الجمعة، 19 يناير 2024

21.سورة الأنبياء{مكية عدد الايات 112.}

  21.سورة الأنبياء{مكية{سورة الأنبياء مكية | رقم السورة: 21 - عدد آياتها : 112 عدد كلماتها : 1,174 - اسمها بالانجليزي : The Prophets}

أسماء السورة

فضائل السورة وخصائصها=بيان المكي والمدني

مقاصد السورة*موضوعات السورة

سورةُ الأنْبياءِ*مقدمة السورة*أسماء السورة:

سُمِّيَتْ هذه السُّورةُ بسُورةِ (الأنبياءِ)

فعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضي اللهُ عنه، أنَّه قال: (سورةُ «بني إسرائيلَ» و«الكَهفِ» و«مَريمَ» و«طه» و«الأنبياءِ»: هُنَّ مِن العِتاقِ الأُوَلِ ، وهُنَّ مِن تِلادي

فضائل السورة وخصائصها:

أنَّها مِن السُّوَرِ المتقدِّمِ نزولُها، ومِن قديمِ ما حفِظ الصَّحابةُ وتعلَّموه:

كما دلَّ عليه أثرُ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضي اللهُ عنه المتقدِّمُ.

بيان المكي والمدني:

 

سُورةُ الأنبياءِ مَكِّيَّةٌ

، ونَقَل الإجماعَ على ذلك غَيرُ واحدٍ مِن المفَسِّرينَ

مقاصد السورة:

من أهَمِّ مقاصِدِ السُّورة:

1- بَيانُ مَعالمِ التَّوحيدِ، وإقامةُ الأدلةِ عليه، وما لقِي الأنبياءُ في سبيلِ الدعوةِ إليه

.

2- إثباتُ المعادِ، وبيانُ الأدلَّةِ على وُقوعِه

موضوعات السورة :

من أهمِّ الموضوعاتِ التي اشتَمَلَتْ عليها السُّورةُ:

1- الإنذارُ بالبَعثِ، وتحقيقُ وُقوعِه.

2- ذِكرُ عَدَدٍ مِن الشُّبُهاتِ التي أثارها المُشرِكونَ حولَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودَعوتِه، والرَّدُّ عليها.

3- تسليةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عمَّا قاله المُشرِكونَ في شأنِه.

4- التَّذكيرُ بما أصاب الأُمَمَ السَّالِفةَ مِن جرَّاءِ تَكذيبِهم رُسُلَهم.

5- إقامةُ الأدِلَّةِ على وَحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وعلى شُمولِ قُدرتِه.

6- ذِكْرُ أخبارِ بَعضِ الأنبياءِ، ومنهم موسى وهارونُ، وإبراهيمُ ولُوطٌ، وإسحاقُ ويَعقوبُ، ونوحٌ، وأيُّوبُ، وداودُ، وسُلَيمانُ، وإسماعيلُ، وإدريسُ، ويُونُسُ، وزكريَّا -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ.

7- تعقيبُ أخبارِ الأنبياءِ بالمقصودِ الأساسيِّ مِن رِسالتِهم، وهو دَعوةُ النَّاسِ جميعًا إلى إخلاصِ العبادةِ لله.

8- ذِكرُ بَعضِ أشراطِ السَّاعةِ، وشَيءٍ من أهوالِها، وأحوالِ النَّاسِ فيها.

9- خُتِمَت السُّورةُ بالحَديثِ عن سُنَّةٍ مِن سُنَنِ اللهِ التي لا تتخَلَّفُ، وهي أنَّ العاقِبةَ للمُؤمِنينَ؛ والحديثِ عن رِسالةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعن مَوقِفِه من أعدائِه.

سورةُ الأنْبياءِ


سورة الانبياء

 

سورة الأنبياء مكية | رقم السورة: 21 - عدد آياتها : 112 عدد كلماتها : 1,174 

- اسمها بالانجليزي : The Prophets

 

سورة الأنبياء مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ (1) مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ (2) لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلۡ هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡۖ أَفَتَأۡتُونَ ٱلسِّحۡرَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعۡلَمُ ٱلۡقَوۡلَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ (4) بَلۡ قَالُوٓاْ أَضۡغَٰثُ أَحۡلَٰمِۭ بَلِ ٱفۡتَرَىٰهُ بَلۡ هُوَ شَاعِرٞ فَلۡيَأۡتِنَا بِـَٔايَةٖ كَمَآ أُرۡسِلَ ٱلۡأَوَّلُونَ (5) مَآ ءَامَنَتۡ قَبۡلَهُم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَآۖ أَفَهُمۡ يُؤۡمِنُونَ (6) وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسۡـَٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلۡنَٰهُمۡ جَسَدٗا لَّا يَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقۡنَٰهُمُ ٱلۡوَعۡدَ فَأَنجَيۡنَٰهُمۡ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهۡلَكۡنَا ٱلۡمُسۡرِفِينَ (9) لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (10) وَكَمۡ قَصَمۡنَا مِن قَرۡيَةٖ كَانَتۡ ظَالِمَةٗ وَأَنشَأۡنَا بَعۡدَهَا قَوۡمًا ءَاخَرِينَ (11) فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأۡسَنَآ إِذَا هُم مِّنۡهَا يَرۡكُضُونَ (12) لَا تَرۡكُضُواْ وَٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰ مَآ أُتۡرِفۡتُمۡ فِيهِ وَمَسَٰكِنِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡـَٔلُونَ (13) قَالُواْ يَٰوَيۡلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلۡكَ دَعۡوَىٰهُمۡ حَتَّىٰ جَعَلۡنَٰهُمۡ حَصِيدًا خَٰمِدِينَ (15) وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا لَٰعِبِينَ (16) لَوۡ أَرَدۡنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهۡوٗا لَّٱتَّخَذۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَٰعِلِينَ (17) بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسۡتَحۡسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفۡتُرُونَ (20) أَمِ ٱتَّخَذُوٓاْ ءَالِهَةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ هُمۡ يُنشِرُونَ (21) لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسۡـَٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ وَهُمۡ يُسۡـَٔلُونَ (23) أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡۖ هَٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِيَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِيۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ (24) وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ (25) وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ (26) لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ (27) يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ (28) ۞وَمَن يَقُلۡ مِنۡهُمۡ إِنِّيٓ إِلَٰهٞ مِّن دُونِهِۦ فَذَٰلِكَ نَجۡزِيهِ جَهَنَّمَۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّٰلِمِينَ (29) أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ (30) وَجَعَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ وَجَعَلۡنَا فِيهَا فِجَاجٗا سُبُلٗا لَّعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ (31) وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ سَقۡفٗا مَّحۡفُوظٗاۖ وَهُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهَا مُعۡرِضُونَ (32) وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ (34) كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةٗۖ وَإِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ (35) وَإِذَا رَءَاكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا ٱلَّذِي يَذۡكُرُ ءَالِهَتَكُمۡ وَهُم بِذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ هُمۡ كَٰفِرُونَ (36) خُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ مِنۡ عَجَلٖۚ سَأُوْرِيكُمۡ ءَايَٰتِي فَلَا تَسۡتَعۡجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (38) لَوۡ يَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمۡ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ (39) بَلۡ تَأۡتِيهِم بَغۡتَةٗ فَتَبۡهَتُهُمۡ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ (40) وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبۡلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنۡهُم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (41) قُلۡ مَن يَكۡلَؤُكُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحۡمَٰنِۚ بَلۡ هُمۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِم مُّعۡرِضُونَ (42) أَمۡ لَهُمۡ ءَالِهَةٞ تَمۡنَعُهُم مِّن دُونِنَاۚ لَا يَسۡتَطِيعُونَ نَصۡرَ أَنفُسِهِمۡ وَلَا هُم مِّنَّا يُصۡحَبُونَ (43) بَلۡ مَتَّعۡنَا هَٰٓؤُلَآءِ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۗ أَفَلَا يَرَوۡنَ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَآۚ أَفَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ (44) قُلۡ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلۡوَحۡيِۚ وَلَا يَسۡمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ (45) وَلَئِن مَّسَّتۡهُمۡ نَفۡحَةٞ مِّنۡ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَٰوَيۡلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ (46) وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡـٔٗاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَيۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ (47) وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ ٱلۡفُرۡقَانَ وَضِيَآءٗ وَذِكۡرٗا لِّلۡمُتَّقِينَ (48) ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَهُم مِّنَ ٱلسَّاعَةِ مُشۡفِقُونَ (49) وَهَٰذَا ذِكۡرٞ مُّبَارَكٌ أَنزَلۡنَٰهُۚ أَفَأَنتُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ (50) ۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ إِبۡرَٰهِيمَ رُشۡدَهُۥ مِن قَبۡلُ وَكُنَّا بِهِۦ عَٰلِمِينَ (51) إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَا هَٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيٓ أَنتُمۡ لَهَا عَٰكِفُونَ (52) قَالُواْ وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَٰبِدِينَ (53) قَالَ لَقَدۡ كُنتُمۡ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُمۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ (54) قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا بِٱلۡحَقِّ أَمۡ أَنتَ مِنَ ٱللَّٰعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمۡ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا۠ عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ ٱلشَّٰهِدِينَ (56) وَتَٱللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصۡنَٰمَكُم بَعۡدَ أَن تُوَلُّواْ مُدۡبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمۡ جُذَٰذًا إِلَّا كَبِيرٗا لَّهُمۡ لَعَلَّهُمۡ إِلَيۡهِ يَرۡجِعُونَ (58) قَالُواْ مَن فَعَلَ هَٰذَا بِـَٔالِهَتِنَآ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (59) قَالُواْ سَمِعۡنَا فَتٗى يَذۡكُرُهُمۡ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبۡرَٰهِيمُ (60) قَالُواْ فَأۡتُواْ بِهِۦ عَلَىٰٓ أَعۡيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡهَدُونَ (61) قَالُوٓاْ ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَٰذَا بِـَٔالِهَتِنَا يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ (62) قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا فَسۡـَٔلُوهُمۡ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ فَقَالُوٓاْ إِنَّكُمۡ أَنتُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمۡ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا هَٰٓؤُلَآءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَا يَضُرُّكُمۡ (66) أُفّٖ لَّكُمۡ وَلِمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (67) قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوٓاْ ءَالِهَتَكُمۡ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ (68) قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ (69) وَأَرَادُواْ بِهِۦ كَيۡدٗا فَجَعَلۡنَٰهُمُ ٱلۡأَخۡسَرِينَ (70) وَنَجَّيۡنَٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَا لِلۡعَٰلَمِينَ (71) وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ نَافِلَةٗۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا صَٰلِحِينَ (72) وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ (73) وَلُوطًا ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗا وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِي كَانَت تَّعۡمَلُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمَ سَوۡءٖ فَٰسِقِينَ (74) وَأَدۡخَلۡنَٰهُ فِي رَحۡمَتِنَآۖ إِنَّهُۥ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذۡ نَادَىٰ مِن قَبۡلُ فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَنَجَّيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِيمِ (76) وَنَصَرۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمَ سَوۡءٖ فَأَغۡرَقۡنَٰهُمۡ أَجۡمَعِينَ (77) وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡكُمَانِ فِي ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِيهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ (78) فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ (79) وَعَلَّمۡنَٰهُ صَنۡعَةَ لَبُوسٖ لَّكُمۡ لِتُحۡصِنَكُم مِّنۢ بَأۡسِكُمۡۖ فَهَلۡ أَنتُمۡ شَٰكِرُونَ (80) وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةٗ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦٓ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيۡءٍ عَٰلِمِينَ (81) وَمِنَ ٱلشَّيَٰطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُۥ وَيَعۡمَلُونَ عَمَلٗا دُونَ ذَٰلِكَۖ وَكُنَّا لَهُمۡ حَٰفِظِينَ (82) ۞وَأَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ (83) فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَكَشَفۡنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرّٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَذِكۡرَىٰ لِلۡعَٰبِدِينَ (84) وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِدۡرِيسَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰبِرِينَ (85) وَأَدۡخَلۡنَٰهُمۡ فِي رَحۡمَتِنَآۖ إِنَّهُم مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (86) وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (87) فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَٰلِكَ نُـۨجِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّآ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ رَبِّ لَا تَذَرۡنِي فَرۡدٗا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡوَٰرِثِينَ (89) فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَوَهَبۡنَا لَهُۥ يَحۡيَىٰ وَأَصۡلَحۡنَا لَهُۥ زَوۡجَهُۥٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ (90) وَٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَٰهَا وَٱبۡنَهَآ ءَايَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ (91) إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوٓاْ أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡۖ كُلٌّ إِلَيۡنَا رَٰجِعُونَ (93) فَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا كُفۡرَانَ لِسَعۡيِهِۦ وَإِنَّا لَهُۥ كَٰتِبُونَ (94) وَحَرَٰمٌ عَلَىٰ قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَآ أَنَّهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ (95) حَتَّىٰٓ إِذَا فُتِحَتۡ يَأۡجُوجُ وَمَأۡجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٖ يَنسِلُونَ (96) وَٱقۡتَرَبَ ٱلۡوَعۡدُ ٱلۡحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَٰخِصَةٌ أَبۡصَٰرُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَٰوَيۡلَنَا قَدۡ كُنَّا فِي غَفۡلَةٖ مِّنۡ هَٰذَا بَلۡ كُنَّا ظَٰلِمِينَ (97) إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَٰرِدُونَ (98) لَوۡ كَانَ هَٰٓؤُلَآءِ ءَالِهَةٗ مَّا وَرَدُوهَاۖ وَكُلّٞ فِيهَا خَٰلِدُونَ (99) لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَهُمۡ فِيهَا لَا يَسۡمَعُونَ (100) إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ (101) لَا يَسۡمَعُونَ حَسِيسَهَاۖ وَهُمۡ فِي مَا ٱشۡتَهَتۡ أَنفُسُهُمۡ خَٰلِدُونَ (102) لَا يَحۡزُنُهُمُ ٱلۡفَزَعُ ٱلۡأَكۡبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ هَٰذَا يَوۡمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ (103) يَوۡمَ نَطۡوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلۡكُتُبِۚ كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ (104) وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَٰغٗا لِّقَوۡمٍ عَٰبِدِينَ (106) وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ (107) قُلۡ إِنَّمَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ (108) فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ ءَاذَنتُكُمۡ عَلَىٰ سَوَآءٖۖ وَإِنۡ أَدۡرِيٓ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٞ مَّا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡتُمُونَ (110) وَإِنۡ أَدۡرِي لَعَلَّهُۥ فِتۡنَةٞ لَّكُمۡ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ (111) قَٰلَ رَبِّ ٱحۡكُم بِٱلۡحَقِّۗ وَرَبُّنَا ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (112)

تفسير الآيات (1-5)

ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ (1) مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ (2) لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلۡ هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡۖ أَفَتَأۡتُونَ ٱلسِّحۡرَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعۡلَمُ ٱلۡقَوۡلَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ (4) بَلۡ قَالُوٓاْ أَضۡغَٰثُ أَحۡلَٰمِۭ بَلِ ٱفۡتَرَىٰهُ بَلۡ هُوَ شَاعِرٞ فَلۡيَأۡتِنَا بِـَٔايَةٖ كَمَآ أُرۡسِلَ ٱلۡأَوَّلُونَ (5)

غريب الكلمات:

مُحْدَثٍ: أي: مُجَدَّدٍ إنزالُه، والمُحدَثُ: ما أُوجِدَ بعدَ أنْ لم يكُنْ، وذلك إمَّا في ذاتِه، أو إحداثِه عندَ مَن حَصَلَ عندَه، وأصلُ (حدث): يدلُّ على كَونِ الشَّيءِ لم يكُنْ لَاهِيَةً: أي: غافِلةً وساهيةً، وأصل (لهو): يدُلُّ على شُغلٍ عن شَيءٍ .

النَّجْوَى: أي: السِّرارَ والمُناجاةَ، وأصلُ (نجو) هنا: يدلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ .

أَضْغَاثُ: أي: أخلاطُ، وأضغاثُ الأحلامِ: هي ما لا تأويلَ له مِنَ الرُّؤيا، كأنَّه جماعاتٌ تُجمَعُ مِن الرُّؤيا كما يُجمَعُ الحَشيشُ، وأصلُ (ضغث): يدُلُّ على التباسِ الشَّيءِ بَعضِه ببَعضٍ

 

مشكل الإعراب


قولُه تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ

في محلِّ الَّذِينَ أوجهٌ، منها:

الوجهُ الأول: الرفعُ، وذلك على أنَّه بدلٌ مِن واوِ (أَسَرُّوا). أو أن يكونَ (الذين) مبتدأً، و(أَسَرُّوا) جملةَ الخبرِ، قُدِّمَتْ على المبتدأ. أو أنَّه خبرُ مبتدأٍ مضمَرٍ، تقديرُه: هم الذين ظلموا.

الوجهُ الثاني: النَّصبُ على الذمِّ. أو على إضمارِ (أعني). وقيل غير ذلك.

قولُه: هَلْ هَذَا جملةٌ في محلِّ نصبٍ بدَلٌ من النَّجْوَى؛ لأنَّه في الواقِعِ هو الكلامُ الذي تناجَوا به. أو في محلِّ نصبٍ بإضمار القَولِ. أو في محلِّ نصبٍ على أنها محكيَّةٌ بالنجوى؛ لأنَّها في معنى القَولِ، أو لا محلَّ لها تفسيريَّةٌ للنَّجوى

المعنى الإجمالي:

 

يقول الله تعالى: قَرُبَ وَقتُ حِسابِ النَّاسِ على ما قدَّموا مِن عَمَلٍ، والحالُ أنَّهم لاهُونَ غافِلونَ مُعرِضونَ عن هذا الإنذارِ؛ وذلك أنَّهم ما مِن شَيءٍ يُستحدَثُ نُزولُه مِن القُرآنِ إلَّا كان سَماعُهم له سَماعَ لَعِبٍ واستِهزاءٍ، وقلوبُهم غافِلةٌ عن القُرآنِ الكريمِ، مَشغولةٌ بالدُّنيا وشَهواتِها. وأسَرَّ مُشرِكو قُريشٍ المناجاةَ فيما بينهم، قائلًا بعضُهم لبعضٍ: هل هذا الذي يَزعُمُ أنَّه رَسولٌ مِن اللهِ إليكم إلَّا بَشَرٌ مِثلُكم، وما القُرآنُ الذي جاء به إلَّا سِحرٌ، فكيف تجيئونَ إليه وتتَّبِعونَه مع عِلمِكم وإدراكِكم أنَّه سِحرٌ؟!

فردَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الكُفَّارِ المكَذِّبينَ، فقال: ربِّي يعلَمُ كلَّ قَولٍ في السَّماءِ والأرضِ، ويعلَمُ ما أسرَرْتُموه وما أعلَنتُموه، وهو السَّميعُ العَليمُ.

بل جحَدَ الكُفَّارُ القُرآنَ، وقالوا: إنَّه أخلاطُ أحلامٍ لا حَقيقةَ لها، بل هو اختِلاقٌ وكَذِبٌ مفترًى، بل إنَّ مُحمَّدًا شاعرٌ، جاءَكم بشِعرٍ، فلْيَجِئْنا بمُعجِزةٍ مَحسوسةٍ -كناقةِ صالحٍ، وعصا موسى- إنْ أراد منَّا أن نُصَدِّقَه ونؤمِنَ به.

تفسير الآيات:

 

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1).

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ.

أي: قَرُبَ

وقتُ حِسابِ النَّاسِ يومَ القيامةِ على أعمالِهم التي عَمِلوها في دُنياهم .

وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ.

أي: والحالُ أنَّهم في غفلةٍ في الدُّنيا عن اقترابِ حِسابِهم، وعمَّا يَفعَلُ اللهُ بهم في ذلك اليومِ، وقد أعرَضوا عن التفكُّرِ في الآخرةِ، وما ينتظرُهم فيها مِن الحسابِ، ولم يستعِدُّوا لها بالأعمالِ الصَّالحةِ !

مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ اللهُ سُبحانَه عن غَفلةِ الكافرينَ وإعراضِهم، عَلَّلَ ذلك بقَولِه :

مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2).

أي: ما يأتيهم مِن وَحيٍ من اللهِ حَديثِ النُّزولِ -لِتَذكيرِهم ومَوعِظتِهم- إلَّا استَمَعوه سَماعَ لَعِبٍ واستِهزاءٍ به، فلا يَعتَبِرونَ، ولا يتَّعظُونَ به .

كما قال تعالى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم: 59 - 61] .

لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3).

لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.

أي: غارِقةً قُلوبُهم في اللَّهوِ والغَفلةِ عن القرآنِ، مُتشاغِلةً بدُنياها وشَهَواتِها عن التأمُّلِ والتفَهُّمِ لِمَعانيه، فلا يتدَبَّرونَ حِكَمَه، ولا يتفَكَّرونَ فيما أودَعَ اللهُ فيه مِن الحُجَجِ والبراهينِ .

وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.

أي: وبالَغَ مُشرِكو قُرَيشٍ في إخفاءِ المناجاةِ فيما بيْنهم، فقال بعضُهم لِبَعضٍ: هل هذا الذي يَزعُمُ أنَّه رَسولٌ من اللهِ إليكم إلَّا إنسانٌ مِثلُكم في صُوَرِكم وخَلْقِكم، واحتياجِه للطعامِ والشَّرابِ وغَيرِ ذلك ؟!

كما قال تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] .

أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ.

أي: أفتَقبَلونَ مِن محمَّدٍ القُرآنَ، وتصَدِّقونَ به وتتَّبِعونَه، وأنتم تَعلَمونَ وتُدرِكونَ أنَّه سِحرٌ ؟!

كما قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الإسراء: 47، 48].

قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لما أورَدَ هذا الكلامَ عَقِيبَ ما حكَى عن الكافرينَ؛ وجَب أن يكونَ كالجوابِ لِما قالوه، فكأنَّه قال: إنَّكم وإنْ أخفيتُم قَولَكم وطَعْنَكم، فإنَّ ربِّي عالمٌ بذلك، وإنَّه مِن وَراءِ عقوبتِه، فتُوُعِّدوا بذلك؛ لكي لا يعودوا إلى مِثلِه .

وأيضًا لَمَّا كان اللهُ تعالى لا يُقِرُّ مَن كَذَبَ عليه، فضلًا عن أن يصَدِّقَه ويؤيِّدَه، ولا يخفَى عليه كيدٌ حتى يلزَمَ منه نَقصُ ما أرادَه؛ قال دالًّا لهم على صِدقِه، منبِّهًا على مَوضِعِ الحجَّةِ في أمرِه :

قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ: قَالَ على الخبَرِ، أي: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أجاب الكُفَّارَ بهذا القَولِ .

2- قراءةُ: قُلْ على الأمرِ، أي: أنَّ اللهَ أمرَ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُجيبَ الكُفَّارَ بهذا القَولِ .

قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

أي: قال محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للكفَّارِ الذين يكذِّبونَه: ربِّي يعلَمُ كلَّ قولٍ في السَّماءِ والأرضِ سِرًّا كان أو جَهرًا، لا يخفَى عليه شَيءٌ ممَّا يُقالُ فيهما، وهو الذي أنزَل هذا القُرآنَ المُشتَمِلَ على خبَرِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، الذي لا يستطيعُ أحدٌ أن يأتيَ بمِثلِه إلَّا الذي يعلَمُ السرَّ في السَّمواتِ والأرضِ .

كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 4 - 6].

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

أي: واللهُ هو السَّميعُ لكلِّ قولٍ في السَّماءِ والأرضِ، العليمُ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بأحوالِنا وما في قُلوبنا، وبالصَّادِقِ والكاذِبِ منَّا .

بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكر اللهُ تعالى عن الكافرينَ أنَّهم قالوا: إنَّ ما أتَى به سِحرٌ؛ ذكَرَ اضطرابَهم في مقالاتِهم، فذكَر أنَّهم أضرَبوا عن نسبةِ السِّحرِ إليه، وقالوا: ما يأتي به إنَّما هو أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، ثمَّ أضرَبوا عن هذا فقالوا: بَلِ افْتَرَاهُ، أي: اختَلَقَه وليس مِن عندِ الله، ثمَّ أضرَبوا عن هذا فقالوا: بَلْ هُوَ شَاعِرٌ، وهكذا المبطِلُ لا يَثبُتُ على قَولٍ، بل يبقى متحَيِّرًا .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان وَصْفُهم له بأنَّه سِحرٌ مِمَّا يَهولُ السَّامِعَ، ويَعلَمُ منه أنَّه مُعجِزٌ، فرُبَّما أدَّى إلى الاستِبصارِ في أمرِه؛ أخبَرَ أنَّهم نزَلوا به عن رُتبةِ السِّحرِ على سَبيلِ الإضرابِ، فقال :

بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ.

أي: بل قال الكافِرونَ: القرآنُ أشياءُ مُختَلِطةٌ رآها محمَّدٌ في منامِه ولا حقيقةَ لها، بل هو كذِبٌ افتراه محمَّدٌ مِن قِبَلِ نفْسِه، بل محمَّدٌ شاعِرٌ جاءكم بشِعرٍ، وزعم أنَّه مِن عندِ ربِّه !

فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ.

أي: قال الكافرونَ: فَلْيَأْتِنَا محمَّدٌ بمُعجِزةٍ حِسِّيَّةٍ تدُلُّ على صِدقِه، كما أيَدَّ اللهُ رُسُلَه السَّابقينَ بالمُعجِزاتِ؛ كناقةِ صالحٍ، وعصا موسى، ومعجزاتِ عيسى، وغيرِ ذلك من المعجزاتِ التي لا يَقدِرُ عليها إلَّا اللهُ، ولا يأتي بها إلَّا الأنبياءُ والرُّسُلُ عليهم السَّلامُ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ذكَرَ تعالى هذا الاقترابَ؛ لِما فيه مِن المصلحةِ للمُكَلَّفينَ، فيكونُ أقرَبَ إلى تلافي الذُّنوبِ، والتحَرُّزِ عنها خوفًا من ذلك

، فمَن عَلِمَ اقترابَ الساعةِ قَصُرَ أمَلُه، وطابت نفسُه بالتَّوبةِ، ولم يركَنْ إلى الدُّنيا، فكأنَّ ما كان لم يكُنْ إذا ذهب، وكلُّ آتٍ قَريبٌ، والموتُ لا محالةَ آتٍ، وموتُ كلِّ إنسانٍ قِيامُ ساعتِه، والقيامةُ أيضًا قريبةٌ بالإضافةِ إلى ما مضَى من الزَّمانِ، فما بقِي مِن الدُّنيا أقلُّ مِمَّا مضَى .

2- قَولُ الله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ذلك ذَمٌّ للكُفَّارِ، وزَجرٌ لِغَيرِهم عن مِثلِه؛ لأنَّ الانتفاعَ بما يُسمَعُ لا يكونُ إلَّا بما يَرجِعُ إلى القَلبِ مِن تدَبُّرٍ وتفَكُّرٍ، وإذا كانوا عندَ استماعِه لاعبينَ حَصَلوا على مجَرَّدِ الاستِماعِ الذي قد تُشارِكُ البهيمةُ فيه الإنسانَ

 

!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ إن قيل: ما وجهُ وصفِه بالاقتراب وقد مضَى لهذا الوعيدِ مئاتُ السنينَ ولم يقَعْ؟

فالجوابُ عنه بعدةِ أجوبةٍ:

أحدها: لقلةِ ما بقيَ بالإضافةِ إلى ما مضَى.

الثاني: لأنَّه آتٍ، وكلُّ آتٍ قريبٌ، وإنْ طالَتْ مُدَّتُه.

الثالث: أنَّه قريبٌ عندَ الله، وإن كان بعيدًا بالنسبةِ إلى غيرِه، قال الله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا

[المعارج:6، 7].

2- قَولُ الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ لم يعَيِّنِ الوقتَ؛ لأجْلِ أنَّ كِتمانَه أصلَحُ، كما أنَّ كِتمانَ وَقتِ المَوتِ أصلَحُ .

3- قَولُ الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ الفائِدةُ في تَسميةِ يَومِ القيامةِ بـ (يوم الحساب): أنَّ الحِسابَ هو الكاشِفُ عن حالِ المرءِ؛ فالخَوفُ مِن ذِكرِه أعظَمُ .

4- قوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ استدلَّ المعتزلةُ بوَصْفِ الذِّكْرِ بكونِه مُحْدَثًا على أَنَّ القرآنَ مُحْدَثٌ أي: مخلوقٌ؛ لأَنَّ الذِّكْرَ هنا هو القرآنُ.

والجواب: أنَّ المرادَ محدَثٌ تنزيلُه، والحدوثُ في لغةِ العربِ العامَّةِ ليس هو الحدوثَ في اصطلاحِ أهلِ الكلامِ؛ فإنَّ العربَ يُسمُّون ما تجدَّد حادِثًا .

5- وفي قولِه: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ أخبَرَ عنهم بخَبرينِ ظاهِرُهما التَّنافي؛ لأنَّ الغفلةَ عن الشَّيءِ والإعراضَ عنه مُتنافيانِ، لكنْ يُجْمَعُ بينَهما باختلافِ حالينِ: أخبَرَ عنهم أوَّلًا أنَّهم لا يتفكَّرونَ في عاقبةٍ، بل هم غافِلونَ عمَّا يَؤولُ إليه أمْرُهم، ثمَّ أخبَرَ عنهم ثانيًا أنَّهم إذا نُبِّهوا من سِنَةِ الغفلةِ، وذُكِّروا بما يَؤولُ إليه أمْرُ المُحسِنِ والمُسيءِ، أعْرَضوا عنه، ولم يُبالوا بذلك .

6- قَولُ الله تعالى: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ لَمَّا كان المُشرِكونَ يَصِفونَ القُرآنَ بجَميعِ هذه الأوصافِ جُملةً، يقولونَ لكُلِّ شَخصٍ ما رأَوه أنسَبَ له منها؛ نَبَّه اللهُ سُبحانَه كلَّ مَن له لُبٌّ على بُطلانِها كُلِّها بتناقُضِها بحَرفِ الإضرابِ؛ إشارةً إلى أنَّه كان يجِبُ على مَن قالها على قِلَّةِ عَقْلِه وعَدَمِ حَيائِه ألَّا يَنتَقِلَ إلى قَولٍ منها إلَّا بعد الإعراضِ عن الذي قَبلَه، وأنَّه مِمَّا يُضرَبُ عنه؛ لِكَونِه غَلَطًا، ما قيل إلَّا عن سَبْقِ لِسانٍ وعَدَمِ تأمُّلٍ؛ سَترًا لعِنادِه، وتَدليسًا لِفُجورِه! ولو فعل ذلك لكانت جَديرةً بانكشافِ بُطلانِها بمُجَرَّدِ الانتِقالِ، فكيف عند اجتِماعِها؟ ولَمَّا كانت نِسبتُه إلى الشِّعرِ أضعَفَها شأنًا، وأوضَحَها بُطلانًا؛ لم يحتَجْ إلى إضرابٍ عنه .

7- في قولِهم: كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ دَلالةٌ على مَعرفتِهم بإتيانِ الرُّسلِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ

- قولُه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ أُسلوبٌ بديعٌ في الافتتاحِ؛ لِمَا فيه من غَرابةِ الأسلوبِ، وإدخالِ الرَّوعِ على المُنذَرينَ؛ فإنَّ المُرادَ بالنَّاسِ مُشْرِكو مكَّةَ -على قولٍ في التفسيرِ-، واقْتَرَبَ فيه مُبالَغةٌ في القُرْبِ، فصِيغَةُ الافتعالِ الموضوعةُ للمُطاوَعةِ مُستعمَلةٌ في تَحقُّقِ الفعلِ، أي: اشتَدَّ قُرْبُ وُقوعِه بهم

.

- وفي قولِه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ أسنَدَ الاقترابَ إلى الحسابِ لا إلى السَّاعةِ، مع استتباعِها له ولسائرِ ما فيها من الأحوالِ والأهوالِ الفظيعةِ؛ لانسياقِ الكلامِ إلى بَيانِ غفْلتِهم عنه، وإعراضِهم عمَّا يُذكِّرُهم ذلك. واللَّامُ في لِلنَّاسِ مُتعلِّقةٌ بالفعْلِ، وتَقديمُها على الفاعلِ؛ للمُسارَعةِ إلى إدخالِ الرَّوعةِ؛ فإنَّ نِسْبةَ الاقترابِ إليهم مِن أوَّلِ الأمْرِ ممَّا يَسوؤُهم ويُورِثُهم رَهْبةً وانزِعاجًا من المُقترِبِ. وفي إسنادِ الاقترابِ المُنْبِئِ عن التَّوجُّهِ نحْوَهم إلى الحسابِ -مع إمكانِ العكْسِ بأنْ يُعتبرَ التَّوجُّهُ والإقبالُ من جِهَتِهم نحْوَه- من تَفخيمِ شأْنِه، وتَهويلِ أمْرِه ما لا يَخْفى؛ لِمَا فيه من تَصويرِه بصُورةِ شَيءٍ مُقبِلٍ عليهم، لا يَزالُ يُطالِبُهم ويُصيبُهم لا مَحالةَ

.

- قولُه: لِلنَّاسِ المُرادُ به المُشرِكونَ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ فيكونُ هذا من إطلاقِ اسمِ الجنْسِ على بعْضِه للدَّليلِ القائمِ، وهو ما يَتْلوه من صِفاتِ المُشرِكين

.

- والضَّميرُ في قولِه: حِسَابُهُمْ عائدٌ إلى النَّاسِ؛ فصار قولُه: لِلنَّاسِ مُساوِيًا للضَّميرِ الَّذي أُضِيفَ إليه (حِساب)، فكأنَّه قيل: اقترَبَ حِسابٌ للنَّاسِ لهم؛ فكان تأْكيدًا لفظيًّا، وأصْلُ النَّظمِ: اقترَبَ للنَّاسِ الحسابُ. وإنَّما نُظِمَ التَّركيبُ على هذا النَّظمِ بأنْ قُدِّمَ ما يدُلُّ على المُضافِ إليه، وعُرِّفَ النَّاسُ تَعريفَ الجنْسِ؛ ليَحصُلَ ضَرْبٌ من الإبهامِ، ثمَّ يقَعَ بعْدَه التَّبيينُ. ولِمَا في تَقديمِ الجارِّ والمجرورِ من الاهتمامِ بأنَّ الاقترابَ للنَّاسِ؛ لِيَعْلمَ السَّامِعُ أنَّ المُرادَ تَهديدُ المُشرِكينَ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ لأنَّهم الَّذين يُكنى عنهم بالنَّاسِ كثيرًا في القُرآنِ، وعند التَّقديمِ احتِيجَ إلى تَقديرِ مُضافٍ، فصار مثْلَ: اقترَبَ حِسابٌ للنَّاسِ الحساب، وحُذِفَ المُضافُ؛ لدَلالةِ مُفسِّرِه عليه، ولمَّا كان الحِسابُ حِسابَ النَّاسِ المذكورينَ، جِيءَ بضَميرِ النَّاسِ؛ ليَعودَ إلى لفْظِ النَّاسِ، فيَحْصُلَ تأكيدٌ آخرُ، وهذا نمَطٌ بديعٌ من نسْجِ الكلامِ

.

- ودلَّتْ (في) في قولِه: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ على الظَّرفيَّةِ الَّتي هي شِدَّةُ تَمكُّنِ الوصْفِ منهم، أي: وهم غافِلونَ أشَدَّ الغَفْلةِ، حتَّى كأنَّهم مُنْغمِسون فيها، أو مَظْروفونَ في مُحيطِها؛ ذلك أنَّ غفْلَتَهم عن يومِ الحسابِ مُتأصِّلةٌ فيهم؛ بسَببِ سابِقِ كُفْرِهم

.

2- قوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ

- جُملةُ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ ... مُبيِّنةٌ لجُملةِ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ؛ لبَيانِ تَمكُّنِ الغَفْلةِ منهم وإعراضِهم، بأنَّهم إذا سَمِعوا في القُرآنِ تَذكيرًا لهم بالنَّظرِ والاستِدلالِ، اشْتَغلوا عنه باللَّعبِ واللَّهوِ، فلمْ يَفْقهوا معانِيَه، وكان حَظُّهم منه سَماعَ ألْفاظِه

.

- والذِّكرُ: القُرآنُ؛ أُطْلِقَ عليه اسْمُ الذِّكرِ الَّذي هو مصدرٌ؛ لإفادةِ قُوَّةِ وصْفِه بالتَّذكيرِ

.

- و(مِن) في قولِه: مِنْ رَبِّهِمْ لابتداءِ الغايةِ مُتعلِّقةٌ بـ يَأْتِيهِمْ، أو بمَحذوفٍ هو صِفَةٌ لـ ذِكْرٍ، وفي ذلك دَلالةٌ على فضْلِه وشَرفِه، وكَمالِ شَناعةِ ما فَعَلوا به. والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ؛ لتَشديدِ التَّشنيعِ

.

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ، وقال في (الشُّعراءِ): وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ [الشعراء: 5] ، فخُصَّتْ هذه السُّورة بقولِه: مِنْ رَبِّهِمْ بالإضافةِ؛ ووجْهُه: أنَّ هذينِ الاسمينِ العَظيمينِ -(الرَّب) و(الرَّحمن)- توارَدَا في الكتابِ العزيزِ كثيرًا، ثمَّ إنَّ اسْمَه سُبحانه (الرَّحمنَ) يَغلِبُ وُرودُه حيث يُرادُ الإشارةُ إلى العفْوِ والإحسانِ والرِّفقِ بالعبادِ والتَّلطُّفِ والتَّأنيسِ. وأمَّا اسْمُه (الرَّبُّ) فيَعُمُّ وُرودُه طَرفَيِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ؛ أمَّا التَّرغيبُ فبَيِّنٌ، وأمَّا التَّرهيبُ فحيث يَرِدُ معنى مِلْكيَّتِه سُبحانه لهم، وانفرادِه بإيجادِهم، وإدرارِ أرزاقِهم، وبَيانِ انفرادِه تعالى بذلك وهم على كُفرِهم. ولمَّا تقدَّمَ قبْلَ آيةِ (الأنبياءِ) مِن الأخبارِ ما طَيُّه وعيدٌ وترهيبٌ معَ تَلطُّفِه سُبحانه بهم بتَذكيرِهم، لم يكُنْ لِيُناسِبَ ذلك وُرودُ اسْمِه (الرَّحمنِ). أمَّا آيةُ (الشُّعراءِ) فمَبْنيَّةٌ على تأْنيسِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإعلامِه أنَّ توقُّفَ قومِه عن الإيمانِ إنَّما هو بقُدرتِه تعالى عليهم، ولو شاء لأراهم آيةً تُبْهِرُهم، ثمَّ رجَعَ الكلامُ إلى تَعنيفِ المُكذِّبينَ، فلمَّا كان بِناءُ الآيةِ على التَّأنيسِ والتَّلطُّفِ بِنَبيِّنا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإعلامِه بأنَّ تأْخيرَ العذابِ عنهم إنَّما هو إبقاءٌ منه تعالى؛ ليَسْتجيبَ مَن قُدِّرَ له الإيمانُ منهم، فأشار إلى هذا، وناسبَهُ اسْمُه (الرَّحمنُ)؛ فوضَحَ وُرودُ كلٍّ من الآيتينِ في مَوضعِه على يُناسِبُ

. وقيل غيرُ ذلك

.

- قولُه: مُحْدَثٍ فيه كِنايةٌ عن عدَمِ انتفاعِهم بالذِّكْرِ كلَّما جاءهم، بحيث لا يَزالونَ بحاجةٍ إلى إعادةِ التَّذكيرِ وإحداثِه، مع قطْعِ مَعذرتِهم؛ لأنَّه لو كانوا سَمِعوا ذِكْرًا واحدًا، فلم يَعْبؤوا به، لَانتَحَلوا لأنفُسِهم عُذرًا أنَّهم كانوا ساعتَئذٍ في غَفلةٍ، فلمَّا تكرَّرَ حَدثانُ إتيانِهِ تبيَّنَ لكلِّ مُنصِفٍ أنَّهم مُعرِضون عنه صَدًّا

.

- وجُملةُ: اسْتَمَعُوهُ حالٌ من ضَميرِ النَّصبِ في يَأْتِيهِمْ، وجُملةُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ حالٌ لازمةٌ من ضَميرِ الرَّفعِ في اسْتَمَعُوهُ مُقيِّدةٌ لجُملةِ اسْتَمَعُوهُ؛ لأنَّ جُملةَ اسْتَمَعُوهُ حالٌ باعتبارِ أنَّها مُقيَّدةٌ بحالٍ أُخرى هي المقصودةُ من التَّقييدِ، وإلَّا لصارَ الكلامُ ثَناءً عليهم. وفائدةُ هذا التَّرتيبِ بين الجُملتينِ الحاليَّتينِ: الزِّيادةُ لقطْعِ مَعذرتِهم المُستفادِ من قولِه: مُحْدَثٍ

.

- وقوله: وَهُمْ يَلْعَبُونَ ذُكِرَ (اللَّعِبُ) مُقَدَّمًا على (اللَّهوِ) في قوله : لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ كما في قولِه تعالى: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [مُحمَّد: 36]؛ تنبيهًا على أنَّ اشتِغالَهم باللَّعِبِ -الذي معناه السُّخريةُ والاستِهزاءُ- معلَّلٌ باللَّهوِ، الذي معناه الذُّهولُ والغَفلةُ؛ فإنَّهم أقدَموا على اللَّعِبِ لِلَهْوِهم وُذهولِهم عن الحقِّ

.

3- قوله تعالى: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ

- قولُه: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ احتراسٌ لجُملةِ اسْتَمَعُوهُ، أي: استماعًا لا وعْيَ معه

، وأفاد قولُه: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أنَّهم ذاهِلونَ غافِلونَ عن ذلك؛ فنَفى آخِرُ الكلامِ ما أثبَتَهُ أوَّلًا على سَبيلِ التَّوكيدِ؛ ليُؤْذِنَ بأنَّهم لمَّا لم يَنْتفِعوا بذلك الاستِماعِ والتَّفطُّنِ، حيث اسْتَهزؤوا بالذِّكْرِ، كأنَّهم لم يَفْطَنوا أصْلًا، وثَبَتوا على رأْسِ غَفلتِهم

.

- قولُه: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ... كَلامٌ مُستأْنَفٌ مَسوقٌ لبَيانِ جِناياتِهم خاصَّةً إثْرَ حِكايةِ جِناياتِهم المُعتادةِ

، ويجوزُ أنْ تكونَ عطْفًا على جُملةِ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ؛ لأنَّ كِلْتا الجُملتينِ مَسوقةٌ لذِكْرِ أحوالِ تلقِّي المُشركينَ لدَعوةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتَّكذيبِ والبُهتانِ والتَّآمُرِ على رفْضِها

.

- وفي قولِه: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا عبَّرَ بقولِه: وَأَسَرُّوا، مع أنَّ النَّجوى الَّتي هي التَّناجي لا تكونُ إلَّا خُفْيةً ومُسارَّةً؛ وذلك لأنَّهم بالَغوا في إخفاءِ المُسارَّةِ، أو جَعَلوها بحيث لا يَفْطَنُ أحدٌ لتَناجِيهم، ولا يعلَمُ أنَّهم مُتناجُونَ. وعلى وجهِ إبدالِ الَّذِينَ ظَلَمُوا من واوِ وَأَسَرُّوا؛ فيكونُ ذلك إشْعارًا بأنَّهم المَوسومونَ بالظُّلمِ الفاحشِ فيما أسَرُّوا به، ولزيادةِ تَقريرِ أنَّهم المقصودُ من النَّجوى، ولِمَا في الموصولِ الَّذِينَ ظَلَمُوا من الإيماءِ إلى سبَبِ تَناجيهم بما ذُكِرَ، وأنَّ سبَبَ ذلك كُفْرُهم وظُلْمُهم أنفُسَهم، وللنِّداءِ على قُبْحِ ما هم مُتَّصِفون به. وعلى وجْهِ أنَّه مُبتدأٌ خبَرُه وَأَسَرُّوا النَّجْوَى فيكونُ قُدِّمَ عليه اهْتِمامًا به، أي: وهؤلاء أسَرُّوا النَّجوى؛ فوضَعَ المُظْهَرَ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ تَسجيلًا على فِعْلِهم بأنَّه ظُلْمٌ

.

- قولُه: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ مفعولٌ لقولٍ مُضْمَرٍ هو جوابٌ عن سُؤالٍ نشَأَ عمَّا قبْلَه؛ كأنَّه قِيلَ: ماذا قالوا في نَجْواهم؟ فقيل: قالوا: هَلْ هَذَا...

، وهو استفهامٌ معناهُ التَّعجُّبُ والإنكارُ يَقْتضي أنَّهم خاطَبوا مَن قارَبَ أنْ يُصدِّقَ بنُبوَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: فكيفَ تُؤمِنون بنُبوَّتِه وهو أحدٌ منكم؟! وإنكارُهم وتَعجُّبُهم مِن حيثُ كانوا يَرَون أنَّ اللهَ لا يُرسِلُ إلَّا مَلَكًا

.

- قولُه: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ استفهامٌ معناه الإنكارُ والتَّوبيخُ، والفاءُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المَقامُ

.

- قولُه: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي: تأْتونَ السِّحرَ وبصَرُكم سليمٌ، وأرادوا به العِلْمَ البَديهيَّ، فعبَّروا عنه بالبصَرِ؛ لأنَّ المُبْصَراتِ لا يَحتاجُ إدراكُها إلى تَفكيرٍ

. وهذه الجُملةُ حالٌ من فاعلِ (تَأْتُونَ)، مُقرِّرةٌ للإنكارِ، ومُؤكِّدةٌ للاستبعادِ

.

4- قوله تعالى: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

- في قولِه: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لم يقُلْ: (يَعلَمُ السِّرَّ) مُوافقةً لقولِه: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، وإنَّما أُوثِرَ القولُ المُنتظِمُ للسِّرِّ والجهْرِ على السِّرِّ؛ لإثباتِ عِلْمِه تعالى بالسِّرِّ على النَّهجِ البُرهانيِّ، مع ما فيه مِن الإيذانِ بأنَّ عِلْمَه تعالى بالسِّرِّ والجهْرِ على وَتيرةٍ واحدةٍ، لا تفاوُتَ بينهما بالجَلاءِ والخفاءِ قطْعًا كما في عُلومِ الخلْقِ، ولأنَّ القولَ عامٌّ يَشمَلُ السِّرَّ والجهْرَ، فكانَ في الإخبارِ بعلمِه القولَ عِلمُ السِّرِّ وزيادةٌ، وكان آكَدَ في الاطِّلاعِ على نَجواهُم مِن أنْ يقولَ: (يعلَمُ سِرَّهم)، ثمَّ بيَّنَ ذلك بأنَّه السَّميعُ العليمُ؛ فكيف تَخْفى عليه خافيةٌ؟! وقد تُرِكَ هذا الآكَدُ في سُورةِ (الفُرقانِ) في قولِه: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 6] ؛ لأنَّه ليس بواجبٍ أنْ يَجِيءَ بالآكَدِ في كلِّ مَوضِعٍ، ولكنْ يَجِيءُ بالوكيدِ تارَةً وبالآكَدِ أُخْرى، كما يَجِيءُ بالحسَنِ في مَوضعٍ وبالأحْسنِ في غيرِه؛ لِيَفْتَنَّ في الكلامِ افْتِنانًا، وتُجْمَعَ الغايةُ وما دُونَها، على أنَّ أُسلوبَ تلك الآيةِ خِلافُ أُسلوبِ هذه، مِن قِبَلِ أنَّه قدَّمَ هاهنا أنَّهم أسَرُّوا النَّجوى، فكأنَّه أراد أنْ يقولَ: إنَّ ربِّي يَعلَمُ ما أسَرُّوهُ، فوضَعَ القولَ مَوضِعَ ذلك للمُبالَغةِ، وهناك في (الفُرقانِ) قصَدَ وصْفَ ذاتِه بأنْ أنزَلَه الَّذي يعلَمُ السِّرَّ في السَّمواتِ والأرضِ، فهو كقولِه: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ

[سبأ: 3] . وقيل: لم يقُل: (يعلمُ السِّرَّ)؛ لمراعاةِ العِلمِ بأنَّ الذي قالوه مِن قَبيلِ السِّرِّ، وأنَّ إثباتَ عِلمِه بكلِّ قَولٍ يقتضي إثباتَ عِلمِه بالسِّرِّ وغَيرِه، بناءً على متعارَفِ النَّاسِ، وأمَّا قَولُه في سورة (الفرقان): قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 6] فلم يتقَدَّمْ قَبلَه ذِكرٌ للإسرارِ، وكان قَولُ الذين كفروا: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ [الفرقان: 4] صادِرًا منهم تارةً جهرًا وتارةً سِرًّا، فأعلمهم اللهُ باطِّلاعِه على سِرِّهم، ويُعلَمُ منه أنَّه مطَّلِعٌ على جَهرِهم بطريقةِ الفَحوى

.

- و(أل) في الْقَوْلَ للاستغراقِ، أي: يَعلَمُ كلَّ قولٍ في السَّماءِ والأرضِ من جَهْرٍ أو سِرٍّ؛ وبذلك كان هذا تَذييلًا

.

- وقولُه: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه، مُتضمِّنٌ للوعيدِ .

5- قولُه تعالى: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ

- قولُه: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ جوابُ شَرْطٍ مَحذوفٍ، يُفصِحُ عنه السِّياقُ؛ كأنَّه قيلَ: وإنْ لم يكُنْ كما قُلْنا، بل كان رَسولًا مِنَ اللهِ تعالى، فلْيأتِنا بآيةٍ. ودخلَتْ لامُ الأمْرِ على فِعْلِ الغائبِ؛ لمَعْنى إبلاغِ الأمْرِ إليه، أي: فقُولوا له: ائتِنَا بآيةٍ

.

- والتَّشبيهُ في قولِه: كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ في مَوضعِ الحالِ من ضَميرِ فَلْيَأْتِنَا، أي: حالةُ كونِ هذا البشَرِ حين يأْتي بالآيةِ يُشبِهُ رِسالتُه رِسالةَ الأوَّلينَ، والمُشبَّهُ ذاتٌ والمُشبَّهُ به معنى الرِّسالةِ، وذلك واسعٌ في كَلامِ العربِ، وصِحَّةُ التشبيهِ مِن حيثُ إنَّ الإرسالَ يَتضمَّنُ الإتيانَ بالآيةِ. ويجوزُ أنْ يُحمَلَ النَّظمُ الكريمُ على أنَّه أُرِيدَ كلُّ واحدٍ من الإتيانِ والإرسالِ في كلِّ واحدٍ من طَرفَيِ التَّشبيهِ، لكنَّه تُرِكَ في جانبِ المُشبَّهِ ذِكْرُ الإرسالِ، وتُرِكَ في جانبِ المُشبَّهِ به ذِكْرُ الإتيانِ؛ اكتفاءً بما ذُكِرَ في كلِّ مَوطنٍ عمَّا تُرِكَ في الموطنِ الآخَرِ

.

- وقيل: التعبيرُ في حقِّه بالإتيانِ، والعدولُ عن الظاهرِ فيما بعدَه إيماءٌ إلى أنَّ ما أتَى به مِن عندِه، وما أتَى به الأوَّلونَ مِن الله؛ ففيه تعريضٌ مناسبٌ لِما قبلَه مِن الافتراءِ .

=======================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (6-10)

ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ اللهُ تعالى: ما آمَنَ قبلَ كُفَّارِ مكَّةَ مِن أهلِ قَريةٍ اقتَرَحوا على رسُلِهم الآياتِ، ثمَّ كذَّبوا بها لَما جاءتهم، فأهلَكْناهم، أفيُؤمِنُ كُفَّارُ مكَّةَ إذا تحقَّقَت المُعجِزاتُ التي طَلَبوها؟

ثمَّ أجابَ اللهُ عن استِنكارِهم أن يكونَ الرَّسولُ بَشَرًا مِثلَهم، بأنَّ هذا هو العَهدُ دائِمًا مع الرُّسُلِ السَّابِقينَ، فقال: وما أرسَلْنا قَبلَك -يا محمَّدُ- إلَّا رِجالًا مِن البشَرِ لا مِن الملائكةِ، نُوحي إليهم. فاسألوا -يا كُفَّارَ مكَّةَ- أهلَ العِلمِ بالكُتُبِ المنَزَّلةِ السَّابِقةِ، إنْ كنتُم لا تعلَمونَ ذلك.

ثمَّ أكَّد الله تعالى حقيقةَ كونِ الرُّسلِ مِن البشرِ، فقال: وما جعَلْنا أولئك المُرسَلينَ قَبلَك أجسادًا لا يأكُلونَ الطَّعامَ، وما كانوا خالدينَ لا يموتونَ! ثمَّ صَدَقْنا الأنبياءَ وأتباعَهم ما وعَدْناهم به مِن النَّصرِ والنَّجاةِ، وإهلاكِ أعدائِهم المُسرِفينَ على أنفُسِهم بالكفرِ بالله وتكذيبِ رسلِه.

ثم بيَّن الله سبحانه أنَّ ما أنزَله على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم هو خيرُ الآياتِ، فقال: لقد أنزَلْنا إليكم هذا القُرآنَ فيه تذكيرٌ لكم بما فيه صلاحُكم، وفيه عزُّكم وشَرَفُكم في الدُّنيا والآخرةِ إنْ عَمِلتُم بما فيه، أفلا تَعقِلونَ أنَّ في القُرآنِ هدايتَكم لِما فيه صلاحُكم، وأنَّ فيه شَرَفَكم وعِزَّكم فتُؤمِنوا به وتتدبَّروه؟

تفسير الآيات:

 

مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى أجاب عن قَولِ الكافرينَ: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ بِقَولِه

:

مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6).

أي: ما آمنَ قَبلَ كفَّارِ قُرَيشٍ أهلُ القُرى مِن الأُمَمِ الماضيةِ الذين اقتَرَحوا على رسُلِهم الآياتِ ثمَّ كذَّبوا بها لَمَّا جاءتْهم، فأهلَكْنا تلك القُرى وجميعَ أهلِها، أفيُؤمِنُ كفَّارُ قُرَيشٍ إذا أتَتْهم مُعجِزةٌ ممَّا يَقتَرِحونَ ؟!

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96، 97].

وقال سُبحانَه: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء: 59].

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى أجاب عن سؤالِ الكافرينَ الأوَّلِ، وهو قولهُم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء: ٣]، بقَولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، فبيَّنَ أن هذه عادةُ الله تعالى في الرسُلِ مِن قَبلِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يمنَعْ ذلك من كونِهم رسلًا؛ للآياتِ التي أتَوْا بها، فإذا صَحَّ ذلك فيهم، فقد أتَى محمَّدٌ بمثلِ آياتِهم، فلا مقالَ عليه في كونِه بَشَرًا .

وأيضًا لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أوَّلًا أنَّ الآياتِ تكونُ سَبَبًا للهلاكِ، فلا فائدةَ في الإجابةِ إلى ما اقتَرَحه الكافِرونَ منها بعد بُطلانِ ما قَدَحوا به في القُرآنِ؛ بيَّن ثانيًا بُطلانَ ما قَدَحوا به في الرَّسولِ بكَونِه بَشَرًا، بأنَّ الرُّسُلَ الذين كانوا مِن قَبلِه كانوا -بإقرارِهم- مِن جِنسِه، فما لهم أن يُنكِروا رِسالَتَه وهو مِثلُهم؟! بل عليهم أن يَعتَرِفوا له عندما أظهَرَ مِن المُعجِزِ كما اعتَرَفوا لأولئك .

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ.

أي: وما أرسَلْنا قبلك -يا محمَّدُ- من الأنبياءِ لأُمَّةٍ مِن الأُمَمِ إلَّا رِجالًا مِن البَشَرِ مِثلَهم، لا مِن الملائكةِ، فنُوحي إليهم ما نريدُ، فلماذا أنكَروا إرسالَنا لك إليهم، وأنت رجلٌ كسائِرِ الرسُلِ الذين أُرسِلوا قَبْلَك إلى أُمَمِهم ؟!

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف: 109].

فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

أي: فاسألوا أهلَ العِلمِ بالكُتُبِ المنزَّلةِ مِن قبْلُ إنْ كنتُم لا تعلمونَ أنَّ كلَّ الأنبياءِ مِنَ البَشَرِ؛ لِيُخبِروكم بما يَعلَمونَه مِن كَونِ جَميعِ الأنبياءِ بَشَرًا لا ملائكةً .

وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم على سُنَّةِ مَن مضَى مِنَ الرُّسُلِ في كَونِه رَجُلًا؛ بيَّن أنَّه على سُنَّتِهم في جميعِ الأوصافِ التي حكَمَ بها على البَشَرِ مِنَ العَيشِ والمَوتِ، فقال :

وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ.

أي: وما جعَلْنا الأنبياءَ أجسادًا لا يأكُلونَ الطَّعامَ، بل كانوا بشرًا مِثلَك يأكلونَ الطَّعامَ .

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 20] .

وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ.

أي: وما كان الأنبياءُ السَّابقونَ خالدينَ في الدُّنيا لا يموتونَ، بل كانوا بشرًا عاشُوا ثمَّ ماتوا، وإنَّما تميَّزوا عن النَّاس بما يأتيهم عن الله سُبحانَه مِن الوحيِ .

ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9).

ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ.

أي: ثمَّ صدَقْنَا رسُلَنا ما وعَدْناهم من إهلاكِ أعدائِهم الكافرينَ المكَذِّبينَ، ونَصْرِهم عليهم، فأنجَينا أولئك الرسُلَ وأتباعَهم الذين آمَنوا بهم مِن أممِهم .

كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف: 110] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171-173] .

وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ.

أي: وأهلَكْنا جميعَ الذين أسرَفوا على أنفُسِهم بالكُفرِ باللهِ، والإصرارِ على تكذيبِ رُسُلِ الله، فأبَدْناهم، ومحَوْنا ذِكْرَهم .

لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

بعدَ أن حَقَّق اللهُ رسالتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببَيانِ أنَّه كسائِرِ الرُّسُلِ الكِرامِ، شَرَع يحَقِّقُ فَضلَ القُرآنِ الكريمِ ويُبَيِّنُ نَفْعَه للنَّاسِ، بعد أن ذَكَر فى صَدرِ السُّورةِ إعراضَ النَّاسِ عمَّا يأتيهم مِن آياتِه، واضطرابَهم فى شأنِه .

وأيضًا لَمَّا تَوَعَّدَهم في الآيةِ السابقةِ؛ أعقبَ ذلك بوعدِه بنعمتِه عليهم، فقالَ :

لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ.

أي: لقد أنزَلْنا إليكم قرآنًا فيه تذكيرٌ لكم بما فيه صلاحُكم، وفيه شَرَفُكم وعِزُّكم .

كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44] .

أَفَلَا تَعْقِلُونَ.

أي: أفلا تَعقِلونَ أنَّ في القُرآنِ شَرَفَكم، وهدايتَكم إلى ما فيه صلاحُكم، فتُؤمِنوا به، وتتدبَّروه وتَعمَلوا بما فيه

 

؟

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ عامٌّ في كلِّ مَسألةٍ مِن مَسائِلِ الدِّينِ -أصولِه وفُروعِه- إذا لم يكُنْ عندَ الإنسانِ عِلمٌ منها أن يسألَ مَن يَعلَمُها؛ ففيه الأمرُ بالتعَلُّمِ والسؤالِ لأهلِ العِلمِ، ولم يؤمَرْ بسُؤالِهم إلَّا لأنَّه يجِبُ عليهم التعليمُ والإجابةُ عمَّا عَلِموه

.

2- قَولُ الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ في تخصيصِ السُّؤالِ بأهلِ الذِّكرِ والعِلمِ نَهيٌ عن سؤالِ المعروفِ بالجَهلِ وعَدَمِ العلمِ، ونهيٌ له أن يتصَدَّى لذلك .

3- قَولُ الله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هذه الآيةُ مِصداقُها ما وقع للمُؤمِنينَ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فالذين تذَكَّروا بالقُرآنِ مِن الصَّحابةِ فمَن بَعدَهم حصل لهم مِن الرِّفعةِ والعُلُوِّ الباهِرِ، والصِّيتِ العَظيمِ، والشَّرَفِ على الملوكِ- ما هو أمرٌ معلومٌ لكلِّ أحَدٍ، كما أنَّه معلومٌ ما حصل لِمَن لم يرفَعْ بهذا القرآنِ رأسًا، ولم يهتدِ به ويتزَكَّ به، مِن المقتِ والضَّعَةِ، والتَّدسِيةِ والشَّقاوة؛ فلا سبيلَ إلى سَعادةِ الدُّنيا والآخرةِ إلَّا بالتذَكُّرِ بهذا الكِتابِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ إنَّما أمسَك اللهُ الآياتِ الخوارِقَ عن مُشرِكي مكَّةَ؛ لأنَّه أراد استبقاءَهم؛ ليكونَ منهم مؤمِنونَ، وتكونَ ذرِّيَّاتُهم حملةَ هذا الدِّينِ في العالَمِ، ولو أُرسِلَت عليهم الآياتُ البَيِّنةُ لكانت سُنَّةُ الله أن يَعقُبَها عذابُ الاستئصالِ للَّذينَ لا يُؤمِنونَ بها

.

2- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا في هذه الآيةِ دَليلٌ على أنَّ النِّساءَ ليس منهنَّ نبيَّةٌ، لا مريمَ ولا غيرَها؛ لِقَولِه تعالى: إِلَّا رِجَالًا .

3- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ حجَّةٌ في تثبيتِ خَبَرِ الواحدِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن المسؤولينَ مُخْبِرٌ عن ذلك على الانفرادِ، والحجَّةُ لازمةٌ على المُخْبَرِ بقَولِه .

4- ما يُطلَبُ فيه الجَزمُ يُكتَفَى فيه بالجَزمِ، سواءٌ عن طريقِ الدَّليلِ أو عن طريقِ التَّقليدِ؛ فالإيمانُ باللهِ ومَلائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، هذا ممَّا يجِبُ فيه الجَزمُ، ولكِنَّ العامِّيَّ لا يُدرِكُ ذلك بدَليلِه، ومع ذلك نُصَحِّحُ إيمانَه، ونقولُ: إنَّه مُؤمِنٌ، وإن كان لا يُدرِكُ ذلك بدَليلِه، والدَّليلُ قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ؛ فإنَّ اللهَ تعالى أحال على سُؤالِ أهلِ العِلْمِ في مسألةٍ مِن مسائِلِ الدِّينِ التي يجبُ فيها الجَزمُ، وواضِحٌ أنَّنا نسألُهم لنأخُذَ بقَولِهم، ومعلومٌ أنَّ الإيمانَ بأنَّ الرسُلَ رِجالٌ هو مِن العَقيدةِ، ومعَ ذلك أحالَنا اللهُ فيه إلى أهلِ العِلْمِ ، ولأنَّ العامِّيَّ لا يتمَكَّنُ مِن مَعرفةِ الحَقِّ بأدلَّتِه، فإذا تعذَّرَ عليه مَعرِفةُ الحَقِّ بنَفْسِه، لم يبقَ إلَّا التقليدُ؛ لِقَولِه تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] .

5- قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ فأُمِروا أن يَسْألوا أهلَ الكتابِ؛ إمَّا للإلْزامِ؛ فإنَّ المُشرِكينَ كانوا يُشاوِرونَهم في أمْرِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويَثِقونَ بقولِهم، أو لأنَّ إخبارَ الجَمِّ الغفيرِ يُوجِبُ العِلْمَ، وإنْ كانوا كُفَّارًا؛ ففيه مِنَ الدَّلالةِ على كَمالِ وُضوحِ الأمْرِ، وقُوَّةِ شأْنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما لا يَخْفَى .

6- لله تعالى حِكَمٌ في إبقاءِ أهلِ الكِتابَينِ بينَ أظهُرِنا؛ فإنَّهم مع كُفرِهم شاهِدونَ بأصلِ النبُوَّاتِ، والتوحيدِ، واليومِ الآخِرِ، والجنَّةِ والنَّارِ، وفي كُتُبِهم من البِشاراتِ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وذِكرِ نُعوتِه وصفاتِه وصفاتِ أُمَّتِه- ما هو مِن آياتِ نبُوَّتِه وبراهينِ رِسالتِه، وما يشهَدُ بصِدقِ الأوَّلِ والآخِرِ، وهذه الحِكمةُ تختَصُّ بأهلِ الكِتابِ دونَ عَبَدةِ الأوثانِ؛ فبقاؤُهم مِن أقوَى الحُجَجِ على مُنكِرِ النبُوَّاتِ والمعادِ والتوحيدِ، وقد قال تعالى لمنكري ذلك: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، ذكَرَ هذا عَقِبَ قَولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، يعني: سلُوا أهلَ الكِتابِ: هل أرسَلْنا قبل محمَّدٍ رِجالًا يُوحَى إليهم، أمْ كان محمَّدٌ بِدْعًا من الرسُلِ لم يتقَدَّمْه رسولٌ، حتى يكون إرسالُه أمرًا مُنكَرًا لم يَطرُقِ العالَمَ رَسولٌ قبلَه ؟!

7- في قَولِه تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ هذه الآيةُ ترشِدُنا إلى أن نَرجِعَ في كلِّ شَيءٍ إلى أهلِه الذين هم أهلُ الذِّكْرِ به .

8- التقليدُ لا يُذَمُّ مُطلقًا، بل إنَّ التقليدَ في مَوضِعِه هو الواجبُ؛ لِقَولِه تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ .

9- الاجتهادُ واجبٌ على مَن كان قادرًا عليه؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، والقادِرُ على الاجتهادِ يُمكِنُه مَعرِفةُ الحَقِّ بنَفسِه .

10- قَولُ الله تعالى: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ هذه سيرتُه تعالى مع أنبيائِه، فكذلك يَصدُقُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه ما وعَدَهم به من النَّصرِ وظُهورِ الكَلِمةِ؛ فهذه عِدَةٌ للمُؤمِنينَ، ووعيدٌ للكافرينَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ

- قولُه: مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ كَلامٌ مُستأنفٌ مَسوقٌ لتَكذيبِهم فيما تُنْبِئُ عنه خاتِمةُ مقالِهم مِن الوعْدِ الضِّمنيِّ بالإيمانِ، وبَيانِ أنَّهم في اقتِراحِ تلك الآياتِ كالباحثِ عن حَتْفِه بظِلْفِه

، وأنَّ في تَرْكِ الإجابةِ إليه إبقاءً عليهم. ومُتعلَّقُ آَمَنَتْ مَحذوفٌ دَلَّ عليه السِّياقُ، أي: ما آمنَتْ بالآياتِ قرْيةٌ. و(مِن) في قولِه: مِنْ قَرْيَةٍ مَزيدةٌ؛ لتأْكيدِ العُمومِ، ولتأْكيدِ النَّفيِ المُستفادِ مِن حرْفِ (ما) في مَا آَمَنَتْ .

- ولفظةُ: أَهْلَكْنَاهَا وردَتْ مُستطردةً؛ للتَّعريضِ بالوعيدِ بأنَّ المُشرِكينَ أيضًا يترقَّبونَ الإهلاكَ .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث ذُكِرَتِ القريةُ هنا مُرادًا بها أهْلُها؛ ليُبْنَى عليها الوصْفُ بإهلاكِها؛ لأنَّ الإهلاكَ أصاب أهْلَ القُرى وقُراهم؛ فلذلك قيلَ: أَهْلَكْنَاهَا دون (أهْلَكْناهم) كما في قولِه: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ [الكهف: 59] .

- والهمزةُ في قولِه: أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ لإنكارِ الوُقوعِ، والفاءُ للعطْفِ: إمَّا على مُقدَّرٍ دخلَتْه الهمزةُ؛ فأفادَتْ إنكارَ وُقوعِ إيمانِهم ونَفْيَه عَقِيبَ عدَمِ إيمانِ الأوَّلينَ، أي: إنَّه لم تُؤْمِنْ أُمَّةٌ مِن الأُمَمِ المُهلَكةِ عندَ إعطاءِ ما اقتَرَحوهُ مِن الآياتِ؛ أفهؤلاءِ يُؤمِنونَ لو أُجِيبُوا إلى ما سَأَلوا، وأُعْطوا ما اقتَرَحوا، مع كونِهم أعْتى منهم وأطْغَى؟! وإمَّا على مَا آَمَنَتْ على أنَّ الفاءَ مُتقدِّمةٌ على الهمزةِ في الاعتبارِ، مُفيدةٌ لتَرتيبِ إنكارِ وُقوعِ إيمانِهم على عدَمِ إيمانِ الأوَّلينَ .

2- قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

- قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ  ... جَوابٌ لقولِهم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، مُتضمِّنٌ لرَدِّ ما دَسُّوا تحتَ قولِهم: كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ مِن التَّعرُّضِ بعدَمِ كونِه عليه السَّلامُ مثْلَ أولئك الرُّسلِ صَلواتُ اللهِ تعالَى عليهم أجمعينَ؛ ولذلك قُدِّمَ عليه جَوابُ قولِهم: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ، ولأنَّهم قالوا ذلك بطَريقِ التَّعجيزِ؛ فلا بُدَّ من المُسارَعةِ إلى رَدِّهِ وإبطالِه، ولأنَّ في هذا الجوابِ نَوعَ بسْطٍ يُخِلُّ تَقديمُه بتَجاوُبِ أطْرافِ النَّظمِ الكريمِ .

- قولُه: نُوحِي إِلَيْهِمْ استئنافٌ مُبيِّنٌ لكَيفيَّةِ الإرسالِ، وصِيغةُ المُضارِعِ لِحكايةِ الحالِ الماضيةِ المُستمِرَّةِ، وحُذِفَ المفعولُ؛ لعدَمِ القصْدِ إلى خُصوصِه .

- قولُه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بينَ الجُمَلِ المُتعاطِفَةِ. وتَوجيهُ الخِطابِ لهم بعْدَ أُسلوبِ الغَيبةِ الْتِفاتٌ، ونُكتَتُه: أنَّ الكلامَ لمَّا كان في بَيانِ الحقائقِ الواقعةِ؛ أعرَضَ عنهم في تَقريرِه، وجُعِلَ مِن الكلامِ المُوجَّهِ إلى كلِّ سامعٍ، وجُعِلوا فيه مُعبَّرًا عنهم بضَمائرِ الغَيبةِ، ولمَّا أُرِيدَ تَجْهيلُهم وإلْجاؤُهم إلى الحُجَّةِ عليهم غُيِّرَ الكلامُ إلى الخِطابِ؛ تَسجيلًا عليهم، وتَقريعًا لهم بتَجهيلِهم ؛ ففي قولِه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ تلْوينٌ للخِطابِ وتَوجيهٌ له إلى الكَفرةِ؛ لتَبكيتِهم واستِنْزالِهم عن رُتْبةِ الاستبعادِ والنَّكيرِ إثْرَ تَحقيقِ الحقِّ على طَريقةِ الخِطابِ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه الحَقيقُ بالخطابِ في أمْثالِ تلك الحقائقِ الأنيقةِ، والفاءُ في فَاسْأَلُوا لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها .

- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ جَوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ؛ ثِقَةً بدَلالةِ المذكورِ عليهِ، أي: إنْ كُنْتُم لا تَعْلَمونَ ما ذُكِرَ، فاسْأَلوا -أيُّها الجَهلةُ- أهلَ الكتابِ الواقفينَ على أحوالِ الرُّسلِ السَّالفةِ عليهم الصَّلواتُ؛ لِتَزولَ شُبْهتُكم .

- وأمْرُهم أنْ يَسْألوا أهْلَ الذِّكْرِ فيه تَعريضٌ بجَهْلِهم، وفضْحُ خَطَئِهم .

3- قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ

- في قولِه: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا وحَّدَ الجسَدَ؛ لإرادةِ الجنْسِ. وقيل: بتَقديرِ المُضافِ، أي: ذَوِي جسَدٍ ، وذِكْرُه يُفِيدُ التَّهكُّمَ بالمُشرِكينَ؛ لأنَّهم لمَّا قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ [الفرقان: 7] ، وسَأَلوا أنْ يأتِيَ بما أُرْسِلَ به الأوَّلونَ، كان مُقْتضَى أقوالِهم أنَّ الرُّسلَ الأوَّلينَ كانوا في صُوَرِ الآدميِّينَ، لكنَّهم لا يأْكُلون الطَّعامَ -وأكْلُ الطَّعامِ مِن لَوازمِ الحياةِ- فلَزِمَهم لمَّا قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ أنْ يَكونوا قائلينَ بأنَّ شأْنَ الرُّسلِ أنْ يكونوا أجسادًا بلا أرواحٍ، وهذا من السَّخافةِ بمَكانةٍ .

- قولُه: وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ تأكيدٌ وتَقريرٌ لِمَا قبْلَه؛ فإنَّ التَّعيُّشَ بالطَّعامِ مِن تَوابِعِ التَّحليلِ المُؤدِّي إلى الفَناءِ ، وهو زِيادةُ استدلالٍ لتَحقيقِ بشَرِيَّتِهم؛ استدلالًا بما هو واقِعٌ مِن عدَمِ كَفاءةِ أولئك الرُّسلِ كما هو معلومٌ بالمُشاهَدةِ لقطْعِ مَعاذيرِ الضَّالِّينَ، فإنْ زَعَموا أنْ قد كان الرُّسلُ الأوَّلونَ مُخالِفينَ للبشَرِ؛ فماذا يَصْنعون في لَحَاقِ الفَناءِ إيَّاهم؟ فهذا وجْهُ زِيادةِ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ .

- وأُتِيَ في نفْيِ الخُلودِ عنهم بصِيغَةِ (ما كانوا)؛ تَحقيقًا لِتَمكُّنِ عدَمِ الخُلودِ منهم . وفي إيثارِ( مَا كَانُوا) على (ما جَعَلْناهم) تَنبيهٌ على أنَّ عدَمَ الخُلودِ مُقْتضى جِبِلَّتِهم الَّتي أُشِيرَ إليها بقولِه تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ ...، لا بالجَعْلِ المُستأنَفِ .

4- قولُه تعالى: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ الكلامُ مَسوقٌ مَساقَ التَّنويهِ بالرُّسلِ الأوَّلينَ، وهو تَعريضٌ بوَعيدِ الَّذين قالوا: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، وفي هذا تَقريعٌ للمُشرِكينَ، أي: إنْ كان أعجَبَكم ما أتَى به الأوَّلونَ، فسألْتُم مِن رَسولِكم مثْلَه، فإنَّ حالَكم كحالِ الَّذين أُرْسِلوا إليهم، فترَقَّبوا مثْلَ ما نزَلَ بهم، ويترقَّبُ رسولُكم مثْلَ ما لقِيَ سلَفُه .

- وقولُه: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ ... عطْفٌ على ما يُفْهَمُ من حِكايةِ وَحْيِه تعالى إليهم على الاستمرارِ التَّجدُّديِّ؛ كأنَّه قيل: أوحَيْنا إليهم ما أوحَيْنا، ثمَّ صَدَقْناهم في الوعْدِ الَّذي وعَدْناهم في تَضاعيفِ الوحْيِ بإهلاكِ أعدائِهم . أو مَعطوفةٌ على الجُمَلِ السَّابقةِ، و(ثُمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ، والمعنى: وأهَمُّ ممَّا ذُكِرَ أنَّا صَدَقْناهم الوعْدَ، فأنْجَيناهم وأهلَكْنا الَّذين كذَّبُوهم. ومَضمونُ هذا أهَمُّ في الغرضينِ: التَّبشيرِ والإنذارِ؛ فالتَّبشيرُ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ بأنَّ اللهَ صادِقُه وعْدَه من النَّصرِ، والإنذارُ لمَن ماثَلَ أقوامَ الرُّسلِ الأوَّلينَ . وقيل: أشارَ بأداةِ التَّراخِي (ثُمَّ) إلى أنَّهم طالَ بلاؤُهم بهم، وصبرُهم عليهم، ثم أحلَّ بهم سطوتَه، وأراهم عظَمتَه .

- والإتيانُ بصِيغةِ المُستقبَلِ في قولِه: نَشَاءُ احتباكٌ ، والتَّقديرُ: فأنْجَيْناهم ومَن شِئْنَا، ونُنَجِّي رَسولَنا ومَن نشاءُ منكم، وهو تأْميلٌ لهم أنْ يُؤْمِنوا؛ لأنَّ مِن المُكذِّبينَ يومَ نُزولِ هذه الآيةِ مَن آمَنوا فيما بعْدُ إلى يومِ فتْحِ مكَّةَ. وهذا من لُطْفِ اللهِ بعِبادِه في تَرغيبِهم في الإيمانِ، ولم يَقُلْ: (ونُهْلِكُ المُسرِفينَ)، بل عاد إلى صِيغَةِ المُضِيِّ الَّذي هو حِكايةٌ لِما حَلَّ بالأُمَمِ السَّالفةِ، وبقِيَ المقصودُ مِن ذِكْرِ الَّذين أُهْلِكوا، وهو التَّعريضُ بالتَّهديدِ والتَّحذيرِ أنْ يُصِيبَهم مثْلُ ما أصابَ أولئك مع عدَمِ التَّصريحِ بالوعيدِ .

5- قولُه تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَحقيقِ حَقِّيَّةِ القُرآنِ العظيمِ، وبَيانِ عُلوِّ رُتْبتِه، إثْرَ تَحقيقِ رِسالتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد صُدِّرَ بالتَّوكيدِ القسَميِّ؛ إظهارًا لمَزيدِ الاعتناءِ بمَضمونِه، وإيذانًا بكونِ المُخاطَبينَ في أقْصَى مَراتبِ النَّكيرِ . وقيل: استئنافُ جَوابٍ عن قولِهم: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، بإيقاظِهم إلى أنَّ الآيةَ الَّتي جاءتْهم هي أعْظَمُ مِن الآياتِ الَّتي أُرْسِلَ بها الأوَّلونَ، وتجْهيلًا لألْبابِهم، ولقصْدِ هذا الإيقاظِ صُدِّرتِ الجُملةُ بما يُفِيدُ التَّحقيقَ من لامِ القسَمِ وحرْفِ التَّحقيقِ لَقَدْ، وجَعْلِ إنزالِ الكتابِ إليهم، كما اقتضَتْه تَعْديةُ فِعْلِ أَنْزَلْنَا بحرْفِ (إلى) شأْنَ تَعديةِ فِعْلِ الإنزالِ أنْ يكونَ المجرورُ بـ (إلى) هو المُنزَّلُ إليه؛ فجَعْلُ الإنزالِ إليهم؛ لكونِهم بمَنزلةِ مَن أُنْزِلَ إليه؛ نظَرًا إلى أنَّ الإنزالَ كان لأجْلِهم ودَعوتِهم، وذلك أبلَغُ مِن أنْ يُقالَ: (لقد أنزَلْنا لكم) .

- وقولُه: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ فيه تَحريضٌ، ثمَّ أكَّدَ التَّحريضَ بقولِه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وحرَّكَهم بذلك إلى النَّظرِ .

- ونَكَّرَ كِتَابًا للتَّعظيمِ؛ إيماءً إلى أنَّه جمَعَ خَصلتينِ عَظيمتينِ: كونَه كِتابَ هُدًى، وكونَه آيةً ومُعجزةً للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لا يَستطيعُ أحَدٌ أنْ يأتِيَ بمثْلِه أو مُدانِيه .

- وجُملةُ: فِيهِ ذِكْرُكُمْ صِفَةٌ لـ كِتَابًا مُؤكِّدةٌ لِما أفادَهُ التَّنكيرُ التَّفخيميُّ من كونِه جليلَ المِقدارِ، بأنَّه جَميلُ الآثارِ، مُستجلِبٌ لهم منافعَ جليلةً، أي: فيه شرَفُكم وَصِيتُكم .

- وقولُه: فِيهِ ذِكْرُكُمْ الذِّكْرُ يُطْلَقُ على التَّذكيرِ بما فيه الصَّلاحُ، ويُطْلَقُ على السُّمعةِ والصِّيتِ. وقد أُوثِرَ هذا المصدَرُ هنا، وجُعِلَ مُعرَّفًا بالإضافةِ إلى ضَميرِ المُخاطَبينَ؛ ليكونَ كَلامًا مُوجَّهًا، فيَصِحَّ قصْدُ المَعنيينِ معًا من كَلمةِ (الذِّكْرِ) بأنَّ مَجِيءَ القُرآنِ مُشتمِلًا على أعظَمِ الهُدى؛ هو تَذكيرٌ لهم بما به نِهايةُ إصلاحِهم، ومَجيئُه بلُغَتِهم، وفي قومِهم، وبواسطةِ واحدٍ منهم؛ سُمْعةٌ عظيمةٌ لهم، وعلى المعنيينِ يكونُ لتَفريعِ قولِه تعالى: أَفَلَا تَعْقِلُونَ أحسَنُ مَوقعٍ؛ لأنَّ الاستفهامَ الإنكاريَّ لنفْيِ عَقْلِهم مُتَّجِهٌ على كِلا المعنيينِ؛ فإنَّ مَن جاءهُ ما به هدْيُه، فلم يَهتَدِ، يُنْكَرُ عليه سُوءُ عقْلِه، ومَن جاءهُ ما به مَجْدُه وسُمْعَتُه، فلم يَعبَأْ به، يُنْكَرُ عليه سُوءُ قَدْرِه للأمورِ حَقَّ قدْرِها، كما يكونُ الفضْلُ في مثْلِه مُضاعَفًا. وأيضًا فهو مُتفرِّعٌ على الإقناعِ بإنزالِ القُرآنِ آيةً تفوقُ الآياتِ الَّتي سَأَلوا مثْلَها، وهو المُفادُ من الاستئنافِ، ومِن تأْكيدِ الجُملةِ بالقسَمِ وحرْفِ التحقيقِ (قد) .

=================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (11-18)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ

غريب الكلمات :

 

قَصَمْنَا: أي: أهلَكْنا وكَسرْنا، وأصلُ القَصْمِ: الكَسرُ

.

يَرْكُضُونَ: أي: يَفِرُّونَ، ويَهرُبونَ مُسرِعينَ، وأصلُ (ركض): يدُلُّ على تَحريكِ الرِّجلَينِ .

مَا أُتْرِفْتُمْ: أي: نُعِّمْتُم وبَقيتُم في المُلكِ، وأصلُ (ترف): يدلُّ على توسُّعٍ في النِّعمةِ .

يَاوَيْلَنَا: الويلُ: الهلاكُ والعذابُ، ويُطلَقُ كذلك على حُلولِ الشرِّ، وقد يُستعمَلُ في التَّحسُّرِ. وقيلَ: الوَيلُ: وادٍ في جَهَنَّمَ .

دَعْوَاهُمْ: أي: دُعاؤُهم، وقولُهم، وكلامُهم؛ فالدَّعوى تُطلَقُ على: الادِّعاءِ والدُّعاءِ والقَولِ كذلِك، وأصلُ (دعو): أنْ يُمِيلَ الشَّخصُ الشَّيءَ إليه بصَوتٍ وكَلامٍ يكونُ منه .

حَصِيدًا خَامِدِينَ: أي: هالكينَ لم تبقَ منهم بقيَّةٌ، وأصلُ (حصد): يدُلُّ على قَطعِ الشَّيءِ، وأصلُ (خمد): يَدُلُّ على سُكونِ الحركةِ .

لَدُنَّا: أي: عندِنا، وقيل: (لَدُنْ) أخصُّ مِن (عند) وأبلغُ .

فَيَدْمَغُهُ: أي: يُذهِبُه، ويُبطِلُه، وأصلُ هذا إصابةُ الرأسِ والدِّماغِ بالضَّربِ، وهو مَقتَلٌ .

زَاهِقٌ: أي: زائلٌ، ذاهِبٌ، هَالِكٌ، وأصلُ (زهق): يدُلُّ على مُضِيٍّ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: وكثيرٌ من القرَى كان أهلُها ظالِمينَ لكُفرِهم باللهِ وبما جاءَتْهم به رسُلُهم، فأهلَكْناهم، وأوجَدْنا بَعدَهم قومًا آخرينَ سِواهم، فلمَّا رأى هؤلاء الظَّالِمونَ عَذابَنا نازِلًا بهم، وشاهَدوا بوادِرَه؛ إذا هم يُسرِعونَ هاربينَ مِن قَريتِهم. فنُودوا في هذه الحالِ: لا تَهرَبوا وارجِعوا إلى النِّعَمِ التي كُنتم فيها ومَساكِنِكم المشيَّدةِ؛ لعلَّكم تُسأَلونَ. فقالوا مُعتَرِفين بجُرمِهم: يا وَيْلَنا! إنَّا ظَلَمْنا أنفُسَنا بكُفرِنا بالله، وتَكذيبِنا رُسُلَه. فما زالت تلك المقالةُ -وهي الدُّعاءُ على أنفُسِهم بالويلِ والهلاكِ، والاعترافُ بالظُّلمِ- دَعوَتَهم يرَدِّدونَها حين نزلَ بهم العذابُ، حتى جَعَلْناهم موتى كالزَّرعِ المحصودِ، خامِدينَ لا حياةَ فيهم؛ فاحذَروا -أيُّها المُخاطَبونَ- أن تستَمِرُّوا على تكذيبِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَحِلَّ بكم ما حَلَّ بالأُمَمِ قَبْلَكم!

ثمَّ ذكَر الله سبحانَه ما يدُلُّ على قدرتِه ووحدانيَّتِه، فقال: وما خلَقْنا السَّماءَ والأرضَ وما بينهما عَبَثًا وباطِلًا، بل لإقامةِ الحُجَّةِ عليكم، ولِتَعتَبِروا بذلك كُلِّه، فتَعلَموا أنَّ الذي خلَقَ ذلك لا تَصلُحُ العبادةُ إلَّا له.

لو أرَدْنا -على سبيلِ الفرضِ المحالِ- أن نتَّخِذَ زوجةً وولدًا، لاتَّخَذْناه مِن عِندِنا لا مِن عِندِكم، إنْ كُنَّا فاعلينَ ذلك، ولكِنْ لا يليقُ بنا فِعلُه ولا ينبغي.

بل نُلقي بحُجَجِ القرآنِ على الباطِلِ، فيَدحَضُه فإذا هو ذاهِبٌ مُضمَحِلٌّ. ولكم العذابُ والهَلاكُ -أيُّها المُشرِكونَ- بسببِ كذبِكم وافترائِكم على الله تعالى.

تفسير الآيات:

 

وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا رَدَّ اللَّهُ تعالَى عليهم ما قالوه؛ بالَغ تعالى في زَجْرِهم بذِكرِ ما أهلَك مِن القُرَى

، فقال:

وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً.

أي: وكثيرٌ مِن القُرى الماضيةِ أهلَكْناها وأهلَها المُشرِكينَ؛ لكُفرِهم باللهِ، وتَكذيبِهم رُسُلَه .

كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء: 17] .

وقال سُبحانَه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق: 8، 9].

وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ.

أي: وأوجَدْنا بعدَ إهلاكِهم أُمَّةً أُخرَى سِواهم .

فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12).

أي: فلمَّا رأَى هؤلاءِ الظَّالِمونَ عَذابَنا نازلًا بهم ووجَدوا مسَّه، إذا هم يَهرُبونَ مِن قَريتِهم مُسرعينَ .

لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13).

أي: لا تَرْكُضوا هاربينَ مِن العذابِ، وارجِعوا إلى النِّعَمِ التي كُنتم فيها وبُيوتِكم التي سَكَنْتُم فيها؛ لعلَّكم تُسألُونَ .

قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14).

أي: قال أولئك الكفَّارُ حينَ نزَل بهم العَذابُ مُعتَرِفينَ بذُنوبِهم نادِمينَ: يا وَيْلَنا! إنَّا كنَّا ظالمينَ لأنفُسِنا بكُفرِنا بالله، وتكذيبِنا رُسُلَه .

كما قال تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأعراف: 4، 5].

فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15).

أي: فما زال الكفَّارُ حينَ نزَل بهم العذابُ يُكَرِّرونَ قَولَهم: يا وَيلَنا إنَّا كُنَّا ظالِمينَ، حتى أهلَكْناهم واستَأصَلْناهم، فجَعَلْناهم موتَى كالزَّرعِ الذي استُؤصِلَ، قد خَمَدت منهم الحَرَكاتُ، وسَكَنَت منهم الأصواتُ كما تُخمَدُ النَّارُ فتُطفَأُ؛ فاحذَروا -أيُّها المُخاطَبونَ- أن تَستَمِرُّوا على تكذيبِ رَسولِكم فيَحِلَّ بكم مِثلُ ما حلَّ بأولئك القَومِ .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

في تعلُّقِ هذه الآيةِ بما قبلَها وجهان:

الأولُ: أنه لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى إهلاكَ أهلِ القَريةِ لأجْلِ تَكذيبِهم؛ أتبَعَه بما يدُلُّ على أنَّه فَعَل ذلك عَدلًا منه، ومجازاةً على ما فَعَلوا.

الثاني: أنَّ الغَرَضَ منه تقريرُ نبُوَّةِ محمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم، والردُّ على مُنكِريه؛ لأنَّه أظهَرَ المُعجِزةَ عليه، فإنْ كان محمَّدٌ كاذِبًا كان إظهارُ المعجزةِ عليه مِن بابِ اللَّعِبِ، وذلك منفيٌّ عنه، وإنْ كان صادِقًا فهو المطلوبُ، وحينئذ يفسُدُ كُلُّ ما ذَكَروه مِن المطاعِنِ .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16).

أي: وما خلَقْنا السَّماءَ والأرضَ وما بينَهما مِن المخلوقاتِ عَبَثًا وباطِلًا، بل خلَقْناها ليتفَكَّرَ النَّاسُ فيها، فيَستَدِلُّوا بها على عَظيمِ صِفاتِ خالِقِها، واستِحقاقِه للعبادةِ، فيَعلَموا أنَّ الذي دَبَّرَها وخَلَقَها لا يُشبِهُه شَيءٌ، وأنَّه لا تكونُ الألوهيَّةُ إلَّا له، ولا تصلُحُ العبادةُ لِشَيءٍ سِواه، وأنَّ القادِرَ على خَلقِها مع سَعَتِها وعِظَمِها قادِرٌ على إعادةِ الأجسادِ بعدَ مَوتِها؛ ليجازيَ المُحسِنَ بإحسانِه، والمُسيءَ بإساءتِه .

كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27].

وقال سُبحانَه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدخان: 38- 39] .

وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191].

لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا نفَى عن نَفْسِه اللَّعِبَ؛ أتبَعَه دَليلَه، فقال تعالى :

لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17).

أي: لو أرَدْنا -على سَبيلِ الفَرضِ والتَّقديرِ المُحالِ- أن نتَّخِذَ زوجةً وولدًا، لاتَّخَذْنا ذلك مِن عِندِنا، إنْ كُنَّا فاعلينَ ذلك، ولكِنْ لا يليقُ بنا فِعلُه ولا ينبغي .

بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18).

بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ.

أي: ولكِنَّنا نُلقي بحُجَجِ القرآنِ على الباطِلِ، فيَذهَبُ ويَضمَحِلُّ، فلا نعمَلُ عَمَلًا يكونُ باطِلًا ولَعِبًا ولَهوًا .

كما قال تعالى: إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ: 48- 49].

وقال سُبحانَه: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [الرعد: 17] .

وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ.

أي: ولكم العَذابُ والهَلاكُ -أيُّها المُشرِكونَ- بسَبَبِ ما تكذِبونَ وتفترونَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ عَقَّب به ذِكرَ القَومِ المُهلَكينَ، والمقصودُ مِن ذلك إيقاظُ العُقولِ إلى الاستِدلالِ بما في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرضِ وما بينهما مِن دقائِقِ المُناسَباتِ، وإعطاءِ كُلِّ مَخلوقٍ ما به قِوامُه، فإذا كانت تلك سُنَّةَ الله في خَلقِ العوالِمِ ظَرفِها ومَظروفِها، استُدِلَّ بذلك على أنَّ تلك السُّنَّةَ لا تتخلَّفُ في ترتُّبِ المسَبَّباتِ على أسبابِها فيما يأتيه جِنسُ المكَلَّفينَ مِن الأعمالِ، فإذا ما لاحَ لهم تخَلُّفُ سَبَبٍ عن سَبَبِه، أيقَنوا أنَّه تخَلُّفٌ مُؤَقَّتٌ، فإذا عَلَّمَهم اللهُ على لسانِ شرائِعِه بأنَّه ادَّخَر الجَزاءَ الكامِلَ على الأعمالِ إلى يومٍ آخِرٍ؛ آمَنوا به، وإذا عَلَّمهم أنَّهم لا يفوتونَ ذلك بالموتِ، بل إنَّ لهم حياةً آخِرةً، وأنَّ اللهَ باعِثُهم بعد الموتِ؛ أيقنوا بها، وإذا عَلَّمَهم أنَّه رُبَّما عَجَّلَ لهم بعضَ الجزاءِ في الحياةِ الدُّنيا؛ أيقَنوا به؛ ولذلك كَثُرَ تَعقيبُ ذِكرِ نِظامِ خَلْقِ السَّمَواتِ والأرضِ بذِكرِ الجَزاءِ الآجِلِ والبَعثِ، وإهلاكِ بَعضِ الأُمَمِ الظَّالِمةِ، أو تعقيبُ ذِكرِ البَعثِ والجزاءِ الآجِلِ والعاجِلِ بذِكرِ نِظامِ خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ

.

2- ينبغي للإنسانِ أنْ يَعرِفَ شُبَهَ المُخالِفينَ -التي يَدَّعونَها حُجَجًا- لِيَنقَضَّ عليهم منها فيُبطِلَها؛ قال اللهُ تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ .

3- قال بَعضُ أهلِ العِلمِ: (كيف لا يَخشَى الكَذِبَ على اللهِ ورَسولِه مَن يَحمِلُ كَلامَه على التَّأويلاتِ المُستَنكَرةِ والمجازاتِ المُستَكرَهةِ التي هي بالألغازِ والأحاجيِّ أَولى منها بالبَيانِ والهِدايةِ؟! وهل يأمَنُ على نَفْسِه أن يكونَ مِمَّن قال اللهُ فيهم: وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ؟!). قال الحَسَنُ: (هي واللهِ لكُلِّ واصِفٍ كَذِبًا إلى يَومِ القيامةِ)

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ سُمِّيَ ذلك القَولُ (دعوى)؛ لأنَّ المقصودَ منه هو الدُّعاءُ على أنفُسِهم بالوَيلِ، والدُّعاءُ يُسمَّى دَعوى، كما في قَولِه تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ

[يونس: 10] .

2- قَولُ اللهِ تعالى: جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ فيه سؤالٌ: كيف يَنصِبُ (جعَلَ) ثلاثةَ مَفاعِيلَ؟

الجوابُ: أنَّ حُكمَ الاثنينِ الآخَرينِ حَصِيدًا خَامِدِينَ حُكمُ الواحِدِ، فـ خَامِدِينَ مع حَصِيدًا في حَيِّزِ المَفعولِ الثَّانيِ للجَعْلِ، والمعنى: جعَلْناهم جامِعِينَ لهذينِ الوَصفَينِ، والمرادُ أنَّهم أُهلِكوا بذلك العَذابِ حتى لم يبقَ لهم حِسٌّ ولا حَرَكةٌ، وجَفُّوا كما يجِفُّ الحَصيدُ، وخَمَدوا كما تَخمُدُ النَّارُ .

3- في قَولِه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ دَلالةٌ على كَمالِ حِكمتِه سُبحانه وتعالى .

4- قَولُ اللهِ تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ فيه أنَّه تعالى تكَفَّل بإحقاقِ الحَقِّ وإبطالِ الباطِلِ، وأنَّ كُلَّ باطِلٍ قيلَ وجُودِلَ به، فإنَّ اللهَ يُنزِلُ مِن الحَقِّ والعِلمِ والبيانِ ما يَدمَغُه، فيَضمَحِلُّ ويتبيَّنُ لكُلِّ أحَدٍ بُطلانُه، وهذا عامٌّ في جميعِ المسائِلِ الدِّينيَّةِ؛ لا يُورِدُ مُبطِلٌ شُبهةً عَقليَّةً ولا نقليَّةً في إحقاقِ باطلٍ أو رَدِّ حَقٍّ، إلَّا وفي أدِلَّةِ اللهِ مِن القواطعِ العَقليَّةِ والنَّقليَّةِ ما يُذهِبُ ذلك القَولَ الباطِلَ ويَقمَعُه، فإذا هو مُتَبيِّنٌ بُطلانُه لكُلِّ أحَدٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ

- قولُه: وَكَمْ قَصَمْنَا... عطْفٌ على قولِه: مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [الأنبياء: 6] ، أو على قولِه: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، وهو تَعريضٌ بالتَّهديدِ، وفيه تَعريضٌ بنصْرِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَعريضٌ بإنذارِ المُشرِكينَ بالانقراضِ بقاعدةِ قياسِ المُساواةِ

، وأنَّ اللهَ يُنشِئُ بعْدَهم أُمَّةً مُؤمِنةً . أو استئنافٌ مَسوقٌ للتَّمثيلِ بالأُمَمِ الَّتي هلَكَتْ قبْلَهم .

- وفيه نوعُ تَفصيلٍ لإجمالِ قولِه تعالى: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، وبَيانٌ لكَيفيَّةِ إهلاكِهم وسبَبِه، وتَنبيهٌ على كثرَتِهم .

- و(كمْ) في قولِه: وَكَمْ قَصَمْنَا تَقْتضي التَّكثيرَ، وفي لفْظِ القصْمِ الَّذي هو عبارةٌ عن أفظَعِ الكسْرِ بإبانةِ أجزاءِ المكسورةِ، وإزالةِ تأْليفِها بالكُلِّيَّةِ، مِن الدَّلالةِ على قُوَّةِ الغضبِ وشدَّةِ السَّخَطِ ما لا يَخْفى . وفي (كم) الدَّالَّةِ على كثرةِ العدَدِ إيماءٌ إلى أنَّ هذه الكثرةَ تَستلزِمُ عدَمَ تخلُّفِ إهلاكِ هذه القُرى، وبَضميمةِ وَصْفِ تلك الأُمَمِ بالظُّلْمِ، أي: الشِّرْكِ، إيماءٌ إلى سبَبِ الإهلاكِ؛ فحصَلَ منه ومِن اسْمِ الكثرةِ معنى العُمومِ، فيَعلَمُ المُشرِكونَ التَّهديدَ بأنَّ ذلك حالٌّ بهم لا مَحالةَ بحُكمِ العُمومِ، وأنَّ هذا ليس مُرادًا به قريةٌ مُعيَّنةٌ .

- قولُه: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً مِنْ قَرْيَةٍ المرادُ: أهلُها؛ إِذْ لا تُوصَفُ القريةُ بالظُّلْمِ، كَقَوْلِهِ: مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا [النساء: 75] .

- قولُه: قَوْمًا آَخَرِينَ فيه تَنبيهٌ على استئصالِ الأوَّلينَ، وقطْعِ دابِرِهم بالكُلِّيَّةِ، وهو السِّرُّ في تَقديمِ حِكايةِ إنشاءِ هؤلاء على حِكايةِ مبادئِ إهْلاكِ أولئك بقولِه تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا...، فضميرُ الجمعِ فِي أَحَسُّوا عائدٌ على (أهلِ) المحذوفِ مِن قولِه: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ، ولا يعودُ على قولِه: قَوْمًا آَخَرِينَ؛ إذ لا ذنبَ لهم يَقتضي ما تضمَّنه هذا الكلامُ .

- قولُه: وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بين جُملةِ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ وفَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إلخ، فجُملةُ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إلخ، تَفريعٌ على جُملةِ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ

.

2- قوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ

- قولُه: مِنْهَا يَرْكُضُونَ الرَّكضُ: ضَرْبُ الدَّابَّةِ بالرِّجْلِ، ويجوزُ أنْ يَرْكبوا دوابَّهم يَرْكُضونها هاربينَ مُنهزِمينَ مِن قَريتِهم لمَّا أدرَكَتْهم مُقدِّمةُ العذابِ، ويجوزُ أنْ يُشَبَّهوا في سُرعةِ عَدْوِهم على أرجُلِهم بالرَّاكبينَ الرَّاكضينَ لدوابِّهم، فقيل لهم: لَا تَرْكُضُوا، والقولُ مَحذوفٌ، فهو على إرادةِ القولِ، أي: قيل لهم استهزاءً: لَا تَرْكُضُوا؛ إمَّا بلسانِ الحالِ، أو المقالِ

.

- وحَرْفُ (مِن) في قولِه: مِنْهَا يَرْكُضُونَ يجوزُ أنْ يكونَ للابتداءِ، أي: خارجينَ منها، ويجوزُ أنْ يكونَ للتَّعليلِ، أي: من البأْسِ الَّذي أحسُّوا به؛ فلا بُدَّ من تَقديرِ مُضافٍ، أي: مِن بأْسِنا .

- وفي دُخولِ (إذا) الفُجائيَّةِ في جوابِ (لمَّا): دَلالةٌ على أنَّهم ابْتَدَروا الهُروبَ من شِدَّةِ الإحساسِ بالبأْسِ؛ تَصويرًا لشِدَّةِ الفزَعِ .

3- قوله تعالى: لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ

- وجُملةُ: لَا تَرْكُضُوا ... مُعترِضةٌ بين فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا وقَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، وهي خِطابٌ للرَّاكضينَ بتَخيُّلِ كونِهم الحاضرينَ المُشاهِدينَ في وقْتِ حكايةِ قِصَّتِهم، تَهيئةً وتأهيلًا لِما اقْتَضى اجتلابَ حَرْفِ المُفاجأةِ. والكلامُ تَهكُّمٌ بهم .

- ولَمَّا كان التَّأسيفُ إنَّما هو على العَيشِ الرَّافِهِ، لا على كَونِه مِن مُعطٍ مُعَيَّنٍ، بُنِيَ للمفعولِ قَولُه: أُتْرِفْتُمْ فِيهِ. ويجوزُ أن يكونَ بُنِيَ للمفعولِ؛ إشارةً إلى غَفْلَتِهم عن العِلمِ لِمَن أترَفَهم، أو إلى أنَّهم كانوا يَنسُبونَ نِعمَتَهم إلى قُواهم، ولو عَدُّوها منَ اللهِ لشَكَروه فنفَعَهم .

- قولُه: لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ أي: ارْجِعوا إلى نَعيمِكم ومَساكنِكم لعلَّكم تُسْألون غدًا عمَّا جَرى عليكم؛ ففيه تَوبيخٌ وتَهكُّمٌ بهم، أو: يَسْألُكم الوافدونَ نوالَكم، إمَّا لأنَّهم كانوا أسخياءَ يُنفقونَ أموالَهم رئاءَ الناسِ وطلبَ الثناءِ، أو كانوا بُخلاءَ، فقيل لهم ذلك تَهكُّمًا إلى تَهكُّمٍ، وتَوبيخًا إلى تَوبيخٍ .

4- قولُه تعالى: قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ إنْ جُعِلَتْ جُملةُ لَا تَرْكُضُوا مُعترِضةً، تكونُ جُملةُ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مُستأنفةً استئنافًا بَيانيًّا عن إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ؛ كأنَّ سائِلًا سأَلَ عمَّا يقولونَه حين يُسْرِعونَ هاربينَ؛ لأنَّ شأْنَ الهاربِ الفزِعِ أنْ تَصدُرَ منه أقوالٌ تدُلُّ على الفزَعِ أو النَّدمِ عن الأسبابِ الَّتي أحلَّتْ به المخاوِفَ، فيُجابُ بأنَّهم أيْقَنوا حينَ يرَونَ العذابَ أنَّهم كانوا ظالِمينَ. وإنْ جُعِلَتْ جُملةُ لَا تَرْكُضُوا مقولَ قولٍ مَحذوفٍ، كانت جُملةُ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ جوابًا لقولِ مَن قال لهم: لَا تَرْكُضُوا ... .

5- قولُه تعالى: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ

- قولُه: حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ كِنايةٌ عن مَوتِهم .

- وفي قولِه: حَصِيدًا خَامِدِينَ تَشبيهٌ بليغٌ؛ فقد شبَّهَهم بعْدَ حُلولِ العذابِ بهم بالحصيدِ أوَّلًا، وهو الزَّرعُ المحصودُ، ووجْهُ الشَّبهِ بين المُشبَّهِ والمُشبَّهِ به هو الاستئصالُ من المنابتِ، ثمَّ شبَّهَهم ثانيًا بالنَّارِ المُنطفِئةِ ولم يبْقَ منها إلَّا جمْرٌ مُنطفِئٌ لا نفْعَ فيه، ولا قابليَّةَ لشَيءٍ من النَّفعِ منه، فلا تُرى إلَّا أشْلاءٌ مُتناثِرةٌ وأجزاءٌ مُتفرِّقةٌ قد تَمدَّدتْ، وقد رانَ عليها البِلَى .

6- قولُه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ

- قولُه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ ... إشارةٌ إجماليَّةٌ إلى أنَّ تكوينَ العالَمِ وإبداعَ بني آدَمَ مُؤسَّسٌ على قواعدِ الحِكَمِ البالغةِ المُسْتتبِعةِ للغاياتِ الجليلةِ، وتَنبيهٌ على أنَّ ما حُكِيَ من العذابِ الهائلِ والعقابِ النَّازلِ بأهْلِ القُرى مِن مُقتضياتِ تلك الحِكَمِ ومُتفرِّعاتِها حسَبَ اقتضاءِ أعمالِهم إيَّاهُ، وأنَّ للمُخاطَبينَ المُقتدينَ بآثارِهم ذَنوبًا مثْلَ ذَنوبِهم .

- وتَخصيصُ وَمَا بَيْنَهُمَا بالذِّكْرِ يدُلُّ على الاهتمامِ به؛ لأنَّ أشرَفَه هو نوعُ الإنسانِ المقصودِ بالعِبْرةِ والاستدلالِ، وهو مَناطُ التَّكليفِ .

- وعبَّرَ بقولِه: لَاعِبِينَ لبَيانِ كَمالِ تَنزُّهِه تعالى عن الخلْقِ الخالي عن الحِكْمةِ، بتَصويرِه بصُورةِ ما لا يَرتابُ أحدٌ في استحالةِ صُدورِه عنه سُبحانه .

7- قوله تعالى: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ

- قولُه: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا جُملةٌ مُستأْنَفةٌ مُقرِّرةٌ لمعنى جُملةِ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ تَقريرًا بالاستدلالِ على مَضمونِ الجُملةِ، وتَعليلًا لنفْيِ أنْ يكونَ خلْقُ السَّمواتِ والأرضِ لَعِبًا .

- وقولُه: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا عَقِيبَ قولِه: وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ من بابِ وضْعِ المُظهَرِ مَوضِعَ المُضْمرِ من غيرِ لفْظِه السَّابقِ؛ لأنَّ اللَّهْوَ: ما يُتلهَّى به ويُلْعَبُ ، وهذا على قولٍ في التفسيرِ.

- قولُه: لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا في إضافةِ (لَدُنْ) إلى ضَميرِ الجَلالةِ دَلالةٌ على الرِّفْعةِ والتَّفضيلِ .

- قولُه: إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ فيه مَحذوفٌ؛ ثِقةً بدَلالةِ ما قبْلَه عليه، أي: إنْ كُنَّا فاعلينَ لاتَّخذناه. وإنْ جُعِلَتْ (إنْ) شَرطيَّةً كان تَكريرًا للتَّلازُمِ، وإنْ جُعِلَتْ (إنْ) حَرْفَ نفْيٍ كانت الجُملةُ مُستأْنفةً؛ بَيانًا لتَقريرِ الامتناعِ المُستفادِ مِن (لو)، أي: ما كنَّا فاعلينَ لَهْوًا .

8- قولُه تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ

- قولُه: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ (بل) للإضرابِ عن اتِّخاذِ اللَّهوِ، وعن أنْ يكونَ الخلْقُ لَعِبًا، إضرابَ إبطالٍ وارتقاءٍ . أو إضرابٌ عن إرادتِه، وتَخصيصُ شأْنِه هذا مِن بينِ سائرِ شُؤونه تعالى بالذِّكْرِ؛ للتَّخلُّصِ إلى ما سيأْتي من الوعيدِ .

- قولُه: فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ في (إذا) الفُجائيَّةِ والجُملةِ الاسميَّةِ، من الدَّلالةِ على كَمالِ المُسارَعةِ في الذَّهابِ والبُطلانِ ما لا يَخْفى؛ فكأنَّه زاهِقٌ من الأصْلِ . أو دَلَّ على سُرعةِ مَحْقِ الحقِّ الباطلَ عندَ وُرودِه؛ لأنَّ للحقِّ صَولةً، فهو سريعُ المفعولِ إذا وَرَد ووَضَحَ .

================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (19-23)

ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

غريب الكلمات:

 

وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ: أي: لا يَعْيَونَ، ولا يَنقَطِعونَ عن العِبادةِ، والحَسِيرُ: المنقَطِعُ إعياءً أو كَلالًا، وأصلُ (حسر): يدُلُّ على كَشفِ الشَّيءِ

.

يَفْتُرُونَ: أي: يَضعُفونَ ويَسأَمونَ، والفُتورُ: سكونٌ بعدَ حِدَّةٍ، ولينٌ بعدَ شِدَّةٍ، وأصلُ (فتر): يدُلُّ على ضَعفٍ في الشَّيءِ .

يُنْشِرُونَ: أي: يُحيُونَ الموتى، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وتَشعُّبِه

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا

قَولُه: إِلَّا اللَّهُ: بالرَّفعِ صفةٌ للنكرةِ قبلَها آَلِهَةٌ. وإِلَّا هنا بمعنى (غَيْر) ولا يَصحُّ الاستثناءُ بالنَّصبِ؛ لأنَّ المعنى حينئذٍ يصيرُ: (لو كان فيهما آلهةٌ ليس اللهُ فيهم، لفسَدتا)، وذلك يقتضي أنَّه لو كان فيهما آلهةٌ فيهم الله لم تفسُدا، وهذا ظاهِرُ الفَسادِ، وكذلك لا يصحُّ أن يُعرَبَ بدلًا مِن آَلِهَةٌ؛ لأنَّه لم يصِحَّ الاستثناءُ، فلا تصحُّ البدليَّةُ. وقيل: (إلَّا) هنا اسمٌ مبنيٌّ بمعنى «غير»، صِفةٌ لـ آَلِهَةٌ، انتقل إعرابُها وظهرَ فيما بعدَها اللَّهُ، وعليه فـ اللَّهُ مُضافٌ إليه مجرورٌ بكسرةٍ مُقدَّرةٍ على آخرِه منَعَ مِن ظهورها اشتغالُ المحلِّ بحركةِ إعرابِ إِلَّا الظاهرِ فيه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ الله تعالى: وللهِ سُبحانَه مُلكُ مَن في السَّمَواتِ والأرضِ. والذين عندَه من الملائكةِ لا يتكَبَّرونَ عن عِبادتِه ولا يَنقَطِعونَ عنها، يذكُرونَ اللهَ ويُنَزِّهونَه دائمًا، لا يَضْعُفونَ ولا يَسأَمونَ.

ثمَّ ذكَر الله تعالى الأدلةَ على وحدانيَّتِه، واستحالةِ أن يكونَ له شركاءُ في ألوهيتِه، فقال: أتَّخَذَ هؤلاء المشركونَ آلهةً مِن الأرضِ يُحيون الموتَى؟ كلا، لا يَقْدِرون على ذلك، فكيفَ عبَدوهم معَ اللهِ؟! لو كان في السَّمَواتِ والأرضِ آلهةٌ غيرُ اللهِ سُبحانَه وتعالى، لاختلَّ نظامُهما. فتنزَّه اللهُ رَبُّ العَرشِ، وتقدَّس عَمَّا يَصِفُه الجاحِدونَ الكافِرونَ، من الكَذِبِ والافتراءِ.

لا يُسألُ عن قَضائِه في خَلقِه، ولا أحدَ يَقدِرُ أن يُمانِعَه أو يُعارِضَه سُبحانَه، وجميعُ خَلقِه يُسأَلونَ عن أفعالِهم وأقوالِهم.

تفسير الآيات:

 

وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا نفَى اللَّعِبَ عن نَفْسِه، ونفيُ اللَّعِبِ لا يَصِحُّ إلَّا بنفيِ الحاجةِ، ونفيُ الحاجةِ لا يَصِحُّ إلا بالقُدرةِ التامَّةِ؛ لا جرَمَ عَقَّب تلك الآيةَ بقَولِه: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لدَلالةِ ذلك على كَمالِ المُلكِ والقُدرةِ

.

وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى كلامَ الطَّاعِنينَ في النبُوَّاتِ، وأجاب عنها، وبيَّنَ أنَّ غَرَضَهم مِن تلك المطاعِنِ التمَرُّدُ وعَدَمُ الانقيادِ؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّه تعالى مُنَزَّهٌ عن طاعتِهم؛ لأنَّه هو المالِكُ لجميعِ المُحْدَثاتِ والمخلوقاتِ، ولأجْلِ أنَّ الملائِكةَ مع جلالَتِهم مُطيعونَ له، خائِفونَ منه، فالبَشَرُ مع نهايةِ الضَّعفِ أَولى أن يُطيعوه .

وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

أي: ولله وَحدَه مُلكُ مَن في السَّمواتِ والأرضِ مِن الخَلقِ، وكُلُّهم عَبيدٌ له .

وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ.

أي: ومَن عِندَه مِنَ الملائِكةِ لا يتكَبَّرونَ عن عبادتِه وطاعتِه والتذَلُّلِ له، ولا يتعَبونَ من عبادتِه، ولا يَنقَطِعونَ عنها .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 206] .

وقال سُبحانَه: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] .

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20).

أي: يُسبِّحونَ اللهَ ليلًا ونهارًا، لا يَضعُفُ نَشاطُهم عن تَسبيحِه في كلِّ وَقتٍ .

أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ الله تعالى كمالَ اقتدارِه وعَظَمتِه، وخضوعَ كُلِّ شَيءٍ له؛ أنكَرَ على المُشرِكينَ الَّذينَ اتَّخَذوا مِن دونِ اللهِ آلِهةً مِن الأرضِ في غايةِ العَجزِ وعَدَمِ القُدرةِ .

أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21).

أي: هل اتَّخَذ أولئك المُشرِكونَ مَعبوداتٍ مِن الأرضِ يُحْيونَ الأمواتَ؟ كلا، لا يَقدِرونَ على ذلك، فكيف جَعَلوهم لله أندادًا، وعَبَدوهم معه ؟!

كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان: 3] .

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22).

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا.

أي: لو كان في السَّمَواتِ والأرضِ مَعبوداتٌ تَستَحِقُّ العبادةَ غَيرُ اللهِ، لَخَرِبَتِ السَّمَواتُ والأرضُ، واختلَّ نظامُهما، وبطَل الانتفاعُ بما فيهما، وهلَك ما فيهما مِن الخَلقِ .

كما قال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون: 91] .

فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.

أي: فتنزَّه اللهُ ربُّ العَرشِ وتعالى عمَّا يَصِفُه به الواصِفونَ مِن صِفاتِ النَّقصِ، ويَكذِبونَ عليه، كادِّعائِهم أنَّ له ولدًا وشَريكًا !

كما قال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الزخرف: 82] .

لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23).

أي: لا سائلَ يَسألُ الله تعالى عمَّا يفعلُ، فيقولُ له: لِمَ فعَلْتَ؟ ولِمَ لَمْ تفعَلْ؟ ولا أحدَ يَقدِرُ أن يُمانِعَه أو يُعارِضَه سُبحانَه بقَولٍ أو بفِعلٍ فيما يشاءُ فِعلَه بخَلقِه، وأمَّا خَلقُه فيَسأَلُهم عن أفعالِهم وأقوالِهم

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود: 107].

وقال سُبحانَه: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد: 41] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93].

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ فكُلُّ المكَلَّفينَ في السَّماءِ والأرضِ هم عَبيدُ اللهِ تعالى، وهو الخالِقُ لهم، والمُنعِمُ عليهم بأصنافِ النِّعَمِ، فيَجِبُ على الكُلِّ طاعَتُه، والانقيادُ لحُكمِه

.

2- قَولُ الله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ أي: أنَّهم مُستَغرِقونَ في العبادةِ والتَّسبيحِ في جميعِ أوقاتِهم؛ فليس في أوقاتِهم وَقتٌ فارغٌ ولا خالٍ منها، وهم على كَثرتِهم بهذه الصِّفةِ، وفي هذا مِن بيانِ عَظَمةِ اللهِ تعالى، وجَلالةِ سُلطانِه، وكَمالِ عِلمِه وحِكمَتِه ما يُوجِبُ ألَّا يُعبَدَ إلَّا هو، ولا تُصرَفَ العبادةُ لِغَيرِه .

3- قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فعُلِمَ بذلك أنَّه لا صلاحَ للعالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ مَعًا حتى تكونَ حَرَكاتُ أهلِها كُلُّها للهِ، وحَرَكاتُ الجَسَدِ تابِعةٌ لحركةِ القَلبِ وإرادتِه؛ فإن كانت حركَتُه وإرادتُه لله وحْدَه، فقد صلَحَ وصَلَحت حَرَكاتُ الجَسَدِ كُلِّه، وإن كانت حركةُ القَلبِ وإراداتُه لغيرِ الله تعالى، فسَدَ وفسَدَت حَرَكاتُ الجَسَدِ بحَسَبِ فَسادِ حركةِ القلبِ ، فكما أنَّ السَّمَواتِ والأرضَ لو كان فيهما إلهٌ غَيرُه سُبحانَه لفَسَدتا، كما قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا، فكذلك القَلبُ: إذا كان فيه مَعبودٌ غَيرُ اللهِ فَسَد فَسادًا لا يُرجى صَلاحُه إلَّا بأن يُخرِجَ ذلك المعبودَ مِن قَلبِه، ويكونَ اللهُ وحْدَه إلهَه ومَعبودَه الذي يُحِبُّه ويَرجوه ويَخافُه، ويتوكَّلُ عليه ويُنيبُ إليه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- مِن أدِلَّةِ عُلُوِّ اللهِ على خَلْقِه التَّصريحُ باختِصاصِ بَعضِ المخلوقاتِ بأنَّها عِندَه، وأنَّ بعضَها أقرَبُ إليه مِن بَعضٍ؛ كقَولِه تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ، ففَرَّق بينَ مَن له عمومًا، ومَن عندَه مِن مماليكِه وعَبيدِه خُصوصًا، وفيه ردٌّ على الجَهميَّةِ

.

2- قال الله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ فإنْ قيل: كيفَ أنكَرَ عليهم اتخاذَ آلهةٍ تُنشِرُ، وما كانوا يدَّعونَ ذلك لآلهَتِهم؟

والجوابُ: أنَّ الأمرَ وإن كان كما ذُكِرَ، إلَّا أنَّهم بادِّعائِهم لها الإلهيَّةَ، يَلزَمُهم أن يَدَّعوا لها الإنشارَ؛ لأنَّه لا يَستَحِقُّ هذا الاسمَ إلَّا القادِرُ على كُلِّ مَقدورٍ، والإنشارُ مِن جُملةِ المَقدوراتِ .

3- في قَولِه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا دَلالةٌ على أنَّ عِلْمَ اللهِ تعالى يتعلَّقُ أيضًا بالمُستَحيلِ؛ فهذا خبَرٌ يخبِرُ اللهُ فيه أنَّه لو كان في السَّماءِ والأرضِ آلهةٌ إلَّا اللهُ لفَسَدتا، وهذا خَبَرٌ عن شيءٍ مُستَحيلٍ .

4- نبَّه الله سبحانَه خَلْقَه على أنَّه واحدٌ باتِّساقِ أفعالِه وتَرتيبِها، وأنَّه تعالى لا شريكَ له فيها، بقَولِه عزَّ وجَلَّ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ، فإنَّ كُلَّ إلهٍ كان يَطلُبُ مُغالَبةَ الآخرِ، والعُلُوَّ عليه، وتفَرُّدَه دونَه بإلهيَّتِه؛ إذ الشَّرِكةُ نَقصٌ في كَمالِ الإلهيَّةِ، والإلهُ لا يرضَى لنَفسِه أن يكونَ إلهًا ناقِصًا، فإنْ قهَرَ أحدُهما الآخَرَ كان هو الإلهَ وحْدَه، والمقهورُ ليس بإلهٍ، وإنْ لم يقهَرْ أحَدُهما الآخَرَ، لَزِمَ عَجزُ كُلٍّ منهما، ولم يكنْ تامَّ الإلهيَّةِ، فيَجِبُ أن يكونَ فَوقَهما إلهٌ قاهِرٌ لهما، حاكِمٌ عليهما، وإلَّا ذهب كُلٌّ منهما بما خلَقَ، وطلَبَ كُلٌّ منهما العلوَّ على الآخَرِ، وفي ذلك فسادُ أمرِ السَّمَواتِ والأرضِ ومَن فيها ؛ فلا يَصلُحُ الوجودُ إلَّا على إلهٍ واحدٍ، كما أنَّه لم يُوجَدْ إلَّا برَبٍّ واحدٍ؛ ولهذا قال سُبحانَه: لَوْ كَانَ فِيهِمَا أي: في السَّمَواتِ والأرضِ آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا في ذاتِهما، وفسَدَ مَن فيهما مِن المخلوقاتِ. بيانُ ذلك: أنَّ العالَمَ العُلويَّ والسُّفليَّ -على ما يُرى- في أكمَلِ ما يكونُ مِن الصَّلاحِ والانتِظامِ الذي ما فيه خَلَلٌ ولا عَيبٌ، ولا مُمانعةٌ ولا مُعارضةٌ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ مُدَبِّرَه واحِدٌ، ورَبَّه واحِدٌ، وإلهَه واحِدٌ -سُبحانَه وبِحَمدِه .

5- في قَولِه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ دَلالةٌ على أنَّ التَّعليقَ بالشَّرطِ لا يَدُلُّ على إمكانِ المَشروطِ، بل قد يكونُ مُستَحيلًا غايةَ الاستِحالةِ، كما في الآيةِ .

6- قَولُ الله تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ فيه سؤالٌ: لِقائلٍ أن يقولَ: إنَّ قَولَه: وَهُمْ يُسْأَلُونَ وإن كان متأكِّدًا بقَولِه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٩٢]، وبقَولِه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: ٢٤] إلَّا أنَّه يُناقِضُه -ظاهِرًا- قَولُه: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: ٣٩]!

والجوابُ عن هذا مِن ثلاثةِ أوجُهٍ:

الأوَّل -وهو أوجَهُها؛ لدَلالةِ القُرآنِ عليه- هو: أنَّ السُّؤالَ قِسمانِ: سؤالُ تَوبيخٍ وتقريعٍ، وأداتُه غالبًا: (لِمَ)، وسؤالُ استخبارٍ واستعلامٍ، وأداتُه غالبًا: (هَل)، فالـمُثبَتُ هو سؤالُ التَّوبيخِ والتَّقريعِ، والمنفيُّ هو سُؤالُ الاستخبارِ والاستعلامِ. وجهُ دلالةِ القرآنِ على هذا: أنَّ سؤالَه لهم المنصوصَ في كُلِّه توبيخٌ وتقريعٌ، كقولِه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ [الصافات: 24، 25]، وقولِه: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ [الطور: 15]، وكقولِه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: 8] ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.

الثاني: أنَّ في القيامةِ مواقِفَ مُتعدِّدةً؛ ففي بعضِها يُسألونَ، وفي بعضها لا يُسألونَ.

الثالث: أنَّ إثباتَ السُّؤالِ مَحمولٌ على السُّؤالِ عَنِ التَّوحيدِ، وتَصديقِ الرُّسلِ، وعدمَ السُّؤالِ مَحمولٌ على ما يستلزِمُه الإقرارُ بالنُّبوَّاتِ مِن شرائِعِ الدِّينِ وفُروعِه . وقيل غيرُ ذلك .

7- قال الله تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ بيَّنَ بهذا أنَّ مَن يُسأَلُ غَدًا عن أعمالِه -كالمَسيحِ، والمَلائِكةِ- لا يَصلُحُ للإلهيَّةِ .

8- قَولُه تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ فيه دليلٌ ظاهرٌ على القدريَّةِ في مسألةِ القَدَرِ ، فعن أبي الأسودِ الدِّيليِّ، قال: (قال لي عِمْرانُ بنُ الحُصَينِ: أرأيتَ ما يعملُ النَّاسُ اليومَ ويَكْدَحونَ فيه، أشيءٌ قُضيَ عليهم، ومضَى عليهم مِن قَدَرِ ما سَبَق؟ أو فيما يُستقبَلونَ به مِمَّا أتاهم به نَبِيُّهم، وثَبَتت الحجَّةُ عليهم؟ فقُلْتُ: بل شيءٌ قُضِي عليهم، ومضَى عليهم. قال: فقال: أفلا يكونُ ظلمًا؟ قال: ففزِعْتُ مِن ذلك فَزَعًا شديدًا، وقلتُ: كلُّ شيءٍ خَلْقُ اللهِ ومِلْكُ يدِه، فلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. فقال لي: يرحمُك اللهُ، إنِّي لم أُرِدْ بما سألْتُك إلَّا لِأَحْزِرَ عقلَك) . وقال ابنُ جُرَيجٍ في هذه الآيةِ: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ: (المعنى: لا يَسألُه الخَلقُ عن قَضائِه في خَلْقِه، وهو يسألُ الخَلقَ عن عَمَلِهم؛ لأنَّهم عَبيدٌ)

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ استئنافٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه، وإخبارٌ بأنَّ جميعَ العالَمِ ملْكُه

، أو عطْفٌ على جُملةِ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا [الأنبياء: 17] ، مُبيِّنةٌ أنَّ كلَّ مَن في السَّمواتِ والأرضِ عِبادٌ للهِ تعالى، مَخلوقونَ لقَبولِ تَكليفِه، والقيامِ بما خُلِقوا لأجْلِه .

- وتَقديمُ المجرورِ في وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ للاختصاصِ، أي: له مَن في السَّمواتِ والأرضِ لا لِغَيرِه، وهو قَصْرُ إفرادٍ ؛ رَدًّا على المُشرِكينَ الَّذين جَعَلوا للهِ شُركاءَ في الإلهيَّةِ. ومَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَعُمُّ العُقلاءَ وغيرَهم، وغلَّبَ اسمَ الموصولِ الغالبَ في العُقلاءِ؛ لأنَّهم المقصودُ الأوَّلُ .

- وجمَعَ السَّماءَ هنا؛ لاقتضاءِ تَعميمِ المُلْكِ ذلك .

- قولُه: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يعني: الملائكةَ، وخَصَّهم بالذِّكْرِ؛ لامتيازِهم بفضيلةِ القُرْبِ منه ، وهو مَعطوفٌ على مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ فيكونُ مِن عطْفِ الخاصِّ على العامِّ للاهتمامِ به. أو المُرادُ به نوعٌ مِن الملائكةِ مُتعالٍ عن التَّبوُّؤِ في السَّماءِ والأرضِ، أو لأنَّه أعَمُّ منه من وَجْهٍ، أو مُبتدأٌ خبَرُه لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ .

- وفيه تَعريضٌ بالَّذينَ يَستكبِرونَ عن عِبادةِ اللهِ، ويَعْبُدونَ الأصنامَ، وهم المُشرِكونَ .

- قولُه: وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ فيه قُوَّةُ اللَّفظِ لقُوَّةِ المعنى، وهو نقْلُ اللَّفظِ من وزْنٍ إلى وزْنٍ آخرَ أكثَرَ منه؛ لِيَتضمَّنَ من المعنى الدَّالِّ عليه أكثَرَ ممَّا تضمَّنَه أوَّلًا، وهذا الضَّرْبُ مِن الزِّيادةِ في الألفاظِ لا يُستعمَلُ إلَّا في مَقامِ المُبالَغةِ، وهو هنا في قولِه: وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ؛ فقد عدَلَ عن الثُّلاثيِّ وهو (حَسَرَ) إلى السُّداسيِّ وهو (اسْتحسَرَ)، وقد كان ظاهِرُ الكلامِ أنْ يُقالَ: (يَحْسِرون)، أي: يَكِلُّون ويَتْعبونَ؛ لأنَّ أقلَّ مَلَلٍ منهم أو كَلالٍ إزاءَ الملائكةِ وإزاءَ عِبادَتِهم للهِ سُبحانه لا يُتصوَّرُ منهم، ولكنَّه عدَلَ عن ذلك؛ للتنبيهِ على أنَّ عباداتِهم بثِقَلِها ودوامِها حقيقةٌ بأن يُستَحسَرَ منها، ومعَ ذلك لا يَستحسرونَ

 

.

2- قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ

- قولُه: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ استئنافٌ وقَعَ جوابًا لسُؤالٍ نشَأَ ممَّا قبْلَه؛ كأنَّه قِيلَ: ماذا يَصْنعونَ في عِباداتِهم أو كيف يَعْبُدون؟ فقيل: يُسَبِّحُونَ ... إلخ

. أو هو بَيانٌ لجُملةِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ؛ لأنَّ مَن لا يتعَبُ مِن عمَلٍ لا يَترُكُه، فهو يُواظِبُ عليه ولا يَعْيا منه .

3- قولُه تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ

- قولُه: أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً حِكايةٌ لجِنايةٍ أُخْرى من جِناياتِهم بطَريقِ الإضرابِ والانتقالِ مِن فَنٍّ إلى فنٍّ آخَرَ من التَّوبيخِ، ومعنى الهمزةِ في (أَمْ) المُنقطعةِ إنكارُ الواقعِ ، وهذا الانتقالُ وقَعَ اعتراضًا بين جُملةِ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وجُملةِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ

.

- وضَميرُ اتَّخَذُوا عائدٌ إلى المُشرِكينَ المُتبادرينَ مِن المقامِ في مثْلِ هذه الضَّمائرِ، ويجوزُ جَعْلُه الْتِفاتًا عن ضَميرِ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء: 18]، ويجوزُ أنْ يكونَ مُتناسِقًا مع ضَمائرِ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ [الأنبياء: 5] وما بعْدَه

.

- وفيه بابٌ من التَّهكُّمِ بهم والتَّوبيخِ والتَّجهيلِ، وإشعارٌ بأنَّ ما استَبْعدوهُ من اللهِ لا يصِحُّ استبعادُه؛ لأنَّ الإلهيَّةَ لمَّا صحَّتْ صَحَّ معها الاقتِدارُ على الإبداءِ والإعادةِ

.

- والمُرادُ بقولِه: مِنَ الْأَرْضِ هو التَّحقيرُ لا التَّخصيصُ، ووَصْفُ الآلهةِ بأنَّها مِن الأرضِ فيه تَهكُّمٌ بالمُشرِكينَ، وإظهارٌ لضَعْفِ رأْيِهم، أي: جَعَلوا لأنفُسِهم آلِهةً مِن عالَمِ الأرضِ، أو مأْخوذةً مِن أجزاءِ الأرضِ؛ تَعريضًا بأنَّ ما كان مثْلَ ذلك لا يَستحِقُّ أنْ يكونَ مَعبودًا

.

- وقولُه أيضًا: مِنَ الْأَرْضِ فيه مُقابَلةٌ لقولِه تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ؛ لأنَّ المُرادَ أهْلُ السَّماءِ .

- قولُه: هُمْ يُنْشِرُونَ النُّكتةُ في ذِكْرِ الضَّميرِ (هم): إفادةُ معنى الخُصوصيَّةِ، وهو الَّذي يَدورُ عليه الإنكارُ والتَّجهيلُ والتَّشنيعُ، ومعنى التَّخصيصِ في تَقديمِ الضَّميرِ: التَّنبيهُ على كَمالِ مُبايَنةِ حالِهم للإنشارِ المُوجبةِ لمَزيدِ الإنكارِ. ويجوزُ أنْ يُجعَلَ ذلك مِن مُسْتتبعاتِ ادِّعائِهم الباطلَ؛ لأنَّ الأُلوهيَّةَ مُقْتضيةٌ للاستقلالِ بالإبداءِ والإعادةِ، فحيث ادَّعَوا للأصنامِ الإلهيَّةَ، فكأنَّهم ادَّعَوا لها الاستقلالَ بالإنشارِ . وقيل: هُمْ في قولِه تعالى: هُمْ يُنْشِرُونَ للدَّلالةِ على قُوَّةِ أمْرِهم فيما أُسْنِدَ إليهم، لا على الاختصاصِ . وقيل: فائدةُ قولِه: هُمْ الإيذانُ بأنَّهم لم يَدَّعُوا لها الإنشارَ، وأنَّ قولَه: هُمْ يُنْشِرُونَ استئنافُ إلْزامٍ لهم، وكأنَّه قال: اتَّخَذوا آلهةً مع اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فهمْ إذنْ يُحْيونَ الموتى ضَرورةَ كونِهم آلِهةً .

4- قولُه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ جُملةٌ مُبيِّنةٌ للإنكارِ الَّذي في قولِه تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً؛ ولذلك فُصِلَتْ ولم تُعْطَفْ. وهذه الآيةُ استدلالٌ على استحالةِ وُجودِ آلهةٍ غيرِ اللهِ بعْدَ خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، فهي مَسوقةٌ لإثباتِ الوَحدانيَّةِ لا لإثباتِ وُجودِ الخالقِ؛ إذ لا نِزاعَ فيه عندَ المُخاطَبينَ، ولا لإثباتِ انفرادِه بالخلْقِ؛ إذ لا نِزاعَ فيه كذلك، ولكنَّها مُنتظِمةٌ على ما يُناسِبُ اعتقادَهم الباطِلَ؛ لكَشْفِ خطَئِهم، وإعلانِ باطِلِهم

.

- والضَّميرُ في قولِه: فِيهِمَا عائدٌ على السَّماءِ والأرضِ، وهما كِنايةٌ عن العالَمِ

.

- قولُه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها مِن ثُبوتِ الوَحدانيَّةِ بالبُرهانِ، وإيرادُ لفْظِ الجَلالةِ في مَوضِعِ الإضمارِ؛ للإشعارِ بعِلَّةِ الحُكْمِ؛ فإنَّ الأُلوهيَّةَ مَناطٌ لجميعِ صِفاتِ كَمالِه الَّتي من جُملتِها تَنزُّهُه تعالى عمَّا لا يَلِيقُ به، ولِتَربيةِ المَهابةِ وإدخالِ الرَّوعةِ. وقولُه: رَبِّ الْعَرْشِ صِفةٌ للاسمِ الجليلِ مُؤكِّدةٌ لتَنزُّهِه عزَّ وجلَّ، وللتَّذكيرِ بأنَّه انفرَدَ بخلْقِ السَّمواتِ، وهو شَيءٌ لا يُنازِعونَ فيه، بلْ هو خالِقُ ما هو أعظَمُ من السَّمواتِ وحاوِيها، وهو العرْشُ؛ تَعريضًا بهم بإلْزامِهم لازِمَ قَولِهم بانفرادِهِ بالخلْقِ أنْ يَلزَمَ انتفاءُ الشُّركاءِ له فيما دونَ ذلك .

5- قولُه تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ استئنافٌ ببَيانِ أنَّه تعالى لقُوَّةِ عَظمتِه وعِزَّةِ سُلطانِه القاهرِ، بحيث ليس لأحدٍ من مَخلوقاتِه أنْ يُناقِشَه ويَسأَلَه عمَّا يَفعَلُ مِن أفعالِه، إثْرَ بَيانِ أنْ ليس له شَريكٌ في الإلهيَّةِ . وفيه إبطالٌ لإلهيَّةِ المُقرَّبينَ الَّتي زعَمَها المُشرِكونَ الَّذين عَبَدوا الملائكةَ وزَعَموهم بَناتِ اللهِ تعالى، بطريقةِ انتفاءِ خاصيَّةِ الإلهِ الحقِّ عنهم؛ إذ هم يُسْألونَ عمَّا يَفْعلون، وشأْنُ الإلهِ ألَّا يُسألَ .

- وجُملةُ: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ تَمهيدٌ لجُملةِ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، على أنَّ تَقديمَه على جُملةِ وَهُمْ يُسْأَلُونَ اقتضَتْهُ مُناسبةُ الحديثِ عن تَنزيهِه تعالى على الشُّركاءِ؛ فكان انتقالًا بَديعًا بالرُّجوعِ إلى بَقيَّةِ أحوالِ المُقرَّبينَ. وأيضًا في قولِه: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ كِنايةٌ عن جَريانِ أفعالِ اللهِ تعالى على مُقْتضى الحِكْمةِ، بحيث إنَّها لا مَجالَ فيها لانتقادِ مُنتقِدٍ .

- وجاء في قولِه: عَمَّا يَفْعَلُ بالتَّعبيرِ بـ يَفْعَلُ؛ إذ الفِعلُ جامِعٌ لصِفاتِ الأفعالِ، مُندرِجٌ تحتَهُ كلُّ ما يَصدُرُ عنه مِن خَلْقٍ ورَزْقٍ، ونَفْعٍ وضَرٍّ، وغيرِ ذلك .

- قولُه: وَهُمْ يُسْأَلُونَ وَعيدٌ للكَفرةِ ، وفيه: كِنايةٌ عن العُبوديَّةِ

=====================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (24-29)

ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

 

مُشْفِقُونَ: أي: خائِفونَ حَذِرونَ، وأصلُ (شفق): يدُلُّ على رِقَّةٍ في الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: أمِ اتَّخَذ هؤلاء المُشرِكونَ مِن دون اللهِ آلِهةً؟ قل -يا مُحمَّدُ- لهم: هاتوا ما لديكم مِنَ البُرهانِ على صِحَّةِ ما تَزعُمونَهم آلِهةً؛ فليس في القرآنِ الذي جئتُ به ولا في الكُتُبِ السَّابِقةِ دَليلٌ على ما ذهَبتُم إليه، بل أكثَرُ هؤلاء المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ الحَقَّ الذي أنزَلَه الله، فهم مُعرِضونَ عنه مُنكِرونَ له.

وما أرسَلْنا مِن قَبْلِك -يا محمَّدُ- مِن رَسولٍ إلَّا نوحي إليه أنَّه لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، فأخْلِصوا العبادةَ له وحْدَه.

وقال المُشرِكونَ: اتَّخَذَ الرَّحمنُ الملائِكةَ بناتٍ له! تنزَّه اللهُ عن ذلك؛ فالملائِكةُ عبادُ اللهِ مُقَرَّبونَ عندَه، لا يتكَلَّمونَ إلَّا بما يأمُرُهم الله بقولِه، ويَعمَلونَ بما يأمرُهم به، ويُطيعونَه ولا يُخالِفونَه، وما مِن قولٍ أو فعلٍ لاحِقٍ أو سابِقٍ من أعمالِ الملائكةِ إلَّا يَعلَمُه اللهُ سُبحانَه وتعالى، ويُحصيه عليهم، ولا يتقَدَّمونَ بالشَّفاعةِ إلَّا لِمَن ارتضى اللهُ شفاعَتَهم له، وهم مِن خَوفِ اللهِ حَذِرونَ مِن مُخالفةِ أمْرِه ونَهْيِه. ومَن يدَّعِ مِن الملائِكةِ -على سبيلِ الفَرضِ- أنَّه إلهٌ مِن دونِ اللهِ، فجَزاؤه جهنَّمُ، مِثلَ ذلك الجزاءِ نجزي كُلَّ ظالمٍ مُشرِكٍ.

تفسير الآيات:

 

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24).

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً.

أي: أم

اتَّخَذ هؤلاء المُشرِكونَ مِن دونِ اللهِ مَعبوداتٍ يَزعُمونَ أنَّها تنفَعُ وتضُرُّ وتخلُقُ وتُحيي وتُميتُ ؟

قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ.

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهم: هاتوا دليلَكم على صِحَّةِ ما تَزعُمونَ أنَّ مع اللهِ آلِهةً أُخرى .

هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي.

أي: هذا القُرآنُ الذي أُنزِلَ علَيَّ، وهذه كتُبُ الأنبياءِ المتقَدِّمةُ -كالتَّوراةِ، والإنجيلِ- على خِلافِ ما تَزعُمونَ، فهل وجدْتُم في شَيءٍ منها اتخاذَ آلهةٍ مع اللهِ؟! أم كُلُّها ناطِقةٌ بالتَّوحيدِ آمِرةٌ به ؟

كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة: 5] .

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ.

مُناسَبتُها لما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ سُبحانَه وتعالى دليلَ التَّوحيدِ وطالَبَهم بالدَّلالةِ على ما ادَّعَوه، وبَيَّنَ أنَّه لا دليلَ لهم البتَّةَ عليه لا مِن جِهةِ العَقلِ ولا مِن جِهةِ السَّمعِ؛ ذكَرَ بَعدَه أنَّ وُقوعَهم في هذا المذهَبِ الباطِلِ ليس لأجْلِ دَليلٍ ساقهم إليه، بل ذلك لأنَّ عِندَهم ما هو أصلُ الشَّرِّ والفسادِ كُلِّه، وهو عَدَمُ العِلمِ، ثمَّ ترَتَّبَ على عَدَمِ العِلمِ الإعراضُ عن استِماعِ الحَقِّ وطَلَبِه .

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ.

أي: بل أكثَرُ هؤلاء المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ الحَقَّ الذي أنزَلَه الله؛ فهم مُعرِضونَ عنه، فلا يتفَكَّرونَ فيه، ولا يُؤمِنونَ به ويتَّبِعونَه .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25).

أي: وما أرسَلْنا مِن قَبْلِك -يا مُحمَّدُ- مِن رَسولٍ إلى أمَّةٍ مِن الأُمَمِ إلَّا نُوحي إليه أنَّه لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا أنا، فوحِّدوني، وأخْلِصُوا العِبادةَ لي .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] .

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ سُبحانَه وتعالى بالدَّلائِلِ الباهرةِ كَونَه مُنَزَّهًا عن الشَّريكِ والضِّدِّ والنِّدِّ؛ أردَفَ ذلك ببراءتِه عن اتِّخاذِ الوَلَدِ .

وأيضًا لَمَّا نفَى اللهُ تعالى مُطلَقَ الشَّريكِ عَقلًا ونَقلًا، فانتفَى بذلك كلُّ فَردٍ يُطلَقُ عليه هذا الاسمُ؛ عَجِبَ تعالى مِن ادِّعاءِ المُشرِكينَ الشَّرِكةَ المقَيَّدةَ بالوَلَدِ .

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا.

أي: وقال المُشرِكونَ: اتخذَ الرَّحمنُ الملائِكةَ بناتٍ له !

سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ.

أي: تنزيهًا لله أن تكونَ الملائِكةُ بَناتٍ له؛ فليس الأمرُ كما وَصَفوا، بل الملائِكةُ عِبادٌ لله، خاضِعونَ له، مُشَرَّفونَ مُقرَّبونَ عندَه .

لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27).

لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ.

أي: لا يتكَلَّمونَ إلَّا بما يأمُرُهم اللهُ بقَولِه، ولا يقولونَ شيئًا لم يأذَنْ لهم به .

وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.

أي: والملائِكةُ يَعمَلونَ بما يأمُرُهم اللهُ به، ويطيعونَه ولا يُخالِفونَه .

كما قال تعالى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 50] .

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ سُبحانَه ذكَرَ ما يجري مَجرى السَّبَبِ لطاعةِ الملائكةِ، فقال: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، والمعنى: أنَّهم لَمَّا عَلِموا كَوْنَه سُبحانَه عالِمًا بجَميعِ المعلوماتِ، عَلِموا كَوْنَه عالِمًا بظَواهِرِهم هم وبواطِنِهم، فكان ذلك داعيًا لهم إلى نهايةِ الخُضوعِ، وكَمالِ العُبوديَّةِ .

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.

أي: يعلَمُ اللهُ ما سيَعمَلُه الملائِكةُ مِن أقوالٍ وأفعالٍ فيما يَستَقبِلونَه، ويَعلَمُ ما مضى مِمَّا عَمِلوه؛ فلا خُروجَ لهم عن عِلمِه، كما لا خُروجَ لهم عن أمْرِه وتَدبيرِه .

وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى.

أي: ولا يَشفَعُ الملائِكةُ إلَّا لِمَن ارتَضى اللهُ الشَّفاعةَ له .

كما قال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] .

وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ.

أي: والملائِكةُ لأجْلِ خَوفِهم مِن اللهِ حَذِرونَ مِن أن يعصُوه، فيَحِلَّ بهم غَضَبُه وعِقابُه .

كما قال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] .

وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعد أن وصَفَ اللهُ تعالى كرامةَ الملائِكةِ عليه وأثنَى عليهم، وأضاف إليهم تلك الأفعالَ السَّنِيَّةَ؛ فجاء بالوَعيدِ الشَّديدِ، وأنذر بعذابِ جَهنَّمَ مَن ادَّعى منهم أنَّه إلهٌ .

وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ.

أي: ومَن يَقُلْ مِن الملائِكةِ -على سَبيلِ الفَرضِ: إنِّي إلهٌ معبودٌ من دونِ اللهِ؛ فسنُعاقِبُه بإدخالِه جهنَّمَ .

كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.

أي: كما نجزي مَن قال مِن الملائكةِ: إنِّي إلهٌ مِن دونِ اللهِ -على فرضِ وقوعِه- نَجزي أيضًا كلَّ من ظلَمَ نفسَه بوَضْعِه العبادةَ في غيرِ مَوضِعها، فأشرك باللهِ وعبَدَ غَيرَه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- لا يَنْبغي لعاقلٍ أنْ يتعرَّضَ لعلمِ ما لم يُعلِمْنا اللهُ ورسولُه، ويتضِحْ معقولُه ومنقولُه، وإلى ذلك الإشارةُ بقولِه تعالَى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي

.

2- في قولِه تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ أنَّ كمالَ المخلوقِ في تحقيقِ عبوديتِه لله تعالى، وكلَّما ازداد العبدُ تحقيقًا للعبوديةِ ازداد كمالُه، وعلَتْ درجتُه، ومَن توهَّم أنَّ المخلوقَ يخرجُ عن العبوديةِ بوجهٍ مِن الوجوهِ، وأنَّ الخروجَ عنها أكملُ؛ فهو مِن أجهلِ الخلقِ وأضلِّهم .

3- قال الله تعالى عن الملائِكةِ: عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى والصَّادِرُ عنهم إمَّا قَولٌ وإمَّا عمَلٌ؛ فالقَولُ لا يَسبِقونَه به، بل لا يقولونَ حتى يقولَ، ولا يَشفَعونَ إلَّا لِمَن ارتضَى، وعلينا أن نكونَ معه ومع رسُلِه هكذا؛ فلا نقولُ في الدِّينِ حتى يقولَ، ولا نتقَدَّمُ بين يَدَيِ اللهِ ورَسولِه، ولا نَعبُدُه إلَّا بما أمرَ، وأعلَى مِن هذا ألَّا نعمَلَ إلَّا بما أمَرَ، فلا تكونُ أعمالُنا إلَّا واجِبةً أو مُستَحَبَّةً

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي هذه الآيةُ دالَّةٌ على أنَّ كُتُبَ اللهِ لا تَخْلو مِن البراهينِ المحتاجِ اليها في أمرِ الدِّينِ، فلا يجوزُ خُلُوُّ كتبِ الله تعالى وسننِ أنبيائِه عن أمرٍ كبيرٍ مِن مهمَّاتِ الدينِ العقليةِ، وكذلك قولُه تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64] ؛ فثبَت أنَّ ما خلَتْ عنه كتبُ الله تعالى فليس مِن مهمَّاتِ الدينِ، وأنَّ زيادتَه في الدينِ محرَّمةٌ

.

2- أكثَرُ إعراضِ الخَلقِ عن الحَقِّ مِن عَدَمِ مَعرفةِ الحَقِّ، كما قال الله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ . وذلك على أحدِ القولين في معنَى الآيةِ.

3- في قولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ أنَّ المقصودَ الأعظمَ مِن بعثتِه صلَّى الله عليه وسلَّم -بل مِن بعثةِ الرسلِ مِن قبلِه- هو أن يُعبَدَ اللهُ وحْدَه لا شريكَ له، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ، بل هذا هو المقصودُ مِن خَلقِ الخلقِ وإيجادِهم، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].

4- في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ أنَّ دينَ الأنبياءِ واحدٌ، وهنا سؤالٌ عن الجمعِ معَ قولِه تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48] ؟

الجواب: أنَّ الشِّرعةَ العمليةَ تختلفُ باختلافِ الأممِ أو الأماكنِ والأزمنةِ، وأمَّا أصلُ الدِّينِ فواحدٌ، قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] .

5- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ في هذه الآيةِ إظهارٌ لعِنايةِ اللهِ تعالى بإزالةِ الشِّركِ مِن نُفوسِ البَشَرِ وقَطعِ دابِرِه؛ إصلاحًا لِعُقولِهم بأن يُزالَ منها أفظَعُ خَطَلٍ، وأسخَفُ رأيٍ، ولم تَقطَعْ دابِرَ الشِّركِ شَريعةٌ كما قَطَعه الإسلامُ .

6- قولُه تعالى: أَنَا في قولِه: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وقولُه تعالى: هُوَ في قولِه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 2] كلاهما ضميرُ رفعٍ منفصلٍ، وكما أنَّ الذاكرَ لا يجعلُ «أنا» اسمًا لله؛ فلا يجوزُ أن يجعلَ «هو» اسمًا لله! وبهذا نعرفُ بطلانَ ذكرِ الصوفيةِ الذين يذكرونَ الله بلفظِ: «هو، هو»، ويرونَ أنَّ هذا الذكرَ أفضلُ الأذكارِ! وهو ذكرٌ باطلٌ .

7- قَولُ الله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ يدلُّ على أنَّ المِلكيةَ والوِلادةَ لا يجتمعانِ ، وقد جرَت العادةُ في القرآنِ بأنَّ الله يرُدُّ على الكفرةِ في ادِّعاءِ الولدِ بأنَّه مالكُ كلِّ شيءٍ، وأنَّ الخلقَ عبيدُه؛ لأنَّ العبدَ لا يمكنُ أن يكونَ ولدًا! ومِن هذه الآياتِ القرآنيةِ أخَذ العلماءُ أنَّ الإنسانَ إذا ملَك ولدَه -بأنْ تزوَّج أَمَةً لغيرِه، وكان ولدُه رقيقًا واشتراه- أنَّه يعتقُ عليه بنفْسِ الملكِ، ولا يمكنُ أن يملكَه؛ لأنَّ الملكيةَ والولديةَ متنافيانِ .

8- في قوله تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أنَّ إبليسَ اللعينَ لمَّا كان قد عصَى اللهَ ما أمَره؛ دلَّ على أنَّه ليس مِن العبادِ المكرَمينَ، الذين هم الملائكةُ .

9- تكاليفُ الشريعةِ بعضُها مبنيَّةٌ على النصوصِ، وبعضُها على الاستنباطِ، أما تكاليفُ الملائكةِ فمبنيَّةٌ على النصوصِ؛ قال تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ .

10- في قولِه تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ دليلٌ على كمالِ طاعةِ الملائكةِ وانقيادِهم .

11- قَولُ الله تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يدُلُّ على أنَّ الملائِكةَ معصومونَ؛ لأنَّه قال: وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ .

12- الملائكةُ لا يفعلونَ ما يكونُ مِن جنسِ المباحاتِ والمنهيَّاتِ! بل لا يفعلونَ إلَّا ما هو مِن الطاعاتِ؛ قال تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ .

13- في قولِه تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أنَّ الملائكةَ موكَّلونَ بأعمالٍ يقومونَ بها، كما أمَر الله تعالى بها .

14- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى هذه الآيةُ مِن أدِلَّةِ إثباتِ الشَّفاعةِ، وأنَّ الملائِكةَ يَشفَعونَ .

15- قال الله تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى بيَّنَ أنَّهم لا يَشفَعونَ إلَّا لِمَن ارتضَى الربُّ، فعُلِمَ أنَّه لا بُدَّ أن يُؤْذَنَ لهم فيمَن يَشفَعونَ فيه، وأنَّهم لا يُؤذَنُ لهم إذْنٌ مُطلَقٌ .

16- قولُه تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى، وكذا قولُه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] - لا يردُ عليه شفاعةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في أبي طالبٍ؛ لأنَّها ليست شفاعةً في خروجِه مِن النارِ؛ بل هي شفاعةٌ في تخفيفِ العذابِ عنه .

17- في قولِه تعالى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أنَّ الخوفَ ليس موقوفًا على ظنِّ الخائفِ أنَّ الله يعذِّبُه في الآخرةِ، ولا على تجويزِه لذلك؛ فإنَّ الملائكةَ والأنبياءَ قد أمِنوا مِن الموتِ على الكفرِ؛ وهم مع ذلك أخوفُ الخلقِ لله .

18- قَولُه تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ذَكَرَ هذا الوعيدَ في الملائكةِ وخَصَّهم بالذِّكرِ؛ تَنبيهًا على أنَّ دعوى الإلهيَّةِ لا تجوزُ لأحدٍ مِن المخلوقينَ: لا ملَكٍ ولا غَيرِه، وأنَّه لو قُدِّرَ وقوعُ ذلك مِن مَلَكٍ مِن الملائكةِ، لكان جزاؤه جهنَّمَ، فكيف مَن دُونَهم ؟!

19- قَولُ الله تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ هذه الآياتُ تدُلُّ على كَونِ الملائِكةِ مُكَلَّفينَ، مِن حَيثُ قال: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، ومن حيثُ الوَعيدُ .

20- قال الله تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ هذا دَليلٌ على أنَّ الملائِكةَ وإن أُكرِموا بالعِصمةِ، فهم مُتَعَبَّدونَ، وليسوا مُضْطَرِّينَ إلى العبادةِ .

21- قَولُه تعالى في هذه الآيةِ الكَريمةِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ دليلٌ قاطِعٌ على أنَّ حُقوقَ الله الخالِصةَ له مِن جَميعِ أنواعِ العبادةِ لا يجوزُ أن يُصرَفَ شَيءٌ منها لأحَدٍ، ولو مَلَكًا مُقَرَّبًا، أو نبيًّا مُرسَلًا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ

- قولُه: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً كرَّرَه استعظامًا لكُفْرِهم، واستفظاعًا لأمْرِهم، وتَبكيتًا وإظهارًا لجَهْلِهم، أو ضَمًّا لإنكارِ ما يكونُ لهم سَندًا من النَّقلِ إلى إنكارِ ما يكونُ لهم دليلًا منَ العقلِ، على معنى: أوجَدوا آلِهةً يُنشِرونَ الموتى، فاتَّخَذوهم آلهةً لمَّا وَجَدوا فيهم من خواصِّ الأُلوهيَّةِ، أو وَجَدوا في الكُتبِ الإِلهيَّةِ الأمْرَ بإشراكِهم، فاتَّخَذوهم مُتابعةً للأمرِ؟! ويُعضِّدُ ذلك أنَّه رَتَّبَ على الأوَّلِ ما يدُلُّ على فَسادِهِ عَقْلًا، وعلى الثَّاني ما يدُلُّ على فَسادِه نَقْلًا

.

- وهو تأكيدٌ لجُملةِ أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ [الأنبياء: 21] ؛ أكَّدَ ذلك الإضرابَ الانتقاليَّ بمثْلِه؛ استعظامًا لِفَظاعتِه، وليُبْنى عليه استدلالٌ آخَرُ . وزاد في هذا التَّوبيخِ قولَه: مِنْ دُونِهِ؛ فكأنَّه وبَّخَهم على قَصْدِ الكُفْرِ باللهِ عَزَّ وجَلَّ، ثمَّ دعاهمْ إلى الإتيانِ بالحُجَّةِ على ما اتَّخَذوا، ولا حُجَّةَ تقومُ على أنَّ للهِ تعالى شَريكًا؛ لا من جِهَةِ العقْلِ، ولا مِن جِهَةِ النَّقلِ .

- قولُه: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ، أي: قُلْ لهم بطَريقِ التَّبكيتِ وإلْقامِ الحجَرِ. وفي إضافةِ البُرهانِ إلى ضَميرِهم -إشعارًا بأنَّ لهم بُرهانًا- ضَرْبٌ من التَّهكُّمِ بهم

 

.

- قولُه: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي فيه تَبكيتٌ لهم مُتضمِّنٌ لإثباتِ نَقيضِ مُدَّعاهم

. والإشارةُ في قولِه: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ إلى مُقدَّرٍ في الذِّهْنِ يُفسِّرُه الخبَرُ. والمقصودُ من الإشارةِ تَمييزُه وإعلانُه بحيث لا يَستطيعُ المُخاطَبُ المُغالَطةَ فيه ولا في مَضمونِه

.

- قولُه: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ إضْرابٌ من جِهَتِه تعالى غيرُ داخِلٍ في الكلامِ المُلقَّنِ، وانتقالٌ من الأمْرِ بتَبكيتِهم بمُطالَبةِ البُرهانِ إلى بَيانِ أنَّه لا يَنجَحُ فيهم المُحاجَّةُ بإظهارِ حَقِّيَّةِ الحقِّ، وبُطلانِ الباطلِ. وإنَّما أسنَدَ هذا الحُكْمَ إلى أكثرِهم لا لجَميعِهم؛ تَسجيلًا عليهم بأنَّ قليلًا منهم يَعْلمون الحقَّ ويَجْحَدونه، أو إيماءً إلى أنَّ قليلًا منهم تهيَّأَت نُفوسُهم لقَبولِ الحقِّ

.

2- قولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ الجُملةُ استئنافٌ مُقرِّرٌ لِما أُجْمِلَ فيما قبْلَه، مِن كونِ التَّوحيدِ ممَّا نطقَتْ به الكُتبُ الإلهيَّةُ، وأجْمَعَتْ عليه الرُّسلُ عليهم السَّلامُ. وصِيغَةُ المُضارِعِ نُوحِي لحِكايةِ الحالِ الماضيةِ؛ استحضارًا لصُورةِ الوحيِ .

- وحَرْفُ (مِن) في قولِه: مِنْ رَسُولٍ مَزيدٌ؛ لتَوكيدِ النَّفيِ .

- وفي قولِه: إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ فرَّعَ فيما أُوحِيَ إليهم أمْرَه إيَّاهم بعِبادتِه على الإعلانِ بأنَّه لا إلهَ غيرُه؛ فكان استحقاقُ العِبادةِ خاصًّا به تعالى .

3- قوله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ

- قولُه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا حِكايةٌ لجِنايةِ فَريقٍ من المُشرِكينَ؛ جِيءَ بها لإظهارِ بُطلانِها، وبَيانِ تَنزُّهِه تعالى عن ذلك إثْرَ بَيانِ تَنزُّهِه سُبحانه عن الشُّركاءِ على الإطلاقِ. والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرَّحمانيَّةِ المُنْبئةِ عن كونِ جَميعِ ما سِواهُ تعالى مَرْبوبًا له تعالى نِعمةً أو مُنْعَمًا عليه؛ لإبرازِ كَمالِ شَناعةِ مَقالتِهم الباطلةِ .

- قولُه: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ فيه إضرابٌ وإبطالٌ لِما قالوهُ ، وأعقَبَ حَرْفَ الإضرابِ عن قولِهم بالإخبارِ بأنَّهم عِبادٌ دونَ ذِكْرِ المُبتدأِ؛ للعِلْمِ به. والتَّقديرُ: بلِ الملائكةُ عِبادٌ مُكْرَمونَ .

- وفي قولِه: مُكْرَمُونَ تَنبيهٌ على منشَأِ غلَطِ القومِ .

4- قوله تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ

- قولُه: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ صِفَةٌ أُخْرى لـ عِبَادٌ، مُنْبِئةٌ عن كَمالِ طاعتِهم وانقيادِهم لأمْرِه تعالى؛ وأصْلُه: لا يَسبِقُ قولُهم قولَه تعالى؛ فأسنَدَ السَّبقَ إليهم مَنسوبًا إليه تعالى، تَنزيلًا لسَبْقِ قولِهم قولَه تعالى مَنزلةَ سَبْقِهم إيَّاهُ تعالى؛ لمَزيدِ تَنزيهِهم عن ذلك، وللتَّنبيهِ على غايةِ استهجانِ السَّبقِ المُعرَّضِ به للَّذينَ يَقولون ما لا يَقولُه اللهُ تعالى. وجعَلَ القولَ مَحَلًّا للسَّبقِ وأداةً له، ثُمَّ أُنِيبَت (أل) عن الإضافةِ في قولِه: بِالْقَوْلِ؛ للاختصارِ والتَّجافي عنِ التَّكرارِ، وفيه مَزيدُ استهجانٍ للسَّبْقِ، وإشعارٌ بأنَّ مَن سبَقَ قولُه قولَه تعالى، فقد تَصدَّى لِمُغالَبتِه تعالى في السَّبقِ، فسبَقَه فغلَبَه والعياذُ باللهِ تعالى، وزِيادةُ تَنزيهٍ لهم عمَّا نُفِيَ عنهم ببَيانِ أنَّ ذلك عندَهم بمَنزلةِ الغَلبةِ بعْدَ المُغالَبةِ، فأنَّى يُتوهَّمُ صُدورُه عنهم

؟!

- وأيضًا نفْيُ السَّبْقِ في قولِه: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ كِنايةٌ عنِ التَّعظيمِ والتَّوقيرِ

.

- قولُه: وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ بَيانٌ لتَبعيَّتِهم له تعالى في الأعمالِ إثْرَ بَيانِ تَبعيَّتِهم له تعالى في الأقوالِ؛ فالقصْرُ المُستفادُ من تَقديمِ الجارِّ بِأَمْرِهِ مُعْتبَرٌ بالنِّسبةِ إلى غيرِ أمْرِه، لا إلى أمْرِ غيرِه .

5- قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ

- قولُه: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ استئنافٌ وقَعَ تَعليلًا لِما قبْلَه، وتَمهيدًا لِما بعْدَه؛ فإنَّهم لإحاطتِهم بذلك يَضْبِطون أنفُسَهم، ويُراقِبون أحوالَهم .

- قولُه: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى فيه تَخصيصٌ لبعْضِ ما شمَلَه لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ بالذِّكْرِ؛ اهتمامًا بشأْنِه؛ لأنَّه ممَّا كَفَروا بسبَبِه؛ إذ جَعَلوا الآلِهةَ شُفعاءَ لهم عندَ اللهِ .

- قولُه: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ فيه تَقريرٌ لِزِيادةِ تَعظيمِهم رَبَّهم، أي: هم يُعظِّمونَه تَعظيمَ مَن يَخافُ بَطْشَتَه، ويَحذرُ مُخالَفةَ أمْرِه. و(مِن) في قولِه: مِنْ خَشْيَتِهِ للتَّعليلِ، أي: وهمْ لأجْلِ خَشْيَتِه، أي: خَشْيَتِهم إيَّاه .

- وأيضًا قولُه: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ تَتميمٌ في غايةِ الحُسْنِ لضَبْطِ أنفُسِهم، ورِعايةِ أحوالِهم كلِّها سابِقِها ولاحِقِها .

6- قولُه تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فيه مُفاجأةُ مَنِ ادَّعَى منهم أنَّه إلهٌ بالوعيدِ الشَّديدِ، وإنذارِه بعَذابِ جهنَّمَ، وذلك على سَبيلِ العرْضِ والتَّمثيلِ؛ وقُصِدَ بذلك تَفظيعُ أمْرِ الشِّرْكِ، وتَعظيمُ شأْنِ التَّوحيدِ ، وفيه تَهديدُ المُشرِكينَ بتَهديدِ مُدَّعِي الرُّبوبيَّةِ . وفيه تَعريضٌ بالَّذين ادَّعَوا لهم الإلهيَّةَ بأنَّهم ادَّعَوا لهم ما لا يَرْضَونه ولا يَقولونَه، وأنَّهم ادَّعَوا ما يُوجِبُ لقائلِه نارَ جهنَّمَ .

- وعدَلَ عن (إنْ) الشَّرطيَّةِ إلى (مَن) الشَّرطيةِ؛ للدَّلالةِ على العُمومِ معَ الإيجازِ، وأُدْخِلَ اسمُ الإشارةِ (ذلك) في جَوابِ الشَّرطِ؛ لتَحقيقِ التَّعليقِ بنِسْبَتِه الشَّرطَ لأداتِه؛ للدَّلالةِ على جَدارةِ مَضمونِ الجزاءِ بمَن ثبَتَ له مَضمونُ الشَّرْطِ .

- قولُه: كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (كذلك) مَصدرٌ تَشبيهيٌّ مُؤكِّدٌ لمَضمونِ ما قبْلَه، والقصْرُ المُستفادُ مِن التَّقديمِ مُعتبَرٌ بالنِّسبةِ إلى النُّقصانِ دونَ الزِّيادةِ، أي: لا جَزاءً أنقَصَ منه .

================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (30-33)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ

غريب الكلمات:

 

رَتْقًا: أي: مُصْمَتتيْنِ، أو: مُنسَدَّتَينِ مُلتَئِمَتَينِ، والرتقُ: الضَّمُّ والالتِحامُ

.

فَفَتَقْنَاهُمَا: أي: صَدَعْناهما، وفَرَجْناهما، والفَتقُ: الفَصلُ بين المتَّصِلَينِ، وهو ضِدُّ الرَّتقِ، وأصلُ (فتق): يدُلُّ على فَتحٍ في شَيءٍ .

رَوَاسِيَ: أي: جبالًا ثوابِتَ، والرَّواسي: جمعُ راسيةٍ، وهي الثابتةُ، وأصلُ (رسي): يدُلُّ على ثباتٍ .

تَمِيدَ: أي: تميلَ وتتحَرَّكَ، وأصلُ (ميد): يدُلُّ على حَرَكةٍ في شَيءٍ .

فِجَاجًا: أي: مَسالِكَ وطُرُقًا، ومفردُه: فَجٌّ، وكلُّ فَتحٍ بينَ جَبَلينِ أو شَيئَينِ فهو فجٌّ، ويُستعمَلُ في الطَّريقِ الواسعِ، وأصلُ (فجج): يدُلُّ على تفتُّحٍ وانفِراجٍ .

سُبُلًا: أي: طُرُقًا، جمعُ سبيلٍ، وسُمِّي الطَّريقُ بذلك؛ لامتِدادِه، والسَّبيلُ: الطَّريقُ الذي فيه سهولةٌ، وأصلُ (سبل): يدُلُّ على امتِدادِ شيءٍ .

فَلَكٍ: الفَلَكُ: مَدارُ النُّجومِ الذي يضُمُّها، وأصلُ (فلك): يدُلُّ على استدارةٍ في شَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: أولَمْ يعلَمْ هؤلاء الذين كَفَروا أنَّ السَّمَواتِ كانت مُصمَتةً لا تُمطِرُ، والأرضَ مُصمَتةً لا تُنبِتُ، فصَدَعْنا السَّماءَ فأمطَرَت، وشقَقَنا الأرضَ فأنبَتَت، وخلَقْنا من الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ. أفلا يؤمِنُ هؤلاء الجاحِدونَ فيُصَدِّقوا بما يُشاهِدونَه، ويُقِرُّوا باستِحقاقِ اللهِ وحْدَه للعبادةِ؟

وجعَلْنا في الأرضِ جِبالًا تُثَبِّتُها حتى لا تَضْطَرِبَ، وجعَلْنا فيها طُرُقًا واسِعةً؛ ليهتديَ الخَلقُ إلى السَّيرِ في الأرضِ والتنقُّلِ في البلدانِ؛ لتحصيلِ مَعايِشِهم، وليهتدوا إلى دلائلِ وحدانيَّةِ خالِقِهم وقدرتِه، وجعَلْنا السَّماءَ سَقفًا محفوظًا مِن السقوطِ عليهم، ومحفوظًا من الشَّياطينِ. والكُفَّارُ عن الاعتبارِ بآياتِ السَّماءِ غافِلونَ لاهونَ عن التَّفكُّرِ فيها.

واللهُ تعالى هو الذي خلق اللَّيلَ والنَّهارَ والشَّمسَ والقَمَرَ، ولكلٍّ منها فلَكٌ يجري فيه ويَسبَحُ.

تفسير الآيات:

 

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30).

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا.

أي: أولَمْ يَنظُرِ الكُفَّارُ فيَعلَموا أنَّ السَّماءَ كانت مُصْمَتةً لا تُمطِرُ، والأرضَ كانت مُصمَتةً لا تُنبِتُ، فصَدَعْنا السَّماءَ فأمطَرَت، وشقَقْنا الأرضَ فأنبَتَتْ

؟!

كما قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا [عبس: 24 - 27] .

وقال سُبحانَه: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [الطارق: 11، 12].

وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.

أي: وخَلَقْنا من الماءِ كُلَّ شَيءٍ فيه حياةٌ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي إذا رأيتُك طابَتْ نَفسي، وقرَّتْ عيني، فأنبِئْني عن كُلِّ شَيءٍ، فقال: كُلُّ شَيءٍ خُلِقَ مِن ماءٍ)) .

أَفَلَا يُؤْمِنُونَ.

أي: أفلا يُؤمِنُ الذين كفَروا بما يُشاهِدونَه، فيَستَدِلُّوا به على وُجودِ الصَّانِعِ الفاعِلِ، المختارِ القادِرِ، ويُقِرُّوا باستحقاقِه وَحْدَه للعبادةِ، ولا يُشرِكوا به شَيئًا ؟

وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعدَ أن ذكَرَ اللهُ تعالى دليلَينِ مِن دلائِلِ التَّوحيدِ، وهي مِنَ الأدِلَّةِ السَّماويَّةِ والأرضيَّةِ؛ ذكَرَ هنا دليلًا آخَرَ مِن الدَّلائِلِ الأرضيَّةِ، فقال :

وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ.

أي: وجعَلْنا في الأرضِ جِبالًا ثابِتةً؛ لئلَّا تضطَرِبَ الأرضُ بهم .

كما قال تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ [النمل: 61].

وقال سُبحانَه: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ [المرسلات: 27] .

وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ.

أي: وجعَلْنا فيها طُرُقًا واسِعةً سَهلةً؛ لِيَهتَدوا إلى السَّيرِ في الأرضِ، والوصولِ إلى مطالبِهم مِن البلدانِ، ولِيَهتَدوا إلى ما فيها مِن دلائِلِ وحدانيَّةِ خالِقِها وقُدرَتِه، وتفرُّدِه بأوصافِ الكَمالِ .

كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف: 10] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [نوح: 19، 20].

وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا دَلَّهم اللهُ تعالى بالسَّمَواتِ والأرضِ على عَظَمتِه، ثم فصَّلَ بَعضَ ما في الأرضِ لِمُلابستِهم له، وخَصَّ الجبالَ؛ لِكَثرتِها في بلادِهم- أتبَعَه السَّماءَ ، فقال:

وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا.

أي: وجعَلْنا السَّماءَ سَقفًا للأرضِ مَحفوظًا من السُّقوطِ عليهم، ومحفوظًا من الشَّياطينِ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر: 16 - 18].

وقال سُبحانَه: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج: 65] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] .

وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ.

أي: وهم عن آياتِ السَّماءِ الدَّالَّةِ على وحدانيَّةِ اللهِ وكَمالِ قُدرَتِه وحِكمَتِه وصِفاتِه، واستِحقاقِه للعبادةِ وَحْدَه- مُعرِضُون عن التفكُّرِ والتدبُّرِ فيها .

كما قال سُبحانَه: وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف: 105] .

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قال اللهُ سُبحانَه: وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، فصَّل تلك الآياتِ هاهنا ، فقال:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.

أي: واللهُ وَحْدَه هو الذي خلَقَ اللَّيلَ والنَّهارَ والشَّمسَ والقَمَرَ، وفيها دَلالاتٌ على عَظيمِ سُلطانِه، وأنَّ العبادةَ له دونَ كُلِّ ما سواه، ولِينتَفِعَ النَّاسُ بها في شُؤونِ دينِهم ودُنياهم .

كما قال تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام: 96] .

وقال سُبحانَه: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 12] .

كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.

أي: كلٌّ مِنَ اللَّيلِ والنَّهارِ والشَّمسِ والقَمَرِ في فلَكٍ دائرٍ، يجْرونَ بسُرعةٍ كالسَّابِحِ في الماءِ

 

.

كما قال تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 37 - 40] .

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ وكذلك قَولُه: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ دلَّ على خَلقِ جَميعِ ما فيه حياةٌ وما يَدِبُّ مِن ماءٍ، وأنَّ الماءَ مادَّةُ جَميعِ الحيواناتِ؛ فعُلِمَ بذلك أنَّ أصلَ جَميعِها الماءُ المُطلَقُ، ولا ينافي هذا قَولُه تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر: 27] ، وقَولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُلِقَت الملائِكةُ مِن نورٍ ))

؛ فإنَّ حَديثَ أبي هريرةٍ ((كُلُّ شَيءٍ خُلِقَ مِن ماءٍ)) دَلَّ على أنَّ أصلَ النُّورِ والنَّارِ الماءُ، كما أنَّ أصلَ التُّرابِ الذي خُلِقَ منه آدَمُ الماءُ؛ فإنَّ آدَمَ خُلِقَ مِن طينٍ، والطينُ تُرابٌ مُختَلِطٌ بماءٍ، أو التُّرابُ خُلِقَ مِن الماءِ، كما جاء عن ابنِ عَبَّاسٍ وغَيرِه .

2- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ فيه عِبرةٌ للنَّاسِ في أكثَرِ أحوالِه، وهو عِبرةٌ للمُتأمِّلينَ في دقائِقِه في تكوينِ الحيوانِ مِن الرُّطوباتِ، وهي تكوينُ التَّناسُلِ، وتكوينُ جَميعِ الحَيوانِ؛ فإنَّه لا يتكَوَّنُ إلَّا مِن الرُّطوبةِ، ولا يعيشُ إلَّا مُلابِسًا لها، فإذا انعَدَمت منه الرُّطوبةُ فقَدَ الحياةَ؛ ولذلك كان استِمرارُ الحُمَّى مُفضِيًا إلى الهُزالِ ثمَّ إلى الموتِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ

- قولُه: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... استفهامُ تَوبيخٍ لمَن ادَّعَى معَ اللهِ آلِهةً، ودَلالةٌ على تَنزيهِه عنِ الشَّريكِ، وتَوكيدٌ لِما تقدَّمَ مِن أدلَّةِ التَّوحيدِ، ورَدٌّ على عَبدةِ الأوثانِ

. أو همزةُ الاستفهامِ للإنكارِ على إهمالِهم للنَّظرِ، والواوُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ . ويجوزُ أنْ يكونَ الاستفهامُ تَقريريًّا .

- قولُه: كَانَتَا رَتْقًا وإنَّما قيل: كَانَتَا دونَ (كُنَّ)؛ لأنَّ المُرادَ جماعةُ السَّمواتِ وجماعةُ الأرضِ . والإخبارُ عن السمَّواتِ والأرضِ بأنَّهما رَتْقٌ إخبارٌ بالمصدَرِ؛ للمُبالَغةِ في حُصولِ الصِّفَةِ، وإنَّما لم يقُلْ نحوَ: (فصارَتَا فَتْقًا)؛ لأنَّ الرَّتْقَ مُتمكِّنٌ منهما أشدَّ تَمكُّنٍ؛ لِيَستدِلَّ به على عَظيمِ القُدرةِ في فَتْقِهما، ولدَلالةِ الفِعْلِ على حَدثانِ الفَتْقِ؛ إيماءً إلى حُدوثِ الموجوداتِ كلِّها، وأنْ ليس منها أزلِيٌّ . وقيل: لم يقل (كانتا رتقين)؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ رتقٌ، كقولِه: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ [الأنبياء: 8] ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ جسدٌ .

- وفي قولِه: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ -على القولِ بأنَّ (جَعَلْنَا) بمعنى (صَيَّرنا)- قدَّمَ المفعولَ الثَّانيَ مِنَ الْمَاءِ؛ للاهتمامِ به، لا لمُجرَّدِ أنَّ المفعولينِ في الأصْلِ مُبتدأٌ وخَبَرٌ .

- قولُه: أَفَلَا يُؤْمِنُونَ فُرِّعَ على وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ؛ إنكارًا عليهم عدَمَ إيمانِهم بوَحدانيَّةِ اللهِ .

- والاستفهامُ في قولِه: أَفَلَا يُؤْمِنُونَ استفهامُ إنكارٍ لعدَمِ إيمانِهم باللهِ وحْدَه، وفيه معنى التَّعجُّبِ مِن ضَعْفِ عُقولِهم، والفاءُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَستدعيهِ الإنكارُ السَّابقُ، أي: أيَعْلَمون ذلك، فلا يُؤمِنون

 

؟!

2- قوله تعالى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ

- قولُه: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا ... فيه تَكريرُ الفِعْلِ (جَعَلَ)؛ لاختلافِ المَجْعولينِ، ولتَوفيةِ مَقامِ الامتنانِ حَقَّه

.

- قولُه: فِجَاجًا سُبُلًا في الفِجاجِ معنى الوصْفِ، وإنَّما قُدِّمَت على (السُّبلِ) ولم تُؤخَّرْ كما في قولِه: لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [نوح: 20] ؛ للإعلامِ بأنَّه جعَلَ فيها طُرقًا واسعةً، فهو بَيانٌ لِما أُبْهِمَ هناك، ولِيَصيرَ حالًا؛ فيُفِيدَ أنَّه تعالى حين خلَقَها خلَقَها كذلك، أو ليُبْدِلَ منها سُبُلًا، فيَدُلَّ ضِمْنًا على أنَّه تعالى خلَقَها ووسَّعَها للسَّابِلةِ، مع ما فيه من التَّوكيدِ . فإنْ قِيلَ: لم قُدِّمَ هاهنا، وأُخِّرَ هناك؟ فالجوابُ: أنَّ الآيةَ في سُورةِ (نُوحٍ) واردةٌ لبَيانِ الامتنانِ على سَبيلِ الإجمالِ، وهذه الآيةُ في سُورةِ (الأنبياءِ) واردةٌ لِبَيانِ الاعتبارِ، والبَعْثِ على إمعانِ النَّظرِ فيه، وذلك يَقْتضي التَّفصيلَ، ومِن ثَمَّ عقَّبَ قولَه: كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا بهذه .

3- قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ لمَّا ذكَرَ الاعتبارَ بخلْقِ الأرضِ وما فيها، ناسَبَ -بحُكْمِ الطِّباقِ- ذِكْرُ خَلْقِ السَّماءِ عَقِبَه، إلَّا أنَّ حالةَ خلْقِ الأرضِ فيها منافعُ للنَّاسِ؛ فعقَّبَ ذِكْرَها بالامتنانِ بقولِه تعالى: أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، وبقولِه تعالى: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وأمَّا حالُ خلْقِ السَّماءِ فلا تَظهَرُ فيه مَنفعةٌ، فلم يُذْكَرْ بعْدَه امتنانٌ، ولكنَّه ذكَرَ إعراضَهم عن التَّدبُّرِ في آياتِ خَلْقِ السَّماءِ الدَّالَّةِ على الحِكْمةِ البالِغَةِ، فعَقَّبَ بقولِه تعالى: وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، فأدمَجَ في خِلالِ ذلك مِنَّةً، وهي حِفْظُ السَّماءِ مِن أنْ تقَعَ بعْضُ الأجرامِ الكائنةِ فيها، أو بعْضُ أجزائِها على الأرضِ، فتُهْلِكَ النَّاسَ، أو تُفسِدَ الأرضَ، فتُعَطِّلَ مَنافِعَها، فذلك إدماجٌ للمِنَّةِ في خِلالِ الغرَضِ المقصودِ الَّذي لا مَندوحةَ عن العِبْرةِ به .

- وأطلَقَ السَّقفَ على السَّماءِ في قولِه: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا على طَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ .

4- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ

- قولُه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بَيانٌ لبعْضِ تلك الآياتِ الَّتي هم عنها مُعرِضونَ بطَريقِ الالْتِفاتِ -حيث الْتَفَت مِن ضَميرِ المُتكلِّمِ إلى ضَميرِ الغائبِ- المُوجِبِ لتأْكيدِ الاعتناءِ بفَحْوى الكلامِ .

- وسِيقَتْ هذه الآيةُ في مَعرِضِ المِنَّةِ بصَوغِها في صِيغَةِ الجُملةِ الاسميَّةِ المُعرَّفةِ الجُزأينِ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ...؛ لإفادةِ القصْرِ، وهو قَصْرُ إفرادٍ إضافيٌّ، بتَنزيلِ المُخاطَبينَ من المُشرِكينَ مَنزِلةَ مَن يَعتقِدُ أنَّ أصنامَهم مُشارِكةٌ للهِ في خَلْقِ تلك الأشياءِ

.

- ولكَونِ المِنَّةِ والعِبْرةِ في إيجادِ نَفْسِ اللَّيلِ والنَّهارِ، ونَفْسِ الشَّمسِ والقمَرِ، لا في إيجادِها على حالةٍ خاصَّةٍ؛ جِيءَ هنا بفِعْلِ (الخَلْقِ) لا بفِعْلِ (الجَعْلِ)

.

- وأيضًا في قولِه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مُناسَبةٌ قويَّةٌ لذِكْرِ خَلْقِ الشَّمسِ عَقِبَ ذِكْرِ خلْقِ النَّهارِ؛ للتَّنبيهِ على مَنشَأِ خَلْقِ النَّهارِ؛ فخَلْقُ النَّهارِ نَتيجةٌ لخَلْقِ الشَّمسِ وتوجُّهِ أشعَّتِها إلى النِّصْفِ المُقابِلِ للأشعَّةِ من الكُرَةِ الأرضيَّةِ، فخَلْقُ النَّهارِ تبَعٌ لخلْقِ الشَّمسِ وخَلْقِ الأرضِ، ومُقابلةِ الأرضِ لأشعَّةِ الشَّمسِ. وأمَّا ذِكْرُ خَلْقِ القَمرِ فلِمُناسَبةِ خَلْقِ الشَّمسِ، وللتَّذكيرِ بمِنَّةِ إيجادِ ما يُنِيرُ على النَّاسِ بعْضَ النُّورِ في بعضِ أوقاتِ الظُّلمةِ. وكلُّ ذلك من المِنَنِ .

- وجُملةُ: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّه لمَّا ذكَرَ الأشياءَ المُتضادَّةَ بالحقائقِ أو بالأوقاتِ؛ ذِكْرًا مُجْمَلًا في بعضِها الَّذي هو آياتُ السَّماءِ، ومُفصَّلًا في بعْضٍ آخرَ، وهو الشَّمسُ والقمرُ، كان المَقامُ مُثيرًا في نُفوسِ السَّامِعينَ سُؤالًا عن كيفيَّةِ سَيْرِها، وكيف لا يقَعُ لها اصطدامٌ أو يقَعُ منها تخلُّفٌ عن الظُّهورِ في وقْتِه المعلومِ؟ فأُجِيبَ بأنَّ كلَّ المذكوراتِ له فَضاءٌ يَسيرُ فيه، لا يُلاقي فضاءَ سَيْرِ غيرِه

.

- قولُه تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ فيه مُحسِّنٌ بَديعيٌّ؛ فإنَّ حُروفَه تُقْرَأُ مِن آخِرِها على التَّرتيبِ كما تُقْرَأُ مِن أوَّلِها، مع خِفَّةِ التَّركيبِ، ووفْرَةِ الفائدةِ، وجَريانِه مَجْرى المثَلِ، مِن غيرِ تَنافُرٍ ولا غَرابةٍ

.

- وفي قولِه: يَسْبَحُونَ جاء بواوِ الجمْعِ العاقلِ؛ فأمَّا الجمْعُ فقيل: هناك معطوفٌ مَحذوفٌ وهو (والنُّجومُ)، ولذلك عاد الضَّميرُ مَجموعًا، ولو لم يكُنْ ثَمَّ معطوفٌ مَحذوفٌ، لكان (يَسْبَحَانِ) مُثنًّى، وحسَّنَ ذلك كونُه جاء فاصِلةً رأْسَ آيةٍ، وأمَّا كونُه ضَميرَ مَن يَعقِلُ، ولم يكُنِ التَّركيبُ (يَسْبَحْنَ)؛ لأنَّه لمَّا كانتِ السِّباحةُ من أفعالِ الآدميِّينَ، جاء ما أُسْنِدَ إليهما مَجموعًا جمعَ مَن يَعقِلُ، كقولِه: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4] . أو ضَميرُ يَسْبَحُونَ عائدٌ إلى عُمومِ آياتِ السَّماءِ وخُصوصِ الشَّمسِ والقمرِ، وأُجْرِيَ عليها ضَميرُ جماعةِ الذُّكورِ باعتبارِ تَذكيرِ أسماءِ بعْضِها، مثْلُ القمَرِ والكوكبِ . أو جاء الجمْعُ باعتبارِ المَطالِعِ

.

- فإنْ قِيلَ: لكلِّ واحدٍ من القَمرينِ فَلَكٌ على حِدَةٍ؛ فكيف قِيلَ: جَميعُهم يَسْبَحُونَ في فَلَكٍ؟ قيل: اكْتَفى بما يدُلُّ على الجِنْسِ اختصارًا، ولأنَّ الغرَضَ الدَّلالةُ على الجِنْسِ

.

=================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (34-40)

ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ

غريب الكلمات:

 

مِنْ عَجَلٍ: أي: عَجُولًا، والعَجَلةُ: طَلَبُ الشَّيءِ وتَحرِّيه قبلَ أوانِه، وأصلُ (عجل): يدُلُّ على الإسراعِ

.

فَتَبْهَتُهُمْ: أي: تَغشاهم فجأةً، وأصلُ (بهت): يدلُّ على الدَّهَشِ والحَيرةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبيِّنُ الله تعالى أنَّ مصيرَ جميعِ البشرِ إلى الموتِ، فيَقولُ تعالى: وما جَعَلْنا لبشَرٍ مِن قَبلِك -يا محمَّدُ- دوامَ البَقاءِ في الدُّنيا، أفإنْ مِتَّ فهم يُخَلَّدونَ فيها؟! كلَّا، لا يكونُ هذا. كلُّ نَفسٍ ذائِقةُ الموتِ لا محالةَ، ونختَبِرُكم -أيُّها النَّاسُ- بالشِّدَّةِ والمِحَنِ تارةً، وبالرَّخاءِ والنِّعَمِ تارةً أخرى؛ فِتنةً لكم، ثمَّ إلينا تُرجَعونَ للحِسابِ والجَزاءِ.

ثمَّ يذكرُ الله سبحانَه جانبًا مِن سفاهاتِ الكفار تجاهَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: وإذا رآك الكُفَّارُ -يا محمَّدُ- يَستَهزِئونَ بك، ويقولونَ لائمين إيَّاك؛ لكُفرِك بآلهتِهم: أهذا الذي يَسُبُّ آلهتَكم؟ وكفروا بذِكرِ الرَّحمنِ، فهم أحقُّ بالاستِنكارِ واللَّومِ!

ثمَّ بيَّن اللهُ تعالى ما جُبِل عليه الإنسانُ مِن تسرُّعٍ، فقال: خُلِق الإنسانُ عَجولًا، سأُريكم -أيُّها المُستَعجِلونَ بالعذابِ- آياتِ عَذابي وانتِقامي، فلا تَستَعجِلوا ربَّكم بالعَذابِ.

ويقولُ هؤلاء الكُفَّارُ مُستعجلينَ العَذابَ مُستَهزئينَ: متى يأتينا عَذابُ اللهِ -يا محمَّدُ- إنْ كنتَ أنت ومَنِ اتَّبَعَك مِنَ الصَّادقينَ؟

لو يَعلَمُ هؤلاء الكُفَّارُ ما يُلاقونَه مِن العَذابِ عندما لا يَستَطيعونَ أن يَدفَعوا عن وُجوهِهم وظُهورِهم النَّارَ؛ لَمَا استعجَلوا العذابَ. ولا ناصِرَ لهم يدفَعُ عنهم عَذابَ اللهِ، بل تأتيهم النَّارُ فَجأةً، فيتحيَّرونَ عند ذلك، ويخافونَ خَوفًا عظيمًا، ولا يَستطيعونَ دَفعَ النَّارِ عن أنفُسِهم، ولا يُمهَلونَ لاستدراكِ تَوبةٍ واعتذارٍ.

تفسير الآيات:

 

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا استدَلَّ اللهُ تعالى بستَّةِ أنواعٍ مِن الدلائلِ

التي تُعَدُّ مِن أصولِ النِّعَمِ الدُّنيويَّةِ؛ أتبَعها بما نبَّه به على أنَّ هذه الدُّنيا جعَلَها كذلك، لا لتبقَى وتدومَ، أو يبقَى فيها مَن خُلِقَت الدُّنيا له، بل خلَقَها سُبحانه وتعالى للابتلاءِ والامتحانِ، ولكي يُتوصَّلَ بها إلى الآخرةِ التي هي دارُ الخُلودِ .

وأيضًا فبعدَ أن ذكَر سبحانَه الأدلةَ على وجودِ الخالقِ الواحدِ القادرِ، بما يَرَوْن مِن الآياتِ الكونيةِ- أردَفَ ذلك ببيانِ أنَّ هذه الدُّنيا ما خُلِقت للخلودِ والدوامِ، ولا خُلِق مَن فيها للبقاءِ، بل خُلِقت للابتلاءِ والامتحانِ، ولتكونَ وسيلةً إلى الآخرةِ التي هى دارُ الخلودِ، فلا تَشْمَتوا إذا ماتَ محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، فما هذا بسبيلِه وحْدَه، بل هذا سُنَّةُ اللهِ فى الخلْقِ أجمعينَ .

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ.

أي: وما خلَّدْنا -يا محمَّدُ- أحدًا مِن البَشَرِ قَبْلَك في الدُّنيا؛ فنُخَلِّدَك فيها، ولا بُدَّ لك مِن أن تموتَ فيها كما مات مَن قَبْلَك .

كما قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] .

أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ.

أي: فهل إذا متَّ -يا محمَّدُ- سيُخَلَّدُ المُشرِكونَ في الدُّنيا مِن بَعدِك؟! كلَّا، بل سيموتونَ .

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35).

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.

أي: كلُّ نَفسٍ مخلوقةٍ لا بدَّ أن تذوقَ ألمَ مُفارَقةِ جَسَدِها .

وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً.

أي: ونختَبِرُكم -أيُّها النَّاسُ- بالمصائِبِ والشِّدَّةِ تارةً، وبالرَّخاءِ والنِّعَمِ تارةً أخرى؛ فِتنةً لكم لِنَنظرَ صَبْرَكم وشُكرَكم .

كما قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 168].

وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.

أي: وإلينا -أيُّها النَّاسُ- تُرَدُّونَ لا إلى غَيرِنا، فنُجازيكم بحَسَبِ أعمالِكم .

كما قال تعالى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية: 25، 26].

وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان الكُفَّارُ يَغُمُّهم ذِكرُ آلهتِهم بسُوءٍ؛ شَرَعوا في الاستهزاءِ، وتَنقيصِ مَن يَذْكُرُهم على سبيلِ المُقابَلةِ .

وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا.

أي: وإذا رآك -يا محمَّدُ- كفَّارُ قُرَيشٍ، يَستَهزِئونَ ويَستَخِفُّونَ بك .

كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41].

أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ.

أي: يقولونَ إذا رأَوُا الرَّسولَ -استِنكارًا-: أهذا هو الذي يَعيبُ أصنامَكم التي تَعبُدونَها ؟

وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ.

أي: وهؤلاء المُستَهزِئونَ بالرَّسولِ يَكفُرونَ بذِكرِ الرَّحمنِ الذي يُنعِمُ عليهم !

خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)  .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان الكافِرونَ يَستَعجِلونَ عَذابَ اللهِ وآياتِه المُلجِئةَ إلى الإقرارِ والعِلمِ، نهاهم تعالى عن الاستِعجالِ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ المُستَهزِئينَ بالرَّسولِ صلواتُ الله وسلامُه عليه، وقَع في النُّفوسِ سُرعةُ الانتِقامِ منهم واستعجَلَت، فقال الله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ؛ لأنَّه تعالى يُملي للظَّالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلِتْه، يُؤجِّلُ ثمَّ يُعَجِّلُ، ويُنظِرُ ثمَّ لا يُؤخِّرُ؛ ولهذا قال: سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي أي: نَقْمي وحُكمي واقتِداري على مَن عَصاني، فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ .

خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ.

أي: طُبِع الإنسانُ ورُكِّبَ على العَجَلةِ .

كما قال تعالى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا [الإسراء: 11].

سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ.

أي: سأُريكم -أيُّها المُستَعجِلونَ رَبَّهم بالعَذابِ- آياتِ عَذابي وانتِقامي، وحُكمي وقُدرَتي على مَن كَفَرَ بي وعصاني؛ فلا تَستَعجِلوا ربَّكم بالعذابِ !

كما قال تعالى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ [الصافات: 176] .

وقال سُبحانَه: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ [الذاريات: 59].

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38).

أي: ويقولُ هؤلاء المُستَعجِلونَ رَبَّهم بالآياتِ والعَذابِ لمحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللمُؤمِنينَ به: متى يأتينا عَذابُ اللهِ إنْ كُنتُم صادقينَ فيما تَعِدونَنا به منَ العذابِ ؟

لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39).

أي: لو يتيقَّنُ الكُفَّارُ المُستَعجِلونَ العَذابَ ماذا لهم من البَلاءِ حين تَلفحُ وجوهَهم النَّارُ، فلا يَستَطيعونَ في ذلك الوَقتِ أن يَكُفُّوا بأنفُسِهم النَّارَ عن وُجوهِهم ولا عن ظُهورِهم، ولا يَجِدونَ لهم ناصِرًا ينصُرُهم، ويُنجِيهم مِن عَذابِ اللهِ؛ لَما استعجَلوا العذابَ، ولَتابوا وآمَنوا باللهِ .

كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف: 41] .

وقال سُبحانَه: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: 50] .

وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف: 29] .

وقال تبارك وتعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] .

بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى شِدَّةَ هذا العذابِ؛ بيَّنَ أنَّ وَقتَ مَجيئِه غيرُ مَعلومٍ لهم ، فقال:

بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ.

أي: بل تأتيهم النَّارُ فجأةً، فتصيبُهم بالذُّعْرِ والخوفِ والحيرةِ فلا يَدرونَ ما يصنعونَ !

كما قال تعالى: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الشعراء: 201- 202] .

فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ.

أي: فلا يَستَطيعونَ دَفْعَ النَّارِ عن أنفُسِهم حين تبغَتُهم، ولا هم يُمهَلونَ فيُؤخَّرُ عنهم العَذابُ لِيَتوبُوا

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُه تعالى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ يُفهَمُ منه أنَّه لا ينبغي للإنسانِ أن يَفرحَ بمَوتِ أحَدٍ؛ لأجلِ أمرٍ دُنيويٍّ يَنالُه بسَبَبِ مَوتِه؛ لأنَّه هو ليس مخلَّدًا بَعدَه، وفي معناه قولُ القائلِ:

تمنَّى رجالٌ أنْ أموتَ وإنْ أمُتْ                   فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوحَدِ

فقُلْ لِلَّذي يبغي خِلافَ الَّذي مضَى             تَهيَّأْ لأخرَى مِثْلِها فكأنْ قَدِ

 

2- ممَّا يُعينُ على الزُّهدِ أن يتأمَّلَ الإنسانُ في هذه الحياةِ الدُّنيا، وأنَّها دارُ مَمَرٍّ، وليست دارَ مَقَرٍّ، وأنَّها لم تَبْقَ لأحدٍ مِن قَبْلِك، وما لم يَبقَ لأحدٍ مِن قبلِك لن يبقَى لك؛ قال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ يعني: لن يخَلَّدَ أحدٌ في هذه الدُّنيا، وكذلك يعلَمُ أنَّ هذه الدنيا دارُ تَنغيصٍ وكَدَرٍ، فما سُرَّ بها الإنسانُ يومًا إلَّا ساءَه الأمرُ في اليومِ الثَّاني، فإذا عَلِمَ حَقيقةَ الدُّنيا فإنَّه بعَقلِه وإيمانِه سوف يزهَدُ بها، ولا يُؤْثِرُها على الآخرةِ؛ قال الله تعالى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 16- 19] .

3- قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ الابتِلاءُ لا يتحَقَّقُ إلَّا معَ التَّكليفِ؛ فالآيةُ دالَّةٌ على حُصولِ التَّكليفِ، وتدُلُّ على أنَّه سُبحانَه وتعالى لم يقتَصِرْ بالمكَلَّفِ على ما أمَرَ ونهَى، وإن كان فيه صعوبةٌ، بل ابتلاه بأمرينِ: أحدُهما: ما سمَّاه خَيرًا، وهو نِعَمُ الدُّنيا مِن الصِّحَّةِ واللَّذَّةِ، والسُّرورِ والتَّمكينِ مِن المراداتِ. والثَّاني: ما سمَّاه شَرًّا، وهو المضارُّ الدُّنيويَّةُ مِن الفَقرِ والآلامِ، وسائِرِ الشَّدائِدِ النَّازلةِ بالمُكَلَّفينَ، فبَيَّنَ تعالى أنَّ العَبدَ مع التَّكليفِ يتَرَدَّدُ بينَ هاتينِ الحالَتينِ؛ لكي يَشكُرَ على المِنَحِ، ويَصبِرَ في المِحَن، فيَعظُمَ ثَوابُه إذا قام بما يَلزَمُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ اسْتُدِلَّ به على أنَّ الخَضِرَ عليه السَّلامُ مات، وليسَ بحيٍّ إلى الآن؛ لأنَّه بشرٌ، سواءٌ كان وليًّا، أو نبيًّا، أو رسولًا

.

2- قال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ في الآيةِ إيماءٌ إلى أنَّ الذين لم يُقَدِّرِ اللهُ لهم الإسلامَ مِمَّن قالوا ذلك القَولَ، سيَموتونَ قَبلَ مَوتِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فلا يَشمَتونَ به؛ فإنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَمُتْ حتى أهلَكَ اللهُ رُؤوسَ الذين عانَدوه، وهدَى بقِيَّتَهم إلى الإسلامِ .

3- قَولُ القائِلِ: «أدامَ اللهُ أيَّامَك» هو مِن الاعتداء في الدُّعاءِ؛ لأنَّ دوامَ الأيَّام مُحالٌ، مُنافٍ لِقَولِ الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، وقَولِه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26- 27].

4- في قَولِه تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ عُبِّرَ بقولِه: ذَائِقَةُ؛ لأنَّ الموتَ له مَذاقٌ مُرٌّ يكرَهُه كلُّ إنسانٍ .

5- قَولُ الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ فيه إيماءٌ إلى أنَّ المقصودَ مِن هذه الحياةِ الدُّنيا الابتلاءُ، والتَّعريضُ للثَّوابِ والعِقابِ .

6- قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ فقولُه: وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ فيه إثْباتٌ للبعْثِ، فجمَعَتْ هذه الآيةُ الموتَ والحياةَ والنَّشرَ .

7- أصلُ الفِتنةِ: الابتِلاءُ والامتِحانُ والاختِبارُ، ويكونُ تارةً بما يسوءُ، وتارةً بما يَسُرُّ، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً .

8- اللهُ سُبحانه وتعالى كما هو خالِقُ الخَلقِ؛ فهو خالِقُ ما به غِناهم وفَقْرُهم، فخلَقَ الغِنى والفَقرَ لِيَبتليَ بهما عبادَه أيُّهم أحسَنُ عَمَلًا، وجعَلَهما سَبَبًا للطَّاعةِ والمعصيةِ، والثوابِ والعِقابِ؛ قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ، فأخبَر سبحانَه أنَّ الغِنَى والفقرَ مَطِيَّتا الابتلاءِ والامتحانِ .

9- قَولُ الله تعالى: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ في ذِكرِ اسمِه (الرَّحمنِ) هنا بيانٌ لِقَباحةِ حالِ الكافرينَ، وأنَّهم كيف قابَلوا الرَّحمنَ مُسدِيَ النِّعَمِ كُلِّها، ودافِعَ النِّقَمِ، الذي ما بالعبادِ مِن نِعمةٍ إلَّا منه، ولا يَدفَعُ السُّوءَ إلَّا هو- بالكُفرِ والشِّركِ ؟!

10- إذا كان في المخلوقِ خُلُقٌ كبيرٌ مِن شَيءٍ مُعَيَّنٍ نُسِبَ إليه؛ لهذا قال تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ مع أنَّه خُلِقَ مِن تُرابٍ، لكِنْ لَمَّا كانت طبيعتُه العَجَلةَ، صار كأنَّه ناشئٌ منها، كأنَّها عُنصرُ وُجودِه !

11- قَولُ الله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ فيه سؤالٌ: القَومُ استَعجَلوا الوعيدَ على وَجهِ التَّكذيبِ، ومَن هذا حالُه لا يكونُ مُستَعجِلًا على الحقيقةِ! الجوابُ: أنَّ استِعجالَهم على هذا الوَجهِ أدخَلُ في الذَّمِّ؛ لأنَّه إذا ذُمَّ المرءُ على استِعجالِ الأمرِ المعلومِ، فبِأنْ يُذَمَّ على استِعجالِ ما لا يكونُ مَعلومًا له، كان أَولى، وأيضًا فإنَّ استِعجالَهم بما توعَّدَهم مِن عِقابِ الآخرةِ أو هَلاكِ الدُّنيا يتضَمَّنُ استِعجالَ الموتِ، وهم عالِمونَ بذلك، فكانوا مُستَعجِلينَ في الحقيقةِ .

12- لا إشكالَ في قَولِه تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ مع قَولِه تعالى: فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ، فلا يُقالُ: كيف يقولُ: إنَّ الإنسانَ خُلِق من العَجَلِ، وجُبِلَ عليه، ثمَّ ينهاه عمَّا خُلِقَ منه وجُبِلَ عليه؛ لأنَّه تكليفٌ بمُحالٍ؟! لأنَّا نقولُ: نعم، هو جُبِل على العَجَلِ، ولكِنْ في استطاعتِه أن يُلزِمَ نَفسَه بالتَّأنِّي، كما أنَّه جُبِل على حُبِّ الشَّهواتِ مع أنَّه في استطاعتِه أن يُلزِمَ نَفسَه بالكَفِّ عنها، كما قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41].

13- قَولُ الله تعالى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً لم يُعلِمِ المكَلَّفينَ وقتَ الموتِ والقيامةِ؛ لِما فيه مِن المصلحةِ؛ لأنَّ المرءَ مع كِتمانِ ذلك أشَدُّ حَذرًا، وأقرَبُ إلى التَّلافي .

14- قولُه تعالى: وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ فيه تَنبيهٌ لهم إلى أنَّهم أُنْظِروا زمَنًا طويلًا لعلَّهم يُقلِعون عن ضَلالِهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ

- في قولِه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ طَريقةُ القولِ بالمُوجَبِ

، أي: إنَّك تَموتُ كما قالوا، ولكنَّهم لا يرَونَ ذلك وهم بحالِ مَن يَزْعمون أنَّهم مُخلَّدون، فأَيْقنوا بأنَّهم يتربَّصونَ بك رَيْبَ المَنونِ من فرَطِ غُرورِهم؛ فالتَّفريعُ بقولِه: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كان على ما في الجُملةِ الأُولى من القولِ بالمُوجَبِ، أي: ما هم بخالدينَ حتَّى يُوقِنوا أنَّهم يرَونَ موتَك. وفي الإنكارِ الَّذي هو في مَعنى النَّفيِ: إنذارٌ لهم بأنَّهم لا يَرى موتَه منهم أحدٌ. والاستفهامُ في قولِه: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ استفهامٌ إنكاريٌّ؛ لمَّا كان تَمنِّيهم موتَه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتربُّصُهم به رَيْبَ المَنونِ يَقْتضي أنَّ الَّذين تَمنَّوا ذلك وتربَّصوا به كأنَّهم واثِقونَ بأنَّهم يَموتونَ بعْدَه، فتَتِمُّ شَماتَتُهم، أو كأنَّهم لا يَموتونَ أبدًا، فلا يَشمَتْ بهم أحدٌ؛ وُجِّهَ إليهم استفهامُ الإنكارِ على طَريقةِ التَّعريضِ بتَنزيلِهم مَنزِلةَ مَن يزعُمُ أنَّهم خالِدونَ، والمرادُ إنكارُ شَماتَتِهم بمَوتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّ الشَّماتةَ بما يَعْتريه أيضًا ممَّا لا يَنْبغي أنْ تَصدُرَ عن العاقلِ، كأنَّه قيل: أفإِنْ مِتَّ فهم الخالِدونَ حتَّى يَشْمتوا بمَوتِك

 

؟!

- قولُه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ تَذييلٌ؛ فإنَّ معنى الآيةِ مُستوفًى في الإخبارِ بأنَّه سُبحانه لم يَجعَلْ لبَشرٍ قبْلَ نَبيِّه الخُلْدَ، ثمَّ ذيَّلَ ذلك الإخبارَ بما أخرَجَه مُخْرَجَ تَجاهُلِ العارفِ

، وهو قولُه: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، ثمَّ ذيَّلَ هذا التَّذييلَ بما أخرَجه مُخْرَجَ المثَلِ السَّائرِ، حيث قال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ .

2- قولُه تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ استئنافٌ مَسوقٌ للتَّدليلِ على عدَمِ الخُلودِ ؛ فمَضمونُ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ مُؤكِّدٌ لمَضمونِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ، ووجْهُ إعادتِها اختلافُ القصْدِ؛ فإنَّ الأُولى للرَّدِّ على المُشرِكينَ، وهذه لتَعليمِ المُؤمِنين .

- قولُه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً الخِطابُ إمَّا للنَّاسِ كافَّةً بطَريقِ التَّلوينِ، أو للكَفرةِ بطَريقِ الالْتِفاتِ

.

- وتَقديمُ المَجْرورِ في بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ؛ للرِّعايةِ على الفاصلةِ، وإفادةِ تَقوِّي الخبَرِ، وليست للقصْرِ

. وقَدَّم الشَّرَّ؛ لأنَّ الابتلاءَ به أكثرُ، ولأنَّ العربَ تُقدِّمُ الأقلَّ والأردأَ .

3- قولُه تعالى: وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ استئنافٌ مَسوقٌ لتَقريرِ مَوقفِهم من النَّبيِّ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .

- والقصْرُ المُستفادُ من قولِه: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا هو قَصْرُ مُعامَلتِهم معه عليه السَّلامُ على اتِّخاذِهم إيَّاهُ هُزوًا، لا على معنى قَصْرِ اتِّخاذِهم على كونِه هُزوًا؛ كأنَّه قيل: ما يَفْعلون بك إلَّا اتِّخاذَك هُزوًا .

- وفيه إخبارٌ بالمصدرِ هُزُوًا؛ للمُبالَغةِ، أو هو مَصدرٌ بمعنى المفعولِ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا، وقال في سُورةِ (الفُرقانِ): وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الفرقان: 41] ، فأظهَرَ الفاعِلينَ في: رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وأضْمَرَهم في سُورةِ (الفُرقانِ)؛ ووجْهُه: أَنَّ آيةَ سورةِ (الأنبياءِ) ليس فى الآيةِ التى تقدَّمَتْها ذِكرُ الكفَّارِ؛ فصرَّح باسمِهم، وأما فى سورةِ (الفرقان) فقد سَبَق ذكرُ الكفَّار، فخُصَّ الإِظهارُ بآيةِ سورةِ (الأنبياءِ)، والكنايةُ يآيةِ سورةِ (الفرقان) .

- ومِن المُناسَبةِ أيضًا قولُه: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ، وفي سُورةِ (الفرقانِ): أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [الفرقان: 41- 42] ، فاختلَفَ التَّعقيبُ في الآيتينِ؛ ووجْهُه: أنَّه لمَّا تقدَّمَ في سُورةِ (الأنبياءِ) قولُه تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ [الأنبياء: 21] ، وقولُه: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] ، وقولُه: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً [الأنبياء: 24] ؛ فتكرَّرَ ذِكْرُ مُرتكَبِهم في اتِّخاذِهم مَعبوداتٍ لا تُغْني عنهم، ناسَبَهُ قولُهم: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ  [الأنبياء: 36] . أمَّا آيةُ (الفُرْقانِ) فقد تقدَّمَها قولُه: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 7] ، فأنْكَروا كونَ الرَّسولِ منَ البشَرِ؛ فجَرى مع ذلك وناسَبَهُ قولُهم: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41] ؛ تَعجُّبًا واستبعادًا أنْ يكونَ الرُّسلُ منَ البشَرِ، وقد رَدَّ ذلك عليهم بقولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ [الفرقان: 20] ؛ فوضَحَ التَّناسُبُ فيها .

- قولُه: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ استفهامٌ فيه إنْكارٌ وتعجيبٌ ، واسمُ الإشارةِ (هذا) مُسْتعمَلٌ في التَّحقيرِ بقَرينةِ الاستهزاءِ .

- وأيضًا قولُه: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ جُملةٌ مُبيِّنةٌ لجُملةِ: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا؛ فهي في معنى قَولٍ مَحذوفٍ دَلَّ عليه إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا؛ لأنَّ الاستهزاءَ يكونُ بالكلامِ .

- وضَميرُ الفصْلِ في قولِه: هُمْ كَافِرُونَ يجوزُ أنْ يُفيدَ الحصْرَ، أي: هم كافِرونَ بالقُرآنِ دونَ غَيرِهم ممَّن أسلَمَ مِن أهْلِ مكَّةَ وغَيرِهم منَ العرَبِ؛ لإفادةِ أنَّ هؤلاء باقونَ على كُفْرِهم مع توفُّرِ الآياتِ والنُّذُرِ. ويجوزُ أنْ يكونَ الفصْلُ لمُجرَّدِ التَّأكيدِ؛ تَحقيقًا لدَوامِ كُفْرِهم مع ظُهورِ ما شأْنُه أنْ يُقلِعَهم عن الكُفْرِ .

- وفي تَكريرِ (هم) وتَقديمُ الجارِّ والمجرورِ -بِذِكْرِ- على عامِلِه: شأْنٌ في الإنكارِ، وتَوبيخٌ عظيمٌ .

- وفيه إيجازٌ بالحذْفِ، وذلك في حِذْفِ مَفعولِ يَذْكُرُ، والذِّكْرُ يكونُ بالخيرِ والشَّرِّ؛ فإذا دلَّتِ الحالُ على أحَدِهما، أُطْلِقَ ولم يُقيَّدْ، كقولِك للرَّجلِ: سمِعْتُ فُلانًا يذكُرُك؛ فإنْ كان الذَّاكِرُ صَديقًا فهو ثَناءٌ، وإنْ كان عدُوًّا فذَمٌّ. ومِن جِهَةٍ ثانيةٍ لم يَقُولوا: أهذا الَّذي يَذكُرُ آلِهَتَكم بكلِّ سُوءٍ؛ لأنَّهم استَفْظعوا حِكايةَ ما يقولُه النَّبيُّ مِن القدْحِ في آلِهَتِهم، رمْيًا بأنَّها لا تَسمَعُ ولا تُبْصِرُ، ولا تَنفَعُ ولا تضُرُّ، وحاشَوْها مِن نَقْلِ ذَمِّها تَفصيلًا وتَصريحًا، فنَقَلوه إجْمالًا وتلْميحًا، بلْ أوْمَؤوا إليه بالإشارةِ المذكورةِ، فسُبحانَ مَن أضَلَّهم حتَّى تأدَّبُوا مع الأوثانِ، وأساؤوا الأدَبَ على الرَّحمنِ !

4- قولُه تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ قدَّمَ أوَّلًا ذَمَّ الإنسانَ على إفراطِ العَجلةِ وأنَّه مَطبوعٌ عليها، ثمَّ نهاهُم وزجَرَهم، كأنَّه قال: ليس ببِدْعٍ ولا يَبعُدُ منكم أنْ تَستعجِلوا؛ فإنَّكم مَجْبولون على ذلك، وهو طبْعُكم وسَجِيَّتُكم

.

- قولُه: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ يُرادُ بالإنسانِ هنا اسْمُ الجنْسِ؛ جُعِلَ لفَرْطِ استعجالِه وقِلَّةِ صَبْرِه كأنَّه مَخلوقٌ منه؛ تَنزيلًا لِما طُبِعَ عليه من الأخلاقِ مَنزِلةَ ما طُبِعَ منه من الأركانِ؛ إيذانًا بغايةِ لُزومِه له وعدَمِ انفكاكِه عنه

، وكأنَّه سبحانه نبَّه بهذا على أنَّ تركَ الاستعجالِ حالةٌ شريفةٌ عاليةٌ مرغوبٌ فيها؛ لأنَّ العائقَ كلَّما كان أشدَّ، كانت القدرةُ على مخالفتِه أكملَ

.

- وجُملةُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ مُعترِضةٌ بين جُملةِ وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وبين جُملةِ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي، جُعِلَتْ مُقدِّمةً لجُملةِ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي

، وهي مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ للرَّدِّ على استعجالِهم العذابَ .

- قولُه: سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء: 36] وبين جُملةِ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [الأنبياء: 38] ؛ لأنَّ قولَه تعالى: وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [الأنبياء: 36] يُثِيرُ في نُفوسِ المُسلِمينَ تَساؤُلًا عن مَدى إمهالِ المُشرِكينَ، فكان قولُه تعالى: سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ استئنافًا بَيانيًّا جاء مُعترِضًا بينَ الجُمَلِ الَّتي تَحْكي أقوالَ المُشرِكينَ وما تفرَّعَ عليها

.

- قولُه: سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فيه تَلْوينٌ للخِطابِ وصَرْفٌ له عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المُستعجِلينَ بطَريقِ التَّهديدِ والوعيدِ

.

- قولُه: فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ تفريعٌ على قوله: سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي؛ فتَفرَّع على هذا الوعدِ نهيٌ عن طَلبِ التعجيلِ .

5- قولُه تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ الواوُ استئنافيَّةٌ، والجُملةُ مُستأْنفةٌ مَسوقةٌ لإيرادِ نمَطٍ مِن استعجالِهم المذمومِ

.

- والاستفهامُ في قولِه: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ قالوهُ استِعجالًا لمَجيئِه بطَريقِ الاستهزاءِ والإنكارِ، واستبطاءً منهم للموعودِ

.

- وفي قولِه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ حُذِفَ جَوابُ الشَّرطِ؛ ثِقَةً بدَلالةِ ما قبلَه عليه؛ كأنَّه قِيلَ: فلْيأتِنا بسُرعةٍ إنْ كنتُمْ صادِقينَ

.

6- قوله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ

- قولُه: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ شِدَّةِ هَوْلِ ما يَستعجِلونَه، وفَظاعةِ ما فيه من العذابِ. وإيثارُ صِيغَةِ المُضارِعِ في الشَّرطِ -وإنْ كان المعنى على المُضِيِّ- لإفادةِ استمرارِ عدَمِ العِلْمِ. ووضْعُ الموصولِ مَوضِعَ الضَّميرِ؛ للتَّنبيهِ بما في حَيِّزِ الصِّلةِ على عِلَّةِ استعجالِهم

.

- وحُذِفَ جوابُ (لو) في لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، ونُكتَتُه: تَهويلُ جِنْسِه، فتَذهَبُ نَفْسُ السَّامِعِ كلَّ مَذْهَبٍ

.

- وضَميرُ يَكُفُّونَ قيل: إذا كان عائِدًا إلى الملائكةِ، أي: حين لا يُمسِكُ الملائكةُ اللَّفحَ بالنَّارِ عن وُجوهِ المُشرِكينَ، فذِكْرُ الوُجوهِ والأدبارِ للتَّنكيلِ بهم وتَخويفِهم؛ لأنَّ الوُجوهَ أعَزُّ الأعضاءِ على النَّاسِ، ولأنَّ الأدبارَ يأْنَفُ النَّاسُ مِن ضَرْبِها؛ لأنَّ ضربَها إهانةٌ وخِزْيٌ. وإذا كان الضَّميرُ عائدًا إلى الَّذين كَفَروا، أي: حين لا يَستطيعونَ أنْ يدفَعوا النَّارَ عن وُجوهِهم بأيديهم ولا عن ظُهورِهم. فذِكْرُ الظُّهورِ بعْدَ ذِكْرِ الوُجوهِ على هذا الاحتمالِ احتراسٌ لدَفْعِ تَوهُّمِ أنَّهم قد يَكفُّونَها عنْ ظُهورِهم إنْ لم تَشتغِلْ أيديهم بكَفِّها عن وُجوهِهم

.

- وفي قولِه: عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ خَصَّ الوجوهَ والظُّهورَ بالذِّكرِ بمعنى القُدَّامِ والخلْفِ؛ لكونِهما أشهَرَ الجوانبِ، واستلزامِ الإحاطةِ بهما الإحاطةَ بالكلِّ، بحيث لا يَقدِرون على دَفْعِها بأنفُسِهم من جانبٍ من جَوانبِهم

. وقيل: لأنَّ مسَّ العذابِ لهما أعظمُ موقعًا، ولكثرةِ ما يُستعملُ ذكرُهما في دفعِ المضرةِ عن النفْسِ

.

- قولُه: حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ مفعولُ يَعْلَمُ، وهو عبارةٌ عن الوقْتِ الموعودِ الَّذي كانوا يَستعجِلونَه، وإضافتُه إلى الجُملةِ الجاريةِ مَجرى الصِّفةِ الَّتي حَقُّها أنْ تكونَ مَعلومةَ الانتسابِ إلى الموصوفِ عندَ المُخاطَبِ أيضًا مع إنكارِ الكَفرةِ لذلك؛ للإيذانِ بأنَّه مِنَ الظُّهورِ بحيثُ لا حاجةَ له إلى الإخبارِ به، وإنَّما حَقُّه الانتظامُ في سِلْكِ المُسلَّماتِ المفروغِ عنها. ويجوزُ أنْ يكونَ يَعْلَمُ مَتروكَ المفعولِ مُنَزَّلًا مَنزِلَةَ اللَّازمِ، أي: لو كان لهم عِلْمٌ لَما فَعَلوهُ. وقولُه تعالى: حِينَ ... إلخ، استئنافٌ مُقرِّرٌ لجَهْلِهم، ومَبيِّنٌ لاستمرارِه إلى ذلك الوقْتِ؛ كأنَّه قِيلَ: حين يَرَونَ ما يرَوْن يَعْلمون حَقيقةَ الحالِ. أو أنْ يكونَ مفعولُ يَعْلَمُ محذوفًا؛ لدَلالةِ ما قبْلَه، أي: لو يَعلَمُ الَّذين كَفَروا مَجِيءَ الموعودِ الَّذي سَأَلوا عنه واسْتَبطؤوهُ

.

7- قوله تعالى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ

- قولُه: بَلْ تَأْتِيهِمْ استدراكٌ مُقدَّرٌ قبْلَه نَفْيٌ؛ تَقديرُه: إنَّ الآياتِ لا تأْتي بحسَبِ اقتراحِهم .

- و(بَل) في قولِه: بَلْ تَأْتِيهِمْ للإضرابِ الانتقاليِّ مِن تَهويلِ ما أُعِدَّ لهم، إلى التَّهديدِ بأنَّ ذلك يَحُلُّ بهم بَغْتةً وفجأَةً، وهو أشَدُّ على النُّفوسِ؛ لعَدمِ التَّهيُّؤِ له، والتَّوطُّنِ عليه .

- قولُه: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ مُفرَّعٌ على قولِه: فَتَبْهَتُهُمْ؛ فالبَهتُ: الغَلبُ المفاجِئُ المُعْجِز عن المُدافَعةِ .

=================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (41-47)

ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ

غريب الكلمات:

 

فَحَاقَ: أي: أحاطَ، ونزَلَ، وأصلُ (حيق): يدُلُّ على نُزولِ الشَّيءِ بالشَّيءِ

.

يَكْلَؤُكُمْ: أي: يَحفَظُكم، ويَحرُسُكم، والكِلاءةُ: حِفْظ الشَّيءِ وتَبقيتُه، وأصلُ (كلأ): يدُلُّ على مُراقَبةٍ ونَظَرٍ .

يُصْحَبُونَ: أي: يُجارُونَ، ويُنصَرونَ؛ لأنَّ المُجِيرَ صاحِبٌ لجارِه. والعربُ تقولُ: صَحِبَك اللهُ، أي: حَفِظك اللهُ وأجارَك، وأصلُ (صحب): يدُلُّ على مُقارنةِ شَيءٍ، ومُقاربتِه .

أَطْرَافِهَا: أي: جَوانبِها، ونَواحيها، وأصلُ (طرف): يدُلُّ على حَدِّ الشَّيءِ وحَرْفِه .

الصُّمُّ: جمعُ الأصمِّ، والصَّمَمُ: فقدانُ حاسَّة السَّمع، وبه يُوصَف مَن لا يُصغِي إلى الحقِّ ولا يَقبلُه، وأصلُه: الصَّلابةُ، وقيل: السَّدُّ .

نَفْحَةٌ: أي: أدنَى شَيءٍ، والنَّفحةُ: الدَّفعةُ اليَسيرةُ مِن الشَّيءِ دُونَ مُعظَمِه، والنَّصيبُ والحَظُّ، مِن قَولِهم: نفح فلانٌ لفُلانٍ مِن عَطائِه: إذا أعطاه قَسمًا أو نصيبًا، وأصلُ (نفح): يدُلُّ على اندِفاعِ الشَّيءِ .

خَرْدَلٍ: الخَردَلُ: حُبوبٌ دَقيقةٌ كحَبِّ السِّمسِمِ، هي بُزورُ شَجَرٍ يُسَمَّى عند العَرَبِ الخَرْدَلَ. ويُضرَبُ به المَثَلُ في الصِّغَرِ والحَقارةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مُسلِّيًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّا أصابَه مِن هؤلاءِ المشركينَ: ولقد استُهزِئَ برُسُلٍ مِن قَبلِك -يا مُحمَّدُ- فنزل بالذين كانوا يَستَهزِئونَ العذابُ الذي كانوا يَستَهزِئونَ به في الدُّنيا، ويُكَذِّبونَ بوُقوعِه.

قل -يا مُحمَّدُ- لكُفَّارِ قَومِك: مَن يَحفَظُكم ويَحرُسُكم في لَيلِكم أو نَهارِكم مِن الرَّحمنِ؟! بل هم عن ذِكرِ ربِّهم لاهُونَ غافِلونَ!

ألهؤلاءِ الكُفَّارِ آلِهةٌ تَمنَعُهم مِن عذابِنا؟ إنَّ آلهِتَهم لا يَستَطيعونَ أن يَنصُروا أنفُسَهم، فكيف يَنصُرونَ عابدِيهم؟! وليس لتلكَ الآلهةِ مُجيرٌ يُجيرُهم مِنَّا.

لقد اغتَرَّ الكُفَّارُ وآباؤُهم بالإمهالِ؛ لِمَا رأَوْهُ مِنَ الأموالِ والبَنينَ وطُولِ الأعمارِ، فظَنُّوا أنَّها لا تَزولُ عنهم، واغتَرُّوا بإمهالِ اللهِ لهم، فحمَلَهم ذلك على الكُفرِ والطُّغيانِ. أفلا يرى هؤلاء الكُفَّارُ أنَّا ننصُرُ المُسلِمينَ، ونفتَحُ لهم ديارَ المُشرِكينَ أرضًا بعدَ أرضٍ، فنَنقُصُ دارَ الكُفَّارِ، ونَزيدُ في دارِ الإسلامِ؟ أفلا يعتَبِرونَ بذلك فيخافونَ ظُهورَهم على أرضِهم، وقَهرِهم إيَّاهم. أفكُفَّارُ مكَّةَ هم المُنتَصِرونَ عليك -يا محمَّدُ- وعلى أتباعِك من المؤمنينَ؟! بل هم المَغلوبونَ!

قُلْ -يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ: ما أُخَوِّفُكم مِن العَذابِ إلَّا بوَحيٍ مِن اللهِ، وهو القُرآنُ. ولكِنَّ الكُفَّارَ لا يَسمَعونَ إلى القُرآنِ، فلا ينتَفِعونَ به، كأنَّهم صُمٌّ حين يُخوَّفونَ بآياتِه.

ولو أصاب الكُفَّارَ أقَلُّ شَيءٍ مِن عَذابِ اللهِ ليقولُنَّ نادمينَ مُتحَسِّرينَ: يا وَيْلَنا إنَّا كُنَّا ظالِمينَ لأنفُسِنا بعِبادتِنا غيرَ اللهِ!

ويضَعُ اللهُ الموازينَ العادِلةَ في يومِ القيامةِ؛ لِوَزنِ أعمالِ العِبادِ عند الحسابِ، ولا يَظلِمُ نَفسًا شيئًا، وإن كان هذا العمَلُ مِن خيرٍ أو شَرٍّ قدْرَ ذَرَّةٍ جاء الله بها لتُوزَنَ في الميزانِ، وكفى بالله مُحصِيًا أعمالَ عِبادِه، ومُجازيًا لهم عليها.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا تقَدَّمَ قَولُ الله تعالى: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا؛ سَلَّاه تعالى بأنَّ مَن تقَدَّمَه مِن الرُّسُلِ وقَعَ مِن أُمَمِهم الاستهزاءُ بهم، وأنَّ ثَمَرةَ استِهزائِهم جَنَوها هلاكًا وعِقابًا في الدُّنيا والآخرةِ، فكذلك حالُ هؤلاء المُستَهزِئينَ

.

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ.

أي: ولقد استهزأَ كُفَّارُ الأُمَمِ الماضيةِ برُسُلِهم الذين أرسَلْناهم مِن قَبلِك -يا مُحمَّدُ- فاصبِرْ على استِهزاءِ الكافرينَ كما صبَرَ عليه غَيرُك مِن الرُّسُلِ .

كما قال عزَّ وجلَّ: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف: 35] .

فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ.

أي: فنزلَ وأحاط بالكافِرينَ الذين سَخِروا مِنَ الرُّسُلِ العذابُ الذي كانوا يَستَهزِئونَ به في الدُّنيا، ويُكَذِّبونَ بوُقوعِه .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام: 34] .

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا سَلَّى الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على استهزاءِ الكافرينَ بالوعيدِ، أمَرَ أن يُذَكِّرَهم بأنَّ غُرورَهم بالإمهالِ مِن قِبَلِ اللهِ رَحمةٌ منه بهم، كشأنِه في الرَّحمةِ بمَخلوقاتِه، بأنَّهم إذا نزَلَ بهم عذابُه لا يَجِدونَ حافِظًا لهم مِنَ العذابِ غَيْرَه، ولا تَمنَعُهم منه آلهتُهم .

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ.

أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لكُفَّارِ قَومِك: مَن يَحرُسُكم ويَحفَظُكم باللَّيلِ والنَّهارِ مِن الرَّحمنِ ؟

بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ.

أي: بل الكُفَّارُ مُعرِضونَ عن ذكرِ ربِّهم ؛ جهلًا منهم، وسفهًا .

أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43).

أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا.

أي: ألهؤلاءِ الكُفَّارِ آلِهةٌ غَيرُنا تَحفَظُهم مِن عَذابِنا إن أنزَلْناه بهم ؟

لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ.

أي: لا تَقدِرُ آلهتُهم المزعومةُ أن تَنصُرَ أنفُسَها لِضَعفِها، فكيف تنصُرُ عابديها، وتمنَعُهم مِن عذابِنا ؟!

كما قال تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 191، 192].

وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ.

أي: وليس لتلكَ الآلهةِ مُجيرٌ يُجيرُهم مِنَّا .

كما قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء: 98، 99].

وقال سُبحانَه: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: 22- 26].

بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44).

بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ.

أي: ولكنَّ الذي أوجبَ استِمرارَهم على كُفرِهم وشِركِهم هو أنَّنا متَّعْنا مُشرِكي قُرَيشٍ وآباءَهم مِن قَبلِهم بالنِّعَمِ، وأطَلْنا أعمارَهم، فظَنُّوا أنَّها لا تَزولُ عنهم، فقَسَت قلوبُهم، واغتَرُّوا بإمهالِ اللهِ لهم، وأعرَضوا عن تدبُّرِ حُجَجِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فحمَلَهم ذلك على الطُّغيانِ، والاستِمرارِ على باطِلِهم .

كما قال تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178].

وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 182، 183].

وقال عزَّ وجلَّ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا [الفرقان: 17، 18].

وقال تبارك وتعالى: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف: 29، 30].

أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا.

أي: أوَلم يرَ الكُفَّارُ أنَّا ننصُرُ المُسلِمينَ، ونفتَحُ لهم ديارَ المُشرِكينَ أرضًا بعدَ أرضٍ، فنَنقُصُ دارَ الكُفَّارِ، ونَزيدُ في دارِ الإسلامِ؟ أفلا يعتَبِرونَ بذلك فيخافونَ ظُهورَهم على أرضِهم، وقَهرِهم إيَّاهم ؟!

أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ.

أي: أفكُفَّارُ مكَّةَ هم المُنتَصِرونَ على النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأتباعِه المُؤمِنينَ؟! بل المُشرِكونَ هم المغلوبونَ الأخسَرونَ الأذَلُّونَ .

كما قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 44، 45].

قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كَرَّر في القُرآنِ الأدِلَّةَ، وبالَغَ في التَّنبيهِ عليها على ما تقَدَّمَ؛ أتبَعَه بقَولِه: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أي: بالقُرآنِ الذي هو كلامُ رَبِّكم؛ فلا تظُنُّوا أنَّ ذلك مِن قِبَلي، بل اللهُ آتيكم به، وأمَرَني بإنذارِكم .

قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ.

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: إنَّما أُخَوِّفُكم عذابَ اللهِ بالقُرآنِ الذي يُنزِلُه اللهُ علَيَّ، ولا أُحَذِّرُكم مِن قِبَلِ نَفسي .

كما قال تعالى: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ [النمل: 92].

وقال سُبحانَه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] .

وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ تُسْمِعُ الصُّمَّ بتاءٍ مَضمومةٍ، وكسرِ الميمِ، بالخطابِ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، و(الصُّمَّ) بالفَتحِ على أنَّه مفعولٌ به لـ (تُسْمِعُ)، أي: أنت -يا محمَّدُ- لا تقدِرُ أن تُسمِعَ الصُّمَّ، وهم الكافِرونَ .

2- قراءةُ يَسْمَعُ الصُّمُّ بياءٍ مفتوحةٍ، وفَتحِ الميمِ، و(الصُّمُّ) بالرَّفعِ على أنَّه فاعِلُ (يَسْمَعُ)، أي: أنَّ الكافرينَ تَرَكوا استِماعَ ما يجِبُ عليهم استِماعُه وقَبولُه، وفيه معنى الذَّمِّ لِمن كان قادرًا على سَماعِ الحَقِّ فتَرَك استِماعَه .

وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ.

أي: ولا يُصغي الكُفَّارُ إلى القُرآنِ، كأنَّهم صُمٌّ لا ينتَفِعونَ به حين يُخوَّفونَ بآياتِه .

كما قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] .

وقال سُبحانَه: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود: 20] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل: 80، 81].

وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46).

أي: ولَئِنْ أصاب الكافرينَ المُستَعجِلينَ بالعذابِ أقَلُّ شَيءٍ مِن عذابِ رَبِّك -يا مُحمَّدُ- ليقولُنَّ نادمينَ مُتحَسِّرينَ: يا ويلَنا إنَّا كُنَّا ظالِمينَ لأنفُسِنا بعِبادتِنا غيرَ اللهِ !

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47).

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ.

أي: ونُقيمُ الموازينَ العادِلةَ في يومِ القيامةِ؛ لِوَزنِ أعمالِ العِبادِ عند حِسابِهم .

كما قال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف: 8، 9].

فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا.

أي: فلا يَظلِمُ اللهُ نفْسًا يومَ القيامةِ بالنَّقصِ مِن حَسَناتِها، أو بمُعاقَبتِها بغيرِ ذَنبِها، أو بالزِّيادةِ في سَيِّئاتِها .

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40].

وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ سيُخَلِّصُ رَجُلًا مِن أُمَّتي على رُؤوسِ الخلائِقِ يومَ القيامةِ، فيَنشُرُ عليه تِسعةً وتِسعينَ سِجِلًّا، كلُّ سِجِلٍّ مِثلُ مَدِّ البَصرِ ، ثمَّ يقولُ: أتُنكِرُ مِن هذا شيئًا؟ أظلَمَك كَتَبَتي الحافِظونَ؟ فيقولُ: لا يا رَبِّ، فيقولُ: أفلَك عُذرٌ؟ فيقولُ: لا يا رَبِّ، فيقولُ: بلى، إنَّ لك عندنا حَسَنةً، فإنَّه لا ظُلمَ عليك اليومَ، فتُخرَجُ بطاقةٌ فيها: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبدُه ورَسولُه، فيقولُ: احضُرْ وَزْنَك، فيقولُ: يا رَبِّ، ما هذه البِطاقةُ مع هذه السِّجِلَّات؟! فقال: إنَّك لا تُظلَمُ، فتُوضَعُ السِّجِلاتُ في كفَّةٍ، والبِطاقةُ في كفَّةٍ، فطاشت السِّجِلاتُ، وثَقُلَت البطاقةُ؛ فلا يَثقُلُ مع اسمِ اللهِ شَيءٌ )) .

وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا.

أي: وإن كان الَّذي للعبدِ مِن عملِ الحسناتِ، أو عليه مِن السَّيِّئاتِ وَزنَ حَبَّةٍ مِن خَردلٍ، جِئْنا بها لِتُوزنَ في الميزانِ .

كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .

وقال سُبحانَه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8].

وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ.

أي: وكفَى بنا عالِمينَ بأعمالِ العِبادِ، حافِظينَ لها، مُثبِتينَ لها في الكِتابِ، عالِمينَ بمقاديرِها ومقاديرِ ثوابِها وعِقابِها واستِحقاقِها، مُوصِلينَ للعامِلينَ جَزاءَها، ولن نَظلِمَهم شيئًا؛ فليس في الحِسابِ أحدٌ مِثلُنا

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية: 25- 26].

الفوائد التربوية:

 

قَولُ الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ، أي: الأصمُّ لا يَسمَعُ صَوتًا؛ لأنَّ سَمْعَه قد فسَدَ وتعَطَّل، وشَرْطُ السَّماعِ معَ الصَّوتِ أن يُوجَدَ محَلٌّ قابِلٌ لذلك، كذلك الوَحيُ سَبَبٌ لحياةِ القُلوبِ والأرواحِ، وللفِقهِ عن اللهِ، ولكِنْ إذا كان القَلبُ غَيرَ قابِلٍ لسَماعِ الهُدى، كان بالنِّسبةِ للهُدى والإيمانِ بمَنزلةِ الأصَمِّ بالنِّسبةِ إلى الأصواتِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا في ذلك تبشيرٌ للمؤمنينَ بما يفتحُ الله عليهم

.

2- قولُ الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ إنْ قيل: الميزانُ واحِدٌ ، فما وجهُ الجَمعِ؟

فالجوابُ مِن أوجهٍ:

الأول: أنَّه ميزانٌ واحدٌ، وأُطْلِق عليه اسمُ الجمعِ تفخيمًا له، فالعَربُ قد تُوقِعُ لفظَ الجَمعِ على الواحِدِ تفخيمًا له. وتُطْلِقُ الجمعَ، وتريدُ المفردَ كعكسِه.

الثاني: أنَّه إِنَّما جُمِع باعتبارِ تَعَدُّدِ الأعمالِ الموزونةِ فيه وكثرتِها، وكثرةِ الأشخاصِ العاملينَ، الموزونةِ أعمالُهم.

الثالث: أنَّ الموازينَ جمعُ موزونٍ، والموزونُ هو الحسناتُ والسيئاتُ، وجمعُ (الموزونِ) على (موازينَ) جمعٌ قياسيٌّ مُطَّرِدٌ، وعلى هذا فلا سؤالَ ولا إشكالَ.

الرابع: أنَّه يُنصَبُ لكُلِّ عبدٍ مِيزانٌ .

3- في قَولِه تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ دَلالةٌ على إثباتِ الوَزنِ يومَ القيامةِ ، وأنَّ وجودَ الموازينِ حَقيقةٌ، وقد جاءت الأحاديثُ الكثيرةُ بالأسانيدِ الصَّحيحةِ في هذا البابِ .

4- إن قيل: قَولُ الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، ظاهرُه يناقض قولَه تعالى في الكفارِ: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: ١٠٥]؟

والجوابُ على ذلك مِن وجهينِ:

الأوَّل: أنَّه ليس هذا على أن لا توزنَ أعمالُ الكفارِ، بل تُوزنُ لكنَّ أعمالَهم شَائِلَةٌ ، وموازينَهم خفافٌ، قد نَصَّ الله تعالَى على ذلك فقال: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ إلى قولِه: فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ، فأَخبَر عزَّ وجلَّ أَنَّ هؤلاءِ المكذِّبين بآياتِه خفَّت موازينُهم، والمكذِّبون بآيَاتِ الله عزَّ وَجلَّ كفارٌ بلا شكٍّ ، فمعنَى الآيةِ: لا نُثقِّلُ مَوازينَهم يومَ القيامةِ؛ لأنَّه ليس لهم حَسَناتٌ .

الثاني: أنَّ معنى الآيةِ: لا يُعتَدُّ بهم، ولا يكونُ لهم عندَ الله قَدْرٌ ومَنزِلةٌ ، فلا يُكرِمُهم ولا يُعظِّمُهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ تَسليةٌ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن استهزائِهم به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في ضِمْنِ الاستعجالِ، وعِدَةٌ ضِمْنيةٌ بأنَّه يُصيبُهم مثْلُ ما أصاب المُستهزئينَ بالرُّسلِ السَّالفةِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ

.

- قولُه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فيه التَّصديرُ بالقسَمِ؛ لزِيادةِ تَحقيقِ مَضمونِه. وتَنوينُ الرُّسلِ للتَّفخيمِ والتَّكثيرِ .

- قولُه: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قُدِّمَ قولُه: بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ على فاعلِهِ الَّذي هو قولُه تعالى: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ؛ للمُسارَعةِ إلى بَيانِ لُحوقِ الشَّرِّ بهم .

- ومَا في قولِه: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ إمَّا موصولةٌ مُفيدةٌ للتَّهويلِ، والضَّميرُ المجرورُ عائدٌ إليها، والجارُّ مُتعلِّقٌ بالفِعْلِ، وتَقديمُه عليه لرِعايةِ الفواصلِ، أي: فأحاطَ بهم الذي كانوا يَستهزئونَ به حيثُ أُهْلِكوا لأجْلِه. وإمَّا مَصدريَّةٌ؛ فالضَّميرُ المجرورُ راجعٌ حينئذٍ إلى جِنْسِ الرَّسولِ المدلولِ عليه بالجَمْعِ، ولعلَّ إيثارَه على الجمْعِ للتَّنبيهِ على أنَّه يَحِيقُ بهم جَزاءُ استهزائِهم بكلِّ واحدٍ واحدٍ منهم عليهم السَّلامُ، لا جزاءُ استهزائِهم بكلِّهم من حيثُ هو كلٌّ فقطْ، أي: فنزَلَ بهم جَزاءُ استهزائِهم -على وَضْعِ السَّببِ مَوضِعَ المسبَّبِ؛ إيذانًا بكَمالِ المُلابَسةِ بينهما-، أو عينُ استهزائِهم إنْ أُرِيدَ بذلك العذابُ الأُخرويُّ، بِناءً على تَجسُّمِ الأعمالِ يومَ القيامةِ .

2- قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ

- الاستفهامُ في قولِه: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ استفهامُ تَقريعٍ وتَبْكيتٍ وتَوبيخٍ، أي: لا يَكْلَؤُهم منه أحدٌ؛ فكيف تَجْهَلون ذلك؟! تَنبيهًا لهم إذا نَسُوا نِعَمَه

 

.

- وذِكْرُ اللَّيلِ والنَّهارِ لاستيعابِ الأزمنةِ؛ كأنَّه قيل: مَن يَكْلَؤُكم في جَميعِ الأوقاتِ

؟ وقيل: إنما ذُكِر اللَّيلُ والنَّهارُ؛ لأنَّ لكُلِّ واحدٍ مِن الوَقتَينِ آفاتٍ تختَصُّ به ، وتَقديمُ اللَّيلِ؛ لِمَا أنَّ الدَّواهِيَ أكثَرُ فيه وُقوعًا، وأشدُّ وَقْعًا .

- وفي لَفْظِ الرَّحْمَنِ تَنبيهٌ على أنْ لا كالِئَ غيرُ رَحمتِه العامَّةِ . وقيل: خَصَّ هاهنا اسمَ (الرَّحمنِ) بالذِّكرِ؛ تلقينًا للجَوابِ، حتى يقولَ العاقِلُ: أنت الكالئُ يا إلهَنا لكلِّ الخلائِقِ برَحمتِك .

- قولُه: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ فيه إضرابٌ بـ (بَلْ)، وهو ارتقاءٌ مِن التَّقريعِ المَجْعولِ للإصلاحِ إلى التَّأْييسِ مِن صَلاحِهم بأنَّهم عن ذِكْرِ ربِّهم مُعرِضونَ. وفي تَعليقِ الإعراضِ بذِكْرِه تعالى، وإيرادِ اسمِ الرَّبِّ المُضافِ إلى ضَميرِهم المُنبئِ عن كَونِهم تحتَ مَلكوتِه وتَدبيرِه وتَربيتِه تعالى: دَلالةٌ على كَونِهم في الغايةِ القاصيةِ مِنَ الضَّلالةِ والغَيِّ .

- قولُه: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ فيه الْتِفاتٌ؛ حيث أعرَضَ عنهم من طَريقِ الخطابِ إلى طَريقِ الغَيبةِ؛ لأنَّ ما وُجِّهَ إليهم مِن إنكارِ أنْ يَكلَأَهم أحدٌ مِن عَذابِ اللهِ جعَلَهم أحرياءَ بالإعراضِ عنهم .

3- قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ

- قولُه: أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا (أَمْ) مُنقطِعةٌ وما فيها من مَعْنى (بلْ) للإضرابِ، والانتقالِ عمَّا قبْلَه إلى تَوبيخِهم باعتمادِهم على آلهتِهم، وإسنادِهم الحِفْظَ إليها، والهمزةُ لإنكارِ أنْ يكونَ لهم آلِهَةٌ تَقدِرُ على ذلك. وفي تَوجيهِ الإنكارِ والنَّفيِ إلى وُجودِ الآلهةِ الموصوفةِ بما ذُكِرَ منَ المنْعِ: دَلالةٌ على سُقوطِها عن مَرْتبةِ الوُجودِ فضْلًا عن رُتْبةِ المنْعِ . وإنَّما خُولِفَ في هذا الإضرابِ بأنْ أتى بـ(أَمْ) المُتضمِّنةِ للهمزةِ و(بَلْ)؛ ليُؤْذِنَ بالاهتمامِ، وأنَّ الجُملةَ مُستطردةٌ بينَ الإضرابينِ بـ(بَلْ)

.

- قولُه: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ استئنافٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه من الإنكارِ، ومُوضِّحٌ لبُطلانِ اعتقادِهم

. وضَميرُ يَسْتَطِيعُونَ عائدٌ إلى آَلِهَةٌ، أُجْرِيَ عليهم ضَميرُ العُقلاءِ؛ مُجاراةً لِمَا يُجْرِيه العرَبُ في كَلامِهم

.

4- قوله تعالى: بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ

- قولُه: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا فيه تَقريعٌ على إحالتِهم نصْرَ المُسلِمينَ، وعَدِّهم تأْخيرَ الوعْدِ به دَليلًا على تَكذيبِ وُقوعِه حتَّى قالوا: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأنبياء: 38] ؛ تَهكُّمًا وتَكذيبًا

.

- ولمَّا أنذَرَهم بما سيَحُلُّ بهم في قولِه تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ إلى قولِه تعالى: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنبياء: 39- 41] ، فرَّعَ على ذلك كلِّه بقولِه: أَفَلَا يَرَوْنَ ... استفهامًا تَعجُّبيًّا مِن عدَمِ اهتدائِهم إلى أماراتِ اقتِرانِ الوعْدِ بالموعودِ، استِدلالًا على قُرْبِه بحُصولِ أماراتِه . وقيل: الفاءُ في أَفَلَا يَرَوْنَ لعطْفِ الجُملةِ على مُقدَّرٍ، وفي أَفَهُمُ على المذكورِ، والهمزةُ الثَّانيةُ مُكرَّرةٌ مُقْحمةٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه؛ لتَأْكيدِ التَّقريرِ على سَبيلِ التَّعكيسِ، أي: أفلا يَنظُرون كيف نَغلِبُهم ونَنقُصُ من أطْرافِ أرْضِهم، فهم الغالِبونَ أمْ نحنُ ؟!

- وفائدةُ قولِه: نَأْتِي الْأَرْضَ تَصويرُ ما كان اللهُ يُجْرِيه على أيدي المُسلِمينَ، وأنَّ عساكِرَهم وسراياهم كانت تَغْزو أرضَ المُشرِكينَ وتأْتيها غالِبةً عليها، ناقِصةً مِن أطْرافِها .

- وأسنَدَ سُبحانه الضَّميرَ إلى نفْسِه نَأْتِي؛ تَعظيمًا للمُسلِمين الَّذين أجْرَى على أيديهم الانتصارَ العظيمَ، وافتتاحَ البلادِ والأمصارِ؛ فأصْلُه: تأْتي جُيوشُ المُسلِمين، ولكنَّه أسنَدَ الإتيانَ إلى نفْسِه؛ تَنويهًا بقدْرِ المُجاهِدين، وتَعظيمًا لِما أتَوا به من جلائلِ الأعمالِ، وناهِيكَ بمَن يَعمَلُ عمَلًا يَنسِبُه اللهُ إلى نفْسِه

.

- قولُه: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ هذه الجُملةُ مُفرَّعةٌ على جُملةِ التَّعجُّبِ من عدَمِ اهتدائِهم إلى هذه الحالةِ. والاستفهامُ إنكاريٌّ، أي: فكيف يَحْسَبون أنَّهم غَلَبوا المُسلِمين، وتمكَّنوا مِن الحُجَّةِ عليهم؟! أو كأنَّه قِيلَ: أبَعْدَ ظُهورِ ما ذُكِرَ ورُؤيتِهم له يُتَوهَّمُ غلَبتُهم؟! وفيه تَقريعٌ وتوبيخٌ؛ حيث لم يَعْتَبِروا بما يَجْري عليهم

.

- واختيارُ الجُملةِ الاسميَّةِ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ دونَ الفعليَّةِ؛ لدَلالةِ الاسميَّةِ بتَعريفِ جُزأَيها على القصْرِ، أي: ما هم الغالِبونَ، بلِ المُسلِمون الغالِبونَ؛ إذ لو كان المُشرِكون الغالبينَ لَمَا كان عدَدُهم في تَناقُصٍ، ولَمَا خلَتْ بلْدتُهم من عدَدِ كثيرٍ منهم

.

5- قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ

- قولُه: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ استئنافٌ ابتِدائيٌّ، مقصودٌ منه الإتيانُ على جَميعِ ما تقدَّمَ مِن استعجالِهم بالوعْدِ، تَهكُّمًا بقولِه تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ

[الأنبياء: 38] . وقد عُقِّبَ به أمْرُ اللهِ رسولَه أنْ يُخاطِبَهم بتَعريفِ كُنْهِ دَعوتِه، وهي قَصْرُه على الإنذارِ بما سيَحُلُّ بهم في الدُّنيا والآخرةِ؛ إنذارًا مِن طَريقِ الوحيِ المُنزَّلِ عليه مِن اللهِ تعالى وهو القُرآنُ؛ فالكلامُ قصْرُ مَوصوفٍ على صِفةٍ، وقَصْرُه على المُتعلِّقِ بتلك الصِّفةِ تبَعًا لمُتعلِّقِه؛ فهو قائمٌ مَقامَ قَصْرينِ .

- ولمَّا أُرِيدَ أنْ ينتقلَ مِن عذابِ الاستئصالِ إلى عَذابِ النَّارِ، وهو قولُه: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ ... الآيةَ، وُسِّطَ بينهما ما هو مُهِمٌّ بشأْنِه مِن حديثِ الوحيِ، وهو قولُه تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ تَوكيدًا؛ لِيُتَخلَّصَ منه إليه .

- وقولُه: وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ إمَّا تتمَّةُ الكلامِ المُلقَّنِ، تَذييلٌ له بطَريقِ الاعتراضِ، قد أُمِرَ عليه السَّلامُ بأنْ يقولَه لهم؛ تَوبيخًا وتَقريعًا وتَسجيلًا عليهم بكَمالِ الجَهلِ والعِنادِ، واللَّامُ في الصُّمُّ للجِنْسِ المُنتظِمِ للمُخاطَبينَ انتظامًا أوَّلِيًّا أو للعهْدِ. وإمَّا مِن جِهَتِه تعالى؛ كأنَّه قِيلَ: قُلْ لَهُم ذلك وأنت بمَعزِلٍ مِن إسماعِهم .

- قولُه: وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ؛ قال: إِذَا مَا يُنْذَرُونَ مع أنَّ الصُّمَّ لا يَسْمَعون دُعاءَ المُبشِّرِ، كما لا يَسْمعونَ دُعاءَ المُنذِرِ؛ إذِ اللَّامُ في الصُّمُّ إشارةٌ إلى هؤلاء المُنذَرينَ كائنةٌ للعهْدِ لا للجِنْسِ -على قولٍ-، والأصْلُ: (ولا يَسْمعون إذا ما يُنْذَرونَ)؛ فوضَعَ الظَّاهِرَ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ للدَّلالةِ على تَصامِّهم وسَدِّهم أسماعَهم إذا أُنْذِروا، أي: هم على هذه الصِّفةِ مِن الجُرأةِ والجَسارةِ على التَّصامِّ مِن آياتِ الإنذارِ .

- والتَّعريفُ في الصُّمُّ للاستغراقِ -على القولِ بأنَّ اللامَ للجنسِ-، ودخَلَ في عُمومِه المُشرِكونَ المُعرِضون عن القُرآنِ، وهم المقصودُ مِن سَوقِ التَّذييلِ؛ ليَكونَ دُخولُهم في الحُكْمِ بطَريقةِ الاستدلالِ بالعُمومِ على الخُصوصِ، وتَقييدُ عدَمِ السَّماعِ بوقْتِ الإعراضِ عندَ سَماعِ الإنذارِ لتَفظيعِ إعراضِهم عنِ الإنذارِ؛ لأنَّه إعراضٌ يُفْضي بهم إلى الهَلاكِ، فهو أفظَعُ من عدَمِ سَماعِ البِشارةِ أو التَّحديثِ، ولأنَّ التَّذييلَ مَسوقٌ عَقِبَ إنذاراتٍ كثيرةٍ. واخْتِيرَ لفْظُ الدُّعاءِ؛ لأنَّه المُطابِقُ للغرَضِ؛ إذ كان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ داعيًا كما قال: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ

[يوسف: 108] .

- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ [الأنبياء: 45] ، وفي سُورةِ (النَّملِ) و(الرُّومِ) قال: لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل: 80] ، [الروم: 52] ؛ فخُتِمَتِ الأُولى بقولِه: إِذَا مَا يُنْذَرُونَ، وخُتِمَتْ آيتَا (النَّملِ) و(الرُّومِ) بقولِه: إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ؛ ووجْهُه: أنَّ آيةَ (الأنبياءِ) قد تقدَّمَها أمْرُ النَّبيِّ عليه السَّلام بخِطابِ حاضِرِيه، وإنْذارِهم بما أُوحِيَ إليه، وإعلامِهم بأنَّ إنْذارَه إيَّاهم لا يُجْدي عليهم؛ تَسليةً له عليه السَّلامُ، وإعْلامًا بما سبَقَ لهم أزَلًا، فقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ، ثمَّ قال لهم: وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ [الأنبياء: 45] ؛ فأعْلَمَهم بإعلامِ اللهِ تعالى بأنَّهم صُمُّوا عن سَماعِه، ومُنِعوا ثَمرتَه من الإجابةِ لِمَا سبَقَ عليهم، فقيل: إِذَا مَا يُنْذَرُونَ، أي: أنَّهم وقْتَ إنْذارِهم مَمنوعونَ عن السَّمعِ، كما ورَدَ قبْلَ آيتيِ (النَّملِ) و(الرُّومِ) قولُه تعالى: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [الروم: 52] ؛ إلْحاقًا لحالِ المُخاطَبينَ بهم في عدَمِ الجَدْوى عليهم، ناسَبَ ذلك قولُه: إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ؛ فوضَحَ التَّناسُبُ في نِظامِ هذه الآياتِ، وأنَّ العكْسَ لا يُناسِبُ

.

6- قولُه تعالى: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ بَيانٌ لسُرعةِ تأثُّرِهم من مَجِيءِ نفْسِ العذابِ إثْرَ بَيانِ عدَمِ تأثُّرِهم من مَجِيءِ خبَرِه على نهْجِ التَّوكيدِ القَسَميِّ ، وأكَّدَ الشَّرطَ بلامِ القسَمِ؛ لتَحقيقِ وُقوعِ الجَزاءِ .

- قولُه: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ في المَسِّ والنَّفحةِ ثلاثُ مُبالَغاتٍ؛ الأُولى: ذِكْرُ المَسِّ وإسنادُه إلى النَّفحةِ دونَ فِعْلٍ آخَرَ، والمَسُّ أقَلُّ شَيءٍ، بل هو شَيءٌ رَقيقٌ جِدًّا؛ فكيف إذا انثالَ عليهم؟! الثَّانيةُ: ما في النَّفحةِ من معنى القِلَّةِ والنَّزارةِ، وتَنكيرُها. الثَّالثةُ: بِناءُ المرَّةِ مِن النَّفحِ، فمصدَرُ المرَّةِ يأْتي على (فَعْلَةٍ)، أي: نَفحةٌ واحدةٌ لا ثانِيَ لها تَكْفي لتَشتيتِ أمْرِهم، وتَوهينِ كِيانِهم، وتَصدُّعِ صُفوفِهم؛ فكيف إذا عُزِّزَت بثانيةٍ أو ثالثةٍ

؟!

7- قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ

- قولُه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ يجوزُ أنْ تكونَ الواوُ عاطفةً هذه الجُملةَ على جُملةِ: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا؛ لِمُناسَبةِ قولِهم: إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، ولبَيانِ أنَّهم مُجازونَ على جَميعِ ما أسْلَفوهُ من الكُفْرِ وتَكذيبِ الرَّسولِ، بَيانًا بطَريقِ ذِكْرِ العُمومِ بعْدَ الخُصوصِ في المُجازينَ، فشابَهَ التَّذييلَ؛ من أجْلِ عُمومِ قولِه تعالى: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، وفي المُجازَى عليه؛ من أجْلِ قولِه: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا. ويجوزُ أنْ تكونَ الواوُ للحالِ مِن رَبِّكَ في مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ، وتكونَ نونُ المُتكلِّمِ المُعظِّمِ الْتِفاتًا لمُناسَبةِ الجزاءِ للأعمالِ؛ ولذلك فرَّعَ عليه قولَه تعالى: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا

.

- في قولِه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ وُصِفَتِ الموازينُ بالقِسْطِ مُبالَغةً، كأنَّها في أنفُسِها قِسْطٌ. أو على حَذْفِ المُضافِ، أي: ذواتِ القِسْطِ. ويجوزُ أنْ يكونَ مَفعولًا لأجْلِه، أي: لأجْلِ القِسْطِ

.

- قولُه: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا فُرِّعَ على وَضْعِ الموازينِ تَفريعَ العِلَّةِ على المعلولِ، أو المعلولِ على العِلَّةِ. والظُّلمُ: ضِدُّ العدْلِ، ولذلك فُرِّعَ نَفْيُه على إثباتِ وَضْعِ العدْلِ. ووُقوعُ لفظةِ شَيْئًا في سِياقِ النَّفيِ دَلَّ على تأْكيدِ العُمومِ، أي: شيئًا مِن الظُّلمِ، ووُقوعُه في سِياقِ النَّفيِ دَلَّ على تأْكيدِ العُمومِ مِن فِعْلِ تُظْلَمُ الواقعِ أيضًا في سِياقِ النَّفيِ، أي: لا تُظْلَمُ بنَقْصٍ من خيرٍ اسْتحقَّتْه، ولا بزيادةِ شَيءٍ لم تَستحِقَّه. وهذه الجُملةُ كلمةٌ جامعةٌ لمَعانٍ عِدَّةٍ مع إيجازِ لفْظِها؛ فنُفِيَ جِنْسُ الظُّلمِ، ونُفِيَ عن كلِّ نفْسٍ، فأفاد أنْ لا بَقاءَ لظُلْمٍ بدونِ جَزاءٍ

.

- قولُه: وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ فيه توعُّدٌ، وهو إشارةٌ إلى ضَبْطِ أعمالِهم مِن الحسابِ، وهو العَدُّ والإحصاءُ. وقيل: هو كِنايةٌ عن المُجازاةِ

.

- وضَميرُ الجمْعِ في قولِه: حَاسِبِينَ مُراعًى فيه ضَميرُ العَظمةِ من قولِه تعالى: بِنَا، والباءُ مَزيدةٌ للتَّوكيدِ

---------------

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (48-50)

ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى: ولقد آتَينا موسى وهارونَ ما يُفرَقُ به بينَ الحَقِّ والباطِلِ، والتوراةَ مُضيئةً طَريقَ الحَقِّ، مُبَصِّرةً لِمن اتَّبَعَها؛ وتذكيرًا ومَوعِظةً للمُتَّقينَ، الذين يخافُونَ رَبَّهم في غَيبِهم وخَلَواتِهم، وهم من القيامةِ خائِفونَ وَجِلونَ.

وهذا القُرآنُ ذِكْرٌ لِمن تذكَّرَ به، وعَمِلَ بأوامِرِه واجتَنَب نواهيَه، كثيرُ الخَيرِ، عَظيمُ النَّفعِ، أنزَلْناه على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أفتُنكِرونَه وهو في غايةِ الظُّهورِ والبَيانِ؟!

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله سُبحانَه لَمَّا تكَلَّم في دلائِلِ التوحيدِ والنبُوَّةِ والمعادِ؛ شرع في قَصَصِ الأنبياءِ عليهم السلامُ؛ تسليةً للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما ينالُه مِن قَومِه، وتقويةً لقَلبِه على أداءِ الرِّسالةِ، والصَّبرِ على كُلِّ عارضٍ دونَها

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما أتى به رَسولُه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الذِّكرِ، وحالَ مُشرِكي العَرَبِ معه، وقال: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ؛ أتبَعَه بأنَّه عادةُ اللهِ في أنبيائِه، فذكَرَ ما آتى موسى وهارونَ؛ إشارةً إلى قِصَّتِهما مع قَومِهما، مع ما أُوتوا مِنَ الفُرقانِ والضِّياءِ والذِّكرِ .

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ.

أي: ولقد آتَينا موسى وهارونَ ما يُفرَقُ به بينَ الحَقِّ والباطِلِ .

قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ [الصافات: 114 - 117] .

وقال سبحانه: وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة: 53] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ [غافر: 23] .

وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ.

أي: وآتينا موسى وهارونَ التَّوراةَ نورًا في القَلبِ، مُضيئةً طَريقَ الحَقِّ، مُبَصِّرةً لِمن اتَّبَعَها أحكامَ دينِهم، وهي تذكيرٌ ومَوعِظةٌ للمُتَّقينَ الذين يمتَثِلونَ أوامِرَ اللهِ، ويجتَنِبونَ نواهيَه .

الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكر اللهُ تعالى التَّقوى؛ ذكَرَ ما أنتجَتْه، وهو: خشيةُ اللهِ، والإشفاقُ مِن عذابِ يَومِ القيامةِ .

الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ.

أي: آتيناهما التَّوراةَ ضِياءً وذِكرًا للمُتَّقينَ الذين يَخافونَ رَبَّهم في غَيبِهم وخَلَواتِهم حيثُ لا يَطَّلِعُ عليهم أحدٌ مِن النَّاسِ، فيَترُكونَ المُحَرَّماتِ، ويقومونَ بالواجِباتِ، مُخلِصينَ لله، خائِفينَ مِن عذابِه .

وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ.

أي: وهم مِن يومِ القيامةِ وأهوالِه خائِفونَ حَذِرونَ .

وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ فُرقانَ موسى عليه السَّلامُ، وكان العَرَبُ يُشاهِدونَ إظهارَ اليهودِ للتمَسُّكِ به والمُقاتَلةِ على ذلك والاغتِباطِ؛ حَثَّهم على كتابِهم الذي هو أشرَفُ منه، فقال :

وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ.

أي: وهذا القرآنُ ذِكرٌ يتذَكَّرُ ويتَّعِظُ به المُؤمِنونَ، كثيرُ الخيراتِ في الدنيا والآخِرةِ، أنزَلْناه كما أنزَلْنا التوراةَ إلى موسى وهارون ذِكرًا للمُتَّقينَ .

كما قال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: 155] .

وقال عزَّ وجلَّ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .

أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ.

أي: أفأنتم للقُرآنِ مُنكِرونَ نُزولَه من عندِ اللهِ وهو في غايةِ الظُّهورِ؟ وكيف تُنكِرونَ كَونَه مُنَزَّلًا مِن عِندِه سُبحانَه مع اعتِرافِكم بأنَّ التَّوراةَ مُنَزَّلةٌ مِن عندِه

 

؟!

الفوائد التربوية:

 

1- خَشيةُ اللَّهِ في الغَيبِ والشَّهادةِ المعنيُّ بها أنَّ العَبدَ يخشى اللَّهَ سرًّا وإعلانًا، وظاهِرًا وباطِنًا، فإنَّ أكثَرَ النَّاسِ يرى أنَّه يخشى اللهَ في العلانيةِ وفي الشَّهادةِ، ولكِنَّ الشَّأنَ في خَشيتِه اللهَ في الغَيبِ إذا غاب عن أعيُنِ النَّاسِ، وقد مدح اللهُ مَن يخافُه بالغَيبِ؛ قال تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ، وقال: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق: 33] ، وقال تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة: 94] ، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ

[الملك: 12] .

2- قال الله تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ فوصَفَ القُرآنَ بوَصفَينِ جَليلَينِ:

الأوَّلُ: كَونُه ذِكرًا يُتذَكَّرُ به جميعُ المطالِبِ؛ مِن مَعرِفةِ اللهِ بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، ومِن صفاتِ الرُّسُلِ والأولياءِ وأحوالِهم، ومِن أحكامِ الشَّرعِ مِن العِباداتِ والمُعامَلاتِ وغَيرِها، ومِن أحكامِ الجَزاءِ والجَنَّةِ والنَّارِ، فيُتذَكَّرُ به المسائِلُ والدَّلائِلُ العَقليَّةُ والنَّقليَّةُ، وسَمَّاه ذِكرًا؛ لأنَّه يَذكُرُ ما رَكَزَه اللهُ في العُقولِ والفِطَرِ؛ من التَّصديقِ بالأخبارِ الصَّادِقةِ، والأمرِ بالحَسَنِ عَقلًا، والنَّهيِ عن القَبيحِ عَقلًا.

والثَّاني: كَونُه مُبَارَكًا وهذا يقتضي كَثرةَ خَيراتِه، ونماءَها وزيادتَها، ولا شَيءَ أعظَمُ بَرَكةً مِن هذا القرآنِ؛ فإنَّ كُلَّ خَيرٍ ونِعمةٍ، وزيادةٍ دينيَّةٍ أو دُنيويَّةٍ أو أُخرويَّةٍ؛ فإنَّها بسَبَبِه وأثَرٌ عن العَمَلِ به، فإذا كان ذِكرًا مُبارَكًا، وجَبَ تَلقِّيه بالقَبولِ والانقيادِ والتَّسليمِ، وشُكرِ اللهِ على هذه المِنحةِ الجَليلةِ، والقيامِ بها، واستِخراجِ بَركتِه بتعَلُّمِ ألفاظِه ومَعانيه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

وصَفَ اللهُ تعالى شَريعةَ موسى عليه السَّلامُ بأنَّها ضِياءٌ، كما قال: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ، والضِّياءُ: هو النُّورُ الذي يَحصُلُ فيه نَوعُ حَرارةٍ وإحراقٍ، كضياءِ الشَّمسِ، بخلافِ القَمَرِ؛ فإنَّه نورٌ مَحضٌ فيه إشراقٌ بغيرِ إحراقٍ؛ قال الله عزَّ وجَلَّ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5] ، وإن كان قد ذَكَر أنَّ في التَّوراةِ نورًا، كما قال: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة: 44] ، ولكِنَّ الغالِبَ على شَريعتِهم الضِّياءُ؛ لِما فيها مِن الآصارِ والأغلالِ والأثقالِ، ووصفَ شَريعةَ مُحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّها نورٌ؛ لِما فيها مِن الحنيفيَّةِ السَّمحةِ؛ قال الله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ

 

[المائدة: 15] .

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ عطفٌ على جُملةِ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5] ؛ لإقامةِ الحُجَّةِ على المشركينَ بالدلائلِ العقليَّةِ والإقناعيَّةِ والزَّجريَّةِ، ثُمَّ بدلائلِ شواهدِ التاريخِ وأحوالِ الأُممِ السابقةِ، الشاهدةِ بتَنظيرِ ما أُوتِيَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما أُوتِيَه سَلَفُه مِن الرُّسُلِ والأنبياءِ، وأنَّه ما كان بِدْعًا مِن الرُّسل في دَعوتِه إلى التوحيدِ، تلك الدعوة التي كَذَّبه المشرِكونَ لأجْلِها، مع ما تَخلَّل ذلك من ذِكر عِنادِ الأقوامِ، وثَباتِ الأقدامِ، والتأييدِ مِن الملك العَلَّامِ، وفي ذلك تَسليةٌ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما يُلاقيه مِن قومِه بأنَّ تِلكَ سُنَّةُ الرُّسلِ السابِقينَ

.

- وفيه أيضًا نوعُ تَفصيلٍ لِمَا أُجمِلَ، وإشارةٌ إلى كيفيَّةِ إنجاءِ الرُّسلِ وإهلاكِ أعدائِهم؛ ففي سَوقِ أخبارِ هؤلاءِ الرُّسُلِ والأنبياءِ تَفصيلٌ لِمَا بُنِيتْ عليه السُّورة مِن قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ إلى قولِه تعالى: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، ثم قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ، ثم قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء: 45] ، واتِّصالُها بجَميعِ ذلك اتِّصالٌ مُحكَمٌ؛ ولذلك أُعقبتْ بقولِه تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [الأنبياء: 50] .

- وافتتاحُ القِصةِ بلامِ القسَمِ في وَلَقَدْ؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتناءِ بمَضمونِه، ولتَنزيلِ المُشرِكينَ في جَهْلِ بعْضِهم بذلك، وذُهولِ بعْضِهم عنه، وتَناسي بعْضِهم إيَّاهُ؛ مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ تلك القِصَّةَ .

- قولُه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ابْتُدِئَ بذِكْرِ مُوسى وأخيه معَ قَومِهما؛ لأنَّ أخبارَ ذلك مَسطورةٌ في كِتابٍ مَوجودٍ عندَ أهْلِه يَعرِفُهم العرَبُ، ولأنَّ أثَرَ إتْيانِ مُوسى عليه السَّلامُ بالشَّريعةِ هو أوسَعُ أثَرٍ لإقامةِ نِظامِ أُمَّةٍ يَلِي عَظَمةَ شَريعةِ الإسلامِ .

- والإخبارُ عن الفُرقانِ بإسنادِ إيتائِه إلى ضَميرِ الجَلالةِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّه لم يَعْدُ كونَه إيتاءً من اللهِ تعالى ووحْيًا كما أُوتِيَ محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ القُرآنَ؛ فكيف يُنكِرونَ إيتاءَ القُرآنِ وهم يَعْلمون أنَّ مُوسى عليه السَّلامُ ما جاء إلَّا بمثْلِه؟! وفيه تَنبيهٌ على جَلالةِ ذلك المُؤْتى .

- قولُه: لِلْمُتَّقِينَ يجوزُ أنْ تكونَ اللَّامُ فيه للتَّقويةِ؛ فيكونَ المجرورُ باللَّامِ في مَعْنى المفعولِ، أي: الَّذين اتَّصَفوا بتَقْوى اللهِ؛ لأنَّه يُذكِّرُهم بما يَجْهَلون، وبما يَذْهَلون عنه ممَّا عَلِمُوه، ويُجدِّدُ في نُفوسِهم مُراقبةَ ربِّهم، ويجوزُ أنْ تكونَ اللَّامُ للعِلَّةِ، أي: ذِكْرٌ لأجْلِ المُتَّقينَ، أي: كِتابٌ يَنتفِعُ بما فيه المُتَّقونَ دونَ غَيرِهم مِن الضَّالِّينَ . وخَصَّ المتَّقينَ بالذِّكرِ؛ لأنَّهم المُنتَفِعونَ بذلك عِلمًا وعَمَلًا .

2- قوله تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ

- قولُه: وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ احتمَلَ أنْ يكونَ استئنافَ إخبارٍ عنهم، وأنْ يكونَ مَعطوفًا على صِلَةِ الَّذِينَ، وتكونَ الصِّلةُ الأُولى مُشعِرةً بالتَّجدُّدِ دائمًا؛ كأنَّها حالَتُهم فيما يتعلَّقُ بالدُّنيا، والصِّلةُ الثَّانيةُ مِن مُبتدأٍ وخبَرٍ عنه بالاسمِ المُشعِرِ بثُبوتِ الوصْفِ كأنَّها حالَتُهم فيما يتعلَّقُ بالآخرةِ

 

.

- وفي قولِه: وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ قُدِّمَ الجارُّ لمُراعاةِ الفواصلِ. وتَخصيصُ إشفاقِهم منها بالذِّكْرِ بعْدَ وَصْفِهم بالخشيةِ على الإطلاقِ؛ للإيذانِ بكونِها مُعظمَ المَخُوفاتِ، وللتَّنصيصِ على اتِّصافِهم بضِدِّ ما اتَّصفَ به المُستعجِلونَ. وإيثارُ الجُملةِ الاسميَّةِ للدَّلالةِ على ثَباتِ الإشفاقِ ودَوامِه

.

- وأيضًا في قولِه: وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ عَدَلَ عَنِ الخِطابِ بالجُمْلةِ الفِعليَّةِ -كما هو مُقْتضى السِّياقِ- إلى الخِطابِ بالجُملةِ الاسميَّةِ، وإنَّما يُعْدَلُ عن أحَدِ الخِطابينِ وإنْ كان السِّياقُ يَقْتضيه؛ لضَرْبٍ من التَّأكيدِ والمُبالَغةِ، وقد جِيءَ بها هنا تَنويهًا بالخاصِّ بعْدَ العامِّ، فالخشيةُ مِن اللهِ مُلازِمةٌ لهم، ولكنَّها مِن السَّاعةِ أكثَرُ مُلازَمةً، وأشَدُّ امْتِلاكًا لقُلوبِهم، وأسْرًا لجَوارِحِهم، ما يَرِيمونَ عن تَذكُّرِها وتَفادي كلِّ ذنْبٍ؛ خَشيةَ مُواجهتِها بما هم فيه، وأمْرٌ ثانٍ هو الدَّيمومةُ والاستمرارُ اللَّذانِ تُفِيدُهما الجُملةُ الاسميَّةُ أكثَرَ ممَّا تُفِيدُهما الجُملةُ الفِعْليَّةُ الَّتي تتوزَّعُ على الأزمنةِ .

- وفيه تَعريضٌ بالَّذين لم يَهْتَدُوا بكِتابِ اللهِ تعالى، بدَلالةِ مَفهومِ المُخالَفةِ لقولِه تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ؛ فمَن لم يَهْتَدِ بكتابِ اللهِ فليس هو مِن الَّذين يَخْشَون ربَّهم بالغيبِ .

3- قوله تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ

- قولُه: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ اسمُ الإشارةِ يُشِيرُ إلى القُرآنِ؛ لأنَّ حُضورَه في الأذهانِ وفي التِّلاوةِ بمَنزِلَةِ حُضورِ ذاتِه

.

- قولُه: أَنْزَلْنَاهُ زادَهُ تَشريفًا بإسنادِ إنزالِه إلى ضَميرِ الجَلالةِ

. وفيه تَسليةٌ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إذ أنكَرَ ذلك المُشرِكون كما أنكَرَ أسلافُ اليهودِ ما أنزَلَ اللهُ على مُوسى عليه السَّلامُ .

- والاستفهامُ في قولِه: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ استفهامُ إنكارٍ لإنكارِهم بعْدَ ظُهورِ كونِ إنزالِه كإيتاءِ التَّوراةِ؛ كأنَّه قيل: أبَعْدَ أنْ علِمْتُم أنَّ شأْنَه كشأْنِ التَّوراةِ في الإيتاءِ والإيحاءِ أنتم مُنكِرون لكونِه مُنزَّلًا مِن عندنا ؟! ففيه تَوبيخٌ وتعجُّبٌ مِن إنكارِهم صِدْقَ هذا الكتابِ، ومِن استمرارِهم على ذلك الإنكارِ .

- قولُه: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ لكونِ إنْكارِهم صِدْقَه حاصِلًا منهم في حالِ الخِطابِ، جِيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ لِيَتأتَّى جَعْلُ المُسنَدِ اسْمًا دالًّا على الاتِّصافِ في زمَنِ الحالِ، وجَعْلُ الجُملةِ دالَّةً على الثَّباتِ في الوصْفِ؛ وَفاءً بحَقِّ بَلاغةِ النَّظمِ

=============

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (51-61)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات :

 

رُشْدَهُ: أي: هُداه، والرُّشْدُ والرَّشَدُ: خِلافُ الغَيِّ، يُستعمَلُ استعمالَ الهدايةِ، وأصلُ (رشد): يدُلُّ على استقامةِ الطَّريقِ

.

التَّمَاثِيلُ: جمعُ تِمثالٍ، وهي الأصنامُ، وأصلُ (مثل): يدُلُّ على مُناظَرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ .

عَاكِفُونَ: أي: مُقيمونَ، يُقال: عكَف على كذا: إذا أقام عليه، وأصلُ (عكف): يدُلُّ على مُقابلةٍ وحَبسٍ .

فَطَرَهُنَّ : أي: خَلَقهنَّ، وابتدأَهنَّ، وأصلُ الفَطْرِ: فتْحُ الشَّيءِ، وإبرازُه .

لَأَكِيدَنَّ: أي: لأمكُرَنَّ، والكَيدُ: ضَربٌ مِن الاحتيالِ، وقد يكونُ مَذمومًا ومَمدوحًا، وإن كان يُستعمَلُ في المذمومِ أكثَرَ، وأصلُ (مكر): يدُلُّ على مُعالجةٍ لِشَيءٍ بشِدَّةٍ .

جُذَاذًا: أي: فُتاتًا وحُطامًا، والجَذُّ: كَسرُ الشَّيءِ وتَفتيتُه، وأصلُه يدُلُّ على كَسرٍ وقَطعٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: ولقد آتَينا إبراهيمَ هُداه مِن قَبلِ موسى وهارونَ، وكنَّا عالِمينَ أنَّه أهلٌ لذلك الهُدى، إذْ قال لأبيه وقَومِه: ما هذه الأصنامُ التي صَنَعتُموها ونحتُّمُوها بأيديكم، ثمَّ أنتم مُقيمونَ على عِبادتِها؟! قالوا لإبراهيمَ: وجَدْنا آباءَنا عابدينَ لها، ونحن نَعبُدُها اقتداءً بهم. قال لهم إبراهيمُ: لقد كنتُم أنتم وآباؤُكم في عبادتِكم لهذه الأصنامِ في بُعْدٍ واضحٍ بيِّنٍ عن الحَقِّ. قالوا: أجِئتَنا بالحَقِّ والجِدِّ، أم كلامُك لنا كلامُ لاعبٍ مُستَهزئٍ؟ قال لهم إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: بل ربُّكم الذي أدعوكم إلى عبادتِه هو ربُّ السَّمواتِ والأرضِ الذي خلَقَهنَّ وأبدَعَهنَّ، وأنا على ذلك مِن الشَّاهدينَ، وتاللهِ لأمكُرَنَّ بأصنامِكم وأُكَسِّرُها بعد أن تَنصَرِفوا عنها.

فحطَّم إبراهيمُ الأصنامَ وجعَلَها قِطَعًا صغيرةً إلَّا صَنَمًا كَبيرًا لهم لم يُكَسِّرْه؛ لعَلَّ عابِديه يسألونَه عمَّن كَسَّرَ أصنامَهم؛ فيتبَيَّنَ عَجزُه، وتقومَ الحُجَّةُ عليهم. ولَمَّا رأَوا أصنامَهم مُحطَّمةً مُهانةً، قالوا: مَن فعَلَ هذا بآلهَتِنا، إنَّه لظالمٌ بصَنيعِه واجترائِه على آلهتِنا؟! قال الذين سَمِعوا إبراهيمَ يَحلِفُ بأنَّه سيكيدُ أصنامَهم: سَمِعْنا فتًى يقالُ له إبراهيمُ، يَذكُرُ أصنامَنا بالعَيبِ والنَّقصِ والذَّمِّ. قال قَومُ إبراهيمَ بَعضُهم لبعضٍ: فَأْتُوا بإبراهيمَ على مرأًى من النَّاسِ؛ كي يَشهَدوا عُقوبتَنا له.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أُعقِبَت قِصَّةُ موسى وهارونَ بقِصَّةِ إبراهيمَ فيما أُوحيَ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مقاومةِ الشِّركِ ووُضوحِ الحُجَّةِ على بُطلانِه؛ لأنَّ إبراهيمَ كان هو المثَلَ الأوَّلَ قبل مجيءِ الإسلامِ في مُقاوَمةِ الشِّركِ؛ إذ قاوَمَه بالحُجَّةِ وبالقُوَّةِ وبإعلانِ التوحيدِ، فكانت قِصَّةُ إبراهيمَ مع قَومِه شاهِدًا على بُطلانِ الشِّركِ الذي كان مُماثِلًا لحالِ المُشركِينَ بمكَّةَ الذين جاء محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِقَطعِ دابِرِه

.

وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ.

أي: ولقد آتَينا إبراهيمَ هُداه مِن قَبلُ ، ووفَّقْناه للحَقِّ، وأنقَذْناه مِن بينِ قَومِه وأهلِ بَيتِه، مِن عِبادةِ الأوثانِ .

وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ.

أي: وآتَيناه رُشدًا عَظيمًا على عِلمٍ مِنَّا بأنَّه أهلٌ لذلك الرُّشدِ .

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52).

أي: إذ قال إبراهيمُ لأبيه آزَرَ وقَومِه المُشرِكينَ: ما هذه الأصنامُ التي أنتم مُقيمونَ على عِبادتِها، والحالُ أنَّكم مثَّلْتُموها ونحتُّمُوها بأيديكم على صُوَرِ بَعضِ المخلوقاتِ، فكيف تعبُدونَ ما تَنحِتونَ ؟!

كما قال تعالى عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 85 - 87] .

قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53).

أي: قال المُشرِكونَ لإبراهيمَ: وجَدْنا آباءَنا يَعبُدونَ هذه الأوثانَ؛ فنحن نعبُدُها مِثلَهم !

قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54).

أي: قال إبراهيمُ: لقد كنتُم أنتم وآباؤُكم جميعًا في ذهابٍ عن سبيلِ الحَقِّ واضحٍ بيِّنٍ؛ بعِبادتِكم جماداتٍ لا تنفَعُ ولا تضُرُّ !

قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55).

أي: قال قَومُ إبراهيمَ: أجِئْتَنا -يا إبراهيمُ- بالحَقِّ المُطابِقِ للواقِعِ فيما تقولُ، أمْ أنَّ كلامَك كلامُ مازحٍ هازلٍ مُستَهزِئٍ ؟

قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56).

قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ.

أي: قال إبراهيمُ لِقَومِه: بل جِئتُكم بالحَقِّ لا باللَّعِبِ؛ فرَبُّكم رَبُّ السَّمواتِ والأرضِ الذي أوجَدَهنَّ وأبدَعَهنَّ وما فيهنَّ مِن جَميعِ المخلوقاتِ .

وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.

أي: قال إبراهيمُ لِقَومِه: وأنا على ذلك الأمرِ البيِّنِ مِن الشَّاهِدينَ بعِلمٍ وحُجَّةٍ .

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّن إبراهيمُ عليه السَّلامُ أنَّ أصنامَ قَومِه ليس لها من التَّدبيرِ شَيءٌ، أراد أن يُريَهم بالفِعلِ عَجْزَها، وعَدَمَ انتِصارِها، ولِيَكيدَ كيدًا يَحصُلُ به إقرارُهم بذلك .

وأيضًا فإنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ انتقَلَ مِن تغييرِ المُنكَرِ بالقَولِ إلى تغييرِه باليدِ .

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57).

أي: قال إبراهيمُ: وواللهِ لأحتالَنَّ على أصنامِكم فأُلحِقُ بها الضَّرَرَ بعد أن تَنصَرِفوا عنها .

فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58).

أي: فكسَّر إبراهيمُ الأصنامَ، وجعَلَها قِطَعًا مُهَشَّمةً إلَّا صَنَمًا كَبيرًا عِندَهم لم يُكَسِّرْه؛ لعَلَّ عابِديه يسألونَه عمَّن كَسَّرَ أصنامَهم، فيتبيَّنَ لهم عجْزُه !

كما قال تعالى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [الصافات: 90 - 93] .

قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59).

أي: فلمَّا رأى المُشرِكونَ حُطامَ أصنامِهم قالوا: مَن فعَلَ هذا بآلهتِنا؟ إنَّه لَمِنَ الظَّالمينَ بصَنيعِه هذا؛ حيثُ فعَل بها ما لا ينبغي له فِعلُه، ووضَعَ الإهانةَ في غيرِ مَوضِعِها؛ فإنَّ الآلهةَ حَقُّها الإكرامُ، لا الإهانةُ والانتِقامُ !!

قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60).

أي: قالوا : سَمِعْنا شابًّا يذكُرُ أصنامَنا بالعَيبِ والنَّقصِ والذَّمِّ يُسَمَّى إبراهيمَ، ومَنْ هذا شأنُه لا بدَّ أن يكونَ هو الذي كَسَّرَها .

قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61).

أي: قال قَومُ إبراهيمَ بَعضُهم لبَعضٍ: فأحضِروا إبراهيمَ على مرأًى مِن النَّاسِ؛ لعلَّهم يَشهَدونَ عُقوبَتَنا له

 

.

الفوائد التربوية:

 

قَولُ الله تعالى: قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فيه أنَّ الباطِلَ لا يصيرُ حَقًّا بكَثرةِ المُتمَسِّكينَ به

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ فِعْلَه سُبحانَه وتعالى باختيارٍ وحِكمةٍ، وأنَّه عالِمٌ بالجُزئيَّاتِ

.

2- العُكوفُ والمجاورةُ عند شَجَرةٍ أو حَجَرٍ؛ تِمثالٍ أو غيرِ تِمثالٍ، أو العُكوفُ والمجاورةُ عند قبرِ نَبيٍّ أو غيرِ نبيٍّ، أو مَقامِ نبيٍّ أو غيرِ نَبيٍّ- ليس هذا مِن دينِ المُسلِمينَ، بل هو مِن جِنسِ دِينِ المُشرِكينَ الذين أخبَرَ الله عنهم بما ذكَرَه في كتابه؛ حيث قال جلَّ وعلا: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ .

3- قال تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ، مُعاتِبًا لأهلِ الكُفرِ، وذامًّا لهم: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، وقال حكايةً عن أهلِ النَّارِ: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] ، ومِثلُ هذا في القرآنِ كَثيرٌ مِن ذَمِّ تقليدِ الآباءِ والرُّؤساءِ، وقد احتَجَّ العُلَماءُ بهذه الآياتِ في إبطالِ التقليدِ، ولم يمنَعْهم كُفرُ أولئك مِن الاحتجاجِ بها؛ لأنَّ التَّشبيهَ لم يقَعْ مِن جِهةِ كُفرِ أحدِهما، وإيمانِ الآخَرِ، وإنَّما وقع التَّشبيهُ بينَ المقَلِّدينَ بغيرِ حُجَّةٍ للمُقَلِّدِ، كما لو قَلَّد رجلًا فكَفَر، وقلَّدَ آخَرَ فأذنَبَ، وقلَّدَ آخَرَ في مسألةٍ فأخطأ وَجْهَها- كان كُلُّ واحدٍ مَلومًا على التَّقليدِ بغيرِ حُجَّةٍ؛ لأنَّ كُلَّ ذلك تقليدٌ يُشبِهُ بَعضُه بعضًا، وإن اختَلَفت الآثامُ فيه .

4- قال الله تعالى حِكايةً عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فإبراهيمُ عليه السَّلامُ إنَّما قيَّدَ كَيْدَه بما بعدَ انصرافِ المُخاطَبينَ؛ إشارةً إلى أنَّه يُلحِقُ الضُّرَّ بالأصنامِ في أوَّلِ وَقتِ التمَكُّنِ منها، وهذا مِن عَزْمِه عليه السَّلامُ؛ لأنَّ المُبادرةَ في تغييرِ المُنكَرِ مع كَونِه باليَدِ مقامُ عَزمٍ، وهو لا يتمَكَّنُ من ذلك مع حضورِ عَبَدةِ الأصنامِ، فلو حاول كَسْرَها بحَضرَتِهم، لكان عمَلُه باطِلًا، والمقصودُ مِن تَغييرِ المُنكَرِ: إزالتُه بقَدرِ الإمكانِ؛ ولذلك فإزالتُه باليَدِ لا تكونُ إلَّا مع المُكْنةِ .

5- قَولُ الله تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيه سُؤالٌ: فإذا رجَعوا إلى الصَّنَمِ بمُكابَرتِهم لعُقولِهم، ورُسوخِ الإشراكِ في أعراقِهم، فأيُّ فائدةٍ دِينيَّةٍ في رُجوعِهم إليه حتى يجعلَه إبراهيمُ صَلَواتُ اللهِ عليه غَرَضًا؟

الجوابُ: أنَّهم إذا رجَعوا إليه تبَيَّنَ أنَّه عاجِزٌ لا ينفَعُ ولا يَضُرُّ، وظهر أنَّهم في عبادتِه على أمرٍ عظيمٍ .

6- قَولُ الله تعالى: إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ هذا احتِرازٌ عَجيبٌ؛ فإنَّ كلَّ مَمقوتٍ عند الله لا يُطلَقُ عليه ألفاظُ التَّعظيمِ إلَّا على وجهِ إضافتِه لأصحابِه، كما كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كتب إلى ملوكِ الأرضِ المُشرِكينَ يقولُ: ((إلى عظيمِ فارسَ)) ، ((إلى عظيمِ الرومِ)) ونحو ذلك، ولم يقُلْ: (إلى العظيمِ)، فهنا قال تعالى: إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ ولمْ يقُل: (كبيرًا من أصنامِهم)، فهذا ينبغي التنبيهُ له، والاحترازُ من تَعظيمِ ما حَقَّره الله إلَّا إذا أضيفَ إلى مَن عَظَّمه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ

- قولُه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ... فيه تأْكيدُ الخبَرِ عنه بلامِ القسَمِ؛ لتَنزيلِ العرَبِ في مُخالَفتِهم لشَريعةِ أبيهم إبراهيمَ مَنزِلةَ المُنكِرِ لكونِ إبراهيمَ أُوتِيَ رُشْدًا وهَدْيًا

.

- قولُه: رُشْدَهُ فيه تَنبيهٌ على تَفخيمِ ذلك الرُّشدِ الَّذي أُوتِيَهُ؛ فالإضافةُ على معنى اللَّامِ المُفيدةِ للاختصاصِ، فكأنَّه انفرَدَ به بينَ قومِه، وزادهُ تَنويهًا وتَفخيمًا تَذييلُه بالجُملةِ المُعترِضةِ، وهي قولُه تعالى: وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ .

- قولُه: مِنْ قَبْلُ، أي: مِن قبْلِ إيتاءِ مُوسى وهارونَ التَّوراةَ -على قولٍ في التفسيرِ-، وتَقديمُ ذِكْرِ إيتاءِ التَّوراةِ؛ لِمَا بيْنه وبينَ إنْزالِ القُرآنِ مِنَ الشَّبهِ التَّامِّ ، أو للتَّنبيهِ على أنَّه ما وقَعَ الابتداء بإيتاءِ الذِّكْرِ مُوسى وهارونَ إلَّا لأنَّ شَريعتَهما لم تزَلْ مَعروفةً مَدروسةً . وكان مِن حَقِّ الظَّاهرِ تَقدُّمُ نُوحٍ على إبراهيمَ، وتقدُّمُ إبراهيمَ على مُوسى، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم، لكنْ المُناسَبةُ استدعَتْ تقدُّمَ مُوسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّ حالَه أشبَهُ بحالِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن حيثُ إيتاءُ الكتابِ، وكثْرةُ الدَّلائلِ القاهرةِ، ومُقاساةُ الشِّدَّةِ، وثِقَلُ أعْباءِ النُّبوَّةِ والدَّعوةِ، وكثرةُ التَّوابِعِ والأُمَّةِ، وأنَّ حالَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ أقرَبُ إليه مِن حالِ نُوحٍ عليه السَّلام، فقد رُوعِيَ في تأخُّرِهم تلك اللَّطيفةُ .

2- قولُه تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ فيه حُسْنُ تَرتيبٍ؛ حيث بدَأَ أوَّلًا بذِكْرِ أبيه؛ لأنَّه الأهمُّ عندَه في النَّصيحةِ، وإنقاذِهِ مِن الضَّلالِ، ثمَّ عطَفَ عليه قومَهُ .

- الاستفهامُ في قولِه: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ ... يتسلَّطُ على الوصْفِ في قولِه تعالى: الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، فكأنَّه قال: ما عِبادتُكم هذه التَّماثيلَ؟ ولكنَّه صِيغَ بأُسلوبِ تَوجُّهِ الاستفهامِ إلى ذاتِ التَّماثيلِ لإبهامِ السُّؤالِ عن كُنْهِ التَّماثيلِ في بادئِ الكلامِ؛ إيماءً إلى عدَمِ المُلاءَمةِ بينَ حَقيقتِها المُعبَّرِ عنها بالتَّماثيلِ، وبينَ وَصْفِها بالمَعْبوديَّةِ المُعبَّرِ عنه بعُكوفِهم عليها. وهذا من تَجاهُلِ العارفِ، استعمَلَهُ تَمهيدًا لتَخْطئتِهم بعْدَ أنْ يَسمَعَ جوابَهم. والإشارةُ بـ هَذِهِ إلى التَّماثيلِ؛ لزِيادةِ كَشْفِ معناها الدَّالِّ على انحطاطِها عن رُتْبةِ الأُلوهيَّةِ، والتَّعبيرُ عنها بالتَّماثيلِ يَسلُبُ عنها الاستقلالَ الذَّاتِيَّ ، ففي قولِه: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ تحقيرٌ لها، وتصغيرٌ لشأنِها، وتجاهلٌ بها، معَ علمِه بها، وبتعظيمِهم لها .

- قولُه: أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ في خِطابِه لهم بقولِه: أَنْتُمْ استهانةٌ بهم، وتَوقيفٌ على سُوءِ صَنيعِهم .

- وكما نسَبَ التَّماثيلَ إلى الإفراطِ في الحَقارةِ، نسَبَهُم إلى الإفراطِ في العُكوفِ لها؛ حيثُ قال: أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ بالضَّميرِ المرفوعِ، وبِناءِ الخبَرِ عليه المُفيدِ لتَقوِّي الحُكْمِ، وتَخصيصِ العُكوفِ بالذِّكرِ .

- وأيضًا في قولِه: أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ جَعْلُ العُكوفِ مُسْندًا إلى ضَميرِهم مُؤْذِنٌ بأنَّ إبراهيمَ لم يكُنْ مِن قبْلُ مُشارِكًا لهم في ذلك؛ فيُعْلَمُ منه أنَّه في مَقامِ الرَّدِّ عليهم؛ ذلك أنَّ الإتيانَ بالجُملةِ الاسميَّةِ في قولِه تعالى: أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ فيه معنى العِبادةِ؛ فلذلك عُدِّيَ باللَّامِ لإفادةِ مُلازَمةِ عِبادتِها ؛ فعدَلَ عن (على) الَّتي يَتعدَّى فِعْلُ العُكوفِ بها، ولكنَّه لم يَقصِدِ التَّعديةَ، ولو قصَدَ التَّعديةَ لقال: (عليها)، ولكنَّه عدَلَ عنها إلى اللَّامِ؛ لأنَّه قصَدَ مِن العُكوفِ معنى العِبادةِ، فمَقامُ المُبالَغةِ اقْتَضى أنْ يُتْرَكَ عَاكِفُونَ على إطلاقِه، سواءٌ كان المُتعلِّقُ مَفْعولًا بواسطةٍ أو بغيرِ واسطةٍ . فاللامُ للاختصاصِ، لا للتعديةِ .

3- قوله تعالى: قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ

- فيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، وقال في سُورةِ (الشُّعراءِ): قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء: 74] ؛ فاختُصَّتْ سُورةُ الشُّعراءِ بقولِه: بَلْ، ولم يأْتِ في سُورةِ (الأنبياءِ)؛ ووجْهُه: أنَّ آيةَ الأنبياءِ وقَعَ السُّؤالُ فيها على وَجْهٍ لا يَقْتضي (بل) في الجوابِ؛ لأنَّه قال: ما هذه الأصنامُ الَّتي نَحتُّموها تَماثيلَ وعكَفْتُم عليها؟! فكأنَّه سَفَّه آراءَهم، وقال لهم: لِمَ تَفْعلونَ ذلك، وتَعْبُدون ما تَنحِتون؟! فقالوا: وجَدْنا آباءَنا لها عابِدينَ، فاقْتَدينا بهم. وأمَّا في سُورةِ (الشُّعراءِ) فقد تَقدَّمَ سُؤالٌ أضْرَبوا عنه، ونَفَوا ما تَضمَّنَه؛ لأنَّه قال: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء: 72، 73]، فقالوا مُضْرِبينَ عن هذه الأشياءِ الَّتي وُبِّخوا عليها؛ من عِبادتِهم ما لا يَسمَعُ ولا يَنفَعُ ولا يَضُرُّ، وما يَعْلمون أنَّه جَمادٌ لا حياةَ فيه، ولا نَفْعَ ولا ضَررَ عنده، وكأنَّهم قالوا: لا، بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء: 74] ، فلأنَّ السُّؤالَ هنا يَقْتضي في جَوابِهم أنْ يَنْفُوا ما نفاهُ إبراهيمُ عليه السَّلامُ، أضْرَبوا عنه إضرابَ مَن يَنْفي الأوَّلَ، ويُثبِتُ الثَّانِيَ، فاختِصاصُ المكانِ بـ (بل) لهذا . وقيل غير ذلك .

4- قولُه تعالى: قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أبطَلَ عليه السَّلامُ جَوابَهم على طَريقةِ التَّوكيدِ القَسَميِّ لَقَدْ .

- وفي اجْتلابِ فِعْلِ الكونِ كُنْتُمْ وحَرْفِ الظَّرفيَّةِ (في): إيماءٌ إلى تَمكُّنِهم مِن الضَّلالِ، وانغماسِهم فيه؛ لإفادةِ أنَّه ضَلالٌ بَواحٌ لا شُبْهةَ فيه، وأكَّدَ ذلك بوَصْفِه بـ مُبِينٍ، فلمَّا ذَكَروا له آباءَهم شرَّكَهم في التَّخطئةِ بدُونِ هوادةٍ بعطْفِ الآباءِ عليهم في ذلك؛ ليَعْلَموا أنَّهم لا عُذْرَ لهم في اتِّباعِ آبائِهم، ولا عُذْرَ لآبائِهم في سَنِّ ذلك لهم؛ لمُنافَاةِ حَقيقةِ تلك الأصنامِ لحَقيقةِ الأُلوهيَّةِ، واسْتِحقاقِ العِبادةِ .

5- قوله تعالى: قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ

- الاستفهامُ في قولِه: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ  ... استفهامٌ تَعجُّبيٌّ .

- وفي قولِهم: أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أضْرَبوا عن ذلك، وجاؤوا بـ (أَمْ) المُتضمِّنةِ لمَعْنى (بل) الإضرابيَّةِ، والهمزةُ للتَّقريرِ، فأضْرَبوا بـ (بل) عمَّا أثْبَتوا له، وقرَّرُوا بالهمزةِ خِلافَه على سَبيلِ التَّوكيدِ والبَتِّ والقطْعِ؛ وذلك أنَّهم قَطَعوا أنَّه لاعِبٌ وليس بمُحِقٍّ الْبتَّةَ؛ لأنَّ إدخالَهم إيَّاه في زُمرةِ اللَّاعبينَ، أي: أنت غَريقٌ في اللَّعِبِ، داخِلٌ في زُمرةِ الَّذين قُصارى أمْرِهم في إثباتِ الدَّعاوى اللَّعِبُ واللَّهوُ، على سَبيلِ الكِنايةِ الإيمائيَّةِ .

- وجاءت جُملةُ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ اسميَّةً؛ لكونِها أثبَتَ، كأنَّهم حَكَموا عليه بأنَّه لاعِبٌ هازِلٌ في مَقالتِه لهم، ولكونِها فاصِلةً ؛ فخُولِفَ بينَ الجُملتينِ في الآيةِ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؛ لمُلاحَظةِ تَجدُّدٍ في إحداهما، فبرَزَتْ في صُورةِ الفِعْليَّةِ، وثَباتٍ في الأُخرى، فبرَزَتْ في صُورةِ الاسميَّةِ، والمعنى: أحْدَثْتَ عندنا الإتيانَ بالحقِّ -وهو التَّوحيدُ- فيما نَسْمَعُه منك، أمْ أنت على ما كنْتَ عليه مِن اللَّعبِ منذُ أيَّامِ الصِّبا؟! وأرادوا بالتَّجدُّدِ في الجُملةِ الأُولى: أنَّ التَّوحيدَ أمْرٌ مُحْدَثٌ مُخترَعٌ، وبالثَّباتِ في الثَّانيةِ: أنَّه على عادتِهم المُستمِرَّةِ مِن اللَّعبِ؛ تَحقيرًا له .

- وفي قولِهم: مِنَ اللَّاعِبِينَ عُدِلَ عن الإخبارِ عنه بوَصْفِ (لاعِبٍ)، إلى الإخبارِ بأنَّه من زُمرةِ اللَّاعبينَ؛ مُبالَغةً في توغُّلِ كلامِه ذلك في بابِ المزحِ، بحيث يكونُ قائِلُه مُتمكِّنًا في اللَّعبِ، ومَعْدودًا من الفريقِ الموصوفِ باللَّعبِ .

6- قوله تعالى: قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ

- قولُه: قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ إضْرابٌ عمَّا بَنَوا عليه مَقالَهم مِن اعتقادِ كونِها أرْبابًا لهم؛ كأنَّه قِيلَ: ليس الأمْرُ كذلك، بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ. وقيل: إضْرابٌ عن كونِه لاعِبًا بإقامةِ البُرهانِ على ما ادَّعاهُ . وقيل: هذا الجوابُ وارِدٌ على الأُسلوبِ الحكيمِ ، وكان مِن الظَّاهرِ أنْ يُجيبَهم بقولِه: (بلْ أنا مِن المُحقِّينَ ولسْتُ منَ اللَّاعبينَ)؛ فجاء بقولِه: بَل رَبُّكُمْ ... الآيةَ؛ لِيُنَبِّهَ به على أنَّ إبطالي لِمَا أنتم عاكِفونَ عليه، وتَضْليلي إيَّاكم ممَّا لا حاجةَ فيه -لوُضوحِه- إلى الدَّليلِ، ولكنِ انْظُروا إلى هذه العظيمةِ، وهي أنَّكم تَتْرُكونَ عِبادةَ خالِقِكم، ومالِكِ أمْرِكم، ورازِقِكم، ومالِكِ العالَمينَ، والَّذي فطَرَ ما أنتم لها عاكِفونَ، وتَشْتغِلون بعِبادتِها دونَه، فأيُّ باطلٍ أظهَرُ مِن ذلك؟ وأيُّ ضَلالٍ أبيَنُ مِن هذا؟ ثمَّ ذيَّلَ الجوابَ بما هو مُقابِلٌ لقولِهم، وهو قولُه: وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ مِن حيثُ الأسلوبُ، وهي الكِنايةُ، ومِن حيثُ التَّركيبُ، وهو بِناءُ الخبرِ على الضَّميرِ، أي: لسْتُ مِن اللَّاعبينَ في الدَّعاوى، بلْ أنا مِن القائمينَ فيها بالبَراهينِ القاطعةِ، والحُجَجِ السَّاطعةِ، كالشَّاهدِ الَّذي تُقْطَعُ به الدَّعاوى .

- وضَميرُ (هنَّ) للسَّمواتِ والأرضِ، وصَفَه تعالى بإيجادِهنَّ إثْرَ وَصْفِه تعالى برُبوبيَّتِه تعالى لهُنَّ؛ تَحقيقًا للحقِّ، وتَنبيهًا على أنَّ ما لا يكونُ كذلك بمَعزِلٍ مِن الرُّبوبيَّةِ. ورُجوعُ الضَّميرِ إلى التَّماثيلِ أدْخَلُ في تَضليلِهم، وأظْهَرُ في إلْزامِ الحُجَّةِ عليهم؛ لِمَا فيه مِن التَّصريحِ المُغْني عنِ التَّأمُّلِ في كونِ ما يَعبُدونه مِن جُملةِ المخلوقاتِ .

7- قوله تعالى: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ

- بادَرَهُم أوَّلًا بالقولِ المُنبِّهِ على دَلالةِ العقْلِ، فلم يَنتفِعوا بالقولِ، فانتقَلَ إلى القولِ الدَّالِّ على الفِعْلِ الَّذي مآلُه إلى الدَّلالةِ التَّامَّةِ على عدَمِ الفائدةِ في عبارةِ ما يَتسلَّطُ عليه بالكسْرِ والتَّقطيعِ، وهو لا يَدفَعُ، ولا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ، ولا يَشعُرُ بما ورَدَ عليه من فَكِّ أجزائِه، فقال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ .

- قولُه: وَتَاللَّهِ القسَمُ بالتَّاءِ فيه زِيادةُ معنًى عن القسَمِ بالواوِ، وهو التَّعجُّبُ؛ فالتَّاءُ تَختصُّ بقسَمٍ على أمْرٍ مُتعجَّبٍ منه، وتَختَصُّ باسْمِ الجَلالةِ؛ كأنَّه تَعجَّبَ مِن تَسهُّلِ الكيدِ على يَدِهِ وتأَتِّيه؛ لأنَّ ذلك كان أمْرًا مَقنوطًا منه؛ لصُعوبتِه وتَعذُّرِه .

8- قولُه تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ في الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فتَولَّوا إلى عِيدِهم، فأتَى إبراهيمُ الأصنامَ، فجعَلَهم جُذاذًا .

- وأتَى بضَميرِ مَن يَعقِلُ في قولِه: فَجَعَلَهُمْ؛ إذ كانت تُعْبَدُ . وكذلك أُجْرِيَ على الأصنامِ ضَميرُ جمْعِ العُقلاءِ؛ مُحاكاةً لمَعنى كلامِ إبراهيمَ؛ لأنَّ قَومَه يَحْسَبون الأصنامَ عُقلاءَ .

- قولُه: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيه استهزاءٌ بهم، واستجهالٌ لهم .

9- قوله تعالى: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ

- قولُه: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ فيه إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فلمَّا رَجَعوا مِن عِيدِهم إلى آلهتِهم، ورَأَوا ما فُعِلَ بها، اسْتَفْهموا على سَبيلِ البحثِ والإنكارِ، فقالوا: مَن فعَلَ هذا ؟!

- قولُهم: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا استفهامٌ على طَريقةِ الإنكارِ والتَّوبيخِ والتَّشنيعِ، وإنَّما عَبَّروا عنها بما ذُكِرَ، ولم يُشِيروا إليها بـ(هؤلاء) وهي بينَ أيدِيهم؛ مُبالَغةً في التَّشنيعِ .

- قولُه: إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ استئنافٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه .

- وفيه مُبالَغاتٌ؛ حيث دَلَّ إيقاعُ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا صِلَةً للموصولِ على تَحقيقِ الخبَرِ، أي: هذا الفِعْلُ الشَّنيعُ الفظيعُ لا يَفْعَلُه إلَّا ظالمٌ، ودَلَّ (إنَّ) واللَّامُ في الخبَرِ على مَزيدِ التَّأكيدِ، ودَلَّ اللَّامُ الاستغراقيُّ في الظَّالِمِينَ على أنَّه عريقٌ فيه، وهذه المُبالَغاتُ إنَّما ذَهَبوا إليها لاعتقادِهم أنَّها آلِهةٌ حَقيقةً يجِبُ تَوقيرُهم وإعظامُهم .

10- قوله تعالى: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ

- قولُه: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ فيه حَذْفُ مُتعلِّقِ (يَذكُرُ)؛ لدَلالةِ القرينةِ عليه، أي: يذكُرُهم بتَوعُّدٍ .

- وفي قولِهم: يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ دَلالةٌ على أنَّ المُنتصبينَ للبحْثِ في القضيةِ لم يَكونوا يَعرِفونَ إبراهيمَ، أو أنَّ الشُّهداءَ أرادوا تَحقيرَه بأنَّه مَجهولٌ لا يُعْرَفُ، وإنَّما يُدْعى أو يُسمَّى إبراهيمَ .

11- قوله تعالى: قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ

- قولُه: عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ فيه الإتيانُ بحَرفِ الاستعلاءِ (على)؛ لتَمكُّنِ البصَرِ فيه، حتَّى كأنَّ المَرْئِيَّ مَظروفٌ في الأعيُنِ

=============

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (62-70)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ

غريب الكلمات:

 

نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ: أي: رجَعوا عن الاعترافِ بالحقِّ إلى الباطلِ، وعادوا إلى جهلِهم وعِنادِهم، يُقال: نُكِس المريضُ: إِذا خرَج عن مَرضِه، ثمَّ عاد إِلى مثلِه، وأصلُ (نكس): يدُلُّ على قَلْبِ الشَّيءِ

.

أُفٍّ: هو اسمُ فِعلٍ يُنبئُ عن التضَجُّرِ والاستِثقالِ، أو: صوتٌ يُنبئُ عن ذلك، والأُفُّ: الرَّديءُ مِن الكلامِ، وكلُّ ما غَلُظ منه وقَبُح، وأصلُ (أفف): يَدلُّ على تَكَرُّهِ الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: جيءَ بإبراهيمَ عليه السَّلامُ، وسألَه قومُه مُنكِرينَ عليه: أأنت الذي كسَّرْتَ آلهتَنا يا إبراهيمُ؟ فقال: بل الذي كسَّرها هذا الصَّنَمُ الكبيرُ، فاسألوا آلهَتَكم عن ذلك إن كانت تتكَلَّمُ! فرَجَعوا إلى أنفُسِهم، فقال بعضُهم لِبَعضٍ: إنَّكم أنتم الظَّالِمونَ. ثمَّ عادوا إلى جهلِهم وعِنادِهم فانقَلَبوا إلى الباطِلِ والانتصارِ لأصنامِهم، فقالوا: كيف نسألُها، وقد عَلِمْتَ أنَّها لا تَنطِقُ؟

قال إبراهيمُ مُوَبِّخًا لِقَومِه محقِّرًا لشأنِ الأصنامِ: كيف تَعبُدونَ أصنامًا لا تنفَعُ عابِديها ولا تَضُرُّهم؟! قُبحًا لكم ولآلهَتِكم التي تَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ تعالى، أفلا تَعقِلونَ فتُدرِكونَ سُوءَ ما أنتم عليه؟ فقالوا: حَرِّقوا إبراهيمَ بالنَّارِ؛ غضَبًا لآلهتِكم إن كنتُم ناصرينَ لها. فأشْعَلوا نارًا عظيمةً وألقَوه فيها، فقال الله تعالى للنَّارِ: كوني بَردًا وسَلامًا على إبراهيمَ. فلم يَنَلْه فيها أذًى، ولم يُصِبْه مكروهٌ. وأراد القَومُ بإبراهيمَ كيدًا فأبطل اللهُ كَيدَهم، وجعَلَهم المغلوبينَ الأسفَلينَ.

تفسير الآيات:

 

قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62).

أي: فلمَّا أُحضِرَ إبراهيمُ قال له قَومُه: أأنت الذي حطَّمتَ أصنامَنا التي نَعبُدُها يا إبراهيمُ

؟

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63).

أي: قال إبراهيمُ لِقَومِه : بل الذي فعَل ذلك هذا الصَّنمُ الكبيرُ، فاسألوا الأصنامَ المكَسَّرةَ والصَّنمَ الكبيرَ الذي لم يُكَسَّرْ؛ لِيُخبِروكم بمن حطَّمَها إن كانوا يَستطيعونَ الكلامَ !

عن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لم يَكذِبْ إبراهيمُ النبيُّ عليه السَّلامُ قَطُّ إلَّا ثَلاثَ كَذِباتٍ : ثِنتينِ في ذاتِ اللهِ؛ قَولُه: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] ، وقولُه: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء: 63] ، وواحِدةً في شأنِ سارةَ...)) الحديثَ .

فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64).

أي: فرَجَعوا إلى أنفسِهم ، فقال بعضُهم لِبَعضٍ: إنَّكم أنتم الظَّالِمونَ .

ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65).

أي: ثم عادُوا إِلَى جهلِهم وعِنادِهم، ورَجَعوا عن الاعترافِ بالحقِّ إلى الباطلِ، وإلى المكابرةِ والانتصارِ للأصنامِ، فقالوا: أنت تعلمُ أَنَّ هؤلاءِ الأصنامَ لا تنطِقُ، فكيف تأمرُنا بسؤالِهم، ما تريدُ إِلَّا التَّنَصُّلَ مِن جَريمَتِك !

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ظَهَرت الحُجَّةُ عليهم، أخَذَ يُقَرِّعُهم ويوَبِّخُهم بعبادةِ ما لا ينفَعُ ولا يَضُرُّ، ثمَّ أبدى لهم التضَجُّرَ منهم ومِن مَعبوداتِهم .

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66).

أي: قال إبراهيمُ مُوَبِّخًا لِقَومِه ومُنكِرًا عليهم: أفتَعبُدونَ أصنامًا لا تنفَعُكم شيئًا فتَرجونَها، ولا تَضُرُّكم شيئًا فتَخشَونَها؟ وقد عَلِمتُم أنَّها لم تمنَعْ نَفسَها مِمَّن أرادها بسوءٍ، ولا تقدِرُ أن تنطِقَ إن سُئِلَت عمَّن يأتيها بسوءٍ فتُخبِرَ به، فلمَ تَعبُدونَ ما كان هكذا ؟!

أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67).

أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.

أي: قال إبراهيمُ لِقَومِه: قُبْحًا لكم ولأصنامِكم، وما أخسَّكم أنتم وما تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ !

أَفَلَا تَعْقِلُونَ.

أي: أفليست لكم عُقولٌ تُدرِكونَ بها قُبحَ ما تفعَلونَ مِن عبادتِكم أصنامًا لا تنفَعُ ولا تضُرُّ، ولا تستَحِقُّ العبادةَ؛ فتَتركوا عبادتَها، وتَعبُدوا اللهَ الذي بِيَدِه النَّفعُ والضُّرُّ ؟!

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا نَبَّه إبراهيمُ عليه السَّلامُ قَومَه على قَبيحِ مُرتَكَبِهم، وغَلَبَهم بإقامةِ الحُجَّةِ عليهم، لَاذُوا بالإيذاءِ له، والغَضَبِ لآلهتِهم، واختاروا أشَدَّ العذابِ، وهو الإحراقُ بالنَّارِ .

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68).

أي: قال المُشرِكونَ: حَرِّقوا إبراهيمَ بالنَّارِ؛ انتِقامًا لأصنامِكم المحطَّمةِ إنْ كنتُم لها ناصرينَ .

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69).

أي: فأوقَدوا له نارًا لِيَحرِقوه، فلمَّا ألقَوا إبراهيمَ فيها قُلْنا لها: يا نارُ، كوني بردًا وسلامًا على إبراهيمَ. فأنجاه اللهُ منها، لم يَنَلْه فيها أذًى، ولا أحسَّ بمكروهٍ .

كما قال تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 24] .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قالها إبراهيمُ عليه السَّلامُ حينَ أُلقِي في النَّارِ، وقالها مُحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم حينَ قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173] )) .

وعن أُمِّ شَريكٍ رَضِي اللَّهُ عنها: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَر بقتلِ الوَزَغِ ، وقال: كان يَنفُخُ على إبراهيمَ عليه السَّلامُ)) .

وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70).

أي: وأراد المُشرِكونَ أن يَكيدوا بإبراهيمَ فخاب سَعيُهم، ولم يحصُلْ لهم مُرادُهم، وجعَلَهم اللهُ هم المغلوبينَ الهالكينَ

 

.

كما قال تعالى: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ [الصافات: 97، 98].

الفوائد التربوية :

 

إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أُلقيَ في النَّارِ، والنَّارُ حارَّةٌ مُهلِكةٌ، فقال اللهُ لها: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فكانت بَردًا وسلامًا عليه، فلم يَهلِكْ بها، ولم تَضُرَّه، فكانت بردًا وسلامًا على إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبهذا نَعرِفُ أنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أن يعتَمِدَ على الأسبابِ الحِسِّيَّةِ الظَّاهِرةِ، بل يعتَمِدُ على اللهِ عزَّ وجَلَّ، ويفعَلُ الأسبابَ التي أذِنَ اللهُ تعالى فيها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه تعالى إخبارًا عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ حُجَّةٌ على الجَهميَّةِ والمُعتَزِلةِ الذين يَنفُونَ الكلامَ عن اللهِ جَلَّ وعلا، فيَصِفونَه بما وصَفَ به المُشرِكونَ آلهَتَهم، فقد قالوا لإبراهيمَ -كما حكَى الله تعالى عنهم: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ. أفيَجوزُ أن يكونَ إلهُ إبراهيمَ وآلهَتُهم بصِفةٍ واحدةٍ؛ لا يَنطِقُ ذاك ولا هؤلاء؟! أليس كان عجْزُ آلهتِهم عن الكلامِ نَقصًا فيها، وأحَدَ علاماتِ تحَقُّقِ بطلانِ الإلهيَّةِ عنها؟! فأُرَى هؤلاءِ المبتدعةَ لا يَرَونَ إلَّا أن يَصِفوه بصِفةِ المَواتِ، وهذا هو التَّعطيلُ بعَينِه، نعوذُ باللهِ منه

!!

2- قَولُ الله تعالى: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا أصلٌ في استِعمالِ المعاريضِ ، واحتجَّ العلماءُ بمِثلِه على جوازِ التَّعريضِ للمَظلومِ، وهو أنْ يعنيَ بكلامِه ما يحتَمِلُه اللَّفظُ، وإنْ لم يفهَمْه المُخاطَبُ .

3- قال الله تعالى: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا في تَجويزِ أنْ يكونَ كَبيرُهم هذا الَّذي حطَّمَهم إخطارُ دليلِ انتفاءِ تعدُّدِ الآلهةِ؛ لأنَّه أوْهَمَهم أنَّ كَبيرَهم غَضِبَ مِن مُشارَكةِ تلك الأصنامِ له في المَعْبوديَّةِ، وذلك تدرُّجٌ إلى دليلِ الوَحدانيَّةِ، فإبراهيمُ في إنكارِه أنْ يكونَ هو الفاعِلَ أراد إلْزامَهم الحُجَّةَ على انتفاءِ أُلوهيَّةِ الصَّنمِ العظيمِ، وانتفاءِ أُلوهيَّةِ الأصنامِ المُحطَّمةِ بطَريقِ الأولَى، على نِيَّةِ أنْ يَكُرَّ على ذلك كلِّه بالإبطالِ، ويُوقِنَهم بأنَّه الَّذي حطَّمَ الأصنامَ، وأنَّها لو كانت آلِهةً لَدفعَتْ عن أنفُسِها، ولو كان كَبيرُهم كَبيرَ الآلهةِ لَدفَعَ عنها .

4- قَولُ الله تعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ لَمَّا غَلَب إبراهيمُ عليه السَّلامُ قَومَه بالحُجَّةِ القاهرةِ، لم يجِدوا مَخْلَصًا إلَّا بإهلاكِه، وكذلك المُبطِلُ إذا قَرَعَت باطِلَه حُجَّةُ فَسادِه، غَضِبَ على المحِقِّ، ولم يَبقَ له مَفزَعٌ إلَّا مُناصَبتُه والتشفِّي منه، كما فعل المُشرِكونَ من قريشٍ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين عَجَزوا عن المعارَضةِ ، وقد جرتِ العادةُ بأنَّ المبطلَ إذا أُفْحِم بالدليلِ لجأ إلى ما عندَه مِن القوةِ؛ ليستعملَها ضدَّ الحقِّ .

5- قَولُ الله تعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ اختار قَومُ إبراهيمَ أن يكونَ إهلاكُه عليه السَّلامُ بالإحراقِ؛ لأنَّ النَّارَ أهوَلُ ما يُعاقَبُ به وأفظَعُه ، وهي سَبَبٌ للإعدامِ المحضِ، والإتلافِ بالكُلِّيَّةِ .

6- قَولُ الله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ أمْرُ النَّارِ بأمْرِه الكَونيِّ القَدَريِّ أن تكونَ بَردًا وسَلامًا على إبراهيمَ يدُلُّ على أنَّه أنجاه مِن تلك النَّارِ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: كُونِي بَرْدًا يدُلُّ على سلامتِه مِن حَرِّها، وقَولَه: وَسَلَامًا يدُلُّ على سَلامتِه مِن شَرِّ بَردِها الذي انقلَبَت الحرارةُ إليه، وجاء مُصَرَّحًا به في قولِه تعالَى: فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ [العنكبوت: 24] .

7- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، لما كان المرادُ اختصاصَ إبراهيمَ عليه السلامُ بهذا، قيَّده به . وعن أبي العاليةِ: (ولو لم يقُلْ: عَلَى إِبْرَاهِيمَ لكان بردُها باقيًا إلى الأبدِ)

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ

- قولُه: قَالُوا استئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ مِن حِكايةِ قولِهم؛ كأنَّه قيلَ: فمَاذا فَعلُوا به عليهِ السَّلامُ بعدَ ذلكَ، هل أتَوا بهِ أو لا؟ فقيلَ: أتَوا به، ثمَّ قالوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، اقتصارًا على حِكايةِ مُخاطبَتِهم إيَّاهُ عليه السَّلامُ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ إتيانَهم به، ومُسارعتَهم إلى ذلك أمْرٌ مُحقَّقٌ، غَنِيٌّ عن البَيانِ

.

- والاستفهامُ في قولِهم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ استفهامُ تقريرٍ، أي: فما الذي جرَّأك، وما الذي أوجَبَ لك الإقدامَ على هذا الأمرِ ؟

- وقيل: في الآية فَنٌّ طريفٌ يُسمَّى تَجاهُلَ العارِفِ، فهي مِن التَّجاهُلِ المُوجَبِ الجاري مَجرَى التَّقريرِ .

2- قولُه: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ هذا من مَعاريضِ الكلامِ الحَسنةِ، والقولُ فيه أنَّ قَصْدَ إبراهيمَ صَلواتُ اللهِ عليه لم يكُنْ إلى أنْ يَنسِبَ الفِعْلَ الصَّادِرَ عنه إلى الصَّنمِ، وإنَّما قصَدَ تَقريرَهُ لنفْسِه، وإثْباتَه لها على أُسلوبٍ تَعريضيٍّ، يَبلُغُ فيه غرَضَه مِن إلْزامِهم الحُجَّةَ وتَبكيتِهم؛ استهزاءً بهم، وإثباتًا للقادِرِ. أو أنَّ الأصنامَ غاظَتْه حين أبصَرَها مُصْطفَّةً مُرتَّبةً، وكان غَيظُ كَبيرِها أكبَرَ وأشدَّ؛ لِمَا رأى مِن زِيادةِ تَعظيمِهم له، فأسنَدَ الفِعْلَ إليه؛ لأنَّه هو الَّذي تَسبَّبَ لاستهانتِه بها، وحَطمِه لها، والفِعْلُ كما يُسنَدُ إلى مُباشِرِه يُسنَدُ إلى الحامِلِ عليه. ويجوزُ أنْ يكونَ حِكايةً لِمَا يَقودُ إلى تَجويزِه مَذْهبَهم، كأنَّه قال لهم: ما تُنكِرون أنْ يفعَلَهُ كبيرُهم؛ فإنَّ مِن حَقِّ مَن يُعبَدُ ويُدْعى إلهًا أنْ يَقدِرَ على هذا وأشدَّ منه .

- وقيل: (بل) في بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ تَقْتضي نَفْيَ ما دَلَّ على كَلامِهم مِن استفهامِه، وقولُه: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا الخبرُ مُسْتعمَلٌ في معنى التَّشكيكِ، أي: لعلَّه فعَلَه كَبيرُهم؛ إذ لم يَقصِدْ إبراهيمُ نِسْبةَ التَّحطيمِ إلى الصَّنمِ الأكبرِ؛ لأنَّه لم يَدَّعِ أنَّه شاهَدَ ذلك، ولكنَّه جاء بكلامٍ يُفِيدُ ظَنَّه بذلك، حيث لم يَبْقَ صَحيحًا مِن الأصنامِ إلَّا الكبيرُ .

- قولُه: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ تَعريضٌ؛ أراد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يُبيِّنَ لهم أنَّ مَن لا يَتكلَّمُ ولا يَعلَمُ ليس بمُستحِقٍّ للعِبادةِ، ولا يَصِحُّ في العَقْلِ أنْ يُطلَقَ عليه أنَّه إلَهٌ، فأخرَجَ الكلامَ مُخرَجَ التَّعريضِ لهم بما يُوقِعُهم في الاعترافِ بأنَّ الجَماداتِ الَّتي عبَدُوها ليست بآلهةٍ؛ لأنَّهم إذا قالوا: لا يَنطِقون، قال لهم: فكيف تَعبُدون مَن يَعجِزُ عن النُّطقِ، ويَقصُرُ عن أنْ يَعلَمَ بما يقَعُ عنده في المكانِ الَّذي هو فيه؟! فهذا الكلامُ مِن فَرْضِ الباطلِ مع الخَصمِ حتَّى تَلْزمَه الحُجَّةُ، ويَعترِفَ بالحقِّ؛ فإنَّ ذلك أقطَعُ لشُبهتِه، وأدفَعُ لمكابرتِه .

- ولم يقُلْ عليه السَّلامُ: (إنْ كانوا يَسْمعون)، أو (يَعقِلون)، مع أنَّ السُّؤالَ مَوقوفٌ على السَّمعِ والعقْلِ أيضًا؛ لأنَّ نَتيجةَ السُّؤالِ هو الجوابُ، وعدَمَ نُطْقِهم أظهَرُ، وتَبكيتَهم بذلك أدخَلُ .

3- قوله تعالى: فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ

- جُملةُ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ مُفيدةٌ للحصرِ، أي: أنتم ظالِمونَ لا إبراهيمُ .

4- قولُه تعالى: ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ تَمثيلٌ لِتَغيُّرِ رأْيِهم عن الصَّوابِ، كما قالوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ إلى مُعاودَةِ الضَّلالِ بهَيئةِ مَن تغيَّرَت أحوالُهم من الانتصابِ على الأرجُلِ إلى الانتصابِ على الرُّؤوسِ مَنكوسينَ؛ فهو مِن تَمثيلِ المعقولِ بالمحسوسِ، والمقصودُ به التَّشنيعُ، وحَرْفُ (على) للاستعلاءِ، أي: عَلَتْ أجسادُهم فوقَ رُؤوسِهم. ويحتمِلُ أنْ يكونَ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ كِنايةً عن تَطَأْطُؤِ رُؤوسِهم وتَنكيسِها إلى الأرضِ على سَبيلِ الخجَلِ والانكسارِ .

- قولُه: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ جَوابُ قسَمٍ مَحذوفٍ، معمولٌ لقولٍ مَحذوفٍ في مَوضعِ الحالِ، أي: قائلينَ: لقد علِمْتَ ما هؤلاء يَنطِقون .

- جُملةُ: مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ تُفِيدُ تَقوِّي الاتِّصافِ بانعدامِ النُّطقِ، وذلك بسبَبِ انعدامِ آلَتِهِ، وهي الألْسُنُ .

5- قولُه تعالى: قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ فيه تَبكيتٌ لهم . والهمزةُ في قولِه: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ للاستفهامِ الإنكاريِّ .

6- قوله تعالى: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

- التَّنوينُ في أُفٍّ يُسمَّى تَنوينَ التَّنكيرِ، والمُرادُ به التَّعظيمُ .

- وقولُه: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فيه إظهارُ الاسمِ الجليلِ في مَوضِعِ الإضمارِ؛ لمَزيدِ استقباحِ ما فَعَلوا .

- وقولُه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ استفهامُ تَوبيخٍ وإنكارٍ .

7- قوله تعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ

- قولُه: حَرِّقُوهُ التَّحريقُ مُبالَغةٌ في الحَرْقِ، أي: حَرْقًا مُتلِفًا. وأسنَدَ قولَ الأمْرِ بإحراقِه إلى جَميعِهم؛ لأنَّهم قَبِلوا هذا القولَ .

- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ فيه: تَحريضٌ وتَلهيبٌ لِحَميَّتِهم .

8- قوله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ

- جاءت جُملةُ: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ مَفصولةً عمَّا قبْلَها؛ إمَّا لأنَّها وقعَتْ كالجوابِ عن قولِهم: حَرِّقُوهُ، فأشبَهَتْ جُمَلَ المُحاوَرةِ، وإمَّا لأنَّها استئنافٌ عن سُؤالٍ يَنشَأُ عن قِصَّةِ التَّآمُرِ على الإحراقِ، وبذلك يَتعيَّنُ تَقديرُ جُملةٍ أُخرى، أي: فألْقَوه في النَّارِ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ .

- قولُه: بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ذِكْرُ (سَلَامًا) بعْدَ ذِكْرِ البرْدِ كالاحتراسِ؛ لأنَّ البرْدَ مُؤْذٍ بدوامِهِ ربَّما إذا اشتَدَّ، فعَقَّبَ ذِكْرَه بذِكْرِ السَّلامِ لذلك. وإنَّما ذكَرَ بَرْدًا، ثمَّ أتبَعَ بـ (سَلَامًا) ولم يَقتصِرْ على بَرْدًا؛ لإظهارِ عَجيبِ صُنْعِ القُدرةِ؛ إذ صيَّرَ النَّارَ بَرْدًا .

- وقولُه: عَلَى إِبْرَاهِيمَ فيه وضْعُ المُظهَرِ مَوضِعَ المُضمَرِ، حيث لم يقُلْ: (عليه)؛ كَرامةً لهذا المُسمَّى .

9- قوله تعالى: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ

- قولُه: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا ... تَذييلٌ لِمَا سبَقَهُ .

- وتَعريفُ جُزأيِ الجُملةِ في قولِه: فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ يُفِيدُ القصْرَ، وهو قَصْرٌ للمُبالَغةِ؛ كأنَّ خَسارتَهم لا تُدانِيها خَسارةٌ، وكأنَّهم انفَرَدوا بوَصْفِ الأخسرينَ؛ فلا يصدُقُ هذا الوصْفُ على غَيرِهم .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ، وقال في سُورةِ (الصَّافاتِ): فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ [الصافات: 98] ، فجاء في مَوضِعٍ: الْأَخْسَرِينَ، وفي مَوضِعٍ: الْأَسْفَلِينَ؛ ووجْهُه: أنَّ في سُورةِ (الأنبياءِ) أخبَرَ فيها اللهُ تعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ أنَّه قال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ [الأنبياء: 57] ، ثمَّ أخبَرَ عنِ الكُفَّارِ لَمَّا ألْقَوهُ في النَّارِ وأرادوا به كَيدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ، والكيدُ: سَعْيٌ في مَضرَّةٍ لِتُوردَ على غَفلةٍ، فذكَرَ مُكايدةً بينهم وبينَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فكادَهُم ولم يَكِيدُوه، فخسِرَتْ تجارَتُهم، وعادت عليهم مُكايدَتُهم؛ لأنَّه كسَرَ أصنامَهم، ولم يَبْلُغوا مِن إحْراقِه مُرادَهم، فذَكَر الْأَخْسَرِينَ؛ لأنَّهم خَسِروا فيما عامَلَهم به وعامَلوهُ مِن المُكايَدةِ الَّتي أُضِيفَت إليهما. وأمَّا الآيةُ الَّتي في سُورةِ (الصَّافاتِ): فإنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ عن الكُفَّارِ فيها بما اقْتَضى مِن الْأَسْفَلِينَ؛ وهو أنَّه قال: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: 97] ، فبَنَوا له بِناءً عاليًا، ورَفَعوهُ فوقَه ليَرْمُوا به مِن هناك إلى النَّارِ الَّتي أجَّجُوها، فلمَّا عَلَّوا ذلك البِناءَ وحَطُّوه منه إلى أسفَلَ، عادوا هم الأسفلينَ؛ لأنَّهم أُهْلِكوا في الدُّنيا، وسَفُلَ أمْرُهم في الأُخرى، واللهُ تعالى نجَّى نَبِيَّه عليه السَّلامُ، وأعلاهُ عليهم؛ فلذلك اخْتُصَّتْ هذه الآيةُ بقولِه: فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ [الصافات: 98] .

وفيه وجْهٌ آخَرُ: أنَّ اللهَ تعالَى قد جعَلَ في الخُسرانِ المُبينِ مَن خَسِرَ الدُّنيا والآخرةَ، وأعْلَمَنا تعالى أنَّ الأخسرينَ لا يُقامُ لهم وَزْنٌ في القيامةِ؛ فلا أَدْوَنَ حالًا مِن هؤلاء. ولمَّا أراد قومُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ به الكيدَ، ألْحَقَهم تعالى بهؤلاءِ عُقوبةً تُوافِقُ مُرتكَبَهم وسُوءَ انتحالِهم، والأخسرونَ هم الأسفلونَ، وهذا كان مَطلَبَ الكافرِ في الآخرةِ وتَمنِّيه لو بلَغَهُ إلْحاقَ مَن أضَلَّهُ مِن الجنِّ والإنسِ بهذا النَّمطِ؛ فالصِّفتانِ مِن الخُسرانِ والسَّفالةِ غايةُ حالةِ الكافرِ، ومَن كان مِن الأسفلينَ فقد خسِرَ خُسرانًا مُبِينًا، فلا تضادَّ بين الصِّفتينِ سِوى أنَّ السُّفولَ لَاحِقٌ في ذاتِ المُسفلِ، والخُسرانَ حقيقةٌ في خارِجٍ عنه، فالسُّفولُ أبلَغُ، فَقُدَّمَ ما هو لاحِقٌ خارجيٌّ، وأُخِّرَ ما لا يَتعدَّى ذاتَ المُتَّصفِ تَكمِلةً وتَتمَّةً؛ إذ هو أبلَغُ على ما يجِبُ وعلى ما قدَّمنا مِن رَعْيِ التَّرتيبِ، والتَّسفُّلُ (ضِدُّ) التَّعالي؛ فورَدَ كلٌّ على ما يجِبُ ويُناسِبُ

===============

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (71-75)

ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ

غريب الكلمات:

 

نَافِلَةً: أي: زيادةً وفَضلًا، وأصلُ (نفل): يدُلُّ على عَطاءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى: ونجَّينا إبراهيمَ ولوطًا وأخرَجْناهما إلى الأرضِ التي بارَكْنا فيها للعالَمينَ، ووهَبْنا لإبراهيمَ ابنَه إسحاقَ وحفيدَه يَعقوبَ زِيادةً على ذلك، وكلٌّ مِن إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ جعَلَه اللهُ صالحًا مُطيعًا له، وجعَلْنا إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ قُدوةً للنَّاسِ يَدْعونَهم بأمْرِنا إلى عِبادة اللهِ وطاعتِه، وأوحَينا إليهم فِعْلَ الخيراتِ مِن العَمَلِ، وإقامَ الصَّلاةِ، وإيتاءَ الزَّكاةِ، فامتَثَلوا لذلك، وكانوا مُنقادينَ مُطيعينَ لله وَحْدَه دون مَن سِواه.

وآتَينا لُوطًا النبُوَّةَ وفَصْلَ القَضاءِ بين الخُصومِ، وعِلمًا عَظيمًا بأمرِ اللهِ ودينِه، ونجَّيناه مِن أهلِ القَريةِ الذين كانوا يعملونَ الخبائثَ؛ إنَّهم كانوا أهلَ سَوءٍ وقُبحٍ، خارجينَ عن طاعةِ الله. وأدخَلْناه في رحمتِنا بإنجائِه ممَّا حلَّ بقَومِه، وبإدخالِه الجنَّةَ في الآخِرةِ؛ لأنَّه كان من الطَّائعين الذين يَعمَلونَ بطاعةِ اللهِ.

تفسير الآيات:

 

وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71).

أي: ونجَّينا إبراهيمَ ولوطًا مِن أعدائِهما الكافِرينَ، فأخرَجْناهما إلى الأرضِ التي بارَكْنا فيها للعالَمينَ

.

كما قال تعالى: فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت: 26] .

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى بعد ذِكرِه لإنعامِه على إبراهيمَ وعلى لوطٍ عليهما السَّلامُ بأن نجَّاهما إلى الأرضِ المباركةِ؛ أتبَعَه بذِكرِ غَيرِه مِن النِّعَمِ .

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً.

أي: وأعْطَينا إبراهيمَ ابنَه إسحاقَ، وأعْطَيناه حَفيدَه يَعقوبَ بنَ إسحاقَ زيادةً، وفَضلًا منَّا .

كما قال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم: 49] .

وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ.

أي: وكُلًّا من إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ جعَلْنا طائِعينَ لله، مُجتَنِبينَ محارِمَ اللهِ .

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكَرَ الله تعالى أنَّه أعطاهم رُتبةَ الصَّلاحِ في أنفُسِهم؛ ذكَرَ أنَّه أعطاهم رُتبةَ الإصلاحِ لِغَيرِهم، فقال مُعَظِّمًا لإمامتِهم :

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا.

أي: وجعَلْنا إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ أئمَّةً يَقتَدي بهم النَّاسُ في طاعةِ اللهِ، ويَدْعونَ النَّاسَ بأمْرِنا إلى عبادةِ اللهِ، واتِّباعِ أمْرِه، واجتنابِ نَهْيِه .

وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ.

أي: وأوحَينا إلى إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ أن يفعَلوا هم وقَومُهم الطَّاعاتِ، ويُقيموا الصَّلاةَ، ويُؤتُوا الزَّكاةَ .

وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ.

أي: وكانوا لنا طائِعينَ بإخلاصٍ وذُلٍّ وخُضوعٍ وخُشوعٍ، يَفعَلونَ ما يأمُرونَ النَّاسَ به، ويجتَنِبونَ ما يَنهونَهم عنه .

وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله سُبحانَه بعد بيانِ ما أنعَمَ به على إبراهيمَ عليه السَّلامُ، أتبَعَه بذِكرِ نِعَمِه على لوطٍ عليه السَّلامُ لَمَّا جمَعَ بينَهما مِن قَبلُ .

وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا.

أي: وآتَينا لوطًا النبُوَّةَ، وآتيناه عِلمًا عَظيمًا في شريعتِه، وفَهمًا ومعرفةً بأمرِ دينِه، وما يقَعُ به الحُكمُ بين الخُصومِ .

وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ.

أي: ونجَّينا لوطًا مِن أهلِ القَريةِ الذين كانوا يفعَلونَ الأفعالَ الشَّنيعةَ القبيحةَ؛ كالكُفرِ، وإتيانِ الذُّكورِ، وغيرِ ذلك، فأخرَجْناه منها، ولم يُصِبْه ما أصابَهم مِن العذابِ والهلاكِ .

إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ.

أي: وذلك لأنَّهم كانوا أصحابَ عملٍ سَيِّئٍ، خارجينَ عن طاعةِ الله .

وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75).

وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا.

أي: وأدخَلْنا لوطًا في رَحمَتِنا بإنجائِنا له مِن عذابِ قَومِه في الدُّنيا، وبإدخالِه الجنَّةَ في الآخِرةِ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((احتَجَّت النَّارُ والجَنَّةُ، فقالت هذه: يَدخُلُني الجبَّارونَ والمتكَبِّرون، وقالت هذه: يدخُلُني الضُّعَفاءُ والمساكينُ. فقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ لهذه: أنتِ عذابي أعَذِّبُ بكِ مَن أشاءُ -وربما قال: أصيبُ بكِ مَن أشاءُ، وقال لهذه: أنتِ رحمتي أرحَمُ بكِ من أشاءُ، ولكُلِّ واحدةٍ منكما مِلؤُها )) .

إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ.

أي: أدخَلْناه في رَحمتِنا؛ لأنَّه من الأنبياءِ الطَّائعينَ لله، العامِلينَ بوَحيِ اللهِ، المُستَقيمينَ على أمرِ اللهِ ونَهْيِه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا هذا مِن أكبَرِ نِعَمِ اللهِ على عَبدِه؛ أن يكونَ إمامًا يَهتدي به المُهتَدونَ، ويمشي خَلفَه السَّالِكونَ، وذلك لَمَّا صَبَروا وكانوا بآياتِ الله يُوقِنونَ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا فيه أنَّ مَن صلَحَ لِيَكونَ قُدوةً في دينِ اللهِ، فالهدايةُ مَحتومةٌ عليه، مأمورٌ هو بها مِن جهةِ الله، ليس له أن يُخِلَّ بها، ويتثاقَلَ عنها، وأوَّلُ ذلك أن يهتديَ بنَفْسِه؛ لأنَّ الانتِفاعَ بهُداهُ أعَمُّ، والنُّفوسَ إلى الاقتداءِ بالمَهْدِيِّ أمْيَلُ ، وهذا الهَدْيُ هو تزكيةُ نُفوسِ النَّاسِ، وإصلاحُها، وبثُّ الإيمانِ، ويشمَلُ هذا شؤونَ الإيمانِ وشُعَبَه وآدابَه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا جمَع بينَ إبراهيمَ ولوطٍ عليهما السَّلامُ؛ لأنَّ في كونِ لوطٍ معه -مع ما كان بيْنَهما مِن القَرابةِ والشَّرِكةِ في النبُوَّةِ- مَزيدَ إنعامٍ

.

2- قال الله تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ في هذه الآيةِ الكريمةِ دَليلٌ على أنَّ الفِرارَ بالدِّينِ مِن دارِ الكُفرِ إلى بلَدٍ يتمَكَّنُ فيه الفارُّ بدينِه مِن إقامةِ دينِه- واجِبٌ، وهذا النَّوعُ من الهِجرةِ وُجوبُه باقٍ بلا خلافٍ بين العُلَماءِ في ذلك .

3- دلَّ القرآنُ العَظيمُ على بَرَكةِ الشَّامِ في خمسِ آياتٍ: قَولُه: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، وقَولُه: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف: 137] ، والله تعالى إنَّما أورثَ بني إسرائيلَ أرضَ الشَّامِ. وقولُه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء: 1] ، وقَولُه: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء: 81] ، وقَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً [سبأ: 18] الآيةَ، فهذه خَمسُ آياتٍ نُصوصٌ .

4- في قوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا دلالةٌ على أنَّ أفعالَ العبادِ حادثةٌ بمشيئةِ الله وقُدْرَتِه وخَلْقِه .

5- قال تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ هذه القِصَّةُ التي قَصَّ اللهُ مِن نَبَأِ إبراهيمَ وقَومِه: تَذكيرٌ منه بها قَومَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن قُرَيشٍ أنَّهم قد سَلَكوا في عبادتِهم الأوثانَ، وأذاهم مُحمَّدًا على نَهْيِه عن عبادتِها، ودُعائِهم إلى عبادةِ اللهِ مُخلِصينَ له الدِّينَ- مَسْلَكَ أعداءِ أبيهم إبراهيمَ ومخالفَتِهم دينَه؛ وأنَّ مُحَمَّدًا في براءتِه مِن عبادتِها، وإخلاصِه العبادةَ لله، وفي دُعائِهم إلى البَراءةِ مِن الأصنامِ، وفي الصَّبرِ على ما يَلقَى منهم في ذلك- سالِكٌ مِنهاجَ أبيه إبراهيمَ، وأنَّه مُخرِجُه مِن بينِ أظهُرِهم كما أخرجَ إبراهيمَ مِن بينَ أظهُرِ قَومِه -حين تمادَوا في غَيِّهم- إلى مُهاجَرِه مِن أرضِ الشَّامِ؛ ومُسَلٍّ بذلك نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عمَّا يَلقَى مِن قَومِه مِن المكروهِ والأذى، ومُعْلِمُه أنَّه مُنَجِّيه منهم، كما نجَّى أباه إبراهيمَ مِن كَفَرةِ قَومِه .

6- قال الله تعالى: وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ في تسميةِ العملِ بالخبائثِ دليلٌ على أنَّ الأنجاسَ قد تكونُ فعلًا، وتكونُ ذاتيَّةً .

7- قال الله تعالى: وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الصَّلاحُ هو السَّبَبُ لدُخولِ العَبدِ برَحمةِ الله، كما أنَّ الفَسادَ سَبَبٌ لحرمانِه الرَّحمةَ والخَيرَ، وأعظَمُ النَّاسِ صَلاحًا الأنبياءُ عليهم السَّلامُ؛ ولهذا يَصِفُهم بالصَّلاحِ، وقال سليمانُ عليه السَّلامُ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ

 

[النمل: 19] .

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ

- قولُه: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ضُمِّن الفعلُ (نجَّيْناه) معنى (أخْرَجْناه) بنجاتِنا إلى الأرضِ؛ ولذلك تعدَّى (نجَّيناه) بـ (إلى). ويَحتمِلُ أن يكونَ (إلى) متعلقًا بمحذوفٍ، أي: منتهيًا إلى الأرضِ؛ فيكونَ في موضِعِ الحالِ، ولا تضمينَ في وَنَجَّيْنَاهُ على هذا

.

2- قوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ

- إعادةُ فِعْلِ (جعَلَ) في قولِه تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا دونَ أنْ يُقالَ: (وأئمَّةً يَهْدون)، بعطْفِ أَئِمَّةً على صَالِحِينَ؛ اهتمامًا بهذا الجَعْلِ الشَّريفِ، وهو جَعْلُهم هادينَ للنَّاسِ بعْدَ أنْ جعَلَهم صالحينَ في أنفُسِهم؛ فأُعِيدَ الفِعلُ ليكونَ له مَزيدُ استقرارٍ، ولأنَّ في إعادةِ الفِعْلِ إعادةَ ذِكْرِ المفعولِ الأوَّلِ، وفي تلك الإعادةِ مِن الاعتناءِ ما في الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ كما يَظهَرُ بالتأمُّلِ .

- قولُه: وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ مِن عَطْفِ الخاصِّ على العامِّ؛ دَلالةٌ على فَضْلِهما وإنافَتِهما، وتَنويهٌ بشأْنِهما؛ لأنَّ بالصَّلاةِ صَلاحَ النَّفْسِ؛ إذ الصَّلاةُ تَنْهَى عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ، وبالزَّكاةِ صَلاحَ المُجتمَعِ لكِفايةِ عَوَزِ المُعْوِزينَ ؛ ولأنَّ مَن كَمَّلَهما كما أُمِرَ، كان قائِمًا بدِينِه، ومَن ضَيَّعَهما كان لِمَا سِواهما أضْيَعَ، ولأنَّ الصَّلاةَ أفضَلُ الأعمالِ التي فيها حَقُّه، والزَّكاةَ أفضَلُ الأعمالِ التي فيها الإحسانُ لخَلقِه .

- وحسُنَ هنا قولُه: وَإِقَامَ بغيرِ تاءٍ، دونَ قولِه: (وإقامة): أنَّه قابَلَ وَإِيتَاءَ وهو بغَيرِ تاءٍ؛ فتقَعُ المُوازَنةُ بين قولِه: وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ .

- قولُه: وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ خصَّهم بذِكْرِ ما كانوا مُتميِّزينَ به على بَقيَّةِ النَّاسِ مِن مُلازَمةِ العِبادةِ للهِ تعالى، كما دَلَّ عليه فِعْلُ الكونِ (كَانُوا) المُفيدُ تَمكُّنَ الوصْفِ، ودلَّتْ عليه الإشارةُ بتَقديمِ المجرورِ لَنَا إلى أنَّهم أفْرَدوا اللهَ بالعِبادةِ؛ فلم يَعْبُدوا غيرَه قطُّ .

3- قولُه تعالى: وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ عَطْفٌ على جُملةِ وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ [الأنبياء: 51] ؛ ولأجْلِ البُعْدِ أُعِيدَ فِعْلُ الإيتاءِ؛ ليَظهَرَ عَطْفُه على آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ [الأنبياء: 51] ، ولم يُعَدْ في قِصَّةِ نُوحٍ عَقِبَ هذه. وأُعْقِبَت قِصَّةُ إبراهيمَ بقِصَّةِ لُوطٍ للمُناسَبةِ، وخُصَّ لُوطٌ بالذِّكْرِ مِن بين الرُّسلِ؛ لأنَّ أحوالَهُ تابعةٌ لأحوالِ إبراهيمَ في مُقاوَمةِ أهْلِ الشِّرْكِ والفسادِ .

- وفي قولِه: وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا قَدَّمَ مفعولَ (آتَيْنا) وهو (لُوطًا) اهْتمامًا به؛ لِيُنبِّهَ على أنَّه مَحَلُّ العِنايةِ؛ إذ كان قد تأخَّرَ ذِكْرُ قِصَّتِه بعْدَ أنْ جَرَى ذِكْرُه تبَعًا لذِكْرِ إبراهيمَ؛ تَنبيهًا على أنَّه بُعِثَ بشَريعةٍ خاصَّةٍ، وإلى قومٍ غيرِ القومِ الَّذين بُعِث إليهم إبراهيمُ، وإلى أنَّه كان في مواطنَ غيرِ المواطِنِ الَّتي حَلَّ فيها إبراهيمُ .

- قولُه: وَعِلْمًا التَّنوينُ فيه للتَّعظيمِ؛ لأنَّه في سِياقِ الامتنانِ .

- في قولِه: وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ عبَّرَ عنها بالواحدةِ، بالرَّغمِ مِن أنَّ قُراهم كانت سَبْعًا؛ لاتِّفاقِ أهْلِها على الفاحشةِ . وقيل: أفرَدها؛ تنبيهًا على عمومِها بالقلعِ والقلبِ، وأنَّه كان في غايةِ السهولةِ والسرعةِ .

- وإنَّما لم يَذكُرْ ما عليه قومُ لُوطٍ مِن الشِّركِ؛ استغناءً بذِكْرِ الفواحشِ الفظيعةِ الَّتي كانت لهم سُنَّةً؛ فإنَّها أثَرٌ مِن الشِّرْكِ .

- قولُه: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ تَعليلٌ لِمَا قبْلَه

==============

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيتان (76-77)

ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ

غريب الكلمات:

 

الْكَرْبِ: أي: الغمِّ الشَّديدِ، وما حَلَّ بالمكذِّبينَ من الطُّوفانِ والغَرَقِ، وأصلُ (كرب): يدُلُّ على شِدَّةٍ وقُوَّةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى: واذكُرْ -يا محمَّدُ- نوحًا حين نادى ربَّه مِن قَبلِ إبراهيمَ ولُوطٍ أن يَنصُرَه اللهُ على قَومِه، فاستجَبْنا له دُعاءَه، فنجَّيناه وأهلَه المؤمنينَ به مِن الغَمِّ الشَّديدِ، ونَصَرْناه مِن القَومِ الذين كذَّبوا بآياتِنا الدَّالَّةِ على صِدقِه، إنَّهم كانوا قومًا يُسيئُونَ بالشِّركِ، وتَكذيبِ الرَّسولِ، فأغرَقْناهم بالطُّوفانِ أجمعينَ.

تفسير الآيتين:

 

وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى قِصَّةَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وهو أبو العَرَبِ، وتَنجِيَتَه مِن أعدائِه؛ ذكَرَ قِصَّةَ أبي العالَمِ الإنسيِّ كُلِّهم، وهو الأبُ الَّثاني بعدَ آدَمَ؛ لأنَّه ليس أحَدٌ إلَّا مِن نَسْلِه؛ مِن سام وحام ويافِث

.

وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ.

أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- نوحًا حينَ دعا رَبَّه -مِن قَبلِ إبراهيمَ ولوطٍ- أن يَنصُرَه اللهُ على قَومِه الكافرينَ، وأن يُهلِكَهم .

كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 117- 118] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات: 75] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10].

وقال سُبحانَه: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح: 26] .

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ.

أي: فاستجَبْنا لنوحٍ دُعاءَه، فأغرَقْنا قَومَه الكافرينَ، ونجَّيناه معَ أهلِه المؤمِنينَ مِن الغَمِّ الشَّديدِ .

وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77).

وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا.

أي: ونجَّينا نوحًا وحمَيناه مِن قَومِه الذين كذَّبوا بحُجَجِنا الدَّالَّةِ على رِسالتِه ، فلا ينالونَه بسوءٍ .

إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ.

أي: نصَرْنا نوحًا، وأهلَكْنا قَومَه؛ لأنَّهم كانوا قومًا يُسيئُونَ أعمالَهم بالشِّركِ والكُفرِ، وتَكذيبِ الرَّسولِ، ومَعصيةِ اللهِ، فأغرَقْناهم كُلَّهم؛ كبيرَهم وصَغيَرهم

 

.

كما قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف: 64] .

وقال سُبحانَه: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الذاريات: 46].

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قوله تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أنَّ النَّجاةَ مِن الشَّرِّ لا تستلزمُ حصولَه! بل تستلزمُ انعقادَ سببِه، فمَن طلَبه أعداؤُه ليُهلِكوه ولم يتمكَّنوا منه؛ يُقالُ فيه: «نجَّاه الله منهم»؛ ومعلومٌ أنَّ نوحًا لم يغرَقْ ثمَّ خُلِّص! بل نُجِّي مِن الغرقِ الذي أهلَك الله به غيرَه

.

2- مِن الأدلةِ على وجودِ الله: الحِسُّ، ومِن ذلك ما يُشاهَدُ ويُسمَعُ مِن إجابةِ الدَّاعينَ، وغَوْثِ المكْروبينَ؛ ما يدلُّ دلالةً حِسِّيَّةً قاطعةً على وجودِه تعالى، ومِن ذلك قولُه تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ، وما زالتْ إجابةُ الدَّاعينَ أمرًا مشهودًا إلى يومِنا هذا لمَن صدَق اللُّجوءَ إلى الله تعالى، وأتَى بشرائطِ الإجابةِ .

3- في قولِه تعالى: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ سؤالٌ؛ أنَّ الآيةَ الكريمةَ ذُكِر فيها أنَّ نوحًا وأهلَ بيتِه قد نَجَوْا مِن الفيضانِ، ولكنْ في قولِه تعالى: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ إلى قولِه: وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 42، 43] فيه أنَّ أحدَ أولادِ نوحٍ قد غرِقَ؟

الجواب: أنَّه لا تناقضَ؛ لأنَّ ابنَ نوحٍ لم يكُنْ مِن أهلِه، كما قال تعالى لنوحٍ لمَّا سألَه عن ابنِه: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46].

4- في قولِه تعالى: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أنَّ الانتقامَ يُسمَّى نصرةً وانتصارًا

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ عُطِفَ وَنُوحًا على (لُوطًا)، أي: آتينَا نُوحًا حُكْمًا وعِلْمًا؛ فحُذِفَ المفعولُ الثَّاني لـ (آتينَا)؛ لدَلالةِ ما قبْلَه عليه، أي: آتيناهُ النُّبوَّةَ حينَ نادانَا

.

- قولُه: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فائدةُ ذِكْرِ هذه القَبْلِيَّةِ التَّنبيهُ على أنَّ نَصْرَ اللهِ أولياءَه سُنَّتُه المُرادةُ له؛ تَعريضًا بالتَّهديدِ للمُشرِكين المُعانِدين؛ لِيتذكَّروا أنَّه لم تَشُذَّ عن نَصْرِ اللهِ رُسَلَه شاذَّةٌ ولا فاذَّةٌ .

- قولُه: مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ فيه وَصْفُ الكرْبِ بالعظيمِ؛ تَهويلًا .

2- قوله تعالى: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ

- قولُه: وَنَصَرْنَاهُ في إسنادِ الانتِصارِ إليه تعالى تَهويلٌ لأمْرِ النَّصرِ .

- قولُه: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا عُدِّيَ (نَصَرْنَاهُ) بحَرْفِ (مِن)؛ لِتَضمينِه معنى المَنْعِ والحِمايةِ، وهو أبلَغُ مِن تَعديَتِه بـ (على)؛ لأنَّه يدُلُّ على نَصْرٍ قَوِيٍّ تَحصُلُ به المَنَعةُ والحِمايةُ، فلا يَنالُهُ العدُوُّ بشَيءٍ. وأمَّا نَصْرُه عليه فلا يدُلُّ إلَّا على المُدافَعةِ والمَعونةِ. ووَصْفُ القومِ بالموصولِ؛ للإيماءِ إلى عِلَّةِ الغرَقِ الَّذي سيُذْكَرُ بعْدُ . وقيل: لَمَّا كان جُلُّ نُصرَتِه النَّجاةَ، وكانت غَلَبةُ قَومِه بغيرِ يَدَيه بل بأمرٍ أجنبيٍّ منه؛ حَسُنَ أن يكونَ (نَصَرْنَاهُ مِنْ) ولا يتمَكَّنُ هنا (على) كما يتمَكَّنُ في أمرِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع قَومِه .

- قولُه: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ تَعليلٌ لِمَا قبْلَه، وتَمهيدٌ لِمَا بعْدَه من قولِه تعالى: فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ؛ فإنَّ الإصرارَ على تَكذيبِ الحقِّ، والانهماكَ في الشَّرِّ والفسادِ ممَّا يُوجِبُ الإهلاكَ قطْعًا .

- وإضافةُ (قَومٍ) إلى (السَّوءِ) فيه إشارةٌ إلى أنَّهم عُرِفوا به .

- وأَجْمَعِينَ حالٌ مِن ضَميرِ النَّصبِ في فَأَغْرَقْنَاهُمْ؛ لإفادةِ أنَّه لم يَنْجُ مِن الغرَقِ أحَدٌ مِن القومِ ولو كان قَريبًا مِن نُوحٍ؛ فإنَّ اللهَ قد أغرَقَ ابنَ نُوحٍ. وفي هذا تَهديدٌ لقُريشٍ؛ لئلَّا يَتَّكِلوا على قَرابتِهم بمحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ

=============

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (78-80)

ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ

غريب الكلمات:

 

الْحَرْثِ: أي: الزَّرعِ، أو البُستانِ، وأصْلُ (حرث): يدُلُّ على إلقاءِ البَذرِ في الأرضِ، وتَهيئتِها للزَّرعِ

.

نَفَشَتْ: أي: رعَتْ لَيلًا، والنَّفشُ: الرَّعيُ باللَّيلِ، وأصلُ (نفش): يدُلُّ على انتشارٍ .

لَبُوسٍ: أي: الدُّروعِ، سُمِّيت لَبُوسًا؛ لأنَّها تُلبَسُ، واللَّبوسُ عندَ العَرَبِ: السِّلاحُ كُلُّه، وأصلُ (لبس): يدُلُّ على مُخالَطةٍ ومُداخَلةٍ .

لِتُحْصِنَكُمْ: أي: لِتَمنَعَكم وتَحمِيَكم، وأصلُ (حصن): يدلُّ على حِفظٍ وحِياطةٍ .

بَأْسِكُمْ: أي: حَرْبِكم، وأصلُ (بأس): يدُلُّ على الشِّدَّةِ وما ضاهاها

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَوْلُه تعالى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ

قولُه: وَالطَّيْرَ مَنصوبٌ عطفًا على الْجِبَالَ، أو مَفعولٌ معه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- نبيَّ اللهِ داودَ وابنَه سُلَيمانَ، إذ يَحكُمانِ في شأنِ زَرعٍ عَدَت عليه غَنَمُ قومٍ آخرينَ، وانتَشَرَت فيه ليلًا فأتلَفَتْه، وكنَّا لحُكمِهم شاهِدينَ لا يخفَى علينا شيءٌ، فَفَهَّمْنا سُليمانَ تلك القضيَّةَ، وكُلًّا مِن داودَ وسليمانَ أعطَينا نُبُوَّةً وعِلمًا، وذلَّلْنا مع داودَ الجِبالَ والطَّيرَ يُسَبِّحنَ معه إذا سبَّحَ، وكُنَّا فاعلينَ ذلك. وعلَّمنا داودَ صِناعةَ الدُّروعِ؛ لتحميَ المحارِبينَ مِن وَقْعِ السِّلاحِ فيهم، فهل أنتم شاكِرونَ نِعمةَ الله عليكم حيثُ أجراها على يَدِ عَبدِه داودَ؟

تفسير الآيات:

 

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان المقصودُ ذِكرَ نِعَمِ الله تعالى على داودَ وسُلَيمانَ عليهما السَّلامُ؛ ذكَرَ أوَّلًا النِّعمةَ المُشتَركةَ بيْنهما، ثمَّ ذكَرَ ما يختَصُّ به كُلُّ واحدٍ منهما مِنَ النِّعَمِ

.

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ.

أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ - خبَرَ داودَ وسُلَيمانَ حينَ يَحكُمانِ في شأنِ الزَّرعِ أو الغَرسِ الذي انتَشَرَت فيه غَنَمُ قَومٍ آخرينَ في اللَّيلِ، فَرَعَت في البُستانِ وأكَلَت ما في أشجارِه .

وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ.

أي: وكنا لحُكمِ داودَ وسُلَيمانَ والمُتحاكِمين إليهما عالِمينَ لا يخفَى علينا شيءٌ .

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79).

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ.

أي: ففهَّمْنا تلك القضيَّةَ سُلَيمانَ .

وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا.

أي: وكلًّا مِن داودَ وسُلَيمانَ آتَينا نُبُوَّةً، وعِلمًا بدينِ اللهِ وأحكامِه .

وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ.

مناسبتُها لما قبلَها:

أنَّها شُروعٌ في بَيانِ ما يَختَصُّ بكلٍّ منهما مِن كَرامتِه تعالى، إثْرَ بَيانِ كَرامتِه العامَّةِ لهما .

وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ.

أي: وذلَّلْنا مع داودَ الجِبالَ والطَّيرَ يُسَبِّحْنَ بمِثلِ تَسبييحِه إذا سَبَّحَ؛ مُعجِزةً له ، وكنَّا فاعلينَ ذلك .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: 10].

وقال سُبحانَه: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص: 17 - 19] .

وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80).

وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: لِتُحْصِنَكُمْ قراءاتٌ:

1- قراءةُ لِتُحْصِنَكُمْ بتاءٍ مَضمومةٍ، على التأنيثِ، أي: لِتُحصِنَكم هذه الصَّنعةُ .

2- قراءةُ لِنُحْصِنَكُم بنونٍ مضمومةٍ، على أنَّ الله تعالى يخبِرُ عن نَفسِه، أي: لِنُحصِنَكم نحنُ من بأسِكم بواسطةِ هذه الدُّروعِ .

3- قراءة لِيُحْصِنَكُم بياءٍ مَضمومةٍ، على التذكيرِ، أي: لِيُحصِنَكم الله تعالى، أو: ليحصِنَكم هذا اللَّبوسُ .

وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.

أي: وعلَّمْنا داودَ كيفيَّةَ صِناعةِ الدُّروعِ لكم؛ لِتَقيَكم في القتالِ مِن سلاحِ أعدائِكم .

كما قال تعالى: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النحل: 81] .

فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ.

أي: فهل أنتم -أيُّها النَّاسُ- شاكِرو اللهِ على تيسيرِه لكم نِعمةَ الدُّروعِ

 

؟

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا في هذا تنبيهٌ على أنَّ العِلمَ أفضَلُ الكَمالاتِ وأعظَمُها؛ وذلك لأنَّ الله تعالى قَدَّمَ ذِكرَه هاهنا على سائِرِ النِّعَمِ الجليلةِ، مِثلُ: تَسخيرِ الجِبالِ والطيرِ، والريحِ والجِنِّ، وإذا كان العِلمُ مُقَدَّمًا على أمثالِ هذه الأشياءِ، فما ظَنُّك بغَيرِها

؟!

2- في قَولِه تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ... دَلالةٌ على أنَّ العَمَلَ والمهنةَ ليستا نَقصًا؛ لأنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ كانوا يُمارِسونَها ، والآيةُ أصلٌ في اتِّخاذِ الصَّنائِعِ والأسبابِ، وهو قَولُ أهل العُقولِ والألبابِ، لا قَولُ الجَهَلةِ الأغبياءِ القائلينَ بأنَّ ذلك إنما شُرِعَ للضُّعَفاءِ؛ فالسَّبَبُ سُنَّةُ الله في خَلقِه، فمَن طعَنَ في ذلك فقد طَعَن في الكِتابِ والسُّنَّة، ونَسَب مَن ذَكَرْنا إلى الضَّعفِ وعَدَمِ المنَّةِ، فالصَّنعةُ يَكُفُّ بها الإنسانُ نَفسَه عن النَّاسِ، ويَدفَعُ بها عن نَفسِه الضَّررَ والباسَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ استُدِلَّ به على جَوازِ الاجتِهادِ في الأحكامِ، ووُقوعِه للأنبياءِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا أصلٌ في اختلافِ الاجتِهادِ، وفي العَمَلِ بالرَّاجِحِ، وفي مراتِبِ التَّرجيحِ .

3- في قَولِ اللهِ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا إنْ قيل: فكيف نَقَض داودُ حُكمَه باجتهادِ سُلَيمانَ؟

فالجوابُ عنه مِن وَجهَينِ؛ أحدُهما: يجوزُ أن يكونَ داودُ ذَكَر حُكمَه على الإطلاقِ، وكان ذلك منه على طَريقِ الفُتيا، فذَكَرَه لهم لِيُلزِمَهم إيَّاه، فلمَّا ظهر له ما هو أقوى في الاجتِهادِ منه عاد إليه.

الثَّاني: أنَّه يجوزُ أن يكونَ اللهُ أوحى بهذا الحُكمِ إلى سُلَيمانَ، فلَزِمَه ذلك، ولأجْلِ النَّصِّ الواردِ بالوَحيِ رأى أن يَنقُضَ اجتِهادَه؛ لأنَّ على الحاكِمِ أن ينقُضَ حُكمَه بالاجتهادِ إذا خالف نصًّا .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ استدَلَّ به مَن قال برُجوعِ الحاكِمِ بعد قضائِه عن اجتِهادِه إلى أرجحَ منه .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا هذا دليلٌ على أنَّ الحاكِمَ قد يُصيبُ الحَقَّ والصَّوابَ، وقد يُخطِئُ ذلك، وليس بمَلومٍ إذا أخطأ مع بَذْلِ اجتِهادِه .

6- قال اللهُ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا فهذه القضيَّةُ التي تضَمَّنَتْها الآيةُ مَظهَرٌ مِن مظاهِرِ العَدلِ، ومَبالِغِ تَدقيقِ فِقهِ القَضاءِ، والجَمعِ بين المصالِحِ، والتفاضُلِ بينَ مراتِبِ الاجتهادِ، واختِلافِ طُرُقِ القَضاءِ بالحَقِّ مع كونِ الحَقِّ حاصِلًا للمُحِقِّ، فمَضمونُها أنَّها الفِقهُ في الدِّينِ الذي جاء به المُرسَلونَ مِن قَبلُ .

7- في قَولِه تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ دَلالةٌ على أنَّ النَّاسَ متفاوِتونَ في الأفهامِ، ولو كان الفَهمُ متماثلًا لَمَا خُصَّ به سُلَيمانُ .

8- في قَولِه تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا دَلالةٌ على أهميَّةِ الفَهمِ، وأنَّ العلمَ ليس كلَّ شَيءٍ .

9- قال اللهُ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا فقد خَصَّ أحَدَ النبِيَّينِ الكريمَينِ بالتَّفهيمِ مع ثنائِه على كُلٍّ منهما بأنَّه أُوتيَ عِلمًا وحُكمًا، فهكذا إذا خَصَّ اللهُ أحَدَ العالِمَينِ بعِلمِ أمرٍ وفَهِمَه لم يوجِبْ ذلك ذَمَّ مَن لم يحصُلْ له ذلك من العُلَماءِ، بل كلُّ مَنِ اتَّقى الله ما استطاعَ فهو مِن أولياءِ الله المتَّقينَ، وإن كان قد خَفِيَ عليه مِن الدِّينِ ما فَهِمَه غيرُه . فالعلماءُ المجتهدون؛ للمصيبِ منهم أجرانِ، وللآخَرِ أجرٌ واحدٌ، وكلٌّ منهم مطيعٌ لله بحسَبِ استطاعتِه؛ ولا يُكَلِّفُه اللهُ ما عجزَ عن عِلْمِه .

10- قَولُ اللهِ تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا أصلٌ في عُذرِ المُجتَهِدِ إذا أخطأ الاجتِهادَ، أو لم يهتَدِ إلى المُعارِضِ؛ لِقَولِه تعالى: وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا في مَعرِضِ الثَّناءِ على داودَ وسُلَيمانَ عليهما السَّلامُ .

11- استُدلَّ بقَولِ الله تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ على تَضمينِ أربابِ المَواشي ما أفسَدَت باللَّيلِ دُونَ النَّهارِ؛ لأنَّ النَّفْشَ لا يَكونُ إلَّا باللَّيلِ .

12- قَولُه تعالى: كُنَّا فَاعِلِينَ في موضِعَينِ مِن كتابِه؛ أحَدُهما: قَولُه تعالى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ، والثَّاني: قَولُه تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] ، فتأمَّلْ قولَه: كُنَّا فَاعِلِينَ في هذَينِ المَوضِعَينِ، المتضَمِّنَ للصُّنعِ العَجيبِ الخارِجِ عن العادةِ: كيف تَجِدُه كالدَّليلِ على ما أخبَرَ به، وأنَّه لا يَستَعصي على الفاعِلِ حَقيقةً، أي: شَأنُنا الفِعلُ، كما لا يَخفى الجَهرُ والإسرارُ بالقَولِ على مَن شَأنُه العِلمُ والخِبرةُ، ولا تَصعُبُ المَغفِرةُ على مَن شَأنُه أن يَغفِرَ الذُّنوبَ، ولا الرِّزقُ على مَن شَأنُه أن يَرزُقَ العِبادَ -سُبحانَه وبِحَمدِه !

13- في قَولِه تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ دَلالةٌ على أنَّ داودَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان حَدَّادًا .

14- في قَولِه تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ دليلٌ على أنَّ الاحتِرازاتِ ليست تَنقُصُ في التوكُّلِ؛ إِذْ كان اللهُ جلَّ وتعالى قد جَعَلَ الدِّرعَ صيانةً في الحُروبِ، وجعَلَها في النِّعَمِ التي طالب بشُكرِها، وإذا كان ذلك كذلك، فالمكاسِبُ كلُّها، وإعدادُ الأقواتِ غيرُ مؤثِّرةٍ في الثِّقةِ بالخالِقِ؛ ولا مَعدودةٍ في عِدَادِ خوفِ فَواتِ الرِّزقِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ

- قولُه: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ فيه الإتيانُ بصِيغةِ المُضارِعِ يَحْكُمَانِ حِكايةً للحالِ الماضيةِ؛ لاستحضارِ صُورتِها

.

- وجُملةُ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ اعتراضٌ مُقرِّرٌ للحُكْمِ، ومُفيدٌ لِمَزيدِ الاعتناءِ بشأْنِه .

- وفيه مِن فُنونِ البَلاغةِ: ما يُعرَفُ بجَمْعِ المُختلِفِ والمُؤتلِفِ، وهو عبارةٌ عن إرادةِ المُتكلِّمِ التَّسويةَ بين مَمدوحينِ، فيأْتي بمَعانٍ مُؤتَلِفةٍ في مَدْحِهما، ثمَّ يَرومُ بعْدَ ذلك تَرجيحَ أحَدِهما على الآخرِ بزِيادةِ فَضْلٍ لا يَنقُصُ مَدْحَ الآخَرِ، فيأْتي لأجْلِ ذلك التَّرجيحِ بمَعانٍ تُخالِفُ معانِيَ التَّسويةِ؛ فهنا ساوَى أوَّلَ الآيةِ بين داودَ وسُليمانَ عليهما السَّلامُ في أهْلِيَّةِ الحُكْمِ، ثمَّ رجَّحَ آخِرَها سُليمانَ بقولِه: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ، فسوَّى في الحُكمِ والعِلمِ، وزاد في فَضْلِ سُليمانَ بالفَهمِ، وحصَلَ الالْتِفاتُ، فأَتى بما يقومُ مَقامَ تلك الزِّيادةِ الَّتي يُرجَّحُ بها سُليمانُ؛ لِتُرشِدَ إلى المُساواةِ في الفضْلِ، لِتكونَ فَضيلةُ السِّنِّ وما يَستتبِعُها مِن وَفْرةِ التَّجارِبِ وحُنْكةِ الحياةِ قائمةً مَقامَ الزِّيادةِ الَّتي رُجِّحَ بها سُليمانُ في الحُكْمِ؛ فساوتِ الآيةُ الكريمةُ بيْن داودَ وسُليمانَ في التَّأهُّلِ للحُكْمِ، وشرَّكَت بيْنهما فيه، حيث قالت: إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ، وأخبَرَتْ أنَّ اللهَ سُبحانَه فهَّمَ سُليمانَ إصابةَ الحُكْمِ، ففضَلَ أباهُ بذلك بعْدَ المُساواةِ، ثمَّ الْتَفَتْ سُبحانَه إلى مُراعاةِ حَقِّ الوالدِ، فقال: وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا، فرَجَعا بذلك إلى المُساواةِ بعْدَ تَرجيحِ سُليمانَ؛ لِيُعلِّمَ الولَدَ بذلك بِرَّ الوالِدِ ويُعرِّفَه ما له عليه من الحقِّ، حتَّى إذا فكَّرَ النَّاظِرُ في هذا الكلامِ، وقال: مِن أين جاءتِ المُساواةُ في الحُكْمِ والعلمِ بعْدَ الإخبارِ بأنَّ سُليمانَ فَهِمَ مِن الحُكْمِ ما لم يَفْهَمْه أبوه؟ عَلِم أنَّ حَقَّ الأُبوَّةِ قام مَقامَ تلك الفضيلةِ، فحصَلَتِ المُساواةُ. وحصَلَ في هذا الكلامِ ضَرْبٌ آخَرُ من المحاسِنِ يُقالُ له: الالْتِفاتُ؛ وذلك في قولِه تعالى فيها: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، وأدْمَجَ في هذا الالْتِفاتِ ضَرْبًا آخَرَ مِن المَحاسِنِ يُقالُ له: التَّنكيتُ؛ فإنَّ النُّكتةَ الَّتي مِن أجْلِها جُمِعَ الضَّميرُ الَّذي كان مِن حَقِّه أنْ يكونَ مُثَنًّى هي الإشارةُ إلى أنَّ هذا الحُكْمَ مُتَّبَعٌ يَجِبُ الاقتداءُ به؛ لأنَّه عَينُ الحقِّ ونَفْسُ العدْلِ، وكيف لا يكونُ كذلك وقد أخبَرَ سُبحانه أنَّه شاهِدٌ له؟! أي: هو مُراعًى بعَينِه عَزَّ وجَلَّ. ويجوزُ أنْ يكونَ جُمِعَ الضَّميرُ الَّذي أُضِيفَ إليه الحُكْمُ مِن أجْلِ أنَّ الحُكْمَ يَستلزِمُ حاكِمًا، ومَحكومًا له، ومَحكومًا عليه؛ فجُمِعَ الضَّميرُ لأجْلِ ذلك .

2- قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ

- صِيغَةُ التَّفهيمِ في قولِه: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ تُفِيدُ شِدَّةَ حُصولِ الفِعْلِ أكثَرَ مِن صِيغةِ الإفهامِ؛ فدَلَّ على أنَّ فَهْمَ سُليمانَ في القضيَّةِ كان أعمَقَ .

- قولُه: وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا تَذييلٌ؛ للاحتراسِ لدَفْعِ تَوهُّمِ أنَّ حُكْمَ داودَ كان خطَأً أو جَورًا، وإنَّما كان حُكْمُ سُليمانَ أصوبَ .

- و(مع) ظَرْفٌ مُتعلِّقٌ بفِعْلِ يُسَبِّحْنَ، وقُدِّمَ على مُتعلَّقِه؛ للاهتمامِ به لإظهارِ كَرامةِ دَاودَ .

- وقُدِّمَتِ الجِبالُ على الطَّيرِ؛ لأنَّ تَسخيرَها وتَسبيحَها أعجَبُ وأدَلُّ على القُدرةِ، وأدخَلُ في الإعجازِ؛ لأنَّها جَمادٌ والطَّيرَ حيوانٌ، إلَّا أنَّه غيرُ ناطقٍ .

- قولُه: يُسَبِّحْنَ استئنافٌ مُبيِّنٌ لجُملةِ (سَخَّرْنَا)، أو حالٌ مُبيِّنةٌ، وذِكْرُها هنا استطرادٌ وإدماجٌ .

- وجُملةُ: وَكُنَّا فَاعِلِينَ تَذييليَّةٌ مُعترِضةٌ بين الإخبارِ عمَّا أُوتِيَهُ داودُ .

3- قوله تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ

- قولُه: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ فيه فضْلُ هذه الصَّنعةِ؛ إذ أسنَدَ تَعليمَها إيَّاهُ إليه تعالى .

- قولُه: فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ أمْرٌ وارِدٌ على صُورةِ الاستفهامِ؛ للمُبالَغةِ أو التَّقريعِ ؛ فالاستفهامُ في قولِه: فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ مُستعمَلٌ في استبطاءِ عدَمِ الشُّكرِ، ومُكَنًّى به عن الأمْرِ بالشُّكرِ، وكان العُدولُ عن إيلاءِ (هل) الاستفهاميَّةِ بجُملةٍ فِعْليَّةٍ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ، مع أنَّ لـ(هل) مَزِيدَ اختصاصٍ بالفِعْلِ، فلم يقُلْ: (فهلْ تَشكُرون)، وعدَلَ إلى: فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ؛ لِيَدُلَّ العُدولُ عنِ الفِعْليَّةِ إلى الاسميَّةِ على ما تَقْتضيهِ الاسميَّةُ من مَعنى الثَّباتِ والاستمرارِ، أي: فهلْ تَقرَّرَ شُكْرُكم وثبَتَ؛ لأنَّ تَقرُّرَ الشُّكرِ هو الشَّأنُ في مُقابَلةِ هذه النِّعمةِ

============

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيتان (81-82)

ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ

غريب الكلمات:

 

عَاصِفَةً: أي: شَديدةَ الهُبوبِ، وأصلُ (عصف): يدُلُّ على خِفَّةٍ وسُرعةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: وسخَّرْنا لسُلَيمانَ الرِّيحَ شَديدةَ الهُبوبِ، تجري بأمْرِه إلى الأرضِ التي بارَكْنا فيها، وقد أحاط عِلمُنا بجَميعِ الأشياءِ، وسَخَّرنا لسُلَيمانَ مِن الشَّياطينِ شَياطينَ يغوصونَ في البَحرِ يَستَخرِجونَ له اللآلئَ والجواهِرَ، وكانوا يَعمَلونَ أعمالًا أخرى غيرَ الغَوصِ مما يريدُه منهم، وكُنَّا لهم حافظينَ، فلا يَقدِرونَ على الامتِناعِ مِمَّا يُريدُه منهم، ولا يتمَرَّدونَ على طاعتِه، ولا يتعَرَّضونَ له بسُوءٍ ولا لأحدٍ مِنَ النَّاسِ.

تفسير الآيتين:

 

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ سُبحانَه النِّعَمَ التي خَصَّ داودَ عليه السَّلامُ بها، ذكَرَ بعدَه النِّعَمَ التي خَصَّ بها سُلَيمانَ عليه السَّلامُ

.

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً.

أي: وسَخَّرْنا لسُلَيمانَ الرِّيحَ، والحالُ أنَّها شديدةُ الهُبوبِ .

قال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ: 12] .

تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا.

أي: تجري الريحُ بأمرِ سُلَيمانَ طائِعةً له، فتعودُ إلى الأرضِ التي بارك اللهُ فيها .

كما قال تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص: 36] .

وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ.

أي: وكُنَّا بجَميعِ الأشياءِ مِن أمرِ سُلَيمانَ وغَيرِه عالِمينَ، لا يخفَى علينا شَيءٌ، عالِمينَ بتَدبيرِه، ومِن ذلك أنَّنا وضَعْنا هذا التَّخصيصَ في المحَلِّ الذي يليقُ به مِن الأماكِنِ والأناسيِّ .

وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا ذكَرَ تعالى تَسخيرَ الرِّيحِ له، وهي جِسْمٌ شَفَّافٌ لا يَعقِلُ، وهي لا تُدرَكُ بالبصَرِ؛ ذكَرَ تَسخيرَ الشَّياطينِ له، وهم أجسامٌ لَطيفةٌ تَعقِلُ، والجامِعُ بينهما أيضًا سُرعةُ الانتقالِ .

وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ.

أي: وسَخَّرنا لسُلَيمانَ مِن الشَّياطينِ مَن يغوصونَ له في البَحرِ؛ لِيَستخرِجوا اللآلئَ والجواهِرَ وغيرَ ذلك .

كما قال تعالى: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص: 37] .

وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ.

أي: ويعمَلُ الشَّياطينُ لِسُلَيمانَ أعمالًا أخرى غيرَ الغَوصِ؛ كعملِ المحاريبِ والتَّماثيلِ، والجِفانِ والقُدورِ الرَّاسياتِ .

كما قال تعالى: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ: 12- 13] .

وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ.

أي: وكُنَّا للشَّياطينِ الذين يَعمَلونَ لسُلَيمانَ حافِظينَ، فلا يتمَرَّدونَ على طاعتِه، أو يَزيغونَ عن أمْرِه، أو يُبَدِّلونَ أو يُغَيِّرونَ، أو يُوجَدُ منهم فَسادٌ فيما هم مُسَخَّرونَ فيه، ولا يُؤذُونَ نبيَّ اللهِ سُلَيمانَ، ولا يتعَرَّضونَ بسُوءٍ لأحدٍ مِنَ النَّاسِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- وصَفَ اللهُ تعالى الرِّيحَ المذكورةَ هنا في سورةِ (الأنبياء) بأنَّها عاصِفةٌ، أي: شَديدةُ الهُبوبِ، ووصَفَها في سورةِ (ص) بأنَّها تَجري بأمرِه رُخاءً، والعاصِفةُ غَيرُ التي تجري رُخاءً، فكيف يُجمَعُ بينهما؟

والجوابُ: من أوجُهٍ

الأوَّلُ: أنَّها عاصِفةٌ في بَعضِ الأوقاتِ، ولَيِّنةٌ رُخاءٌ في بَعضِها؛ بحَسَبِ الحاجةِ، كأنْ تَعصِفَ ويشتَدَّ هُبوبُها في أوَّلِ الأمرِ، حتى تَرفَعَ البِساطَ الذي عليه سُلَيمانُ وجُنودُه، فإذا ارتفَعَ سارت به رُخاءً حيث أصاب

، أو يكونَ ذلك باختِلافِ الأحوالِ؛ فإذا أراد سُلَيمانُ عليه السَّلامُ الإسراعَ في السَّيرِ سارت عاصِفةً، وإذا أراد اللِّينَ سارت رُخاءً، والمقامُ قَرينةٌ على أنَّ المرادَ المُواتاةُ لإرادةِ سُلَيمانَ، كما دَلَّ عليه قَولُه تعالى: تَجْرِي بِأَمْرِهِ المُشعِرُ باختِلافِ مَقصدِ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ منها .

الثَّاني: أنَّها كانت في نَفسِها رَخيَّةً طَيِّبةً كالنَّسيمِ، فإذا مَرَّت بكُرسِيِّه أبعَدَت به في مُدَّةٍ يَسيرةٍ، على ما قال: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ، فكان جَمعُها بينَ الأمرَينِ: أن تكونَ رُخاءً في نَفسِها، وعاصِفةً في عَمَلِها، مع طاعَتِها لسُلَيمانَ، وهُبوبِها على حَسَبِ ما يُريدُ ويَحتَكِمُ .

الثَّالث: أنَّ الرُّخاءَ في البُداءةِ، والعصْفَ بعْدَ ذلك .

الرَّابع: أنَّها كانت رخاءً في ذهابِه، وعاصفةً في رجوعِه إلى وطنِه؛ لأنَّ عادةَ المسافرينَ الإسراعُ في الرجوعِ .

2- قال الله تعالى هنا: تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، وقال في سورةِ (ص): تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص: 36] ، والسُّؤالُ هو أنَّه هنا في سورةِ (الأنبياء) خَصَّ جَرْيَها به بكَونِه إلى الأرضِ التي بارك فيها للعالَمينَ، وفي سورةِ (ص) قال: تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص: 36] ، وقَولُه: حَيْثُ أَصَابَ يدُلُّ على التَّعميمِ في الأمكِنةِ التي يُريدُ الذَّهابَ إليها على الرِّيحِ؟

والجوابُ: أنَّ قَولَه: حَيْثُ أَصَابَ يدلُّ على أنَّها تجري بأمْرِه حَيثُ أراد مِن أقطارِ الأرضِ، وقَولَه: تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا؛ لأنَّ مَسْكَنَه فيها وهي الشَّامُ، فتَرُدُّه إلى الشَّامِ، وعليه فقَولُه: حَيْثُ أَصَابَ في حالةِ الذَّهابِ، وقولُه: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا في حالةِ الإيابِ إلى محَلِّ السُّكنى، فانفَكَّت الجِهةُ؛ فزال الإشكالُ .

3- في تَسخيرِ أكثَفِ الأجسامِ لدَاودَ وهو الحَجرُ؛ إذ أنطَقَهُ بالتَّسبيحِ، والحديدُ؛ إذ جعَلَ في أصابعِه قُوَّةَ النَّارِ حتَّى لانَ له الحديدُ، وعَمِلَ منه الزَّرَدَ ، وتَسخيرِ ألْطَفِ الأجسامِ لسُليمانَ، وهو الرِّيحُ، والشَّياطينُ وهم من نارٍ، وكانوا يَغوصونَ في الماءِ، دليلٌ واضحٌ على باهِرِ قُدرتِه، وإظهارِ الضِّدِّ من الضِّدِّ، وإمكانِ إحياءِ العظْمِ الرَّميمِ، وجَعْلِ التُّرابِ الْيابِسِ حَيوانًا، فإذا أخبَرَ به الصَّادقُ وجَبَ قَبولُه واعتقادُ وُجودِه

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ

- قولُه: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث عبَّرَ هنا باللَّامِ، وعبَّرَ بـ (مع) في قولِه: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ؛ للدَّلالةِ على ما بين التَّسخيرينِ مِن التَّفاوُتِ؛ فإنَّ تَسخيرَ ما سُخِّرَ له عليه السَّلامُ منَ الرِّيحِ وغيرِها، كان بطَريقِ الانقيادِ الكُلِّيِّ له، والامتثالِ بأمْرِه ونَهْيِه والمَقْهوريَّةِ تحْتَ مَلكوتِه، وأمَّا تَسخيرُ الجِبالِ والطَّيرِ لداودَ عليه السَّلامُ فلم يكُنْ بهذه المَثابةِ؛ بل بطَريقِ التَّبعيَّةِ له عليه السَّلامُ، والاقتداءِ به في عِبادةِ اللهِ عَزَّ وعَلا

. أو: أنَّه لَمَّا اشْتَرَكَ داودُ والجبالُ في التَّسبيحِ ناسَب ذِكْرُ (معَ) الدَّالَّةِ على الاصطحابِ، ولَمَّا كانت الرِّيحُ مُستخدَمةً لسُليمانَ أُضيفَتْ إليه بلامِ التَّمليكِ لأنَّها في طاعتِه وتحتَ أمرِه .

- قولُه: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ في الختامِ؛ فإنَّه لمَّا كانت هذه الاختصاصاتُ في غايةِ الغَرابةِ من المَعهودِ، أخبَرَ تعالى أنَّ عِلْمَه مُحيطٌ بالأشياءِ، يُجْرِيها على ما سبَقَ به عِلْمُه .

- جُملةُ: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ جُملةٌ تَذييليَّةٌ مُعترِضةٌ بينَ الجُمَلِ المَسوقةِ لذِكْرِ عِنايةِ اللهِ بسُليمانَ .

2- قولُه تعالى: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ

- قولُه: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ جَمَع الضَّميرَ في يَغُوصُونَ؛ حَمْلًا على معنى مَنْ، وحسَّنَ ذلك تَقدُّمُ جَمْعٍ قبْلَه وهو الشَّيَاطِينِ .

- ودَلَّ الغَوصُ في قولِه: مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ على المُغاصِ فيه، وعلى ما يُغاصُ لاستخراجِه وهو الجَوهرُ؛ فلذلك لم يُذْكَرْ. وقولُه: لَهُ أي: لسُليمانَ؛ لأنَّ الغائصَ قد يَغوصُ لنفْسِه ولغَيرِه، فذكَرَ أنَّ الغوصَ ليس لأنفُسِهم، إنَّما هو لأجْلِ سُليمانَ وامتثالِهم أمْرَه .

- قولُه: وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ تَذييلٌ لقولِه: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ

==========

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيتان (83-84)

ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: واذكُرْ -يا محمَّدُ- عَبْدَنا أيوبَ إذ نادى ربَّه عزَّ وجَلَّ أنِّي قد أصابني الضُّرُّ، وأنت أرحَمُ الرَّاحمينَ، فاكشِفْه عنِّي. فاستجَبْنا له دُعاءَه، ورفَعْنا عنه الضُّرَّ والبلاءَ، ورَدَدْنا عليه ما فَقَده من أهلٍ ووَلدٍ مُضاعفًا؛ فَعَلْنا به ذلك رحمةً منَّا، وتذكيرًا للذين يَعبُدونَ اللهَ؛ لِيَكونَ قُدوةً لكُلِّ صابرٍ على البلاءِ، راجٍ رحمةَ رَبِّه.

تفسير الآيتين:

 

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83).

أي: واذكُرْ

-يا محمَّدُ- أيوبَ حين نادى ربَّه بأنِّي أصابني الضَّرَرُ والبلاءُ، وأنت أرحَمُ من يَرحَمُ، فارحَمْني بكَشفِ ضُرِّي .

كما قال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: 41] .

وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ أشَدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ، ثمَّ الصالحونَ، ثمَّ الأمثَلُ فالأمثَلُ مِنَ النَّاسِ، يُبتلى الرَّجُلُ على حَسَبِ دِينِه، فإنْ كان في دِينِه صَلابةٌ زيدَ في بلائِه، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ خُفِّفَ عنه، وما يزالُ البلاءُ بالعَبدِ حتى يمشيَ على ظَهرِ الأرضِ ليس عليه خَطيئةٌ )) .

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84).

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ.

أي: فاستجَبْنا دُعاءَ أيوبَ، فأزَلْنا ما حلَّ به مِن ضَرَرٍ وبَلاءٍ .

عن أنسِ بنِ مالكٍ رضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أيوبَ نبيَّ اللهِ كان في بلائِه ثمانيَ عَشْرةَ سَنةً، فرَفَضه القريبُ والبعيدُ إلَّا رَجُلَينِ مِن إخوانِه كانا مِن أخَصِّ إخوانِه، كانا يَغدُوانِ إليه، ويَرُوحانِ إليه، فقال أحدُهما لصاحِبِه: أتعلَمُ، واللهِ لقد أذنَبَ أيوبُ ذنبًا ما أذنَبَه أحَدٌ! قال صاحِبُه: وما ذاك؟ قال: منذُ ثمانيَ عَشرةَ سَنةً لم يرحَمْه اللهُ فيكشِفَ عنه! فلمَّا راحا إليه لم يصبِرِ الرجُلُ حتى ذكَرَ ذلك له، فقال أيوبُ: لا أدري ما يقولُ، غيرَ أنَّ الله يعلَمُ أنِّي كُنتُ أمُرُّ على الرجُلَينِ يتنازَعانِ فيَذكُرانِ اللهَ ، فأرجِعُ إلى بيتي فأكَفِّرُ عنهما؛ كراهيةَ أن يُذكَرَ اللهُ إلَّا في حَقٍّ! قال: وكان يخرجُ إلى حاجتِه فإذا قضى حاجَتَه أمسكَتِ امرأتُه بيَدِه حتى يَبلُغَ، فلمَّا كان ذاتَ يومٍ أبطأ عليها، وأوحيَ إلى أيوبَ في مكانِه أن: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص: 42] ، فاستبطأَتْه فلَقِيَتْه ينتَظِرُ، وأقبل عليها قد أذهَبَ اللهُ ما به من البلاءِ، وهو على أحسَنِ ما كان، فلمَّا رأَتْه قالت: أيْ بارَكَ اللهُ فيك، هل رأيتَ نبيَّ اللهِ هذا المُبتَلى؟ وواللهِ على ذلك ما رأيتُ أحدًا أشبَهَ به منك إذ كان صَحيحًا! قال: فإنِّي أنا هو! وكان له أندرانِ : أندَرٌ للقَمحِ، وأندَرٌ للشَّعيرِ، فبَعَث اللهُ سحابتَينِ، فلمَّا كانت إحداهما على أندَرِ القَمحِ أفرَغَت فيه الذَّهَبَ حتى فاض، وأفرَغَت الأخرى على أندَرِ الشَّعيرِ الوَرِقَ حتى فاض)) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((بينا أيوبُ يغتَسِلُ عُريانًا، فخَرَّ عليه جرادٌ مِن ذَهَبٍ، فجعل أيوبُ يحتَثي في ثَوبِه، فناداه رَبُّه: يا أيوبُ، ألم أكُنْ أغنَيتُك عمَّا ترى؟ قال: بلى وعِزَّتِك، ولكِنْ لا غِنى بي عن بركَتِك )) .

وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.

أي: وآتَينا أيوبَ أهلَه الذين فقَدَهم، ورَزَقْناه معهم آخرينَ مِثلَ عَدَدِهم زيادةً على ذلك .

كما قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ [ص: 43] .

رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا.

أي: ردَدْنا لأيوبَ أهلَه ومِثلَهم معهم؛ رحمةً منَّا به .

وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ.

أي: وتذكيرًا للذين يَعبُدونَ اللهَ؛ لِيَعتبِروا بقصةِ أيوبَ، ويَصبِروا كما صبَرَ

 

.

كما قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ص: 43] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال تعالى عن أيوبَ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ هذا من بابِ حُسْنِ الأدَبِ في السُّؤالِ والدُّعاءِ، فقولُ القائِلِ لِمَن يُعَظِّمُه ويَرغَبُ إليه: أنا جائِعٌ، أنا مريضٌ- حُسْنُ أدبٍ في السُّؤالِ، وإن كان في قَولِه: أطعِمْني وداوِني ونحوِ ذلك ممَّا هو بصيغةِ الطَّلَبِ- طَلَبٌ جازِمٌ مِن المَسؤولِ؛ فذاك فيه إظهارُ حالِه، وإخبارُه على وَجهِ الذُّلِّ والافتقارِ المتضَمِّنِ لسُؤالِ الحالِ، وهذا فيه الرَّغبةُ التامَّةُ والسؤالُ المحضُ بصيغةِ الطَّلَبِ

.

2- قال اللهُ تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ جَمَعَ أيوبُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في هذا الدُّعاءِ بينَ: حقيقةِ التَّوحيدِ، وإظهارِ الفَقرِ والفاقةِ إلى رَبِّه، ووجودِ طَعْمِ المحبةِ في المُتَمَلَّقِ له، والإقرارِ له بصِفةِ الرَّحمةِ، وأنَّه أرحَمُ الرَّاحمينَ، والتوسُّلِ إليه بصفاتِه سُبحانَه، وشِدَّةِ حاجتِه، وهو فَقرُه، ومتى وَجَدَ المُبتلَى هذا كُشِفَ عنه بَلواه .

3- قال العُلَماءُ: ولم يكُنْ قَولُ أيوبَ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ جَزَعًا؛ لأنَّ الله تعالى قال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا [ص: 44] ، بل كان ذلك دُعاءً منه، والجَزَعُ في الشكوى إلى الخَلقِ لا إلى اللهِ تعالى، والدُّعاءُ لا يُنافي الرِّضا ، ويَعقوبُ عليه السَّلامُ وعَدَ بالصَّبرِ الجَميلِ، فقال فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: 83] ، والنبيُّ إذا وعَدَ لا يُخلِفُ، ثمَّ قال: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86] ؛ فالشَّكوى إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ لا تُنافي الصَّبرَ، وإنَّما ينافي الصَّبرَ شَكوى اللهِ .

4- قولُه تعالى: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ فيه دلالةٌ على أنَّه تعالى فَعَل ذلك لكي يُتفكَّرَ فيه، فيكونَ داعيةً للعابدينَ في الصبرِ والاحتسابِ ، فإنهم إذا ذكروا بلاءَ أيوبَ وصبرَه عليه ومحنتَه له، وهو أفضلُ أهلِ زمانِه، وطَّنوا أنفسَهم على الصبرِ على شدائدِ الدنيا نحوَ ما فعَل أيوبُ، فيكونُ هذا تنبيهًا لهم على إدامةِ العبادةِ، واحتمالِ الضررِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ألْطَفَ أيُّوبُ في السُّؤالِ؛ حيث ذكَرَ نفْسَه بما يُوجِبُ الرَّحمةَ، وذَكَرَ ربَّهُ بغايةِ الرَّحمةِ، ولم يُصرِّحْ بالمطلوبِ، ولم يُعيِّنِ الضُّرَّ الَّذي مَسَّه

.

2- قَولُه تعالى هنا: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، مع قَولِه تعالى في (ص): وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ص: 43] ، فيه الدَّلالةُ الواضِحةُ على أنَّ أصحابَ العُقولِ السَّليمةِ مِن شَوائِبِ الاختِلالِ هم الذين يَعبُدونَ اللهَ وحْدَه ويُطيعونَه، وهذا يؤيِّدُ قولَ مَن قال مِن أهلِ العِلمِ: إنَّ مَن أوصى بشَيءٍ مِن مالِه لأعقَلِ النَّاسِ: أنَّ تلك الوَصيَّةَ تُصرَفُ لأتقَى النَّاسِ، وأشَدِّهم طاعةً لله تعالى؛ لأنَّهم هم أولو الألبابِ، أي: العُقولِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

- التَّعبيرُ بالمَسِّ في قولِه: أَنِّي مَسَّنِيَ حِكايةٌ لِمَا سلَكَهُ أيُّوبُ في دُعائِه مِن الأدَبِ مع اللهِ؛ إذ جعَلَ ما حَلَّ به مِن الضُّرِّ كالمَسِّ الخفيفِ

.

- الألِفُ واللَّامُ في الضُّرُّ للجِنْسِ؛ فتعُمُّ الضُّرَّ في البدَنِ والأهْلِ والمالِ .

2- قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ

- قولُه: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ لمَّا كان ثَناءُ أيُّوبَ تَعريضًا بالدُّعاءِ، فرَّعَ عليه قولَه: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، والسِّينُ والتَّاءُ في فَاسْتَجَبْنَا للمُبالَغةِ في الإجابةِ .

- قولُه: فَكَشَفْنَا مَا بِهِ الكشْفُ مُستعمَلٌ في الإزالةِ السَّريعةِ، وفيه تَشبيهٌ؛ شُبِّهَت إزالةُ الأمراضِ والأضرارِ المُتمكِّنةِ الَّتي يُعْتادُ أنَّها لا تَزولُ إلَّا بطُولٍ، بإزالةِ الغطاءِ عنِ الشَّيءِ في السُّرعةِ .

- الموصولُ في قولِه: مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ مَقصودٌ منه الإبهامُ، ثمَّ تَفسيرُه بـ (مِنْ) البَيانيَّةِ؛ لقصْدِ تَهويلِ ذلك الضُّرِّ؛ لكثرةِ أنواعِه بحيث يَطولُ عَدُّها .

- قولُه:   رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وُصِفَتِ الرَّحمةُ بأنَّها من عندِ اللهِ؛ تَنويهًا بشأْنِها بذِكْرِ العِنديَّةِ الدَّالَّةِ على القُرْبِ المُرادِ به التَّفضيلُ .

- قولُه: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ فيه مِن العُمومِ بحيث صارتِ الجُملةُ تَذييلًا ، وخصَّ العابدينَ بالذكر؛ لأنَّهم يختصُّون بالانتفاعِ بذلك .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، وقال في سُورةِ (ص): وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ص: 43] ، فقال في الأُولى: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ، وفي الثَّانيةِ: رَحْمَةً مِنَّا، وقال في الأُولى: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، وفي الثَّانيةِ: وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ؛ ووجْهُه: أنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ في سُورةِ (الأنبياءِ) عن أيُّوبَ عليه السَّلامُ بأنَّه نادى ربَّه، وشكا إليه ما مَسَّه مِن الضُّرِّ؛ فكأنَّه لمَّا قال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ، قال: مَسَّني مِن عندك يا رَبِّ ما تَعلَمُ، وأنت الأكرَمُ الأرحَمُ، فقال: وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الأنبياء: 84] ، أي: كما كان الضُّرُّ مِن عندنا، كان كشْفُه والرَّحمةُ مكانَه مِن عندنا.

وأمَّا قولُه هنا: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، فالمعنى: فَعَلْنا به ما فَعلناهُ رَحمةً له مِنَّا، وتَذكِرةً لمَن عبَدَ اللهَ بعْدَه بإخلاصٍ منه، فلا يَحُولُ عن حَمْدِه وطاعتِه مع ما يُصَبُّ عليه من شَدائدِ الدُّنيا ومَصائبِها الَّتي يُنزِلُها اللهُ به، بلْ يثبُتُ معها على إدامةِ العبادةِ وإمدادِها بالزِّيادةِ، كما فعَلَه أيُّوبُ عليه السَّلامُ.

وأمَّا في سُورةِ (ص): فإنَّ اللهَ تعالى لمَّا أخبَرَ فيها عنه أنَّه قال: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: 41] ، وشَكا إلى اللهِ تعالى ما يَلحَقُه مِن أذى الشَّيطانِ بوَسوسَتِه إليه، أغاثَهُ اللهُ برَحمةٍ منه مُضافةٍ إليه، مُختصَّةٍ بإرادتهِ، فهذا فرْقُ ما بين قولِه: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الأنبياء: 84] ورَحْمَةً مِنَّا [ص: 43] ، وأيضًا لَمَّا بدَأَ القِصَّةَ بقولِه: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا، ختَمَ بقولِه: مِنَّا؛ لِيكونَ آخِرُ الآيةِ مُلائمًا لأوَّلِ الآيةِ.

وأمَّا قولُه: وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ص: 43] فلِأَنَّ أُولي الألبابِ أعَمُّ من العابدينَ، واستدفاعُ وَساوسِ الشَّيطانِ أعَمُّ من الاستشفاءِ للأبدانِ، فخَصَّ كلَّ آيةٍ بما اقتضاهُ صَدْرُ الكلامِ وتَعريضُ أيُّوبَ عليه السَّلامُ بالسُّؤالِ .

- وفيه وَجْهٌ آخرُ: أنَّه لمَّا ورَدَ في الأنبياءِ تلطُّفُ أيُّوبَ عليه السَّلامُ بقولِه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: ٨٣]، فلمَّا تلطَّفَ في سُؤالِه، ولم يُفصِحْ عليه السَّلامُ تلطُّفًا وتَضرُّعًا بعظيمِ ما أصابَهُ من البَلاءِ إفصاحَهُ في آيةِ (ص) بقولِه: مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: ٤١]، فبُنِيَ كلٌّ من الآيتينِ على ما يُناسِبُه، فقيل جوابًا على عظيمِ تَضرُّعِه وتلطُّفِه في قولِه: مَسَّنِيَ الضُّرُّ ما يُلائِمُ لَطيفَ هذه الشَّكوى، وعلى قولِه: مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ما يُناسِبُ إفصاحَه بهذه الْبَلوى، فقيل بِناءً على الأوَّلِ: فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، وقيل بِناءً على الثَّانيةِ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: ٤٢]، لمَّا وقَعَ ذِكْرُ الشَّيطانِ، وأنَّه السَّببُ في ذلك الامتحانِ، جُووِبَ باستعمالِ سبَبٍ فقيل له: اركُضْ برِجْلِك واغتسِلْ، وذلك يُذهِبُ عنك ما مسَّكَ به الشَّيطانُ. وحين لم يَذكُرْ عليه السَّلامُ واسطةً، جُووِبَ برَفْعِ ما به بغيرِ واسطةِ سبَبٍ، فقيل جوابًا لقولِه: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ. وبُنِي على الأوَّلِ قولُه: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا؛ لتمكُّنِ (عندَ) فيما قصَد، وعلى الثاني: رَحْمَةً مِنَّا؛ إذ ليس موقعُها موقعَ مِنْ عِنْدِنَا. ثم قيل في الأُولَى: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ مناسبةً لما تقدَّم، وقيل في الثانيةِ: لِأُولِي الْأَلْبَابِ مناسبةً أيضًا؛ إذ اعتبارُ أولي الألبابِ يُورثُهم مقامَ العابدينَ، وهو أسنَى مقامٍ، وقد جرَى معَ (كل) مقامٍ ما يناسِبُه

=============

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (85-88)

ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ

غريب الكلمات:

 

نَقْدِرَ عَلَيْهِ: أي: نُضَيِّقَ عليه، مِن قَولِهم: قَدَرْتُ على فُلانٍ: إذا ضَيَّقْتَ عليه، وقيل: نَقْدِرُ: بمعنى نُقَدِّرُ، والمعنى لن نُقَدِّرَ عليه ما قَدَّرْنا مِن كَونِه في بطنِ الحوتِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: واذكُرْ -يا محمَّدُ- إسماعيلَ وإدريسَ وذا الكِفْلِ، كُلُّ هؤلاء من الصَّابرينَ، فاستحَقُّوا الذِّكرَ بالثَّناءِ الجَميلِ، وأدخَلْناهم في رَحمَتِنا؛ إنَّهم من الصَّالحينَ الجامِعينَ لخِصالِ الخَيرِ.

واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- صاحِبَ الحُوتِ؛ يُونُسَ عليه السَّلامُ، إذ خرَج مِن قَومِه غاضِبًا عليهم؛ لعدَمِ إيمانِهم، فظَنَّ يُونُسُ أنَّنا لن نُعاقِبَه هذه العُقوبةَ، فنُضَيِّقَ عليه بحَبسِه في بَطنِ الحُوتِ، فنادى رَبَّه في الظُلُماتِ تائبًا مُعتَرِفًا بظُلمِه، قائلًا: لا إلهَ إلَّا أنت سُبحانَك، إنِّي كنتُ مِن الظَّالِمينَ. فاستجَبْنا له دُعاءَه، وخلَّصْناه مِن الغَمِّ والشِّدَّةِ، وكما نجَّيْنا يونُسَ مِن غَمِّه حين دَعانا، كذلك نُنْجِي المؤمِنينَ مِن كُرَبِهم وهمومِهم.

تفسير الآيات:

 

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى صبرَ أيوبَ عليه السَّلامُ وانقطاعَه إليه؛ أتبَعَه بذِكرِ هؤلاء؛ فإنَّهم كانوا أيضًا مِن الصَّابرينَ على الشَّدائِدِ والمِحَنِ والعبادةِ

.

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ.

أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- إسماعيلَ بنَ إبراهيمَ، وإدريسَ، وذا الكِفْلِ .

كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ.

أي: كلٌّ منهم مِن الصَّابرينَ على الابتلاءاتِ، وعلى فِعلِ الطَّاعاتِ، واجتنابِ السَّيِّئاتِ .

وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86).

وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا.

أي: وأدخَلْنا إسماعيلَ وإدريسَ وذا الكفلِ في رَحمتِنا .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((احتَجَّت النَّارُ والجَنَّةُ، فقالت هذه: يَدخُلُني الجبَّارونَ والمتكَبِّرون، وقالت هذه: يدخُلُني الضُّعَفاءُ والمساكينُ، فقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ لهذه: أنتِ عذابي أعَذِّبُ بكِ مَن أشاءُ -وربما قال: أصيبُ بكِ مَن أشاءُ، وقال لهذه: أنتِ رحمتي أرحَمُ بكِ من أشاءُ، ولكُلِّ واحدةٍ منكما مِلؤُها )) .

إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.

أي: أدخَلْناهم في رَحمَتِنا؛ لأنَّهم مِنَ الكامِلينَ في الصَّلاحِ، الجامِعينَ لخِصالِ الخَيرِ، المُطِيعينَ لله .

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87).

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا.

أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- يُونُسَ صاحِبَ الحُوتِ حينَ ذَهَب غاضِبًا على قَومِه مِن أجْلِ رَبِّه؛ لِكُفرِهم به، وعِصيانِهم له، بعدَما دعاهم إليه .

فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ.

أي: فظَنَّ يُونُسُ أنَّنا لن نُعاقِبَه هذه العُقوبةَ، فنُضَيِّقَ عليه بحَبسِه في بَطنِ الحُوتِ .

فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.

أي: فنادَى يونُسُ رَبَّه وهو في الظُّلُماتِ فقال: لا إلهَ إلَّا أنتَ، أُنَزِّهُك عن جَميعِ النَّقائِصِ والعُيوبِ، إنِّي كُنتُ ظالِمًا لِنَفسي بمَعصِيتِك حينَ خَرَجْتُ مِن قَومي .

كما قال تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات: 139 - 144] .

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88).

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ.

أي: فأجَبْنا دُعاءَ يُونُسَ، ونَجَّيْناه مِن الغَمِّ والشِّدَّةِ التي وقَعَ فيها، فأخرَجْناه مِن بَطنِ الحُوتِ .

كما قال تعالى: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات: 145، 146].

وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ.

أي: وكما نجَّيْنا يونُسَ مِن غَمِّه حين دَعانا، كذلك نُنْجِي المؤمِنينَ مِن غُمومِهم وكُرَبِهم إذا دَعَونا بإخلاصٍ .

كما قال تعالى: كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 103].

وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دَعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا وهو في بَطنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ؛ فإنَّه لم يَدْعُ بها رجُلٌ مُسلِمٌ في شَيءٍ قَطُّ إلَّا استجابَ اللهُ له ))

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ دَعوةُ ذي النُّونِ فيها مِن كَمالِ التَّوحيدِ والتَّنزيهِ للرَّبِّ تعالى، واعتِرافِ العَبدِ بظُلمِه وذَنبِه، ما هو مِن أبلَغِ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ، وأبلَغِ الوسائِلِ إلى اللهِ سُبحانَه في قَضاءِ الحوائِجِ؛ فإنَّ التَّوحيدَ والتَّنزيهَ يتضَمَّنانِ إثباتَ كُلِّ كَمالٍ لله، وسَلْبَ كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ وتَمثيلٍ عنه- والاعتِرافَ بالظُّلمِ يتضَمَّنُ إيمانَ العَبدِ بالشَّرعِ والثَّوابِ والعِقابِ، ويُوجِبُ انكِسارَه ورُجوعَه إلى اللهِ، واستقالتَه عَثرَتَه، والاعترافَ بعُبوديَّتِه، وافتقارَه إلى رَبِّه، فهاهنا أربعةُ أمورٍ قد وقع التوسُّلُ بها: التَّوحيدُ، والتَّنزيهُ، والعُبوديَّةُ، والاعتِرافُ

.

2- في قَولِه تعالى عن يونُسَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ دليلٌ على أنَّ التَّهليلَ والتَّسبيحَ يَجْليانِ الغُمومَ، ويُنجِيانِ مِن الكرْبِ والمصائِبِ، فحقيقٌ على مَن آمَنَ بكتابِ اللهِ أنْ يجعَلَها ملجأً في شَدائِدِه، ومَطيَّةً في رَخائِه؛ ثِقةً بما وَعدَ اللهُ المؤمنينَ مِن إلحاقِهم بذي النُّونِ في ذلك؛ حيث يقولُ: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ .

3- في قَولِه تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ترغيبٌ للمُؤمِنينَ في الإيمانِ؛ بالثَّباتِ عليه، والازديادِ منه؛ إذْ عَلِموا نجاةَ المُؤمِنينَ السَّابِقينَ . وهو وَعدٌ وبِشارةٌ لكُلِّ مُؤمِنٍ وقَعَ في شِدَّةٍ وغَمٍّ أنَّ اللهَ تعالى سيُنجيه منها، ويَكشِفُ عنه ويخَفِّفُ؛ لإيمانِه، كما فعَل بيُونسَ عليه السَّلامُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ جمَع هؤلاءِ الثَّلاثةَ في سِلكٍ واحدٍ؛ لاشتراكِهم في خَصيصةِ الصَّبرِ، كما أشار إليه قولُه تعالى: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ، جرَى ذلك لمناسبةِ ذكرِ المثلِ الأشهرِ في الصبرِ، وهو أيوبُ عليه السلامُ

.

2- في قَولِه تعالى عن يونُسَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ اعتِرافٌ بالذَّنبِ، وهو يتضَمَّنُ طَلَبَ المَغفِرةِ؛ فإنَّ الطَّالِبَ السَّائِلَ تارةً يَسأَلُ بصيغةِ الطَّلَبِ، وتارةً يَسألُ بصيغةِ الخَبَرِ: إمَّا بوَصفِ حالِه، وإمَّا بوَصفِ حالِ المَسؤولِ، وإمَّا بوَصفِ الحالَينِ؛ كقَولِ نُوحٍ عليه السَّلامُ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود: 47] ، فهذا ليس صيغةَ طَلَبٍ، وإنَّما هو إخبارٌ عن اللهِ أنَّه إنْ لم يغفِرْ له ويرحَمْه خَسِرَ، ولكِنَّ هذا الخبَرَ يتضَمَّنُ سُؤالَ المَغفِرةِ، وكذلك قَولُ آدَمَ عليه السَّلامُ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] هو مِن هذا البابِ، ومِن ذلك قَولُ موسى عليه السَّلامُ: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] ؛ فإنَّ هذا وَصفٌ لحالِه بأنَّه فَقيرٌ إلى ما أنزَلَ اللهُ إليه مِنَ الخيرِ، وهو متضَمِّنٌ لِسُؤالِ اللهِ إنزالَ الخَيرِ إليه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ

- جُملةُ: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ استئنافٌ وقَعَ جَوابًا عن سُؤالٍ نشَأَ مِن الأمْرِ بذِكْرِهم

.

2- قوله تعالى: وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ

- قَوْله: وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا أبلغ من قَوْله: (ورحمناهم)؛ لِأَن قَوْله: وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا يَقْتَضي أنَّهم غُمِروا بالرَّحْمَةِ، وقَولُه: (ورحمناهم) يَقْتَضِي أنَّه أصابَهم رحمتَه .

- جُملةُ: إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ تَعليلٌ لإدخالِهم في الرَّحمةِ، وتَذييلٌ للكلامِ يُفِيدُ أنَّ تلك سُنَّةُ اللهِ مع جَميعِ الصَّالحينَ .

3- قوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

- قولُه: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ... فيه إيجازٌ بالحَذْفِ، أي: فكان ما كان مِن المُساهَمةِ والْتِقامِ الحوتِ، فنادَى... إلخ .

- ولَفظةُ الظُّلُمَاتِ جاءتْ جمْعًا؛ قيل: لشِدَّةِ تَكاثُفِها، فكأنَّها ظُلمةٌ مع ظُلمةٍ . وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.

- وجُملةُ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ تَفسيريَّةٌ؛ لأنَّه سبَقَ قولُه: فَنَادَى .

- قولُه: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ مُبالَغةٌ في اعترافِه بظُلْمِ نَفْسِه؛ حيث أسنَدَ إليه فِعْلَ الكونِ الدَّالَّ على رُسوخِ الوَصْفِ، وجعَلَ الخبَرَ أنَّه واحدٌ مِن فَريقِ الظَّالمينَ، وهو أدَلُّ على أرْسخيَّةِ الوَصْفِ. وتَقْديمُه الاعترافَ بالتَّوحيدِ مع التَّسبيحِ كَنَّى به عن انفرادِ اللهِ تعالى بالتَّدبيرِ، وقُدرتِه على كلِّ شَيءٍ .

4- قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ

- السِّينُ والتَّاءُ في فَاسْتَجَبْنَا لَهُ للمُبالَغةِ في الإجابةِ .

- قولُه: وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ تَذييلٌ، والإشارةُ بـ (كَذَلِكَ) إلى الإنجاءِ الَّذي أنْجَى به يُونسَ، أي: مثْلَ ذلك الإنجاءِ نُنْجِي المُؤمِنينَ. وفي هذا تَعريضٌ للمُشرِكينَ من العرَبِ بأنَّ اللهَ مُنْجِي المُؤمِنينَ من الغَمِّ والنَّكدِ الَّذي يُلاقونَه من سُوءِ مُعامَلةِ المُشرِكين إيَّاهم في بِلادِهم

=============

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيتان (89-90)

ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ

غريب الكلمات:

 

رَغَبًا وَرَهَبًا: أي: راغِبينَ في الجنَّةِ، وخائِفينَ مِن النَّارِ، وأصلُ (رغب): يدُلُّ على طَلَبٍ لِشَيءٍ. وأصلُ (رهب): يدُلُّ على خَوفٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ اللهُ تعالى: واذكُرْ -يا محمَّدُ- زكريَّا حين دعا رَبَّه قائِلًا: رَبِّ، لا تترُكْني وَحيدًا لا عَقِبَ لي، وهَبْ لي وارِثًا يقومُ بأمرِ الدِّينِ في النَّاسِ مِن بَعدي، وأنت خَيرُ الباقينَ وخَيرُ مَن يخلُفُني بخيرٍ. فاستجَبْنا له دُعاءَه، ووهَبْنا له ولَدًا اسمُه يَحيى، وجعَلْنا زوجَتَه وَلُودًا صالحةً للحَملِ والولادةِ؛ إنَّ زكريَّا وزَوجَه ويحيَى كانوا يُبادِرونَ إلى فِعلِ الطَّاعاتِ وكُلِّ خَيرٍ، ويَدْعُونَنا راغِبينَ فيما عِندَنا، خائِفينَ مِن عذابِنا، وكانوا لنا خاضِعينَ مُتواضِعينَ.

تفسير الآيتين:

 

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان حاصِلُ أمرِ يونُسَ عليه السَّلامُ أنَّه خَرَج مِن بَطنٍ لم يُعهَدِ الخُروجُ مِن مِثلِه، عَطَف عليه قِصَّةَ زكريَّا عليه السَّلامُ في هِبَتِه له ولَدًا مِن بَطنٍ لم يُعهَدِ الحَملُ مِن مِثلِه، في العُقمِ واليَأسِ

.

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا.

أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- زكريَّا حينَ نادَى رَبَّه، فقال: رَبِّ، لا تترُكْني وَحيدًا بلا وَلَدٍ .

كما قال تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم: 2 - 6] .

وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ.

أي: فارزُقْني وارِثًا مِن نَسلي يَقومُ بالدِّينِ مِن بَعدي، وأنت خيرُ الباقينَ بعدَ مَوتِ العبادِ، وخَيرُ مَن يخلُفُني بخَيرٍ، وأنا أعلمُ أنَّك لن تُضَيِّعَ دينَك، ولكِنْ لا تَقطَعْ فَضيلةَ القيامِ بأمرِ الدِّينِ وهِبةِ العِلمِ والحِكمةِ عَن عَقِبي .

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90).

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى.

أي: فاستَجَبْنا لزكريَّا دُعاءَه، ورَزَقْناه ولَدًا اسمُه يحيى .

كما قال تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم: 7] .

وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ.

أي: وأصلَحْنا لزكريَّا امرأتَه العقيمَ، فجعَلْناها وَلودًا صالِحةً للحَملِ .

إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.

أي: إنَّ زكريَّا وزَوجَه ويحيَى كانوا يُبادِرونَ إلى فِعلِ الطَّاعاتِ، وما يُقرِّبُهم إلينا .

وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا.

أي: وكانوا يَدْعُوننا ؛ رَغبةً منهم في ثوابِ اللهِ ورَحمتِه، ورَهبةً مِن عذابِه وغَضَبِه .

وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ.

أي: وكانوا لنا مُتواضِعينَ خاضِعينَ، مُتذَلِّلينَ لا يَستكبِرونَ عن عبادتِنا ودُعائِنا، قد انكَسَرت قلوبُهم لله، وسكَنَت عن الالتِفاتِ إلى غَيرِه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ الله تعالى: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ بَعدَما كانت عاقِرًا، لا يَصلُحُ رَحِمُها للوِلادةِ، فأصلَحَ اللهُ رَحِمَها للحَملِ؛ لأجْلِ نَبيِّه زكريَّا، وهذا من فوائدِ الجَليسِ والقَرينِ الصَّالحِ؛ أنَّه مُبارَكٌ على قَرينِه

.

2- قال تعالى: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا فهُم يَدْعونَ الله رغبةً فيما عندَه، وطَمَعًا في ثوابِه، معَ خوفِهم مِن عقابِه وآثارِ ذُنوبِهم، والمؤمِنُ ينبغي أن يسعى إلى الله تعالى بين الخَوفِ والرَّجاءِ، ويُغَلِّب الرَّجاءَ في جانِبِ الطَّاعةِ لِيَنشطَ عليها ويؤَمِّلَ قَبولَها، ويُغَلِّب الخَوفَ إذا هَمَّ بالمعصيةِ لِيَهرَبَ منها، وينجوَ مِن عِقابِها .

3- الدِّينُ كُلُّه رَغبةٌ ورَهبةٌ؛ فالمؤمِنُ هو الرَّاغِبُ الرَّاهِبُ، قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا، وفي الدُّعاءِ عند النَّومِ: ((اللهُمَّ أسلَمْتُ نَفسي إليك، ووجَّهتُ وَجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأتُ ظَهري إليك؛ رَغبةً ورَهبةً إليك )) ، فلا تجِدُ المؤمِنَ أبدًا إلَّا راغِبًا وراهِبًا، والرَّغبةُ والرَّهبةُ لا تقومُ إلَّا على ساقِ الصَّبرِ؛ فرَهبتُه تَحمِلُه على الصَّبرِ، ورَغبتُه تقودُه إلى الشُّكرِ .

4- مِن أنواعِ العِباداتِ التي يَظهَرُ فيها الذُّلُّ والخُشوعُ لله عزَّ وجَلَّ: الدُّعاءُ؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ، فمِمَّا يَظهَرُ فيه الذُّلُّ مِنَ الدُّعاءِ: رَفْعُ اليَدينِ، وافتقارُ القَلبِ في الدُّعاءِ، وانكِسارُه لله عزَّ وجَلَّ، واستِشعارُه شِدَّةَ الفاقةِ إليه والحاجةِ، وإظهارُ الذُّلِّ باللِّسانِ في نَفسِ السُّؤالِ، والدُّعاءُ والإلحاحُ فيه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ يدُلُّ على أنَّ (الواو) لا تُفيدُ التَّرتيبَ؛ لأنَّ إصلاحَ الزَّوجِ مُقَدَّمٌ على هِبةِ الوَلَدِ، مع أنَّه تعالى أخَّرَه في اللَّفظِ

.

2- كان أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِي اللهُ عنه يقولُ في خُطبتِه: (أمَّا بَعدُ، فإنِّي أُوصيكم بتَقوى اللهِ، وأن تُثْنوا عليه بما هو أهلُه، وأن تَخلِطوا الرَّغبةَ بالرَّهبةِ، وتَجمَعوا الإلحافَ بالمسألةِ؛ فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أثنى على زكريَّا وأهلِ بَيتِه، فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) .

3- الصُّوفيَّةُ بَعضُهم أو كثيرٌ منهم يُبالِغونَ في تعظيمِ مَقامِ المحبَّةِ، ولا يُعَظِّمونَ مَقامَ الرَّجاءِ والخَوفِ، بل ربَّما استَنقَصوا مقامَ الرَّجاءِ والخَوفِ، وهذا من أغلاطِهم، كما يُروى عن بَعضِهم قَولُه: (أنا لا أعبدُ اللهَ حُبًّا ورَغبَةً في جنَّتِه، ولا خَوفًا مِن نارِه)! بمعنى: أنَّه لا يَعبُدُه إلَّا بدافِعِ الحبِّ فقط، وهذا غَلَطٌ؛ فالله تعالى أمَرَ بخَوفِه ورجائِه، وأثنى على أوليائِه بالخَوفِ والرَّجاءِ، فقال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ

- جُملةُ: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا مُبيِّنةٌ لجُملةِ: نَادَى رَبَّهُ، وأطلَقَ الفَرْدَ على مَن لا ولَدَ له؛ تَشبيهًا له بالمُنفرِدِ الَّذي لا قَرينَ له، فشَبَّهَ مَن لا ولَدَ له بالفَرْدِ؛ لأنَّ الولَدَ يُصَيِّرُ أباهُ كالشَّفعِ؛ لأنَّه كجُزءٍ منه

.

- قولُه: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ثَناءٌ لتَمهيدِ الإجابةِ، أي: أنت الوارِثُ الحقُّ؛ فاقْضِ عليَّ مِن صِفَتِك العَلِيَّةِ شيئًا، ودَلَّ ذِكْرُ ذلك على أنَّه سأَلَ الولَدَ لأجْلِ أنْ يَرِثَه كما في آيةِ سُورةِ (مَريمَ): يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ [مريم: 6] ، وحُذِفَت هاتِه الجُملةُ؛ لدَلالةِ المَحْكيِّ هنا عليها .

2- قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ

- قولُه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ تَعليلٌ لِمَا فُصِّلَ مِن فُنونِ إحسانِه تعالى المُتعلِّقةِ بالأنبياءِ المَذْكورينَ، أي: كانوا يُبادِرونَ في وُجوهِ الخيراتِ مع ثَباتِهم واستقرارِهم في أصْلِ الخيرِ، وهو السِّرُّ في إيثارِ كَلمةِ (فِي) على كَلمةِ (إلى) المُشعِرةِ بخِلافِ المقصودِ، مِن كَونِهم خارِجينَ عن أصْلِ الخَيراتِ مُتوجِّهينَ إليها .

- وحَرْفُ التَّأكيدِ (إنَّ) في قولِه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ مُفِيدٌ مَعنى التَّعليلِ والتَّسبُّبِ، وأفاد فِعْلُ الكَونِ أنَّ ذلك كان دأْبَهم وهِجِّيراهم .

- قولُه: رَغَبًا وَرَهَبًا وَصْفٌ لمَصدرِ (يَدْعُونَنَا)؛ لبَيانِ نَوعِ الدُّعاءِ بما هو أعَمُّ في جِنْسِه، أو يُقدَّرُ مُضافٌ، أي: ذَوي رغَبٍ ورهَبٍ؛ فيكونُ مِن إقامةِ المُضافِ إليه مُقامَه، فأخَذَ إعرابَه .

- وذكَرَ فِعْلَ الكَونِ أيضًا في قولِه تعالى: وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ؛ لإفادةِ أنَّ ذلك كان دأْبَهم وهِجِّيراهم

=============

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (91-94)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ

غريب الكلمات :

 

وَتَقَطَّعُوا أي: اختَلَفوا، وتفَرَّقوا، وأصلُ (قطع): يدُلُّ على صَرمٍ، وإبانةِ شيءٍ مِن شيءٍ

.

فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ: أي: لاجحودَ لعملِه، ولا تضييعَ لجزائِه، وأصلُ (كفر): يدلُّ على السَّترِ والتَّغطيةِ، والسعيُ: المشيُ السريعُ، وأكثرُ ما يُستعمَلُ في الأفعالِ المحمودةِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ

قَولُه: أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً: أُمَّتُكُمْ خبَرُ لـ إِنَّ، ونُصِبَ أُمَّةً على الحالِ من أُمَّتُكُمْ، أو نُصِبَ على البدَلِ مِن هَذِهِ، فيكونُ قد فُصِلَ بالخبَرِ بين البَدَلِ والمُبدَلِ منه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ اللهُ تعالى: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- مَريمَ التي حَفِظَت فَرْجَها مِنَ الحَرامِ، فأرسلَ اللهُ إليها جِبريلَ عليه السَّلامُ، فنفخَ في جَيبِ قَميصِها، فوصَلَت النَّفخةُ إلى فَرجِها، فحَمَلت بعِيسى عليه السَّلامُ، وجعَلها الله هي وابنَها علامةً للناسِ تدلُّهم على قُدرتِه.

إنَّ مِلَّةَ الإسلامِ أيُّها الناسُ هي مِلَّتُكم الَّتي يَجِبُ أن تكونوا عليها لا تنحرِفونَ عنها، مِلَّةً واحِدَةً غيرَ مختلفةٍ. واللهُ سُبحانَه وتعالى ربُّكم فاعبُدوه -أيُّها النَّاسُ- وَحْدَه لا شَريكَ له. لكِنَّ النَّاسَ تفرَّقوا في الدِّينِ شِيَعًا وأحزابًا، وكُلُّهم راجِعونَ إلينا ومُحاسَبونَ على ما فَعَلوا. فمَن عَمِلَ مِن صالحِ الأعمالِ طاعةً لله وعبادةً له وهو مُؤمِنٌ، فلا يُضِيعُ اللهُ عَمَلَه ولا يُبطِلُه، بل يُثيبُه عليه يومَ القيامةِ، وإنَّا نكتُبُ أعمالَه الصَّالِحةَ كُلَّها، وسيَجِدُ ما عَمِلَه في كتابِه يومَ يُبعَثُ بعدَ مَوتِه.

تفسير الآيات:

 

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكَرَ أنَّه خَرَق العادةَ في إبداعِ يحيى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بينَ والِدَينِ لا يُولَدُ لِمِثلِهما، تلاه بإبداعِ ابنِ خالتِه عيسى عليه السَّلامُ الذي هو عَلَمٌ للسَّاعةِ، على حالٍ أغرَبَ مِن حالِه، فأخرَجَه مِن أُنثى بلا ذَكَرٍ

، فقال تعالى:

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا.

أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- مَريمَ التي حَفِظَت فَرْجَها من الحَرامِ، فأمَرْنا جبريلَ أن يَنفُخَ الرُّوحَ في جَيبِ درعِها ، فبَلَغَت النَّفخةُ فَرْجَها، فحَمَلت بعِيسى .

كما قال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم: 12] .

وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ.

أي: وجعَلْنا مَريمَ وابنَها عيسى عَلامةً عَظيمةً للنَّاسِ تدُلُّهم على اللهِ، وعلى قُدرتِه وعَظيمِ سُلْطانِه .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً [المؤمنون: 50] .

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92).

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً.

أي: إنَّ مِلَّةَ الإسلامِ أيُّها الناسُ هي مِلَّتُكم الَّتي يَجِبُ أن تُحافِظوا على حدودِها، وتُراعوا حقوقَها، وأنْ تكونوا عليها، لا تنحرِفونَ عنها، مِلَّةً واحِدَةً، غيرَ مختلفةٍ .

وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.

أي: وأنا -لا غيري- مَنْ خلَقْتُكم وربَّيتُكم بنِعَمي، فما دام أنَّ الرَّبَّ واحِدٌ والدِّينَ واحِدٌ، فأفرِدُوني بالعِبادةِ، ولا تُشرِكوا بي، ولا تختَلِفوا في ذلك .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 51- 52] .

وقال سُبحانَه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] .

وعن أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أنا أَولى النَّاسِ بعِيسى ابنِ مَريمَ في الأُولى والآخرةِ. قالوا: كيفَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: الأنبياءُ إِخوةٌ مِن عَلَّاتٍ ، وأمَّهاتُهم شَتَّى، ودينُهم واحِدٌ، فليس بيننا نبيٌّ )) .

وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93).

وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ.

أي: وتفرَّق النَّاسُ في دينِهم الذي شرَعَه اللهُ لهم، فصاروا فيه فِرَقًا وأحزابًا شَتَّى .

كما قال تعالى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 53] .

كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ.

أي: كُلُّ أولئك المتفَرِّقينَ المُختَلِفينَ في دينِ اللهِ صائِرونَ إلينا يَومَ القيامةِ، فنحكُمُ بينهم ونُجازيهم على أعمالِهم؛ إنْ خَيرًا فخَيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] .

فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94).

فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ.

أي: فمَن يعمَلْ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ وهو مُؤمِنٌ باللهِ ورُسُلِه، والحالُ أنَّه مُوَحِّدٌ لله تعالى مُخلِصٌ له في عَمَلِه؛ فلن يجحَدَ اللهُ عَمَلَه ولن يُضِيعَه، بل يُثيبُه عليه يومَ القيامةِ .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 30، 31].

وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ.

أي: ونحن نكتُبُ أعمالَه الصَّالِحةَ كُلَّها، صَغيرَها وكَبيرَها، لا نَترُكُ منها شَيئًا، وما كتَبْناه غيرُ ضائعٍ، بل هو باقٍ لصاحِبِه؛ لِنُطلِعَه عليه يومَ الجَزاءِ، ونجازيَه على ما قدَّمَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُه تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فيه حَثٌّ على الاجتِماعِ، وتجنُّبِ الاختِلافِ

، ولا شَكَّ أنَّ تحَزُّبَ المُسلِمينَ إلى أحزابٍ مُتَفَرِّقةٍ مُتناحِرةٍ مُخالِفٌ لِما تقتَضيه الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ مِن الائتِلافِ والاتِّفاقِ، موافِقٌ لِما يريدُه الشَّيطانُ مِن التَّحريشِ بينَ المُسلِمينَ، وإيقاعِ العَداوةِ والبَغضاءِ، وصَدِّهم عن ذِكرِ اللهِ وعن الصَّلاةِ؛ قال الله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وفي الآيةِ الأُخرى: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [المؤمنون: 52] ، وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] ، وقال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] .

2- المرادُ بقولِه تعالى: وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ترغيبُ العبادِ في التمسُّكِ بطاعةِ الله تعالى

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا أنَّ مَن قذَف مريمَ -والعياذُ بالله- فإنَّه يُقتَلُ؛ لأنَّه حتى لو فرَضْنا أنَّه ليس مِن بابِ القَذفِ؛ فهو مِن بابِ تكذيبِ القرآنِ

.

2- في قولِه تعالى: أُمَّةً وَاحِدَةً أي: دينًا واحدًا -وهو الإسلامُ- غيرَ مختلفٍ؛ فأبطَل ما سِوَى الإسلامِ مِن الأديانِ .

3- قول الله تعالى: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، لما كان المقصودُ تعيينَ المرادِ مِن غيرِ لبسٍ، عدَل عن صيغةِ العظمةِ، فقال: وَأَنَا رَبُّكُمْ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ

- قولُه: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا عبَّرَ عن مَريمَ عليها السَّلامُ بالموصولِ؛ دَلالةً على أنَّها قدِ اشتُهِرَتْ بمَضمونِ الصِّلةِ، وأيضًا لِمَا في الصِّلةِ مِن معنى تَسفيهِ اليهودِ الَّذين تَقوَّلوا عنها إفْكًا وزُورًا، ولِيُبْنَى على تلك الصِّلةِ ما تَفرَّعَ عليها مِن قولِه تعالى: فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا الَّذي هو في حُكْمِ الصَّلةِ أيضًا، فكأنَّه قِيلَ: والَّتي نَفَخْنا فيها من رُوحِنا؛ لأنَّ كِلَا الأمْرينِ مُوجِبٌ ثَناءً

.

- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ، وقال في سُورةِ (التَّحريمِ): وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم: 12] ، ففي الأُولى فِيهَا، وفي الثَّانيةِ فِيهِ، فوقَعَ اختلافٌ في الضَّميرينِ مع اتِّحادِ المعنى؛ ووَجْهُه: أنَّه لمَّا كان القصْدُ في سُورةِ (الأنبياءِ) إلى الإخبارِ عن حالِ مَريمَ وابْنِها، وأنَّهما جُعِلَا آيةً للنَّاسِ، وكان النَّفخُ فيها ممَّا جعَلَها حامِلًا، والحامِلُ صِفَةٌ للجُملةِ؛ فلمَّا كان القصْدُ التَّعجُّبَ مِن حالَيْهما، وأنَّها بالنَّفخِ صارت حامِلًا، رُدَّ الضَّميرُ إلى جُمْلَتِها؛ إذ كان النَّفخُ في فَرْجِها نَفْخًا فيها، أوجَبَ القصْدُ إلى وَصْفِها بعْدَ النَّفخِ بصِفَةٍ تَرجِعُ إلى جُمْلَتِها دونَ بَعْضِها، كان قولُه: فَنَفَخْنَا فِيهَا [الأنبياء: 91] أَولى مِن قولِه: فَنَفَخْنَا فِيهِ [التحريم: 12] . وأمَّا قولُه في سُورةِ (التَّحريمِ): فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم: 12] ، فكان الكلامُ مقصورًا على ذكرِ إِحصانِها، وتصديقِها بكلماتِ ربِّها، وكان النفخُ أَصاب فرجَها، وهو مذكَّر، فجاء اللَّفظُ على أصْلِه، والمعنى: نَفَخْنا في فَرْجِها، ولم يُسَقِ الكلامُ إلى ما سِيقَ إليه في سُورةِ (الأنبياءِ) مِن وَصْفِ حالِها بعْدَ النَّفخِ؛ فاخْتَلَفا لذلك . وقيل غيرُ ذلك .

- والظَّرفيَّةُ المُفادَةُ بـ (في) كَونُ مَريمَ ظَرْفًا لحُلولِ الرُّوحِ المنفوخِ فيها؛ إذ كانت وِعاءَهُ؛ ولذلك قيل: فِيهَا ولم يُقَلْ: (فِيهِ)؛ للإشارةِ إلى أنَّ الحَمْلَ الَّذي كُوِّنَ في رَحِمِها حَمْلٌ مِن غيرِ الطَّريقِ المُعتادِ، كأنَّه قِيلَ: فنفَخْنا في بَطْنِها، وذلك أعرَقُ في مُخالَفةِ العادةِ؛ لأنَّ خَرْقَ العادةِ تَقْوى دَلالتُه بمِقْدارِ ما يَضمحِلُّ فيه مِن الوسائلِ المُعتادةِ .

- ومن المُناسَبةِ أيضًا: ذِكْرُ مَريمَ وابْنِها عليهما السَّلامُ في سُورةِ (الأنبياءِ)، وذِكْرُ مَريمَ فقطْ في سُورةِ (التَّحريمِ)؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ آيةَ (الأنبياءِ) ورَدَت معطوفةً على آياتٍ تَضمَّنْت ذِكْرَ جُملةٍ من الرُّسلِ، فلمَّا ذُكِر هؤلاء الرُّسلُ عليهم السَّلامُ بخَصائصَ ومِنَحٍ، ناسَبَ ذلك ذِكْرُ مَريمَ وابْنِها بما مُنِحَا عليهما السَّلامُ. وأمَّا آيةُ (التَّحريمِ) فمَقصودٌ فيها ذِكْرُ عَظيمتينِ جَليلتينِ يُبَيَّنُ بهما حُكْمُ سَبقيَّةِ القَدَرِ بالإيمانِ والكُفْرِ، وهما قَضيَّةُ امرأتيْ نُوحٍ ولُوطٍ، وأنَّ انضواءَهما إلى هذينِ النَّبيَّينِ الكَريمينِ عليهما السَّلامُ انضواءُ الزَّوجيَّةِ الَّتي لا أقرَبَ منها، ومع ذلك لم يُغْنِيا عنهما مِن اللهِ شَيئًا، وقِصَّةُ امرأةِ فِرْعونَ، وقدِ انضوتْ إلى أكفَرِ كافرٍ، فلم يَضُرَّها كُفْرُه، ثمَّ ذُكِرَت مَريمُ عليها السَّلامُ؛ لِلالتقاءِ في الاختصاصِ وسَبقيَّةِ السَّعادةِ، ولم يَدْعُ داعٍ إلى ذِكْرِ ابْنِها، فلا وَجْهَ لذِكْرِه هنا، وأمَّا آيةُ (الأنبياءِ) فلِذِكْرِه هناك أوضَحُ حاملٍ؛ فجاء كلٌّ على ما يَجِبُ، ولا يُمكِنُ فيه عَكْسُ الواردِ .

- قولُه: فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا إضافةُ الرُّوحِ إلى اللهِ تعالى إضافةُ تَشريفٍ، حيث أسنَدَ النَّفخَ إليه تعالى لمَّا كان ذلك مِن جِبْريلَ بأْمِرِه تعالى تَشريفًا؛ فإنَّه رُوحٌ مَبعوثٌ مِن لَدُنِ اللهِ تعالى بدُونِ وَساطةِ التَّطوُّراتِ الحيوانيَّةِ للتَّكوينِ النَّسْليِّ .

- قولُه: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ قَدَّمَها على الابنِ لَمَّا كان السِّياقُ في ذكرِها في قولِه: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا، ولذلك قَدَّمَ الابنَ في قولِه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وحسَّنَه تَقَدُّمُ موسَى في الآيةِ قبلَه .

- قولُه: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ عبَّرَ عنهما بـ آَيَةً بالإفرادِ؛ لأنَّ حالَهما لمَجموعِهما آيةٌ واحدةٌ؛ وهي وِلادتُها إيَّاهُ مِن غيرِ فَحْلٍ. وقيل: أُرِيدَ بالآيةِ الجِنْسُ الشَّاملُ لِمَا لكلِّ واحدٍ منهما مِن الآياتِ المُستقلَّةِ. وقيل: المعنى: وجعَلْناها آيةً، وابْنَها آيةً، فحُذِفَتِ الأُولى؛ لدَلالةِ الثَّانيةِ عليها .

2- قولُه تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ابتداءُ كلامٍ مَحْكِيٍّ بقَولٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه السِّياقُ، والخِطابُ للأنبياءِ المَذْكورينَ في الآياتِ السَّابقةِ -على قولٍ في التفسير-، والتَّقديرُ: قائلينَ لهم: إنَّ هذه أُمَّتُكم... إلى آخِرِه، والتَّأكيدُ بـ  إِنَّ على هذا الوَجْهِ؛ لمُجرَّدِ الاهتمامِ بالخبَرِ؛ لِيتلقَّاهُ الأنبياءُ بقُوَّةِ عَزْمٍ، أو رُوعِيَ فيه حالُ الأُمَمِ الَّذين يَبلُغُهم ذلك. ويَجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ استئنافًا، والخِطابُ لأُمَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: إنَّ هذه المِلَّةَ -وهي الإسلامُ- هي مِلَّةٌ واحدةٌ لسائرِ الرُّسلِ، والتَّأكيدُ على هذا لِرَدِّ إنْكارِ مَن يُنكِرُ ذلك مِثْلُ المُشرِكينَ .

- وتَعريفُ الإضافةِ في قولِه: أُمَّتُكُمْ لِلاختصاصِ، أي: هذه المِلَّةُ مُتعيِّنةٌ لكم؛ فلا مَجالَ للانحرافِ عنها .

- قولُه: أُمَّةً وَاحِدَةً حالٌ مُؤكِّدةٌ، أفادتِ التَّمييزَ والتَّشخيصَ لحالِ الشَّرائعِ الَّتي عليها الرُّسلُ، أو الَّتي دعا إليها محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .

- وأفادَ قولُه: وَأَنَا رَبُّكُمْ الحصْرَ، أي: أنا لا غَيري؛ بقَرينةِ السِّياقِ والعطْفِ على أُمَّةً وَاحِدَةً؛ إذ المعنى: وأنا ربُّكم ربًّا واحدًا، ولذلك فرَّعَ عليه الأمْرَ بعِبادتِه، أي: فاعْبُدونِ دونَ غَيري .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وقال في سُورةِ (المُؤمِنون): وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52] ؛ فوقَعَ اختلافٌ بين قولِه: فَاعْبُدُونِ، وقولِه: فَاتَّقُونِ في الآيتينِ؛ ووَجْهُه: أنَّ سُورةَ (الأنبياءِ) لم يَرِدْ فيها ذِكْرُ لفْظِ التَّقوى في أمْرٍ ولا خبَرٍ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، وورَدَ الأمْرُ بالعبادةِ في قولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] . وأمَّا سُورةُ (المُؤمِنون) فتكرَّرَ فيها ذِكْرُ التَّقوى في ثَلاثةِ مَواضِعَ؛ أوَّلُها: قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ [المؤمنون: 23] ، وفيما بعْدَ الآيةِ المُتكلَّمِ فيها: قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [المؤمنون: 87] ؛ فرُوعِيَ في الأُولى ما تَقدَّمَها، ونُوسِبَ بالثَّانيةِ ما اكْتَنَفَها. وأيضًا فإنَّ العِبادةَ مأْمورٌ بها ليَحصُلَ الاتِّقاءُ، فهي مُقدَّمةٌ في الطَّلبِ لتَحصيلِ ما يَتسبَّبُ عنها إذا كانت الإجابةُ، وعلى ذلك ورَدَ دُعاءُ الخَلْقِ؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] ؛ فالاتِّصافُ بالتَّقوى ثانٍ عن الاتِّصافِ بالعِبادةِ، فقيل في (الأنبياءِ): فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92] ، وفي سُورةِ (المُؤمِنون): فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 87] ، وكِلَاهما ذُكِرَ على مُقْتضى التَّرتيبِ . وقيل غيرُ ذلك .

3- قولُه تعالى: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ضَمائرُ الغَيبةِ فيه عائدةٌ إلى مَفهومٍ مِن المَقامِ، وهم الَّذين مِن الشَّأْنِ التَّحدُّثُ عنهم في القُرآنِ المَكِّيِّ بمِثْلِ هذه المَذامِّ، وهم المُشرِكونَ. ويَجوزُ أنْ تكونَ الضَّمائرُ عائدةً إلى أُمَمِ الرُّسلِ؛ فعلى أنَّ ضَمائرَ الخِطابِ في قولِه تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء: 92] للرُّسلِ، يكونُ الكلامُ انتقالًا مِن الحِكايةِ عن الرُّسلِ إلى الحِكايةِ عن حالِ أُمَمِهم في حَياتِهم، أو الَّذين جاؤوا بعْدَهم مِثْلُ اليهودِ والنَّصارى؛ إذ نَقَضوا وَصايَا أنبيائِهم. وعلى أنَّ ضَمائرَ الخِطابِ لأُمَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، تكونُ ضَمائرُ الغَيبةِ الْتِفاتًا؛ لمَّا كان هذا الفِعْلُ من أقبَحِ المُرتكَباتِ، عُدِلَ عن الخِطابِ إلى لَفظِ الغَيبةِ؛ كأنَّ هذا الفِعْلَ ما صَدَرَ مِن المُخاطَبِ؛ لأنَّ في الإخبارِ عنهم بذلك نَعْيًا عليهم ما أفْسَدوهُ، وكأنَّه يُخبِرُ غيرَهم ما صَدَرَ مِن قَبيحِ فِعْلِهم، ويقولُ: ألَا تَرى إلى ما ارتكَبَ هؤلاء في دِينِ اللهِ؛ جَعَلوا أمْرَ دِينِهم قِطعًا كما يَتوزَّعُ الجَماعةُ الشَّيءَ، لهذا نَصيبٌ، ولهذا نَصيبٌ؛ تَمثيلًا لاختِلافِهم .

- قولُه: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ فيه إسنادُ التَّقطُّعِ إليهم؛ لأنَّهم جَعَلوا أنفُسَهم فِرَقًا؛ فعَبَدوا آلِهةً مُتعدِّدةً، واتَّخذَت كلُّ قَبيلةٍ لنَفْسِها إلِهًا مِن الأصنامِ مع اللهِ، فشَبَّه فِعْلَهم ذلك بالتَّقطُّعِ، وزِيادةُ بَيْنَهُمْ؛ لإفادةِ أنَّهم تَعاونوا وتَظاهَروا على تَقطُّعِ أمْرِهم؛ فرُبَّ قَبيلةٍ اتَّخذَتْ صَنمًا لم تكُنْ تَعبُدُه قَبيلةٌ أُخْرى، ثمَّ سَوَّلوا لِجيرَتِهم وأحلافِهم أنْ يَعبُدوهُ، فألْحَقوه بآلِهَتِهم ، وهذا على أنَّ المرادَ بهم المشركونَ.

- وجُملةُ: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ مُستأْنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا لجَوابِ سُؤالٍ يَجيشُ في نَفْسِ سامِعِ قولِه تعالى: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ، وهو مَعرِفةُ عاقبةِ هذا التَّقطُّعِ. وفيه تَعريضٌ بالتَّهديدِ، ودَلَّ على ذلك التَّفريعُ في قولِه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ إلى آخِرِه .

- في قولِه: إِلَيْنَا رَاجِعُونَ أورَدَ اسمَ الفاعلِ؛ للدَّلالةِ على الثَّباتِ والتَّحقُّقِ .

4- قولُه تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ تَفصيلٌ للجزاءِ . وفُرِّعَ قولُه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ... على الوعيدِ المُعرَّضِ به في قولِه تعالى: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء: 94] ، وهو تَفريعٌ بَديعٌ مِن بَيانِ صِفَةِ ما تُوعِّدوا به، وذلك من قولِه تعالى: فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء: 97] الآياتِ. وقَدَّمَ وَعْدَ المُؤمِنين بجَزاءِ أعمالِهم الصَّالحةِ؛ اهتمامًا به، ولوُقوعِه عَقِبَ الوعيدِ؛ تَعجيلًا لِمَسرَّةِ المُؤمِنين قبْلَ أنْ يَسمَعوا قَوارِعَ تَفصيلِ الوعيدِ؛ فليس هو مَقصودًا مِن التَّفريعِ، ولكنَّه يُشبِهُ الاستطرادَ تَنويهًا بالمُؤمِنين، كما سيُعْتَنى بهم عَقِبَ تَفصيلِ وَعيدِ الكافرينَ بقولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ... [الأنبياء: 101] إلى آخِرِ السُّورة .

- قولُه: فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ عبَّرَ عن ذلك بالكُفرانِ الَّذي هو سَتْرُ النِّعمةِ وجُحودُها؛ لِبَيانِ كَمالِ نَزاهِته تعالى عنه بتَصويرِه بصُورةِ ما يَستحيلُ صُدورُه عنه تعالى مِن القبائحِ، وإبرازِ الإثابةِ في مَعرِضِ الأُمورِ الواجبةِ عليه تعالى، ونَفَى نَفْيَ الجِنْسِ؛ للمُبالَغةِ في التَّنزيهِ، وعبَّرَ عن العمَلِ بالسَّعيِ؛ لإظهارِ الاعتدادِ به .

- وأكَّدَ ذلك بـ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ مُؤكَّدًا بحَرْفِ التَّأكيدِ؛ للاهتمامِ به .

- والكِتابةُ في كَاتِبُونَ كِنايةٌ عن تَحقُّقِه، وعدَمِ إضاعتِه؛ لأنَّ الاعتناءَ بإيقاعِ الشَّيءِ يَستلزِمُ الحِفْظَ عن إهمالِه وعن إنكارِه، وذلك مع كونِ الكِتابةِ مُستعمَلةً في مَعناها الأصليِّ، كما جاءت بذلك الظَّواهرُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ

=============

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (95-100)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ

غريب الكلمات:

 

حَدَبٍ: أي: مَكانٍ مُرتَفِعٍ مِن الأرضِ، وأصلُ (حدب): يَدُلُّ على ارتِفاعِ الشَّيءِ

.

يَنْسِلُونَ: أي: يُسرِعونَ؛ مِن النَّسَلانِ: وهو مُقارَبةُ الخَطْوِ مع الإسراعِ، وأصلُ (نسل): يَدُلُّ على انسِلالِ شَيءٍ بسُرعةٍ .

شَاخِصَةٌ: أي: مُرتَفِعةُ الأجفانِ، لا تكادُ تَطرِفُ مِن هَولِ ما هم فيه، وأصلُ (شخص): يدُلُّ على ارتِفاعٍ في شَيءٍ .

حَصَبُ جَهَنَّمَ: أي: حَطَبُها وما أُلقِيَ فيها، وكلُّ شَيءٍ أَلقيتَه في نارٍ فهو حصبٌ، وأصلُه مِن الحَصباءِ، وهي: الحَصى .

وَارِدُونَ: أي: داخِلونَ، وأصلُ (ورد): يَدُلُّ على الموافاةِ إلى الشَّيءِ .

زَفِيرٌ: الزَّفيرُ: إخراجُ النَّفَسِ بقُوَّةٍ وشِدَّةٍ مِن الهَمِّ والكَربِ، وهو بمَنزلةِ ابتداءِ صَوتِ الحِمارِ بالنَّهيقِ، وأصلُ (زفر): يدلُّ على صَوتٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ اللهُ تعالى: ومُمتَنِعٌ على قريةٍ أهلَكْناها بسَبَبِ كُفرِهم وظُلمِهم، أن يَرجِع أهلُها، حتى إذا فُتِحَ سَدُّ يأجوجَ ومأجوجَ، وأقبلوا مِن مُرتَفِعاتِ الأرضِ وانتَشَروا في جَنَباتِها مُسرِعينَ؛ دنا يومُ القيامةِ وبدَتْ أهوالُه، فإذا أبصارُ الكُفَّارِ مِن شِدَّةِ الفَزَعِ مَفتوحةٌ لا تَطْرِفُ، يقولونَ: يا وَيلَنا! قد كُنَّا لاهينَ غافلينَ عن هذا اليَومِ وعن الإعدادِ له، بل كُنَّا ظالِمينَ بكُفرِنا برَبِّنا.

إنَّكم -أيُّها الكُفَّارُ- وما كُنتُم تَعبُدونَ مِن دُونِ اللهِ وَقودُ جَهنَّمَ وحَطَبُها، أنتم وهم فيها داخِلونَ. لو كان هؤلاءِ آلِهةً تَستَحِقُّ العبادةَ ما دخلوا نارَ جهنَّمَ معكم -أيُّها المُشرِكونَ. وكُلٌّ مِنَ الآلهةِ الباطِلةِ وعابِديها خالِدونَ في نارِ جَهنَّمَ. لهم فيها زَفيرٌ مِن شِدَّةِ عَذابِهم، وهم في النَّارِ لا يَسمَعونَ؛ مِن هَولِ عَذابِهم.

تفسير الآيات:

 

وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95).

أي: ومُمتَنِعٌ على قَريةٍ أهلَكْناها أن يَرجِعَ أهلُها

.

كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء: 11 - 14] .

حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96).

حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ.

أي: حتى إذا فُتِحَ السَّدُّ الذي حُبِسَ وراءَه قَبيلَتا يأجوجَ ومأجوجَ، فخَرَجوا منه .

كما قال تعالى: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف: 94 - 99] .

وعن زَينَبَ بنتِ جَحشٍ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دخَلَ عليها فَزِعًا يقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ويلٌ للعَرَبِ مِن شَرٍّ قد اقتَرَب، فُتِحَ اليومَ مِن رَدمِ يأجوجَ ومأجوجَ مِثلُ هذه -وحَلَّقَ بإِصبَعِه الإبهامِ والتي تليها- فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أنَهلِكُ وفينا الصَّالِحونَ؟! قال: نَعَم، إذا كَثُرَ الخَبَثُ ) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((فُتِحَ اليومَ مِن رَدمِ يأجوجَ ومأجوجَ مِثلُ هذه -وعَقَد بيِدَه تِسعينَ ) .

وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ.

أي: ويأجوجُ ومأجوجُ عندَ خُروجِهم يُقْبِلونَ مِن كُلِّ مَكانٍ مُرتَفِعٍ، فيَمشُونَ مُسرِعينَ للإفسادِ في الأرضِ .

عن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم -في آخرِ حديثِ الدَّجَّالِ الطويلِ: ((ويَبعَثُ اللهُ يأجوجَ ومأجوجَ، وهم مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلونَ، فيمُرُّ أوائِلُهم على بُحَيرةِ طَبَريَّةَ، فيَشرَبونَ ما فيها، ويمُرُّ آخِرُهم فيَقولونَ: لقد كان بهذه مَرَّةً ماءٌ! ويُحصَرُ نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه، حتى يكونَ رأسُ الثَّورِ لأحَدِهم خَيرًا مِن مئةِ دينارٍ لأحَدِكم اليومَ! فيَرغَبُ نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه، فيُرسِلُ اللهُ عليهم النَّغَفَ في رِقابِهم، فيُصبِحونَ فَرْسَى كمَوتِ نَفْسٍ واحدةٍ، ثمَّ يَهبِطُ نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه إلى الأرضِ، فلا يَجِدونَ في الأرضِ مَوضِعُ شِبرٍ إلَّا ملأه زَهَمُهم ونَتْنُهم، فيَرغَبُ نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه إلى الله، فيُرسِلُ اللهُ طَيرًا كأعناقِ البُختِ فتَحمِلُهم فتَطرَحُهم حيثُ شاء الله، ثمَّ يُرسِلُ اللهُ مَطرًا لا يَكُنُّ منه بَيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ ، فيَغسِلُ الأرضَ حتى يترُكَها كالزَّلَفةِ ، ثمَّ يُقالُ للأرضِ: أنبتي ثَمَرتَك، ورُدِّي بركَتَك، فيَومَئذٍ تأكُلُ العِصابةُ مِن الرُّمَّانةِ، ويَستَظِلُّونَ بِقِحْفِها ، ويُبارَكُ في الرِّسْلِ حتى إنَّ اللِّقْحةَ مِن الإبِلِ لَتَكفي الفِئامَ مِن النَّاسِ! واللِّقْحةَ مِن البَقَرِ لَتَكفي القبيلةَ مِن النَّاسِ! واللِّقْحةَ مِنَ الغَنَمِ لَتَكفي الفَخْذَ مِن النَّاسِ! فبينما هم كذلك إذ بَعَث اللهُ ريحًا طَيِّبةً، فتأخُذُهم تحتَ آباطِهم، فتَقبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤمِنٍ وكُلِّ مُسلِمٍ، ويبقَى شِرارُ النَّاسِ، يَتَهارجونَ فيها تهارُجَ الحُمُرِ، فعليهم تقومُ السَّاعةُ)) .

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97).

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ.

أي: حتى إذا فُتِحت يأجوجُ ومأجوجُ اقتَرَبَ مَجيءُ يومِ القيامةِ الذي وعَدَ اللهُ بإتيانِه وأن يَبعَثَ فيه عِبادَه مِن قُبورِهم للحِسابِ والجَزاءِ ؛ فإنَّه إذا وُجِدَت تلك الأهوالُ والفِتَنُ والمحَنُ الواقِعةُ في آخِرِ الزَّمانِ، فقد اقتَرَبت السَّاعةُ .

فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.

أي: فإذا أبصارُ الكُفَّارِ مَفتوحةٌ لا تَطرِفُ؛ مِن شِدَّةِ ما يَرَونَه مِن أهوالٍ وأمورٍ عِظامٍ .

كما قال تعالى: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 42- 43] .

يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا.

أي: يَقولونَ: يا وَيلنَا قد كُنَّا في غَفلةٍ مِن هذا اليَومِ .

بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ.

أي: بلْ كُنَّا ظالِمينَ لأنفُسِنا بكُفرِنا برَبِّنا، ومَعصِيَتِنا له، وإعراضِنا عن آياتِه، وعبادَتِنا غَيرَه .

إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98).

إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ.

أي: يُقالُ لهم: إنَّكم -أيُّها المُشرِكونَ- وما تَعبُدونَ مِن دُونِ اللهِ وَقودُ جَهنَّمَ، يُرمى بكم جميعًا في النَّارِ .

كما قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة: 24] .

وقال سُبحانه: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22، 23].

أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ.

أي: أنتم -أيُّها المُشرِكونَ- داخِلونَ جَهنَّمَ مع آلهَتِكم التي كُنتُم تَعبُدونَها مِن دُونِ اللهِ .

لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99).

لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا.

أي: لو كانت تلك الآلِهةُ المَعبودةُ مِن دُونِ اللهِ آلِهةً حَقًّا كما يَزعُمُ عابِدوها، لَمَا دخَلَ العابِدونَ والمَعبودونَ جَهنَّمَ، ولَمَنَعت تلك الآلهةُ عابِديها مِن دُخولِها .

وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ.

أي: وكلٌّ مِنَ الآلهةِ الباطِلةِ وعابِديها في جهَنَّمَ ماكِثونَ .

لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100).

لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ.

أي: للمُشرِكينَ وآلهَتِهم في جَهنَّمَ زَفيرٌ مِن شِدَّةِ العَذابِ .

كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: 106].

وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ.

أي: وهم في جَهنَّمَ صُمٌّ لا يَسمَعونَ شَيئًا

 

.

الفوائد التربوية:

 

قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فيه تحذيرٌ مِن اللهِ للنَّاسِ أن يُقيموا على الكُفرِ والمعاصي، وأنَّه قد قَرُب انفِتاحُ يأجوجَ ومأجوجَ

 

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- ينقسمُ التحريمُ إلى تحريمٍ كونيٍّ متعلِّقٍ بربوبيةِ الله وخَلقِه، وإلى تحريمٍ دينيٍّ متعلِّقٍ بإلهيتِه وشرعِه، أمَّا التحريمُ الكونيُّ فكقولِه تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، وقولِه: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص: 12] ، وأمَّا التحريمُ الدينيُّ فكقولِه تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [المائدة: 3] ، وقولِه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ

[النساء: 23] .

2- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ فيه سؤالٌ: هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ جَميعَ المَعبوداتِ مع عابِديها في النَّارِ، وقد أشارت آياتٌ أُخَرُ إلى أنَّ بَعضَ المَعبودينَ -كعيسى والملائكةِ- لَيسوا مِن أهلِ النَّارِ؛ كقَولِه تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ... [الزخرف: 57] وقَولِه تعالى: ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] وقَولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ الآيةَ [الإسراء: 57] ؟

الجوابُ مِن وَجهينِ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذه الآيةَ لم تتناوَلِ الملائِكةَ ولا عيسى؛ لتعبيره بـ (ما) الدَّالَّةِ على غيرِ العاقِلِ، وقد أشار تعالى إلى هذا الجَوابِ بقَولِه: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 58] ؛ لأنَّهم لو أنصَفوا لَمَا ادَّعَوا دُخولَ العُقَلاءِ في لَفظٍ لا يَتناوَلُهم لُغةً!

الوجهُ الثَّاني: أنَّ الملائكةَ وعيسى نَصَّ اللهُ على إخراجِهم مِن هذا؛ دَفعًا للتوَهُّمِ ولهذه الحُجَّةِ الباطِلةِ بقَولِه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] .

3- قال الله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، فإن قيل: لِمَ قُرِنوا بآلهَتِهم؟

فالجوابُ: لأنَّهم لا يَزالونَ لِمُقارَنتِهم في زيادةِ غَمٍّ وحَسرةٍ؛ حيث أصابَهم ما أصابَهم بسَبَبِهم، والنَّظَرُ إلى وَجهِ العَدُوِّ بابٌ مِن العَذابِ، ولأنَّهم قَدَّروا أنَّهم يَستَشفِعونَ بهم في الآخِرةِ، ويَستَنفِعونَ بشَفاعَتِهم، فإذا صادَفوا الأمرَ على عَكسِ ما قَدَّروا، لم يكُنْ شَيءٌ أبغَضَ إليهم مِنهم .

4- قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ والحكمةُ في دخولِ الأصنامِ النارَ -وهي جمادٌ؛ لا تعقِلُ، وليس عليها ذنبٌ- بيانُ كذبِ مَن اتَّخَذها آلهةً، وليزدادَ عذابُهم؛ فلهذا قال: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا .

5- قولُه تعالى: وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ، ذكَر -جلَّ وعلا- في هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّ أهلَ النارِ لا يسمعونَ فيها، وبيَّن في غيرِ هذا الموضعِ أنَّهم لا يتكلمونَ، ولا يبصرونَ؛ كقولِه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء: 97] ، وقولِه: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124] ، وقولِه: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ [النمل: 85] معَ أنَّه -جلَّ وعلا- ذكَر في آياتٍ أُخرَ ما يدلُّ على أنَّهم يسمعونَ ويبصرونَ ويتكلمونَ؛ كقولِه تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم: 38] ، وقولِه: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [السجدة: 12] ، وقولِه: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ [الكهف: 53] ؟

والجوابُ عن هذا مِنْ أوجُهٍ:

الوجهُ الأوَّلُ: كونُ المرادِ مِمَّا ذُكِر -مِن العمَى، والصممِ، والبكمِ- حقيقتَه، ويكونُ ذلك في مبدَأِ الأمرِ، ثُمَّ يَرُدُّ اللَّهُ تعالَى إليهم أبصارَهم ونُطْقَهم وسَمْعَهم، فيرونَ النَّارَ، ويسمعونَ زَفيرَها، وينطِقُونَ بما حَكَى اللَّهُ تعالَى عنهم في غيرِ موضِعٍ.

الوجهُ الثَّاني: أَنَّهم لا يرونَ شيئًا يَسُرُّهم، ولا يسمعونَ كذلك، ولا يَنْطِقونَ بِحُجَّةٍ، كما أَنَّهم كانوا في الدُّنْيا لا يَسْتَبْصِرونَ، ولا يَنْطِقونَ بالحقِّ، ولا يَسْمَعونَه، فنُزِّلَ ما يَقولونَه ويَسْمَعونَه ويُبْصِرونَه منزلةَ العَدَمِ؛ لعَدَم الانتفاعِ به، والعربُ في كلامِها تُطلِقُ الصممَ على السماعِ الذي لا فائدةَ فيه. وكذلك الكلامُ الذي لا فائدةَ فيه، والرُّؤيةُ التي لا فائدةَ فيها.

الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ اللَّهَ إذا قال لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] ، وَقَع بهم ذاك العمَى والصَّممُ والبَكَمُ مِنْ شِدَّةِ الكربِ واليأْسِ مِنَ الفرجِ، قال تعالَى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ

 

[النمل: 85] .

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ

- قولُه: أَهْلَكْنَاهَا إدْماجٌ للوعيدِ بعَذابِ الدُّنيا قبْلَ عَذابِ الآخرةِ

.

- قولُه: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ يحتمِلُ أنَّ المُرادَ رُجوعُهم عنِ الكُفْرِ، فيَتعيَّنُ أنَّ تَكونَ (لا) في قولِه: لَا يَرْجِعُونَ زائدةً للتَّوكيدِ، والمعنى: مُنِعَ على قَريةٍ قَدَّرْنا هَلاكَها أنْ يَرجِعوا عن ضَلالِهم. وهذا إعلامٌ بسُنَّةِ اللهِ تعالى في تَصرُّفِه في الأُمَمِ الخاليةِ، مَقصودٌ منه التَّعريضُ بتأْييسِ فَريقٍ مِن المُشرِكين مِن المصيرِ إلى الإيمانِ، وتَهديدُهم بالهَلاكِ. ويجوزُ أنْ يُرادَ رُجوعُهم إلى الآخرةِ بالبعْثِ، وهو المُناسِبُ لتَفريعِه على قولِه تعالى: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء: 93] ، فتكونَ (لا) نافيةً، والمعنى: مَمنوعٌ عدَمُ رُجوعِهم إلى الآخرةِ الَّذي يَزعُمونَه، أي: دَعْواهم باطِلةٌ، أي: فهمْ راجِعونَ إلينا، فمُجازَونَ على كُفْرِهم، فيكونُ إثباتًا للبَعْثِ بنَفْيِ ضِدِّه، وهو أبلَغُ مِن صَريحِ الإثباتِ؛ لأنَّه إثباتٌ بطَريقِ المُلازَمةِ، فكأنَّه إثباتُ الشَّيءِ بحُجَّةٍ، ويُفِيدُ تأْكيدًا لقولِه تعالى: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء: 93] . ويحتملُ أنْ يكونَ قولُه: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ تَعْليلًا، ويكونُ التَّقديرُ: وحَرامٌ على قَريةٍ أهْلَكناها العمَلُ الصَّالِحُ والسَّعيُ المَشكورُ غيرُ المَكفورِ؛ لأنَّهم لا يَرجِعونَ عن الكُفرِ .

2- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ

- قولُه: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ حَتَّى ابتدائيَّةٌ، والجُملةُ بعْدَها: إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ... كَلامٌ مُستأْنفٌ ، والمُرادُ بفَتحِها: فَتْحُ سَدِّها، على حَذْفِ المُضافِ وإقامةِ المُضافِ إليه مُقامَه .

3- قوله تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ

- في قولِه: فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُثِّلَت حالةُ الكافرينَ في ذلك الحينِ بأبلَغِ تَمثيلٍ وأشَدِّه وَقْعًا في نَفْسِ السَّامعِ؛ إذ جُعِلَت مُفرَّعةً على فَتْحِ يأْجوجَ ومأْجوجَ واقترابِ الوعْدِ الحقِّ؛ للإشارةِ إلى سُرعةِ حُصولِ تلك الحالةِ لهم، ثمَّ بتَصديرِ الجُملةِ بحَرْفِ المُفاجأةِ والمُجازاةِ الَّذي يُفِيدُ الحُصولَ دَفعةً بلا تَدرُّجٍ ولا مُهْلةٍ، ثمَّ بالإتيانِ بضَميرِ القِصَّةِ؛ لِيَحصُلَ للسَّامعِ عِلْمٌ مُجمَلٌ يُفصِّلُه ما يُفسِّرُ ضَميرَ القِصَّةِ، فقال تعالى: فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى آخِرِه .

- قولُه: يَا وَيْلَنَا فيه إيجازٌ بالحَذْفِ، تَقديرُه: يقولونَ: يا وَيْلنا .

- قولُهم: قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا دَلَّت (في) الظَّرفيَّةُ على تَمكُّنِ الغَفلةِ منهم، حتَّى كأنَّها مُحيطةٌ بهم إحاطةَ الظَّرفِ بالمظروفِ، أي: كانت لنا غَفلةٌ عَظيمةٌ، وهي غَفلةُ الإعراضِ عن أدِلَّةِ الجزاءِ والبَعْثِ .

- قولُهم: بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ إضرابٌ إبطاليٌّ عمَّا قبْلَه مِن وَصْفِ أنفُسِهم بالغَفلةِ، أي: لم نكُنْ غافلينَ عنه؛ حيث نُبِّهنا عليه بالآياتِ والنُّذرِ، بل كنَّا ظالمينَ .

4- قولُه تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ جَوابٌ عن قولِهم: يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ... [الأنبياء: 97] إلى آخِرِه؛ فهي مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ على طَريقةِ المُحاوَراتِ، فالتَّقديرُ: يُقالُ لهم: إنَّكم وما تَعْبُدون من دونِ اللهِ حصَبُ جهنَّمَ... . وقيل: هي خِطابٌ لكُفَّارِ مكَّةَ، وتَصريحٌ بمآلِ أمْرِهم، مع كونِه مَعلومًا ممَّا سبَقَ على وَجْهِ الإجمالِ؛ مُبالَغةً في الإنذارِ، وإزاحةِ الاعتذارِ .

- قولُه: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أكَّدَ الخَبَرَ بحَرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ لأنَّهم كانوا بحيث يُنكِرونَ ذلك .

- قولُه: أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ استِئنافٌ، واللَّامُ عِوَضٌ مِن (على)؛ للدَّلالةِ على الاختصاصِ، وأنَّ وُرودَهم لأجْلِها. وقيل: بدَلٌ من حَصَبُ جَهَنَّمَ . وهذه الجُمْلةُ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ بَيانٌ لجُملةِ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، والمقصودُ منه: تَقريبُ الحصْبِ بهم في جهنَّمَ؛ لِمَا يدُلُّ عليه قولُه: وَارِدُونَ من الاتِّصافِ بوُرودِ النَّارِ في الحالِ .

- وفي قولِه: أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ الْتِفاتٌ مِن الخِطابِ إلى الغَيبةِ .

5- قوله تعالى: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ

- قولُه: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا اعتراضٌ؛ تَجهيلًا للكَفرةِ، واحتِجاجًا عليهم، وعُطِفَ قولُه: وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ على قولِه: أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ؛ تَوكيدًا لشُمولِ الأشخاصِ والأزمانِ على سَبيلِ الالْتِفاتِ .

- قولُه: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا زِيادةٌ في نِكايتِهم بإظهارِ خَطَئِهم في عِبادتِهم تلك الأصنامَ بأنْ أُشْهِدوا إيرادَها النَّارَ، وقِيلَ لهم: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا، وذُيِّلَ ذلك بقولِه تعالى: وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ، أي: هم وأصنامُهم .

6- قوله تعالى: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ

- على القولِ بأنَّ المُرادَ بـ (مَا تَعْبُدُونَ) الأصنامُ؛ فيكونُ قولُه: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ مع كونِه مِن أفْعالِ العَبَدةِ، أُضِيفَ إلى الكلِّ؛ للتَّغليبِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ للعَبَدةِ؛ لعدَمِ الإلباسِ . وقيل: لا تَغليبَ هاهنا، والمُرادُ مِن ضَميرِ وَهُمْ: المُخاطَبونَ في قولِه: إِنَّكُمْ، فالالْتِفاتُ مِن الخِطابِ إلى الغَيبةِ .

- وعَطْفُ جُملةِ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ اقتضاهُ قولُه: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ؛ لأنَّ شَأْنَ الزَّفيرِ أنْ يُسمَعَ، فأخبَرَ اللهُ بأنَّهم مِن شِدَّةِ العذابِ يَفقِدونَ السَّمعَ بهذه المُناسَبةِ ، وذلك على قولٍ في التفسيرِ.

============

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (101-105)

ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ

غريب الكلمات :

 

الْحُسْنَى: أي: الجنَّةُ أو السَّعادةُ، تأنيثُ الأحسنِ، والحُسْنُ ضِدُّ القُبحِ، وهو عبارةٌ عن كلِّ مُبهجٍ مرغوبٍ فيه

.

حَسِيسَهَا : أي: صَوْتَها وحَرَكةَ تلَهُّبِها، والحَسيسُ والحسُّ: الحَرَكةُ والصَّوتُ تَسمَعُه مِنَ الشَّيءِ الذي يمُرُّ قريبًا منك، وأصلُه مِنَ الحِسِّ، وهو مُطلَقُ الصَّوتِ، أو الخَفِيُّ منه .

نَطْوِي: الطَيُّ: ضِدُّ النَّشرِ، وهو ثَنْيُ الشَّيءِ، أو ردُّ بَعضِه على بَعضٍ، وأصلُ (طوي): يَدُلُّ على إدراجِ شَيءٍ حتى يُدرَجَ بَعضُه في بَعضٍ .

السِّجِلِّ: أي: الصَّحيفةِ التي فيها الكِتابُ، يعني: المكتوبَ، والسِّجِلُّ: اسمٌ مُشتَقٌّ مِن المُساجَلةِ، وهي: المُكاتَبةُ .

الزَّبُورِ: أي: الكُتُبِ المُنَزَّلةِ مِن السَّماءِ، ويُطلَقُ الزَّبورُ على الكِتابِ المنزَّلِ على داودَ عليه السَّلامُ، وأصلُ (زبر): يدُلُّ على قِراءةٍ وكتابةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ اللهُ تعالى: إنَّ الذين سَبَق لهم في عِلْمِنا أنَّهم مِن أهلِ السَّعادةِ بدُخولِ الجَنَّةِ، أولئك عن النَّارِ مُبعَدونَ، فلا يَدخُلونَها ولا يَقرَبونَ منها، لا يَسمَعونَ صَوَت لَهيبِها واحتراقِ الأجسادِ فيها؛ لِبُعدِهم عنها، وهم فيما تَشتَهيه نُفوسُهم مِن نَعيمِ الجنة ولَذَّاتِها مُقِيمونَ إقامةً دائِمةً، لا يَحْزُنُهُمُ الفزعُ الأكبرُ والهَولُ العَظيمُ يومَ القيامةِ عِندَ النَّفخِ في الصُّورِ للحَشرِ، وتَستَقبِلُهم ملائِكةُ الرَّحمنِ تُبَشِّرُهم وتُهنِّئُهم، قائلينَ لهم: هذا يومُكم الذي وُعِدتُم فيه الكَرامةَ مِن اللهِ وجَزيلَ الثَّوابِ. يومَ نطوي السَّماءَ كما تُطْوَى الصَّحيفةُ على ما كُتِبَ فيها، كما قدَرْنا على إيجادِ الخلقِ أوَّلَ مرةٍ، كذلك نقدرُ على إعادتِهم، فنبعثُهم أحياءً مِن قبورِهم، ونحشُرُهم على مِثلِ هَيئَتِهم حينَ خَرَجوا مِن بُطونِ أُمَّهاتِهم؛ حُفاةً، عُراةً، غَيرَ مَختونينَ، وَعَدْناكم ذلك وَعدًا لا يتخَلَّفُ، إنَّا كُنَّا فاعلينَ ما نَعِدُ به. ولقَدْ كَتَبْنا في الكُتُبِ المنَزَّلةِ بعدَ اللَّوحِ المحفوظِ الذي كتَب اللهُ فيه كلَّ ما هو كائنٌ: أنَّ الأرضَ يَرِثُها عِبادُ اللهِ الصَّالِحونَ.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ عادةَ اللهِ تعالى أنَّه متى شَرَح عِقابَ الكُفَّارِ، أردَفَه بشَرحِ ثوابِ الأبرارِ؛ فلهذا السَّبَبِ ذَكَر هذه الآيةَ عَقِيبَ تلك

، فلمَّا بَيَّن سبحانَه حالَ هؤلاءِ الأشقياءِ؛ شَرَع في بيانِ حالِ السُّعداءِ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ الكافرينَ وحالَ مَعبوديهم بغايةِ الوَيلِ، كان مَوضِعُ السُّؤالِ عَمَّن عَبَدوهم مِنَ الصَّالحينَ؛ مِن نَبيٍّ أو مَلَكٍ وغَيرِهما مِن جَميعِ مَن عَبَدَه سُبحانَه لا يُشرِكُ به شَيئًا، فقال مُبَيِّنًا أنَّهم لَيسوا مُرادِينَ لِشَيءٍ مِن ذلك، على وَجهٍ يَعُمُّهم وغَيرَهم مِن الصَّالِحينَ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ .

سَبَبُ النُّزولِ:

عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((آيةٌ في كِتابِ اللهِ لا يَسألُني النَّاسُ عنها، ولا أدري أعَرَفوها فلا يَسألوني عنها، أم جَهِلوها فلا يَسألوني عنها؟! قيل: وما هِيَ؟ قال: آيةٌ لَمَّا نَزَلَت: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98] شَقَّ ذلك على أهلِ مَكَّةَ، وقالوا: شَتَمَ مُحمَّدٌ آلهَتَنا، فقام ابنُ الزِّبَعْرَى فقال: ما شأنُكم؟ قالوا: شَتَم مُحمَّدٌ آلهَتَنا، قال: وما قال؟ قالوا: قال: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98] ، قال: ادعُوه لي، فدُعِيَ مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال ابنُ الزِّبَعْرَى: يا محمَّدُ، هذا شَيءٌ لآلهَتِنا خاصَّةً أم لكُلِّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ؟ قال: بل لكُلِّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فقال: خَصَمْناه ورَبِّ هذه البَنِيَّةِ! يا مُحمَّدُ، ألستَ تزعُمُ أنَّ عيسى عَبدٌ صالِحٌ، وعُزَيرًا عَبدٌ صالِحٌ، والملائِكةَ عِبادٌ صالِحونَ؟ قال: بلى، قال: فهذه النَّصارى يَعبُدونَ عيسى، وهذه اليَهودُ تَعبُدُ عُزَيرًا، وهذه بنو مُلَيحٍ تَعبُدُ المَلائِكةَ، قال: فضَجَّ أهلُ مَكَّةَ، فنَزَلَت: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى -عيسى وعُزَيرٌ والملائِكةُ- أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. قال: ونَزَلت: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: 57] ، وهو الضَّجيجُ)) .

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101).

أي: إنَّ المُؤمِنينَ الذين سَبَق في عِلْمِنا منذُ الأزَلِ أنَّهم من أهلُ السَّعادةِ بدُخولِ الجَنَّةِ، مُبعَدونَ عن جَهَنَّمَ يومَ القيامةِ، فلا يَدخُلونَها، ولا يَقرَبونَ منها، وإنْ عَبَدَهم بَعضُ المُشرِكينَ بغَيرِ رِضاهم واختيارِهم .

كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 26] .

لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102).

لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا.

أي: لا يَسمَعُ المُؤمِنونَ وهم في الجَنَّةِ صَوتَ جَهنَّمَ وإحراقِها الأجسادَ؛ لِبُعدِهم الشَّديدِ عنها .

وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ.

أي: والمُؤمِنونَ فيما تَشتَهيه أنفُسُهم مِن نَعيمِ الجَنَّةِ ماكِثونَ، لا يخافونَ زَوالًا عنه، ولا انتِقالًا منه .

لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103).

لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ.

أي: لا يَحزُنُ المؤمنينَ الفزعُ الأكبَرُ يَومَ القيامةِ عِندَ النَّفخِ في الصُّورِ للحَشرِ .

كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل: 87] .

وقال سُبحانَه: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: 11] .

وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.

أي: ويَستَقبِلُ الملائِكةُ المُؤمِنينَ يَومَ القيامةِ، فيُهَنِّئونَهم ويُبَشِّرونَهم برَحمةِ اللهِ، ونَيْلِ كرامتِه؛ يقولونَ لهم: هذا اليومُ الحاضِرُ هو اليَومُ الذي كُنتُم في الدُّنيا تُوعَدونَ أن يُثيبَكم اللهُ فيه على قيامِكم بطاعتِه .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت: 30 - 32] .

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104).

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ.

أي: لا يَحزُنُهم الفَزَعُ الأكبَرُ في ذلك اليَومِ الذي نَطْوي فيه السَّمواتِ كما تُطوى الصَّحيفةُ على الكَلامِ المكتوبِ فيها .

كما قال تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] .

كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ.

أي: كما قدَرْنا على إيجادِ الخلقِ أوَّلَ مرةٍ، كذلك نقدرُ على إعادتِهم، فنبعثُهم أحياءً مِن قبورِهم ، ونحشرُهم على مِثلِ هَيئَتِهم حينَ خَرَجوا مِن بُطونِ أُمَّهاتِهم؛ حُفاةً، عُراةً، غَيرَ مَختونينَ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: 94].

وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّكم مَحشورونَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا ، ثمَّ قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)) .

وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ.

أي: وَعَدْناكم ذلك وَعدًا حَقًّا علينا أنْ نَفِيَ به، فمِن شأنِنا أنَّنا نفعلُ ما نريدُ، وسنفعلُ ما وعَدْنا به لا محالةَ .

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105).

أي: ولقَدْ كَتَبْنا في جميعِ الكُتُبِ المنَزَّلةِ مِن السماءِ بعدَ اللوحِ المحفوظِ الذي كتَب اللهُ فيه كلَّ ما هو كائنٌ أنَّ الأرضَ يَرِثُها عبادِيَ العامِلونَ بطاعَتي، الذين قاموا بالمأموراتِ، واجتَنَبوا المَنهيَّاتِ .

كما قال تعالى: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] .

وقال سُبحانه: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 10، 11].

وقال عزَّ وجلَّ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: 55- 56].

وقال تبارك وتعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74] .

وقال سُبحانه وتعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72] .

وعن ثَوبانَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ زَوى ليَ الأرضَ، فرأيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتي سيَبلُغُ مُلكُها ما زُوِيَ لي مِنها) )

 

.

الفوائد التربوية :

 

في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ أنَّ أرضَ الشامِ كُتِبتْ للصَّالحينَ، ورِثها بنو إسرائيلَ مِن الجبَّارينَ؛ لأنَّهم كانوا أهلَ الحقِّ، ثم ورِثها النَّصارَى مِن اليهودِ؛ لأنَّهم أهلُ الحقِّ، ثم ورِثها المسلمون مِن النَّصارَى؛ لأنَّهم أهلُ الحقِّ. وعلى هذا فاليهودُ الآنَ لا حقَّ لهم في فلسطينَ ولا غيرِها مِن أرضِ الله، ليس لهم حقٌّ في الأرضِ أبدًا -لا هم، ولا أي كافرٍ-؛ لأنَّ الأرضَ إنَّما يستحقُّها عبادُ الله الصالحونَ -وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ-، لكن إن صلحَ المسلمونَ ورجَعوا إلى دينِهم الحقيقيِّ -الذي يُورثُهم الله به أرضَه- فإنَّنا نجزمُ جزمًا بأنَّهم سوف يَسترجِعون الأرضَ؛ قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 55] ، لكن ما دام المسلمونَ على هذا الوصفِ؛ فإنَّه حسَبَ القواعدِ الشرعيَّةِ والنُّصوصِ لا يستحقُّون النصرَ؛ لأنَّهم لم يقوموا بجهادِ أنفسِهم؛ فكيف يقومونَ بجهادِ غيرِهم ليُدخِلوه في الإسلامِ؟! الآنَ أقيموا الإسلامَ فيما بيْنَكم؛ أقيموا دينَ الله فيما بينَكم؛ ثم بعد ذلك سوف ينصرُ الله دينَه إذا قُمْتُم به؛ لأنَّ الله لا ينصرُ فلانًا لأنَّه فلانٌ! أو ينصرُ هذه الطائفةَ لأنَّهم عربٌ! أو ينصرُ هذه الطائفةَ لأنَّهم فُرسٌ! بل ينصرُ مَن قام بهذا الدينِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ

.

2- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ مَن سَبَقَت له مِنَ اللهِ الحُسنى، فلا بُدَّ أن يَصيرَ مُؤمِنًا تَقِيًّا، فمَن لم يكُنْ مِنَ المُؤمِنينَ لم يَسبِقْ له مِنَ اللهِ حُسنى، ولكِنْ إذا سَبَقَت للعَبدِ مِن اللهِ سابِقةٌ استعمَلَه بالعَمَلِ الذي يَصِلُ به إلى تلك السَّابِقةِ، كمَن سَبَق له مِنَ اللهِ أن يُولَدَ له وَلَدٌ، فلا بُدَّ أن يَطَأَ امرأةً يُحبِلُها؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه قَدَّرَ الأسبابَ والمُسَبَّباتِ، فسَبَق منه هذا وهذا، فمَن ظَنَّ أنَّ أحدًا سَبَق له مِنَ اللهِ حُسنى بلا سَبَبٍ، فقد ضَلَّ، بل هو سُبحانَه مُيَسِّرُ الأسبابِ والمُسَبَّباتِ، وهو قد قَدَّرَ فيما مضى هذا وهذا .

3- قولُه تعالى : أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ إن قيل: كيف يَكونونَ مُبعَدينَ عنها، وقد قال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، ووُرودُها يقتَضي القُربَ منها؟!

الجوابُ: أنَّ معناه: مُبعَدونَ عن ألَمِها وعَنَاها، مع وُرودِهم لها. أو معناه: مُبعَدونَ عنها بعدَ وُرودِها، بالِإنجاءِ المذكورِ بعد الوُرودِ .

4- إنْ قيلَ: هل يَتنافى قَولُه تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ مع قَولِه: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ [هود: 108] ؟

فالجوابُ مِن وَجهَينِ:

الأوَّلُ: أنَّ طوائِفَ مِن العُلَماءِ قالوا: إنَّ قَولَه: مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أراد بها سماءَ الجنَّةِ وأرضَ الجنَّةِ، كما ثبَت عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إذا سألتُمُ اللهَ الجنَّةَ فاسْألوه الفِردَوسَ؛ فإنَّه أعلى الجنَّةِ وأوسَطُ الجَنَّةِ، وسَقفُه عَرْشُ الرَّحمنِ )) ، وعلى هذا فلا مُنافاةَ بين انطِواءِ هذه السَّماءِ وبَقاءِ السَّماءِ التي هي سَقفُ الجنَّة؛ إذ كُلُّ ما علا فإنَّه يُسمَّى في اللُّغةِ سَماءً، كما يُسَمَّى السَّحابُ سَماءً، والسَّقفُ سَماءً.

الثاني: أنَّ السَّمَواتِ وإن طُوِيَت وكانت كالمُهلِ، واستحالَت عن صُورَتِها، فإنَّ ذلك لا يُوجِبُ عَدَمَها وفَسادَها، بل أصلُها باقٍ، بتَحويلِها مِن حالٍ إلى حالٍ، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم: 48] ، وإذا بُدِّلَت فإنَّه لا يَزالُ سَماءٌ دائِمةً، وأرضٌ دائمةً، واللهُ أعلم .

5- في قَولِه تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ دَلالةٌ عَقليَّةٌ على إمكانيَّةِ إحياءِ الموتى منه سُبحانَه؛ فإنَّ القادِرَ على ابتداءِ الخَلْقِ لا يَعجِزُ عن إعادتِه .

6- قَولُ اللهِ تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ فيه سؤالٌ: ما بالُ خَلْقٍ مُنَكَّرًا؟ الجوابُ: هو كقَولِك: هو أوَّلُ رَجُلٍ جاءني، تريدُ أوَّلَ الرِّجالِ، ولكِنَّك وَحَّدْتَه ونكَّرْتَه؛ إرادةَ تَفصيلِهم رَجُلًا رجُلًا، فكذلك معنى أَوَّلَ خَلْقٍ أي: أوَّلَ الخلائِقِ . فنكَّرَ خَلْقٍ لِيُفيدَ التَّفصيلَ واحِدًا واحِدًا، بمعنى: أنَّ كُلَّ خَلقٍ -جَلَّ أو قَلَّ- سواءٌ في هذا الحُكمِ .

7- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ عَلَمٌ مِن أعلام نُبُوَّةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنَّه أخبرَ بذلك بمكَّةَ -وأهلُ الأرضِ كلُّهم كُفَّارٌ أعداءٌ له ولأصحابِه- والمُشرِكونَ قد أخرَجوهم مِن ديارِهم ومَساكِنِهم، وشَتَّتوهم في أطرافِ الأرضِ، فأخبَرَهم ربُّهم تبارك وتعالى أنَّه كَتَبَ في الذِّكْرِ الأوَّلِ أنَّهم يَرِثونَ الأرضَ مِن الكُفَّارِ، ثم كَتَبَ ذلك في الكُتُبِ التي أنزَلَها على رُسُلِه ، وذلك على أحدِ الأقوالِ في تَفسيرِ الآيةِ.

8- قال تعالى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ وفي إطلاقِ اسمِ الأرضِ ما يصلُحُ لإرادةِ أنَّ سلطانَ العالمِ سيكونُ بيدِ المسلمينَ ما استقاموا على الإيمانِ والصلاحِ، وقد صدقَ الله وعدَه في الحالينِ وعلى الاحتمالينِ؛ في أنَّ الأرضَ هي أرضُ الجنَّةِ، أو أرضٌ مِن الدُّنيا .

9- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ دلالةٌ على أنَّ المُسلِمينَ أحقُّ النَّاسِ بأرضِ اللهِ .

10- قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ الكِتابةُ هنا الكِتابةُ القَدَريَّةُ -التي لا بُدَّ أنْ تقَعَ- ويُقابِلُها الكِتابةُ الشَّرعيَّةُ -التي قد تقَعُ مِن بني آدَمَ، وقد لا تَقَعُ- كما في قَولِه تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة: 216] .

11- في قولِه تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ سؤالٌ؛ أنَّه قد يَعترضُ الذين يأسرُهم الزمانُ الذي يعيشونَ فيه، ولا تنفذُ بصائرُهم إلى ما وراءَه؛ بأنَّ المفسدينَ في الأرضِ ظاهرونَ، وهم الذين اتَّخذوا مِن العلمِ بالكونِ وسائلَ تخريبٍ في الأرضِ، وتمكينٍ للظُّلمِ، وأنَّ أهلَ الحقِّ الصالحينَ مغلوبٌ عليهم، مستضعفونَ؟!

الجواب: أنَّ ذلك حُكمُ حِقبةٍ مِن الزمانِ هي التي نعيشُ، ولكنَّ الله تعالى أخبَر أنَّ المآلَ للصالحينَ -والله أعلمُ بالمفسدينَ-، وإنَّ خبرَه صادقٌ، والمستقبلَ غيبٌ؛ لا يعلمُه إلَّا هو

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ استئنافٌ ابتِدائيٌّ، شرَعَ في بَيانِ حالِ المُؤمِنينَ إثْرَ شَرْحِ حالِ الكَفرةِ، حَسَبَما جَرَتْ به سُنَّةُ التَّنزيلِ مِن شَفْعِ الوعْدِ بالوعيدِ، وإيرادِ التَّرغيبِ مع التَّرهيبِ؛ فالجُملةُ مع ما بعْدَها تَفصيلٌ لِمَا أُجْمِلَ في قولِه تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء: 94] ، كما أنَّ ما قبْلَها مِن قولِه تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ... إلخ، تَفصيلٌ لِمَا أُجْمِلَ في قولِه تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ ... إلخ

.

- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ذكَرَ الموصولَ في تَعريفِهم؛ لأنَّ الموصولَ للإيماءِ إلى أنَّ سبَبَ فَوزِهم هو سَبْقُ تَقديرِ الهِدايةِ لهم .

- قولُه: أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ذكَرَ اسمَ الإشارةِ؛ لتَمييزِهم بتلك الحالةِ الحَسَنةِ، وما فيه من مَعنى البُعْدِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أحرياءُ بما يُذْكَرُ بعْدَ اسمِ الإشارةِ؛ مِن أجْلِ ما تَقدَّمَ على اسمِ الإشارةِ مِن الأوصافِ، وهو سَبْقُ الحُسْنى مِن اللهِ، وللإيماءِ إلى رِفْعةِ مَنزِلَتِهم .

2- قوله تعالى: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ

- قولُه: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا بَيانٌ لِمَعنى مُبْعَدُونَ؛ سِيقَ للمُبالَغةِ في إنقاذِهم منها .

- قولُه: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ بَيانٌ لفَوزِهم بالمَطالِبِ إثْرَ بَيانِ خَلاصِهم مِن المَهالِكِ والمَعاطِبِ، وتَقديمُ الظَّرفِ للقصْرِ والاهتمامِ به، وجِيءَ فيه بما يدُلُّ على العُمومِ، وهو فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ، وما يدُلُّ على الدَّوامِ، وهو خَالِدُونَ .

3- قوله تعالى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ

- قولُه: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ بَيانٌ لِنَجاتِهم مِن الأفزاعِ بالكُلِّيَّةِ بعْدَ بَيانِ نَجاتِهم من النَّارِ؛ لأنَّهم إذا لم يَحْزُنْهم أكبَرُ الأفزاعِ لا يَحزُنُهم ما عداهُ بالضَّرورةِ .

- وصِيغةُ وَتَتَلَقَّاهُمُ تُشعِرُ بتَكلُّفِ لِقائِه، وهو تكلُّفُ تَهيُّؤٍ واستعدادٍ .

- قولُه: هَذَا يَوْمُكُمُ فيه إيجازٌ بالحَذْفِ، تَقديرُه: قائلينَ: هذا اليومُ يَومُكم .

- والإشارةُ في قولِه: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ باسمِ إشارةِ القريبِ هَذَا؛ لتَعيينِ اليومِ وتَمييزِه بأنَّه اليومُ الحاضِرُ. وإضافةُ (يوم) إلى ضَميرِ المُخاطَبينَ؛ لإفادةِ اختصاصِه بهم، وكَونِ فائدتِهم حاصِلةً فيه .

4- قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ

- جُملةُ: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ مُستأنَفةٌ؛ قُصِدَ منها إعادةُ ذِكْرِ البَعْثِ، والاستدلالِ على وُقوعِه وإمكانِه؛ إبطالًا لإحالةِ المُشرِكين وُقوعَه. وقد رُتِّبَ نَظْمُ الجُملةِ على التَّقديمِ والتَّأخيرِ لأغراضٍ بَليغةٍ، وأصْلُ الجُملةِ: نُعِيدُ الخَلْقَ كما بدَأْنا أوَّلَ خَلْقٍ يومَ نَطْوي السَّماءَ كطَيِّ السِّجِلِّ للكِتابِ وعْدًا علينا؛ فحُوِّلَ النَّظمُ، فقُدِّمَ الظَّرفُ بادِئَ ذِي بَدْءٍ؛ للتَّشويقِ إلى مُتعلَّقِه، ولِمَا في الجُملةِ الَّتي أُضِيفَ إليها الظَّرفُ مِن الغَرابةِ والطِّباقِ؛ إذ جُعِلَ ابتداءُ خَلْقٍ جَديدٍ -وهو البَعْثُ- مُؤَقَّتًا بوَقْتِ نَقْضِ خَلْقٍ قَديمٍ، وهو طَيُّ السَّماءِ، وقُدِّمَ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ -وهو حالٌ مِن الضَّميرِ المنصوبِ في نُعِيدُهُ -؛ للتَّعجيلِ بإيرادِ الدَّليلِ قبْلَ الدَّعوى؛ لِتَتمكَّنَ في النَّفسِ فَضْلَ تَمكُّنٍ، وكلُّ ذلك وُجوهٌ للاهتمامِ بتَحقيقِ وُقوعِ البَعْثِ، وعُقِّبَ ذلك بما يُفِيدُ تَحقُّقَ حُصولِ البَعْثِ مِن كَونِه وَعْدًا على اللهِ بتَضمينِ الوعْدِ مَعنى الإيجابِ، فعُدِّيَ بحَرْفِ (على) في قولِه تعالى: وَعْدًا عَلَيْنَا، أي: حَقًّا واجِبًا .

- قولُه: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ تَشبيهٌ لِطَيِّ السَّماءِ بِطَيِّ الكاتِبِ للصَّحيفةِ عندَ انتهاءِ كِتابَتِها. وتَعريفُ السِّجِلِّ وتَعريفُ (الكتاب) تَعريفُ الجِنْسِ؛ فاسْتوى في المُعرَّفِ الإفرادُ والجَمْعُ؛ فأمَّا قِراءةُ (الكُتب) بصِيغَةِ الجَمْعِ مع كَونِ (السِّجِلِ) مُفْرَدًا، ففيها حُسْنُ التَّفنُّنِ بالتَّضادِّ، وأمَّا قِراءةُ (الكتاب) بصِيغَةِ الإفرادِ ، ففيها مُحسِّنُ مُراعاةِ النَّظيرِ في الصِّيغةِ .

- قولُه: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ تَشبيهٌ للإعادةِ بالإبداءِ في تَناوُلِ القُدرةِ لهما على السَّواءِ .

- وجُملةُ: إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ مُؤكَّدةٌ بحَرْفِ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ لتَنزيلِ المُخاطَبينَ مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ قُدرةَ اللهِ؛ لأنَّهم لمَّا نَفَوُا البَعْثَ بعِلَّةِ تَعذُّرِ إعادةِ الأجسامِ بعْدَ فَنائِها، فقدْ لَزِمَهم إحالَتُهم ذلك في جانبِ قُدرةِ اللهِ. وفي ذِكْرِ فِعْلِ الكونِ كُنَّا: إفادةُ أنَّ قُدرتَه قد تَحقَّقَت بما دَلَّ عليه دليلُ قولِه: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ

=============

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (106-112)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ

غريب الكلمات:

 

لَبَلَاغًا: أي: لكفايةً، يقال: في هذا الشيءِ بلاغٌ وبُلْغةٌ وتبلُّغٌ، أي: كفايةٌ، والبُلوغُ والبلاغُ: الانتهاءُ إلى أقصَى المقصدِ والمنتهَى، وربَّما يُعبَّرُ به عن المشارفةِ عليه، وإن لم ينتهِ إليه، وأصلُ (بلغ): هو الوصولُ إلى الشَّيءِ

.

عَلَى سَوَاءٍ: أي: على استواءٍ فِي العِلمِ مِنكَ ومِنهم؛ فلَا يَدَّعِي أحدٌ منهم أنَّه لم يبلُغْه الإنذارُ، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ واعتدالٍ بينَ شَيئينِ .

آَذَنْتُكُمْ: أي: أعلَمْتُكم وأنذَرْتُكم، وأصلُ (أذن): يدُلُّ على العِلمِ والإعلامِ .

تَصِفُونَ: أي: تكذِبونَ وتقولونَ، والوصْفُ: ذِكْرُ الشَّيءِ بحِلْيتِه ونعْتِه، وأصْلُ (وصف): تحْليةُ الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ اللهُ تعالى: إنَّ في هذا القرآنِ لَكفايةً لِقَومٍ عابِدينَ اللهَ بما شَرَعه لهم ورَضِيَه منهم، يَتبلَّغونَ به في الوصولِ إلى بُغْيتَهم مِن خيرِ الدُّنيا والآخرةِ. وما أرسَلْناك -يا مُحمَّدُ- إلَّا رَحمةً لجَميعِ الخَلقِ.

قُلْ: إنَّما يُوحَى إليَّ أنَّ إلهَكم الذي يَستَحِقُّ العِبادةَ مَعبودٌ واحِدٌ لا شَريكَ له، هو اللهُ، فهل أنتم مُستَسلِمونَ له، مُنقادونَ لِطاعتِه؟

فإنْ أعرَضَ هؤلاء عن الإسلامِ فقُلْ لهم -يا مُحمَّدُ-: أعلَمْتُكم ببَراءَتي منكم وبراءَتِكم مِنِّي، وأنَّه لا صلحَ بينَنا، ولا سلمَ، فاستَوَينا جميعُنا في العِلمِ بذلك، ولسْتُ أدري أقريبٌ ما وعَدَكم اللهُ به من العَذابِ، أم هو بَعيدٌ. إنَّ اللهَ يَعلمُ ما تَجهَرونَ به من أقوالِكم، وما تَكتُمونَه في سَرائِرِكم، وسيُحاسِبُكم عليه، ولَسْتُ أدري لعَلَّ تأخيرَ العذابِ الذي استعْجلتُموه استدراجٌ لكم وابتِلاءٌ، فتزدادُ سَيِّئاتُكم، وتتمَتَّعونَ قَليلًا في حياتِكم إلى وَقتٍ مُعَيَّنٍ، ثمَّ يأتيكم العَذابُ.

قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ربِّ افصِلْ بيْنَنا وبيْنَ قَوْمِنا المكَذِّبينَ بالقَضاءِ الحَقّ، بأنْ تَنصُرَني عليهم وتَخذُلَهم. ورَبُّنا الرَّحمنَ نَستَعينُ به على ما تَصِفونَه -أيُّها الكُفَّارُ- مِن الشِّركِ والتَّكذيبِ، والافتِراءِ عليه وعلى رَسولِه.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان ما ذُكِرَ في هذه السُّورةِ مِن الحِكَمِ والدَّلائِلِ والقَصَصِ، واعِظًا شافِيًا حَكيمًا، ومُرشِدًا هادِيًا عَليمًا؛ قال واصِلًا بما تقَدَّمَ؛ إشارةً إلى أنَّه نتيجتُه

:

إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106).

أي: إنَّ في هذا القرآنِ الذي أنزَلْناه على نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم لَكفايةً؛ يَتبلَّغونَ به في الوصولِ إلى بُغْيتَهم مِن خيرِ الدُّنيا والآخرةِ لِقَومٍ دَيدَنُهم وشَأنُهم القيامُ بعِبادةِ اللهِ بما شَرَعَ .

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107).

أي: وما أرسَلْناك -يا مُحمَّدُ- إلَّا رَحمةً لِجَميعِ الخَلقِ .

عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قيل: يا رَسولَ اللهِ، ادْعُ على المُشرِكينَ، قال: إنِّي لم أُبعَثْ لعَّانًا، وإنما بُعِثْتُ رَحمةً )) .

قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ بَيَّن سبحانَه أنَّ أصلَ تلك الرَّحمةِ هو التَّوحيدُ والبراءةُ مِن الشِّركِ .

وأيضًا بعدَ أن أورَدَ سُبحانَه الحُجَجَ والبراهينَ، لإقناعِ الكافِرينَ بأنَّ رِسالةَ الرَّسولِ حَقٌّ، حتى لم يَبْقَ فى القَوسِ مِنْزَعٌ ، وبلغ الغايةَ التي ليس بَعدَها غايةٌ، وبيَّنَ أنَّ هذا الرَّسولَ رَحمةٌ للعالَمينَ، وهدايةٌ للنَّاسِ أجمعينَ، وأنَّ مَن اتَّبَعه سَلَك سبيلَ الرَّشادِ، ومَن نأى عنه ضَلَّ وسار فى طريقِ الغَوايةِ والعِنادِ- أردَفَ ذلك ما يكونُ إعذارًا وإنذارًا فى مُجاهَدتِهم، والإقدامِ على مُناوَأتِهم، بعد أن أعيَتْه الحِيَلُ، وضاقت به السُّبُلُ، ولم تُغنِهم الآياتُ والنُّذُر، فتَمادَوا فى غَوايتِهم، ولجُّوا فى عِنادِهم، وأصبَحَ مِنَ العَسيرِ إقناعُهم وهدايتُهم .

وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى عقَّب الوَصفَ الجامِعَ لرِسالةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن حيثُ ما لها مِنَ الأثَرِ في أحوالِ البَشَرِ، بوَصفٍ جامِعٍ لأصلِ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ في ذاتِها، الواجِبِ على كلِّ مُتَّبِعٍ لها، وهو الإيمانُ بوحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وإبطالُ إلهيَّةِ ما سواه؛ لِنَبذِ الشِّركِ المَبثوثِ بين الأُمَمِ يَومَئذٍ؛ وللاهتِمامِ بذلك صُدِّرَت جُملتُه بالأمرِ بأن يقولَ لهم لاستِصغاءِ أسماعِهم :

قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108).

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: إنَّما يُوحي اللهُ إليَّ أنَّما مَعبودُكم مَعبودٌ واحِدٌ لا شَريكَ له في العِبادةِ، فهل أنتم مُستَسلِمونَ لِتَوحيدِ اللهِ، مُنقادونَ لِطاعتِه وعِبادتِه وَحْدَه بعدَ هذا البَيانِ ؟

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109).

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ.

أي: فإنْ أعرَضَ النَّاسُ عن الإسلامِ، فقُلْ لهم -يا مُحمَّدُ: أعلَمْتُكم ببَراءتي منكم وبراءتِكم مِنِّي، وأنَّه لا صُلحَ بينَنا، ولا سِلْمَ، فاستَوَينا جميعُنا في العِلمِ بذلك .

وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ.

أي: وما أدري أقريبٌ زَمَنُ وُقوعِ ما وعَدَكم اللهُ به من العَذابِ، أم هو بَعيدٌ ؟

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110).

أي: لكنَّ عَذابَكم واقعٌ لا مَحالةَ؛ لأنَّ اللهَ يَعلَمُ ما يَجهَرُ به عِبادُه مِن أقوالِهم، ويَعلَمُ ما تُخفونَه -أيُّها المُشرِكونَ- وسيُجازيكم على ذلك عاجِلًا أو آجِلًا .

كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [المائدة: 99] .

وقال سُبحانَه: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7] .

وقال تبارك وتعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك: 13] .

وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111).

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهم: فإنْ تأخَّرَ عذابُكم، فما أدري سَبَبَ ذلك وحِكمَتَه، لكنْ لعَلَّه فِتنةٌ لكم، فتزدادُ سَيِّئاتُكم، وتتمَتَّعونَ قَليلًا في حياتِكم إلى وَقتٍ مُعَيَّنٍ، ثمَّ يأتيكم العَذابُ .

كما قال تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178] .

وقال سُبحانَه: مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 197] .

قَالَ رَبِّ احْكُمْبِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112).

قَالَ رَبِّ احْكُمْبِالْحَقِّ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ قَالَ بالمُضِيِّ، على أنَّه خَبَرٌ مِن الله تعالى عن نبيِّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: رَبِّ احْكُمْبِالْحَقِّ .

2- قِراءةُ قُلْ على أنَّه أمرٌ مِن اللهِ تعالى لنبيِّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يسألَه الحُكمَ بالحَقِّ .

قَالَ رَبِّ احْكُمْبِالْحَقِّ.

أي: قال مُحمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ داعيًا رَبَّه: يا رَبِّ، افعَلْ ما تنصُرُ به عبادَك، وتَخذُلُ به أعداءَك. .

كما حكى اللهُ تعالى عن شُعَيبٍ عليه السَّلامُ قَولَه: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف: 89] .

وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.

أي: وربُّنا المتَّصِفُ بالرَّحمةِ الواسِعةِ هو وَحْدَه الذي نَطلُبُ منه العَونَ عليكم -أيُّها المُشرِكونَ- على ما تَفتَرونَه عليه وعلى رَسولِه مِن الوَصفِ الباطِلِ

 

.

كما قال تعالى حكايةً عن يَعقوبَ عليه السَّلامُ: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: 18] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ فليس للعابِدينَ الذين هم أشرَفُ الخَلقِ وراءه غايةٌ؛ لأنَّه الكَفيلُ بمَعرفةِ رَبِّهم بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، وبالإخبارِ بالغُيوبِ الصَّادِقةِ، وبالدَّعوةِ لحقائِقِ الإيمانِ، وشواهِدِ الإيقانِ؛ المُبَيِّنُ للمأموراتِ كُلِّها، والمَنهيَّاتِ جميعًا، المُعَرِّفُ بعُيوبِ النَّفسِ والعملِ، والطُّرُقِ التي ينبغي سلوكُها في دقيقِ الدِّينِ وجَليلِه، والتَّحذيرِ مِن طُرُقِ الشَّيطانِ، وبيانِ مَداخِلِه على الإنسانِ، فمَن لم يُغْنِه القرآنُ فلا أغناه اللهُ، ومَن لا يَكفيه فلا كفاه الله

!

2- على الإنسانِ أن يكونَ مَقصودُه نَفعَ الخَلقِ، والإحسانَ إليهم مُطلَقًا، وهذا هو الرَّحمةُ التي بُعِثَ بها محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَولِه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، والرَّحمةُ يحصُلُ بها نَفعُ العِبادِ؛ فعلى العَبدِ أن يَقصِدَ الرَّحمةَ والإحسانَ والنَّفعَ، لكِنْ للاحتياجِ إلى دَفعِ الظُّلمِ شُرِعَت العُقوباتُ، وعلى المُقيمِ لها أن يَقصِدَ بها النَّفعَ والإحسانَ، كما يَقصِدُ الوالِدُ بعُقوبةِ وَلَدِه، والطَّبيبُ بدواءِ المَريضِ، والمقصودُ بهذه النُّكتةِ أنَّ الدِّينَ والشَّرعَ لم يأمُرْ إلَّا بما هو نَفعٌ وإحسانٌ ورَحمةٌ للعبادِ، وأنَّ المُؤمِنَ عليه أن يَقصِدَ ذلك ويُريدَه، فيكونَ مَقصودُه الإحسانَ إلى الخَلقِ ونَفْعَهم، وإذا لم يَحصُلْ ذلك إلَّا بالإضرارِ ببَعضِهم، فعَلَه على نيَّةِ أن يدفَعَ به ما هو شَرٌّ منه، أو يحصُلَ به ما هو أنفَعُ مِن عَدَمِه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ هذا الاستِفهامُ يتضَمَّنُ الأمرَ بإخلاصِ التَّوحيدِ والانقيادِ إلى اللهِ تعالى .

4- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ المقصودُ منه الأمرُ بالإخلاصِ، وتَركُ النِّفاقِ؛ لأنَّه تعالى إذا كان عالِمًا بالضَّمائرِ، وجَبَ على العاقِلِ أن يُبالِغَ في الإخلاصِ .

5- قال الله تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْبِالْحَقِّ في هذه الآيةِ أعظَمُ حَثٍّ على لُزومِ الإنسانِ بالحَقِّ؛ ليتأهَّلَ لهذه الدَّعوةِ ، فالمرادُ بقولِه تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْبِالْحَقِّ أي: كُنْ أنت أيُّها القائلُ على الحقِّ؛ لِيُمْكِنَكَ أنْ تقول: احكمْ بالحقِّ، لأنَّ المُبْطِلَ لا يمكنُه أنْ يقولَ: احْكُمْ بالحق

 

!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- مِمَّا يدُلُّ على أنَّ نبيَّ اللهِ مُحمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم آخِرُ الرُّسُلِ والأنبياءِ؛ قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وقَولُه: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 158] ، وما أشبَهَ ذلك مِنَ الآياتِ الدَّالَّةِ على أنَّه رَسولٌ إلى يَومِ القيامةِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ النَّاسَ لا يَحتاجونَ بَعدَه إلى نبيٍّ ولا رَسولٍ؛ لأنَّ شَريعَتَه ستَبقَى

.

2- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ حِكمةُ تَمييزِ شَريعةِ الإسلامِ بهذه المَزِيَّةِ أنَّ أحوالَ النُّفوسِ البَشَريَّةِ مَضَت عليها عُصورٌ وأطوارٌ تهَيَّأتْ بتَطوُّراتِها لِأنْ تُساسَ بالرَّحمةِ، وأن تُدفَعَ عنها المشَقَّةُ، إلَّا بمقاديرَ ضَروريَّةٍ لا تُقامُ المصالِحُ بدُونِها، فما في الشَّرائِعِ السَّالِفةِ مِن اختِلاطِ الرَّحمةِ بالشِّدَّةِ وما في شَريعةِ الإسلامِ مِن تمَحُّضِ الرَّحمةِ لم يجْرِ في زَمَنٍ مِن الأزمانِ إلَّا على مُقتضى الحِكمةِ، ولكِنَّ اللهَ أسعد هذه الشَّريعةَ والذي جاء بها والأمَّةَ المُتَّبِعةَ لها بمُصادَفتِها للزَّمَنِ والطَّورِ الذي اقتضَت حِكمةُ اللهِ في سياسةِ البَشَرِ أن يكونَ التَّشريعُ لهم تَشريعَ رَحمةٍ إلى انقِضاءِ العالَمِ، فأُقيمَت شَريعةُ الإسلامِ على دعائِمِ الرَّحمةِ والرِّفقِ واليُسرِ؛ قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] ، وقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ، وما يُتخَيَّلُ مِن شِدَّةٍ في نحوِ القِصاصِ والحُدودِ فإنَّما هو لِمُراعاةِ تعارُضِ الرَّحمةِ والمشَقَّةِ، كما أشار إليه قَولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ فالقِصاصُ والحُدودُ شِدَّةٌ على الجُناةِ، ورَحمةٌ ببَقيَّةِ النَّاسِ .

3- قد يُعارَضُ قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ بأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يكُنْ رَحمةً للكافرينَ، بلْ نِقْمةٌ؛ إذْ لولا إرسالُه إليهم ما عُذِّبوا بكُفْرِهمِ؛ لقولِه تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ؟

والجوابُ عن ذلك: أنَّه رَحمةٌ للكافرينَ مِن حيثُ إنَّ عذابَ الاستئصالِ أُخِّرَ عنهم بسبَبِه، أو كان رَحمةً عامَّةً، من حيثُ إنَّه جاء بما يُسْعِدُهم إنِ اتَّبَعوه، ومَن لم يَتَّبِعْه فهو المُقصِّرُ، أو المُرادُ بالرَّحمةِ الرَّحيمُ، وهو صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان رَحيمًا للكُفَّارِ أيضًا .

4- قال اللهُ تعالى: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ حَصرُ الوَحيِ في تَوحيدِ الأُلوهيَّةِ حَصرٌ له في أصلِه الأعظَمِ الذي يَرجِعُ إليه جميعُ الفُروعِ؛ لأنَّ شرائِعَ كُلِّ الأنبياءِ داخِلةٌ في ضِمنِ لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ لأنَّ مَعناها خَلعُ كُلِّ الأندادِ سِوى اللهِ في جميعِ أنواعِ العباداتِ، وإفرادُ اللهِ بجَميعِ أنواعِ العباداتِ، فيَدخُلُ في ذلك جميعُ الأوامِرِ والنَّواهي القَوليَّةِ والفِعليَّةِ والاعتقاديَّةِ ، فالجُملةُ صِيغَت في صيغةِ حَصرِ الوَحيِ إليه في مَضمونِها؛ لأنَّ مَضمونَها هو أصلُ الشَّريعةِ الأعظَمُ، وكُلُّ ما تَشتَمِلُ عليه الشَّريعةُ مُتفَرِّعٌ عليه؛ فالدَّعوة إليه هي مَقادةُ الاجتِلابِ إلى الشَّريعةِ كُلِّها؛ إذ كان أصلُ الخِلافِ يَومَئذٍ بينَ الرَّسولِ ومُعانِديه هو قَضيَّةَ الوحدانيَّةِ؛ ولذلك قالوا: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 5] ، وما كان إنكارُهم البَعثَ إلَّا لأنَّهم لم يَجِدوه في دِينِ شِرْكِهم؛ إذ كان الذين وَضَعوا لهم الشِّركَ لا يُحَدِّثونَهم إلَّا عن حالِهم في الدُّنيا، فما كان تصَلُّبُهم في إنكارِ البَعثِ إلَّا شُعبةً مِن شُعَبِ الشِّركِ؛ فلا جرَمَ كان الاهتِمامُ بتَقريرِ الوَحدانيَّةِ تَضييقًا لِشُقَّةِ الخلافِ بينَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبينَ المُشرِكينَ المُعرِضينَ .

5- في قَولِه تعالى: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ دَلالةٌ على أنَّ مَبنى الإسلامِ على توحيدِ اللهِ عزَّ وجَلَّ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ نَبَّه اللهُ تعالى على الجَهرِ؛ لأنَّ مِن أحوالِ الجَهرِ أن تَرتَفِعَ الأصواتُ جِدًّا بحيث تختَلِطُ ولا يُمَيَّزُ بينها، ولا يَعرِفُ كَثيرٌ مِن حاضِريها ما قاله أكثَرُ القائلينَ، فأَعلَمَ سُبحانَه أنَّه لا يَشغَلُه صَوتٌ عن آخَرَ، ولا يَفوتُه شَيءٌ عن ذلك، ولو كَثُرَ .

7- الحُكمُ نَوعانِ: حُكمٌ كَونيٌّ، وحُكمٌ دِينيٌّ، ومِنَ الحُكمِ الكَونيِّ قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْبِالْحَقِّ، ومعنى الآيةِ هنا: افعلْ ما تَنْصُرُ به عبادَك، وتخذُلُ به أعداءَك، وأمَّا الحُكْمُ الدِّينيُّ فكَقولِه سُبحانَه: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: 10] .

8- ختم اللهُ هذه السُّورةَ بقَولِه تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْبِالْحَقِّ على إحدى القراءتَينِ؛ لأنَّه عليه السَّلامُ كان قد بَلَغ في البيانِ الغايةَ لهم، وبَلَغوا النِّهايةَ في أذيَّتِه وتكذيبِه؛ فكان قُصارى أمرِه تعالى بذلك تسليةً له، وتعريفًا أنَّ المقصودَ مَصلحتُهم، فإذا أبَوْا إلَّا التماديَ في كُفرِهم فعليك بالانقِطاعِ إلى رَبِّك؛ لِيَحكُمَ بينك وبينهم بالحَقِّ؛ إمَّا بتعجيلِ العِقابِ بالجِهادِ أو بغَيرِه، وإمَّا بتأخيرِ ذلك؛ فإنَّ أمْرَهم وإن تأخَّرَ فما هو كائِنٌ قَريبٌ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ تَذييلٌ للوعْدِ، وإعلانٌ بأنْ قد آنَ أوانُه، وجاء إبَّانُه

.

2- قولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ صِيغَتْ هذه الآيةُ بأبلَغِ نَظْمٍ؛ إذ اشتملَتْ -بوَجازةِ ألْفاظِها- على مَدْحِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومَدْحِ مُرْسِلِه تعالى، ومَدْحِ رِسالتِه بأنْ كانت مَظهَرَ رَحمةِ اللهِ تعالى للنَّاسِ كافَّةً، وبأنَّها رَحمةُ اللهِ تعالى بخَلْقِه، فهي تَشتمِلُ على أربعةٍ وعِشْرينَ حَرْفًا بدُونِ حَرْفِ العطْفِ الَّذي عُطِفَت به، ذُكِرَ فيه الرَّسولُ، ومُرْسِلُه، والمُرْسَلُ إليهم، والرِّسالةُ، وأوصافُ هؤلاء الأربعةِ، مع إفادةِ عُمومِ الأحوالِ، واسْتِغراقِ المُرسَلِ إليهم، وخُصوصيَّةِ الحَصْرِ. وتَنكيرُ رَحْمَةً للتَّعظيمِ؛ إذ لا مُقْتضَى لإيثارِ التَّنكيرِ في هذا المَقامِ غيرُ إرادةِ التَّعظيمِ، وإلَّا لقِيلَ: إلَّا لِنَرْحَمَ العالمينَ، أو إلَّا أنَّك الرَّحمةُ للعالمينَ؛ فهذه اثْنا عشَرَ معنًى خُصوصيًّا .

- وانتصابُ رَحْمَةً في قولِه: رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ على أنَّه حالٌ من ضَميرِ المُخاطَبِ يَجعَلُه وَصْفًا مِن أوصافِه؛ فإذا انضَمَّ إلى ذلك انحصارُ الموصوفِ في هذه الصِّفَةِ، صار مِن قَصْرِ الموصوفِ على الصِّفَةِ؛ ففيه إيماءٌ لَطيفٌ إلى أنَّ الرَّسولَ اتَّحَدَ بالرَّحمةِ، وانحصَرَ فيها، ومِن المعلومِ أنَّ عُنوانَ الرَّسوليَّةِ مُلازِمٌ له في سائرِ أحوالِه، فصار وُجودُه رَحمةً، وسائرُ أكوانِه رَحمةً. ووُقوعُ الوصْفِ مَصدرًا يُفِيدُ المُبالَغةَ في هذا الاتِّحادِ بحيث تكونُ الرَّحمةُ صِفَةً مُتمكِّنةً مِن إرسالِه؛ ولهذا خَصَّ اللهُ محمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذه السُّورةِ بوَصْفِ الرَّحمةِ، ولم يَصِفْ به غيرَه مِن الأنبياءِ، وكذلك في القُرآنِ كلِّه .

- والتَّعريفُ في لِلْعَالَمِينَ لاستغراقِ كلِّ ما يَصدُقُ عليه اسمُ العالَمِ، فإنْ أُرِيدَ بـ (العالمينَ) أصنافُ ذَوي العِلْمِ؛ فمعنى كونِ الشَّريعةِ المُحمَّديَّةِ مُنحصِرةً في الرَّحمةِ: أنَّها أوسَعُ الشَّرائعِ رَحمةً بالنَّاسِ. وإنْ أُرِيدَ بـ (العالَمينَ) النَّوعُ من أنواعِ المَخلوقاتِ ذاتِ الحياةِ؛ فإنَّ الشَّريعةَ تَتعلَّقُ بأحوالِ الحيوانِ في مُعامَلةِ الإنسانِ إيَّاهُ، وانتفاعِهِ به .

3- قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

- صُدِّرَت جُملةُ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ بالأمْرِ؛ للاهتمامِ بذلك .

- قولُه: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ (إنَّما) لقَصْرِ الحُكْمِ على شَيءٍ، أو لقَصْرِ الشَّيءِ على حُكْمٍ، كما يقالُ: إنَّما زيدٌ قائمٌ، وإنَّما يقومُ زيدٌ. وقدِ اجتمَعَ المِثالانِ في هذه الآيةِ؛ لأنَّ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ مع فاعِلِه بمَنزِلةِ: إنَّما يقومُ زيدٌ، وأَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ بمَنزِلةِ: إنَّما زيدٌ قائمٌ. وفائدةُ اجتماعِهما: الدَّلالةُ على أنَّ الوحْيَ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَقصورٌ على استئثارِ اللهِ بالوَحدانيَّةِ، وفي قولِه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: أنَّ الوحْيَ الوارِدَ على هذا السَّننِ مُوجِبٌ أنْ تُخْلِصوا التَّوحيدَ للهِ، وأنْ تَخْلَعوا الأندادَ؛ ففي الآيةِ قَصرانِ: الأوَّلُ: قَصْرُ الصِّفَةِ على الموصوفِ، وذلك في قَصْرِ الوحْيِ على الوَحدانيَّةِ، والمعنى: لا يُوحَى إليَّ إلَّا اختصاصُ الإلهِ بالوَحدانيَّةِ، لا لأنَّه لم يُوحَ إليه بشَيءٍ غيرِها، ولكنَّها الأصلُ الرَّئيسُ في كلِّ عِبادةٍ وعمَلٍ، وهي المطلوبةُ أوَّلًا وقبْلَ كلِّ شَيءٍ، حتَّى كأنَّ ما عداها غيرُ مَنظورٍ إليهِ، أو غيرُ جَديرٍ بالذِّكْرِ. والقَصْرُ الثَّاني: قَصْرُ الموصوفِ على الصِّفَةِ، وذلك في قَصْرِ اللهِ تعالى على الوَحدانيَّةِ، وهو ظاهِرٌ في قولِه: أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ .

- قولُه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ الفاءُ للدَّلالةِ على أنَّ ما قبْلَها مُوجِبٌ لِمَا بعْدَها ، والاستفهامُ حَقيقيٌّ، أي: فهلْ تُسلِمونَ بعْدَ هذا البَيانِ؟ وهو مُستعمَلٌ أيضًا في معنًى كِنائيٍّ، وهو التَّحريضُ على نَبْذِ الإشراكِ، وعلى الدُّخولِ في دَعوةِ الإسلامِ .

- وصِيغَ قولُه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ في الجُملةِ الاسميَّةِ الدَّالَّةِ على الثَّباتِ دونَ أنْ يُقالَ: (فهلْ تُسلِمون)؛ لإفادةِ أنَّ المطلوبَ منهم إسلامٌ ثابتٌ، وكأنَّ فيه تَعريضًا بهم بأنَّهم في رَيبٍ يَتردَّدونَ .

4- قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ

- قولُه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ فيه إيجازُ قَصْرٍ ؛ لأنَّه تَحدَّثَ بثَلاثِ كَلماتٍ، وهي (آذنْتُكم، على، سَواء) عن كَلامٍ طَويلٍ، أي: إنْ تَولَّوا بعْدَ هذه الآياتِ والشَّواهدِ، وأعْرَضوا، فقُلْ لهم: لقد أعْلَمْناكم على بَيانٍ، أنَّا وإيَّاكم في حَرْبٍ لا مُهادَنةَ فيها، ولا صُلْحَ بيننا، ولكنَّني لا أدري متى يأْذَنُ اللهُ .

- وآَذَنْتُكُمْ تَتضمَّنُ معنى التَّحذيرِ والنِّذارةِ، وهذا الإيذانُ هو إعلامٌ بما يَحِلُّ بمَن تَولَّى مِن العِقابِ وغَلبةِ الإسلامِ .

- قولُه: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ تأخَّرَ المُستفهَمُ عنه لِمُراعاةِ الفاصلةِ؛ إذ لو كان التَّركيبُ: (أقريبٌ ما تُوعَدون أمْ بعيدٌ) لم تكُنْ فاصِلةٌ .

5- قوله تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ

- قولُه: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بينَ الجُمَلِ المُتعاطفةِ، والمقصودُ مِن الجُملةِ: تَعليلُ الإنذارِ بتَحقيقِ حُلولِ الوعيدِ بهم، وتَعليلُ عدَمِ العلمِ بقُرْبِه أو بُعْدِه، علَّلَ ذلك بأنَّ اللهَ تعالى يعلمُ جهرَهم وسِرَّهم .

6- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْبِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ

- قولُه: قَالَ رَبِّ احْكُمْبِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ استِئنافٌ ابتدائيٌّ، قُصِدَ مِن هذا الاستئنافِ التَّلويحُ إلى عاقبةِ أمْرِ هذا الدِّينِ المَرجُوَّةِ المُستقبَلةِ؛ لِتَكونَ قِصَّةُ هذا الدِّينِ وصاحبِه مُستوفاةَ المَبدأِ والعاقبةِ، على وِزانِ ما ذُكِرَ قبْلَها مِن قَصصِ الرُّسلِ السَّابقينَ .

- وحُذِفَ المُتعلِّقُ الثَّاني لفِعْلِ احْكُمْ؛ لتَنبيهِهم إلى أنَّ النَّبيَّ على الحقِّ؛ فإنَّه ما سأَلَ الحُكْمَ بالحقِّ إلَّا لأنَّه يُرِيدُه، أي: احْكُم لَنَا، أو فِيهِم، أو بَيْنَنا .

- قولُه: قَالَ رَبِّ احْكُمْبِالْحَقِّ قولُه: بِالْحَقِّ تأْكيدٌ؛ لِمَا في التَّصريحِ بالصِّفةِ مِن المُبالَغةِ، وإنْ كانتْ لازِمَةً للفعلِ؛ لأنَّ اللهَ لا يَحكُمُ إلَّا بالحقِّ، ونَظيرُه في عَكْسِه مِن صِفَةِ الذَّمِّ قولُه تعالى: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 112]؛ فقد جاء هذا القيدُ على سَبيلِ التَّشنيعِ لِقَتْلِهم والتَّقبيحِ . وقيل: الصفةُ هنا أُقيمَتْ مُقامَ الموصوفِ، والتقديرُ: ربِّ احكُمْ بحكمِك الحقِّ . وقيل: الحقُّ هاهنا بمعنى العذابِ، كأنَّه استعجَل العذابَ لقومِه، فعُذِّبوا يومَ بدرٍ .

- وجُملةُ: وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه. وإضافةُ الرَّبِّ في قوله: رَبِّ احْكُمْ إلى ضَميرِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاصَّةً؛ لِمَا أنَّ الدُّعاءَ مِن الوظائفِ الخاصَّةِ به صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما أنَّ إضافتَه هاهنا إلى ضَميرِ الجَمْعِ المُنتظِمِ للمُؤمِنينَ أيضًا؛ لِمَا أنَّ الاستعانةَ مِنَ الوظائفِ العامَّةِ لهم .

- وتَعريفُ المُسنَدِ إليه وَرَبُّنَا بالإضافةِ؛ لِتَضمُّنِها تَعظيمًا لشأْنِ المُسلِمينَ بالاعتزازِ بأنَّ اللهَ ربُّهم. وفيه تَعريضٌ بالمُشرِكينَ بأنَّهم لَيسوا مِن مَربوبيَّةِ اللهِ في شَيءٍ حسَبَ إعراضِهم عن عِبادتِه إلى عِبادةِ الأصنامِ .

- والتَّعريفُ في الْمُسْتَعَانُ فيه إفادةُ القَصْرِ، أي: لا أستعينُ بغَيرِه على ما تَصِفون .

- وفي قولِه: عَلَى مَا تَصِفُونَ إيجازٌ بالحَذْفِ؛ حيث حُذِف مُضافٌ هو مَجرورُ (على)، والتَّقديرُ: على إبطالِ ما تَصِفون بإظهارِ بُطلانِكم للنَّاسِ؛ حتَّى يُؤمِنوا ولا يَتَّبِعوكم، أو على إبطالِ ما يَترتَّبُ عليه مِن أذاهُم له وللمُؤمِنينَ {قلت المدون التالي بمشيئة الله سورة الحج رقم 22.}

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...