الخميس، 18 يناير 2024

6. سورة الأنعام ج1.{156.}

 

6. سورة الأنعام {156.}

سُورةُ الأنعامِ

مقدمة السورة

أسماء السورة :

 

سُمِّيتْ هذه السُّورةُ الكريمةُ سُورةَ الأنعامِ

فعن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عنِ ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما، قال: (إذا سَرَّك أنْ تَعلَمَ جَهْلَ العربِ، فاقرَأْ ما فَوقَ الثَّلاثينَ ومِئَةٍ في سورةِ الأنعامِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ... إلى قولِه: قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)

 

.

فضائل السورة وخصائصها :

 

عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما، قالَ: ((نزَلَتْ سورَةُ الأنعامِ بمَكَّةَ ليلًا جُملةً، حولَها سَبعونَ ألفَ مَلَكٍ، يَجأرُونَ حولَها بالتَّسبيحِ))

 

.

بيان المكي والمدني :

 

سورةُ الأنعامِ مَكيَّةٌ، وقد نقَلَ الإجماعَ على ذلِك بعضُ المفسِّرين

 

.

مقاصد السورة :

 

مِن أهَمِّ مَقاصِدِ سُورةِ الأنعامِ:

1- ترسيخُ العَقيدةِ، وتعريفُ النَّاسِ بربِّهم، وتعبيدُهم له، وإقامةُ الأدلَّةِ على وحدانيَّةِ اللهِ، وصِدقِ رسولِه، وعلى اليومِ الآخرِ

.

2- مُحاجَّةُ المشركِينَ وغيرِهم من المُبتدِعينَ، ومَن كذَّبَ بالبَعْثِ والنُّشورِ، ودحْضُ شُبَهِهم

موضوعات سورة الأنعام :

 

1- بيانُ أنَّ حقَّ الحَمدِ ليسَ إلَّا للهِ؛ لأنَّه مُبدِعُ العوالمِ، وإبطالُ تَأثيرِ الشُّركاءِ مِن الأصنامِ والجنِّ؛ بإثباتِ أنَّه المتفرِّدُ بخَلْقِ العالَمِ، وخَلْقِ الإنسانِ ونظامِ حَياتِه ومَوتِه، بحِكمتِه تعالى وعِلْمِه، وتنزيهُ اللهِ تعالى عن الوَلَدِ والصَّاحبةِ.

2- موعِظةُ المعرِضِينَ عن آياتِ القُرآنِ والمكذِّبِينَ بالدِّينِ الحَقِّ، وتَهديدُهم بأنْ يَحُلَّ بِهم ما حلَّ بالقُرونِ المكذِّبينَ مِن قَبْلِهم، والكافِرين بنِعَمِ اللهِ تعالى، وأنَّهم ما يَضرُّون بالإنكارِ إلَّا أنفُسَهم، ووعيدُهم بما سَيَلْقَونَ عِندَ نزْعِ أرواحِهم، ثمَّ عِندَ البَعثِ.

3- تسفيهُ المشرِكِينَ فيما اقْتَرحُوه على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من طَلبِ إظهارِ الخوارقِ تهكُّمًا، وإبطالُ اعتقادِهم أنَّ اللهَ شاء لهم الإشراكَ؛ قصْدًا منهم لإفحامِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبيانُ حَقيقةِ مَشيئةِ اللهِ، وإثباتُ صِدقِ القُرآنِ بأنَّ أهلَ الكِتابِ يَعرِفون أنَّه الحقُّ.

4- ساقتِ السُّورةُ حَشدًا من الأدلَّةِ والبَراهينِ على وحدانيَّة اللهِ، وقُدرَتِه، وأنَّه وحْدَه المستحِقُّ للعبادةِ.

5- الإنكارُ على المشرِكينَ تَكذيبَهم بالبَعثِ، وتحقيقُ أنَّه واقِعٌ، وأنَّهم يَشهَدون بعْدَه العذابَ، وتَتبرَّأ منهم آلهتُهم التي عَبَدوها، وسَيَندمُون على ذلِك، كما أنَّها لا تُغْني عنهم شيئًا في الحياةِ الدُّنيا؛ فإنَّهم لا يَدْعُونَ إلَّا اللهَ عِندَ النَّوائبِ.

6- في السُّورةِ تَسليةٌ للنبيِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَثبيتٌ لقلبِه، ودَعوتُه للصبرِ على تحمُّلِ أعباءِ الرِّسالةِ دون كَللٍ ولا مَلَل، وإرشادُه إلى الاقتداءِ بمَن سبَقَه مِنَ الرُّسُلِ الَّذين صَبَروا على تَكذيبِ أقوامِهم.

7- بيانُ حِكمةِ إرسالِ اللهِ الرُّسلَ، وأنَّها الإنذارُ والتبشيرُ، وليستْ وظيفةُ الرُّسلِ إخبارَ الناسِ بما يَتطلَّبون عِلمَه مِن المُغيَّباتِ.

8- بيانُ اختِصاصِ الحقِّ تَعالى بالعِلمِ المغيَّبِ، وقَهرِه، وغَلبتِه على المخلوقاتِ.

9- بَيَّنتِ السُّورةُ أنَّ الذين يَستجيبونَ لدعوةِ الحقِّ، هم الذين يَسمَعونَ ويتَّعظون ممَّن قُلوبُهم حيَّة، أمَّا مَن ماتتْ قلوبُهم فهم لا يَنتفِعون بموعظةٍ، ولا يَقْبَلون هِدايةً، ومصيرُهم إلى اللهِ وسيُجازِيهم على جُحودِهم وأعمالِهم المنكَرةِ.

10- بيانُ أنَّ تَفاضُلَ النَّاسِ بالتَّقوى والانتسابِ إلى دِينِ اللهِ، وإبطالُ ما شرَعَه أهلُ الشِّركِ مِن شرائِعِ الضَّلالِ.

11- النَّهيُ عن مُجالسةِ الخائِضين في آياتِ اللهِ ومُؤانستِهم.

12- الأمْرُ بالإعراضِ عن المشرِكين، والنَّهيُ عن سَبِّ الأَصنامِ وعُبَّادِها.

13- بيانُ أنَّ التَّقوى الحقَّ ليستْ مُجرَّدَ حِرمانِ النَّفسِ مِنَ الطيِّباتِ، بل هي حِرمانُ النَّفْسِ مِن الشَّهواتِ التي تَحُولُ بين النَّفْس وبينَ الكَمالِ والتَّزكيةِ.

14- ضربُ المثَلِ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع قومِه بمَثَلِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مع أبيه وقومِه، وكان الأنبياءُ والرُّسُلُ على ذلِك المَثَل؛ مَن تَقدَّمَ منهم ومَن تأخَّرَ.

15- المنَّةُ على الأمَّةِ بما أَنزلَ اللهُ مِن القرآنِ هُدًى لهم، كما أَنزلَ الكِتابَ على موسى، وبأنْ جَعَلَها اللهُ خاتِمةَ الأممِ الصَّالحةِ.

16- بيانُ فَضيلةِ القرآنِ ودِينِ الإسلامِ وما مَنَحَ اللهُ لأهْلِه مِن مُضاعَفةِ الحَسَناتِ.

17- تَخلَّلتْ ذلك قوارعُ للمُشرِكين، وتنويهٌ بالمؤمنين، وامتنانٌ بنِعمٍ اشتمَلَتْ عليها مخلوقاتُ اللهِ، وذِكْرُ مَفاتِحِ الغيبِ.

18- ذكرُ أحوالِ العربِ في الجاهليَّةِ، مع بيانِ ما كانوا عليه مِن سفاهةٍ، وسورةُ الأنعامِ أَجمَعُ سُورِ القُرآنِ لذلك.

19- في السُّورةِ تَفصيلُ مُحرَّماتِ الشَّريعةِ الإسلاميَّة، ومُحْكَمَاتِ آياتِ القُرآن، والأوامِر والنَّواهي.

20- ذَكَر اللهُ تعالى في السُّورةِ خِلافةَ الخلائِقِ، وتفاوُتَ دَرجاتِهم، وخَتَمَ السُّورةَ بذِكرِ سُرعةِ عُقوبةِ اللهِ لمستحِقِّيها، ورحمتِه ومَغفرتِه لمستوجِبيها.

 

======

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (1 - 3)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات :

 

بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ: أي: يَجعلون له عديلًا من الحِجارةِ، ويُسَوُّون الأوثانَ به، وقيل: يَعدِلون بأفعالِه عنه، ويَنسُبونها إلى غيرِه، وقيل: يَعدِلون بعبادَتِهم عنه تعالى، والعدالةُ: لفظٌ يَقتضي معنى المساواةِ، وأصل (عدل): يدلُّ على استواءٍ

.

قَضَى: القضاءُ: إتمامُ الشَّيءِ، أو فَصْلُ الأمْرِ؛ قولًا كان ذلِك أو فِعلًا، ويُعبَّرُ عنه بالموتِ، ويُطلَقُ على الأجَل، وعلى الفَصلِ في الخُصومةِ أيضًا، وأصل (قضي): يَدُلُّ على إحكامِ أمرٍ وإتقانِه، وإنفاذِه لجِهتِه .

أَجَلًا: الأجَلُ: غايةُ الوقتِ، سواءٌ في مَحلِّ الدَّيْن، أو انقضاءِ العِدَّة أو غيرِهما، والمدَّةُ المضروبةُ للشيءِ، ويُقال للمدَّةِ المضروبةِ لحياةِ الإنسانِ: أجلٌ: ويُعبَّرُ به عن عُمرِ الإنسانِ، فيُقال: دنا أجَلُه، وهو عبارةٌ عن دُنوِّ المَوتِ، واستيفاءُ الأجَلِ، أي: مدَّةُ الحياةِ .

تَمْتَرُونَ: تَشُكُّون، أو تَختلِفون، أو تَتردَّدون، مِن المِرْيَة: وهي الشَّكُّ، وقيل: هي التردُّدُ في الأمْر، وهو أخصُّ من الشكِّ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبرُ تعالى أنَّ الحمدَ الكاملَ المُستحَقَّ هو له وحْدَه؛ فهو الذي خلَق السَّمواتِ والأرضَ، وجعَل الظُّلماتِ والنُّورَ، ومع ذلك كلِّه؛ فإنَّ الكفَّارَ عدَلوا بربِّهم سواه، وجعَلوا معه شريكًا يُساوونَه به.

ثمَّ أخبَر تعالى أنَّه هو الذي خلَقَ جميعَ البشرِ مِن طينٍ، وذلك بخلقِ أبيهم آدَمَ منه، ثم حدَّد مُدَّةَ إقامَتهم في الدُّنيا، وحدَّد كذلك وقتًا لهذه الحياةِ الدُّنيا تزولُ فيه، لا يَعلمُه غيرُه، ثمَّ يكونُ بعدَه البعثُ والانتقالُ للآخِرةِ؛ ليجازيَ العبادَ بحسَبِ أعمالِهم، ومع هذا البيانِ فإنَّهم يشكُّون في أمْرِ البَعثِ والنُّشورِ.

ثمَّ بيَّن اللهُ تعالى أنَّه هو المعبودُ في السَّمواتِ والأرضِ، يعلَمُ ما يُسرُّه الخلقُ وما يُعْلِنونَه، ويَعلمُ كلَّ ما يَعملونَه، خيرًا كان أو شرًّا، ويُحْصيه، وسيُجازِيهم عليه.

تفسير الآيات :

 

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (1).

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.

أي: جميعُ المحامدِ يَستحقُّها اللهُ تعالى وحْدَه، الذي أَوْجَد بتقديرِه السَّمواتِ والأرضَ. وفي ضِمْنِ ذلكَ تعليمٌ مِن الله تعالى لخَلقِه أنْ يَحمدُوهُ، ويُفْرِدُوه بالحمْدِ

.

جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ.

أي: وهو الذي جعَل الظُّلماتِ والنورَ، وذلك شامِلٌ للحِسِّي كاللَّيلِ والنَّهارِ، والمعنويِّ كظُلماتِ الجَهلِ والشِّركِ والمعصيةِ، ونورِ العِلمِ والإيمانِ والطَّاعةِ .

ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ.

أي: ومع هذا كلِّه، كفَر به بعضُ عِبادِه، وعدَلوا به سِواه، بأنْ جعَلوا معه شريكًا يُساوونَه به في العبادةِ والتَّعظيمِ، فيُعظِّمون أمْرَه، ويَعبُدونَه كما يَعبُدون اللهَ سبحانه وتعالى .

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ  (2).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا استدلَّ تعالى بخَلْقِه السَّمواتِ، وتعاقُبِ الظُّلماتِ والنُّورِ على وجودِ الصَّانعِ الحكيمِ- أتْبَعَه الاستدلالَ بخَلْقِه الإنسانَ على إثباتِ هذا المطلوبِ ، فقال:

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ.

أي: هو سُبحانَه الذي أوجدَ أصْلَكم، وأنشأَ مادَّتَكم- أيُّها النَّاسُ- من طِينٍ، وذلك بخَلْقِ أبيكم آدَم عليه السَّلامُ .

ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ.

أي: ضرَبَ لِمُدَّة إقامتِكم في هذه الدَّارِ أجلًا تُبتَلَوْن فيه، ثم يُعيدكم ترابًا كما كُنتم، وضرَب لهذه الدُّنيا وقتًا تَزولُ فيه، لا يَعلمُه إلَّا هو، فتُبعَثون أحياءً، وتنتَقِلون إلى الدَّارِ الآخِرة؛ ليجازيَكم بأعمالِكم مِن خيرٍ وشرٍّ .

ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ.

أي: ثمَّ أنتُم مع هذا البيانِ التامِّ، والحُجَّة السَّاطعة- حيث عرفتُم أنَّكم خُلِقْتُم من طينٍ، وأنَّ الآجالَ تَنقضي- تشكُّون في أمْرِ البَعثِ، وقيامِ السَّاعة !

وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ .

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا تَقدَّم ما يدلُّ على القُدرةِ التامَّةِ والاختيارِ، وذلكَ في قولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ... ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ، ذكَر ما يدلُّ على العِلم التامِّ، فكان في التنبيهِ على هذِه الأوصافِ دلالةٌ على كونِه تعالى قادرًا مختارًا، عالِمًا بالكليَّات والجُزئيَّات، وإبطالٌ لشُبَهِ مُنكِرِ المعادِ ، فقال تعالى:

وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ.

أي: وهو المأْلوهُ المعبودُ في السَّمواتِ وفي الأرضِ .

كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف: 84] .

وقال سبحانه: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] .

يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ.

أي: يعلمُ ما تُسرُّونه وما تُعلنونَه؛ فلا يَخفَى عليه شيءٌ .

وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ.

أي: ويَعلمُ جميعَ ما تَعملونَ مِن خيرٍ وشرٍّ، فيُحصي ذلك عليكم، ويُجازيكم به عندَ رُجوعِكم إليه؛ فاحْذَروا معصيتَه، وارْغَبوا في طاعتِه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- في قولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ...: حَمِدَ اللهُ تعالى نفْسَه أنْ خلَق السَّمواتِ والأرضَ؛ فاللهُ تعالى يَحمَدُ نفْسَه عندَ الأمورِ العظيمةِ، فحَمِد نفْسَه على خلقِه السَّمواتِ والأرضَ، الدالَّة على كمالِ قُدرته، وسَعةِ عِلمِه ورَحمتِه، وعمومِ حِكمتِه، وانفرادِه بالخلقِ والتدبير، وعلى جَعْلِه الظُّلماتِ والنورَ؛ لأنَّ هذه الأمورَ العظيمةَ تُوجِبُ للعبدِ المتأمِّل أنْ يَحمَدَ اللهَ عزَّ وجلَّ على كمالِ صِفاتِه، وعلى كمالِ إفضالِه وإنعامِه، وتدلُّ دلالةً قاطعةً أنه تعالى هو المُستحِقُّ للعِبادة، وإخلاصِ الدِّين له

.

2- أنَّ الإيمانَ بما تضمَّنه قولُه تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ يَقتضي عدمَ مُخالفةِ أمْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، بتَرْك واجبٍ، أو فِعلِ معصيةٍ؛ والرغبةَ في الأعمال التي تقرِّبُ مِن الله، والحذرَ مِن كلِّ عملٍ يُبعِدُ منه سبحانه وتعالى، فإذا علِمَ العبدُ أنَّ اللهَ يَعلمُ سِرَّه وجَهرَه، استحيا منه، فلم يترُكْ ما وجَب، ولم يفعلْ ما يَحرُم، وإذا لم يُثمرِ العلمُ بذلك هذه الثمرةَ الجليلةَ، كان علمًا لا فائدةَ منه .

3- قولُه تعالى: وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ فيه بيانُ عِلمِ اللهِ تبارك وتعالى بما نكسِبُ؛ أي: بما نَكسِبُه من الأعمالِ، سواءٌ كان كَسبًا دُنيويًّا، أو كسبًا أُخرويًّا، فإنَّ اللهَ تعالى يَعلمُه ولا يَخفَى عليه، ويَترتَّب على هذا ألَّا نكسِب شيئًا حرَّمه اللهُ علينا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ أنَّ حمْدَ الله يكونُ على أفعالِه التي يَختارُها، وعلى صِفاتِه الكاملةِ اللازِمة له؛ فهو جلَّ وعلا مستحِقٌّ أنْ يُحمَد، والحمدُ الكاملُ مختصٌّ به

.

2- لمَ قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ ولم يقُل: (المدحُ لله)، أو (الشُّكر لله)، والجواب: إنَّما لم يقُل: (المدح لله)؛ لأنَّ المدحَ كما يَحصُلُ لله تعالى، فقدْ يَحصُل لغيرِه، ألَا ترى أنَّه كما يَحسُن مدْحُ الرَّجُل العاقلِ على أنواع فضائلِه، فكذلك قد يُمدَحُ اللؤلؤُ؛ لحُسنِ شَكلِه، ولَطافةِ خِلقتِه، فيُقال: ما أحْسنَه! أمَّا الحمدُ فإنَّه لا يحصُل إلَّا لله عزَّ وجلَّ على ما يَصدُر منه من الإنعامِ والإحسانِ. ولم يقُل: (الشُّكرُ لله)؛ لأنَّ الشُّكرَ عبارةٌ عن تعظيمِه بسببِ إنعامٍ صدَرَ منه، ووصَل إليك، وهذا مُشعِرٌ بأنَّ العبدَ إذا ذكَر تعظيمَ الله بسببِ ما وصَلَ إليه من النِّعمة، فحينئذٍ يكونُ المطلوبُ الأصليُّ به وصولَ النِّعمة إليه، فأمَّا إذا قال: (الحمدُ لله)، فهذا يدلُّ على أنَّ العبدَ حمِدَه؛ لأجْل كونِه مستحِقًّا للحمدِ، لا لخُصوصِ أنَّه تعالى أوْصَل النِّعمةَ إليه؛ لأنَّ الحمدَ عبارةٌ عن تعظيمِ اللهِ سُبحانه؛ لأجْلِ ما صدَر عنه من الإنعامِ، سواءٌ كان ذلك الإنعامُ واصلًا إليك أو إلى غيرِك، فيكون الإخلاصُ أكملَ .

3- إنَّما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ولم يقل: (أحمَدُ الله)؛ لأنَّه لو قال: (أحمد الله) كان ذلك مُشعِرًا بأنَّه ذكَرَ حَمْدَ نفْسِه، ولم يذكُر حمْدَ غيرِه، أمَّا إذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فقد دخَلَ فيه حمْدُه، وحمدُ غيرِه، من أوَّل خلْق العالَم إلى آخِرِ استقرار المكلَّفين في درجات الجِنان، ودَركاتِ النِّيران، كما قال تعالى: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 10] ، فكان هذا الكلامُ أفضلَ وأكملَ .

4- خصَّ السَّمواتِ والأرضَ بالذِّكر في قوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ لأنَّهما أعظمُ المخلوقاتِ فيما يرَى العبادُ؛ لأنَّ السَّماءَ بغيرِ عَمَدٍ، يرونَها، فيها العِبَرُ والمنافعُ؛ والأرضُ مسكنُ الخلائِقِ، وفيها أيضًا العِبَرُ والمنافِع .

5- الاقتصارُ في ذِكرِ المخلوقاتِ على هذه الأربعِ: (السَّموات، والأَرْض، والظُّلمات، والنُّور)، في قولِه تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، فيه تعريضٌ بإبطالِ عقائدِ كفَّارِ العربِ؛ فإنَّهم بين مُشرِكين، وصابئةٍ، ومجوسٍ، ونصارى، وكلُّهم قد أثبتوا آلهةً غيرَ الله؛ فالمشركونَ أثبتوا آلهةً من الأرضِ، والصابئةُ أثبتوا آلهةً من الكواكبِ السَّماويةِ، والنصارى أثبتوا إلهيَّةَ عيسى أو عيسى ومريمَ، وهما من الموجوداتِ الأرضيَّة، والمجوسُ- وهم المانويَّة- ألَّهوا النُّورَ والظُّلمة، فالنورُ إلهُ الخيرِ، والظُّلمةُ إلهُ الشرِّ عندهم؛ فأخبرَهم اللهُ تعالى أنَّه خالقُ السمَّواتِ والأرضِ- أي: بما فيهما- وجاعِلُ الظُّلماتِ والنُّورِ .

6- قال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ لماذَا اختَلفَ التعبيرُ؛ في قوله: خَلَقَ وجَعَلَ؛ فهل هو مُجرَّدُ اختلافِ لفظٍ، أو هناك فرقٌ بين الفِعْلَينِ؟

قيل: إنَّ خَلَقَ هنا وجَعَلَ معناهما واحدٌ؛ وعلى هذا فيكونُ التَّفريقُ في هذا الموضع لمجرَّدِ اختلافِ اللَّفْظ فقط. ويدلُّ لهذا قولُ الله تبارك وتعالى: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء: 1] ، وقال تعالى في آيةٍ أخرى: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف: 189] .

وقيل: بَينهما فرْقٌ، فالخَلْقُ: إنشاءٌ لذاتِ المخلوقِ وأصلِه، والخَلقُ فيه معنى التَّقديرِ، فعبَّر به عن السَّمواتِ والأرض، بينما الظُّلماتُ ليستْ ذاتًا، وإنَّما هي وصفٌ للمخلوقِ، وكذلك النُّورُ، وهما ليسَا شيئًا محسوسًا، وإنَّما يَظهرانِ في غيرِهما؛ لذا عبَّر عنهما بكَلمةِ جَعَلَ ففي الجَعْلِ معنى التَّضمينِ والتَّصييرِ، كإنشاءِ شيءٍ من شيءٍ، وتَصييرِ شيءٍ شيئًا. وإنَّما حَسُن لَفظُ الجَعْلِ هاهنا في قولِه تعالى: جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ؛ لأنَّ النورَ والظُّلمةَ لَمَّا تَعاقبَا صارَ كأنَّ كلَّ واحدٍ منهما إنَّما تولَّد مِنَ الآخَر. والقولُ بأنَّ بين اللفظين (خَلَق) و(جَعَل) فرقًا، لا شكَّ أنَّه أبلغُ مِن أنْ نقولَ: إنَّه ليسَ بينهما فرْقٌ، وإنَّما اختلَفَ اللَّفظُ فقط .

7- يُؤخَذُ من قولِه تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ بيانُ سَفهِ الكفَّار، وأنَّهم لا عُقولَ لهم؛ وجهُه: أنَّه بعدَ ظهورِ هذه الآياتِ العظيمةِ، عدَلوا باللهِ عزَّ وجلَّ، وجعَلوا له عَديلًا ونِدًّا، وهذا يَدلُّ على سَفهِهم، وإنْ كانوا أذكياءَ .

8- رُبوبيَّةُ اللهِ تعالى عامَّةٌ للمؤمنِ والكافِر؛ لقوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ، فأخْبَر سبحانه وتعالى عن نفْسِه أنَّه ربٌّ لهؤلاء، ولا إشكالَ في ذلك؛ فهذه هي الربوبيَّة العامَّة، وهناك ربوبيَّة خاصَّة بالمؤمنين تقتضي الكِلاءَةَ والعنايةَ والحِفظَ والتَّربية، وقد اجتمَع النوعانِ في قول سَحَرةِ فرعونَ: آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف: 121-122] ، فالأُولى عامَّة، والثَّانِيَة خاصَّة .

9- الجَمْعُ بين قولِه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، وبيْن قولِه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق: 5- 6] : ففي الآيةِ الأُولَى أنَّ البشرَ مخلوقون مِن طينٍ، وفي الثانيةِ أنَّهم مخلوقون مِن ماءٍ دافقٍ، والجمعُ بينهما أنَّ خلْقَ البَشَر مِن الطِّين باعتبارِ الأصل، وأمَّا خلْقُهم من الماءِ الدَّافِق، فباعتبارِ الفَرْع المتولِّد مِن الأصْل .

10- لا خِلافَ ولا تناقُضَ بين قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، وقولِ اللهِ تبارك وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] ، وقولِه تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [فاطر: 11] ؛ فالجمْعُ بين هذه الآياتِ أنَّ أصلَ بني آدمَ ترابٌ صُبَّ عليه الماءُ، فصار طينًا، يَلْزقُ باليَدِ إذا مسَّه الإنسانُ، ثمَّ صَارَ حمأً مَسْنُونًا، ثم َصَارَ صَلْصالًا كالفخَّار له صوتٌ إذا قُرِع .

11- في قَولِه سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ نُسِبَ الخَلْقُ مِن الطِّين إلى المخاطَبِين لا إلى آدَم عليه السَّلام مع أنَّه هو المخلوقُ مِن الطِّينِ حَقيقةً- حيث لم يقُل: (هو الذي خَلَق أباكم آدَمَ مِن طين...)-؛ لأنَّ آدَم عليه السَّلامُ هو أوَّلُ البَشرِ، وهُو أبوهم؛ فكانَ كُلُّ البَشرِ راجعًا إلى الخَلقِ مِن الطِّين؛ فأخْرَجَ ذلك مَخرجَ الخِطابِ لهم؛ لأنَّهم ذُرِّيتُه .

12- ذَكَر اللهُ مادَّةَ ما منه الخَلْقُ بقوله: مِنْ طِينٍ؛ لإظهارِ فَسادِ استدلالِهم على إنكار الخَلْق الثاني؛ لأنَّهم استبعدوا أنْ يُعادَ خلْقُ الإنسانِ بعدَ أنْ صار ترابًا، وتكرَّرتْ حكايةُ ذلك عنهم في القرآنِ، فقد اعتَرَفوا بأنَّهم يَصيرون ترابًا بعدَ الموتِ، وهم يَعترِفون بأنَّهم خُلِقوا من تراب؛ لأنَّ ذلك مُقرَّرٌ بين النَّاسِ في سائرِ العُصورِ، فاستدلُّوا على إنكارِ البَعث بما هو جديرٌ بأنْ يكونَ استدلالًا على إمكانِ البَعْثِ؛ لأنَّ مصيرَهم إلى ترابٍ يُقرِّبُ إعادةَ خلْقِهم؛ إذ صاروا إلى مادَّةِ الخَلْقِ الأوَّلِ؛ فلذلك قال اللهُ هنا: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، وقال في آياتِ الاعتبارِ بعجيبِ تكوينِه: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان: 2] ، وأمثال ذلك .

13- إعادةُ النكرةِ بعدَ نكرةٍ في قوله: ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى... يُفيد أنَّ الثانيةَ غيرُ الأولى، فصار المعنى: ثمَّ قضَى لكم أجلَيْنِ: أجلًا تَعرِفون مُدَّتَه بموتِ صاحبِه، (وهو عُمرُ الإنسانِ)، وأجلًا مُعيَّنَ المدَّةِ في عِلم الله، (وهو يومُ القيامةِ) .

14- يُستفادُ من قولِه تعالى: قَضَى أَجَلًا أنَّ مَن مات مقتولًا فقدْ ماتَ بأجَلِه الذي قدَّره اللهُ له؛ لأنَّ الله قضاه، ولا يُقال: (لولا أنَّه قُتِل لم يَمُتْ)؛ لأنَّ اللهَ تعالى قضَى أن يموتَ بالقَتْل، فهو مقتولٌ بأجَلٍ .

15- أنَّ الحُكمَ لله عزَّ وجلَّ وحْدَه؛ لقولِه تعالى: قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ، ولا أحدَ يُغيِّر في هذه الآجالِ .

16- قال اللهُ تعالى: مُسَمًّى عِنْدَهُ فقيَّد (المسمَّى) بكَوْنِه عندَه، فإنَّ وقتَ السَّاعةِ لا يَعلَمُه ملَكٌ مُقرَّب ولا نبيٌّ مُرسَلٌ، كما قال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] ، بخلاف ما إذا قال: (مُسمًّى) كقوله: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة: 282] ؛ إذ لم يُقيَّدْ بأنَّه (مُسَمَّى عِنْدَهُ) فقدْ يَعرِفُه العبادُ، وأمَّا أجَلُ المَوْتِ فهذا تَعرِفُه الملائكةُ الذين يَكتُبونَ رزقَ العبدِ وأجلَه وعمَلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ، كما في حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((...ثمَّ يُبعَثُ إليه المَلَكُ، فيُؤمَرُ بأربعِ كلماتٍ، فيقال: اكتُبْ رِزقَه وأجَلَه وعمَلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ )) ، فهذا الأجَلُ الذي هو أجلُ الموتِ قدْ يُعْلِمُه اللهُ مَن شاءَ من عبادِه، وأمَّا أجَلُ القيامةِ المسمَّى عندَه فلا يَعْلمُه إلَّا هو .

17- في قولِه تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ ذكَر السِّرَّ؛ لأنَّ عِلمَ السرِّ دليلُ عمومِ العِلم، وذَكَر الجهرَ لاستيعابِ نوعَيِ الأقوالِ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ... كلامٌ خرَج مخرجَ الخبرِ وأُريدَ به الأمرُ- على أحد القولين-، أي: احْمَدوا الله، أي: أخْلِصوا الحَمدَ والشُّكرَ للهِ، ولا تُشرِكوا معه في ذلك أحدًا شيئًا؛ فإنَّه المستوجِبُ عليكم الحمدَ بأياديه عندكم، ونِعَمِه عليكم، لا مَن تَعبدُونه من دونِه، وتَجعلونَه له شريكًا مِن خلقِه

؛ وإنَّما جاءَ على صِيغة الخبرِ؛ لفوائد: إحداها: أنَّ قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ يُفيد تعليمَ اللَّفظ والمعنى، ولو قال: (احْمَدوا) لم يَحصُل مجموعُ هاتينِ الفائدتينِ. وثانيها: أنَّه يُفيدُ أنَّه تعالى مستحِقٌّ الحمدَ، سواءٌ حمِده حامدٌ أو لم يَحْمَده. وثالثها: أنَّ المقصودَ منه ذِكْرُ الحُجَّة؛ فذِكْرُه بصيغةِ الخبرِ أَوْلى .

- وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ (أَلْ) في الْحَمْدُ لتعريفِ الجِنسِ؛ فدلَّتْ على انحصارِ استحقاقِ جنسِ الحمد للهِ تعالى؛ فتُفيد استحقاقَ اللهِ تعالى الحمدَ وحْدَه دونَ غيرِه؛ لأنَّ هذه الجُملةَ تدلُّ على الحَصْرِ، فالمعنى هنا أنَّ الحمدَ كلَّه لا يستحقُّه إلَّا اللهُ، وهذا قَصرٌ إضافيٌّ؛ للردِّ على المشركينَ الذين حَمِدوا الأصنامَ على ما تَخيَّلوه من إسدائِها إليهم نِعَمًا ونَصْرًا، وتفريجَ كُرباتٍ .

- و (اللامُ) في قوله: (لله): إمَّا للاختصاصِ، وإمَّا للاستحقاقِ، ولا تَنافيَ بين المعنيينِ، وعلى هذا فتكون للاستحقاقِ والاختصاصِ؛ لأنَّ (أل) في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ للعمومِ، ولا أحَدَ يستحِقُّ الحَمْدَ على العُمومِ إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ .

2- قوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ

- قدَّم السَّمواتِ على الأرضِ؛ لشَرفِها وعلوِّ مكانِها ، وقيل: لأنَّ خلْقَ السَّمواتِ أعظمُ .

3- قوله: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ: تقديمُ ذِكرِ الظُّلُمَاتِ على النُّور؛ مراعاةً للترتُّب في الوجودِ؛ لأنَّ الظُّلْمةَ سابقةُ النُّورِ ، وفي الحديث: ((إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خَلَق الخَلْقَ في ظُلمةٍ، ثمَّ ألْقَى عليهم مِن نُورِه يومئذٍ... )) .

- وفيه: المخالفةُ في الإفرادِ والجَمعِ، حيث جمَع الظُّلُمَاتِ وأفْرَدَ النُّورَ؛ وذلك لمناسباتٍ لطيفةٍ:

فقِيل: لظُهورِ كَثرةِ أَسبابِ الظُّلماتِ، ومَحالِّها عندَ الناسِ، ومُشاهَدتِهم لها على التَّفصيلِ .

وعلى حَمْلِ الظُّلُمَاتِ على الكُفرِ والباطِل، والنُّور على الإيمانِ والحَقِّ؛ فقِيل: لَمَّا كان الحقُّ واحدًا، والباطلُ كثيرًا؛ فلمَّا كانتِ الظُّلمةُ بمنزلةِ طُرقِ الباطلِ، والنُّورُ بمنزلةِ طَريقِ الحقِّ؛ فقد أُفْرِدَ النورُ، وجُمِعتِ الظُّلمات، ونحوُ هذا ما جاءَ في قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ حيثُ وحَّدَ وليَّ الذين آمنوا، وهو اللهُ الواحدُ الأحدُ، وجمَعَ وَلِيَّ الَّذين كفروا؛ لتعدُّدِهم وكثرتِهم، وجمَع الظُّلماتِ- وهي طُرُق الضَّلالِ والغيِّ- لكَثرتِها واختلافِها، ووحَّد النورَ- وهو دِينُه الحقُّ وطريقُه المستقيمُ الذي لا طريقَ إليه سِواه .

وقيل: جمَع الظُّلُمَاتِ وأفردَ النُّور اتِّباعًا للاستعمالِ؛ لأنَّ لفظَ الظُّلُمَاتِ بالجمعِ أخفُّ، ولفظ النُّور بالإفرادِ أخفُّ؛ ولذلك لم يَرِدْ لفظ الظُّلُمَاتِ في القرآنِ إلَّا جمعًا، ولم يرِدْ لفظ النُّور إلَّا مفردًا، وهما معًا دالَّانِ على الجنسِ، والتعريفُ الجِنسيُّ يستوي فيه المفردُ والجمعُ؛ فلم يبقَ للاختلافِ سببٌ لاتِّباعِ الاستعمالِ .

وقيل: إنَّه جَمَع لفْظَ الظُّلُمَاتِ ووحَّدَ لفظ النُّورَ؛ لكونِه أشرفَ، كما قال سُبْحانَه: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ [النحل: 48] .

- وفي إيثارِ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ بالذِّكرِ دونَ غيرِهما مِنَ الأعراضِ: إيماءٌ وتَعريضٌ بحالَيِ المُخاطَبِين بالآيةِ؛ مِن كُفرِ فريقٍ وإيمانِ فَريقٍ؛ فإنَّ الكفرَ يُشبه الظُّلمةَ؛ لأنَّه انغماسٌ في جَهالةٍ وحَيرةٍ، والإيمانَ يُشبه النورَ؛ لأنَّه استبانةُ الهدى والحقِّ .

4- قوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ:

- عطَف بـ ثُمَّ؛ لاستبعادِ صُدورِ الشِّركِ منهم مع وجودِ ما يَقتضي عدمَه ؛ فـثُمَّ للتَّراخي الرُّتْبي الدالِّ على أنَّ ما بعدَها يَتضمَّن معنًى من نوعِ ما قَبْلَها، وهو أهمُّ في بابِه، وذلك شأنُ (ثُمَّ) إذا وردتْ عاطفةً جملةً على أخرى؛ فإنَّ عدولَ المشركينَ عن عبادةِ الله مع عِلمهم بأنَّه خالقُ الأشياءِ أمرٌ غريبٌ فيهم، أعجبُ مِن عِلمهم بذلك .

- وقوله: بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فيه إظهارُ (الرَّبِّ) في موضعِ ضَميرِه- وهو مِن الإظهار في موضع الإضمارِ؛ حيث قال: بِرَبِّهمْ ولم يقل: (بِه)، مع أنَّ ذِكْر الله تقدَّمَ- لزيادةِ التشنيعِ والتقبيحِ عليهم، وتَفخيمًا لجلالِه، وهي سُنَّةٌ مِن سُنَنِ العَرَبِ في كلامِهم؛ يُعيدون الاسمَ ظاهرًا، وإنْ تقدَّم، دون التعبيرِ عنه بالضَّمير؛ للدَّلالةِ على كمالِ العِنايةِ .

- وقوله: بِرَبِّهِمْ مُتعلِّقٌ بِقَوله: يَعْدِلُونَ، وقُدِّمَ عليه؛ لِمَزيدِ الاهتمامِ، والمسارَعَةِ إلى تحقيقِ مدارِ الإنكارِ والاستبعادِ، والمحافظةِ على الفواصِل. والباءُ في قولِه: بِرَبِّهِمْ للتَّعديةِ، ويَعْدِلونَ مِنَ العَدْلِ، وهو التَّسويةُ بين الشَّيئينِ، فيكون المفعولُ محذوفًا؛ ففيه إيجازٌ بالحَذفِ؛ حَذَف المفعولَ به؛ لظُهورِه، أي: يَعدِلون به غَيرَه .

5- قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ... استئنافٌ مَسُوقٌ لبيانِ بُطلانِ كُفرِهم بالبعثِ، مع مُشاهدتِهم لِمَا يُوجِبُ الإيمانَ به، إثرَ بيانِ بُطلانِ إشراكِهم به تعالى، مع مُعاينَتِهم لموجِباتِ توحيدِه ، وهذا الاستئنافُ لغَرَضِ التعجُّبِ من حالِ المشركين .

- وتَخصيصُ خَلْقِهم بالذِّكرِ مِن بين سائرِ دَلائلِ صِحَّةِ البعثِ- مع أنَّ ما ذُكِر مِن خلْق السَّمواتِ والأرضِ مِنْ أوضَحِها وأظهرِها؛ كما ورَد في قولِه تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [سورة يس: 81]- لأنَّ محلَّ النِّزاعِ بَعْثُهم؛ فدَلالةُ بَدءِ خَلْقهم على ذلك أظهرُ، وهم بشُؤونِ أنفسِهم أعرَفُ، والتعامِي عن الحُجَّةِ النَّيِّرَة أقبَحُ .

- والإتيانُ بضَميرِ هُوَ في قولِه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ؛ ليحصلَ تعريفُ المسنَدِ والمسنَدِ إليه معًا؛ فتُفيد الجملةُ القصرَ في رُكْنَيِ الإسنادِ وفي مُتعلِّقها، أي: هو خالِقُكم لا غيرُه، مِن طينٍ لا مِن غيرِه، والقصرُ أفادَ نفيَ جميعِ هذه التكويناتِ عن غيرِ اللهِ مِن أصنامِهم .

- بناءً على أن الخِطابَ في قوله: خَلَقَكُمْ مُوجَّهٌ إلى الَّذين كفروا ؛ ففيه الْتفاتٌ من ضَميرِ الغائِب- الذي هو قولُه: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا- إلى الخِطاب؛ لقصدِ التَّشنيعِ والتَّوبيخِ .

6- قوله: ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ:

- حرف ثُمَّ في قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ دالٌّ على التَّراخي الرُّتْبي، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ التعجُّبَ حَقيقٌ ممَّن يَمْتَرونَ في أَمْرِ البعثِ، مع عِلمِهم بالخَلقِ الأوَّلِ وبالموت، والمخاطَب بقولِه: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ هم المشرِكون .

- وجِيء بالمسنَدِ إليه أَنْتُمْ ضَميرًا بارزًا؛ للتوبيخِ .

7- قوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ فيه ذِكرُ الجهرِ بعدَ السرِّ، مع أنَّه مفهومٌ منه بالأَوْلى؛ للمقابلةِ والتأكيد .

8- قوله: وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ فيه تعريضٌ بالوعدِ والوعيدِ؛ إذ إنَّ المرادَ بقولِه: تَكْسِبُونَ جميعُ الاعتقاداتِ والأعمالِ من خيرٍ وشرٍّ

 

.============

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (4 - 6)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات :

 

آيَةٍ: أي: عَلامَةٍ ودليلٍ وحُجَّةٍ على وَحدانيَّة اللهِ، وصِدقِ رسلِه فيما جاءوا به، وتُطلَقُ الآيةُ على العلامةِ- يُقال: آيةُ كذا؛ أي: علامَتُه- وعلى العَجيبةِ، وتُطلق أيضًا على الجماعةِ، وسُمِّيت الآيةُ مِن القرآنِ بذلك: إمَّا مِن العلامةِ؛ لأنَّها علامةٌ على صدقِ مَن جاء بها، أو مِن الجماعةِ؛ لأنَّها جماعةٌ مِن كلماتِ القرآنِ مشتملةٌ على بعضِ ما اشتَمل عليه القرآنُ مِن الإعجازِ، والحلالِ والحرامِ، والعقائدِ

.

قَرْنٍ: أي: قومٍ وأُمَّة من الناس مُقترنِينَ في زمَنٍ واحد، وجَمْعُه قرونٌ، ويُطلَق القرنُ كذلك على الزَّمان، وأهلِ الزمان، وأهلِ مُدَّة كان فيها نبيٌّ، أو كان فيها طَبقةٌ من أهل العِلم، قلَّت السِّنون أو كثُرت؛ قيل: مُدَّتُه ثمانون سَنةً، ولا يَقِلُّ عن ثَلاثينَ سَنةً، وأصل (قرن): يدلُّ على جمْعِ شيءٍ إلى شيء .

مَكَّنَّاهُمْ: أَعطَيْناهم، وثَبَّتْناهم، وأسْكنَّاهم، وملَّكْناهم، ووَطَّأْنَا لهم البِلادَ والأرضَ .

مِدْرَارًا: المطرُ المدرارُ هو: المُتتابِع الغزيرُ الذي يَتْبَعُ بَعضُه بَعضًا، وأصلُه: تَولُّدُ شَيءٍ عن شيءٍ .

وَأَنْشَأْنَا: خَلَقْنا وأحْدَثْنا، والنَّشأة: إحداثُ الشَّيءِ وتربيتُه، والإنشاءُ: إخراجُ ما في الشَّيءِ بالقوَّة إلى الفِعل، وأصل (نشأ) يدلُّ على ارتفاعٍ في شيءٍ

 

.

مشكل الإعراب :

 

قوله: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ

كَمْ: اسمٌ له وجوبُ الصَّدارةِ في الكَلامِ، ويجوزُ هنا أن تَكونَ استفهاميَّةً أو خَبريَّة، وهي في مَحلِّ نَصبٍ مفعولٌ به مُقَدَّمٌ بـأَهْلَكْنَا لا بـيَرَوْا؛ لأنَّ الاستفهامَ وما جرَى مجراهُ لا يَعمَلُ فيه ما قَبْلَه، وهي مُعَلِّقةٌ للفِعل (يَرَى) عن العَملِ

. والرؤيةُ هنا الأقربُ أنَّها رُؤيةٌ عِلْميَّةٌ وليستْ بَصريَّةً، فتَنصِب مَفعولَينِ، وكَمْ وما في حيِّزها سَدَّتْ مَسدَّ هذَينِ المفعولَينِ. وقوله: مِنْ قَرْنٍ تمييزٌ لـ (كم)؛ وهذا الإعرابُ بِناءً على أنَّ (كم) عِبارةٌ عن الأشخاص، أي: كَثيرًا من القرونِ أهلَكْنا. ويَجوزُ أنْ تكونَ كَمْ عِبارةً عن المصدرِ، فتَنتصبَ انتصابَه بـأهْلَكْنا على المفعوليَّة المُطْلَقَة، والتقدير: كَمْ إهلاكًا أَهْلَكْنا، ومِنْ قَرْنٍ على هذا صِفةٌ لمفعولِ أَهْلَكْنَا، أي: أهلكْنا قومًا أو فوجًا مِن القُرونِ. ويجوزُ أنْ تكونَ كَمْ عِبارةً عن الزَّمان، فتَنتصبَ على الظَّرفِ، والتقدير: كم أَزمنةً أهلَكْنا فيها، وعلى هذا الوجهِ فـمِنْ قَرْنٍ هو المفعولُ به لـأَهْلَكْنَا، ومِنْ مَزيدةٌ فيه؛ وجازَ ذلك لأنَّ الكلامَ غيرُ مُوجَبٍ، والمجرورَ نكرةٌ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ المشرِكين والمكذِّبين لا تأتيهم من حُجَّةٍ وعلامةٍ على وحدانيةِ اللهِ، وصِدقِ رُسلِه إلَّا أعْرَضوا عنها؛ فكذَّبوا بالحقِّ لَمَّا أتاهم من عندِ الله، ولَسَوف تأتيهم عقوبةٌ على اتِّخاذِهم هذا الحقَّ ومَن جاء به سُخريةً.

ألم يَعتبِرْ هؤلاءِ بالأُممِ الماضِيَة فيَروا كثرةَ الأُمم التي أهْلَكها اللهُ، مِن الذين مكَّنَهُم الله في الأرضِ ما لم يُمكِّنْ لهؤلاءِ الكَفرةِ، وجعَل الأمطارَ يَتتابَع نُزولُها عليهم، وجعَل الأنهارَ تَجري من تحتِهم، فأهْلَكَهم بذُنوبهم، وأحْدَث سبحانه بعدَ إهلاكِهم جيلًا آخَرَ.

تفسير الآيات :

 

وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) .

مُناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قبْلَها:

لَمَّا تكلَّم اللهُ تعالى أولًا: في التَّوحيدِ، وثانيًا: في المعادِ، وثالثًا: فيما يقرِّر هذين المطلوبَيْن، ذكَر بعدَه ما يتعلَّق بتقريرِ النُّبوَّة، وبدأ فيه بأنْ بيَّن كونَ هؤلاء الكفَّار مُعرضين عن تأمُّل الدَّلائلِ، غيرَ ملتفتِين إليها

، فقال تعالى:

وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) .

أي: ومهما أتى هؤلاء الكفَّارَ والمشركين المكذِّبين مِن حُجَّةٍ وعلامةٍ على وحدانيتِه تعالى، وصِدق رُسُلِه عليهم السَّلام؛ فإنَّهم يُعْرِضونَ عنها، غيرَ مُبالِين بها .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس: 96- 97] .

فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (5) .

مُناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قبْلَها:

في هذه الآياتِ رتَّب اللهُ تعالى أحوالَ هؤلاء الكفَّارِ على ثلاثِ مراتبَ؛ فالمرتبةُ الأولى: كونُهم مُعرِضينَ عن التأمُّلِ في الدَّلائل والتفكُّرِ في البَيِّناتِ، وهذا في الآية السَّابِقَة، والمرتبة الثانِيَة: كونُهم مُكذِّبينَ بها، وهذه المرتبةُ أزيدُ ممَّا قبلَها؛ لأنَّ المُعْرِضَ عن الشَّيءِ قد لا يكونُ مكذِّبًا به، بل يكون غافلًا عنه غيرَ مُتعرِّضٍ له، فإذا صار مُكذِّبًا به، فقد زاد على الإعراض، والمرتبةُ الثالثة: كونُهم مُستهزِئين بها؛ لأنَّ المكذِّبَ بالشيءِ قد لا يَبلغُ تكذيبُه به إلى حدِّ الاستهزاءِ، فإذا بلغَ إلى هذا الحدِّ فقَدْ بلَغَ الغايةَ القُصْوى في الإنكار، وهاتان المرتبتانِ في هذه الآيةِ، فبَيَّن تعالى أنَّ أولئكَ الكفَّارَ وصَلوا إلى هذه المراتبِ الثلاثِ على هذا الترتيبِ .

وأيضًا لَمَّا كان إعراضُهم عن النَّظرِ المذكورِ في الآيةِ السَّابقةِ سببًا لتكذيبهم، وكان تكذيبُهم  سببًا لتعذيبِهم ؛ لذا قال تعالى:

فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ.

أي: فقدْ كذَّبوا بما جاءَهم من عندِ الله تبارَك وتعالى .

فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ.

أي: فسوف تأتِيهم أخبارُ استهزائِهم بآياتِ اللهِ، وبالأدلَّة التي آتاهم، وسيجدونَ عقوبتَه وجزاءَه .

ثم حذَّرهم اللهُ تعالى مِن أنْ يصيبَهم مِن العذابِ، والنَّكالِ الدنيويِّ، ما حلَّ بأشباهِهم ونُظرائِهم مِن القُرونِ السَّالفةِ ، فقال تعالى:

أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6).

مُناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قبْلَها:

لَمَّا منَعَهم اللهُ تعالى عن ذلِك الإعراضِ، والتكذيبِ، والاستهزاءِ، بالتهديدِ والوعيدِ؛ أتْبعَه بما يَجري مجرَى الموعظةِ والنَّصيحةِ في هذا البابِ، فوَعَظَهم بسائرِ القُرون الماضية؛ كقومِ نوحٍ، وعادٍ، وثمودَ، وقومِ لوطٍ، وقومِ شعيبٍ، وفِرعونَ، وغيرِهم ، وحذَّرهم مِن أنْ يصيبَهم مِن العذابِ والنَّكالِ الدنيويِّ ما حلَّ بأشباهِهم ونُظرائِهم مِن هذه القُرون الماضيةِ ، فقال تعالى:

أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ.

أي: ألم يَعتبرْ هؤلاء بالأممِ الماضيةِ، فيَرَوا كثرةَ مَن أفنيتُ، ودَمَّرتُ مِن قبلِهم من الأممِ، الذين وطَّأتُ لهم البلادَ والأرضَ تَوطئةً لم أُوطِّئْها لهم، وأعطيتُهم فيها ما لم أُعْطِهم؛ فقدْ كانوا أشدَّ قوَّةً، وأكثرَ جمعًا، وأكثرَ أموالًا وأولادًا .

كما قال تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [التوبة: 69] .

وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ [الروم: 9-10] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سبأ: 45] .

وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا.

أي: وجَعَلْنا المطرَ يَتتابَعُ نزولُه عليهم بغزارةٍ .

وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ.

مُناسبتُها لمَا قبلها:

لَمَّا ذَكَر نفْعَهم بماءِ السَّماءِ، وكان غيرَ دائمٍ، أتْبعَه ماءَ الأرضِ؛ لدوامِه، وملازَمتِه للبَساتين والرِّياضِ، فقال :

وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ.

أي: وأَجْرَيْنا لهم الأنْهارَ من تحتِ أشجارِهم ومساكنِهم .

فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ.

أي: فأخَذْناهم بعذابٍ أفناهم؛ بسببِ ما ارتكبوه مِن خطايا، ومنها تكذيبُ رُسلِ الله، عليهم السَّلام .

كما قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] .

وأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ.

أي: وأَحْدَثْنا مِن بعدِ الَّذين أَهلَكْناهم جيلًا آخَرَ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- خَطرُ الإعراضِ عن الآياتِ، وأنَّه يُخشَى على مَن أعرضَ عنِ الآياتِ ألَّا يَهتديَ إليها؛ لِقَوله تعالى: إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ

.

2- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ توجيهٌ وإرشادٌ إلى الاعتبارِ بالأُمم السَّالِفة؛ فإنَّ إهلاكَ الأممِ المكذِّبةِ، بعدَ إمهالِهم وتمكينِهم في الأرضِ؛ سُنَّةُ اللهِ، ودأْبُه في السَّابقين واللَّاحقين؛ فينبغي الاعتبارُ بمَن قَصَّ الله نَبأَهم

3- قوله تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يُوجِب الاعتبارَ، والانتباهَ من نَوْم الغفلةِ، ورقدةِ الجَهالة؛ لأنَّه تعالى بيَّن أنَّهم مع مزيدِ العزِّ في الدنيا بهذه الوُجوهِ، ومع كثرةِ العددِ والبَسْطَة في المالِ والجِسم، جرَى عليهم عندَ الكُفْر الإهلاكُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- إضافةُ الآياتِ إلى الربِّ في قوله: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ تُفيدُ أنَّ إنزالَه الوحيَ، وبعثَه للرُّسُل، وتأييدَهم، وهدايتَه للخَلْقِ بهم، كلُّه مِن مقتضى ربوبيَّته، أي: مقتضى كونِه هو السيِّدَ المالِكَ المربِّيَ لخلقِه، المدبِّرَ لأمورِهم على الوجه الموافِق للحِكمة، وأنَّه لا يَقدِر عليه غيرُه؛ فالذين يُؤمنون بالربِّ، ولا يُؤمنون بكُتُبه ورُسلِه، يَجهلون قدْرَ ربوبيَّته، وكُنْهَ حِكمتِه ورحمتِه

.

2- إضافةُ (الربِّ) إلى ضَمير (هم) في قوله تعالى: رَبِّهِمْ؛ لقصدِ التَّسجيلِ عليهم بالعقوق لحقِّ العبوديَّة؛ لأنَّ مِن حقِّ العبد أن يُقبِلَ على ما يأتيه من ربِّه، وعلى مَن يأتيه يقولُ له: إنِّي مُرسَلٌ إليك مِن ربِّك، ثم يتأمَّلَ وينظرَ، وليس من حقِّه أن يُعرِضَ عن ذلك؛ إذ لعلَّه يُعرِض عمَّا إنْ تأمَّلَه عَلِمَ أنَّه مِن عند ربِّه .

3- قوله تعالى: مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ فيه أنَّ الله سبحانه وتعالى حكيمٌ رحيمٌ؛ وذلك لكونِه يأتي بالآياتِ للخَلقِ، فإنَّ هذا من الحِكمةِ الواضحةِ؛ لأنَّه ليس من المعقولِ أن يأتيَ رجلٌ، ويقولَ للناس: إنَّه رسولٌ، ويستبيح دِماءَ مَن لم يُؤمِنْ به وأموالَهم وذُريَّاتِهم ونِساءَهم، بدون أنْ يكون هناك آيةٌ تدلُّ على صِدقه؛ ولهذا قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ما مِن الأنبياءِ مِن نبيٍّ إلَّا قد أُعطِيَ مِن الآياتِ ما مِثلُه آمَن عليه البَشَرُ )) ، وهذا مِن جِهة الحِكمة. أمَّا مِن جِهة الرَّحمة؛ فإنَّ الله رحِمَ الخَلقَ بكونِه إذا أَرسلَ إليهم الرُّسلَ آتاهم الآياتِ الدالَّةَ على صِدق هؤلاء الرُّسُلِ، ولو شاءَ لأَرسَلَهم بدونِ آياتٍ، ثمَّ مَن كذَّب أخَذَه، لكن تأبَى حِكمتُه ورحمتُه أنْ يُرسِلَ رسلًا بلا آيةٍ .

4- أنَّ الإعراضَ عن الحقِّ يَعقبُه التكذيبُ به؛ ففائدةُ (الفاء) في قوله: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ التعقيبُ بعد قوله: مُعْرِضِينَ، يعني: أنَّ الإعراضَ عن الآياتِ أعْقَبه التكذيبُ .

5- قولُه تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فيه أنَّ هؤلاء- مع تواتُرِ الآياتِ عليهم- كذَّبوا بالحقِّ، ولم يَستجيبوا له، والتكذيبُ بالحقِّ بعدَ مجيئه أشدُّ من التَّكذيبِ به قبلَ أن يأتيَ، بحيثُ يَسمَعُ الإنسانُ عنه، ولكنَّه لم يتأكَّدْ، فإنَّ هذا الذي أتاه الحقُّ، وكذَّب به، يكون تكذيبُه أعظمَ .

6- كيف قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا مع أنَّ القومَ ما كانوا مُقرِّين بصِدقِ محمَّدٍ عليه السَّلام فيما يُخبِر عنه، وهم أيضًا ما شاهَدوا وقائعَ الأُمم السَّالِفة؟

والجواب: أنَّ أقاصيصَ المتقدِّمين مشهورةٌ بين الخَلْقِ، فيَبعُدُ أنْ يُقال: إنَّهم ما سَمِعوا هذه الحكاياتِ، ومجرَّدُ سَماعِها يَكفي في الاعتبارِ .

7- قولُه تعالى: فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فيه بيانُ عظمةِ اللهِ سبحانه وتعالى وغَيْرتِه؛ حيث أهْلَك أولئكَ القومَ مع ما عِندَهم من القوَّةِ والنِّعمةِ؛ قال تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ.... .

8- قوله تعالى: وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ فيه بيانُ تمامِ قُدرةِ الله تبارك وتعالى وسُلطانِه، والتنبيهُ على أنَّه تعالى لا يَتعاظَمُه أنْ يُهلِكَهم، ويُخلِيَ بلادَهم منهم؛ فإنَّه قادرٌ على أن يُنْشِئ مكانَهم قومًا آخَرين، يَعمُر بهم بلادَهم؛ كقوله: وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا [الشمس: 15] ؛ لأنَّ الأمرَ أمرُه عزَّ وجلَّ، والمُلك مُلكُه، والسُّلطان سُلطانه؛ فهو سبحانه وتعالى يَفعَلُ ما يشاءُ؛ من إهلاكٍ وإنشاءٍ .

9- قولُه تعالى: وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ المقصودُ من هذا: تعريضٌ بالمشركين بأنَّ الله مُهلِكُهم، ومنشئٌ مِن بَعدِهم قَرنَ المسلِمينَ في دِيارهم؛ ففيه نِذارةٌ بفَتْح مكَّة، وسائرِ بلادِ العربِ على أيدي المُسلمينَ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فيه التفاتٌ؛ إذ ضمائرُ جمْع الغائبين في قولِه: تَأْتِيهِمْ، رَبِّهِمْ مرادٌ منها المشرِكون، الذين هم بعضُ مَن شمِلَتْه ضمائرُ الخِطاب في الآيةِ التي قبْلَها، من قوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ؛ ففي العدولِ عن الخِطابِ إلى الغَيبة بالنِّسبةِ إليهم التفاتٌ أوْجَبه تَشهيرُهم بهذا الحالِ الذَّميم، تَنصيصًا على ذلك، وإعراضًا عن خِطابهم، وهو مِن أحسنِ الالتفاتِ؛ لأنَّ الالتفاتَ يُحسِّنه أن يكونَ له مُقتَضٍ زائدٌ على نقْلِ الكلامِ مِن أسلوبٍ إلى أسلوبٍ، المرادُ منه تجديدُ نشاطِ السَّامع

.

- وعبَّر بصِيغةِ المضارعِ في قوله: تَأْتِيهِمْ لحِكايةِ الحالِ الماضية، وفيه دَلالةٌ على الاستمرارِ التجدُّدي .

- ومِنْ في قوله: مِنْ آيَةٍ مزيدةٌ للاستغراقِ، ولتأكيدِ النَّفي، وفي قوله: مِنْ آيَاتِ للتبعيضِ .

- وفي قوله: إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ: اخْتِيرَ الإتيانُ في خبرِ (كان) بصِيغةِ اسمِ الفاعلِ مُعْرِضِينَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا الإعراضَ متحقِّقٌ من دَلالةِ فِعل الكَونِ (كَانُوا)، ومُتجدِّد مِن دَلالةِ صِيغة اسم الفاعِل؛ لأنَّ المشتقَّاتِ في قُوَّة الفِعلِ المضارِع .

- والاستثناءُ في قولِه تعالى: إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ دالٌّ على أنَّهم لم يَكُنْ لهم حالٌ إلَّا الإعراضُ .

2- قوله: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ الفاء في فَسَوْفَ للتفريعِ والتسبُّبِ على قولِه: كَذَّبُوا بِالحَقِّ؛ تأكيدًا لوعدِ المؤمنين بالنَّصرِ، وإظهارِ الإسلامِ على الدِّين كلِّه، وإنذارِ المشركينَ بأنْ سيحُلُّ بهم ما حلَّ بالأُمم الذين كذَّبوا رُسلَهم ممَّن عَرَفوا، وحرفُ التَّسويفِ (سَوْفَ) جاءَ لتأكيدِ حصولِ ذلك في المستقبَلِ .

- وفي قوله: أَنْبَاءُ إيذانٌ بغاية العِظَم؛ لأنَّ (النَّبأ) لا يُطلَق إلَّا على خبرٍ عظيمِ الوقْعِ .

- قال تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ جاء هنا تقييدُ الكذبِ بالحقِّ، والتَنفيسِ بـسَوْفَ، وفي الشُّعراء: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ [الشعراء: 6] ، فحذَف (الحقَّ)، وجاء بالسِّين فقط؛ لأنَّ الأنعام مُتقدِّمةٌ في النُّزولِ على الشُّعراءِ، فاستوفَى فيها اللَّفْظَ، وحذَف مِن الشُّعراءِ، وهو مرادٌ؛ إحالةً على الأوَّلِ، وناسَب الحذْفُ الاختصارَ في حرْف التَّنفيسِ، فجاء بالسِّين ، ويَحسُن أن يُزادَ على ذلك أنَّه لَمَّا كان فِعلُ الاستقبالِ المقرونُ بـ (سوف) أبعدَ زمانًا من المقرون بالسِّين، تَعيَّن الأوَّلُ فيما نزل أولًا، والثاني فيما نزَل آخِرًا .

3- قوله: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا استئنافٌ مَسُوقٌ لتعيينِ ما هو المرادُ بالأنباءِ التي سبَق بها الوعيدُ، وتقريرِ إتيانِها بطريقِ الاستشهاد، وهمزةُ الإنكار في قوله: أَلَمْ يَرَوْا لتقريرِ الرُّؤْية، وكَمْ مفيدةٌ للتكثير .

- وفيه التفاتٌ من الغَيْبة في قوله: يَرَوْا إلى الخِطابِ- حيث قال: لَكُمْ، دُونَ (لهم)- وفيه تعريضٌ بقلَّة تمكينِ هؤلاءِ، ونَقصِهم عن أحوالِ مَن سَبق، ومع تمكينِ أولئك في الأرضِ فقد حلَّ بهم الهلاكُ؛ فكيفَ لا يحُلُّ بكم على قلَّتِكم، وضِيق خُطَّتكم؟! فالهلاكُ إليكم أسرعُ من الهلاكِ إليهم .

- وجاءت لفظة: مِدْرَارًا للمبالغةِ في اتِّصالِ المطرِ، ودوامِه وقتَ الحاجة .

===========

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (7 - 11)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات :

 

قِرْطَاسٍ: أي: صَحيفةٍ، أو ورقٍ، أو ما يُكتَب فيه، والجمعُ قَراطيس

.

يُنْظَرُونَ: أي: يُؤخَّرونَ، وأصل (نظر): تأمُّل الشيءِ ومُعاينتُه .

وَلَلَبَسْنَا: أي: ولخَلَطْنا عليهم، أو أَضللْناهم بما ضلُّوا به قبلَ أن يُبعث المَلكُ، وأصل اللَّبْس: سَترُ الشَّيء، والمخالطةُ والمداخلةُ أيضًا .

فَحَاقَ: أي: أحاطَ ونزَل وأصاب، وأصل (حيق): نزولُ الشَّيءِ بالشَّيء .

عَاقِبَةُ: العاقبةُ تختصُّ بالثَّواب إذا أُطلقتْ، وقد تُستعمَلُ- إذا أُضيفتْ- في العُقوبةِ، أو ما يُؤدِّي إليه السَّببُ المتقدِّم، وأصل (عقب): يدلُّ على تأخيرِ شيءٍ، وإتيانِه بعدَ غيرِه

 

.

مشكل الإعراب :

 

قوله: ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ

كَيْفَ: اسمُ استفهامٍ، في محلِّ نصْبٍ، خبَرٌ لـكَانَ، وهو مقدَّمٌ عليها وجوبًا؛ لأنَّ للاستفهامِ صَدْرَ الكلامِ.

وعَاقِبةُ: مرفوعةٌ؛ اسمُ كَانَ، ولم يُؤَنَّثْ فِعلُها-حيث لم يَقُل: (كانَتْ)-؛ لأنَّ العاقبة بمَعنى المصيرِ أو المعاد، أو المآل والمنتَهى، ولأنَّ تأنيثَها غيرُ حقيقيٍّ.

والجُملةُ الاستفهاميةُ كَيْفَ كَانَ... في مَحَلِّ نَصْبٍ على إسقاطِ حرفِ الجرِّ؛ إذ التقديرُ: ثم انظُروا في كذا؛ لأنَّ كَيْفَ مُعلِّقةٌ للفِعلِ انْظُرُوا عن العملِ؛ لأنَّ معنى النَّظَر هنا التفكُّرُ والتدبُّرُ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ اللهُ تعالى أنَّه لو أَنزَلَ على نبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كلامًا، مكتوبًا في أوراقٍ، فتأكَّد الكفَّارُ منه، حتى إنَّهم لَمَسوه بأيديهم، لاستمرُّوا في عِنادِهم، وقالوا: ما هذا إلَّا سِحرٌ واضحٌ، ولاستمرُّوا في تَعنُّتِهم، وقالوا: هلَّا أُنزِلَ مع محمَّدٍ أحدُ الملائكةِ، يكون مُصدِّقًا له ومعاوِنًا، فردَّ اللهُ تعالى عليهم بأنَّه لو أنْزَل ملَكًا- كما سألوا- لجاءَهم العذابُ عاجلًا، إنْ لم يُؤمِنوا، ولن يُمهَلوا حتَّى يتوبوا.

ثم بيَّن تعالى أنَّه لا جَدْوى من إرسالِ الملَك إليهم؛ لأنَّه لو أَرْسَل ملَكًا يَشهدُ بتصديقِ النبيِّ، ويأمُرُهم باتِّباعِه، لجَعَلَه على هيئة بَشرٍ؛ ليتمكَّنوا مِن رُؤيتِه، ومِن سماعِ كلامِه الذي يُبلِّغُه عن اللَّه، ويَحصُلَ الانتفاعُ به؛ ولأنَّهم لا يَقدِرون على رؤيةِ الملَك على صورتِه، وفي حالِ كان على شكلِ بشرٍ، فسَيلتَبِسُ عليهم أمْرُه، كما لَبَسوا على أنفسِهم في قَبول رِسالةِ الرَّسولِ البَشريِّ، واستبعدوا أن يكونَ الرسولُ بشرًا مثلَهم.

ثمَّ خاطَب اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُبيِّنًا له أنَّه قد سُخِر واستُهزِئ برُسلٍ من قبلِه، فعاقبَهم الله جزاءَ تلك السُّخرية برُسُلِه عليهم السَّلام، وقال له: قلْ لهؤلاء الذين كذَّبوا بك- يا محمَّد: امشُوا في الأرض، واطَّلِعوا على آثارِ الأُمم الماضيةِ التي كذَّبتْ رُسلَها، ثمَّ انظروا كيف كانتْ عاقبتُهم، وما الذي حلَّ بهم مِن الهلاكِ، وخرابِ الدِّيار، فخُذوا من ذلِك العِظةَ والعِبرةَ.

تفسير الآيات :

 

وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا أَخبرَ اللهُ عزَّ وجلَّ عنهم أنَّهم كذَّبوا بكلِّ ما جاءَهم من آيةٍ، تَبِع ذلك إخبارٌ فيه مُبالغةٌ مُضمَّنةٌ أنَّه لو جاءَهم أعظمُ ممَّا جاء، لكذَّبوا أيضًا

، فقال تعالى:

وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ.

أي: وهُم لشِدَّة عِنادِهم، ومُكابَرتِهم للحقِّ، لو أَنزلتُ عليك- يا محمَّد- كلامًا مكتوبًا في صَحيفةٍ، يُعايِنونَه، ويَلمَسونَه بأيديهم، بما يَرفَعُ عنهم كلَّ شكٍّ ورِيبة .

لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ.

أي: فلو وقَعَ ذلك لقالَ الكفَّارُ ظُلمًا وعِنادًا: ما هذا إلَّا سِحرٌ ظاهرٌ، سَحَرْتَنا به !

كما قال تعالى مُخبِرًا عن مكابرتِهم للمحسوسات: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر: 14-15] .

وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8) .

وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ.

أي: وقالوا أيضًا تَعنُّتًا: هلَّا أُنزِلَ مع محمَّدٍ مَلَكٌ يكون مُصدِّقًا له ومعاوِنًا ؟

كما قال تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان: 7] .

وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ.

أي: قال اللهُ تعالى: ولو أَنْزَلنا مَلَكًا على ما سألوا، لجاءَهم العذابُ عاجلًا، إنْ لم يُؤمنوا، ولنْ يُمهَلوا حتَّى يتوبوا .

كما قال تعالى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [الحجر: 6-8] .

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9).

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً.

أي: ولو أَنزَلْنا على هؤلاءِ رسولًا ملَكيًّا، يَشهَدُ بتصديقِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَأمُرُهم باتِّباعه، لجَعَلْناه على هَيئةِ رجُلٍ مِن البَشرِ؛ لِتُفْهَم مُخاطبتُه، ويَحصُل الانتفاعُ بالأخْذِ عنه؛ لأنَّهم لا يَقدِرون على رؤيةِ الملَك في صُورتِه .

وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ.

أي: وإذا تَشكَّل بصورةٍ بَشريَّةٍ، فسَيلتبِس عليهم أمْرُه، لا يَدْرونَ أمَلَكٌ هو أمْ إنسيٌّ، كما لَبَسوا على أنفسِهم في قَبول رسالةِ الرَّسول البشريِّ؛ فلا جَدْوى إذنْ من إرسالِ ملَكٍ .

وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (10).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا كان بعضُ الأقوامِ يقولون على سبيلِ الاستهزاءِ: إنَّ رَسولَ اللهِ يجبُ أنْ يكون ملَكًا من الملائكةِ؛ وكان يَضيقُ قلبُ الرسولِ عندَ سَماعِه ذلك؛ ذَكَر أنَّه قد استُهزِئ برُسُلٍ مِن قَبلِه؛ ليصيرَ سببًا للتخفيفِ عن قلبِه عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنَّ ممَّا يُخفِّف عن القلبِ، المشاركةَ في سببِ المحنةِ والغمِّ؛ فكأنَّه قيل له: إنَّ هذه الأنواعَ الكثيرةَ من سوءِ الأدبِ، التي يُعاملونك بها، قد كانت موجودةً في سائرِ القُرون مع أنبيائِهم؛ فلستَ أنت فريدًا في هذا الطَّريقِ .

وأيضًا لَمَّا كانوا في قولهم: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ قاصِدين التعجيزَ والاستهزاءَ معًا؛ لأنَّهم ما قالوه إلَّا عن يقينٍ منهم أنَّ ذلك لا يكونُ، ابتَدأَ الردَّ عليهم بإبطالِ ظاهرِ كَلامِهم بقولِه: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ، ثم ثَنَّى بتهديدِهم على ما أرادوه منَ الاستهزاءِ، والمقصودُ مع ذلك تهديدُهم بأنَّهم سيَحيقُ بهم العذابُ، وأنَّ ذلك سُنَّةُ اللهِ في كلِّ أمَّةٍ استهزأتْ برسولٍ لها ، فقال تعالى:

وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ.

أي: قد سَخِرَت أممٌ برُسُلٍ مِن قبلِك- يا مُحمَّد .

فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ.

أي: فحَلَّ بهؤلاءِ الساخرينِ العذابُ؛ جزاءً لهم بسببِ سُخريتِهم برُسلِهم عليهم السَّلام .

قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)  .

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا ذكَر تعالى ما حلَّ بالمكذِّبين المسْتَهْزئين، حين قال: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، وكان المخاطَبون بذلِك أُمَّةً أُمِّيَّة، لم تَدرُسِ الكُتبَ، ولم تُجالسِ العلماءَ- أُمِروا بالسَّير في الأرضِ، والنَّظرِ فيما حلَّ بالمكذِّبين؛ ليعتبروا بذلك، ويتظافَرَ مع الإخبارِ الصَّادقِ الحسُّ؛ فللرؤيةِ مِن مزيدِ الاعتبارِ ما لا يكونُ بغيرِها ، فقال سبحانه:

قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ.

أي: قلْ- يا محمَّدُ- لهم: جُولوا في بلادِ المكذِّبين برُسلِهم، أمثالِكم؛ لتطَّلِعوا على آثارِهم .

ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.

أي: ثمَّ انظُروا إلى ما حلَّ بهم مِن البَوار، وخرابِ الدِّيار، وفَكِّروا في أنفُسِكم؛ كيف أَعْقَبهم تكذيبُهم ذلك الهلاكَ، وخِزيَ الدنيا وعارَها؛ فاعْتَبِروا، واحْذَروا أنْ يَحيقَ بكم مثلُ ما حاقَ بهم

 

.

كما قال اللهُ تبارَك وتعالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137- 138] .

الفوائد التربوية :

 

1- أنَّ المعاصيَ سببٌ للعقوبة؛ لقوله: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون، وأنَّ العقوبةَ بقَدْرِ العملِ؛ ولذلك عبَّر بقوله: بِهِ عنها، وهذا مِن عَدلِ الله عزَّ وجلَّ، أمَّا المثوبةُ فالحسنةُ بعَشْر أمثالِها إلى سبعِ مِئةِ ضِعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة

.

2- الأمرُ بالسَّيرِ في الأرضِ للاعتبار، سواءٌ كان بالبصائرِ أو بالأبصار؛ لقوله: سِيرُوا فِي الأَرْضِ، ويتفرَّع على هذه الفائدةِ: أنَّه يَنبغي أن نَقرأَ تاريخَ الأُمم السَّابقة، وأفضلُ ما نَقرؤُه منه هو القرآنُ وصحيحُ السُّنة؛ لأنَّ مِن الأحاديثِ الضعيفةِ أو الموضوعةِ عن الأُمم السَّابقة ما لا يُحْصيه إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ، والعِبْرَةُ بالصَّحيحِ، وما أكثرَ الأحاديثَ التي فيها الأخبارُ عن الأمم السَّابقة .

3- فضلُ الاعتبارِ، وأنَّه أمرٌ مطلوبٌ؛ لقوله: انْظُرُوا، وسواءٌ أكان الاعتبارُ بِمَن انتقمَ الله منهم أو بمَن أثابهم، فإنْ كان بمَنِ انتقمَ الله منهم، فالإنسانُ يَحذَر، وإنْ كان ممَّن أثابهم، فالإنسانُ يَرْغَب، وفي هذه الآيةِ الاعتبارُ بمَن انتقمَ اللهُ منه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا... فيه بيانُ أنَّ هؤلاءِ المكذِّبين لن يُؤمِنوا ولو جاءتْهم كلُّ آيةٍ؛ لأنَّ مِن أعظمِ الآيات أنْ يُنَزَّل الكتابُ يُشاهدونَه بقرطاسٍ ويَلمَسونَه؛ ومع ذلِك لو نَزَل هكذا سيُنْكرونَه، ويَدَّعُون أنَّه سِحرٌ واضحٌ قدْ سُحِروا به

.

2- فائدةُ زِيادةِ لَمْسِ القِرطاسِ بأَيديهم في قوله: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ تحقيقُ القِراءةِ على قُربٍ، أي: فقَرؤوه وهو بأيديهم، لا بَعيدٌ عنهم .

3- قوله تعالى: لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا... فيه بيانُ عِلمِ اللهِ تبارَك وتعالَى بما سيكونُ لو كان؛ لأنَّه عَلِمَ ماذا سيكونُ قولُ هؤلاءِ، لو نزَلَ عليهم الكتابُ في قِرطاسٍ .

4- قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، فيه دليلٌ على تعنُّتِ المكذِّبين للرُّسل، وتفنُّنِهم في المكابرةِ والعِناد؛ تصلُّبًا في شِركِهم وإصرارًا عليه؛ فهذه الاقتراحاتُ لم تكن طلبًا للبُرهان؛ إنَّما كانت وسيلةً من وسائلِ الإعناتِ، وأسلوبًا من أساليبِ التعنُّت، وخُطةً للمُماحكةِ والمعاندةِ؛ فإنَّهم كانوا كما قال اللهُ سبحانه عنهم في الآيةِ السَّابقةِ: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ .

5- أنَّ المكذِّبين للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُقِرُّون بالملائكةِ؛ لقوله: وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ .

6- في قوله تعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ أنَّ الله ما كان ليُظهرَ آياتِه عن اقتراحِ الضالِّين؛ إذ ليس الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بصدَد التصدِّي لرَغباتِ النَّاسِ، مِثلَما يتصدَّى الصانعُ أو التاجر، ولو أُجيبت رغباتُ بعضِ المقتَرِحين لرامَ كلُّ مَن عُرِضت عليه الدعوةُ أنْ تَظهرَ له آيةٌ حسَبَ مُقْتَرحِه، فيصير الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُضيِّعًا مدَّةَ الإرشادِ، وتلتفُّ عليه النَّاسُ التفافَهم على المشَعْوذينَ، وذلك يُنافي حرمةَ النُّبوةِ، ولكنَّ الآياتِ تأتي عن مَحضِ اختيارٍ مِن اللهِ تعالى دونَ مسألةٍ .

7- في قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ بيانُ رَحمةِ الله ولُطْفه بعِباده؛ حيثُ أَرسلَ إليهم بَشرًا منهم يكونُ الإيمانُ بما جاءَ به عن عِلمٍ وبصيرةٍ وغيبٍ؛ لأنَّه لو أرْسَل ملَكًا برِسالتِه، لكان الإيمانُ لا يَصدُر عن معرفةٍ بالحقِّ، ولكان إيمانًا بالشَّهادة، الذي لا ينفَعُ شيئًا وحْدَه، هذا إنْ آمنوا، والغالبُ أنَّهم لا يُؤمنونَ بهذه الحالةِ، فإذا لم يُؤمنوا قُضِي الأمرُ بتعجيلِ الهلاكِ عليهم، وعدمِ إنظارِهم؛ لأنَّ هذه سُنَّةُ الله فيمَن طلَب الآياتِ المقترَحَةَ، فلم يُؤمِنْ بها .

8- قال تعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، الفائدةُ في كلمة ثُمَّ التنبيهُ على أنَّ عدَم الإنظارِ أشدُّ من قضاءِ الأمْرِ؛ لأنَّ مفاجأةَ الشِّدَّة أشدُّ من نفْس الشِّدَّة .

9- يُستفادُ من قولِه: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا أنَّ البَشرَ لا قُوَّةَ لهم على رُؤيةِ الملَكِ في صورتِه، وإنَّما رآه الأفرادُ مِن الأنبياءِ عليهم السَّلام؛ لأنَّ اللهَ تعالى أقْدَرَهم على ذلك .

10- الحِكمةُ في قوله تعالى: وَلَوْ جَعلناه مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا أمور:

أحدُها: أنَّ الجِنسَ إلى الجنسِ أَمْيَلُ.

ثانيها: أنَّ البشرَ لا يُطيقُ رؤيةَ الملَك.

ثالثها: أنَّ طاعاتِ الملائكةِ قويَّةٌ فيَستحقرون طاعةَ البَشر، وربَّما لا يَعذِرونَهم في الإقدامِ على المعاصِي.

رابعها: أنَّ النُّبوَّةَ فضلٌ من الله عزَّ وجلَّ؛ فيختصُّ بها مَن يشاءُ مِن عِبادِه .

11- قوله تعالى: لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا فيه دليلٌ على إمكانِ تَمثيل الملائكةِ بصُورة البَشرِ، وهو صحيحٌ واقعٌ بالنَّقْل المُتواتِر .

12- حِكمةُ الله تبارَك وتعالى في إرْسالِ الرُّسلِ مِن البَشر كما في قوله تعالى: لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا؛ من أجْل الرُّكونِ إليهم وقَبولِهم، بل إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يَجعَلُ الرُّسُلَ من أوساطِ الأقوامِ وأشرافِهم وأفاضلِهم، حتى يَحْتَموا بهم، ولا يضرُّ أن يَجعلَ اللهُ تبارك وتعالى للرُّسُلِ مَن يَحميهم من أقوامِهم، ويدلُّ لذلك قولُ قومِ شعيبٍ له: وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ [هود: 91] ؛ ممَّا يدلُّ على أنَّ الإنسانَ إذا كان من القومِ صار له شأنٌ كبيرٌ وهَيْبةٌ .

13- في قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا... حُسنُ المحاجَّة في القرآنِ الكريمِ، وهو أنَّه لو جاءَ الأمرُ على اقتراحِ هؤلاءِ لم يكُن على ما اقْتَرحوه، أي: لم يكُن ملَكًا؛ لعدم المناسبةِ بين الرسولِ والمُرسَلِ إليهم، فإذا كان رجلًا عادَ اللَّبسُ والاقتراحُ الذي اقتَرحوه؛ لقوله: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ .

14- أنَّ السُّخريةَ والاستهزاءَ بالرُّسلِ موجِبٌ للعِقاب؛ لقوله: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ... جملةٌ مُستأنفَةٌ سِيقتْ بطريقِ تلوينِ الخِطابِ؛ لبيان شِدَّة شَكيمتِهم في المكابرةِ، وما يتفرَّعُ عليها من الأقاويلِ الباطلةِ إثرَ بيانِ إعراضِهم عن آياتِ اللهِ تعالى، وتَكذيبِهم بالحقِّ واستحقاقِهم بذلك لنُزولِ العذابِ

.

- قوله: فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فيه تأكيدُ المعلومِ بالمحسوسِ، أو تأكيدُ المعقولِ بالمحسوسِ؛ حيث قال: فِي قِرْطَاسٍ، وقال: فَلَمَسُوهُ؛ لأنَّ هذا تأكيدٌ بشَيءٍ محسوسٍ يُنظَر إليه أنَّه في قِرطاسٍ، ويُلمَس باليدِ .

- وجاءَ تخصيصُ اللَّمسِ؛ لأنَّ التَّزويرَ لا يقعُ فيه؛ فلا يُمْكنُهم أن يقولوا: إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، ولأنَّ الثِّقةَ باللَّمْس أقْوى؛ لأنَّ البَصرَ قد يُخدَع بالتخيُّل .

- وفي تقييدِه اللَّمْسَ بالأيدي- مع أنَّ اللَّمْس لا يكونُ إلَّا بها- إطنابٌ؛ حتى يَجتمعَ لهم إدراكُ الحاسَّتينِ: حاسَّةِ البَصَرِ وحاسَّة اللَّمْس، وفيه كذلك تأكيدٌ لمعنى اللَّمْسِ؛ لرَفْعِ احتمال أن يكونَ المرادُ به (التأمُّل)، كما في قوله: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [الجن: 8] ، أي: تفحَّصْنا، ففيه زِيادةُ تعيُّنٍ، ودفْع احتمالِ التجوُّز . وقيَّد اللَّمس بالأيدي أيضًا؛ للإفصاحِ عن مُنْتهى ما اعْتِيد مِن مُكابرتِهم، ووقاحتِهم في الإنكارِ والتكذيبِ .

2- قوله: لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه إظهارٌ في موضِع الإضمارِ- حيث أظهرَ الموصولَ في موضِع ضميرِه، فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا ولم يقُل: (لقالوا)- وذلك للتنصيصِ على اتِّصافِهم بما في حيِّز الصِّلة من الكُفْر ، ومِن فوائد الإظهارِ في موضعِ الإضمارِ: القياسُ، بمعنى: أنَّ كلَّ مَن قال قولهم فهو كافرٌ؛ لأنَّه لو قال: (لقالوا) لن نَستفِيدَ أنَّ مَن قال مِثلَ قولهم يكون كافرًا بالنصِّ، فإذا كان هذا الوصفُ ظاهرًا قِسْنَا عليه كلَّ ما ماثَلَه، أو كلَّ مَن اتَّصف بهذا الوصفِ .

3- قوله: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ فيه بناءُ الفِعل الأوَّل في الجوابِ للفاعِل أَنْزَلْنَا الذي هو نونُ العَظَمَة، مع كونِه في السُّؤال مَبنيًّا للمفعول أُنْزِلَ؛ لتهويلِ الأمرِ، وتربيةِ المهابةِ، وبناءُ الثاني (قُضِيَ) للمفعولِ للجَرْيِ على سَنن الكبرياءِ .

4- قوله: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ تصديرُ الجملةِ بلامِ القَسمِ وحرْفِ التحقيقِ (قد) في وَلَقَدِ، يدلُّ على تأكيدِ الخَبَر ؛ وإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بمضمونِ الجملةِ .

- وقوله: بِرُسُلٍ التنكيرُ والتنوينُ للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ والتَّكثيرِ .

5- قوله: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

- قوله: بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مُتعلِّق بقوله: فَحَاقَ، وتَقديمُه على فاعِله الذي هو مَا؛ للمُسارَعَةِ إلى بَيانِ لُحوقِ الشرِّ بهم .

- و(ما) في قوله: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ موصولةٌ بمعنى (الذي)، وهي مُفيدةٌ للتهويلِ، والجارُّ والمجرور بِهِ عائدٌ إليها، ومتعلِّقٌ بالفِعل يَسْتَهْزِئُونَ، وتقديمُه عليه لرِعايةِ الفواصِل، وللاهتمامِ به، أي: فأحاطَ بهم الذي كانوا يَستهزِئون به .

 

==========

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيتان (12 - 13)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ

غريب الكلمات :

 

سَكَنَ: أي: ثبَتَ بعدَ تحرُّك، ويُستعملُ السُّكونُ في الاستيطانِ، وأصل (سكن): يدلُّ على خِلافِ الاضطرابِ والحركةِ

 

.

مشكل الإعراب :

 

قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

الَّذِينَ: في محلِّ رفْعٍ، مبتدأٌ أوَّل، وفَهُمْ مبتدأٌ ثانٍ، وجملةُ لَا يُؤْمِنُونَ خبرُ المبتدأِ الثاني، والمبتدأُ الثاني وخبرُه خبرٌ للمبتدأِ الأوَّل؛ ودخلتِ الفاء في فَهُمْ لِمَا في الَّذِينَ من معنى الشَّرْط. وقيل: الَّذِينَ في محلِّ رفْعٍ، خبرٌ لمبتدأ محذوف، والتقديرُ: هم الذين خسِروا، أو: أنتُم الَّذين خَسِروا. وقيل غير ذلك

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يَأمُر اللهُ تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يقولَ لهؤلاءِ المكذِّبين ويسألَهم: لِمَن مُلكُ جميعِ ما في السَّموات والأرضِ؟ ثم أمَرَه أن يُجيبَ عن السُّؤال بأنْ يقولَ: إنَّ مُلكَ ذلك كلِّه للهِ تعالى الذي يَستحقُّ العبادةَ وحْدَه، أوجبَ سبحانه على نفْسِه الرحمةَ، ليَجمعنَّكم- أيُّها النَّاسُ- جميعًا يومَ القيامةِ الذي لا شكَّ فيه، ثم ذكر أنَّ الخاسرينَ حقًّا هم  الَّذين أضاعوا أنفُسَهم، فلم يُؤمنوا.

ثم أخبَرَ الله تعالى أنَّ له وحْدَه كلَّ شيءٍ سَكَن في اللَّيلِ والنَّهارِ، وهو السَّميعُ العليمُ.

تفسير الآيتين :

 

قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (12) .

قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.

أي: قلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاءِ المكذِّبين: لِمَنْ مُلكُ جميعِ ما في السَّمواتِ، وجَميعِ ما في الأرض

؟

ثم أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يُجيبَ عن هذا السُّؤالِ، فقال :

قُل لِلّهِ.

أي: قلْ- يا محمَّدُ-: ذلك كلُّه مِلكٌ للهِ تعالى، الذي يَستحقُّ العبادَةَ وحْدَه .

كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.

أي: أوْجَب على نفْسِه الرَّحمةَ، فوَسِعَتْ رحمتُه كلَّ شيءٍ .

عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((لَمَّا خلَقَ اللهُ الخلقَ، كتَب في كِتابِه، فهو عندَه فوقَ العَرشِ: إنَّ رحمَتي تَغلِبُ غضَبي )) .

لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ.

أي: واللهِ ليَجمعنَّكم الربُّ سبحانه- أيُّها النَّاسُ- يومَ القيامةِ الذي لا شَكَّ في وُقوعِه .

الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ.

أي: إنَّ الَّذين أضاعوا أنفُسَهم، فعدِموا فائدةَ الانتفاعِ منها؛ بحِرْمانها تصديقَ الرَّسولِ والرِّسالةِ، هم الخاسِرون حقًّا ؛ إذ لَمَّا أعْرَضوا عن ذلك فاتَهُمُ الإيمانُ باللهِ تعالى وبرسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام، وباليوم الآخِرِ الذي هو سببُ الفوزِ في الدُّنيا والآخِرة .

قال سبحانه: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر: 15] .

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)  .

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

ذَكَر اللهُ تعالى في الآيةِ السَّابقةِ السَّمواتِ والأرضَ؛ إذ لا مكانَ سواهما، وفي هذه الآيةِ الكريمةِ ذَكَر اللَّيلَ والنَّهارَ؛ إذ لا زَمانَ سواهما، فالزَّمانُ والمكانُ ظرفانِ للمُحْدَثاتِ؛ فأخْبَر تبارَك وتعالى أنَّه مالِكٌ للمكانِ والمكانيَّات، ومالكٌ للزَّمان والزَّمانيَّات ، فقال تعالى:

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.

أي: وله عزَّ وجلَّ مُلكُ كلِّ شيءٍ؛ فإنَّه ما مِن شيءٍ مِن خَلْقِ الله تعالى إلَّا وقد حلَّ واستقرَّ في ليلٍ أو نهارٍ؛ فالجَميعُ خَلْقُه، وتحتَ قَهْرِه وتَصرُّفِه وتدبيرِه سبحانه .

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

أي: وهو السَّميعُ لجميعِ الأصواتِ والأقوالِ، وهو العَلِيمُ بكلِّ شيءٍ، المطَّلعُ على الظَّواهرِ والسَّرائرِ، ثم يُجازي كلَّ إنسانٍ بما اكتَسبَ مِن خيرٍ وشرٍّ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُه تعالى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ؛ فيه اللُّجوءُ إلى اللهِ وحْدَه تعالى، وعدَمُ الخوفِ إلَّا منه سُبحانه؛ فإنَّنا متى آمنَّا أنَّ مَن في السَّمواتِ والأرضِ لله، فإنَّنا لن نَلجأَ إلَّا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، ولنْ نخافَ إلَّا مِنه سُبحانه؛ لأنَّه مالكُ مَن في السَّموات والأرضِ

.

2- اللَّام في قوله: لِلَّهِ للمِلْكِ؛ دلَّت على عُبوديَّة الناسِ للهِ دون غيرِه، وتستلزم أنَّ العبدَ صائرٌ إلى مالكِه لا محالةَ .

3- قولُه تعالى: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فيه استِعطافٌ للمُعْرِضينَ عنه إِلى الإقبالِ إِليه بالتَّوْبَةِ؛ فإنهم إنْ تابوا وأنابوا قَبِل توبتَهم، وقد قَضى في خَلْقه أنَّ رحْمَته وَسِعتْ كلَّ شيءٍ .

4- جملةُ: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ معترِضةٌ، وهي مِن المقولِ الذي أُمِرَ الرسولُ بأنْ يقولَه، وفي هذا الاعتراضِ معانٍ:

أحدها: أنَّ ما بَعدَه لَمَّا كان مُشْعِرًا بإنذارٍ بوعيدٍ، قَدَّمَ له التذكيرَ بأنَّه رَحيمٌ بعبيدِه، عساهم يَتوبونَ، ويُقلِعون عن عِنادِهم؛ كقوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 54] ، والشِّركُ باللهِ أعظمُ سوءٍ، وأشدُّ تلبُّسًا بجهالةٍ.

والثاني: أنَّ الإخبارَ بأنَّ للهِ ما في السَّمواتِ، وما في الأرضِ؛ يُثير سُؤالَ سائلٍ عن عدمِ تعجيلِ أخْذهم على شِركِهم بمَن هُم ملكُه؛ فالكافرُ يقول: لو كانَ ما تقولونَ صِدقًا لعجَّل لنا العذاب، والمؤمِنُ يَستبطئُ تأخيرَ عِقابِهم، فكان قوله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ جوابًا لكِلَا الفَريقينِ؛ بأنَّه تَفضَّل بالرَّحمة، فمنها رحمةٌ كاملةٌ، وهذه رحمتُه بعبادِه الصَّالحين، ومنها رحمةٌ مُوَقَّتة، وهي رحمةُ الإمهالِ، والإملاءِ للعُصاة والضالِّين.

والثالث: أنَّ ما في قوله: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ مِن التمهيدِ لِمَا في جملةِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن الوعيدِ والوعدِ؛ فذُكِرَتْ رحمةُ الله تعريضًا ببشارةِ المؤمنين، وبتَهديدِ المشرِكين .

5- قوله تعالى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فيه استدعاءٌ ليُوجِّهوا النَّظرَ العقليَّ في الموجوداتِ الخفيَّة، وما في إخفائِها مِن دلالةٍ على سَعةِ القُدرة، وتصرُّفاتِ الحِكمةِ الإلهيَّةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قولُه تعالى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ هذا استِدلالٌ على المشْركين بأنَّ غيرَ اللهِ ليس أهلًا للإلهيَّة؛ لأنَّ غيرَ الله لا يَملِكُ ما في السَّمواتِ وما في الأرض؛ إذ مُلكُ ذلك لخالِقِ ذلك، وهو تمهيدٌ لقوله بعدَه: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لأنَّ مالكَ الأشياءِ لا يُهمِلُ مُحاسبتَها

.

2- قدَّم الله تعالى المكانَ (السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ) في قولِه: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ؛ لأنَّه أقربُ إلى العقولِ والأفكارِ مِن الزَّمان (اللَّيل والنهار)، والمذكورِ بعدَه في قولِه تعالى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ .

3- قوله تعالى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ سؤالٌ، وقوله: قُلْ لِلَّهِ جوابٌ؛ فقد أمَرَه الله تعالى بالسُّؤالِ أولًا، ثم بالجواب ثانيًا؛ وهذا إنَّما يَحسُن في الموضعِ الذي يكونُ الجوابُ قد بلَغَ في الظهورِ إلى حيثُ لا يَقدِر على إنكارِه مُنكِرٌ، ولا يَقدِر على دَفْعِه دافِعٌ، ولَمَّا كانتْ آثارُ الحدوثِ والإمكانِ ظاهرةً في ذواتِ جميع الأجسامِ، وفي جميعِ صِفاتها؛ لا جرمَ كان الاعترافُ بأنَّها بأَسْرِها مِلكٌ لِلَّهِ تعالى، ومُلْكٌ له، ومَحلُّ تصرُّفِه وقُدرتِه، لا جرمَ أمَرَه بالسؤال أولًا، ثم بالجوابِ ثانيًا؛ ليدلَّ ذلك على أنَّ الإقرارَ بهذا المعنى ممَّا لا سبيلَ إلى دفْعِه البتَّةَ. وأيضًا فالقومُ كانوا معترِفين بأنَّ كلَّ العالَم مِلكٌ للهِ سبحانه، وتحتَ تصرُّفه وقَهرِه وقُدرتِه بهذا المعنى، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] .

4- أنَّ للهِ تعالى أن يكتُبَ على نفْسِه ما شاءَ؛ لقوله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ .

5- قوله تعالى: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فيه سؤالٌ: كيفَ يكونُ الشيءُ لازمًا على الله؟ والجواب: أنَّ اللهَ تعالى ألْزَمَ نفْسَه به، وله سبحانه أنْ يَفعلَ ما شاءَ، نحن لا نُلزِمُ اللهَ بشيءٍ، وليس لنا على الله حقٌّ إلَّا ما أوْجَبه على نفْسِه، لكنَّ اللهَ له أن يُلزِمَ نفْسَه بشيءٍ، فكتابةُ الله على نفْسِه الرَّحْمةَ لا تُنافي كمالَه، بل هي مِن كمالِه عزَّ وجلَّ .

6- أنَّ اللهَ يُعبِّرُ عن ذاته بالنَّفْسِ؛ لقوله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، ولها نظائرُ؛ قال الله عزَّ وجلَّ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] وقال عيسى عليه السَّلام: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] ، والإنسانُ له نفْسٌ، وليستْ نفْسُ اللهِ كنَفْس الإنسان؛ فهو سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] .

7- في قوله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ أنَّه لا ريبَ في هذا اليومِ، شرعًا وعقلًا: شرعًا؛ لأنَّ اللهَ أخْبَر به وأكَّده، وضرَب له الأمثالَ. وعقلًا؛ لأنَّه ليس مِن المعقولِ أنَّ الله تعالى يُوجِد هذه الخليقةَ، ويَأمُرها ويَنهاها، ويُرسل إليها الرُّسُل، وتُستباحُ الأنفسُ والأموالُ والذريَّة في الِقتالِ في سبيلِ الله، ثم تكونُ النتيجةُ أنَّ الأرضَ تَبلعُهم فقط! هذا يُنافي الحِكمةَ؛ فالعقلُ يُوجِبُ أنْ يكونَ هناك بعْثٌ، حتى وإنْ لم يكُن نصٌّ؛ فكيف والنصوصُ كثيرة؟! ومِن رحمةِ الله عزَّ وجلَّ- وله الحمدُ والفضلُ والمِنَّة- أنَّه يُكثِرُ من إثباتِ يومِ القيامةِ، ويَضرِبُ له الأمثال؛ لأنَّ الإيمانَ باليومِ الآخِرِ هو الذي يَحمِلُ الإنسانَ حقيقةً على الإيمانِ؛ إذ لولا اعتقادُ المؤمنِ أنَّه سيُبعَث ويُجازى- إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ- ما عمِل أبدًا، ولصارتِ الأمَّةُ موطنًا للسَّلْبِ والنَّهبِ والعُدوان .

8- في قوله تعالى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أنَّ السُّكونَ والحركةَ بيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ مالِكَ مَن يَسكُن ويَتحرَّك مالِكٌ للحركةِ والسُّكون، فيكون في هذا دليلٌ على أنَّ أفعالَ العِبادِ مخلوقةٌ لله تعالى، وهذا هو مذهبُ السَّلَفِ وأهلِ السُّنة، وهو وسَطٌ بين مذهبَيِ الجبريَّة والقَدَريَّة .

9- قد جاءَ قولُه تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بعدَ قوله: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كالنتيجةِ للمقدِّمة؛ لأنَّ المقصودَ من الإخبارِ بأنَّ اللهَ يَمْلِك الساكناتِ؛ التمهيدُ لإثباتِ عُموم عِلْمه، وإلَّا فإنَّ مُلْك المتحرِّكات المتصرِّفات أقوى مِن مُلْك الساكناتِ، التي لا تُبدي حراكًا؛ فظهَر حُسنُ وقْع قولِه: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ عقبَ هذا

 

.

بلاغة الآيتين :

 

1- قوله: قُلْ سِيْرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فيه مناسبةٌ حسنةٌ؛ حيث عبَّر هنا بـثُمَّ انْظُرُوا فعَطَف بـ(ثُمَّ) الدَّالة على التَّراخِي، وفي غيرِ هذه السُّورة عقَّب الأمرَ بالسَّير بقوله: فَانْظُرُوا، فعطَفَ بالفاءِ، الدَّالةِ على التَّعقيبِ المباشِرِ، مع اشتراكِهما في الأمْر بالسَّيرِ؛ وبيانُ هذِه المناسبةِ مِن وجهينِ:

الوجه الأوَّل: أنَّ ما في سُورةِ الأنعامِ وقَعَ بَعدَ ذِكر القُرونِ، في قوله: كَمْ أهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ، وقوله: وَأنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهمْ قَرْنًا آخَرِينَ؛ فتعدَّدت القرونُ في أزمنةٍ متطاولةٍ؛ فخُصَّت الآيةُ هنا بـثُمَّ، بخِلاف ما في غيرِ هذِه السُّورة، إذْ لم يَتقدَّمْه شيءٌ من ذلك؛ فخُصَّت بالفاء

؛ فقوله: ثُمَّ انْظُروا في سورةِ الأنعام ناسَب العطف فيه بـ(ثُم)، حيثُ لم يَجعَلِ النَّظرَ فيها واقعًا عَقيبَ السَّير، مُتعلِّقًا وجودُه بوجودِه؛ لأنَّه بعْثٌ على سيرٍ بعدَ سيرٍ؛ لِمَا تَقدَّم مِن الآيةِ التي تدلُّ على أنَّه تعالى حَدَاهم على استقراءِ البِلادِ، ومنازلِ أهلِ الفَسادِ، وأنْ يَستَكثِروا مِن ذلك؛ ليَرَوا أثرًا بعدَ أثرٍ، في دِيارٍ بعدَ دِيارٍ، قدْ عمَّم أهلَها بدمارٍ؛ لقوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ، ثمَّ قال: فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ، فذكَر في قوله: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي: قُرونًا كثيرةً أهلكناهم، ثم قال: وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ، فدعَا إلى العِلمِ بذلك بالسَّيرِ في البلادِ ومشاهدةِ هذه الآثارِ، وفي ذلك ذَهابُ أزمنةٍ كثيرةٍ ومُددٍ طويلةٍ تمنعُ النظرَ مِن مُلاصقةِ السَّير، فجَعَل السَّيرَ في الأرض في هذا المكانِ مأمورًا به على حِدَةٍ، والنظرَ بَعدَه مأمورًا بِه على حِدَة؛ فلذلك خُصَّت بـ(ثمَّ) التي تُفيدُ تَراخِيَ المهلةِ بَينَ الفِعلين.

وأمَّا قوله: فَانْظُرُوا في بقيَّة الآياتِ فيدلُّ على أنَّ السَّيرَ يُؤدِّي إلى النَّظرِ، فيَقعُ بوقوعِه، وليس كذلك (ثمَّ)؛ فإنَّ الفاءَ وقعَتْ في الجزاءِ، ولم تقَع فيه (ثم)؛ فسائِرُ الأماكنِ التي دخَلَتْها الفاءُ عُلِّق فيها وقوعُ النَّظرِ بوقوعِ السَّيرِ؛ لأنَّه لم يَتقدَّمِ الآيةَ ما يَحْدُو على السَّيرِ الذي حدَا عليه فيما قَبلَ آيةِ الأنعامِ، فالمواضِعُ التي دَخَلَتْها الفاءُ قُصِد فيها معنى التعقيبِ، واتِّصالِ النَّظرِ بالسَّير؛ إذ لَيس في شيءٍ مِن الأماكنِ التي ذُكِرتْ فيها الفاءُ ما في سَورةِ الأنعامِ مِن البَعْثِ على استقراءِ الدِّيارِ، وتأمُّلِ الآثارِ، والله أعلم .

الوجه الثاني: أنَّ قوله: ثُمَّ انْظُرُوا في آيةِ الأنعام عُطِفَ بـثُمَّ المقتضيةِ مُهلةَ الزَّمان؛ لأنَّ سُورةَ الأنعامِ افتُتِحَتْ بذِكْرِ خَلْق السَّمواتِ والأرضِ، وجَعْل الظُّلماتِ والنُّور، وإنَّما ذُكِر هذا مِن الخَلْقِ الأكبرِ؛ ليُعتبَرَ بذلك؛ فإنَّه أعظمُ مُعتَبرٍ وأَوْسَعُه، فكأنَّ الآيةَ في قوَّة أنْ لو قِيل: سِيروا في الأرضِ فاعْتَبِروا لخالقِها، وكيف دَحاها لكم، وذلَّلَها لسُكْنَاكُم، وجعَل فيها رواسيَ أنْ تَميدَ بكم، وفَجَّرَ فيها الأنهارَ، إلى عجائبِ ما أودَعَ فيها، وكيف جعَلَ السَّماءَ سقفًا مَحفوظًا بغيرِ عِمادٍ، وزَيَّنها بالنجومِ؛ لتَهْتَدوا بها في الظُّلماتِ، وجعَل الشمسَ والقمرَ حُسبانًا وضياءً وزِينةً للسَّماء الدُّنيا، وكيف محا آيةَ اللَّيلِ لمصلحةِ العبادِ، وجعَل آيةَ النَّهارِ مبصرةً، إلى ما لا يُحصَى مِن مَنافِعِها وعَجائِبها لِمَن مُنِحَ الاعتبار؛ كما قال تعالى: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] ، ثمَّ انظُروا عاقبةَ مَن كذَّب، ونُبِّه فلمْ يَعتبِرْ. وأمَّا العَطْفُ بالفاءِ في بقيَّة الآياتِ على الأمْر بالسَّيرِ؛ فلَأنَّهم أُمِروا أنْ يَعقُبوا سَيرَهم بالتدبُّرِ والاعتبارِ، وحَصْرِ نَظرِهم واعتبارِهم في المعقَّبِ المذكورِ بعدَ الفاءِ، ولم تقَعْ إشارةٌ إلى اعتبارِهم بغير ذلك .

- وقوله: كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وضَع المكَذِّبِينَ موضعَ (المسْتَهْزئين)؛ لتحقيقِ أنَّ مدارَ إصابةِ ما أصابَهم هو التَّكذيبُ؛ لينزجرَ السامِعون عنه لا عن الاستهزاءِ فقط، مع بقاءِ التكذيب بحالِه، بناءً على توهُّم أنَّه المدارُ في ذلك ؛ فوَصفَهم اللهُ بالمكذِّبين دون المسْتَهزِئين؛ للدَّلالة على أنَّ التَّكذيبَ والاستهزاءَ كانَا خُلُقَينِ مِن أخلاقهم، وأنَّ الواحدَ من هذين الخُلُقينِ كافٍ في استحقاقِ تلك العاقبةِ؛ إذ قال في الآية السابقة: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، وقال في هذِه الآيةِ: كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكَذِّبِينَ، وهذا ردٌّ جامعٌ لدَحْضِ ضَلالاتِهم الجاريةِ على سَننِ ضَلالاتِ نُظرائِهم مِن الأُمم السَّالفةِ المكذِّبين .

2- قوله: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ استفهامٌ يُفيد التبكيتَ والتَّقرير؛ فالاستفهامُ للتقريرِ، والمرادُ به لازمُ معناه، وهو تبكيتُ المشرِكين، وإلجاؤُهم إلى الإقرارِ بما يُفضِي إلى إبطالِ مُعتَقدِهم الشِّركَ .

- وفي تقديمِ: لِمَنْ على مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ تنبيهٌ على الاهتمامِ بالمعبودِ .

3- قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ استئنافٌ وقَسَمٌ مسوقٌ للوعيدِ على إشراكِهم، وإغفالِهم النَّظرَ، أي: ليَجمعنَّكم فيُجازيكم على شِرككم، وسائرِ مَعاصِيكم، وإنْ أمْهَلَكم بموجِبِ رحمتِه، ولم يُعاجِلْكم بالعقوبةِ الدُّنيويَّة .

- وقول الله تعالى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كلامٌ ورد على لَفظِ الغَيبةِ، وقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كلامٌ ورد على سبيلِ المخاطَبَة؛ والمقصودُ منه التأكيدُ في التَّهديد، كأنَّه قيل: لَمَّا عَلمتُم أنَّ كلَّ ما في السَّموات والأرضِ للهِ ومُلْكُه، وقد علمتُم أنَّ المَلِكَ الحكيمَ لا يُهملُ أمْرَ رعيَّته، ولا يجوزُ في حِكمتِه أن يُسوِّيَ بين المطيعِ والعاصي، وبين المشتغِلِ بالخِدمة والمُعرِضِ عنها، فهلَّا عَلمتُم أنَّه يُقيمُ القيامةَ، ويُحضِرُ الخلائقَ، ويُحاسبُهم في الكلِّ ؟

4- قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ تذييلٌ مَسُوقٌ من جِهتِه تعالى؛ لتقبيحِ حالِهم .

- وعبَّر بالفاءِ في قوله: فَهُمْ؛ لتضمُّن المبتدأِ معنى الشَّرْط، وللإشعارِ بأنَّ عدمَ إيمانهم بسببِ خُسرانهم؛ فإنَّ إبطالَ العَقلِ باتِّباعِ الحواسِّ، والوَهْم، والانهماكِ في التَّقليدِ، وإغفالِ النَّظر؛ أدَّى بهم إلى الإصرارِ على الكُفْر والامتناعِ مِن الإيمان .

5- قوله: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ

- تقديمُ الجارِّ والمجرورِ (لَهُ) على مَا التي بمعنى (الذي)؛ للدَّلالةِ على الحَصْر، وهو حصْر الساكناتِ في كونِها له لا لغيرِه، أي: في كَونِ ملكِها التامِّ له .

- وخصَّ السَّاكِنَ بالذِّكر دون المتحرِّك؛ لأنَّ السَّاكنَ من المخلوقاتِ أكثرُ عددًا من المتحرِّك، والسُّكونَ أكثرُ وجودًا من الحركةِ. أو لأنَّ كُلَّ مُتحرِّك يصيرُ إلى السُّكونِ، من غير عَكسٍ؛ فإنَّ كلَّ مُتحرِّكٍ قد يَسكُن، وليس كلُّ ما يَسكُن يَتحرَّك. أو لأنَّ السُّكونَ هو الأصلُ، والحركة حادثةٌ عليه .

- وتقديمُ اللَّيلِ على النَّهار؛ قيل: لأنَّ ما يَسكُنُ فيه هو المقصودُ بالذَّات ؛ فالسَّاكِنُ فِي ذلك الوَقتِ يَزدادُ خَفاءً، فهو كقولِه: وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ [الأنعام: 59] . وَعَطَفَ النَّهارَ عليه؛ لقصدِ زِيادَةِ الشُّمولِ، لأنَّ اللَّيْلَ لمَّا كان مَظِنَّةَ الاختفاءِ فيه قد يُظَنُّ أنَّ العالِمَ يَقْصِدُ الاطِّلاعَ على السَّاكِناتِ فيه بأهميَّةٍ، ولا يَقْصِدُ إلى الاطِّلاعِ على السَّاكِناتِ في النَّهارِ، فذَكَر النَّهارَ لتحقيقِ تَمامِ الإحاطَةِ بالمعلوماتِ .

- وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ جاءَ الوصفانِ على صِيغةِ المبالَغة؛ للمُبالغةِ في وصْفِه سبحانه بسَماعِ كلِّ مَسموعٍ، والعِلمِ بكلِّ مَعلومٍ؛ فلا يَخفَى عليه شيءٌ من الأقوالِ والأفعالِ .

- وفي خَتْمِ الآيةِ بهاتَينِ الصِّفتَينِ مناسَبَةٌ حَسنةٌ؛ فإنَّه لَمَّا تَقدَّم ذِكْرُ مُحاوراتِ الكفَّارِ المكذِّبين، وذِكرُ الحَشْرِ الذي فيه الجزاءُ، ناسَب ذِكْرُ صِفةِ السَّمع لِمَا وقعتْ فيه المحاورةُ، وصِفةِ العِلمِ؛ لتَضمُّنِها معنى الجزاءِ؛ إذ ذلك يدلُّ على الوعيدِ والتَّهديدِ .

وأيضًا: فإنَّه لَمَّا ذَكَر أنَّ له ما سَكَن في اللِّيلِ والنهارِ، وذلك يدلُّ على شُمولِ مُلكِه؛ عَقَّبَه بذِكر هاتينِ الصِّفتينِ (السَّمع والعلم)؛ ليدلَّ على إحاطةِ عِلمهِ بكلِّ شيءٍ

 

.

======================

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (14 - 16)

ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات :

 

وَلِيًّا: أي: ناصرًا، والوِلايةُ النُّصرةُ، وأصلُ (ولي) يدلُّ على القُرْب، سواء مِن حيث: المكانُ، أو النِّسبة، أو الدِّين، أو الصَّداقة، أو النُّصرة، أو الاعتقاد، وكلُّ مَن وَلِيَ أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه

.

فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ: أي: خالِقِهما ومُبدِعِهما ومُبتدئِهما، وأَصْلُ (فطر): الشَّقُّ طولًا، ويدلُّ على فتْحِ شيءٍ، وإبرازِه .

يُصْرَفْ عَنْهُ: أي: يُردَّ عنه العذابُ؛ والصَّرفُ: ردُّ الشَّيءِ من حالةٍ إلى حالةٍ، أو إبدالُه بغيرِه، وأصل (صرف): يدلُّ على رجْعِ الشيءِ .

الْفَوْزُ: الظَّفَرُ بالخَيرِ، مع حصولِ السَّلامةِ والنَّجاةِ، وأصل (فوز): النَّجاة

 

.

مشكل الإعراب :

 

قوله: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ: جملةٌ مِن شَرْطٍ وجَزاءٍ، وقعَتْ صِفةً لـعَذَابَ في قوله تعالى في الآيةِ السَّابقة: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وقيل : هي جُملةٌ مُستأنَفةٌ، لا محلَّ لها من الإعرابِ.

مَنْ يُصْرَفْ قرِئَ يُصْرَفْ بَضمِّ الياءِ وفتْحِ الرَّاءِ على البِناء للمَفعول، وقُرِئَ (يَصْرِف) بفَتْحِ الياءِ وكسرِ الرَّاءِ على البِناءِ للفاعِل؛ فعَلَى القِراءة الأُولى: فـمَنْ شَرْطيَّةٌ، ومحلُّها على هذِه القِراءة الرَّفْعُ على الابتداءِ، وخبر مَنْ فِعلُ الشَّرْطِ وحْدَه، أو جملةُ الشَّرطِ والجزاءِ، والهاءُ في عَنْهُ يَجوزُ أنْ تَرجِع على مَنْ، والتقدير: مَن يُصرَفْ عنه العذابُ ونائبُ الفاعل ضَميرٌ مستترٌ تَقديرُه (هو)، عائدٌ إلى العَذابِ، وأنْ تَرجِع على العذابِ في قوله: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ والتقدير: مَن يُصْرَفْ هُوَ عن العَذابِ، ونائبُ الفاعل ضَميرٌ مستترٌ تَقديرُه (هو)، عائدٌ إلى مَنْ. ويَوْمَئِذٍ ظرفٌ لـيُصْرَفْ، أو للعذابِ.

وعلى القِراءة الثانية (يَصْرِف): فالفاعِلُ مُضمرٌ في (يَصْرِف) يَعودُ على رَبِّي في الآيةِ السَّابقةِ، وهو اللهُ جَلَّ ذِكرُه، والمفعولُ بِه مُضمَرٌ كذلِك، والتَّقديرُ: مَن يَصرِف اللهُ عنه العَذابَ. ومَنْ على هذا في مَحلِّ رفْعٍ مبتدأٌ أيضًا، ويعودُ عليها الهاءُ في عَنْهُ وفي رَحِمَهُ. ويجوزُ أن تكونَ مَنْ في محلِّ نصْبٍ بـيَصْرِفْ على أنَّه مفعولٌ مُقدَّم له، وتكون الهاءُ في عَنْهُ للعذاب، والتقديرُ: أيَّ إنسانٍ يَصرِفِ اللهُ عنِ العَذابِ فقدْ رحِمه

 

.

المعنى الإجمالي :

 

قلْ- يا مُحمَّدُ-: أأتتَّخِذُ غيرَ الله تعالى وليًّا أستعينُ به وأَستنصِرُه، وهو سبحانه خالقُ السَّمواتِ والأرضِ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، والغنيُّ عن جميعِ المخلوقاتِ؛ فهو يَرزقُهم ويُطعِمُهم، من غيرِ أنْ يحتاجَ إليهم؟!

قل- يا محمَّد-: إنِّي أمَرَني ربِّي أنْ أكونَ أوَّلَ مَن أَسْلَمَ له وخضَع، ونُهيتُ أنْ أكونَ مِن المشركينَ، قل- يا محمَّدُ-: إنِّي أخافُ إنْ عصيتُ ربِّي عذابَ يومِ القيامةِ، ذلك العذابُ الهائلُ الشَّديدُ، الذي مَن يُصرَفْ عنه في يومِ القيامةِ، فقدْ أَسْبَغَ اللهُ عليه رحمتَه، وذلك هو الفوزُ الحقيقيُّ.

تفسير الآيات :

 

قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (14) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا تَقدَّم أنَّه تعالى بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، وأنَّه مالِكٌ لِمَا تضمَّنه المكانُ والزمانُ؛ أمَر تعالى نبيَّه أنْ يقولَ لهم: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا... على سبيلِ التَّوبيخِ لهم، أي: مَن هذه صفاتُه هو الذي يُتَّخذُ وليًّا وناصرًا ومُعِينًا، لا الآلهةُ التي لكُم؛ إذ هي لا تَنفعُ ولا تضرُّ؛ لأنَّها بين جمادٍ أو حيوانٍ مقهورٍ

، فقال تعالى:

قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا.

أي: قلُ- يا محمَّدُ-: أأجْعَلُ غيرَ اللهِ تعالى؛ مِن هذه المخلوقاتِ العاجزةِ، وليًّا يتولَّاني، فأَستنصرَه وأستعينَ به؟! والمرادُ: لا أتَّخذُ وليًّا إلَّا اللهَ تعالى وحْدَه .

كما قال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر: 64] .

فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.

أي: لا أتَّخذُ وليًّا غيرَ اللهِ تعالى؛ لأنَّه خالقُ السَّمواتِ والأرضِ، ومُبدِعُهما على غيرِ مثالٍ سبَق .

وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ.

أي: ولا أتَّخِذُ غيرَه سبحانه وليًّا؛ لأنَّه سبحانه الرزَّاقُ لجميعِ خَلْقِه، من غيرِ احتياجٍ إليهم .

كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56- 58].

وقال سبحانه: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [الواقعة: 63- 73] .

وعن أبي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه، قال: ((دعَا رجلٌ منَ الأنصارِ؛ مِن أَهْلِ قُباءٍ، النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّمَ فانطلَقْنا معَه، فلمَّا طَعِمَ، وغسلَ يَدَهُ- أو يَديهِ- قالَ: الحمدُ للَّهِ الَّذي يُطعِمُ ولا يُطعَمُ، مَنَّ علينا فَهَدَانا، وأطْعَمَنا وسقانا... )) الحديث .

وعن أبي هُرَيرَة أيضًا، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يومَ القيامةِ: يا ابنَ آدمَ، مرِضتُ فلم تعُدْني! قال: يا ربِّ، كيف أعودُك وأنت ربُّ العالَمِين؟! قال: أمَا عَلِمتَ أنَّ عبْدي فلانًا مرِضَ فلم تَعُدْه، أمَا عَلِمتَ أنَّك لو عُدْتَه لوجدتَني عندَه؟ يا ابنَ آدَمَ، استطعمتُك فلمْ تُطعِمْني! قال: يا ربِّ، وكيف أُطعِمُك وأنت ربُّ العالَمِين؟! قال: أمَا عَلِمتَ أنَّه استطعمَك عبدي فلانٌ فلم تُطعِمْه، أمَا علِمتَ أنَّك لو أطعمْتَه لوجدتَ ذلك عندي؟ يا ابنَ آدمَ، استسقيتُك فلمْ تَسقِني! قال: يا ربِّ، كيف أَسقِيك وأنت ربُّ العالَمِين؟! قال: استسقاك عَبدي فلانٌ فلم تَسْقِه، أمَا إنَّك لو سقَيْتَه وجدتَ ذلك عِندي )) .

قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ .

أي: قلْ- يا محمَّد-: إنِّي أَمَرني ربِّي أنْ أكونَ أوَّلَ مَن خضَع له سبحانَه بالتوحيدِ، وانقادَ له بالطَّاعةِ من هذه الأُمَّة .

وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ.

أي: ونُهيتُ أيضًا عن أنْ أكونَ مِن المشْرِكين .

قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا بيَّن تعالى كونَ رسولِه مأمورًا بالإسلامِ، ثمَّ عقَّبَه بكونه منهيًّا عن الشِّرك، وكان فعلُ المنهيِّ قد لا يُعذَّب عليه، قال مُعْلمًا بأنَّ المخالفةَ في هذا مِن أبلغِ المخالفاتِ، فصاحبُها مستحِقٌّ لأعظمِ الانتقامِ ، فقال:

قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) .

أي: قلْ- يا محمَّد-: إنِّي أخافُ إنْ عصيتُ ربِّي- بمعصيةِ الشِّركِ به سبحانه، أو بغيرِها من أنواعِ المعاصي- عذابَ يومِ القيامةِ، ذلك اليومُ الَّذي يعظُمُ هولُه .

مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)  .

مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ.

أي: مَن يُصرَفْ عنه العذابُ يومَ القيامةِ فقدْ رحِمَه اللهُ تعالى .

وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ.

أي: وصَرْفُ العذابِ يومَ القيامةِ هو الفوزُ الحَقيقيُّ؛ فمَن نجا مِن العذابِ فقدْ ظَفِر ورَبِح

 

.

كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:  185].

الفوائد التربوية :

 

1- قوله: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فيه أنَّ العبدَ لا يَلجأُ إلَّا إلى اللهِ سبحانه وتعالى؛ لأنَّ اللهَ هو الوليُّ، ثمَّ ولايةُ الله عزَّ وجلَّ ولايةٌ مبنيَّةٌ على الحمْدِ، كما قال تعالى: وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ

[الشورى: 28] .

2- قوله: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا يَقتضي تَنزيهَ القلبِ عن الالتِفاتِ إلى غيرِ اللهِ تعالى، وقطْعَ العلائِقِ عن كلِّ ما سِوى اللهِ تعالى .

3- وصْفُ اللهِ تعالى نفْسَه بفاطرِ السَّموات والأرضِ في قوله: فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُؤيِّدُ إنكارَ اتِّخاذ غيرِه وليًّا يُستنصَرُ ويُستعانُ به، أو يُتَّخذ واسطةً للتأثير في الإرادة الإلهيَّة، فإنَّ مَن فطَر السمواتِ والأرضَ بمحضِ إرادتِه من غيرِ تأثيرِ مؤثِّر، ولا شفاعةِ شافعٍ؛ يجب أنْ يُتوجَّهَ إليه وحْدَه بالدُّعاء، وإيَّاه يُستعانُ في كلِّ ما وراءَ الأسبابِ .

4- في قوله تعالى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ أنَّ الله تبارَك وتعالى هو المطعِمُ لا مُطعِمَ سواه، ويَنبني على هذا ألَّا نَسألَ الإطعامَ إلَّا مِن اللهِ تبارَك وتعالى، ولو أنَّنا تَمسَّكْنا بهذا مع التوكُّلِ على اللهِ والاستعانةِ به، لكان رِزقُنا مَضمونًا؛ لقولِ الله تبارَك وتعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2- 3] .

5- قال تعالى: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في العُدولِ عن اسمِ الجلالةِ إلى قوله: رَبِّي إيماءٌ إلى أنَّ عِصيانَه أمرٌ قبيحٌ؛ لأنَّه ربُّه، فكيفَ يَعصيه ؟!

6- قولُه تعالى: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فيه أنَّ المعصيةَ سببٌ للعذابِ، والمعاصي على نَوعينِ: معاصٍ لا يَغفرُها اللهُ، وهي الشركُ، ومعاصٍ تَدخُل تحت مشيئةِ الله، وهي الكبائرُ، وهناك معاصٍ أُخرى تُكفِّرها الأعمالُ الصالحةُ، وهي الصَّغَائر؛ هذا فيما يتعلَّقُ بينَ اللهِ عزَّ وجلَّ وعَبْدِه، أمَّا حقوقُ الآدميِّين فلا بدَّ مِن إيصالِ حقِّهم إليهم، إمَّا باستحلالٍ منهم في الدُّنيا، وإمَّا بأعمالٍ صالحةٍ تُؤخَذُ مِن أعمالِ هذا الظَّالِم .

7- ممَّا يُستفادُ من قولِه: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أنَّ هذا الدِّينَ دِينُ اللهِ الحقُّ لا محاباةَ فيه لأحدٍ، مهما يكُنْ قَدْرُه عظيمًا في نفْسِه، وأنَّ يومَ الجزاءِ لا بَيعٌ فيه ولا خُلَّةٌ ولا شفاعةٌ بالمعنى المعروفِ عند المشرِكين، ولا سلطانٌ لغيرِ اللهِ تعالى فيَتَّكلَ عليه مَن يَعصيه؛ ظنًّا أنْ يُخفِّفَ عنه أو يُنجِيَه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- في قولِه تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا أُمِر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يُعلِنَ أنَّه لنْ يتَّخِذَ وليًّا من دون اللهِ عزَّ وجلَّ، وهذا واجبٌ عليه؛ لأنَّه رسولٌ وإمامٌ مُقتدًى به، فلا بدَّ أن يُعلِنَ تحقيقَ الربوبيَّة

.

2- يُستفادُ مِن قولِه: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ التأكيدُ على إنكارِ اتِّخاذِ وليٍّ غيرِ الله، وفيها تعريضٌ بمَن اتَّخذوا أولياءَ مِن دونه من البَشرِ بأنَّهم مُحْتاجونَ إلى الطَّعام، لا حياةَ لهم ولا بقاءَ إلى الأجلِ المحدودِ بدونه، وأنَّ اللهَ تعالى هو الذي خلَقَ لهم الطَّعامَ، فهُم عاجِزون عن البقاءِ بدونه، وعاجزون عن خَلْقِه وإيجادِه؛ فكيف يتَّخِذون أولياءَ مع الغنيِّ الحميدِ، الرزَّاقِ الفعَّالِ لِمَا يُريد ؟!

3- قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ فيه تأييسُ المشْركين، وقطْعُ أطماعِهم مِن عودِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى دِينِهم؛ لأنَّهم ربَّما كانوا إذا رَأَوا منه رحمةً بهم، وَلِينًا في القولِ، طمِعوا في رُجوعِه إلى دِينهم، وقالوا: إنَّه دِينُ آبائِه .

4- صِحَّةُ النَّهيِ عمَّا لا يُمكن أن يقعَ؛ لقوله: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ، فشِركُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يُمكِن أن يقَعَ شَرعًا، ومع ذلك نُهِيَ عنه. والحِكمة مِن ذلك -فيما قيل- من وجوه:

الوجهُ الأوَّل: أنَّه قد جَرَت العادةُ في القرآنِ أنَّ اللهَ سبحانه يأمُر نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم وينهاهُ؛ ليَشرَعَ ذلك الأمْرَ والنهيَ لأمَّتِه على لِسانِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّه هو القدوةُ لهم، والمشرِّعُ لهم بقولِه وفِعلِه وتقريرِه.

والوجه الثاني: دعوتُه إلى الثَّباتِ على الإخلاصِ، وإنْ كان الشِّركُ لا يَقعُ منه.

والوجهُ الثالث: طَمْأَنَةُ أُمَّته إذا نُهوا عن الشِّركِ، بأنَّ ذلك ليسَ بمستنكَرٍ، وليس فيه بأسٌ؛ لأنَّ اللهَ أمَرَ إمامَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ألَّا يكونَ مِن المشركين .

5- ممَّا يُستفادُ من قولِه: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أنَّه لَمَّا كان الأمرُ بالإسلامِ نهيًا عن الشِّرْكِ، لم يَكتفِ به، بل صرَّحَ به؛ جمعًا بين الأمْرِ والنَّهْي من هذا الربِّ الكريمِ، الذي يَدْعو إحسانُه وكرمُه إلى ولايتِه، ويَنهى تمامُ مُلكِه وجبروتِه عن شيءٍ من عداوتِه .

6- في قوله تعالى: فَقَدْ رَحِمَهُ إثباتُ الرحمةِ لله، وهي رحْمةٌ حَقيقيَّة، وليست عِبارةً عن الثَّواب، أو إرادةِ الثَّواب، لكنَّها ليستْ كرحمةِ المخلوقِ التي يكون فيها نوعٌ من الضَّعْف، بل هي رحمةُ الخالقِ الذي هو فوقَ عِبادِه عزَّ وجلَّ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا استفهامٌ للإنكارِ على سبيلِ التَّوبيخِ لهم، أي: مَن هذه صفاتُه هو الذي يُتَّخذُ وليًّا وناصرًا ومُعينًا، لا الآلهةُ التي لكُم

.

- وقدَّم المفعولَ الأوَّل أَغَيْرَ على الفِعل وفاعلِه أَتَّخِذُ، ولم يقُل: (أَأَتَّخِذُ غيرَ اللهِ وليًّا)؛ لأنَّ الإنكارَ إنَّما حصَل على اتِّخاذِ غيرِ اللهِ وليًّا، لا على اتِّخاذ الوليِّ، والعربُ يُقدِّمون الأهمَّ فالأهمَّ الذي هم بشأنِه أعْنَى؛ فكان قوله: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا أوْلى مِن العِبارةِ الثَّانيةِ، ونظيرُه قولُه تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر: 64] ، وقوله تعالى: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس: 59] .

- وأُعيدَ الأمرُ بالقَولِ في قوله: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا- وكان سبَق في قوله: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمواتِ...- اهتمامًا بهذا المقُول؛ لأنَّه غَرَضٌ آخَرُ غيرُ الذي أُمِرَ فيه بالقولِ قَبْله .

2- قوله: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ فيه تَخصيصُ الطَّعام بالذِّكرِ من بين أنواعِ الانتفاعاتِ؛ لشدَّةِ الحاجةِ إليه، أو لأنَّه مُعظمُ ما يَصِلُ إلى المرزوقِ من الرِّزقِ .

- قوله: وَلَا يُطْعَمُ فيه تعريضٌ بهم فيما يُقدِّمونه إلى أصنامِهم مِنَ القَرابينِ، وما يُهرِقونَ عليها من الدِّماءِ .

3- قوله: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ فيه تعريضٌ؛ إذ إنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَصدُرْ منه امتناعٌ عن الحقِّ، وعدمُ انقيادٍ إليه، وإنَّما هذا على طريقِ التعريضِ على الإسلامِ، كما يأمرُ الملِكُ رعيَّتَه بأمرٍ ثمَّ يُتْبِعُه بقولِه: أنا أوَّلُ مَن يفعلُ ذلك؛ ليحملَهم على فِعل ذلك .

4- قوله: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ النَّهيُ مقصودٌ منه تأكيدُ الأمرِ بالإسلامِ؛ لأنَّ الأمْرَ بالشَّيءِ يَقتضي النهيَ عن ضِدِّه، وهذا التأكيدُ لتُقطَعَ جُرثومةُ الشِّركِ من هذا الدِّين .

5- قوله: أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

- قوله: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي شَرْطٌ مُعترِضٌ بين الفِعلِ أَخَافُ ومَفعولِه عَذَابَ، وجوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ دَلَّ عليه الجُملةُ قَبْلَه، أي: إنْ عَصيتُ ربِّي فإنِّي أخافُ عذابَ يومٍ عظيمٍ، وفيه مُبالغةٌ في قَطْعِ أَطماعِهم، وتَعريضٌ لهم بأنَّهم عُصاةٌ مُسْتوجِبون للعَذابِ .

- وقوله: عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أُضيفَ العَذابُ إلى يَوْمٍ عَظِيمٍ؛ تهويلًا له؛ لأنَّ في مُعتادِ العربِ أنْ يُطلقَ اليومُ على يومِ نَصْرِ فريقٍ، وانهزامِ فريقٍ من المحاربينَ، فيكون اليومُ نَكالًا على المنهزِمين؛ إذ يَكثُر فيهم القتْلُ والأسْرُ، ويُسامُ المغلوبُ سوءَ العذابِ، فذِكرُ (يوم) يُثير مِن الخيالِ مخاوفَ مألوفةً، وبهذا الاعتبارِ حَسُنَ جعْلُ إضافةِ العذابِ إلى اليومِ العظيمِ كنايةً عن عِظَم ذلك العذابِ؛ لأنَّ عظمةَ اليوم العَظيمِ تستلزمُ عِظَمَ ما يقَعُ فيه عُرفًا .

6- قوله تعالى: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ استئنافٌ بيانيٌّ مُؤكِّدٌ لتهويلِ العذابِ .

- وفيه كنايةٌ وأسلوبٌ بديعٌ؛ إذ المقصودُ مِن هذا الكلام إثباتُ مقابلِ قوله: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، كأنَّه قال: أرجو إنْ أطعتُه أنْ يرحمَني ربِّي؛ لأنَّ مَن صُرِف عنه العذابُ ثَبتَتْ له الرحمةُ؛ فجاءَ في إفادةِ هذا المعنى بطريقةِ المذهبِ الكلاميِّ، وهو ذِكرُ الدَّليلِ ليُعلَمَ المدلولُ، وهذا ضربٌ من الكنايةِ، وأسلوبٌ بديعٌ بحيثُ يدخل المحكومُ له في الحُكمِ بعنوان كونِه فردًا مِن أفراد العُمومِ، الذين ثبَت لهم الحُكمُ؛ ولذلك عقَّبَه بِقَوله: وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ، والإشارةُ بـ (ذلك) موجَّهةٌ إلى الصَّرْفِ المأخوذِ من قوله: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ أو إلى المذكور، وإنَّما كان الصَّرْفُ عن العذابِ فوزًا؛ لأنَّه إذا صُرِف عن العذابِ في ذلك اليومِ فقدْ دخَل في النَّعيمِ في ذلِك اليومِ .

==============

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (17 - 19)

ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ

غريب الكلمات :

 

يَمْسَسْكَ: أي: يُصبْك، والمسُّ يُقال في كلِّ ما يَنالُ الإنسانَ مِن أذًى، وأصل (مسس): جسُّ الشيءِ باليدِ

.

الْقَاهِرُ: أي: الغالبُ، العالي، والقهرُ: الغلبةُ والتَّذليلُ معًا، وأصلُ (قهر): يدلُّ على غلبةٍ وعلوٍّ .

وَأُوحِيَ إِلَيَّ: أي: أُلقِيَ إليَّ، ويُطلَقُ الوحيُ والإيحاءُ على إلْقاءِ المعنى إلى صاحبِه، والإشارةِ، والكتابةِ، وأصلُ الوحي: يدُّل على  إلْقاءِ عِلمٍ في إخفاءٍ، وكلُّ ما ألْقَيتَه إلى غَيرِك حتَّى عَلِمَه فهو وَحْيٌ كيف كانَ .

لِأُنْذِرَكُمْ: أي: لأُبلِّغكم وأُخوفِّكم؛ فالإنذارُ: هو التَّخويفُ، والتهديدُ، والإبلاغُ، والإخبارُ الذي فيه تخويفٌ

 

.

مشكل الإعراب :

 

قوله: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

أيُّ: مبتدأٌ

، وأَكْبَرُ: خبرُه، وشَهَادَةً: تمييزٌ، واسمُ الجَلالةِ اللهُ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، والتَّقديرُ: أكبرُ الأشياءِ شَهادةً اللهُ. ويجوزُ أنْ يَكونَ مبتدأً، والخبرُ مَحذوفٌ؛ والتَّقديرُ: اللهُ أكبرُ شَهادةً. وقوله: شَهِيدٌ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، والتقدير: هو شَهيدٌ؛ فعَلَى هذا يكون قولُه: قُلِ اللهُ جوابًا لـأَيُّ مِن حيثُ اللَّفظُ والمعنى. ويجوزُ أنْ يكون لفظُ الجَلالة اللهُ مُبتدأً، وشَهِيدٌ خبَرَه، ودلَّتْ هذِه الجُملةُ على جَوابِ أَيُّ من طَريقِ المعنى، أيْ: إنَّها دالَّةٌ على الجوابِ، وليستْ هي الجواب. وجملةُ اللهُ شَهِيدٌ.. في مَحلِّ نَصْبٍ؛ لأنَّها مقولُ القولِ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يقولُ اللهُ لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنْ يُصبْك اللهُ بضُرٍّ، فلن يُزيلَه ويَرفعَه عنك إلَّا هو، وإنْ يُصبْك بخيرٍ، فهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

ثم بيَّنَ سبحانه كمالَ قدرتِه، وعظيمَ سلطانِه، وأنَّه هو الذي قهَر كلَّ شيءٍ، وأنَّه هو العالي على خَلْقَه ذاتًا وقدْرًا وقهرًا، ذو السُّلطةِ التامَّةِ على عِبادِه، وهو الحكيمُ الخَبير.

ثمَّ يأمُر اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يسألَ المكذِّبين: أيُّ شيءٍ أعظمُ شهادةً على صِدقِ ما جاءَ به؟ وأمَرَه تعالى أنْ يُجيبهم: أنَّ أكبرَ الأشياءِ شهادةً هو اللهُ تعالى، هو الذي لا يجوزُ أن يقَعَ في شهادتِه السَّهوُ والخطأُ والكذِبُ، وهو الشهيدُ جلَّ وعلا بيْنه وبيْنهم، وهو سبحانه قد أوْحَى إليه هذا القرآنَ؛ ليُنذِرَهم به من العذابِ، ويُنْذِرَ كلَّ مَن بلَغَه القرآنُ، ثم أمَره أنْ يسألَ هؤلاء المكذِّبين: هل هم يَشهَدون أنَّ مع اللهِ تعالى آلهةً غيرَه تستحقُّ أن تُعبَد؟! فإنْ شَهِدوا بذلك فليقلْ لهم: إنَّه لا يَشهَدُ معهم، إنَّما هو مَعبودٌ واحدٌ هو الذي يَستحقُّ العبادةَ سبحانه وتعالى، وأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَريءٌ ممَّا يُشرِكون.

تفسير الآيات :

 

وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (17) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا أَبْطلَتِ الآياتُ السَّابقةُ استحقاقَ الأصنامِ الإلهيَّةَ؛ لأنَّها لم تَخْلُقْ شيئًا، وأوجبتْ عبادةَ المستحِقِّ الإلهيَّةَ بحقٍّ؛ أبطلتْ هذه الآيةُ استحقاقَهم العبادةَ؛ لأنَّهم لا يَملِكونَ للنَّاسِ ضَرًّا ولا نفعًا

، فقال تعالى:

وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ.

أي: وإنْ يُصِبْكَ اللهُ- يا محمَّدُ- بشِدَّةٍ وعُسرٍ وضِيقٍ، مِن شَظَفِ عيشٍ، أو مَرضٍ، أو غمٍّ أو همٍّ، أو غيرِ ذلك مِن أنواع الضُّرِّ .

فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ.

أي: فلنْ يَرفعَ، ويُزيلَ ذلك الضرَّ عنك إلَّا اللهُ تعالى وحْدَه .

وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ.

أي: وإنْ يُصِبْكَ اللهُ تعالى- يا محمَّدُ- بأيِّ خيرٍ كان، كالصِّحَّةِ والعقلِ، والمالِ والأهلِ، والأمْنِ وغيرِ ذلك .

فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ.

أي: فهو على كلِّ شيءٍ قادرٌ، لا يُعجِزُه شيءٌ، ولا يَمتنِعُ منه، ومِن ذلك خيرُه وعطاؤُه؛ فلا يَقدِرُ أحدٌ على ردِّه عمَّنْ أرادَه له سبحانه .

كما قال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [يونس: 107] .

وقال سبحانه: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر: 2] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 38] .

وقال سبحانه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا [الفتح: 11] .

وقال تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الأحزاب: 17] .

وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضِي اللهُ عنه، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا رفَعَ رأسَه مِنَ الرُّكوعِ قال: ربَّنا لكَ الحمدُ مِلْءَ السَّمواتِ والأرضِ، ومِلْءَ ما شِئتَ مِن شيءٍ بعدُ، أَهْلَ الثناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ، وكلُّنا لك عبدٌ، اللهمَّ لا مانعَ لِمَا أَعطيتَ، ولا مُعطِيَ لِمَا مَنعتَ، ولا يَنفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ )) .

وعن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال له: ((... واعلمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعتْ على أنَ يَنفعوك بشَيءٍ، لم يَنفعوك إلَّا بشَيءٍ قد كتَبَه اللهُ لك، وإنِ اجتَمعوا على أنْ يَضُرُّوك بشيءٍ لم يضُرُّوك إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ عليك... )) .

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا ذَكَر تعالى انفرادَه بتصرُّفِه بما يُريدُه من ضُرٍّ وخيرٍ، وقُدرتَه على الأشياءِ، ذَكَرَ قَهْرَه وغَلبَتَه، فقال :

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ.

أي: واللهُ سبحانه هو المستعبِدُ خَلْقَه، العالي عليهم؛ ذاتًا وقدْرًا وقهرًا، ذو السُّلطةِ التامَّةِ عليهم، الذي له الخَلائقُ خَضَعَتْ، وذلَّتْ له، ودَانَتْ .

وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.

أي: وهو سُبحانَه الحَكيمُ في جميعِ ما يَفعلُه؛ فيما أمَر بِه ونَهى عنه، وأثابَ وعاقَب، وفيما خلَقَ وقدَّر، فيَضعُ كلَّ شيءٍ في مَوضعِه اللَّائقِ به، وهو سُبحانَه الخبيرُ، المطَّلعُ على جميعِ السَّرائرِ والضَّمائرِ، العليمُ بمصالحِ الأشياءِ ومَضارِّها، ومواضعِها ومحالِّها، الذي لا تَخفَى عليه عواقبُ الأمورِ .

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا ذكرَ اللهُ عزَّ وجلَّ الاستدلالَ على إثباتِ ما يَليقُ بِه تعالى مِن الصِّفات، انتَقَلَ إلى إثباتِ صِدقِ رِسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإلى جَعْلِ اللهِ حَكَمًا بينه وبينَ مُكذِّبيه .

وأيضًا لَمَّا أقامَ الأدلَّةَ على الوحدانيَّةِ والقُدرة، ووصَل إلى صِفةِ القهرِ المؤذِنِ بالانتقامِ، لم يَبقَ إلَّا الإشهادُ عليهم؛ إيذانًا بما يَستحقُّونه مِن سوءِ العذابِ، وإنذارًا به؛ لئلَّا يقولوا إذا حَلَّ بهم: إنَّه لم يَأتِنْا نذيرٌ ، فقال:

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً.

أي: قلْ- يا محمَّد- لهؤلاءِ المكذِّبين: أيُّ شيءٍ أعظمُ شَهادةً على صِدقي ؟

قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ.

أي: قلْ لهم- يا محمَّدُ-: إنَّ أكْبرَ الأشياءِ شهادةً هو اللهُ تبارك وتعالى، الذي لا يَجوزُ أنْ يقعَ في شَهادتِه السهوُ والخطأُ والكذبُ، وهو الشَّهيدُ بَيني وبَينكم؛ بالمحقِّ منَّا مِن المبطِلِ؛ فهو العالمُ بما جِئتُكم به، فيَشهَدُ لي بإقرارِه وفِعلِه، فيُقرُّني على ما قلتُ لكم؛ إذ لا يَليقُ بحِكمتِه وقُدرتِه سبحانه أنْ يُقرَّ كاذبًا عليه، يَزعُمُ أنَّ اللهَ تعالى أرْسلَه، وهو سبحانه لم يُرسِلْه .

كما قال عزَّ وجلَّ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: 40- 47] .

وقال سبحانه: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] .

وقال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1] .

وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الأحقاف: 8] .

وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ.

أي: وأَوْحَى اللهُ إليَّ هذا القرآنَ الكريمَ لِمَصلحتِكم؛ أنْ أُنذِرَكم به مِن العذابِ، وأُنذرَ كذلك كلَّ مَن بلَغَه القرآنُ .

ثمَّ أمَر اللهُ تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بالشَّهادةِ له بالوحدانيَّة التي جحَدها المُشركونَ، وبالبراءةِ من قولِهم، وشهادتِهم بالشِّرك ، فقال تعالى:

أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى.

أي: هل تَشهدون- يا أيُّها المشرِكونَ- بأنَّ معَ اللهِ تعالى معبوداتٍ أخرى، تستحقُّ العبادةَ ؟

قُل لاَّ أَشْهَدُ.

أي: إنْ شَهِدوا بأنَّ مع اللهِ تعالى آلهةً أخرى، فقُلْ- يا محمَّدُ-: لا أَشهَدُ مَعكُم على ذلك .

قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ.

أي: قلْ: إنَّما هو معبودٌ واحدٌ، مُنفردٌ باستحقاقِ العبوديَّةِ، لا شَريكَ له .

وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ.

أي: وإنَّني بريءٌ مِن كلِّ شَريكٍ تدَّعونَه لله، وتَعبُدونه مع اللهِ تعالى؛ فلا أَعْبُدُ سِوى اللهِ شيئًا، ولا أَدْعُو غيرَه إلهًا

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- يُستفادُ مِن قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ... أنَّه يَنبغي للإنسانِ أنْ يُعلِّقَ رجاءَه باللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه إذا عَلِم مضمونَ هذه الآيةِ فسوفَ يَعتمِدُ في أمورِه كلِّها على اللهِ عزَّ وجلَّ

.

2- قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فيه الحثُّ على الصَّبرِ؛ لأنَّك إذا عَلِمتَ أنَّ الذي أصابَك بالضرِّ هو اللهُ، فلا بدَّ أنْ تَصبِرَ؛ لأنَّك عَبْدُه، يَفعلُ بك ما شاءَ، فتصبرُ على ما يُصيبك مِن الضَّرر .

3- قوَّةُ رَجاءِ العبدِ باللهِ عزَّ وجلَّ إذا أصابَه الضَّررُ أنْ يزولَ عنه الضررُ؛ وجْهُ ذلك قولُه: فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ، وكم مِن أضرارٍ حدَثَتْ للإنسانِ حتى أوصلتْ إلى اليأسِ والقُنوطِ، فكَشفَها اللهُ عزَّ وجلَّ! وكم مِن إنسانٍ أُصيبَ بمرضٍ حتى وصَلَ إلى حافَةِ القبرِ، ثمَّ شفاه الله عزَّ وجلَّ! وكم مِن إنسانٍ أُصيبَ بالفقرِ حتى وصَلَ إلى ألَّا يجِدَ قُوتَ يومِه فأَغْناه اللهُ عزَّ وجلَّ! وكم مِن إنسانٍ كان وحيدًا فرَزَقَه اللهُ! وهلمَّ جرًّا؛ لأنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ .

4- في قوله تعالى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إثباتُ وصْفِ الخبرةِ للهِ عزَّ وجلَّ، وهي العلمُ ببواطنِ الأمورِ، ويَترتَّبُ على إيمانِنا بهذا أنْ نَستسلمَ لحُكمِ اللهِ الشرعيِّ، كما أنَّنا مُسْتسلِمون لحُكمِه القَدَريِّ، وألَّا نُكلِّفَ أنفُسَنا بالاطِّلاعِ على الحِكمةِ فيما لا تُدرِكُه عقولُنا، بل نُؤمِنُ ونُسلِّمُ، وكذلك يُقال في الأحكامِ القَدَريَّة: نُؤمِنُ باللهِ ونُسلِّمُ لقَضائِه .

5- وجوبُ التبرُّؤِ من أهلِ الباطِلِ وما هم عليه، ومِن المشركين ومِن عملِهم الشركيِّ، والتبرؤِ من كلِّ ما يُعبَدُ من دونِ الله، ولا تجوزُ المُداهنةُ في هذا، ولا الموافقةُ، فإن لم يشهَدْ ببُطلانِ الآلهةِ سوَى اللهِ عزَّ وجلَّ، فإنَّه لم يُخلصْ ولم يُوحِّد؛ إذ إنَّ التوحيدَ مبنيٌّ على النفيِ والإثْباتِ؛ وذلك لقولِه: قُلْ لَا أَشْهَدُ وقولِه: وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- تمامُ سلطانِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه سبحانه وتعالى هو المتصرِّفُ كما يَشاءُ بعبادِه؛ لقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ... ... وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ

.

2- قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ فيه تقويةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الدَّعوةِ إلى اللهِ، وأنَّه مهما حاولَ هؤلاءِ أنْ يُصيبوه بضررٍ فإنَّهم لا يَملِكون ذلك، إذا لم يَكُنِ اللهُ أرادَه .

3- قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ في هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّه لا يجوزُ للعاقلِ أنْ يتَّخذَ غيرَ اللهِ وليًّا؛ وذلك لأنَّ الضرَّ اسمٌ للألمِ والحُزنِ والخوفِ، وما يُفضي إليها أو إلى أحدِها، والنَّفع اسمٌ للَّذَّة والسُّرورِ وما يُفضي إليهما أو إلى أَحدِهما، والخير اسمٌ للقَدْرِ المشترَكِ بين دفْع الضرِّ وبين حُصولِ النَّفع؛ فإذا كان الأمرُ كذلك، فقد ثبَت الحصرُ في أنَّ الإنسان إمَّا أنْ يكونَ في الضرِّ أو في الخير؛ لأنَّ زوالَ الضرِّ خيرٌ، سواءٌ حصَل فيه اللَّذةُ أو لم تَحصُل، وإذا ثبَت هذا الحصرُ، فقد بيَّن اللهُ تعالى أنَّ المَضارَّ- قليلَها وكثيرَها- لا تندفِعُ إلَّا بالله، والخيراتِ لا يحصُل قليلُها وكثيرُها إلَّا باللهِ تعالى .

4- مِن أدلَّةِ توحيدِه عزَّ وجلَّ: أنَّه تعالى المنفردُ بكَشفِ الضَّرَّاء، وجَلْب الخيرِ والسَّرَّاء؛ ولهذا قال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ مِن فقرٍ أو مرضٍ، أو عُسرٍ، أو غمٍّ أو هَمٍّ أو نحوه، فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فإذا كان هو وحْدَه النافعَ الضارَّ، فهو الذي يَستحقُّ أنْ يُفرَدَ بالعُبوديَّة والإلهيَّة .

5- إثباتُ الفَوقيَّةِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ لقولِه: فَوْقَ عِبَادِهِ، وهي فوقيَّةُ ذاتٍ وقدْرٍ وقهْرٍ .

6- إثباتُ العبوديَّةِ لجميعِ الخَلقِ؛ لقوله: فَوْقَ عِبَادِهِ وهذه هي العبوديَّةُ الكونيَّة؛ فكلُّ الخَلقِ عِبادُ الله عزَّ وجلَّ، يَفعل فيهم ما يَشاءُ، ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ: برًّا أو فاجرًا، مؤمنًا أو كافرًا، أن يَستعصيَ على ربِّه عزَّ وجلَّ مِن هذه الناحيةِ .

7- ممَّا يُستفادُ مِن مجيءِ قوله: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ بعدَ قوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ أنَّه لَمَّا كان في القَهرِ ما يكونُ مذمومًا، نفاهُ بقوله: وَهُوَ، أي: وحْدَه الْحَكِيمُ؛ فلا يُوصلُ أثرَ القهرِ بإيقاعِ المكروهِ إلَّا لمستحِقٍّ، وأتمَّ المعنى بقولِه: الْخَبِيرُ، أي: بما يستحقُّ كلُّ شَيءٍ، فتمَّتِ الأدلَّةُ على عظيمِ سُلطانِه .

8- قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ فقرَنَ اللهُ تعالى هنا بين الحكيمِ والخبيرِ؛ ليعلمَ الناسُ أنَّ حِكمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ عن خِبرةٍ وعِلمٍ ببواطنِ الأمورِ؛ وعلى هذا فقدْ تكون الحكمةُ خفيَّةً على كثيرٍ مِن النَّاس؛ لأنَّه لا يُدرِكُ الحِكمةَ إلَّا مَن كان خبيرًا، ففي قرْنِ هذينِ الاسمينِ فائدةٌ، وهي أنَّ الحكمةَ قد تكونُ خَفيَّةً لا يَعلمُها إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ .

9- إطلاقُ اسمِ (الشَّيء) على اللهِ تعالى؛ لقوله: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ؛ لأنَّ اسمَ الاستفهامِ إذا أُضيفَ إلى كَلمةٍ، صارتْ هذه الكلمةُ صادقةً على جوابِ الاستفهامِ، وهنا جوابُ الاستفهامُ اللهُ، فيكونُ اللهُ تعالى شَيئًا، فيُخبَرُ بكلمةِ (شيء) عن اللهِ، ولكن لا يُسمَّى به؛ فالله تعالى له الأسماءُ الحُسْنى، وكَلمةُ (شيء) لا تدلُّ على هذا المعنى .

10- في قوله: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ اقتُصِرَ على جَعْلِ عِلَّة نُزولِ القرآنِ للنِّذارةِ، دون ذِكرِ البِشَارة؛ لأنَّ المخاطَبين في حالِ مُكابرتِهم التي هي مقامُ الكلامِ لا يُناسِبُهم إلَّا الإنذارُ؛ فغايةُ القرآنِ بالنسبةِ إلى حالِهم هي الإنذارُ .

11- أنَّ مَن بلَغَه القُرآنُ فقد قامتْ عليه الحُجَّة؛ لقوله: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ

12- يُستفادُ مِن قولِه: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ الدَّلالةُ على أنَّ أحكامَ القرآنِ تَعمُّ الموجودِينَ وقتَ نُزولِه ومَن بَعدَهم، وأنَّه لا يُؤاخَذُ بها مَن لم يَبلُغْه .

13- يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: وَمَنْ بَلَغَ أنَّه يجبُ على عُلماءِ المسلمينَ أنْ يُبلِّغوا القرآنَ كلَّ أحدٍ؛ لأنَّهم وَرَثةُ الأنبياءِ، ولكن مَن لم يَكُن لسانُه عربيًّا، فإنَّه يُبلَّغُ معنى القرآنِ بلِسانِه، ثم يُعطَى القُرآنَ، فيَقرؤه باللَّفظِ العربيِّ إذا أسْلَم .

14- يُستفادُ مِن قولِه: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ النصُّ على عُمومِ بَعثةِ خاتَمِ الرُّسلِ عليه أفضلُ الصَّلاةُ والسَّلام .

15- يُستفادُ من قولِه تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى سَفَهُ أولئك المشرِكين الذين يَشهدون أنَّ معَ اللهِ آلهةً أخرى، ولو سُئِلوا عنها: أتَخلُقُ شيئًا؟ لقالوا: لا، وهذا مِن سَفهِهم؛ أنْ يَعبدوا مَن لا يَخلُقُ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

- في قولِه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ وقولِه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ نابَ الضرُّ مَنابَ الشرِّ- وإنْ كان الشرُّ أعمَّ منه- فقابَلَ الخيرَ

، ونُكتةُ المقابلةِ أنَّ الضرَّ مِن اللهِ تعالى ليسَ شَرًّا في الحَقيقةِ، بل هو تَربيةٌ واختبارٌ للعَبدِ، يَستفيدُ به مَن هو أهلٌ للاستفادةِ أخلاقًا وآدابًا وعِلمًا وخبرةً .

وقيل: قابَل قولَه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ بقولِه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ مُقابلةً بالأعمِّ؛ لأنَّ الخيرَ يَشملُ النَّفْعَ- وهو الملائمُ- ويَشملُ السَّلامةَ من المنافِر؛ للإشارةِ إلى أنَّ المرادَ من الضرِّ ما هو أعمُّ، فكأنَّه قيل: إنْ يَمسَسْك بضُرٍّ وشرٍّ، وإنْ يَمسَسْك بنَفعٍ وخيرٍ؛ ففي الآيةِ احتباكٌ .

وقيل: ناب هنا الضُّرُّ عن الشرِّ، وعدَل عن الشرِّ الذي يُقابِلُ الخيرَ؛ لأنَّ الشرَّ أَعمُّ مِن الضُّرِّ، فأُتِيَ بلفظِ الضرِّ الذي هو أَخصُّ، وبلفظِ الخيرِ الذي هو عامٌّ مُقابلٌ لعامٍّ؛ تَغليبًا لجهةِ الرَّحمة .

- وقُدِّمَ مَسُّ الضرِّ على مَسِّ الخيرِ في قوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ؛ لمناسبةِ اتِّصالِ مَسِّ الضرِّ بما قَبْلَه مِن التَّرهيبِ المدلولِ عليه بقوله تعالى: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وأيضًا بدَأَ بذِكرِ الضُّرِّ؛ لأنَّ كَشْفَه مُقدَّمٌ على نَيلِ مُقابِلِه، كما أنَّ صَرْفَ العذابِ في الآخرةِ مُقدَّمٌ على النَّعيمِ فيها .

- وجاءَ جوابُ الشرطِ الأوَّلِ بالحَصرِ في قولِه: فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ؛ مبالغةً في الاستقلالِ بكشْفِه؛ إشارةً إلى استقلالِه بكَشْفِ الضُّرِّ دونَ غَيرِه، وجاءَ جواب الشَّرْطِ الثاني بقولِه تعالى: فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ إشارةً إلى قُدرتِه الباهِرةِ، فيَندرجُ فيها المسُّ بخَيرٍ وغيرِه .

2- قوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يُفيد الحَصرَ والقصرَ، ومعناه: أنَّه لا مَوصوفَ بكَمالِ القُدرةِ، وكَمالِ العِلمِ إلَّا الحقُّ سبحانه، مع عُلوِّه وفَوقيَّتِه؛ حيثُ أَبطلتْ هذه الآيةُ أنْ يكونَ غيرُ اللهِ قاهرًا على أحدٍ، أو خبيرًا أو عالِمًا بإعطاءِ كلِّ مخلوقٍ ما يُناسِبُه، ولا جرَمَ أنَّ الإلهَ تجبُ له القُدرةُ والعِلم، وهما جِماعُ صِفات الكمالِ، كما تجبُ له صفاتُ الأفعال مِن نفْعٍ وضرٍّ، وإحياءٍ وإماتةٍ .

- وهذه الآيةُ تتنزَّلُ مِن التي قَبلَها مَنزِلةَ التَّعميمِ بعدَ التَّخصيص؛ لأنَّ التي قبلها ذَكرتْ كمالَ تصرُّفه في المخلوقاتِ، وجاءتْ به في قالَبِ تثبيتِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهذه الآيةُ أوْعَتْ قُدرتَه على كلِّ شيءٍ، وعِلمَه بكلِّ شيء، وذلك أصلُ جميعِ الفِعل والصُّنع، وقد أفاد تعريفُ الجزْأَين القصرَ، أي: لا قاهرَ إلَّا هو؛ لأنَّ قهرَ اللهِ تعالى هو القهرُ الحقيقيُّ الذي لا يجِد المقهورُ منه مَلاذًا؛ لأنَّه قهرٌ بأسبابٍ لا يستطيعُ أحدٌ خَلْقَ ما يُدافِعها، وممَّا يُشاهَد منها دومًا: النومُ وكذلك الموتُ؛ سبحان مَن قهرَ العبادَ بالموتِ .

3- قوله: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ استئنافٌ ابتدائيٌّ، والاستِفهامُ فيه على جِهَةِ التَّقريرِ والتَّوقيفِ .

- وتكريرُ كَلِمة (بَيْن)؛ لتحقيقِ المقابلةِ، وللتأكيدِ؛ حيث كرَّر اللهُ تعالى كلمة (بين) في قوله: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وكان الأصلُ أنْ يقول: (قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيننا) .

4- قوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ في الآيةِ إيجازٌ بالحذفِ؛ حيث حُذِفَ فاعِلُ الوحيِ، وبُنِي فِعلُه وَأُوحِيَ للمفعولِ؛ للعلمِ بالفاعلِ الذي أوحاه إليه، وهو اللهُ تعالى ، وفيه حَذْفٌ في قوله وَمَنْ بَلَغَ والتقدير: ومَنْ بلَغَه هذا القرآنُ .

5- قوله: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ

- في قوله: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى الاستفهامُ إنكاريٌّ؛ للتقريعِ لهم والتوبيخِ، وهو يُفيدُ إنكارينِ؛ أحدُهما صريحٌ بأداةِ الإنكار، والآخَرُ كِنائيٌّ بلازمِ تأكيدِ الإخبارِ؛ لغرابةِ هذا الزعمِ بحيثُ يَشكُّ السَّامعُ في صدورِه منهم .

- وقوله: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ فيه تأكيدُ الخَبر بـ(إنَّ) ولامِ الابتداءِ؛ ليُفيدَ أنَّ شهادتَهم هذه ممَّا لا يَكادُ يُصدِّقُ السَّامِعونَ أنَّهم يَشهَدونها؛ لاستبعادِ صُدورِها مِن عُقلاءَ؛ فاحتاجَ المخبِرُ عنهم بها إلى تأكيدِ خَبرِه بمُؤكِّدَينِ .

- وقوله: قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فيه تأكيدٌ على إيجابِ التَّوحيدِ، والبَراءةِ عن الشِّركِ بـإِنَّمَا التي تُفيدُ الحصرَ، ولفظِ وَاحِدٌ الصريحِ في التوحيدِ، ونفْيِ الشُّركاءِ، وقولِه: إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ الذي فيه تصريحٌ بالبراءةِ عن إثباتِ الشُّركاءِ؛ أو البراءةِ مِن إشراكِهم، وهو كالتوكيدِ لِمَا قبلَه؛ فثبَتتْ دَلالةُ هذه الآيةِ على إيجابِ التوحيدِ بأعظمِ طُرقِ البيانِ، وأبلغِ وجوهِ التَّأكيدِ .

- وفي هذه الآيةِ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ... تَكريرٌ للأمْرِ بقوله: قُلْ أربعَ مرَّات؛ لتأكيدِ التبليغِ .

=================

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (20 - 24)

ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ

غريب الكلمات :

 

افْتَرَى: أي: اختَلق وكذَب، والافتراءُ الاختلاقُ، ومنه قِيل: افتَرَى فلانٌ على فلانٍ، إذا قذَفَه بما ليسَ فيه، وأصلُ (فري) قَطْعُ الشَّيءِ؛ فالفَرْيُ: قطعُه لإصلاحِه، والإفراءُ: قطعُه للإفسادِ، والافتِراءُ فيهما، وفي الإفسادِ أكثرُ

.

نَحْشُرُهُمْ: أي: نَسوقُهم ونَجمَعُهم، والحشرُ: الجمعُ مع سَوْقٍ، وكلُّ جمْعٍ حشرٌ، ويُطلَقُ أيضًا على البعثِ والانبعاثِ، أو الجَمْعِ بكثرةٍ .

تَزْعُمُونَ: أي: تَكذِبون، والزَّعم غالبًا هو حِكايةُ قولٍ ما، يكونُ مَظِنَّةً للكذبِ، أو اعتقادُ الباطِل بتقوُّلٍ، وقدْ يكونُ الزَّعم حَقًّا، وأصلُ (زعم): القولُ مِن غيرِ صِحَّةٍ ولا يقينٍ .

فِتْنَتُهُمْ: أي: مَقالتُهم وحُجَّتُهم، أو بَليَّتُهم التي أَلزمتْهم الحُجَّةَ، وزادتْهم لائمةً، والفتنةُ تُطلَق على: الشِّركِ والكُفرِ، والشرِّ والعذابِ، وهي في الأصل: الاختبارُ والابتلاءُ والامتحانُ، مأخوذةٌ من الفَتْن: وهو إدخالُ الذهبِ النَّارَ؛ لتظهرَ جَودتُه مِن رداءتِه .

وَضَلَّ: أي: وذَهَب، والضَّلالُ: العُدولُ عن الطريقِ المستقيمِ، وضياعُ الشيءِ، وذَهابُه في غيرِ حقِّه

 

.

مشكل الإعراب :

 

1- قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا

لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قُرئ (تكن) و (يكن) بالتَّاءِ وبالياءِ، وقُرِئت فِتْنَتُهُمْ بالرَّفْع والنَّصب في كلٍّ مِنهما؛ فهذه أربعةُ أوجهٍ في الإعرابِ؛ فـفِتْنَتُهُمْ على الرَّفعِ هي اسمُ كان، والخبر قوله: أَنْ قَالُوا الذي هو مصدرٌ مُؤوَّل بمعنى (قولهم)، وعلى نصْب فِتْنَتَهُمْ فهي خبرُ كان مُقدَّم، وأَنْ قَالُوا اسمُ كانَ مُؤخَّر. وعلى قِراءة تَكُنْ بالتاءِ ورفْع الفتنةِ يكونُ تأنيثُ الفِعلِ مُراعاةً لتأنيثِ لفظِ الفِتنة، وعلى قِراءة يَكُنْ بالياءِ مع رفْع فِتْنَتُهُمْ فيكونُ تذْكِير الفِعل؛ لأنَّ تأنيثَ الفتنةِ غيرُ حقيقيٍّ، ولأنَّ الفتنةَ هنا بمعنى القَول؛ فحَمَلَه على المعنى فذَكَّره.

وعلى قِراءة تَكُنْ بالتَّاءِ ونصْب فِتْنَتَهُمْ يكونُ تأنيثُ الفِعلِ مُراعاةً لمعنى أَنْ قَالُوا؛ لأنَّه بمعنى المقالةِ والفِتنةِ، وعلى قِراءة يَكُنْ بالياءِ مع نصْب فِتْنَتَهُمْ، فيكونُ تذكيرُ الفِعل؛ لإِسنادِه إلى مُذكَّرٍ؛ لأنَّ أَنْ قَالُوا بمعنى القَولِ، أي: قَولُهم.

وقِراءة يَكُنْ بالياءِ، وفِتْنَتَهُمْ بالنَّصبِ، هي أوضحُ هذه القِراءاتِ؛ لإجرائِها على القواعِد مِن غيرِ تأويلٍ؛ لأنَّ الأحسنَ جَعْلُ الأعرفِ اسمًا مُحَدَّثًا عنه، وجَعْلُ الأقلِّ تعريفًا خبرًا حديثًا عنه، والأعرفُ هنا أَنْ قَالُوا لأنَّه في منزلةِ الضَّميرِ، والضَّميرُ أَعْرَفُ المعارفِ بَعْدَ اسْمِ اللهِ تعالى، والفِتنةُ دونه في التَّعريفِ؛ لأنَّها تعرَّفتْ بإضافتِها إلى المُضمَرِ؛ فهي دونَ تعريفِ أَنْ قَالُوا بكثيرٍ، ولأنَّ يَكُنْ بالتذكير على الأصلِ؛ لأنَّها عائدةٌ إلى مُذَّكرٍ، وهو أَنْ قَالُوا، أي: قَولُهم

.

2- قوله: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا

يَوْمَ منصوبٌ على أنه مفعول به لفِعلٍ مُضمَرٍ، أي: واذْكُرْ- يا محمَّدُ- يومَ نَحشُرهم، وقيل: انتصَب بـ (نقول) مُضمرَةً

 

.

المعنى الإجمالي :

 

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ الَّذين أُوتوا التوراةَ والإنجيلَ مِن اليهودِ والنَّصارى يَعرِفونَ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما يَعرِفُ الواحدُ منهم ابنَه، والذين خَسِروا أنفُسَهم كلَّ الخَسارةِ هُم الَّذينَ كَفروا بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وفاتَهم الإيمانُ به وبرسالتِه.

ثمَّ بَيَّن تعالى أنَّه لا أَحدَ أشدُّ ظُلمًا ممَّن افتَرَى على اللهِ تعالى كذِبًا، أو مَن كذَّبَ بحُجَجِه وبَراهينِه، إنَّه لا يُفلحُ الظَّالِمون أبدًا.

ويَومَ يَحشُرُهم اللهُ جميعًا ثمَّ يَسألُ المشركينَ: أينَ شُركاؤُهم الذين كانوا يَزعُمون أنَّهم آلهةٌ مع اللهِ تعالى؟! ثمَّ بعدَ هذا السؤالِ لم يَكُن جوابُهم حِينَ اختُبِروا وامتُحِنوا به إلَّا أنَّهم حَلَفوا بربِّهم ما كانوا مُشرِكين.

ثمَّ أمَرَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يتأمَّل كيف كذَبَ هؤلاءِ المشرِكون على أَنفُسِهم يومَ القِيامةِ، وغابَ عنهم شُركاؤُهم الذين زَعَموهم مع اللهِ تعالى، فلمْ يَنفعوهم بشَيءٍ.

 

تفسير الآيات :

 

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (20) .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ.

أي: الذين أُوتوا التوراةَ والإنجيلَ مِن اليَهودِ والنَّصارَى يَعرِفونَ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما يَعرِفُ أحدُهم ابنَه، دون أدْنَى شَكٍّ

.

كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف: 157] .

الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ.

أي: الَّذين أَهْلَكوا أنفُسَهم، وألْقَوْها في نارِ جَهنَّمَ؛ بإنكارِهم أنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ تعالى، وهم بحَقيقةِ ذلك عارِفون، قد خَسِروا كلَّ الخَسارةِ؛ إذ لَمَّا أَعْرَضوا عن ذلِك فاتَهُم الإيمانُ الحقيقيُّ، الذي هو سببُ الفوزِ في الدُّنيا والآخِرة .

كما قال الله عزَّ وجلَّ: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر: 15] .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ خُسرانَ المُنكِرينَ في الآيةِ الأُولى؛ بَيَّن في هذِه الآيةِ الكريمةِ سَببَ ذلك الخُسرانِ، وهو أمران؛ أحدُهما: الافتراءُ على اللهِ كَذِبًا، الأمْرُ الثَّاني من أسبابِ خَسارتِهم: تَكذيبُهم بآياتِ اللهِ تعالى، وقَدْحُهم في مُعجزاتِ محمَّد عليه الصَّلاةُ والسَّلام، وإنكارُهم كونَ القرآنِ العظيمِ مُعجزةً قاهرةً منه ، فقال تعالى:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ.

أي: لا أحدَ أشدُّ ظُلمًا ممَّن تقوَّلَ على اللهِ تعالى، كمَن زعَمَ أنَّ له شَريكًا، أو كذَّبَ بحُجَجِه وأعلامِه، ومِن ذلك ما أعطاهُ لرُسلِه من الأدلَّةِ على صِدْقِهم .

إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ  .

أي: إنَّ كلَّ ظالمٍ لا يُفلحُ أبدًا، ومنهم القائِلون على اللهِ تعالى الباطِلَ، والمكذِّبون بآياتِه عزَّ وجلَّ .

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا كان معنى قولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أنَّهم أكذبُ الناسِ، دلَّ عليه بكَذِبِهم يومَ الحشرِ بعدَ انكشافِ الغطاءِ ، فقال:

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا.

أي: ويومَ يَجمعُ اللهُ تعالى جميعَ المشرِكين، والمفترِين على اللهِ كَذِبًا، والمكذِّبين بآياتِه .

ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ.

أي: ثمَّ نقولُ للمُشرِكين- تَوبيخًا وتقريعًا لهم- إذا جمعْناهم: أينَ شُركاؤُكم الذين كنتُم تدَّعون أنَّهم آلهةٌ مع اللهِ سبحانه ؟

كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص: 62] .

ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23).

القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:

في قوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ قِراءتان:

1- قِراءة وَاللَّهِ رَبَّنَا بنَصْبِ رَبَّنَا على النِّداءِ، بمعنى: واللهِ يا ربَّنا، وفيه معنى الخُضوعِ والتضرُّعِ للهِ تعالى .

2- قِراءة وَاللَّهِ رَبِّنَا بجرِّ رَبِّنَا على النَّعْتِ للهِ عزَّ وجلَّ، والثناءِ .

ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23).

أي: ثمَّ بَعدَ هذا السؤالِ لم يَكُنْ جوابُهم عليه حِين اختُبِروا وامتُحِنوا بِه، إلَّا إنكارَهم لشِركِهم، وحَلِفَهم أنَّهم ما كانوا مُشرِكين .

كما قال تعالى عن المنافِقين: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [المجادلة: 18] .

وعن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: قال رجلٌ لابنِ عَبَّاسٍ: إنِّي أَجِدُ في القرآنِ أشياءَ تَختلِفُ عليَّ؟ قال: ... وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] ، وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، فقدْ كتَموا في هذه الآيةَ؟... فقال ابنُ عبَّاس: وأمَّا قوله: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] ، فإنَّ اللهَ يغفرُ لأهلِ الإخلاصِ ذُنوبَهم، وقال المشرِكون: تَعالَوْا نقولُ: لم نكُنْ مُشرِكين، فخُتِمَ على أفواهِهم، فتَنطِقُ أيدِيهم، فعندَ ذلك عُرِفَ أنَّ اللهَ لا يُكتَمُ حديثًا، وعندَه: يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا... الآيةَ [البقرة: 105] .

انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24).

انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ.

أي: انظُرْ بقلبِك- يا محمَّدُ- وتأمَّلْ كيفَ كذَب هؤلاءِ المشرِكون في الآخِرةِ على أنفسِهم بنَفيِهم الشِّركَ عنها، فكَذَبوا كذِبًا يعودُ بالخُسرانِ والضَّررِ عليها .

وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ.

أي: وغابَ عنهم الشُّركاءُ الذين زَعموهم مع اللهِ سبحانه وتعالى، وبَطلَتْ دعواهم فيهم؛ فلم يُغنوا عنهم شيئًا

 

.

كما قال سبحانه وتعالى: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ [غافر: 73-74] .

الفوائد التربوية :

 

1- قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فيه التَّحذيرُ مِن أن يَفتريَ الإنسانُ على اللهِ تعالى الكذبَ؛ لأنَّه بيَّنَ أنَّه في المرتبةِ العُليا من الظُّلم؛ ومِن الافتراءِ على الله كذِبًا: أنْ يجعلَ العبدُ لله تعالى صاحبةً أو ولدًا، أو يتَّخِذَ مَعَهُ شريكًا، ومن الافتراء: أنْ يكْذِبَ الإنسانُ على ربِّه عزَّ وجلَّ في مدلولِ آياتِه، فيقول: أراد اللهُ بكذا، كذا وكذا. هذا كذبٌ على اللهِ، ومِن ذلك: أنْ يفتريَ على الله كذِبًا في أحكامِه فيقول: هذا حلالٌ، وهذا حرامٌ. كما قال تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ

[النحل: 116] .

2- في قولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ وجوبُ التَّصديقِ بكلِّ آياتِ الله الكونيَّةِ والشرعيَّة؛ وجه ذلك: أنَّ (آيات) مضافةٌ، والجمع إذا أُضيفَ يُفيدُ العمومَ، ويتفرَّع على هذا: أنَّ مَن آمَن ببعضٍ، وكفَر ببعضٍ، فقدْ كفَر بالجميع، فلا يُعَدُّ مؤمنًا؛ لأنَّه يوجدُ بعضُ الناسِ يُؤمِن ويُصدِّقُ بما يرَى عقلُه أنَّه حقٌّ، ويُكذِّب بما يرى أنَّه ليس بحقٍّ، أو يُؤمنُ بما يرَى أنَّه مناسبٌ، ويَكفُر بضدِّ ذلك، وهؤلاء بَيَّن الله حُكْمَهم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا... [النساء: 150- 151] .

3- في قوله: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ بُشرَى للمظلومينَ مِن أنَّ الظالِمَ لا يُفلِحُ؛ فيُبشَّر المجاهِدون بالنَّصرِ، وبأنَّ مآلَ مَن جاهدَهم الخِذلانُ، ويُبشَّر مَن ظُلِمَ بأخْذِ مالِه أو جَحْدِ مالِه، وما أشبهَ ذلك بأنَّ هذا الظالمَ لن يُفلِحَ .

4- التحذيرُ مِن الظُّلم، وأنَّ عاقبتَه الخَسارةُ والدَّمارُ؛ لقوله: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ .

5- التحذيرُ من الشِّركِ؛ لأنَّ المشركينَ سوف يُوبَّخونَ ويُقرَّعونَ في يومٍ لا يَستطيعُونَ الخلاصَ فيه؛ حيث يُقال لهم في هذا المَجمعِ العَظيمِ: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف  :

 

1- أنَّ الحُجَّةَ قائمةٌ على اليهودِ والنصارى في صِحَّةِ بَعثةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لقوله: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ

.

2- أنَّه يَنبغي أنْ يُضرَبَ المَثَلُ بأقربِ مُطابِقٍ للمُمثَّلِ؛ لقوله: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ؛ لأنَّ هذا أقربُ إلى التصوُّرِ وإلى الصِّدقِ .

3- قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ فيه أنَّ الظُّلمَ يَختلِفُ؛ بعضُه أشدُّ من بعضٍ؛ لأنَّ المعاصيَ تختلِفُ؛ بعضُها أعظمُ من بعضٍ، فهناك كبائرُ، وهناك صغائرُ، والكبائرُ نفسُها تَختلِفُ، فهناك أكبرُ مِن الكبائرِ، وما دونها، والصَّغائرُ كذلك تختلِفُ، وكلُّ فِعلٍ مُحرَّمٍ، أو ترْك واجبٍ ظلمٌ، وإذا كان يتفاوتُ لزِمَ من ذلك تفاوتُ الأعمالِ .

4- مع عِظَمِ ظُلمِ مَن كذَّب بآياتِ الله؛ لقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ، فإنَّه لا يُحكَمُ بظُلمِه، أو بكونِه في المرتبة العليا إلَّا إذا تبيَّنتْ له الآياتُ؛ لقوله: كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ [الأنعام: 157] ، وقد قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ [التوبة: 115] ، فإذا تَبيَّن لهم ما يتَّقون حَكَمَ بضلالِهم سبحانه وتعالى، وإلَّا فَهُم في عُذرٍ .

5- في قولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ... ما الجمعُ بَينَ هذه الآيةِ الكريمةِ وبينَ نُصوصٍ أخرى يَرِدُ فيها مِثلُ هذه العبارةِ في ذَنبٍ آخَرَ غيرِ هذا، وتدلُّ أيضًا على أنَّ هذا الفِعلَ أظلمُ شيءٍ؛ مثل قولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114] ، وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام: 93] ، وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [الكهف: آية 57]، وقوله في هذِه الآية: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ؛ فكيفَ نَجمعُ بين هذه النُّصوصِ؟

والجوابُ مِن أحدِ وجهينِ: الأول: أنَّ هذه الأشياءَ جميعَها اشتركَتْ في المرتبةِ العُليا من الظُّلمِ؛ فكلُّها في مقامِ الأظلميَّة، فأفعل التفضيل لا تمنع التساوي ولكنها تمنع الزيادة. وعلى ذلك فلا مُعارَضَةَ ألبتَّةَ بينَ الآياتِ، فهؤلاءِ المذكورونَ لا يُوجَدُ أحدٌ أظلَمُ منهم، وهم متساوونَ في مرتبةِ الظُّلْم. الوجه الثاني: أنَّ هذه المواضعَ تتخصصُ بصِلاتِها. ومعنَى (تتخصصُ بصِلاتِها): أَنَّ كُلَّ واحدٍ منها تُفَسِّرُه صلةُ موصُولِه، أي أنَّ كلَّ واحدةٍ تختصُّ ببابِها، فيكونُ المعنَى: لا أحدَ مِنَ المفْتَرِينَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللَّهِ كَذِبًا، ولا أحدَ مِنَ المانِعِينَ أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ اللَّهِ، ولاَ أحدَ مِنَ المعْرِضِينَ أظلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عنه... إلخ .

6- في قولِه تعالى: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ قد نفَى فلاحَهم، فعمَّ كلَّ فلاحٍ في الدُّنيا والآخِرة؛ فإنَّ الفلاحَ المعتدَّ به في نظرِ الدِّينِ في الدُّنيا هو الإيمانُ والعملُ، وهو سببُ فلاحِ الآخِرَة .

7- ما الجَمعُ بَينَ قولِه تعالى: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ والواقعِ؛ لأنَّنا نرَى أنَّ الظالمَ قد يُفلحُ؟

الجواب: الجمعُ بينها وبينَ الواقِع: أنْ يُقال: الفلاحُ نوعان؛ فلاحٌ مُطلَقٌ، وهذا لا يُمكن للظالمِ أبدًا، ودليلُ هذا قولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إنَّ اللهَ لَيُملِي للظالمِ حتَّى إذا أخَذَه لم يُفْلِتْه، وتلا قولَه تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102])) ، فلا بدَّ أنْ يخسرَ الظالم، ولا بدَّ، طالتِ الدُّنيا أم قَصُرتْ؛ فمَن كان ظالِمًا بمبدأٍ مِن المبادِئ؛ فلا بدَّ أنْ يَنخذِلَ هذا المبدأُ حتَّى بعدَ موتِه، وإذا كان خاصًّا، فإنَّه وإنْ لم يَحصُل له ذلِك في الدُّنيا حسَبَ ما نرَى فهو في الآخِرَةِ، وربَّما يكونُ في قَلبِ الظالمِ أشياءُ لا نَدري عنها يُبتلَى بها، مِن ضِيقِ الصَّدرِ، وكراهةِ الحقِّ، وما أشبهَ ذلك.

أمَّا الفلاحُ المقيَّدُ بمعنى أن يُفلِحَ في زمَنٍ معيَّنٍ، أو مكانٍ معيَّن، أو قضيَّةٍ معيَّنة، فهذا يُمكن أنْ يَقعَ، ولا يُخالِفُ الآيةَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قدْ يُعطي الظالمَ فلاحًا؛ حتَّى يَغترَّ بهذا الفلاحِ فيتمادَى في طُغيانِه، ثمَّ يَقصِمُ اللهُ ظَهرَه .

8- قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا فيه تسليةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حيثُ ذُكِرَ له مآلُ المكذِّبين له .

9- قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا فيه أنَّ الحَشرَ عامٌّ شاملٌ لا يَشِذُّ عنه أحدٌ، لا مؤمِنٌ ولا كافرٌ، ولا بَرٌّ ولا فاجرٌ؛ حيثُ أكَّده اللهُ عزَّ وجلَّ بقولِه: جَمِيعًا .

10- في قولِه عزَّ وجلَّ: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ إثباتُ القولِ للهِ، وأنَّه بحروفٍ مسموعةٍ معقولةٍ، وبصوتٍ لا يُشبِهُ صوتَ المخلوقينَ؛ لأنَّ اللهَ يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] .

11- قوله تعالى: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ يدلُّ على أنَّ الأصنامَ لا تَنفعُ عابدِيها؛ لأنَّها لا تَنصُرهم في هذا الموقِف، بل قدْ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] .

12- أنَّ أولئك العابِدينَ لهذه الأصنامِ ليس عِندَهم حُجَّةٌ ولا بُرهان، وإنَّما هي مُجرَّدُ دعوى لقولِه: تَزْعُمُونَ، والزعمُ في الغالِبِ يكونُ في قولٍ لا دليلَ عليه .

13- في قولِه: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أنَّ المشركين يُكذِّبون يومَ القيامةِ حِين يَطَّلعونَ على حقائقِ الأمورِ، بالرَّغمِ مِن كونِ الكذبِ والجحودِ لا وَجْهَ لمنفعتِه؛ لأنَّ المُمتحَنَ يَنطِقُ بما يَنفعُه وبما لا يَنفعُه، من غيرِ تمييزٍ بينهما؛ حيرةً ودهشةً، وكذِبُ الكفَّارِ في الآخِرة ثابتٌ بمِثل قولِه تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ

 

[سورة المجادلة: 18].

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ فيه تشبيهُ المعرفةِ بالمعرفةِ، ووجهُ الشَّبهِ هو التَّحققُ والجزمُ بأنَّه هو الكتابُ الموعودُ به- على أحَدِ أوجُهِ التَّأويلِ-، وإنَّما جُعِلتِ المعرفةُ المشبَّهُ بها هي معرفةَ أبنائِهم؛ لأنَّ المرءَ لا يَضِلُّ عن معرفةِ شخصِ ابنِه وذاتِه إذا لقِيَه، وأنَّه هو ابنُه المعروفُ؛ وذلك لكثرةِ مُلازمةِ الأبناءِ آباءَهم عُرفًا

.

2- قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ... استئنافٌ لزيادةِ إيضاحِ تَصلُّبِ المشرِكين وإصرارِهم، وهذا مِن التَّكريرِ للتسجيلِ، وإقامةِ الحُجَّةِ، وقطْعِ المعذرةِ، وأنهم مصرُّون على الكفر، حتَّى ولو شَهِدَ بصِدقِ الرسول أهلُ الكتاب .

- وفي هذه الآيةِ مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ بدأَ الآيةَ هنا بالواو وَمَنْ أَظْلَمُ، وبدَأَها في يونسَ بالفاءِ فَمَنْ أَظْلَمُ؛ لأنَّ المتقدِّمَ على هذِه الآيةِ في سورة الأنعامِ مَعطوفٌ بالواو، بخِلافِ ما في سُورةِ يونس، فإنَّ المتقدِّمَ قبلَها سَببٌ لها، ومعطوفٌ بالفاءِ؛ فناسَب فيها ما ذُكِر؛ فما تَقدَّم آيةَ سورةِ الأنعامِ مِن قولِه: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً.. إلى قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ.. جُمَلٌ عُطِف صدورُ بعضِها على بعضٍ بالواو، ولم تَتعلَّق الثانيةُ بالأولى تعلُّقَ ما هو مِن سببِها، فأجْرَى قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مَجراها، وعَطَف بالواوِ عليها. وأمَّا الآيةُ في سورة يونس فإنَّ ما قَبلَها عُطِف بعضُها على بعضٍ بالفاءِ، كقوله تعالى: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [يونس: 16] ، فتَعلَّق كلُّ ما بعدَ الفاءِ بما قَبْلَه تَعلُّقَ المسبَّبِ بسَببِه، فهذا موضعُ الفاء؛ وكلُّ موضِعٍ في القرآنِ يكونُ بعدَ هاتينِ الآيتينِ بالواو أو بالفاءِ فيُعتَبَرُ بما ذُكِرَ هنا؛ فناسَب العطف بالواو في سورة الأنعامِ، وبالفاءِ في سورة يونس.

- وأيضًا مِن المناسبةِ الحَسنةِ أنْ ختَم آيةَ الأنعامَ بقوله: الظَّالِمُونَ وختَم آية يونس بقولِه: الْمُجْرِمُونَ؛ لأنَّه في الآيةِ الأولى في الأنعامِ لَمَّا قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا.. وكان المعنى: أنَّه لا أحَدَ أظلَمُ لنفْسِه ممَّن وصَفَ اللهَ تعالى بخِلافِ وصْفِه، فأَوْرَدَها العذابَ الدَّائِمَ، كان قولُه: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ عائدًا إلى مَن فَعَل هذا الفعلَ- أي: لا يَظفَر برحمةِ اللهِ، ولا يفوزُ بنجاةِ نفْسِه مَن كان ما ذُكِر مِنْ فِعلِه-؛ فبناءُ الآخِرِ على الأوَّلِ اقتَضَى أنْ يكون: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وأمَّا الآيةُ الثانية في سُورةِ يونس فخَتَمَها بقوله: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ؛ لأنَّها تَقدَّمَتْها الآيةُ التي تَضمَّنتْ وصْفَ هؤلاءِ القومِ بما عاقبَهم به؛ حيث قال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [يونس: 13] ، فوصَفَهم بأنَّهم مُجرِمون عندَ تعليقِ الجزاءِ بهم، وقال بعده: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ... إلى الموضِعِ الذي أَبطلَ فيه حُجَّتَهم ودفَعَ سؤالَهم، وهو ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: 14- 15] ، فقال تعالى: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ؛ ليُعلمَ أنَّ هؤلاءِ سبيلُهم في الضَّلالِ سبيلُ القومِ الذين أَخْبَر عن هَلاكِهم، وقال: كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [يونس: 13] ؛ ليُوقِعَ التَّسْويةَ بينهم في الوَصفِ كما أوْقعَ التسويةَ بينهم في الوعيدِ.

وأيضًا لَمَّا كان قولُ فُصحاءِ العربِ العالِمِين بمقاطِعِ الكلامِ، وجليلِ النَّظْمِ وعَلِيِّ البلاغةِ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ مع عِلمِهم بعَليِّ فصاحتِه، واعترافِهم بالعجزِ عنه- لَمَّا كان قولُهم هذا فيه الجَمْعُ بين إنكارِ ما عَلِموا صِدقَه، ممَّن عرَفوا على حالِهِ وجليلِ مَنصبِه، وبَينَ قولِهم في إنكارهم: أَوْ بَدِّلْهُ؛ فلا أَظلمَ مِن هؤلاءِ، ثم في إنكارِهم وقولهم: أَوْ بَدِّلْهُ أعظمُ إقدامٍ، وأوضحُ إجرامٍ؛ لأنَّه كُفرٌ على عِلمٍ؛ فلهذا أُعْقِبتِ الآيةُ هنا بقوله: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ولم يَقَعْ قبل التي في سورةِ الأنعام مِثلُ هذا الإقدامِ على مِثلِ هذه الجريمةِ في القَولِ، وإنَّما تَقدَّم عَداوتُهم وظُلمُهم أنفسَهم في مُرتَكَباتِهم وتَعامِيهم، فناسَبَه قولُه: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وقيل غيرُ ذلِك في هذه المناسَبة .

- والجَمْعُ بين الأمرَينِ: الافتراءِ على اللهِ الكذبَ، أو التكذيبِ بآياتِ اللهِ في قوله: افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ؛ للتنبيهِ على أنَّ كُلًّا منهما وحْدَه بالغٌ غايةَ الإفراطِ في الظُّلم على النفس .

- وقوله: كَذِبًا مصدرٌ مُؤكِّدٌ للافتراءِ، وهو أعمُّ منه .

- قوله: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الجملةُ تذييلٌ ، والضميرُ في إِنَّه ضميرُ الشأنِ، ومدارُ وضْعِه موضعَه ادِّعاءُ شُهرتِه المغْنِيةِ عن ذِكرِه؛ وفائدةُ تصديرِ الجملةِ به: الإيذانُ بفخامةِ مَضمونِها، مع ما فيه مِن زيادةِ تَقريرِه في الذِّهن .

4- قوله: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَيَوْمَ منصوبٌ على المفعوليَّةِ بفِعلٍ مُضمَرٍ مُقدَّمٍ تقديرُه: اذْكُرْ أو انظُر ؛ تهويلًا للأمْرِ وللتَّخويفِ والتَّحذيرِ، أو منصوبٌ لمحذوفٍ متأخِّر، تقديرُه: ويومَ نَحشرُهم كانَ كيتَ وكيتَ؛ فتُرِكَ ليبقَى على الإبهامِ الذي هو أَدْخلُ في التَّخويفِ ، وتقديرُ صِيغةِ الماضِي (كَانَ)؛ للدَلالةِ على التحقُّقِ، ولحُسنِ مَوْقِعِ عَطفِ قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ... عليه .

- قوله: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ الاستفهامُ مرادٌ به التوبيخُ والاحتجاجُ، والتبكيتُ والتأنيبُ، والتقريعُ عمَّا كان المشرِكون يَزعُمونه؛ مِن أنَّ شُركاءَهم تَشفعُ لهم عندَ الله، أو أنَّها تَنصُرُهم عندَ الحاجةِ .

- وأضافَ الشُّركاءَ هنا في قوله: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ إليهم؛ وذلك على حسَبِ ما كانوا يُسمُّونَه ويَعتقِدونَه فيهم، أو لأنَّهم كانوا مِن جِنسِهم وجَوهرِهم، يَفْنَوْن كما يَفْنَوْن هم، وفي آياتٍ أُخرَى قال: أَيْنَ شُرَكَائِيَ [النحل: 27، القصص: 62-74، فصلت: 47]؛ فأضافَهم إلى نفْسِه حِكايةً لقَولِهم، واللهُ لا شَريكَ له، والمعنى: أينَ الذين في دَعواكم أنَّهم شُركائِي، فأضافَهم على حسَبِ ما كانوا يَقولونَه، ويَنسُبونَه .

- وقد حُذِفَ المفعولُ الثَّاني لقوله: تَزْعُمُونَ ؛ ليعمَّ كلَّ ما كانوا يَزعُمونه لهم؛ مِن الإلهيَّةِ والنَّصرِ والشَّفاعةِ .

5- قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ

- عطفَ بـثُمَّ؛ لأنَّ القولَ متأخِّرٌ عن زمَنِ حشْرِهم بمهلةٍ؛ لأنَّ حِصَّةَ انتظارِ المجرمِ ما سيَحلُّ به أشدُّ عليه، ولأنَّ في إهمالِ الاشتغالِ بهم تَحقيرًا لهم .

- قوله: لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا... الفِتنةُ يحتملُ أنْ تكونَ هنا بمعنى اضطرابِ الرأيِ، والحَيرةِ في الأمْرِ؛ فيكون في الكلامِ إيجازٌ، والتَّقدير: فافتَتنوا في ماذا يُجيبون، فكان جوابُهم أنْ قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فعدَلَ عن المقدَّرِ إلى هذا التركيبِ؛ لأنَّه قد عُلِم أنَّ جوابَهم ذلك هو فِتنتُهم؛ لأنَّه أثَرُها ومَظْهرُها، ويَحتملُ أنْ تكونَ الفِتنةُ أُطلِقتْ على معناها الأصليِّ، وهو الاختبارُ، والمرادُ به السؤالُ، ويَتعيَّن حينئذٍ تقديرُ مضافٍ، أي: لم يكُن جوابَ فِتنَتِهم، أي: سؤالِهم عن حالِ إشراكِهم إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ .

- قوله: قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فيه استعمالُ الماضِي مَوضِعَ المستقبلِ؛ تحقيقًا لوقوعِه ولا بدَّ .

- وذِكرُهم الربَّ بالإضافةِ إلى ضَميرهم وَاللَّهِ رَبِّنَا مبالغة منهم في التنصُّلِ مِن الشِّركِ، أي: لا ربَّ لنا غيرُه، وقد كذَبوا وحَلَفوا على الكَذبِ؛ جَريًا على سَنَنهم الذي كانوا عليه في الحياةِ .

6- قوله: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ عبَّر بالفِعلِ الماضِي كَذَبُوا وإنْ كانَ معناه مُستقبَلًا؛ لأنَّه في يومِ القِيامةِ؛ فهو لتحقُّقِ المعنى أَبْرَزَه في صُورةِ الماضي ، فالأمْر وإنْ لم يكُن قدْ أتى بَعدُ؛ فإنَّ هذا على حِكايةِ الحالِ، واللهُ عزَّ وجلَّ دائمًا يَحكي الأشياءَ المستقبلةَ حتى يَتصوَّرَها الإنسانُ وكأنَّها واقعةٌ، وإنَّما يكون ذلك؛ لأنَّ الشيءَ المستقبَلَ المُحقَّق يكونُ كالواقِع تمامًا؛ ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] مع أنَّه ما أتَى، بدليل قوله: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ؛ فيكونُ التعبير بالماضِي على حِكاية الحال حتى يتصوَّرَ الإنسانُ، وكأنَّ الشيءَ بينَ يديه

 

.

============

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيتان (25-26)

ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ

غريب الكلمات :

 

أَكِنَّةً: أغطيةً، مفردُها كِنانٌ، وأصل (كنن): يدلُّ على سَتْرٍ أو صَونٍ

.

وَقْرًا: أي: ثِقَلًا، وَصَمَمًا في الأُذنِ، وهذا إشارةٌ إلى جَهلِهم لا إلى عَدمِ سَمْعِهم، وأصلُ (وقر): يَدُلُّ على ثقلٍ في الشَّيءٍ .

أَسَاطِيرُ: أي: أباطيلُ وتُرَّهات، جمع أُسطورة، وهي: ما سُطِّرَ من أخبارِ الأوَّلين وكَذِبهم، وقيل: ما سَطَّره الأوَّلون من الكتُبِ، وأصل (سطر): يدلُّ على اصطفافِ الشَّيءِ، كالكِتاب والشَّجر؛ والأساطيرُ كأنَّها أشياءُ كُتِبتْ مِن الباطلِ، فصارَ ذلك اسمًا لها، مَخصوصًا بها .

وَيَنْأَوْنَ: يَتباعدون، والنَّأي: البُعد

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ مِن المشرِكين مَن يَستمعُ القرآنَ مِنَ النبيِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لكن لا يَنتفعون بهذا السَّماعِ؛ فاللهُ تعالى جعَلَ على قُلوبِهم أغطيةً؛ لئلَّا يَعقِلوه، وجعَلَ في آذانِهم صَممًا عن السَّماعِ النَّافِع، وذلك بسببِ عنادِهم وجحودِهم، ومهما رأوا مِن الدَّلالاتِ والحُججِ البَيِّنةِ فلن يُؤمِنوا بها، حتى إذا حضَروا إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فإنَّهم يُخاصمونَه في الحقِّ بالباطلِ، ويقولُون له: ما هذا الذي جِئتَ به إلَّا مأخوذٌ مِن كتُبِ السَّابِقين.

هؤلاءِ المشرِكون يَنهَوْن الناسَ عن اتِّباعِ الحقِّ، ويَبتعِدون عنه بأنفسِهم، وما يُهلِكون إلَّا أنفسَهم بصدِّهم، وإعراضِهم عن الحقِّ، ولا يَشعُرون بذلِك.

تفسير الآيتين :

 

وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا بَيَّن أحوالَ الكفَّارِ في الآخِرَةِ؛ أتْبَعه بما يُوجِبُ اليأسَ عن إيمانِ بَعضِهم

، فقال:

وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ.

أي: ومِن هؤلاءِ المشرِكين مَن يَستمِعُ للقرآنِ مِنك- يا مُحمَّدُ .

وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ.

أي: وضَعْنا على قُلوبِهم أغطيةً وأغشيةً؛ لئلَّا يَعقِلوا كلامَ الله سبحانَه؛ وذلك بسببِ مُبادرتِهم إلى الكُفرِ، وتكذيبِ الرُّسُلِ طائِعين مُختارين، فجَزاهم اللهُ تعالى على ذلك الذنبِ طَمْسَ البَصيرة، والعَمَى عن الهُدَى، جزاءً وِفاقًا .

كما قال تعالى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الإسراء: 45-46] .

وقال سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .

وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا.

أي: وجَعَلنا في آذانهِم ثِقلًا وصَممًا عن السَّماعِ النافِعِ، فلا يَنتفِعون بما سَمِعوا، ومَن لا يَنتفِعُ بمَا سَمِعَ فهو كمَن لم يَسمَعْ، مُجازاةً لهم على كُفرِهم .

كما قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] .

وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا.

مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:

لَمَّا ذَكَر سبحانه عدمَ انتفاعِهم بعقولِهم- حتَّى كأنَّ على محالِّها أكنَّةً- ولا بَسماعِهم، حتَّى كأنَّ في آذانهم وقرًا، انتقَلَ إلى الحاسَّة التي هي أبلغُ مِن حاسَّةِ السَّماعِ، فنَفَى ما يَترتَّبُ على إدراكِها، وهو الإيمانُ، فقال :

وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا.

أي: ومَهما يَرَ هؤلاءِ من الدَّلالاتِ والحُججِ البيِّنات، لا يَنقادُوا إليها، ولا يُصدِّقوا بها، ولا يُقِرُّوا بها .

كما قال تعالى: وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ [القمر: 2].

حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ.

أي: حتَّى إذا حضَروا إليك- يا محمدُ- يُخاصِمونَك، ويُحاجُّونك في الحقِّ بالباطِل، قالوا لكَ: ما هذا الذي جِئتَ بِه إلَّا أشياءُ مأخوذةٌ من كتُبِ السَّابقِينَ، ومَنقولةٌ عن صُحُفِهم المسطورةِ، التي ليستْ عن اللهِ تعالى، ولا عن رُسلِه عليهم السَّلام .

كما قال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 31] .

وقال سبحانه: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] .

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26).

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ.

أي: والمشرِكونَ باللهِ تعالى يَنهَونَ الناسَ عن اتِّباعِ الحقِّ، وتصديقِ الرَّسولِ، والانقيادِ للقُرآن، ويَبتَعدونَ بأنفُسِهم عنه؛ فهم لا يَنتفِعونَ بالحقِّ، ولا يَتركُون أحدًا ينتفِعُ به، جامِعينَ بين الضَّلالِ والإضلالِ .

وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ.

أي: ولا يعودُ وبالُ صَدِّهم عن الحقِّ، وإعراضِهم عنه إلَّا عليهم، لكنَّهم لا يَشعُرون بذلك

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ فيه التحذيرُ مِن الاستِماعِ بلا انتفاعٍ، وأنَّ هذا دأبُ الكفَّار، فلَيسَ كلُّ مُستمعٍ بمُنتفِعٍ ، كما قال تعالى: وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا [محمد: 16] ويَتفرَّعُ على هذا أنَّه يَنبغي للإنسانِ إذا استَمَع أنْ يَتأمَّلَ، ويتفكَّر فيما استمَعَ إليه، لا سيَّما في الكتابِ والسُّنَّةِ؛ حتى يَعرِفَ معناهما

.

2- في قولِه تعالى: حَتَّى إِذَا جَاؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أنَّ قولَ الكافِرين هنا هو شأنُ مَن يَنظُرُ إلى الشيءِ نظرًا سطحيًّا، لا ليستنبطَ منه عِلمًا ولا بُرهانًا، ومَن يسمعُ الكلامَ جرْسًا لفظيًّا، لا يَتدبَّره، ولا يَفقَه أسرارَه، فمَثَلُ هذا وذاك كمَثَلِ الطِّفلِ الذي يُشاهِدُ ألعابَ الصُّورِ المتحرِّكة، يُديرُها قومٌ لا يَعرِفُ لُغتَهم؛ فكلُّ حظِّه ممَّا يرَى مِن المناظرِ، ومِن المكتوباتِ المفسِّرةِ لها، لا يَعْدُو التسليةَ. ولو عقَلَ هؤلاءِ المقلِّدونَ الغافِلون قَصصَ القرآنِ، وتَدبَّروا معانيَها، لكان لهم منها آياتٌ بيِّنةٌ على صِدقِ دَعوةِ الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونُذُرٌ عظيمةٌ ممَّا فيها؛ مِن بيانِ سُننِ اللهِ تعالى في الأُمم، وعاقبةِ أمْرِهم مع الرُّسُلِ، وغير ذلك مِن الحِكَم والعِبَر .

3- في قولِه تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ التحذيرُ من سُلوكِ الإنسانِ سُبلَ الهَلاكِ وهو لا يَشعُرُ، وقد بيَّن اللهُ تعالى ذلِك في قوله: أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء

 

[فاطر: 8] .

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- المُشرِكون أصنافٌ، يتفاوتونَ في الفَهمِ والعَقلِ وفي الكُفرِ وأسبابِه، وقد بَيَّن اللهُ أحوالَ كلِّ فَريقٍ منهم في كِتابِه، قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ...

.

2- وجهُ إسنادِ الفِعل إلى ذاتِه تعالى في قولِه تعالى: وَجَعَلْنَا للدَّلالةِ على أنَّه أمرٌ ثابتٌ فيهم لا يَزولُ عنهم، كأنَّهم مجبولون عليه، أو هي حِكايةٌ لِمَا كانوا يَنطِقون به مِن قولهم: وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت: 5] ، أو لأنَّه خلَقَهم على هذه الخَصلةِ الذَّميمةِ والتعقُّلِ المُنحرِف، فهُم لهم عقولٌ وإدراكٌ؛ لأنَّهم كسائرِ البَشرِ، ولكنَّ أهواءَهم تُخيِّر لهم المنعَ مِن اتِّباعِ الحقِّ .

3- أنَّ الفِقهَ محلُّه القلبُ؛ لقوله: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ .

4- أنَّ عدَمَ الانتفاعِ بالسَّماعِ كالصَّممِ تمامًا؛ لقوله: وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا بل صاحبُ الصَّممِ معذورٌ، والذي لا يَنتفعُ بما سَمِع غيرُ معذورٍ؛ لأنَّ صاحبَ الصَّممِ لم يَسمعْ مِن آفةٍ حلَّتْ به .

5- أنَّ المجادِلَ بالباطِلِ يَلجأُ إلى المكابَرةِ؛ كما في هذِه الآيةِ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ؛ لأنَّ دَعواهم إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ مكابرةٌ بلا شكٍّ، وكلُّ أحدٍ يَعرِفُ أنَّ القرآنَ الكريمَ ليس قولَ البَشرِ، فضلًا أنْ يكونَ أساطيرَ الأوَّلين، ولكن هذه نهايةُ المجادَلةِ والمكابَرةِ .

6- أنَّ هؤلاءِ المشرِكين جمَعوا بين الضَّلالِ والإضلالِ؛ الإضلالُ في قوله: يَنْهَوْنَ، والضَّلالُ في قولِه: يَنْأَوْنَ وهذا أشدُّ مِن العُدوانِ والظُّلمِ .

7- قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ قُدِّم النهيُ على النَّأيِ مع أنَّه كان المتوقَّعُ أنْ يُبدأَ بالنَّأيِ الذي هو فِعلُهم بأنفسِهم دون فِعلِهم بغيرهم؛ إشارةً إلى شِدَّةِ كراهتِهم لِمَا جاءَ به الرسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، حتى إنَّهم يَبدَؤون بنهيِ الناسِ قَبلَ أنْ يَبتعِدوا عنه .

8- أنَّ كلَّ مَن حاولَ إبطالَ الحقِّ، وإبعادَ الناسِ عنه، فإنَّما جنَى على نفْسِه، وستكونُ العاقبةُ عليه؛ لقوله تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ حتى لو برَقتْ له الدُّنيا، وظفِرَ بنصْرٍ ظاهريٍّ .

9- قوله تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فيه تسليةٌ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنَّ ما أرادوا به نِكايتَه إنما يَضرُّون به أنفُسَهم .

10- عقَّب قوله: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بقولِه: وَمَا يَشْعُرُونَ زيادةً في تحقيقِ الخطأِ في اعتقادِ أولئكَ المشركِينَ، وإظهارًا لضَعْفِ عُقولِهم مع أنَّهم كانوا يَعُدُّونَ أنفسَهم قادةً للنَّاسِ

 

!

بلاغة الآيتين :

 

1- قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتمعُ إِلَيكَ... فيه مناسبةٌ حسنةٌ؛ حيثُ قال هنا: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتمعُ بالإِفرادِ، وفي سورةِ يونس قال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: 42] بالجمْع؛ لأنَّ لكلٍّ مِن الموضعينِ ما يُوجِبُ اختصاصَه باللَّفظِ الذي جاءَ فيه؛ فأمَّا قولُه تعالى هنا: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتمِعُ بالإِفرادِ فقد نَزلَ في قَومٍ قليلِينَ، وهم: أبو سُفيان، والنَّضرُ بن الحارث، وعُتْبة، وشَيبة، وأُميَّةُ، وأُبيُّ بن خَلَف، وأمَّا قوله تعالى في سورةِ يونس وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ... [يونس: 42] بالجمْعِ، فهو في كلِّ الكفَّار الذين يَستمِعون مسموعًا هو حُجَّةٌ عليهم، وهو القرآنُ، ولا يَنتفعونَ بسماعِه، فكأنَّهم صُمٌّ عنه؛ فلمَّا كانت (مَن) تصلُح للواحدِ فما فَوقَه، ويجوزُ أن يَعودَ الضَّميرُ إلى لَفظِه وهو الواحد، وإلى معناه وهو الجمعُ، واختَلَف هذانِ المكانانِ في القِلَّةِ والكثرةِ- حُمِلت في موضعِ القِلَّةِ على حُكم اللَّفظِ، وعادَ الضَّميرُ إليها بلفظِ الواحدِ، وفي موضِعِ الكثرةِ على حُكم المعنى، وعاد الضَّميرُ إليها بلفظِ الجَمْعِ؛ لإفادةِ هذا المعنى بالاختلافِ في التَّعبيرِ؛ فلمْ يصلُحْ في كلِّ مكانٍ إلَّا اللَّفظُ الذي خَصَّه، مع القَصْدِ الذي ذُكِر

.

2- قولُه: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا

- في جَعْلِ الأكنَّةِ على القلوبِ في قوله: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، والوَقرِ في الآذانِ في قوله: وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا تَشبيهٌ للحُجُبِ والموانِعِ المعنويَّة بالحُجُبِ والموانِعِ الحِسيَّة؛ فإنَّ القلبَ الذي لا يَفقَهُ الحديثَ، ولا يَتدبَّره، كالوعاءِ الذي وُضِع عليه الكِنُّ أو الكِنانُ- وهو الغطاءُ- حتَّى لا يَدخُلَ فيه شيءٌ، والآذانُ التي لا تَسمَعُ الكلامَ سَماعَ فَهمٍ وتدبُّرٍ، كالآذانِ المصابةِ بالثِّقل أو الصَّمم؛ لأنَّ سمْعَها وعدمَه سواءٌ .

- وفيه كنايةٌ في جَعْلِ الأكنَّةِ على القلوبِ، والوَقْرِ في الآذانِ، وهذا كِنايةٌ عن نُبُوِّ قُلوبِهم ومَسامِعهم عن قَبولِ الحقِّ، والاعتقادِ بصحَّتِه .

3- قوله: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا جملةٌ شرطيَّةٌ مَقصودٌ بها الإخبارُ عن المبالغةِ التامَّةِ، والعِنادِ المُفرِط في عدمِ إيمانِهم، حتَّى إنَّ الشَّيءَ المرئيَّ الدالَّ على صِدقِ الرَّسولِ حَقيقةً، لا يُرتِّبون عليه مُقتضاه، بل يُرتِّبون عليه ضِدَّ مُقتضاه .

4- يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ: فيه العدولُ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ- حيث قال: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ولم يقُل: (يقولون)- لزيادةِ التَّسجيلِ عليهم بالكُفرِ، وأنَّهم ما جاؤوا طالبِينَ الحقَّ كما يَدَّعُونَ، ولكنَّهم قدْ دخَلُوا بالكفرِ وخرَجوا به، فيقولون: إنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ؛ فهم قدْ عدَلُوا عن الجدلِ إلى المباهَتةِ والمكابرةِ .

5- قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهَ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ فيه إظهارٌ لغايةِ نُفورِهم عنه، وتأكيدٌ لنَهيهِم عنه بقوله: وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ، أي: يَتباعدون عنه بأنفسِهم؛ فإنَّ اجتنابَ الناهِي عن المنهيِّ عنه مِن مُتمِّماتِ النَّهيِ .

- وبين قوله: يَنْهَوْنَ، وقوله: وَيَنْأَوْنَ جِناسٌ، وهو جناسُ التصريفِ الذي هو اختلافُ صِيغةِ الكلمتينِ بإبدالِ حرفٍ مِن حرفٍ، أو مِن قَريبٍ مِن مَخْرجِه، سواءٌ أكان الإبدالُ في الأوَّل أم في الوَسطِ أم في الآخِر ، وهو مِن المحسِّناتِ البديعيَّة.

6- قوله: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فيه قصرٌ إضافيٌّ، وهو يُفيدُ قلبَ اعتقادِهم؛ لأنَّهم يَظنُّون بالنَّهي والنَّأْي عن القرآنِ أنَّهم يَضرُّون النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لئلَّا يتَّبعوه، ولِئَلَّا يَتَّبِعَه النَّاسُ، وهم إنَّما يُهلِكون أنفسَهم؛ بدوامِهم على الضلالِ، وبتضليلِ الناسِ، فيَحمِلون أوزارَهم، وأوزارَ الناسِ معَ أوزارِهم

===============

ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﰤ ﰥ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات :

 

بَغْتَةً: أي: فجأةً، وكلُّ ما جاءَ فجأةً فقد بَغَتَ، يقال: قد بَغَتَه الأمرُ يَبْغَتُه بغْتًا وبَغتةً، إذَا أتاه فجأةً، والبغتُ: مفاجأةُ الشَّيءِ من حيثُ لا يُحتَسَب

.

يَا حَسْرَتَنَا: أي: يا نَدامتَنا واغتمامَنا على ما فاتَنا- ولا يُمكن ارْتِجاعُه- وتلهُّفَنا عليه، وأصلُ (حسر): كشْفُ الشَّيءِ .

فَرَّطْنَا: أي: تَركْنا وأَغْفَلْنا وضَيَّعْنا، والتفريطُ: التقصيرُ؛ يقال: ما فرَّطتُ في كذا، أي: ما قصَّرتُ فيه، وأصلُ (فرط): يدلُّ على إزالةِ شيءٍ من مَكانِه، وتنحيتِه عنه .

أَوْزَارَهُمْ: جَمْع وِزْر، والوِزْرُ هو الإثمُ والذَّنْبُ، والثِّقْلُ والحِمْل أيضًا، وقيل: الوِزْرُ: هو الحِمْلُ الثَّقيلُ مِن الإثمِ، وهو الإثمُ العَظيمُ، وأصلُ (وزر): يدلُّ على مَا حمَلَه الإنسانُ، وعلى الثِّقل في الشَّيء؛ ومنه سُمِّيت الآثامُ أوزارًا؛ لأنَّها أحمالٌ مُثقِلةٌ .

سَاءَ: أي: قبُح، والسُّوءُ: اسمٌ جامِعٌ للآفاتِ، ويُستعمَل في كلِّ ما يُسْتقبَحُ، وهو أيضًا كلُّ ما يَغُمُّ الإنسانَ .

مَا يَزِرُونَ: أي: الإثمُ الذي يَأثَمونَه، والثِّقَلُ الَّذي يَتحَمَّلون .

وَلَهْوٌ: اللَّهو: ما يَشغَلُ الإنسانَ عمَّا يَعنيه ويُهمُّه، أو كلُّ باطلٍ ألْهَى عن الخيرِ وعمَّا يَعني؛ يُقال: لهوتُ بكذا، ولهيتُ عن كذا: اشتغَلْتُ عنه بلهوٍ، وأصل (لهو): يدلُّ على شُغلٍ عن شيءٍ بشيءٍ

 

.

مشكل الإعراب :

 

1- قوله: فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

الفِعلان نُكَذِّبَ ونَكُونَ قُرِئَا بالنَّصب فيهما، وبالرَّفْع فيهما، وبنَصْبِ الأوَّلِ ورفْعِ الثَّاني، وبالعكسِ؛ فهذه أربعةُ أوجهٍ في الإعرابِ

 

فأمَّا نَصْبُ الفِعلَينِ: فهو بإضمارِ (أَنْ) بعدَ الواوِ التي بمعنى (معَ)؛ مِثل: (ليت لي مالًا وأُنفقَ منه)، و(أنْ) المُضمَرَة مَصدريَّةٌ يَنسبِكُ منها ومِن الفعلِ بعدَها مَصدرٌ، والواوُ حرفُ عطفٍ، فيُقدَّر المعطوفُ عليه مَصدرًا مُتوهَّمًا، يُعْطَفُ هذا المصدرُ المنسبِكُ مِن (أَنْ) وما بَعدَها عليه، والتقديرُ: يا ليتَنا لنا رَدٌّ، وانتفاءُ تكذيبٍ بآياتِ ربِّنا، وكَوْنٌ مِن المؤمنين، أي: ليتَنا لنا ردٌّ مع هذَينِ الشَّيئينِ؛ فهذه الثلاثةُ الأشياءِ مُتمنَّاةٌ بقيدِ الاجتِماعِ، لا أنَّ كلَّ واحدٍ مُتمنًّى وحْدَه؛ لأنَّ هذه الواوَ شَرْطُ إضمارِ (أنْ) بعدَها: أنْ تَصلُح (مع) في مكانِها.

أو يكونُ النَّصبُ على جَوابِ التمنِّي؛ فلا يكون التكذيبُ، وكونُهم من المؤمنين، داخلَينِ في التَّمنِّي، والواوُ بمعنى الفاءِ حينئذٍ، فالواو مُبْدَلةٌ من الفاءِ، والتقديرُ: يا لَيتنا نُرَدُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ؛ فتكونُ الواوُ هنا بمنزلةِ الفاءِ في قوله: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ [الزمر: 58] ، وقيل غيرُ ذلك.

وأمَّا رفْعُ الفِعلين: فعَلَى وجهينِ: الأوَّل: العطفُ على نُرَدُّ، فيكونُ عدمُ التكذيبِ، والكَونُ من المؤمنين، داخلَينِ في التَّمنِّي كالردِّ، ويكونون قد تَمنَّوا ثلاثةَ أشياءَ: الردَّ إلى دارِ الدنيا، وعدَمَ تكذيبهم بآياتِ ربِّهم، وكونَهم من المؤمنِين. الثاني: أنْ يكونَ الرَّفْعُ على القَطعِ بتَقديرِ مُبتدأ، وتكونَ جملةُ الفِعل هي الخَبَر، والتقديرُ: ونحنُ لا نُكذِّبُ، ونحن نَكونُ من المؤمنين، وعلى هذا فجُملةُ (نحن لا نُكذِّب) و(نحن نكون...)؛ إمَّا في مَحلِّ نصْبٍ على الحالِ من الضَّمير في نُرَدُّ؛ فيكونانِ داخلَينِ في التمنِّي كذلك، وإمَّا استئنافًا لا تَعلُّقَ له بما قَبلَه؛ ويكون المعنى: أنَّهم ضَمِنوا ألَّا يُكذِّبوا بعدَ الردِّ، وأنْ يكونوا مِن المؤمنين. وقيل غيرُ ذلك.

وأمَّا نصْبُ الأوَّلِ ورفْعُ الثَّاني والعكسُ؛ فإعرابُ كلِّ فِعلٍ بحسَبِ ما مرَّ من توجيهِ الرَّفعِ والنَّصبِ لكلِّ واحدٍ منهما .

2- قوله: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً

بغتةً: منصوبةٌ على أنَّها مصدرٌ في موضِعِ الحال، أي: باغِتةً أو مُباغِتةً، وقيل: منصوبةٌ على أنَّها مصدرٌ لفِعلٍ مَحذوفٍ مِن لفْظِها، والتقديرُ: تَبغتُهم بَغتةً، وقيل: إنَّها منصوبةٌ على أنَّها مصدرٌ على غيرِ الصَّدر- من غيرِ لفْظِه-؛ لأنَّ معنى جَاءَتْهُمْ: بَغَتَتْهُمْ بغتةً

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يقولُ اللهُ لنبيِّه صلَّى عليه الله وسلَّم: لو اطَّلعتَ على هؤلاءِ المشركين، ورأيتَهم لرأيتَ أمرًا عَظيمًا، عندمَا يقِفون على النَّارِ، ويُشاهِدون ما فيها مِن أهوالٍ، ويُعايِنونَ عذابَها، عندَ ذلك يتحسَّرونَ، ويتمنَّونَ العودةَ إلى الدُّنيا للعَمَلِ الصَّالِحِ، والتَّصديقِ بآياتِ اللهِ، ولِيكونوا مِن المؤمنينَ.

وليس الأمرُ كما قالوا؛ بل ظَهَر لهم ما كانوا يُخفونَ مِن قَبلُ، ولو رُدُّوا إلى الدُّنيا لعادُوا لارتكابِ ما نُهوا عنه قبل ذلِك، من الكُفرِ والعِصيان، وإنَّهم لكاذِبون فيما يَدَّعونَه.

ثم ذكَر اللهُ تعالى بعضَ ما كان هؤلاء المشركونَ يَفتَرونَه في الدُّنيا، ومن ذلك قولُهم: لا توجدُ حياةٌ أُخرى غيرُ الحياةِ الدُّنيا، وما نحن بمَبعُوثينَ، ولا محاسَبينَ.

ثم يقولُ اللهُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ولو رأيتَ هؤلاء المكذِّبين بالبعثِ حينَ يَقِفونَ بين يَدَيْ ربِّهم، فيقول لهم تعالى مُوبِّخًا: أليس هذا البعثُ- الذي تَرَونَه- حقًّا ثابتًا؟ فيُجيبون حالِفينَ بربِّهم: إنَّه حقٌّ ثابتٌ، لا شكَّ فيه، فيقولُ لهم تعالى: فذُوقوا العذابَ جزاءَ كُفرِكم.

ويُخبِرُ تعالى أنَّه قد خَسِر الذين كذَّبوا بلِقائِه تعالى، حتَّى إذا جاءتْهم الساعةُ فجأةً، أظهَروا تَحسُّرَهم وتنَدُّمَهم على ما فاتَهم بسببِ تفريطِهم في دنياهم، وتضييعِ أعمارِهم، وتركِ الاستعدادِ لهذا اليومِ، الذي يُلاقونَ فيه ربَّهم، وهم يَحمِلونَ ذُنوبَهم وآثامَهم على ظُهورِهم، ألَا بِئسَ ما يَحملونَه مِن آثامٍ!

ثُمَّ يُبيِّن تعالى أنَّ الحياةَ الدُّنيا إنَّما هي لعِبٌ ولهوٌ، وأنَّ الدَّارَ الآخِرةَ هي خيرٌ لِمَن اتَّقى، ثم يقولُ تعالى: أليستْ لكم- يا مَنْ كذَّبتم بالبعثِ- عقولٌ تعقلونَ بها حقيقةَ الدُّنيا، وأنَّ الآخرةَ خيرٌ وأبقَى؟!

تفسير الآيات :

 

وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى صِفةَ مَن يَنهى عن متابعةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلام، ويَنأى عن طاعَتِه بأنَّهم يُهلِكونَ أنفسَهم، شرَحَ كيفيَّةَ ذلك الهلاكِ بهذه الآيةِ

.

وأيضًا لَمَّا حَكَى تعالى عنهم في آياتٍ سابقةٍ إنكارَهم للحشرِ والنَّشرِ والبعثِ والقِيامة؛ بَيَّن في هذه الآيةِ كيفيَّةَ حالِهم في القيامةِ .

وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالى حديثَ البَعثِ في قَولِه: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ، واستطرَدَ من ذلِك إلى شَيءٍ مِن أوصافِهم الذَّميمةِ في الدُّنيا، عادَ إلى الحديثِ عن البَعثِ ، فقال تعالى:

وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ.

أي: ولو رأيتَ- يا محمَّدُ- هؤلاءِ الكفَّارَ والمشْركِين، وقد أُوقِفوا يومَ القِيامةِ على النَّارِ، فشاهَدُوا ما فيها من الأهوالِ؛ لرأيتَ أمرًا عَظيمًا، وشأنًا فظيعًا .

فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ.

أي: فيقولُ هؤلاء المشرِكون حينذاك: يا ليتَنا نُعادُ إلى الدُّنيا؛ كي نؤمِنَ، ونعملَ صالحًا .

كما قال سبحانه: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 44] .

وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 36-37] .

وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا.

أي: وإذا عُدْنا إلى الدُّنيا فلنْ نُكذِّبَ بالأدلَّةِ، والبيِّناتِ التي جاءتْنا من ربِّنا .

وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

أي: ونكونَ من المؤمنِين حقًّا .

بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ.

أي: ما زَعَموه من أنَّهم لو رُدُّوا إلى الدُّنيا لآمَنوا بدَعْوَى أنَّه ظهَرَ لهم الآنَ صِدقُ رُسلِ اللهِ تعالى؛ ليس صحيحًا، بل كانوا يَعلمون صِحَّةَ رِسالتِهم وصِدقَ نُبوَّتهم، ولكنَّهم كانوا في الدُّنيا يُخفونَ ذلك في قَرارةِ أنفسِهم؛ ظلمًا وعنادًا، فلم يَظهرْ لهم يومَ القيامة شيءٌ جديدٌ؛ ليكونوا عالِمِين به فيُعذَروا، بل ظَهَرَ لهم ما كان معلومًا لدَيهم من قَبلُ. وإنَّما تَمنَّوُا العودةَ إلى الدُّنيا لا رَغبةً وحبًّا في الإيمانِ كما زعَموا كذبًا؛ فإنَّهم لو رُدُّوا لعادوا للكفرِ الذي هو طَبعٌ لهم وسجيَّة، ولكنَّهم تَمنَّوا ذلك لَمَّا عاينوا العذابَ الذي لا طاقةَ لهم باحتمالِه .

كما قال تعالى مخبرًا عن موسى عليه السَّلام أنَّه قال لفرعونَ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء: 102] .

وقال الله تعالى مخبرًا عن فِرعونَ وقومِه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] .

وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ.

أي: ولو رُدُّوا إلى الدُّنيا، فأُمْهِلوا؛ ليُؤمنوا، ويَعْمَلوا صالحًا، لرَجَعوا إلى مِثلِ ما كانوا عليه مِن قبلُ من الكُفرِ والعِصيان .

وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.

أي: وهم كاذِبون في قولِهم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .

وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29).

أي: وقال هؤلاءِ المشرِكون المنكِرون للبعثِ: لا تُوجدُ حياةٌ أخرى لنا سِوى هذه الحياةِ التي نَعيشُها في الدُّنيا، وما نحنُ بخارِجين من قُبورِنا، وما ثَمَّ حسابٌ ولا ثوابٌ ولا عقابٌ .

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30).

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ.

أي: ولو رأيتَ- يا محمَّدُ- هؤلاءِ القائلينَ: ما هي إلَّا حياتُنا الدُّنيا وما نحنُ بمبعوثين، وقدْ أُوقِفوا بين يَدَيِ اللهِ تعالى، لرأيتَ أمرًا فظيعًا، وهَوْلًا عظيمًا .

قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا.

أي: قال اللهُ تعالى لهم موبِّخًا: أليسَ هذا البعثُ- الذي كنتُم في الدُّنيا تُظهرُون إنكارَه- حقًّا ثابتًا، وليسَ بباطلٍ كما كنتم تَدَّعُون؟! فأجابوا مُعترِفين: واللهِ إنَّه لَحقٌّ ثابتٌ .

قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ.

أي: فقال اللهُ تعالى لهم: فذُوقوا مَسَّ العذابِ الذي كنتُم في الدُّنيا تُكذِّبون به؛ فذُوقوه اليومَ جزاءً على كُفرِكم في الدُّنيا .

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (31).

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ.

أي: قدْ خابَ وحُرِمَ الخيرَ كلَّه، الَّذين أَنكروا البعثَ بعدَ المماتِ، ولِقاءَ اللهِ تعالى للحسابِ، ونَيْلِ الثوابِ والعِقاب، وقد أَوجبَ لهم هذا التكذيبُ في الدنيا ترْكَ الطاعاتِ، واقترافَ المحرَّماتِ .

حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا.

أي: حِينَ تأتِيهم الساعةُ التي يَبعثُ اللهُ فيها الموتَى مِن قُبورِهم فجأةً، يقولون تحسُّرًا: ما أعظمَ ندامتَنا على تَفريطنا في الاستعدادِ لهذا اليومِ، وتضييعِنا لأوقاتِنا وأعمارِنا في الدُّنيا !

كما قال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 55-56] .

وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ.

أي: وهؤلاءِ الذين كذَّبوا بلِقاءِ اللهِ، يَحمِلون آثامَهم وذُنوبَهم يومَ القِيامةِ على ظُهورِهم .

أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ.

أي: ألَا بئسَ ما يَحمِلونَه من آثامٍ .

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (32).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا جرَى ذِكرُ الساعةِ، وما يَلحَقُ المشرِكين فيها من الحَسرةِ على ما فرَّطوا، وكانَ المنكِرون للبعثِ والقيامةِ تَعظمُ رغبتُهم في الدُّنيا، وتَحصيلِ لذَّاتِها؛ ذَكَر اللهُ تعالى هذه الآيةَ تَنبيهًا على خَساسةِ الدنيا وركاكتِها، وتذكيرًا للناسِ بأنَّ الحياةَ الدنيا زائلةٌ، وأنَّ عليهم أنْ يستعدُّوا للحياةِ الآخرةِ .

وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالى قَولَهم: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا؛ ذَكَر مصيرَها، وأنَّ مُنتهى أمرِها أنَّها فانيةٌ، مُنقضيةٌ عن قَريبٍ، فصارتْ شبيهةً باللهوِ واللعبِ؛ إذ هما لا يَدومانِ، ولا طائلَ لهما، كما أنَّها لا طائلَ لها؛ فاللَّهوُ واللعِبُ اشتغالٌ بما لا غِنى به ولا منفعةَ، كذلِك هي الدنيا، بخلافِ الاشتغالِ بأعمالِ الآخرةِ، فإنَّها التي تَعقُب المنافِعَ والخيراتِ ، فقال تعالى:

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ.

أي: وليستْ هذه الحياةُ الدَّنيَّةُ زمنًا ومرتبةً- بأعمالِها ولذائذِها وشَهواتِها ومتاعِها- سِوى لعبٍ ولهوٍ .

كما قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20] .

وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ.

أي: وأمَّا الآخِرةُ، فإنَّها- في ذاتِها وصِفاتِها، وبقائِها ودوامِها ونعيمِها- والعملَ لها، والاستعدادَ لأجْلِها في الدُّنيا بالإيمانِ والعملِ الصالحِ؛ خيرٌ من الدُّنيا لِلَّذين يَفعَلون ما أمَرَ اللهُ تعالى به، ويَترُكون ما نَهى عنه .

كما قال عزَّ وجلَّ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [الضحى: 4] .

وقال تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: 77] .

وعن المستورِدِ بنِ شَدَّاد رضِي اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((واللهِ، ما الدُّنيا في الآخِرةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجعَلُ أَحدُكم إصبَعَهُ هذهِ- وأشارَ يَحيى بالسَّبَّابةِ- في اليمِّ، فلْيَنظرْ بِمَ يَرجِعُ؟ )) .

أَفَلاَ تَعْقِلُونَ.

أي: أفليستْ لكم- أيها المكذِّبون بالبعثِ- عُقولٌ تُدركون بها حقيقةَ كلِّ دار، وأيُّهما أَوْلى بالإيثارِ

 

؟!

الفوائد التربوية :

 

1- الإشارةُ إلى دُنُوِّ الحياةِ الدُّنيا، وأنَّها ليستْ بتلك الحياةِ التي يَنبغي للإنسان أن يُحافظَ عليها، ويَنسى الآخرةَ؛ لقوله: الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.

2- التَّزهيدُ في الدُّنيا والترغيبُ في الآخِرة؛ وجهُ ذلك: أنَّه وصَفَ الدُّنيا بقوله: لَعِبٌ وَلَهْوٌ، ووصَفَ الآخِرةَ بقوله: خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ

.

3- قولُه تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ فيه أنَّ الدَّار الآخِرةَ خيرٌ للمتَّقينَ مِن الدُّنيا، وعلى هذا فما يُصيبُهم في الدُّنيا من الأذَى في اللهِ عزَّ وجلَّ، أو أمراضٍ تُصيبُهم، أو في فقْدِ حبيبٍ، أو ما أشْبهَ ذلك؛ فإنَّه في الآخِرَةِ يُنسَى وكأنَّه لم يكُنْ؛ لأنَّ الدارَ الآخِرةَ تمحو كلَّ شيءٍ سبَقَ، وكأنَّه لم يكُن

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قولُه تعالى: فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في العَطفِ بالفاءِ دَلالةٌ على أنَّ أوَّلَ شيءٍ يقعُ حينئذٍ في قلوبِهم، ويَسبِقُ التعبيرُ عنه إلى ألْسنتِهم، هو النَّدمُ على ما سلَفَ منهم، وتمنِّي الرُّجوع إلى الدُّنيا ليُؤْمنوا

.

2- في قولِه تعالى: فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ شِدَّةُ ندَمِ الكافِرين إذا وُقِفوا على نارِ جهنَّم؛ لكونِهم يَتمنَّوْن أمرًا لا يُمكنُ أنْ يكون .

3- قوله تعالى: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فيه إشكال؛ إذ كيف يتمنون الردَّ مع أنَّهم يَعلَمون أنَّ الردَّ لا يَحصُلُ البتَّةَ؟

والجوابُ: أنَّه لعَلَّهم لم يَعْلَموا أنَّ الردَّ لا يَحصُلُ، أو أنَّهم وإنْ عَلِموا أنَّ ذلك لا يَحصُل إلَّا أنَّ هذا العِلمَ لا يَمنَعُ من حصولِ إرادةِ الردِّ؛ كقولِه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ [المائدة: 37] ، وكقوله: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف: 50] ، فلمَّا صحَّ أنْ يُريدوا هذه الأشياءَ مع العِلم بأنَّها لا تَحصُلُ، فبأنْ يَتمنَّوْه أقربُ؛ لأنَّ بابَ التمنِّي أوسعُ؛ لأنَّه يصحُّ أن يتمنَّى ما لا يصحُّ أنْ يُريدَ مِن الأمورِ الثلاثةِ الماضيةِ .

4- في قولِه: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ غلوُّهم في الإصرارِ على الكُفرِ، وعدمُ رَغبتِهم في الإيمانِ؛ فقدْ بيَّن اللهُ تعالى أنَّهم لو شاهَدوا النَّارَ والعذابَ، ثم سألوا الرجعةَ ورُدُّوا إلى الدُّنيا، لعادوا إلى الشِّركِ .

5- تعلُّقُ عِلمِ اللهِ بالمستحيلِ؛ لقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ .

6- أنَّ الكافرِينَ لا يَستنزِهون من الكَذِبِ حتَّى في الآخِرةِ، وكذلك المنافِقون؛ لأنَّ اللهَ تعالى كذَّبهم، وقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ .

7- قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ فيه دليلٌ على أنَّ الخواطرَ الناشئةَ عن عوامِل الحِسِّ دون النظرِ والدليلِ لا قَرارَ لها في النَّفْس، ولا تسيرُ على مُقتضاها إلَّا ريْثَما يدومُ ذلك الإحساسُ، فإذا زالَ زالَ أثرُه؛ فالانفعالُ به يُشبِهُ انفعالَ العَجْماواتِ من الزَّجْرِ والسَّوطِ ونحوِهما، ويزولُ بزوالِه حتَّى يُعاودَه مِثلُه .

8- قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ، قوله: رَبِّهِمْ، وهو اللهُ عزَّ وجلَّ، وإنَّما أضافَ رُبوبيَّتَه إليهم مع أنَّهم مِن أراذلِ عِبادِ اللهِ؛ إشارةً إلى أنَّه عزَّ وجلَّ هو الخالقُ المالِكُ المدبِّرُ لهم؛ فكانَ عليهم أنْ يَقوموا بعِبادتِه، فتكونُ إضافةُ الرُّبوبيَّةِ إليهم للإشارةِ إلى أنَّ السُّلطانَ له عليهم عزَّ وجلَّ، ومع ذلِك لم يُؤمنوا به ولا برُسُلِه، ولا عَمِلوا لهذا اليومِ .

9- قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قَدْ يُتوهَّمُ أنَّه يُناقِضُ قولَه تعالى: وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة: 174] ، فقيل: دَفْعُ هذا التوهُّم بأنْ يُحمَل قولُه: وَلَا يُكَلِّمُهُمُ على مَعنى: لا يُكلِّمهم كَلامَ تكريمٍ وتشريفٍ، ولا الكلامَ الذي فيه خَيرٌ، وأمَّا التوبيخُ والتَّقريعُ والإهانةُ، فكلامُ الله لهم به من جِنسِ عَذابِه لهم، ولم يُقصَدْ بالنفيِ في قوله: وَلَا يُكَلِّمُهُم ، وقيل: يومُ القيامةِ يومٌ طويلٌ، ذو مواطنَ ومواقفَ ومواقيتَ، فيَنطِقون في وقتٍ، أو موقفٍ، ولا يَنطِقون في وقتٍ، أو موقفٍ آخَرَ .

10- خَصَّ لفظَ الذوق في قولِه: فَذُوقُوا؛ لأنَّهم في كلِّ حالٍ يَجِدونه وِجْدانَ الذائقِ في قوَّةِ الإحساسِ .

11- في قولِه تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ بيانُ خُسرانِ الكافرين المكذِّبين بالبعثِ، وأنَّهم مهما ظنُّوا أنَّهم رَبِحوا فهُم خاسِرون، ولكنْ متى يَعلمون أنَّهم خاسِرون؟ إذا جاءَ الأجلُ، أمَّا الآن فهُم في سَكرةٍ لا يَدرُون؛ ولهذا لو انتَصروا اقتصاديًّا، أو عسكريًّا، أو فِكريًّا، لظنُّوا أنَّهم رابِحون، ولكنَّهم خاسِرون .

12- قولُه تعالى: قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا فيه شِدَّةُ تحسُّرِ هؤلاءِ الذين كذَّبوا بلقاءِ اللهِ، وإقرارُهم على أنفسِهم بأنَّهم فرَّطوا .

13- في تَسميةِ الحياةِ الدُّنيا باللَّعِبِ واللَّهوِ في قوله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وجوه، منها: الأوَّل: أنَّ مُدَّة اللهوِ واللَّعِبِ قليلةٌ، سريعةُ الانقضاءِ والزَّوال، ومُدَّةُ هذه الحياةِ كذلك، الثاني: أنَّ اللَّعِبَ واللهوَ ينساقَان في أكثرِ الأمْرِ إلى شيءٍ مِن المكارِه، ولذَّاتُ الدُّنيا كذلِك. الثالث: أنَّ اللَّعِبَ واللهوَ إنَّما يَحصُلان عند الاغترارِ بظواهرِ الأُمورِ، فليس لهما في نفْسِ الأمرِ حقيقةٌ مُعتبَرَةٌ، فكذلك الإغراقُ في الالتذاذ بطيِّباتِ الدُّنيا، والانتفاع بخيراتِها، لا يَحصُلُ إلَّا للجاهِلين بحقائقِ الأمور. الرابع: أنَّ اللَّعِبَ واللَّهوَ ليس لهما عاقبةٌ محمودةٌ .

14- أوجهُ الخيريَّةِ في قوله: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ متعددةٌ؛ أحدُها: أنَّ خيراتِ الدُّنيا خسيسةٌ؛ فالحيواناتُ تُشارِكُ الإنسانَ فيها، كالأكلِ والجماعِ، بل ربَّما كان أمرُ تِلك الحيوانات فيها أكملَ مِن أمْرِ الإنسان، وكذلك فلذَّاتُها سريعةُ الانقضاءِ والاستحالةِ، إلى غيرِ ذلك مِن الوجوهِ التي تثبت خَساسةَ هذه الملذَّات، بخلاف خيراتِ الآخِرة وسعاداتِها الرُّوحانيَّةِ فهي شريفةٌ، عاليةٌ، باقيةٌ، مُقدَّسة. الأمر الثاني: في بيانِ أنَّ خيراتِ الآخرةِ أفضلُ مِن خيراتِ الدُّنيا، هو أنْ يُقالَ: هبْ أنَّ هذينِ النَّوْعين تَشاركَا في الفضلِ إلَّا أنَّ الوصولَ إلى الخيراتِ الموعودةِ في غدِ القيامةِ معلومٌ قطعًا، وأمَّا الوصولُ إلى الخيراتِ الموعودةِ في غدِ الدُّنيا فغيرُ معلومٍ، بل ولا مظنونٍ، فكم مِن سُلطانٍ قاهرٍ في بُكرةِ اليومِ صار تحتَ التُّرابِ في آخِرِ ذلك اليومِ. الأمْر الثَّالث: هبْ أنَّه وَجَدَ الإنسانُ بعدَ هذا اليومِ يومًا آخَرَ في الدُّنيا إلَّا أنَّه لا يَدرِي هلْ يُمكنه الانتفاعُ بما جمَعَه من الأموالِ والطيِّباتِ واللذَّاتِ أم لا؟ أمَّا كلُّ ما جَمَعه من السَّعادات، فإنَّه قطعًا ينتفعُ به في الآخِرَة. الأمر الرابع: هبْ أنَّه يَنتفعُ بها إلَّا أنَّ انتفاعَه بخيراتِ الدُّنيا لا يَخلو عن الشَّوائبِ والمنغِّصات، والانتفاعُ بخيراتِ الآخِرَةِ خالٍ عن شوائبِ المكروهاتِ. الأمر الخامس: هبْ أنَّه ينتفعُ بتلك الأموالِ والطيِّبات من غيرِ شائبةٍ إلَّا أنَّ ذلك الانتفاعَ منقرضٌ ذاهبٌ، والمنافعُ المنقرضةُ تُحزِنُ الإنسانَ لمفارقتِها، وكلَّما كانتْ تلك المنافعُ أكملَ وألذَّ، كانتْ تلك الأحزانُ الحاصلةُ عن انقراضِها وانقطاعِها أقوى وأكْمَلَ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فيه إيجازٌ بحَذْفِ جوابِ لَوْ

، وحَذْفِ مفعولِ تَرَى أيضًا، وفائدتُه: أنَّ النَّفسَ تذهبُ في تَقديرِ المحذوفِ كلَّ مذهبٍ، والخيالَ يتَّسعُ للتقديرِ، إلى جانِبِ تَفخيمِ الأمرِ، وتَعظيمِ الشَّأنِ ، والقاعدةُ: أنَّ حَذْف جَوابِ الشَّرطِ في مقاماتِ الوعيدِ يدلُّ على تَعظيمِ الأمْر، وشِدَّتِه .

- وفيه ذِكْرُ ما يكونُ مِن وُقُوفِهم على النَّارِ، وما يَترتَّب عليه من قولِهم بصِيغةِ الماضي الواقِع في حيِّزِ الشَّرطِ المستقبَل في قوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا؛ للإعلامِ بتحقُّقِ وقوعِه، على القولِ المشهورِ في مِثله . وقيل: كلمة (إذ) تُقامُ مقامَ (إذا) إذا أراد المتكلِّمُ المبالغةَ في التكريرِ والتوكيدِ، وإزالةِ الشُّبهةِ؛ لأنَّ الماضِيَ قد وقَع واستقرَّ، فالتعبيرُ عَنِ المستقبلِ باللفظِ الموضوعِ للماضي يُفيدُ المبالغةَ مِن هذا الاعتبارِ .

2- قوله: فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حرفُ النِّداء (يا) هنا لمجرَّد التنبيهِ؛ فهو حرفُ تنبيهٍ لا حرْفُ نِداء ، وقيل: هو حرفُ نِداءٍ مُستعمَلٌ في التَّحسُّر؛ لأنَّ النِّداءَ يَقتضي بُعْدَ المنادَى؛ فاستُعمِلَ في التحسُّر .

3- قوله: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ: تَذييلٌ لِمَا قَبْلَه، وجِيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ الدالَّةِ على الدَّوامِ والثَّباتِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الكذبَ سجيَّةٌ لهم، قد تَطبَّعوا عليها من الدُّنيا؛ فلا عجبَ أنْ يَتمنَّوُا الرُّجوعَ ليُؤمِنوا، فلو رجَعوا لعادوا لِمَا كانوا عليه؛ فإنَّ الكذبَ سجيَّتُهم .

- وأيضًا فقَوْلُه: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ اعتراضٌ توسَّطَ بينَ قوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وقولِه: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، وهذا الاعتراضُ مَسوقٌ لتقريرِ ما أفادَتْه الشَّرْطيةُ مِنْ كَذِبِهم المَخصوصِ، ولو أُخِّر لأَوْهَم أنَّ المرادَ تَكذيبُهم في إنكارِهم البعثَ، والمعنى: لو رُدُّوا إلى الدُّنيا لعادوا لِمَا نُهوا عنه، وقالوا... .

4- قوله: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ

- قوله: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا صِيغةُ حَصْرٍ، أي: انحصَرَ جِنسُ حَياتِنا في حياتِنا الدُّنيا، فلا حياةَ لنا غيرُها؛ فبَطَلتْ حياةٌ بعدَ الموتِ .

- والضَّمير هِيَ بعد إنْ مُبهَمٌ يُفسِّره ما بعدَ الاستثناء المُفرَّغ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا؛ قُصِد من إبهامه الإيجازُ؛ اعتمادًا على مُفسِّره .

- وقوله: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ فيه نفيٌ للبَعثِ، وهو يستلزمُ تأكيدَ نفْيِ الحياةِ غير حياةِ الدنيا؛ لأنَّ البعثَ لا يكونُ إلَّا مع حياةٍ، وإنَّما عُطِفت ولم تُفصَل، فتكون مؤكِّدةً للجُملة قبلها؛ لأنَّ قَصْدَهم إبطالُ قولِ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّهم يَحْيَون حياةً ثانيةً، وقولِه تارةً: إنَّهم مبعوثون بعدَ الموت، فقَصَدوا إبطالَ كلٍّ باستقلالِه .

5- قوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ... استئنافٌ بيانيٌّ، وفي تعليقِ قَوْلِه: عَلَى رَبِّهِمْ بقولِه: وُقِفُوا تمثيلٌ لحضورهم المحشْرَ عندَ البعثِ؛ شُبِّهَتْ حالُهم في الحضورِ للحِسابِ بحالِ عبدٍ جَنَى، فقُبِضَ عليه، فوقَف بين يدَيْ ربِّه، وبذلك تظهَرُ مزيَّةُ التعبيرِ بلَفْظ رَبِّهِمْ، دون اسمِ الجلالةِ .

6- قوله: قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا استئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نشأَ مِن الكلامِ السَّابقِ، كأنَّه قيل: فماذا قال لهم ربُّهم إذ ذاكَ؟ فقيل: قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ ، وهو استفهامٌ تقريريٌّ دخَل على نفْيِ الأمرِ المُقرَّر به؛ لاختبارِ مقدارِ إقْرارِ المسؤولِ؛ فلذلك يُسأل عن نفْي ما هو واقعٌ؛ لأنَّه إنْ كان له مَطْمَعٌ في الإنكارِ تَذرَّع إليه بالنفي الواقِع في سؤال المقرِّر. والمقصود: أهذا حقٌّ؟! إذ إنَّهم كانوا يَزعُمونه باطلًا؛ ولذلك أجابوا بالحرفِ الموضوعِ لإبطالِ ما قَبْلَه وهو بَلَى فهو يُبطِلُ النفيَ؛ فهو إقرارٌ بوقوع الأمانيِّ، أي: بلى هو حقٌّ .

- وقوله: قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا فيه تأكيدُ اعترافِهم باليمينِ؛ إظهارًا لكمالِ يَقينهم بأنَّه حقٌّ؛ تحقيقًا لاعترافِهم للمُعترَفِ به؛ لأنَّه معلومٌ لله تعالى، أي: نُقرُّ ولا نشكُّ في أنَّه حقٌّ؛ فلذلك نُقسِم عليه، وهذا مِنِ استعمالِ القَسمِ لتأكيدِ لازمِ فائدةِ الخبرِ وهذا القَسَمُ منهم يُشعِرُ بشِدَّةِ النَّدمِ على إنكارِهم الأوَّل، فكأنَّهم كذَّبوا أنفُسَهم تكذيبًا مقرونًا بالقَسَمِ، ولا يَخفَى أنَّ مِثلَ هذا لا يَخرُجُ إلَّا مِن قلبٍ مُتحسِّرٍ، ولكن فاتَ الأوانُ !

- وفي ذِكر الربِّ في قوله تعالى: بَلَى وَرَبِّنَا تَذكارٌ لهم بأنَّه كان يُربِّيهم، ويُصلِحُ حالَهم؛ فهو سيِّدُهم وهم عَبيدُه، لكنَّهم عصَوْه، وخالَفوا أمْرَه .

7- قوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ

- قوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ فيه الإظهارُ في موضِع الإضمارِ؛ فالَّذين كذَّبوا هم الَّذين حُكِيت أحوالُهم، لكنْ وُضِع الموصولُ مَوضعَ الضَّمير؛ للإيذانِ بتسبُّبِ خُسرانِهم بما في حيِّزِ الصِّلةِ من التكذيبِ بلِقائِه تعالى بقيامِ الساعةِ، وما يَترتَّبُ عليهِ مِن البعثِ وأحكامِه المتفرِّعةِ عليه، واستمرارِهم على ذلك؛ فإنَّ كلمةَ حَتَّى في قولِه تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ غايةٌ لتكذيبِهم لا لخُسرانهم؛ فإنَّه أبَدِيٌّ لا حدَّ له ، وفي هذا الإظهارِ كذلك تَعميمٌ، وتَنبيهٌ على ما أَوْجَب لهم ذلِك الخُسرانَ .

- وحَسُنَ مجيءُ الخُسْران كنايةً عن فَواتِ الثوابِ العظيمِ، وحُصولِ العقابِ العظيمِ؛ لأنَّ موقِفَ القيامةِ موقفٌ لا حُكْمَ فيه لأحدٍ إلَّا للهِ تعالى، ولا قُدرةَ لأحدٍ على النَّفعِ والضرِّ، والرَّفعِ والخَفضِ إلَّا لله .

- قوله: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا... على القولِ بأنَّ تحسُّرَهم هذا يكون عندَ موتِهم؛ ففيه التعبيرُ عن الموتِ بالسَّاعةِ؛ وذلك لَمَّا كانَ الموتُ وُقوعًا في أحوالِ الآخرةِ ومُقدِّماتِها، جُعِل مِن جِنسِ السَّاعةِ، وسُمِّي باسمِها، أو جُعِل مَجيءُ السَّاعةِ بعدَ الموت؛ لسُرعتِه، كالواقِعِ بغيرِ فَترةٍ .

- قوله: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا فيه تنبيهٌ للنَّاس على ما سَيحصُلُ لهم من الحَسرةِ، والعربُ تُعبِّر عن تَعظيمِ أمثالِ هذه الأمورِ بهذه اللَّفْظة يَا حَسْرَتَنَا، وهذا أبلغُ مِن أنْ يُقال: الحسرةُ علينا في تَفرِيطنا .

- والنِّداءُ في قولِه: قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا مقصودٌ به التندُّمُ، وأضافوا الحسرةَ إلى أنفُسِهم؛ ليكونَ تَحسُّرُهم لأجْلِ أنفسِهم؛ فهم المُتحسِّرون والمتحسَّرُ عليهم، بخِلافِ قولِ القائِل: يا حسرةً، فإنَّه في الغالِبِ تحسُّرٌ لأجْلِ غيرِه، فهو يتحسَّرُ لحالِ غيرِه .

- والافتتاحُ بحرف الاستفتاح أَلَا في قوله: أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ يُفيد التنبيهَ للعنايةِ بالخبرِ ، والجملةُ تذييلٌ مُقرِّرٌ لِمَا قَبلَه، وتَكملةٌ له .

8- قوله: وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أفادتْ هذه الصِّيغةُ (وَمَا... إِلَّا) قَصْرَ الحياةِ على اللعبِ واللَّهوِ .

- وفيه مُناسبةٌ حسَنةٌ حيثُ قَدَّم اللَّعبَ هنا، وكذلِك في سُورةِ محمَّد في قوله: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد: 36] ، وسُورةِ الحديد في قوله: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الحديد: 20] ، وعكَس في سورةِ الأعرافِ والعنكبوتِ؛ حيث قال في سُورة الأعرافِ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الأعراف: 51] وقال في سورة العنكبوت: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ [العنكبوت: 64] ، فقدَّم اللَّهوَ على اللَّعِبِ، والحِكمةُ مِن تقديمِ اللَّعِب على اللهوِ في بعضِ المواضِع وتأخيرِها في البعض الآخَر: أنَّ الآيَةَ الأُولى التي في سُورةِ الأنعام في قومٍ مِن الكُفَّار، كانوا إذا سَمِعوا آياتِ اللهِ هَزِلوا عندَها، واسْتَهْزؤوا بها، فهذا اتِّخاذُهم دِينَ اللهِ لَعبًا، فهؤلاءِ قومٌ حضَروا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وسمِعوا القرآن، وعَبِثوا عند سماعِه، ولَعِبوا بآياته، وأجَرْوها مجرَى أفعالٍ يُستَرْوَح إليها، ولا نفعَ في عُقباها، ثم شُغِلوا بدنياهم عن تَدبُّرها، وألهتْهم حلاوتُها عن الفِكر في صِحَّتها، فأوَّل أفعالهم لعبٌ، وثانيها لهوٌ، فهؤلاءِ لَمَّا فعلوا عند سماعِ القرآن مِن الاستهزاءِ والعبثِ أُطلِقَ على فِعلهم اسمُ اللَّعِب، ثم شُغِلوا عنه باستِحلاءِ الدنيا، كان هذا لهوًا منهم بعدَ اللَّعِب، وكان أوَّلُ دِينهم لعبًا وما بعدَه لهوًا؛ فلذلك قدَّم اللَّعِب على اللَّهو في هذه الآيةِ. وتقديمُ اللَّعبِ على اللَّهو في سورة الحديدِ؛ فلأنَّ معناه: الحياةُ الدُّنيا لِمَن اشتَغَل بها، ولم يتعَبْ لغيرِها مِن أعمالِ الآخرةِ مَقسومةٌ من الصِّبا، وهو وقتُ اللَّعِب، وبعدَه اللَّهو، ويتبع ذلك أخْذُ الزينةِ، ومِنْ أخْذِ الزينة تنشأُ مباهاةُ الأكْفَاءِ، ومفاخرةُ الأشكالِ والنُّظَراءِ، ثم بَعْدَه المكاثرةُ بالأموالِ والأولادِ، فترتيبُ الحياةِ على هذه الأحوالِ يُوجِبُ تقديمَ حالَ اللَّعِبِ على حالِ اللَّهو.

وأمَّا تقديمُ اللَّهوِ على اللَّعبِ في آيةِ الأعرافِ؛ فلأنَّ المقصودَ بالكافرينَ عامَّةُ الكفَّارِ، وليس مَن سمِعَ الآياتِ فقط، فقدَّم فِعْلَ أكثرِهم على فِعل أقلِّهم، وهم الذينَ شَغلتْهم الحياةُ الدُّنيا وحلاوتُها، والولايةُ وغباوتُها، وهذا هو اللَّهو، ثمَّ كانتْ أفعالُهم التي اقتدَوْا فيها بآبائِهم لَمَّا طابتْ لهم، ولم يَجِدوا في العاقبةِ نفعًا عليهم، كاللَّعبِ الذي يَنطوي على أفعالٍ تَبطُلُ في الآجِل، وإنْ سَرَّتْ في العاجِل، وهذا بعدَ الأوَّلِ، وأَكثرُ الكفَّارِ دَأْبهم اللَّهوُ، وإنْ شَغَلَتْهم الحالُ التي اسْتَصْحَبوها عن الفِكر فيما يطرأُ عليها؛ فوَجَب لهذا تقديمُ ذِكرِ اللَّهوِ لوجهين: لتقدُّمِه على ما هو كاللَّعب، ولأنَّه فِعلُ أَكثرِهم. واللَّعب في آية الأنعامِ المرادُ به فِعلُ أقلِّهم، وهو هناك أوَّلُ ما رُدَّ به ما جاءَ به الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم.

وقُدِّم اللَّهوُ في سورةِ العنكبوت في قولِه: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ... [العنكبوت: 64] ؛ لأنَّ المرادَ المبالغةُ في وصْف قِصَر مدَّة الدُّنيا بالإضافةِ إلى مُدَّةِ الأخرى، فكأنَّه قال: ما أَمدُ الحياةِ الدُّنيا إلَّا كأَمَدِ أَزْمِنَةِ اللَّهوِ واللَّعِب؛ فهي أزمنةٌ لشَغْلِ النَّفسِ بحلاوةِ ما يُتعجَّلُ، وإنَّما قُدِّم اللَّهْوُ على اللَّعِب هنا؛ لأنَّ أزمنةَ اللَّهوِ أكثرُ مِن أَزْمِنَة اللَّعِب؛ لأنَّ التشاغُلَ به أكثرُ؛ فوجَبَ تقديمُ ما يَكثُر على ما هو دُونَه في الكثرةِ؛ لأنَّ ذلك آخِذٌ بالشَّبهِ، وأبلغُ في وصْفِ المشبَّه .

وقيل: لأنَّ اللَّعِبَ يكونُ في زَمَنِ الصِّبا، واللَّهوُ يكونُ في زمَنِ الشَّبابِ، وزمنُ الصِّبا مُقدَّمٌ على زَمنِ الشَّباب؛ فناسَبَ إِعطاءُ المقدَّمِ للأكْثرِ، والمُؤخَّرِ للأقلِّ .

وقيل: لأنَّه لا يتقدَّمُ اللَّفظُ فى الكِتابِ العزيزِ ذِكرًا أو يتأخَّرُ إلَّا لموجِبٍ؛ فوجهُ تقديمِ اللَّعب فى الأنعامِ: أنَّه المتقدِّمُ في الوجودِ الدُّنيويِّ على اللَّهو، ولأنَّ أوَّلَ ابتداءِ تعقُّلِ الإنسانِ وتَمْييزِه حالَه حالُ اللَّعِب، وهو المطابقُ لسنِّ الابتداءِ، فإذا استمرَّ أُلْهِيَ عن التدبُّر والاعتبارِ، وشُغِل بتماديه عن التفكُّرِ فيما به النجاةُ والفوزُ، فلمَّا لم يَبْرَحْ هؤلاء عن الجَري على عادةِ الصُّمِّ والبُكْم الذين لا يَعقِلون جرَى الإخبارُ عنهم في الآيةِ الثانيةِ من الأنعامِ بمُقتضَى أحوالِهم في أعمارِهم التي لم تَخرُجْ عن أحوالِ البهائمِ؛ فأوَّلُ أعمارِهم لعبٌ، وعَقِب ذلك لَهْوٌ، فورَدَ الإخبارُ على حسَبِ جَرْي الأعمارِ. وقيل غيرُ ذلِك في أوجهِ التقديمِ والتأخيرِ في هذه الآياتِ .

9- قوله: وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أفَلَا تَعْقِلُونَ فيه تخصيصُ المتَّقينَ بالذِّكْر، مع أنَّ غيرَهم كذلك؛ لأنَّهم الأصلُ، وغيرَهم تَبَعٌ لهم .

- ويحتملُ أنَّه اعتراضٌ بالتَّذْييلِ لحِكاية حالِهم في الآخِرَة؛ فإنَّه لَمَّا حَكَى قوْلَهم: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا عَلِمَ السامعُ أنَّهم فرَّطوا في الأمورِ النَّافعةِ لهم في الآخِرَة؛ بسببِ الانهماكِ في زخارفِ الدُّنيا، فذَيَّلَ ذلك بخِطابِ المُؤْمِنين؛ تعريفًا بقيمةِ زخارفِ الدُّنيا، وتبشيرًا لهم بأنَّ الآخِرةَ هي دارُ الخيرِ للمُؤْمِنين .

- وفيه مناسبة حسنةٌ؛ حيث عبَّر هنا بقولِه تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وفي سورةِ الأعرافِ عبَّر بقوله: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 169] ؛ ففي الأنعام وَلَلدَّارُ باللَّامِ، وفي الأعراف وَالدَّارُ بغيرِ تلك اللام؛ لأنَّ آية الأنعام تَقدَّمها قولُه تعالى مُعرِّفًا بحالِ الدنيا: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، ومعنى التأكيدِ في هذا حاصِلٌ مِن جَرْي الكلامِ وسياقِه؛ حيثُ دخَلتْه (إلَّا) بعدَ (ما) النافيةِ، فأفادت القَصْرَ، ومِثل هذا هو المعنى الحاصِلُ مِن لفظِ القَسَمِ الصَّريح؛ فناسَبَه هنا مَجيءُ اللامِ داخِلةً على المبتدأِ في الآيةِ المعرِّفةِ لحالِ الدَّار الأُخرى، وكأنَّه نصُّ قولك: واللهِ لَلدَّارُ الآخِرةُ خيرٌ، وتَناسَب هذا مع ما تقدَّم قبلَه مِن تقديرِ القَسَمِ المؤكَّد كما تَبيَّن، وليس فى آيةِ الأعراف ما يَقتضي هذا؛ لأنَّها مُناطةٌ بقوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى [الأعراف: 169] .

- وأيضًا أُجْرِيت الآخِرَة على الدَّار نَعتًا لها في سُورتَي الأنعامِ والأعراف، وفي سورة يوسُفَ قال: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ [يوسف: 109] على الإضافةِ؛ وذلِك لأنَّ كلَّ لفْظٍ مُطابِقٌ لِمَا تقدَّمَ قَبْلَ كلِّ واحدةٍ مِن الآيتين، أمَّا فى آيةِ الأنعام فقوله تعالى مُخبِرًا عنهم: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، فطابَقَ هذا قولَه تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ، وأمَّا آيةُ الأعرافِ فقولُه تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى [الأعراف: 169] ، المرادُ به الدَّارُ الدُّنيا، فقُوبِلَ بقوله: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ [الأعراف: 169] ، وهذا بَيِّنٌ، ولَمَّا لم يتقدَّمْ مِثلُ ذلك قبلَ آيةِ يُوسُفَ، ورَدَ لفظُ الدارِ مُضافًا بغيرِ الأَلِفِ واللامِ فيه، فقيل: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ [يوسف: 109] ، وجاءَ كلٌّ على ما يجبُ ويُناسِبُ .

- وأيضًا عبَّر في الأنعام والأعراف بقوله: خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ بالمضارِعِ، وفي سورة يُوسَف قال: خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [يوسف: 109] بالماضِي؛ لأنَّه في سورة يوسُفَ قدْ تَقدَّم قبلَه قولُه تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا... الآية [يوسف: 109] ، والحاصِلُ منه أنَّهم ظَلَموا أنفُسَهم فأُهْلِكوا، ولو اتَّقَوْا لنَجَوْا؛ فناسَبَ هذا المعنى المقدَّرَ ورودُ الماضي في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أوْضَحَ مُناسَبَةٍ .

- وفي قوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ تعريضٌ بالمشرِكينَ بأنَّهم صائِرونَ إلى الآخِرَة، لكنَّها ليستْ لهم بخيرٍ ممَّا كانوا في الدُّنيا .

- وقوله: أَفَلَا تَعْقِلُونَ يَحتملُ أن يكونَ فيه التفاتٌ مِن الحديثِ عنهم بالغَيبةِ إلى خِطابِهم بالدَّعوةِ- إذا كانتِ الآية إعادةً لدعوتهم إلى الإيمان والتقوى. ويَحتملُ أن يكون قوله: أفَلَا تَعْقِلُونَ اعتراضًا بالتذييلِ لحِكاية حالهم في الآخِرة؛ فإنَّه لَمَّا حَكَى قولَهم: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا، عَلِم السامعُ أنَّهم فرَّطوا في الأمورِ النافعة لهم في الآخرة بسببِ الانهماك في زخارفِ الدُّنيا، فذَيَّل ذلك بخِطابِ المؤمنين تعريفًا بقِيمةِ زخارف الدُّنيا، وتبشيرًا لهم بأنَّ الآخِرَةَ هي دارُ الخير للمؤمنين .

- والاستفهامُ في قوله: أفَلَا تَعْقِلُونَ مُستعمَلٌ في التَّوبيخِ عن عَدَمِ عَقلِهم؛ إنْ كان خِطابًا للمُشركين، أو مستعمَلٌ في التَّحذيرِ إنْ كان خِطابًا للمؤمنين، على أنَّه لَمَّا كان استعمالُه في أحدِ هذَينِ على وجهِ الكِنايةِ، صحَّ أنْ يُرادَ منه الأمرانِ باعتبار كِلَا الفَريقينِ؛ لأنَّ المدلولاتِ الكنائيَّةَ تَتعدَّدُ، ولا يَلزمُ مِن تَعدُّدِها الاشتراكُ؛ لأنَّ دَلالتَها التزاميَّةٌ

 

.

------------------

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (33 - 35)

ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ

غريب الكلمات :

 

يَجْحَدُونَ: أي: يُنكِرونَ بألسِنَتِهم وهم مُستَيقِنونَ بقُلوبِهم، والجُحُود: نفْيُ ما في القلبِ إثباتُه، وإثباتُ ما في القلبِ نَفْيُه، وأصلُ (جحد): يدلُّ على قلَّةِ الخيرِ

.

ولَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ: أي: لا مُغَيِّر لكَلماتِ الله، والتَّبديلُ: جَعْلُ شَيءٍ مَكانَ آخَرَ، وأصلُ (بدل): قِيامُ شَيءٍ مقامَ الشَّيءِ الذَّاهب .

نَبَأ: النبأُ هو الخبَرُ الذِي له شَأنٌ، وفائدةٌ عظيمةٌ، ويحصُلُ به عِلمٌ أو غَلَبَةُ ظنٍّ، وأصل (نبأ): الإتيانُ من مكانٍ إلى مكانٍ؛ وسُمِّي الخبرُ نبأً؛ لانتقالِه من مكانٍ إلى مكانٍ .

نَفَقًا: أي: سَرَبًا ومَنفذًا في الأرضِ، وأصل (نفق): يدلُّ على إخفاءِ شَيءٍ وإغماضِه .

سُلَّمًا: أي: مِصْعَدًا، أو ما يُتَوصَّل به إلى الأمكِنَة العاليةِ، فيُرجى به السَّلامةُ، وقيل: سببًا؛ وسُمِّيَ سُلَّمًا؛ لتسليمِه إلى المَقْصِد

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يقولُ اللهُ تعالى لنَبِيِّه محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّه يعلَمُ أنَّ ما يقولُه المُشْركونَ يُورِثُه الحُزنَ، وأخبَرَه أنَّهم لا يكذِّبونَه في حقيقةِ الأَمْر، بل هم يَعْلمونَ أنَّه صادِقٌ، ولكنَّ الظَّالمينَ يُنْكِرون آياتِ اللهِ عنادًا.

ثم يُخبِرُ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قد حصَل التَّكذيبُ لرُسُلٍ مِن قَبلِه، فقابلوا التكذيبَ والأذى بالصَّبرِ حتى أتاهم نصْرُ اللهِ تعالى، ولا أحَدَ بإمكانه أن يُغَيِّرَ كلماتِ الله التي كتَبَها مِن وَعْدِه لرَسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَن معه بالنَّصرِ والظَّفَرِ، ثم ذكَّرَه اللهُ تعالى أنَّه جاءه مِن قَصَصِ الرُّسُل قبله، وأنَّ عاقبتَهم كانت النصرَ والظَّفَرَ.

ثم يقولُ اللهُ تعالى لنبيِّه محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنْ كان شَقَّ عليك إعراضُ هؤلاء المشركينَ عن تَصديقِك، فإنِ استطعْتَ أن تتَّخِذَ نفَقًا تنفُذُ به إلى باطنِ الأرض، أو مِصْعَدًا تَرْقَى به إلى السَّماءِ، فتأتِيَهم بحُجَّةٍ وبُرهانٍ على صِدقِك؛ فلْتَفْعل ذلك، ولو شاءَ الله تعالى لجَمَع أولئك المكذِّبينَ على الهُدَى، ثم نهى اللهُ نبيَّه أنْ يكونَ من الجاهلينَ الذين لا يَعْرِفون حَقائِقَ الأمورِ، ولا سُنَنَ اللهِ في خَلْقِه، فيعْظُمَ عليه إعراضُهم، ويَحْزَنَ لعدمِ إيمانِهم.

تفسير الآيات :

 

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (33).

مناسبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا تكرَّر في هذه السُّورةِ أمْرُ اللهِ تعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمقاوَلَةِ الكفَّار، وذلك بتلقينِه لفْظَ (قل..، قل..)، وأطال في الحَثِّ على مُجادَلَتِهم، وختَم بما يَقتضي سَلْبَهم العقْلَ، مع تكريرِ الإخبارِ بأنَّ المَقضِيَّ بخَسارتِه منهم لا يُؤمنونَ لآيةٍ من الآيات، وكان مِن المعلومِ أنَّهم حالَ إسماعِهم ما أَمَر به لا يَسكتونَ؛ لِمَا عندَهم من عظيمِ النَّخْوة، وشماخَةِ الكِبْر، وقُوَّة الجُرأة، وأنَّه لا جوابَ لهم إلَّا التَّبعةُ والبذاءةُ، كما هو دَأْب المعانِد المغلوبِ، وأنَّ ذلك يَحزُنُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِمَا جُبِل عليه من الحَياءِ والشَّهامَةِ والصِّيانَةِ والنَّزاهَة- كان الحالُ محتاجًا إلى التَّسْلِيَة

، فقال تعالى:

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ.

أي: قدْ عَلِمْنا أنَّ ما يقولُه المُشركون ، يُورِثُك الحُزْنَ يا محمَّدُ .

كما قال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [الحجر: 97] .

وقال سبحانه: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود: 12] .

وقال تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] .

فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ.

أي: فلا تظُنَّنَّ أنَّ ما يقولونَه صادرٌ عن شَكٍّ واشتباهٍ في صِدْقِك، وصِدْقِ ما جئتَ به؛ فهُم يَعلمون في قرارةِ أنْفُسِهم أنَّك صادقٌ، وأنَّ ما جئتَ به هو الحقُّ .

وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ.

أي: ولكِنَّ هؤلاءِ الكُفَّارَ يُنْكِرونَ- عنادًا منهم بسببِ ظُلْمِهم- الأدِلَّةَ والبراهينَ التي هي الحقُّ مِن عندِ اللهِ تبارَكَ وتعالَى .

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا أزالَ الله تعالى الحُزْنَ عن قلبِ رَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الآيةِ السَّابقةِ؛ بأنْ بَيَّنَ أنَّ تكذيبَ رسولِه يَجري مَجرَى تَكذيبِ اللهِ تعالى- ذَكَرَ في هذه الآيةِ طريقًا آخرَ في إزالةِ الحُزْنِ عن قلْبِه، وذلك بأنْ بيَّنَ أنَّ سائِرَ الأُمَم عاملوا أنبياءَهم بِمِثْل هذه المعامَلَةِ، وأنَّ أولئك صَبَروا على تَكذيبِهم وإيذائِهم حتَّى أتاهم النَّصْرُ والفَتْحُ والظَّفَرُ؛ فوجَب أن يَقْتديَ بهم في هذه الطريقةِ ؛ فقال:

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا.

أي: ولقد كذَّبَ الكفارُ رُسُلًا مِن قَبْلِك- يا محمَّدُ- قد أرسَلَهم اللهُ تعالى إلى أقوامِهم، فصَبَروا على ما نالَهم من التَكذيبِ والأذى البليغِ، ومَضَوْا في دَعْوتِهم وجِهادِهم، حتى أتاهم نَصْرُ اللهِ سبحانه، فإنْ يُكَذِّبْك- يا محمَّدُ- هؤلاءِ المشركونَ مِن قومِك، فلا يَحزُنْك ذلك، واصبِرْ على تَكذيبِهم إيَّاك وما تَلْقَى منهم من مَكروهٍ في ذاتِ الله عزَّ وجلَّ، كما صَبَروا .

وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ.

أي: ولا أحَدَ يَستطيعُ أنْ يُغيِّر كلماتِ الله تعالى التي كتَبَها، والتي أنزَلَها إلى نبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مِن وَعْدِه المؤمنينَ بالنَّصْرِ والظَّفَر على مَن خالَفَهم .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171- 173] .

وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] .

وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ.

أي: ولقدْ جاءَك- يا محمَّدُ- مِن قَصَص وأخبارِ مَن كان قبلك من الرُّسُل، كيف نُصِرُوا على مَن كذَّبَهم مِن قَوْمِهم؛ فلك فيهم أُسْوةٌ، وفي أخبارِهم تَثبيتٌ لفؤادِك، واطمئنانٌ لقَلْبِك .

كما قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود: 120] .

وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا سلَّى اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما هو في غايةِ الكِفايةِ في التَّسْليةِ؛ أخبره بأنَّه لا حِيلةَ له غيرُ الصَّبرِ؛ فإنَّه لا سبيلَ إلى إيمانِ هؤلاء الجاحدينَ إلا بمشيئةِ الله وإرادتِه ، فقال تعالى:

وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ.

أي: وإنْ كان عَظُم وشَقَّ عليك- يا محمَّد- إعراضُ هؤلاءِ المشركينَ عنك، وانصرافُهم عن تصديقِك فيما جئْتَهم به من الحَقِّ؛ لِحِرْصِك عليهم، ومَحبَّتِك لإيمانِهم .

فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ.

أي: فإنْ قدرْتَ- يا محمَّدُ- على أنْ تتَّخِذَ سِرْدابًا تنفُذُ به إلى باطِنِ الأرض، أو تطلُب مِصْعَدًا تصعَدُ به كالدَّرَجِ إلى السَّماءِ؛ لتأتِيَهم بعَلامةٍ وبرهانٍ على صِدْقِك، وصِحَّةِ قولِك؛ فافعلْ ذلك .

وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ.

أي: ولو شاءَ اللهُ تعالى لجَمَع أولئك المكذِّبينَ على طَريقِ الاستقامةِ؛ فهو القادِرُ على ذلك سبحانه، ولكنَّه لم يَفعَلْ؛ وَفقًا لِمَا تَقتضيه حِكمَتُه سبحانه وتعالى؛ فلا تكونَنَّ- يا محمَّدُ- مِن الذين لا يَعرفونَ حَقائِقَ الأمورِ، وسُنَنَ اللهِ تعالى في خَلْقه، فيَكْبُرَ عليك إعراضُهم، وتَحْزَنَ لعدمِ إيمانِهم

 

.

كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] .

الفوائد التربوية :

 

1- قوله: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا فيه التسليةُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإرشادٌ له إلى سُنَّتِه تعالى في الرُّسُل والأُمَم، أو هي تذكيرٌ بهذه السُّنَّة، وما تتضمَّنه مِن حُسْن الأُسْوةِ، وقد ثبت بالتَّجارِبِ أنَّ التأسِّيَ يُهَوِّنُ المُصابَ، ويُفيدُ شيئًا من السَّلوةِ؛ فالإنسانُ إذا عَلِم أنَّ غَيرَه قدْ أصابَه ما أصابَه هانَ عليه الأمْرُ، ويَنبغي لنا أيضًا أنْ نتأسَّى ونتسلَّى أيضًا بما جرَى للرُّسُل عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فنَصبِرَ على أذَى مَن يقومُ أمامَ دَعوتِنا، والعاقبةُ للمُتَّقين

.

2- يُؤخَذ من قولِه تعالى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أنَّه ينبغي للدُّعاةِ أن يتسَلَّوْا برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإذا سَمِعوا ما يَكرهونَ من هؤلاءِ المكذِّبينَ المعاندينَ، فلْيَتَسلَّوْا به ويقولوا في أنفُسِهم وبألسِنَتِهم: إنَّ الله تعالى عالِمٌ بما تقولون وسيُجازيكم .

3- قوله تعالى: فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا فيه أنَّ فَرَج الله عزَّ وجلَّ يأتي مع شِدَّةِ الكَرْب؛ فكلَّما اشتدَّ الكَرْبُ، فاعلَمْ أنَّه دنا الفَرَجُ .

4- أفاد قوله تعالى: حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا أنَّه لا يُرجى النَّصرُ إلَّا مِن عندِ الله؛ لأنَّه قال: حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا، ولم يَقُلْ: حتى نَصَرَهم فلانٌ أو فلان، لهذا جعل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم يُناشِدُ ربَّه النَّصْرَ، في عريشٍ له، يومَ بَدْرٍ؛ حتى نصَره اللهُ- والحمدُ لله- فلا يُطلَبُ النصرُ إلَّا من الله، حتَّى في المجادلةِ العِلميَّة لا يُطلبُ النصرُ مِن المُوافِق، أو غيره، بل يُطلَبُ النَّصرُ مِن اللهِ، وإذا وصَلَ الإنسانُ إلى الحقِّ، فلْيَطلبْ مِن الله تعالى أنْ يَنصُرَه، أو يطلبْ مِن اللهِ تعالى أنْ يَهديَه صِراطَه المستقيمَ .

5- يُستَفاد من قوله تعالى: كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ أنَّ الإنسانَ يَنبغي له ألَّا يَهُونَ عليه إعراضُ النَّاسِ، بل يكونُ كبيرًا في نفْسِه، لكنْ لا تَعصُّبًا لِمَا هو عليه، ولكنْ من أجْلِ مَصلحةِ الآخرينَ .

6- أنَّ الهدايةَ والضَّلالةَ بيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لقوله: وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى .

7- في قولِه تعالى: وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى بيانُ حِكمةِ الله عزَّ وجلَّ في جَعْلِ الناس صِنْفينِ: مؤمنينَ وكافرينَ، وهذا أمرٌ لا بدَّ منه؛ لأنَّه لولا الكُفرُ لم يُعْرَفْ فضلُ الإيمانِ، ولولا الإيمانُ لم يُعرَفْ قُبحُ الكُفْرِ، فإنْ لم يكُن هناك أشياءُ متضادَّةٌ ما عُرِف فَضْلُ الأشياءِ المحمودة، ثم إنَّه لولا اختلافُ النَّاسِ في الإيمانِ والكُفْر ما قامتْ رايةُ الجهادِ؛ لأنَّهم كلَّهم إمَّا مؤمنونَ وإمَّا كافرون؛ فمن يجاهدُ؟! فلولا هذا الاختلافُ ما قام الأمرُ بالمعروفِ والنَّهْيُ عن المنُكَر؛ لأنَّ النَّاسَ سيكونون كلُّهم إمَّا على مُنكرٍ وإمَّا على معروفٍ، لولا هذا الاختلافُ ما قامتِ الدَّعوةُ إلى الله- عزَّ وجلَّ-؛ لأنَّهم إنْ كانوا مؤمنينَ كلُّهم لم يَحتاجوا إلى دعوةٍ، وإنْ كانوا كافرينَ ما دُعُوا، إذَن فَمِنَ الحِكْمةِ أنَّ الله جعل الخَلْقَ صِنفينِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قولُه تعالى: لَيَحْزُنُكَ فيه حِرْصُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّمَ على هِدايةِ الخَلْقِ، وأنَّه يَحْزُنُه إعراضُ النَّاسِ عن دِينِ اللهِ

.

2- في قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ليس نهيًا عن الحُزنِ- في حدِّ ذاتِه-؛ إذ لا شكَّ أنَّ الحُزنَ عندَ وقوعِ ما يَسوءُ مِن طَبْع البَشَرِ، الذي لا يُقدَرُ على الانفكاكِ عنه، فالنَّهيُ عنه- إذن- إنَّما هو نهيٌ عمَّا يَنشأُ عنه من الاسترسالِ المؤدِّي إلى الجَزَع المؤدِّي إلى عدَم الصَّبر، ونِسيانِ ما يُعزِّي؛ فهو من النَّهْيِ عن السَّبَب؛ للمبالغةِ في النَّهيِ عن المُسَبِّب .

3- في قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أنَّ الجحْدَ بآياتِ الله كُفْرٌ، ولو استيقَنَها الإنسانُ ما دام جَحَدها، وإنْ كان مؤمنًا بها في قَلْبِه؛ فإنَّه يَكفُر؛ لأنَّ أحكامَ الدُّنْيا تَجري على الظَّاهِر، فنحن نُكَفِّرُ مَن أظهَرَ الكُفرَ وإنْ كان مؤمنًا بقَلبِه، ونَسْكُتُ عمَّن أظْهَر الإسلامَ، ولو كان كافرًا بقَلْبِه؛ لأنَّ هذه هي أحكامُ الدُّنيا التي أوجبَها اللهُ عزَّ وجلَّ؛ إذ إنَّنا لا نعلَمُ ما في قلوبِ النَّاسِ .

4- قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ظاهِرُه يَقتضي أنَّهم لا يُكذِّبون محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولكنَّهم يَجحدونَ بآياتِ الله، واختَلَفوا في كيفيَّةِ الجَمْعِ بين هذينِ الأمرينِ على وجوه:

الوجه الأوَّل: أنَّ القَوْمَ ما كانوا يُكَذِّبونه في السِّرِّ، ولكنَّهم كانوا يُكذِّبونَه في العلانِيَة، ويَجْحدون القرآنَ والنُّبوَّةَ.

الوجه الثاني: أنَّهم لا يقولون: إنَّك أنتَ كذَّاب؛ لأنَّهم جرَّبوك الدَّهْرَ الطَّويلَ، والزَّمانَ المديدَ وما وجَدُوا منك كذِبًا البتَّةَ، وسَمَّوْكَ بالأمينِ؛ فلا يقولون فيك: إنَّك كاذبٌ، ولكنْ جَحَدوا صِحَّةَ نبوَّتِك ورسالتِك؛ إمَّا لأنَّهم اعتقدوا أنَّ محمَّدًا عرَضَ له نوعُ خبلٍ ونُقصان؛ فلأجْلِه تخيَّل مِن نفْسِه كونَه رسولًا مِن عند الله، وبهذا التقدير: لا ينسبونَه إلى الكَذبِ، أو لأنَّهم قالوا: إنَّه ما كذَبَ في سائرِ الأمور، بل هو أمينٌ في كلِّها إلَّا في هذا الوجهِ الواحدِ.

الوجه الثَّالث: أنَّه لَمَّا ظهرتِ المعجزاتُ القاهرةُ على وَفْقِ دعواه، ثم إنَّ القوم أصرُّوا على التكذيبِ، فاللهُ تعالى قال له: إنَّ القَوْمَ ما كذَّبوك، وإنَّما كذَّبوني. وليس المقصودُ منه نفيَ تكذيبِه، بل المقصودُ تعظيمُ الأمرِ، وتفخيمُ الشَّأن، كقولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] .

والوجه الرَّابع: أنْ يُقال: المرادُ من قوله: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ أي: لا يَخصُّونَك بهذا التَّكذيبِ؛ بل يُنْكرونَ دَلالةَ المُعْجِزة على الصِّدْق مطلقًا، وهو المرادُ من قوله: وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ، والمرادُ أنَّهم يقولونَ في كلِّ مُعجزةٍ: إنَّها سِحْرٌ، ويُنْكرون دَلالةَ المُعجزةِ على الصِّدقِ على الإطلاقِ، فكان التقديرُ: إنَّهم لا يُكَذِّبونك على التَّعيينِ، بل القومُ يُكذِّبون جميعَ الأنبياءِ والرُّسُل، واللهُ أعلم .

5- في قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ سؤالٌ: ما الحِكْمَةُ من إرسالِ الرُّسُل مع تكذيبِهم؟

والجوابُ: أنَّ ذلك لإقامةِ الحُجَّةِ عليهم، أي: على المُكذِّبين؛ لأنَّ هؤلاء المكَذِّبين لو لم يَأتِهم رسولٌ لقالوا: ربَّنا لولا أرسلْتَ إلينا رسولًا، ولو لم يأْتِهم رسولٌ لكان لهم حُجَّةٌ؛ ولهذا قال الله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ إلى قوله تعالى: رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل [النساء: 163-165] .

6- في قوله: حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا بِشارةٌ للرَّسولِ مؤكِّدةٌ للتَّسليةِ بأنَّه سَينصُره على المكذِّبين الظَّالمينَ مِن قَومِه، وعلى كُلِّ من يكذِّبُه ويُؤْذيه من أمَّة البَعْثَة، وإيماءٌ إلى حُسْنِ عاقبة الصَّبر؛ فمَن كان أصبَرَ كان أجدَرَ بالنَّصْرِ، إذا تساوتْ بين الخَصْمينِ سائرُ أسبابِ الغَلَب والقَهْر .

7- يُستَفاد من إضافةِ الكَلِمات إلى الاسْمِ الأجَلِّ الأَعظَمِ في قوله: وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ الشعورُ بعلَّة القَطعِ بأنَّه لا مبدِّلَ لها؛ لأنَّ المُبَدِّلَ لكلماتِ غيرِه لا بُدَّ أن تكون قُدرَتُه فوق قُدْرَتِه، وسلطانُه أعْلَى من سلطانِه .

8- أنَّه لا أحَدَ يبدِّلُ كلماتِ الله؛ فإذا قدَّر اللهُ النَّصرَ، فلا أحَدَ يمنَعُه، وإذا قدَّرَ الخِذلان فلا أحَدَ يمنعه؛ أمَّا الكلماتُ الكونيَّةُ فعدمُ المُبَدِّل لها ظاهرٌ؛ لأنَّ الكلماتِ الكونيَّةَ لا بدَّ أن تقعَ، كن فيكون، ولا أحدَ يَستطيعُ أنْ يُبدِّلها، فإذا قال اللهُ تعالى: (كُنْ) لنُزولِ المَطَرِ نَزَل، ولا أحد يمنَعُه، وإذا قال: (كُنْ) لامتناعِ المَطَرِ امتنعَ، ولا أحدَ يُنْزِله. أمَّا الكلماتُ الشَّرعيَّة فمِنَ النَّاسِ مَن يُبَدِّلها، لكنَّ تبديلَه هذا باطلٌ، والباطِلُ لا وجودَ له شرعًا؛ قال تعالى: وَلَا مُبَدِّلَ لَكَلِمَاتِ اللهِ .

9- قوله تعالى: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ فيه تَطْمينٌ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ اللهَ تعالى ينصرُه، كما نصَر مَن قبلَه من الرُّسُل .

10- يُستَفادُ من قوله: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ بيانُ شِدَّةِ حِرصِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على هِدايَتِهم، بأنَّه لو قَدَرَ على أنْ يتَكَلَّفَ النُّزُولَ إلى تَحتِ الأرضِ أو فوقَ السَّماءِ فيأتِيَهم بما يُؤمنون به؛ لفَعَلَ .

11- أنَّ الله سبحانه وتعالى قد يُبَيِّن الشَّيءَ المستحيلَ بِضَرْب مَثَلٍ له، دون أن يذكُرَه بعَينِه؛ وجْهُه أنَّ اللهَ قال: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، يعني: فافْعَلْ، بدلًا من أن يقول: وإنْ كان كبُر عليك إعراضُهم فإنَّهم لن يؤمنوا، ولأنَّ هذا هو المتوقَّع، لكنَّ الله تعالى ضرب مثَلًا حتى يكون مُقْنِعًا للرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام ولغيره أيضًا .

12- يُستَفاد من قولِه تعالى: فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أنَّه لا بدَّ لكلِّ نبيٍّ من آيةٍ، وهذا مِن حِكمةِ الله عزَّ وجلَّ، أرأيتَ لو جاء رجلٌ في غيرِ هذه الأُمَّة، وادَّعى أنَّه رسولٌ، وقال: أنا رسولٌ ومنهجي كذا، وعقيدتي كذا، وعبادتي كذا، فأطيعوني بدون أيِّ آيةٍ، هل يكونُ هذا منَ الحِكمةِ؟ الجوابُ: لا، ومَن كَذَّبَه فهو معذورٌ، وإلَّا لكان كلُّ كاذبٍ دجَّالٍ يدَّعِي أنَّه نبيٌّ، وربَّما يدَّعي أنَّه ربٌّ، فالآياتُ فيها نصرٌ للرُّسُل، ورحمةٌ بالمُرْسَل إليهم؛ حتى يُؤمِنوا عن يقينٍ .

13- يُستَفاد من قَولِه تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللهُ إثباتُ مرتبةٍ مِن مراتبِ الإيمانِ بالقَدَرِ، وهي المشيئةُ، وأنَّ اللهَ تعالى قد شاءَ جميعَ أفعالِ عِبادِه، ومراتِبُ القَدَر أربعةٌ، وهي: العِلْم، والكِتابةُ، والمشيئةُ، والخَلْق .

14- في قولِه تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى قد يَستشكِلُ بعضُهم أنَّه ما دُمْنا نقول: إنَّ الكُفْر بمشيئةِ الله، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ بحِكْمته قَسَّم النَّاسَ إلى قِسْمينِ؛ أفلا يقولُ الكافِرُ إنَّ في هذا ظلمًا لي؟

والجوابُ: لا، ليس ظلمًا، وليس له أنْ يَحتجَّ بالقَدَر على ما هو فيه؛ وذلك للآتي:

أولًا: أنَّ مَنْعَ اللهِ الكافرَ مِن الإيمان ليس ظلمًا؛ لأنَّ هذا حقُّه تعالى وفضلُه، وفضلُ اللهِ يُؤتِيه مَن يشاءُ.

ثانيًا: لا حُجَّةَ للكافِر ولا للعاصي على كُفره ومَعْصِيَتِه بقَدَر اللهِ تعالى؛ لأنَّه يُقْدِمُ على ذلك باختيارِه، من غيرِ أنْ يَعلمَ أنَّ الله تعالى قَدَّرَه عليه؛ إذ لا يَعلمُ أحدٌ بقَدَر اللهِ إلَّا بعد وقوعِ مَقدورِه؛ فكيف يصِحُّ الاحتجاجُ بحُجَّةٍ لا يعلمُها المحتَجُّ حين إقدامِه على ما اعتذرَ بها عنه؟!

ثالثًا: إنْ كان حقًّا محتجًّا بالقدَرِ؛ فلماذا لم يُقْدِمْ على الطَّاعةِ مُقدِّرًا أنَّ الله تعالى قد كتَبَها له؛ فإنَّه لا فَرْقَ بينها وبين المعصِيَةِ في الجَهلِ بالمقدورِ قبلَ صُدُور الفِعْل منه؟! ولهذا لَمَّا أخْبَر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الصَّحابةَ بأنَّ كُلَّ واحدٍ قد كُتِبَ مَقْعَدُه من الجنَّة ومَقْعَدُه من النَّار، قالوا: أفلا نَتَّكِلُ، ونَدَعُ العملَ؟ قال: ((اعْمَلوا؛ فكُلٌّ ميَسَّرٌ لِما خُلِقَ له)) .

رابعًا: أنَّ هذا الكافرَ أو العاصِي إذا أرادَ سفرًا، وكان له طَريقانِ؛ أحدُهما مَخُوفٌ وصعبٌ، والآخَر آمِنٌ سَهْلٌ، فإنَّه سيسلُك الآمِنَ، ولا يُمكن أن يَسلُكَ الأوَّلَ ويقول: إنَّه مُقدَّرٌ، وإلَّا لعُدَّ مَجنونًا؛ فلِمَ يَسلكُ- إذنْ- طريقَ الكفر والمعاصي ثم يحتجُّ بالقدَرِ ؟!

15- شِدَّة الخِطابِ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله تعالى: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ،  فيه سرٌّ لطيفٌ، وهو تبعيدُ جنابِه الكريمِ عن الحِرصِ على ما لا يكونُ، والجزعِ في مواطِنِ الصَّبرِ، ممَّا لا يليقُ إلَّا بالجاهِلين، وهذا النهيُ لا يَقتضي إقدامَه على مِثلِ هذه الحالةِ كما أنَّ قوله: وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب: 48] لا يدلُّ على أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أطاعَهم وقَبِلَ دِينَهم، والمقصود: أنَّه لا يَنبغي أن يَشتدَّ تحسُّرُك على تَكذيبهم، ولا يجوزُ أن تجزعَ مِن إعراضِهم عنك؛ فإنَّك لو فعلتَ ذلك قرُبَ حالُك مِن حالِ الجاهلِين

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ

- استئنافٌ ابتدائيٌّ مسُوقٌ لتسليَةِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الحُزْن الذي يَعتريهِ ممَّا حُكِيَ عن الكَفَرة من الإصرارِ على التَّكذيبِ، والمبالغَةِ فيه، ببيانِ أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بمكانةٍ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ

.

- وقَدْ هنا تُفيدُ التَّحقيقَ للخَبَرِ الفِعليِّ نَعْلَمُ؛ فإنَّ (قَدْ) في تَحقيقِ الجُملةِ الفِعليَّةِ بمنزلةِ (إنَّ) في تَحقيقِ الجُملةِ الاسميَّةِ، ومعنى التَّحقيقِ مُلازِمٌ له، سواءٌ كان مدخولُه ماضيًا أو مضارعًا على الأَصَحِّ ، والقاعدةُ: أنَّ (قد) إذا دخَلَتْ على المضارعِ المسنَدِ إلى اللهِ تعالى، فهي للتَّحقيقِ دائمًا .

- قوله: نَعْلَمُ عَبَّر بالمضارِعِ؛ لأنَّ المرادَ الاتِّصافُ بالعِلْم واستمرارُه، مِن غيرِ نظَرٍ إلى الزَّمانِ، وعَدَل عن الماضِي؛ لئلَّا يُظَنَّ الاختصاصُ به، فالمرادُ تحقُّقُ التجدُّد؛ لتعلُّقِ العِلْم بتجدُّدِ الأقوالِ .

- وقوله تعالى: الَّذِي يَقُولُونَ، أي: أقوالُهم الدالَّةُ على عدَمِ تَصديقِهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما دلَّ عليه قولُه بعده: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ؛ فعَدَل سبحانه عن ذِكْر اسْمِ التَّكذيبِ ونَحْوه إلى اسمِ الموصولِ وصِلَتِه، فقال: الَّذِي يَقُولُونَ ولم يَقُلْ: (تَكذيبُهم)؛ تَنزيهًا للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن ذِكْر هذا اللَّفْظِ الشَّنيعِ في جانبِه؛ تلطُّفًا معه، والَّذِي يَقُولُونَ هو قولهم: ساحرٌ، مجنونٌ، كاذبٌ، شاعرٌ؛ فعَدَلَ عن تفصيلِ قولهم إلى إجمالِه؛ إيجازًا، أو تحاشيًا عن التَّصريحِ به في جانَبِ المنزَّهِ عنه .

- والفاءُ في قوله: فَإِنَّهُمْ يَجوزُ أنْ تكونَ للتَّعليلِ، والمعلَّل محذوفٌ دلَّ عليه قوله: قَدْ نَعْلَمُ، أي: فلا تَحْزَنْ؛ فإنَّهم لا يُكذِّبونك، أي: لأنَّهم لا يُكذِّبونك. ويجوزُ كونُها الفَصيحةَ ، والتقديرُ: فإنْ كان يَحزنُك ذلك لأجْلِ التكذيبِ فإنَّهم لا يُكذِّبونك. ويجوزُ أنْ تكونَ للتفريعِ على قَدْ نَعْلَمُ، أي: فعِلْمُنا بذلك يتفرَّعُ عليه أنَّا نُثبِّتُ فؤادَك، ونشرَحُ صدرَك بإعلامِك أنَّهم لا يكذِّبونك، وأنْ نُذكِّرَك بسُنَّة الرُّسُلِ مِن قبلِك، ونُذكِّرك بأنَّ العاقبةَ هي نصرُك- كما سبَق في عِلم اللهِ .

- قوله: وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ فيه استدراكٌ لدَفْع أن يُتَوَهَّمَ من قولِه: فَإِنَّهُمْ لَا يُكْذِّبُونَكَ أنَّهم لم يَصدُرْ منهم أصْلُ التَّكذيبِ، مع أنَّ الواقِعَ خِلافُ ذلك؛ فاستدرَكَ عليه بأنَّهم يَجْحَدونَ بآياتِ الله، فيَظْهَر حالُهم كحالِ مَن يَنْسُب الآتيَ بالآياتِ إلى الكَذِب، وما هُم بمكَذِّبينَ في نُفوسِهم .

- وفيه: إقامَةُ الظَّاهِرِ مَقامَ المُضْمَر- حيثُ عدَل عن الإضمارِ (ولكنَّهم) إلى قولِه: ولكنَّ الظَّالِمِينَ-؛ للإسهابِ في ذمِّهم، وللتَّصْريحِ بلَفْظِ الظُّلْم وتَسْمِيَتِهم به؛ ليكونَ سِمةً يَتميَّزونَ بها؛ زيادةً في تأكيدِ ذَمِّهم، وللدَّلالةِ على أنَّ الظُّلْم هو الحامِلُ لهم على الجُحُود، وإعلامًا بأنَّ شأنَ الظالمِ الجَحدُ بالحُجَّة، وتَسجيلًا عليهم بالرُّسوخِ في الظُّلْم- الذي جُحودُهم هذا فَنٌّ من فُنونِه- وأنَّ هذا الظلم سَجيَّتُهم .

- وفي قوله: بِآيَاتِ اللَّهِ الالتفاتُ إلى الاسمِ الجليلِ لتربيةِ المهابَةِ، واستعظامِ ما أقْدَموا عليه من جحودِ آياته تعالى، وإيرادُ الجحودِ في مَوْرِد التكذيبِ؛ للإيذانِ بأنَّ آياتِه تعالى مِنَ الوضوحِ بحيث يشاهِدُ صِدْقَها كلُّ أحدٍ .

- وقوله: بِآيَاتِ اللَّهِ متعلِّقٌ بـ يَجْحَدُونَ وتقديمُه عليه؛ للقَصْرِ ولإفادةِ الحَصْرِ، كأنَّ المعنى: (وَلَكنَّ الظَّالمينَ لا يَجحدون إلَّا بآياتِ اللهِ)، وإلَّا فهم يَعترفونَ بأشياءَ كثيرةٍ إلَّا آياتِ اللهِ؛ فإنَّهم لا يَعتَرِفون بها .

- وأيضًا قدِّمَ قوله: بِآيَاتِ اللَّهِ على قولِه: يَجْحَدُونَ؛ لتناسُبِ رؤُوسِ الآياتِ .

- وفي هذه الآيةِ احتباكٌ؛ حيث حُذِفَ مِن الجملة الأولى سببُ الحُزنِ، وهو التَّكذيبُ؛ لدَلالةِ الثانية عليه، وحُذِفَ مِن الثَّاني النهيُ عن المسبِّبِ؛ لدَلالةِ الأولى عليه .

2- قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ

- قوله: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تصديرُ الكلامِ بلام القَسَم في قوله: وَلَقَدْ لتأكيدِ الخَبَر بتنزيلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منزلةَ مَن ذُهِلَ طويلًا عن تكذيبِ الرُّسُلِ؛ لأنَّه لَمَّا أحْزَنَه قولُ قَومِه فيه، كان كمن بَعُد عِلمُه بذلك .

- وفيه افتنانٌ في تسليتِه عليه الصَّلاة والسَّلام؛ فإنَّ عمومَ البليَّةِ ربما يُهوِّنُ أمرَها بعضَ تهوينٍ، وإرشادٌ له عليه الصَّلاةُ والسلام إلى الاقتداءِ بمن قبلَه من الرُّسُل الكرامِ عليهم الصَّلاة والسَّلام في الصَّبرِ على ما أصابَهم من أُمَمِهم من فنونِ الأَذِيَّة، وعِدَةٌ ضمنيَّةٌ له عليه الصَّلاة والسَّلام بمِثل ما مُنِحوه من النَّصْر .

- وتنكيرُ قوله: رُسُلٌ وتنوينُه؛ للتَّفخيمِ والتكثيرِ .

- قوله: حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا فيه التفاتٌ بديعٌ من ضميرِ الغَيبةِ إلى ضَميرِ المتكَلِّمِ؛ إذ قبله: بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ، ولو جرى الكلامُ على نَسَقِه لقيل: (نَصْرُه)، وفائدةُ هذا الالتفات- بالإضافَةِ إلى تطريةِ الكلامِ وتنويعِه-: إبرازُ الاعتناءِ بشأنِ النَّصْر، وأنَّه أضاف النَّصْرَ إلى ضميرِ المتكلِّم المُشْعِر بالعَظَمة، المُتَنَزَّل فيه الواحِدُ منزلَةَ الجمعِ، والحافِز على وجوب مداومَةِ الجهاد .

- وأيضًا إضافةُ النَّصرِ إلى ضَميرِ العَظَمة تُشْعِر بعظَمَة شأنِهِ، وتشيرُ إلى كونِه من الآياتِ المؤَيِّدَة لرُسُلِه .

- قوله: وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ اعتراضٌ مُقَرِّر لِمَا قبله من إتيانِ نَصْرِه إيَّاهم .

- والالتفاتُ إلى الاسم الجليل اللَّه؛ للإشعارِ بعلَّةِ الحُكم؛ فإنَّ الألوهيَّةَ من موجِباتِ ألَّا يُغالبَه أحدٌ في فعلٍ من الأفعالِ، وأنه لا يقعَ منه تعالى خُلْفٌ في قولٍ من الأقوالِ .

- قوله: وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ جملةٌ قَسميَّة جِيءَ بها لتحقيقِ ما مُنِحوا من النَّصْرِ، وتأكيدِ ما في ضِمْنِه من الوَعْد لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو لتقريرِ جميعِ ما ذُكِر من تكذيبِ الأُمَمِ، وما ترتَّب عليه مِن الأمورِ .

3- قوله: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ

- قوله: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ... كلامٌ مستأنَفٌ مسوقٌ لتأكيدِ إيجابِ الصَّبرِ المستفادِ من التَّسْليَةِ ببيانِ أنَّه أمْرٌ لا محيدَ عنه أصلًا .

- وتقديم الجارِّ والمجرورِ عَلَيْكَ؛ للاهتمامِ بالمقدَّم، والتشويقِ إلى المؤخَّر .

- قوله: فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ تنكير بِآيَةٍ؛ للتَّفخيمِ .

- قوله: نَفَقًا فِي الْأَرْضِ: فِي الْأَرْضِ صفةً لـنَفَقًا؛ لإفادةِ المبالغةِ في العُمْقِ، مع استحضارِ الحالةِ، وتَصويرِ حالةِ الاستطاعةِ؛ إذ مِن المعلومِ أنَّ النَّفَقَ لا يكون إلَّا في الأرضِ .

- قوله: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ تذييلٌ مفرَّعٌ على ما سَبَق.

- وأكَّد اللهُ تعالى الكلامَ في قوله: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ليَعْلَمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قد حتَّمَ اللهُ بافتراقِهم، فيَسْكُن إلى ذلك، ويُخالِف ما جُبِلَ عليه من شِدَّةِ الشَّفَقةِ عليهم .

- وعَدَل عن الأَمْرِ بالعِلْمِ- حيثُ لم يَقُلْ (فاعْلَمْ)-؛ لأنَّ النَّهيَ عن الجَهلِ يَتضمَّنُه؛ فيتقَرَّرُ في الذِّهن مرَّتينِ؛ ولأنَّ في النهي عن الجَهْل بذلك تحريضًا على استحضارِ العلمِ به، كما يُقال للمُتعَلِّم: لا تَنْسَ هذه المسألةَ .

- ولم يقلْ (لا تكُنْ جاهلًا) بل مِن قومٍ ينُسَبون إلى الجهلِ، تعظيمًا لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بأن لم يُسنِدِ الجهلَ إليه؛ للمبالغةِ في نفيِه عنه

=============

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (36 - 39)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غريب الكلمات :

 

دَابَّةٍ: الدابَّةُ هي كلُّ شيءٍ دبَّ على وجه الأرضِ، ويُستعْمَلُ في كلِّ حيوانٍ، وفي الحشراتِ أكثَر، وأصل (دبب): حركةٌ على الأرض أخَفُّ من المَشْيِ

.

أُمَمٌ: جمعُ أمَّة، أي: جماعة، وتُطلَق على المِلَّة، والسُّنة، والحِين، وأصل (أمم): الأَصلُ والمَرْجِع، والجماعة، والدِّين .

صُمٌّ: جمْعُ أصَمَّ، والصَّمَم فُقدانُ حاسَّة السَّمْع، وبه يُوصَفُ مَن لا يُصغي إلى الحقِّ، ولا يَقبَلُه، وأصْلُه: الصَّلابةُ، وقيل: السَّدُّ .

وَبُكْمٌ: جمْع أبْكَمَ، وهو الذي يُولَدُ أخرْسَ؛ فكُلُّ أبكمَ أخرَسُ، وليس كلُّ أخرَسَ أبكَمَ، والبَكم: آفةٌ في اللِّسان مانعةٌ من الكلام، وبه يُوصَفُ مَن لا ينطقُ بالحقِّ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه إنَّما يستجيبُ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أولئك الذين يَسمعونَ توجيهاتِه وأقوالَه سماعَ تدبرٍ وتفهُّم وتأمُّلٍ، وأمَّا الكُفَّارُ فيبعَثُهم اللهُ من قُبورهم، ثم يَعودونَ إليه؛ ليجازِيَهم على أعمالِهم.

وقال المشرِكونَ المُكَذِّبون برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لو أُنْزِلَ على محمَّدٍ علامةٌ من عند ربِّه تدلُّ على صِدقِه. فأَمَرَ اللهُ نبيَّه أن يُخبِرَهم أنَّه تعالى قادِرٌ على أن يُنَزِّلَ تلك العلامةَ، ولكنَّه سبحانَه يُنزِّل ما تَقتضيه حِكمتُه، ولكِنَّ أكثرَهم لا يَعلمونَ حِكَم الله في أفعالِه، ولا سُننَه في خلْقِه.

ثم بيَّنَ اللهُ تعالى لخَلْقِه بعضَ آياتِه الكونيةِ؛ ومنها أنَّه ما مِن دابةٍ تَدِبُّ على الأرضِ، ولا طائرٍ يَطيرُ في السَّماءِ، إلا وهي أممٌ مماثلةٌ لكم، ما أهمَلَ ولا أغفَلَ سبحانه في اللَّوْحِ المحفوظ شيئًا، ثمَّ إلى الله تعالى يُحْشَرونَ جميعًا.

ثم يُخبِرُ تعالى أنَّ المُكَذِّبين بحُجَج اللهِ تعالى هم صمٌّ عن سَماع الحَقِّ، بُكْمٌ عن النُّطْقِ به، وهم في ظُلُماتِ الكُفْر لا يُبْصِرونَ، وأنَّ مَن يُرِدِ اللهُ إضلالَه مِن خَلْقِه أضَلَّه، ومَن يُرِدْ هدايتَه فإنَّه يَدُلُّه للسَّيرِ على الطَّريقِ المُستقيمِ المُوصِل إليه.

تفسير الآيات :

 

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

هذه الآيةُ تعليلٌ لِمَا أفادَه قولُه: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ إلى قَولِهِ: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ من تأييسٍ مِن وُلوجِ الدَّعوةِ إلى أنْفُسِهم، أي لا يستجيبُ إلَّا الذين يسمعونَ دونَ هؤلاءِ الذين حَرَمهم فائدةَ السَّمعِ، وفهمَ المسموعِ

.

وأيضًا لَمَّا بيَّنَ الله تعالى في الآية السابقةِ أنَّه لو شاءَ لجَمَع النَّاسَ على الهُدى، ولكنَّه لم يَشَأْ أن يَجعلَ البَشَر مَفطورينَ على ذلك، ولا أنْ يُلْجِئَهم إليه إلجاءً بالآياتِ القاسرةِ، بل اقتضَتْ حِكْمَتُه، ومضَتْ سُنَّتُه في البَشر بأنْ يكونوا مُتفاوتينَ في الاستعدادِ، عاملينَ بالاختيارِ؛ فمِنهم مَن يختار الهُدى على الضَّلالِ، ومِنهم مَن يَستحِبُّ العَمى على الهُدى- بيَّنَ لنا في هاتينِ الآيتينِ أنَّ الأَوَّلينَ هم الذين يَنظرونَ في الآياتِ، ويَعقِلونَ ما يَسمعونَ من البيِّناتِ، وأنَّ الآخَرينَ لا يَسمعونَ ولا ينظرونَ، حتى كأنَّهم من الأمواتِ ، فقال عزَّ وجلَّ:

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ.

أي: إنَّما يستجيبُ لِدَعْوتِك- يا محمَّدُ- مَن يَعي الكلامَ بقلبِه ويَفْهَمُه، فينقادُ لك .

وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ.

أي: وأمَّا هؤلاءِ الكُفَّارُ المعْرِضون عنكَ- يا محمَّدُ- فهُم أمواتُ القُلوبِ، لا تُرجَى منهم استجابةٌ؛ كموتى الأجسادِ، وسيُخْرِجهم اللهُ تعالى من قُبُورهم جميعًا يومَ القيامةِ، ثمَّ يعودونَ إليه لمجازاتِهم .

وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (37) .

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

الآيةُ عَطْفٌ على جملة: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ...، وهذا عَوْدٌ إلى ما جاء في أوَّلِ السُّورةِ مِن ذِكْرِ إعراضِهم عن آياتِ الله بقولِه: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ، ثم ذَكَر ما تفَنَّنوا به من المعاذيرِ من قولِهِم: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: 8] وقوله: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام: 25] ، أي: وقالوا: لولا أُنزِلَ عليه آيةٌ، أي على وَفْقِ مُقْتَرحِهم، وقد اقترحوا آياتٍ مختلفةً في مجادلاتٍ عديدةٍ؛ ولذلك أجْمَلها الله تعالى هنا اعتمادًا على عِلْمِها عندَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ، فقال :

وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ.

أي: وقال المشركونَ المكذِّبونَ بالرَّسولِ؛ عِنادًا وتعنُّتًا: هلَّا أُنزِلَ على محمَّدٍ برهانٌ وعلامةٌ من عند رَبِّه، تدلُّ على صِدْقِه وصِحَّةِ رسالَتِه، بما لا لَبْسَ في الحقِّ مَعَهَا .

كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 90- 93] .

قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً.

قل- يا محمَّدُ- لأولئك المشرِكين: إنَّ الله قادرٌ على أن يُنزِّلَ ما تطلبونَ؛ فليس في قُدرتِه قصورٌ عن ذلك .

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.

أي: ولكِنَّ أكثرَ الذين يسألونَك آيةً- يا محمَّدُ- لا يدرونَ ما حِكمةُ تَرْكِ إنزالِ ذلك عليك؟ ولو عَلِموا السَّببَ لَمَا سألوك؛ فَهُم لِجَهْلِهم يَطلبونَ ما هو شرٌّ لهم من الآياتِ التي لو جاءتهم وَفْقَ ما طلبوا ثم لم يُؤْمِنوا بها، لعُوجِلوا بالعقوبةِ، وأُهْلِكوا هلاكَ استئصالٍ، كما وقَع للأُمَم السَّابقةِ؛ فهي سُنَّةُ الله التي لا تَبديلَ لها، والعادةُ التي أَجْراها القديرُ سبحانه وتعالى .

قال تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء: 59] .

وقال سبحانه: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء: 4] .

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا توعَّدَهم اللهُ بالآيةِ السَّابقةِ بأنَّهم إليه يُرجَعونَ، زاد أنْ سَجَّل عليهم جهْلَهم، فأخبَرَهم بما هو أعجَبُ ممَّا أنكروه، وهو إعلامُهم بأنَّ الحَشْرَ ليس يختصُّ بالبَشَر، بل يعُمُّ كلَّ ما فيه حياةٌ من الدوابِّ والطيرِ .

وأيضًا لَمَّا حكَى عن هؤلاء قولَهم: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ولم يَعْتبروا ما نَزَل مِن الآياتِ، وأُجِيبوا بأنَّ القُدرَةَ صالحةٌ لإنزالِ آيةٍ، ونُبِّهوا على جهلهم؛ حيث فرَّقوا بين آيةٍ وآيةٍ- أُخْبِروا أنَّهم أنفُسَهم وجميعَ الحيوانِ غيرِهم متماثلونَ في تعلُّقِ القُدْرةِ الإلهيَّةِ بالجميعِ؛ فلا فرْقَ بين خَلْقِ مَن كُلِّف وما لم يُكَلَّف في تعلُّق القدرةِ بهما، فكأنَّه قِيل: القُدرةُ تعلَّقَت بالآياتِ كُلِّها مُقْتَرَحِها وغيرِ مُقترَحِها، كما تعلَّقَت بخَلْقِكم، وخَلْقِ سائرِ الحيوان، فالإمكانُ هو الجامِعُ بين كُلِّ ذلك؛ ولذلك قال تعالى: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ، يعني في تَعَلُّقِ القُدرةِ بإيجادِها كتعلُّقها بإيجادِكم، وكذلك الآياتُ .

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم.

أي: كلُّ ما يَدِبُّ في الأرض، وكلُّ ما يَطيرُ في جَوِّ السَّماءِ بجَناحَيهِ، على اختلافِ أنواعِها كلِّها، إنَّما هي أجناسٌ وأصنافٌ مُصَنَّفةٌ مِثْلُكم أيُّها الناسُ؛ خلقْناها كما خلقْناكم، ورزقْناها كما رزقناكم، ويَعْرِف بعضُها بعضًا كما تَعرفونَ، ويَتزاوجونَ ويتناسلون، ولها آجالٌ محدَّدة، وهي أنواعٌ تختلفُ أيضًا في أحجامِها، وألوانِها، ولُغاتها، وقُدراتها، وغير ذلك؛ كما هو واقعٌ بينكم .

مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ.

أي: ما أهمَلْنا ولا أغفَلْنا في اللَّوحِ المحفوظِ شيئًا من الأشياءِ، بل جميعُ الأشياءِ صغيرِها وكبيرِها، حتى أصناف الدوابِّ وغيرها؛ مُثبَتةٌ في اللَّوحِ المحفوظِ على ما هي عليه، والجميعُ عِلْمُهم عندَ الله تعالى، لا يَنسَى واحدًا منها مِن رِزقه وتَدبيرِه .

كما قال سبحانه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] .

ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ.

أي: إنَّ كلَّ دابَّة وكُلَّ طائرٍ محشورٌ إلى الله تعالى بعد انقضاء هذه الحياةِ الدُّنيا، وكذلك جميعُ الأُمَم تُحْشَر وتُجمَع إلى الله يومَ القيامةِ، فيُجازيهم بعَدْلِه وإحسانِه سبحانه .

وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (39).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ الله تعالى مِن حالِ الكُفَّار أنَّهم بَلَغُوا في الكُفْر إلى حيث كانت قلوبُهُم قد صارت مَيِّتةً عن قَبولِ الإيمانِ بقوله: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ- ذكر هذه الآيةَ تقريرًا لذلك المعنى .

وأيضًا لَمَّا ذَكَرَ تعالى في قولِه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ في كَونِها دالَّةً على كَونِها تحت تدبيرِ وتقديرِ حكيمٍ قدير، وفي أنَّ عنايةَ اللهِ محيطةٌ بهم، ورَحْمَتَه واصلةٌ إليهم- قال بَعدَه: والمكَذِّبونَ لهذه الدَّلائلِ والمُنْكِرون لهذه العجائب صُمٌّ لا يَسمعونَ كلامًا البتَّةَ، بُكْمٌ لا يَنطقون بالحَقِّ، خائِضونَ في ظُلُماتِ الكُفرِ، غافلونَ عن تأمُّلِ هذه الدلائلِ .

وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ.

أي: إنَّ المكَذِّبينَ بِحُجَج الله وأدِلَّتِه، لا يَسمعون الحَقَّ، ولا ينطقونَ به، وهُم في ظُلُماتِ الكُفْر، لا يُبْصرونَ، فلا يَعْتبرونَ ولا يهتدون .

مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.

أي: مَن يَشَأِ اللهُ تعالى إضلالَه مِن خَلْقِه أَضَلَّه، ومَن يَشَأِ اللهُ تعالى هدايَتَه، فإنَّه يَهدِيه إلى الطَّريقِ المستقيم الذي لا عِوَج فيه، فهو سبحانه المُنْفَردُ بالهِدايةِ والإضلالِ، بِحَسَب ما يَقتضيه فَضْلُه وحِكْمَتُه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- يُستَفاد مِن قَولِه تعالى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أنَّه كلَّما صار الإنسانُ أَسْمعَ لكلامِ الله ورسولِهِ صارت استجابتُه أقوى، وذلك مأخوذٌ من القاعدةِ المعروفةِ (أنَّ ما عُلِّقَ على وَصْفٍ فإنَّه يزدادُ قُوَّةً بِحَسَب هذا الوَصْفِ الذي عُلِّقَ عليه الحُكْم)

.

2- أنَّ الإنسانَ يجِبُ أن يَعرِفَ قَدْرَ نَفْسِه؛ فهو بالنِّسبةِ لعَظَمةِ الله- عزَّ وجلَّ- كالنَّملةِ؛ لقوله: أُمَمٌ أَمْثَالُكُم إذَن لا تترفَّعْ ولا تتعالَ؛ فما أنتَ إلَّا مِثلُ هذه الدوابِّ بالنِّسبةِ لعظمةِ الله عزَّ وجلَّ، وإن كانَ الله عزَّ وجلَّ قال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70] ، أي: لم يُفَضِّلْ بني آدَمَ على ما خَلَقَ اللهُ، بل على كثيرٍ مِمَّا خَلَقَ الله .

3- قوله تعالى: أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ فيه تَنبيهٌ للمُسْلمين على الرِّفقِ بالحيوانِ؛ فإنَّ الإخبارَ بأنَّها أُمَمٌ أمثالُنا تنبيهٌ على المشاركةِ في المخلوقيَّةِ وصفاتِ الحيوانيَّة كلِّها .

4- قَوْله تعالى: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فيه إشارةٌ إلى التَّحذيرِ من الاعتداءِ على الحيواناتِ بما نهى الشَّرْعُ عنه من تَعذِيبها، وإذا كان يُقْتَصُّ لبَعضِها من بعضٍ وهي غيرُ مُكَلَّفةٍ، فالاقتصاصُ مِن الإنسانِ لها أَوْلى بالعَدْلِ .

5- يُستَفادُ من قوله: مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أنَّ مَن شاءَ الله هِدايتَه اهتدَى، وأنَّ مَن شاء إضلالَه ضَلَّ، ويتفرَّعُ على هذا أنْ يلجَأَ الإنسانُ إلى ربِّهِ تبارك وتعالى بطَلَبِ الهِدايةِ والاستعاذَةِ من الغَوَايةِ؛ لأنَّ الأمرَ بِيَدِ الله

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قولُه تعالى: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ فيه قدرةُ الله عزَّ وجلَّ الكاملةُ، وذلك ببعثِ الموتَى، فإنَّهم يُبْعَثونَ كُلُّهم في لحظةٍ واحدةٍ، والدَّليلُ قَوْلُ الله عزَّ وجلَّ: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 13- 14] وقوله: إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس: 53] ، وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 50]، وليس البَعثُ كالإحياءِ يكون شيئًا فشيئًا، يخرجُ المخلوقُ صغيرًا ثم ينمو حتى يتكاملَ

.

2- الإتيانُ بفعل النُّزول في قولِه تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يدلُّ على أنَّ الآيةَ المسؤولةَ مِن قَبيل ما يأتي مِن السَّماء، مثلُ قولِهم: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: 8] ، وقولهم: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ [الإسراء: 93] ، ونحو ذلك .

3- في قولِه تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ طَلَبُهم للآيَةِ والآياتِ- مع وُجُودِ القرآنِ وما فيه من الآياتِ البَيِّناتِ- سَبَبُه محاولةُ تَعجيزِ الرَّسولِ، لا كَوْنُه هو الدَّليلَ الذي يرونَه مُوصِلًا إلى المدلولِ، وقد قال تعالى لرَسولِهِ في هذه السورة: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: 7] .

4- استكبارُ هؤلاءِ وترَفُّعُهم؛ حيثُ قالوا: مِنْ رَبِّهِ، ولم يقولوا: (مِنْ رَبِّنَا)، ولم يقولوا: (مِنَ الله)، كأنَّهم في جانبٍ، واللهُ تعالى ورسولُه صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم في جانبٍ آخَرَ .

5- انتصارُ اللهِ عزَّ وجلَّ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّه دافَعَ عنه حِينما قالوا: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ولا شكَّ أنَّ هذا يُشكِّلُ عبئًا على الرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام؛ فاللهُ تعالى يُجيبُ عنه انتصارًا له؛ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً .

6- قوله: إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً فيه إثباتُ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وهذه القُدرةُ قدرةٌ كاملةٌ، لا يَلْحَقُها شيءٌ من العَجْزِ؛ لقولِ الله تبارَك وتعالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر: 44] ، فلِكمالِ عِلْمِه وقُدرَتِه لا يُعْجِزُه شيءٌ؛ لأنَّ العجزَ عن الشَّيءِ سَبَبُه إمَّا الجهلُ وإمَّا الضَّعفُ، فاللهُ عليمٌ قديرٌ، وهذه القدرةُ تتعلَّقُ بكلِّ شيءٍ؛ فهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ .

7- أنَّ أفعالَ الله عزَّ وجلَّ مقرونةٌ بمشيئتِه؛ بمعنى: أنَّ ما لم يَشَأْ لم يكُنْ، وإنْ كان قادرًا عليه؛ لقوله: قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً، يعني: ولكنَّه لم يَشَأْ .

8- قولُه تعالى: وَلِكَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَنبيهٌ على أنَّ فيهم مَن يَعلَمُ ذلك، ولكنَّه يُكابِرُ، ويُظْهِرُ أنَّه لا يَتِمُّ عنده الاستدلالُ إلَّا على نحوِ ما اقترحوه .

9- خَصَّ ما في الأرضِ بالذِّكْرِ دون ما في السَّماء في قوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ وإنْ كان ما في السَّماءِ مخلوقًا له؛ لأنَّ الاحتجاجَ بالمُشاهَد أظهَرُ وأَوْلى ممَّا لا يُشاهَد .

10- المقصودُ من قوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ الدَّلالةُ على كمالِ قُدرةِ الله تعالى، وشُمُولِ عِلْمِه، وسَعَةِ تَدبيرِه؛ ليكون كالدليلِ على أنَّه قادِرٌ على أن يُنَزِّلَ آيةً، وهي التي ذَكَرَها في الآيةِ التي تَسْبِقُها مباشرةً في قوله عزَّ وجلَّ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .

11- في قوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ حصْرُ الحيوانِ في هاتين الصِّفتينِ، وهما: إمَّا أن يَدِبَّ، وإما أن يطيرَ، ولكنْ قد يقول قائلٌ إنَّ هناك مِن الحيوانات ما لا يدخلُ في هذينِ القِسْمينِ؛ مثل: حِيتانِ البَحرِ، وسائرِ ما يَسبَحُ في الماءِ، ويَعيش فيه؛ والجوابُ: أنَّها لا يَبعُدُ أنْ تُوصَفَ بأنَّها دابَّةٌ؛ مِن حيثُ إنَّها تدِبُّ في الماء؛ أو هي كالطَّيرِ؛ لأنَّها تسبحُ في الماءِ كَسَبْح الطيرِ في الهواء، إلَّا أنَّ وَصْفَها بالدَّبِّ أقربُ إلى اللُّغة مِن وَصْفِها بالطَّيَرانِ .

12- لم يُبَيِّنِ اللهُ لنا وَجهَ المماثلة بين أنواعِ الأمم المختلفةِ في قوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ؛ لأجل أنْ نَستعمِلَ حواسَّنَا وعُقولَنا في البَحْثِ المُوصِل إلى ذلك .

13- أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يُهمِلْ شيئًا في اللَّوحِ المحفوظ، فكلُّ شيءٍ كَتَبَه؛ لقوله: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ولأنَّ الله تعالى أمَرَ القَلَمَ أن يكتبَ ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ ، فالكتابُ الأَوَّل قد حوى جميعَ الكائناتِ، وهذا أحدُ مراتِبِ القضاءِ والقَدَر؛ فإنَّها أربعُ مراتِبَ: عِلْمُ الله الشامِلُ لجميعِ الأشياء، وكتابُه المحيطُ بجميع الموجوداتِ، ومشيئتُه وقُدرتُه النافِذَةُ العامَّة لكلِّ شيءٍ، وخَلْقُه لجميعِ المخلوقاتِ، حتى أفعال العباد .

14- قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ جَمْعُ الظُّلماتِ جارٍ على الفَصيح مِن عَدَمِ استعمالِ الظُّلْمة مُفردًا. وقيل: للإشارةِ إلى ظُلْمةِ الكُفْرِ، وظُلْمةِ الجَهْل، وظُلمةِ العناد ، ولعلَّ اللهَ جَمَعَها إشارةً إلى أنَّ المُكَذِّبَ لا يَنتفعُ ببصرٍ ولا ببصيرةٍ؛ وذلك أنَّهم لَمَّا لم يَنتفعوا بحياتِهم ولا بأسماعِهم ولا نُطْقِهم ولا أبصارِهم ولا عُقُولِهم- كان كلُّ ذلك منهم عَدَمًا

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ

- السِّينُ والتَّاءُ في قولِه: يَسْتَجِيبُ زائدتانِ للتَّأكيدِ

، ومفهومُ الحَصر بـإِنَّمَا مُؤْذِنٌ بإعمالِ مَنطوقِه الذي يُومِئُ إلى إرجاءٍ بعد تأييسٍ بأنَّ الله جعل لقومٍ آخرينَ قلوبًا يفقهون بها، وآذانًا يسمعون بها؛ فأولئك يستجيبونَ .

- قوله: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ

على القَولِ بأنَّ قولَه: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مُقابلٌ لقولِه: الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، أي: وأَمَّا المُعرِضون عنك فهُم مِثلُ الموتَى فلا يَستجيبون؛ فيكون حَذَفَ مِن الكلامِ ما دَلَّ عليه السِّياقُ؛ فإنَّ الذي لا يَسمَعُ قد يكونُ فُقدانُ سَمْعِه مِن عِلَّةٍ كالصَّمم، وقد يكونُ مِن عَدَمِ الحياةِ، وحَسُنَ عطْفُ جملةِ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ على جملةِ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، وتَضمَّن عطْفُها تَعريضًا بأنَّ هؤلاءِ كالأمواتِ لا تُرجَى منهم استجابةٌ، وتَخلَّصَ إلى وَعيدِهم بأنَّه يَبعثُهم بَعدَ موتِهم، أي: لا يُرجَى منهم رُجوعٌ إلى الحَقِّ إلى أن يُبعَثوا، وحينئذٍ يُلاقُون جَزاءَ كُفرهم، ويكونُ قولُه: ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ زيادةً في التهديدِ والوعيدِ. ويجوزُ أنْ يكونَ الوقفُ عِندَ قولِه تعالى: يَبْعَثُهُمُ اللهُ وتمَّ التمثيلُ هنالك، ويكون قولُه: ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ استِطرادًا تَخلَّصَ به إلى قَرْعِ أسماعِهم بإثباتِ الحَشْرِ الذي يقَعُ بعدَ البعثِ الحقيقيِّ .

- وفيه: تَمثيلٌ لاختِصاصِه تعالى بالقُدرةِ على تَوفيقِهم للإيمانِ، باختِصاصِه تعالى بالقُدرةِ على بَعْثِ الموتَى مِن القُبورِ .

2- قوله: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً

- لَوْلَا حرف تحضيضٍ بمعنى (هَلَّا)، والتحضيضُ هنا لقَطْعِ الخَصْمِ وتعجيزِه .

- وتَنكيرُ آيَةً في قولِه تعالى: قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً؛ للتفخيمِ والتَّهويلِ .

- وفي التعرُّضِ لعنوانِ ربوبِيَّتِه تعالى له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في قوله: مِنْ رَبِّهِ إشعارٌ بالعِليَّة، بطريقِ التعريضِ بالتهكُّمِ من جِهَتِهِم .

- وإظهارُ الاسمِ الجليلِ اللَّهَ في قوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ- حيثُ لم يقُلْ: (قُلْ إنَّهُ قادرٌ)-؛ لتربيةِ المهابة، مع ما فيه مِن الإشعارِ بِعِلَّةِ القدرةِ الباهرةِ .

- وقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مُستعملٌ في معناه الكِنائيِّ، وهو انتفاءُ أن يُريد اللهُ تعالى إجابةَ مُقْتَرَحِهم؛ لأنَّه لَمَّا أرسَلَ رسولَه بآياتٍ بيِّناتٍ حصل المقصودُ من إقامةِ الحُجَّةِ على الذين كفروا، فلو شاء لزادَهم من الآياتِ؛ لأنَّه قادِرٌ .

3- قوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ

- قوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ كلامٌ مستأنَفٌ مَسُوقٌ لبيانِ كمالِ قُدرَتِه عزَّ وجلَّ، وشمولِ عِلْمِه، وسَعَةِ تدبيرِه؛ ليكونَ كالدَّليلِ على أنَّه تعالى قادِرٌ على تنزيلِ الآيةِ .

- وزيادةُ مِنْ لتأكيدِ الاستِغراقِ .

- وقوله: فِي الْأَرْضِ صِفةٌ قُصِد منها إفادةُ التَّعميمِ والشُّمولِ؛ بذِكر اسمِ المكانِ الذي يَحوي جميعَ الدوابِّ، وهو الأرضُ، وكذلك وصف طَائِرٍ بقوله: يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ قُصِدَ به الشُّمولُ والإحاطةُ؛ لأنَّه وَصْفٌ آيِلٌ إلى معنى التوكيدِ؛ لأنَّ مَفادَ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ أنَّه طائِرٌ، كأنه قيل: ولا طائرٌ ولا طائرٌ، والتوكيدُ هنا يُؤكِّد معنى الشُّمولِ الذي دلَّتْ عليه مِن الزَّائدة في سِياقِ النَّفيِ، فحصَل من هذينِ الوصفينِ تقريرُ معنى الشُّمولِ الحاصلِ مِن نَفْي اسْمَيِ الجنسينِ، ونكتةُ التوكيدِ أنَّ الخَبَرَ لغرابَتِه عندهم، وكَونِه مَظِنَّةَ إنكارِهم- أنَّه حقيقٌ بأنْ يؤكَّدَ؛ ففائدةُ زِيادةِ قوله: فِي الْأَرْضِ مع أنَّها لا تكونُ إلَّا في الأرضِ، وقوله: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ: زيادةُ التعميمِ والإحاطةِ، والتأكيدُ، كأنَّه قيل: وما مِن دابَّةٍ قطُّ في جميع الأرَضينَ السَّبْعِ، وما مِن طائرٍ قطُّ في جوِّ السَّماء من جميعِ ما يطير بجناحَيْه إلَّا أمَمٌ أمثالُكم، محفوظةٌ أحوالُها، غيرُ مُهْمَلٍ أمْرُها ، والغَرضُ في ذِكْر ذلك: الدَّلالةُ على عِظَمِ قُدرَتِه، ولُطْفِ عِلْمِه، وسَعَةِ سُلطانِه، وتدبيرِه تلك الخلائقَ المتفاوِتةَ الأجناسِ، المتكاثِرَةَ الأصنافِ، وهو حافظٌ لِمَا لها وما عليها، مُهَيمِنٌ على أحوالِها، لا يشغَلُه شأنٌ عن شَأْنٍ، وأنَّ المُكَلَّفينَ ليسوا بمخصوصينَ بذلك دونَ من عداهم مِن سائِرِ الحيوانِ .

- وذِكْرُ الطَّائِرِ بعد ذِكْر الدَّابَّةِ تخصيصٌ بعدَ تَعميمٍ، وذِكْرُ بعضٍ من كُلٍّ، وصار مِن بابِ التَّجريدِ؛ كقوله: وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ بعد ذِكْر الملائكةِ، وإنَّما جُرِّد الطائِرُ؛ لأنَّ تصرُّفَه في الوجودِ دون غيره من الحيوانِ أبلغُ في القُدرةِ، وأدَلُّ على عِظَمِها من تَصَرُّفِ غيره من الحيوان في الأرضِ؛ إذ الأرضُ جِسمٌ كثيفٌ يُمْكِنُ تصرُّفُ الأجرامِ عليها، والهواءُ جِسْمٌ لطيفٌ لا يُمكِنُ عادةً تَصَرُّفُ الأجرامِ الكثيفةِ فيها إلَّا بباهِرِ القُدرةِ الإلهيَّة .

- وعبَّر بقولِه سبحانه: إِلَّا أُمَمٌ بالجَمْعِ، مع إفرادِ الدابَّةِ والطَّائرِ؛ لأنَّه لَمَّا كان قولُه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ دالًّا على معنى الاستغراقِ، ومُغْنيًا عن أنْ يُقال: وما مِنْ دوابَّ ولا طيورٍ، حُمِلَ قولُه: إِلَّا أُمَمٌ على المعنى- الذي هو الجَمْعُ .

- قوله: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ

- قوله: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ جملةٌ مُعتَرِضَةٌ مُقَرِّرةٌ لِمَضْمونِ ما قبلها من بيانِ سَعَةِ عِلْمِ الله تعالى، وعَظيمِ قُدْرَتِه .

- وقولُه تعالى: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ الضميرُ في يُحْشَرُونَ عائدٌ إلى الأممِ المذكورةِ، وفيه رَدُّ الضَّميرِ بصِيغةِ ضَميرِ العُقلاءِ، على الطيورِ والدوابِّ وهي ليسَتْ من العقلاءِ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا شَبَّهَهُمْ بالعُقلاءِ، وقال: أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ سوَّغَ ذلك أن يَبْنِيَ عليهم ضَميرَ العقلاءِ، وقد تقررَ في فَنِّ العربيةِ: أنَّ غيرَ العاقلِ كُلَّمَا شُبِّهَ بالعاقلِ جرَى عليه في الضَّمائرِ ونوعِ الصِّيَغِ ما يَجري على العاقلِ، ونظيرُه في القرآنِ قولُه تعالى في رُؤْيَا يوسفَ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ قال: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: آية 4] فَجُمِعَ جمعَ المذكرِ السَّالمِ المختصَّ بالعقلاءِ؛ لأنها لَمَّا اتَّصَفَتْ بالسُّجودِ أَشْبَهَتِ العقلاءَ من هذه الحيثيَّةِ، فَجَرَتْ عليها صيغةُ العقلاءِ .

4- قوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

- قوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ فيه تمثيلٌ لحالِهم في ضَلالِ عقائِدِهم، والابتعادِ عن الاهتداءِ، بحالِ قومٍ صُمٍّ وبُكْمٍ في ظلامٍ؛ فالصَّمَمُ يَمْنَعُهم مِن تلقِّي هُدَى مَن يَهْدِيهم، والبَكَمُ يمنعُهُم مِن الاستِرشادِ ممَّن يمرُّ بهم، والظلامُ يمنعُهم من التبصُّر في الطريقِ أو المنفَذِ المُخْرِج لهم من مَأْزِقِهم .

- وقوله: صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ جاء قوله: فِي الظُّلُمَاتِ كنايةً عن عَمَى البَصيرةِ، فهو كقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18-171] ، لكن قوله: فِي الظُّلُمَاتِ أبلغُ مِن قوله: عُمْيٌ؛ إذ جُعِلت الظُّلماتُ ظرفًا لهم .

- وقوله: صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيث عَطَف هنا بين صُمٌّ وَبُكْمٌ بالواو، بَينما وردتْ في سُورةِ البقرة في مَوضعينِ بدون العطفِ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18-171] ، والحِكمةُ في ذلك: أنَّ تَرْكَ العطفِ في آيتَيِ البقرةِ لبيانِ أنَّ هذه الصِّفاتِ لاصقةٌ بالموصوفينَ بها، مجتمعةً في آنٍ واحدٍ، والأُولى منهما في المختومِ على قُلُوبِهم، الميؤوسِ من إيمانِهم من المنافقينَ وغَيْرِهم، والثانيةُ في المقَلِّدينَ الجامدينَ، وكُلٌّ منهما لا يستمعُ لدعوةِ الحَقِّ عند تلاوةِ القرآنِ وغيرِه، ولا يَسألُ الرَّسولَ ولا غيرَه من المؤمنين عما يَحوك في قَلْبِه، ويجول في ذِهْنه من الكُفْر والشَّكِّ، ولا ينطقُ بما عساه يَعْرِف من الحقِّ، ولا يستدلُّ بآياتِ الله المرئِيَّةِ في نفسه، ولا في الآفاقِ، فكأنَّه أصمُّ أبكمُ أعمى في آنٍ واحد، وأمَّا هذه الآيةُ التي في الأنعام فهي في مُشْركي مكَّةَ، ولم يكونوا كلُّهم من المختومِ على قلوبِهم، الميؤوسِ من إيمانِهم، ولا من المقَلِّدينَ الجامدين الذين لا ينظرونَ في شيءٍ من الآياتِ الإلهيَّة المنَزَّلَة والمُكوَّنة، بل كان منهم الجامدُ على التقليدِ، والإعراضِ عن سماعِ القرآنِ حتى كأنَّه أصمُّ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا [سورة لقمان: 7]، ومنهم من يسمعُ ويعلمُ أنَّها الحقُّ، ولكنَّه لا ينطِقُ بما يعلم عنادًا، فهذان فريقانِ منفصلانِ، عُطِفَ أحدُهما على الآخر؛ لبيانِ هذا الانفصالِ .

- قوله: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ استئنافٌ بيانيٌّ لأنَّ حالَهُم العجيبةَ تُثيرُ سؤالًا، وهو أن يقولَ قائلٌ: ما بالُهم لا يهتدونَ مع وضوحِ هذه الدلائلِ البَيِّناتِ؟! فأُجيبَ بأنَّ اللهَ أضَلَّهم فلا يهتدونَ، وأنَّ الله يُضِلُّ مَن يشاء، ويَهدي مَن يشاءُ؛ فدَلَّ على أنَّ هؤلاءِ المكَذِّبينَ الضالِّينَ هم ممَّن شاءَ اللهُ إضلالَهم على طَريقةِ الإيجازِ بالحَذْفِ؛ لظهورِ المحذوفِ .

- وقوله: عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ معنى عَلَى الاستعلاءُ، وهو استعلاءُ السائرِ على الطريقِ؛ فالكلام تمثيلٌ لحالِ الذي خَلَقه الله فمَنَّ عليه بعقلٍ يَرْعَوي مِن غَيِّه، ويُصْغي إلى النصيحةِ؛ فلا يقعُ في الفسادِ، فاتَّبَع الدِّينَ الحَقَّ- بحالِ السَّائِرِ في طريقٍ واضحةٍ لا يتحيَّرُ، ولا يُخطِئُ القصدَ، ومستقيمةٍ لا تطوحُ به في طُولِ السَّيْرِ. وهذا التمثيلُ أيضًا صالحٌ لتَشبيهِ كلِّ جُزءٍ من أجزاءِ الهيئةِ المشبَّهةِ بجزءٍ من أجزاءِ الهيئةِ المشبَّه بها

 

.==============

 

سُورةُ الأنعامِ

الآيات (40 - 45)

ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ

غريب الكلمات :

 

بِالْبَأْسَاءِ: البأساءُ: اسمٌ للبُؤسِ، وهو المكروهُ والضَّرَرُ والشِّدَّةُ وسُوءُ الحالِ، وقيل: البأساءُ الفَقْرُ والفاقةُ، وهو مِن البُؤسِ، وأصل (بأس): الشِّدَّةُ وما ضاهاها. وقيل: البأساءُ ضرَّاءُ مَعها خوفٌ، وأصلُها مِن البأسِ، وهو الخَوفُ؛ يُقال: لا بَأسَ عليكَ، أي: لا خوفَ عليك

.

وَالضَّرَّاءِ: أي: المرضِ والزَّمانةِ، وسوءِ الحالِ، والفَقْرِ والقَحْطِ، وهي مقابِلُ السَّرَّاءِ، والضُّرُّ: خلاف النَّفْعِ .

يَتَضَرَّعُونَ: أي: يَتذلَّلونَ، وأصل (ضرع): يدلُّ على لِينٍ في الشَّيءِ .

بَأْسُنَا: أي: عذابُنا .

مُبْلِسُونَ: أي: آيِسونَ من رحمة الله تعالى، ومُلْقُونَ بأيديهم، والإِبلاسُ: الحُزْنُ المعترِض من شِدَّةِ البأس، وأصلُه: اليَأْس، قيل: ومنه اشْتُقَّ إبْلِيسُ؛ كأَنَّه يَئِسَ مِن رَحمةِ اللَّهِ .

فَقُطِعَ دَابِرُ القومِ: أي: اجتُثَّ أصلُهم، وقَطْعُ دابرِ الإنسانِ: هو إفناءُ نَوْعِه، ودابِرُ القومِ: آخرُهم، وأصلُ (قطع): الفَصْل، وأصل (دبر): آخِرُ الشَّيء وخَلْفُه، خلاف قُبُله

 

.

مشكل الإعراب :

 

1- قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

أَرَأَيْتَكُمْ: بمعنى: أَخْبِروني، والهمزةُ للاستفهامِ التقريريِّ، والتاءُ ضَميرُ الفاعِل، مبنيٌّ على الفتْحِ أبدًا في محلِّ رفْعٍ، وهذه التاءُ إذا اتَّصَلَتْ بها الكَافُ الَّتي للخِطابِ فإنَّها تلزمُ الإفرادَ والتَّذكير؛ فتقول: أرأيتَكُما، أَرأيتَكُم، أرأيتَكُنَّ. والكافُ هنا حَرْفُ خِطابٍ مَبنيٌّ، لا محلَّ له مِن الإعراب، والفِعل (رأى) مُتعدٍّ لمفعولَينِ؛ فالمفعول الأوَّلُ هنا محذوف، والمسألةُ مِن بابِ التنازُع؛ تَنازَعَ أَرَأَيْتَكُمْ وفِعلُ الشَّرْطِ أَتَاكُمْ على عَذَابُ اللهِ، فأُعْمِلَ الثاني، وهو أَتَاكُمْ، فارتفعَ عَذَابُ به على الفاعليَّةِ، ولو أُعمِلَ الأوَّلُ لكان التركيبُ: (عذابَ) بالنَّصْبِ على المفعوليَّة، وأمَّا المفعولُ الثاني فهو الجملةُ مِن الاستفهامِ: أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ، والرابطُ لهذه الجملةِ محذوفٌ؛ تقديرُه: أغيرَ اللهِ تَدْعُون لكَشْفِه، والمعنى: قل أَرَأَيتَكم عَذابَ اللهِ إنْ أتاكم- أو السَّاعةَ إنْ أَتَتْكُم- أغيرَ اللهِ تَدْعُون لكَشْفِه، أو لكشْفِ نوازِلِها، وجوابُ الشَّرطِ محذوفٌ، تقديرُه: إنْ أتاكم عذابُ اللهِ فمَنْ تَدْعونَ؟ وقيل: المفعولُ الأوَّلُ، والجملةُ الاستفهاميَّةُ التي سَدَّت مَسَدَّ الثاني محذوفانِ؛ لفَهْم المعنى، والتقدير: أرأيتَكم عِبادتَكم الأصنامَ هل تنفعُكم، أو اتِّخاذَكم غيرَ الله إلهًا هل يَكْشِفُ ضُرَّكم؟ فـ(عِبادَتَكُمْ) أو (اتِّخاذَكم): مفعول أوَّل، والجملةُ الاستفهاميَّة سادَّةٌ مَسَدَّ الثاني. وجملةُ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ... اعتراضيَّة لا محلَّ لها من الإعراب. وقيل غير ذلك

.

2- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً

بَغْتَةً: مَصدرٌ في مَوضِعِ الحالِ من الفاعِلِ (نا العظَمَةِ) في أَخَذْنَاهُمْ، أي: مُباغِتينَ، أو مِن المفعولِ بِه (هُم) في أَخَذْنَاهُمْ؛ أي: مَبغوتينَ، ويجوزُ أنْ يكونَ مصدرًا على المعنى؛ لأنَّ أَخَذْنَاهُمْ بمعنى بَغَتْناهم، فيَكون مفعولًا مُطلقًا، نائبًا عن المصدرِ؛ فهو نوعُه، أي: أخَذْناهم أخْذَ البَغْتِ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يأمُرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ للكُفَّارِ: أخْبِروني إنْ أتاكم عذابُ الله، أو أتاكم يَومُ القيامةِ؛ هل ستَدْعونَ في ذلك الوقتِ أحدًا غيرَ الله؛ ليُنْجِيَكم ممَّا حَلَّ بكم إنْ كنتم صادِقينَ في اتِّخاذِكُم آلهةً من دونه؟ بل لنْ تدْعُوا غيرَه تعالى، فيُفَرِّجُ عنكم سبحانه ما حلَّ بكم مِن كَرْب، وتَنْسَونَ وقتَ الشَّدائدِ وعند الكَرْب ما تُشركونَه مع اللهِ تعالى.

ثمَّ يُخبرُ الله تعالى أنَّه أرسل رُسلًا إلى أُممٍ مِن قَبلِ النبيِّ محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكذَّبوا رُسُلَ ربِّهم، فأذاقَهُم اللهُ شِدَّةَ الفقرِ، وضَنْك العَيْش، كما ابتلاهم بالأسقامِ والأمراض؛ لعلَّهم يتضرَّعونَ إليه- جلَّ وعلا- ويُخْلِصون له العبادةَ.

فهلَّا حين ابتلاهم اللهُ بهذا البلاءِ لجَؤُوا إليه، وتَضرَّعوا، حتى يَصْرِفَ عنهم العذابَ، ولكنَّهم قسَتْ قلوبُهم، وزيَّن لهم الشَّيطانُ ما هم فيه من الأعمالِ التي يَكرهُها الله؛ مِن الكُفرِ والشِّرْك والمعاصي.

فلَمَّا ترَكوا- مُتعمِّدينَ- العملَ بما أمَرَهم الله وتناسَوْه؛ بدَّلهم الله- استدراجًا- مكانَ الفَقْرِ الغِنى، ومكانَ المرضِ الصِّحَّةَ، حتى إذا فَرِحوا بما أُعْطُوا فَرَحَ بَطَرٍ وأَشَرٍ، أتاهم عذابُ الله بقوَّةٍ، مُباغِتًا لهم، فإذا هم هالِكون قد قَنَطوا مِن رَحمةِ اللهِ، فاستُؤْصِلوا جميعًا، ولم يَبْقَ منهم أحدٌ، والحمْدُ لله ربِّ العالمينَ.

تفسير الآيات :

 

قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (40).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ تعالى غايةَ جَهْلِ أولئك الكفَّار، بَيَّنَ مِن حالِهم أيضًا أنَّهم إذا نَزَلَت بهم بَلِيَّةٌ أو محنةٌ فإنَّهم يَفزعونَ إلى الله تعالى، ويَلجؤونَ إليه، ولا يَتمرَّدونَ عن طاعته، فقال سبحانه

:

قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ.

أي: قل- يا محمَّدُ-: أَخْبِرُونِي أيُّها الكفَّارُ الذين تَعدِلُونَ بِاللَّهِ سواه، وتَصرِفونَ حقوقَه لغيرِه؛ أَخْبِرُونِي إنْ جَاءَتْكُمْ بَلِيَّةٌ مِنَ البلايا والكروبِ، كما لو هَاجَ عليكم البحرُ، والتطمَتْ أمواجُه فرأيتم الموتَ عِيَانًا، أو إنْ جاءَتْكم السَّاعةُ التي تُنْشَرون فيها من قُبورِكم، وتُبعثَون لموقفِ القيامةِ .

أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.

أي: هل ستَدْعونَ في ذلك الوقتِ والكَرْبِ أحدًا أو شيئًا غيرَ الله؛ لإنجائكم مِمَّا نزَل بكم من شدَّةٍ وبلاء، إنْ كنتم مُحِقِّينَ في اتِّخاذكم آلهةً معه، وأنَّها تُنجيكم ممَّا حلَّ بكم ؟

كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس: 22] .

بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا كان استفهامُ الإنكارِ في قوله: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ من الآيةِ السَّابقة، بمعنى النَّفْيِ، كأنَّه قيل: لا تَدْعون غيرَهُ، عَطَفَ عليه قوله: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ .

بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ.

أي: ما أنتم- أيُّها المشرِكونَ باللهِ- بمُستغيثينَ بشيءٍ غير الله في حالِ الشَّدائدِ، والأهوالِ النَّازلة بكم؛ فتَدْعونَ ربَّكم الذي خلَقَكم، وإليه تَفْزَعون؛ لأنَّكم تعلمونَ أنَّه هو الذي بِيَده وحدَه إزالتُها، وأنَّ غَيرَه لا يَقدِرُ على رفْعِ الكُرُبات عنكم .

فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ.

أي: فيُفَرِّجُ عنكم ربُّكم عندَ استغاثتِكم به، وتضرُّعِكم إليه، ويُذهِب الكَرْبَ النازلَ بكم، إنْ شاء أنْ يَفعلَ ذلك؛ لأنَّه القادِرُ على كلِّ شيءٍ، ومالِكُ كلِّ شيءٍ؛ فإن شاءَ كشَفَ الضُرَّ عنكم، وإنْ شاءَ لم يَكْشِفْهُ، وذلك بحَسَب ما تقتضيه حِكْمَتُه سبحانه وتعالى .

وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ.

أي: وتَنْسَون في وقتِ الضَّرورةِ حِينَ تأتيكم الشَّدائدُ، وتَحُلُّ بكم الكُرُبات ما تُشركونه مع الله تعالى؛ لِعِلْمكم أنْ لا شيءَ يَملِكُ كَشفَ الضرِّ عنكم سوى اللهِ تعالى وحْدَه .

كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67].

وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا أقامَ لهم بالآية السابقةِ الدَّليلَ على توحيدِه؛ حتى استنارتِ السُّبُلُ في تذكيرهم أنَّ التضرُّعَ قد يُكشَف به البلاءُ- أخبَرَهم أنَّ ترْكَه يُوجِبُ الشَّقاءَ؛ ترغيبًا في إدامَتِه، وترهيبًا مِن مجانَبَتِه .

وأيضًا لَمَّا أَنذَرهم اللهُ تعالى بتوقُّع العذابِ- أعقَبَه بالاستشهادِ على وقوعِ العذابِ بأُمَمٍ من قَبلُ؛ ليعلَمَ هؤلاءِ أنَّ تلك سنَّةُ اللهِ في الَّذين ظَلَموا بالشِّرْك ، فقال تعالى:

وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42).

أي: ولقد أرسَلْنا- يا محمَّدُ- رُسُلًا إلى جماعاتٍ مِن قبلك، فأمرناهم ونهيناهم، فكذَّبوا رُسُلَنا، وخالفوا أمْرَنَا ونَهْيَنا، فامتحنَّاهم بشِدَّة الفقر، والضِّيقِ في المعيشةِ، وابتليناهم بالأسْقام والأمراض، فَعَلْنا ذلك بهم؛ ليتضرَّعوا إليَّ، ويُخْلِصوا ليَ العبادةَ؛ بالتذلُّلِ والخضوعِ والخُشُوع لي .

فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (43) .

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا لم يقعْ منهم التَّضرعُ الذي كان يُرجَى بعدَ أخذِهم بالبأساءِ والضراءِ- تسبَّبَ عن ذلك الإنكارُ عليهم، فقال الله تعالى معبِّرًا بأداة التَّحضيضِ (لَوْلَا)؛ ليُفيدَ مع النَّفيِ أنَّهم ما كان لهم عُذْرٌ في تَرْكِ التضرُّع :

فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ.

أي: فهلَّا حِين ابتلَيْناهم تضرَّعوا إلينا، وتَمَسْكَنوا إلينا، فيُصرف عنهم العذابُ .

وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ.

أي: إنَّ قُلوبَهم ما رقَّتَ ولا خشَعَتْ، بل استحجَرَتْ وصَلُبَت، فلم تَلِنْ للحَقِّ، وأقاموا على ما هم عليه من تكذيبِ الرُّسُل، وأصرُّوا على ذلك، واستَكبَروا عن أمْرِ ربِّهم .

وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.

أي: وحسَّن لهم الشيطانُ ما كانوا يَعملونَ من الأعمالِ التي يكرهُها الله ويَسْخَطها منهم؛ من الكُفْرِ والشِّرْك والمعاصي، فظنُّوا أنَّ ما هم عليه حَسَنٌ وحقٌّ .

فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

هذا مِن تمام القِصَّةِ الأولى؛ بيَّنَ تعالى أنَّه أخذَهم بالبأساءِ والضرَّاءِ لعلَّهم يتضَرَّعونَ، ثمَّ بيَّنَ في هذه الآية أنَّهم لَمَّا نَسُوا ما ذُكِّروا به من البأساءِ والضرَّاء فتَحْنَا عليهم أبوابَ كُلِّ شيءٍ، ونقلناهم من البأساءِ والضرَّاء إلى الرَّاحةِ والرَّخاء، وأنواع الآلاءِ والنَّعْماءِ، والمقصودُ: أنَّه تعالى عامَلَهم بتسليطِ المكارِه والشَّدائدِ تارةً، فلم يَنتفعوا به، فنَقَلَهم من تلك الحالةِ إلى ضِدِّها، وهو فتْحُ أبواب الخيراتِ عليهم، وتَسهيلُ مُوجِبات المسَرَّاتِ والسَّعادات لديهم، فلم ينتفعوا به أيضًا، وهذا كما يفعلُه الأبُ المُشْفِق بولده؛ يُخاشِنُه تارةً، ويُلاطِفُه أخرى؛ طلبًا لصلاحِه، حتى إذا فَرِحوا بما أُوتوا من الخَيْر والنِّعَم، لم يَزيدوا على الفَرَح والبَطَر من غيرِ انتدابٍ لِشُكرٍ، ولا إقدامٍ على اعتذارٍ وتوبةٍ؛ فلا جَرَم أخذناهم بغتةً .

فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ.

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التفسيرِ:

في قوله تعالى: فَتَحْنَا قِراءتانِ:

1- فَتَّحْنَا بمعنى تَكثيرِ الأبوابِ، وتَكرُّر فِعْل ذلك مرَّةً بعد مرَّةٍ .

2- فَتَحْنَا أي: فَعَل ذلك مرةً واحدةً .

فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ.

أي: فلَمَّا ترَكوا عمْدًا العملَ بما أمَرْناهم به على ألْسِنَة رُسُلِنا، وتناسَوْه، وجعلوه وراءَ ظُهُورِهم، فأَعْرَضُوا عمَّا ذُكِّرُوا به من البأساءِ والضَّراءِ- فتَحْنا أبوابَ كلِّ شيءٍ كنَّا أغلَقْنا بابَه عليهم، فبدَّلْنا مكانَ البأساءِ الرَّخاءَ، والسَّعَةَ في العَيْش، ومكانَ الضَّرَّاء الصِّحةَ، والسَّلامةَ في الأبدان؛ استدراجًا، وإملاءً مِنَّا لهم .

وذلك كما قال تعالى في موضعٍ آخرَ مِن كِتابِه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الأعراف: 94-95]

وعن عُقبةَ بنِ عامرٍ رضيَ الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إذا رأيتَ اللَّهَ يُعطي العبدَ منَ الدُّنيا- علَى مَعاصيهِ- ما يُحبُّ، فإنَّما هوَ استدراجٌ، ثمَّ تلا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] )) .

حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ.

أي: ولم يَزَلْ ذلك الفتْحُ ممتدًّا لهؤلاءِ المكذِّبينَ بِرُسُلِهم، إلى أنْ فَرِحوا بما أُعْطُوا من السَّعةِ في المعيشة والأموالِ والأولادِ والأرزاقِ، والصِّحةِ في الأجسامِ؛ فَرِحوا بذلك فَرَحَ أَشَرٍ وبَطَرٍ، فلَمَّا صَدَر ذلك منهم؛ أتيناهُم بالعذابِ بقوَّةٍ وشِدَّة، مباغِتًا، لم يطرَأْ لهم على بالٍ، فإذا هم هالِكونَ، قد قَنَطوا وأَيِسوا من رحمةِ الله تعالى، وانقطَعَتْ حُجَجُهم .

فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45).

مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:

لَمَّا كان مِن عادةِ مَن يَغْلِبُ مِن أهلِ الدُّنيا أنْ يَفوتَه آخِرُ الجُيوشِ، والمتفرِّقون عنهم؛ لِمَلَل أصحابِه من الطَّلَب، وضَجَرِهم من النَّصَب والتَّعَب، وقُصورِهم عن الإحاطةِ بجميعِ الأَرَب؛ أخْبَر تعالى أنَّ أخْذَه على غير ذلك، وأنَّ نَيْلَه للآخِر كَنَيْلِه للأوَّلِ على حدٍّ سواءٍ، فقال- مسبِّبًا عن الأخذ الموصوف مشيرًا بالبناءِ للمفعولِ إلى تمام القُدرةِ، وبالدَّابِر إلى الاستئصالِ :

فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ.

أي: فاستُؤصِلَ هؤلاء المشركونَ الذين خالفوا أمْرَ الله، وكذَّبوا رُسُلَه، فهلكوا عن آخِرِهم، ولم يَبْقَ منهم أحدٌ .

وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

مناسَبَتُها لما قَبْلَها:

لَمَّا أُرسِلَ الرُّسُلُ إلى هؤلاء الأُمَمِ كذَّبوهم وآذَوْهم، فابتلاهم اللهُ تارةً بالبلاءِ، وتارةً بالرَّخاءِ، فلم يؤمنوا؛ فأهلَكَهم واستراحَ الرُّسُل من شَرِّهِم وتكذيبِهم، وصار ذلك نعمةً في حَقِّ الرُّسُل؛ إذْ أنجَزَ الله وَعْدَه على لسانهم بهلاكِ المكَذِّبين، فناسب هذا الفِعْلَ كُلَّه الخَتْمُ بالحمدلةِ .

وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

أي: والحمدُ لله تعالى على ما قضاه وقَدَّرَه؛ من هلاكِ المُكذِّبينَ، فبذلك تتبيَّنُ آياتُه وحُجَجُه، ويظهر صِدْق رُسُلِه، ويحصُلُ إكرامُه لأوليائه، وإهانَتُه لأعدائه، ويكون ذلك الإهلاكُ نَكالًا لغيرِهم

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قوله: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ يُبَيِّنُ أنَّ الفَزَع إليه سبحانه عِندَ شِدَّة الضِّيقِ واليأسِ من الأسبابِ مركوزٌ في فِطْرَةِ البَشَر، تنبعثُ إليه بذاتِها، كما تنبعثُ إلى طَلَب الغِذَاء عند الجوعِ مثلًا؛ فلا يَذهبُ به ما يُتلقَّى بالتعليمِ الباطِلِ مِن مَسائل الدِّين غالبًا إلَّا مَن تَمَّ فسادُ فِطرتِه، وانتهتْ سفالةُ طِينتِه، حتى كان كالأعجمِ، لا يَفهَمُ ولا يُفهِم، وإنَّما مَثَل تعاليم الشِّركِ مع هذه الغريزة الفِطريَّة كمَثَل ما كان عند المشرِكينَ مِن أحكامِ الطعامِ الباطلةِ مع غريزةِ التغذِّي؛ فإنَّهم كانوا يُحرِّمون بعضَ الطيبات كالبحائرِ والسوائبِ، ويبيحون بعضَ الخبائث كالميتةِ والدَّمِ المسفوح، فيَجنُون على غريزةِ التغذِّي بأكْل هذا والحرمانِ مِن ذاك، ثم يأكلون كلَّ شيءٍ عند الاضطرارِ، كذلك يجنون على غريزةِ التوجه إلى خالقِهم وخالقِ العالمِ كلِّه بما يتَّخذون من الأندادِ والأولياءِ والشُّفعاءِ، الذين يَتوجَّهون إليهم كما يَتوجَّهون إلى اللهِ؛ فإنَّهم عندَ الشِّدَّةِ يَنسَوْنها ويَدْعُون اللهَ وحْدَه

.

2- يُستَفاد من قوله تعالى: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ أنَّه لا يصرفُ السُّوءَ إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ، ويتفرَّعُ على هذه الفائدة أنَّه إذا أصابك السُّوءُ فلا تلجأْ إلَّا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ .

3- في قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ الدَّلالةُ على أنَّ البأساءَ والضرَّاءَ، وما يُقابِلُهما من السَّرَّاء والنَّعماءِ، مِمَّا يتربَّى ويتهذَّب به الموَفَّقون من الناس، وإلَّا كانت النِّعَمُ أشَدَّ وَبالًا عليهم من النِّقَم، وهذا ثابتٌ بالاختبارِ، فلا خلاف في أنَّ الشدائِدَ مُصْلِحةٌ للفَسَادِ، وأجدَرُ النَّاسِ بالاستفادةِ مِنَ الحوادثِ المؤمِنُ؛ كما ثبت في حديثِ صُهَيبٍ مرفوعًا في صحيحِ مسلمٍ ((عَجَبًا لِأَمْرِ المؤمنِ؛ إنَّ أمرَهُ كلَّه له خيرٌ، وليس ذلك لأحَدٍ إلَّا للمؤمنِ؛ إنْ أصابَتْه سرَّاءُ شَكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ فكان خيرًا له )) .

4- إذا ابتلى اللهُ عَبدَه بشَيءٍ مِن أَنواعِ البلايا والمِحَن، فإنْ رَدَّه ذلك الابتلاءُ والمِحَنُ إلى ربِّه، وجَمَعَه عليه وطَرَحَه ببابِه؛ فهو علامةُ سَعادَتِه، وإرادةِ الخَيرِ به، وإِن لم يَرُدَّه ذلك البلاءُ إليه، بل أنساه ذِكرَ رَبِّه والضَّراعةَ إليه، والتذَلُّلَ بين يَدَيه، والتَّوبةَ والرُّجوعَ إليه؛ فهو علامةُ شَقاوَتِه، وإرادةِ الشَّرِّ به؛ قال الله تعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ .

5- يُستَفاد من قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ وجوبُ التضرُّع إلى الله عزَّ وجلَّ، باللجوءِ والإنابة إليه، والقيامِ بما يجب له من عقيدةٍ أو قولٍ أو عملٍ .

6- إثباتُ قسوةِ القَلْب بعد لِينِه؛ لقوله تعالى: وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وكما في آية البقرةِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة: 74] ، والواجِبُ على الإنسان أن يلاحِظَ قلبَه دائمًا، فكلُّ أحدٍ يمكنُه الإتيانُ بالأعمالِ الظاهرة على أحْسَنِ وجهٍ، فالمنافِقُ يُمكِنُه أن يأتيَ بالصَّلاةِ على أحسنِ وجهٍ، ويُمكِنُ أن يتصَدَّق، لكنَّ أعمالَ القلوبِ صعبةٌ؛ فينبغي للإنسانِ أن يُحَرِّرَ قَلْبَه من رِقِّ المعاصي، وأن يَحرِصَ على فِعلِ أسبابِ إزالةِ هذه القسوةِ؛ ومنها: كثرةُ قراءةِ القرآنِ بتدبُّرٍ، واستشعارُ أنَّ هذا كلامُ الله عزَّ وجلَّ، ومنها: كثرةُ ذِكْر الله عزَّ وجلَّ، ومصاحبةُ الأخيارِ، ورحمةُ الصِّغارِ، ولا سيمَّا اليتامى منهم .

7- يُؤخَذُ من قوله تعالى: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ أن يَحْذَرَ الإنسانُ عقوبةَ الله عزَّ وجلَّ إذا منَّ الله عليه بتيسيرِ أمورِ الدُّنيا؛ من مأكلٍ ومَشْربٍ ونِكاحٍ ومَرْكَبٍ ومَسْكَنٍ؛ فلا يغترَّ بهذا؛ لأنه قد يكونُ استدراجًا ، قال أبو حازِمٍ الأعرجُ: (إذا رأيتَ اللهَ يتُابِعُ نِعَمَه عليك وأنت تَعصيِه؛ فإنَّما هو استدراجٌ، فاحذَرْه)، وقد قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ، وقال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 182] .

8- أنَّ الذي بِيَدِه الرَّخاءُ والشِّدةُ هو الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ .

9- أنَّه يَجِبُ الحَذَرُ من الفَرَح الذي هو فَرَحُ البَطَر بِنِعَم الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله: فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا، أي: فَرَحَ بطرٍ، أمَّا إذا فَرِح الإنسانُ بما يَسُرُّه من أمورِ الدنيا، أو من أمورِ الآخرةِ فَرَحَ سرورٍ وانبساطٍ بنعمة الله، فإنَّ هذا لا بأس به؛ قال الله عزَّ وجلَّ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] .

10- أنَّ الإنسانَ قد يأتيه العذابُ بغتةً، فبَيْنا هو في نعيمِه وسرورِه في الدنيا، منغمسًا في معاصي الله إذا بالعذابِ يأتيه بغتةً، وسواءٌ كان هذا العذابُ عامًّا شاملًا، أو كان خاصًّا؛ فقد يُبْتَلى بمرضٍ، أو بحوادِثَ تَكْسِره وتَحْطِمُه، أو بموتٍ عاجل؛ ولهذا قال: أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً .

11- قوله تعالى: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ فيه تنبيهٌ على أنَّه يَحِقُّ الحمدُ للهِ عند هلاكِ الظَّلَمة، الذين ليس فيهم خيرٌ، وليس فيهم إلَّا الشرُّ للبلادِ والعبادِ؛ لأنَّ هلاكَهم صلاحٌ للنَّاسِ، والصَّلاحُ أعظَمُ النِّعَمِ، وشُكْرُ النِّعمة واجبٌ، وهذا الحمدُ شُكْرٌ؛ لأنَّه مقابِلُ نعمةٍ ؛ فهلاكُ الكافرينَ من حيثُ إنَّه تَخليصٌ لأهلِ الأرضِ من شُؤمِ عَقائدِهم وأعمالِهم نعمةٌ جليلةٌ، يحقُّ أن يُحمَدَ عليها .

12- قوله: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فيه: تعليمٌ للمؤمنينَ بأن يَحْمَدوا اللَّهَ جلَّ وعلا على إهلاكِه الظَّلَمةَ وكفايته شَرَّهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- تقريرُ الإنسانِ بما لا يُمْكِنُه دفعُه؛ وذلك بأن يُقَرَّرَ بشيءٍ يُقِرُّ به، ولا يُمكِنُه دَفْعُه، وذلك في قوله: أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ؛ لأنَّهم في هذه الحال لا يدْعونَ إلَّا اللهَ، فإذا كان كذلك فلماذا يُخْلِصون في الشِّدَّةِ، ويُشْرِكون في الرخاءِ

؟!

2- قوله تعالى: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ فيه أنَّ الله تعالى يُجيبُ دعوةَ المضطرِّ ولو كان كافرًا، بل ويَعْلَم عزَّ وجلَّ أنَّه سيكفُر إذا نجا؛ لأنَّ الله يُنَجِّيهم من الكَرْب، وهو يعلمُ أنَّهم إذا نَجَوْا فسوف يُشْركون، ومثلُ ذلك المظلومُ؛ فإنَّ اللهَ يُجيبُ دَعْوتَه ولو كان كافرًا .

3- قُيِّدَت هذه الآيةُ بالمشيئة فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ، وأمَّا قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: آية 186] فقد أُطْلِقَت فيه إجابةُ الدَّعوة دون تقييدٍ بالمشيئةِ؛ قيل: لأنَّ الآيةَ التي قُيِّدت جاءت في دُعاءِ الكُفَّارِ، وجاءتِ الآيةُ الأخرى في دعاءِ المؤمنينَ فلم تُقيَّدْ بالمشيئةِ؛ لأنَّ دعاءَ المؤمِنِ لا يُرَدُّ إلَّا إذا كان بإثمٍ أو قطيعةٍ، وما جرى مجرى ذلك، وعلى كُلِّ حالٍ لا شيءَ إلَّا بمشيئةِ اللَّهِ، إلَّا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ صادقٌ، وقد وعدَ المؤمنينَ بالإجابةِ، ولم يُقَيِّدْهُ بشيءٍ، وإنَّما جاء بقيدِ المشيئةِ في دعاءِ الكفَّارِ .

وقيل: تُحملُ الآيةُ المطلقةُ على الآيةِ المقيَّدةِ، وقيل: المرادُ بالدعاءِ العبادةُ، وبالإجابةِ الثوابُ، وعليه فلا إشكالَ .

4- قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فيه رحمةُ الله تبارك وتعالى بالخَلْق؛ حيث أرسل إليهم الرُّسُل لإقامة الحجَّة، ولبيان المحجَّة؛ يعني: الطريق، فلولا الرُّسُل ما عرفْنا الطريقَ إلى الله عزَّ وجلَّ، فلولا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم بيَّنَ لنا كيف نتوضأ، ما عَرَفنا كيف نصلِّي، وما عرفنا كيف نزكِّي، وكيف نصوم، وكيف نحجُّ، وكيف نتعامل، فإرسالُ الرُّسُل من رحمة الله عزَّ وجلَّ .

5- في قوله عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ إقامةُ الحجَّة على الخلق بإرسالِ الرُّسُل، وهذه كقوله تعالى في سورة النِّساء: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [النساء: 163] إلى قوله: رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل [النساء: 165] ، ومن تمام الحُجَّة في إرسالِ الرُّسُل أنَّهم أُرْسِلوا بلسانِ قَوْمِهم، أي: بِلُغةِ قَوْمِهم الذين أُرْسِلوا إليهم، وذلك من أجل أن يفهموا الحُجَّةَ، ويتفرَّعُ على هذا أنَّه لا تقوم الحُجَّةُ بمجرَّدِ البلاغ حتى يفهمَها المرْسَل إليهم، وإلَّا فلا فائدةَ، إلَّا أنَّه يجب على من بَلَغَه ولم يفهمْ أن يبحَثَ، لكن أحيانًا يتعذَّر البحث لكونهم لا يجدون من يثقونَ به فيبقَوْنَ جاهلينَ .

6- قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ لَمَّا كان أخذُهم بالبأساء والضراء مقارِنًا لزَمَن وجودِ رُسُلِهم بين ظَهْرانَيْهِم؛ عَطَف قوله: (أَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) بالفاء؛ للإشارةِ إلى أنَّ ذلك كان بمرأَى رُسُلِهم، وقبلَ انقراضِهم؛ ليكونَ إشارةً إلى أنَّ الله أيَّدَ رُسُلَه ونَصَرَهم في حياتهم؛ لأنَّ أخْذَ الأُمَمِ بالعقاب فيه حكمتان: إحداهما: زَجْرُهم عن التكذيب، والثانية: إكرامُ الرُّسُل بالتأييدِ بمرأًى من المكذِّبين، وفيه تكرمةٌ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإيذانِه بأنَّ الله ناصِرُه على مكذِّبيه .

7- إثباتُ الحكمةِ في أفعالِ الله تعالى؛ لقوله: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، وثبوتُ الحِكمةِ لله عزَّ وجلَّ في أفعالِه وفي شَرْعِه أمرٌ معلومٌ لكُلِّ ذي عقلٍ؛ لأنَّ كونَ الأفعالِ والأحكامِ تَصْدُر عن حكمةٍ يدلُّ على كمالِ الفاعِل والمُشَرِّع، فالله تعالى يبتلي بالبأساءِ والضرَّاءِ لكنْ لحكمةٍ، لا لمجرَّدِ إلحاقِ الضَّرَرِ بالخَلْق، والحكمةُ بَيَّنها سبحانه وتعالى في قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، وإلَّا فإنَّ اللهَ لا يمكن أنْ يريدَ مُجَرَّد الإضرارِ، بل كلُّ ما ضرَّ النَّاسَ من تقديراتِ اللهِ فالمرادُ به مصلحةُ الخَلْقِ .

8- في قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ نصَّ سبحانه وتعالى هنا على الحِكمةِ، وليس كُلُّ فعلٍ أو حُكمٍ جاءَ مِن عندِ اللهِ يكونُ معلومًا لنا حِكمتُه؛ لأنَّ عُقولَنا أقصرُ مِن أن تُحيطَ بحِكمةِ الله عزَّ وجلَّ، لكن نعلمُ عِلمَ اليقين أنَّ ذلك لحِكمةٍ؛ فيجبُ على كلِّ مؤمنٍ أنْ يُؤمِنَ بأنَّ جميعَ أفعالِ اللهِ، وجميعَ شرائعِ اللهِ كلِّها لحِكمةٍ، لكن قد تُعلم وقد لا تُعلم .

9- إنْ قيلَ: أليسَ قَوْلُه: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يَدُلُّ على أنَّهم تضرَّعوا؟ وهاهنا يقولُ: قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ولم يتضرَّعوا. والجواب على ذلك: أنَّ أولئكَ أقوامٌ، وهؤلاءِ أقوامٌ آخرونَ. أو يقال: أولئك تضرَّعوا لطَلَبِ إزالة البَلِيَّة، ولم يتضرَّعوا على سبيلِ الإخلاصِ لله تعالى؛ فلهذا الفَرْقِ حَسُنَ النفيُ والإثباتُ .

10- قوله تعالى: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ فيه تسليةٌ للرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّ عادةَ الأُمَم مع رسُلِهم التكذيبُ، والمبالغةُ في قسوةِ القلوبِ حتى هم إذا أُخِذوا بالبلايا لا يتذلَّلونَ لله، ولا يسألونَه كَشْفَها، وهؤلاء الأُمَم الذين بَعَث الله تعالى إليهم الرُّسُل أبلغُ انحرافًا، وأشدُّ شكيمةً، وأجلَدُ من الذين بُعِثَ إليهم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إذ خاطبهم تعالى بِقَولِه: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ الآية، وأخبر أنَّهم عند الأَزَمات لا يَدْعونَ لكَشْفِها إلَّا اللهَ تعالى .

11- قوله تعالى: وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ فيه بيانُ شدَّةِ قسوةِ هؤلاء المعَذَّبينَ، وذلك أنَّه لَمَّا جاءهم العذابُ ليتضَرَّعوا صارَ الأمْرُ بالعكس، بل زاد ذلك قسوةً في قلوبِهم، نسألُ اللهَ العافيةَ، وكان ينبغي عليهم أن يتضرَّعوا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وهذا قد يقع من الإنسانِ؛ ألَّا تزيدَه البأساءُ والضرَّاءُ إلَّا قسوةً في القلب، وسَخَطًا على الله عزَّ وجلَّ، وشعورًا بما لا ينبغي، فإنَّ بعضَ النَّاسِ إذا ابتُلِيَ ببلاءٍ قال: ما هذا؟ لماذا يَظْلمُني؟ لماذا يُصيبُني بما لم يُصِبْ به غيري؟ ثم يقسو قلبُه، والعياذ بالله .

12- أنَّ الشَّيطانَ يُزَيِّن لبني آدم سوءَ العَمَلِ؛ كما قال عزَّ وجلَّ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وفي آية أخرى: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ [التوبة: 37] .

13- إنَّ اللهَ تعالى يُضيفُ تزيينَ الدُّنيا والمعاصِي، إلى الشَّياطينِ، كما قال تعالى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالَ: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [الأنعام: 137] ، ولا يُناقِضُ هذا قَولُه تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام: 108] ؛ فإنَّ إضافةَ التَّزيينِ إليه قضاءً وقدَرًا، وإلى الشَّيطانِ تَسبُّبًا، مع أنَّ تزيينَه تعالى عقوبةٌ لهم على رُكونِهم إلى ما زَيَّنَه الشَّيطانُ لهم، فمِن عُقوبةِ السَّيئةِ السَّيئةُ بَعدَها، ومِن ثَوابِ الحَسَنةِ الحَسَنةُ بَعدَها .

14- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ معنى البغتةِ: الفجأةُ. وذلك أَشَدُّ ما يُؤخَذ به الإنسانُ؛ لأنه إذا عَلِمَ بالعذابِ قبلَ نُزُولِه يكونُ مُتَجَلِّدًا مُستَعِدًّا، أما إذا بَغَتَهُ قبلَ استعدادٍ له فهذا أشدُّ وأنْكَى؛ ولأجلِ هذا بعَينِه أخبرَ اللَّهُ المؤمنينَ بالبلايا التى تَرِدُ عليهم قبلَ أن تقعَ؛ ليكونوا مُستَعِدِّين لها، ولئلَّا تُفاجِئَهم؛ حيثُ قال لهم: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمَوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [البقرة: 155] أخْبَرَهم بأنَّ الابتلاءَ سيأتيهم؛ لئلا يُباغِتَهم، ويكونوا مستعدِّينَ له قبل نزولِه .

15- في قوله تعالى: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً إنَّما أُخِذُوا في حالِ الرَّخاءِ والرَّاحةِ؛ ليكونَ أشدَّ لتحسُّرِهم على ما فاتَهم من حالِ السلامةِ والعافِيَة .

16- أتى قوله تعالى: قُطِعَ بصيغةِ ما لم يُسَمَّ فاعِلُه؛ لأنَّه معلومٌ، وهو اللهُ عزَّ وجلَّ، ولكنَّ الله تبارك وتعالى في الأمورِ التي تسوءُ يأتي بها بصِيغةِ ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، وهو كقولِ الجنِّ: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن: 10] ، الجنُّ يؤمنونَ بأنَّ مُريدَ الشَّرِّ هو اللهُ عزَّ وجلَّ، ويعرفونَ أنَّ الخيرَ والشَّرَّ بِيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وهو المُدَبِّر، لكنْ كرهوا أن يضيفوا الشرَّ إلى الله، فقالوا: أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن: 10] .

17- إثباتُ الأسبابِ؛ لقوله: الَّذِينَ ظَلَمُوا؛ لأنَّ هذه العقوبةَ مُرَتَّبةٌ على قومٍ اتَّصفوا بالظُّلْم، فيكونُ الظُّلمُ سببًا للعقوبةِ .

18- في قوله تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا بيانُ أنَّ الظُّلْمَ سببٌ للعقوبةِ والهلاكِ؛ لأنَّ الحُكْمَ إذا عُلِّقَ على وصفٍ، صارَ ذلك الوصفُ عِلَّةً له؛ يزدادُ الحُكمُ قوةً بقُوَّتِه وينقُصُ بنَقْصِه .

19- قولُه تعالى: الَّذِينَ ظَلَمُوا المرادُ بهم المشْرِكونَ، وفيه: أنَّ الشِّرْكَ أعظَمُ الظُّلْمِ؛ لأنَّه اعتِداءٌ على حَقِّ اللهِ تعالى على عبادِه في أن يَعْتَرِفوا له بالربوبيَّةِ وَحْدَه، وأنَّ الشِّرْكَ يَسْتَتْبِعُ مظالِمَ عِدَّةً؛ لأنَّ أصحابَ الشِّرْكِ لا يؤمنونَ بِشَرْعٍ يَزَعُ النَّاسَ عَنِ الظُّلْمِ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: قُلْ أَرَأيْتَكُمْ إِنْ أتَاكمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ استئنافٌ ابتدائيٌّ يتضمَّنُ تهديدًا بالوعيدِ؛ طردًا للأغراضِ السَّابقة

.

- وقوله: أَرَأَيْتَكُمْ تركيبٌ شهيرُ الاستعمالِ، يُفتتَحُ بمِثلِه الكلامِ الذي يُرادُ تحقيقُه والاهتمامُ به، وهي كلمةُ استفهامٍ وتَعجُّبٌ، وليس لها نظيرٌ؛ فهمزةُ الاستفهامِ فيه للتَّقرير، والاستفهامُ للتَعجيب .

- وقد جَمَع في هذِه الآيةِ ونظيرتِها بَعْدُ بَينَ عَلامَتَي خِطابٍ (التَّاءِ) و(الكافِ)؛ لمزيدِ الاهتمامِ للمُرادِ، الذي هو الاستئصالُ بالهلاكِ، والتاءُ اسمٌ، والكافُ حرفٌ جِيءَ به لتأكيدِ الخِطابِ .

- وفيه: تعريضٌ بالحثِّ على خلْع الشِّرْك؛ إذ ليس لشركائِهم نفعٌ بأيديهم، فذُكِّروا بأحوالِ قد تعرض لهم يلجؤونَ فيها إلى اللهِ .

- وقوله: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ... إضافةُ العذابِ إلى اسمِ الجلالةِ في قوله: عَذَابُ اللهِ؛ لتَهويلِه؛ لصُدُورِه مِن أقدَرِ القادرينَ .

- قولُه: أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أعادَ الفِعْلَ (أتى) مَع كَونِ حَرفِ العَطفِ (أو) مُغنِيًا عَن إِعادةِ العامِلِ؛ بِأن يُقالَ: إِنْ أَتَاكُم عَذابُ اللَّهِ أَوِ السَّاعَةُ، وهو ما يُوَجَّه به الإظهارُ فِي مَقامِ الإضمارِ مِن إِرادةِ الاهتمامِ بِالمُظْهَرِ؛ بِحيث يُعادُ لفْظُه الصَّريحُ؛ لأَنَّه أَقوَى استِقرارًا فِي ذِهنِ السَّامِعِ .

- وقوله: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ فيه مِن التبكيتِ ما هو ظاهرٌ، وفيه تقديمُ أَغَيْرَ اللَّهِ على عاملِه تَدْعُونَ؛ لتكونَ الجملةُ المستفهَمِ عنها جملةَ قَصْرٍ، وذلك إمَّا للاختصاصِ، بمعنى: أَتَخُصُّون آلهتَكم بالدَّعوة فيما هو عادَتُكم إذا أصابكم ضُرٌّ، أم تَدْعونَ اللهَ دونَها؟ وإمَّا للإنكارِ عليهم في دُعائِهم للأصنام؛ لأنَّ المُنْكَر إنَّما هو دعاءُ الأصنامِ، لا نفسُ الدُّعاءِ، ألا ترى أنَّك إذا قُلْتَ: أزيدًا تَضْربُ؟ إنما تُنْكِرُ كونَ زيدٍ مَحَلًّا للضَّرْب، ولا تُنْكِر نفسَ الضَّرْب .

2- قوله: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ

- قوله: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فيه تقديمُ المفعولِ إِيَّاهُ؛ لإفادةِ التَّخصيصِ ، أو للقَصرِ، وهو قصرُ إفرادٍ؛ للردِّ على المشركين في زعْمهم أنَّهم يَدْعون اللهَ، ويَدْعون أصنامَهم، وهم وإنْ كانوا لم يَزْعُموا ذلك في حالِ ما إذا أتاهم عذابُ الله، أو أتتْهم الساعةُ؛ إلَّا أنهم لَمَّا ادَّعَوْه في غيرِ تلك الحالةِ نُزِّلوا منزلةَ مَن يَستصحبُ هذا الزعمَ في تلك الحالة أيضًا .

- قَولُه: فَيَكْشِفُ عَطفٌ على تَدْعُونَ وَهذا إِطماعٌ في رحمَةِ اللَّهِ؛ لعلَّهم يَتَذكَّرونَ .

- قوله: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ، أي: تتركون ما تُشركونه به تعالى من الأصنامِ تركًا كليًّا، عطفٌ على تَدْعُونَ أيضًا، وتوسيطُ الكَشْفِ بينهما مع تقارنِهما، وتأخُّرِ الكَشْف عنهما؛ لإظهارِ كمالِ العنايةِ بشأنِ الكَشْفِ .

- وعُدِّيَ فِعْلُ تَدْعُونَ بحرفِ (إِلى) في قوله تَدْعُونَ إِلَيْهِلأنَّ أصْلَ الدُّعاءِ نداءٌ؛ فكأنَّ المدعوَّ مطلوبٌ بالحضورِ إلى مكانِ اليأسِ .

- ومفعول شَاءَ محذوفٌ على طريقةِ حَذْفِ مَفعولِ فِعلِ المشيئةِ الواقِعِ شرطًا .

- وفي هذه الآيةِ ما يُعرَفُ عند علماءِ البيانِ ببابِ استدراجِ المخاطَبِ، وهو أن يُلينَ الخطابَ، ويَمْزِجه بنوعٍ من التلطُّفِ، حتى يُوقِعَ المخاطَبَ في أمْرٍ يعترفُ به؛ فتقومَ الحجَّةُ عليه، واللهُ تعالى خاطَب هؤلاءِ الكفَّارَ بِلِينٍ من القَوْلِ، وذكر لهم أمرًا لا يُنازِعونَ فيه، وهو أنَّهم كانوا إذا مسَّهم الضرُّ دعَوُا اللهَ لا غيرَه .

3- قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ

- قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ كلامٌ مستأنَفٌ مَسوقٌ لبيانِ أنَّ منهم منْ لا يدعو اللهَ تعالى عند إتيانِ العذابِ أيضًا؛ لتماديهم في الغَيِّ والضَّلالِ .

- وتصديرهُ بالجملة القَسَميَّة وَلَقَدْ؛ لإظهارِ مزيدِ الاهتمامِ بمضمونِ الجملة وتوكيدِه .

- ومفعول أَرْسَلْنَا محذوف؛ لأنَّ مُقتضى المقامِ بيانُ حالِ المرسَلِ إليهم لا حالِ المرسَلين .

- وهذا الخبرُ مستعمَل في إنذارِ السامعين من المشركينَ على طريقةِ التعريضِ .

- قوله: فَأخَذْنَاهُمْ بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ

- قوله: يَتَضَرَّعُونَ أي: يَتَذَلَّلُونَ؛ لأَنَّ الضَّراعةَ التَّذلُّلُ والتَّخشُّعُ، وهو هُنا كنايةٌ عن الاعترافِ بالذَّنب والتَّوبة منه، وهي الإيمانُ بالرُّسُل .

- وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيث عبَّر هنا بقوله: يَتَضَرَّعُونَ بإظهار التَّاء، وقال في سورة الأعراف: يَضَّرَّعُونَ بالإِدغام مع اتحاد المرمى في الآيتينِ؛ وذلِك لأنَّ هاهنا وافَق ما بعدَه، وهو قولُه: جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعوا، ومُستقبلُ (تضرَّعوا): (يَتضرَّعون) لا غيرُ، والعربُ تراعي مجاورةَ الألفاظِ؛ فتَحمِلُ اللفظَ على مجاوِرِه لمجرَّدِ المضارعةِ اللفظيَّة، وإنِ اختلَف المعنى، وماضي الفِعل يَتَضَرَّعُونَ من الضَّراعة لا إدغامَ فيه؛ إنَّما تقول: تضرَّع؛ إذ لا حَرْفُ مُضارَعَةٍ فيه يُسوِّغُ الإدغامَ، فلمَّا ورد الماضي فيما بُني على آيةِ الأنعام مِن قوله: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ولا إدغامَ فيه، ورَد الأوَّل مفكوكًا غير مُدغَم فقيل: يَتَضَرَّعُونَ؛ رعيًا للمناسبةِ. أمَّا آيةُ الأعرافِ فلم يرِدْ فيها ما يَستدعي هذه المناسبةَ؛ فجاءَ مُدغمًا على الوجهِ الأخفِّ؛ إذ لا داعيَ لخلافِه .

4- قوله: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا (لولا) هنا حَرْفُ تَوبيخٍ؛ لدُخولِها على جُملةٍ فِعليَّةٍ ماضَوِيَّةٍ واحدةٍ تَضَرَّعُوا، فليستْ (لولا) حَرْفَ امتناعٍ لوجودٍ، بل هي التَّحضيضيَّة، وهي حرفٌ يَدُلُّ على طَلبِ الفعلِ بِحَثٍّ وَحَضٍّ؛ ولذا سُمِّيَتْ حرفَ تحضيضٍ، وعبَّر بها هُنا عن فِعلٍ فاتَ تَدَارُكُه، ولم يَبْقَ مُمْكِنًا أبدًا؛ فانْقَلَبَ في هذا المعنى تَحْضِيضُها إلى التَّوبيخِ والتَّنديمِ؛ فالمُوَبَّخُ بها هنا قد مَاتَ، ولم يَعُدْ موجودًا؛ لأنَّ وقْتَ نُزولِ الآيةِ هؤلاءِ الأممُ قد ماتوا، وانْقَضَوْا في أزمانٍ متناهيةٍ، قد مَضَوْا في الزمانِ الماضي؛ فلا يُمكنُ حُصولُ الفِعلِ منهم، وليسوا موجودِينَ حتَّى يَسمعوا التوبيخَ، ولكنَّ المقصودَ مِن توبيخِ هذا الذي غَابَ وماتَ؛ ليعتبرَ به غيرُه؛ فجاء حرف التحضيض فَلَوْلَا؛ للدَّلالةِ على التَّوبيخِ، وليُفيدَ أنَّه لم يكُنْ لهم عُذْرٌ في تَرْك التضرُّع إلَّا قسوةَ قلوبِهم، وإعجابَهم بأعمالِهم التي زَيَّنَها الشَّيطانُ لهم، والتوبيخُ إنما يليقُ بالحاضرينَ دون المُنْقَرضينَ الذين تحكي عنهم الآيةُ؛ لفواتِ المقصود؛ ففي هذا التنزيلِ إيماءٌ إلى مُساواةِ الحَالَينِ؛ حالِ مَنْ مضى، وحالِ مَن يُشْبِه وَضْعَهم من الحاضرينَ، وتوبيخٌ للحاضرينَ بالمُهِمِّ من العِبرةِ؛ لبقاءِ زَمَن التَّدارُكِ قَطعًا لعُذْرِهم .

- وتقديمُ الظرفِ المضافِ مع جُملته إِذْ جاءَهُمْ على عاملِه تَضَرَّعُوا؛ في قوله: إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا؛ للاهتمامِ بمضمونِ جملتِه، وأنَّه زمنٌ يَحِقُّ أنْ يكون باعثًا على الإسراعِ بالتضرُّع ممَّا حصل فيه من البأسِ .

5- قوله: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

- قوله: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فيه وَضْعُ الظَّاهِرِ موضِعَ الضَّمير؛ للإشعارِ بعِلَّة الحُكم؛ فإنَّ هلاكَهم بسبب ظُلْمِهم الذي هو وَضْعُ الكُفْر موضعَ الشكر، وإقامةُ المعاصي مَقامَ الطاعاتِ .

- وقطْعُ الدَّابر كنايةٌ عن ذَهابِ الجميعِ؛ لأنَّ المُسْتَأصِلَ يبدأُ بما يليه، ويذهَبُ يستأصِلُ إلى أن يبلُغَ آخِرَه، وهو دابِرُه، وهذا ممَّا جرى مجرى المَثَلِ .

- قوله: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يجوز أن تكون هذه الجملةُ معطوفةً على جملة: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ بما اتَّصل بها، عطْفَ غرضٍ على غرضٍ، ويجوز أن تكون اعتراضًا تذييليًّا، فتكون الواو اعتراضيَّة، وأيًّا ما كان موقِعُها ففي المرادِ منها اعتباراتٌ ثلاثة: أحدها: أن تكونَ تلقينًا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ أن يحمَدوا اللهَ على نَصْرِه رُسُلَه وأولياءَهم وإهلاكِ الظَّالمينَ؛ فيكون الحمدُ لله مصدرًا بدلًا من فِعله، عدَلَ عن نَصْبِه وتنكيرِه إلى رفْعِه وتعريفِه؛ للدَّلالة على معنى الدَّوامِ والثَّبات. ثانيها: أن يكون الحَمْدُ لله كنايةً عن كَوْنِ ما ذُكِرَ قبله نعمةً مِن نِعَم الله تعالى؛ لأنَّ من لوازمِ الحمدِ أن يكونَ على نعمةٍ. ثالثها: أن يكونَ إنشاءَ حَمْدٍ لله تعالى من قِبَل جَلالِهِ مُستعمَلًا في التعجُّبِ من معاملةِ الله تعالى إيَّاهم، وتدريجِهم في درجاتِ الإمهالِ إلى أنْ حقَّ عليهم العذابُ ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...