الخميس، 18 يناير 2024

8 سورة الانفال ج2.{75 آية مدنية}

 

8 سورة الانفال ج2.{75 آية مدنية}

سُورة الأنفالِ

الآيات (45-47)

ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

 

رِيحُكُمْ: أي: قُوَّتُكم وغَلَبَتُكم ودَولَتُكم

.

بَطَرًا: أي: دفعًا للحَقِّ، وفَخرًا وبَغيًا، وأَصلُ (بطر) يدلُّ على الشَّقِّ .

وَرِئَاءَ النَّاسِ: أي: ليَراهم النَّاسُ، ومُفاخرةً، وتكبرًا عليهم، راءَى فلانٌ يُرائِي، وفعَلَ ذلكَ رِئاءَ النَّاسِ، وهو أنْ يفعلَ شيئًا لِيَراه النَّاسُ، وأصلُه مِن الرُّؤيةِ

المعنى الإجمالي:

يأمرُ اللهُ عبادَه المؤمنينَ إذا لَقُوا جماعةً مِن أعدائِهم مُحاربينَ لهم؛ أن يَثبُتوا في قتالِهم، ويَذكرُوا اللهَ كثيرًا؛ لعلَّهم يُفلِحونَ.

ويأمُرُهم أن يُطيعوه ويُطيعوا رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يختَلِفوا فيما بينهم فيَفشَلوا، وتخورَ قواهم، وتنحَلَّ عزائِمُهم، وأمَرَهم أن يَصبِروا؛ فإنَّه تعالى مع الصَّابرينَ.

ونهاهم أن يكونوا مثلَ كفَّارِ قُريشٍ، الذين خرجوا مِن منازلهم ردًّا للحَقِّ، ودَفعًا له، ولِيَفتَخِروا على النَّاسِ، ويَتَباهَوا بجَمعِهم، ويمنَعوا النَّاسَ مِن الدُّخولِ في الإسلامِ، واللهُ بما يعملونَ مُحيطٌ.

تفسير الآيات:

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا عَرَّفهم اللهُ تعالى بنِعَمِه ودلائِلِ عِنايتِه، وكشفَ لهم عن سرٍّ مِن أسرارِ نَصرِه إيَّاهم، وكيف خذل أعداءَهم، وصرَفَهم عن أذاهم، فاستتَبَّ لهم النَّصرُ مع قِلَّتِهم، وكثرةِ أعدائِهم- أقبلَ في هذه الآيةِ على أنْ يأمُرَهم بما يهيِّئُ لهم النَّصرَ في المواقِعِ كُلِّها، ويستدعي عنايةَ الله بهم وتأييدَه إيَّاهم، فجمع لهم في هذه الآيةِ ما به قِوامُ النَّصرِ في الحُروبِ

.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ.

أي: يا أيُّها المؤمنونَ، إذا لَقِيتُم جماعةً مُحاربينَ لكم مِن أعدائِكم، فاثبُتُوا لقتالِهم، ولا تتَزَعزعوا ولا تَفِرُّوا منهم .

عن أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَمَنَّوا لقاءَ العَدُوِّ، فإذا لَقيتُموهم فاصبِروا )) .

وعن أبي النَّضرِ، عن كتابِ رجلٍ مِن أسلمَ مِن أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يقال لهُ عبدُ اللهِ بنُ أبي أَوفَى، فكتب إلى عمرَ بنِ عُبيدِ اللهِ، حين سار إلى الحَروريَّةِ، يخبرُه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان في بعضِ أيَّامِه التي لقيَ فيها العدوَّ، ينتظرُ حتى إذا مالتِ الشمسُ قام فيهم، فقال: ((يا أيُّها الناسُ، لا تتمَنَّوا لقاءَ العدوِّ، واسألوا اللهَ العافيةَ، فإذا لَقِيتُموهم فاصبِروا، واعلموا أنَّ الجنةَ تحتَ ظِلالِ السُّيوفِ، ثم قام النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقال: اللَّهم مُنْزِلَ الكتابِ، ومُجْرِيَ السَّحابِ، وهازمَ الأحزابِ، اهْزِمْهم وانصُرْنَا عليهم )) .

وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ.

أي: واذكُروا اللهَ تعالى عند لقاءِ العَدُوِّ ذكرًا كثيرًا؛ بقُلوبِكم وألسِنَتِكم؛ لِتُدرِكوا ما تَطلبونَ مِن الانتصارِ على عَدُوِّكم .

وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46).

وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ.

أي: وأطيعُوا اللهَ ورَسولَه- أيُّها المؤمنونَ- بامتثالِ أمْرِهما، واجتنابِ نَهْيِهما .

وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ.

أي: ولا تَختَلفوا فيما بينكم، فتَضعُفوا، وتجبُنوا عن قتالِ عَدُوِّكم .

كما قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] .

وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضيَ الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَثَه ومُعاذًا إلى اليَمنِ فقال: ((يَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا، وتطاوَعا ولا تختَلِفا )) .

وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.

أي: وتَخورَ قُواكم، وتنحَلَّ عَزائِمُكم، فلا تَنتَصِروا بسببِ تَنازُعِكم .

وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.

أي: واصبِروا عند لقاءِ عَدُوِّكم؛ إنَّ اللهَ مع الصَّابرين، بالنَّصرِ والتَّأييدِ .

وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعد أنْ أمَرَ الله تعالى عبادَه المؤمنينَ بما أمَرَ به؛ من جلائِلِ الصِّفاتِ، وأحاسِنِ الأعمالِ، التي جرَتْ سُنَّتُه بأنْ تكونَ سبَبَ الظَّفَر في القتالِ، ونهاهم عن التَّنازُع- نهاهم عمَّا كان عليه خُصومُهم مِن مُشركي مكَّةَ حين خرجوا لحمايةِ العِيرِ؛ من الصِّفاتِ الرديئةِ، وذكر لهم بعضَ أحوالِهم القَبيحةِ ، فقال:

وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ.

أي: ولا تكونوا- أيُّها المؤمنونَ- مِثلَ كُفَّارِ قُريشٍ الذين خرَجُوا مِن مَنازِلهم ردًّا للحَقِّ، ودفعًا له، غيرَ شاكرينَ لنِعَمِ الله تعالى عليهم، ولِيَفتَخِروا على النَّاسِ، ويتباهَوا بجَمعِهم .

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الكِبرُ: بَطَرُ الحقِّ ، وغَمْطُ النَّاسِ ) .

وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ.

أي: وخَرَجوا لِيَمنَعُوا النَّاسَ مِن الدُّخولِ في الإسلامِ .

وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.

أي: واللهُ عالِمٌ بما يعمَلُ أولئك المُشركونَ؛ مِن الرِّياءِ، والصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ، وغيرِ ذلك، لا يخفَى عليه شيءٌ من أعمالِهم الظَّاهِرة والباطنةِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أمَرَ فيه المجاهدينَ بخمسةِ أشياءَ، ما اجتمعَتْ في فئةٍ قَطُّ إلَّا نُصِرَت، وإن قَلَّتْ وكَثُر عَدُوُّها؛ أحدها: الثَّبات. الثاني: كثرةُ ذِكرِه سبحانه وتعالى. الثالث: طاعَتُه وطاعةُ رسولِه. الرابع: اتِّفاقُ الكَلِمةِ وعَدمُ التَّنازُعِ الذي يوجِبُ الفَشَلَ والوَهَنَ. الخامس: مِلاكُ ذلك كلِّه وقِوامُه وأساسُه، وهو الصَّبرُ. فهذه خمسةُ أشياءَ تُبتَنى عليها قُبَّةُ النَّصرِ، ومتى زالت أو بعضُها زال مِن النَّصرِ بحسَبِ ما نقَصَ منها، وإذا اجتمَعَت قَوَّى بعضُها بعضًا، وصار لها أثرٌ عَظيمٌ في النَّصرِ، ولَمَّا اجتمَعَت في الصَّحابةِ، لم تقم لهم أمَّةٌ مِن الأمَمِ، وفَتَحوا الدُّنيا، ودانت لهم البلادُ، ولَمَّا تفرَّقَت فيمن بعدَهم وضَعُفَت، آلَ الأمرُ إلى ما آلَ

.

2- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا أمَرَ بالثَّباتِ عند قتالِ الكفَّارِ، كما في الآيةِ قَبلَها النَّهيُ عن الفِرارِ عنهم، وهي قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ فالتقى الأمرُ والنَّهيُ على سواءٍ، وهذا تأكيدٌ على الوقوفِ للعَدُوِّ والتجَلُّدِ له .

3- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه إشعارٌ بأنَّ على العبدِ ألَّا يَفتُرَ عن ذِكرِ ربِّه أشغَلَ ما يكون قلبًا، وأكثَرَ ما يكونُ هَمًّا، وأن تكونَ نَفسُه مُجتَمِعةً لذلك، وإن كانت مُتَوزِّعةً عن غيرِه ، فقد أمر الله تعالى بالإكثارِ مِن ذِكرِه في أضيَقِ الأوقاتِ- وهو وقتُ الْتحامِ القتالِ- ففي ذلك دليلٌ واضِحٌ على أنَّ المُسلِمَ ينبغي له الإكثارُ مِن ذِكرِ اللهِ على كلِّ حالٍ، ولا سيَّما في وقتِ الضِّيقِ .

4- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ السِّلاحُ الأكبرُ في ميادينِ القِتالِ هو ذِكرُ اللهِ جلَّ وعلا، وطاعَتُه وامتثالُ أمرِه؛ لأنَّه هو الذي منه النَّصرُ والمَدَدُ .

5- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّ الذين إذا لَقُوا فئةً مِن فئاتِ الكفَّارِ في ميدانِ القِتالِ، ولم يَثْبُتوا، أو لم يَذْكُروا اللهَ كثيرًا؛ أنَّهم لا يُفلِحونَ .

6- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إشارةٌ إلى أنَّ الثَّباتَ في القِتالِ، هو من أسبابِ النَّصرِ المَعنويَّةِ، التي يحصُلُ بها ما يُعبَّرُ عنه في عُرفِ العَصرِ بالقُوَّةِ الرُّوحيَّةِ .

7- الجهادُ لا ينفَعُ إلَّا مع التمسُّكِ بسائِرِ الطَّاعات؛ يبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بعد قَولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا .

8- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ فيه ذَمُّ الاختلافِ، والنَّهىُ عن التفَرُّقِ والتَّنازُعِ .

9- قال الله تعالى: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا، أكبَرُ أسبابِ النِّزاعِ: تقديمُ المصالحِ الشَّخصيَّةِ والأغراضِ الدُّنيويةِ على المصالِحِ العامَّةِ، وهذه أكبَرُ البلايا التي يأتي مِن قِبَلِها الشَّرُّ للمُسلمين؛ لأنَّه قد يخالِفُ بعضُ المسلمينَ، فتكونُ العقوبةُ عامَّةً للجميعِ .

10- التَّنازُعُ يُفضي إلى التفَرُّقِ، وهو يُوهِنُ أمرَ الأمَّةِ؛ لذا قال الله تعالى: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ .

11- قولُه تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ فيه دلالةٌ على وجوبِ الصَّبرِ، وكَونِه أعظَمَ أسبابِ النَّصرِ؛ ولذلك عَظَّمَ اللهُ تعالى شأنَه بِقَوِلِه بعد الأمرِ بِطاعَتِه وطاعةِ رَسولِه وبِذِكْرِه: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وأيُّ بيانٍ لِفائدةِ الصَّبرِ أبلَغُ مِن إثباتِ مَعيَّةِ اللهِ تعالى لأهلِه

 

؟!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قولِ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا إن قيل: هذه الآيةُ تُوجِبُ الثَّباتَ على كلِّ حالٍ، وهذا يوهِمُ أنَّها ناسخةٌ لآيةِ التحَرُّفِ والتحيُّز، فالجوابُ: أنَّ هذه الآيةَ تُوجِبُ الثَّباتَ في الجملةِ، والمرادُ مِن الثَّباتِ الجِدُّ في المحاربةِ، وآيةُ التَّحرُّفِ والتحيُّز لا تقدَحُ في حصولِ الثَّباتِ في المحاربةِ، بل كان الثَّباتُ في هذا المقصودِ، لا يحصُلُ إلَّا بذلك التحرُّفِ والتَّحيُّز

.

2- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَرنَ الذِّكرَ بالجِهادِ، فأمَرَ بذِكرِه عند مُلاقاةِ الأقرانِ ومُكافحةِ الأعداءِ، والمُحِبُّون يفتخِرونَ بذِكرِ مَن يُحِبُّونه في هذه الحالِ، وهذا كثيرٌ في أشعارِ العَرَبِ، وهو ممَّا يدُلُّ على قُوَّةِ المحبَّةِ؛ فإنَّ ذِكْرَ المُحِبِّ مَحبوبَه في تلك الحالِ التي لا يُهِمُّ المرءَ فيها غيرُ نَفسِه، يدُلُّ على أنَّه عنده بمنزلةِ نَفسِه أو أعَزُّ منها، وهذا دليلٌ على صِدْقِ المحبَّةِ .

3- قَولُ الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ لَمَّا كان التَّنازُعُ مِن شَأنِه أن ينشَأَ عن اختلافِ الآراءِ، وهو أمرٌ مُرتكِزٌ في الفِطرةِ- بسَطَ القرآنُ القَولَ فيه ببيانِ سَيئِ آثارِه، فجاء بالتَّفريعِ بالفاءِ في قَولِه: فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ؛ فحَذَّرهم أمرينِ مَعلومًا سُوءُ مَغَبَّتِهما: وهما الفَشَلُ وذَهابُ الرِّيحِ .

4- في قولِه تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا إلى قوله سبحانه: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ دليلٌ على أنَّه لا يَصْلُحُ في الحرب إلَّا مُدَبِّرٌ واحدٌ؛ وأنَّ منازعتَه، والخلافَ عليه داعٍ إلى الفشلِ، وتشويش الأمر، والصبرُ- واللهُ أعلمُ- في الآية جامعٌ للثباتِ، ولزومِ طاعةِ الأمير في تدبير الحرب

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه تَصديرُ الخِطابِ بحَرْفَيِ النِّداءِ والتَّنبيهِ؛ إظهارًا لكَمالِ الاعْتِناء بمضمونِ ما بعدَه

؛ فافتُتحتْ هذه الوصايا بالنِّداءِ اهتمامًا بها، وجُعِلَ طريقُ تعريفِ المُنادى طريقَ الموصوليَّة الَّذِينَ آمَنُوا؛ لِمَا تُؤذِنُ به الصِّلةُ من الاسْتِعدادِ لامتثالِ ما يَأمرُهم به اللهُ تعالى؛ لأنَّ ذلك أَخصُّ صِفاتِهم تِلْقاءَ أوامِر الله تعالى .

- وقولُه: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فيه تَرْكُ وَصْفِ الفِئةِ إيجازًا؛ لأنَّ المؤمنِينَ ما كانوا يَلْقَون إلَّا الكُفَّار؛ فالمرادُ: فئةٌ كافرةٌ، وحُذِفتْ؛ لأنَّ الخِطابَ للمُؤمنِينَ، وهم لا يُحارِبونَ إلَّا فِئةً مِن المشرِكين، أو الباغين، فحُذِفَ للإيجازِ مِن غيرِ إخلالٍ بالمعنى .

2- قوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ

- قولُه: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ فيه تَتْميمٌ في الوصيَّة، وعِدَةٌ مُؤنِسةٌ؛ وذلك أنَّ كمالَ أمْر الجِهادِ مبنيٌّ على الصَّبر؛ فأَمَرَهم بالصَّبر .

- وقوله: وَاصْبِرُوا بمنزلةِ التَّذييلِ؛ لأنَّ الصَّبرَ هو تَحمُّلُ المكروهِ، وما هو شديدٌ على النَّفْسِ، وتلك المأموراتُ كلُّها تحتاجُ إلى تَحمُّلِ المكارِهِ؛ فالصَّبرُ يَجمَعُ تَحمُّلَ الشَّدائدِ والمصاعِب .

- وجملةُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ قائمةٌ مقامَ التعليلِ للأمْرِ وَاصْبِرُوا؛ لأنَّ حَرْف التَّأكيدِ إِنَّ في مِثلِ هذا قائمٌ مقامَ فاءِ التَّفريعِ .

3- قولُه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ

- قولُه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ... جِيءَ في نَهْيهم عن البَطَر والرِّئاء بطَريقةِ النَّهيِ عن التشبُّهِ بالمشركين؛ إدماجًا للتَّشنيعِ بالمشركين وأحوالِهم، وتَكريهًا للمُسلِمينَ تلك الأحوالَ؛ لأنَّ الأحوالَ الذَّميمةَ تتَّضِح مذمَّتُها، وتَنكشِف مزيدَ الانكشاف إذا كانت من أحوالِ قومٍ مذمومين عند آخَرينَ، وذلك أبلغُ في النَّهي، وأكْشَفُ لقُبْح المنهيِّ عنه ، وتَضمَّن هذا الأسلوبُ الطَّعنَ على المُشارِ إليهم، وهم كفَّارُ قريشٍ، وخرَج ذلك على طَريقِ النَّهي عن سُلوكِ سبيلِهم .

- قولُه: بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فيه ذِكرُ البَطرِ والرِّئاءِ بصِيغةِ الاسمِ، وذِكرُ الصَّدِّ عن سَبيلِ اللهِ تعالى بصِيغةِ الفِعلِ؛ لأنَّ المشرِكين كانوا مَجبولِينَ على البَطرِ والمفاخرةِ والعُجبِ، وأمَّا صدُّهم عن سَبيلِ اللهِ فإنَّما حصَلَ في الزَّمانِ الذي بُعِث فيه النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فوَصَفَهم بالمَصدرِ؛ للمُبالغةِ في تمكُّن الصِّفتين منهم؛ لأنَّ البَطَرَ والرِّياءَ خُلُقان مِن خُلُقهم، فالتعبيرُ عنهما بالاسمِ فيه إشارةٌ إلى الثَّباتِ، وجاء الفِعْلُ يَصُدُّونَ بصِيغةِ الفِعْلِ المضارعِ؛ للدَّلالةِ على حُدوثِ صَدِّهم النَّاسَ عن سَبيلِ الله، وتَجدُّدِه .

- وصِيغةُ المُفاعَلةِ في وَرِئَاءَ؛ للمُبالغةِ أيضًا، أي: بالَغَ في إراءة النَّاس عمَلَه؛ مَحبَّةَ أن يَرَوه ليَفخرَ عليهم .

- قوله: وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ خِتامُ هذه الآيةِ فيه وعيدٌ وتهديدٌ لِمَن بَقِي من الكُفَّار، ونفوذُ القَدَر فيمَنْ مَضَى بالقَتْل؛ إذ الإنسانُ ربَّما أَظْهَر من نَفْسه أنَّ الحاملَ له والدَّاعي إلى الفِعلِ المخصوصِ طلبُ مَرضاةِ اللهِ تعالى، مع أنَّه لا يكونُ الأمرُ كذلك في الحَقيقةِ؛ فبيَّن اللهُ سبحانه أنَّه عالمٌ ومحيطٌ بما في دواخِلِ القلوبِ، وذلك كالتَّهديد والزَّجرِ عن الرِّئاءِ والتصنُّعِ .

=============================

 

سُورة الأنفالِ

الآيتان (48-49)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ

غريب الكلمات:

 

جَارٌ لَكُمْ: أي: مُجِيرٌ لكم، ومانعُكم منهم

.

تَرَاءَتِ: أي: تقابَلَت وتَلاقَت. وتراءى القَومُ: إذا رأى بعضُهم بعضًا، وأصلُ (رأى): يدلُّ على نظَرٍ وإبصارٍ بِعَينٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين زيَّنَ الشَّيطانُ لكُفَّارِ قُريشٍ أعمالَهم القبيحةَ، وقال لهم: لن يستطيعَ أحدٌ أن يَغلِبَكم اليومَ، وإنِّي مُجيرٌ لكم، فلمَّا تقابلَ المُسلمونَ والكُفَّارُ، ونظَرَ بعضُهم إلى بعضٍ؛ قال الشَّيطانُ لكُفَّارِ قُريشٍ: إنِّي بريءٌ منكم، إنِّي أخشى اللهَ، واللهُ شَديدُ العقابِ.

ثم قال تعالى: اذكُرْ حين يقولُ المُنافِقونَ والذين في قُلوبِهم شَكٌّ: غرَّ المُسلمين دينُهم حتى تكلَّفوا قِتالَ قُريشٍ، وهم أكثَرُ وأشَدُّ قوَّةً منهم! ومَن يُفَوِّضْ أمْرَه لله فإنَّ اللهَ عزيزٌ حكيمٌ.

تفسير الآيتين :

 

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ الله تعالى فَسادَ أعمالِ المشركينَ لفسادِ نِيَّاتِهم؛ تنفيرًا منها- زاد في التَّنفيرِ بذِكرِ العَدُوِّ المُبِين، والتنبيهِ على أنَّ كُلَّ ما يأمُرُ به، إنَّما هو خيالٌ لا حقيقةَ له

.

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ.

أي: واذكُرْ - يا مُحمَّدُ- حين حسَّن إبليسُ لكفَّارِ قُريشٍ أعمالَهم القبيحةَ في أعيُنِهم وقُلوبِهم .

عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (جاء إبليسُ يومَ بَدرٍ في جُندٍ مِن الشَّياطين، معه رايتُه، والشَّيطانُ في صورةِ رَجُلٍ من بني مُدلِج، في صورةِ سُراقةَ بنِ مالكِ بنِ جُعْشُمٍ، فقال الشَّيطانُ للمُشركينَ: (لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ) فلمَّا اصطفَّ النَّاسُ، أخذ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبضةً مِن التُّرابِ، فرمى بها في وُجوهِ المُشركينَ، فوَلَّوا مُدبرين. وأقبل جبريلُ إلى إبليسَ، فلما رآه، وكانت يدُه في يدِ رَجُلٍ مِن المشركينَ، انتزعَ إبليسُ يَدَه، فولَّى مُدبِرًا هو وشيعَتُه، فقال الرَّجلُ: يا سراقةُ، تزعُمُ أنَّك لنا جارٌ؟ قال: (إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وذلك حين رأى الملائكةَ) .

وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ.

أي: وقال إبليسُ لكفَّارِ قُريشٍ: لا يُطيقُ أحدٌ من النَّاسِ اليومَ أن يتغلَّبَ عليكم؛ لِكَثرتِكم وقوَّتِكم .

وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ.

أي: وإنِّي مُجيرٌ لكم، وحافظٌ لكم من أن يَأتيَكم أحدٌ تَخشَونَه، فأنتم في ذِمَّتي وحِمايَ .

وكلُّ ذلك منه، كما قال الله تعالى عنه: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 120] .

فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ.

أي: فلمَّا نظر كلُّ فريقٍ إلى الآخَرِ- حِزب الله، وحِزب الشَّيطان- يومَ بَدرٍ؛ رجعَ إبليسُ القَهقرى هاربًا .

وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ.

أي: وقال إبليسُ لكفَّارِ قُريشٍ عندما فرَّ وخَذَلهم: إنِّي أتبرَّأُ منكم .

كما قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر: 16] .

وقال سبحانه: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22] .

إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ.

أي: قال إبليسُ لكفَّارِ قُريشٍ مبيِّنًا سببَ خِذلانِه لهم، وفِرارِه عنهم: إنِّي أرى الملائكةَ الَّتي نزَلَت لتأييدِ المُسلمينَ، وأنتم لا تَرَونَهم .

إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ.

أي: إنِّي أخافُ أن يعاقِبَني اللهُ في الدُّنيا، فأهلِكَ معكم .

وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

أي: واللهُ شديدُ التَّنكيلِ بمن خالَفَه، وكفَرَ به .

إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

مُناسَبةُ ذِكرِ هذا الخبَرِ عَقِبَ قَولِه تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ.. هي أنَّ كِلا الخبَرَينِ يتضمَّنُ قُوَّةَ جيشِ المُشركينَ، وضَعفَ جَيشِ المُسلمين، ويقينَ أولياءِ الشَّيطانِ بأنَّ النَّصرَ سيكونُ للمُشركينَ على المُسلمينَ .

إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ.

أي: اذكُرْ - يا مُحمَّدُ- حينَ قال المُنافِقونَ الذين يُبطِنونَ الكُفرَ، ويُظهِرونَ الإسلامَ، والذين في قُلوبِهم شَكٌّ : غرَّ الإسلامُ هؤلاءِ المُسلمينَ وخدَعهم، حتى تكلَّفوا قتالَ قُريشٍ، وهم أكثَرُ منهم، وأشَدُّ قُوَّةً، فلا طاقةَ لهم بذلك .

وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

مناسبتُها لما قبلها:

المناسبةُ بينها وبينَ الجملةِ الَّتي قبلَها: أنَّها كالعِلَّةِ لخيبةِ ظُنونِ المشركين ونُصَرائِهم، أيْ أنَّ اللَّه خَيَّب ظُنونَهم؛ لأنَّ المسلمينَ تَوَكَّلوا عليه، وهو عزيزٌ لا يُغْلَبُ، فمَنْ تمَسَّك بالاعتمادِ عليه نصَره، وهو حكيمٌ يُكوِّنُ أسبابَ النَّصرِ مِن حيثُ يجهَلُها البشرُ ، قال الله تعالى:

وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

أي: ومَن يُفَوِّضْ أمْرَه إلى اللهِ، ويعتَمِدْ عليه، ويَثِقْ به؛ فإنَّ اللهَ يُعِزُّه ويحفَظُه وينصُرُه؛ لأنَّ الله عزيزٌ، لا يَغلبُه ولا يقهَرُه شيءٌ، حكيمٌ في تدبيره، فلا يدخُلُه خلَلٌ، ويضَعُ كلَّ شَيءٍ مَوضِعَه اللَّائِقَ به، فينصُرُ مَن يستحِقُّ النَّصرَ، ويعذِّبُ مَن يستحِقُّ العذابَ

 

.

كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 3] .

الفوائد التربوية:

 

1- مَبدأُ الاعتقادِ الباطِلِ، والإرادةِ الفاسِدةِ: مِن لَمَّةِ

الشَّيطانِ؛ قال الله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ .

2- مِن كَيدِ الشَّيطانِ للإنسانِ: أنَّه يُورِدُه المواردَ التى يُخَيَّلُ إليه أنَّ فيها مَنفَعتَه، ثم يُصدِرُه المصادِرَ التي فيها عطَبُه، ويتخلَّى عنه ويُسْلِمُه، ويقِفُ يَشمَتُ به، ويضحَكُ منه؛ قال تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ .

3- في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ دَلالةٌ على أنَّ النصرَ إنَّما يكونُ بالتوكُّلِ على اللهِ سُبحانه، لا بالكثرةِ ولا بالعُدَدِ؛ فاللهُ عزيزٌ لا يُغالَبُ، حكيمٌ ينصرُ مَن يستحقُّ النصرَ- وإنْ كان ضعيفًا- فعزَّتُه وحكمتُه أوجبَت نَصرَ الفئةِ المتوكِّلةِ عليه .

4- مَن يُسلِّمْ أمرَه إلى اللهِ ويَثِقْ بفَضلِه، ويُعَوِّلْ على إحسانِه؛ فإنَّ اللهَ حافِظُه وناصِرُه؛ لأنَّه عزيزٌ لا يَغلِبُه شَيءٌ، حكيمٌ يُوصِلُ العذابَ إلى أعدائِه، والرَّحمةَ والثَّوابَ إلى أوليائِه؛ قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ دلالةٌ على أنَّ الشَّيطانَ يَعِدُ أولياءَه ويُمَنِّيهم، وقال تعالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا

[النساء:120] .

2- في قَولِه تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ دلالةٌ على أنَّ الجنَّ يتصوَّرونَ في صُورِ الإنسِ وغَيرِهم ، وهذا على القولِ بأنَّ إبليسَ تصوَّر لهم.

3- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ دلالةٌ على أنَّ الشَّياطينَ إذا رأَت ملائكةَ اللهِ- التي يُؤَيِّدُ بها عبادَه- هربتْ منهم .

4- في قَولِه تعالى مُخبِرًا عن الشَّيطانِ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ دلالةٌ على أنَّ الجنَّ مشاركونَ للإنسِ في جِنسِ التَّكليفِ بالأمرِ والنَّهيِ والتَّحليلِ والتَّحريم، وأنَّ أهلَ الكُفرِ والفُسوقِ والعِصيانِ منهم، مُستحِقُّونَ لِعَذابِ النَّارِ- كما يدخلُها مِن الآدميِّينَ- فقد أخبَرَ سبحانَه عن الشَّيطانِ أنَّه يخافُ اللهَ، والعقوبةُ إنَّما تكون على تَرْكِ مأمورٍ أو فِعْلِ محظورٍ .

5- في قولِه تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ... وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ حُجةٌ على المعتزلة والقَدَريّة الذين يجعلون الشَّرَّ مِن الشيطان على الحقيقة بقوةٍ وسلطانٍ له فيه! وقد أنبأ الشيطانُ عن نفسه في هذا الموضع بأنه لا يَقْدِرُ على ضُرِّ أحدٍ ولا نفْعِه؛ وأنَّ تزيينَه غرورٌ؛ وقولَه كذبٌ لا حقيقةٌ .

6- قَولُ الله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ لم تدخُلِ الواوُ في قولِه: إِذْ يَقُولُ ودخلَت في الآيةِ قَبلَها، وهي قَولُه تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ؛ لأنَّ قَولَه: وَإِذْ زَيَّنَ فيه عطْفُ هذا التَّزيينِ على حالِهم وخُروجِهم بطرًا ورِئاءً، وأمَّا هنا وهو قوله: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ فليس فيه عطفٌ لهذا الكلامِ على ما قَبلَه، بل هو كلامٌ مُبتدأٌ مُنقطِعٌ عمَّا قَبلَه .

7- قال الله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ النِّفاقُ أخَصُّ مِن مَرَضِ القلبِ؛ لأنَّ مرَضَ القَلبِ مُطلَقٌ على الكافِرِ، وعلى من اعتَرَضتْه شُبهةٌ، وعلى مَن بينهما

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ

- قوله: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ خُوطِبَ به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بطَريقِ تلوينِ الخِطابِ، أي: واذْكُر وقتَ تزيينِ الشَّيطانِ أعمالَهم في مُعاداةِ المؤمنِين وغيرِها، بأنْ وَسْوَس إليهم

.

- وجملةُ وَإِذْ زَيَّنَ... عَطفٌ على جُملةِ: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا ... وما بينهما اعتِراضٌ، رُتِّب نَظْمُه على أُسلوبِه العجيبِ؛ ليقعَ هذا الظَّرْفُ عقِبَ تلك الجُمل المُعترِضة، فيكونَ له إتمامُ المناسبةِ بحكايةِ خُروجِهم وأحوالِه، وليَقَع قولُه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ عَقِبَ أَمْرِ المسلِمينَ بما يَنْبغي لهم عند اللِّقاءِ؛ ليَجْمعَ لهم بين الأمرِ بما ينبغي، والتَّحذيرِ ممَّا لا يَنبغي، وتَرْكِ التَّشبُّهِ بمَن لا يُرْتضَى؛ فيتمَّ هذا الأسلوبُ البديعُ المُحكَمُ الانتظامِ .

- قولُه: نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ قولُه: عَلَى عَقِبَيْهِ مُؤكِّدٌ لمعنى نَكَصَ؛ إذ النُّكوصُ لا يكونُ إلَّا على العَقِبينِ .

- قولُه: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ بيانٌ لقولِه: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ أي: أخاف عِقابَ اللهِ فيما رأيتُ من جُنودِ اللهِ .

- وقولُهُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ فيه مُبالغةٌ في الخِذلانِ والانْفِصالِ عنهم؛ حيثُ لم يَكتفِ بالفعلِ حتَّى أكَّد ذلك بالقول .

2- قَولُه تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

- إسنادُ الغُرورِ إلى الدِّين في قولِهم: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ باعْتِبار ما فيه مِن الوعدِ بالنَّصر .

- وقولُه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ خِتامٌ حَسَنٌ؛ حيثُ تَضمَّنَ الردَّ على مَن قال: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ فكأنَّه قيل: هؤلاء في لِقاءِ عدُوِّهم هم مُتوكِّلون على الله؛ فهم الغالِبونَ، ومَنْ يتوكَّلْ على الله يَنْصُرْه ويُعِزَّه؛ فإنَّ اللهَ عزيزٌ لا يُغالَبُ بقوَّةٍ ولا بكَثْرة، حَكيمٌ يَضَعُ الأشياءَ مواضعَها، أو حاكِم بنَصْرِه مَن يتوكَّلُ عليه، فيُديل القليلَ على الكَثيرِ .

- وجُعِلَ قولُه: فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ جوابًا للشَّرطِ في وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ باعْتِبارِ لازِمِه، وهو عِزَّةُ المتوكِّلِ على اللهِ تعالى، وإلْفائِه مُنجِيًا مِن مَضيقِ أمْرِه؛ فهو كِنايةٌ عن الجوابِ، وهذا مِن وجوهِ البَيانِ .

=============

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (50-54)

ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ

غريب الكلمات:

 

كَدَأْبِ: الدَّأْبُ: العادةُ المُستمرَّة والشَّأنُ، وأصلُ (دأب): يدلُّ على المُلازَمة والدَّوامِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ اللهُ تعالى لِنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ولو عايَنْتَ- يا مُحمَّدُ- حين تنزِعُ الملائكةُ أرواحَ الكفَّارِ من أجسادِهم، وهم يَضرِبونَ وُجوهَ الكُفَّارِ وأدبارَهم، لَرأيتَ أمرًا عظيمًا فظيعًا، ويقولُ لهم الملائكةُ: ذوقوا عذابَ الحَريقِ؛ ذلك بما كسَبَت أيديكم مِن الكُفرِ والمعاصي، وبأنَّ اللهَ لا يظلِمُ أحدًا مِن خَلقِه.

ثمَّ بيَّن تعالى أنَّ عادةَ هؤلاءِ المُشركينَ مِن قُريشٍ في كُفرِهم، كعادةِ قَومِ فِرعونَ والأُممِ المكَذِّبةِ مِن قَبلِهم؛ كَفَروا بآياتِ اللهِ فأهلَكَهم اللهُ بسبَبِ كُفرِهم ومعاصيهم، إنَّه تعالى قويٌّ شديدُ العقابِ، ذلك العذابُ إنَّما وقع عليهم؛ لأنَّهم بدَّلوا نعمةَ الله كُفرًا، فاللهُ تعالى لا يُغَيِّرُ نعمةً أنعَمَها على قومٍ إلَّا بسبَبِ تَغييرِهم ما بأنفُسِهم؛ بالوُقوعِ في الكُفرِ، أو ارتكابِ السَّيِّئاتِ. وأنَّ اللهَ سَميعٌ عليمٌ.

ثمَّ ذكَر تعالى أنَّ عادةَ هؤلاء المُشركينَ مِن قُريشٍ، كعادةِ آلِ فِرعونَ والَّذين مِن قَبلِهم؛ كذَّبوا بآياتِ اللهِ لَمَّا جاءَتْهم، فأهلَكَهم اللهُ بِذُنوبِهم، وأغرَقَ آلَ فِرعونَ، وكُلُّ الذينَ أهلَكَهم اللهُ مِن السَّابقينَ، ومِن كفَّارِ قُريشٍ، كانوا ظالِمينَ.

تفسير الآيات:

 

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا قال سبحانَه قبلَ ذلك بإجمالٍ: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ؛ بيَّن بعدَ ذلك بعضَ ما يتضمَّنُه هذا الإجمالُ مِن عقابِ الكفارِ

، فقال تعالى:

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ.

أي: ولو عايَنْتَ- يا مُحمَّدُ - حينَ تَنزِعُ الملائكةُ أرواحَ الكُفَّارِ مِن أجسادِهم، وهُم يَضرِبونَ وجوهَهم وأستاهَهم ؛ لَرَأيتَ أمرًا عَظيمًا فَظيعًا !

كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93] .

وقال سبحانه: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [محمد: 27] .

وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ.

أي: ويقولُ الملائكةُ للكفَّارِ: ذُوقوا عذابَ النَّارِ التي تَحرِقُكم .

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51).

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ.

أي: ويقولُ الملائكةُ للكفَّارِ حين يَضرِبونَهم : هذا الجزاءُ بسبَبِ ما عَمِلتُم من الكُفرِ والمعاصي في حياتِكم الدُّنيا، جازاكم اللهُ بها هذا الجزاءَ .

وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ.

أي: وأنَّ اللهَ لا يَظلِمُ أحدًا مِن خَلقِه؛ فقد أرسَلَ إليهم رُسُلَه، وأنزَلَ عليهم كُتُبَه، وأقام عليهم الحجَّةَ .

عن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما روى عن اللهِ تبارك وتعالى، أنَّه قال: ((يا عبادِي، إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي، وجعلتُهُ بينكم مُحرَّمًا، فلا تظَالَموا )) .

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى ما أنزَلَه بأهلِ بَدرٍ مِن الكُفَّارِ؛ أتبَعَه بأنْ بيَّنَ أنَّ هذه طريقَتُه وسُنَّتُه ودَأْبُه في الكُلِّ ، فقال:

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.

أي: عادةُ وصَنيعُ هؤلاءِ المُشركينَ مِن قُريشٍ في كُفرِهم وتكذيبِهم، كعادةِ وصَنيعِ قَومِ فِرعونَ والأُمَمِ المُكذِّبةِ برُسُلِ اللهِ مِن قَبلِهم .

ثمَّ فسَّرَ تعالى دأْبَ آلِ فِرعونَ ومَن قَبلَهم، وبيَّن عادَتَهم، فقال :

كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ.

أي: جحَد الكفَّارُ الأوَّلونَ آياتِ اللهِ التي أنزَلَها على رُسُلِه، والمُعجزاتِ التي أيَّدَهم بها، فعاقَبَهم اللهُ تعالى وأهلَكَهم؛ بسبَبِ كُفرِهم ومعاصيهم .

كما قال تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 38-40] .

إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

أي: إنَّ اللهَ لا يَغلِبُه أحدٌ، ولا يُعجِزُه شيءٌ، شديدُ النَّكالِ لِمَن كفَرَ به، وكذَّب رُسلَه .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

ذَكَرَ تعالى هنا في هذه الآيةِ ما يَجري مَجرى العِلَّةِ في العِقابِ، الذي ذَكَرَ أنَّه أنزَلَه بهم .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ.

أي: ذلك العذابُ الذي أهلك اللهُ به كُفَّارَ قُريشٍ ومُشركي الأُمَم الماضيةِ، إنَّما وقع عليهم لأنَّهم بدَّلُوا نعمةَ اللهِ كُفرًا، واللهُ تعالى لا يُغيِّرُ نعمةً دينيَّةً أو دُنيويَّةً أنعَمَ بها على قومٍ، فيَسْلُبُها منهم، ويُحِلُّ مَحَلَّها النِّقَمَ والعُقوباتِ، إلَّا بِسَببِ تَغييرِهم ما بأنفُسِهم؛ بالوقوعِ في الكُفرِ، أو ارتكابِ السَّيِّئاتِ .

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11] .

وقال سبحانه: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة: 211] .

وقال جلَّ جَلالُه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] .

وقال سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [النحل: 112-113] .

وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.

أي: وذلك العذابُ الذي أهلَكَهم اللهُ تعالى به قد وقع عليهم؛ لأنَّ اللهَ سَميعٌ لكلامِ جَميعِ خَلْقِه، عليمٌ بما يُظهِرُونَه ويُسِرُّونه، لا يخفى عليه شيءٌ، فهو يجازيهم بما يستحقُّونَه .

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (54).

َدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.

أي: عادةُ وصنيعُ هؤلاءِ المُشركينَ مِن قُريشٍ في كُفرِهم، كعادةِ وصَنيعِ قَومِ فِرعونَ والأُمَمِ المُكذِّبةِ مِن قَبلِهم .

كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ.

أي: كذَّبوا بآياتِ اللهِ لَمَّا جاءَتْهم، فسُلِبوا تلك النِّعمَ التي أُسدِيَت إليهم، وأهلكناهم بسبَبِ ذُنوبِهم، وأغرَقْنا قومَ فِرعونَ في البَحرِ .

كما قال تعالى: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف: 136] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الدخان: 23 - 28] .

وقال سبحانه: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 16-19] .

وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ.

أي: كلُّ الذين أهلَكْناهم مِن السَّابقينَ ومِن كُفَّارِ قُريشٍ، كانوا ظالِمينَ لأنفُسِهم بكُفرِهم وتَكذيبِهم

 

.

كما قال تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة: 70] .

الفوائد التربوية:

 

- مِن عُقوباتِ الذُّنوبِ: أنَّها تُزيلُ النِّعمَ، وتُحِلُّ النِّقمَ، فما زالت عن العَبدِ نِعمةٌ إلا بِذَنبٍ، ولا حَلَّت به نِقمةٌ إلَّا بِذَنبٍ؛ قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فأخبَرَ الله تعالى أنَّه لا يُغيِّرُ نِعَمَه التي أنعَمَ بها على أحدٍ، حتى يكونَ هو الذي يغيِّرُ ما بنَفسِه، فيُغَيِّر طاعةَ اللهِ بمَعصِيَتِه، وشُكرَه بكُفرِه، وأسبابَ رِضاه بأسبابِ سَخَطِه، فإذا غيَّرَ غُيِّرَ عليه؛ جزاءً وفاقًا، وما ربُّك بظلَّامٍ للعبيدِ، فإنْ غيَّرَ المعصيةَ بالطَّاعةِ، غيَّرَ اللهُ عليه العُقوبةَ بالعافيةِ، والذُّلَّ بالعِزِّ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- عَذابُ البَرزَخِ أوَّلُه يومُ القَبضِ والموتِ، قال اللهُ تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ فهذه الإذاقةُ هي في البَرزَخِ، وأوَّلُها حين الوفاةِ

.

2- قَولُ الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وصفُ النِّعمةِ بِقَولِه: أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ للتَّذكيرِ بأنَّ أصلَ النِّعمةِ مِن اللهِ .

3- الظَّاهِرُ مِن قَولِه: عَلَى قَوْمٍ العمومُ في كلِّ مَن أنعَمَ اللهُ عليه؛ مِن مُسلِمٍ وكافِرٍ، وبَرٍّ وفاجرٍ، وأنَّه تعالى متى أنعَمَ على أحدٍ فلم يَشكُرْ، بدَّلَه عنها بالنِّقمةِ .

4- في قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ دليلٌ على أنَّ اللهَ تعالى قد يَسْلبُ النِّعَمَ بفِعْل المعصيةِ عقوبةً لفاعليها .

5-  قَولُ الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إن قيل: فما كان مِن تَغييرِ آلِ فِرعونَ ومُشركي مكَّةَ، حتى غيَّرَ اللهُ تعالى نِعمَتَه عليهم، ولم تكُن لهم حالٌ مَرضِيَّةٌ فيُغَيِّروها إلى حالٍ مَسخوطةٍ؟!

أجيبَ: بأنَّه تعالى كما يُغَيِّرُ الحالَ المَرضيَّةَ إلى المسخوطةِ، يُغَيِّرُ الحالَ المسخوطةَ إلى أسخَطَ منها، وأولئك كانوا قبلَ بَعثةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كفرةً، عبَدةَ أوثانٍ، فلمَّا بُعِث إليهم بالآياتِ البيِّناتِ، فكذَّبوه وعادَوْه، وتحزَّبوا عليه ساعِينَ في إراقةِ دَمِه؛ غَيَّروا حالَهم إلى أسوأَ ممَّا كانت عليه، فغيَّرَ الله ُتعالى ما أنعَمَ به عليهم من الإمهالِ، وعاجَلَهم بالعذابِ .

6- في قَولِه تعالى: كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ لَمَّا أشارَ بالتَّعبيرِ رَبِّهِمْ إلى أنَّه غَرَّهم مُعامَلتُه بالعَطفِ والإحسانِ، قال: فَأَهْلَكْنَاهُمْ أي: جميعًا بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا فأتى بنونِ العَظَمة؛ إشارةً إلى أنَّه أتاهم بما أنساهم ذلك البِرَّ، وإشارةً إلى أنَّهم نَسُوا أنَّ الرَّبَّ كما أنَّه يتَّصِفُ بالرَّحمةِ، فلا بدَّ أن يتَّصِفَ بالعَظَمةِ والنِّقمةِ، وإلَّا لم تتِمَّ رُبوبيَّتُه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ

- قولُه: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ فيه حذْفُ جوابِ (لو) الشَّرطيَّة؛ والحَذفُ بليغٌ في مِثْل هذا؛ لأنَّه يدلُّ على التَّعظيمِ، أي: لرأيتَ أمرًا عجيبًا، وشأنًا هائلًا

.

- وتقديمُ المفعولِ الَّذِينَ كَفَرُوا على الفاعلِ الْمَلَائِكَةُ؛ للاهْتِمامِ به .

- قولُه: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ على القَولِ بأنَّ المرادَ بالذين كَفروا: مُشركو يَومِ بَدْر، وذلك قدْ مضَى؛ فيكونُ أَتى بالمضارعِ (ترى- يَتوفَّى) في المَوضِعَين مَكانَ الماضي؛ لقَصْدِ اسْتِحضارِ تِلك الحالةِ العجيبةِ، وهي حالةُ ضَرْبِ الوجوهِ والأدبارِ؛ ليُخيِّلَ للسامعِ أنَّه يُشاهِد تِلكَ الحالة .

- وذِكرُ الوجوهِ والأدبارِ في قولِه: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ؛ للتَّعميمِ، أي: يَضربونَ جَميعَ أجسادِهم، كقَولِ العربِ: ضَربتُه الظهرَ والبطنَ؛ كِنايةً عمَّا أَقبلَ وما أَدبرَ، أي: ضربتُه في جميعِ جَسدِه ، أوْ خَصُّوهما بالضَّربِ؛ لأنَّ الخِزيَ والنَّكالَ في ضَربِهما أشدُّ .

2- ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ

- جملةُ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ مُستأنَفةٌ؛ لقَصدِ التَّنكيلِ والتشفِّي، وجِيءَ بإشارةِ البَعيد ذَلِكَ؛ لتعظيمِ ما يُشاهِدونَه مِن الأهوالِ .

- وعبَّرَ بالأيدي دونَ غَيرِها في قَولِه تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ؛ لأنَّ أكثَرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بها .

- وجملةُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اعتراضٌ تذييليٌّ، مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبْلها ، على أحدِ الأوجهِ في الآيةِ.

- ونفيُ الظَّلَّاميةِ في قولِه تعالى: لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لا يُفيدُ إثباتَ ظُلمٍ غيرِ قويٍّ؛ فصِياغَتُه بصِيغةِ الكثرةِ باعتبارِ تعلُّق الظُّلمِ المنفيِّ- لو قُدِّرَ ثبوتُه- بالعبيدِ الكثيرينَ، وعبَّرَ بالمبالغةِ عن كَثرةِ أعدادِ الظُّلمِ باعتبارِ تعدُّدِ أفرادِ معمولِه ، وقيل: لأنَّ العذابَ مِن العِظَمِ بحيث لولا الاستحقاقُ لكان المعذِّبُ بمثلِه ظلَّامًا بليغَ الظُّلمِ، فنفَى المبالغةَ بهذا الاعتبارِ، ومعناها نفيُ الفعلِ مِن أصلِه ، وقيل: إنَّه نفَى الظُّلمَ الكثيرَ؛ لِينتفيَ القليلُ ضرورةً؛ لأنَّ الَّذي يظلمُ، إِنَّما يظلمُ لانتفاعِه بالظُّلمِ، فإذا تَرَك الكثيرَ معَ زيادةِ نفعِه، فلأَنْ يترُكَ القليلَ أولَى، وقيل: لأنَّ أقلَّ القليلِ لو وَرَد منه تعالَى لكانَ كثيرًا، وقيل: إنَّه قَصَد التَّعريضَ بأنَّ ثمَّ ظَلَّامًا للعبيدِ من ولاةِ الجورِ، وقِيل غيرُ ذلك .

3- قَولُه تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ

- جُملةُ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ... استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ أنَّ ما حلَّ بهم من العذابِ بسَببِ كُفْرِهم، لا بشيءٍ آخَرَ من جِهةِ غيرِهم؛ بتشبيهِ حالِهم بحالِ المعروفينَ بالإهلاكِ بسببِ جَرائمِهم؛ لزيادةِ تَقبيحِ حالِهم، وللتَّنبيهِ على أنَّ ذلك سُنَّةٌ مُطَّرِدَةٌ فيما بَينَ الأُممِ المُهلَكةِ .

- وإنَّما خُصَّ آلُ فِرعونَ بالذِّكرِ، وذُكِر الذي أُهلِكوا به، وهو إغراقُهم؛ لأنَّه انضمَّ إلى كُفرِهم دَعْوَى الإلهيَّةِ والرُّبوبيَّة لغيرِ الله تعالى؛ فكان ذلك أَشنعَ الكُفرِ وأفظعَه .

- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ اعتراضٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبْلَه من الأخْذ، وتكملةٌ له ، مع ما فيه من تأكيدِ الخَبَرِ بـإنَّ واسميَّةِ الجملةِ.

4- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً... استئنافٌ مَسوقٌ لتَعليلِ ما يُفيدُ النَّظمُ الكريمُ مِن كونِ ما حلَّ بهم من العذابِ منوطًا بأعمالِهم السيِّئةِ، غيرَ واقعٍ بلا سابقةٍ .

- ونفْيُ الكونِ بصِيغةِ المضارِعِ في قولِه: لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً يَقتضي تجدُّدَ النفيِ ومَنفيِّه .

- وقَولُه: لَمْ يَكُ حُذِفَت نون (يكن) إرشادًا إلى أنَّ هذه الموعظةَ خليقةٌ بأن يُوجَزَ بها غايةَ الإيجازِ، فيُبادَرَ إلى إلقائِها لِمَا في حسنِ تلقِّيها من عظيمِ المنفعةِ؛ لأنَّ منَ خالَفَها جديرٌ بتعجيلِ الانتقامِ .

5- قَولُه تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ

- قولُه: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ... تَكريرٌ لقولِه: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ... المذكورِ قَبْلَه؛ لقَصدِ التَّأكيدِ والتَّسميعِ، وهو تَقريرٌ؛ للإنذارِ والتَّهديد، وخُولِفَ بين الجُملتين تفنُّنًا في الأسلوبِ، وزيادةً للفائدةِ بذِكرِ التَّكذيبِ هنا بعدَ ذِكْرِ الكُفرِ هناك، وهُما سببانِ للأخْذِ والإهلاكِ . ومِن وجوهِ تَكريرِه أيضًا: أنَّ الثانيَ جرَى مَجرَى التَّفصيلِ للأوَّلِ؛ لأنَّ في ذلك ذِكرَ إجرامِهم، وفي هذا ذِكرَ إغراقِهم، وأُريدَ بالأوَّلِ ما نزَلَ بهم من العُقوبةِ حالَ الموتِ، وبالثَّاني ما نزَل بهم من العذابِ في الآخِرةِ، وفي الأوَّلِ: بِآيَاتِ اللَّهِ إشارةٌ إلى إنكارِ دَلائلِ الإلهيَّةِ، وفي الثَّاني: بِآيَاتِ رَبِّهِمْ إشارةٌ إلى إنكار نِعَم مَن رَبَّاهم، ودلائلِ تربيتِه وإحسانِه على كَثْرتِها وتواليها، وفي الأوَّل: اللازِمُ منه الأخذُ، وفي الثَّاني: اللازمُ منه الهلاكُ والإغراقُ .

- في قولِه: بِآيَاتِ رَبِّهِمْ زيادةُ دَلالةٍ على كُفرانِ النِّعمِ، وجُحودِ الحقِّ .

- وذِكرُ وصْفِ الربوبيَّة دون الاسمِ العَلَمِ في قولِه: كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ؛ لزيادةِ تَفظيعِ تَكذيبِهم؛ لأنَّ الاجتراءَ على اللهِ مع مُلاحظةِ كَونِه ربًّا للمُجترِئِ يَزيدُ جَراءتَه قُبحًا؛ لإشعارِه بأنَّها جَراءةٌ في موضعِ الشُّكرِ؛ لأنَّ الرَّبَّ يَستحِقُّ الشُّكرَ .

- قَولُه تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ عُبِّرَ بالإهلاكِ عِوَضَ الأخذِ المتَقَدِّمِ ذِكرُه؛ ليُفَسَّرَ الأخذُ بأنَّه آلَ إلى الإهلاكِ، وزِيدَ الإهلاكُ بيانًا بالنِّسبةِ إلى آلِ فِرعونَ بأنَّه إهلاكُ الغَرَقِ .

- قَولُه تعالى: وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ جُمِعَ الضَّميرُ في: (كانُوا)، وجُمِعَ: (ظالِمينَ) مراعاةً لمعنى (كُل)؛ لأنَّ (كُلًّا) متى قُطِعَت عن الإضافةِ جاز مراعاةُ لَفظِها تارةً، ومعناها أخرى. وإنما اختيرَ هنا مراعاةُ المعنى؛ لأجلِ الفَواصِلِ، ولو رُوعِيَ اللَّفظُ فقيل مثلًا (وكلٌّ كان ظالِمًا)، لم تتَّفِقِ الفَواصِلُ .

================

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (55-59)

ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ

غريب الكلمات:

 

تَثْقَفَنَّهُمْ: أي: تَجِدَنَّهم، وتظفَرَنَّ بهم، وأصلُ (ثقِف): يدلُّ على الحِذقِ في إدراكِ الشَّيءِ، وفِعلِه

.

فَشَرِّدْ بِهِمْ: أي: فنكِّلْ بهم، وافعَلْ بهم فعلًا من العقوبةِ يتفَرَّقُ به مَن وراءَهم، وأصلُ (شرد): يدلُّ على تنفيرٍ وإبعادٍ .

فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ: أي: فاطرَحْ إليهم عَهدَهم، وأصلُ (نبذ) يدلُّ على طَرحٍ وإلقاءٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ

في إعرابِ هذه الآيةِ وُجوهٌ؛ بيانُها على النَّحوِ التَّالي:

- أنَّ فاعِلَ يَحْسَبَنَّ هو النبيُّ عليه الصلاةُ والسَّلامُ، والَّذِينَ مفعولُ يَحْسَبَنَّ الأوَّلُ.

- وجملةُ سَبَقُوا في مَحلِّ نَصبٍ، مفعولٌ ثانٍ، فيكون تخريجُها مثلَ قراءةِ التَّاءِ: وَلَا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا بِتَوجيهِ الخِطابِ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

- أنَّ الفاعِلَ مُضمَرٌ تقديرُه: (أحَدٌ) أو (حاسِبٌ) أو (مَن خَلفَهم)، والَّذِينَ وسَبَقُوا هما مَفعولَا يَحْسَبَنَّ أيضًا.

- أنَّ الفاعِلَ الَّذينَ، والمفعولُ الأوَّلُ محذوفٌ، أي: أنفُسَهم، والمفعولُ الثَّاني سَبَقُوا والتَّقديرُ: ولا يَحسبَنَّ الذينَ كَفَروا أنفُسَهم سَبَقوا.

- قولُه: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ جملة مُستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ. وقُرِئَ بالفتحِ أنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ على حَذْفِ لامِ العِلَّةِ، أي: لأنَّهم لا يُعْجِزون

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ اللَّه تعالى أنَّ أكثَرَ الدَّوابِّ التي تدبُّ على وجهِ الأرضِ شَرًّا في حكمِه وقضائِه، هم الذينَ كَفَروا، وقد سبَقَ في علمِ الله تعالى أنَّهم لا يُؤمنونَ، الذين أخذَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العَهدَ عليهم، بأن يُسالِمَهم ويُسالِموه، ثم ينقضونَ عَهدَهم كلمَّا عاهدوه، وهم لا يتَّقونَ، ثمَّ يأمُرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُنكِّلَ بهم، ويُعاقِبَهم عقوبةً غليظةً إنْ لاقاهم في الحَربِ؛ حتى يكونَ ذلك عبرةً وتشريدًا لغَيرِهم من الأعداءِ، لعلَّهم يذَّكَّرونَ.

أمَّا القومُ الذين بينَه وبَينَهم عهدٌ، ويخافُ أن يَغدِروا به فينقُضوا عَهدَه- وذلك لظهورِ علاماتٍ له تدلُّ على غدرِهم- فيأمره حينئذٍ أن يُلقِيَ إليهم عَهدَهم؛ حتى يكونَ الطَّرفانِ مُستَويَينِ في العِلمِ أنْ لا عهدَ باقٍ بينهما، فيبرَأ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الغَدرِ بهم، إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَن يَغدِرُ ويخونُ عهده.

ثمَّ قال الله تعالى: لا يظننَّ الذين كَفَروا أنفُسَهم أفلَتُوا من أن يُظفَرَ بهم، وأنَّهم قد فاتُونا بأنفُسِهم فلا نقدِرُ عليهم، إنَّهم لا يُمكِنُهم الإفلاتُ مِن اللهِ تعالى، ولا الهَرَبُ منه؛ فهو قادِرٌ عليهم.

تفسير الآيات :

 

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وصفَ اللهُ تعالى كلَّ الكُفَّارِ بِقَولِه: وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ؛ أفرَدَ بَعضَهم بمزيَّةٍ في الشَّرِّ والعنادِ

.

وأيضًا لَمَّا وصَفَهم اللهُ تعالى بالظُّلمِ في الآيةِ السَّابقة، علَّلَ اتِّصافَهم ذلك بأنَّهم كَفَروا بآياتِ رَبِّهم الذي تفَرَّدَ بالإحسانِ إليهم ، فقال تعالى:

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55).

أي: إنَّ أكثَرَ الدَّوابِّ التي تدبُّ على وجهِ الأرضِ شَرًّا عند اللهِ، هم الذين كَفَروا بربِّهم، وتغلغَلَ الكُفرُ في نُفوسِهم، فهم مُستمرُّونَ على كُفرِهم، قد سبَقَ في علمِ الله تعالى أنَّهم لا يُؤمنونَ .

كما قال تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 22، 23].

وقال سبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179].

وقال عزَّ وجلَّ: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44] .

ثمَّ ذكَرَ تعالى صفةً أخرى من صفاتِهم ، فقال:

الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56).

الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ.

أي: الَّذين أخذتَ عليهم العَهدَ- يا مُحمَّدُ- وأخَذُوا عليك العَهدَ؛ بأن يُسالِموك وتُسالِمَهم، فلا يحارِبوك ولا تُحارِبَهم، ثمَّ ينقُضونَ عَهدَهم كلَّما عاهَدوك .

وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ.

أي وهؤلاءِ الكُفَّارُ الذين ينقُضونَ عَهدَهم، ليست لهم تَقوى مِن الله تعالى تَحمِلُهم على الالتزامِ بفِعلِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهِيه، ولا يخافونَ عند نَقضِهم للعَهدِ في كُلِّ مَرَّةٍ، أن يَحُلَّ بهم عذابُ اللهِ .

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57).

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ.

أي: فإنْ تلْقَيَنَّ- يا مُحمَّدُ- أولئك الكُفَّارَ، الذينَ ينقُضونَ العَهدَ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ، وتَظفَرْ بهم في حالِ مُحارَبتِهم، بحيثُ لا يكونُ لهم عهدٌ معك- فنكِّلْ بهم، وعاقِبْهم عقوبةً غليظةً، تكونُ عِبرةً وتشريدًا لِغَيرِهم من الأعداءِ، فيتفَرَّقوا عنك، ويخافوا منك، ولا يجتَرئُوا عليك بعد ذلك .

لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ.

أي: لعلَّ مَن خَلْفَهم مِن الكُفَّارِ الذين يعلمونَ بما فعَلْتَ بناقِضي العَهدِ، يتَّعِظونَ فيَحذَروا مِن نَقضِ ما بينك وبينهم مِن عهدٍ؛ لئلَّا يُصيبَهم ما أصاب غَيرَهم مِن ناقِضي العُهودِ .

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58).

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء.

أي: وإمَّا تَخافَنَّ- يا مُحمَّدُ- مِن قَومٍ بينك وبينهم عَهدٌ، أن يَغدِروا بك، فينقُضُوا عَهدَهم معك، بما يظهَرُ مِن قرائِنَ تَدُلُّك على ذلك، من غيرِ تَصريحٍ منهم بالخيانةِ ، فاطرَحْ إليهم عَهدَهم عَلَنًا؛ حتى تستويَ أنت وهم في العِلمِ بأَنَّه لا عهدَ بينَك وبينَهم، وأنَّ بعضَكم مُحارِبٌ لبعضٍ، فتبرَأَ بذلك من الغَدرِ بهم .

عن سُلَيمِ بنِ عامرٍ، قال: ((كان بين مُعاويةَ وبين أهلِ الرُّومِ عَهدٌ، وكان يَسيرُ في بلادِهم، حتى إذا انقضَى العَهدُ أغار عليهم، فإذا رجلٌ على دابَّةٍ أو على فَرسٍ، وهو يقولُ: اللهُ أكبَرُ، وفاءٌ لا غَدرٌ، وإذا هو عَمرُو بنُ عَبَسةَ، فسأله معاويةُ عن ذلك، فقال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: مَن كان بينه وبين قَومٍ عهدٌ، فلا يَحُلَّنَّ عهدًا، ولا يَشُدَّنَّه حتى يَمضِي أمَدُه، أو ينبِذَ إليهم على سَواءٍ، قال: فرجَعَ معاويةُ بالنَّاسِ )) .

وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لكُلِّ غادرٍ لِواءٌ يومَ القيامةِ، يُرفَعُ له بِقَدرِ غَدرِه، ألا ولا غادِرَ أعظَمُ غَدرًا مِن أميرِ عامَّةٍ )) .

إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ.

أي: إنَّ الله لا يُحبُّ الذين يَغدِرونَ بمَن عاهَدَهم وأمِنَهم، ويخونونَ في عُهودِهم وغيرِها .

وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى ما يفعَلُ الرَّسولُ في حقِّ مَن يَجِدُه في الحَربِ، ويتمَكَّنُ منه، وذكَرَ أيضًا ما يجِبُ أن يفعَلَه فيمَن ظهَرَ منه نقضُ العَهدِ- بيَّنَ هنا حالَ مَن فاتَه في يومِ بَدرٍ وغَيرِه؛ لئلَّا يبقَى حَسرةً في قَلبِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فقد كان فيهم مَن بلَغَ في أذيَّةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مَبلغًا عظيمًا .

وأيضًا لمَّا كان نبذُ العهدِ مَظِنَّةُ الخوفِ مِن تكثيرِ العدوِّ وإيقاظِه، وكان الإيقاعُ أولَى بالخوفِ، أتْبَع سبحانَه ذلك ما يُسلِّي عن فوتِ مَن هرَب مِن الكفَّار في غزوةِ بدر،ٍ فلم يُقتَلْ، ولم يُؤْسَرْ ، فقال تعالى:

وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ قراءتان:

قِراءةُ وَلَا يَحْسَبَنَّ قيل: على معنى: لا يحسبنَّ النبيُّ، أو لا يحسبَنَّ أحدٌ، أو لا يحسبَنَّ الَّذين كَفَروا .

قِراءةُ وَلَا تَحْسِبَنَّ على أنَّ الخطابَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، وقيل: ولا تَحْسِبَنَّ يا سامعُ .

وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ.

أي: لا يظُننَّ الذين كَفَروا أنفُسَهم أفلَتُوا من أن يُظفَرَ بهم، وأنَّهم قد فاتُونا بأنفُسِهم فلا نقدِرُ عليهم .

إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ.

أي: إنَّ الكافرينَ لا يُمكِنُهم الإفلاتُ مِن اللهِ تعالى في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، ولا يَقدِرونَ على الهَرَبِ منه؛ فهو قادِرٌ عليهم سبحانَه

 

.

كما قال تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور: 57] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت: 4] .

الفوائد التربوية:

 

- الإسلامُ لا يبيحُ لأهلِه الخيانةَ مطلقًا؛ فالخيانةُ مبغوضةٌ عندَ الله بجميعِ صُورِها ومظاهرِها، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وصَفَهم بشَرِّ الدَّوابِّ؛ لأنَّ دَعوةَ الإسلامِ أظهَرُ مِن دَعوةِ الأديانِ السَّابقةِ، ومُعجزةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أسطَعُ، ولأنَّ الدَّلالةَ على أحقيَّةِ الإسلامِ دَلالةٌ عَقليَّةٌ بيِّنةٌ، فمن يَجحَدْه فهو أشبَهُ بما لا عَقلَ له

، ولإفادةِ أنَّهم ليسوا من شرارِ البَشَرِ فقط، بل هم أضَلُّ مِن عَجْماواتِ الدَّوابِّ؛ لأنَّ فيها منافِعَ للنَّاسِ، وهؤلاء لا خَيرَ فيهم، ولا نَفْعَ لِغَيرِهم منهم، فإنَّهم لشِدَّةِ تعصُّبِهم لجِنْسِهم قد صاروا أعداءً لِسائِرِ البَشَرِ .

2- قَولُ الله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فائدةُ قَولِه: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بعد ذِكرِ ما قَبلَه: أنْ يُبَيِّنَ أنَّ شَرَّ الدوابِّ هم الذين كَفَروا، واستمَرُّوا على كُفرِهم إلى وقتِ مَوتِهم .

3- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ دلَّ تقييدُ هذه العُقوبةِ فِي الْحَرْبِ على أنَّ الكافِرَ- ولو كان كثيرَ الخيانةِ سَريعَ الغَدرِ- أنَّه إذا أُعطِيَ عَهدًا لا يجوزُ خيانَتُه وعُقوبتُه .

4- قال الله تعالى: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ إنَّما قال: يَنْقُضُونَ بفِعلِ الاستقبالِ، مع أنَّهم كانوا قد نَقَضوه قبلَ نُزولِ الآية؛ لإفادةِ استمرارِهم على ذلك، وأنَّه لم يكُنْ هَفوةً رَجَعوا عنها، ونَدِموا عليها، بل أنَّهم ينقُضونَه في كلِّ مَرَّةٍ، وإن تكَرَّر .

5- الذين جَمَعوا هذه الخِصالَ الثَّلاثَ: الكُفرَ، وعدمَ الإيمانِ، والخيانةَ؛ هم شَرُّ الدوابِّ عند اللهِ، فهم شَرٌّ مِن الحَميرِ والكلابِ وغَيرِها؛ لأنَّ الخيرَ مَعدومٌ منهم، والشَّرَّ مُتوقَّعٌ فيهم؛ قال الله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ .

6- قال الله تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ولا تُخالِفُ هذه الشدَّةُ كَونَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُرسِلَ رحمةً للعَالِمينَ؛ لأنَّ المرادَ أنَّه رَحمةٌ لِعُمومِ العالَمينَ، وإن كان ذلك لا يخلو مِن شِدَّةٍ على قليلٍ منهم، كقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] .

7- مِن فَوائِدِ العُقوباتِ والحدودِ المرتَّبةِ على المعاصي، أنَّها سبَبٌ لازدجارِ مَن لم يعمَلِ المعاصيَ، بل وسببُ زجرٍ لِمَن عَمِلَها ألَّا يُعاوِدَها؛ قال الله تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ .

8- قَولُ الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ رتَّبَ نبْذَ العَهدِ على خوفِ الخيانةِ دونَ وُقوعِها؛ لأنَّ شُؤونَ المُعامَلاتِ السياسيَّةِ والحربيَّةِ تجري على حسَبِ الظُّنونِ ومخائِلِ الأحوالِ، ولا يُنتظَرُ تحقُّقُ وُقوعِ الأمرِ المَظنونِ؛ لأنَّه إذا تريَّثَ وُلاةُ الأمورِ في ذلك يكونونَ قد عرَّضُوا الأمَّةَ للخَطرِ، أو للتَّورُّطِ في غَفلةٍ وضياعِ مصلحةٍ، ولا تُدارُ سِياسةُ الأمَّةِ بما يُدارُ به القَضاءُ في الحُقوقِ؛ لأنَّ الحُقوقَ إذا فاتَتْ كانت بَلِيَّتُها على واحدٍ، وأمكَنَ تدارُكُ فائِتِها، ومصالِحُ الأمَّةِ إذا فاتت تمكَّنَ منها عَدُوُّها؛ فلذلك علَّقَ نبْذَ العَهدِ بتوقُّعِ خِيانةِ المُعاهَدينَ مِن الأعداءِ .

9- قَولُ الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ فيه إباحةُ نَبذِ العَهدِ لِمَن تُوُقِّعَ منهم غائلةُ مَكرٍ، وأنْ يُعلِمَهم بذلك؛ لئلَّا يُشَنِّعوا بنَصبِ الحَربِ مع العَهدِ .

10- قَولُ الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ يَدلُّ على أنَّه إذا وُجِدَت الخيانةُ المُحقَّقةُ منهم، لم يُحتَجْ أن يُنبَذَ إليهم عَهدُهم؛ لأنَّه لم يُخَفْ منهم، بل عُلِمَ ذلك، ولِعَدمِ الفائدةِ، ولِقَولِه: عَلَى سَوَاءٍ وهنا قد كان معلومًا عند الجميعِ غَدرُهم .

11- قَولُ الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ دلَّ مفهومُه أيضًا على أنَّه إذا لم يُخَفْ منهم خيانةٌ- بأن لم يُوجَدْ منهم ما يدُلُّ على ذلك- أنَّه لا يجوزُ نَبذُ العهدِ إليهم، بل يجِبُ الوفاءُ إلى أن تتِمَّ مُدَّتُه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

- قولُه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ استئنافٌ ابتدائيٌّ، انتَقَل به مِن الكلامِ على عُمومِ المشركينَ إلى ذِكرِ كُفَّارٍ آخَرينَ، هم الذين بيَّنهم بقولِه: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ

.

- قولُه: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فيه تَقديمُ المُسنَدِ إليه فَهُمْ على الخَبرِ الفِعلي المنفيِّ لَا يُؤْمِنُونَ مع عَدمِ إيلاءِ المسنَدِ إليه حرْفَ النَّفي؛ لقَصْدِ إفادةِ تقويةِ نفْيِ الإيمان عنهم، أي: الذين يَنْتفي الإيمانُ عنهُم في المستقبلِ انتفاءً قويًّا؛ فهم بُعدَاءُ عنه أشدَّ الابتعادِ .

2- قَولُه تعالى: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ

- قولُه: ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فيه التعبيرُ بصِيغةِ الاستِقبالِ المضارِعِ يَنْقُضُونَ؛ تَنبيهًا على أنَّ مِن شأنهم نَقضَ العهدِ مَرَّةً بعدَ مرَّة، وفيه دَلالةٌ على تجدُّد النَّقضِ وتعدُّدِه، وكونِهم على نِيَّته في كلِّ حالٍ، أي: يَنْقُضون عَهْدَهم الذي أخَذْته منهم؛ فهو تعريضٌ بالتأييسِ من وَفائِهم بعَهْدِهم .

3- قَولُه تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ

- قولُه: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فيه مَجيءُ الشَّرطِ بحرْفِ إنْ وبعدها ما؛ لإفادةِ تأكيدِ وقوعِ الشَّرطِ؛ وبذلك تَنْسلِخُ إنْ عن الإشعارِ بعدَمِ الجَزمِ بوقوعِ الشَّرطِ، وزِيدَ التأكيدُ باجتلابِ نُونِ التوكيدِ في تَثْقَفَنَّهُمْ .

4- قَولُه تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ

- في هذه الآيةِ ما يُعرَفُ بالإشارةِ ، وبعضُهم يُدرِجُه في بابِ الإيجازِ؛ لأنَّه مُتفَرِّعٌ عنه، فقولُه تعالى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ يشيرُ إلى الأمرِ بالمقاتلةِ بنَبذِ العَهدِ، كما نبَذُوا عَهْدَك، مع ما يدُلُّ عليه الأمرُ بالمساواةِ في الفِعلِ مِنَ العَدلِ، فإذا أضفْتَ إلى ذلك ما تشيرُ إليه كَلِمةُ خِيانَةً مِن وُجودِ مُعاهدةٍ سابِقةٍ؛ تَبيَّنَ لك ما انطَوَت عليه هذه الإشاراتُ الخفيَّةُ من دَلالاتٍ كأنَّها أخذةُ السِّحرِ .

- قولُه: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ فيه مَجيءُ قَوْمٍ نَكِرةً في سِياق الشَّرطِ؛ لإفادةِ العُمومِ، أي: كلُّ قومٍ تَخافُ مِنهم خيانةً .

- قولُه: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ وصْفُ النَّبذِ أو النابِذ بأنَّه على سواءٍ تمثيلٌ بحالِ الماشي على طَريقٍ جادَّةٍ، لا التواءَ فيها؛ فلا مُخاتَلةَ لصاحِبها .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ يَحتمِلُ أنْ تكونَ هذه الجملةُ تعليلًا معنويًّا للأمْرِ بنَبْذِ العَهدِ على عَدلٍ- وهو إعلامُهم-؛ فهي تعليلٌ للأمرِ بالنَّبذِ، والنَّهيِ عن مُناجزةِ القِتالِ المدلولِ عليه بالحالِ على طريقةِ الاستئنافِ. ويَحتملُ أنْ تكونَ مستأنفةً سِيْقَتْ لِذَمِّ مَنْ خان رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونَقَضَ عَهْدَه ؛ فعلى وجْهِ التعليلِ تكونُ الجملةُ تَذييلًا لِمَا اقتضتْه جملةُ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ... تصريحًا واستلزامًا، والمعنى: أنَّ اللهَ لا يُحبُّهم؛ لأنَّهم مُتَّصِفون بالخيانةِ؛ فلا تَستمِرَّ على عَهدِهم، فتكونَ معاهدًا لِمَن لا يُحِبُّهم اللهُ، ومَوقِعُ (إنَّ) فيه مَوقِعُ التَّعليلِ للأمرِ بردِّ عهدِهم، ونَبْذِه إليهم؛ فهي مُغنِيةٌ غَناءَ فاءِ التَّفريعِ، وهذا من نُكَتِ الإعجازِ .

- وقولُه: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ تعليلٌ للنَّهيِ على طريقةِ الاستئنافِ .

=================

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (60-63)

ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ

غريب الكلمات:

 

رِبَاطِ الْخَيْلِ: أي: ربطُها وحَبْسُها، واقتِناؤُها للجهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى

، وقيل: الرباط هي  الخَيل التي تُربَطُ في سَبيلِ اللهِ، وقيل: الرباطُ جمعُ ربيطٍ، وفرسٌ ربيطٌ: أي: مربوطٌ في سبيلِ الله،  وأصلُ المرابطةِ والرِّباطِ: أن يربطَ هؤلاء خيولَهم، ويربطَ هؤلاء خيولَهم في الثَّغرِ، كلٌّ يُعِدُّ لصاحبِه، وأصلُ (ربط): يدلُّ على شَدٍّ وثَباتٍ، والخيلُ معروفٌ، وقيل: هي في الأصلِ اسمٌ للأفراسِ والفرسانِ جميعًا .

جَنَحُوا لِلسَّلْمِ: أي: مالُوا إلى الصُّلحِ؛ مِن قولهم: جَنَحتِ السَّفينةُ، أي: مالَت إلى أحَدِ جانِبَيها، وأصلُ (جنح): يدلُّ على مَيلٍ، والسَّلمُ: الصلحُ ، وتركُ الحربِ .

حَسْبَكَ اللَّهُ: أي: كافيكَ، وأصْلُ (حسب): كفايةٌ .

وَأَلَّفَ: أي: جمَع، وأوْقَع الإلفَ بينَ القلوبِ، وأصلُ (ألف): اجتماعٌ معَ التئامٍ، ويدلُّ كذلك على انضمامِ الشيءِ إلى الشيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُر اللهُ عِبادَه أن يُعِدُّوا لأعدائِهم الكفَّارِ ما استطاعوا مِن قُوَّةٍ رادعة، ومِن الخَيلِ المربوطةِ المُعَدَّةِ للقتالِ عليها في سبيلِ الله تعالى؛ يُخيفونَ بها عدوَّ الله وأعداءَهم، وآخرينَ لا يَعلَمونَهم، لكنَّ اللهَ يَعلَمُهم، وبيَّن لهم أنَّ ما يُنفِقونَه مِن شَيءٍ في سبيلِه تعالى، فإنَّه يُعطِيهم ثوابَه يومَ القِيامةِ وافيًا غيرَ مَنقوصٍ.

ثم أمرَ اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَميلَ للمُصالحةِ، إنْ مال الكُفَّارُ المُحارِبونَ لها، وأنْ يُفَوِّضَ أمْرَه إلى اللهِ؛ إنَّه هو السَّميعُ العليمُ، وأعلَمَه أنَّهم إن يُريدُوا خِداعَه بِطَلَبِهم الصُّلحَ؛ فإنَّ اللهَ- وَحدَه- كافِيه وناصِرُه عليهم، هو سُبحانه الذي أيَّدَه بنَصرِه وبأصحابِه الذين آمَنوا، وجمَعَ بين قلوبِهم، لو أنفقَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما في الأرضِ جميعًا؛ لِيَجمَعَ بين قُلوبِهم- ما استطاعَ، ولكنَّ اللهَ فعل ذلك؛ إنَّه عزيزٌ حَكيمٌ.

تفسير الآيات:

 

وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أوجَبَ على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُشَرِّدَ مَن صَدَرَ منه نقضُ العَهدِ، وأن يَنبِذَ العَهدَ إلى مَن خاف منه النَقضَ- أمَرَه في هذه الآيةِ بالإعدادِ لهؤلاءِ الكُفَّارِ

.

وأيضًا لَمَّا اتَّفقَ في قصَّةِ بَدرٍ أنْ قَصَدوا الكُفَّارَ بلا تكميلِ آلةٍ ولا عُدَّةٍ، وأمَرَه تعالى بالتَّشريدِ وبِنَبذِ العَهدِ للنَّاقضينَ، كان ذلك سبيلًا للأخذِ في قتالِه، والتَّمالُؤ عليه- فأمَرَه تعالى والمؤمنينَ بإعدادِ ما قَدَروا عليه من القُوَّةِ للجهادِ .

وأيضًا لَمَّا كان ربَّما أدَّى الاعتمادُ على الوَعدِ الصَّادِقِ المُؤَيَّدِ بما وقع لهم في بَدرٍ مِن عظيمِ النَّصرِ، مع نَقصِ دَعوى العِدَّة والعُدَّة، إلى تركِ المُناصبة والمُحارَبة والمُغالبةِ- أتبَعَه ما يُبَيِّنُ أنَّ اللَّازِمَ ربطُ الأسبابِ بِمُسَبِّباتِها، ولِيَتبيَّنَ الصَّادِقُ في دعوى الإيمانِ مِن غَيرِه .

وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ.

أي: وأعِدُّوا- أيُّها المُسلِمونَ- لأعدائِكم الكُفَّارِ- الذين يَسعَونَ في هلاكِكم- كُلَّ ما أمكَنَكم أنْ تُعِدُّوه لِقتالِهم، مِن جميعِ أنواعِ الأسلحةِ، والرأيِ والتَّدبيرِ .

عن عُقبةَ بنِ عامرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو على المنبرِ، يقول: (((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)، ألَا إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ، ألَا إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ، ألَا إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ )) .

وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ.

أي: وأعِدُّوا للكُفَّارِ ما تَستطيعونَ إعدادَه مِن الخَيلِ المربوطةِ، المُعَدَّةِ للقتالِ عليها في سبيلِ الله تعالى .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الخَيلُ لثلاثةٍ: لِرَجلٍ أجرٌ، ولرَجُلٍ سِترٌ، وعلى رَجُلٍ وِزرٌ؛ فأمَّا الذي له أجرٌ: فرجُلٌ رَبَطها في سبيلِ اللهِ، فأطال في مَرْجٍ أو رَوضةٍ، فما أصابَت في طِيَلِها ذلك من المَرجِ أو الرَّوضةِ، كانت له حَسَناتٍ، ولو أنَّها قَطَعَت طِيَلَها فاستنَّتْ شَرَفًا أو شَرَفينِ ، كانت أرواثُها وآثارُها حسناتٍ له، ولو أنَّها مَرَّت بنهرٍ فَشَرِبتْ منه، ولم يُرِدْ أن يَسقِيَها، كان ذلك حسناتٍ له، ورجلٌ رَبَطَها فخرًا ورِئاءً، ونِواءً لأهلِ الإسلامِ؛ فهي وِزرٌ على ذلك )) .

وعن عُروةَ البارقيِّ رَضيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الخَيلُ مَعقودٌ في نَواصيها الخَيرُ إلى يومِ القِيامةِ: الأجرُ والمَغنَمُ )) .

تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ.

أي: تُخيفونَ باستعدادِكم للجهادِ الذين تَعلمونَهم مِن أعداءِ اللهِ تعالى، وأعدائِكم مِن الكُفَّار .

وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ.

أي: وتُخيفونَ باستعدادِكم للجِهادِ أعداءً لكم آخرينَ، لا تَعلمونَهم، لكِنَّ اللهَ يَعلَمُهم .

وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا أمرَ اللهُ تعالى بإعدادِ القوَّةِ المُستطاعةِ كائنةً ما كانت، وكان إعدادُها يحتاجُ إلى مادَّةٍ- رغَّبَ سبحانَه المؤمنينَ في الإنفاقِ في سبيلِه؛ لِيُنفِقوا، ويُعينوا على إعدادِ القُوَّةِ، فقال تعالى :

وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ.

أي: وما تُعطُوه- أيُّها المؤمنونَ- مِن نفقاتٍ قليلةً كانت أو كثيرةً، في جهادِ أعداءِ الله، يُعطِكم اللهُ ثوابَه يومَ القيامةِ، وافيًا غيرَ مَنقوصٍ .

كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 261، 262].

وقال سُبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40].

وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ ما يُرهَبُ به العَدوُّ مِن القوَّةِ؛ بيَّنَ بعدَه أنَّهم عند هذا الإرهابِ إذا مالوا إلى المُصالحةِ، فالحُكمُ قَبولُ المُصالحةِ .

وأيضًا لَمَّا كان ضَمانُ النَّصرِ والخَلَفِ في النَّفقةِ مُوجِبًا لِدَوامِ المُصادمةِ، والبُعدِ مِن المُسالَمةِ؛ أتبَعَه الأمرَ بالاقتصادِ في ذلك .

وأيضًا لَمَّا كان السَّلمُ هو المقصودَ الأوَّلَ- كما أفاد مفهومُ الآيةِ السَّابقةِ- أكَّدَه بمنطوقِ الآيةِ اللَّاحقةِ، فقال جلَّتْ حِكمَتُه، وسبَقَت رَحمَتُه :

وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا.

أي: وإنْ مال الكفَّارُ المُحارِبونَ إلى المُصالحةِ والمُسالَمةِ فأجِبْهم- يا مُحمَّدُ- إليها .

وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ.

أي: صالِحْهم، وفَوِّضْ أَمرَك إلى اللهِ، ولا تخَفْ ممَّا قد يدبِّرونَه مِن مَكرٍ وغَدرٍ في مُدَّةِ المُصالحةِ .

إنه هو السميع العليم.

أي: إنَّ الله الذي تتوكَّلُ عليه، هو السَّميعُ لأقوالِك، وأقواِل أعدائِك، العليمُ بما في قُلوبِكم، لا يَخفَى عليه شيءٌ، فإن كان الأعداءُ يُضمِرونَ المَكرَ والغَدرَ بك- يا مُحمَّدُ- أثناء مدَّةِ المُصالحةِ؛ فهو سبُحانه لن يَفوتَه شيءٌ ممَّا يَنوُونَ ويقولونَ ويُدَبِّرون؛ لأنَّه مُطَّلِعٌ عليهم، وسيَكفيكَهم .

وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَر الله تعالى في الآيةِ المتقدمةِ بالصُّلحِ، وكان طلَبُ السَّلمِ والهُدنةِ من العَدُوِّ، قد يكونُ خديعةً حربيَّةً؛ لِيَغُرُّوا المُسلمينَ بالمُصالحة، ثم يأخذوهم على غِرَّةٍ؛ ذكَر في هذه الآيةِ حكمَ الصُّلح، إن صالحوا على سبيلِ المخادعةِ، وأنَّه يجبُ قبولُ ذلك الصلحِ، وأن يأخُذَ الأعداءَ على ظاهرِ حالِهم، ويحمِلَهم على الصِّدقِ؛ لأنَّه الخُلقُ الإسلاميُّ، وشأنُ أهلِ المُروءةِ، ولا تكونُ الخَديعةُ بمِثلِ نَكْثِ العهدِ، فإذا بَعثَ العَدُوَّ كُفْرُهم على ارتكابِ مثلِ هذا التسَفُّلِ؛ فإنَّ اللهَ تكفَّلَ للوفيِّ بِعَهدِه، أن يَقِيَه شَرَّ خيانةِ الخائِنينَ .

وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ.

أي: وإنْ يُرِدِ الكُفَّارُ خِداعَك بطَلَبِ الصُّلحِ- يا مُحمَّدُ- بأن يُظهِروا المُسالَمةَ، ويُبطِنوا الخِيانةَ والغَدرَ؛ ليتمَكَّنوا في مدَّةِ المُصالحةِ مِن تَدبيرِ المكائِدِ؛ لِيَضُرُّوك بها؛ فإنَّ اللهَ وَحدَه كافيك، وناصِرُك عليهم .

كما قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] .

وقال سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] .

هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.

أي: اللهُ هو الَّذي قوَّاك بنَصرِه إيَّاك على الكفَّارِ، وقوَّاك بأصحابِك .

وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63).

وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ.

أي: واللهُ تعالى هو الذي جمعَ بين قُلوبِ أصحابِك المؤمنينَ على الحَقِّ، إيمانًا به ومناصرةً له، فأصبَحوا بنِعمَتِه إخوانًا مُتحابِّينَ مُؤتَلِفينَ، بعد أن كانوا أعداءً مُتنافرينَ مُتفرِّقينَ .

لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ

أي: لو بَذَلْتَ- يا مُحمَّدُ- جميعَ ما في الأرضِ؛ مِن ذهبٍ وفِضَّةٍ وأموالٍ وغَيرِ ذلك؛ لِتَجمَعَ بينَ قلوبِ أصحابِك- لَما استطَعْتَ أبدًا أن تجمَعَ بينها؛ لِشدَّةِ العَداواتِ التي كانت مُستحكِمةً بينهم، ولكِنَّ اللهَ بقُدرَتِه الباهرةِ- وَحْدَه- جمَعَ بينهم على الهُدى .

كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا فتح حُنينًا قسَمَ الغَنائِمَ، فأعطى المؤلَّفةَ قُلوبُهم، فبلَغَه أنَّ الأنصارَ يُحبُّونَ أن يُصيبوا ما أصاب النَّاسُ، فقام رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فخطَبَهم، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثمَّ قال: يا مَعشَرَ الأنصارِ، ألم أجِدْكم ضُلَّالًا فهداكم اللهُ بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟ ومُتَفرِّقينَ فجَمَعَكم الله بي؟ ويقولون: اللهُ ورسولُه أمَنُّ، فقال: ألا تجيبوني؟! فقالوا: اللهُ ورَسولُه أمَنُّ، فقال: أمَا إنَّكم لو شِئتُم أن تقولوا كذا وكذا، وكان من الأمر كذا وكذا- لأشياءَ عَدَّدَها-، فقال: ألَا تَرضَونَ أن يذهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ والإبِلِ، وتذهبونَ برَسولِ اللهِ إلى رحالِكم؟! الأنصارُ شِعارٌ والنَّاسُ دثارٌ ولولا الهجرةُ لكُنتُ امرأً مِن الأنصارِ، ولو سلَكَ النَّاسُ واديًا وشِعبًا، لسلكْتُ واديَ الأنصارِ وشِعبَهم، إنَّكم ستَلْقونَ بعدي أثَرةً ، فاصبِرُوا حتى تلقَوني على الحَوضِ )) .

إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

أي: إنَّ اللهَ الذي ألَّف بقُدرتِه بين قلوبِ المُؤمنينَ، عزيزٌ لا يقهَرُه ولا يَغلِبُه شيءٌ، ولا يَرُدُّ قَضاءَه أحدٌ، ومن ذلك قَهرُه للكُفَّارِ الجانحينَ للسَّلمِ، الذين يُريدونَ بذلك الخِداعَ، حكيمٌ في أفعالِه وشَرعِه وتدبيرِ خَلقِه، فيضَعُ الأشياءَ في مواضِعِها اللَّائقةِ بها، ومن ذلك تأليفُه قلوبَ المؤمنينَ؛ لِيَجتمِعوا على نُصرةِ الحقِّ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَوْله تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أمَرَ اللهُ سبحانه وتعالى بإعدادِ القُوَّةِ للأعداءِ، مع أنَّ الله تعالى لو شاءَ لَهَزَمهم، ولكنَّه أراد أنْ يُبلِيَ بعضَ النَّاسِ بِبَعضٍ، بِعِلمِه السَّابِقِ وقَضائِه النَّافِذِ؛ فأمَرَ بإعدادِ القُوى والآلةِ في فُنونِ الحَربِ، التي تكونُ لنا عُدَّةً، وعليهم قُوَّةً، ووعَدَ على الصَّبرِ والتَّقوى بأمدادِ الملائكةِ العُليا

.

2- إِذا طلبت الصُّلح والإِصلاحَ بينَ قومٍ لا تتوسَّل إِلى ذلك إلَّا بالتَّوكُّل، قال الله تعالى: وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله .

3- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ نبَّه اللهُ تعالى بِقَولِه: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ على الزَّجرِ عن نَقضِ العَهدِ؛ لأنَّه عالِمٌ بما يُضمِرُ العبدُ، سميعٌ لِما يقولُه .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فيه أنَّ النَّصرَ يُنالُ بالأسبابِ، وأنَّ ذلك يتوقَّفُ على التآلُفِ والاتِّحادِ، وكلُّ ذلك بفَضلِ مُقَدِّرِ الأسبابِ، ورَحمتِه بالعبادِ .

5- قال الله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هذا بيانٌ عمَّا ينبغي أن يكونَ عليه المُحِقُّ مِن الثِّقةِ باللهِ- إذا خاف مَكرَ المُبطِل به- في أن يَكفِيَه شَرَّ كَيدِه؛ لئلَّا يضطرِبَ أمرُه في تدبيرِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ يدلُّ على أنَّ الاستعدادَ للجهادِ- بالنَّبْلِ والسِّلاحِ، وتعليمِ الفُروسيَّةِ والرَّميِ، وكلِّ ما يحصلُ به تخويفُ العدوِّ وردعُه مِن مستحدثاتِ الأسلحةِ بأنواعِها الجويةِ والبريةِ والبحريةِ وغيرِها- فريضةٌ، إلَّا أنَّه مِن فُروضِ الكِفاياتِ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ دخلَ فيه كُلُّ ما يدخُلُ تحت قُدرةِ النَّاسِ اتِّخاذُه مِن العُدَّةِ، فاتِّخاذُ السُّيوفِ والرِّماحِ والأقواسِ والنِّبالِ، مِن القُوَّةِ في جُيوشِ العُصورِ الماضيةِ، واتِّخاذُ الدَّبَّاباتِ والمدافِعِ والطَّيَّاراتِ والصَّواريخِ، مِن القُوَّةِ في جُيوشِ عَصْرِنا .

3- قَولُ الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ يدلُّ على جَوازِ وَقفِ الخَيلِ والسِّلاحِ، واتِّخاذِ الخَزائِنِ والخُزَّانِ لها؛ عُدَّةً للأعداءِ .

4- قَولُ الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ أصلٌ في المُناضَلةِ ، والمُسابقةِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ التَّقييدُ لإعدادِ المُستَطاعِ مِن القُوَّةِ، وِمن رباطِ الخَيلِ، بقَصدِ إرهابِ الأعداءِ المُجاهرينَ، والأعداءِ المُستَخْفينَ وغيرِ المَعروفينَ؛ دليلٌ على تفضيلِ جَعلِه سببًا لِمَنعِ الحَربِ، على جَعلِه سببًا لإيقادِ نارِها، فهو يقولُ: استَعِدُّوا لها لِيَرهَبَكم الأعداءُ؛ عسى أن يمتَنِعوا عن الإقدامِ على قتالِكم، وهذا عينُ ما يُسمَّى في عُرفِ دُوَلِ هذه الأيَّامِ بـ السَّلام المُسَلَّح، بناءً على أنَّ الضَّعفَ يُغرِي الأقوياءَ بالتَّعدِّي على الضُّعَفاءِ .

6- قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ فيه دليلٌ على أنَّ التحَرُّزَ، وأعمالَ الواسِطاتِ غيرُ مُؤثِّرةٍ في توكُّلِ المُؤمِنينَ، ألَا ترى أنَّه جلَّ جَلالُه قد قال في هذه السُّورةِ بِعَينِها: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وقال تعالى: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ، ثم أمَرَ بإعدادِ القُوَّةِ؛ لإرهابِ العَدُوِّ .

7- قال الله تعالى: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ الكُفَّارُ إذا عَلِموا كَونَ المُسلمينَ مُتأهِّبينَ للجِهادِ، ومُستعِدِّينَ له مُستكمِلينَ لِجَميعِ الأسلحةِ والآلاتِ؛ خافُوهم، وذلك الخَوفُ يُفيدُ أمورًا كثيرةً:

أوَّلُها: أنَّهم لا يَقصِدونَ دُخولَ دارِ الإسلامِ.

ثانيها: أنَّه إذا اشتَدَّ خَوفُهم فربَّما التَزَموا مِن عند أنفُسِهم جزيةً.

ثالثها: أنَّه ربما صار ذلك داعيًا لهم إلى الإيمانِ.

رابعُها: أنَّهم لا يُعينونَ سائِرَ الكُفَّارِ .

8- في قَولِه تعالى: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ بَعدَ قَولِه سُبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ إرشادٌ إلى إنفاقِ المالِ في سَبيلِ اللهِ لإعدادِ ما ذُكِرَ؛ إذ لا يتِمُّ بدونِ المالِ شَيءٌ منه .

9- دلَّ قولُه تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا على تَفضيلِ السَّلْمِ على الحَربِ- إذا جنَحَ العَدُوُّ لها- إيثارًا لها على الحَربِ التي لا تُقصَدُ لِذاتِها، بل هي ضَرورةٌ مِن ضَروراتِ الاجتماعِ تُقَدَّرُ بِقَدَرِها .

10- قال اللهُ تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي: أجِبْهم إلى ما طَلَبوا متوكِّلًا على ربِّك؛ فإنَّ في ذلك فوائِدَ كثيرةً:

منها: أنَّ طلَبَ العافيةِ مَطلوبٌ كُلَّ وَقتٍ، فإذا كانوا هم المُبتدِئينَ في ذلك، كان أَوْلى لإجابَتِهم.

ومنها: أنَّ في ذلك إجمامًا لِقُوى المؤمنينَ، واستعدادًا منهم لقتالِهم في وقتٍ آخَرَ، إن احتِيجَ لذلك.

ومنها: أنَّهم إذا اصطلَحُوا، وأمِنَ بعضُهم بعضًا، وتمكَّنَ كلٌّ مِن معرفةِ ما عليه الآخَرُ؛ فإنَّ الإسلامَ يعلو ولا يُعلَى عليه، فكلُّ مَن له عقلٌ وبصيرةٌ إذا كان معه إنصافٌ، فلا بدَّ أن يُؤثِرَه على غيرِه من الأديانِ؛ لِحُسنِه في أوامِرِه ونواهيه، وحُسنِه في معامَلتِه للخَلقِ والعَدلِ فيهم، وأنَّه لا جَورَ فيه، ولا ظُلمَ بوجهٍ، فحينئذٍ يكثُرُ الرَّاغبونَ فيه، والمُتَّبِعونَ له، فصار هذا السَّلْمُ عونًا للمُسلمينَ على الكافرينَ، ولا يُخافُ مِن السَّلمِ إلَّا خَصلةٌ واحدةٌ، وهي أن يكونَ الكُفَّارُ قَصدُهم بذلك خَدْعُ المُسلمينَ، وانتهازُ الفُرصةِ فيهم، فأخبَرَهم اللهُ أنَّه حَسبُهم وكافيهم خِداعَهم، وأنَّ ذلك يعودُ عليهم ضَرَرُه .

11- في قَولِه تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ بُرهانٌ على أنَّ الإسلامَ دينُ السَّلامِ- لكِنْ عن قُدرةٍ وعِزَّةٍ، لا عن ضَعفٍ وذِلَّةٍ- لأنَّه لَمَّا كان جنوحُ العَدُوِّ للسَّلمِ قد يكون خديعةً لنا لنكُفَّ عن القتالِ- رَيثَما يستعِدُّون هُم له، أو لغيرِ ذلك من ضروبِ الخِداعِ- وكان من المصلحةِ في هذه الحالِ ألَّا نَقبَلَ الصُّلحَ منهم ما لم نستَفِدْ كلَّ ما يُمَكِّنُنا منه تَفوُّقُنا عليهم- لم يَعُدَّ الشَّارعُ احتمالَ ذلك مانعًا من ترجيحِ السَّلمِ .

12- قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ إن قيل: لَمَّا قال: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ فأيُّ حاجةٍ مع نَصرِه إلى المؤمنينَ حتى قال: وَبِالْمُؤْمِنِينَ؟! قلنا: التأييدُ ليس إلَّا مِن اللهِ، لكنَّه على قِسمينِ: أحدهما: ما يحصُلُ مِن غَيرِ واسطةِ أسبابٍ مَعلومةٍ مُعتادةٍ. والثاني: ما يحصُلُ بواسطةِ أسبابٍ معلومةٍ مُعتادةٍ. فالأوَّلُ: هو المرادُ مِن قَولِه: أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ والثَّاني: هو المرادُ من قَولِه: وَبِالْمُؤْمِنِينَ .

13- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ يدلُّ على أنَّ أحوالَ القُلوبِ؛ مِن العقائِدِ والإراداتِ والكَراهاتِ، كُلُّها مِن خَلْقِ اللهِ تعالى .

14- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ فيه ثناءٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ على صحابةِ رَسولِه، تُفَنِّدُ مطاعِنَ الرَّافضةِ الضَّالةِ الخاسِرةِ فيهم .

15- قَولُ الله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ حرفُ الاستعلاءِ في هذا مُعلِمٌ بأنَّه يفعَلُ مع المُتوكِّلِ فِعلَ الحامِلِ لِما وُكِلَ إليه، المُطيقِ لِحَملِه .

16- قال الله تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ أعلَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ تأليفَ قُلوبِ المُؤمنينَ، مِن الآياتِ العِظامِ؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بُعِثَ إلى قومٍ أنَفَتُهم شديدةٌ، ونُصرةُ بَعضِهم بعضًا ومعاونَتُه، أبلغُ نُصرةٍ ومُعاونةٍ؛ كان يُلطَمُ مِن القبيلةِ لَطمةً، فيُقاتَلُ عنه حتى يُدرَكَ ثأرُه، فألَّفَ الإيمانُ بين قُلوبِهم، حتى قاتَلَ الرَّجُلُ أباه وأخاه وابنَه، فأعلَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ هذا ما تولَّاه منهم إلَّا هو سُبحانَه .

17- في قوله تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ حجةٌ على قَبُولِ الإجماعِ، ولزومِه لزومَ نصِّ القرآنِ؛ إذ مُحالٌ أنْ تتفقَ الألْسُنُ على شيءٍ إلَّا وقد ائتلفتْ قلوبُ الناطقين به- لأنَّ الألْسِنَةَ مترجِمةٌ عن الضمائرِ ما حَوَتْها- وقد أخبر اللهُ تعالى أنه مُؤَلِّفُها

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ

- عطفُ جملةِ وَأَعِدُّوا... على جملةِ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ أو على جملةِ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا تُفيدُ مَفادَ الاحتراسِ عن مُفادِها، لأنَّ قولَه: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا يفيدُ توهينًا لشأنِ المشركينَ، فتعقيبُه بالأمرِ بالاستعدادِ لهم؛ لئلا يحسبَ المسلمونَ أنَّ المشركينَ قد صاروا في مُكنتِهم، ويلزمُ مِن ذلك الاحتراسِ أنَّ الاستعدادَ لهم هو سببُ جعلِ الله إيَّاهم لا يُعجزونَ الله ورسولَه؛ لأنَّ الله هيَّأ أسبابَ استئصالِهم ظاهرَها وباطنَها

.

- وقوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ، قولُه: مِنْ قُوَّةٍ يعمُّ كُلَّ مَا يُتقوَّى بِهِ عَلَى حَرْبِ الْعَدُوِّ ، وعَطْفُ رِبَاطِ الْخَيْلِ على القُوَّةِ، وهو مِن عَطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ للاهتمامِ بذلك الخَاصِّ ، والتنصيصِ على فضله؛ إذ إنَّ رباطَ الخيلِ هي أصلُ الحُروبِ، والخيرُ معقودٌ بنواصيها، وهي مراكبُ الفرسانِ الشُّجعانِ .

- والرِّباطُ صِيغةُ مُفاعَلة؛ أُتي بها هنا للمُبالغةِ؛ لتدلَّ على قَصْد الكثرة مِن رَبْط الخيل للغزوِ، أي: احتباسِها ورَبْطِها؛ انتظارًا للغزوِ عليها .

- وقولُه: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ مُستأنَفٌ استئنافًا بيانيًّا ناشئًا عن تَخصيصِ الرِّباطِ بالذِّكرِ بعدَ ذِكر ما يَعمُّه- وهو القوَّةُ- أو في مَوضِعِ الحالِ من ضَميرِ وَأَعِدُّوا .

- وفيه ذِكْرُ عَدُوَّ اللَّهِ أولًا؛ تَعظيمًا لِمَا هم عليه من الكُفْر، وتقويةً لذَمِّهم، وأنَّه يجِبُ لأجْلِ عَداوتِهم للهِ أنْ يُقاتَلوا ويُبغضَوا، ثم قال: وَعَدُوَّكُمْ على سَبيلِ التَّحريضِ على قِتالِهم؛ إذ في الطَّبْعِ أن يُعادِيَ الإنسانُ مَن عاداه، وأنْ يُريدَ له الغوائِلَ .

- وفي قولِه: اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ تَعريضٌ بالتَّهديدِ لهؤلاء الآخَرين- فالخبرُ هنا مُستعمَلٌ في معناه الكِنائيِّ، وهو تَعقُّبُهم والإغراءُ بهم- وتَعريضٌ بالامتنانِ على المسلِمينَ بأنَّهم بمَحلِّ عِنايةِ اللهِ؛ فهو يُحصي أعداءَهم، ويُنبِّهُهم إليهم .

- قوله: اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ أيضًا فيه تقديمُ المسنَدِ إليه اللَّهُ على الخبرِ الفِعليِّ يَعْلَمُهُمْ- حيثُ لم يَقُل: (يَعْلَمُهُمُ اللَّهُ)-؛ للتقوِّي، أي: لتَحقيقِ الخَبَر وتأكيدِه، والمقصودُ تأكيدُ لازم معناه، أمَّا أصل المعنى فلا يحتاج إلى التأكيد؛ إذ لا يُنكِرُه أحدٌ .

2- قَولُه تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

- عبَّرَ عن جُنوحِهم بـ (إِنْ) التي يُعبَّرُ بها عن المَشكوكِ في وُقوعِه، أو ما مِن شأنِه ألَّا يقَعَ؛ للإشارةِ إلى أنَّهم لَيسُوا أهلًا لاختيارِه لِذَاتِه، وأنَّه لا يُؤمَنُ أن يكونَ جُنوحُهم إليه كيدًا وخِداعًا .

- اللَّامُ في قولِه: لِلسَّلْمِ واقعةٌ موقِعَ (إلى)؛ لتقويةِ التَّنبيهِ على أنَّ مَيْلَهم إلى السَّلمِ مَيلُ حقٍّ، أي: وإنْ مالوا لأجْل السَّلمِ، ورغبةً فيه، لا لغرَضٍ آخَرَ غيرِه .

- وإنَّما قال: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ولم يَقُلْ: (وإنْ طَلَبوا السَّلْم فأَجِبْهم إليه)؛ للتَّنبيهِ على أنَّه لا يُسعِفُهم إلى السَّلمِ حتَّى يَعلمَ أنَّ حالَهم حالُ الرَّاغبِ؛ لأنَّهم قد يُظهِرون المَيلَ إلى السَّلمِ كيدًا .

- قولُه: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِيغةُ قَصْرٍ، وطَريقُ القَصرِ فيه أفادَ قَصْرَ معنى الكَمالِ في السَّمعِ والعِلمِ، أي: فهو سميعٌ منهم ما لا تَسمعُ، ويَعلمُ ما لا تَعلمُ، وقصرُ هذَينِ الوَصفينِ بهذا المعنى على اللهِ تعالى عَقِبَ الأمرِ بالتوكُّلِ عليه، يُفضي إلى الأمرِ بقَصرِ التوكُّلِ عليه، لا على غيرِه .

3- قَولُه تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ

- قوله: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أُريد منه الكِنايةُ عن عَدمِ مُعاملتِهم بهذا الاحتِمالِ، وألَّا يَتوجَّسَ مِن هذا الاحتِمالِ خِيفةً، وأنَّ ذلك لا يَضرُّه، وتَأكيدُ الخبر بـ(إنَّ) مُراعًى فيه تأكيدُ معناه الكِنائيِّ؛ لأنَّ معناه الصَّريحَ ممَّا لا يَشكُّ فيه أحدٌ .

- قولُه: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ مُستأنفٌ مَسوقٌ مساقَ الاستدلالِ على أنَّه حَسْبُه، وعلى المعنى التعريضيِّ، وهو عدمُ التحرُّجِ من احتمالِ قَصدِهم الخيانةَ، والتوجُّسِ مِن ذلك الاحتِمالِ خِيفةً، أي: فإنَّ اللهَ قد نَصرَك مِن قبلُ، وأنت أضعفُ مِنكَ اليومَ، فنَصَرَك على العَدوِّ وهو مُجاهِرٌ بعُدوانِه؛ فنَصْرُه إيَّاكَ عليهم مع مُخاتلتِهم، ومع كَونِك في قُوَّةٍ من المؤمنِينَ الذين معَكَ، أَوْلَى وأقربُ .

- وقولُه: بِنَصْرِهِ في إضافةِ النَّصرِ إلى اللهِ تَنبيهٌ على أنَّه نصْرٌ خارقٌ للعادةِ .

4- قَولُه تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

- قولُه: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ استِئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّه ناشئٌ عن مَساقِ الامتِنانِ بهذا الائتلافِ، أي: لو حاولتَ تأليفَهم ببذلِ المالِ العَظيمِ، ما حَصَل التآلُفُ بينهم، وهو مُقرِّرٌ لِمَا قَبْله، ومُبيِّنٌ لعزَّة المَطْلَب، وصعوبةِ المأخَذِ، أي: تَناهي التَّعادِي فيما بينَهم .

- وقولُه: مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فيه مبالغةٌ حَسَنةٌ؛ لوقوعِها مع حَرْفِ (لو) الدَّالِّ على عدمِ الوقوعِ .

- والتَّأكيدُ بـ(إنَّ) في قولِه: إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لمجرَّدِ الاهتمامِ بالخَبَر، باعتبارِ جعْلِه دليلًا على بديعِ صُنْعِ الله تعالى .

- ومَوقِعُ الاستدراكِ في قَولِه: وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ لأجلِ ما يُتوَهَّمُ مِن تعذُّرِ التَّأليفِ بينهم، في قَولِه: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أي: ولكِنَّ تَكوينَ اللهِ يَلينُ به الصُّلبُ، ويحصُلُ به المتعَذِّرُ .

- ولَمَّا كان هذا التَّكوينُ صُنعًا عَجيبًا، ذيَّلَ اللهُ الخبَرَ عنه بِقَولِه: إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي: قَوِيُّ القُدرةِ، فلا يُعجِزُه شَيءٌ، مُحكِمُ التَّكوينِ، فهو يُكَوِّنُ المُتَعذِّر، ويجعَلُه كالأمرِ المَسنونِ المألوفِ .

- وقيل: بل خَتَم اللهُ تعالى هذه الآيةَ بِقَولِه: إِنَّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ؛ لأنَّه تعليلٌ لِكفايةِ اللهِ لِرَسولِه شَرَّ خِداعِ الأعداءِ، وتأييدِه بِنَصرِه وبالمؤمنينَ، لا للتَّأليفِ بين المؤمنينَ وَحدَه؛ إذْ لو كان تعليلًا للتَّأليفِ بين المؤمنينَ وَحدَه، لكانَ الأنسَبُ أن يُعَلَّلَ بِقَولِه: إِنَّهُ رَؤوفٌ رحيمٌ، على أنَّ هذا التَّأليفَ في هذا المقامِ، ما كان إلَّا بِعزَّةِ اللهِ وحِكمَتِه في إقامةِ هذا الدِّينِ .

==============

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (64-66)

ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات:

 

حَرِّضِ: أي: حُضَّ، وحُثَّ، والتَّحريضُ: الحثُّ على الشَّيءِ، وتَسهيلُ الخَطبِ فيه؛ كأنَّه في الأصلِ إزالةُ الحَرَضِ: وهو ما لا يُعتَدُّ به، ولا خيرَ فيه

.

يَفْقَهُونَ: أي: يَفْهَمونَ حَقَّ الفَهْمِ، والفِقهُ: هو التوصُّلُ إلى عِلمٍ غائبٍ بعِلمٍ شاهِدٍ. وأصلُ (فقه) يدلُّ على إدراكِ الشَّيءِ، والعِلمِ به

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: حَسْبُكَ اللَّهُ مُبتدأٌ وخَبَرٌ. وَمَنِ اسمٌ موصولٌ، وفي إعرابِه أوجهٌ؛ أحدها: أن يكونَ في محلِّ جرٍّ، عطفًا على الكافِ في حَسْبُكَ مِن العَطفِ على الضَّميرِ المَجرورِ، دونَ إعادةِ الجارِّ، وهو جائزٌ. أي: اللهُ وَحدَه كافيك، وكافي أتباعِك. الثاني: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ، عطفًا على محلِّ الكافِ؛ لأنَّ الكافَ مخفوضٌ في محلِّ نَصبٍ؛ فإنَّ (حَسْبَكَ) في معنى «كافِيك»، أي: اللهُ يكفيكَ، ويكفي مَنِ اتَّبعَك. والثالث: أن يكونَ في محلِّ رفْعٍ، مبتدأً، والخبَرُ محذوفٌ، أي: ومَن اتَّبعَك من المؤمنينَ فحسبُهُم اللهُ أيضًا، فيكونُ مِن بابِ عَطفِ الجُمَلِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: يا أيُّها النبيُّ، اللهُ- وَحْدَه- هو كافيك وكافي أتباعِك مِن المُؤمِنينَ.

يا أيُّها النبيُّ، حُثَّ المؤمنينَ على القِتالِ حثًّا شديدًا، فلْيَصبِروا عند لِقاءِ العَدُوِّ، ولْيَثبُتوا في قِتالِهم، فإنَّهم إن يوجدْ منهم عشرونَ رجلًا صابرونَ، يغلِبُوا مِئتينِ مِن الكافرينَ، وإن يُوجدْ منهم مئةٌ يغلِبوا ألفًا منهم، وذلك بسببِ أنَّ هؤلاء الكافرينَ قومٌ جهلةٌ بثوابِ الله، وما أعدَّ للمجاهدينَ في سبيلِه.

ثمَّ نسخ الله ذلك الحُكمَ الذي تقدَّمَ؛ تخفيفًا منه سبحانه، فقال: الآن خفَّفَ اللهُ عنكم- أيُّها المؤمنونَ- وعَلِمَ أنَّ فيكم مَن يَضعُفُ بَدنُه عن قتالِ عَشرةٍ مِن الكفَّارِ، فأوجَب عليكم أن يثبتَ الواحدُ منكم أمامَ اثنينِ مِن أعدائِكم بدلًا مِن عشرةٍ، معَ البشارةِ بأنَّه إن يكُن مِنكم مِئةٌ صابرةٌ، يَغلِبوا مِئتينِ، وإن يكُن منكم ألفٌ يَغلِبوا ألفينِ، بمَعونةِ الله لهم، واللهُ مع الصَّابرينَ.

تفسير الآيات:

 

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وعَدَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّصرِ عند مُخادَعةِ الأعداءِ؛ وَعَدَه بالنَّصرِ والظَّفَرِ في هذه الآيةِ مُطلقًا

.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64).

أي: يا أيُّها النبيُّ، اللهُ- وَحدَه- هو كافيك، وكافي مَنِ اتَّبَعَك مِن المؤمنينَ، ما يُهِمُّكم من أمورِ الدِّينِ والدُّنيا والآخرةِ، ومن ذلك تأييدُكم ونَصرُكم على أعدائِكم، وإن كَثُروا، وقَلَّ عَدَدُكم .

كما قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] .

وقال سُبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((حَسْبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيلُ، قالها إبراهيمُ عليه السَّلامُ حين ألقِيَ في النَّارِ، وقالها محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173] )) .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وعَدَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالكفايةِ والنَّصرِ، وكان ذلك مشروطًا بالاجتهادِ بحسبِ الطاقةِ، وبذلِ النَّفسِ والمالِ في المُجاهدةِ؛ أمرَه بأن يأمرَهم بالجدِّ في القتالِ، وعدمِ الهيبةِ للأبطالِ، في حالٍ مِن الأحوالِ، فليس عليه إلا أن يُحَرِّضَ المؤمنينَ على القتالِ؛ فإنه تعالى إنَّما يكفيه .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ.

أي: يا أيُّها النبيُّ، حُثَّ أتباعَك المؤمنينَ حثًّا شديدًا على قتالِ الأعداءِ؛ ففي قتالِهم خَيرٌ في الدُّنيا والآخرةِ .

كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216] .

وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((انطلَقَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه حتى سبَقُوا المُشرِكينَ إلى بدرٍ، وجاء المُشرِكونَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُوموا إلى جنَّةٍ عَرْضُها السَّمَواتُ والأرضُ، يقولُ عُميرُ بنُ الحُمَامِ الأنصاريُّ: يا رسولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُها السَّمواتُ والأرضُ؟! قال: نعم، قال: بَخٍ بَخٍ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما يَحمِلُك على قَولِك: بَخٍ بَخٍ؟! قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، إلَّا رَجاءةَ أن أكونَ مِن أهْلِها، قال: فإنِّك مِن أهْلِها، فأخرَجَ تَمَراتٍ مِن قَرَنِه ، فجعَلَ يأكُلُ مِنهنَّ، ثم قال: لَئِنْ أنا حَيِيتُ حتى آكُلَ تَمَراتي هذه، إنَّها لحياةٌ طَويلةٌ. قال: فرمى بما كان معه مِن التَّمرِ، ثم قاتَلَهم حتى قُتِلَ )) .

إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ.

النَّاسِخُ والمَنسوخُ:

هذه الآيةُ مَنسوخةٌ، وناسِخُها الآيةُ التي بَعدَها، وهي قَولُه تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ .

عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (لَمَّا نزَلَت: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شقَّ ذلك على المُسلمين، حين فُرِضَ عليهم ألَّا يفِرَّ واحدٌ مِن عَشرةٍ، فجاء التَّخفيفُ فقال: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فلمَّا خفَّفَ اللهُ عنهم من العِدَّةِ، نقَصَ مِن الصَّبرِ بِقَدرِ ما خَفَّف عنهم) .

إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ.

أي: إن يكُنْ منكم- أيُّها المؤمنونَ- عِشرونَ رَجُلًا، صابرونَ عندَ لِقاءِ العَدُوِّ، محتسِبونَ، ثابِتونَ، يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ من عدوِّهم ويقهرُوهم، وإن يكُن منكم- أيُّها المؤمنونَ- مِئةٌ صابرةٌ محتسبةٌ ثابتةٌ يغلبوا ألفًا مِن الكافرينَ .

بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ.

أي: يَغلِبُ المؤمنونَ الصَّابرونَ الكافرينَ الأكثَرَ منهم عددًا؛ بسَبَبِ أنَّ الكافرينَ قَومٌ لا يفهمونَ عن الله شيئًا، ولا فقهَ عندَهم، ولا يرجونَ ثوابَ الله في قتالِهم، فلا علمَ عندهم بما أعدَّ الله للمجاهدينَ في سبيلِه؛ لذا لا يَثبُتون في القتالِ خَشيةَ أن يُقتَلوا .

الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66).

الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا.

أي: الآنَ خفَّفَ اللهُ عنكم- أيُّها المؤمنونَ- ما أوجَبَه عليكم مِن مُصابَرةِ العِشرينَ المِئَتينِ، ومُصابرةِ المِئةِ الألفَ، وقد عَلِمَ اللهُ من قبلُ أنَّ فيكم مَن يَضعُفُ بَدَنُه عن قتالِ عَشرةٍ مِن الكافرينَ .

فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ.

أي: فإنْ يكُن منكم- أيُّها المؤمنونَ- مِئةٌ، صابرةٌ، ثابتةٌ عندَ القتالِ، يغلبوا مِئَتين من الكافرينَ، وإن يكُنْ منكم ألفٌ صابرونَ كذلك، يغلِبوا ألفينِ مِن الكافرينَ بمعونةِ الله تعالى لهم .

وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.

أي: واللهُ يُؤيِّدُ الصَّابرينَ، وينصُرُهم ويُعينُهم ويُوفِّقُهم

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هذا وعدٌ مِن الله لعبادِه المؤمنينَ المتَّبِعينَ لِرَسولِه، بالكفايةِ والنُّصرةِ على الأعداءِ، فإذا أتَوْا بالسَّبَبِ الذي هو الإيمانُ والاتِّباعُ، فلا بدَّ أن يكفِيَهم ما أهمَّهم من أمورِ الدِّينِ والدُّنيا، وإنَّما تتخلَّفُ الكفايةُ بتخَلُّفِ شَرْطِها

.

2- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ يدُلُّ على أنَّ مِن شأنِ المُؤمنينَ أن يكونوا أعلَمَ مِن الكافرينَ، وأفقَهَ بكُلِّ عِلمٍ وفَنٍّ يتعلَّقُ بحياةِ البَشَرِ، وارتقاءِ الأُمَم .

3- قَولُ الله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ... وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فيه الحثُّ على الصَّبرِ .

4- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فيه تحذيرٌ لِلمُؤمنينَ مِن الغُرورِ بِدينِهم؛ لِئلَّا يَظُنُّوا أنَّ الإيمانَ وَحدَه يقتضي النَّصرَ والغَلَبَ، وإن لم يَقتَرِنْ بصفاتِه اللَّازمةِ لِكَمالِه، ومن أعظَمِها الصَّبرُ والفِقه .

5- قَولُ اللهِ تعالى: واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ولم يَقلُ: (معكم)؛ ليُفيدَ أنَّ مَعونَته إنَّما تُمِدُّهم إذا صار الصَّبرُ وصفًا لازمًا لهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ليس هذا تكريرًا لِما قَبلَه؛ فإنَّ الأوَّلَ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ مُقيَّدٌ بإرادةِ الخَدْعِ، فهذه كفايةٌ خاصَّةٌ، وفي قَولِه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ كفايةٌ عامَّةٌ غيرُ مُقيَّدةٍ، أي: حسْبُك اللهُ في كلِّ حالٍ

.

2- قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ صَابِرُونَ أي: عُرِفوا بالصَّبرِ، والمَقدِرةِ عليه، وذلك باستيفاءِ ما يقتَضيه مِن أحوالِ الجَسدِ، وأحوالِ النَّفسِ، وفيه إيماءٌ إلى توخِّي انتقاءِ الجَيشِ، فيكونُ قيدًا للتَّحريضِ، أي: حَرِّضِ المؤمنينَ الصَّابرينَ الذين لا يَتَزلزَلونَ، فالمقصودُ ألَّا يكونَ فيهم مَن هو ضَعيفُ النَّفسِ، فيفشَلَ الجَيشُ .

3- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ إلى قوله سبحانه: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ تهوينٌ لِشأنِ الكُفَّارِ في القتالِ- الذي هو مُقتضى تلك الصِّفاتِ والأحوالِ- بِجَعلِ المؤمنينَ المُستَكمِلي صِفاتِ الإيمانِ يَغلِبونَ ضِعفَيهم إلى عَشرةِ أضعافِهم مِن الكُفَّارِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ذُكِرَ في جانِبِ جَيشِ المُسلمينَ في المرَّتَينِ عددُ العِشرينَ وعَددُ المِئة، وفي جانبِ جيشِ المُشركينَ عَددُ المِئَتين وعددُ الألفِ؛ إيماءً إلى قِلَّةِ جيشِ المُسلمينَ في ذاتِه، مع الإيماءِ إلى أنَّ ثَباتَهم لا يختَلِفُ باختلافِ حالةِ عَددِهم في أنفُسِهم؛ فإنَّ العادةَ أنَّ زيادةَ عددِ الجَيشِ تقَوِّي نفوسَ أهلِه، ولو مع كونِ نِسبةِ عَددِهم من عددِ عَدُوِّهم غيرَ مُختلفةٍ، فجعَلَ اللهُ الإيمانَ قُوَّةً لنفوسِ المُسلمينَ، تَدفَعُ عنهم وَهَنَ استشعارِ قِلَّةِ عَددِ جَيشِهم في ذاتِه .

5- قَولُ الله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اختيارُ لَفظِ العِشرينَ للتَّعبيرِ عن مرتبةِ العَشَراتِ دونَ لَفظِ العشرةِ. قيل إنَّ وَجهَه: أنَّ لَفظَ العِشرينَ أسعَدُ بتقابُلِ السَّكَناتِ في أواخِرِ الكَلِم؛ لأنَّ لِلَفْظةِ مِئَتينِ من المناسَبةِ بِسَكَناتِ كَلِماتِ الفَواصِلِ من السورة؛ ولذلك ذَكَرَ المئةَ مع الألْفِ؛ لأنَّ بَعْدَها ذِكرَ مُمَيِّزِ العَددِ بألفاظٍ تُناسِبُ سكَناتِ الفاصلةِ، وهو قَولُه: لَا يَفْقَهُونَ، فتعَيَّنَ هذا اللَّفظُ؛ قَضاءً لحقِّ الفَصاحةِ . وقيل فيه وجهٌ آخر: أنَّه ابتُدئَ في العشراتِ بثاني عُقودِها، وفي المئاتِ والآلاف بأوَّلِها؛ لأنَّ الأصلَ الابتداءُ بأوَّلِ العُقودِ، لكِنْ لو قيلَ: (إنْ يكنْ منكم عَشرةٌ صابرةٌ يغلبوا مئةً) لربَّما تُوُهِّمَ أنَّه لا تجبُ مصابرةُ الواحِدِ للعَشرةِ إلَّا عند بلوغِ المؤمنينَ هذا العَقدَ، فعَدَلَ إلى الابتداءِ بثاني عقودِ هذه المرتبةِ؛ لينتفِيَ هذا المحذورُ، فلمَّا انتفَى، وعُلِمَ أنَّه يجِبُ مُصابرةُ كُلِّ واحدٍ لِعَشرةٍ، ذَكَرَ باقيَ المراتِبِ في الباقي، على الأصلِ المُعتادِ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ فيه أنَّ الكُفرَ سَببٌ في انتفاءِ الفَقاهةِ؛ فالكُفرُ مِن شَأنِه إنكارُ ما ليس بمَحسوسٍ، فصاحِبُه ينشأُ على إهمالِ النَّظَرِ، وعلى تعطيلِ حَركاتِ فِكرِه، فهم لا يُؤمِنونَ إلَّا بالأسبابِ الظَّاهريَّةِ، فيحسَبونَ أنَّ كَثرَتَهم تُوجِبُ لهم النَّصرَ على الأقلِّينَ؛ ولأنَّهم لا يُؤمِنونَ بما بعد الموتِ مِن نعيمٍ وعذابٍ، فهم يَخشَونَ الموتَ، فإذا قاتلوا ما يُقاتِلونَ إلَّا في الحالةِ التي يكونُ نَصرُهم فيها أرجَحَ، والمؤمنونَ يُعوِّلونَ على نصرِ الله، ويَثْبُتونَ للعدُوِّ رجاءَ إعلاءِ كَلمةِ الله، ولا يَهابُونَ الموتَ في سبيلِ الله؛ لأنَّهم مُوقِنونَ بالحياةِ الأبَديَّةِ المُسِرَّةِ بعد الموتِ .

7- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ نصَّ تعالى على سبَبِ الغَلَبةِ، بأنَّ الكُفَّار قومٌ لا يَفقهونَ، والمعنى أنَّهم قومٌ جَهَلةٌ؛ يُقاتِلونَ على غيرِ احتسابٍ، وطلبِ ثوابٍ، كالبهائمِ، فتُفَلُّ نِيَّاتُهم، ويَعدَمونَ لِجَهلِهم باللهِ نُصرتَه، فهو تعالى يخذُلُهم، وذلك بخلافِ مَن يُقاتِلُ على بصيرةٍ، وهو موعودٌ مِن اللهِ بالنَّصرِ والغَلَبةِ .

8- قوله: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ فيه سِرٌّ لطيفٌ عَظيمٌ، وتعليمٌ سماويٌّ هائلٌ، يَفهَمُ به المسلمونَ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ من الأساسيَّاتِ للاستعدادِ للمَيدانِ هو الفِقْهُ والفَهْمُ عن الله، فيَجِبُ كُلَّ الوجُوبِ أن يُعلَّمَ العَسْكَريُّونَ عَنِ اللهِ حَتَّى يَفْقَهُوا؛ لأنهم إذا كانوا فَاهِمِين عَنِ الله، عارفين بِنُبْلِ المَبْدَأ الذي يُقاتِلونَ عليه؛ كانوا شُجَعانًا وصابِرينَ، لا يَرجِعونَ القَهقَرَى، ولا يُهزَمونَ، كما سَجَّلَهُ التاريخُ لأوائِلِ هذه الأمَّةِ. وإن كانوا لا يَفقَهونَ عن الله شيئًا، جَهَلةً كالأنعامِ، لا مبدأَ لهم يُقاتِلونَ عليه، فهم ليسُوا بأساسٍ، ولا مُعَوَّلَ عليهم، يُهزَمونَ مع كلِّ ناعقٍ، كما بيَّنَتْه هذه الآيةُ العظيمةُ الكريمةُ مِن سورةِ الأنفالِ .

9- قَولُ الله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وقَولُه: وَعِلَمَ أَنَّ فيِكُمْ ضَعْفًا دَلالةٌ على أنَّ ثَباتَ الواحدِ مِن المُسلمينَ للعَشرةِ مِن المشركينَ، كان وجوبًا وعزيمةً، وليس نَدبًا، خلافًا لِما نُقِلَ عن بعضِ العُلَماءِ؛ لأنَّ المندوبَ لا يَثقُلُ على المكَلَّفينَ، ولأنَّ إبطالَ مشروعيَّةِ المندوبِ لا يُسمَّى تَخفيفًا، ثمَّ إذا أُبطِلَ النَّدبُ لَزِمَ أن يصيرَ ثَباتُ الواحِدِ للعَشرةِ مُباحًا، مع أنَّه تعريضُ الأنفُسِ للتَّهلُكةِ .

10- قَولُ الله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فيه وجوبُ مُصابَرةِ الضِّعفِ مِن العَدُوِّ، وتحريمُ الفِرارِ، ما لم يَزِدْ عدَدُ الكُفَّارِ مِثلَيْنا .

11- قَولُ الله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فيه الرَّدُّ على مَن اعتبَرَ الكَثرةَ في السِّلاحِ والقُوَّةِ، دونَ العَددِ .

12- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فيه الرَّدُّ على مَن منعَ نَسخَ الأثقَلِ بالأخَفِّ .

13- قَولُ الله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَصفُ المئةِ في آيةِ التَّخفيفِ بالصَّابرةِ؛ لأنَّ الصَّبرَ شَرطٌ لا بُدَّ منه في كُلِّ حالٍ وكلِّ عددٍ، مع عَدمِ وَصفِ المئةِ في الأولى؛ لِئلَّا يُتوَهَّمَ أنَّه شَرطٌ في العددِ القَليلِ كالعِشرينَ، دونَ الكثيرِ كالمِئةِ والألفِ، ولم يَذكُرْه في الألْفِ استغناءً بما قَبلَه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ فيه تَصديرُ الجُملةِ بحَرْفي النِّداءِ والتَّنبيهِ يَا أَيُّهَا؛ للتَّنبيهِ على مَزيدِ الاعتِناءِ بمَضمونِها، وإيرادُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعُنوانِ النبوَّةِ؛ للإشعارِ بعِلِّيَّتها للحُكم

.

2- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ

- قولُه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ فيه تَكريرُ الخِطابِ على الوَجهِ المذكورِ؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتناءِ بشَأنِ المأمورِ به .

- وجملةُ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ مُستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ ولذلك فُصِلتْ، ولم تُعطَفْ على التي قَبْلها ، وفيها وَعْدٌ كريمٌ منه تعالى بتَغليبِ كلِّ جماعةٍ من المؤمنِينَ على عَشرةِ أَمْثالِهم بطريقِ الاستئنافِ بَعدَ الأمرِ بتَحريضِهم .

- قَولُ الله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا هذا أمرٌ في صُورةِ الخَبَرِ، وفي إتيانِه بِلَفظِ الخَبَرِ نكتةٌ بديعةٌ، لا تُوجَدُ فيه إذا كان بِلَفظِ الأمرِ، وهي تقويةُ قُلوبِ المؤمنينَ، والبِشارةُ بأنَّهم سيَغلِبونَ الكافِرينَ .

- قَولُ الله تعالى: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ إجراءُ نَفيِ الفَقاهةِ صِفةً لـ قَوْمٌ دونَ أن يُجعَلَ خبرًا، فيقال: (ذلك بأنَّهم لا يَفقَهونَ)؛ لِقَصدِ إفادةِ أنَّ عدَمَ الفَقاهةِ صِفةٌ ثابتةٌ لهم، ومِن مقوِّماتِ قومِيَّتِهم وخصائِصِها؛ لِئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ نَفيَ الفقاهةِ عنهم في خُصوصِ هذا الشَّأنِ .

3- قَولُه تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ

- قوله: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ فيه ذِكْرُ الصَّبر في أُولَى جُمْلَتي التَّخفيفِ فقط، وحذْفُه من الثَّانيةِ لدَلالةِ السَّابقةِ عليه؛ وذلِك لأنَّ الصبرَ شديدُ المطلوبيَّةِ .

- قَولُ الله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ أُعيدَ وَصفُ مِئةِ المُسلمين بـ صَابِرَةٌ؛ لأنَّ المقامَ يقتضي التَّنويهَ بالاتِّصافِ بالثَّباتِ، ولم تُوصَفْ مِئةُ الكُفَّارِ بالكُفرِ، وبأنَّهم قومٌ لا يفقهونَ؛ لأنَّه قد عُلِمَ، ولا مُقتضِيَ لإعادَتِه .

- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ إِذنُ اللهِ حاصِلٌ في كِلتا الحالَتينِ: المَنسوخةِ والنَّاسِخةِ، وإنَّما صرَّحَ به هنا، دونَ ما سبَقَ؛ لأنَّ غَلَبَ الواحدِ لِلعَشرةِ أظهَرُ في الخَرقِ للعادةِ، فيُعلَمُ بَدءًا أنَّه بإذنِ اللهِ، وأمَّا غلَبُ الواحِدِ الاثنينِ، فقد يُحسَبُ ناشِئًا عن قوَّةِ أجسادِ المُسلِمينَ، فنبَّهَ على أنَّه بِإِذْنِ اللَّهِ؛ لِيُعلَمَ أنَّه مُطَّرِدٌ في سائِرِ الأحوالِ .

- قولُه: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبْله ، والخِتامُ به مُبالغةٌ في شِدَّة المطلوبيَّةِ للصَّبرِ .

- وفي الآيتَينِ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حَيثُ كُرِّر المعنى الواحدُ- وهو مقاومةُ الجماعةِ لأَكْثَر منها- مرَّتينِ؛ قَبلَ التخفيفِ وبَعدَه؛ للدَّلالةِ على أنَّ الحالَ مع القِلَّةِ والكثرةِ واحدةٌ لا تتفاوتُ؛ لأنَّ الحالَ قد تتفاوتُ بين مُقاومةِ العِشرين المِئتين والمِئةِ الألْفَ، وكذلك بين مُقاومةِ المئةِ المئتَينِ والألفِ الألفينِ .

============

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (67-71)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ

غريب الكلمات:

 

يُثْخِنَ: أي: يُبالِغَ فِي قتلِ المُشرِكينَ ويَقهَرَهم، والإثْخانُ في كلِّ شَيءٍ: قُوَّتُه وشِدَّتُه. وأصلُ (ثخن): يدلُّ على رزانةِ الشَّيءِ في ثِقلٍ؛ فإثخانُ القَتلِ: الشِّدَّةُ والمُبالغةُ فيه حتى يُترَكَ القَتيلُ مُثقَلًا، لا حِراكَ به

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ تعالى أنَّه ما كان ينبغي لنبيٍّ أن يتَّخِذَ أسرَى من الكُفَّارِ المُحاربينَ، حتى يبالِغَ في قَتلِهم ويَغلِبَهم، فلا يَقوونَ بعدَ ذلك على قتالِ المؤمنينَ، وخاطبَ المؤمنينَ قائلًا لهم: تريدونَ نَيلَ متاعٍ دُنيويٍّ زائلٍ بأسْرِ الكُفَّارِ المُنهَزمينَ يومَ بَدرٍ؛ لأخْذِ الفِديةِ منهم، واللهُ يريدُ لكم ثوابَ الآخرةِ، واللهُ عَزيزٌ حكيمٌ، لولا قضاءٌ مِن اللهِ سبَقَ، لنالَكم بسبَبِ أخْذِكم الفِداءَ مِن كُفَّارِ قُريشٍ عذابٌ عظيمٌ.

وأمَرَهم أن يأكُلوا ممَّا غَنِمُوا حَلالًا طيِّبًا، وأن يتَّقُوا اللهَ، إنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ.

ثم أمَرَ اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُخاطِبَ مَن أسَرُوهم يومَ بَدرٍ، وأخَذُوا منهم الفديةَ لإطلاقِهم، فيقولَ لهم: إنْ يَعلَمِ اللهُ في قلوبِكم إسلامًا وإيمانًا صحيحًا يُعطِكم مِن خَيرِ الدُّنيا والآخرةِ أفضَلَ ممَّا أخَذَه المُسلمونَ منكم، ويستُرْ ذُنوبَكم ولا يُؤاخِذْكم بها، واللهُ غَفورٌ رحيمٌ.

ثم قال لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّهم إن يُريدُوا خيانَتك فقد خانوا اللهَ مِن قَبلُ، فأقدَرَ المؤمنينَ عليهم فأسَرُوهم، واللهُ عليمٌ حَكيمٌ.

تفسير الآيات:

 

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

ختَمَ اللهُ تعالى سياقَ القِتالِ في هذه السُّورةِ بأحكامٍ تتعَلَّقُ بالأَسرى؛ لأنَّ أُمورَها يُفصَلُ فيها بعد القِتالِ في الغالِبِ

.

سَببُ النُّزولِ:

عن أبي زُمَيْلٍ سِماكٍ الحنفيِّ، قال: حدَّثني عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ قال: حدَّثني عُمَرُ بنُ الخطَّابِ قال: ((لَمَّا كان يومُ بَدرٍ نظر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المُشركينَ وهم ألفٌ، وأصحابُه ثلاثُمئةٍ وتِسعةَ عَشرَ رَجلًا، فاستقبلَ نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القِبلةَ، ثمَّ مدَّ يَدَيه، فجعَلَ يهتِفُ بِرَبِّه: اللهُمَّ أنجِزْ لي ما وعَدْتَني، اللهُمَّ آتِ ما وعَدْتَني، اللهمَّ إن تَهْلِكْ هذه العِصابةُ مِن أهلِ الإسلامِ، لا تُعبَدْ في الأرضِ، فما زالَ يهتِفُ برَبِّه، مادًّا يَدَيه مُستقبِلَ القِبلةِ، حتى سقَطَ رِداؤُه عن مَنكِبَيه، فأتاه أبو بكرٍ، فأخذَ رداءَه، فألقاه على مَنكِبَيه، ثم التَزَمه مِن ورائِه، وقال: يا نبيَّ الله، كفاك مُناشَدتُك ربَّك؛ فإنَّه سيُنجِزُ لك ما وعَدَك! فأنزل الله عزَّ وجَلَّ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9] فأمدَّه اللهُ بالملائكةِ، قال أبو زُمَيلٍ: فحدَّثني ابنُ عبَّاسٍ قال: بينما رجلٌ مِن المُسلمين يومَئذٍ يَشتَدُّ في أَثَرِ رجُلٍ مِن المُشركينَ أمامَه، إذ سَمِعَ ضَربةً بالسَّوطِ فَوقَه، وصَوتَ الفارِسِ يقولُ: أقدِمْ حَيزومُ، فنظَرَ إلى المُشرِك أمامَه فخَرَّ مُستلقِيًا، فنظر إليه فإذا هو قد خُطِمَ أَنفُه، وشُقَّ وجهُه، كضربةِ السَّوطِ، فاخضَرَّ ذلك أجمَعُ ! فجاء الأنصاريُّ فحَدَّث بذلك رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: صَدَقْتَ، ذلك من مَدَدِ السَّماءِ الثَّالثةِ، فقَتَلوا يومَئذٍ سَبعينَ، وأسَرُوا سبعينَ، قال أبو زُمَيلٍ: قال ابنُ عبَّاسٍ: فلمَّا أسَرُوا الأُسارى، قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بكرٍ وعُمَرَ: ما تَرَونَ في هؤلاءِ الأُسارى؟ فقال أبو بكرٍ: يا نبيَّ الله، هم بنو العَمِّ والعشيرةِ، أرى أن تأخُذَ منهم فِديةً، فتكونَ لنا قُوَّةً على الكُفَّارِ، فعسى اللهُ أن يَهدِيَهم للإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما ترى يا ابنَ الخطَّابِ؟ قلتُ: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما أرى الذي رأى أبو بكرٍ، ولكنِّي أرى أن تُمكِّنَّا فنضرِبَ أعناقَهم، فتُمَكِّنَ عليًّا مِن عَقيلٍ، فيضرِبَ عُنُقَه، وتمكِّنِّي من فلانٍ- نَسيبًا لِعُمَرَ- فأضرِبَ عُنقَه؛ فإنَّ هؤلاءِ أئمَّةُ الكُفرِ وصناديدُها، فهَوِيَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما قال أبو بكرٍ، ولم يَهْوَ ما قُلتُ، فلمَّا كان من الغَدِ جِئتُ، فإذا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ قاعِدَينِ يَبكيانِ، قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أخبِرْني من أيِّ شَيءٍ تبكي أنت وصاحِبُك؟! فإن وَجَدْتُ بكاءً بكيتُ، وإن لم أجِدْ بُكاءً تباكَيتُ لِبُكائِكما، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أبكي للَّذي عَرَضَ عليَّ أصحابُك مِن أخْذِهم الفِداءَ، لقد عُرِضَ علي عذابُهم أدنى مِن هذه الشَّجرةِ- شَجرةٍ قريبةٍ مِن نبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إلى قَولِه: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا فأحلَّ اللهُ الغنيمةَ لهم )) .

وعن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: قال عُمَرُ: ((وافقتُ ربِّي في ثلاثٍ: في مقامِ إبراهيمَ، وفي الحِجابِ، وفي أُسارى بَدرٍ )) .

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ.

أي: ما ينبغي لنبيٍّ أن يـأسِرَ أحدًا مِن الكُفَّارِ المُحارِبين، فيحبِسَهم لأخْذِ فداءٍ ماليٍّ منهم، في مُقابِلِ إطلاقِ سَراحِهم، ما ينبغي أن يفعَلَ ذلك قبل أن يُبالِغَ في قَتلِهم ويَغلِبَهم، ويتمَكَّنَ في الأرضِ .

كما قال تعالى: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد: 4] .

تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ.

أي: تُريدونَ- أيُّها المؤمنونَ- نَيلَ مَتاعِ الدُّنيا الزَّائلةِ بأسْرِ الكُفَّارِ المُنهَزِمينَ يَومَ بَدرٍ؛ لأخْذِ الفِديةِ منهم، واللهُ يُريدُ لكم ثوابَ الآخرةِ بإثخانِهم؛ إعزازًا لِدينِه، ونُصرةً لِعبادِه، وإعلاءً لكَلِمتِه سُبحانَه وتعالى .

وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

أي: واللهُ عزيزٌ لا يُغلَب ولا يُقهَرُ، فإنْ أرَدْتُم بجهادِكم الآخرةَ، نَصَرَكم اللهُ على عَدُوِّكم، وهو حكيمٌ في تدبيرِ شَؤونِ خَلْقِه ومَصالِحِهم، ولو شاء أن ينتَصِرَ مِن الكُفَّارِ دون قتالٍ لَفَعَل، لكِنَّ حِكمَتَه تقتضي أنْ يبتلِيَ بَعضَكم ببعضٍ .

لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68).

أي: لولا قضاءٌ من الله سبَقَ لكم- يا أهلَ بَدرٍ- في اللَّوحِ المَحفوظِ بأنَّ اللهَ مُحِلٌّ لكم الغَنائِمَ، وأخْذَ الفِداءِ مِن الكُفَّارِ، وبأنَّه لا يُعذِّبُ أحدًا إلَّا بعد قيام الحُجَّةِ عليه، وأنَّه لا يعذِّبُ أحدًا شَهِدَ بدرًا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لَنالَكم بسبَبِ أخْذِكم الفِداءَ مِن كفَّارِ قُريشٍ، عذابٌ عَظيمٌ .

فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا تضَمَّنَ قَولُه تعالى: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ امتنانًا عليهم بأنَّه صرَفَ عنهم العذابَ؛ فَرَّعَ على الامتنانِ الإذنَ لهم بأن ينتَفِعوا بمالِ الفِداءِ في مصالِحِهم، ويتوسَّعُوا به في نَفَقاتِهم، دونَ نَكَدٍ ولا غُصَّةٍ، فإنَّهم استغنَوْا به مع الأمْنِ مِن ضُرِّ العَدُوِّ بفَضْلِ اللهِ، فتلك نِعمةٌ لم يَشُبْها أذًى .

فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا.

أي: قد أحلَلْتُ لكم- أيُّها المؤمنونَ- أخْذَ الغَنائِمِ والفِديةِ مِن الكُفَّارِ، فكُلوا ممَّا غَنِمتُم مِن أموالِهم حالَ كَونِه حلالًا قد أحلَّه الله لكم، هنيئًا مُستلذًّا، لا خُبثَ فيه .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لم تَحِلَّ الغَنائِمُ لأحدٍ مِن قَبلِنا؛ ذلك بأنَّ اللهَ تبارك وتعالى رأى ضَعْفَنا وعَجْزَنا، فطَيَّبَها لنا )) .

وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُعطيتُ خَمسًا لم يُعطَهنَّ أحَدٌ مِن الأنبياءِ قَبلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ، وجُعِلَت لي الأرضُ مَسجِدًا وطَهورًا، وأيُّما رَجُلٍ مِن أمَّتي أدرَكَتْه الصَّلاةُ فليُصَلِّ، وأُحِلَّت لي الغنائِمُ، وكان النبيُّ يُبعَثُ إلى قَومِه خاصَّةً، وبُعِثتُ إلى النَّاسِ كافَّةً، وأُعطِيتُ الشَّفاعةَ )) .

وَاتَّقُواْ اللّهَ.

أي: واتَّقوا اللهَ- أيُّها المؤمنونَ- بِفعلِ ما أمَرَ، واجتنابِ ما نهى، فلا تَفعَلوا في دينِكم شيئًا لم يأذَنِ اللهُ لكم به .

إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.

أي: إنَّ الله غفورٌ لذُنوبِ المُؤمنينَ، فيَستُرُها عليهم، ويتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها؛ ولِهذا لم يُعاقِبْهم على أخذِهم الفداءَ، وهو رحيمٌ بهم، ومِن رَحمتِه أن أحَلَّ لهم الغنائِمَ، وأخْذَ الفِداءِ .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا أُخِذَ الفِداءُ مِن الأُسارى، وشَقَّ عليهم أخذُ أموالِهم، ذكَرَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ؛ استمالةً لهم ، فقال:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ.

أي: يا أيُّها النبيُّ، قلْ لِمَن أسَرْتُموهم في غَزوةِ بَدرٍ، وأخَذْتُم منهم الفِديةَ لِإطلاقِهم: إنْ يَعلَمِ اللهُ في قُلوبِكم إسلامًا وإيمانًا صحيحًا، يُعطِكم في الدُّنيا مالًا، وفي الآخرةِ ثَوابًا أفضَلَ ممَّا أخَذَه المسلمونَ مِنكم .

عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رِجالًا من الأنصارِ استَأذَنوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالوا: ائذَنْ لنا فلْنَترُكْ لابنِ أُختِنا عَبَّاسٍ فِداءَهُ، قال: واللَّهِ لا تَذَرونَ منهُ دِرهَمًا )) .

وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.

أي: ويَغفِرْ لكم ذُنوبَكم فيَستُرْها عليكم، ولا يؤاخِذْكم بها، واللهُ غَفورٌ لذُنوبِ عِبادِه التَّائبينَ، رحيمٌ بهم، ومِن رَحمتِه ألَّا يُعاقِبَهم بعد تَوبتِهم .

وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71).

وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ.

أي: وإن يُرِدْ هؤلاءِ الأسرَى الغَدرَ بك، وخِداعَك- يا مُحمَّدُ- بإظهارِهم أقوالًا خلافَ ما يُبطِنونَ ، فيَرجِعوا إلى إظهارِ الكُفرِ، وقِتالِ المُسلمينَ، والإعانةِ عليه؛ فقد كَفَروا باللهِ وعَصَوه مِن قَبلِ يَومِ بَدرٍ، فأقدَرَ اللهُ المؤمنينَ عليهم، فأسَرُوهم .

وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

أي: واللهُ عليمٌ بكُلِّ شَيءٍ، ومن ذلك ما يُضمِرُونَه في قُلوبِهم من إخلاصٍ أو خيانةٍ، حكيمٌ في جَميعِ أقوالِه وأفعالِه، يَضعُ الأشياءَ في مَواضِعِها اللَّائقةِ بها، ومن ذلك مُجازاةُ الخائِنينَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- في قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ختم الآيةَ بِقَولِه: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فهو سُبحانه وتعالى يُحِبُّ للمؤمنينَ أن يكونوا أعِزَّةً غالِبينَ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، كما يُحِبُّ لهم أن يَكونوا حُكماءَ ربَّانيِّينَ، يضعونَ كلَّ شَيءٍ في مَوضِعه، وإنَّما يكونُ هذا بتقديمِ الإثخانِ في الأرضِ، والسِّيادةِ فيها، على المنافِعِ العَرضيَّةِ، بمِثلِ فِداءِ أسرى المُشركينَ، وهم في عُنفوانِ قُوَّتِهم وكَثرتِهم

.

2- اللهُ تعالى لا يريدُ ما يُفضي إلى السَّعاداتِ الدُّنيويَّةِ التي تَعرِضُ وتَزولُ، وإنَّما يريدُ ما يُفضي إلى السَّعاداتِ الأُخرويَّةِ الدَّائمةِ الباقيةِ المَصُونة عن التَّبديلِ والزَّوالِ؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُه تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فيه تحذيرٌ مِن التَّوغُّلِ في إيثارِ الحُظوظِ العاجلةِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فيه بيانُ مُؤاخَذةِ اللهِ تعالى النَّاسَ على الأعمالِ النَّفسيَّةِ وإرادةِ السُّوءِ، بعد تَنفيذِها بالعَملِ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أمَرَ تعالى بِتَقواه؛ لأنَّ التَّقوى حامِلةٌ على امتثالِ أمرِ اللهِ، وعَدمِ الإقدامِ على ما لم يتقَدَّمْ فيه إذْنٌ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ فيه أنَّه ما دام للكُفَّارِ شَرٌّ وصَولةٌ، فالأوفَقُ ألَّا يُؤسَروا، فإذا أُثخِنُوا، وبَطَل شَرُّهم، واضمحَلَّ أمرُهم؛ فحينئذٍ لا بأسَ بأخذِ الأَسرَى منهم، وإبقائِهم

، فكلمةُ حَتَّى لانتهاءِ الغايةِ، فَقولُه: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يدلُّ على أنَّ بعدَ حُصولِ الإثخانِ في الأرضِ له أن يُقدِمَ على الأسْرِ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ لعلَّه عبَّرَ بوَصفِ النبوَّةِ؛ لِيُفيدَ مع العُمومِ أنَّ كُلًّا مِن رِفعةِ القَدْرِ، والإخبارِ مِن اللهِ، يمنَعُ مِن الإقدامِ على فِعلٍ بدونِ إذنٍ خاصٍّ .

3- قال الله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الإثخانُ في الأرضِ ليس مَضبوطًا بضابطٍ مَعلومٍ مُعَيَّنٍ، بل المقصودُ منه إكثارُ القَتلِ، بحيث يُوجِبُ وُقوعَ الرُّعبِ في قلوبِ الكافرينِ، وألَّا يَجترِئوا على مُحاربةِ المُؤمنينَ؛ وبلوغُ القَتلِ إلى هذا الحَدِّ المُعيَّنِ لا شكَّ أنَّه يكونُ مُفَوَّضًا إلى الاجتهادِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا سمَّى منافِعَ الدُّنيا ومتاعَها عَرَضًا؛ لأنَّه لا ثباتَ له ولا دَوامَ، فكأنَّه يَعرِضُ ثمَّ يزولُ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ إنَّما ذَكرَ مع الدُّنيا المُضافَ فقال: عَرَضَ الدُّنْيَا ولم يَحذِفْ؛ لأنَّ في ذكرِه إشعارًا بعُروضِه، وسُرعةِ زوالِه .

6- قَولُ اللهِ تعالى: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فيه بيانُ مِنَّةِ اللهِ تعالى على أهلِ بَدرٍ: أنَّه لم يُعذِّبْهم فيما أَخَذوا بسوءِ الإرادةِ، أو بغيرِ حَقٍّ، وفي هذه المنَّةِ بعد الإنذارِ الشَّديدِ خَيرُ تَربيةٍ لأمثالِهم مِن الكاملينَ، تربَأُ بأنفُسِهم عن مِثلِ ذلك الاستشرافِ، لا أنَّها تُجَرِّئهم عليه، كما توهَّم بعضُ النَّاسِ .

7- قَولُ اللهِ تعالى: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يدلُّ على أنَّ لِلَّه حُكمًا في كلِّ حادثةٍ، وأنَّه نصَبَ على حُكمِه أمارةً، هي دليلُ المُجتَهِد، وأنَّ مُخطِئَه مِن المُجتهدينَ لا يأثَمُ، بل يُؤجَرُ.

8- في قولِه تعالى: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ رَدٌّ على المعتزلةِ والقَدَرِيَّة فيما يُنكرون مِن الكتابِ السَّابقِ .

9- لَمَّا تقَدَّمَ الأمرُ بالإثخانِ في قَولِه تعالى: فَشَرِّدْ بِهِمْ ثمَّ بإعدادِ القُوَّةِ، ثمَّ التَّحريضِ على القِتالِ بعد الإعلامِ بالكِفايةِ، ثمَّ إيجابِ ثَباتِ الواحِدِ لِعَشرةٍ، ثمَّ إنزالِ التَّخفيفِ إلى اثنينِ- كان ذلك مُقتَضيًا للإمعانِ في الإثخانِ، فحَسُنَ عِتابُ الأحباب في اختيارِ غَيرِ ما أفهَمَه هذا الخِطاب؛ لِكَونِ ذلك أقعَدَ في الامتنانِ عليهم بالعَفوِ والغُفرانِ، بسبَبِ أنَّ أكثَرَهم مالَ إلى فِداءِ الأُسارى .

10- قَولُ اللهِ تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا عبَّرَ عن الانتفاعِ الهنيءِ بالأكلِ؛ لأنَّ الأكلَ أقوى كيفيَّاتِ الانتفاعِ بالشَّيءِ؛ فإنَّ الآكِلَ يَنعَمُ بلذاذةِ المأكولِ، وبِدَفعِ ألَمِ الجُوعِ عن نفسِه، ودفعُ الألمِ لَذاذةٌ، ويُكسِبُه الأكلُ قُوَّةً وصِحَّةً، والصِّحَّةُ مع القُوَّةِ لَذاذةٌ أيضًا .

11- في قولِه تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ دليلٌ على أنَّ المفاداةَ بالمال جائزةٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى- وإنْ كان أنكرَ الإبقاءَ على الأسرى قَبْلَ الإثخانِ- فقد أباح لهم ما أخَذوا مِن المالِ بالفداءِ، وسمَّاه غنيمةً، فقال: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا .

12- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ أقبل على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالأمرِ بِمُخاطَبتِهم؛ تنبيهًا على أنَّهم لَيسُوا بأهلٍ لِخِطابِه سبحانَه، بما أبعَدُوا أنفُسَهم عنه؛ مِن اختيارِهم الكَونَ في زُمرةِ الأعداءِ، على الكَونِ في عِدادِ الأولياءِ .

13- قال الله تعالى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يدلُّ على أنَّ محلَّ نَظرِ اللهِ مِن عَبدِه، إنَّما هو القُلوبُ، كما جاء بذلك حديثُ أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللَّهَ لا ينظُرُ إلى صُوَرِكم وأموالِكم، ولَكِنْ ينظُرُ إلى قُلوبِكم وأعمالِكم )) ؛ لأنَّ القَلبَ هو الذي ينظُرُ اللهُ إليه، فيَعلَمُ فيه الخيرَ والشَّرَّ؛ ولذا قال: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا .

14- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يُؤخَذُ مِن الآيتينِ ما يجِبُ على المُؤمنينَ مِن تَرغيبِ الأَسرى في الإيمانِ، وإنذارِهم عاقِبةَ خِيانَتِهم إذا ثَبَتُوا على الكُفرِ والطُّغيانِ، وعادوا إلى البَغيِ والعُدوانِ .

15- لا يُوصَفُ اللهُ بالخيانةِ مُطلَقًا؛ لأنَّ الخيانةَ صِفةُ نَقصٍ مُطلَقٍ؛ والخيانةُ معناها: الخديعةُ في مَوضِعِ الائتمانِ، وهذا نَقصٌ؛ ولهذا قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ولم يَقُلْ: فخَانَهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

- قولُه: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ استئنافٌ ابتدائيٌّ

.

- قولُه: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ هذه الجملةُ واقعةٌ مَوقِعَ العِلَّة للنَّهي الذي تَضمَّنه قولُه: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ؛ فلذلك فُصِلتْ، ولم تُعْطَفْ عليها؛ لأنَّ العِلَّة بمنزلةِ الجُمْلةِ المبيِّنة، ويَجوزُ أنْ يكونَ هذا الخبرُ مُستعملًا في معنى الاستفهامِ الإنكاريِّ .

- قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فيه تَعليقُ فِعلِ الإرادةِ بذاتِ الآخرةِ، والمقصودُ نفُعها؛ بقرينةِ قولِه: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا فحُذِف المضاف (ثواب) للإيجازِ، وقيل التقديرُ: يُريدُ عمَلَ الآخِرَة، أي: المؤدِّي إلى الثوابِ في الآخِرَة .

2- قوله تعالى: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

- قولُه: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ جملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ الكلامَ السابقَ يُؤذِن بأنَّ مُفاداةَ الأسرى أمرٌ مَرْهوبٌ تُخشَى عواقِبُه، فيستثيرُ سُؤالًا في نُفوسِهم عمَّا يُترقَّب من ذلك، فبيَّنه قولُه: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ... .

3- قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

- قوله: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا الأَمْر في فَكُلُوا مُستعمَلٌ في المِنَّة، وذُيِّل بالأمرِ بالتَّقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ؛ لأنَّ التَّقْوى شُكرُ اللهِ على ما أَنْعَم مِن دفْعِ العذابِ عنهم .

- وجملةُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليلٌ للأمْر بالتقوى، وتَنبيهٌ على أنَّ التقوى شُكرٌ على النِّعمة؛ فحرْفُ التأكيدِ إنَّ للاهْتِمام، وهو مُغنٍ غَناءَ فاءِ التفريع .

4- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

- قولُه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ... استئنافٌ ابتدائيٌّ، وهو إقبالٌ على خِطابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشيءٍ يتعلَّقُ بحالِ سَرائرِ بعضِ الأَسْرى، بعدَ أنْ كان الخِطابُ مُتعلِّقًا بالتَّحريضِ على القِتالِ وما يَتْبعه .

- وفيه تأكيدُ الوعدِ بالمغفرةِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ بِما بَعدَه وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مِن الاعتراضِ التَّذييليِّ؛ فقولُه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييلٌ؛ للإيماءِ إلى عِظَم مغفرتِه التي يَغْفِر لهم، لأنَّها مَغفرةُ شديدِ الغُفْرانِ، رحيمٍ بعبادِه، فمِثال المبالغةِ وهو غَفُورٌ المُقتضي قوَّة المغفرةِ وكَثْرتِها مُستعمَلٌ فيهما باعتبارِ كَثرةِ المُخاطَبين، وعِظَمِ المغفرةِ لكلِّ واحد منهم .

5- قوله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

- قوله: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ كلامٌ مَسوقٌ من جِهتِه تعالى؛ لتَسليتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بطَريقِ الوَعدِ له، والوَعيدِ لهم

=============

 

سُورة الأنفالِ

الآيات (72-75)

ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ

غريب الكلمات:

 

مِيثَاقٌ: الميثاقُ: العقدُ المؤكَّدُ بيمينٍ، أو العهدُ المُحكَم، وأصل (وثق): عقدٌ وإحكامٌ

.

آوَوْا: أي: ضَمُّوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُهاجرينَ إليهم، وأَعْطَوهم المَأوى. والمَأوى: المَثوى والمَسكَنُ، وأصْلُ (أوى): يدلُّ على التَّجمُّعِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

إنَّ المُهاجرينَ الذين آمَنوا بكُلِّ ما يجِبُ عليهم الإيمانُ به، وترَكَوا أوطانَهم وقَومَهم، وأنفَقُوا أموالَهم لِنُصرةِ دينِ الله، وجاهَدوا بأنفُسِهم في سبيلِه، والأنصارَ الذينَ ضَمُّوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه المُهاجرينَ، فأسكَنُوهم مَنازِلَهم، ونَصَرُوهم على أعدائِهم- بعضُهم أولياءُ بعضٍ، وأمَّا الذينَ آمَنوا لكِنَّهم لم يُفارِقوا أوطانَهم إلى بلادِ الإسلامِ، ما لكم- أيُّها المؤمنونَ- مِن وَلايِتهم مِن شَيءٍ، حتى يفارِقُوا دارَ الكُفرِ إلى دارِ الإسلامِ، لكنْ إن طَلَبَ منكم هؤلاء- الذينَ آمَنوا ولم يُهاجِروا- النَّصرَ في الدِّينِ، فعَليكم نصرَهم، إلَّا إذا طلَبَوا منكم أن تَنصُروهم على قومٍ مِن الكُفَّارِ، بينكم وبينهم عَهدٌ مُؤَكَّدٌ على تَركِ الحَربِ، فلا تَغدِرُوا بالكُفَّارِ بنقضِ ذلك العَهدِ، واللهُ بَصيرٌ بما تَعملونَ، مُطَّلِعٌ عليه، فلا تُخالِفوا أمرَه.

ثم يُخبِرُ تعالى أنَّ الكُفَّارَ بَعضُهم أولياءُ بَعضٍ، ويخاطِبُ المُؤمِنينَ أنَّهم إن لم يَفعَلُوا ذلك- مِن تَوَلِّي بعضِهم بعضًا، وتَرْكِ مُوالاةِ الكُفَّارِ- فإنَّه ستقَعُ فِتنةٌ عظيمةٌ في الأرضِ، وفسادٌ كبيرٌ.

والمؤمنونَ المُهاجِرونَ الذين جاهَدُوا في سبيلِ اللهِ، والأنصارُ الذين ضَمُّوا مَن هاجَرَ إليهم ونَصَرُوهم ونَصَروا دينَ اللهِ، أولئك هُم المؤمِنونَ حَقًّا، لهم مَغفِرةٌ مِن اللهِ ورِزقٌ كَريمٌ.

والذينَ آمنُوا مِن بعدِ بَيانِ أمْرِ تَوَلِّي المُهاجرين والأنصارِ بعضِهم بعضًا، وانقِطاعِ وَلايَتِهم مِمَّن آمَن ولم يُهاجِرْ حتَّى يُهاجِرَ، وهاجَرُوا من دارِ الكُفرِ إلى دارِ الإسلامِ، وجاهدوا في سبيلِ اللهِ؛ فأولئك معكم- أيُّها المُهاجِرونَ والأنصارُ- وذَوُو القراباتِ أَوْلى بالتَّوارُثِ بينهم في كتابِ اللهِ؛ إنَّ اللهَ بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى للأَسْرى أنَّ الخيرَ الذي لم يَطَّلِعْ عليه من قُلوبِهم غيرُ اللهِ، لا يَنفَعُهم في إسقاطِ الفِداءِ عنهم- لأنَّه لا دليلَ عليه، وكُلُّ ما لا دليلَ عليه فحُكمُه حُكمُ العَدَمِ؛ لأنَّ مَبنى الشَّرعِ على ما يُمكِنُ المُكَلَّفَ مَعرِفَتُه وهو الظَّواهِرُ- وخَتَمَ بصِفَتَي العِلمِ والحِكمةِ؛ شَرَع يُبَيِّنُ الخَبَرَ الذي يُفيدُ القُربَ الذي تنبني عليه المُناصَرةُ وكُلُّ خَيرٍ

.

النَّاسِخُ والمَنسوخُ:

قيل: هذه الآيةُ مُحكَمةٌ .

وقيل: بل هيَ مَنسوخةٌ بِقَولِه تعالى في سورة الأحزاب: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الأحزاب: 6] ، أو قَولِه في آخِرِ سُورةِ الأنفالِ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 75] .

عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، أنَّه قال في قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا قال: (فَكانَ الأعرابيُّ لا يرثُ المهاجرَ، ولا يرثُهُ المهاجرُ، فنَسخَتْها، فقالَ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) .

وعن ابنِ عبَّاسٍ أيضًا، قال: (كان المُهاجرونَ حين قَدِموا المدينةَ يَرِثُ الأنصاريُّ المُهاجريَّ دونَ ذَوي رَحِمِه؛ لِلأُخوَّةِ التي آخى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينهم) .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ.

أي: إنَّ المُهاجرينَ الذينَ آمَنوا بكُلِّ ما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وهجَروا قَومَهم، وتَرَكوا دُورَهم، وخَرَجوا من أوطانِهم، وأنفَقوا أموالَهم؛ لِنُصرة دينِ اللهِ، وبالَغُوا في إتعابِ أنفُسِهم وبَذلِها في حَربِ الكافرينِ؛ لإعلاءِ كَلِمةِ الله تعالى .

وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ.

أي: والأنصارَ أهلَ المدينةِ، الذينَ ضمُّوا إليهم النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأصحابَه المهاجرين، فأسكَنُوهم منازِلَهم، وواسَوْهم بأموالِهم، ونَصَرُوهم على أعدائِهم .

أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ.

قيل: معناها: يَرِثُ بَعضُهم بعضًا دون قَراباتِهم مِن المُشركينَ، على القولِ بأنَّها منسوخةٌ .

وقيل: المعنى: أولئك المُهاجِرونَ والأنصارُ، بعضُهم أنصارُ بعضٍ، وأعوانٌ على مَن سِواهم مِن المُشركينَ، وذلك على القولِ بأنَّها محكمة .

كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] .

وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((المؤمِنُ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ؛ يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا، وشبَّك بينَ أصابِعِه )) .

وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مثَلُ المؤمنينَ في تَوادِّهم وتَراحُمِهم وتَعاطُفِهم، مَثَلُ الجَسَدِ؛ إذا اشتكى منه عُضوٌ تداعى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى )) .

وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ.

أي: والمُؤمنونَ الذين لم يُفارِقُوا بعدُ بلادَ الكُفرِ إلى بلادِ الإسلامِ؛ فَلَستُم- أيُّها المؤمنونَ- مكلَّفينَ بِحِمايتِهم ونُصرَتِهم، ولا إرْثَ بينكم، وليسَ لهم في المغانِمِ نَصيبٌ، حتى يُهاجِروا مِن دارِ الكُفرِ إلى دارِ الإسلامِ .

وعن بُريدةَ رَضِيَ الله عنه، قال: كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أمَّرَ أميرًا على جيشٍ أو سَرِيَّةٍ، أوصاه في خاصَّتِه بِتَقوى اللهِ، ومَن مَعَه من المسلمينَ خَيرًا، ثم قال: ((اغْزُوا باسمِ اللهِ في سبيلِ اللهِ، قاتِلُوا مَن كَفَر باللهِ، اغْزُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغدِرُوا، ولا تَمْثُلُوا ، ولا تَقتُلوا وَليدًا، وإذا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِن المُشركين، فادْعُهم إلى ثلاثِ خِصالٍ- أو خِلالٍ- فأيَّتُهنَّ ما أجابوكَ فاقبَلْ منهم، وكُفَّ عنهم، ثم ادْعُهم إلى الإسلامِ، فإنْ أجابوك فاقبَلْ منهم، وكُفَّ عنهم، ثمَّ ادعُهم إلى التَّحَوُّلِ مِن دارِهم إلى دارِ المُهاجِرينَ، وأخبِرْهم أنَّهم إن فَعَلُوا ذلك فلَهم ما للمُهاجرينَ، وعليهم ما على المُهاجرينَ، فإن أبَوْا أن يتحَوَّلوا منها فأخبِرْهم أنَّهم يكونونَ كأعرابِ المُسلِمينَ؛ يَجري عليهم حُكمُ اللهِ الذي يجري على المُؤمنينَ، ولا يكونُ لهم في الغَنيمةِ والفَيءِ شَيءٌ، إلَّا أن يُجاهِدوا مع المُسلمينَ، فإنْ هُم أبَوْا فسَلْهُم الجِزيةَ، فإنْ هم أجابوك فاقبَلْ منهم، وكُفَّ عنهم، فإن هُم أبَوْا فاستَعِنْ باللهِ وقاتِلْهم )) .

وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ.

أي: وإن طلَبَ منكم هؤلاءِ- الذينَ آمَنوا ولم يُهاجِروا- أن تَنصُروهم على الكُفَّارِ في قتالٍ دينيٍّ؛ لأنَّكم إخوانُهم في الدِّينِ- فعليكم نَصرُهم، ولا تَخذُلوهم .

إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ.

أي: إلَّا إذا طلَبَوا منكم أن تَنصُروهم على قومٍ مِن الكُفَّارِ بينكم وبينهم عهدٌ مؤكَّدٌ على تَركِ الحَربِ، فلا تَغدِروا بالكُفَّارِ بِنَقضِ ذلك العَهدِ .

وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

أي: واللهُ مُطَّلِعٌ على ما تَعملونَ- أيُّها المُؤمِنونَ- بصيرٌ به، لا يَخفى عليه شَيءٌ مِن أعمالِكم، فلا تُخالِفوا ما أمَرَكم به؛ لئلَّا يَحِلَّ بكم عِقابُه .

وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى أنَّ المُؤمِنينَ بَعضُهم أولياءُ بَعضٍ، قطَعَ المُوالاة بينهم وبين الكُفَّارِ؛ فالمُؤمِنونَ أحَقُّ أن يواليَ بَعضُهم بعضًا، ويترُكوا مُوالاةَ الكافرينَ وإن كانوا أقارِبَ، فقال تعالى :

وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ.

أي: والكُفَّارُ بَعضُهم أعوانُ بَعضٍ؛ يَرِثُ بَعضُهم بعضًا، ويتَناصَرونَ فيما بَينَهم على قتالِ المُسلمينَ .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] .

وقال سُبحانه: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 19] .

وعن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ الله عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا يَرِثُ المُسلِمُ الكافِرَ، ولا الكافِرُ المُسلِمَ )) .

إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ.

أي: إن لم تَفعَلوا- أيُّها المؤمِنونَ- ما أمَرْتُكم به مِن تَوَلِّي بعضِكم بعضًا، وتَرْكِ مُوالاةِ الكافرينَ ؛ تقَعْ في الأرضِ فتنةٌ عظيمةٌ بينَ النَّاسِ، وفَسادٌ عَريضٌ في الدِّينِ والدُّنيا .

كما قال تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28] .

وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 54 - 57] .

وقال تبارك وتعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4] .

وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا تقَدَّمَت أنواعُ المؤمنينَ: المهاجِرُ والنَّاصِرُ والقاعِدُ، وذكَرَ أحكامَ مُوالاتِهم- أخذَ يبيِّنُ تفاوُتَهم في الفَضْلِ ، فقال تعالى:

وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا.

أي: والمؤمِنونَ المُهاجِرونَ الذين قاتَلوا الكُفَّارَ؛ لإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ، والأنصارُ الذين ضمُّوا مَن هاجَرَ إليهم، ونَصَرُوهم، ونَصَروا دينَ اللهِ- أولئك هم الكامِلونَ في الإيمانِ، الذين حقَّقوا إيمانَهم بفِعلِ ما يقتضيه مِن الهِجرةِ، والنُّصرةِ، والجهادِ في سَبيلِ اللهِ .

كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] .

لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى حُكمَ المُؤمِنينَ في الدُّنيا، عطَفَ بذِكرِ ما لهم في الآخِرَةِ، فقال :

لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.

أي: للمُهاجِرينَ والأنصارِ مَغفرةٌ تامَّةٌ مِن اللهِ تعالى، فيستُرُ ذُنوبَهم، ويتجاوَزُ عن مؤاخَذَتِهم بها، ولهم رزقٌ حسنٌ كثيرٌ، هَنيءٌ طَيِّبٌ .

وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا حصَرَ اللهُ تعالى المؤمنينَ حقًّا في الموصوفينَ؛ بيَّنَ أنَّ مَن ترَك ما هو عليه مِن لُزومِ دارِ الكُفرِ، والقُعودِ عن الجِهادِ؛ لَحِقَ بمُطلَقِ دَرَجتِهم، وإنْ كانوا فيها أعلى منه .

وأيضًا بعدَ أن مَنَع اللَّه ولايَةَ المسلمِينَ للَّذينَ آمنوا ولم يهاجروا بالصَّراحَةِ، ابْتِداءً، ونَفَى عن الَّذين لم يُهاجِروا تحقيقَ الإيمانِ، وكان ذلك مُثيرًا في نُفوسِ السَّامِعينَ أن يتَساءَلوا: هل لأولئك تمَكُّنٌ مِن تَدارُكِ أمرِهم برَأْبِ هذه الثُّلْمَةِ عنهم، ففَتَح اللَّه بابَ التَّدارُكِ بهذه الآيةِ ، فقال:

وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ.

أي: والَّذِينَ آمنوا مِن بَعدِ بَيانِ أمْرِ تَوَلِّي المُهاجرين والأنصارِ بعضِهم بعضًا، وانقِطاعِ وَلايَتِهم مِمَّن آمَن ولم يُهاجِرْ حتَّى يُهاجِرَ ، وهاجَروا مِن دار الكُفر إلى دارِ الإسلامِ، وجاهَدوا في سبيلِ اللهِ معكم- أيُّها المهاجرونَ والأنصارُ- فأولئك منكم في الوَلايةِ؛ فلهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، مِن حَقِّ النُّصرةِ وغَيرِها، وهم معكم في الآخرةِ .

كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] .

وقال سبحانه: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10] .

وقال جلَّ جَلالُه: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] .

وعن ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المَرءُ مع مَن أحَبَّ )) .

وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ.

أي: وذَوُو القَراباتِ أَوْلى بالتَّوارُثِ بينهم في حُكمِ اللَّه وشَرْعِه .

إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

أي: إنَّ اللَّهَ عالِمٌ بكُلِّ شَيءٍ، ومن ذلك عِلمُه بما يَصلُحُ لِعِبادِه؛ فكُلُّ ما شَرَعَه لهم فهو مُوافِقٌ للحِكمةِ، كتَوريثِه بعضِهم مِن بَعضٍ بِسَبَبِ القَرابةِ والنَّسَبِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيه تَحذيرٌ لِلمُسلمينَ؛ لِئلَّا يَحمِلَهم العَطفُ على المُسلمينَ، على أن يُقاتِلوا قَومًا بينهم وبينهم مِيثاقٌ، وفي هذا التَّحذيرِ تَنويهٌ بِشَأنِ الوَفاءِ بالعَهدِ، وأنَّه لا يَنقُضُه إلَّا أمرٌ صَريحٌ في مُخالَفتِه

.

2- في قَولِه تعالى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ دَلالةٌ على وُجوبِ إغاثةِ المَلهوفِ، ونَصْرِ المظلومِ، وإنْ كان بعيدًا .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ في قَولِه بَصِيرٌ إشارةٌ إلى العِلمِ بما يكونُ من ذلك خالِصًا أو مَشوبًا؛ ففيه مزيدُ حَثٍّ على الإخلاصِ .

4- تركُ موالاةِ المؤمنينَ، ومعاداةِ الكافرينَ يحصل به من الشَّرِّ ما لا ينحصِرُ؛ مِن اختلاطِ الحَقِّ بالباطِلِ، والمؤمِنِ بالكافِرِ، وعَدَمِ كثيرٍ من العِباداتِ الكِبارِ- كالجِهادِ والهِجرة- وغيرِ ذلك مِن مقاصِدِ الشَّرعِ والدِّينِ؛ قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ .

5- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ، فإذا لم يتوَلَّ المؤمِنُ المؤمِنَ تولِّيًا حقًّا، ويتبرَّأْ مِن الكافِرِ جِدًّا، أدَّى ذلك إلى الضَّلالِ والفَسادِ في الدِّينِ، فإذا هجَرَ المُسلِمُ أقارِبَه الكُفَّارَ، ونَصَرَ المُسلمينَ، كان ذلك أدْعَى لأقارِبِه الكُفَّارِ إلى الإسلامِ، وتَرْكِ الشِّركِ .

6- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هذه السَّعاداتُ العالية إنَّما حصَلَت؛ لأنَّهم أعرَضوا عن اللَّذَّاتِ الجُسمانيَّة، فتركوا الأهلَ والوَطَنَ، وبَذَلوا النَّفْسَ والمالَ .

7- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لَمَّا بيَّنَ اللهُ هنا وَصْفَهم، بيَّن ما حَباهم به بِقَولِه- دالًّا على أنَّ الإنسانَ محَلُّ النُّقصانِ؛ فهو وإن اجتهَدَ حتى كان من القِسمِ الأعلى، لا ينفَكُّ عن مُواقعةِ ما يَحتاجُ فيه إلى الغُفرانِ-: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي: لِزَلَّاتِهم وهَفَواتِهم؛ لأنَّ مبنى الآدميِّ على العَجزِ اللَّازِمِ عنه التَّقصيرُ وإن اجتهَدَ، والدِّينُ مَتينٌ، فلن يُشادَّه أحَدٌ إلَّا غَلَبَه .

8- أوجبَ اللهُ تعالى مُوالاةَ المُؤمِنينَ بَعضِهم لبعضٍ؛ يُبيِّنُ ذلك قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ .

9- قَولُ الله تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عُلِّقَت أولويَّةُ الأرحامِ بأنَّها كائنةٌ في كتابِ اللهِ، أي: في حُكمِه، فهذا الاعتناءُ مُؤذِنٌ بما لِوَشائِجِ الأرحامِ من الاعتبارِ في نظَرِ الشَّريعةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هؤلاء موصوفونَ بهذه الصِّفاتِ الأربَعِ:

أولها: أنَّهم آمَنُوا باللهِ ومَلائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، وقَبِلوا جميعَ التَّكاليفِ التي بلَّغَها محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يتمَرَّدوا.

والصفة الثانية: قولُه: وَهَاجَرُوا يعني: فارَقوا الأوطانَ، وتَرَكوا الأقارِبَ والجيرانَ؛ في طَلَبِ مرضاةِ الله، ومعلومٌ أنَّ هذه الحالةَ حالةٌ شديدةٌ.

والصفة الثالثة: قَولُه: وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أمَّا المجاهدةُ بالمالِ، فلأنَّهم لَمَّا فارقوا الأوطانَ، فقد ضاعَت دُورُهم ومَساكِنُهم وضِياعُهم ومزارِعُهم، وبَقِيَت في أيدي الأعداءِ، وأيضًا فقد احتاجُوا إلى الإنفاقِ الكثيرِ؛ بسبَبِ تلك العزيمةِ، وأيضًا كانوا يُنفِقونَ أموالَهم على تلك الغَزَواتِ، وأمَّا المُجاهدةُ بالنَّفسِ فلأنَّهم كانوا أقدَموا على مُحارَبةِ بَدرٍ مِن غيرِ آلةٍ ولا أُهْبةٍ ولا عِدَّةٍ، مع الأعداءِ الموصوفينَ بالكثرةِ والشِّدَّةِ، وذلك يدلُّ على أنَّهم أزالوا أطماعَهم عن الحياةِ، وبَذَلوا أنفُسَهم في سبيلِ الله.

وأمَّا الصفة الرابعة: فهي أنَّهم كانوا أوَّلَ النَّاسِ إقدامًا على هذه الأفعالِ، والتزامًا لهذه الأحوالِ، ولهذه السَّابقةِ أثَرٌ عَظيمٌ في تقويةِ الدِّينِ. قال تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10] وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] وإنما كان السَّبقُ مُوجِبًا للفَضيلةِ؛ لأنَّ إقدامَهم على هذه الأفعالِ يُوجِبُ اقتداءَ غَيرِهم بهم، فثبَتَ أنَّ حُصولَ هذه الصِّفاتِ الأربَعِ للمُهاجرينَ الأوَّلِينَ، يدلُّ على غايةِ الفَضيلةِ ونهايةِ المَنقبةِ، وأنَّ ذلك يُوجِبُ الاعترافَ بِكَونِهم رُؤساءَ المُسلِمينَ وسادةً لهم

.

2- الهِجرةُ لا تنقطِعُ أبدًا، إلَّا أنَّ الهِجرةَ المخصوصةَ التي كانت إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه بالمدينةِ، هي التي انقطَعَت بفتحِ مكَّةَ؛ لانتشارِ الإسلامِ في جزيرةِ العَرَبِ، قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا هِجرةَ بعد الفَتحِ، ولكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ )) ، أمَّا الهجرةُ التي لا تنقطِعُ، فهي أنَّ كلَّ إنسانٍ تُعُرِّضَ له في دينِه، وصار لا يقدِرُ على إقامةِ شَعائِرِ دِينِه في محَلٍّ، فواجِبٌ عليه- بإجماعِ العُلَماءِ- أن ينتقِلَ من هذا المحَلِّ، ويبذُلَ في ذلك كلَّ مَجهودٍ، حتى يصِلَ إلى محَلٍّ يتمكَّن فيه من إقامةِ شَعائِرِ دِينِه، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .

3- في قَولِ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قدَّم الأموالَ على الأنفسِ، وفي ذلك أوجهٌ:

الأول: أنَّ الأموالَ كانت في غايةِ العِزَّةِ في أوَّلِ الأمرِ .

الثاني: أنَّ الجهادَ بالمالِ أخفُّ على النفوسِ مِن الجهادِ بالنفس، فسلَك في ذلك مسلكَ الترقِّي مِن الأدنَى إلى الأعلَى .

الثالث: أنَّ الأموالَ قوامُ الأنفسِ، فمَن بذَل مالَه كلَّه لم يبخَلْ بنفسِه؛ لأنَّ المالَ قوامُها .

الرابع: حرصُ الكثيرِ عليها، حتى أنَّهم يُهلكون أنفسَهم بسببِها، فالنَّاس يُقاتِلون دونَ أموالِهم؛ فإنَّ المجاهِدَ بالمالِ قد أَخرجَ مالَه حقيقةً لله، أمَّا المجاهدُ بنَفسِه لله فإنَّه يرجو النَّجاةَ، ولهذا أكثرُ القادرينَ على القتالِ يَهونُ على أحَدِهم أنْ يُقاتِلَ؛ ولا يَهونُ عليه إخراجُ مالِه .

الخامس: أنَّها هي التي يُبدأُ بها في الإنفاقِ، والتجهُّزِ إلى الجهادِ، فرتَّب الأمرَ كما هو نفسُه .

السادس: أنَّ ضرورةَ الجهادِ بالمالِ أكثرُ مِن ضرورتِها بالنفسِ، حتى أنَّ الذي يجاهدُ بنفسِه محتاجٌ إلى المالِ، فما الذي يُوصله إلى ميدانِ القتالِ إلا الأموالُ .

4- قَوله تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يُوهِمُ أنَّهم لَمَّا لم يُهاجِرُوا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سقَطَت وَلايَتُهم مُطلقًا، فأزال اللهُ تعالى هذا الوَهمَ بِقَولِه: مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا يعني: أنَّهم لو هاجَرُوا لعادَتْ تلك الوَلايةُ وحصَلَت، والمقصودُ منه الحَملُ على المُهاجرةِ والتَّرغيبُ فيها؛ لأنَّ المُسلِمَ متى سمِعَ أنَّ اللهَ تعالى يقولُ: إنْ قَطَعَ المُهاجَرةَ انقطَعَت الوَلايةُ بينه وبين المُسلمينَ، ولو هاجَرَ حَصَلت تلك الوَلايةُ، وعادَتْ على أكمَلِ الوُجوهِ- فلا شَكَّ أنَّ هذا يصيرُ مُرَغِّبًا له في الهجرةِ، والمقَصودُ مِن المُهاجَرةِ كَثرةُ المُسلِمينَ واجتماعُهم، وإعانةُ بَعضِهم لبعضٍ، وحصولُ الأُلفةِ والشَّوكةِ وعدَمُ التَّفرقةِ .

5- في قَولِه تعالى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ دَلالةٌ على أنَّ المخلوقَ يجوزُ له أنْ يَطْلُبَ مِن المَخلوقِ ما يَقْدِرُ عليه مِن الأُمورِ- دونَ ما لا يَقْدِرُ عليه إلَّا اللهُ؛ فإنَّه لا يُطْلَبُ إلَّا مِنه سُبحانَه .

6- إذا أراد العَدُوُّ الهُجومَ على المُسلِمينَ؛ فإنَّه يصيرُ دَفعُه واجبًا على المقصودينَ كلِّهم، وعلى غيرِ المَقصودينَ لإعانَتِهم، كما قال تعالى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وأمَر النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بنصرِ المسلمِ، وهذا يجبُ بحسبِ الإمكانِ على كلِّ أحدٍ بنَفْسِه ومالِه، مع القلَّةِ والكثرةِ، والمشيِ والرُّكوبِ .

7- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ استدَلَّ به بعضُ العُلَماءِ على أنَّ الكُفَّارَ في المُوارَثةِ- مع اختلافِ مِلَلِهم- كأهلِ مِلَّةٍ واحدةٍ؛ فالمجوسيُّ يَرِثُ الوَثَنيَّ، والنَّصرانيُّ يرِثُ المجوسيَّ .

8- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ هذه العبارةُ ترغيبٌ وتحريضٌ، وإقامةٌ لنفوسِ المؤمنينَ، كما تقولُ لِمَن تُريدُ تحريضَه: عدُوُّك مُجتَهِدٌ، أي: فاجتَهِدْ أنت .

9- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ليس بِتَكرارٍ لِما سبَقَ في قَولِ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال: 72] ؛ وذلك لأنَّه تعالى ذَكَرَهم أوَّلًا لِيُبَيِّنَ حُكمَهم- وهو وَلايةُ بَعضِهم بعضًا- ثم إنَّه تعالى ذَكَرَهم هاهنا؛ لِبَيانِ تَعظيمِ شَأنِهم، وعُلُوِّ دَرَجتِهم؛ وبيانُه مِن وَجهينِ:

الأول: أنَّ الإعادةَ تدُلُّ على مَزيدِ الاهتمامِ بِحالِهم، وذلك يدُلُّ على الشَّرَفِ العَظيمِ.

والثاني: وهو أنَّه تعالى أثنى عليهم هاهنا، وشرَحَ حالَهم في الدُّنيا وفي الآخرة، أمَّا في الدُّنيا فقد وَصَفَهم بِقَولِه: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وأمَّا في الآخرةِ فالمَقصودُ إمَّا دَفعُ العِقابِ، وإمَّا جَلبُ الثَّوابِ؛ أمَّا دَفعُ العِقابِ فهو المرادُ بِقَولِه: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأمَّا جَلبُ الثَّوابِ فهو المرادُ بِقَولِه: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ .

10- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هذه الشَّهادةُ المَقرونةُ بهذا الجزاءِ العَظيمِ تُرغِمُ أنوفَ الرَّوافِضِ، وتُلقِمُ كلَّ نابِحٍ بالطَّعنِ في أصحابِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الحَجَرَ، ولا سيَّما زَعمُهم بأنَّ أكثَرَهم- رَضِيَ اللهُ عنهم وأرضاهم- قد ارتَدُّوا بعده صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

11- في قولِه تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا رَدٌّ على المرجئةِ؛ حيث أضافَ سبحانَه الهجرةَ والجهادَ والنصرةَ والإيواءَ إلى الإيمانِ، وقد شَهِدَ لقوم في أولِ السورةِ تحقيقَه؛ ولم يَذْكُرْ هذه الشرائطَ، وذَكَرَ لأولئك شرائطَ لم يذكرها لهؤلاء؛ فدلَّ على أنَّ الإيمانَ ذو أجزاءٍ .

12- في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا بيانُ أنَّ كلَّ خيرٍ يفعلُه المؤمنُ متقرِّبًا به إلى الله فهو مِن الإيمان- فرضًا كان أو تطوعًا- فالجهادُ والنصرةُ والإيواءَ قد يكونا نافلةً في بعض الأوقاتِ- إذا لم يكن المنصورُ والمُؤْوَى مضطهدًا- والجهادُ إذا قامتْ به طائفةٌ فهو للباقي فضيلةٌ لا فريضةٌ .

13- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ يدلُّ على أنَّ مَرتبةَ هؤلاءِ دُونَ مَرتبةِ المُهاجِرينَ السَّابقينَ؛ لأنَّه ألحَقَ هؤلاء بهم، وجَعَلَهم منهم في مَعْرِضِ التَّشريفِ، ولولا كَونُ القِسمِ الأوَّلِ أشْرَفَ، وإلَّا لَمَا صَحَّ هذا المعنى .

14- قَولُ اللهِ تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ استدَلَّ به مَن ورَّثَ ذَوي الأرحامِ .

15- قَولُ اللهِ تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ استدَلَّ به مَن قال: إنَّ القَريبَ أَوْلَى بالصَّلاةِ على الميِّتِ مِن الوالي .

16- قَولُ اللهِ تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَولُه: أَوْلَى- هو صِيغةُ تَفضيلٍ- يُفيدُ أنَّ الوَلايةَ بين ذَوِي الأرحامِ لا تُعتبَرُ إلَّا بالنِّسبةِ لِمَحلِّ الوَلايةِ الشَّرعيَّةِ، فأُولو الأرحامِ أَوْلى بالوَلايةِ ممَّن ثبَتَت لهم وَلايةٌ تامَّةٌ أو ناقِصةٌ، كالذينَ آمَنوا ولم يُهاجِروا في وَلايةِ النَّصرِ في الدِّينِ، إذا لم يَقُم دُونَها مانِعٌ مِن كُفرٍ أو تَرْكِ هِجرةٍ، فالمؤمنونَ بَعضُهم لبعضٍ أولياءُ وَلايةَ الإيمانِ، وأولو الأرحامِ منهم بعضُهم لبعضٍ أولياءُ وَلايةَ النَّسَبِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ هذه الآيةُ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للإعلامِ بأحكامِ مُوالاةِ المسلِمين للمُسلِمين الذين هاجَروا، والذين لم يُهاجروا، وعدمِ مُوالاتِهم للذين كَفروا

.

- وفيها حُسْنُ ترتيبٍ، حيثُ بَدَأَ بالمهاجرين؛ لأنَّهم أَصْلُ الإسلامِ، وأوَّلُ مَن استجابَ للهِ تعالى، وكانوا قُدوةً لغيرهم في الإيمانِ، وسببَ تقويةِ الدِّين، وثَنَّى بالأنصارِ؛ لأنَّهم ساوَوْهُم في الإيمانِ، وفي الجهادِ بالنَّفسِ والمالِ، لكِنَّه عادَلَ الهِجرةَ الإيواءُ والنَّصرُ، وانفرَد المهاجِرون بالسَّبقِ، وذَكَر ثالثًا مَن آمن ولم يُهاجِر ولم يَنْصُر؛ ففاتَهم هاتانِ الفضيلتانِ ، فهؤلاءِ بسبَبِ إيمانِهم لهم فَضلٌ وكرامةٌ، وبسبَبِ تَركِ الهِجرةِ لهم حالةٌ نازِلةٌ، وذلك هو أنَّ الوَلايةَ تكون منفيَّةً عنهم، إلَّا أنَّهم يكونونَ بحيثُ لو استَنصَروا المؤمنينَ واستعانوا بهم، نَصَروهم وأعانوهم، وأمَّا الكُفَّارُ فليس لهم البتَّةَ ما يُوجِبُ شيئًا مِن أسبابِ الفضيلةِ، فوجَبَ كَونُ المُسلمين مُنقَطعينَ عنهم مِن كُلِّ الوُجوهِ، فلا يكونُ بينهم وَلايةٌ ولا مُناصرةٌ بوجهٍ مِن الوجوهِ .

- وقولُه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيه مُناسَبة حَسنةٌ، حيثُ قدَّم هنا في سُورةِ الأنفال بِأَمْوَالِهمْ وَأَنْفُسِهِمْ على قولِه: فِي سَبيلِ اللهِ وَعَكَسَ في سورةِ التَّوبةِ فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ [التوبة: 20] ؛ ووجهُ هذه المناسبةِ: أنَّ الآيةَ الأُولَى في سُورةِ الأنفالِ جاءتْ عَقيبَ ما أَنْكره اللهُ تعالى على مَن قال لهم: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وهم أصحابُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا أَسَرُوا المشركين، ولم يَقْتلوهم طَمعًا في الفِداءِ، فقال تعالى: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، أي: فيما أَخْذتُم من هؤلاء الأَسْرى من الفِداءِ، ثم قال تعالى لَمَّا غفَر لهم ما كان منهم مِن تَرْكِ قَتْلِ الأَسْرى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ، أي: اسْتَمتِعوا بما نِلْتُم من أموالِ المشركين، وبما أَخْذتُم من فِدائهم، فعقَّبَ ذلك بهذِه الآيةِ التي مَدَح فيها مَن أَنْفَق أموالَه في سبيلِ الله، لا مَن يُجاهدُ طلبًا للنَّفعِ العاجلِ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فقدَّم بِأَمْوَالِهمْ وَأَنْفُسِهِمْ على قوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ ليَعْلموا أنَّ ذلك يَجِب أنْ يكونَ أهمَّ لهم، وأَوْلى بتقديمِه عِنْدهم، صَرفًا لهم عما حرَصوا عليه من فائدةِ الفِداء، بخِلاف الآيةِ التي في سُورةِ التوبةِ، حيثُ قال في إبطالِ ما أَتى به المشرِكون من عِمارةِ المسجدِ الحرامِ، وسِقايةِ الحاجِّ من المقامِ على الكُفْر: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 19] ؛ فكان المندوبُ إليه في هذه الآيةِ بعدَ الإيمان باللهِ الجهادَ في سَبيلِ الله، فقال سبحانه بَعْده مادحًا لِمَن تلقَّى بالطاعةِ أَمْرَه: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [التوبة: 20] ، ثُمَّ ذَكَر بِأَمْوَالِهمْ وَأَنْفُسِهِمْ، فقُدِّمَ ذِكْرُ ما اقْتَضى المَوضِعُ تقديمَه، وجُعِلَ المالُ والنَّفْسُ أَهمَّ إليهم مِن غيرِهما، وخالَفَ هذا المكانُ قولَه في سُورةِ الأنفالِ، فقُدِّم فيه ما أُخِّر هناك لِذلك .

وقيل: لأنَّ سُورةَ الأَنفالِ مقصودٌ فيها مع المِدْحةِ تعظيمُ الواقعِ منهم من الإيمانِ والهجرةِ، والجِهادِ بالأموالِ والأنفسِ، وتَغبيطُهم بما مَنَّ اللهُ عليهم به مِن ذلك، وتفخيمُ فِعْلِهم المُوجِبِ لموالاةِ بعضِهم بعضًا؛ فقُدِّم ذِكْرُ الأموالِ والأَنفُسِ؛ للتَّعريف بمَوقِع ذلك من النُّفوسِ، وأنهم بادَروا بها على حُبِّها، وشُحِّ الطِّباعِ بها، وليس تأخيرُ هذا المجرورِ كتقديمِه؛ لأنَّه إنَّما يُقدَّمُ حيثُ يُقصَدُ اعتناءٌ وتخصيصٌ وتنبيهٌ على مَوقِعه؛ فإنَّما قُدِّمَ هذا تغبيطًا لهم، وإعظامًا لفِعلهم، أمَّا آيةُ سُورةِ التوبةِ فتعريفٌ بأمرٍ قدْ وقَع، مبنيٌّ على التعريفِ بالمُفاضَلةِ بين سِقايةِ الحاجِّ وعِمارةِ المسجدِ الحرامِ، وبَين مَن آمَن وهاجَرَ، وجاهَدَ في سبيلِ الله بمالِه ونَفْسه؛ بقَصْد رَدِّ مَن ظنَّ أنَّ السِّقايةَ وعِمارةَ المسجدِ الحرامِ أفضلُ، وعَرَف أنَّ الإيمانَ وما ذُكِر معه أعظمُ درجةً عند اللهِ؛ فلم يَعرِضْ هنا داعٍ إلى تَقديمِ ما قُدِّم في الأُخرَى، فتَمخَّضت فضيلةُ ذلك المجرورِ هنا فأُخِّر، والقَصْد تَخصيصُ كنايةِ الإخلاصِ، والتَّخصيصُ مقصودٌ في آيةِ الأنفال، ولم يُقصَد ذلك في آيةِ التوبةِ، ولا وقَع المجرورُ فيها خبرًا؛ فوَجَب بمقتضى اللِّسانِ أنْ يُقدَّم في آيةِ الأنفال قولُه: بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ويُؤخَّرَ في سورة التوبةِ، وقدْ وقَع في كلِّ واحدةٍ من الآيتينِ في كلٍّ مِن السُّورتين ما استدعَى اتصالَ ما بَعْده به، فنَاسَبَ ما ذُكِر، ولم يُناسِب العَكْس؛ وظَهَر وجهُ تَخصيصِ ما وَقَع في كلٍّ من السُّورتَين بموضعِه .

وقيل: لأنَّ ما هنا في الأنفال تَقدَّمه ذِكرُ المالِ والفِدَاءِ وَالغنيمَةِ، في قولِه تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا، وقولِه: لَوْلَا كتابٌ من اللهِ سَبَقَ لمَسَّكُمْ فيمَا أخذتُم، أي: من الفِداء، وقولِه: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ فَقدَّم ذِكرَ المَال، وما في سورة التوبةِ تَقدَّمه ذِكرُ الْجِهَاد، وهو قولُه: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [التوبة: 16] ، وقولُه: كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 19] ؛ فَقدَّم ذِكرَ الجِهادِ في هذه الآي في هذه السُّورَة ثَلاثَ مَرَّات، فأوْرَد في الأُولى: بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وحَذَف من الثَّانِيَة بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ؛ اكْتِفاءً بِما في الأُولى، وحذَف مِن الثَّالِثةِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وزادَ حذْفَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ اكْتِفاءً بما فِي الآيَتَيْنِ قبلَها؛ فناسبَ ذلك تَقديمَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ هنا في الأنفالِ، وتَقديمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هناك في التَّوبةِ .

- قولُه: أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فيه مجيءُ اسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ لإفادةِ الاهْتِمامِ بتَمييزِهم للإخبارِ عنهم، وللتَّعريضِ بالتَّعظيمِ لشأنِهم؛ ولذلك لم يُؤتَ بمِثْله في الإخبارِ عن أحوالِ الفِرَقِ الأُخْرى .

- قولُه: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ خُصَّ الاسْتِنصارُ بالدِّينِ؛ لأنَّ الاستِنصارَ بالحَميَّةِ والعَصبيَّةِ في غيرِ الدِّين منهيٌّ عنه .

- وفي قولِه: فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ قُدِّم الخَبرُ فَعَلَيْكُمُ؛ للاهْتِمامِ به .

2- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

- قولُه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا جملةٌ مُعترِضةٌ بينَ قولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وقولِه: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا، والواوُ اعتراضيَّةٌ؛ للتَّنويهِ بالمهاجِرينَ والأنصارِ، وبيانِ جَزائهم وثَوابِهم، بعدَ بَيانِ أحكامِ ولايةِ بعضِهم لبعضٍ .

- قولُه: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا جِيءَ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ لإفادةِ الاهْتِمامِ بتَمييزِهم للإخبارِ عنهم، وللتَّعريضِ بالتَّعظيمِ لشأنِهم .

- وصِيغةُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ صِيغةُ قَصْرٍ، وأفادتْ قَصْرَ الإيمانِ عليهم دونَ غيرِهم ممَّن لم يُهاجِروا، والقَصْرُ هنا مُقيَّدٌ بالحالِ في قولِه: حَقًّا، والمعنى: أنَّهم مُحقِّقون لإيمانهم بأنْ عضَّدوه بالهِجرةِ من دارِ الكُفْر، وليس الحقُّ هنا بمعنى المقابِل للباطلِ، حتَّى يكونَ إيمانُ غيرِهم ممَّن لم يُهاجِروا باطلًا؛ لأنَّ قرينةَ قولِه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مانعةٌ من ذلك؛ إذ قدْ أَثْبتَ لهم الإيمانَ، ونفَى عنهم اسْتِحقاقَ وَلايةِ المؤمنين .

- وقَولُه: حَقًّا يفيدُ المبالغةَ في وَصفِهم بِكَونِهم مُحِقِّينَ، مُحَقِّقينَ في طريقِ الدِّينِ .

- وتنكيرُ لَفظِ المَغفرةِ في قولِه: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يدُلُّ على الكمالِ، والمعنى: لهم مغفرةٌ تامَّةٌ كاملةٌ عن جميعِ الذُّنوبِ والتَّبِعاتِ .

3- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذييلٌ مُؤذِنٌ بالتعليلِ؛ لتقريرِ أولويَّة ذوي الأرحامِ بَعضِهم ببعضٍ فيما فيه اعتدادٌ بالوَلايةِ .

- وخَتْمُ هذِه السُّورةِ بقولِه: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ في غايةِ البَراعَةِ والحُسْنِ؛ إذ قد تَضمَّنتْ أحكامًا كثيرةً في مهمَّاتِ الدِّينِ وقِوامِه، وتفصيلًا لأحوالٍ؛ فصِفةُ العِلْمِ تَجمَعُ ذلك كلَّه، وتُحيط بمبادئه وغاياتِه 

 

=ثم التوبة بعد الانفال بمشيئة الله الواحد=.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...