاتما للسلطان المرحوم كانا قد صبغا باللون الأسود (1)، ففتح الحافظ الباب ودخل «چاشني گير» مع أحد الغلمان، وأخذ السّيف من الغلام وسلّمه بغمده للحافظ، ثم انطلق كلاهما إلى المجلس الذي كان السلطان محبوسا فيه، فدخل الحافظ في البداية، وقدّم العزاء، وطلب الإذن بدخول
_________
(1) قارن أ. ع، ص 206.
(1/103)
سيف الدين، وما إن وقع نظر سيف الدين على/ محيّا السلطان المبارك حتى وضع رأسه على الأرض وأجرى الدمع من العين، ثم أخرج الكفن من تحت إبطه وعقده على رقبته، وأخذ السّيف من الحافظ ووضعه أمام السلطان، وقال:
أنا راض بكل ما يحكم به المليك عليّ اليوم.
كان قلب الملك موزّعا، فلما سمع هذه الكلمات اطمأن قليلا، وشرع في إبداء الاعتذار، ووعد بخير. قال الأمير سيف الدين: إن كان المليك صادقا فيما يقول فلينطق بالقسم وليصبح الخطّ الأشرف مسطورا بنفس المعنى. فأقسم السلطان تحت إلحاحه، وخطّ كتاب الأمان بالخطّ المبارك للسلطان، غير أن الأمير سيف الدين لم يقتصر على ذلك وإنما أخرج مصحفا كان في الحمائل من غلافه ووضعه أمام السلطان وقال: إن خط اليد الأشرف هو بالقطع سبب أمن العالمين وأمانهم، غير أنكم لن تضنّوا علي بتأكيده بكلام الله المجيد، فأقسم الملك ثانية.
فلما وثق «چاشني گير» بتلك العهود أطلق لسانه قائلا «أطال الله عمر الملك، انتقلت روح أخيك من عالم التّراب إلى ذروة الأفلاك، وبذلك تؤول المملكة والسلطنة إليك، وينطق العرش والخاتم بقول الحق تعالى: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (1) والمأمول في مكارم رفعة العاهل المعظّم أن يدخل القدم في ركاب دابّة تنهب الأرض نهبا فيزيّن عرش السلطنة».
وحين بلغ تخمين السلطان مبلغ اليقين، صلّى ركعتين شكرا لله، تلا فيهما بصوت عال قول الله عز وجل: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ (2)، وانفصل
_________
(1) سورة يوسف: 54.
(2) تضمين من سورة يوسف: 101.
(1/104)
عن السجن مولّيا وجهه شطر الإيوان والعشّ كما ينفصل القمر عن الغمام والسّيف عن الغمد.
وقدّم أمير «الآخور» (1) - وكان يسمى «أغلبك» - بغلة سريعة السير على شاكلة تلك التي كان السلطان قد رآها في المنام وقال: «اركبوا» (2) فركبها ومضى يسابق ريح الصّبا، ويطوي المنازل منزلا بعد منزل، وظلوا ساهرين إلى أن بلغوا بوّابة المدينة عند السّحر.
ظلّ أمير المجلس يجول راكبا طوال الليل في القلعة، ويوهم الناس بأن السلطان سليم معافى. وكان قد ندب خمسين غلاما للوقوف على باب المدينة وأمرهم بأن يخبروه بوصول «أغلبك». فلما صاح «أغلبك» مناديا، سارع أمير المجلس وفتح باب المدينة وما إن وقع بصره على السلطان حتى قبّل الأرض والرّكاب. وتوجه أمير المجلس و «چاشني گير» في خدمته نحو تابوت أخيه، وفتحوا التّابوت فرأى وجه أخيه. ثم أجلسوه على العرش، ودعوا القاضي والأئمّة والوجهاء للحضور إلى الدّيوان، ولم يكن لأحد علم بما يجري.
وحين استوى السلطان على العرش، ومثل القادة والبواسل كلّ في مكانه، خرج سيف الدين من عند السلطان إلى الدّهليز، وقال: «ليكن معلوما للأئمة والأكابر أن السلطان «عز الدين كيكاوس» قد أصبح مستغرقا في قاموس رحمة الحق (تعالى) ونزل في تابوت «فيه سكينة من ربكم» (3)، وقد زين أخوه السلطان المعظم «علاء الدين كيقباد» العالم بجلاله الباعث على السعادة،
_________
(1) انظر فيما سبق ص.
(2) تضمين من سورة هود: 41.
(3) تضمين من سورة البقرة: 248. (1) قارن أ. ع، ص 209.
(1/105)
وأضفى على كرسي المملكة هيبة مستمدّة من العرش المجيد».
ثم إنّهم رفعوا الحجب، ودخل كلّ الأئمة والأعيان، وقبّلوا الأرض بالولاء.
وكان الأمير «چاشني گير» يأخذ كل واحد من اليد/ ثم دخلوا المسجد، وتلوا القسم- والقاضي يلقّنهم- باسم السلطان علاء الدين. ولبس السلطان الأطلس الأبيض برسم العزاء. ثم أعلنوا الحداد- أسفا ولهفا- ثلاثة أيام.
وفي اليوم الرابع أمر السلطان فاستبدلوا الكأس باللباس، وخلع على الأمراء خلعا وافرة، ومنح مناشير الإمارات والمناصب والاقطاعات، ثم عزم على الرّحيل إلى العاصمة «قونية».
***
(1/106)
ذكر توجه السلطان علاء الدين إلى قونية
حين تم إحكام قواعد الأمور، عزم السلطان بالطالع المسعود على التوجّه إلى العاصمة «قونية» مقر عرش البلاد، فلازم أمير المجلس ركاب السلطان حتى «كدوك»، وأقام هناك ضيافة ملكيّة رائعة وقد زيّن السلطان المجلس، وأخذوا في الطّرب وهم في غاية البطر من الطعام. وفي اليوم التالي ألبسه السلطان خلعة ثمينة، وأرسله إلى «سيواس»، وجاء هو إلى «قيصرية».
وكان سيف الدين أبو بكر ابن «حقّه باز» «سوباشي» (1) قيصرية قد أخبر أعيان المدينة ووجهاءها لكي يقيموا القصور المتحرّكة والسّاكنة ويتوجهوا للاستقبال عند «جبق» فلمّا رأوا راية السلطان، نزلوا وقبّلوا الأرض، ونالوا شرف تقبيل اليد الشريفة، ودخلوا المدينة في الرّكاب السلطاني «كالفراش المبثوث» (2)، ودخل الملك «كيقباد» المدينة بين «كيخسرو» و «قباد» (3)، ونال التمكّن في مهاد كرامات الأجداد وانتثر الدّرهم والدّينار بل اللؤلؤ الثمين على المليك كقطرات أمطار الربيع، وجعل «ابن حقه باز» كلّ درّ كريم كان يمتلكه في صندوق الثروة ووصلت إليه يد الإمكان فداء ونثارا لمقدم المليك.
وأقام السلطان هناك بضعة أيام ثم انصرف على صهوات الإقبال ومناكب الجلال إلى «آقسرا» فلما بلغ رباط «پروانه» اندفع المقيمون في «آقسرا» وهم في
_________
(1) «سوباشي»: كلمة تركية، وواضح أنها كانت وظيفة من وظائف الأمن في دولة سلاجقة الروم، وانتقلت إلى الدولة العثمانية، والسوباشي هو: من يقوم بحفظ الأمن والنظام في المدينة أو القصبة» (الدكتور حسين مجيب المصري: معجم الدولة العثمانية، مصر 1989، ص 119).
(2) تضمين من سورة القارعة: الآية 4.
(3) يعني محاطا بأعاظم الرّجال. و «كيخسرو» و «قباد» من ملوك الفرس القدماء.
(1/107)
شوق لرؤية وجه السلطان الذي ازدان به العالم، اندفعوا للاستقبال اندفاع العاشق المهجور للوصال أو من كاد يهلك من الظّمأ طلبا للماء الزّلال.
وقبّلوا الأرض ثم أدركوا شرف السعادة فقبّلوا باسطة من ازدان به العالم، وانطلقوا صوب المدينة في خدمة موكب السلطان.
وما إن استراح السلطان هناك يومين أو ثلاثة حتى ارتحل إلى العاصمة.
وحين حمل بريد الصّبا نسيم الطرّة المسكية للرّايات التي خفقت بيد الطلائع الميمونة لملك العالم- إلى مشام سكّان «قونية» انبعثت لدى الجميع بواعث العزم للتّعرض لنفحات السّعادة الناجّمة عن لقاء سلطان المشارق والمغارب.
فوضعوا ما اكتسبوه في أعمارهم وادّخروه طوال حياتهم نثارا لقدوم المليك، وصنعوا خمسمائة جوسق (1)، مائتين جارية وثلاثمائة ساكنة، وزيّنوها جميعا بغرائب السّلاح والخرائد الملاح، وساروا حتى منطقة «أبروق» للاستقبال.
فلما اكتحلت العيون بنور مستمدّ من الغبار المتصاعد من حوافر حصان ملك العالم، صار وصفهم «خرّوا سجّدا» (2) دون إعمال تكلّف، وزلزلت صيحة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ (3) قواعد القصر المشيّد. ونال «حسام الدين أمير أريف سوباشي» وغيره من الوجهاء شرف الاختصاص، فجلسوا على المائدة وحضروا الحفل السلطاني. ثم إنهم توجهوا ذلك اليوم إلى صحراء «روزبه»،
_________
(1) في الأصل: «كوشك» وهي كلمة فارسية عربت «جوسق»، وهو مقر صغير في بقعة بعيدة على العمران. ويبدو أن بعضها كان ينقل من مكان إلى آخر كما هو واضح من النصّ.
(2) تضمين من قول الله- عز وجل-: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (سورة مريم: 58).
(3) من سورة فاطر، الآية 34.
(1/108)
وقضوا الليل في المرح والسّرور.
وفي اليوم التالي طلعت شمس المظلّة السلطانية من أفق الخيمة/ المستولية على العالم، فتملّكت الرّجفة قلب الأرض والزمان وروحهما من أصوات المزامير والأجراس، ونشر عقاب المظلة السلطانيّة جناحي الإقبال على شمس السلاطين فامتدّت ظلال السّعادة، وجرى في ركاب مالك الرّقاب خمسمائة من مقدمي العساكر من القزاونة والدّيالمة والفرنج، ما منهم أحد إلا وهو أشدّ جسارة من النّوازل السّماوية أو أكثر تبجّحا من موت الفجاءة. وحمل مائة وعشرون حارسا- هم في الهيبة كالغضنفر، وفي الخصومة مثل كركين (1)، وفي الحفاظ مثل كيو (1) - حملوا السيوف الذهبية- كقلادة الجوزاء- وأمسكوا بمؤخّرة سرج حصان السلطان من اليمين واليسار.
وحين اقتربوا من المدينة ترجّل الأمراء جميعا، ثم عقد الأمير «چاشني گير» أطراف عباءته في وسطه، وأخذ يتقدّم وهو ممسك بعنان السلطان الفاتح للعالم، ودخل المدينة وهو يقرأ: «ادخلوها بسلام» (2). وأخرجت النسوة الأطهار رؤوسهنّ من المناظر الزجاجيّة وكنّ يقلن: «رب اجعله رضيا» (3)، وأجرى السلطان على لسانه المبارك قول الحق تعالي: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا
_________
(1) كركين وكيو، من أبطال الفرس الأسطوريين القدماء.
(2) تضمين من قول الله- عز وجل-: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ سورة الحجر: 46.
(3) إشارة إلى قوله تعالى على لسان زكريا: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (سورة مريم: 6).
(1/109)
مُبارَكاً» (1)، ووضع قدمه على مسند التّوفيق [وعرش الملك]، وأخذ يتلو مكرّرا قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ (2)، ورَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ (3) وعدّ فرضا عليه أن يدعو بعبارة: «رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ» (4) وتمكّن في قلب العرش وروحه تمكّن النور في البصر والقيمة في الجوهر، (شعر):
- باسمه امتلأت شفة السّكة، بالابتسام، وبذكره صار قلب المنبر حيّا، ... - فبهما ازداد التدين رونقا، وتعالت الأرض على الأفلاك
ثم بسطوا المائدة، ورفعوها، وأقاموا المحفل، وسرى صوت النّاي وجلجلة/ الدّف في صفّ من الصوّفية المتحلّقين في دائرة. كان السلطان كلّ لحظة يهب روحا جديدة لأحد الحرفاء والنّدماء بالتبسّط والتودّد، وينثر درر الألفاظ الكرام على مفارق الخاصّ والعام. وحين ألقت ريح سورة الخمر نقاب الحيرة عن وجوه من حضروا الحفل نهض أمراء قونية وقادتها واقفين، وقدّم كل واحد منهم هديّة على قدر مكانته ومكنته، فشفعت جميعا بنظرة القبول. وحين ظهرت القناديل الفضّية أسفل القبة العليا تحوّل السلطان عن مقام الأنس والطرب.
_________
(1) تضمين من قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (سورة المؤمنون: 29).
(2) تضمين من الآية 74 في سورة الزمر.
(3) تضمين من الآية 101 في سورة يوسف.
(4) تضمين من الآية 19 في سورة النمل.
(1/110)
وفي اليوم التالي أذن السلطان لرشيد الدين الوزير، وملك الأمراء آينه چاشني گير وسيف الدين أبي بكر «حقه باز» النّائب، وجلال الدين قيصر پروانه بالحضور في الخلوة، وقال: يتعيّن الآن إصدار الأوامر المطاعة للأمراء في مناطق «الأوج» لإعلان قدوم أعلامنا السلطانيّة إلى «قونية» واستقرارنا على سرير الملك، واستمالتهم وحثّهم على المبادرة بالقدوم إلى أعتاب السلطنة، فأمر الكتبة والمنشئون، وتمّ التدوين في الحال، وطارت الرّسائل إلى الأطراف على يد الرّسل.
***
(1/111)
ذكر بعض السيّر الحسنة وما كان يتمتع به هذا السلطان القاهر من خلق زاهر
قال الله تعالى «ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا» (1):
قد تبيّن للعالمين أنّ الله- عزّ وجلّ- منذ أن رقم على ناصية الكائنات رقم الإيجاد، ووضع بيد الملوك من أولي الأمر- وهم من اختصّهم بقوله تعالى:
«وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (2) - زمام تسخير العباد وخطام تذليلهم، لم تلق أعلام الإسلام لظلالها- منذ ابتداء الطلوع حتى انتهاء الوقوع- على عاهل كالسلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن/ قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق، «إن راية الإسلام لم تظلّ على سلطان أحسن دينا وأصدق يقينا وأوسع علما وأغنى غنى وأعظم قدرا وأفخم ذكرا وأمدّ باعا وأشدّ امتناعا وأجلّ جلالة وأكمل عدّة وآلة وأرفع ملكا وسلطانا وأروع سيفا وسنانا وأحمى للإسلام وذويه وأنفى للشّرك ومنتحليه اكتسابا ووراثة، منه» (3) لقد بلغ في العظمة حدّا جعل ملوك الأمصار- مؤمنين كانوا أو كفارا- من أقصى الأبخاز (4) إلى أنحاء الحجاز، ومن أوائل «باشقرد» (5) إلى منتهى تخوم «ولا شكرد» (6)، ومن صحاري القبجاق حتى براري العراق، لا سيّما
_________
(1) سورة الكهف: 83.
(2) تضمين من الآية 59 في سورة النساء.
(3) كتب ما بين الحاصرتين في الأصل باللغة العربية، وقد استعمل الفعل «تظلّ» لازما وعدّاه بحرف الجرّ وهو متعدّ بنفسه.
(4) الأبخاز: اسم منطقة في تركستان.
(5) باشقرد: المنطقة الواقعة على سفوح جبال الأورال.
(6) ولاشكرد (لاشكرد): مدينة مشهورة بكرمان وسط الهضبة الإيرانية وجنوبها.
(1/112)
ملوك الشام- يزعمون أنهم غلمان له، ويخطبون الخطبة ويسكّون السّكة باسمه:
رأوا طوعه حتما وفرضا ولازما ... وإخلاصه في الدّين والملك واجبا
كان يملك نفسا نضرة بوابل الطّهر، ويتّصف بعدل أنار العالم جملة كعين الشمس، وكان يطيل النّظر والتّدقيق في أموال الخزانة، ولا يحيد في إنفاق الخزائن إلى أي من طرفي: الإفراط والتّفريط، لكنّه كان في مراعاة شأن الأضياف ورسل الأطراف بحرا مواجا وسحابا ثجّاجا، وكان يبالغ في توجيه العتاب بل وإنزال العذاب لأتفه بادرة تحصل من أكبر القادة في الجيش، وكان يستأصل شجر وجودهم كأعجاز نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (1) من جذوره بفأس البأس والزّجر والتّوبيخ، ويجري عليهم حكم وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ (2)، فلا جرم أن أصبح التطبّع طباعا مركوزة في الذات عند نوّاب الجهات/ وغدا أصحاب الدواوين يستشعرون الخوف ويصطنعون الأمانة.
روى الأمير الكبير «جلال الدين قراطاي» وكان قطب الأوتاد وقدوة الزهّاد:
«كنت ملازما للحضرة العليا ثمانية عشر عاما في السّفر والحضر ليلا ونهارا، فلم يتناه إلى علمي أن السلطان استراح على فراش النوم- سواء في حالة الصّحو أو السّكر- إلا قليلا، بل كان قد وضع نصب عينه أمر: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (3) وكان يعتبر ذلك سببا لرفع درجاته، ومع أنه كان يعدّ اتبّاع مذهب الإمام أبي
_________
(1) إشارة إلى قول الله عز وجل: تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (سورة القمر: 20).
(2) تضمين من الآية 21 في سورة السجدة.
(3) سورة المزمّل، الآية 2.
(1/113)
حنيفة- رضي الله عنه- في الأصول والفروع فرضا واجبا إلّا أنه كان يحافظ على صلاة الصّبح وفقا لمذهب الإمام الأعظم «الشافعي» - رضي الله عنه-.
وكان يقسّم أوقات اللّيل والنّهار على مصالح الملك والمملكة، وكان محالا أن يترك مجالا للهزل في مجلس أنسه، بل كان يشغل المجلس بتواريخ الملوك وذكر محاسن سير الملوك القدماء. وكان أحيانا ينظم بطبعه اللطيف شعرا ظريفا في ضرب «الدوبيت»، ومن بين ما قاله في هذا الضرب:
حين كنت أتمتع بالصحو فإنني كنت أتملك عقلي ... فلمّا ثملت توارى العقل مني
اشرب الخمر فبين السكر والصحو ... وقت هو أصل الحياة
فإذا ما صدرت من أحد الحرفاء والنّدماء كلمة أو حركة خارج مرتبته ووظيفته فإنه لم يكن يفتح له باب المجلس بعد ذلك أبدا.
«وكان ذكر السلاطين القدماء يجري على لسانه بكل إجلال وتعظيم، وكان ممّن يثق فيهم [ويثني عليهم] (1) من سلاطين الإسلام: محمود/ بن سبكتكين (2) وقابوس بن وشمگير (3)، وكان يتشبّه بأخلاقهما. ولم يكن يوقّع
_________
(1) إضافة من أ. ع، ص 228.
(2) هو السلطان محمود الغزنوي، أكبر سلاطين الدولة الغزنوية، (387 - 421) غزا الهند بضعا وعشرين غزوة، ونشر فيها الإسلام.
(3) قابوس بن وشمگير، الملقب شمس المعالي، أمير جرجان وبلاد الجبل وطبرستان.
فارسي الأصل، نابغة في الأدب والإنشاء، وله شعر جيّد بالعربيّة والفارسيّة. توفي سنة 403. انظر ما سلف، ص 12، هامش 2.
(1/114)
باسمه أبدا دون وضوء، وكان دائم الإطلاع على «كيمياء السّعادة» (1) و «سير الملوك» لنظام الملك (2)، وكان يجيد لعب الشّطرنج، والكرة، والرّمح، وقد اكتسب مهارة وحذقا في الصناعات كافّة من عمارة وصناعة وسكّ النّقود، والنّحت والنّجارة، والرّسم، وصناعة السّروج وكان يحسن معرفة قيمة الجواهر.
(بيت):
إن كانت النبوّة قد ختمت بخاتم الشّرع ... فقد ختمت به السلطنة دون السلاطين»
...
_________
(1) «كيمياي سعادت»، للإمام أبي حامد محمّد الغزّالي (450 - 505)، ألفه بالفارسية، وجعله بمثابة مختصر لكتابه الكبير «إحياء علوم الدين» وموضوعه الدّين والأخلاق والمعاملات.
(2) يعني به كتاب «سياست نامه» للوزير السّلجوقيّ المعروف «نظام الملك الطوسي» (ت 485) وموضوعه نصح الملوك وسياسة الرّعيّة.
(1/115)
ذكر وصول شيخ الشّيوخ شهاب الدين السّهروردي من جانب الخليفة برسالة إلى السلطان
حين أبلغ خبر طلوع طلائع الإقبال وظهور البدائع الخاصة بسعادة السلطان علاء الدين كيقباد لحضرة الخليفة وبلاط الإمام «النّاصر لدين الله» تفضّل فأرسل منشور السلطنة ونيابة حكومة ممالك الروم، والخلعة السلطانية وحسام الملك وخاتم الإقبال في صحبة (1) الإمام الربّاني أبي يزيد (2) الوقت والجنيد (3) الثّاني، من تصدر الصفّة في قبّة الأولياء، والأتقياء، وارث علوم الأنبياء «خلاصة القدرة خالصة السّدرة عارف الحقائق قارع الشواهق شهاب الملّة والدّين شيخ الإسلام والمسلمين هادي الملوك والسلاطين الداعي إلى جناب مالك يوم الدين أبي عبد الله بن محمد السهروردي رضي الله عنه» (4).
وحين أبلغ السلطان بالقدوم المبارك للشيخ إلى «آقسرا» أرسل الأمراء مع إقامات كثيرة (5)، فلما لحق بمنطقة «زنجيرلو» خفّ القضاة والأئمّة والمشايخ/
_________
(1) في الأصل: سلطنت: والتصحيح من أ. ع ص 230.
(2) أبو يزيد البسطامي: متصوف فارسي توفي 261 له شطحات جاوزت الحدود أحيانا حتى اعتبره الجنيد غير مكتمل في طريق الصوفية. تنسب إليه الطريقة «الطّيفورية».
(3) الجنيد: أبو القاسم بن محمد، صوفي بغدادي، توفي 294، تنسب إليه الطريقة «الجنيدية» وهو من الذين أسسوا التصوف على الكتاب والسّنة.
(4) ما بين الحاصرتين ورد في الأصل باللغة العربية. والسهروردي هو السهروردي البغدادي شهاب الدين وهو متصوّف وفقيه شافعي عرف بتقواه وتنسكه، توفي ببغداد 632، وهو غير السهروردي المقتول.
(5) كذا في الأصل؛ والأوامر العلائية ص 230: «با اقامات بسيار»، ولعله يريد بالإقامات المؤن، وفيها إشارة- فيما يبدو- إلى قول النبي- صلى الله عليه وسلم- «حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه» رواه الترمذي، ولم أعثر في معانيها في المعجم على هذا المعنى.
(1/116)
والمتصوّفة والأعيان والإخوان بأعداد كبيرة للغاية للتّرحيب به، ثم توجّه السلطان بنفسه بجيش منظّم تنظيما باهرا (1) لاستقباله. فلما وقع نظره على جمال الشيخ المبارك قال: «ما أشبه هذه الطلعة بوجه من أخذ يفكّ القيد عن قدمي في المنام عشية خلاصي من السجن ويأخذ بيدي كي أركب ويقول: سوف تلازمك همّة عمر بن محمد السّهروردي دائما أبدا».
فلما اقترب أخذ في معانقته ومصافحته، قال الشيخ: ظلّ بال عمر بن محمد السهروردي قلقا من ناحية سلطان الإسلام منذ ليلة السجن؛ والمنّة لله أن دخل حصول ما لا عوض عنه دائرة التيسير قبل حلول ما لابد منه، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ (2)، فبادر السلطان- وهو في غاية الارتياح والانشراح- بعد السّلام وأمسك باليد اليمنى المباركة للشّيخ، وتضاعفت أسباب الاعتقاد، وبلغ في تعظيمه أقصى نهايات الغايات، وأراد أن يفعل ما فعله إبراهيم ابن أدهم (3) حين سلك طريق عيسى بن مريم، وكان الشّيخ يشاهد بنظرته النّورانية أوهام السلطان وخواطره، فيجيب على كل خاطر ويعمل على تسكين البواعث والدّوافع التي استقرت في الطبع منذ يوم «ألست» (4)، ويفسّر قول الحقّ تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (5) ويقول: «ولكلّ عمل رجال» ويشجّع على
_________
(1) قارن أ. ع، ص 230 - 231.
(2) سورة فاطر: 34.
(3) إبراهيم بن أدهم: زاهد مشهور بالزهد والوعظ، وكان ابنا لأحد ملوك بلخ والإشارة هنا إلى تحول إبراهيم ابن أدهم عن الإمارة إلى الزهد والإعراض عن مباهج الدنيا، عاش في القرن الثاني الهجري.
(4) إشارة إلى قول الله- عز وجل-: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (سورة الأعراف: 172).
(5) سورة الصافات، آية 164.
(1/117)
بسط العدل والتمسك بأهداب الدين، حتى انسلخ السلطان كلّية- بمجرد وصولهم المدينة- من لباس التعصّب والغرور والعجب والغفلة، وصار كروح الملك كلّه خير.
وفي اليوم التالي/ دعي الشيخ إلى قصر السلطنة حتى يلبس السلطان خلعة الخلافة ويضع على رأسه العمامة التي كانت قد كورت في بغداد، وعلى ملأ من الناس أتوا بمقرعة الحدود- وهي تقليد من تقاليد دار الخلافة- وأجروها على ظهر السلطان أربعين ضربة، وقادوا جنيبة (1) دار الخلافة ذات النّعل الذّهبي، فاستلم السلطان- بحضور الأنام كافّة- حافر جنيبة الإمام ثم ركب هو والشيخ المعظّم- كلّ منهما- جنيبته، وشاهد الناس جميعا السلطان على تلك الهيئة.
فلما عادا ووضعت المائدة ثم رفعت، بدأ منشدو الخاصّ السلطاني «السماع» (2)، فتواجد (3) كبار المريدين الذين كانوا قد قطعوا الأغوار والنّجود في صحبة الشّيخ، وتجلّى في كلّ الحاضرين شوق عظيم من ذوق ذلك السّماع، وفعل ذلك فعله في السلطان وجمع من الأمراء- سيما جلال الدين قراطاي- ولما تحوّل الشيخ إلى المنزل المبارك- وكان مهبطا للواردات الرّوحية- تكلّف السلطان [من النّقود والمتاع] (4) تكلّفا يزيد عن الحدّ والقياس، وبعث به إلى الشيخ.
_________
(1) كذا في الأصل: جنيبت، والكلمة عربية، ومعناها دابة.
(2) السماع: مصطلح صوفي، ويعني ما يرتّل من أشعار وأذكار على وقع النّاي والدّف، لإثارة الطّرب والوجد في قلوب السامعين.
(3) الوجد: مصطلح صوفي أيضا، وهو ما يرد على القلب دون تصنّع ولا تكلّف.
(4) إضافة من أ. ع ص 233.
(1/118)
وطيلة مدّة إقامة الشيخ بقونية استسعد السلطان برؤيته المباركة بضع مرّات.
فلما حان وقت انصراف الشيخ ورجوعه أرسل إليه في صحبة «قراطاي» و «نجم الدين الطوسي» من أموال خراج النّصارى والأرامنة مائة ألف وخمسة آلاف دينار من الذّهب السلطاني المسكوك بالسكّة العلائيّة من فئة الخمسمائة والمائة والخمسين مثقالا مضروبا، وكمّية من الأمتعة برسم النّفقة. وخرج لوداعه حتي «زنجيرلو»، وهي تقع على بعد فرسخ بأكمله من قونية. ونال المدد من الشيخ، وحين المفارقة جرى على لسان الشيخ هذان البيتان:
/ ولم أر كالتّوديع أقبح منظرا ... وإن كان يدعو أهله للتّعانق
وللصّارم الهندىّ ألين جانبا ... ملامسة من كفّ إلف (1) مفارق
ولزم بعض الأمراء وضيوف الشّرف السلطاني شروط خدمة الشّيخ حتى جاوز ملطيّة- آخر حدود المملكة.
...
_________
(1) في الأصل: ألف، وهو تصحيف.
(1/119)
ذكر شروع السلطان علاء الدين كيقباد بالفتح وكان أول فتحه قلعة العلائية
لما كانت أعلام دولة السلطان تعلو مع الزّمان على شواهق الإقبال وقلال الجلال بيمن الملك المتعال وعناية أعتاب ذي الجلال، وكانت بركات السماء تحلّ في الزّروع والضّروع بفضل حسن إشفاقة ومكارم أخلاقه، حتى وإن كان ما بين الزّجاجة والكأس من مدام وخمر- دما ظهر بينها من التصافي ما لا مزيد عليه، وبلغ المطربون في مجلسه الملكي الذي تتزايد فيه البهجة غاية البراعة من تواتر مداعبة الأنغام على الآلات الموسيقيّة،
قال السلطان يوما لندمائه- وكانوا بمنزلة الوزراء والمستشارين- يتعيّن علينا أن ندع الحفلات وما بها من بهجة وطرب ونبادر إلى إعداد العدّة للحرب، فينبغي أن يجعل لقوانين السلطنة مثل هذا الحق. فركع الأمراء الكبار أمام العرش تأدّبا وقالوا إن ملك اليونان خاضع لمليك العالم؛ وإن ثغر أنطالية وإن كان قد تيسّر فتحه، لكنّ [همّا عظيما وخوفا لاحدّ له ينشأ] (1) من جهة قلعة «كلونوروس» - التي تبدو السماء أمامها كالأرض الفسيحة المترامية، هي جبل بغير أمان، لها من البحر خندق ومن صخور الجرانيت حصار، قد تحكّمت من جانب البرّ على ملك «سيس»، بينما فرضت من جانب البحر خراجا ثقيلا على رقبة مصر/، وليس لمثل هذا الصّرح الهائل إلا المليك الذي هو ملجأ العالم. فلو صدر الأمر إلى الجيش المنصور، فالأمل أكيد في أن تصبح كلّ نملة تنّينا وكلّ صعوة عنقاء، وأن تدرج تلك القلعة- التي تبدو مساوية للسّماك مناطحة
_________
(1) زيادة من أ. ع، ص 237، وبدونها لا تكتمل الجملة ولا يستقيم المعنى.
(1/120)
للأفلاك- في أنشوطة مماليك الدولة، مما يؤدي إلى انتظام ذلك الدرّ الثمين في سلك لآلىء المملكة الأخر.
فوافق السلطان على هذا الرّأي وأمر بكتابة الأوامر إلى جهات «الأوج» لجلب العساكر، وفي التوّ نثر كتبة الدّيوان الأنقاس (1) الشّبيهة بالعبير على القرطاس المضمّخ بالكافور، وزيّنوا وجه الورق الأبيض بسطور مسلسلة كطرر الحسان الشّبيهة بالشمس، وكغرر الأحبّة المماثلة لهيكل المشتري، وشفعت بتوقيع السلطان، ثم بعثوا بها على يد غلمان الحرس في شكل رسائل مرسلة على الخيل السريعة.
وفي أقل من عشرة أيام تجمّعت حشود تنقّب الغبار المتصاعد من حوافر دوابّها وجه الشّمس والقمر.
أمر السلطان أن يقسّم ذلك الجيش- صائد العالم- ثلاثة أقسام: قسم يثب ويهجم كالنمور من الناحية الصخريّة والحجريّة، وقسم يشتبك في القتال كالتّماسيح من جهة البحر، وجماعة تنطلق كالأمواج العاتية تجاه القلعة في السّفن بينما ينصب على ذلك التل المرتفع- الذي بقي الفلك من حدّته ذاهلا متلفّعا على الدّوام بالغمام الأسود- منجنيق كالجبل تصاب جبال «ألبرز» (2) بالوهن من حجارته، وأن يصعد البواسل- الذين تكون الصخور الصلدة وقت الحرب عندهم/ كالحرير- ذلك التل.
فلما وضع المنجنيق وفق حكم السلطنة سمع «كيرفارد» صاحب القلعة أن
_________
(1) كذا في الأصل: أنقاس، كلمة عربية، جمع نقس: «المداد يكتب به» (المعجم الوسيط).
(2) اسم سلسلة من الجبال العالية في شمال إيران.
(1/121)
السلطان عبر بجيش كبير تلك المياه المهلكة، ولم يلحق به ولا بجيشه أي أذى من وعورة تلك الطّرق المخيفة. فقال: بهذا الحديث سيكون انفصالي عن ملكي القديم، ولن يكون بوسعي أن أفك عني هذا القيد مهما أحكمت التدبير؛ ما كان بوسع الشمس- وهي راكب وحيد- أن تجتاز من قبل هذا الجبل الوعر إلا بألف قائد ودليل، والآن يجتازه الملك كيقباد اجتياز الريح، فما أيسر عليه- بمدد الله وعونه- أن يحارب السّماء ويقارع الفلك، فما لنا سوى أن نتذرع بالصبر ونجلس على باب الانتظار لنرى ما يستخرجه الفلك من وراء الحجاب، فليس ثمّت علاج آخر.
وفي اليوم التالي رفعت الرّايات الصّفراء للملك- الذي طوى الأرض- على القبة اللازورديّة، فاسودّ العالم من غبار الجيش. ورغم أن الزّمان لم يكن بمقدوره أن يلقي نظرة غضب على ذلك المكان الموحش ولم يكن بوسع آذان الفلك أن تسمع أنّ بالإمكان فتحها ببذل المجهود، فأيّ أثر لسهام الفلك على قلعة يتحدث حرّاسها مباشرة مع كوكب عطارد؟! (شعر):
- ولكن حين يكشّر الحظّ المشئوم عن أنيابه، يجعل الحجر الصلد على شاكله الشمع.
أمر السلطان بأن يصعدوا الجبل فوجا فوجا، فاعتلوا تلك الصخور الصّلدة دفعة واحدة كأنهم عقبان طائرة أو نمور كاسرة، وعلى ذلك الجبل، الذي لم يكن للفكر أن يجد إلى ارتقائه سبيلا- بادرت فرقة بالقتال فأحاطت القلعة كالفرجار بمائة منجنيق ثقيل، واستمرّت الحرب شهرين «حتى عبر شهران/ كيوم واحد» (1). وذات ليلة رأى السلطان في المنام شخصا حسن السّمت أخذ
_________
(1) ما بين الحاصرتين مكتوب في الأصل باللغة العربية.
(1/122)
يحدثه بهذه العبارات (شعر):
- ليس لهذه القلعة الشّاهقة من نظير، ولا يمكن لأحد استخلاصها بالحرب. ... - لكنّ خالق الكون عون لك، واستخلاص مثل هذه القلعة شأن من شؤونك.
- فجيشك إن قصد الفلك، انتزع المخّ من رأس الشمس. ... - فإن كان طريق الحرب متّجها صوب البحر، فرّت التماسيح من البحر إلى اليابسة.
- ولكنّ مثل هذا الصرح العجيب، يمكن استخلاصه بقوّة الله.
فصحا السلطان من النوم فرحا بهذه البشارة، وأثبت الأبيات على قصاصة، وحين انبلج الصبح، وسلك جيش الظلام طريق الانهزام (1)، أذن للأمراء الكبار- الذين كانوا حاضرين في الدهليز الملكي- بالاجتماع به في الديوان، وحكى لهم حكاية المنام، وقرأ عليهم الأبيات، وفرق الكثير من الصدقات من بقر وغنم ودراهم على الفقراء ومطوّعة الغزاة.
وفي نفس الليلة بدا لصاحب القلعة بداء في أمر الامتناع والدفاع، فدعا إليه الأعيان والوجهاء، وقال: لن نتمكن من الثّبات أمام قوّة السلطان، ولئن كانت قلعتنا تجالس الفلك وتجاور العقاب، فإنه يبدو من المحال اجتياز حكم القضاء والقدر، والواجب إذن هو استبدال التّقارب بالتّباعد مع ملك يتمتّع بالعزّة
_________
(1) يعني حين أشرقت الشمس وبدّد النّور الظلام.
(1/123)
اللّدنية. وفي الحال اختار رسولا صادق اللهجة وأرسله إلى الأمير «مبارز الدين أرتقش» - وكانت بينهما صداقة وطيدة بحكم الجوار وتداني المزار- كي يصبح وسيطا، «كي يلتقط شوك هذا الحزن- الذي بلغت آلامه القلب والروح- بملقاط الألطاف من قدم زماننا المضطرب، ويلتمس العفو من حضرة الملك لذنب لم نرتكبه».
فعرض الأمير مبارز الدين القضيّة على السلطان، فبدت أسارير السرور على جبينه المبارك، وقال: إنّ ما يرضيه لابد وأن يكون موافقا لنا. فأبلغ الأمير مبارز الدين الرّسول بحصول المقصود، فأرسل إلى «كيرفارد» قائلا: «إن الرأي أن يفرغ الروح من الفكر، ويجعل دأبه الإذعان لأحكام ملك الزمان، وينزع من قلبه التعلّق بالقلعة، وينشد من الآن الملجأ والملاذ في الظلّ المبارك للملك».
فلما عاد الرسول تبسّم «كيرفارد» تبسّم الربيع، وأرسل رسولا ذرب اللّسان إلى حضرة السلطان كي يسلّم مكتوبا مشتملا على ما سمعه ملك العالم وهو:
كانت هذه الصخرة الصلدة منذ زمن «دارا» و «هوشنج» (1) وعهد الإسكندر وقيصر موطنا لآباء هذا المملوك الذليل وأجداده، وحسرة على أعدائه وأضداده، ولم يزمع أي ملك موفّق حربها، ذلك لأن خالق الكون لم ينشئ على الأرض سماء مثلها، وقد زودت من الذّخائر والمتاع بما يكفي إلى يوم الحساب. غير أنّي حين ألقيت بنظرة من بعيد على المظلة المنصورة اعتورني فتور في الأعضاء وتملكتني غشاوة في نور البصر، واستبدّ الضعف بالقوى/ وبدا هذا الموقع المخيف في عين العقل بئرا لاقرار له، فقلت لنفسي: إنّ مناطحة الصّخر والتّشبث بالرّايات الخفّاقة في العلا مهلكة وضياع، والواجب البحث عن مقر ومفر في
_________
(1) من ملوك الفرس القدماء.
(1/124)
ظل شمس الملوك، فإن شملتني العاطفة الملوكية، وكان لي مع نوال الأمن على حياتي/- كسرة خبز من ممالك السلطان، فسوف يكون ذلك غاية التلطّف مع المملوك ونهاية الحدب على الخادم.
فاستحسن المليك قوله، وقال: لو كان بالإمكان تدعيم أركان نيّة الصّداقة عنده بأوتاد القرابة لوجب أن يتمّ ذلك بأسرع ما يمكن (1) حتى تزداد ثقته.
فلما سمع «كيرفارد» هذا أتى بخريدة من خرائد النساء لتدخل في زمرة من يلزمن الحرم الملكي [وتنتظم في سلك مطهّرات الحريم السلطاني الميمون وفق أمر الشّريعة المحمّدية] (2).
وبذلك التأمت الأمور، وكتب منشور بإمارة «آقشهر قونية» وملكيّة عدد من القري وأرسل إلى «كيرفارد».
وفي اليوم التالي نزل من أوج القلعة إلى حضيض خيمة السلطان- وكانت تسامت زحل- وأخذ في إبداء الأعذار، فلحظه السلطان بعين الرأفة، وجعل يبالغ في تكريمه واحترامه، والتمس «كيرفارد» حضور السلطان إلى القلعة فاتجه بالمظلّة والرّاية صوبها، وبادر أهلها باستقباله بالنّثار والدّراهم والدنّانير. فلما صعد إلى أعلى القلعة شاهد الوفير من المزارع والعديد من المصانع وما لا حصر له من الذّخائر، فأدى شكر النعمة لله تعالى على يسر الفتح بتلاوة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ (3) ونصر عبده، وأمر بأن يبنى هناك على تلك الصّخور الصلدة سور، ثم منح ذلك الموضع شرف التّسمي باسمه والتلقّب بلقبه.
_________
(1) قارن أ. ع، ص 247.
(2) زيادة من أ. ع، أيضا.
(3) سورة الزّمر: 74.
(1/125)
ذكر فتح قلعة «آلاره» على يد مماليك السلطان
حين فرغ السلطان من عمارة «العلائية» ثنى عنان الفتح صوب «أنطاليه»، وفي الطريق وقع بصره على قلعة «آلاره»، وكانت قد بنيت وسط سهل فوق حجر صخري ضخم، وبجانبها يجري نهر ذو لون سماويّ وعزم فتّي كنهر النّيل، ومن أعلاها كان على حراسها أن يحنوا ظهورهم لقربها من السماء (1)، ومن أسفلها كان «جبل قاف» يبدو أشد انخفاضا من القيعان.
وكان أخو «كيرفارد» قد أعرض كشحا عن اللذّات الدنيويّة، وتجنّبها واختار سلوك التبتّل (2) وفضّل لبس الصّوف الخشن على الحرير الأطلس.
فأمر السلطان أميرا من أمراء الدولة بأن يسير مع فرقة من العساكر المنصورة إلى قلعة «آلاره» ويقول لحاكم تلك البقعة: إن أخاك- وهو المعروف بالكفاءة والشجاعة- لم يستطع إبقاء قلعة «كلونوروس» بعيدة عن أيدينا، منذ شهر مضى، وأغلب الظن أن الضّعف والعجز الناشئين عن الحصار سيعجّل بأجلك، وأنت رجل عاقل قد ركبك الهمّ من جفاء الأيام؛ ومن ثمّ فإنّ انتهاج جادّة السّلامة يناسب حالك، فإن سلكت طريق الصّواب مثلما فعل أخوك وسلّمت القلعة لمماليكنا تيسّرت لك المآرب والمقاصد، أما إن هممت بمخالفة أحكامنا، فلن تجد شوك هذا الخلاف إلا في عين جهلك.
وما إن أبلغ برسالة السلطان حتّى هاجمه في الحال مرض «القولنج» لما اعتراه من هيبة السّلطنة وما غلب عليه من فزع وجزع، وأسلم حساب العمر والرّوح
_________
(1) قارن أ. ع، ص 249.
(2) في الأصل: تنبل: يعني كسول، والتصحيح من أ. ع، أيضا.
(1/126)
إلى فذلك (1) «ومالك» (2)، فصعق وجهاء القلعة من هول الحادث، وسلّموها رغبا أو رهبا. وهكذا دخل ذلك الموضع بمجرد/ رسالة ودون إعمال سيف أو حسام في عداد غيره من بلاد المملكة وقلاعها.
ولما بلغ خبر الفتح الثّاني سمع المليك أقام الاحتفالات العامة، وأفرغ ذهنه من فكرة الحرب، وشرب الخمر على أوتار الرّبابة والصّنج، فلمّا شارف «أنطالية» خصّ الأمراء كافّة بالخلع والتّكريم، وأذن لهم بالانصراف إلى المشتى والمصيف، وانطلق هو مع خواصّه لقضاء الصّيف في «أنطالية».