الجمعة، 19 يناير 2024

21.سورة الأنبياء{مكية عدد الايات 112.}

  21.سورة الأنبياء{مكية{سورة الأنبياء مكية | رقم السورة: 21 - عدد آياتها : 112 عدد كلماتها : 1,174 - اسمها بالانجليزي : The Prophets}

أسماء السورة

فضائل السورة وخصائصها=بيان المكي والمدني

مقاصد السورة*موضوعات السورة

سورةُ الأنْبياءِ*مقدمة السورة*أسماء السورة:

سُمِّيَتْ هذه السُّورةُ بسُورةِ (الأنبياءِ)

فعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضي اللهُ عنه، أنَّه قال: (سورةُ «بني إسرائيلَ» و«الكَهفِ» و«مَريمَ» و«طه» و«الأنبياءِ»: هُنَّ مِن العِتاقِ الأُوَلِ ، وهُنَّ مِن تِلادي

فضائل السورة وخصائصها:

أنَّها مِن السُّوَرِ المتقدِّمِ نزولُها، ومِن قديمِ ما حفِظ الصَّحابةُ وتعلَّموه:

كما دلَّ عليه أثرُ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضي اللهُ عنه المتقدِّمُ.

بيان المكي والمدني:

 

سُورةُ الأنبياءِ مَكِّيَّةٌ

، ونَقَل الإجماعَ على ذلك غَيرُ واحدٍ مِن المفَسِّرينَ

مقاصد السورة:

من أهَمِّ مقاصِدِ السُّورة:

1- بَيانُ مَعالمِ التَّوحيدِ، وإقامةُ الأدلةِ عليه، وما لقِي الأنبياءُ في سبيلِ الدعوةِ إليه

.

2- إثباتُ المعادِ، وبيانُ الأدلَّةِ على وُقوعِه

موضوعات السورة :

من أهمِّ الموضوعاتِ التي اشتَمَلَتْ عليها السُّورةُ:

1- الإنذارُ بالبَعثِ، وتحقيقُ وُقوعِه.

2- ذِكرُ عَدَدٍ مِن الشُّبُهاتِ التي أثارها المُشرِكونَ حولَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودَعوتِه، والرَّدُّ عليها.

3- تسليةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عمَّا قاله المُشرِكونَ في شأنِه.

4- التَّذكيرُ بما أصاب الأُمَمَ السَّالِفةَ مِن جرَّاءِ تَكذيبِهم رُسُلَهم.

5- إقامةُ الأدِلَّةِ على وَحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وعلى شُمولِ قُدرتِه.

6- ذِكْرُ أخبارِ بَعضِ الأنبياءِ، ومنهم موسى وهارونُ، وإبراهيمُ ولُوطٌ، وإسحاقُ ويَعقوبُ، ونوحٌ، وأيُّوبُ، وداودُ، وسُلَيمانُ، وإسماعيلُ، وإدريسُ، ويُونُسُ، وزكريَّا -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ.

7- تعقيبُ أخبارِ الأنبياءِ بالمقصودِ الأساسيِّ مِن رِسالتِهم، وهو دَعوةُ النَّاسِ جميعًا إلى إخلاصِ العبادةِ لله.

8- ذِكرُ بَعضِ أشراطِ السَّاعةِ، وشَيءٍ من أهوالِها، وأحوالِ النَّاسِ فيها.

9- خُتِمَت السُّورةُ بالحَديثِ عن سُنَّةٍ مِن سُنَنِ اللهِ التي لا تتخَلَّفُ، وهي أنَّ العاقِبةَ للمُؤمِنينَ؛ والحديثِ عن رِسالةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعن مَوقِفِه من أعدائِه.

سورةُ الأنْبياءِ


سورة الانبياء

 

سورة الأنبياء مكية | رقم السورة: 21 - عدد آياتها : 112 عدد كلماتها : 1,174 

- اسمها بالانجليزي : The Prophets

 

سورة الأنبياء مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ (1) مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ (2) لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلۡ هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡۖ أَفَتَأۡتُونَ ٱلسِّحۡرَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعۡلَمُ ٱلۡقَوۡلَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ (4) بَلۡ قَالُوٓاْ أَضۡغَٰثُ أَحۡلَٰمِۭ بَلِ ٱفۡتَرَىٰهُ بَلۡ هُوَ شَاعِرٞ فَلۡيَأۡتِنَا بِـَٔايَةٖ كَمَآ أُرۡسِلَ ٱلۡأَوَّلُونَ (5) مَآ ءَامَنَتۡ قَبۡلَهُم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَآۖ أَفَهُمۡ يُؤۡمِنُونَ (6) وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسۡـَٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلۡنَٰهُمۡ جَسَدٗا لَّا يَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقۡنَٰهُمُ ٱلۡوَعۡدَ فَأَنجَيۡنَٰهُمۡ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهۡلَكۡنَا ٱلۡمُسۡرِفِينَ (9) لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (10) وَكَمۡ قَصَمۡنَا مِن قَرۡيَةٖ كَانَتۡ ظَالِمَةٗ وَأَنشَأۡنَا بَعۡدَهَا قَوۡمًا ءَاخَرِينَ (11) فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأۡسَنَآ إِذَا هُم مِّنۡهَا يَرۡكُضُونَ (12) لَا تَرۡكُضُواْ وَٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰ مَآ أُتۡرِفۡتُمۡ فِيهِ وَمَسَٰكِنِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡـَٔلُونَ (13) قَالُواْ يَٰوَيۡلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلۡكَ دَعۡوَىٰهُمۡ حَتَّىٰ جَعَلۡنَٰهُمۡ حَصِيدًا خَٰمِدِينَ (15) وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا لَٰعِبِينَ (16) لَوۡ أَرَدۡنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهۡوٗا لَّٱتَّخَذۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَٰعِلِينَ (17) بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسۡتَحۡسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفۡتُرُونَ (20) أَمِ ٱتَّخَذُوٓاْ ءَالِهَةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ هُمۡ يُنشِرُونَ (21) لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسۡـَٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ وَهُمۡ يُسۡـَٔلُونَ (23) أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡۖ هَٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِيَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِيۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ (24) وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ (25) وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ (26) لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ (27) يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ (28) ۞وَمَن يَقُلۡ مِنۡهُمۡ إِنِّيٓ إِلَٰهٞ مِّن دُونِهِۦ فَذَٰلِكَ نَجۡزِيهِ جَهَنَّمَۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّٰلِمِينَ (29) أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ (30) وَجَعَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ وَجَعَلۡنَا فِيهَا فِجَاجٗا سُبُلٗا لَّعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ (31) وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ سَقۡفٗا مَّحۡفُوظٗاۖ وَهُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهَا مُعۡرِضُونَ (32) وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ (34) كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةٗۖ وَإِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ (35) وَإِذَا رَءَاكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا ٱلَّذِي يَذۡكُرُ ءَالِهَتَكُمۡ وَهُم بِذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ هُمۡ كَٰفِرُونَ (36) خُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ مِنۡ عَجَلٖۚ سَأُوْرِيكُمۡ ءَايَٰتِي فَلَا تَسۡتَعۡجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (38) لَوۡ يَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمۡ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ (39) بَلۡ تَأۡتِيهِم بَغۡتَةٗ فَتَبۡهَتُهُمۡ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ (40) وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبۡلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنۡهُم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (41) قُلۡ مَن يَكۡلَؤُكُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحۡمَٰنِۚ بَلۡ هُمۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِم مُّعۡرِضُونَ (42) أَمۡ لَهُمۡ ءَالِهَةٞ تَمۡنَعُهُم مِّن دُونِنَاۚ لَا يَسۡتَطِيعُونَ نَصۡرَ أَنفُسِهِمۡ وَلَا هُم مِّنَّا يُصۡحَبُونَ (43) بَلۡ مَتَّعۡنَا هَٰٓؤُلَآءِ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۗ أَفَلَا يَرَوۡنَ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَآۚ أَفَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ (44) قُلۡ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلۡوَحۡيِۚ وَلَا يَسۡمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ (45) وَلَئِن مَّسَّتۡهُمۡ نَفۡحَةٞ مِّنۡ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَٰوَيۡلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ (46) وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡـٔٗاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَيۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ (47) وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ ٱلۡفُرۡقَانَ وَضِيَآءٗ وَذِكۡرٗا لِّلۡمُتَّقِينَ (48) ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَهُم مِّنَ ٱلسَّاعَةِ مُشۡفِقُونَ (49) وَهَٰذَا ذِكۡرٞ مُّبَارَكٌ أَنزَلۡنَٰهُۚ أَفَأَنتُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ (50) ۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ إِبۡرَٰهِيمَ رُشۡدَهُۥ مِن قَبۡلُ وَكُنَّا بِهِۦ عَٰلِمِينَ (51) إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَا هَٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيٓ أَنتُمۡ لَهَا عَٰكِفُونَ (52) قَالُواْ وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَٰبِدِينَ (53) قَالَ لَقَدۡ كُنتُمۡ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُمۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ (54) قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا بِٱلۡحَقِّ أَمۡ أَنتَ مِنَ ٱللَّٰعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمۡ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا۠ عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ ٱلشَّٰهِدِينَ (56) وَتَٱللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصۡنَٰمَكُم بَعۡدَ أَن تُوَلُّواْ مُدۡبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمۡ جُذَٰذًا إِلَّا كَبِيرٗا لَّهُمۡ لَعَلَّهُمۡ إِلَيۡهِ يَرۡجِعُونَ (58) قَالُواْ مَن فَعَلَ هَٰذَا بِـَٔالِهَتِنَآ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (59) قَالُواْ سَمِعۡنَا فَتٗى يَذۡكُرُهُمۡ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبۡرَٰهِيمُ (60) قَالُواْ فَأۡتُواْ بِهِۦ عَلَىٰٓ أَعۡيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡهَدُونَ (61) قَالُوٓاْ ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَٰذَا بِـَٔالِهَتِنَا يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ (62) قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا فَسۡـَٔلُوهُمۡ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ فَقَالُوٓاْ إِنَّكُمۡ أَنتُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمۡ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا هَٰٓؤُلَآءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَا يَضُرُّكُمۡ (66) أُفّٖ لَّكُمۡ وَلِمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (67) قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوٓاْ ءَالِهَتَكُمۡ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ (68) قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ (69) وَأَرَادُواْ بِهِۦ كَيۡدٗا فَجَعَلۡنَٰهُمُ ٱلۡأَخۡسَرِينَ (70) وَنَجَّيۡنَٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَا لِلۡعَٰلَمِينَ (71) وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ نَافِلَةٗۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا صَٰلِحِينَ (72) وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ (73) وَلُوطًا ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗا وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِي كَانَت تَّعۡمَلُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمَ سَوۡءٖ فَٰسِقِينَ (74) وَأَدۡخَلۡنَٰهُ فِي رَحۡمَتِنَآۖ إِنَّهُۥ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذۡ نَادَىٰ مِن قَبۡلُ فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَنَجَّيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِيمِ (76) وَنَصَرۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمَ سَوۡءٖ فَأَغۡرَقۡنَٰهُمۡ أَجۡمَعِينَ (77) وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡكُمَانِ فِي ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِيهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ (78) فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ (79) وَعَلَّمۡنَٰهُ صَنۡعَةَ لَبُوسٖ لَّكُمۡ لِتُحۡصِنَكُم مِّنۢ بَأۡسِكُمۡۖ فَهَلۡ أَنتُمۡ شَٰكِرُونَ (80) وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةٗ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦٓ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيۡءٍ عَٰلِمِينَ (81) وَمِنَ ٱلشَّيَٰطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُۥ وَيَعۡمَلُونَ عَمَلٗا دُونَ ذَٰلِكَۖ وَكُنَّا لَهُمۡ حَٰفِظِينَ (82) ۞وَأَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ (83) فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَكَشَفۡنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرّٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَذِكۡرَىٰ لِلۡعَٰبِدِينَ (84) وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِدۡرِيسَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰبِرِينَ (85) وَأَدۡخَلۡنَٰهُمۡ فِي رَحۡمَتِنَآۖ إِنَّهُم مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (86) وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (87) فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَٰلِكَ نُـۨجِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّآ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ رَبِّ لَا تَذَرۡنِي فَرۡدٗا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡوَٰرِثِينَ (89) فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَوَهَبۡنَا لَهُۥ يَحۡيَىٰ وَأَصۡلَحۡنَا لَهُۥ زَوۡجَهُۥٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ (90) وَٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَٰهَا وَٱبۡنَهَآ ءَايَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ (91) إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوٓاْ أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡۖ كُلٌّ إِلَيۡنَا رَٰجِعُونَ (93) فَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا كُفۡرَانَ لِسَعۡيِهِۦ وَإِنَّا لَهُۥ كَٰتِبُونَ (94) وَحَرَٰمٌ عَلَىٰ قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَآ أَنَّهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ (95) حَتَّىٰٓ إِذَا فُتِحَتۡ يَأۡجُوجُ وَمَأۡجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٖ يَنسِلُونَ (96) وَٱقۡتَرَبَ ٱلۡوَعۡدُ ٱلۡحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَٰخِصَةٌ أَبۡصَٰرُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَٰوَيۡلَنَا قَدۡ كُنَّا فِي غَفۡلَةٖ مِّنۡ هَٰذَا بَلۡ كُنَّا ظَٰلِمِينَ (97) إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَٰرِدُونَ (98) لَوۡ كَانَ هَٰٓؤُلَآءِ ءَالِهَةٗ مَّا وَرَدُوهَاۖ وَكُلّٞ فِيهَا خَٰلِدُونَ (99) لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَهُمۡ فِيهَا لَا يَسۡمَعُونَ (100) إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ (101) لَا يَسۡمَعُونَ حَسِيسَهَاۖ وَهُمۡ فِي مَا ٱشۡتَهَتۡ أَنفُسُهُمۡ خَٰلِدُونَ (102) لَا يَحۡزُنُهُمُ ٱلۡفَزَعُ ٱلۡأَكۡبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ هَٰذَا يَوۡمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ (103) يَوۡمَ نَطۡوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلۡكُتُبِۚ كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ (104) وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَٰغٗا لِّقَوۡمٍ عَٰبِدِينَ (106) وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ (107) قُلۡ إِنَّمَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ (108) فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ ءَاذَنتُكُمۡ عَلَىٰ سَوَآءٖۖ وَإِنۡ أَدۡرِيٓ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٞ مَّا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡتُمُونَ (110) وَإِنۡ أَدۡرِي لَعَلَّهُۥ فِتۡنَةٞ لَّكُمۡ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ (111) قَٰلَ رَبِّ ٱحۡكُم بِٱلۡحَقِّۗ وَرَبُّنَا ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (112)

تفسير الآيات (1-5)

ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ (1) مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ (2) لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلۡ هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡۖ أَفَتَأۡتُونَ ٱلسِّحۡرَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعۡلَمُ ٱلۡقَوۡلَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ (4) بَلۡ قَالُوٓاْ أَضۡغَٰثُ أَحۡلَٰمِۭ بَلِ ٱفۡتَرَىٰهُ بَلۡ هُوَ شَاعِرٞ فَلۡيَأۡتِنَا بِـَٔايَةٖ كَمَآ أُرۡسِلَ ٱلۡأَوَّلُونَ (5)

غريب الكلمات:

مُحْدَثٍ: أي: مُجَدَّدٍ إنزالُه، والمُحدَثُ: ما أُوجِدَ بعدَ أنْ لم يكُنْ، وذلك إمَّا في ذاتِه، أو إحداثِه عندَ مَن حَصَلَ عندَه، وأصلُ (حدث): يدلُّ على كَونِ الشَّيءِ لم يكُنْ لَاهِيَةً: أي: غافِلةً وساهيةً، وأصل (لهو): يدُلُّ على شُغلٍ عن شَيءٍ .

النَّجْوَى: أي: السِّرارَ والمُناجاةَ، وأصلُ (نجو) هنا: يدلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ .

أَضْغَاثُ: أي: أخلاطُ، وأضغاثُ الأحلامِ: هي ما لا تأويلَ له مِنَ الرُّؤيا، كأنَّه جماعاتٌ تُجمَعُ مِن الرُّؤيا كما يُجمَعُ الحَشيشُ، وأصلُ (ضغث): يدُلُّ على التباسِ الشَّيءِ بَعضِه ببَعضٍ

 

مشكل الإعراب


قولُه تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ

في محلِّ الَّذِينَ أوجهٌ، منها:

الوجهُ الأول: الرفعُ، وذلك على أنَّه بدلٌ مِن واوِ (أَسَرُّوا). أو أن يكونَ (الذين) مبتدأً، و(أَسَرُّوا) جملةَ الخبرِ، قُدِّمَتْ على المبتدأ. أو أنَّه خبرُ مبتدأٍ مضمَرٍ، تقديرُه: هم الذين ظلموا.

الوجهُ الثاني: النَّصبُ على الذمِّ. أو على إضمارِ (أعني). وقيل غير ذلك.

قولُه: هَلْ هَذَا جملةٌ في محلِّ نصبٍ بدَلٌ من النَّجْوَى؛ لأنَّه في الواقِعِ هو الكلامُ الذي تناجَوا به. أو في محلِّ نصبٍ بإضمار القَولِ. أو في محلِّ نصبٍ على أنها محكيَّةٌ بالنجوى؛ لأنَّها في معنى القَولِ، أو لا محلَّ لها تفسيريَّةٌ للنَّجوى

المعنى الإجمالي:

 

يقول الله تعالى: قَرُبَ وَقتُ حِسابِ النَّاسِ على ما قدَّموا مِن عَمَلٍ، والحالُ أنَّهم لاهُونَ غافِلونَ مُعرِضونَ عن هذا الإنذارِ؛ وذلك أنَّهم ما مِن شَيءٍ يُستحدَثُ نُزولُه مِن القُرآنِ إلَّا كان سَماعُهم له سَماعَ لَعِبٍ واستِهزاءٍ، وقلوبُهم غافِلةٌ عن القُرآنِ الكريمِ، مَشغولةٌ بالدُّنيا وشَهواتِها. وأسَرَّ مُشرِكو قُريشٍ المناجاةَ فيما بينهم، قائلًا بعضُهم لبعضٍ: هل هذا الذي يَزعُمُ أنَّه رَسولٌ مِن اللهِ إليكم إلَّا بَشَرٌ مِثلُكم، وما القُرآنُ الذي جاء به إلَّا سِحرٌ، فكيف تجيئونَ إليه وتتَّبِعونَه مع عِلمِكم وإدراكِكم أنَّه سِحرٌ؟!

فردَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الكُفَّارِ المكَذِّبينَ، فقال: ربِّي يعلَمُ كلَّ قَولٍ في السَّماءِ والأرضِ، ويعلَمُ ما أسرَرْتُموه وما أعلَنتُموه، وهو السَّميعُ العَليمُ.

بل جحَدَ الكُفَّارُ القُرآنَ، وقالوا: إنَّه أخلاطُ أحلامٍ لا حَقيقةَ لها، بل هو اختِلاقٌ وكَذِبٌ مفترًى، بل إنَّ مُحمَّدًا شاعرٌ، جاءَكم بشِعرٍ، فلْيَجِئْنا بمُعجِزةٍ مَحسوسةٍ -كناقةِ صالحٍ، وعصا موسى- إنْ أراد منَّا أن نُصَدِّقَه ونؤمِنَ به.

تفسير الآيات:

 

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1).

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ.

أي: قَرُبَ

وقتُ حِسابِ النَّاسِ يومَ القيامةِ على أعمالِهم التي عَمِلوها في دُنياهم .

وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ.

أي: والحالُ أنَّهم في غفلةٍ في الدُّنيا عن اقترابِ حِسابِهم، وعمَّا يَفعَلُ اللهُ بهم في ذلك اليومِ، وقد أعرَضوا عن التفكُّرِ في الآخرةِ، وما ينتظرُهم فيها مِن الحسابِ، ولم يستعِدُّوا لها بالأعمالِ الصَّالحةِ !

مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ اللهُ سُبحانَه عن غَفلةِ الكافرينَ وإعراضِهم، عَلَّلَ ذلك بقَولِه :

مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2).

أي: ما يأتيهم مِن وَحيٍ من اللهِ حَديثِ النُّزولِ -لِتَذكيرِهم ومَوعِظتِهم- إلَّا استَمَعوه سَماعَ لَعِبٍ واستِهزاءٍ به، فلا يَعتَبِرونَ، ولا يتَّعظُونَ به .

كما قال تعالى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم: 59 - 61] .

لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3).

لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.

أي: غارِقةً قُلوبُهم في اللَّهوِ والغَفلةِ عن القرآنِ، مُتشاغِلةً بدُنياها وشَهَواتِها عن التأمُّلِ والتفَهُّمِ لِمَعانيه، فلا يتدَبَّرونَ حِكَمَه، ولا يتفَكَّرونَ فيما أودَعَ اللهُ فيه مِن الحُجَجِ والبراهينِ .

وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.

أي: وبالَغَ مُشرِكو قُرَيشٍ في إخفاءِ المناجاةِ فيما بيْنهم، فقال بعضُهم لِبَعضٍ: هل هذا الذي يَزعُمُ أنَّه رَسولٌ من اللهِ إليكم إلَّا إنسانٌ مِثلُكم في صُوَرِكم وخَلْقِكم، واحتياجِه للطعامِ والشَّرابِ وغَيرِ ذلك ؟!

كما قال تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] .

أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ.

أي: أفتَقبَلونَ مِن محمَّدٍ القُرآنَ، وتصَدِّقونَ به وتتَّبِعونَه، وأنتم تَعلَمونَ وتُدرِكونَ أنَّه سِحرٌ ؟!

كما قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الإسراء: 47، 48].

قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لما أورَدَ هذا الكلامَ عَقِيبَ ما حكَى عن الكافرينَ؛ وجَب أن يكونَ كالجوابِ لِما قالوه، فكأنَّه قال: إنَّكم وإنْ أخفيتُم قَولَكم وطَعْنَكم، فإنَّ ربِّي عالمٌ بذلك، وإنَّه مِن وَراءِ عقوبتِه، فتُوُعِّدوا بذلك؛ لكي لا يعودوا إلى مِثلِه .

وأيضًا لَمَّا كان اللهُ تعالى لا يُقِرُّ مَن كَذَبَ عليه، فضلًا عن أن يصَدِّقَه ويؤيِّدَه، ولا يخفَى عليه كيدٌ حتى يلزَمَ منه نَقصُ ما أرادَه؛ قال دالًّا لهم على صِدقِه، منبِّهًا على مَوضِعِ الحجَّةِ في أمرِه :

قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ: قَالَ على الخبَرِ، أي: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أجاب الكُفَّارَ بهذا القَولِ .

2- قراءةُ: قُلْ على الأمرِ، أي: أنَّ اللهَ أمرَ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُجيبَ الكُفَّارَ بهذا القَولِ .

قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

أي: قال محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للكفَّارِ الذين يكذِّبونَه: ربِّي يعلَمُ كلَّ قولٍ في السَّماءِ والأرضِ سِرًّا كان أو جَهرًا، لا يخفَى عليه شَيءٌ ممَّا يُقالُ فيهما، وهو الذي أنزَل هذا القُرآنَ المُشتَمِلَ على خبَرِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، الذي لا يستطيعُ أحدٌ أن يأتيَ بمِثلِه إلَّا الذي يعلَمُ السرَّ في السَّمواتِ والأرضِ .

كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 4 - 6].

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

أي: واللهُ هو السَّميعُ لكلِّ قولٍ في السَّماءِ والأرضِ، العليمُ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بأحوالِنا وما في قُلوبنا، وبالصَّادِقِ والكاذِبِ منَّا .

بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكر اللهُ تعالى عن الكافرينَ أنَّهم قالوا: إنَّ ما أتَى به سِحرٌ؛ ذكَرَ اضطرابَهم في مقالاتِهم، فذكَر أنَّهم أضرَبوا عن نسبةِ السِّحرِ إليه، وقالوا: ما يأتي به إنَّما هو أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، ثمَّ أضرَبوا عن هذا فقالوا: بَلِ افْتَرَاهُ، أي: اختَلَقَه وليس مِن عندِ الله، ثمَّ أضرَبوا عن هذا فقالوا: بَلْ هُوَ شَاعِرٌ، وهكذا المبطِلُ لا يَثبُتُ على قَولٍ، بل يبقى متحَيِّرًا .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان وَصْفُهم له بأنَّه سِحرٌ مِمَّا يَهولُ السَّامِعَ، ويَعلَمُ منه أنَّه مُعجِزٌ، فرُبَّما أدَّى إلى الاستِبصارِ في أمرِه؛ أخبَرَ أنَّهم نزَلوا به عن رُتبةِ السِّحرِ على سَبيلِ الإضرابِ، فقال :

بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ.

أي: بل قال الكافِرونَ: القرآنُ أشياءُ مُختَلِطةٌ رآها محمَّدٌ في منامِه ولا حقيقةَ لها، بل هو كذِبٌ افتراه محمَّدٌ مِن قِبَلِ نفْسِه، بل محمَّدٌ شاعِرٌ جاءكم بشِعرٍ، وزعم أنَّه مِن عندِ ربِّه !

فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ.

أي: قال الكافرونَ: فَلْيَأْتِنَا محمَّدٌ بمُعجِزةٍ حِسِّيَّةٍ تدُلُّ على صِدقِه، كما أيَدَّ اللهُ رُسُلَه السَّابقينَ بالمُعجِزاتِ؛ كناقةِ صالحٍ، وعصا موسى، ومعجزاتِ عيسى، وغيرِ ذلك من المعجزاتِ التي لا يَقدِرُ عليها إلَّا اللهُ، ولا يأتي بها إلَّا الأنبياءُ والرُّسُلُ عليهم السَّلامُ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ذكَرَ تعالى هذا الاقترابَ؛ لِما فيه مِن المصلحةِ للمُكَلَّفينَ، فيكونُ أقرَبَ إلى تلافي الذُّنوبِ، والتحَرُّزِ عنها خوفًا من ذلك

، فمَن عَلِمَ اقترابَ الساعةِ قَصُرَ أمَلُه، وطابت نفسُه بالتَّوبةِ، ولم يركَنْ إلى الدُّنيا، فكأنَّ ما كان لم يكُنْ إذا ذهب، وكلُّ آتٍ قَريبٌ، والموتُ لا محالةَ آتٍ، وموتُ كلِّ إنسانٍ قِيامُ ساعتِه، والقيامةُ أيضًا قريبةٌ بالإضافةِ إلى ما مضَى من الزَّمانِ، فما بقِي مِن الدُّنيا أقلُّ مِمَّا مضَى .

2- قَولُ الله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ذلك ذَمٌّ للكُفَّارِ، وزَجرٌ لِغَيرِهم عن مِثلِه؛ لأنَّ الانتفاعَ بما يُسمَعُ لا يكونُ إلَّا بما يَرجِعُ إلى القَلبِ مِن تدَبُّرٍ وتفَكُّرٍ، وإذا كانوا عندَ استماعِه لاعبينَ حَصَلوا على مجَرَّدِ الاستِماعِ الذي قد تُشارِكُ البهيمةُ فيه الإنسانَ

 

!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ إن قيل: ما وجهُ وصفِه بالاقتراب وقد مضَى لهذا الوعيدِ مئاتُ السنينَ ولم يقَعْ؟

فالجوابُ عنه بعدةِ أجوبةٍ:

أحدها: لقلةِ ما بقيَ بالإضافةِ إلى ما مضَى.

الثاني: لأنَّه آتٍ، وكلُّ آتٍ قريبٌ، وإنْ طالَتْ مُدَّتُه.

الثالث: أنَّه قريبٌ عندَ الله، وإن كان بعيدًا بالنسبةِ إلى غيرِه، قال الله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا

[المعارج:6، 7].

2- قَولُ الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ لم يعَيِّنِ الوقتَ؛ لأجْلِ أنَّ كِتمانَه أصلَحُ، كما أنَّ كِتمانَ وَقتِ المَوتِ أصلَحُ .

3- قَولُ الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ الفائِدةُ في تَسميةِ يَومِ القيامةِ بـ (يوم الحساب): أنَّ الحِسابَ هو الكاشِفُ عن حالِ المرءِ؛ فالخَوفُ مِن ذِكرِه أعظَمُ .

4- قوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ استدلَّ المعتزلةُ بوَصْفِ الذِّكْرِ بكونِه مُحْدَثًا على أَنَّ القرآنَ مُحْدَثٌ أي: مخلوقٌ؛ لأَنَّ الذِّكْرَ هنا هو القرآنُ.

والجواب: أنَّ المرادَ محدَثٌ تنزيلُه، والحدوثُ في لغةِ العربِ العامَّةِ ليس هو الحدوثَ في اصطلاحِ أهلِ الكلامِ؛ فإنَّ العربَ يُسمُّون ما تجدَّد حادِثًا .

5- وفي قولِه: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ أخبَرَ عنهم بخَبرينِ ظاهِرُهما التَّنافي؛ لأنَّ الغفلةَ عن الشَّيءِ والإعراضَ عنه مُتنافيانِ، لكنْ يُجْمَعُ بينَهما باختلافِ حالينِ: أخبَرَ عنهم أوَّلًا أنَّهم لا يتفكَّرونَ في عاقبةٍ، بل هم غافِلونَ عمَّا يَؤولُ إليه أمْرُهم، ثمَّ أخبَرَ عنهم ثانيًا أنَّهم إذا نُبِّهوا من سِنَةِ الغفلةِ، وذُكِّروا بما يَؤولُ إليه أمْرُ المُحسِنِ والمُسيءِ، أعْرَضوا عنه، ولم يُبالوا بذلك .

6- قَولُ الله تعالى: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ لَمَّا كان المُشرِكونَ يَصِفونَ القُرآنَ بجَميعِ هذه الأوصافِ جُملةً، يقولونَ لكُلِّ شَخصٍ ما رأَوه أنسَبَ له منها؛ نَبَّه اللهُ سُبحانَه كلَّ مَن له لُبٌّ على بُطلانِها كُلِّها بتناقُضِها بحَرفِ الإضرابِ؛ إشارةً إلى أنَّه كان يجِبُ على مَن قالها على قِلَّةِ عَقْلِه وعَدَمِ حَيائِه ألَّا يَنتَقِلَ إلى قَولٍ منها إلَّا بعد الإعراضِ عن الذي قَبلَه، وأنَّه مِمَّا يُضرَبُ عنه؛ لِكَونِه غَلَطًا، ما قيل إلَّا عن سَبْقِ لِسانٍ وعَدَمِ تأمُّلٍ؛ سَترًا لعِنادِه، وتَدليسًا لِفُجورِه! ولو فعل ذلك لكانت جَديرةً بانكشافِ بُطلانِها بمُجَرَّدِ الانتِقالِ، فكيف عند اجتِماعِها؟ ولَمَّا كانت نِسبتُه إلى الشِّعرِ أضعَفَها شأنًا، وأوضَحَها بُطلانًا؛ لم يحتَجْ إلى إضرابٍ عنه .

7- في قولِهم: كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ دَلالةٌ على مَعرفتِهم بإتيانِ الرُّسلِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ

- قولُه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ أُسلوبٌ بديعٌ في الافتتاحِ؛ لِمَا فيه من غَرابةِ الأسلوبِ، وإدخالِ الرَّوعِ على المُنذَرينَ؛ فإنَّ المُرادَ بالنَّاسِ مُشْرِكو مكَّةَ -على قولٍ في التفسيرِ-، واقْتَرَبَ فيه مُبالَغةٌ في القُرْبِ، فصِيغَةُ الافتعالِ الموضوعةُ للمُطاوَعةِ مُستعمَلةٌ في تَحقُّقِ الفعلِ، أي: اشتَدَّ قُرْبُ وُقوعِه بهم

.

- وفي قولِه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ أسنَدَ الاقترابَ إلى الحسابِ لا إلى السَّاعةِ، مع استتباعِها له ولسائرِ ما فيها من الأحوالِ والأهوالِ الفظيعةِ؛ لانسياقِ الكلامِ إلى بَيانِ غفْلتِهم عنه، وإعراضِهم عمَّا يُذكِّرُهم ذلك. واللَّامُ في لِلنَّاسِ مُتعلِّقةٌ بالفعْلِ، وتَقديمُها على الفاعلِ؛ للمُسارَعةِ إلى إدخالِ الرَّوعةِ؛ فإنَّ نِسْبةَ الاقترابِ إليهم مِن أوَّلِ الأمْرِ ممَّا يَسوؤُهم ويُورِثُهم رَهْبةً وانزِعاجًا من المُقترِبِ. وفي إسنادِ الاقترابِ المُنْبِئِ عن التَّوجُّهِ نحْوَهم إلى الحسابِ -مع إمكانِ العكْسِ بأنْ يُعتبرَ التَّوجُّهُ والإقبالُ من جِهَتِهم نحْوَه- من تَفخيمِ شأْنِه، وتَهويلِ أمْرِه ما لا يَخْفى؛ لِمَا فيه من تَصويرِه بصُورةِ شَيءٍ مُقبِلٍ عليهم، لا يَزالُ يُطالِبُهم ويُصيبُهم لا مَحالةَ

.

- قولُه: لِلنَّاسِ المُرادُ به المُشرِكونَ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ فيكونُ هذا من إطلاقِ اسمِ الجنْسِ على بعْضِه للدَّليلِ القائمِ، وهو ما يَتْلوه من صِفاتِ المُشرِكين

.

- والضَّميرُ في قولِه: حِسَابُهُمْ عائدٌ إلى النَّاسِ؛ فصار قولُه: لِلنَّاسِ مُساوِيًا للضَّميرِ الَّذي أُضِيفَ إليه (حِساب)، فكأنَّه قيل: اقترَبَ حِسابٌ للنَّاسِ لهم؛ فكان تأْكيدًا لفظيًّا، وأصْلُ النَّظمِ: اقترَبَ للنَّاسِ الحسابُ. وإنَّما نُظِمَ التَّركيبُ على هذا النَّظمِ بأنْ قُدِّمَ ما يدُلُّ على المُضافِ إليه، وعُرِّفَ النَّاسُ تَعريفَ الجنْسِ؛ ليَحصُلَ ضَرْبٌ من الإبهامِ، ثمَّ يقَعَ بعْدَه التَّبيينُ. ولِمَا في تَقديمِ الجارِّ والمجرورِ من الاهتمامِ بأنَّ الاقترابَ للنَّاسِ؛ لِيَعْلمَ السَّامِعُ أنَّ المُرادَ تَهديدُ المُشرِكينَ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ لأنَّهم الَّذين يُكنى عنهم بالنَّاسِ كثيرًا في القُرآنِ، وعند التَّقديمِ احتِيجَ إلى تَقديرِ مُضافٍ، فصار مثْلَ: اقترَبَ حِسابٌ للنَّاسِ الحساب، وحُذِفَ المُضافُ؛ لدَلالةِ مُفسِّرِه عليه، ولمَّا كان الحِسابُ حِسابَ النَّاسِ المذكورينَ، جِيءَ بضَميرِ النَّاسِ؛ ليَعودَ إلى لفْظِ النَّاسِ، فيَحْصُلَ تأكيدٌ آخرُ، وهذا نمَطٌ بديعٌ من نسْجِ الكلامِ

.

- ودلَّتْ (في) في قولِه: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ على الظَّرفيَّةِ الَّتي هي شِدَّةُ تَمكُّنِ الوصْفِ منهم، أي: وهم غافِلونَ أشَدَّ الغَفْلةِ، حتَّى كأنَّهم مُنْغمِسون فيها، أو مَظْروفونَ في مُحيطِها؛ ذلك أنَّ غفْلَتَهم عن يومِ الحسابِ مُتأصِّلةٌ فيهم؛ بسَببِ سابِقِ كُفْرِهم

.

2- قوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ

- جُملةُ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ ... مُبيِّنةٌ لجُملةِ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ؛ لبَيانِ تَمكُّنِ الغَفْلةِ منهم وإعراضِهم، بأنَّهم إذا سَمِعوا في القُرآنِ تَذكيرًا لهم بالنَّظرِ والاستِدلالِ، اشْتَغلوا عنه باللَّعبِ واللَّهوِ، فلمْ يَفْقهوا معانِيَه، وكان حَظُّهم منه سَماعَ ألْفاظِه

.

- والذِّكرُ: القُرآنُ؛ أُطْلِقَ عليه اسْمُ الذِّكرِ الَّذي هو مصدرٌ؛ لإفادةِ قُوَّةِ وصْفِه بالتَّذكيرِ

.

- و(مِن) في قولِه: مِنْ رَبِّهِمْ لابتداءِ الغايةِ مُتعلِّقةٌ بـ يَأْتِيهِمْ، أو بمَحذوفٍ هو صِفَةٌ لـ ذِكْرٍ، وفي ذلك دَلالةٌ على فضْلِه وشَرفِه، وكَمالِ شَناعةِ ما فَعَلوا به. والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ؛ لتَشديدِ التَّشنيعِ

.

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ، وقال في (الشُّعراءِ): وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ [الشعراء: 5] ، فخُصَّتْ هذه السُّورة بقولِه: مِنْ رَبِّهِمْ بالإضافةِ؛ ووجْهُه: أنَّ هذينِ الاسمينِ العَظيمينِ -(الرَّب) و(الرَّحمن)- توارَدَا في الكتابِ العزيزِ كثيرًا، ثمَّ إنَّ اسْمَه سُبحانه (الرَّحمنَ) يَغلِبُ وُرودُه حيث يُرادُ الإشارةُ إلى العفْوِ والإحسانِ والرِّفقِ بالعبادِ والتَّلطُّفِ والتَّأنيسِ. وأمَّا اسْمُه (الرَّبُّ) فيَعُمُّ وُرودُه طَرفَيِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ؛ أمَّا التَّرغيبُ فبَيِّنٌ، وأمَّا التَّرهيبُ فحيث يَرِدُ معنى مِلْكيَّتِه سُبحانه لهم، وانفرادِه بإيجادِهم، وإدرارِ أرزاقِهم، وبَيانِ انفرادِه تعالى بذلك وهم على كُفرِهم. ولمَّا تقدَّمَ قبْلَ آيةِ (الأنبياءِ) مِن الأخبارِ ما طَيُّه وعيدٌ وترهيبٌ معَ تَلطُّفِه سُبحانه بهم بتَذكيرِهم، لم يكُنْ لِيُناسِبَ ذلك وُرودُ اسْمِه (الرَّحمنِ). أمَّا آيةُ (الشُّعراءِ) فمَبْنيَّةٌ على تأْنيسِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإعلامِه أنَّ توقُّفَ قومِه عن الإيمانِ إنَّما هو بقُدرتِه تعالى عليهم، ولو شاء لأراهم آيةً تُبْهِرُهم، ثمَّ رجَعَ الكلامُ إلى تَعنيفِ المُكذِّبينَ، فلمَّا كان بِناءُ الآيةِ على التَّأنيسِ والتَّلطُّفِ بِنَبيِّنا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإعلامِه بأنَّ تأْخيرَ العذابِ عنهم إنَّما هو إبقاءٌ منه تعالى؛ ليَسْتجيبَ مَن قُدِّرَ له الإيمانُ منهم، فأشار إلى هذا، وناسبَهُ اسْمُه (الرَّحمنُ)؛ فوضَحَ وُرودُ كلٍّ من الآيتينِ في مَوضعِه على يُناسِبُ

. وقيل غيرُ ذلك

.

- قولُه: مُحْدَثٍ فيه كِنايةٌ عن عدَمِ انتفاعِهم بالذِّكْرِ كلَّما جاءهم، بحيث لا يَزالونَ بحاجةٍ إلى إعادةِ التَّذكيرِ وإحداثِه، مع قطْعِ مَعذرتِهم؛ لأنَّه لو كانوا سَمِعوا ذِكْرًا واحدًا، فلم يَعْبؤوا به، لَانتَحَلوا لأنفُسِهم عُذرًا أنَّهم كانوا ساعتَئذٍ في غَفلةٍ، فلمَّا تكرَّرَ حَدثانُ إتيانِهِ تبيَّنَ لكلِّ مُنصِفٍ أنَّهم مُعرِضون عنه صَدًّا

.

- وجُملةُ: اسْتَمَعُوهُ حالٌ من ضَميرِ النَّصبِ في يَأْتِيهِمْ، وجُملةُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ حالٌ لازمةٌ من ضَميرِ الرَّفعِ في اسْتَمَعُوهُ مُقيِّدةٌ لجُملةِ اسْتَمَعُوهُ؛ لأنَّ جُملةَ اسْتَمَعُوهُ حالٌ باعتبارِ أنَّها مُقيَّدةٌ بحالٍ أُخرى هي المقصودةُ من التَّقييدِ، وإلَّا لصارَ الكلامُ ثَناءً عليهم. وفائدةُ هذا التَّرتيبِ بين الجُملتينِ الحاليَّتينِ: الزِّيادةُ لقطْعِ مَعذرتِهم المُستفادِ من قولِه: مُحْدَثٍ

.

- وقوله: وَهُمْ يَلْعَبُونَ ذُكِرَ (اللَّعِبُ) مُقَدَّمًا على (اللَّهوِ) في قوله : لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ كما في قولِه تعالى: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [مُحمَّد: 36]؛ تنبيهًا على أنَّ اشتِغالَهم باللَّعِبِ -الذي معناه السُّخريةُ والاستِهزاءُ- معلَّلٌ باللَّهوِ، الذي معناه الذُّهولُ والغَفلةُ؛ فإنَّهم أقدَموا على اللَّعِبِ لِلَهْوِهم وُذهولِهم عن الحقِّ

.

3- قوله تعالى: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ

- قولُه: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ احتراسٌ لجُملةِ اسْتَمَعُوهُ، أي: استماعًا لا وعْيَ معه

، وأفاد قولُه: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أنَّهم ذاهِلونَ غافِلونَ عن ذلك؛ فنَفى آخِرُ الكلامِ ما أثبَتَهُ أوَّلًا على سَبيلِ التَّوكيدِ؛ ليُؤْذِنَ بأنَّهم لمَّا لم يَنْتفِعوا بذلك الاستِماعِ والتَّفطُّنِ، حيث اسْتَهزؤوا بالذِّكْرِ، كأنَّهم لم يَفْطَنوا أصْلًا، وثَبَتوا على رأْسِ غَفلتِهم

.

- قولُه: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ... كَلامٌ مُستأْنَفٌ مَسوقٌ لبَيانِ جِناياتِهم خاصَّةً إثْرَ حِكايةِ جِناياتِهم المُعتادةِ

، ويجوزُ أنْ تكونَ عطْفًا على جُملةِ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ؛ لأنَّ كِلْتا الجُملتينِ مَسوقةٌ لذِكْرِ أحوالِ تلقِّي المُشركينَ لدَعوةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتَّكذيبِ والبُهتانِ والتَّآمُرِ على رفْضِها

.

- وفي قولِه: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا عبَّرَ بقولِه: وَأَسَرُّوا، مع أنَّ النَّجوى الَّتي هي التَّناجي لا تكونُ إلَّا خُفْيةً ومُسارَّةً؛ وذلك لأنَّهم بالَغوا في إخفاءِ المُسارَّةِ، أو جَعَلوها بحيث لا يَفْطَنُ أحدٌ لتَناجِيهم، ولا يعلَمُ أنَّهم مُتناجُونَ. وعلى وجهِ إبدالِ الَّذِينَ ظَلَمُوا من واوِ وَأَسَرُّوا؛ فيكونُ ذلك إشْعارًا بأنَّهم المَوسومونَ بالظُّلمِ الفاحشِ فيما أسَرُّوا به، ولزيادةِ تَقريرِ أنَّهم المقصودُ من النَّجوى، ولِمَا في الموصولِ الَّذِينَ ظَلَمُوا من الإيماءِ إلى سبَبِ تَناجيهم بما ذُكِرَ، وأنَّ سبَبَ ذلك كُفْرُهم وظُلْمُهم أنفُسَهم، وللنِّداءِ على قُبْحِ ما هم مُتَّصِفون به. وعلى وجْهِ أنَّه مُبتدأٌ خبَرُه وَأَسَرُّوا النَّجْوَى فيكونُ قُدِّمَ عليه اهْتِمامًا به، أي: وهؤلاء أسَرُّوا النَّجوى؛ فوضَعَ المُظْهَرَ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ تَسجيلًا على فِعْلِهم بأنَّه ظُلْمٌ

.

- قولُه: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ مفعولٌ لقولٍ مُضْمَرٍ هو جوابٌ عن سُؤالٍ نشَأَ عمَّا قبْلَه؛ كأنَّه قِيلَ: ماذا قالوا في نَجْواهم؟ فقيل: قالوا: هَلْ هَذَا...

، وهو استفهامٌ معناهُ التَّعجُّبُ والإنكارُ يَقْتضي أنَّهم خاطَبوا مَن قارَبَ أنْ يُصدِّقَ بنُبوَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: فكيفَ تُؤمِنون بنُبوَّتِه وهو أحدٌ منكم؟! وإنكارُهم وتَعجُّبُهم مِن حيثُ كانوا يَرَون أنَّ اللهَ لا يُرسِلُ إلَّا مَلَكًا

.

- قولُه: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ استفهامٌ معناه الإنكارُ والتَّوبيخُ، والفاءُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المَقامُ

.

- قولُه: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي: تأْتونَ السِّحرَ وبصَرُكم سليمٌ، وأرادوا به العِلْمَ البَديهيَّ، فعبَّروا عنه بالبصَرِ؛ لأنَّ المُبْصَراتِ لا يَحتاجُ إدراكُها إلى تَفكيرٍ

. وهذه الجُملةُ حالٌ من فاعلِ (تَأْتُونَ)، مُقرِّرةٌ للإنكارِ، ومُؤكِّدةٌ للاستبعادِ

.

4- قوله تعالى: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

- في قولِه: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لم يقُلْ: (يَعلَمُ السِّرَّ) مُوافقةً لقولِه: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، وإنَّما أُوثِرَ القولُ المُنتظِمُ للسِّرِّ والجهْرِ على السِّرِّ؛ لإثباتِ عِلْمِه تعالى بالسِّرِّ على النَّهجِ البُرهانيِّ، مع ما فيه مِن الإيذانِ بأنَّ عِلْمَه تعالى بالسِّرِّ والجهْرِ على وَتيرةٍ واحدةٍ، لا تفاوُتَ بينهما بالجَلاءِ والخفاءِ قطْعًا كما في عُلومِ الخلْقِ، ولأنَّ القولَ عامٌّ يَشمَلُ السِّرَّ والجهْرَ، فكانَ في الإخبارِ بعلمِه القولَ عِلمُ السِّرِّ وزيادةٌ، وكان آكَدَ في الاطِّلاعِ على نَجواهُم مِن أنْ يقولَ: (يعلَمُ سِرَّهم)، ثمَّ بيَّنَ ذلك بأنَّه السَّميعُ العليمُ؛ فكيف تَخْفى عليه خافيةٌ؟! وقد تُرِكَ هذا الآكَدُ في سُورةِ (الفُرقانِ) في قولِه: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 6] ؛ لأنَّه ليس بواجبٍ أنْ يَجِيءَ بالآكَدِ في كلِّ مَوضِعٍ، ولكنْ يَجِيءُ بالوكيدِ تارَةً وبالآكَدِ أُخْرى، كما يَجِيءُ بالحسَنِ في مَوضعٍ وبالأحْسنِ في غيرِه؛ لِيَفْتَنَّ في الكلامِ افْتِنانًا، وتُجْمَعَ الغايةُ وما دُونَها، على أنَّ أُسلوبَ تلك الآيةِ خِلافُ أُسلوبِ هذه، مِن قِبَلِ أنَّه قدَّمَ هاهنا أنَّهم أسَرُّوا النَّجوى، فكأنَّه أراد أنْ يقولَ: إنَّ ربِّي يَعلَمُ ما أسَرُّوهُ، فوضَعَ القولَ مَوضِعَ ذلك للمُبالَغةِ، وهناك في (الفُرقانِ) قصَدَ وصْفَ ذاتِه بأنْ أنزَلَه الَّذي يعلَمُ السِّرَّ في السَّمواتِ والأرضِ، فهو كقولِه: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ

[سبأ: 3] . وقيل: لم يقُل: (يعلمُ السِّرَّ)؛ لمراعاةِ العِلمِ بأنَّ الذي قالوه مِن قَبيلِ السِّرِّ، وأنَّ إثباتَ عِلمِه بكلِّ قَولٍ يقتضي إثباتَ عِلمِه بالسِّرِّ وغَيرِه، بناءً على متعارَفِ النَّاسِ، وأمَّا قَولُه في سورة (الفرقان): قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 6] فلم يتقَدَّمْ قَبلَه ذِكرٌ للإسرارِ، وكان قَولُ الذين كفروا: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ [الفرقان: 4] صادِرًا منهم تارةً جهرًا وتارةً سِرًّا، فأعلمهم اللهُ باطِّلاعِه على سِرِّهم، ويُعلَمُ منه أنَّه مطَّلِعٌ على جَهرِهم بطريقةِ الفَحوى

.

- و(أل) في الْقَوْلَ للاستغراقِ، أي: يَعلَمُ كلَّ قولٍ في السَّماءِ والأرضِ من جَهْرٍ أو سِرٍّ؛ وبذلك كان هذا تَذييلًا

.

- وقولُه: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه، مُتضمِّنٌ للوعيدِ .

5- قولُه تعالى: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ

- قولُه: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ جوابُ شَرْطٍ مَحذوفٍ، يُفصِحُ عنه السِّياقُ؛ كأنَّه قيلَ: وإنْ لم يكُنْ كما قُلْنا، بل كان رَسولًا مِنَ اللهِ تعالى، فلْيأتِنا بآيةٍ. ودخلَتْ لامُ الأمْرِ على فِعْلِ الغائبِ؛ لمَعْنى إبلاغِ الأمْرِ إليه، أي: فقُولوا له: ائتِنَا بآيةٍ

.

- والتَّشبيهُ في قولِه: كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ في مَوضعِ الحالِ من ضَميرِ فَلْيَأْتِنَا، أي: حالةُ كونِ هذا البشَرِ حين يأْتي بالآيةِ يُشبِهُ رِسالتُه رِسالةَ الأوَّلينَ، والمُشبَّهُ ذاتٌ والمُشبَّهُ به معنى الرِّسالةِ، وذلك واسعٌ في كَلامِ العربِ، وصِحَّةُ التشبيهِ مِن حيثُ إنَّ الإرسالَ يَتضمَّنُ الإتيانَ بالآيةِ. ويجوزُ أنْ يُحمَلَ النَّظمُ الكريمُ على أنَّه أُرِيدَ كلُّ واحدٍ من الإتيانِ والإرسالِ في كلِّ واحدٍ من طَرفَيِ التَّشبيهِ، لكنَّه تُرِكَ في جانبِ المُشبَّهِ ذِكْرُ الإرسالِ، وتُرِكَ في جانبِ المُشبَّهِ به ذِكْرُ الإتيانِ؛ اكتفاءً بما ذُكِرَ في كلِّ مَوطنٍ عمَّا تُرِكَ في الموطنِ الآخَرِ

.

- وقيل: التعبيرُ في حقِّه بالإتيانِ، والعدولُ عن الظاهرِ فيما بعدَه إيماءٌ إلى أنَّ ما أتَى به مِن عندِه، وما أتَى به الأوَّلونَ مِن الله؛ ففيه تعريضٌ مناسبٌ لِما قبلَه مِن الافتراءِ .

=======================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (6-10)

ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ اللهُ تعالى: ما آمَنَ قبلَ كُفَّارِ مكَّةَ مِن أهلِ قَريةٍ اقتَرَحوا على رسُلِهم الآياتِ، ثمَّ كذَّبوا بها لَما جاءتهم، فأهلَكْناهم، أفيُؤمِنُ كُفَّارُ مكَّةَ إذا تحقَّقَت المُعجِزاتُ التي طَلَبوها؟

ثمَّ أجابَ اللهُ عن استِنكارِهم أن يكونَ الرَّسولُ بَشَرًا مِثلَهم، بأنَّ هذا هو العَهدُ دائِمًا مع الرُّسُلِ السَّابِقينَ، فقال: وما أرسَلْنا قَبلَك -يا محمَّدُ- إلَّا رِجالًا مِن البشَرِ لا مِن الملائكةِ، نُوحي إليهم. فاسألوا -يا كُفَّارَ مكَّةَ- أهلَ العِلمِ بالكُتُبِ المنَزَّلةِ السَّابِقةِ، إنْ كنتُم لا تعلَمونَ ذلك.

ثمَّ أكَّد الله تعالى حقيقةَ كونِ الرُّسلِ مِن البشرِ، فقال: وما جعَلْنا أولئك المُرسَلينَ قَبلَك أجسادًا لا يأكُلونَ الطَّعامَ، وما كانوا خالدينَ لا يموتونَ! ثمَّ صَدَقْنا الأنبياءَ وأتباعَهم ما وعَدْناهم به مِن النَّصرِ والنَّجاةِ، وإهلاكِ أعدائِهم المُسرِفينَ على أنفُسِهم بالكفرِ بالله وتكذيبِ رسلِه.

ثم بيَّن الله سبحانه أنَّ ما أنزَله على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم هو خيرُ الآياتِ، فقال: لقد أنزَلْنا إليكم هذا القُرآنَ فيه تذكيرٌ لكم بما فيه صلاحُكم، وفيه عزُّكم وشَرَفُكم في الدُّنيا والآخرةِ إنْ عَمِلتُم بما فيه، أفلا تَعقِلونَ أنَّ في القُرآنِ هدايتَكم لِما فيه صلاحُكم، وأنَّ فيه شَرَفَكم وعِزَّكم فتُؤمِنوا به وتتدبَّروه؟

تفسير الآيات:

 

مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى أجاب عن قَولِ الكافرينَ: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ بِقَولِه

:

مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6).

أي: ما آمنَ قَبلَ كفَّارِ قُرَيشٍ أهلُ القُرى مِن الأُمَمِ الماضيةِ الذين اقتَرَحوا على رسُلِهم الآياتِ ثمَّ كذَّبوا بها لَمَّا جاءتْهم، فأهلَكْنا تلك القُرى وجميعَ أهلِها، أفيُؤمِنُ كفَّارُ قُرَيشٍ إذا أتَتْهم مُعجِزةٌ ممَّا يَقتَرِحونَ ؟!

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96، 97].

وقال سُبحانَه: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء: 59].

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى أجاب عن سؤالِ الكافرينَ الأوَّلِ، وهو قولهُم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء: ٣]، بقَولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، فبيَّنَ أن هذه عادةُ الله تعالى في الرسُلِ مِن قَبلِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يمنَعْ ذلك من كونِهم رسلًا؛ للآياتِ التي أتَوْا بها، فإذا صَحَّ ذلك فيهم، فقد أتَى محمَّدٌ بمثلِ آياتِهم، فلا مقالَ عليه في كونِه بَشَرًا .

وأيضًا لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أوَّلًا أنَّ الآياتِ تكونُ سَبَبًا للهلاكِ، فلا فائدةَ في الإجابةِ إلى ما اقتَرَحه الكافِرونَ منها بعد بُطلانِ ما قَدَحوا به في القُرآنِ؛ بيَّن ثانيًا بُطلانَ ما قَدَحوا به في الرَّسولِ بكَونِه بَشَرًا، بأنَّ الرُّسُلَ الذين كانوا مِن قَبلِه كانوا -بإقرارِهم- مِن جِنسِه، فما لهم أن يُنكِروا رِسالَتَه وهو مِثلُهم؟! بل عليهم أن يَعتَرِفوا له عندما أظهَرَ مِن المُعجِزِ كما اعتَرَفوا لأولئك .

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ.

أي: وما أرسَلْنا قبلك -يا محمَّدُ- من الأنبياءِ لأُمَّةٍ مِن الأُمَمِ إلَّا رِجالًا مِن البَشَرِ مِثلَهم، لا مِن الملائكةِ، فنُوحي إليهم ما نريدُ، فلماذا أنكَروا إرسالَنا لك إليهم، وأنت رجلٌ كسائِرِ الرسُلِ الذين أُرسِلوا قَبْلَك إلى أُمَمِهم ؟!

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف: 109].

فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

أي: فاسألوا أهلَ العِلمِ بالكُتُبِ المنزَّلةِ مِن قبْلُ إنْ كنتُم لا تعلمونَ أنَّ كلَّ الأنبياءِ مِنَ البَشَرِ؛ لِيُخبِروكم بما يَعلَمونَه مِن كَونِ جَميعِ الأنبياءِ بَشَرًا لا ملائكةً .

وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم على سُنَّةِ مَن مضَى مِنَ الرُّسُلِ في كَونِه رَجُلًا؛ بيَّن أنَّه على سُنَّتِهم في جميعِ الأوصافِ التي حكَمَ بها على البَشَرِ مِنَ العَيشِ والمَوتِ، فقال :

وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ.

أي: وما جعَلْنا الأنبياءَ أجسادًا لا يأكُلونَ الطَّعامَ، بل كانوا بشرًا مِثلَك يأكلونَ الطَّعامَ .

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 20] .

وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ.

أي: وما كان الأنبياءُ السَّابقونَ خالدينَ في الدُّنيا لا يموتونَ، بل كانوا بشرًا عاشُوا ثمَّ ماتوا، وإنَّما تميَّزوا عن النَّاس بما يأتيهم عن الله سُبحانَه مِن الوحيِ .

ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9).

ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ.

أي: ثمَّ صدَقْنَا رسُلَنا ما وعَدْناهم من إهلاكِ أعدائِهم الكافرينَ المكَذِّبينَ، ونَصْرِهم عليهم، فأنجَينا أولئك الرسُلَ وأتباعَهم الذين آمَنوا بهم مِن أممِهم .

كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف: 110] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171-173] .

وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ.

أي: وأهلَكْنا جميعَ الذين أسرَفوا على أنفُسِهم بالكُفرِ باللهِ، والإصرارِ على تكذيبِ رُسُلِ الله، فأبَدْناهم، ومحَوْنا ذِكْرَهم .

لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

بعدَ أن حَقَّق اللهُ رسالتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببَيانِ أنَّه كسائِرِ الرُّسُلِ الكِرامِ، شَرَع يحَقِّقُ فَضلَ القُرآنِ الكريمِ ويُبَيِّنُ نَفْعَه للنَّاسِ، بعد أن ذَكَر فى صَدرِ السُّورةِ إعراضَ النَّاسِ عمَّا يأتيهم مِن آياتِه، واضطرابَهم فى شأنِه .

وأيضًا لَمَّا تَوَعَّدَهم في الآيةِ السابقةِ؛ أعقبَ ذلك بوعدِه بنعمتِه عليهم، فقالَ :

لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ.

أي: لقد أنزَلْنا إليكم قرآنًا فيه تذكيرٌ لكم بما فيه صلاحُكم، وفيه شَرَفُكم وعِزُّكم .

كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44] .

أَفَلَا تَعْقِلُونَ.

أي: أفلا تَعقِلونَ أنَّ في القُرآنِ شَرَفَكم، وهدايتَكم إلى ما فيه صلاحُكم، فتُؤمِنوا به، وتتدبَّروه وتَعمَلوا بما فيه

 

؟

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ عامٌّ في كلِّ مَسألةٍ مِن مَسائِلِ الدِّينِ -أصولِه وفُروعِه- إذا لم يكُنْ عندَ الإنسانِ عِلمٌ منها أن يسألَ مَن يَعلَمُها؛ ففيه الأمرُ بالتعَلُّمِ والسؤالِ لأهلِ العِلمِ، ولم يؤمَرْ بسُؤالِهم إلَّا لأنَّه يجِبُ عليهم التعليمُ والإجابةُ عمَّا عَلِموه

.

2- قَولُ الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ في تخصيصِ السُّؤالِ بأهلِ الذِّكرِ والعِلمِ نَهيٌ عن سؤالِ المعروفِ بالجَهلِ وعَدَمِ العلمِ، ونهيٌ له أن يتصَدَّى لذلك .

3- قَولُ الله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هذه الآيةُ مِصداقُها ما وقع للمُؤمِنينَ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فالذين تذَكَّروا بالقُرآنِ مِن الصَّحابةِ فمَن بَعدَهم حصل لهم مِن الرِّفعةِ والعُلُوِّ الباهِرِ، والصِّيتِ العَظيمِ، والشَّرَفِ على الملوكِ- ما هو أمرٌ معلومٌ لكلِّ أحَدٍ، كما أنَّه معلومٌ ما حصل لِمَن لم يرفَعْ بهذا القرآنِ رأسًا، ولم يهتدِ به ويتزَكَّ به، مِن المقتِ والضَّعَةِ، والتَّدسِيةِ والشَّقاوة؛ فلا سبيلَ إلى سَعادةِ الدُّنيا والآخرةِ إلَّا بالتذَكُّرِ بهذا الكِتابِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ إنَّما أمسَك اللهُ الآياتِ الخوارِقَ عن مُشرِكي مكَّةَ؛ لأنَّه أراد استبقاءَهم؛ ليكونَ منهم مؤمِنونَ، وتكونَ ذرِّيَّاتُهم حملةَ هذا الدِّينِ في العالَمِ، ولو أُرسِلَت عليهم الآياتُ البَيِّنةُ لكانت سُنَّةُ الله أن يَعقُبَها عذابُ الاستئصالِ للَّذينَ لا يُؤمِنونَ بها

.

2- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا في هذه الآيةِ دَليلٌ على أنَّ النِّساءَ ليس منهنَّ نبيَّةٌ، لا مريمَ ولا غيرَها؛ لِقَولِه تعالى: إِلَّا رِجَالًا .

3- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ حجَّةٌ في تثبيتِ خَبَرِ الواحدِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن المسؤولينَ مُخْبِرٌ عن ذلك على الانفرادِ، والحجَّةُ لازمةٌ على المُخْبَرِ بقَولِه .

4- ما يُطلَبُ فيه الجَزمُ يُكتَفَى فيه بالجَزمِ، سواءٌ عن طريقِ الدَّليلِ أو عن طريقِ التَّقليدِ؛ فالإيمانُ باللهِ ومَلائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، هذا ممَّا يجِبُ فيه الجَزمُ، ولكِنَّ العامِّيَّ لا يُدرِكُ ذلك بدَليلِه، ومع ذلك نُصَحِّحُ إيمانَه، ونقولُ: إنَّه مُؤمِنٌ، وإن كان لا يُدرِكُ ذلك بدَليلِه، والدَّليلُ قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ؛ فإنَّ اللهَ تعالى أحال على سُؤالِ أهلِ العِلْمِ في مسألةٍ مِن مسائِلِ الدِّينِ التي يجبُ فيها الجَزمُ، وواضِحٌ أنَّنا نسألُهم لنأخُذَ بقَولِهم، ومعلومٌ أنَّ الإيمانَ بأنَّ الرسُلَ رِجالٌ هو مِن العَقيدةِ، ومعَ ذلك أحالَنا اللهُ فيه إلى أهلِ العِلْمِ ، ولأنَّ العامِّيَّ لا يتمَكَّنُ مِن مَعرفةِ الحَقِّ بأدلَّتِه، فإذا تعذَّرَ عليه مَعرِفةُ الحَقِّ بنَفْسِه، لم يبقَ إلَّا التقليدُ؛ لِقَولِه تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] .

5- قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ فأُمِروا أن يَسْألوا أهلَ الكتابِ؛ إمَّا للإلْزامِ؛ فإنَّ المُشرِكينَ كانوا يُشاوِرونَهم في أمْرِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويَثِقونَ بقولِهم، أو لأنَّ إخبارَ الجَمِّ الغفيرِ يُوجِبُ العِلْمَ، وإنْ كانوا كُفَّارًا؛ ففيه مِنَ الدَّلالةِ على كَمالِ وُضوحِ الأمْرِ، وقُوَّةِ شأْنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما لا يَخْفَى .

6- لله تعالى حِكَمٌ في إبقاءِ أهلِ الكِتابَينِ بينَ أظهُرِنا؛ فإنَّهم مع كُفرِهم شاهِدونَ بأصلِ النبُوَّاتِ، والتوحيدِ، واليومِ الآخِرِ، والجنَّةِ والنَّارِ، وفي كُتُبِهم من البِشاراتِ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وذِكرِ نُعوتِه وصفاتِه وصفاتِ أُمَّتِه- ما هو مِن آياتِ نبُوَّتِه وبراهينِ رِسالتِه، وما يشهَدُ بصِدقِ الأوَّلِ والآخِرِ، وهذه الحِكمةُ تختَصُّ بأهلِ الكِتابِ دونَ عَبَدةِ الأوثانِ؛ فبقاؤُهم مِن أقوَى الحُجَجِ على مُنكِرِ النبُوَّاتِ والمعادِ والتوحيدِ، وقد قال تعالى لمنكري ذلك: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، ذكَرَ هذا عَقِبَ قَولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، يعني: سلُوا أهلَ الكِتابِ: هل أرسَلْنا قبل محمَّدٍ رِجالًا يُوحَى إليهم، أمْ كان محمَّدٌ بِدْعًا من الرسُلِ لم يتقَدَّمْه رسولٌ، حتى يكون إرسالُه أمرًا مُنكَرًا لم يَطرُقِ العالَمَ رَسولٌ قبلَه ؟!

7- في قَولِه تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ هذه الآيةُ ترشِدُنا إلى أن نَرجِعَ في كلِّ شَيءٍ إلى أهلِه الذين هم أهلُ الذِّكْرِ به .

8- التقليدُ لا يُذَمُّ مُطلقًا، بل إنَّ التقليدَ في مَوضِعِه هو الواجبُ؛ لِقَولِه تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ .

9- الاجتهادُ واجبٌ على مَن كان قادرًا عليه؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، والقادِرُ على الاجتهادِ يُمكِنُه مَعرِفةُ الحَقِّ بنَفسِه .

10- قَولُ الله تعالى: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ هذه سيرتُه تعالى مع أنبيائِه، فكذلك يَصدُقُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه ما وعَدَهم به من النَّصرِ وظُهورِ الكَلِمةِ؛ فهذه عِدَةٌ للمُؤمِنينَ، ووعيدٌ للكافرينَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ

- قولُه: مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ كَلامٌ مُستأنفٌ مَسوقٌ لتَكذيبِهم فيما تُنْبِئُ عنه خاتِمةُ مقالِهم مِن الوعْدِ الضِّمنيِّ بالإيمانِ، وبَيانِ أنَّهم في اقتِراحِ تلك الآياتِ كالباحثِ عن حَتْفِه بظِلْفِه

، وأنَّ في تَرْكِ الإجابةِ إليه إبقاءً عليهم. ومُتعلَّقُ آَمَنَتْ مَحذوفٌ دَلَّ عليه السِّياقُ، أي: ما آمنَتْ بالآياتِ قرْيةٌ. و(مِن) في قولِه: مِنْ قَرْيَةٍ مَزيدةٌ؛ لتأْكيدِ العُمومِ، ولتأْكيدِ النَّفيِ المُستفادِ مِن حرْفِ (ما) في مَا آَمَنَتْ .

- ولفظةُ: أَهْلَكْنَاهَا وردَتْ مُستطردةً؛ للتَّعريضِ بالوعيدِ بأنَّ المُشرِكينَ أيضًا يترقَّبونَ الإهلاكَ .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث ذُكِرَتِ القريةُ هنا مُرادًا بها أهْلُها؛ ليُبْنَى عليها الوصْفُ بإهلاكِها؛ لأنَّ الإهلاكَ أصاب أهْلَ القُرى وقُراهم؛ فلذلك قيلَ: أَهْلَكْنَاهَا دون (أهْلَكْناهم) كما في قولِه: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ [الكهف: 59] .

- والهمزةُ في قولِه: أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ لإنكارِ الوُقوعِ، والفاءُ للعطْفِ: إمَّا على مُقدَّرٍ دخلَتْه الهمزةُ؛ فأفادَتْ إنكارَ وُقوعِ إيمانِهم ونَفْيَه عَقِيبَ عدَمِ إيمانِ الأوَّلينَ، أي: إنَّه لم تُؤْمِنْ أُمَّةٌ مِن الأُمَمِ المُهلَكةِ عندَ إعطاءِ ما اقتَرَحوهُ مِن الآياتِ؛ أفهؤلاءِ يُؤمِنونَ لو أُجِيبُوا إلى ما سَأَلوا، وأُعْطوا ما اقتَرَحوا، مع كونِهم أعْتى منهم وأطْغَى؟! وإمَّا على مَا آَمَنَتْ على أنَّ الفاءَ مُتقدِّمةٌ على الهمزةِ في الاعتبارِ، مُفيدةٌ لتَرتيبِ إنكارِ وُقوعِ إيمانِهم على عدَمِ إيمانِ الأوَّلينَ .

2- قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

- قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ  ... جَوابٌ لقولِهم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، مُتضمِّنٌ لرَدِّ ما دَسُّوا تحتَ قولِهم: كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ مِن التَّعرُّضِ بعدَمِ كونِه عليه السَّلامُ مثْلَ أولئك الرُّسلِ صَلواتُ اللهِ تعالَى عليهم أجمعينَ؛ ولذلك قُدِّمَ عليه جَوابُ قولِهم: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ، ولأنَّهم قالوا ذلك بطَريقِ التَّعجيزِ؛ فلا بُدَّ من المُسارَعةِ إلى رَدِّهِ وإبطالِه، ولأنَّ في هذا الجوابِ نَوعَ بسْطٍ يُخِلُّ تَقديمُه بتَجاوُبِ أطْرافِ النَّظمِ الكريمِ .

- قولُه: نُوحِي إِلَيْهِمْ استئنافٌ مُبيِّنٌ لكَيفيَّةِ الإرسالِ، وصِيغةُ المُضارِعِ لِحكايةِ الحالِ الماضيةِ المُستمِرَّةِ، وحُذِفَ المفعولُ؛ لعدَمِ القصْدِ إلى خُصوصِه .

- قولُه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بينَ الجُمَلِ المُتعاطِفَةِ. وتَوجيهُ الخِطابِ لهم بعْدَ أُسلوبِ الغَيبةِ الْتِفاتٌ، ونُكتَتُه: أنَّ الكلامَ لمَّا كان في بَيانِ الحقائقِ الواقعةِ؛ أعرَضَ عنهم في تَقريرِه، وجُعِلَ مِن الكلامِ المُوجَّهِ إلى كلِّ سامعٍ، وجُعِلوا فيه مُعبَّرًا عنهم بضَمائرِ الغَيبةِ، ولمَّا أُرِيدَ تَجْهيلُهم وإلْجاؤُهم إلى الحُجَّةِ عليهم غُيِّرَ الكلامُ إلى الخِطابِ؛ تَسجيلًا عليهم، وتَقريعًا لهم بتَجهيلِهم ؛ ففي قولِه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ تلْوينٌ للخِطابِ وتَوجيهٌ له إلى الكَفرةِ؛ لتَبكيتِهم واستِنْزالِهم عن رُتْبةِ الاستبعادِ والنَّكيرِ إثْرَ تَحقيقِ الحقِّ على طَريقةِ الخِطابِ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه الحَقيقُ بالخطابِ في أمْثالِ تلك الحقائقِ الأنيقةِ، والفاءُ في فَاسْأَلُوا لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها .

- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ جَوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ؛ ثِقَةً بدَلالةِ المذكورِ عليهِ، أي: إنْ كُنْتُم لا تَعْلَمونَ ما ذُكِرَ، فاسْأَلوا -أيُّها الجَهلةُ- أهلَ الكتابِ الواقفينَ على أحوالِ الرُّسلِ السَّالفةِ عليهم الصَّلواتُ؛ لِتَزولَ شُبْهتُكم .

- وأمْرُهم أنْ يَسْألوا أهْلَ الذِّكْرِ فيه تَعريضٌ بجَهْلِهم، وفضْحُ خَطَئِهم .

3- قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ

- في قولِه: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا وحَّدَ الجسَدَ؛ لإرادةِ الجنْسِ. وقيل: بتَقديرِ المُضافِ، أي: ذَوِي جسَدٍ ، وذِكْرُه يُفِيدُ التَّهكُّمَ بالمُشرِكينَ؛ لأنَّهم لمَّا قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ [الفرقان: 7] ، وسَأَلوا أنْ يأتِيَ بما أُرْسِلَ به الأوَّلونَ، كان مُقْتضَى أقوالِهم أنَّ الرُّسلَ الأوَّلينَ كانوا في صُوَرِ الآدميِّينَ، لكنَّهم لا يأْكُلون الطَّعامَ -وأكْلُ الطَّعامِ مِن لَوازمِ الحياةِ- فلَزِمَهم لمَّا قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ أنْ يَكونوا قائلينَ بأنَّ شأْنَ الرُّسلِ أنْ يكونوا أجسادًا بلا أرواحٍ، وهذا من السَّخافةِ بمَكانةٍ .

- قولُه: وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ تأكيدٌ وتَقريرٌ لِمَا قبْلَه؛ فإنَّ التَّعيُّشَ بالطَّعامِ مِن تَوابِعِ التَّحليلِ المُؤدِّي إلى الفَناءِ ، وهو زِيادةُ استدلالٍ لتَحقيقِ بشَرِيَّتِهم؛ استدلالًا بما هو واقِعٌ مِن عدَمِ كَفاءةِ أولئك الرُّسلِ كما هو معلومٌ بالمُشاهَدةِ لقطْعِ مَعاذيرِ الضَّالِّينَ، فإنْ زَعَموا أنْ قد كان الرُّسلُ الأوَّلونَ مُخالِفينَ للبشَرِ؛ فماذا يَصْنعون في لَحَاقِ الفَناءِ إيَّاهم؟ فهذا وجْهُ زِيادةِ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ .

- وأُتِيَ في نفْيِ الخُلودِ عنهم بصِيغَةِ (ما كانوا)؛ تَحقيقًا لِتَمكُّنِ عدَمِ الخُلودِ منهم . وفي إيثارِ( مَا كَانُوا) على (ما جَعَلْناهم) تَنبيهٌ على أنَّ عدَمَ الخُلودِ مُقْتضى جِبِلَّتِهم الَّتي أُشِيرَ إليها بقولِه تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ ...، لا بالجَعْلِ المُستأنَفِ .

4- قولُه تعالى: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ الكلامُ مَسوقٌ مَساقَ التَّنويهِ بالرُّسلِ الأوَّلينَ، وهو تَعريضٌ بوَعيدِ الَّذين قالوا: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، وفي هذا تَقريعٌ للمُشرِكينَ، أي: إنْ كان أعجَبَكم ما أتَى به الأوَّلونَ، فسألْتُم مِن رَسولِكم مثْلَه، فإنَّ حالَكم كحالِ الَّذين أُرْسِلوا إليهم، فترَقَّبوا مثْلَ ما نزَلَ بهم، ويترقَّبُ رسولُكم مثْلَ ما لقِيَ سلَفُه .

- وقولُه: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ ... عطْفٌ على ما يُفْهَمُ من حِكايةِ وَحْيِه تعالى إليهم على الاستمرارِ التَّجدُّديِّ؛ كأنَّه قيل: أوحَيْنا إليهم ما أوحَيْنا، ثمَّ صَدَقْناهم في الوعْدِ الَّذي وعَدْناهم في تَضاعيفِ الوحْيِ بإهلاكِ أعدائِهم . أو مَعطوفةٌ على الجُمَلِ السَّابقةِ، و(ثُمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ، والمعنى: وأهَمُّ ممَّا ذُكِرَ أنَّا صَدَقْناهم الوعْدَ، فأنْجَيناهم وأهلَكْنا الَّذين كذَّبُوهم. ومَضمونُ هذا أهَمُّ في الغرضينِ: التَّبشيرِ والإنذارِ؛ فالتَّبشيرُ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ بأنَّ اللهَ صادِقُه وعْدَه من النَّصرِ، والإنذارُ لمَن ماثَلَ أقوامَ الرُّسلِ الأوَّلينَ . وقيل: أشارَ بأداةِ التَّراخِي (ثُمَّ) إلى أنَّهم طالَ بلاؤُهم بهم، وصبرُهم عليهم، ثم أحلَّ بهم سطوتَه، وأراهم عظَمتَه .

- والإتيانُ بصِيغةِ المُستقبَلِ في قولِه: نَشَاءُ احتباكٌ ، والتَّقديرُ: فأنْجَيْناهم ومَن شِئْنَا، ونُنَجِّي رَسولَنا ومَن نشاءُ منكم، وهو تأْميلٌ لهم أنْ يُؤْمِنوا؛ لأنَّ مِن المُكذِّبينَ يومَ نُزولِ هذه الآيةِ مَن آمَنوا فيما بعْدُ إلى يومِ فتْحِ مكَّةَ. وهذا من لُطْفِ اللهِ بعِبادِه في تَرغيبِهم في الإيمانِ، ولم يَقُلْ: (ونُهْلِكُ المُسرِفينَ)، بل عاد إلى صِيغَةِ المُضِيِّ الَّذي هو حِكايةٌ لِما حَلَّ بالأُمَمِ السَّالفةِ، وبقِيَ المقصودُ مِن ذِكْرِ الَّذين أُهْلِكوا، وهو التَّعريضُ بالتَّهديدِ والتَّحذيرِ أنْ يُصِيبَهم مثْلُ ما أصابَ أولئك مع عدَمِ التَّصريحِ بالوعيدِ .

5- قولُه تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَحقيقِ حَقِّيَّةِ القُرآنِ العظيمِ، وبَيانِ عُلوِّ رُتْبتِه، إثْرَ تَحقيقِ رِسالتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد صُدِّرَ بالتَّوكيدِ القسَميِّ؛ إظهارًا لمَزيدِ الاعتناءِ بمَضمونِه، وإيذانًا بكونِ المُخاطَبينَ في أقْصَى مَراتبِ النَّكيرِ . وقيل: استئنافُ جَوابٍ عن قولِهم: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، بإيقاظِهم إلى أنَّ الآيةَ الَّتي جاءتْهم هي أعْظَمُ مِن الآياتِ الَّتي أُرْسِلَ بها الأوَّلونَ، وتجْهيلًا لألْبابِهم، ولقصْدِ هذا الإيقاظِ صُدِّرتِ الجُملةُ بما يُفِيدُ التَّحقيقَ من لامِ القسَمِ وحرْفِ التَّحقيقِ لَقَدْ، وجَعْلِ إنزالِ الكتابِ إليهم، كما اقتضَتْه تَعْديةُ فِعْلِ أَنْزَلْنَا بحرْفِ (إلى) شأْنَ تَعديةِ فِعْلِ الإنزالِ أنْ يكونَ المجرورُ بـ (إلى) هو المُنزَّلُ إليه؛ فجَعْلُ الإنزالِ إليهم؛ لكونِهم بمَنزلةِ مَن أُنْزِلَ إليه؛ نظَرًا إلى أنَّ الإنزالَ كان لأجْلِهم ودَعوتِهم، وذلك أبلَغُ مِن أنْ يُقالَ: (لقد أنزَلْنا لكم) .

- وقولُه: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ فيه تَحريضٌ، ثمَّ أكَّدَ التَّحريضَ بقولِه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وحرَّكَهم بذلك إلى النَّظرِ .

- ونَكَّرَ كِتَابًا للتَّعظيمِ؛ إيماءً إلى أنَّه جمَعَ خَصلتينِ عَظيمتينِ: كونَه كِتابَ هُدًى، وكونَه آيةً ومُعجزةً للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لا يَستطيعُ أحَدٌ أنْ يأتِيَ بمثْلِه أو مُدانِيه .

- وجُملةُ: فِيهِ ذِكْرُكُمْ صِفَةٌ لـ كِتَابًا مُؤكِّدةٌ لِما أفادَهُ التَّنكيرُ التَّفخيميُّ من كونِه جليلَ المِقدارِ، بأنَّه جَميلُ الآثارِ، مُستجلِبٌ لهم منافعَ جليلةً، أي: فيه شرَفُكم وَصِيتُكم .

- وقولُه: فِيهِ ذِكْرُكُمْ الذِّكْرُ يُطْلَقُ على التَّذكيرِ بما فيه الصَّلاحُ، ويُطْلَقُ على السُّمعةِ والصِّيتِ. وقد أُوثِرَ هذا المصدَرُ هنا، وجُعِلَ مُعرَّفًا بالإضافةِ إلى ضَميرِ المُخاطَبينَ؛ ليكونَ كَلامًا مُوجَّهًا، فيَصِحَّ قصْدُ المَعنيينِ معًا من كَلمةِ (الذِّكْرِ) بأنَّ مَجِيءَ القُرآنِ مُشتمِلًا على أعظَمِ الهُدى؛ هو تَذكيرٌ لهم بما به نِهايةُ إصلاحِهم، ومَجيئُه بلُغَتِهم، وفي قومِهم، وبواسطةِ واحدٍ منهم؛ سُمْعةٌ عظيمةٌ لهم، وعلى المعنيينِ يكونُ لتَفريعِ قولِه تعالى: أَفَلَا تَعْقِلُونَ أحسَنُ مَوقعٍ؛ لأنَّ الاستفهامَ الإنكاريَّ لنفْيِ عَقْلِهم مُتَّجِهٌ على كِلا المعنيينِ؛ فإنَّ مَن جاءهُ ما به هدْيُه، فلم يَهتَدِ، يُنْكَرُ عليه سُوءُ عقْلِه، ومَن جاءهُ ما به مَجْدُه وسُمْعَتُه، فلم يَعبَأْ به، يُنْكَرُ عليه سُوءُ قَدْرِه للأمورِ حَقَّ قدْرِها، كما يكونُ الفضْلُ في مثْلِه مُضاعَفًا. وأيضًا فهو مُتفرِّعٌ على الإقناعِ بإنزالِ القُرآنِ آيةً تفوقُ الآياتِ الَّتي سَأَلوا مثْلَها، وهو المُفادُ من الاستئنافِ، ومِن تأْكيدِ الجُملةِ بالقسَمِ وحرْفِ التحقيقِ (قد) .

=================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (11-18)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ

غريب الكلمات :

 

قَصَمْنَا: أي: أهلَكْنا وكَسرْنا، وأصلُ القَصْمِ: الكَسرُ

.

يَرْكُضُونَ: أي: يَفِرُّونَ، ويَهرُبونَ مُسرِعينَ، وأصلُ (ركض): يدُلُّ على تَحريكِ الرِّجلَينِ .

مَا أُتْرِفْتُمْ: أي: نُعِّمْتُم وبَقيتُم في المُلكِ، وأصلُ (ترف): يدلُّ على توسُّعٍ في النِّعمةِ .

يَاوَيْلَنَا: الويلُ: الهلاكُ والعذابُ، ويُطلَقُ كذلك على حُلولِ الشرِّ، وقد يُستعمَلُ في التَّحسُّرِ. وقيلَ: الوَيلُ: وادٍ في جَهَنَّمَ .

دَعْوَاهُمْ: أي: دُعاؤُهم، وقولُهم، وكلامُهم؛ فالدَّعوى تُطلَقُ على: الادِّعاءِ والدُّعاءِ والقَولِ كذلِك، وأصلُ (دعو): أنْ يُمِيلَ الشَّخصُ الشَّيءَ إليه بصَوتٍ وكَلامٍ يكونُ منه .

حَصِيدًا خَامِدِينَ: أي: هالكينَ لم تبقَ منهم بقيَّةٌ، وأصلُ (حصد): يدُلُّ على قَطعِ الشَّيءِ، وأصلُ (خمد): يَدُلُّ على سُكونِ الحركةِ .

لَدُنَّا: أي: عندِنا، وقيل: (لَدُنْ) أخصُّ مِن (عند) وأبلغُ .

فَيَدْمَغُهُ: أي: يُذهِبُه، ويُبطِلُه، وأصلُ هذا إصابةُ الرأسِ والدِّماغِ بالضَّربِ، وهو مَقتَلٌ .

زَاهِقٌ: أي: زائلٌ، ذاهِبٌ، هَالِكٌ، وأصلُ (زهق): يدُلُّ على مُضِيٍّ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: وكثيرٌ من القرَى كان أهلُها ظالِمينَ لكُفرِهم باللهِ وبما جاءَتْهم به رسُلُهم، فأهلَكْناهم، وأوجَدْنا بَعدَهم قومًا آخرينَ سِواهم، فلمَّا رأى هؤلاء الظَّالِمونَ عَذابَنا نازِلًا بهم، وشاهَدوا بوادِرَه؛ إذا هم يُسرِعونَ هاربينَ مِن قَريتِهم. فنُودوا في هذه الحالِ: لا تَهرَبوا وارجِعوا إلى النِّعَمِ التي كُنتم فيها ومَساكِنِكم المشيَّدةِ؛ لعلَّكم تُسأَلونَ. فقالوا مُعتَرِفين بجُرمِهم: يا وَيْلَنا! إنَّا ظَلَمْنا أنفُسَنا بكُفرِنا بالله، وتَكذيبِنا رُسُلَه. فما زالت تلك المقالةُ -وهي الدُّعاءُ على أنفُسِهم بالويلِ والهلاكِ، والاعترافُ بالظُّلمِ- دَعوَتَهم يرَدِّدونَها حين نزلَ بهم العذابُ، حتى جَعَلْناهم موتى كالزَّرعِ المحصودِ، خامِدينَ لا حياةَ فيهم؛ فاحذَروا -أيُّها المُخاطَبونَ- أن تستَمِرُّوا على تكذيبِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَحِلَّ بكم ما حَلَّ بالأُمَمِ قَبْلَكم!

ثمَّ ذكَر الله سبحانَه ما يدُلُّ على قدرتِه ووحدانيَّتِه، فقال: وما خلَقْنا السَّماءَ والأرضَ وما بينهما عَبَثًا وباطِلًا، بل لإقامةِ الحُجَّةِ عليكم، ولِتَعتَبِروا بذلك كُلِّه، فتَعلَموا أنَّ الذي خلَقَ ذلك لا تَصلُحُ العبادةُ إلَّا له.

لو أرَدْنا -على سبيلِ الفرضِ المحالِ- أن نتَّخِذَ زوجةً وولدًا، لاتَّخَذْناه مِن عِندِنا لا مِن عِندِكم، إنْ كُنَّا فاعلينَ ذلك، ولكِنْ لا يليقُ بنا فِعلُه ولا ينبغي.

بل نُلقي بحُجَجِ القرآنِ على الباطِلِ، فيَدحَضُه فإذا هو ذاهِبٌ مُضمَحِلٌّ. ولكم العذابُ والهَلاكُ -أيُّها المُشرِكونَ- بسببِ كذبِكم وافترائِكم على الله تعالى.

تفسير الآيات:

 

وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا رَدَّ اللَّهُ تعالَى عليهم ما قالوه؛ بالَغ تعالى في زَجْرِهم بذِكرِ ما أهلَك مِن القُرَى

، فقال:

وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً.

أي: وكثيرٌ مِن القُرى الماضيةِ أهلَكْناها وأهلَها المُشرِكينَ؛ لكُفرِهم باللهِ، وتَكذيبِهم رُسُلَه .

كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء: 17] .

وقال سُبحانَه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق: 8، 9].

وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ.

أي: وأوجَدْنا بعدَ إهلاكِهم أُمَّةً أُخرَى سِواهم .

فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12).

أي: فلمَّا رأَى هؤلاءِ الظَّالِمونَ عَذابَنا نازلًا بهم ووجَدوا مسَّه، إذا هم يَهرُبونَ مِن قَريتِهم مُسرعينَ .

لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13).

أي: لا تَرْكُضوا هاربينَ مِن العذابِ، وارجِعوا إلى النِّعَمِ التي كُنتم فيها وبُيوتِكم التي سَكَنْتُم فيها؛ لعلَّكم تُسألُونَ .

قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14).

أي: قال أولئك الكفَّارُ حينَ نزَل بهم العَذابُ مُعتَرِفينَ بذُنوبِهم نادِمينَ: يا وَيْلَنا! إنَّا كنَّا ظالمينَ لأنفُسِنا بكُفرِنا بالله، وتكذيبِنا رُسُلَه .

كما قال تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأعراف: 4، 5].

فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15).

أي: فما زال الكفَّارُ حينَ نزَل بهم العذابُ يُكَرِّرونَ قَولَهم: يا وَيلَنا إنَّا كُنَّا ظالِمينَ، حتى أهلَكْناهم واستَأصَلْناهم، فجَعَلْناهم موتَى كالزَّرعِ الذي استُؤصِلَ، قد خَمَدت منهم الحَرَكاتُ، وسَكَنَت منهم الأصواتُ كما تُخمَدُ النَّارُ فتُطفَأُ؛ فاحذَروا -أيُّها المُخاطَبونَ- أن تَستَمِرُّوا على تكذيبِ رَسولِكم فيَحِلَّ بكم مِثلُ ما حلَّ بأولئك القَومِ .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

في تعلُّقِ هذه الآيةِ بما قبلَها وجهان:

الأولُ: أنه لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى إهلاكَ أهلِ القَريةِ لأجْلِ تَكذيبِهم؛ أتبَعَه بما يدُلُّ على أنَّه فَعَل ذلك عَدلًا منه، ومجازاةً على ما فَعَلوا.

الثاني: أنَّ الغَرَضَ منه تقريرُ نبُوَّةِ محمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم، والردُّ على مُنكِريه؛ لأنَّه أظهَرَ المُعجِزةَ عليه، فإنْ كان محمَّدٌ كاذِبًا كان إظهارُ المعجزةِ عليه مِن بابِ اللَّعِبِ، وذلك منفيٌّ عنه، وإنْ كان صادِقًا فهو المطلوبُ، وحينئذ يفسُدُ كُلُّ ما ذَكَروه مِن المطاعِنِ .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16).

أي: وما خلَقْنا السَّماءَ والأرضَ وما بينَهما مِن المخلوقاتِ عَبَثًا وباطِلًا، بل خلَقْناها ليتفَكَّرَ النَّاسُ فيها، فيَستَدِلُّوا بها على عَظيمِ صِفاتِ خالِقِها، واستِحقاقِه للعبادةِ، فيَعلَموا أنَّ الذي دَبَّرَها وخَلَقَها لا يُشبِهُه شَيءٌ، وأنَّه لا تكونُ الألوهيَّةُ إلَّا له، ولا تصلُحُ العبادةُ لِشَيءٍ سِواه، وأنَّ القادِرَ على خَلقِها مع سَعَتِها وعِظَمِها قادِرٌ على إعادةِ الأجسادِ بعدَ مَوتِها؛ ليجازيَ المُحسِنَ بإحسانِه، والمُسيءَ بإساءتِه .

كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27].

وقال سُبحانَه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدخان: 38- 39] .

وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191].

لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا نفَى عن نَفْسِه اللَّعِبَ؛ أتبَعَه دَليلَه، فقال تعالى :

لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17).

أي: لو أرَدْنا -على سَبيلِ الفَرضِ والتَّقديرِ المُحالِ- أن نتَّخِذَ زوجةً وولدًا، لاتَّخَذْنا ذلك مِن عِندِنا، إنْ كُنَّا فاعلينَ ذلك، ولكِنْ لا يليقُ بنا فِعلُه ولا ينبغي .

بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18).

بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ.

أي: ولكِنَّنا نُلقي بحُجَجِ القرآنِ على الباطِلِ، فيَذهَبُ ويَضمَحِلُّ، فلا نعمَلُ عَمَلًا يكونُ باطِلًا ولَعِبًا ولَهوًا .

كما قال تعالى: إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ: 48- 49].

وقال سُبحانَه: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [الرعد: 17] .

وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ.

أي: ولكم العَذابُ والهَلاكُ -أيُّها المُشرِكونَ- بسَبَبِ ما تكذِبونَ وتفترونَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ عَقَّب به ذِكرَ القَومِ المُهلَكينَ، والمقصودُ مِن ذلك إيقاظُ العُقولِ إلى الاستِدلالِ بما في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرضِ وما بينهما مِن دقائِقِ المُناسَباتِ، وإعطاءِ كُلِّ مَخلوقٍ ما به قِوامُه، فإذا كانت تلك سُنَّةَ الله في خَلقِ العوالِمِ ظَرفِها ومَظروفِها، استُدِلَّ بذلك على أنَّ تلك السُّنَّةَ لا تتخلَّفُ في ترتُّبِ المسَبَّباتِ على أسبابِها فيما يأتيه جِنسُ المكَلَّفينَ مِن الأعمالِ، فإذا ما لاحَ لهم تخَلُّفُ سَبَبٍ عن سَبَبِه، أيقَنوا أنَّه تخَلُّفٌ مُؤَقَّتٌ، فإذا عَلَّمَهم اللهُ على لسانِ شرائِعِه بأنَّه ادَّخَر الجَزاءَ الكامِلَ على الأعمالِ إلى يومٍ آخِرٍ؛ آمَنوا به، وإذا عَلَّمهم أنَّهم لا يفوتونَ ذلك بالموتِ، بل إنَّ لهم حياةً آخِرةً، وأنَّ اللهَ باعِثُهم بعد الموتِ؛ أيقنوا بها، وإذا عَلَّمَهم أنَّه رُبَّما عَجَّلَ لهم بعضَ الجزاءِ في الحياةِ الدُّنيا؛ أيقَنوا به؛ ولذلك كَثُرَ تَعقيبُ ذِكرِ نِظامِ خَلْقِ السَّمَواتِ والأرضِ بذِكرِ الجَزاءِ الآجِلِ والبَعثِ، وإهلاكِ بَعضِ الأُمَمِ الظَّالِمةِ، أو تعقيبُ ذِكرِ البَعثِ والجزاءِ الآجِلِ والعاجِلِ بذِكرِ نِظامِ خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ

.

2- ينبغي للإنسانِ أنْ يَعرِفَ شُبَهَ المُخالِفينَ -التي يَدَّعونَها حُجَجًا- لِيَنقَضَّ عليهم منها فيُبطِلَها؛ قال اللهُ تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ .

3- قال بَعضُ أهلِ العِلمِ: (كيف لا يَخشَى الكَذِبَ على اللهِ ورَسولِه مَن يَحمِلُ كَلامَه على التَّأويلاتِ المُستَنكَرةِ والمجازاتِ المُستَكرَهةِ التي هي بالألغازِ والأحاجيِّ أَولى منها بالبَيانِ والهِدايةِ؟! وهل يأمَنُ على نَفْسِه أن يكونَ مِمَّن قال اللهُ فيهم: وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ؟!). قال الحَسَنُ: (هي واللهِ لكُلِّ واصِفٍ كَذِبًا إلى يَومِ القيامةِ)

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ سُمِّيَ ذلك القَولُ (دعوى)؛ لأنَّ المقصودَ منه هو الدُّعاءُ على أنفُسِهم بالوَيلِ، والدُّعاءُ يُسمَّى دَعوى، كما في قَولِه تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ

[يونس: 10] .

2- قَولُ اللهِ تعالى: جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ فيه سؤالٌ: كيف يَنصِبُ (جعَلَ) ثلاثةَ مَفاعِيلَ؟

الجوابُ: أنَّ حُكمَ الاثنينِ الآخَرينِ حَصِيدًا خَامِدِينَ حُكمُ الواحِدِ، فـ خَامِدِينَ مع حَصِيدًا في حَيِّزِ المَفعولِ الثَّانيِ للجَعْلِ، والمعنى: جعَلْناهم جامِعِينَ لهذينِ الوَصفَينِ، والمرادُ أنَّهم أُهلِكوا بذلك العَذابِ حتى لم يبقَ لهم حِسٌّ ولا حَرَكةٌ، وجَفُّوا كما يجِفُّ الحَصيدُ، وخَمَدوا كما تَخمُدُ النَّارُ .

3- في قَولِه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ دَلالةٌ على كَمالِ حِكمتِه سُبحانه وتعالى .

4- قَولُ اللهِ تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ فيه أنَّه تعالى تكَفَّل بإحقاقِ الحَقِّ وإبطالِ الباطِلِ، وأنَّ كُلَّ باطِلٍ قيلَ وجُودِلَ به، فإنَّ اللهَ يُنزِلُ مِن الحَقِّ والعِلمِ والبيانِ ما يَدمَغُه، فيَضمَحِلُّ ويتبيَّنُ لكُلِّ أحَدٍ بُطلانُه، وهذا عامٌّ في جميعِ المسائِلِ الدِّينيَّةِ؛ لا يُورِدُ مُبطِلٌ شُبهةً عَقليَّةً ولا نقليَّةً في إحقاقِ باطلٍ أو رَدِّ حَقٍّ، إلَّا وفي أدِلَّةِ اللهِ مِن القواطعِ العَقليَّةِ والنَّقليَّةِ ما يُذهِبُ ذلك القَولَ الباطِلَ ويَقمَعُه، فإذا هو مُتَبيِّنٌ بُطلانُه لكُلِّ أحَدٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ

- قولُه: وَكَمْ قَصَمْنَا... عطْفٌ على قولِه: مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [الأنبياء: 6] ، أو على قولِه: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، وهو تَعريضٌ بالتَّهديدِ، وفيه تَعريضٌ بنصْرِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَعريضٌ بإنذارِ المُشرِكينَ بالانقراضِ بقاعدةِ قياسِ المُساواةِ

، وأنَّ اللهَ يُنشِئُ بعْدَهم أُمَّةً مُؤمِنةً . أو استئنافٌ مَسوقٌ للتَّمثيلِ بالأُمَمِ الَّتي هلَكَتْ قبْلَهم .

- وفيه نوعُ تَفصيلٍ لإجمالِ قولِه تعالى: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، وبَيانٌ لكَيفيَّةِ إهلاكِهم وسبَبِه، وتَنبيهٌ على كثرَتِهم .

- و(كمْ) في قولِه: وَكَمْ قَصَمْنَا تَقْتضي التَّكثيرَ، وفي لفْظِ القصْمِ الَّذي هو عبارةٌ عن أفظَعِ الكسْرِ بإبانةِ أجزاءِ المكسورةِ، وإزالةِ تأْليفِها بالكُلِّيَّةِ، مِن الدَّلالةِ على قُوَّةِ الغضبِ وشدَّةِ السَّخَطِ ما لا يَخْفى . وفي (كم) الدَّالَّةِ على كثرةِ العدَدِ إيماءٌ إلى أنَّ هذه الكثرةَ تَستلزِمُ عدَمَ تخلُّفِ إهلاكِ هذه القُرى، وبَضميمةِ وَصْفِ تلك الأُمَمِ بالظُّلْمِ، أي: الشِّرْكِ، إيماءٌ إلى سبَبِ الإهلاكِ؛ فحصَلَ منه ومِن اسْمِ الكثرةِ معنى العُمومِ، فيَعلَمُ المُشرِكونَ التَّهديدَ بأنَّ ذلك حالٌّ بهم لا مَحالةَ بحُكمِ العُمومِ، وأنَّ هذا ليس مُرادًا به قريةٌ مُعيَّنةٌ .

- قولُه: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً مِنْ قَرْيَةٍ المرادُ: أهلُها؛ إِذْ لا تُوصَفُ القريةُ بالظُّلْمِ، كَقَوْلِهِ: مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا [النساء: 75] .

- قولُه: قَوْمًا آَخَرِينَ فيه تَنبيهٌ على استئصالِ الأوَّلينَ، وقطْعِ دابِرِهم بالكُلِّيَّةِ، وهو السِّرُّ في تَقديمِ حِكايةِ إنشاءِ هؤلاء على حِكايةِ مبادئِ إهْلاكِ أولئك بقولِه تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا...، فضميرُ الجمعِ فِي أَحَسُّوا عائدٌ على (أهلِ) المحذوفِ مِن قولِه: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ، ولا يعودُ على قولِه: قَوْمًا آَخَرِينَ؛ إذ لا ذنبَ لهم يَقتضي ما تضمَّنه هذا الكلامُ .

- قولُه: وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بين جُملةِ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ وفَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إلخ، فجُملةُ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إلخ، تَفريعٌ على جُملةِ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ

.

2- قوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ

- قولُه: مِنْهَا يَرْكُضُونَ الرَّكضُ: ضَرْبُ الدَّابَّةِ بالرِّجْلِ، ويجوزُ أنْ يَرْكبوا دوابَّهم يَرْكُضونها هاربينَ مُنهزِمينَ مِن قَريتِهم لمَّا أدرَكَتْهم مُقدِّمةُ العذابِ، ويجوزُ أنْ يُشَبَّهوا في سُرعةِ عَدْوِهم على أرجُلِهم بالرَّاكبينَ الرَّاكضينَ لدوابِّهم، فقيل لهم: لَا تَرْكُضُوا، والقولُ مَحذوفٌ، فهو على إرادةِ القولِ، أي: قيل لهم استهزاءً: لَا تَرْكُضُوا؛ إمَّا بلسانِ الحالِ، أو المقالِ

.

- وحَرْفُ (مِن) في قولِه: مِنْهَا يَرْكُضُونَ يجوزُ أنْ يكونَ للابتداءِ، أي: خارجينَ منها، ويجوزُ أنْ يكونَ للتَّعليلِ، أي: من البأْسِ الَّذي أحسُّوا به؛ فلا بُدَّ من تَقديرِ مُضافٍ، أي: مِن بأْسِنا .

- وفي دُخولِ (إذا) الفُجائيَّةِ في جوابِ (لمَّا): دَلالةٌ على أنَّهم ابْتَدَروا الهُروبَ من شِدَّةِ الإحساسِ بالبأْسِ؛ تَصويرًا لشِدَّةِ الفزَعِ .

3- قوله تعالى: لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ

- وجُملةُ: لَا تَرْكُضُوا ... مُعترِضةٌ بين فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا وقَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، وهي خِطابٌ للرَّاكضينَ بتَخيُّلِ كونِهم الحاضرينَ المُشاهِدينَ في وقْتِ حكايةِ قِصَّتِهم، تَهيئةً وتأهيلًا لِما اقْتَضى اجتلابَ حَرْفِ المُفاجأةِ. والكلامُ تَهكُّمٌ بهم .

- ولَمَّا كان التَّأسيفُ إنَّما هو على العَيشِ الرَّافِهِ، لا على كَونِه مِن مُعطٍ مُعَيَّنٍ، بُنِيَ للمفعولِ قَولُه: أُتْرِفْتُمْ فِيهِ. ويجوزُ أن يكونَ بُنِيَ للمفعولِ؛ إشارةً إلى غَفْلَتِهم عن العِلمِ لِمَن أترَفَهم، أو إلى أنَّهم كانوا يَنسُبونَ نِعمَتَهم إلى قُواهم، ولو عَدُّوها منَ اللهِ لشَكَروه فنفَعَهم .

- قولُه: لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ أي: ارْجِعوا إلى نَعيمِكم ومَساكنِكم لعلَّكم تُسْألون غدًا عمَّا جَرى عليكم؛ ففيه تَوبيخٌ وتَهكُّمٌ بهم، أو: يَسْألُكم الوافدونَ نوالَكم، إمَّا لأنَّهم كانوا أسخياءَ يُنفقونَ أموالَهم رئاءَ الناسِ وطلبَ الثناءِ، أو كانوا بُخلاءَ، فقيل لهم ذلك تَهكُّمًا إلى تَهكُّمٍ، وتَوبيخًا إلى تَوبيخٍ .

4- قولُه تعالى: قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ إنْ جُعِلَتْ جُملةُ لَا تَرْكُضُوا مُعترِضةً، تكونُ جُملةُ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مُستأنفةً استئنافًا بَيانيًّا عن إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ؛ كأنَّ سائِلًا سأَلَ عمَّا يقولونَه حين يُسْرِعونَ هاربينَ؛ لأنَّ شأْنَ الهاربِ الفزِعِ أنْ تَصدُرَ منه أقوالٌ تدُلُّ على الفزَعِ أو النَّدمِ عن الأسبابِ الَّتي أحلَّتْ به المخاوِفَ، فيُجابُ بأنَّهم أيْقَنوا حينَ يرَونَ العذابَ أنَّهم كانوا ظالِمينَ. وإنْ جُعِلَتْ جُملةُ لَا تَرْكُضُوا مقولَ قولٍ مَحذوفٍ، كانت جُملةُ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ جوابًا لقولِ مَن قال لهم: لَا تَرْكُضُوا ... .

5- قولُه تعالى: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ

- قولُه: حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ كِنايةٌ عن مَوتِهم .

- وفي قولِه: حَصِيدًا خَامِدِينَ تَشبيهٌ بليغٌ؛ فقد شبَّهَهم بعْدَ حُلولِ العذابِ بهم بالحصيدِ أوَّلًا، وهو الزَّرعُ المحصودُ، ووجْهُ الشَّبهِ بين المُشبَّهِ والمُشبَّهِ به هو الاستئصالُ من المنابتِ، ثمَّ شبَّهَهم ثانيًا بالنَّارِ المُنطفِئةِ ولم يبْقَ منها إلَّا جمْرٌ مُنطفِئٌ لا نفْعَ فيه، ولا قابليَّةَ لشَيءٍ من النَّفعِ منه، فلا تُرى إلَّا أشْلاءٌ مُتناثِرةٌ وأجزاءٌ مُتفرِّقةٌ قد تَمدَّدتْ، وقد رانَ عليها البِلَى .

6- قولُه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ

- قولُه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ ... إشارةٌ إجماليَّةٌ إلى أنَّ تكوينَ العالَمِ وإبداعَ بني آدَمَ مُؤسَّسٌ على قواعدِ الحِكَمِ البالغةِ المُسْتتبِعةِ للغاياتِ الجليلةِ، وتَنبيهٌ على أنَّ ما حُكِيَ من العذابِ الهائلِ والعقابِ النَّازلِ بأهْلِ القُرى مِن مُقتضياتِ تلك الحِكَمِ ومُتفرِّعاتِها حسَبَ اقتضاءِ أعمالِهم إيَّاهُ، وأنَّ للمُخاطَبينَ المُقتدينَ بآثارِهم ذَنوبًا مثْلَ ذَنوبِهم .

- وتَخصيصُ وَمَا بَيْنَهُمَا بالذِّكْرِ يدُلُّ على الاهتمامِ به؛ لأنَّ أشرَفَه هو نوعُ الإنسانِ المقصودِ بالعِبْرةِ والاستدلالِ، وهو مَناطُ التَّكليفِ .

- وعبَّرَ بقولِه: لَاعِبِينَ لبَيانِ كَمالِ تَنزُّهِه تعالى عن الخلْقِ الخالي عن الحِكْمةِ، بتَصويرِه بصُورةِ ما لا يَرتابُ أحدٌ في استحالةِ صُدورِه عنه سُبحانه .

7- قوله تعالى: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ

- قولُه: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا جُملةٌ مُستأْنَفةٌ مُقرِّرةٌ لمعنى جُملةِ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ تَقريرًا بالاستدلالِ على مَضمونِ الجُملةِ، وتَعليلًا لنفْيِ أنْ يكونَ خلْقُ السَّمواتِ والأرضِ لَعِبًا .

- وقولُه: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا عَقِيبَ قولِه: وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ من بابِ وضْعِ المُظهَرِ مَوضِعَ المُضْمرِ من غيرِ لفْظِه السَّابقِ؛ لأنَّ اللَّهْوَ: ما يُتلهَّى به ويُلْعَبُ ، وهذا على قولٍ في التفسيرِ.

- قولُه: لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا في إضافةِ (لَدُنْ) إلى ضَميرِ الجَلالةِ دَلالةٌ على الرِّفْعةِ والتَّفضيلِ .

- قولُه: إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ فيه مَحذوفٌ؛ ثِقةً بدَلالةِ ما قبْلَه عليه، أي: إنْ كُنَّا فاعلينَ لاتَّخذناه. وإنْ جُعِلَتْ (إنْ) شَرطيَّةً كان تَكريرًا للتَّلازُمِ، وإنْ جُعِلَتْ (إنْ) حَرْفَ نفْيٍ كانت الجُملةُ مُستأْنفةً؛ بَيانًا لتَقريرِ الامتناعِ المُستفادِ مِن (لو)، أي: ما كنَّا فاعلينَ لَهْوًا .

8- قولُه تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ

- قولُه: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ (بل) للإضرابِ عن اتِّخاذِ اللَّهوِ، وعن أنْ يكونَ الخلْقُ لَعِبًا، إضرابَ إبطالٍ وارتقاءٍ . أو إضرابٌ عن إرادتِه، وتَخصيصُ شأْنِه هذا مِن بينِ سائرِ شُؤونه تعالى بالذِّكْرِ؛ للتَّخلُّصِ إلى ما سيأْتي من الوعيدِ .

- قولُه: فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ في (إذا) الفُجائيَّةِ والجُملةِ الاسميَّةِ، من الدَّلالةِ على كَمالِ المُسارَعةِ في الذَّهابِ والبُطلانِ ما لا يَخْفى؛ فكأنَّه زاهِقٌ من الأصْلِ . أو دَلَّ على سُرعةِ مَحْقِ الحقِّ الباطلَ عندَ وُرودِه؛ لأنَّ للحقِّ صَولةً، فهو سريعُ المفعولِ إذا وَرَد ووَضَحَ .

================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (19-23)

ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

غريب الكلمات:

 

وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ: أي: لا يَعْيَونَ، ولا يَنقَطِعونَ عن العِبادةِ، والحَسِيرُ: المنقَطِعُ إعياءً أو كَلالًا، وأصلُ (حسر): يدُلُّ على كَشفِ الشَّيءِ

.

يَفْتُرُونَ: أي: يَضعُفونَ ويَسأَمونَ، والفُتورُ: سكونٌ بعدَ حِدَّةٍ، ولينٌ بعدَ شِدَّةٍ، وأصلُ (فتر): يدُلُّ على ضَعفٍ في الشَّيءِ .

يُنْشِرُونَ: أي: يُحيُونَ الموتى، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وتَشعُّبِه

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا

قَولُه: إِلَّا اللَّهُ: بالرَّفعِ صفةٌ للنكرةِ قبلَها آَلِهَةٌ. وإِلَّا هنا بمعنى (غَيْر) ولا يَصحُّ الاستثناءُ بالنَّصبِ؛ لأنَّ المعنى حينئذٍ يصيرُ: (لو كان فيهما آلهةٌ ليس اللهُ فيهم، لفسَدتا)، وذلك يقتضي أنَّه لو كان فيهما آلهةٌ فيهم الله لم تفسُدا، وهذا ظاهِرُ الفَسادِ، وكذلك لا يصحُّ أن يُعرَبَ بدلًا مِن آَلِهَةٌ؛ لأنَّه لم يصِحَّ الاستثناءُ، فلا تصحُّ البدليَّةُ. وقيل: (إلَّا) هنا اسمٌ مبنيٌّ بمعنى «غير»، صِفةٌ لـ آَلِهَةٌ، انتقل إعرابُها وظهرَ فيما بعدَها اللَّهُ، وعليه فـ اللَّهُ مُضافٌ إليه مجرورٌ بكسرةٍ مُقدَّرةٍ على آخرِه منَعَ مِن ظهورها اشتغالُ المحلِّ بحركةِ إعرابِ إِلَّا الظاهرِ فيه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ الله تعالى: وللهِ سُبحانَه مُلكُ مَن في السَّمَواتِ والأرضِ. والذين عندَه من الملائكةِ لا يتكَبَّرونَ عن عِبادتِه ولا يَنقَطِعونَ عنها، يذكُرونَ اللهَ ويُنَزِّهونَه دائمًا، لا يَضْعُفونَ ولا يَسأَمونَ.

ثمَّ ذكَر الله تعالى الأدلةَ على وحدانيَّتِه، واستحالةِ أن يكونَ له شركاءُ في ألوهيتِه، فقال: أتَّخَذَ هؤلاء المشركونَ آلهةً مِن الأرضِ يُحيون الموتَى؟ كلا، لا يَقْدِرون على ذلك، فكيفَ عبَدوهم معَ اللهِ؟! لو كان في السَّمَواتِ والأرضِ آلهةٌ غيرُ اللهِ سُبحانَه وتعالى، لاختلَّ نظامُهما. فتنزَّه اللهُ رَبُّ العَرشِ، وتقدَّس عَمَّا يَصِفُه الجاحِدونَ الكافِرونَ، من الكَذِبِ والافتراءِ.

لا يُسألُ عن قَضائِه في خَلقِه، ولا أحدَ يَقدِرُ أن يُمانِعَه أو يُعارِضَه سُبحانَه، وجميعُ خَلقِه يُسأَلونَ عن أفعالِهم وأقوالِهم.

تفسير الآيات:

 

وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا نفَى اللَّعِبَ عن نَفْسِه، ونفيُ اللَّعِبِ لا يَصِحُّ إلَّا بنفيِ الحاجةِ، ونفيُ الحاجةِ لا يَصِحُّ إلا بالقُدرةِ التامَّةِ؛ لا جرَمَ عَقَّب تلك الآيةَ بقَولِه: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لدَلالةِ ذلك على كَمالِ المُلكِ والقُدرةِ

.

وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى كلامَ الطَّاعِنينَ في النبُوَّاتِ، وأجاب عنها، وبيَّنَ أنَّ غَرَضَهم مِن تلك المطاعِنِ التمَرُّدُ وعَدَمُ الانقيادِ؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّه تعالى مُنَزَّهٌ عن طاعتِهم؛ لأنَّه هو المالِكُ لجميعِ المُحْدَثاتِ والمخلوقاتِ، ولأجْلِ أنَّ الملائِكةَ مع جلالَتِهم مُطيعونَ له، خائِفونَ منه، فالبَشَرُ مع نهايةِ الضَّعفِ أَولى أن يُطيعوه .

وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

أي: ولله وَحدَه مُلكُ مَن في السَّمواتِ والأرضِ مِن الخَلقِ، وكُلُّهم عَبيدٌ له .

وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ.

أي: ومَن عِندَه مِنَ الملائِكةِ لا يتكَبَّرونَ عن عبادتِه وطاعتِه والتذَلُّلِ له، ولا يتعَبونَ من عبادتِه، ولا يَنقَطِعونَ عنها .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 206] .

وقال سُبحانَه: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] .

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20).

أي: يُسبِّحونَ اللهَ ليلًا ونهارًا، لا يَضعُفُ نَشاطُهم عن تَسبيحِه في كلِّ وَقتٍ .

أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ الله تعالى كمالَ اقتدارِه وعَظَمتِه، وخضوعَ كُلِّ شَيءٍ له؛ أنكَرَ على المُشرِكينَ الَّذينَ اتَّخَذوا مِن دونِ اللهِ آلِهةً مِن الأرضِ في غايةِ العَجزِ وعَدَمِ القُدرةِ .

أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21).

أي: هل اتَّخَذ أولئك المُشرِكونَ مَعبوداتٍ مِن الأرضِ يُحْيونَ الأمواتَ؟ كلا، لا يَقدِرونَ على ذلك، فكيف جَعَلوهم لله أندادًا، وعَبَدوهم معه ؟!

كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان: 3] .

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22).

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا.

أي: لو كان في السَّمَواتِ والأرضِ مَعبوداتٌ تَستَحِقُّ العبادةَ غَيرُ اللهِ، لَخَرِبَتِ السَّمَواتُ والأرضُ، واختلَّ نظامُهما، وبطَل الانتفاعُ بما فيهما، وهلَك ما فيهما مِن الخَلقِ .

كما قال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون: 91] .

فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.

أي: فتنزَّه اللهُ ربُّ العَرشِ وتعالى عمَّا يَصِفُه به الواصِفونَ مِن صِفاتِ النَّقصِ، ويَكذِبونَ عليه، كادِّعائِهم أنَّ له ولدًا وشَريكًا !

كما قال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الزخرف: 82] .

لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23).

أي: لا سائلَ يَسألُ الله تعالى عمَّا يفعلُ، فيقولُ له: لِمَ فعَلْتَ؟ ولِمَ لَمْ تفعَلْ؟ ولا أحدَ يَقدِرُ أن يُمانِعَه أو يُعارِضَه سُبحانَه بقَولٍ أو بفِعلٍ فيما يشاءُ فِعلَه بخَلقِه، وأمَّا خَلقُه فيَسأَلُهم عن أفعالِهم وأقوالِهم

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود: 107].

وقال سُبحانَه: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد: 41] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93].

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ فكُلُّ المكَلَّفينَ في السَّماءِ والأرضِ هم عَبيدُ اللهِ تعالى، وهو الخالِقُ لهم، والمُنعِمُ عليهم بأصنافِ النِّعَمِ، فيَجِبُ على الكُلِّ طاعَتُه، والانقيادُ لحُكمِه

.

2- قَولُ الله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ أي: أنَّهم مُستَغرِقونَ في العبادةِ والتَّسبيحِ في جميعِ أوقاتِهم؛ فليس في أوقاتِهم وَقتٌ فارغٌ ولا خالٍ منها، وهم على كَثرتِهم بهذه الصِّفةِ، وفي هذا مِن بيانِ عَظَمةِ اللهِ تعالى، وجَلالةِ سُلطانِه، وكَمالِ عِلمِه وحِكمَتِه ما يُوجِبُ ألَّا يُعبَدَ إلَّا هو، ولا تُصرَفَ العبادةُ لِغَيرِه .

3- قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فعُلِمَ بذلك أنَّه لا صلاحَ للعالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ مَعًا حتى تكونَ حَرَكاتُ أهلِها كُلُّها للهِ، وحَرَكاتُ الجَسَدِ تابِعةٌ لحركةِ القَلبِ وإرادتِه؛ فإن كانت حركَتُه وإرادتُه لله وحْدَه، فقد صلَحَ وصَلَحت حَرَكاتُ الجَسَدِ كُلِّه، وإن كانت حركةُ القَلبِ وإراداتُه لغيرِ الله تعالى، فسَدَ وفسَدَت حَرَكاتُ الجَسَدِ بحَسَبِ فَسادِ حركةِ القلبِ ، فكما أنَّ السَّمَواتِ والأرضَ لو كان فيهما إلهٌ غَيرُه سُبحانَه لفَسَدتا، كما قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا، فكذلك القَلبُ: إذا كان فيه مَعبودٌ غَيرُ اللهِ فَسَد فَسادًا لا يُرجى صَلاحُه إلَّا بأن يُخرِجَ ذلك المعبودَ مِن قَلبِه، ويكونَ اللهُ وحْدَه إلهَه ومَعبودَه الذي يُحِبُّه ويَرجوه ويَخافُه، ويتوكَّلُ عليه ويُنيبُ إليه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- مِن أدِلَّةِ عُلُوِّ اللهِ على خَلْقِه التَّصريحُ باختِصاصِ بَعضِ المخلوقاتِ بأنَّها عِندَه، وأنَّ بعضَها أقرَبُ إليه مِن بَعضٍ؛ كقَولِه تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ، ففَرَّق بينَ مَن له عمومًا، ومَن عندَه مِن مماليكِه وعَبيدِه خُصوصًا، وفيه ردٌّ على الجَهميَّةِ

.

2- قال الله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ فإنْ قيل: كيفَ أنكَرَ عليهم اتخاذَ آلهةٍ تُنشِرُ، وما كانوا يدَّعونَ ذلك لآلهَتِهم؟

والجوابُ: أنَّ الأمرَ وإن كان كما ذُكِرَ، إلَّا أنَّهم بادِّعائِهم لها الإلهيَّةَ، يَلزَمُهم أن يَدَّعوا لها الإنشارَ؛ لأنَّه لا يَستَحِقُّ هذا الاسمَ إلَّا القادِرُ على كُلِّ مَقدورٍ، والإنشارُ مِن جُملةِ المَقدوراتِ .

3- في قَولِه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا دَلالةٌ على أنَّ عِلْمَ اللهِ تعالى يتعلَّقُ أيضًا بالمُستَحيلِ؛ فهذا خبَرٌ يخبِرُ اللهُ فيه أنَّه لو كان في السَّماءِ والأرضِ آلهةٌ إلَّا اللهُ لفَسَدتا، وهذا خَبَرٌ عن شيءٍ مُستَحيلٍ .

4- نبَّه الله سبحانَه خَلْقَه على أنَّه واحدٌ باتِّساقِ أفعالِه وتَرتيبِها، وأنَّه تعالى لا شريكَ له فيها، بقَولِه عزَّ وجَلَّ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ، فإنَّ كُلَّ إلهٍ كان يَطلُبُ مُغالَبةَ الآخرِ، والعُلُوَّ عليه، وتفَرُّدَه دونَه بإلهيَّتِه؛ إذ الشَّرِكةُ نَقصٌ في كَمالِ الإلهيَّةِ، والإلهُ لا يرضَى لنَفسِه أن يكونَ إلهًا ناقِصًا، فإنْ قهَرَ أحدُهما الآخَرَ كان هو الإلهَ وحْدَه، والمقهورُ ليس بإلهٍ، وإنْ لم يقهَرْ أحَدُهما الآخَرَ، لَزِمَ عَجزُ كُلٍّ منهما، ولم يكنْ تامَّ الإلهيَّةِ، فيَجِبُ أن يكونَ فَوقَهما إلهٌ قاهِرٌ لهما، حاكِمٌ عليهما، وإلَّا ذهب كُلٌّ منهما بما خلَقَ، وطلَبَ كُلٌّ منهما العلوَّ على الآخَرِ، وفي ذلك فسادُ أمرِ السَّمَواتِ والأرضِ ومَن فيها ؛ فلا يَصلُحُ الوجودُ إلَّا على إلهٍ واحدٍ، كما أنَّه لم يُوجَدْ إلَّا برَبٍّ واحدٍ؛ ولهذا قال سُبحانَه: لَوْ كَانَ فِيهِمَا أي: في السَّمَواتِ والأرضِ آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا في ذاتِهما، وفسَدَ مَن فيهما مِن المخلوقاتِ. بيانُ ذلك: أنَّ العالَمَ العُلويَّ والسُّفليَّ -على ما يُرى- في أكمَلِ ما يكونُ مِن الصَّلاحِ والانتِظامِ الذي ما فيه خَلَلٌ ولا عَيبٌ، ولا مُمانعةٌ ولا مُعارضةٌ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ مُدَبِّرَه واحِدٌ، ورَبَّه واحِدٌ، وإلهَه واحِدٌ -سُبحانَه وبِحَمدِه .

5- في قَولِه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ دَلالةٌ على أنَّ التَّعليقَ بالشَّرطِ لا يَدُلُّ على إمكانِ المَشروطِ، بل قد يكونُ مُستَحيلًا غايةَ الاستِحالةِ، كما في الآيةِ .

6- قَولُ الله تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ فيه سؤالٌ: لِقائلٍ أن يقولَ: إنَّ قَولَه: وَهُمْ يُسْأَلُونَ وإن كان متأكِّدًا بقَولِه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٩٢]، وبقَولِه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: ٢٤] إلَّا أنَّه يُناقِضُه -ظاهِرًا- قَولُه: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: ٣٩]!

والجوابُ عن هذا مِن ثلاثةِ أوجُهٍ:

الأوَّل -وهو أوجَهُها؛ لدَلالةِ القُرآنِ عليه- هو: أنَّ السُّؤالَ قِسمانِ: سؤالُ تَوبيخٍ وتقريعٍ، وأداتُه غالبًا: (لِمَ)، وسؤالُ استخبارٍ واستعلامٍ، وأداتُه غالبًا: (هَل)، فالـمُثبَتُ هو سؤالُ التَّوبيخِ والتَّقريعِ، والمنفيُّ هو سُؤالُ الاستخبارِ والاستعلامِ. وجهُ دلالةِ القرآنِ على هذا: أنَّ سؤالَه لهم المنصوصَ في كُلِّه توبيخٌ وتقريعٌ، كقولِه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ [الصافات: 24، 25]، وقولِه: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ [الطور: 15]، وكقولِه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: 8] ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.

الثاني: أنَّ في القيامةِ مواقِفَ مُتعدِّدةً؛ ففي بعضِها يُسألونَ، وفي بعضها لا يُسألونَ.

الثالث: أنَّ إثباتَ السُّؤالِ مَحمولٌ على السُّؤالِ عَنِ التَّوحيدِ، وتَصديقِ الرُّسلِ، وعدمَ السُّؤالِ مَحمولٌ على ما يستلزِمُه الإقرارُ بالنُّبوَّاتِ مِن شرائِعِ الدِّينِ وفُروعِه . وقيل غيرُ ذلك .

7- قال الله تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ بيَّنَ بهذا أنَّ مَن يُسأَلُ غَدًا عن أعمالِه -كالمَسيحِ، والمَلائِكةِ- لا يَصلُحُ للإلهيَّةِ .

8- قَولُه تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ فيه دليلٌ ظاهرٌ على القدريَّةِ في مسألةِ القَدَرِ ، فعن أبي الأسودِ الدِّيليِّ، قال: (قال لي عِمْرانُ بنُ الحُصَينِ: أرأيتَ ما يعملُ النَّاسُ اليومَ ويَكْدَحونَ فيه، أشيءٌ قُضيَ عليهم، ومضَى عليهم مِن قَدَرِ ما سَبَق؟ أو فيما يُستقبَلونَ به مِمَّا أتاهم به نَبِيُّهم، وثَبَتت الحجَّةُ عليهم؟ فقُلْتُ: بل شيءٌ قُضِي عليهم، ومضَى عليهم. قال: فقال: أفلا يكونُ ظلمًا؟ قال: ففزِعْتُ مِن ذلك فَزَعًا شديدًا، وقلتُ: كلُّ شيءٍ خَلْقُ اللهِ ومِلْكُ يدِه، فلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. فقال لي: يرحمُك اللهُ، إنِّي لم أُرِدْ بما سألْتُك إلَّا لِأَحْزِرَ عقلَك) . وقال ابنُ جُرَيجٍ في هذه الآيةِ: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ: (المعنى: لا يَسألُه الخَلقُ عن قَضائِه في خَلْقِه، وهو يسألُ الخَلقَ عن عَمَلِهم؛ لأنَّهم عَبيدٌ)

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ استئنافٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه، وإخبارٌ بأنَّ جميعَ العالَمِ ملْكُه

، أو عطْفٌ على جُملةِ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا [الأنبياء: 17] ، مُبيِّنةٌ أنَّ كلَّ مَن في السَّمواتِ والأرضِ عِبادٌ للهِ تعالى، مَخلوقونَ لقَبولِ تَكليفِه، والقيامِ بما خُلِقوا لأجْلِه .

- وتَقديمُ المجرورِ في وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ للاختصاصِ، أي: له مَن في السَّمواتِ والأرضِ لا لِغَيرِه، وهو قَصْرُ إفرادٍ ؛ رَدًّا على المُشرِكينَ الَّذين جَعَلوا للهِ شُركاءَ في الإلهيَّةِ. ومَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَعُمُّ العُقلاءَ وغيرَهم، وغلَّبَ اسمَ الموصولِ الغالبَ في العُقلاءِ؛ لأنَّهم المقصودُ الأوَّلُ .

- وجمَعَ السَّماءَ هنا؛ لاقتضاءِ تَعميمِ المُلْكِ ذلك .

- قولُه: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يعني: الملائكةَ، وخَصَّهم بالذِّكْرِ؛ لامتيازِهم بفضيلةِ القُرْبِ منه ، وهو مَعطوفٌ على مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ فيكونُ مِن عطْفِ الخاصِّ على العامِّ للاهتمامِ به. أو المُرادُ به نوعٌ مِن الملائكةِ مُتعالٍ عن التَّبوُّؤِ في السَّماءِ والأرضِ، أو لأنَّه أعَمُّ منه من وَجْهٍ، أو مُبتدأٌ خبَرُه لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ .

- وفيه تَعريضٌ بالَّذينَ يَستكبِرونَ عن عِبادةِ اللهِ، ويَعْبُدونَ الأصنامَ، وهم المُشرِكونَ .

- قولُه: وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ فيه قُوَّةُ اللَّفظِ لقُوَّةِ المعنى، وهو نقْلُ اللَّفظِ من وزْنٍ إلى وزْنٍ آخرَ أكثَرَ منه؛ لِيَتضمَّنَ من المعنى الدَّالِّ عليه أكثَرَ ممَّا تضمَّنَه أوَّلًا، وهذا الضَّرْبُ مِن الزِّيادةِ في الألفاظِ لا يُستعمَلُ إلَّا في مَقامِ المُبالَغةِ، وهو هنا في قولِه: وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ؛ فقد عدَلَ عن الثُّلاثيِّ وهو (حَسَرَ) إلى السُّداسيِّ وهو (اسْتحسَرَ)، وقد كان ظاهِرُ الكلامِ أنْ يُقالَ: (يَحْسِرون)، أي: يَكِلُّون ويَتْعبونَ؛ لأنَّ أقلَّ مَلَلٍ منهم أو كَلالٍ إزاءَ الملائكةِ وإزاءَ عِبادَتِهم للهِ سُبحانه لا يُتصوَّرُ منهم، ولكنَّه عدَلَ عن ذلك؛ للتنبيهِ على أنَّ عباداتِهم بثِقَلِها ودوامِها حقيقةٌ بأن يُستَحسَرَ منها، ومعَ ذلك لا يَستحسرونَ

 

.

2- قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ

- قولُه: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ استئنافٌ وقَعَ جوابًا لسُؤالٍ نشَأَ ممَّا قبْلَه؛ كأنَّه قِيلَ: ماذا يَصْنعونَ في عِباداتِهم أو كيف يَعْبُدون؟ فقيل: يُسَبِّحُونَ ... إلخ

. أو هو بَيانٌ لجُملةِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ؛ لأنَّ مَن لا يتعَبُ مِن عمَلٍ لا يَترُكُه، فهو يُواظِبُ عليه ولا يَعْيا منه .

3- قولُه تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ

- قولُه: أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً حِكايةٌ لجِنايةٍ أُخْرى من جِناياتِهم بطَريقِ الإضرابِ والانتقالِ مِن فَنٍّ إلى فنٍّ آخَرَ من التَّوبيخِ، ومعنى الهمزةِ في (أَمْ) المُنقطعةِ إنكارُ الواقعِ ، وهذا الانتقالُ وقَعَ اعتراضًا بين جُملةِ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وجُملةِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ

.

- وضَميرُ اتَّخَذُوا عائدٌ إلى المُشرِكينَ المُتبادرينَ مِن المقامِ في مثْلِ هذه الضَّمائرِ، ويجوزُ جَعْلُه الْتِفاتًا عن ضَميرِ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء: 18]، ويجوزُ أنْ يكونَ مُتناسِقًا مع ضَمائرِ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ [الأنبياء: 5] وما بعْدَه

.

- وفيه بابٌ من التَّهكُّمِ بهم والتَّوبيخِ والتَّجهيلِ، وإشعارٌ بأنَّ ما استَبْعدوهُ من اللهِ لا يصِحُّ استبعادُه؛ لأنَّ الإلهيَّةَ لمَّا صحَّتْ صَحَّ معها الاقتِدارُ على الإبداءِ والإعادةِ

.

- والمُرادُ بقولِه: مِنَ الْأَرْضِ هو التَّحقيرُ لا التَّخصيصُ، ووَصْفُ الآلهةِ بأنَّها مِن الأرضِ فيه تَهكُّمٌ بالمُشرِكينَ، وإظهارٌ لضَعْفِ رأْيِهم، أي: جَعَلوا لأنفُسِهم آلِهةً مِن عالَمِ الأرضِ، أو مأْخوذةً مِن أجزاءِ الأرضِ؛ تَعريضًا بأنَّ ما كان مثْلَ ذلك لا يَستحِقُّ أنْ يكونَ مَعبودًا

.

- وقولُه أيضًا: مِنَ الْأَرْضِ فيه مُقابَلةٌ لقولِه تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ؛ لأنَّ المُرادَ أهْلُ السَّماءِ .

- قولُه: هُمْ يُنْشِرُونَ النُّكتةُ في ذِكْرِ الضَّميرِ (هم): إفادةُ معنى الخُصوصيَّةِ، وهو الَّذي يَدورُ عليه الإنكارُ والتَّجهيلُ والتَّشنيعُ، ومعنى التَّخصيصِ في تَقديمِ الضَّميرِ: التَّنبيهُ على كَمالِ مُبايَنةِ حالِهم للإنشارِ المُوجبةِ لمَزيدِ الإنكارِ. ويجوزُ أنْ يُجعَلَ ذلك مِن مُسْتتبعاتِ ادِّعائِهم الباطلَ؛ لأنَّ الأُلوهيَّةَ مُقْتضيةٌ للاستقلالِ بالإبداءِ والإعادةِ، فحيث ادَّعَوا للأصنامِ الإلهيَّةَ، فكأنَّهم ادَّعَوا لها الاستقلالَ بالإنشارِ . وقيل: هُمْ في قولِه تعالى: هُمْ يُنْشِرُونَ للدَّلالةِ على قُوَّةِ أمْرِهم فيما أُسْنِدَ إليهم، لا على الاختصاصِ . وقيل: فائدةُ قولِه: هُمْ الإيذانُ بأنَّهم لم يَدَّعُوا لها الإنشارَ، وأنَّ قولَه: هُمْ يُنْشِرُونَ استئنافُ إلْزامٍ لهم، وكأنَّه قال: اتَّخَذوا آلهةً مع اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فهمْ إذنْ يُحْيونَ الموتى ضَرورةَ كونِهم آلِهةً .

4- قولُه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ جُملةٌ مُبيِّنةٌ للإنكارِ الَّذي في قولِه تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً؛ ولذلك فُصِلَتْ ولم تُعْطَفْ. وهذه الآيةُ استدلالٌ على استحالةِ وُجودِ آلهةٍ غيرِ اللهِ بعْدَ خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، فهي مَسوقةٌ لإثباتِ الوَحدانيَّةِ لا لإثباتِ وُجودِ الخالقِ؛ إذ لا نِزاعَ فيه عندَ المُخاطَبينَ، ولا لإثباتِ انفرادِه بالخلْقِ؛ إذ لا نِزاعَ فيه كذلك، ولكنَّها مُنتظِمةٌ على ما يُناسِبُ اعتقادَهم الباطِلَ؛ لكَشْفِ خطَئِهم، وإعلانِ باطِلِهم

.

- والضَّميرُ في قولِه: فِيهِمَا عائدٌ على السَّماءِ والأرضِ، وهما كِنايةٌ عن العالَمِ

.

- قولُه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها مِن ثُبوتِ الوَحدانيَّةِ بالبُرهانِ، وإيرادُ لفْظِ الجَلالةِ في مَوضِعِ الإضمارِ؛ للإشعارِ بعِلَّةِ الحُكْمِ؛ فإنَّ الأُلوهيَّةَ مَناطٌ لجميعِ صِفاتِ كَمالِه الَّتي من جُملتِها تَنزُّهُه تعالى عمَّا لا يَلِيقُ به، ولِتَربيةِ المَهابةِ وإدخالِ الرَّوعةِ. وقولُه: رَبِّ الْعَرْشِ صِفةٌ للاسمِ الجليلِ مُؤكِّدةٌ لتَنزُّهِه عزَّ وجلَّ، وللتَّذكيرِ بأنَّه انفرَدَ بخلْقِ السَّمواتِ، وهو شَيءٌ لا يُنازِعونَ فيه، بلْ هو خالِقُ ما هو أعظَمُ من السَّمواتِ وحاوِيها، وهو العرْشُ؛ تَعريضًا بهم بإلْزامِهم لازِمَ قَولِهم بانفرادِهِ بالخلْقِ أنْ يَلزَمَ انتفاءُ الشُّركاءِ له فيما دونَ ذلك .

5- قولُه تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ استئنافٌ ببَيانِ أنَّه تعالى لقُوَّةِ عَظمتِه وعِزَّةِ سُلطانِه القاهرِ، بحيث ليس لأحدٍ من مَخلوقاتِه أنْ يُناقِشَه ويَسأَلَه عمَّا يَفعَلُ مِن أفعالِه، إثْرَ بَيانِ أنْ ليس له شَريكٌ في الإلهيَّةِ . وفيه إبطالٌ لإلهيَّةِ المُقرَّبينَ الَّتي زعَمَها المُشرِكونَ الَّذين عَبَدوا الملائكةَ وزَعَموهم بَناتِ اللهِ تعالى، بطريقةِ انتفاءِ خاصيَّةِ الإلهِ الحقِّ عنهم؛ إذ هم يُسْألونَ عمَّا يَفْعلون، وشأْنُ الإلهِ ألَّا يُسألَ .

- وجُملةُ: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ تَمهيدٌ لجُملةِ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، على أنَّ تَقديمَه على جُملةِ وَهُمْ يُسْأَلُونَ اقتضَتْهُ مُناسبةُ الحديثِ عن تَنزيهِه تعالى على الشُّركاءِ؛ فكان انتقالًا بَديعًا بالرُّجوعِ إلى بَقيَّةِ أحوالِ المُقرَّبينَ. وأيضًا في قولِه: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ كِنايةٌ عن جَريانِ أفعالِ اللهِ تعالى على مُقْتضى الحِكْمةِ، بحيث إنَّها لا مَجالَ فيها لانتقادِ مُنتقِدٍ .

- وجاء في قولِه: عَمَّا يَفْعَلُ بالتَّعبيرِ بـ يَفْعَلُ؛ إذ الفِعلُ جامِعٌ لصِفاتِ الأفعالِ، مُندرِجٌ تحتَهُ كلُّ ما يَصدُرُ عنه مِن خَلْقٍ ورَزْقٍ، ونَفْعٍ وضَرٍّ، وغيرِ ذلك .

- قولُه: وَهُمْ يُسْأَلُونَ وَعيدٌ للكَفرةِ ، وفيه: كِنايةٌ عن العُبوديَّةِ

=====================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (24-29)

ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

 

مُشْفِقُونَ: أي: خائِفونَ حَذِرونَ، وأصلُ (شفق): يدُلُّ على رِقَّةٍ في الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: أمِ اتَّخَذ هؤلاء المُشرِكونَ مِن دون اللهِ آلِهةً؟ قل -يا مُحمَّدُ- لهم: هاتوا ما لديكم مِنَ البُرهانِ على صِحَّةِ ما تَزعُمونَهم آلِهةً؛ فليس في القرآنِ الذي جئتُ به ولا في الكُتُبِ السَّابِقةِ دَليلٌ على ما ذهَبتُم إليه، بل أكثَرُ هؤلاء المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ الحَقَّ الذي أنزَلَه الله، فهم مُعرِضونَ عنه مُنكِرونَ له.

وما أرسَلْنا مِن قَبْلِك -يا محمَّدُ- مِن رَسولٍ إلَّا نوحي إليه أنَّه لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، فأخْلِصوا العبادةَ له وحْدَه.

وقال المُشرِكونَ: اتَّخَذَ الرَّحمنُ الملائِكةَ بناتٍ له! تنزَّه اللهُ عن ذلك؛ فالملائِكةُ عبادُ اللهِ مُقَرَّبونَ عندَه، لا يتكَلَّمونَ إلَّا بما يأمُرُهم الله بقولِه، ويَعمَلونَ بما يأمرُهم به، ويُطيعونَه ولا يُخالِفونَه، وما مِن قولٍ أو فعلٍ لاحِقٍ أو سابِقٍ من أعمالِ الملائكةِ إلَّا يَعلَمُه اللهُ سُبحانَه وتعالى، ويُحصيه عليهم، ولا يتقَدَّمونَ بالشَّفاعةِ إلَّا لِمَن ارتضى اللهُ شفاعَتَهم له، وهم مِن خَوفِ اللهِ حَذِرونَ مِن مُخالفةِ أمْرِه ونَهْيِه. ومَن يدَّعِ مِن الملائِكةِ -على سبيلِ الفَرضِ- أنَّه إلهٌ مِن دونِ اللهِ، فجَزاؤه جهنَّمُ، مِثلَ ذلك الجزاءِ نجزي كُلَّ ظالمٍ مُشرِكٍ.

تفسير الآيات:

 

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24).

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً.

أي: أم

اتَّخَذ هؤلاء المُشرِكونَ مِن دونِ اللهِ مَعبوداتٍ يَزعُمونَ أنَّها تنفَعُ وتضُرُّ وتخلُقُ وتُحيي وتُميتُ ؟

قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ.

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهم: هاتوا دليلَكم على صِحَّةِ ما تَزعُمونَ أنَّ مع اللهِ آلِهةً أُخرى .

هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي.

أي: هذا القُرآنُ الذي أُنزِلَ علَيَّ، وهذه كتُبُ الأنبياءِ المتقَدِّمةُ -كالتَّوراةِ، والإنجيلِ- على خِلافِ ما تَزعُمونَ، فهل وجدْتُم في شَيءٍ منها اتخاذَ آلهةٍ مع اللهِ؟! أم كُلُّها ناطِقةٌ بالتَّوحيدِ آمِرةٌ به ؟

كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة: 5] .

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ.

مُناسَبتُها لما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ سُبحانَه وتعالى دليلَ التَّوحيدِ وطالَبَهم بالدَّلالةِ على ما ادَّعَوه، وبَيَّنَ أنَّه لا دليلَ لهم البتَّةَ عليه لا مِن جِهةِ العَقلِ ولا مِن جِهةِ السَّمعِ؛ ذكَرَ بَعدَه أنَّ وُقوعَهم في هذا المذهَبِ الباطِلِ ليس لأجْلِ دَليلٍ ساقهم إليه، بل ذلك لأنَّ عِندَهم ما هو أصلُ الشَّرِّ والفسادِ كُلِّه، وهو عَدَمُ العِلمِ، ثمَّ ترَتَّبَ على عَدَمِ العِلمِ الإعراضُ عن استِماعِ الحَقِّ وطَلَبِه .

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ.

أي: بل أكثَرُ هؤلاء المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ الحَقَّ الذي أنزَلَه الله؛ فهم مُعرِضونَ عنه، فلا يتفَكَّرونَ فيه، ولا يُؤمِنونَ به ويتَّبِعونَه .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25).

أي: وما أرسَلْنا مِن قَبْلِك -يا مُحمَّدُ- مِن رَسولٍ إلى أمَّةٍ مِن الأُمَمِ إلَّا نُوحي إليه أنَّه لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا أنا، فوحِّدوني، وأخْلِصُوا العِبادةَ لي .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] .

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ سُبحانَه وتعالى بالدَّلائِلِ الباهرةِ كَونَه مُنَزَّهًا عن الشَّريكِ والضِّدِّ والنِّدِّ؛ أردَفَ ذلك ببراءتِه عن اتِّخاذِ الوَلَدِ .

وأيضًا لَمَّا نفَى اللهُ تعالى مُطلَقَ الشَّريكِ عَقلًا ونَقلًا، فانتفَى بذلك كلُّ فَردٍ يُطلَقُ عليه هذا الاسمُ؛ عَجِبَ تعالى مِن ادِّعاءِ المُشرِكينَ الشَّرِكةَ المقَيَّدةَ بالوَلَدِ .

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا.

أي: وقال المُشرِكونَ: اتخذَ الرَّحمنُ الملائِكةَ بناتٍ له !

سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ.

أي: تنزيهًا لله أن تكونَ الملائِكةُ بَناتٍ له؛ فليس الأمرُ كما وَصَفوا، بل الملائِكةُ عِبادٌ لله، خاضِعونَ له، مُشَرَّفونَ مُقرَّبونَ عندَه .

لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27).

لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ.

أي: لا يتكَلَّمونَ إلَّا بما يأمُرُهم اللهُ بقَولِه، ولا يقولونَ شيئًا لم يأذَنْ لهم به .

وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.

أي: والملائِكةُ يَعمَلونَ بما يأمُرُهم اللهُ به، ويطيعونَه ولا يُخالِفونَه .

كما قال تعالى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 50] .

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ سُبحانَه ذكَرَ ما يجري مَجرى السَّبَبِ لطاعةِ الملائكةِ، فقال: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، والمعنى: أنَّهم لَمَّا عَلِموا كَوْنَه سُبحانَه عالِمًا بجَميعِ المعلوماتِ، عَلِموا كَوْنَه عالِمًا بظَواهِرِهم هم وبواطِنِهم، فكان ذلك داعيًا لهم إلى نهايةِ الخُضوعِ، وكَمالِ العُبوديَّةِ .

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.

أي: يعلَمُ اللهُ ما سيَعمَلُه الملائِكةُ مِن أقوالٍ وأفعالٍ فيما يَستَقبِلونَه، ويَعلَمُ ما مضى مِمَّا عَمِلوه؛ فلا خُروجَ لهم عن عِلمِه، كما لا خُروجَ لهم عن أمْرِه وتَدبيرِه .

وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى.

أي: ولا يَشفَعُ الملائِكةُ إلَّا لِمَن ارتَضى اللهُ الشَّفاعةَ له .

كما قال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] .

وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ.

أي: والملائِكةُ لأجْلِ خَوفِهم مِن اللهِ حَذِرونَ مِن أن يعصُوه، فيَحِلَّ بهم غَضَبُه وعِقابُه .

كما قال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] .

وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعد أن وصَفَ اللهُ تعالى كرامةَ الملائِكةِ عليه وأثنَى عليهم، وأضاف إليهم تلك الأفعالَ السَّنِيَّةَ؛ فجاء بالوَعيدِ الشَّديدِ، وأنذر بعذابِ جَهنَّمَ مَن ادَّعى منهم أنَّه إلهٌ .

وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ.

أي: ومَن يَقُلْ مِن الملائِكةِ -على سَبيلِ الفَرضِ: إنِّي إلهٌ معبودٌ من دونِ اللهِ؛ فسنُعاقِبُه بإدخالِه جهنَّمَ .

كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.

أي: كما نجزي مَن قال مِن الملائكةِ: إنِّي إلهٌ مِن دونِ اللهِ -على فرضِ وقوعِه- نَجزي أيضًا كلَّ من ظلَمَ نفسَه بوَضْعِه العبادةَ في غيرِ مَوضِعها، فأشرك باللهِ وعبَدَ غَيرَه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- لا يَنْبغي لعاقلٍ أنْ يتعرَّضَ لعلمِ ما لم يُعلِمْنا اللهُ ورسولُه، ويتضِحْ معقولُه ومنقولُه، وإلى ذلك الإشارةُ بقولِه تعالَى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي

.

2- في قولِه تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ أنَّ كمالَ المخلوقِ في تحقيقِ عبوديتِه لله تعالى، وكلَّما ازداد العبدُ تحقيقًا للعبوديةِ ازداد كمالُه، وعلَتْ درجتُه، ومَن توهَّم أنَّ المخلوقَ يخرجُ عن العبوديةِ بوجهٍ مِن الوجوهِ، وأنَّ الخروجَ عنها أكملُ؛ فهو مِن أجهلِ الخلقِ وأضلِّهم .

3- قال الله تعالى عن الملائِكةِ: عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى والصَّادِرُ عنهم إمَّا قَولٌ وإمَّا عمَلٌ؛ فالقَولُ لا يَسبِقونَه به، بل لا يقولونَ حتى يقولَ، ولا يَشفَعونَ إلَّا لِمَن ارتضَى، وعلينا أن نكونَ معه ومع رسُلِه هكذا؛ فلا نقولُ في الدِّينِ حتى يقولَ، ولا نتقَدَّمُ بين يَدَيِ اللهِ ورَسولِه، ولا نَعبُدُه إلَّا بما أمرَ، وأعلَى مِن هذا ألَّا نعمَلَ إلَّا بما أمَرَ، فلا تكونُ أعمالُنا إلَّا واجِبةً أو مُستَحَبَّةً

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي هذه الآيةُ دالَّةٌ على أنَّ كُتُبَ اللهِ لا تَخْلو مِن البراهينِ المحتاجِ اليها في أمرِ الدِّينِ، فلا يجوزُ خُلُوُّ كتبِ الله تعالى وسننِ أنبيائِه عن أمرٍ كبيرٍ مِن مهمَّاتِ الدينِ العقليةِ، وكذلك قولُه تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64] ؛ فثبَت أنَّ ما خلَتْ عنه كتبُ الله تعالى فليس مِن مهمَّاتِ الدينِ، وأنَّ زيادتَه في الدينِ محرَّمةٌ

.

2- أكثَرُ إعراضِ الخَلقِ عن الحَقِّ مِن عَدَمِ مَعرفةِ الحَقِّ، كما قال الله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ . وذلك على أحدِ القولين في معنَى الآيةِ.

3- في قولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ أنَّ المقصودَ الأعظمَ مِن بعثتِه صلَّى الله عليه وسلَّم -بل مِن بعثةِ الرسلِ مِن قبلِه- هو أن يُعبَدَ اللهُ وحْدَه لا شريكَ له، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ، بل هذا هو المقصودُ مِن خَلقِ الخلقِ وإيجادِهم، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].

4- في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ أنَّ دينَ الأنبياءِ واحدٌ، وهنا سؤالٌ عن الجمعِ معَ قولِه تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48] ؟

الجواب: أنَّ الشِّرعةَ العمليةَ تختلفُ باختلافِ الأممِ أو الأماكنِ والأزمنةِ، وأمَّا أصلُ الدِّينِ فواحدٌ، قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] .

5- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ في هذه الآيةِ إظهارٌ لعِنايةِ اللهِ تعالى بإزالةِ الشِّركِ مِن نُفوسِ البَشَرِ وقَطعِ دابِرِه؛ إصلاحًا لِعُقولِهم بأن يُزالَ منها أفظَعُ خَطَلٍ، وأسخَفُ رأيٍ، ولم تَقطَعْ دابِرَ الشِّركِ شَريعةٌ كما قَطَعه الإسلامُ .

6- قولُه تعالى: أَنَا في قولِه: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وقولُه تعالى: هُوَ في قولِه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 2] كلاهما ضميرُ رفعٍ منفصلٍ، وكما أنَّ الذاكرَ لا يجعلُ «أنا» اسمًا لله؛ فلا يجوزُ أن يجعلَ «هو» اسمًا لله! وبهذا نعرفُ بطلانَ ذكرِ الصوفيةِ الذين يذكرونَ الله بلفظِ: «هو، هو»، ويرونَ أنَّ هذا الذكرَ أفضلُ الأذكارِ! وهو ذكرٌ باطلٌ .

7- قَولُ الله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ يدلُّ على أنَّ المِلكيةَ والوِلادةَ لا يجتمعانِ ، وقد جرَت العادةُ في القرآنِ بأنَّ الله يرُدُّ على الكفرةِ في ادِّعاءِ الولدِ بأنَّه مالكُ كلِّ شيءٍ، وأنَّ الخلقَ عبيدُه؛ لأنَّ العبدَ لا يمكنُ أن يكونَ ولدًا! ومِن هذه الآياتِ القرآنيةِ أخَذ العلماءُ أنَّ الإنسانَ إذا ملَك ولدَه -بأنْ تزوَّج أَمَةً لغيرِه، وكان ولدُه رقيقًا واشتراه- أنَّه يعتقُ عليه بنفْسِ الملكِ، ولا يمكنُ أن يملكَه؛ لأنَّ الملكيةَ والولديةَ متنافيانِ .

8- في قوله تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أنَّ إبليسَ اللعينَ لمَّا كان قد عصَى اللهَ ما أمَره؛ دلَّ على أنَّه ليس مِن العبادِ المكرَمينَ، الذين هم الملائكةُ .

9- تكاليفُ الشريعةِ بعضُها مبنيَّةٌ على النصوصِ، وبعضُها على الاستنباطِ، أما تكاليفُ الملائكةِ فمبنيَّةٌ على النصوصِ؛ قال تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ .

10- في قولِه تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ دليلٌ على كمالِ طاعةِ الملائكةِ وانقيادِهم .

11- قَولُ الله تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يدُلُّ على أنَّ الملائِكةَ معصومونَ؛ لأنَّه قال: وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ .

12- الملائكةُ لا يفعلونَ ما يكونُ مِن جنسِ المباحاتِ والمنهيَّاتِ! بل لا يفعلونَ إلَّا ما هو مِن الطاعاتِ؛ قال تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ .

13- في قولِه تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أنَّ الملائكةَ موكَّلونَ بأعمالٍ يقومونَ بها، كما أمَر الله تعالى بها .

14- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى هذه الآيةُ مِن أدِلَّةِ إثباتِ الشَّفاعةِ، وأنَّ الملائِكةَ يَشفَعونَ .

15- قال الله تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى بيَّنَ أنَّهم لا يَشفَعونَ إلَّا لِمَن ارتضَى الربُّ، فعُلِمَ أنَّه لا بُدَّ أن يُؤْذَنَ لهم فيمَن يَشفَعونَ فيه، وأنَّهم لا يُؤذَنُ لهم إذْنٌ مُطلَقٌ .

16- قولُه تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى، وكذا قولُه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] - لا يردُ عليه شفاعةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في أبي طالبٍ؛ لأنَّها ليست شفاعةً في خروجِه مِن النارِ؛ بل هي شفاعةٌ في تخفيفِ العذابِ عنه .

17- في قولِه تعالى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أنَّ الخوفَ ليس موقوفًا على ظنِّ الخائفِ أنَّ الله يعذِّبُه في الآخرةِ، ولا على تجويزِه لذلك؛ فإنَّ الملائكةَ والأنبياءَ قد أمِنوا مِن الموتِ على الكفرِ؛ وهم مع ذلك أخوفُ الخلقِ لله .

18- قَولُه تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ذَكَرَ هذا الوعيدَ في الملائكةِ وخَصَّهم بالذِّكرِ؛ تَنبيهًا على أنَّ دعوى الإلهيَّةِ لا تجوزُ لأحدٍ مِن المخلوقينَ: لا ملَكٍ ولا غَيرِه، وأنَّه لو قُدِّرَ وقوعُ ذلك مِن مَلَكٍ مِن الملائكةِ، لكان جزاؤه جهنَّمَ، فكيف مَن دُونَهم ؟!

19- قَولُ الله تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ هذه الآياتُ تدُلُّ على كَونِ الملائِكةِ مُكَلَّفينَ، مِن حَيثُ قال: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، ومن حيثُ الوَعيدُ .

20- قال الله تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ هذا دَليلٌ على أنَّ الملائِكةَ وإن أُكرِموا بالعِصمةِ، فهم مُتَعَبَّدونَ، وليسوا مُضْطَرِّينَ إلى العبادةِ .

21- قَولُه تعالى في هذه الآيةِ الكَريمةِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ دليلٌ قاطِعٌ على أنَّ حُقوقَ الله الخالِصةَ له مِن جَميعِ أنواعِ العبادةِ لا يجوزُ أن يُصرَفَ شَيءٌ منها لأحَدٍ، ولو مَلَكًا مُقَرَّبًا، أو نبيًّا مُرسَلًا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ

- قولُه: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً كرَّرَه استعظامًا لكُفْرِهم، واستفظاعًا لأمْرِهم، وتَبكيتًا وإظهارًا لجَهْلِهم، أو ضَمًّا لإنكارِ ما يكونُ لهم سَندًا من النَّقلِ إلى إنكارِ ما يكونُ لهم دليلًا منَ العقلِ، على معنى: أوجَدوا آلِهةً يُنشِرونَ الموتى، فاتَّخَذوهم آلهةً لمَّا وَجَدوا فيهم من خواصِّ الأُلوهيَّةِ، أو وَجَدوا في الكُتبِ الإِلهيَّةِ الأمْرَ بإشراكِهم، فاتَّخَذوهم مُتابعةً للأمرِ؟! ويُعضِّدُ ذلك أنَّه رَتَّبَ على الأوَّلِ ما يدُلُّ على فَسادِهِ عَقْلًا، وعلى الثَّاني ما يدُلُّ على فَسادِه نَقْلًا

.

- وهو تأكيدٌ لجُملةِ أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ [الأنبياء: 21] ؛ أكَّدَ ذلك الإضرابَ الانتقاليَّ بمثْلِه؛ استعظامًا لِفَظاعتِه، وليُبْنى عليه استدلالٌ آخَرُ . وزاد في هذا التَّوبيخِ قولَه: مِنْ دُونِهِ؛ فكأنَّه وبَّخَهم على قَصْدِ الكُفْرِ باللهِ عَزَّ وجَلَّ، ثمَّ دعاهمْ إلى الإتيانِ بالحُجَّةِ على ما اتَّخَذوا، ولا حُجَّةَ تقومُ على أنَّ للهِ تعالى شَريكًا؛ لا من جِهَةِ العقْلِ، ولا مِن جِهَةِ النَّقلِ .

- قولُه: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ، أي: قُلْ لهم بطَريقِ التَّبكيتِ وإلْقامِ الحجَرِ. وفي إضافةِ البُرهانِ إلى ضَميرِهم -إشعارًا بأنَّ لهم بُرهانًا- ضَرْبٌ من التَّهكُّمِ بهم

 

.

- قولُه: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي فيه تَبكيتٌ لهم مُتضمِّنٌ لإثباتِ نَقيضِ مُدَّعاهم

. والإشارةُ في قولِه: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ إلى مُقدَّرٍ في الذِّهْنِ يُفسِّرُه الخبَرُ. والمقصودُ من الإشارةِ تَمييزُه وإعلانُه بحيث لا يَستطيعُ المُخاطَبُ المُغالَطةَ فيه ولا في مَضمونِه

.

- قولُه: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ إضْرابٌ من جِهَتِه تعالى غيرُ داخِلٍ في الكلامِ المُلقَّنِ، وانتقالٌ من الأمْرِ بتَبكيتِهم بمُطالَبةِ البُرهانِ إلى بَيانِ أنَّه لا يَنجَحُ فيهم المُحاجَّةُ بإظهارِ حَقِّيَّةِ الحقِّ، وبُطلانِ الباطلِ. وإنَّما أسنَدَ هذا الحُكْمَ إلى أكثرِهم لا لجَميعِهم؛ تَسجيلًا عليهم بأنَّ قليلًا منهم يَعْلمون الحقَّ ويَجْحَدونه، أو إيماءً إلى أنَّ قليلًا منهم تهيَّأَت نُفوسُهم لقَبولِ الحقِّ

.

2- قولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ الجُملةُ استئنافٌ مُقرِّرٌ لِما أُجْمِلَ فيما قبْلَه، مِن كونِ التَّوحيدِ ممَّا نطقَتْ به الكُتبُ الإلهيَّةُ، وأجْمَعَتْ عليه الرُّسلُ عليهم السَّلامُ. وصِيغَةُ المُضارِعِ نُوحِي لحِكايةِ الحالِ الماضيةِ؛ استحضارًا لصُورةِ الوحيِ .

- وحَرْفُ (مِن) في قولِه: مِنْ رَسُولٍ مَزيدٌ؛ لتَوكيدِ النَّفيِ .

- وفي قولِه: إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ فرَّعَ فيما أُوحِيَ إليهم أمْرَه إيَّاهم بعِبادتِه على الإعلانِ بأنَّه لا إلهَ غيرُه؛ فكان استحقاقُ العِبادةِ خاصًّا به تعالى .

3- قوله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ

- قولُه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا حِكايةٌ لجِنايةِ فَريقٍ من المُشرِكينَ؛ جِيءَ بها لإظهارِ بُطلانِها، وبَيانِ تَنزُّهِه تعالى عن ذلك إثْرَ بَيانِ تَنزُّهِه سُبحانه عن الشُّركاءِ على الإطلاقِ. والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرَّحمانيَّةِ المُنْبئةِ عن كونِ جَميعِ ما سِواهُ تعالى مَرْبوبًا له تعالى نِعمةً أو مُنْعَمًا عليه؛ لإبرازِ كَمالِ شَناعةِ مَقالتِهم الباطلةِ .

- قولُه: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ فيه إضرابٌ وإبطالٌ لِما قالوهُ ، وأعقَبَ حَرْفَ الإضرابِ عن قولِهم بالإخبارِ بأنَّهم عِبادٌ دونَ ذِكْرِ المُبتدأِ؛ للعِلْمِ به. والتَّقديرُ: بلِ الملائكةُ عِبادٌ مُكْرَمونَ .

- وفي قولِه: مُكْرَمُونَ تَنبيهٌ على منشَأِ غلَطِ القومِ .

4- قوله تعالى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ

- قولُه: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ صِفَةٌ أُخْرى لـ عِبَادٌ، مُنْبِئةٌ عن كَمالِ طاعتِهم وانقيادِهم لأمْرِه تعالى؛ وأصْلُه: لا يَسبِقُ قولُهم قولَه تعالى؛ فأسنَدَ السَّبقَ إليهم مَنسوبًا إليه تعالى، تَنزيلًا لسَبْقِ قولِهم قولَه تعالى مَنزلةَ سَبْقِهم إيَّاهُ تعالى؛ لمَزيدِ تَنزيهِهم عن ذلك، وللتَّنبيهِ على غايةِ استهجانِ السَّبقِ المُعرَّضِ به للَّذينَ يَقولون ما لا يَقولُه اللهُ تعالى. وجعَلَ القولَ مَحَلًّا للسَّبقِ وأداةً له، ثُمَّ أُنِيبَت (أل) عن الإضافةِ في قولِه: بِالْقَوْلِ؛ للاختصارِ والتَّجافي عنِ التَّكرارِ، وفيه مَزيدُ استهجانٍ للسَّبْقِ، وإشعارٌ بأنَّ مَن سبَقَ قولُه قولَه تعالى، فقد تَصدَّى لِمُغالَبتِه تعالى في السَّبقِ، فسبَقَه فغلَبَه والعياذُ باللهِ تعالى، وزِيادةُ تَنزيهٍ لهم عمَّا نُفِيَ عنهم ببَيانِ أنَّ ذلك عندَهم بمَنزلةِ الغَلبةِ بعْدَ المُغالَبةِ، فأنَّى يُتوهَّمُ صُدورُه عنهم

؟!

- وأيضًا نفْيُ السَّبْقِ في قولِه: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ كِنايةٌ عنِ التَّعظيمِ والتَّوقيرِ

.

- قولُه: وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ بَيانٌ لتَبعيَّتِهم له تعالى في الأعمالِ إثْرَ بَيانِ تَبعيَّتِهم له تعالى في الأقوالِ؛ فالقصْرُ المُستفادُ من تَقديمِ الجارِّ بِأَمْرِهِ مُعْتبَرٌ بالنِّسبةِ إلى غيرِ أمْرِه، لا إلى أمْرِ غيرِه .

5- قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ

- قولُه: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ استئنافٌ وقَعَ تَعليلًا لِما قبْلَه، وتَمهيدًا لِما بعْدَه؛ فإنَّهم لإحاطتِهم بذلك يَضْبِطون أنفُسَهم، ويُراقِبون أحوالَهم .

- قولُه: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى فيه تَخصيصٌ لبعْضِ ما شمَلَه لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ بالذِّكْرِ؛ اهتمامًا بشأْنِه؛ لأنَّه ممَّا كَفَروا بسبَبِه؛ إذ جَعَلوا الآلِهةَ شُفعاءَ لهم عندَ اللهِ .

- قولُه: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ فيه تَقريرٌ لِزِيادةِ تَعظيمِهم رَبَّهم، أي: هم يُعظِّمونَه تَعظيمَ مَن يَخافُ بَطْشَتَه، ويَحذرُ مُخالَفةَ أمْرِه. و(مِن) في قولِه: مِنْ خَشْيَتِهِ للتَّعليلِ، أي: وهمْ لأجْلِ خَشْيَتِه، أي: خَشْيَتِهم إيَّاه .

- وأيضًا قولُه: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ تَتميمٌ في غايةِ الحُسْنِ لضَبْطِ أنفُسِهم، ورِعايةِ أحوالِهم كلِّها سابِقِها ولاحِقِها .

6- قولُه تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فيه مُفاجأةُ مَنِ ادَّعَى منهم أنَّه إلهٌ بالوعيدِ الشَّديدِ، وإنذارِه بعَذابِ جهنَّمَ، وذلك على سَبيلِ العرْضِ والتَّمثيلِ؛ وقُصِدَ بذلك تَفظيعُ أمْرِ الشِّرْكِ، وتَعظيمُ شأْنِ التَّوحيدِ ، وفيه تَهديدُ المُشرِكينَ بتَهديدِ مُدَّعِي الرُّبوبيَّةِ . وفيه تَعريضٌ بالَّذين ادَّعَوا لهم الإلهيَّةَ بأنَّهم ادَّعَوا لهم ما لا يَرْضَونه ولا يَقولونَه، وأنَّهم ادَّعَوا ما يُوجِبُ لقائلِه نارَ جهنَّمَ .

- وعدَلَ عن (إنْ) الشَّرطيَّةِ إلى (مَن) الشَّرطيةِ؛ للدَّلالةِ على العُمومِ معَ الإيجازِ، وأُدْخِلَ اسمُ الإشارةِ (ذلك) في جَوابِ الشَّرطِ؛ لتَحقيقِ التَّعليقِ بنِسْبَتِه الشَّرطَ لأداتِه؛ للدَّلالةِ على جَدارةِ مَضمونِ الجزاءِ بمَن ثبَتَ له مَضمونُ الشَّرْطِ .

- قولُه: كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (كذلك) مَصدرٌ تَشبيهيٌّ مُؤكِّدٌ لمَضمونِ ما قبْلَه، والقصْرُ المُستفادُ مِن التَّقديمِ مُعتبَرٌ بالنِّسبةِ إلى النُّقصانِ دونَ الزِّيادةِ، أي: لا جَزاءً أنقَصَ منه .

================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (30-33)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ

غريب الكلمات:

 

رَتْقًا: أي: مُصْمَتتيْنِ، أو: مُنسَدَّتَينِ مُلتَئِمَتَينِ، والرتقُ: الضَّمُّ والالتِحامُ

.

فَفَتَقْنَاهُمَا: أي: صَدَعْناهما، وفَرَجْناهما، والفَتقُ: الفَصلُ بين المتَّصِلَينِ، وهو ضِدُّ الرَّتقِ، وأصلُ (فتق): يدُلُّ على فَتحٍ في شَيءٍ .

رَوَاسِيَ: أي: جبالًا ثوابِتَ، والرَّواسي: جمعُ راسيةٍ، وهي الثابتةُ، وأصلُ (رسي): يدُلُّ على ثباتٍ .

تَمِيدَ: أي: تميلَ وتتحَرَّكَ، وأصلُ (ميد): يدُلُّ على حَرَكةٍ في شَيءٍ .

فِجَاجًا: أي: مَسالِكَ وطُرُقًا، ومفردُه: فَجٌّ، وكلُّ فَتحٍ بينَ جَبَلينِ أو شَيئَينِ فهو فجٌّ، ويُستعمَلُ في الطَّريقِ الواسعِ، وأصلُ (فجج): يدُلُّ على تفتُّحٍ وانفِراجٍ .

سُبُلًا: أي: طُرُقًا، جمعُ سبيلٍ، وسُمِّي الطَّريقُ بذلك؛ لامتِدادِه، والسَّبيلُ: الطَّريقُ الذي فيه سهولةٌ، وأصلُ (سبل): يدُلُّ على امتِدادِ شيءٍ .

فَلَكٍ: الفَلَكُ: مَدارُ النُّجومِ الذي يضُمُّها، وأصلُ (فلك): يدُلُّ على استدارةٍ في شَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: أولَمْ يعلَمْ هؤلاء الذين كَفَروا أنَّ السَّمَواتِ كانت مُصمَتةً لا تُمطِرُ، والأرضَ مُصمَتةً لا تُنبِتُ، فصَدَعْنا السَّماءَ فأمطَرَت، وشقَقَنا الأرضَ فأنبَتَت، وخلَقْنا من الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ. أفلا يؤمِنُ هؤلاء الجاحِدونَ فيُصَدِّقوا بما يُشاهِدونَه، ويُقِرُّوا باستِحقاقِ اللهِ وحْدَه للعبادةِ؟

وجعَلْنا في الأرضِ جِبالًا تُثَبِّتُها حتى لا تَضْطَرِبَ، وجعَلْنا فيها طُرُقًا واسِعةً؛ ليهتديَ الخَلقُ إلى السَّيرِ في الأرضِ والتنقُّلِ في البلدانِ؛ لتحصيلِ مَعايِشِهم، وليهتدوا إلى دلائلِ وحدانيَّةِ خالِقِهم وقدرتِه، وجعَلْنا السَّماءَ سَقفًا محفوظًا مِن السقوطِ عليهم، ومحفوظًا من الشَّياطينِ. والكُفَّارُ عن الاعتبارِ بآياتِ السَّماءِ غافِلونَ لاهونَ عن التَّفكُّرِ فيها.

واللهُ تعالى هو الذي خلق اللَّيلَ والنَّهارَ والشَّمسَ والقَمَرَ، ولكلٍّ منها فلَكٌ يجري فيه ويَسبَحُ.

تفسير الآيات:

 

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30).

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا.

أي: أولَمْ يَنظُرِ الكُفَّارُ فيَعلَموا أنَّ السَّماءَ كانت مُصْمَتةً لا تُمطِرُ، والأرضَ كانت مُصمَتةً لا تُنبِتُ، فصَدَعْنا السَّماءَ فأمطَرَت، وشقَقْنا الأرضَ فأنبَتَتْ

؟!

كما قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا [عبس: 24 - 27] .

وقال سُبحانَه: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [الطارق: 11، 12].

وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.

أي: وخَلَقْنا من الماءِ كُلَّ شَيءٍ فيه حياةٌ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي إذا رأيتُك طابَتْ نَفسي، وقرَّتْ عيني، فأنبِئْني عن كُلِّ شَيءٍ، فقال: كُلُّ شَيءٍ خُلِقَ مِن ماءٍ)) .

أَفَلَا يُؤْمِنُونَ.

أي: أفلا يُؤمِنُ الذين كفَروا بما يُشاهِدونَه، فيَستَدِلُّوا به على وُجودِ الصَّانِعِ الفاعِلِ، المختارِ القادِرِ، ويُقِرُّوا باستحقاقِه وَحْدَه للعبادةِ، ولا يُشرِكوا به شَيئًا ؟

وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعدَ أن ذكَرَ اللهُ تعالى دليلَينِ مِن دلائِلِ التَّوحيدِ، وهي مِنَ الأدِلَّةِ السَّماويَّةِ والأرضيَّةِ؛ ذكَرَ هنا دليلًا آخَرَ مِن الدَّلائِلِ الأرضيَّةِ، فقال :

وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ.

أي: وجعَلْنا في الأرضِ جِبالًا ثابِتةً؛ لئلَّا تضطَرِبَ الأرضُ بهم .

كما قال تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ [النمل: 61].

وقال سُبحانَه: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ [المرسلات: 27] .

وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ.

أي: وجعَلْنا فيها طُرُقًا واسِعةً سَهلةً؛ لِيَهتَدوا إلى السَّيرِ في الأرضِ، والوصولِ إلى مطالبِهم مِن البلدانِ، ولِيَهتَدوا إلى ما فيها مِن دلائِلِ وحدانيَّةِ خالِقِها وقُدرَتِه، وتفرُّدِه بأوصافِ الكَمالِ .

كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف: 10] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [نوح: 19، 20].

وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا دَلَّهم اللهُ تعالى بالسَّمَواتِ والأرضِ على عَظَمتِه، ثم فصَّلَ بَعضَ ما في الأرضِ لِمُلابستِهم له، وخَصَّ الجبالَ؛ لِكَثرتِها في بلادِهم- أتبَعَه السَّماءَ ، فقال:

وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا.

أي: وجعَلْنا السَّماءَ سَقفًا للأرضِ مَحفوظًا من السُّقوطِ عليهم، ومحفوظًا من الشَّياطينِ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر: 16 - 18].

وقال سُبحانَه: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج: 65] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] .

وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ.

أي: وهم عن آياتِ السَّماءِ الدَّالَّةِ على وحدانيَّةِ اللهِ وكَمالِ قُدرَتِه وحِكمَتِه وصِفاتِه، واستِحقاقِه للعبادةِ وَحْدَه- مُعرِضُون عن التفكُّرِ والتدبُّرِ فيها .

كما قال سُبحانَه: وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف: 105] .

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قال اللهُ سُبحانَه: وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، فصَّل تلك الآياتِ هاهنا ، فقال:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.

أي: واللهُ وَحْدَه هو الذي خلَقَ اللَّيلَ والنَّهارَ والشَّمسَ والقَمَرَ، وفيها دَلالاتٌ على عَظيمِ سُلطانِه، وأنَّ العبادةَ له دونَ كُلِّ ما سواه، ولِينتَفِعَ النَّاسُ بها في شُؤونِ دينِهم ودُنياهم .

كما قال تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام: 96] .

وقال سُبحانَه: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 12] .

كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.

أي: كلٌّ مِنَ اللَّيلِ والنَّهارِ والشَّمسِ والقَمَرِ في فلَكٍ دائرٍ، يجْرونَ بسُرعةٍ كالسَّابِحِ في الماءِ

 

.

كما قال تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 37 - 40] .

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ وكذلك قَولُه: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ دلَّ على خَلقِ جَميعِ ما فيه حياةٌ وما يَدِبُّ مِن ماءٍ، وأنَّ الماءَ مادَّةُ جَميعِ الحيواناتِ؛ فعُلِمَ بذلك أنَّ أصلَ جَميعِها الماءُ المُطلَقُ، ولا ينافي هذا قَولُه تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر: 27] ، وقَولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُلِقَت الملائِكةُ مِن نورٍ ))

؛ فإنَّ حَديثَ أبي هريرةٍ ((كُلُّ شَيءٍ خُلِقَ مِن ماءٍ)) دَلَّ على أنَّ أصلَ النُّورِ والنَّارِ الماءُ، كما أنَّ أصلَ التُّرابِ الذي خُلِقَ منه آدَمُ الماءُ؛ فإنَّ آدَمَ خُلِقَ مِن طينٍ، والطينُ تُرابٌ مُختَلِطٌ بماءٍ، أو التُّرابُ خُلِقَ مِن الماءِ، كما جاء عن ابنِ عَبَّاسٍ وغَيرِه .

2- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ فيه عِبرةٌ للنَّاسِ في أكثَرِ أحوالِه، وهو عِبرةٌ للمُتأمِّلينَ في دقائِقِه في تكوينِ الحيوانِ مِن الرُّطوباتِ، وهي تكوينُ التَّناسُلِ، وتكوينُ جَميعِ الحَيوانِ؛ فإنَّه لا يتكَوَّنُ إلَّا مِن الرُّطوبةِ، ولا يعيشُ إلَّا مُلابِسًا لها، فإذا انعَدَمت منه الرُّطوبةُ فقَدَ الحياةَ؛ ولذلك كان استِمرارُ الحُمَّى مُفضِيًا إلى الهُزالِ ثمَّ إلى الموتِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ

- قولُه: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... استفهامُ تَوبيخٍ لمَن ادَّعَى معَ اللهِ آلِهةً، ودَلالةٌ على تَنزيهِه عنِ الشَّريكِ، وتَوكيدٌ لِما تقدَّمَ مِن أدلَّةِ التَّوحيدِ، ورَدٌّ على عَبدةِ الأوثانِ

. أو همزةُ الاستفهامِ للإنكارِ على إهمالِهم للنَّظرِ، والواوُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ . ويجوزُ أنْ يكونَ الاستفهامُ تَقريريًّا .

- قولُه: كَانَتَا رَتْقًا وإنَّما قيل: كَانَتَا دونَ (كُنَّ)؛ لأنَّ المُرادَ جماعةُ السَّمواتِ وجماعةُ الأرضِ . والإخبارُ عن السمَّواتِ والأرضِ بأنَّهما رَتْقٌ إخبارٌ بالمصدَرِ؛ للمُبالَغةِ في حُصولِ الصِّفَةِ، وإنَّما لم يقُلْ نحوَ: (فصارَتَا فَتْقًا)؛ لأنَّ الرَّتْقَ مُتمكِّنٌ منهما أشدَّ تَمكُّنٍ؛ لِيَستدِلَّ به على عَظيمِ القُدرةِ في فَتْقِهما، ولدَلالةِ الفِعْلِ على حَدثانِ الفَتْقِ؛ إيماءً إلى حُدوثِ الموجوداتِ كلِّها، وأنْ ليس منها أزلِيٌّ . وقيل: لم يقل (كانتا رتقين)؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ رتقٌ، كقولِه: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ [الأنبياء: 8] ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ جسدٌ .

- وفي قولِه: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ -على القولِ بأنَّ (جَعَلْنَا) بمعنى (صَيَّرنا)- قدَّمَ المفعولَ الثَّانيَ مِنَ الْمَاءِ؛ للاهتمامِ به، لا لمُجرَّدِ أنَّ المفعولينِ في الأصْلِ مُبتدأٌ وخَبَرٌ .

- قولُه: أَفَلَا يُؤْمِنُونَ فُرِّعَ على وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ؛ إنكارًا عليهم عدَمَ إيمانِهم بوَحدانيَّةِ اللهِ .

- والاستفهامُ في قولِه: أَفَلَا يُؤْمِنُونَ استفهامُ إنكارٍ لعدَمِ إيمانِهم باللهِ وحْدَه، وفيه معنى التَّعجُّبِ مِن ضَعْفِ عُقولِهم، والفاءُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَستدعيهِ الإنكارُ السَّابقُ، أي: أيَعْلَمون ذلك، فلا يُؤمِنون

 

؟!

2- قوله تعالى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ

- قولُه: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا ... فيه تَكريرُ الفِعْلِ (جَعَلَ)؛ لاختلافِ المَجْعولينِ، ولتَوفيةِ مَقامِ الامتنانِ حَقَّه

.

- قولُه: فِجَاجًا سُبُلًا في الفِجاجِ معنى الوصْفِ، وإنَّما قُدِّمَت على (السُّبلِ) ولم تُؤخَّرْ كما في قولِه: لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [نوح: 20] ؛ للإعلامِ بأنَّه جعَلَ فيها طُرقًا واسعةً، فهو بَيانٌ لِما أُبْهِمَ هناك، ولِيَصيرَ حالًا؛ فيُفِيدَ أنَّه تعالى حين خلَقَها خلَقَها كذلك، أو ليُبْدِلَ منها سُبُلًا، فيَدُلَّ ضِمْنًا على أنَّه تعالى خلَقَها ووسَّعَها للسَّابِلةِ، مع ما فيه من التَّوكيدِ . فإنْ قِيلَ: لم قُدِّمَ هاهنا، وأُخِّرَ هناك؟ فالجوابُ: أنَّ الآيةَ في سُورةِ (نُوحٍ) واردةٌ لبَيانِ الامتنانِ على سَبيلِ الإجمالِ، وهذه الآيةُ في سُورةِ (الأنبياءِ) واردةٌ لِبَيانِ الاعتبارِ، والبَعْثِ على إمعانِ النَّظرِ فيه، وذلك يَقْتضي التَّفصيلَ، ومِن ثَمَّ عقَّبَ قولَه: كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا بهذه .

3- قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ لمَّا ذكَرَ الاعتبارَ بخلْقِ الأرضِ وما فيها، ناسَبَ -بحُكْمِ الطِّباقِ- ذِكْرُ خَلْقِ السَّماءِ عَقِبَه، إلَّا أنَّ حالةَ خلْقِ الأرضِ فيها منافعُ للنَّاسِ؛ فعقَّبَ ذِكْرَها بالامتنانِ بقولِه تعالى: أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، وبقولِه تعالى: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وأمَّا حالُ خلْقِ السَّماءِ فلا تَظهَرُ فيه مَنفعةٌ، فلم يُذْكَرْ بعْدَه امتنانٌ، ولكنَّه ذكَرَ إعراضَهم عن التَّدبُّرِ في آياتِ خَلْقِ السَّماءِ الدَّالَّةِ على الحِكْمةِ البالِغَةِ، فعَقَّبَ بقولِه تعالى: وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، فأدمَجَ في خِلالِ ذلك مِنَّةً، وهي حِفْظُ السَّماءِ مِن أنْ تقَعَ بعْضُ الأجرامِ الكائنةِ فيها، أو بعْضُ أجزائِها على الأرضِ، فتُهْلِكَ النَّاسَ، أو تُفسِدَ الأرضَ، فتُعَطِّلَ مَنافِعَها، فذلك إدماجٌ للمِنَّةِ في خِلالِ الغرَضِ المقصودِ الَّذي لا مَندوحةَ عن العِبْرةِ به .

- وأطلَقَ السَّقفَ على السَّماءِ في قولِه: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا على طَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ .

4- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ

- قولُه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بَيانٌ لبعْضِ تلك الآياتِ الَّتي هم عنها مُعرِضونَ بطَريقِ الالْتِفاتِ -حيث الْتَفَت مِن ضَميرِ المُتكلِّمِ إلى ضَميرِ الغائبِ- المُوجِبِ لتأْكيدِ الاعتناءِ بفَحْوى الكلامِ .

- وسِيقَتْ هذه الآيةُ في مَعرِضِ المِنَّةِ بصَوغِها في صِيغَةِ الجُملةِ الاسميَّةِ المُعرَّفةِ الجُزأينِ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ...؛ لإفادةِ القصْرِ، وهو قَصْرُ إفرادٍ إضافيٌّ، بتَنزيلِ المُخاطَبينَ من المُشرِكينَ مَنزِلةَ مَن يَعتقِدُ أنَّ أصنامَهم مُشارِكةٌ للهِ في خَلْقِ تلك الأشياءِ

.

- ولكَونِ المِنَّةِ والعِبْرةِ في إيجادِ نَفْسِ اللَّيلِ والنَّهارِ، ونَفْسِ الشَّمسِ والقمَرِ، لا في إيجادِها على حالةٍ خاصَّةٍ؛ جِيءَ هنا بفِعْلِ (الخَلْقِ) لا بفِعْلِ (الجَعْلِ)

.

- وأيضًا في قولِه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مُناسَبةٌ قويَّةٌ لذِكْرِ خَلْقِ الشَّمسِ عَقِبَ ذِكْرِ خلْقِ النَّهارِ؛ للتَّنبيهِ على مَنشَأِ خَلْقِ النَّهارِ؛ فخَلْقُ النَّهارِ نَتيجةٌ لخَلْقِ الشَّمسِ وتوجُّهِ أشعَّتِها إلى النِّصْفِ المُقابِلِ للأشعَّةِ من الكُرَةِ الأرضيَّةِ، فخَلْقُ النَّهارِ تبَعٌ لخلْقِ الشَّمسِ وخَلْقِ الأرضِ، ومُقابلةِ الأرضِ لأشعَّةِ الشَّمسِ. وأمَّا ذِكْرُ خَلْقِ القَمرِ فلِمُناسَبةِ خَلْقِ الشَّمسِ، وللتَّذكيرِ بمِنَّةِ إيجادِ ما يُنِيرُ على النَّاسِ بعْضَ النُّورِ في بعضِ أوقاتِ الظُّلمةِ. وكلُّ ذلك من المِنَنِ .

- وجُملةُ: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّه لمَّا ذكَرَ الأشياءَ المُتضادَّةَ بالحقائقِ أو بالأوقاتِ؛ ذِكْرًا مُجْمَلًا في بعضِها الَّذي هو آياتُ السَّماءِ، ومُفصَّلًا في بعْضٍ آخرَ، وهو الشَّمسُ والقمرُ، كان المَقامُ مُثيرًا في نُفوسِ السَّامِعينَ سُؤالًا عن كيفيَّةِ سَيْرِها، وكيف لا يقَعُ لها اصطدامٌ أو يقَعُ منها تخلُّفٌ عن الظُّهورِ في وقْتِه المعلومِ؟ فأُجِيبَ بأنَّ كلَّ المذكوراتِ له فَضاءٌ يَسيرُ فيه، لا يُلاقي فضاءَ سَيْرِ غيرِه

.

- قولُه تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ فيه مُحسِّنٌ بَديعيٌّ؛ فإنَّ حُروفَه تُقْرَأُ مِن آخِرِها على التَّرتيبِ كما تُقْرَأُ مِن أوَّلِها، مع خِفَّةِ التَّركيبِ، ووفْرَةِ الفائدةِ، وجَريانِه مَجْرى المثَلِ، مِن غيرِ تَنافُرٍ ولا غَرابةٍ

.

- وفي قولِه: يَسْبَحُونَ جاء بواوِ الجمْعِ العاقلِ؛ فأمَّا الجمْعُ فقيل: هناك معطوفٌ مَحذوفٌ وهو (والنُّجومُ)، ولذلك عاد الضَّميرُ مَجموعًا، ولو لم يكُنْ ثَمَّ معطوفٌ مَحذوفٌ، لكان (يَسْبَحَانِ) مُثنًّى، وحسَّنَ ذلك كونُه جاء فاصِلةً رأْسَ آيةٍ، وأمَّا كونُه ضَميرَ مَن يَعقِلُ، ولم يكُنِ التَّركيبُ (يَسْبَحْنَ)؛ لأنَّه لمَّا كانتِ السِّباحةُ من أفعالِ الآدميِّينَ، جاء ما أُسْنِدَ إليهما مَجموعًا جمعَ مَن يَعقِلُ، كقولِه: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4] . أو ضَميرُ يَسْبَحُونَ عائدٌ إلى عُمومِ آياتِ السَّماءِ وخُصوصِ الشَّمسِ والقمرِ، وأُجْرِيَ عليها ضَميرُ جماعةِ الذُّكورِ باعتبارِ تَذكيرِ أسماءِ بعْضِها، مثْلُ القمَرِ والكوكبِ . أو جاء الجمْعُ باعتبارِ المَطالِعِ

.

- فإنْ قِيلَ: لكلِّ واحدٍ من القَمرينِ فَلَكٌ على حِدَةٍ؛ فكيف قِيلَ: جَميعُهم يَسْبَحُونَ في فَلَكٍ؟ قيل: اكْتَفى بما يدُلُّ على الجِنْسِ اختصارًا، ولأنَّ الغرَضَ الدَّلالةُ على الجِنْسِ

.

=================

 

سورةُ الأنْبياءِ

الآيات (34-40)

ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ

غريب الكلمات:

 

مِنْ عَجَلٍ: أي: عَجُولًا، والعَجَلةُ: طَلَبُ الشَّيءِ وتَحرِّيه قبلَ أوانِه، وأصلُ (عجل): يدُلُّ على الإسراعِ

.

فَتَبْهَتُهُمْ: أي: تَغشاهم فجأةً، وأصلُ (بهت): يدلُّ على الدَّهَشِ والحَيرةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبيِّنُ الله تعالى أنَّ مصيرَ جميعِ البشرِ إلى الموتِ، فيَقولُ تعالى: وما جَعَلْنا لبشَرٍ مِن قَبلِك -يا محمَّدُ- دوامَ البَقاءِ في الدُّنيا، أفإنْ مِتَّ فهم يُخَلَّدونَ فيها؟! كلَّا، لا يكونُ هذا. كلُّ نَفسٍ ذائِقةُ الموتِ لا محالةَ، ونختَبِرُكم -أيُّها النَّاسُ- بالشِّدَّةِ والمِحَنِ تارةً، وبالرَّخاءِ والنِّعَمِ تارةً أخرى؛ فِتنةً لكم، ثمَّ إلينا تُرجَعونَ للحِسابِ والجَزاءِ.

ثمَّ يذكرُ الله سبحانَه جانبًا مِن سفاهاتِ الكفار تجاهَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: وإذا رآك الكُفَّارُ -يا محمَّدُ- يَستَهزِئونَ بك، ويقولونَ لائمين إيَّاك؛ لكُفرِك بآلهتِهم: أهذا الذي يَسُبُّ آلهتَكم؟ وكفروا بذِكرِ الرَّحمنِ، فهم أحقُّ بالاستِنكارِ واللَّومِ!

ثمَّ بيَّن اللهُ تعالى ما جُبِل عليه الإنسانُ مِن تسرُّعٍ، فقال: خُلِق الإنسانُ عَجولًا، سأُريكم -أيُّها المُستَعجِلونَ بالعذابِ- آياتِ عَذابي وانتِقامي، فلا تَستَعجِلوا ربَّكم بالعَذابِ.

ويقولُ هؤلاء الكُفَّارُ مُستعجلينَ العَذابَ مُستَهزئينَ: متى يأتينا عَذابُ اللهِ -يا محمَّدُ- إنْ كنتَ أنت ومَنِ اتَّبَعَك مِنَ الصَّادقينَ؟

لو يَعلَمُ هؤلاء الكُفَّارُ ما يُلاقونَه مِن العَذابِ عندما لا يَستَطيعونَ أن يَدفَعوا عن وُجوهِهم وظُهورِهم النَّارَ؛ لَمَا استعجَلوا العذابَ. ولا ناصِرَ لهم يدفَعُ عنهم عَذابَ اللهِ، بل تأتيهم النَّارُ فَجأةً، فيتحيَّرونَ عند ذلك، ويخافونَ خَوفًا عظيمًا، ولا يَستطيعونَ دَفعَ النَّارِ عن أنفُسِهم، ولا يُمهَلونَ لاستدراكِ تَوبةٍ واعتذارٍ.

تفسير الآيات:

 

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا استدَلَّ اللهُ تعالى بستَّةِ أنواعٍ مِن الدلائلِ

التي تُعَدُّ مِن أصولِ النِّعَمِ الدُّنيويَّةِ؛ أتبَعها بما نبَّه به على أنَّ هذه الدُّنيا جعَلَها كذلك، لا لتبقَى وتدومَ، أو يبقَى فيها مَن خُلِقَت الدُّنيا له، بل خلَقَها سُبحانه وتعالى للابتلاءِ والامتحانِ، ولكي يُتوصَّلَ بها إلى الآخرةِ التي هي دارُ الخُلودِ .

وأيضًا فبعدَ أن ذكَر سبحانَه الأدلةَ على وجودِ الخالقِ الواحدِ القادرِ، بما يَرَوْن مِن الآياتِ الكونيةِ- أردَفَ ذلك ببيانِ أنَّ هذه الدُّنيا ما خُلِقت للخلودِ والدوامِ، ولا خُلِق مَن فيها للبقاءِ، بل خُلِقت للابتلاءِ والامتحانِ، ولتكونَ وسيلةً إلى الآخرةِ التي هى دارُ الخلودِ، فلا تَشْمَتوا إذا ماتَ محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، فما هذا بسبيلِه وحْدَه، بل هذا سُنَّةُ اللهِ فى الخلْقِ أجمعينَ .

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ.

أي: وما خلَّدْنا -يا محمَّدُ- أحدًا مِن البَشَرِ قَبْلَك في الدُّنيا؛ فنُخَلِّدَك فيها، ولا بُدَّ لك مِن أن تموتَ فيها كما مات مَن قَبْلَك .

كما قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] .

أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ.

أي: فهل إذا متَّ -يا محمَّدُ- سيُخَلَّدُ المُشرِكونَ في الدُّنيا مِن ب