الخميس، 18 يناير 2024

14. سورة إبراهيم مكية آياتها{52 أية}

 14. سورة إبراهيم مكية آياتها{52 أية}

 14. سورة إبراهيم مكية آياتها{52 أية}

سورةُ إبراهيمَ

مقدمة السورة

أسماء السورة :

سُمِّيَتْ هذه السُّورةُ بسورةِ (إبراهيم)

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ إبراهيمَ مكِّيَّةٌ

، وحُكِي الإجماعُ على كونِها مكيةً إلا آيةً منها، وقِيل: إلا آيتينِ


مقاصد السورة:

 

مِن أهمِّ مقاصدِ هذه السورةِ:

- التذكيرُ بنِعَمِ الله على الناسِ، وتحريضُهم على شُكرِها، وتحذيرُهم مِن جُحودِها وكفرِها

 

موضوعات السورة :

 

من أهمِّ الموضوعاتِ التي تناولَتْها هذه السُّورةُ:

1- ذِكرُ القُرآنِ الكريمِ، وأنَّه كِتابُ هدايةٍ وبَيانٍ، وذِكرُ مُلْكِ الله سُبحانه للسَّمواتِ والأرضِ، وأنَّه أرسَلَ الرُّسُلَ بلِسانِ قَومِهم؛ لِيُبَيِّنوا لهم مُرادَ الله سُبحانَه.

2- ذِكرُ قِصَّةِ موسى عليه السَّلامُ، ونِعمةِ اللهِ على قَومِه إذ أنجاهم مِن آلِ فِرعونَ، وذكرُ أخبارِ بعضِ الأنبياءِ مع أقوامِهم، ونماذجَ مِن المحاوراتِ التي دارتْ بينَ الرسلِ وبينَ مَن أُرسِلوا إليهم، وجزاءِ اللهِ تعالى للظَّالمينَ المكَذِّبين.

3- المحاجَّةُ بين أهلِ النَّارِ الضُّعَفاءِ والذين استكبَروا، ومجادلةُ الشَّيطانِ لهم في النَّارِ، ثمَّ ذِكرُ حالِ أهلِ الجنَّةِ وما لهم من النَّعيمِ المُقيم، ثم ذِكرُ مثَلٍ لكلمتَىِ الإيمانِ والكفرِ، ثمَّ ذِكْرُ حالِ الكُفَّارِ؛ فقد بدَّلوا نِعمةَ اللهِ كُفرًا، وأحَلُّوا قَومَهم دارَ البَوارِ، وذِكرُ المؤمنينَ الذين لم يُبَدِّلوا نعمةَ اللهِ كُفرًا، وأقاموا الصَّلاةَ، وأنفَقوا ممَّا رزقهم الله سرًّا وعلانيَةً.

4- ذِكرُ بعض نِعَمِ الله تعالى على خَلقِه.

5- خبرُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ وعبادتِه لله سبحانِه وتَركِه لعبادةِ الأصنامِ، ودَعوتِه لذُرِّيَّته بسَعةِ الرِّزقِ، وتَضَرُّعه إلى اللهِ سبحانه، ثمَّ بيَّنَ مُهِمَّةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهي النِّذارةُ بيومِ القيامةِ.

6- وخُتِمت السورةُ بآياتٍ فيها مِن التحذيرِ والوعيدِ، وذِكرِ أنواعٍ مِن العذابِ مما أعدَّه للظالمين، وذَكَر سُبحانَه أنَّه في يومِ القِيامةِ يكونُ الجزاءُ، فتُجزَى فيه كلُّ نفسٍ بما كسَبَت، فهو سريعُ الحِسابِ.

سورةُ إبراهيمَ 




فهرس القرآن | سورة ابراهيم مكية | رقم السورة: 14 - عدد

 آياتها : 52 عدد كلماتها : 831 - اسمها بالانجليزي : 

Abraham

 
سورة ابراهيم مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

بسم الله الرحمن الرحيم

الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ (1) ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ مِنۡ عَذَابٖ شَدِيدٍ (2) ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ (3) وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡۖ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (4) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ (5) وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ أَنجَىٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ (6) وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ (7) وَقَالَ مُوسَىٰٓ إِن تَكۡفُرُوٓاْ أَنتُمۡ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرَدُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فِيٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَقَالُوٓاْ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَنَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ (9) ۞قَالَتۡ رُسُلُهُمۡ أَفِي ٱللَّهِ شَكّٞ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ يَدۡعُوكُمۡ لِيَغۡفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُؤَخِّرَكُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ قَالُوٓاْ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأۡتُونَا بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ (10) قَالَتۡ لَهُمۡ رُسُلُهُمۡ إِن نَّحۡنُ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأۡتِيَكُم بِسُلۡطَٰنٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ (11) وَمَا لَنَآ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنَا سُبُلَنَاۚ وَلَنَصۡبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ ءَاذَيۡتُمُونَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ (13) وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَٱسۡتَفۡتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ (15) مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ (16) يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ (17) مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ (18) أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَأۡتِ بِخَلۡقٖ جَدِيدٖ (19) وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٖ (20) وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعٗا فَقَالَ ٱلضُّعَفَٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعٗا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ قَالُواْ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَيۡنَٰكُمۡۖ سَوَآءٌ عَلَيۡنَآ أَجَزِعۡنَآ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٖ (21) وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (22) وَأُدۡخِلَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡۖ تَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٌ (23) أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ (24) تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ (26) يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ (27) ۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ كُفۡرٗا وَأَحَلُّواْ قَوۡمَهُمۡ دَارَ ٱلۡبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَاۖ وَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ (29) وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِۦۗ قُلۡ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمۡ إِلَى ٱلنَّارِ (30) قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خِلَٰلٌ (31) ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ (33) وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ (34) وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ (36) رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ (37) رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعۡلَمُ مَا نُخۡفِي وَمَا نُعۡلِنُۗ وَمَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ (38) ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلۡكِبَرِ إِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ (39) رَبِّ ٱجۡعَلۡنِي مُقِيمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّيَّتِيۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلۡ دُعَآءِ (40) رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ يَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡحِسَابُ (41) وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعۡمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمۡ لِيَوۡمٖ تَشۡخَصُ فِيهِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ (42) مُهۡطِعِينَ مُقۡنِعِي رُءُوسِهِمۡ لَا يَرۡتَدُّ إِلَيۡهِمۡ طَرۡفُهُمۡۖ وَأَفۡـِٔدَتُهُمۡ هَوَآءٞ (43) وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوۡمَ يَأۡتِيهِمُ ٱلۡعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرۡنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ نُّجِبۡ دَعۡوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَۗ أَوَ لَمۡ تَكُونُوٓاْ أَقۡسَمۡتُم مِّن قَبۡلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٖ (44) وَسَكَنتُمۡ فِي مَسَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَتَبَيَّنَ لَكُمۡ كَيۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ وَضَرَبۡنَا لَكُمُ ٱلۡأَمۡثَالَ (45) وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ (46) فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ (47) يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ (48) وَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ يَوۡمَئِذٖ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٖ وَتَغۡشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ (50) لِيَجۡزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ (51) هَٰذَا بَلَٰغٞ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِۦ وَلِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ (52)/سورة ابراهيم  
  تفسير الايات من(1-3)

المعنى الإجمالي:

افتُتِحَت هذه السورةُ العظيمة بالحروف المقطَّعة؛ لبيان إعجاز القرآن؛ إذ تُبرِزُ عجزَ الخَلْق عن معارضته بالإتيان بشيءٍ من مثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحروفِ العربيَّة التي يتحدَّثون بها!

ثُمَّ أخبَرَ تعالى أنَّ هذا القُرآنَ كتابٌ أنزله إلى رَسولِه الكريمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليُخرِجَ به البشَرَ مِن الكُفرِ والجَهلِ والمعاصي إلى نورِ الإيمانِ والعِلمِ والطَّاعةِ - بإذنِ رَبِّهم وتوفيقِه لهم- إلى طريقِ الحَقِّ الواضحِ المُستقيمِ الذي نصَبَه اللهُ لعبادِه، وجَعَله مُوصِلًا إلى العزيزِ الحميدِ؛ اللهِ الذي له ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ؛ وويلٌ للذين كفروا مِن عذابٍ شَديدٍ ينالُهم يومَ القيامةِ. وهؤلاءِ الكافِرونَ هم الذين يختارونَ الحياةَ الدُّنيا الفانيةَ، ويَترُكونَ الآخِرةَ الباقيةَ، ويَصْرِفونَ النَّاسَ عن اتِّباعِ دِينِ اللهِ، ويُريدونَه طَريقًا مُعوَجًّا؛ ليُوافِقَ أهواءَهم، أولئك في ضلالٍ بعيدٍ عن الحقِّ.

 

مشكل الإعراب:

 

إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ

لفظُ الجلالةِ اللهِ: بدلٌ مُطابِقٌ

مِن العزيزِ مجرورٌ، وقُرئَ بالرفعِ على أنَّه خبرٌ لِمُبتدأٍ محذوفٍ، أي: هو الله، و الَّذِي صِفةٌ لاسمِ الجلَالةِ اللهُ أو على أنه مبتدأٌ وخبرُه الموصولُ وصلتُه. وقيلَ غيرُ ذلك

تفسير الآيات:

 

الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1).

الَر.

تقدَّم الكلامُ عن هذه الحروفِ المقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سُورةِ البَقَرةِ

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ.

أي: هذا القُرآنُ كتابٌ عظيمٌ أنزَلْناه إليك- يا مُحمَّدُ- لتُخرِجَ به النَّاسَ- عرَبَهم وعَجَمَهم- مِن ظُلماتِ الكُفرِ والجَهلِ والمعاصي إلى نورِ الإيمانِ والعِلمِ والطَّاعةِ، وذلك بإرادةِ اللهِ تعالى وتوفيقِه لهم؛ فهو الهادي لِمَن قدَّرَ له الهدايةَ على يَدَي رسولِه المبعوثِ عن أمرِه سُبحانَه .

كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة: 257] .

وقال سُبحانه: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الحديد: 9] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64] .

وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 100] .

إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.

أي: لتُخرِجَ النَّاسَ مِن الظُّلماتِ إلى النُّورِ الذي هو طريقُ الحَقِّ الواضحِ المُستقيمِ الذي نصَبَه اللهُ لعبادِه، وجَعَله مُوصِلًا إلى العزيزِ الذي لا يُمانَعُ ولا يُغالَبُ، المُستحِقِّ وَحدَه لكمالِ الحَمدِ في جميعِ أقوالِه وأفعالِه، وشَرعِه وقَدَرِه .

اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2).

اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ .

أي: أنزَلْنا إليك القُرآنَ؛ لتدعوَ النَّاسَ إلى سُلوكِ صِراطِ العزيزِ الحميدِ؛ اللهِ المُستحِقِّ للعبادةِ وَحدَه، الذي مِن صِفتِه أنَّه يَملِكُ جميعَ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، والخَلقُ كُلُّهم مِلكُه وعَبيدُه .

وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ.

مناسبتُها لما قبلَها:

لمَّا أفاد قولُه: إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ تعريضًا بالمُشركينَ، عُطِفَ الكلامُ إلى تَهديدِهم وإنذارِهم بقولِه :

وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ.

أي: وَهَلاكٌ وشِدَّةٌ لِمَن كَفَروا باللهِ وبِرَسولِه، مِن عذابٍ شديدٍ ينالُهم في الآخرةِ .

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ (3) .

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ.

أي: وويلٌ للكافرينَ الذين يحِبُّونَ الحياةَ الدُّنيا، ويَختارونَها ويُؤْثِرونَها على الآخرةِ، فَرَضُوا واطمأنُّوا بها، وغَفَلوا عن الأعمالِ الصالحةِ التي تنفَعُهم في الدارِ الآخرةِ .

وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا.

أي: ويَصْرِفونَ النَّاسَ عن دينِ اللهِ، ويُريدونَ أن يكونَ مائِلًا عن الحَقِّ المُستقيمِ، بتَحريفِه وتبديلِه وغيرِ ذلك؛ لموافقةِ أهوائِهم وقَضاءِ أغراضِهم، ومنها تنفيرُ النَّاسِ عن طريقِ الحَقِّ .

أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ .

أي: أولئك الكُفَّارُ- الموصوفونَ بهذه الصِّفاتِ- في ذَهابٍ بعيدٍ عن الحَقِّ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ هذه الآيةُ دالَّةٌ على أنَّ طُرُقَ الكُفرِ والبِدعةِ كَثيرةٌ، وأنَّ طَريقَ الخيرِ ليس إلَّا الواحِد؛ لأنَّه تعالى قال: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فعبَّرَ عن الجهلِ والكُفرِ بالظُّلماتِ، وهي صيغةُ جَمعٍ، وعبَّرَ عن الإيمانِ والهدايةِ بالنُّورِ، وهو لفظٌ مُفردٌ، وذلك يدُلُّ على أنَّ طُرُقَ الجَهلِ كثيرةٌ، وأمَّا طريقُ العِلمِ والإيمانِ فليس إلَّا الواحِد

.

2- قولُ الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي: لا يحصُلُ منهم المرادُ المحبوبُ لله إلَّا بإرادةٍ مِن اللهِ ومَعُونةٍ؛ ففيه حثٌّ للعبادِ على الاستعانةِ برَبِّهم .

3- قولُ الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ في ذِكرِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بعد ذِكرِ الصِّراطِ المُوصِلِ إليه، إشارةٌ إلى أنَّ مَن سَلَكه فهو عزيزٌ بعِزِّ اللهِ، قَوِيٌّ ولو لم يكُنْ له أنصارٌ إلَّا اللهُ، محمودٌ في أمورِه، حسَنُ العاقبةِ ، ففي ذِكرِه تَنبيهٌ على أنَّه لا يذلُّ سالِكُه ولا يخيبُ سابِلُه، وترغيبٌ في سُلوكِه ببيانِ ما فيه مِن الأمْنِ والعاقبةِ الحميدةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أضاف الله- تعالى ذِكرُه- إخراجَ النَّاسِ مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بإذنِ ربِّهم لهم بذلك؛ إلى نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو سبحانَه الهادي خَلْقَه، والموَفِّقُ مَن أحَبَّ منهم للإيمانِ؛ إذ كان منه- صلَّى الله عليه وسلَّم- دعاؤُهم إليه، وتعريفُهم ما لهم فيه وعليهم؛ فبَيِّنٌ بذلك صِحَّةُ قَولِ أهلِ الإثباتِ الذين أضافوا أفعالَ العبادِ إليهم كسْبًا، وإلى الله جلَّ ثناؤه إنشاءً وتدبيرًا، وفسادُ قَولِ أهلِ القَدَرِ الذين أنكَروا أن يكونَ لله في ذلك صُنعٌ

.

2- قولُ الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أسنَدَ الإخراجَ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سياقِ تعليلِ إنزالِ الكتابِ إليه، فأعلَمَ أنَّ إخراجَه إيَّاهم مِن الظُّلُماتِ بسبَبِ هذا الكتابِ المُنْزَلِ، أي: بما يشتَمِلُ عليه مِن معاني الهدايةِ .

3- قولُ الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، تعليلُ الإنزالِ بالإخراجِ مِن الظُّلُماتِ دَلَّ على أنَّ الهدايةَ هي مرادُ اللهِ تعالى من النَّاسِ، وأنَّه لم يترُكْهم في ضلالِهم، فمَن اهتدى فبإرشادِ الله، ومن ضَلَّ فبإيثارِ الضَّالِّ هوى نفسِه على دلائِلِ الإرشادِ، وأمرُ اللهِ لا يكونُ إلَّا لحِكَمٍ ومصالحَ بعضُها أكبَرُ مِن بعضٍ .

4- في قَولِه تعالى: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ صحةُ إضافةِ الشَّيءِ إلى سَبَبِه المعلوم؛ لِقَولِه: لِتُخْرِجَ يعني: أنت- مع أنَّ المُخْرِجَ حقيقةً هو اللهُ- ولهذا قَيَّدَه بقوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ حتى لا يُظَنَّ أنَّ السببَ مُسْتَقِلٌّ، فإضافةُ الشَّيءِ إلى سَبَبِه المعلومِ أمرٌ جائزٌ، ولا أحَدَ يُنكِرُه؛ فقد جاءت به السُّنَّةُ، وجاء به القرآنُ، إذا كان السَّببُ مَعلومًا، إمَّا بالشَّرعِ وإمَّا بالحِسِّ والواقِعِ، ولكنْ يجِبُ العلمُ بأنَّ هذا السبَّبَ ليس مؤثِّرًا بنَفسِه، بل بإذنِ اللهِ الذي جعَلَه سَببًا؛ ولهذا قال هنا: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ .

5- قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ قولُه: النَّاسَ عامٌّ؛ إذ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مبعوثٌ إلى الخَلقِ كُلِّهم .

6- قولُ الله تعالى: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إنَّما شَبَّهَ الكُفرَ بالظُّلماتِ؛ لأنَّه نهايةُ ما يتحيَّرُ الرَّجلُ فيه عن طريقِ الهدايةِ، وشَبَّه الإيمانَ بالنُّورِ؛ لأنَّه نهايةُ ما ينجلي به طريقُ هدايتِه .

7- قوله تعالى: الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ حجَّةٌ على المعتزلةِ والقدريَّةِ بيِّنةٌ، لحُكمِه بالإخراجِ عليه، واشتراطِه إذنَه. والإذنُ: الإطلاقُ، لا مجرَّد العلمِ كما يزعمونَ .

8- قال الله تعالى: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ كما أنَّ له مُلكَ السَّمواتِ والأرضِ؛ خَلقًا ورِزقًا وتدبيرًا، فله الحُكمُ على عبادِه بأحكامِه الدِّينيَّةِ؛ لأنَّهم مِلكُه، ولا يليقُ به أن يترُكَهم سُدًى .

9- قال الله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ كُلُّ مَن آثرَ الدُّنيا وزهرَتَها، واستحَبَّ البقاءَ في نعيمِها على النَّعيمِ في الآخرةِ، وصَدَّ عن سبيلِ اللهِ- أي: صرَفَ النَّاسَ عنه، وهو دينُ اللهِ، الذي جاءت به الرُّسُل- فهو داخِلٌ في هذه الآيةِ، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما أخافُ على أُمَّتي الأئمةَ المضلِّينَ )) . وما أكثَرَهم في هذه الأزمانِ، واللهُ المستعانُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ

- قولُه: أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ في إسنادِ الإنزالِ إلى نُونِ العَظَمةِ ومُخاطبتِه بقولِه: إِلَيْكَ، وإسنادِ الإخراجِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: تَنويهٌ عَظيمٌ، وتشريفٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِن حيثُ المُشاركةُ في تحصيلِ الهدايةِ بإنزالِه تعالى، وبإخراجِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ إذ هو الدَّاعي والمُنذِرُ، وإنْ كان الهادي في الحَقيقةِ هو اللهَ سبحانه وتعالى

.

- قولُه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ فيه مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، حيث ذُكِرَ هنا الفاعلُ بينما حُذِفَ الفاعلُ في آيةِ سُورةِ الأعرافِ في قولِه: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف: 2] ، وهو مُقْتضى الظَّاهِرِ والإيجازِ، ولكنَّه ذُكِرَ هنا؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ الامتنانِ على النَّاسِ، وهو مُستَفادٌ مِن التَّعليلِ بقولِه: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، ومِن ذِكْرِ صِفةِ الرُّبوبيَّةِ بقولِه: بِإِذْنِ رَبِّهُمْ، بخِلافِ آيةِ سُورةِ الأعرافِ؛ فإنَّها في مَقامِ الطَّمأنَةِ والتَّصبيرِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فكان التَّعرُّضُ لِذكْرِ المُنْزَلِ إليه، والاقتصارُ عليه أهمَّ في ذلك المَقامِ، مع ما فيه مِن قَضاءِ حقِّ الإيجازِ؛ أمَّا التَّعرُّضُ للمُنْزَلِ إليه هنا فللتَّنويهِ بشأْنِه، ولِيُجْعَلَ له حَظٌّ في هذه المِنَّةِ وهو حظُّ الوَساطةِ، كما دلَّ عليه قولُه: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، ولِمَا فيه مِن غَمِّ المُعاندينَ والمُبْغضينَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولأجْلِ هذا المَقصِدِ وقَعَ إظهارُ صِفاتِ فاعِلِ الإنزالِ ثلاثَ مرَّاتٍ في قولِه: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، بعدَ أنْ كان المَقامُ للإضمارِ تَبَعًا لِقولِه: أَنْزَلْنَاهُ .

- قولُه: إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ استِئنافٌ مَبْنيٌّ على سؤالٍ، كأنَّه قيل: إلى أيِّ نورٍ؟ فقيل: إلى صِراطِ العزيزِ الحميدِ. أو بدلٌ مِن قولِه: إِلَى النُّورِ بإعادةِ العامِلِ (إلى). وإضافةُ الصِّراطِ إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّه مَقصِدُه، أو المُظْهِرُ والمُبَيِّنُ له .

- اختِيرَ وصْفُ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ مِن بَينِ الصِّفاتِ العُلَا لمزيدِ مُناسبتِها للمقامِ؛ لأنَّ (العزيز) الذي لا يُغلَب، وإنزالَ الكتابِ بُرهانٌ على أحقيَّةِ ما أرادَه اللهُ مِن الناس؛ فهو به غالبٌ للمُخالِفين، مُقيمٌ الحُجَّةَ عليهم. و(الحَميد): بمعنى المحمود؛ لأنَّ في إنزالِ هذا الكتابِ نِعمةً عَظيمةً تُرشِدُ إلى حَمْدِه عليه، وبذلك استَوعَبَ الوصفانِ الإشارةَ إلى الفَريقينِ مِن كُلِّ مُنساقٍ إلى الاهتداءِ مِن أوَّلِ وهلةٍ، ومِن مُجادِلٍ صائرٍ إلى الاهتداءِ بعدَ قِيامِ الحُجَّةِ، ونفادِ الحِيلةِ .

- وفي قولِه: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ تَقدَّمَت صِفةُ العزيزِ؛ لِتقدُّمِ ما دلَّ عليها، وتَلِيها صِفةُ الحميدِ؛ لِتُلُوِّ ما دلَّ عليها .

2- قوله تعالى: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ

- قولُه: وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فيه وعيدٌ لِمَن كفَرَ بالكتابِ ولم يخرُجْ به مِن الظُّلماتِ إلى النُّورِ بالويلِ، وهو نقيضُ (الوَأْلِ) وهو النَّجاةُ، و(ويل) كَلِمةُ وعيدٍ وتَهديدٍ، ورُفِعتْ؛ للدَّلالةِ على الثَّباتِ، كـ (سلامٌ عليك) .

3- قوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ

- قولُه: يَسْتَحِبُّونَ بمعنى يُحِبُّونَ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ للتَّأكيدِ، مثْلَ: استقدَمَ واستأخَرَ .

- قولُه: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فيه الاقتصارُ على إضافةِ سَبِيل إلى الاسمِ الجليلِ المُنْطوي على كلِّ وصْفٍ جميلٍ؛ لِرَوْمِ الاختصارِ .

- والإشارةُ في قولِه: أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أحرياءُ بما وُصِفُوا به مِن الضَّلالِ بسبَبِ صَدِّهم عن سَبيلِ الحقِّ، وابتغائِهم سَبيلَ الباطِلِ، ووصْفُ الضَّلالِ بالبعيدِ: يجوزُ أنْ يُرادَ وصْفُه بالبُعْدِ على تَشبيهِهِ بالطَّريقِ الشَّاسعةِ الَّتي يَتعذَّرُ رُجوعُ سالكِها، أي: ضلالٌ قَويٌّ يَعسُرُ إقلاعُ صاحِبِه عنه؛ ففيه استبعادٌ لاهتداءِ أمثالِهم

- قولُه: فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ دلَّ حرْفُ الظَّرفيَّةِ فِي على أنَّ الضَّلالَ مُحيطٌ بهم، وجَلْبَبَهم بِسَوادِه؛ فهم مُتمكِّنونَ منه، ومُنغمِسونَ فيه إلى الأذقانِ، يتخبَّطونَ في مَتاهاتِه، ويتعسَّفونَ في ظُلماتِه ، ففي جعْلِ الضَّلالِ مُحيطًا بهم إحاطةَ الظَّرفِ بما فيه ما لا يخفى مِن المُبالَغةِ

====================

 

سورةُ إبراهيمَ

الآيات (4-8)

ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

 

بِأَيَّامِ اللَّهِ: أي: نَعمائِه وبَلائِه، وقيل: بوقائعِه في الأُممِ

.

يَسُومُونَكُمْ: أي: يُولونَكم ويَبغونَكم؛ مِن قَولِهم: سامَه: إذا كلَّفَه العمَلَ الشَّاقَّ، وأصلُ (سوم): يدلُّ على الذَّهابِ في ابتغاءِ الشَّيءِ .

وَيَسْتَحْيُونَ: أي: يَستبقُونهنَّ أحياءً، وأصلُ (حيي): يدُلُّ على خِلافِ الموتِ .

تَأَذَّنَ: أي: أعلَمَ. وهو من آذنتُك بالأمرِ: أي أعلمْتُك، وأصلُ (أذن): يدُلُّ على العِلمِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: وما أرسَلْنا مِن رسولٍ قَبلَك- أيُّها النبيُّ- إلا بلُغةِ قَومِه؛ ليوضِّحَ لهم أمرَ دينهم، فيُضِلُّ اللهُ من يشاءُ عن الهُدى، ويَهدي من يشاءُ إلى الحَقِّ، وهو العزيزُ الحكيمُ.

ولقد أرسَلْنا موسى إلى بني إسرائيلَ، وأيَّدناه بالآياتِ العظيمةِ الدَّالَّةِ على صِدقِه، وأمَرْناه أن يَدعُوَهم إلى طريقِ الحَقِّ؛ ليُخرِجَهم من الضَّلالِ إلى الهُدى، ويُذَكِّرَهم بأيامِ نعمِ اللهِ، وبأيَّامِ نِقَمِه، إنَّ في هذا التذكيرِ لَدَلالاتٍ لكلِّ صبَّارٍ شكورٍ.

واذكُرْ- أيُّها الرَّسولُ- لقَومِك قصَّةَ موسى حين قال لبني إسرائيلَ: اذكُروا نِعمةَ اللهِ عليكم حين أنجاكم مِن فِرعونَ وأتباعِه، يُذيقُونَكم أشَدَّ العذابِ، ويُذبِّحونَ أبناءَكم الذُّكورَ، ويَستَبْقونَ نساءَكم للخِدمةِ والامتهانِ، وفي ذلكم اختبارٌ لكم مِن رَبِّكم عظيمٌ. وقال لهم موسى: اذكُروا حين أعلَمَ رَبُّكم إعلامًا مُؤكَّدًا: لئِنْ شَكَرتُموه على نِعَمِه لَيزيدَنَّكم مِن النَّعَمِ، ولئن كَفَرتُم نِعمةَ اللهِ فإنَّ عِقابَه لِمَن كفَرَ به شديدٌ. وقال لهم: إنْ تَكفُروا بنِعَمِ اللهِ أنتم وجميعُ أهلِ الأرض، فإنَّ الله لَغنيٌّ حميدٌ.

تفسير الآيات:

 

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ في أوَّلِ السورةِ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم: 1] كان هذا إنعامًا على الرَّسولِ، مِن حيثُ إنَّه فَوَّضَ إليه هذا المنصِبَ العظيمَ، وإنعامًا أيضًا على الخَلقِ، مِن حيثُ إنَّه أرسل إليهم مَن خَلَّصَهم مِن ظُلماتِ الكُفرِ وأرشَدَهم إلى نورِ الإيمان، فذكَرَ في هذه الآيةِ ما يجري مجرى تكميلِ النِّعمةِ والإحسانِ في الوَجهينِ؛ أمَّا بالنِّسبةِ إلى الرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- فلِأنَّه تعالى بيَّنَ أنَّ سائِرَ الأنبياءِ كانوا مَبعوثينَ إلى قَومِهم خاصَّةً، وأمَّا أنت- يا محمَّدُ- فمَبعوثٌ إلى عامَّةِ الخَلقِ، فكان هذا الإنعامُ في حَقِّك أفضَلَ وأكمَلَ. وأمَّا بالنِّسبةِ إلى عامَّةِ الخَلقِ، فهو أنَّه- تعالى- ذكَرَ أنَّه ما بعثَ رَسولًا إلى قومٍ إلَّا بلسانِ أولئك القومِ، فإنَّه متى كان الأمرُ كذلك، كان فَهمُهم لأسرارِ تلك الشَّريعةِ ووقوفُهم على حقائِقِها أسهَلَ، وعن الغَلَطِ والخطأِ أبعَدَ

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ.

أي: وما أرسَلْنا رسُولًا إلى أمَّةٍ مِن الأُمَمِ إلَّا بلُغةِ قَومِه الَّذين أرسَلْناه إليهم؛ ليُفهِمَهم ويُوضِّحَ لهم أمرَ دينِهم .

فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .

أي: فبعدَ البَيانِ وإقامةِ الحُجَّةِ عليهم يضِلُّ اللهُ من يشاءُ إضلالَه، فيخذُلُه عن اتِّباعِ الحَقِّ، ويُوَفِّقُ مَن يشاءُ هدايتَه إلى الحَقِّ، فالتَّوفيقُ والخِذلانُ بيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ .

وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

أي: وهو العزيزُ الذي لا يُغْلَبُ على مشيئتِه، فما شاءَ كان، وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ، ومِن ذلك مشيئتُه بالإضلالِ أو الهدايةِ، وانفرادُه بهما، وهو الحكيمُ الذي يضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائقِ به، ومِن حِكمتِه أنَّه لا يضَعُ هِدايتَه ولا إضلالَه إلَّا بالمحَلِّ اللائقِ به، فيُضِلُّ من يستحِقُّ الإضلالَ، ويهدي مَن هو أهلٌ لذلك .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ أنَّه إنَّما أرسلَ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى النَّاسِ؛ ليُخرِجَهم مِن الظُّلماتِ إلى النُّورِ، وذكَرَ كَمالَ إنعامِه عليه وعلى قومِه في ذلك الإرسالِ، وفي تلك البَعثةِ- أتبَعَ ذلك بشَرحِ بَعثةِ سائرِ الأنبياءِ إلى أقوامِهم وكيفيَّةِ مُعاملةِ أقوامِهم معهم؛ تصبيرًا للرَّسولِ- عليه السَّلامُ- على أذَى قومِه، وإرشادًا له إلى كيفيَّةِ مُكالمتِهم ومُعاملتِهم، فذكَرَ تعالى- على العادةِ المألوفةِ- قصَصَ بعضِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، فبدأ بذكرِ قِصَّةِ موسى عليه السَّلامُ .

وأيضًا لَمَّا كانت الآياتُ السَّابقةُ مَسوقةً للرَّدِّ على من أنكَروا أنَّ القُرآنَ مُنَزَّلٌ مِن الله؛ أعقَبَ الرَّدَّ بالتمثيلِ بالنَّظيرِ: وهو إرسالُ موسى عليه السَّلامُ إلى قومِه بمِثلِ ما أُرسِلَ به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبمِثلِ الغايةِ التي أُرسِلَ لها محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليُخرِجَ قَومَه مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا.

أي: ولقد أرسَلْنا موسى بآياتِنا العظيمةِ الدَّالَّةِ على صِدقِه، وصِحَّةِ ما جاء به .

أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.

أي: أمَرْنا موسى قائلينَ له: ادْعُ قومَك بني إسرائيلَ إلى طريقِ الحَقِّ؛ لِيَخرُجوا مِن ظُلماتِ الكُفرِ والجَهلِ والمعاصي إلى نورِ الإيمانِ والعِلمِ والطَّاعةِ .

وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ.

أي: وذَكِّرْ- يا موسى- قومَك بني إسرائيلَ بأيامِ نعمِ اللهِ وإحسانِه، وبأيَّامِ نِقَمِه وبَطشِه وانتقامِه ؛ وذلك ليشكُروا اللهَ، ويَحذَرُوا عذابَه .

عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّه بينما موسى عليه السَّلامُ في قَومِه يُذَكِّرُهم بأيَّامِ اللهِ- وأيَّامُ اللهِ: نَعماؤُه وبَلاؤُه- إذ قال ...)) الحديث .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ .

أي: إنَّ في التَّذكيرِ بنِعَمِ اللهِ وأيَّامِه لَدَلالاتٍ وعِبَرًا ومَواعِظَ لكُلِّ مَن كان عظيمَ الصَّبرِ على الطَّاعةِ، وعن المعصيةِ، وعلى البلاءِ والضَّرَّاءِ، عظيمَ الشُّكرِ لله على السَّرَّاءِ والنَّعماءِ .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تقَدَّمَ أمرُ الله تعالى لموسى- عليه السَّلامُ- بالتَّذكيرِ بأيَّامِ الله؛ امتثَلَ أمرَ رَبِّه، فذكَّرَهم بما أنعَمَ تعالى عليهم مِن نَجاتِهم مِن آلِ فِرعونَ، وفي ضِمنِها تَعدادُ شَيءٍ ممَّا جرى عليهم مِن نِقماتِ اللهِ .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ.

أي: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- قولَ موسى لِقَومِه بني إسرائيلَ: اذكُروا بقُلوبِكم وألسِنتِكم إنعامَ اللهِ عليكم، حين أنجاكم مِن فِرعونَ وقَومِه .

يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ.

أي: يُذيقُكم آلُ فِرعونَ عذابًا سيِّئًا شَديدًا .

وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ .

أي: ويُذَبِّحونَ أبناءَكم الذُّكورَ المَولودين .

وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ.

أي: ويَترُكونَ إناثَكم دونَ قَتلٍ؛ مِن أجلِ جعلِهم خدمًا وأرقَّاء .

وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.

أي: وفي عذابِ آلِ فِرعونَ لكم اختبارٌ مِن اللهِ لكم عظيمٌ، وفي إنجائِنا لكم مِنهم نِعمةٌ مِن اللهِ عَظيمةٌ .

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذَكَّرَهم بنعمةِ الأمنِ، رغَّبَهم فيما يزيدُها، ورهَّبَهم ممَّا يُزيلُها، فقال :

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.

أي: واذكُروا حين أعلَمَكم ربُّكم: لَئِن شَكَرتُم اللهَ على نِعَمِه بطاعتِه في أمرِه ونَهيِه، ليزيدَنَّـكم من النِّعَمِ .

وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ.

أي: ولئنْ كَفَرتُم نعمةَ اللهِ عليكم فلم تشكُروه عليها بطاعتِه في أمرِه ونهيِه؛ فإنَّ عِقابَه لِمَن كفَرَ به شديدٌ، فيُصيبُكم منه ما يسلُبُ تلك النِّعَمَ، ويُحِلُّ بكم النِّقمَ .

وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ موسى عليه السَّلامُ لَمَّا بيَّنَ أنَّ الاشتغالَ بالشُّكرِ يُوجِبُ تزايُدَ الخَيراتِ في الدُّنيا وفي الآخرةِ، والاشتغالَ بكُفرانِ النِّعَمِ يُوجِبُ العذابَ الشديدَ، وحصولَ الآفاتِ في الدُّنيا والآخرةِ - بيَّنَ بعدَه أنَّ منافِعَ الشُّكرِ ومضارَّ الكُفرانِ لا تعودُ إلَّا إلى صاحِبِ الشُّكرِ وصاحِبِ الكُفرانِ، أمَّا المعبودُ والمشكورُ فإنَّه مُتعالٍ عن أن ينتفِعَ بالشُّكرِ أو يَستضِرَّ بالكُفرانِ .

وأيضًا لَمَّا كان مَن حَثَّ على شيءٍ وأثابَ عليه، أو نهى عنه وعاقبَ على فعلِه، يكونُ لغَرضٍ له؛ بيَّنَ أنَّ اللهَ سبحانَه مُتعالٍ عن أن يَلحَقَه ضَرٌّ أو نفعٌ، وأنَّ ضَرَّ ذلك ونَفْعَه خاصٌّ بالعبدِ، فقال تعالى حاكِيًا عنه :

وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)  .

أي: وقال موسى لقَومِه: إن تكفُروا بنِعَمِ اللهِ أنتم وجميعُ مَن في الأرضِ، فإنَّ اللهَ غنيٌّ عن جميعِ خَلقِه، وعن شُكرِهم له، محمودٌ قد اسْتَوْجَب الحمدَ لِذاتِه لكثرةِ إنعامِه، وإنْ لم تَشْكُروه وهو حميدٌ في ذاتِه وأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه .

كما قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7] .

وقال سُبحانه: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن: 6] .

وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما روى عن اللهِ تبارك وتعالى أنَّه قال: ((يا عبادي كلُّكم ضالٌّ إلَّا مَن هَدَيتُه، فاستهدُوني أهْدِكم، يا عبادي كُلُّكم جائِعٌ إلَّا مَن أطعَمتُه، فاستطعِموني أُطعِمْكم، يا عبادي كلُّكم عارٍ إلَّا مَن كسَوتُه، فاسْتَكْسُوني أكْسُكم، يا عبادي إنَّكم تُخطِئونَ باللَّيلِ والنَّهارِ، وأنا أغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا، فاستغفِروني أغفِرْ لكم، يا عبادي إنَّكم لن تَبلُغوا ضُرِّي فتضُرُّوني، ولن تبلُغوا نفعي فتَنفَعوني، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرِكَم، وإنسَكم وجِنَّكم، كانوا على أتقى قلبِ رَجُلٍ واحدٍ منكم؛ ما زاد ذلك في مُلكي شيئًا، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم، وإنسَكم وجِنَّكم، كانوا على أفجَرِ قَلبِ رجلٍ واحدٍ؛ ما نقص ذلك مِن مُلكي شيئًا، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني فأعطيتُ كُلَّ إنسانٍ مَسألتَه، ما نقَصَ ذلك ممَّا عندي إلَّا كما يَنقُصُ المِخْيَطُ إذا أُدخِلَ البحرَ) )

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ في هذا دليلٌ على مشروعيةِ الوَعظِ المُرَقِّقِ للقُلوبِ، المُقَوِّي لليقينِ

.

2- قال الله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ مَعرِفةُ هذه الأيَّامِ تُوجِبُ للعبدِ استبصارَ العِبَرِ، وبحَسَب مَعرفتِه بها تكونُ عِبرَتُه وعِظَتُه؛ قال الله تعالى لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف: 111] .

3- قال الله تعالى لموسَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وهي تتناولُ أيَّامَ نِعَمِه وأيَّامَ نِقَمِه؛ ليشكُروا ويَعتَبِروا؛ ولهذا قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ فإنَّ ذِكرَ النِّعَمِ يدعو إلى الشُّكرِ، وذِكْرَ النِّقَمِ يقتضي الصَّبرَ على فِعلِ المأمورِ- وإن كَرِهَتْه النَّفسُ- وعن المحظورِ، وإن أحَبَّتْه النَّفسُ؛ لئلَّا يُصيبَه ما أصاب غيرَه مِن النِّقمةِ .

4- قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ إذا اعتبَرَ العبدُ الدِّينَ كُلَّه، رآه يرجِعُ بجُملتِه إلى الصَّبرِ والشُّكرِ .

5- قولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ فيه تنبيهٌ على أنَّ المؤمِنَ يجِبُ ألَّا يخلوَ زَمانه عن أحدِ هذينِ الأمرينِ، فإن جرى الوقتُ على ما يلائِمُ طَبعَه ويوافِقُ إرادتَه، كان مشغولًا بالشُّكرِ، وإن جرى بما لا يلائِمُ طَبعَه، كان مشغولًا بالصَّبرِ .

6- قولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ في صيغةِ المُبالغةِ إشارةٌ إلى أنَّ عادتَه تعالى جَرَت بأنَّه إنما ينصُرُ أولياءَه بعد طولِ الامتحانِ بعظيمِ البلاءِ؛ ليتبيَّنَ الصَّادِقُ مِن الكاذبِ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214] ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ [يوسف: 110] ، الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 1، 2]؛ وذلك أنَّه لا شيءَ أشَقُّ على النُّفوسِ مِن مُفارقةِ المألوفِ، لا سيَّما إن كان دِينًا، ولا سيَّما إن كان قد درجَ عليه الأسلافُ، فلا يقومُ بالدُّعاءِ إلى الدِّينِ إلَّا من بلغَ الذِّروةَ في الصَّبرِ .

7- قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ الآيةُ نَصٌّ في أنَّ الشُّكرَ سبَبُ المزيدِ ، فالشكرُ معه المزيدُ أبدًا، فمتَى لم تَرَ حالَك في مزيدٍ، فاسْتقْبِلِ الشُّكرَ .

8- لا شَكَّ أنَّ النِّعَمَ تستوجِبُ مِنَّا الشُّكرَ؛ لأنَّنا إذا شَكَرْنا اللهَ عزَّ وجَلَّ فقد قال الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] فبيَّنَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّه بالشُّكرِ يزيدُ النِّعَم، أمَّا إذا قُوبِلَت بالكُفرِ فإنَّ اللهَ تعالى سيعذِّبُ هؤلاء الذين أنعَمَ الله عليهم، فبَدَّلوا نِعمةَ اللهِ كُفرًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- مَن بَلَغَه القرآنُ بلغةٍ لا يفهَمْ منها شيئًا؛ فإنه لا تقومُ عليه الحُجَّةُ؛ لقولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، وقولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

[الزخرف: 3] .

2- قولُ الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ إن قيلَ: هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما بُعِثَ للعَرَبِ خاصَّةً، فكيف الجمعُ بين هذه الآيةِ وبين الأدلَّةِ الدَّالَّةِ على عمومِ رِسالتِه؟

والجوابُ عن ذلك:

أنَّ الله تعالى قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ولم يقُلْ: (وما أرسَلْنا مِن رسولٍ إلَّا إلى قومِه) ، فلا تعارضَ بينهما.

وأيضًا فإنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُرسِلَ إلى النَّاسِ كافَّةً بلسانِ قَومِه، وهم العرَبُ، ونزولُه بلِسانِهم مع التَّرجمةِ لباقي الألسُنِ كافٍ لحُصولِ الغَرَض بذلك، ولأنَّه أبعَدُ عن التَّحريفِ والتَّبديلِ، وأسلَمُ مِن التَّنازُعِ والاختلافِ . فالله عزَّ وجلَّ لم يرسِلْه إلَّا بلسانِ قَومِه الذين خاطَبهم أوَّلًا، ليبيِّنَ لقَومِه، فإذا بيَّنَ لقَومِه ما أراده حصل بذلك المقصودُ لهم ولغيرِهم؛ فإنَّ قومَه الذين بلَّغَ إليهم أوَّلًا يمكِنُهم أن يبَلِّغوا عنه اللَّفظَ، ويُمكِنُهم أن ينقُلوا عنه المعنى لِمَن لا يعرِفُ اللُّغةَ، ويُمكِنُ لغَيرِهم أن يتعَلَّمَ منهم لسانَه، فيعرف مرادَه، فالحُجَّةُ تقومُ على الخَلقِ ويحصُلُ لهم الهُدى بمن ينقُل عن الرَّسولِ: تارةً المعنى، وتارةً اللَّفظ؛ ولهذا يجوزُ نقلُ حديثِه بالمعنى، والقرآنُ يجوزُ تَرجمةُ معانيه لِمَن لا يعرِفُ العربيَّةَ، باتِّفاقِ العُلَماءِ .

3- قولُ الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ يُستدَلُّ به على أنَّ عُلومَ العربيَّةِ المُوصِلةَ إلى تبيينِ كلامِه تعالى وكلامِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أمورٌ مَطلوبةٌ مَحبوبةٌ لله؛ لأنَّه لا يتِمُّ مَعرِفةُ ما أُنزِلَ على رسولِه إلَّا بها، إلَّا إذا كان النَّاسُ بحالةٍ لا يحتاجونَ إليها، وذلك إذا تمَرَّنوا على العربيَّة، ونشأ عليها صغيرُهم وصارت طبيعةً لهم، فحينئذٍ قد كُفُوا المُؤنةَ، وصَلَحوا لأن يتلَقَّوا عن اللهِ وعن رَسولِه ابتداءً، كما تلقَّى عنهم الصَّحابةُ رَضِيَ الله عنهم .

4- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ لا حُجَّةَ للعَجَمِ وغيرِهم في هذه الآيةِ؛ لأنَّ كُلَّ مَن تُرجِمَ له ما جاء به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ترجمةً يفهَمُها؛ لَزِمَته الحُجَّةُ، وقد قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ: 28] ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((والذي نفسي بيَدِه، لا يسمَعُ بي أحدٌ مِن هذه الأمَّةِ؛ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثمَّ لم يؤمِنْ بالذي أُرسِلْتُ به- إلَّا كان مِن أصحابِ النَّارِ )) .

5- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أنَّه لا بدَّ أن يكونَ الرسولُ مبيِّنًا لقومِه ما أُرسِل به، ويتفرع على هذه الفائدة أهميَّةُ التَّرجمةِ، وأنَّ على المُسلِمينَ أن يُترجِموا الشَّريعةَ إلى لغةِ مَن يُخاطِبونَهم بها حتى تتِمَّ الحُجَّةُ؛ فمَن أراد أن يذهَبَ إلى قومٍ يدعوهم إلى اللهِ، لا بُدَّ أن يتعَلَّمَ لُغتَهم حتى يتمكَّنَ مِن دَعوتِهم، أو يصطَحِبَ شَخصًا يُترجِمُ له يكونُ عالِمًا باللُّغَتَينِ: الأصليَّةِ والفرعيَّةِ، ويكونُ له إلمامٌ بموضوعِ ما يُترجِمُه، فإذا كان يريدُ أن يُترجِمَ كلامًا في التوحيدِ لا بد أن يكونَ عنده إلمامٌ بذلك؛ لئلَّا يُفهِمَ الأمرَ على خلافِه !

6- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ وحَّدَ اللِّسانَ، وإن أضافه إلى القَومِ؛ لأنَّ المرادَ اللُّغةُ، فهي اسمُ جِنسٍ يقَعُ على القليلِ والكثيرِ ، واللسانُ يُطلقُ على «القَولِ» كثيرًا في اللُّغةِ العربيَّةِ، فقولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ أي: بلُغتِهم .

7- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أنَّ الرُّسُلَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ يُبَيِّنونَ للنَّاسِ بَيانًا تامًّا لا يُحتاجُ معه إلى إيضاحٍ ، فالرُّسُلُ هي التي تُبَيِّنُ، والله هو الذي يُضِلُّ مَن يشاءُ، ويهدي مَن يشاءُ بعِزَّتِه وحِكمتِه، قال تعالى: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

8- قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، استُدِلَّ به على أنَّه لا يُشتَرَطُ أن تكونَ خطبةُ الجمعةِ بالعربيَّةِ، بل تكونُ بلُغةِ القَومِ الذين يخطبُ فيهم؛ فالخُطبتانِ ليستا ممَّا يُتعَبَّدُ بألفاظِهما .

9- تعلُّمُ غيرِ العربيَّةِ من اللغات ليس حرامًا، بل قد يكونُ واجبًا إذا توقَّفَت دعوةُ غيرِ العربيِّ على تعلُّمِ لُغتِه، فيصير تعلُّمُ لغتِه فرضَ كفايةٍ؛ لأنَّه لا بدَّ من تبليغِهم دينَ اللهِ، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ .

10- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ دَلالةٌ على أنَّ الهُدى والضَّلالَ إنَّما يكونُ بعدَ البَيانِ .

11- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، وقال لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] ، فكلُّ ما بَيَّنَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعَن ربِّه سُبحانَه بَيَّنَه بأمرِه وإذنِه .

12- اللهُ سُبحانَه يُرسِلُ الرُّسُلَ مِن جِنسِ المُرسَلِ إليهم؛ لأنَّه أتمُّ لحُصولِ المقصودِ بالرِّسالةِ؛ قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ .

13- الاستدلالُ بالقُرآنِ إنَّما يكونُ بحَملِه على لُغةِ العَربِ التي أُنزِلَ بها، بل قد نزل بلُغةِ قُرَيشٍ، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ، وقال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء: 195] فليس لأحدٍ أن يَحمِلَ ألفاظَ القُرآنِ على غيرِ ذلك، مِن عُرفٍ عامٍّ، واصطلاحٍ خاصٍّ، بل لا يحمِله إلَّا على تلك اللُّغةِ .

14- قولُ الله تعالى: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فيه رَدٌّ على القَدَريَّةِ .

15-  أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه إنَّما يَنتفِعُ بآياتِهِ ويَتَّعِظُ بها الصَّبَّارُ الشَّكورُ، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وقال تعالى في (لُقمانَ): أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31] ، وقال في قِصَّةِ (سبَأٍ): فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ: 19] ، وقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى: 32، 33]؛ فهذه أربَعةُ مَواضِعَ في القُرآنِ تدُلُّ على أنَّ آياتِ الرَّبِّ إنَّما يَنتفِعُ بها أهْلُ الصَّبرِ والشُّكرِ .

16- الإيمانُ نِصفانِ: نِصفٌ صَبرٌ، ونِصفٌ شُكرٌ؛ قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((عَجَبًا لأمرِ المُؤمِنِ، إنَّ أمْرَه كُلَّه خَيرٌ، وليس ذاك لأحَدٍ إلَّا للمُؤمِنِ؛ إن أصابَتْه سرَّاءُ شكَرَ فكان خَيرًا له، وإن أصابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ فكان خَيرًا له )) ، فمنازِلُ الإيمانِ كُلُّها بين الصبرِ والشُّكرِ .

17- قولُ الله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لَمَّا كان المرادُ بالتَّذكيرِ بالأيَّامِ زيادةَ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ؛ أشار إلى أنَّ مَقامَ الترهيبِ هنا أهَمُّ- للحَثِّ على تَركِهم الضَّلالَ- بتَركِ عادتِه في الترفُّقِ، بمثلِ ما في البقرةِ والمائدةِ مِن الاستعطافِ بعاطفةِ الرَّحِم بقَولِه: يَا قَوْمِ، فأسقَطَها هنا؛ إشارةً إلى أنَّ المقامَ يقتضي الإبلاغَ في الإيجازِ في التَّذكيرِ؛ للخَوفِ مِن مُعاجَلتِهم بالعذابِ .

18- حيثُ ذُكِرَ في الكتابِ والسُّنَّةِ «آلُ فُلانٍ»، كان «فلانٌ» داخِلًا فيهم، كقَولِه تعالى: إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فالرجلُ حيثُ أُضيف إلى آلِه دخَل فيه هو .

19- قَولُ الله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عبَّرَ بالنِّعمةِ عن الإنعامِ؛ حَثًّا على الاستدلالِ بالأثَرِ على المؤَثِّر

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

- قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ فيه قَصْرٌ بـ (ما... إلَّا)، وإذا كانت صِيغَةُ القصْرِ مُستعملَةً في ظاهرِها، ومُسلَّطَةً على مُتعلِّقَي الفعْلِ المقصورِ، كان قصرًا إضافيًّا لِقلْبِ اعتقادِ المُخاطَبينَ؛ فيتعيَّنُ أنْ يكونَ ردًّا على فريقٍ مِن المُشركينَ قالوا: هلَّا أُنْزِلَ القُرآنُ بِلُغةِ العَجَمِ؟ وإذا كانت صِيغَةُ القصْرِ جاريةً على خِلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ، ولم يكُنْ ردًّا لمقالةِ بعضِ المُشركينَ، يكُون تَنزيلًا للمُشركينَ مَنزلةَ مَن ليسوا بعربٍ؛ لعدَمِ تأثُّرِهم بآياتِ القُرآنِ، وقولُه: إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ إدماجٌ في الاستثناءِ المُتسلِّطِ عليه القصْرُ، أو يكونُ مُتعلِّقًا بفعْلِ لِيُبَيِّنَ مُقدَّمًا عليه

.

- والعُدولُ إلى صِيغَةِ الاستقبالِ فَيُضِلُّ وَيَهْدِي؛ لاستحضارِ الصُّورةِ، أو للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والاستمرارِ حسَبَ تَجدُّدِ البَيانِ مِن الرُّسلِ المُتعاقبةِ عليهم السَّلامُ .

- وأيضًا في قولِه: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الْتفاتٌ بإسنادِ الفِعلينِ إلى الاسمِ الجَليلِ المُنْطوي على الصِّفاتِ؛ لِتفخيمِ شأنِهما، وتَرشيحِ مناطِ كلٍّ منهما .

- وتقديمُ الإضلالِ على الهدايةِ؛ لأنَّه متقَدِّمٌ عليها، إذ هو إبقاءٌ على الأصلِ، والهدايةُ إنشاءُ ما لم يكُنْ ، أو للمُبالَغةِ في بيانِ أنْ لا تأثيرَ للتَّبْيينِ والتَّذكيرِ مِن قِبَلِ الرُّسلِ، وأنَّ مَدارَ الأمْرِ إنَّما هو مشيئتُه تعالى بإيهامِ أنْ ترتُّبَ الضَّلالةِ على ذلك أسرَعُ مِن ترتُّبِ الاهتِداءِ .

2- قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ

- قولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فيه الْتِفاتٌ مِن التَّكلُّمِ إلى الغَيبةِ بإضافةِ الأيَّامِ إلى الاسمِ الجليلِ؛ للإيذانِ بِفَخامةِ شأْنِها، والإشعارِ بعدَمِ اختِصاصِ ما فيها مِن المُعاملَةِ بالمخاطَبِ وقومِه- كما تُوهِمُه الإضافةُ إلى ضَميرِ المُتكلِّمِ- أي: عِظْهُم بالتَّرغيبِ التَّرهيبِ، والوعْدِ والوعيدِ .

- وفي قولِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ تأكيدُ الإخبارِ عن إرسالِ موسى عليه السَّلامُ بِلامِ القَسَمِ، وحرْفِ التَّحقيقِ (لَقَدْ)؛ لِتنزيلِ المُنْكرينَ رِسالةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَنزلةَ مَن يُنْكِرُ رسالةَ موسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّ حالَهم في التَّكذيبِ برسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقْتَضي ذلك التَّنزيلَ؛ لأنَّ ما جاز على المِثلِ يجوزُ على المُماثِلِ، على أنَّ منهم مَن قال: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] ، والباءُ في بِآيَاتِنَا للمُصاحَبةِ، أي: إرسالًا مُصاحِبًا للآياتِ الدَّالةِ على صِدْقِه في رِسالتِه، كما أُرْسِلَ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُصاحِبًا لآيةِ القُرآنِ الدَّالِّ على أنَّه مِن عندِ اللهِ .

- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ صَبَّارٍ شَكُورٍ صِفَتَا مُبالَغةٍ، وهما مُشعرَتانِ بأنَّ أيَّامَ اللهِ المُرادُ بهما: بَلاؤُه ونَعْماؤه، أي: صبَّارٍ على بلائِه، شَكورٍ لِنَعمائِه؛ فإذا سمِعَ بما أنزَلَ اللهُ مِن البلاءِ على الأُمَمِ، أو بما أفاض عليهم مِن النِّعَمِ، تَنبَّهَ على ما يجِبُ عليه مِن الصَّبرِ إذا أصابه بلاءٌ، ومِن الشُّكرِ إذا أصابَتْه نَعماءُ .

- وخُصَّ الصَّبَّارُ والشَّكورُ؛ لأنَّهما هما اللَّذانِ يَنتفِعانِ بالتَّذكيرِ والتَّنبيهِ ويتَّعظانِ به، فصارت كأنَّها ليست آياتٍ إلَّا لهما، كما في قَولِه تعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] ، وقَولِه تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات: 45] ، وقيل: لا يَبعُدُ أن يُقالَ: الانتفاعُ بهذا النَّوعِ مِن التذكيرِ لا يُمكِنُ حُصولُه إلَّا لِمَن كان صابِرًا أو شاكِرًا، أمَّا الذي لا يكونُ كذلك، فلم ينتفِعْ بهذه الآياتِ، وقيل: أراد لكلِّ مُؤمنٍ ناظِرٍ لنفْسِه؛ لأنَّ الصَّبرَ والشُّكرَ مِن سجايا أهلِ الإيمانِ، وعبَّرَ عنه بذلك؛ تَنبيهًا على أنَّ الصَّبرَ والشُّكرَ عنوانُ المُؤمنِ ، وقيل: لَمَّا كانت الآياتُ مُختلفةً؛ بعضُها آياتُ مَوعِظةٍ وزَجرٍ، وبَعضُها آياتُ مِنَّةٍ وترغيبٍ- جُعِلَت متعلِّقةً بـ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ؛ إذ الصبرُ مناسِبٌ للزَّجرِ؛ لأنَّ التخويفَ يبعَثُ النَّفسَ على تحمُّلِ مُعاكَسةِ هواها؛ خيفةَ الوقوعِ في سُوءِ العاقبةِ، والإنعامَ يبعَثُ النَّفسَ على الشُّكرِ، فكان ذِكرُ الصِّفَتينِ تَوزيعًا لِما أجمَلَه ذِكرُ أيَّامِ اللهِ، مِن أيامِ بُؤسٍ وأيَّامِ نَعيمٍ .

- وقُدِّمَ الصَّبَّارُ على الشَّكُورِ؛ لكونِ الشُّكرِ عاقبةَ الصَّبرِ .

- واسمُ الإشارةِ في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ عائدٌ إلى ما ذُكِرَ مِن الإخراجِ والتَّذكيرِ، وهي آياتٌ كائنةٌ في الإخراجِ والتَّذكيرِ على اختِلافِ أحوالِه، وقد أحاط بمعنى هذا الشُّمولِ حرْفُ الظَّرفيَّةِ مِن قولِه: فِي ذَلِكَ؛ لأنَّ الظَّرفيَّةَ تجمَعُ أشياءَ مُختلفةً يحتَويها الظَّرفُ؛ ولذلك كان لِحرْفِ الظَّرفيَّةِ هنا موقِعٌ بليغٌ .

3- قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ

- قولُه: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فيه التَّعبيرُ بصِيغةِ الإفعالِ أَنْجَاكُمْ دُونَ صِيغةِ التَّفعيلِ نَجَّيْنَاكُمْ الذي اقتَضاه سِياقُ سورةِ البَقرةِ؛ لأنَّهم لَمَّا كانوا قد طالَ صَبرُهم جدًّا بما طالَ مِن بَلائِهم مِن فِرعونَ على وَجهٍ لا يُمكِنُ في العادةِ خَلاصُهم منه، وإنْ أمكنَ على بُعدٍ لم يَكُنْ إلَّا في أزمنةٍ طِوالٍ جدًّا بتَعبٍ شَديدٍ؛ أشارَ بصِيغةِ الإفعالِ أَنْجَاكُمْ إلى إسراعِه بخَلاصِهم بالنِّسبةِ إليه لو جرَى على مُقتضَى العادةِ جزاءً لهم على طُولِ صَبرِهم . إضافةً إلى تَذكيرِهم بنِعمةِ اللهِ في نَجاتِهم، والتَّذكيرُ بِنعمةِ اللهِ في (أنْجَى) أبلَغُ مِن (نَجَّى)؛ لِمَا فيه مِن الإسراعِ في النَّجاةِ، وإنْ كان كلٌّ منهما مِن جَليلِ النِّعمِ. وقِيلَ: استعمَلَ أَنْجَاكُمْ؛ لِمَا زادَ على ما في البقرةِ مِنَ العَذابِ؛ فإنَّه فَسَّرَ سُوءَ العَذابِ بقولِه: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة: 49] ، في حينِ عَطَفَ تَذبيحَ الأبناءِ على سُوءِ العذابِ في آيةِ إبراهيمَ، فجعَلَ تَذْبيحَ الأبناءِ أمْرًا آخَرَ غيرَ سُوءِ العذابِ؛ فلمَّا زاد في العذابِ اقْتَضى ذلك الإسراعَ في الإنجاءِ .

- قولُه: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَيُذَبِّحُونَ، وفي سُورةِ (البقرةِ) قال: يُذَبِّحُونَ [البقرة: 49] ، وفي (الأعرافِ) قال: يُقَتِّلُونَ [الأعراف: 141] ؛ فهاهنا وَيُذَبِّحُونَ مع الواوِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ التَّذبيحَ حيثُ طُرِحَ الواوُ جُعِلَ تَفسيرًا للعَذابِ وبَيانًا له، وحيث أُثْبِتَ جُعِلَ التَّذبيحُ- لأنَّه أَوْفى على جنْسِ العَذابِ، وزادَ عليه زِيادةً ظاهرةً- كأنَّه جِنْسٌ آخَرُ؛ فحُذِفتِ الواوُ في سُورةِ البَقرةِ؛ لأنَّ قولَه: يُذَبِّحُونَ تَفسيرٌ لقولِه: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وفي التَفسيرِ لا يَحسُنُ ذِكرُ الواوِ، كما تقولُ: جاءني القومُ زيدٌ وعمرٌو، إذا أردتَ تَفسيرَ القومِ، وأمَّا دخولُ الواوِ هنا في هذِه السُّورةِ؛ فلأنَّ آلَ فِرعونَ كانوا يُعذِّبونهم بأنواعٍ مِن العذابِ غيرِ التذبيحِ وبالتذبيحِ أيضًا؛ فقوله: وَيُذَبِّحُونَ نوعٌ آخَرُ مِن العذابِ .

4- قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ

- قولُه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، أي: آذَنَ إيذانًا بليغًا لا تَبقَى معه شائبةٌ؛ فـ تَأَذَّنَ بمعنى آذَنَ، كـ (توعَّدَ وأوعَدَ)، غيرَ أنَّه أبلَغُ؛ لأنَّ في صِيغَةِ (تفعَّل) زيادةَ معنًى على صِيغَةِ (أفْعَل)، ولِمَا في التَّفعُّلِ مِن معنى المُبالَغةِ، والتَّكلُّفِ المُحمولِ في حقِّه سبحانه على غايَتِه الَّتي هي الكمالُ .

- قولُه: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، وكأنَّه راعَى ظاهِرَ المُقابَلةِ في قولِه: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، وجاء التَّركيبُ على ما عُهِدَ في القُرآنِ؛ مِن أنَّه إذا ذُكِرَ الخيرُ أُسْنِدَ إليه تعالى، وإذا ذُكِرَ العَذابُ بعدَه عُدِلَ عن نسبَتِه إليه، فقال: لَأَزِيدَنَّكُمْ؛ فنسَبَ الزِّيادةَ إليه، وقال: إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، ولم يأتِ التَّركيبُ: (لَأُعذِّبَنَّكم)، وخرَجَ في لَأَزِيدَنَّكُمْ بالمفعولِ، وهنا لم يُذْكَرْ، وإنْ كان المعنى عليه، أي: إنَّ عذابي لكم لَشديدٌ؛ فمِن عادَةِ الكِرامِ التَّصريحُ بالوعْدِ، والتَّعريضُ بالوعيدِ، فما الظَّنُّ بأكرَمِ الأكرمينَ؟ ويجوزُ أنْ يكونَ المذكورُ تعليلًا للجوابِ المحذوفِ، أي: لَأُعذِّبَنَّكم، فاستغنَى بـ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ عن (لأُعذِّبنَّكم عذابًا شديدًا)؛ لكونِه أعمَّ وأوجزَ، ولكونِ إفادةِ الوعيدِ بضربٍ مِن التعريضِ أوْقَعَ في النَّفْسِ .

5- قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ

- قولُه: وَقَالَ مُوسَى... فيه إعادةُ فعْلِ القَولِ في عطْفِ بعضِ كلامِ موسى عليه السَّلامُ على بعضٍ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ هذا ممَّا تأذَّنَ به الرَّبُّ، وإنَّما هو تنبيهٌ على كلامِ اللهِ، وفي إعادةِ فعْلِ القولِ اهتمامٌ بهذه الجُملةِ وتَنويهٌ بها؛ حتَّى تبرُزَ مُستقلِّةً، وحتَّى يُصْغِيَ إليها السَّامعونَ للقُرآنِ .

- وحُذِفَ جوابُ إِنْ تَكْفُرُوا؛ لدَلالةِ المعنى عليه، والتَّقديرُ: فإنَّما ضرَرُ كُفْرِكم لاحقٌ بكم، واللهُ تعالى مُتَّصفٌ بالغِنى المُطلَقِ والحمدِ، سواءٌ كفَروا أم شَكَروا، وفي خِطابِه لهم تَحقيرٌ لشأْنِهم، وتعظيمٌ للهِ تعالى، وكذلك في ذِكْرِ هاتينِ الصِّفتَينِ .

- وقولُه: جَمِيعًا تأْكيدٌ لـ مَنْ فِي الْأَرْضِ؛ للتَّنصيصِ على العُمومِ

================

 

سورةُ إبراهيمَ

الآيات (9-12)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات:

 

مُرِيبٍ: أي: مُوقِعٍ للتُّهمةِ، والرِّيبةُ: التهمةُ، وهي ظنُّ السوءِ، فهي قسمٌ مِن الشكِّ، والريبةُ: قَلَقُ النَّفسِ، وانتفاءُ الطُّمأْنينةِ، وأصلُ (ريب): يدُلُّ على شَكٍّ

.

فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: أي: خالِقِهما ومُبدِعِهما ومُبتدئِهما، وأصلُ (فطر): الشَّقُّ طولًا، ويدلُّ على فتْحِ شيءٍ، وإبرازِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: ألم يأتِكم خبَرُ الأمَمِ التي سبقَتْكم؛ قومِ نُوحٍ، وقَومِ هُودٍ وثمودَ، وأممٌ كثيرةٌ مِن بعدِهم، لا يعلمُ عدَدَهم وأخبارَهم إلَّا اللهُ وحدَه، جاءَتْهم رسُلُهم بالبراهينِ الواضِحاتِ، فرَدُّوا أيديَهم إلى أفواهِهم؛ ليَعَضُّوها غيظًا ممَّا جاءت به الرسُلُ، وقالوا لرُسُلِهم: إنَّا كفَرْنا بما جِئتُمونا به، وإنَّا لفي شَكٍّ يوجِبُ لنا التُّهمةَ والرِّيبةَ مِن حقيقةِ ما جِئتُمونا به.

قالت لهم رسُلُهم: أفي اللهِ وعبادتِه- وَحْدَه- شكٌّ، وهو خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ ومُنشِئُهما من العدَمِ على غيرِ مثالٍ سابِقٍ، وهو يَدعوكم إلى عبادتِه وَحدَه وطاعتِه؛ ليغفِرَ لكم بعضَ ذُنوبِكم، ويؤخِّرَ بَقاءَكم في الدُّنيا إلى نهاية آجالِكم، دونَ أن يُعاجلَكم في الدُّنيا بالعذابِ.

فقالوا لرُسُلِهم: ما نراكم إلَّا بشَرًا صِفاتُكم كصِفاتِنا، لا فضْلَ لكم علينا يؤهِّلُكم أن تكونوا رسُلًا، تُريدونَ أن تمنَعونا مِن عبادةِ ما كان يعبُدُه آباؤنا مِن الأصنامِ والأوثانِ، فأْتُونا بحُجَّةٍ دامغةٍ، ومُعجزةٍ ظاهرةٍ تشهَدُ على صِحَّةِ ما تدعونَنا إليه.

قالت لهم رسلهم: حقًّا ما نحنُ إلا بشَرٌ مِثلُكم، ولكِنَّ اللهَ يتفضَّلُ على مَن يشاءُ مِن عبادِه بالنُّبُوَّةِ والرِّسالةِ، ويُفَضِّلُهم على كثيرٍ مِن خَلْقِه، ولا يمكِنُ لنا أن نأتيَكم بما اقترحتُم مِن حجةٍ أو آيةٍ إلَّا بإذنِ اللهِ، وعلى اللهِ وَحدَه يعتَمِدُ المؤمِنونَ في كلِّ أمورِهم، وكيف لا نعتَمِدُ على اللهِ، وهو الذي أرشَدَنا إلى سُلوكِ الطَّريقِ المُوصِل إلى رَحمتِه، المُنَجِّي مِن سَخَطِه ونِقمَتِه؟ ولنصبِرَنَّ على إيذائِكم لنا، وعلى اللهِ وَحدَه فليعتَمِدِ المتوَكِّلونَ.

تفسير الآيات:

 

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا حَذَّرَهم انتقامَ اللهِ إن كَفَروا، ذكَّرَهم أيامَه في الأمَمِ الماضيةِ

.

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ.

أي: ألم يأتِكم خَبَرُ الأُمَمِ الذين مَضَوا مِن قَبلِكم؛ قَومِ نُوحٍ وعادٍ وثَمودَ ؟

وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ.

أي: وأمَمٌ كثيرةٌ مِن بعدِ قَومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ، لا يعلَمُ عدَدَهم وأخبارَهم إلَّا اللهُ وَحدَه .

كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 17] .

وقال سُبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا * وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [الفرقان: 35 - 38] .

جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ .

أي: جاء كُلَّ أمَّةٍ مِن الأمَمِ السَّابقةِ رَسولُهم الذي أرسَلَه اللهُ إليهم، بالحُجَجِ الواضِحةِ الدَّامغةِ، والمُعجِزاتِ الظَّاهِرةِ الدَّالَّةِ على صِدقِ الرُّسُلِ، وصِحَّةِ دعوتِهم النَّاسَ إلى توحيدِ الله وطاعتِه .

فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ .

أي: فرَدَّ المكَذِّبونَ مِن الأُمَمِ السَّابقةِ أيديَهم إلى أفواهِهم؛ ليَعَضُّوها غيظًا ممَّا جاءت به الرسُلُ مِن توحيدِ اللهِ، الذي فيه تسفيهُ أحلامِهم، وإبطالُ آلهتِهم .

كما قال تعالى: وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 119] .

وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ.

أي: وقالوا لرُسُلِهم: إنَّا كَفَرْنا بالذي تزعُمونَ أنَّكم أُرسِلتُم به، مِن الدُّعاءِ إلى توحيدِ اللهِ، وتَركِ الإشراكِ به .

وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ.

أي: وإنَّا لفي شَكٍّ يوجِبُ لنا التُّهمةَ والرِّيبةَ مِن حقيقةِ ما جِئتُمونا به؛ فلَسْنا نصَدِّقُكم فيه .

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10).

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ.

أي: قالت الرُّسُلُ لأُمَمِهم: أفي وجودِ اللهِ وإفرادِه بالعبادةِ دُونَ غَيرِه شَكٌّ ؟!

فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .

أي: خالقِ السَّمواتِ والأرضِ، ومُوجِدِهما مِن العدَمِ على غيرِ مِثالٍ سابقٍ .

يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ.

أي: يَدعوكم اللهُ على ألسنةِ رُسُلِه وفي كُتُبِه إلى عبادتِه وَحدَه وطاعتِه؛ لِيستُرَ عليكم بعضَ ذُنوبِكم، ويتجاوزَ عن مؤاخَذتِكم بها، فلا يعاقِبَكم عليها .

وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.

أي: ويؤخِّرَكم في الدُّنيا إلى مُنتهَى أعمارِكم، فلا يُعاجِلكم بالعذابِ .

كما قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 3] .

قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا.

أي: قال الكُفَّارُ لرُسُلِهم: ما أنتم إلَّا بشَرٌ مِثلُنا في الصُّورةِ والهيئةِ؛ تأكلونَ ممَّا نأكُلُ، وتشربونَ ممَّا نشرَبُ، ولستُم ملائكةً، فكيف نُطيعُكم؟ وكيف تَفضُلُونَنا بالنبوَّةِ والرِّسالةِ؟! إنَّما تريدونَ بدَعوتِكم هذه أن تَصرِفونا عن عبادةِ ما كان يعبُدُ آباؤُنا مِن الأوثانِ والأصنامِ .

فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ.

أي: فأْتُونا بمُعجزةٍ ظاهرةٍ، وحُجَّةٍ دامغةٍ تُبَيِّنُ لنا صِحَّةَ ما تدعونَنا إليه، فنعلَمَ أنَّكم على الحَقِّ .

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11).

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.

أي: قالت الرُّسُلُ لأولئك الكفَّارِ مِن أقوامِهم: صدَقْتُم، ما نحنُ إلَّا بشَرٌ مِن بني آدَمَ، مِثلُكم في البشَريَّة .

وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.

أي: ولكنَّ اللهَ يتفَضَّلُ على من يشاءُ مِن عبادِه بالرِّسالةِ والنُّبُوَّة، ويُفَضِّلُهم على كثيرٍ مِن خَلْقِه .

وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.

أي: ولا نقدِرُ أن نأتيَكم بحُجَّةٍ وآيةٍ كما تقتَرِحونَ، إلَّا بمشيئةِ اللهِ وأمرِه .

وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.

أي: وعلى اللهِ وَحدَه فلْيعتمِدِ المؤمنونَ في جَلبِ مَصالِحِهم، ودفْعِ مَضارِّهم، ولْيَثِقوا به في تيسيرِ جميعِ أمورِهم .

وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) .

وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا.

أي: قالت الرُّسُلُ لأُمَمِهم: وأيُّ عذرٍ لنا في ألَّا نعتَمِدَ على اللهِ ونَثِقَ به، والحالُ أنَّه قد فعل بنا ما يوجِبُ توكُّلَنا عليه؛ فقد أرشَدَنا ووفَّقَنا لسُلوكِ الطَّريقِ المُوصِل إلى رَحمتِه، المُنَجِّي مِن سَخَطِه ونِقمَتِه ؟

وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا .

أي: واللهِ، لنَصبِرَنَّ على ما نَلقَى منكم مِن الأذَى بسبَبِ استمرارِنا في الدَّعوةِ إلى عبادةِ اللهِ وَحدَه لا شريكَ له .

وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ.

أي: وعلى اللهِ وَحدَه فلْيَعتمِدِ المتوَكِّلونَ الواثِقونَ باللهِ، ولْيَثبُتوا على توكُّلِهم على اللهِ عزَّ وجلَّ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- في قَولِه تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وجوبُ التوكُّلِ على اللهِ وحدَه، وإفرادُه بالتوكُّلِ يُؤخَذُ مِن تقديمِ المعمولِ على عاملِه؛ لأنَّ تقديمَ ما حقُّه التأخيرُ يُفيدُ الحصرَ، وهذه قاعِدةٌ

، فلا يجوزُ التوكُّلُ إلَّا على اللهِ، كما قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ .

2- في قَولِه تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أنَّ التوكُّلَ مِن مقتَضياتِ الإيمانِ؛ لأنَّه عَلَّقَ الحُكمَ على وصفٍ- وهو الإيمانُ- فدلَّ ذلك على أنَّه كلَّما قَوِيَ الإيمانُ قَوِيَ التوكُّلُ على اللهِ، وكلَّما ضَعُفَ الإيمانُ ضَعُفَ التوكُّلُ على اللهِ ، فالتوكلُ مِن العباداتِ الكِبارِ التي يحِبُّها اللهُ ويرضاها؛ لِتوقُّفِ سائِرِ العباداتِ عليه .

3- قالت الرُّسُلُ لِقَومِهم: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا فعَجِبوا مِن تَركِهم التوكُّلَ على اللهِ، وهو هَداهم، وأقرُّوا أنَّ ذلك لا يكونُ أبدًا، وهذا دليلٌ على أنَّ الهِدايةَ والتوكُّلَ مُتلازِمانِ؛ فصاحِبُ الحَقِّ- لعِلمِه بالحَقِّ، وليَقينِه بأنَّ اللهَ وليُّ الحَقِّ وناصِرُه- مُضطَرٌّ إلى توكُّلِه على اللهِ، لا يجِدُ بُدًّا مِن توكُّلِه؛ فإنَّ التوكُّلَ يجمَعُ أصلينِ: علمَ القَلبِ وعَمَلَه؛ أمَّا عِلمُه: فيقينُه بكفايةِ وَكيلِه، وكمالِ قيامِه بما وكَلَه إليه، وأنَّ غيرَه لا يقومُ مَقامَه في ذلك. وأمَّا عمَلُه: فسُكونُه إلى وَكيلِه، وطمأنينتُه إليه، وتفويضُه وتسليمُه أمْرَه إليه، وأنَّ غيرَه لا يقومُ مقامَه في ذلك، ورضاه بتصَرُّفِه له فوقَ رضاه بتصَرُّفِه هو لنفسِه، فبهذين الأصلينِ يتحقَّقُ التوكُّلُ، وهما جِماعُه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1-  قال الله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ عيَّنَ منهم الثَّلاثةَ الأولى؛ لأنَّهم كانوا أشَدَّهم أبدانًا، وأكثَرَهم أعوانًا، وأقواهم آثارًا، وأطوَلَهم أعمارًا؛ لأنَّ البَطشَ إذا برزَ إلى الوجودِ كان أهوَلَ، لأنَّ النَّفسَ للمحسوسِ أقبَلُ

.

2- في قولِه تعالى: لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أنَّ مَن ادَّعَى عِلْمَ شيءٍ ممَّن سَبَقَ، فهو كاذبٌ، إلَّا ببُرهانٍ .

3- قولُ الله تعالى: وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كيف ذكَرَوا فيه أنَّهم كافِرونَ برِسالتِهم، وذكَروا بعد ذلك كونَهم شاكِّينَ مُرتابينَ في صِحَّةِ قَولِهم: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ؟

والجوابُ مِن وجوهٍ:

الوجه الأول: كأنَّهم قالوا إمَّا أن نكونَ كافرينَ برِسالتِكم، أو أن ندَعَ هذا الجَزمَ واليقينَ، فلا أقلَّ مِن أن نكونَ شاكِّينَ مُرتابينَ في صِحَّةِ نبُوَّتِكم، وعلى التقديرينِ فلا سبيلَ إلى الاعترافِ بنبوَّتِكم .

الوجه الثاني: أنَّهم بادروا أوَّلًا إلى الكُفرِ، وهو التكذيبُ المحضُ، ثمَّ أخبَروا بأنَّهم في شَكٍّ، وهو التردُّدُ، كأنَّهم نظروا بعضَ نَظرٍ اقتَضى أن انتَقَلوا من التكذيبِ المحضِ إلى التردُّدِ.

الوجه الثالث: هما قولانِ مِن طائفتَينِ: طائفةٍ بادَرَت بالتَّكذيبِ والكُفرِ، وطائفةٍ شَكَّت، والشَّكُّ في مِثلِ ما جاءت به الرُّسُلُ كُفرٌ .

4- قولُ الله تعالى: وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ لَمَّا كان ردُّ الرِّسالةِ جامِعًا للكفرِ، وكانوا غيرَ مُسلِّمينَ أنَّ المُرسِلَ لهم هو الله؛ بَنَوا للمفعولِ قَولَهم: أُرْسِلْتُمْ بِهِ .

5- قَولُه تعالى: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ والمعنى: ما في الله شَكٌّ، وأنتم تعلمونَ أنَّه ليس في اللهِ شَكٌّ، ولكِنْ تجحدونَ انتفاءَ الشَّكِّ جُحودًا تستَحِقُّونَ أن يُنكَرَ عليكم هذا الجَحدُ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّه ليس في اللهِ شَكٌّ عند الخَلْقِ المُخاطَبينَ، وهذا يُبَيِّنُ أنَّهم مفطورونَ على الإقرارِ به سُبحانَه .

6- قولُ الله تعالى: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ يعْنُونَ أنَّ ذلك عطيَّةٌ مِن اللهِ تعالى، يُعْطِيها مَن يَشاءُ مِن عِبادِه بمحْضِ الفَضلِ والامتنانِ، مِن غيرِ داعيةٍ توجِبُه ، ولم يصَرِّحوا بما تميَّزوا به مِن وَصفِ النبُوَّةِ، ولم يخُصُّوا أنفُسَهم بمَنِّ اللهِ، بل أدرَجوها في عُمومِ مَن شاء الله؛ كلُّ ذلك تواضُعًا منهم واعترافًا بالعبوديَّةِ .

7- قولُ الرُّسلِ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ جوابٌ بِطَريقِ القَولِ بالموجِبِ في عِلْمِ آدابِ البحْثِ، وهو تَسليمُ الدَّليلِ مع بَقاءِ النِّزاعِ ببيانِ محَلِّ الاستدلالِ غيرَ تامِّ الإنتاجِ، وفيه إطماعٌ في المُوافقةِ، ثمَّ كَرَّ على استِدلالِهم المقصودِ بالإبطالِ بِتَبْيينِ خطَئِهم، وهذا النَّوعُ مِن القوادِحِ في علْمِ الجدَلِ، شديدُ الوقْعِ على المُناظِرِ؛ فليس قولُ الرُّسلِ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تقريرًا للدَّليلِ، ولكنَّه تمهيدٌ لِبيانِ غلَطِ المُستدِلِّ في الاستنتاجِ مِن دَليلِه، ومحَلُّ البيانِ هو الاستدراكُ في قولِه: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، والمعنى: أنَّ المُماثلَةَ في البشريَّةِ لا تقْتَضي المُماثلَةَ في زائدٍ عليها؛ فالبشَرُ كلُّهم عِبادُ اللهِ، واللهُ يمُنُّ على مَن يَشاءُ مِن عِبادِه بنِعَمٍ لم يُعْطِها غيرَهم؛ فالاستدراكُ رفعٌ لِمَا توهَّموه مِن كونِ المُماثلَةِ في البشريَّةِ مُقْتضى الاستواءِ في كلِّ خَصلةٍ .

8- قال الله تعالى حكايةً عن الرسُلِ في حديثِهم مع قَومِهم: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، ثمَّ أعادوا قولَهم: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ فما الفائِدةُ في تَكرارِ الأمرِ؟

والجوابُ عن ذلك من أوجُهٍ:

الوجه الأول: الفائِدةُ فيه أنَّهم أمَروا أنفُسَهم بالتوكُّلِ على اللهِ، في قولِه: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ثمَّ لَمَّا فَرَغوا من أنفُسِهم، أَمَروا أتباعَهم بذلك، وقالوا: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وذلك يدلُّ على أنَّ الآمِرَ بالخيرِ لا يُؤَثِّرُ قَولُه إلَّا إذا أتى بذلك الخَيرِ أوَّلًا.

الوجه الثاني: أنَّ قَولَه: وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ المرادُ منه أنَّ الذين يطلُبونَ سائِرَ المُعجِزاتِ وجب عليهم أن يتوكَّلوا في حُصولِها على اللهِ تعالى لا عليها، فإن شاء أظهَرَها، وإن شاء لم يُظهِرْها، وأمَّا قَولُه في آخِرِ الآيةِ: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ المرادُ منه: الأمرُ بالتوكُّلِ على اللهِ في دَفعِ شَرِّ النَّاسِ الكُفَّارِ وسَفاهتِهم، وعلى هذا التقديرِ فالتَّكرارُ غيرُ حاصلٍ؛ لأنَّ قولَه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ واردٌ في موضعينِ مُختلفَينِ بحسَبِ مَقصودينِ مُتَغايرينِ.

الوجه الثالث: أنَّ الأوَّلَ ذُكِرَ لاستحداثِ التوكُّلِ، والثانيَ للسَّعيِ في إبقائِه وإدامتِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ هذا الكلامُ استئنافٌ ابتدائيٌّ رجَعَ به الخطابُ إلى المُشركينَ مِن العرَبِ على طريقةِ الالتِفاتِ في قولِه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ...؛ لأنَّ المُوجَّهَ إليه الخِطابُ هنا هم الكافِرونَ المَعْنيونَ بقولِه: وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ

.

- والاستفهامُ بقولِه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ إنكاريٌّ؛ لأنَّهم قد بلغَتْهم أخبارُهم ، وقيل: للتَّقريرِ والتَّوبيخِ .

- قولُه: لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ على القولِ بأنَّها جُملةٌ اعتراضيَّةٌ ؛ فإنَّها تُفيدُ أنَّهم مِن الكثْرةِ بحيثُ لا يعلَمُ عدَدَهم إلَّا اللهُ .

- قولُه: وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ في تَصديرِ العِبارةِ بالحرْفِ المُؤكِّدِ (إنَّ)، ومُواجهةِ الرُّسلِ بضَمائِرِ الخطابِ، وإعادةِ ذلك: مُبالغَةٌ في التَّأكيدِ، دلَّ على قُنوطِهم بالمرَّةِ .

2- قوله تعالى: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ

- قولُه: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، أُدْخِلَت همزةُ الإنكارِ على الظَّرفِ أَفِي؛ لأنَّ الكلامَ ليس في الشَّكِّ، إنَّما هو في المَشكوكِ فيه، أي: إنَّما ندْعوكم إلى اللهِ، وهو لا يَحتمِلُ الشَّكَّ؛ لكثرةِ الأدلَّةِ وظهورِ دَلالتِها عليه، وأشاروا إلى ذلك بقولِهم: فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وهو استِفهامٌ إنكاريٌّ، ومَوْرِدُ الإنكارِ هو وُقوعُ الشَّكِّ في وُجودِ اللهِ؛ فقُدِّمَ مُتعلِّقُ الشَّكِّ أَفِي اللَّهِ؛ للاهتمامِ به، ولو قال: (أشكٌّ في اللهِ)، لم يكُنْ له هذا الوقْعُ، فكان أبلَغَ، وعُلِّقَ اسمُ الجلالةِ بالشَّكِّ، والاسمُ العَلَمُ يدلُّ على الذَّاتِ، والمُرادُ إنكارُ وُقوعِ الشَّكِّ في أهمِّ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ، وهي صِفَةُ التَّفرُّدِ بالإلهيَّةِ، أي: صفةُ الوحدانيَّةِ. وأُتْبِعَ اسمُ الجلالةِ بالوصفِ الدَّالِّ على وُجودِه فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وهو وُجودُ السَّمواتِ والأرضِ الدَّالُّ على أنَّ لهما خالقًا حَكيمًا؛ لاستحالةِ صُدورِ تلك المخلوقاتِ العجيبةِ المُنظَّمَةِ عن غيرِ فاعلٍ مُختارٍ، وذلك معلومٌ بأدْنَى تأمُّلٍ، وذلك تأييدٌ لإنكارِ وُقوعِ الشَّكِّ في انفرادِه بالإلهيَّةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالخَلقِ يَقْتَضي انفرادَه باستحقاقِه عِبادةَ مخلوقاتِه .

- وجُملةُ تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا قَيدٌ لِمَا دلَّ عليه الحصْرُ في جُملةِ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا، مِن جحْدِ كونِهم رُسلًا مِن اللهِ بالدِّينِ الَّذي جاؤوهم به مُخالفًا لِدينِهم القديمِ؛ فبذلك الاعتِبارِ كان موقِعُ التَّفريعِ لجُملةِ فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ؛ لأنَّ مُجرَّدَ كونِهم بشَرًا لا يقْتَضي مُطالبتَهم بالإتيانِ بسُلطانٍ مُبينٍ، وإنَّما اقتضاه أنَّهم جاؤوهم بإبطالِ دِينِ قَومِهم، وهو مضمونُ ما أُرْسِلُوا به .

3- قوله تعالى: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

- قولُه: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ جاء التَّعبيرُ هنا بـ لَهُمْ؛ لاختِصاصِ الكلامِ بهم، حيث أُرِيدَ إلْزامُهم، بخلافِ ما سلَفَ مِن إنكارِ وُقوعِ الشَّكِّ في اللهِ سبحانه؛ فإنَّ ذلك عامٌّ، وإنِ اختَصَّ بهم ما يعقُبُه إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ . وأيضًا زيادةُ لَهُمْ تُؤْذِنُ بالدَّلالةِ على توجُّهِ الرُّسُلِ إلى قومِهم بالجوابِ؛ لِمَا في الجوابِ عن كلامِهم مِن الدِّقَّةِ المُحتاجةِ إلى الاهتمامِ بالجوابِ بالإقبالِ عليهم؛ إذ اللَّامُ الدَّاخِلةُ بعد فعْلِ القولِ في نحوِ: أقولُ لك، لامُ تعليلٍ، أي: أقولُ قولي لأجْلِك . وقيل: إنَّ قولَه: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10] خِطابٌ لِمَن عانَدَ فيه، وهو كالمُعانِدِ في الأمْرِ الضَّروريِّ؛ فلذلك أُسْقِطَ المجرورُ؛ لأنَّ المُجيبَ عن ذلك يُجيبُ به مِن حيثُ الجُملةُ، ولا يُقْبِلُ بالجوابِ على المُخاطَبِ؛ لِغَباوتِه عندَه ومُعانَدَتِه، فيُجيبُ وهو مُعرِضٌ عنه، بخِلافِ قولِهم: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [إبراهيم: 11] ؛ لأنَّه يُقرِّرُ لِمَقالَتِهم ويُثْبتُ لها، والمُقِرُّ لِمَقالةِ خَصْمِه يُقْبِلُ عليه بالجوابِ؛ لأنَّه لم يُبْطِلْ كلامَه بالإطلاقِ، بل يُقرِّرُه، ويَزيدُ فيه زياداتٍ تُبْطِلُ قولَ خَصْمِه. وقيل: إنَّ قولَه: قَالَتْ لَهُمْ مَقالةٌ خاصَّةٌ، أو هي جوابٌ عن قولٍ صدَرَ منهم. والمَقالةُ الأُولى لهم ولغيرِهم .

- قولُه: وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ معناه: نفْيُ ذلك الأمْرِ جُملةً؛ لأنَّ مثْلَ هذه العِبارةِ إذا قالها الإنسانُ عن نفْسِه، أو قِيلَت له فيما يقَعُ تحت مَقدورِه، فمعناها النَّهيُ والحَظْرُ، وإنْ كان ذلك فيما لا قُدرةَ له عليه، فمعناها نفْيُ ذلك الأمْرِ جُملةً، وكذا هي آيتُنا. وقيل: لَفظُها لفْظُ الحظْرِ، ومعناها النَّفيُ .

- قولُه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ هذا أمْرٌ مِن الرُّسلِ للمُؤمنينَ كافَّةً بالتَّوكُّلِ، وقَصَدوا به أنفُسَهم قصْدًا أوَّليًّا وأمَرُوهم به؛ كأنَّهم قالوا: ومِن حقِّنا أنْ نتوكَّلَ على اللهِ في الصَّبرِ على مُعاندتِكم ومُعاداتِكم وما يجْري علينا منكم .

- وفيه تقديمُ المجرورِ وَعَلَى اللَّهِ، وهو مُؤْذِنٌ بالحصْرِ، وأنَّهم لا يَرْجونَ نصرًا مِن غيرِ اللهِ تعالى؛ لِضعْفِهم وقلَّةِ ناصرِهم، وفيه إيماءٌ إلى أنَّهم واثقونَ بنصْرِ اللهِ .

- وفي قولِه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال ذلك هنا، وقال بَعدَه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ؛ لأنَّ الإيمانَ سابِقٌ على التَّوكُّلِ .

4- قوله تعالى: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ

- قولُه: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ مَا استفهاميَّةٌ، والاستفهامُ هنا معناه النَّفيُ، أي: لا مانِعَ لنا ولا عُذْرَ نَتشبَّثُ بأهدابِه ؛ فهو استفهامٌ إنكاريٌّ لانتِفاءِ  توكُّلِهم على اللهِ، أَتَوا به في صُورةِ الإنكارِ بناءً على ما هو معروفٌ مِن استِحْماقِ الكُفَّارِ إيَّاهم في توكُّلِهم على اللهِ، فجاؤوا بإنكارِ نفْيِ التَّوكُّلِ على اللهِ، ومعنى وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ: ما ثبَتَ لنا مِن عدَمِ التَّوكُّلِ؛ فاللَّامُ للاستِحقاقِ، وزادوا قومَهم تأْييسًا مِن التَّأثُّرِ بالأذى، فأقْسَموا على أنَّ صبْرَهم على أذى قومِهم سيستمِرُّ؛ فصِيغَةُ الاستقبالِ المُستفادَةُ مِن المُضارِعِ المُؤكَّدِ بنُونِ التَّوكيدِ وَلَنَصْبِرَنَّ دلَّت على أذًى مُستقبلٍ، ودلَّت صِيغَةُ المُضِيِّ المُنتزَعُ منها المصدرُ: مَا آذَيْتُمُونَا على أذًى مَضَى؛ فحصَلَ مِن ذلك معنى: نصبِرُ على أذًى مُتوقَّعٍ كما صبَرْنا على أذًى مَضَى، وهذا إيجازٌ بديعٌ .

- قولُه: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا جوابُ قسَمٍ محذوفٍ، أكَّدوا به توكُّلَهم على اللهِ، وعدَمَ مُبالاتِهم بما يَجْري مِن الكُفَّارِ عليهم .

- وجُملةُ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ يَحتمِلُ أنْ تكونَ مِن بقيَّةِ كلامِ الرُّسلِ؛ فتكونَ تذييلًا وتأْكيدًا لجُملةِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ؛ فكانتْ تذييلًا لِمَا فيها مِن العُمومِ الزَّائدِ في قولِه: الْمُتَوَكِّلُونَ على عُمومِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وكانتْ تأكيدًا؛ لأنَّ المُؤمنينَ مِن جُملةِ المُتوكِّلينَ. ويَحتمِلُ أنْ تكونَ مِن كلامِ اللهِ تعالى؛ فهي تَذْييلٌ للقصَّةِ، وتنويهٌ بشأْنِ المُتوكِّلينَ على اللهِ، أي: لا ينْبَغي التَّوكُّلُ إلَّا عليه

=================

 

سورةُ إبراهيمَ

الآيات (13-18)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ

غريب الكلمات:

 

مِلَّتِنَا: أي: دينِنا، وطريقتِنا، وإنَّما سُمِّيَ الدِّينُ مِلَّةً؛ لأنَّه يُمَلُّ، أي: يُملَى على المَدعُوِّ إليه، فالملةُ تُبنَى على مَسموعٍ ومتلوٍّ

.

وَاسْتَفْتَحُوا: أي: استَنصَروا وسألوا الفتحَ من اللهِ- وهو القَضاءُ، وأصلُ (فتح): يدلُّ على خلافِ الإغلاقِ .

مِنْ وَرائِهِ: أي: مِن أمامِه، والوَراءُ: مِنَ الأضدادِ، يكونُ بمعنى خَلْف وقُدَّام .

صَدِيدٍ: قيحٍ ودَمٍ، واشتِقاقُه مِن الصَّدِّ؛ لأنَّه يصُدُّ النَّاظِرينَ عن رُؤيتِه .

يَتَجَرَّعُهُ: أي: يتحَسَّاه مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ، لا مَرَّةً واحدةً؛ لِمَرارتِه وحرارتِه، وأصلُ (جرع): يدُلُّ على قِلَّةِ الشَّيءِ المَشروبِ .

يُسِيغُهُ: أي: يُجيزُه ويَبتَلِعُه، وأصلُ (سوغ): يدُلُّ على سُهولةِ الشَّيءِ، واستمرارِه .

عَاصِفٍ: أي: شديدِ هُبوبِ الرِّيحِ، وأصلُ (عصف): يدُلُّ على خِفَّةٍ وسُرعةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبر الله تعالى عن ضيقِ صدورِ الكُفَّار ممَّا قالته الرسُلُ، وأنهم قالوا لهم: لنطرُدَنَّكم مِن بلادِنا إلَّا أن تعودُوا إلى دينِنا، فأوحى اللهُ إلى رسُلِه أنَّه سيُهلِكُ الظالمينَ، وسيجعَلُ العاقبةَ الحسَنةَ للرُّسُلِ وأتباعِهم، بإسكانِهم أرضَ الكافرينَ بعدَ إهلاكِهم، ذلك النَّصرُ في الدُّنيا على الكُفَّارِ، والتَّمكينُ في الأرضِ محقَّقٌ لِمَن خافَ مقامَه بينَ يدَيِ الله يومَ القيامةِ، وخَشِيَ وعيدَه وعَذابَه.

ولجأ الرسُلُ إلى ربِّهم، وسألوه النَّصرَ على أعدائِهم وإهلاكَهم، وهَلَك كلُّ متكبِّرٍ لا يقبَلُ الحَقَّ ولا يُذعِنُ له، ومِن أمامِ هذا الكافِرِ جهنَّمُ تنتظِرُه؛ ليَلْقى عذابَها في الآخرةِ، ويُسقَى فيها مِنَ القَيحِ والدَّمِ الذي يَخرجُ مِن أجسامِ أهلِ النَّارِ. يشربُه قهرًا- وذلك لشدةِ عطشِه- على جرعاتٍ، ولا يَكادُ يَبتَلِعُه؛ لقذارتِه وحرارتِه ومرارتِه، ويأتيه الموت وشِدَّتُه وآلامُه مِن كُلِّ عضوٍ ومَوضِعٍ مِن جَسَدِه، ومِن كُلِّ الجِهاتِ، وما هو بميِّتٍ فيستريحَ، وله مِن بعد هذا العذابِ عذابٌ آخَرُ قَويٌّ شديدٌ مُؤلِمٌ.

ثم يضربُ الله المثلَ لأعمالِ الكفَّارِ، فيقولُ: مثَلُ أعمالِ البِرِّ التي يعملها الكُفَّارِ في الدُّنيا كرَمادٍ فرَّقَتْه وطيَّرَتْه الرِّيحُ القَويَّةُ في يومٍ اشتدَّ فيه هُبوبُها، فلم يبقَ منه شيءٌ، فكذلك أعمالُهم يُبطِلُها الكُفرُ- فلا يجِدونَ منها ما ينفَعُهم عندَ الله- ويُذهِبُ ثَوابَها، كما تُذهِبُ تلك الريحُ الشَّديدةُ الرَّمادَ. ذلك السعيُ والعمَلُ الذي لم يكن على استقامةٍ وهُدىً، هو الضَّلالُ البعيدُ.

تفسير الآيات:

 

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ دَعوَةَ الرُّسُلِ لِقَومِهم، ودوامَهم على ذلك، وعدَمَ مَلَلِهم؛ ذكَرَ مُنتهَى ما وصَلَت بهم الحالُ مع قَومِهم

.

وأيضًا لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن الأنبياءِ عليهم السَّلامُ أنَّهم اكتَفَوا في دفعِ شُرورِ أعدائِهم بالتوكُّلِ عليه، والاعتمادِ على حِفظِه وحياطتِه؛ حكى عن الكُفَّارِ أنَّهم بالَغوا في السَّفاهةِ ، فقال:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا.

أي: وقال الذين كَفَروا باللهِ لرسلِ الله الذين يَدْعونهم للتوحيدِ: واللهِ، لنطرُدَنَّكم من بلادِنا إلا أن تعودوا إلى دينِنا .

كما قال تعالى حاكيًا قولَ قَومِ شُعَيبٍ له ولِمَن آمن به: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف: 88] .

وقال سُبحانه حاكيًا قَولَ قَومِ لُوطٍ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل: 56] .

وقال عزَّ وجَلَّ مُخبِرًا عن مُشركي قُريشٍ: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا [الإسراء: 76] .

وقال تبارك وتعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: 30] .

فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ.

أي: فأوحَى اللهُ إلى رسُلِه قائلًا لهم: لنُهلِكَنَّ المُشرِكينَ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بوَضعِهم العبادةَ في غَيرِ مَوضِعِها، وصَرفِها لِمَن لا يستحِقُّها .

وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14).

وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ.

أي: ولننصُرَنَّكم وأتباعَكم المؤمنينَ على الكفَّارِ، ونجعَلُكم تسكُنونَ أرضَهم مِن بعدِ إهلاكِنا لهم .

كما قال تعالى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 128- 129] .

وقال سُبحانه: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] .

لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ .

أي: ذلك النَّصرُ في الدُّنيا على الكُفَّارِ، والتَّمكينُ في الأرضِ، يتحَقَّقُ لِمَن خاف مَقامَه بينَ يدَيَّ يومَ القيامةِ، وخاف مِن وعيدي وعذابي، فاتَّقاني بطاعتي، وتجنُّبِ مَعصِيتي .

وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15).

وَاسْتَفْتَحُوا  .

أي: طلبَت الرسُلُ مِن اللهِ النَّصرَ على أقوامِهم وإهلاكَهم .

وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.

أي: وخَسِرَ وهلَك كُلُّ متكبِّرٍ على الحَقِّ، مُعاندٍ له .

كما قال تعالى: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ [ق: 24 - 26] .

مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16).

مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ.

أي: مِن أمامِ كُلِّ جبَّارٍ عَنيدٍ نارُ جَهنَّمَ تنتَظِرُه، فهو صائِرٌ إليها في الآخرةِ .

وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ.

أي: ويُسقَى في جهنَّمَ مِن القَيحِ والدَّمِ الذي يسيلُ مِن أبدانِ أهلِ النَّارِ .

يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) .

يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ.

أي: يتحسَّى ذلك الجبَّارُ العنيدُ الصَّديدَ، ويشرَبُه قَهرًا- مِن شِدَّةِ عَطَشِه- على جَرعاتٍ، ولا يَكادُ يَبتَلِعُه؛ مِن شِدَّةِ خُبثِه وكراهتِه .

وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ.

أي: ويأتيه الموتُ وآلامُه وشِدَّتُه مِن كُلِّ مَوضِعٍ في جسَدِه، ومِن كُلِّ الجِهاتِ، وهو مع  ذلك لا يموتُ فيستريحَ مِن العذابِ .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا [فاطر: 36- 37] .

وقال سُبحانه: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى [الأعلى: 11 - 13] .

وقال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى [طه: 74] .

وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ.

أي: ومِن أمامِه عذابٌ آخَرُ قَويٌّ شديدٌ ينتظرُه غيرُ ما هو فيه مِن العَذابِ .

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنواعَ عذابِ الكُفَّارِ في الآيةِ المتقَدِّمة؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ أعمالَهم بأسْرِها تصيرُ ضائعةً باطِلةً لا ينتَفِعونَ بشَيءٍ منها، وعند هذا يظهَرُ كَمالُ خُسرانِهم؛ لأنَّهم لا يجِدونَ في القيامةِ إلَّا العِقابَ الشَّديدَ، وكُلُّ ما عَمِلوه في الدُّنيا وجَدوه ضائِعًا باطِلًا، وذلك هو الخُسرانُ الشَّديدُ .

وأيضًا لَمَّا فرَغَ من محاوراتِهم وما تَبِعَها ممَّا بَيَّنَ فيه أنَّه لا يُغنيهم مِن بَطشِه شَيءٌ؛ ضرَبَ لهم في ذلك مَثلًا ، فقال تعالى:

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ.

أي: مثَلُ أعمالِ الذين كفَروا برَبِّهم كرمادٍ طيَّرَتْه وفرَّقَتْه الرِّيحُ القَويَّةُ في يومٍ يشتَدُّ فيه هُبوبُها، فلم يبقَ مِن الرَّمادِ شَيءٌ، فكذلك أعمالُ البِرِّ والخيرِ التي يعمَلُها الكافِرونَ؛ يُبطِلُها الكُفرُ، ويُذهِبُ ثَوابَها، كما تُذهِبُ تلك الريحُ الشَّديدةُ الرَّمادَ .

كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] .

لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ.

أي: لا يجِدُ الكُفَّارُ في الآخرةِ أيَّ ثوابٍ لأعمالِ البِرِّ التي عَمِلوها في الدُّنيا، ولا يَرَونَ لها أيَّ منفعةٍ، مثلما لا يُقدَرُ على جَمعِ الرَّمادِ في اليومِ العاصِفِ .

ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ.

أي: أعمالُهم التي بطَلَت وفَقَدوا ثوابَها لم تكُنْ على هُدًى واستقامةٍ، فكانوا في خطأٍ وانحرافٍ بعيدٍ عن طريقِ الصَّوابِ، لا يُمكِنُ معه تدارُكُ تلك الخَسارةِ الكبيرةِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ يدُلُّ على أنَّ مَن توكَّلَ على ربِّه في دَفعِ عَدُوِّه، كفاه اللهُ أمرَ عَدُوِّه

.

2- قَولُ الله تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ، وقولُه: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46] فوعَدَ اللهُ بنصرِ الدُّنيا وبثوابِ الآخرةِ لأهلِ الخَوفِ، وذلك إنَّما يكونُ لأنَّهم أَدَّوا الواجِبَ؛ فدلَّ على أنَّ الخوفَ يستلزِمُ فِعْلَ الواجِبِ، ولهذا يُقال للفاجِرِ: لا يخافُ اللهَ .

3- في قَولِه تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ دَلالةٌ على أنَّ مَن عَمِلَ لغيرِ اللهِ رجاءَ أن يَنتفعَ بما عَمِلَ له؛ كانت صفقتُه خاسرةً

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فيه سؤالٌ: هذا يُوهِمُ أنَّهم كانوا على مِلَّتِهم في أوَّلِ الأمرِ حتى يعودوا فيها.

والجوابُ من وجوهٍ:

الوجه الأول: أنَّ أولئك الأنبياءَ عليهم السَّلامُ إنَّما نشؤوا في تلك البلادِ، وكانوا مِن تلك القبائلِ، وفي أوَّلِ الأمرِ ما أظهَروا المخالفةَ مع أولئك الكُفَّارِ، بل كانوا في ظاهِرِ الأمرِ معهم مِن غيرِ إظهارِ مُخالفةٍ؛ فالقومُ ظَنُّوا لهذا السَّبَبِ أنَّهم كانوا في أوَّلِ الأمرِ على دينِهم؛ فلهذا السَّبَبِ قالوا: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا.

الوجه الثاني: أنَّ هذا حِكايةُ كلامِ الكُفَّارِ، ولا يجِبُ في كلِّ ما قالوه أن يكونوا صادِقينَ فيه، فلعلَّهم توهَّموا ذلك، مع أنَّه ما كان الأمرُ كما توهَّموه.

الوجه الثالث: لعلَّ الخِطابَ وإن كان في الظاهِرِ مع الرُّسُلِ إلَّا أنَّ المقصودَ بهذا الخطابِ أتباعُهم وأصحابُهم، ولا بأسَ أن يقال: إنَّهم كانوا قبل ذلك الوَقتِ على دينِ أولئكَ الكُفَّارِ

.

الوجه الرابع: أنَّ (العَوْدَ) هنا بمعنى الصيرورةِ، وهو كثيرٌ في كلامِ العَرَبِ .

2- قولُ الله تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ خَصَّصَ تعالى الظالمينَ مِن الذين كفروا؛ إذ جائِزٌ أن يؤمِنَ مِن الكَفَرةِ الذين قالوا المقالةَ ناسٌ، فإنَّما توعَّدَ بالإهلاكِ مَن خلُصَ للظُّلمِ .

3- قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا نسَبوها إلى أنفُسِهم وزعَموا أنَّ الرُّسُلَ لا حَقَّ لهم فيها، وهذا من أعظَمِ الظُّلمِ؛ فإنَّ الله أخرجَ عِبادَه إلى الأرضِ، وأمَرَهم بعبادتِه، وسَخَّرَ لهم الأرضَ وما عليها؛ يستعينونَ بها على عبادتِه .

4- قَولُ الله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ الخوفَ مِن الله تعالى غيرُ الخَوفِ مِن وَعيدِه؛ لأنَّ العَطفَ يقتضي المُغايرةَ .

5- قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ هذه الآيةُ دليلٌ على أنَّ الكافرَ لا يَنتَفِعُ في الآخرةِ بشَيءٍ مِن الحَسَناتِ بحالٍ .

6- قولُ الله تعالى: لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ قَدَّمَ مِمَّا كَسَبُوا على ما بَعدَه؛ لأنَّ الكَسبَ هو المقصودُ بالذِّكرِ، بقرينةِ ما قَبلَه، وإن كان القياسُ عكسَ ذلك، كما في البقرةِ؛ حيث قال تعالى: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة: 264] ؛ لأنَّ عَلَى شَيْءٍ صِلةٌ لـ يَقْدِرُونَ ومِمَّا كَسَبُوا صفةٌ لشَيءٍ .

7- قَولُه تعالى: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ لَمَّا كان هذا خُسرانًا لا يُمكِنُ تَدارُكُه، سَمَّاه بعيدًا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ

- قولُه: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ فيه إضْمارُ القولِ، أو إجراءُ الإيحاءِ مَجْراهُ؛ لأنَّه نوعٌ من القولِ

.

2- قوله تعالى: وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ

- قولُه: وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ...، فيه مَجِيءُ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ بضَميرِ الخِطابِ؛ تشريفًا لهم بالخِطابِ، ولم يأْتِ بضَميرِ الغَيبةِ كما في قولِه: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ .

- قولُه: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ إشارةٌ إلى المُوحَى به؛ وهو إهلاكُ الظَّالمينَ وإسكانُ المُؤمنينَ دِيارَهم، وهذا مأخوذٌ مِن: لَنُهْلِكَنَّ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ، أي: ذلك الأمْرُ مُحَقَّقٌ ثابِتٌ، وعاد إليهما اسمُ الإشارةِ بالإفرادِ بتأْويلِ (المذكور) .

- قولُه عزَّ وجلَّ: خَافَ مَقَامِي أي: المقامَ بينَ يديَّ، وأضافَ ذلك إليه؛ لاختصاصِه به . وقيل: لفْظُ (مَقامٍ) مُقْحَمٌ؛ للمُبالَغةِ في تعلُّقِ الفعْلِ بمفعولِه، لأنَّ المقامَ أصلُه مكانُ القِيامِ، وأُريدَ فيه بالقيامِ مُطلَقُ الوجودِ؛ لأنَّ الأشياءَ تُعتبَرُ قائمةً، فإذا قيل: خَافَ مَقَامِي كان فيه مِن المبالغةِ ما ليس في (خافَني). بحيثُ إنَّ الخوفَ يَتعلَّقُ بمكانِ المَخُوفِ منه .

3- قوله تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ

- قولُه: وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ في إسنادِ الخَيبةِ إلى كلٍّ منهم ما لا يخْفَى مِن المُبالَغةِ .

4- قوله تعالى: مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ

- قولُه: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ فيه عطْفُ وَيُسْقَى على مَحذوفٍ، تقديرُه: مِن ورائِه جهنَّمُ، يَلْقَى فيها ما يَلْقَى، ويُسْقَى مِن ماءٍ صديدٍ ، أو معطوفٌ على مُقَدَّرٍ جوابًا عن سُؤالِ سائلٍ؛ كأنَّه قيل: فماذا يكون إذنْ؟ فقيل: يَلْقَى فيها، ويُسْقَى... .

- وبيَّنَ الماءَ بالصَّديدِ، فقال: صَدِيدٍ؛ تهويلًا لأمْرِه .

- وخَصَّ هذه الحالةَ بالذِّكرِ مع أنَّ عذابَ أهلِ النَّارِ مِن وُجوهٍ كثيرةٍ. لأنه يُشبِهُ أن تكونَ هذه الحالةُ أشَدَّ أنواعِ العذابِ، فخُصِّصَت بالذِّكرِ مع قوله: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ .

5- قوله تعالى: يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ

- قولُه: يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ استئنافٌ مبْنِيٌّ على السُّؤالِ؛ كأنَّه قيل: فماذا يفعَلُ به؟ فقيل: يتجرَّعُه، أي: يتكلَّفُ جَرْعَه مرَّةً بعدَ أُخرى؛ لِغلَبَةِ العطَشِ، واستيلاءِ الحرارةِ عليه .

- وقوله: يَتَجَرَّعُهُ (تجرَّع) تَفعَّل، ويَحتمِلُ هنا وُجوهًا: أنْ يكونَ للمُطاوعَةِ، أي: جرَّعَه فتجرَّعَ، وأنْ يكونَ للتَّكلُّفِ، نحوَ: تحلَّمَ، وأنْ يكونَ لِمُواصلَةِ العَمَلِ في مُهْلَةٍ، نحوَ: تفهَّمَ، أي: يأخُذُه شيئًا فشيئًا، وأنْ يكونَ مُوافقًا للمُجرَّدِ، أي: جرعَه ، وفي جميعِ هذه الأحوالِ استَقْصى غايةَ ما يمكِنُ أنْ يتناوَلَه شارِبُ الماءِ؛ ففيه ما يُعرَف بالاستِقصاءِ، وهو أنْ يتناوَلَ المُتكلِّمُ معنًى، فيستقصِيَه، أي: يأتِيَ بجميعِ عوارِضِه ولوازِمِه بعد أنْ يَستقصِيَ جميعَ أوصافِه الذَّاتيَّةِ، بحيثُ لا يترُكُ لِمَن يتناولُه بعدَه فيه مقالًا يقولُه، فقدِ استَقْصى المعنى الَّذي أرادَهُ في الآيةِ؛ وهو كراهيةُ الصَّديدِ الَّذي يشرَبُه بأنَّه يتجرَّعُه، وفيه أيضًا تَتميمُ المُبالَغةِ؛ فقد قال: يَتَجَرَّعُهُ، ولو قال: (جرَعَه) لَمَا أفاد المعنى الَّذي أرادَه؛ لأنَّ (جرَعَ الماءَ) لا يُشيرُ إلى معنى الكراهيةِ، ولكنَّه عندما أُتِيَ بالتَّاءِ على صِيغَةِ التَّفعُّلِ، أفهَمَ أنَّه يتكلَّفُ شُرْبَه تكلُّفًا، وأنَّه يُعاني مِن جرَّاءِ شُرْبِه ما لا يأْتي الوصفُ عليه؛ مِن تَقزُّزٍ وكراهيةٍ، ثمَّ احتاط للأمْرِ؛ لأنَّه قد يُوهِمُ بأنَّه تكلَّفَ شُرْبَه ثمَّ هان عليه الأمْرُ بعدَ ذلك؛ فأُتِيَ بالكَيْدُودَةِ، أي: أنَّه تكلَّفَ شُرْبَه وهو لا يكادُ يشرَبُه، ولو اكْتَفى بالكَيْدُودَةِ لَصَحَّ المعنى دونَ مُبالَغةٍ، ولكنْ عندما جاءتْ يُسِيغُهُ، أفهَمَ أنَّه لا يُسيغُه بل يغَصُّ به، فيشرَبُه بعدَ اللَّتَيَّا والَّتي جُرْعَةً غِبَّ جُرْعَةٍ؛ فيَطولُ عَذابُه؛ تارةً بالحرارةِ، وتارةً بالعطَشِ .

- قولُه: وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ دخَلَ الفعْلُ (كاد)؛ للمُبالَغةِ، يعني: ولا يُقارِبُ أنْ يُسيغَه؛ فكيف تكونُ الإساغةُ ؟!

- قولُه: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ كأنَّ أسبابَ الموتِ وأصنافَه كلَّها قد تألَّبَتْ عليه، وأحاطَتْ به مِن جميعِ الجِهاتِ؛ تفظيعًا لِمَا يُصيبُه مِن الآلامِ .

- وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ في وصْفِ العذابِ بالغِلظةِ: كِنايةٌ عن قوَّتِه واتِّصالِه؛ لأنَّ الغِلظةَ تستوجِبُ القوَّةَ، وتستَدْعي أنْ يكونَ مُتَّصلًا تتصِلُ به الأزمنةُ كلُّها، فلا انفصالَ بينها .

- وفي ألفاظِ الآياتِ الوَاردةِ مَوْرِدَ التَّهديدِ والوعيدِ «مُراعاةُ النَّظيرِ»؛ فجميعُ ألفاظِها مُتضافِرةٌ على التَّعبيرِ عنِ المُخيفِ القارِعِ للقُلوبِ .

6- قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ

- قولُه: مَّثَلُ  الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ... فيه تشبيهٌ تمثيليٌّ؛ فالمُشبَّهُ مُرَكَّبٌ، وهو الَّذين كَفَروا وأعمالُهم الصَّالحةُ الَّتي يقومونَ بها في حَياتِهم؛ كصِلةٍ يَرفِدونَ بها المُحتاجَ، وصَدقةٍ يَجبُرونَ بها المكسورَ، وعِلْمٍ يعُمُّ نفْعُه العِبادَ، والمُشبَّهُ به: الرَّمادُ- وهو ما سحَقَتْه النَّارُ مِن الأجرامِ- واشتِدادُ الرِّيحِ، واليومُ العاصفُ، ووجْهُ الشَّبهِ: أنَّ الرِّيحَ العاصِفَ تُطَيِّرُ الرَّمادَ، وتُفرِّقُ أجْزاءَه بحيثُ لا يَبْقَى له أثرٌ، فكذلك كُفْرُهم أبطَلَ أعمالَهم وأحبَطَها بحيث لا يبْقَى لها أثرٌ؛ فالمعنى: حالُ أعمالِهم، بقَرينةِ الجُملةِ المُخبَرِ عنها؛ لأنَّه مهما أُطْلِقَ (مثَلُ كذا) إلَّا والمُرادُ حالٌ خاصَّةٌ مِن أحوالِه يُفسِّرُها الكلامُ، فهو مِن الإيجازِ المُلتَزمِ في الكلامِ. فقولُه: أَعْمَالُهُمْ مبتدأٌ ثانٍ، وكَرَمَادٍ خبرٌ عنه، والجُملةُ خبرٌ عن المبتدأِ الأوَّلِ. ولمَّا جُعِلَ الخبرُ عن مثَلِ الَّذين كَفَروا أَعْمَالُهُمْ، آلَ الكلامُ إلى أنَّ مثَلَ أعمالِ الَّذين كَفَروا كرَمادٍ؛ شُبِّهَت أعمالُهم المُتجمِّعةُ العديدةُ برمادٍ مُكدَّسٍ، فإذا اشتدَّتِ الرِّياحُ بالرَّمادِ انتثَرَ وتفرَّقَ تفرُّقًا لا يُرْجى معه اجتماعُه، ووجْهُ الشَّبهِ هو الهيئةُ الحاصِلةُ مِن اضمحلالِ شيءٍ كثيرٍ بعدَ تجمُّعِه، والهيئةُ المُشبَّهةُ معقولةٌ. ومِن لَطائفِ هذا التَّمثيلِ أنِ اخْتِيرَ له التَّشبيهُ بهيئةِ الرَّمادِ المُتجمِّعِ؛ لأنَّ الرَّمادَ أثَرٌ لأفْضَلِ أعمالِ الَّذين كَفَروا وأشْيَعِها بينهم وهو قِرَى الضَّيفِ، حتَّى صارتْ كثرةُ الرَّمادِ كِنايةً في لِسانِهم عنِ الكرَمِ ، وأيضًا ففي تَشبيهِ أعمالِهم بالرَّمادِ سِرٌّ بديعٌ؛ وذلك للتشابُهِ الذي بين أعمالِهم وبين الرَّمادِ في إحراقِ النَّارِ وإذهابِها لأصلِ هذا وهذا، فكانت الأعمالُ التي لغير الله وعلى غيرِ مُرادِه طُعمةً للنَّارِ، وبها تُسعَّرُ النَّارُ على أصحابِها .

- قولُه: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ جُملةٌ مُستَأنَفَةٌ لِبيانِ مثَلِهم، على تقديرِ سُؤالٍ؛ كأنَّه قيل: كيف مثَلُهم؟ أو: ما بالُ أعمالِهم الَّتي عمِلوها في وُجوهِ البِرِّ؛ مِن صلةِ الأرحامِ، وإعتاقِ الرِّقابِ، وفِداءِ الأسارى، وإغاثةِ المَلْهوفينَ، وقِرَى الأضيافِ، وغيرِ ذلك ممَّا هو مِن بابِ المَكارمِ، حتَّى آلَ أمْرُهم إلى هذا المآلِ؟ فأُجِيبَ بأنَّ: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ...، وكأنَّه قيل: المُتحصِّلُ مثالًا في النَّفْسِ للَّذين كَفَروا هذه الجُملةُ المذكورةُ؛ وهي: أعمالُهم في فسادِها وقْتَ الحاجةِ وتلاشيها كالرَّمادِ الَّذي تذْرُوه الرِّيحُ، وتفرِّقُه بشدَّتِها حتَّى لا يبْقَى له أثرٌ، ولا يجتمِعُ منه شيءٌ .

- قولُه: فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ العصْفُ: اشتِدادُ الرِّيحِ؛ وُصِفَ به زَمانُه للمُبالَغةِ، فجُعِلَ العصْفُ لليومِ، وهو لِمَا فيه، وهو الرِّيحُ أو الرِّياحُ؛ فشَبَّهَ هذه الأعمالَ- في حُبوطِها، وذَهابِها هباءً مَنثورًا؛ لِبنائِها على غيرِ أساسٍ مِن معرفةِ اللهِ والإيمانِ به، وكونِها لِوجْهِه- برمادٍ طيَّرَتْه الرِّيحُ العاصِفُ .

- وقولُه: لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ فَذْلَكةُ التَّمثيلِ، وبيانٌ لِجُملةِ التَّشبيهِ، أي: ذهَبَتْ أعمالُهم سُدًى، فلا يَقدِرونَ أنْ ينتَفِعوا بشيءٍ منها ، والاكتفاءُ ببيانِ عدَمِ رُؤيةِ الأثَرِ لأعمالِهم للأصنامِ، مع أنَّ لها عُقوباتٍ هائلةً؛ للتَّصريحِ ببُطلانِ اعتقادِهم، وزَعمِهم أنَّها شُفعاءُ لهم عندَ اللهِ تعالى، وفيه تهكُّمٌ بهم ، وذلك على أحدِ أوجهِ التفسيرِ.

====================

 

سورةُ إبراهيمَ

الآيات (19-21)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

 

وَبَرَزُوا: أي: ظَهَروا وخَرَجوا مِن قُبورِهم، وأصلُ (برز): يدلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ وبُدُوِّه

.

أَجَزِعْنَا: الجزعُ: حزنٌ يصرِفُ الإنسانَ عمَّا هو بصددِه، ويقطعُه عنه، وأصلُ الجزعِ: قطعُ الحبلِ مِن نصفِه .

مَحِيصٍ: أي: مَعدِلٍ ومَهرَبٍ، وأصلُ (حيص): يدلُّ على المَيلِ في جَورٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: ألم تَرَ أنَّ اللهَ خلقَ السَّمواتِ والأرضَ لأمرٍ عظيمٍ؛ وذلكَ ليعبدَه الخلقُ، ولا يُشرِكوا به شَيئًا، وليعرِفوا ما له مِن صفاتِ الكمالِ، وأنَّه القادِرُ على إعادةِ الخَلقِ يومَ القيامةِ، فهو سبحانَه لم يخلُقِ السَّمواتِ والأرضَ عَبَثًا؟ إنْ شاءَ أن يُذهِبكم- أيُّها البشرُ- إن عَصَيتُموه، أذهَبكم، ويأتِ بِقَومٍ غَيرِكم أطوعَ لله منكم، وما إذهابُكم والإتيانُ بغَيرِكم بمتعذِّرٍ ولا مُمتنِعٍ على اللهِ، بل هو سَهلٌ يَسيرٌ عليه.

ثمَّ يحْكي الله تعالَى جانبًا مِن الحوارِ الذي يجري يومَ القيامةِ بينَ الأتباعِ والمتبوعينَ، فيقولُ تعالى: وظهَروا جميعًا مِن قُبورِهم يومَ القيامةِ لله الواحِدِ القَهَّار؛ مجتمعينَ في أرضٍ مُستَوِيةٍ، لا يخفَى فيها أحدٌ منهم، فيقولُ الأتباعُ لقادتِهم الذين كانوا يستكبِرونَ في الدُّنيا عن اتِّباعِ الحَقِّ: إنَّا كنَّا لكم في الدُّنيا أتباعًا، نأتمِرُ بأمركِم، فأضلَلْتُمونا، فهل أنتم اليومَ دافِعونَ عنَّا مِن عذابِ اللهِ شَيئًا، ولو قليلًا؟ فيقولُ الرُّؤساءُ: لو هدانا اللهُ إلى الإيمانِ لأرشَدْناكم إليه، ولكِنَّه لم يوَفِّقْنا، فضَلَلْنا وأضلَلْناكم، سواءٌ علينا الجَزَعُ مِن العذابِ والصَّبرُ عليه، فليس لنا في كلا الحالَينِ مَهربٌ من العذابِ ولا مَنجًى.

تفسير الآيات:

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ أعمالَ الكافرينَ تَصيرُ باطِلةً ضائِعةً، بيَّنَ أنَّ ذلك البُطلانَ والإحباطَ إنَّما جاء بسبَبٍ صدرَ منهم، وهو كُفرُهم باللهِ وإعراضُهم عن العبوديَّة؛ فإنَّ اللهَ تعالى لا يُبطِلُ أعمالَ المُخلِصينَ ابتداءً، وكيف يليقُ بحِكمتِه أن يفعَلَ ذلك، وإنَّه تعالى ما خلقَ كُلَّ هذا العالَمِ إلَّا لداعيةِ الحِكمةِ والصَّوابِ

.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ .

أي: ألم تَرَ أنَّ الله خلقَ السَّمواتِ والأرضَ وَحدَه بغَيرِ ظَهيرٍ ولا مُعينٍ، لأمرٍ عظيمٍ؛ ليعبدَه الخلقُ، ويعرِفوا ما له من صِفاتِ الكَمالِ، وأنَّه القادِرُ على إعادةِ الخَلقِ يومَ القيامةِ، فهو سبحانَه لم يخلُقْهنَّ عَبَثًا ؟

كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدخان: 38-39] .

وقال سُبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33] .

وقال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] .

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ.

أي: إنَّ القادِرَ الذي تفرَّدَ بخَلقِ السَّمواتِ والأرضِ إن شاء أن يُفنِيَكم- أيُّها النَّاسُ- إن عَصَيتُموه، أفناكم، ويأتِ بقَومٍ غَيرِكم أفضَلَ وأطوَعَ لله منكم .

كما قال الله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء: 133] .

وقال سُبحانه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .

وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] .

وقال تعالى: نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا [الإنسان: 28] .

وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20).

أي: وما إذهابُكم- أيُّها النَّاسُ- والإتيانُ بخَلقٍ آخَرَ مَكانَكم، بمُمتَنِعٍ على اللهِ ولا مُتعَذِّرٍ، بل هو سَهلٌ يَسيرٌ عليه سُبحانَه .

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أصنافَ عذابِ هؤلاءِ الكُفَّارِ، ثمَّ ذكَرَ عَقيبَه أنَّ أعمالَهم تصيرُ مُحبَطةً باطِلةً؛ ذكَرَ في هذه الآيةِ كيفيَّةَ خَجالتِهم عندَ تمسُّكِ أتباعِهم، وكيفيَّةَ افتضاحِهم عندَهم. وهذا إشارةٌ إلى العذابِ الرُّوحانيِّ الحاصِلِ بسبَبِ الفَضيحةِ والخَجالةِ .

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا .

أي: وظهَروا جميعًا مِن قُبورِهم لله وَحدَه يومَ القيامةِ، مجتمعينَ في أرضٍ مُستَوِيةٍ لا يخفَى فيها أحدٌ منهم .

كما قال تعالى: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] .

وقال سُبحانه: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18] .

فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا.

أي: فقال الأتباعُ لقادتِهم وسادتِهم الذين كانوا يستكبِرونَ في الدُّنيا عن اتِّباعِ الحَقِّ: إنَّا كنَّا لكم في الدُّنيا أتباعًا نُطيعُكم ونقَلِّدُكم، فأضلَلْتُمونا .

كما قال تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر: 47-48] .

فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.

أي: فهل أنتم دافِعونَ عنَّا اليومَ شَيئًا- ولو قليلًا- مِن عذابِ اللهِ ؟

قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ.

أي: قال القادةُ المَتبوعونَ لأتباعِهم: لو هَدانا اللهُ إلى الحَقِّ، لهدَيناكم إليه، فلمَّا أضلَّنا أضلَلْناكم، فحقَّ علينا وعليكم عذابُ اللهِ .

كما قال تعالى حاكيًا قولَ القادةِ لأتباعِهم: فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ [الصافات: 31-32] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 31-33] .

سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ .

أي: سواءٌ علينا أجَزِعْنا مِن العذابِ أم صَبَرْنا عليه، ما لنا في كِلا الحالَينِ مِن مَهرَبٍ ولا ملجأٍ نَفِرُّ إليه مِن عذابِ اللهِ

 

.

كما قال سُبحانه: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 16].

الفوائد التربوية:

 

قَولُ الله تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ جيءَ في هذه الآيةِ بوَصفِ حالِ الفِرَقِ يومَ القيامةِ، ومُجادلةِ أهلِ الضَّلالةِ مع قادتِهم، مع كونِ المؤمنينَ في شُغُلٍ عن ذلك بنُزُلِ الكرامةِ، والغرَضُ من ذلك تنبيهُ النَّاسِ إلى تدارُكِ شَأنِهم قبل الفَواتِ، فالمقصودُ: التحذيرُ ممَّا يُفضي إلى سُوءِ المَصيرِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ الرُّؤيةُ: مُستعملةٌ في العِلمِ النَّاشئِ عن النَّظرِ والتأمُّلِ؛ لأنَّ السَّمواتِ والأرضَ مُشاهَدةٌ لكُلِّ ناظرٍ، وأمَّا كونُها مخلوقةً لله فمُحتاجٌ إلى أقَلِّ تأمُّلٍ؛ لسُهولةِ الانتقالِ مِن المُشاهدةِ إلى العِلمِ، وأمَّا كونُ ذلك مُلتَبِسًا بالحَقِّ فمُحتاجٌ إلى تأمُّلٍ عَميقٍ، فلمَّا كان أصلُ ذلك كُلِّه رؤيةَ المخلوقاتِ المذكورةِ، عُلِّقَ الاستدلالُ على الرُّؤيةِ

.

2- قَولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ... فيه بَيانٌ لإبعادِهم في الضَّلالِ، وعَظيمِ خَطْبِهم في الكُفْرِ باللهِ؛ لِوضوحِ آياتِه الشَّاهدةِ له، الدَّالَّةِ على قُدرتِه الباهِرةِ، وحِكمتِه البالِغةِ، وأنَّه هو الحقيقُ بأنْ يُعْبَدَ، ويُخافَ عِقابُه، ويُرْجَى ثوابُه في دارِ الجزاءِ .

3- قولُه تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ فيه إعلامٌ منه سبحانه باقْتِدارِه على إعدامِ الموجودِ، وإيجادِ المعدومِ، وأنَّه يَقدِرُ على الشَّيءِ، وجنْسِ ضدِّه .

4- قال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ فرتَّبَ قُدرتَه تعالى على ذلك على قُدرتِه تعالى على خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ على هذا النَّمطِ البَديعِ؛ إرشادًا إلى طَريقِ الاستِدلالِ؛ فإنَّ مَن قدَرَ على خَلْقِ مِثْلِ هاتيك الأجرامِ العَظيمةِ، كان على تبْديلِ خلْقٍ آخرَ بهم أقدَرَ .

5- إنْ قيل: كيفَ قال اللهُ تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ معَ كونِه سبحانَه عالِمًا بهم، لا تخفَى عليه خافيةٌ مِنْ أحوالِهم؛ بَرَزوا أوْ لم يَبْرُزوا؟

والجواب: لأنَّهم كانُوا يَسْتَتِرونَ عن العُيونِ عندَ فعلِهم للمعاصي، ويظُنُّونَ أَنَّ ذلك يخفَى على اللَّهِ تعالَى، فالكلامُ خارجٌ على ما يَعتقدونَه ، فإذا ظهَرتْ فضائحُهم، وشهِدتْ عليهم جوارحُهم يومَ القيامةِ علِموا حينئذٍ، وتيقَّنوا أنَّهم بَرزوا لله جميعًا، وأنَّه لا يخفَى شيءٌ مِن أعمالِهم وأحوالِهم. وقيل: إذا خَرجوا مِن قبورِهم بَرزوا لموقفِ الحسابِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ

- قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ... استئنافٌ بَيانيٌّ، ناشِئٌ عن جُملةِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 13] ؛ فإنَّ هَلاكَ فِئةٍ كاملةٍ شَديدةِ القُوَّةِ والمِرَّةِ أمْرٌ عَجيبٌ، يُثِيرُ في النُّفوسِ السُّؤالَ: كيف تُهْلَكُ فِئةٌ مِثْلُ هؤلاء؟! فيُجابُ بأنَّ اللهَ الَّذي قدَرَ على خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ في عظَمَتِها قادِرٌ على إهلاكِ ما هو دُونَها؛ فمَبْدَأُ الاستئنافِ هو قولُه: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إبراهيم: 19] ، ومَوقِعُ جُملةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [إبراهيم: 19] مَوقِعُ التَّعليلِ لجُملةِ الاستئنافِ؛ قُدِّمَ عليها كما تُجعَلُ النَّتيجةُ مُقدَّمةً في الخَطابةِ والجِدالِ على دَليلِها، ومُناسَبةُ مَوقعِ هذا الاستئنافِ ما سبَقَهُ مِن تفرُّقِ الرَّمادِ في يَومٍ عاصفٍ

.

- قوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ المقصودُ منه: التَّعريضُ بالمُشركينَ خاصَّةً؛ تأكيدًا لِوعيدِهم الذي اقتَضاه قولُه: لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [إبراهيم: 13-14] ، أي: إن شاء أعدمَ الناسَ كلَّهم، وخَلَق ناسًا آخِرينَ، وقد جِيءَ في الاستدلالِ على عَظيمِ القُدرةِ بالحُكمِ الأعمِّ؛ إدماجًا للتعليمِ بالوعيدِ، وإظهارًا لعظيم القُدرةِ، وفيه إيماءٌ إلى أنَّه يُذهِبُ الجبابرةَ المعانِدين، ويأتي في مَكانِهم في سِيادةِ الأرضِ بالمؤمنينَ؛ ليُمكِّنَهم من الأرضِ .

2- قوله تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ

- قولُه: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فيه مَجيءُ الفعْلِ وَبَرَزُوا الَّذي يكونُ في المستقبَلِ بلفْظِ الماضي؛ وإنَّما ذُكِرَ بلفْظِ الماضي لِتحقُّقِ وُقوعِه؛ لِصدْقِ المُخبِرِ به؛ لأنَّ ما أخبَرَ به عزَّ وعلا- لِصدْقِه- كأنَّه قد كان ووُجِدَ ووقَعَ، وكان مُقتضَى الظاهرِ أن يقولَ: (ويَبرُزون لله)؛ فعدَلَ عن المضارعِ إلى الماضي؛ للتَّنبيهِ على تَحقيقِ وُقوعِه حتى كأنَّه قد وقَع .

- وجَمِيعًا تأكيدٌ؛ لِيشمَلَ جميعَهم .

- قولُه: فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا السِّينُ والتَّاءُ في اسْتَكْبَرُوا؛ للمُبالَغةِ في الكِبْرِ . وتَبَعًا جمْعُ تابِعٍ، كـ (غائبٌ وغَيَبٌ)، أو مصدرٌ نُعِتَ به للمُبالَغةِ، أو على إضمارِ مُضافٍ، أي: ذوي تَبَعٍ .

- قولُه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ الاستفهامُ مِن بابِ التَّبكيتِ والتَّوبيخِ والعِتابِ والتَّقريعِ؛ لأنَّهم قد علِموا أنَّهم لا يَقدِرونَ على الإغناءِ عنهم، أي: فأظْهِروا مكانتَكم عندَ اللهِ الَّتي كنْتُم تدَّعونَها وتُغْرونَنا بها في الدُّنيا. والفاءُ في قولِه: فَهَلْ؛ للدَّلالةِ على سببيَّةِ الاتِّباعِ للإغناءِ؛ فهي لِتفريعِ الاستِكبارِ على التَّبعيَّةِ؛ لأنَّها سَببٌ يقْتَضي الشَّفاعةَ لهم .

- قولُه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا فيه تقديمُ المُسنَدِ إليه أَنْتُمْ على المُسنَدِ مُغْنُونَ عَنَّا؛ لأنَّ المُستفهَمَ عنه كونُ المُستكبرينَ يُغْنونَ عنهم، لا أصلُ الغَناءِ عنهم؛ لأنَّهم آيسونَ منه لَمَّا رأَوا آثارَ الغضبِ الإلهيِّ عليهم وعلى سادَتِهم، كما تدلُّ عليه حِكايةُ قولِ المُستكبرينَ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ؛ فعلِموا أنَّهم قد غرُّوهم في الدُّنيا .

- و(مِن) في قولِه: مِنْ عَذَابِ اللَّهِ قيل: إنها للتَّبْيينِ، و(من) في قوله: مِنْ شَيْءٍ قيل: إنها للتَّبعيضِ؛ كأنَّه قيل: هل أنتم مُغْنونَ عنَّا بعضَ الشَّيءِ الَّذي هو عَذابُ اللهِ؟ ويجوزُ أنْ تكونَا للتَّبعيضِ معًا، بمعنى: هل أنتم مُغْنونَ عنَّا بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذابِ اللهِ؟ أي: بعضَ بعضِ عذابِ اللهِ ، وقيل: (مِن) في مِنْ شَيْءٍ لاستِغراقِ الجنْسِ، زائدةٌ للتَّوكيدِ؛ لِوقوعِ مَدْخولِها في سياقِ الاستفهامِ بحرف (هل)، والمعنى: هل تمْنَعونَ عنَّا شيئًا ؟

- قولُه: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا الهَمزةُ و(أَمْ) لِتأكيدِ التَّسويةِ، وإنَّما أسنَدُوهما، ونسَبوا استِواءَهما إلى ضَميرِ المُتكلِّمِ المُنتظِمِ للمُخاطَبينَ أيضًا؛ مُبالَغةً في النَّهيِ عنِ التَّوبيخِ، بإعلامِ أنَّهم شُركاءُ لهم فيما ابْتُلوا به، وتسليةً لهم .

- وجُملةُ مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ واقعةٌ موقِعَ التَّعليلِ لمعنى الاستواءِ، أي: حيثُ لا مَحيصَ ولا نجاةَ فسواءٌ الجزَعُ والصَّبرُ .

- قولُه: سَوَاءٌ عَلَيْنَا اتَّصَلَ بما قبلَه- أي: لم يُعطَفْ عليه- مِن حيثُ إنَّ عِتابَهم لهم كان جزَعًا ممَّا هم فيه مِن العذابِ، فقالوا: سواءٌ علينا جميعًا نحن وأنتم، أجزِعْنا أم صبَرْنا؛ فلا فائِدةَ مِن هذا الجزَعِ والتَّوبيخِ، كما لا فائدةَ في الصَّبرِ، وأتْبَعوا الإقناطَ مِن النَّجاةِ، فقالوا: مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ

========================

 

سورةُ إبراهيمَ

الآيتان (22-23)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ

غريب الكلمات:

 

بِمُصْرِخِكُمْ: أي: بمُغيثِكم ومُنقِذِكم، وأصلُ (صرخ): يدلُّ على صَوتٍ رَفيعٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالَى عن الشَّيطانِ- بعد أن يقضيَ اللهُ الأمرَ،  ويُدخِلَ أهلَ الجنَّةِ الجنَّةَ، وأهلَ النَّارِ النارَ- أنَّه يقولُ: إنَّ اللهَ وعَدَكم على ألسِنةِ رُسُلِه وعدًا حقًّا بالبَعثِ والجزاءِ، وأنَّ فِي اتِّبَاعِ هؤلاء الرسلِ النَّجاةَ وَالسَّلامَةَ، فوفَى بوَعدِه، ووعدتُكم وعدًا باطِلًا؛ أنَّه لا بَعْثَ ولا جزاءَ، ووعدتُكم النُّصرةَ، فأخلَفتُكم وعدي، وما أظهرتُ لكم أيَّ حجَّةٍ تدُلُّ على صِدقي فيما وعدتُكم به، ولكِنْ دَعَوتُكم إلى الكُفرِ باللهِ والإشراكِ به ومَعصيتِه فاتَّبَعتُموني بلا بُرهانٍ، فلا تلوموني ولُوموا أنفُسَكم، ما أنا بمُغيثِكم ومُنقِذِكم من النَّارِ، ولا أنتم بمُغيثيَّ ومنقِذِيَّ منها، إني تبرَّأتُ مِن جَعْلِكم لي شريكًا مع اللهِ في طاعتِه وعبادتِه في الدُّنيا، إنَّ الظَّالمينَ- الذين وضعوا العِبادةَ والطَّاعةَ في غيرِ مَوضِعِها- لهم عذابٌ مُؤلِمٌ مُوجِعٌ. وأُدخِلَ الذين آمنوا بالله ورَسولِه وعَمِلوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجري مِن تحتِ أشجارِها وقُصورِها وتحت كل ما علا منها الأنهارُ، لا يخرُجونَ منها أبدًا بإذنِ رَبِّهم، تحيةُ بعضِهم لبعضٍ، وتحيةُ اللهِ لهم، وتحيةُ الملائكةِ إيَّاهم: سلامٌ.

تفسير الآيتين:

 

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ مُحاورةَ الأتباعِ لرُؤسائِهم الكَفَرةِ؛ ذكَرَ مُحاورةَ الشَّيطانِ وأتباعِه مِن الإنسِ؛ وذلك لاشتراكِ الرُّؤساءِ والشَّياطينِ في التلبُّسِ بالإضلالِ

.

وأيضًا فقد أفْضَتْ مجادلةُ الضعفاءِ وسادتِهم في تغريرِهم بالضلالةِ إلى نطقِ مصدرِ الضلالةِ، وهو الشَّيطانُ .

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ.

أي: وقال إبليسُ- وهو أوَّلُ المُستَكبرينَ المتبوعينَ في الضَّلالِ- لأتباعِه لَمَّا أدخَلَ اللهُ أهلَ الجنَّةِ الجنَّةَ، وأهلَ النَّارِ النَّارَ: إنَّ الله وعَدَكم على ألسِنةِ رُسُلِه وعدًا صادِقًا متحَقِّقًا لا يُخلَفُ بوقوعِ البَعثِ، وإثابةِ المُطيعِ بالجنَّةِ، والعاصي بالنَّارِ، ووعَدكم أنَّ فِي اتِّبَاعِ هؤلاء الرسلِ النَّجاةَ وَالسَّلامَةَ، فوفَى بوَعدِه، ووَعَدتُكم أنْ لا بعثَ، ولا جَنَّةَ ولا نارَ، ولَا ثَوابَ ولَا عِقابَ، ووعدتُكم النُّصرةَ، فأخلفْتُ وعدي لكم، وكذَبْتُ عليكم .

كما قال الله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 120] .

وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.

أي: قال إبليسُ لأهلِ النَّارِ: وما أظهرتُ لكم أيَّ حجَّةٍ تدُلُّ على صِدقي فيما وعدتُكم به، ولكِنْ دعوتُكم إلى الكُفرِ باللهِ والإشراكِ به ومَعصيتِه، فأطعتُموني واتَّبعتُموني بلا بُرهانٍ .

فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ.

أي: فلا تَلوموني اليومَ على طاعتِكم واتِّباعِكم لي بلا حُجَّةٍ، ولوموا أنفُسَكم على ذلك؛ فأنتم السَّبَبُ في دخُولِكم النَّارَ؛ لأنَّكم مُؤاخَذونَ بكَسبِكم، ولكم قُدرةٌ واختيارٌ، فاختَرتُم الشَّرَّ على الخيرِ .

مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ.

أي: ما أنا بمُغيثِكم ومُنقِذِكم من النَّارِ، وما أنتم بُمغيثينَ ومُنقذينَ لي من النَّارِ؛ فكلٌّ مِنَّا له قِسْطُه من العذابِ .

كما قال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الصافات: 27 - 33] .

وقال سُبحانه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف: 36 - 39] .

إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ.

أي: إنِّي جَحَدْتُ وتبرَّأتُ مِن جَعْلِكم لي شَريكًا لله في العبادةِ والطَّاعةِ مِن قَبلُ في الدُّنيا .

كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81-82] .

وقال سبُحانه: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس: 60 - 62] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5- 6] .

إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

أي: إنَّ الكافرينَ- الذين ظلَموا أنفُسَهم بوَضعِهم العِبادةَ والطَّاعةَ في غيرِ مَوضِعِها- لهم عَذابٌ مُوجِعٌ .

وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا جمَعَ اللهُ تعالى الفَريقينِ في قَولِه: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا وذَكَرَ شَيئًا مِن أحوالِ الكُفَّارِ؛ ذكَرَ ما آل إليه أمرُ المؤمنينَ مِن إدخالِهم الجنَّةَ ، فقال:

وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.

أي: وأُدخِلَ الذين آمنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحاتِ، فأطاعوا اللهَ تعالى واجتَنَبوا مَعصِيتَه؛ بساتينَ تجري الأنهارُ سارِحةً مِن تحتِ ما علا منها، كالغُرَفِ والمباني والأشجارِ وغيرِها .

خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ.

أي: ماكثينَ في الجنَّةِ بأمرِ رَبِّهم .

تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ.

أي: تحيةُ بعضِهم لبعضٍ، وتحيةُ اللهِ لهم، وتحيةُ الملائكةِ إيَّاهم : سلامٌ

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 9-10].

وقال سبحانه: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب: 44] .

الفوائد التربوية:

 

قال الله تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ... حِكايةُ هذه المُحاورةِ لِتَنبيهِ السَّامعينَ على النَّظَرِ في العواقِبِ، والاستعدادِ لذلك اليومِ قبل ألَّا يكونَ إلَّا النَّدمُ وقَرعُ السِّنِّ وعَضُّ اليَدِ

. ولإثارةِ بُغضِ الشَّيطانِ في نُفوسِ أهلِ الكُفرِ؛ ليأخُذوا حِذرَهم بدِفاعِ وِسْواسِه؛ لأنَّ هذا الخِطابَ الذي يُخاطِبُهم به الشَّيطانُ مَليءٌ بإضمارِ الشَّرِّ لهم فيما وعَدَهم في الدُّنيا ممَّا شَأنُه أن يستفِزَّ غَضَبَهم مِن كَيدِه لهم وسُخريتِه بهم، فيُورِثَهم ذلك كراهيةً له وسُوءَ ظَنِّهم بما يتوقَّعونَ إتيانَه إليهم مِن قِبَلِه، وذلك أصلٌ عَظيمٌ في المَوعِظةِ والتَّربيةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ساقَه على صُورةِ الاستثناءِ- وإن لم يكُنْ دُعاؤُه من السُّلطانِ في شَيءٍ، فهو استثناءٌ منقطعٌ- لأنَّ السُّلطانَ أخَصُّ مِن البُرهانِ؛ إذ معناه: برهانٌ يتسَلَّطُ به على إبطالِ مَذهَبِ الخَصمِ، إشارةً إلى أنَّهم تَبِعوه ولا قُدرةَ له على غيرِ هذا الدُّعاءِ الذي لا سُلطانَ فيه، وترَكوا دُعاءَ مَن أنزل إليهم مِن كُلِّ سُلطانٍ مُبِينٍ، مع تهديدِهم بما هو قادِرٌ عليه، وضَربِهم ببَعضِه، وفاعِلُ مثلِ ذلك لا لومَ له على غيرِ نَفسِه

.

2- قال الله تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ذكَرَ الله تعالى في هذه الآيةِ أنَّه ليس للشَّيطانِ عليهم سُلطانٌ، وقال في آيةٍ أخرى: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:100] ، فأثبتَ له سُلطانًا، ولكِنَّ السُّلطانَ الذي أثبَتَه له عليهم غيرُ السُّلطانِ الذي نفاه، وذلك مِن وَجهينِ:

الأول: أنَّ السُّلطانَ الذي نفاه عنه هو سُلطانُ الحُجَّةِ والدَّليل، فليس له حُجَّةٌ أصلًا على ما يدعو إليه، وإنَّما نهايةُ ذلك أن يُقيمَ لهم مِن الشُّبَهِ والتَّزييناتِ ما به يتجَرَّؤون على المعاصي، وإطلاقُ السُّلطانِ على البرهانِ كثيرٌ في القرآنِ، وأمَّا السُّلطانُ الذي أثبَتَه فهو التسَلُّط بالإغراءِ على المعاصي لأوليائِه يَؤُزُّهم إلى المعاصي أزًّا.

الثاني: أنَّ الله لم يجعَلْ له عليهم سُلطانًا ابتداءً البتَّةَ، ولكِنَّهم هم الذين سَلَّطوه على أنفُسِهم بطاعتِه ودُخولِهم في حِزبِه، فلم يتسَلَّطْ عليهم بقُوَّةٍ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76] ، وإنَّما تسَلَّط عليهم بإرادتِهم واختيارِهم، فهم الذين سَلَّطوه على أنفُسِهم بموالاتِه والالتحاقِ بحِزبِه، ولهذا ليس له سُلطانٌ على الذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكَّلونَ .

3- قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فالشَّيطانُ قام لهم في هذا اليومِ مقامًا يقصِمُ ظُهورَهم ويُقَطِّعُ قُلوبَهم؛ فقد أوضَحَ لهم أوَّلًا: أنَّ مواعيدَه الَّتي كان يعِدُهم بها في الدُّنيا باطلةٌ، ومعارِضةٌ لِوعْدِ الحقِّ مِن اللهِ سبحانه. ثانيًا: أنَّه أخلَفَهم ما وعَدَهم مِن تلك المواعيدِ، ولم يَفِ لهم بشيءٍ منها. ثالثًا: أوضَحَ لهم أنَّهم قَبِلوا قولَه بما لا يوجِبُ القَبولَ، ولا ينفَقُ على عقْلِ عاقلٍ؛ لعدَمِ الحُجَّةِ الَّتي لا بدَّ للعاقلِ منها في قَبولِ غيرِه. رابعًا: أوضَحَ لهم أنَّه لم يكُنْ منه إلَّا مُجرَّدُ الدَّعوةِ العاطِلةِ عنِ البُرهانِ، الخاليةِ مِن أيسَرِ شيءٍ ممَّا يتمسَّكُ به العُقلاءُ. خامسًا: ثمَّ نعَى عليهم ما وقَعوا فيه، ودفَعَ لومَهم له، وأمَرَهم بأنْ يلوموا أنفُسَهم؛ لأنَّهم هم الَّذين قَبِلوا الباطلَ البحْتَ، الَّذي لا يلتَبِسُ بُطلانُه على مَن له أدنى مُسْكَةٍ مِن عقْلٍ. سادسًا: أوضَحَ لهم أنَّه لا نصْرَ عندَه ولا إغاثةَ، ولا يستطيعُ لهم نفعًا، ولا يدفَعُ عنهم ضرًّا، بل هو مِثْلُهم في الوُقوعِ في البليَّةِ والعجْزِ عنِ الخُلوصِ مِن هذه المِحنةِ. سابعًا: ثمَّ صرَّحَ لهم بأنَّه قد كفَرَ بما اعتَقَدوه وأثبَتوه له، فتضاعَفَت عليهمُ الحَسراتُ، وتوالَتْ عليهمُ المَصائبُ. وإذا كانت جُملةُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ مِن تتمَّةِ كلامِه- كما ذهَبَ إليه بعضُ المُفسِّرينَ- فهو نوعٌ ثامِنٌ مِن كلامِه الَّذي خاطَبَهم به .

4- في قَولِه تعالى: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ رَدٌّ على المُعتَزلةِ والقَدَرِيَّةِ فيما يزعُمونَ أنَّ «الإِذْنَ مِن اللهِ بمعنى العِلمِ» لا أنَّه إطلاقٌ؛ فِرارًا مما يَلزَمُهُم في قَولِه: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 100] ، فلو كان كما يقولونَ، لكان المُدْخِلُ إيَّاهم الجنَّةَ في هذه الآيةِ غيرَه، وهذا كُفْرٌ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

- قوله: وَقَالَ الشَّيْطَانُ... لَمَّا كان الشَّيطانُ أعظَمَ المُستكبرينَ، ورأسَ المضلِّين؛ خُصَّ بالإفرادِ بالجوابِ، حيثُ ذُكِرَ جوابُه دونَ سائرِ أجوبةِ بقيَّةِ المستكبِرين المتْبوعِينَ في الضَّلالِ الذين أضلُّوا أقوامَهم

.

- ومجموعُ الجُملتينِ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ يُفيدُ معنى القصْرِ .

- قولُه: وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ تعرَّضَ لذلك، مع أنَّه لم يكُنْ في حيِّزِ الاحتمالِ؛ مُبالَغةً في بيانِ عدَمِ إصراخِه إيَّاهم، وإيذانًا بأنَّه أيضًا مُبْتَلًى بمثْلِ ما ابْتُلوا به، ومحتاجٌ إلى الإصراخِ، فكيف مِن إصراخِ الغيرِ؟! ولذلك آثَرَ الجُملةَ الاسميَّةَ؛ فكأنَّ ما مضَى كان جوابًا منه عن تَوبيخِهم وتقريعِهم، وهذا جوابٌ عنِ استغاثَتِهم واستعانَتِهم به في استِدْفاعِ ما دهَمَهم منَ العذابِ .

2- قوله تعالى: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ

- قولُه: خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فيه إشارةٌ إلى العِنايةِ والاهتِمامِ؛ فهو إذْنٌ أخصُّ مِن أمْرِ القضاءِ العامِّ . وفي التَّعرُّضِ لِوصفِ الرُّبوبيَّةِ، مع الإضافةِ إلى ضميرِهم في قولِه: رَبِّهِمْ: إظهارُ مزيدٍ مِن اللُّطفِ بهم

========================

 

سورةُ إبراهيمَ

الآيات (24-27)

ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ

غريب الكلمات:

 

اجْتُثَّتْ: أي: استُؤصِلَت وقُطِعَت، وأصلُ (جثث): يدلُّ على تجَمُّعِ الشَّيءِ؛ لأنَّه لا يكونُ الشيءُ مجثوثًا إلَّا وقد قُلِعَ بجَميعِ أصولِه وعُروقِه حتى لا يُترَكَ منه شيءٌ

.

قَرَارٍ: أي: أصلٍ وثَباتٍ، وأصلُ (قرر): يدلُّ على تمَكُّنٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: ألم تعلَمْ- يا محمَّدُ- كيف ضرَبَ اللهُ مَثلًا، وشبَّه شَبَهًا كلمةً طَيِّبةً، وهي كَلِمةُ التَّوحيدِ- لا إلهَ إلَّا اللهُ- بشَجرةٍ طيبةِ الثمرةِ، جذورُها ثابِتةٌ في الأرضِ، وأغصانُها مرتفِعةٌ نحوَ السَّماءِ؟ تُعطي ثمرَها كامِلًا كثيرًا طَيِّبًا كُلَّ وقتٍ بمَشيئةِ رَبِّها وأمْرِه، وكذلك كلمةُ التَّوحيدِ؛ لا تزالُ تُثمِرُ الأعمالَ الصَّالحةَ للمُؤمِنِ في كُلِّ وَقتٍ، ولا يزالُ يُرفَعُ له عمَلٌ صالِحٌ آناءَ اللَّيلِ وأطرافَ النَّهارِ، في كلِّ حينٍ، ويضرِبُ اللهُ الأمثالَ للنَّاس؛ ليتذَكَّروا حُجَّةَ الله عليهم، ويتَّعِظوا، ويفعَلوا ما أمَرَهم به، ويجتَنِبوا ما نهاهم عنه.

ومثَلُ كَلِمةٍ خَبيثةٍ- وهي كَلِمةُ الكُفرِ- كشَجرةٍ كريهةِ الطَّعمِ، لا أصلَ لها ثابِتٌ في الأرضِ، ولا ارتفاعَ لفُروعِها في السَّماءِ، وليس لها ثمرةٌ ولا مَنفعةٌ، وكذلك كُفرُ الكافِرِ؛ لا ثباتَ له ولا خيرَ فيه، ولا يصعدُ له عمَلٌ صالِحٌ إلى اللهِ، ولا يُتقبَّلُ منه. يثبِّتُ اللهُ المؤمنينَ بالقَولِ الصَّادقِ الحَقِّ الثابتِ في قُلوبِهم، وهو شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ الله، يُثَبِّتُهم اللهُ به في الحياةِ الدُّنيا على إيمانِهم، وعند مَماتِهم بالخاتمةِ الحسَنةِ، وفي القبرِ عندَ سُؤالِ المَلَكينِ، ويَخذُلُ اللهُ الكافرينَ والمُنافِقينَ- بسبَبِ ظُلمِهم أنفُسَهم، ويفعَلُ اللهُ ما يشاءُ مِن هدايةِ المؤمنينَ وتَثبيتِهم، وإضلالِ الظَّالمينَ وخِذلانِهم.

تفسير الآيات:

 

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا شرَحَ اللهُ تعالى أحوالَ الأشقياءِ وأحوالَ السُّعداءِ، ذكر مثالًا يبيِّنُ الحالَ في حُكمِ هذين القِسمَينِ، وهو هذا المَثَلُ

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى مثَلَ أعمالِ الكُفَّارِ، وأنَّها كرَمادٍ اشتَدَّت به الرِّيحُ في يومٍ عاصفٍ؛ ذكَرَ مَثَلَ أقوالِ المؤمنينَ وغَيرها ، فقال:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ.

أي: ألم تعلَمْ- يا محمَّدُ - كيف مثَّلَ اللهُ مَثَلًا، وشبَّه شَبَهًا كلمةً طَيِّبةً- وهي كلمةُ التَّوحيدِ، وشهادة أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ- كشَجَرةٍ طَيِّبةِ الثَّمرةِ، كالنَّخلةِ ؟

أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ .

أي: جُذورُ هذه الشَّجرةِ الطَّيِّبةِ ثابِتةٌ في الأرضِ، وأغصانُها مرتفعةٌ نحوَ السَّماءِ، فكذلك كلمةُ التَّوحيدِ؛ أصلُها ثابِتٌ وراسِخٌ في قلبِ المؤمِنِ، وفرُوعُها مِن الأعمالِ الصَّالحةِ صاعِدةٌ إلى السَّماءِ، مَرفوعةٌ إلى الرَّبِّ سُبحانَه .

تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25).

تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا .

أي: تُخرِجُ هذه الشَّجرةُ الطَّيِّبةُ ثَمَرَها كامِلًا كثيرًا طَيِّبًا في كلِّ وقتٍ وساعةٍ مِن ليلٍ ونهارٍ، وصيفٍ وشِتاءٍ، بمَشيئةِ خالِقِها وأمْرِه وتيسيرِه، وكذلك كَلِمةُ التَّوحيدِ؛ لا تزالُ تُثمِرُ الأعمالَ الصَّالحةَ للمُؤمِنِ في كُلِّ وَقتٍ، ولا يزالُ يُرفَعُ له عمَلٌ صالِحٌ آناءَ اللَّيلِ وأطرافَ النَّهارِ، في كلِّ حينٍ .

عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كنَّا عندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أخبِروني بشَجَرةٍ تُشبِهُ أو كالرجُلِ المُسلِمِ لا يتحاتُّ وَرَقُها، ولا ولا ولا. تُؤتي أُكُلَها كُلَّ حينٍ؟ قال ابنُ عُمَرَ: فوقعَ في نفسي أنَّها النَّخلةُ، ورأيتُ أبا بكرٍ وعُمَرَ لا يتكَلَّمانِ، فكَرِهتُ أن أتكَلَّمَ، فلمَّا لم يقولوا شيئًا، قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هي النَّخلةُ. فلمَّا قُمْنا قلتُ لِعُمَرَ: يا أبَتاه، واللهِ لقد كان وقَعَ في نفسي أنَّها النَّخلةُ، فقال: ما منَعَك أن تكَلَّمَ؟ قال: لم أرَكم تَكَلَّمونَ، فكَرِهتُ أن أتكَلَّمَ أو أقولَ شَيئًا، قال عمَرُ: لَأنْ تكونَ قُلتَها أحَبُّ إليَّ مِن كذا وكذ ا)) .

وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

أي: ويمثِّلُ اللهُ الأمثالَ للنَّاسِ، ويُشبِّهُ لهم الأشْباهَ، ويُبيِّنُها لهم؛ ليتذَكَّروا حُجَّةَ الله عليهم، ويَفهَموا ما أراد اللهُ منهم، فيتَّعِظوا، ويفعَلوا ما أمَرَهم به، ويجتَنِبوا ما نهاهم عنه .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27] .

وقال سُبحانه: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] .

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26).

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ.

أي: ومَثَلُ كَلِمةٍ خَبيثةٍ- وهي كَلِمةُ الكُفرِ واعتقادُ الشِّركِ- كشَجَرةٍ كريهةِ الطَّعمِ، مِثْل الحَنظلِ، فلا أصلَ لها ثابِتٌ في الأرضِ، ولا ارتفاعَ لفُروعِها في السَّماءِ، وليس لها ثمرةٌ ولا مَنفعةٌ، وكذلك كُفرُ الكافِرِ؛ فلا يعمَلُ مع كُفْرِه خيرًا ولا يَقولُه، ولا يجعَلُ اللهُ فيه بركةً ولا مَنفعةً، ولا يصعَدُ عَمَلُه ولا قَولُه إلى السَّماءِ .

اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ.

أي: استُؤصِلَت هذه الشَّجرةُ الخبيثةُ، واقتُلِعَت مِن أصلِها؛ فليس لها عُروقٌ وجُذورٌ ثابِتةٌ في الأرضِ تُمسِكُها، وكذلك الكُفرُ؛ لا أصلَ له ولا فَرعَ، ولا يَثبُتُ ثُبوتًا نافِعًا في قَلبِ صاحِبِه، ولا يصعَدُ للكافِرِ عمَلٌ، ولا يُتقبَّلُ منه شَيءٌ .

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا كان المثلُ مضروبًا للحقِّ والباطلِ في الثباتِ وعدمِه، والقصدُ أهلُهما؛ صرَّح بهما، فقال :

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ.

أي: يثبِّتُ اللهُ المُؤمِنينَ بالقَولِ الصَّادقِ الحَقِّ، الذي ثبَتَ في قُلوبِهم، وتمكَّنَ فيها، واطمأنَّتْ إليه نفوسُهم- وهو شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ- فيُثَبِّتُهم اللهُ في حياتِهم الدُّنيا على إيمانِهم باللهِ تعالى وبرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُسلِّمُهم من الشَّهَواتِ والشُّبُهاتِ، ويُثَبِّتُهم أيضًا في قُبورِهم عندَ سؤالِ الملكينِ .

عن البَراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المُسلِمُ إذا سُئِلَ في القبرِ يشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ. فذلك قولُه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)) .

وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((شَهِدتُ مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جِنازةً، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّها النَّاسُ، إنَّ هذه الأمَّةَ تُبتَلَى في قُبورِها، فإذا الإنسانُ دُفِنَ فتفَرَّقَ عنه أصحابُه، جاءه ملَكٌ في يَدِه مِطراقٌ فأقعَدَه، قال: ما تقولُ في هذا الرَّجُلِ؟ فإن كان مؤمِنًا قال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه، فيقولُ: صَدَقتَ، ثمَّ يُفتَحُ له بابٌ إلى النَّارِ، فيقولُ: هذا كان مَنزِلَك لو كفَرْتَ برَبِّك، فأمَّا إذ آمنتَ فهذا مَنزِلُك، فيُفتَحُ له بابٌ إلى الجنَّةِ، فيريدُ أن ينهَضَ إليه، فيقولُ له: اسكُنْ، ويُفسَحُ له في قَبرِه. وإن كان كافِرًا أو مُنافِقًا يقولُ له: ما تقولُ في هذا الرَّجُلِ؟ فيقولُ: لا أدري، سَمِعتُ النَّاسَ يقولونَ شَيئًا! فيقولُ: لا دَرَيتَ، ولا تَلَيتَ ، ولا اهتَدَيتَ، ثمَّ يُفتَحُ له بابٌ إلى الجنَّةِ فيقولُ: هذا مَنزِلُك لو آمنْتَ برَبِّك، فأمَّا إذ كفَرْتَ به فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أبدَلَك به هذا، ويُفتَحُ له بابٌ إلى النَّارِ، ثمَّ يَقمَعُه قَمعةً بالمِطراقِ يَسمَعُها خَلقُ اللهِ كُلُّهم غيرَ الثَّقَلينِ. فقال بعضُ القَومِ: يا رسولَ اللهِ، ما أحدٌ يقومُ عليه ملَكٌ في يَدِه مِطراقٌ إلَّا هِيلَ عند ذلك! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ)) .

وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ.

أي: ويَخذُلُ اللهُ الكافرينَ والمُنافِقينَ- بسبَبِ ظُلمِهم أنفُسَهم- فيَجعَلُهم في حَيرةٍ وعَمايةٍ، فلا يُوَفِّقُهم إلى الحَقِّ في الحياةِ الدُّنيا، ولا يوَفِّقُهم في قُبورِهم إلى القَولِ الصَّائِبِ حين يُسألُونَ عن الإيمانِ باللهِ عزَّ وجلَّ وبرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ.

مناسبتُها لما قبلَها:

لمَّا ذكَر تعالى ما فعَل بكلِّ واحدٍ مِن القسمينِ؛ ذكَر أنَّه لا يمكِنُ اعتراضٌ فيما خصَّ به كلَّ واحدٍ منهما؛ إذ ذاك راجعٌ إلى مشيئتِه تعالى، إنَّ الله يفعلُ ما يشاءُ، لا يُسئلُ عما يفعلُ .

وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ.

أي: ويفعَلُ اللهُ ما يشاءُ مِن هدايةِ المؤمنينَ وتَثبيتِهم، وإضلالِ الظَّالمينَ وخِذلانِهم

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وكذلك شَجرةُ الإيمانِ؛ أصلُها ثابِتٌ في قَلبِ المُؤمِنِ؛ عِلمًا واعتقادًا، وفَرعُها- مِن الكَلِمِ الطَّيِّبِ، والعمَلِ الصَّالحِ، والأخلاقِ المَرضِيَّةِ، والآدابِ الحَسَنةِ- في السَّماءِ، دائِمًا يصعَدُ إلى الله منه مِن الأعمالِ والأقوالِ التي تُخرِجُها شَجَرةُ الإيمانِ ما ينتَفِعُ به المؤمِنُ، ويَنفَعُ غَيرَه

.

2- في قَولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً إلى قَولِه سُبحانَه: مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ دليلٌ على أنَّ كَلِمةَ الإخلاصِ جامِعةٌ للخيرِ، نامِيَةٌ للحَسَناتِ، جالِبةٌ على قائلِها- كُلَّمَا لفَظَ بها- ثوابًا مُجَرَّدًا، مُثمِرةٌ له كلَّ ما يُقِرُّ اللهُ به عينَه في مَعَادِه إذا وَردَ عليه؛ وأنَّ كَلِمةَ الكفرِ غَيرُ مُثمِرةٍ لقائِلِها خَيرًا، بل حَاطَّةٌ عنه خَيرًا- إنْ كان له- تاركةٌ قائلَها مُفلِسًا، لا تَنْمي له شَيئًا يُقِرُّ اللهُ به عينَه إذا وَرَدَ عليه .

3- قال الله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ كذلك كَلِمةُ الكُفرِ والمعاصي؛ ليس لها ثُبوتٌ نافِعٌ في القَلبِ، ولا تُثمِرُ إلَّا كُلَّ قَولٍ خَبيثٍ، وعَمَلٍ خَبيثٍ يَستضِرُّ به صاحِبُه، ولا ينتفِعُ، فلا يصعَدُ إلى اللهِ منه عمَلٌ صالِحٌ، ولا ينفَعُ نفسَه، ولا ينتَفِعُ به غيرُه .

4- قَولُ الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ فيه إرشادٌ إلى الإقبالِ عليه تعالى، وإلقاءِ أزِمَّةِ الافتقارِ إليه .

5- تحتَ قَولِه تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ كَنزٌ عَظيمٌ مَن وُفِّقَ لِمَظِنَّتِه، وأحسَنَ استخراجَه واقتناءَه، وأنفَقَ منه؛ فقد غَنِمَ، ومَن حُرِمَه فقد حُرِم؛ وذلك أنَّ العبدَ لا يستغني عن تثبيتِ اللهِ له طَرفةَ عَينٍ، فإنْ لم يثَبِّتْه وإلَّا زالت سَماءُ إيمانِه وأرضُه عن مكانِهما، وقد قال تعالى لأكرَمِ خَلقِه عليه؛ عبدِه ورَسولِه: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء: 74] ، وقال تعالى لأكرَمِ خَلقِه: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12] ، وقال تعالى لرَسولِه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود: 120] ، فالخَلقُ كُلُّهم قِسمانِ: مُوفَّقٌ بالتَّثبيتِ، ومَخذولٌ بتَركِ التَّثبيتِ، ومادةُ التَّثبيتِ أصلُه ومَنشؤُه من القَولِ الثَّابتِ، وفِعلِ ما أُمِرَ به العبدُ، فبِهما يُثَبِّتُ اللهُ عَبدَه، فكُلُّ من كان أثبَتَ قَولًا وأحسَنَ فِعلًا، كان أعظمَ تَثبيتًا؛ قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء: 66] ، فأثبَتُ النَّاسِ قلبًا أثبَتُهم قولًا، والقولُ الثَّابِتُ هو القولُ الحَقُّ والصِّدقُ، وهو ضِدُّ القَولِ الباطلِ الكَذِبِ؛ فالقولُ نوعان: ثابتٌ له حقيقةٌ، وباطِلٌ لا حقيقةَ له، وأثبَتُ القَولِ كَلِمةُ التوحيدِ ولوازِمُها؛ فهي أعظَمُ ما يثَبِّتُ اللهُ بها عبدَه في الدُّنيا والآخرةِ؛ ولهذا ترى الصَّادِقَ من أثبَتِ النَّاسِ، وأشجَعِهم قَلبًا، والكاذِبَ مِن أمهَنِ النَّاسِ وأجبَنِهم، وأكثَرِهم تلوُّنًا، وأقلِّهم ثباتًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ في هذا المثَلِ مِن الأسرارِ والعُلومِ والمعارفِ ما يليقُ به ويقتضيه عِلمُ الذي تكَلَّمَ به وحِكمَتُه:

فمِن ذلك أنَّ الشَّجَرةَ لا بُدَّ لها مِن عُروقٍ وساقٍ وفُروعٍ ووَرَقٍ وثَمَرٍ، فكذلك شَجَرةُ الإيمانِ والإسلامِ؛ ليُطابِقَ المُشَبَّهُ المشَبَّهَ به، فعُروقُها العِلمُ والمَعرِفةُ واليقينُ، وساقُها الإخلاصُ، وفروعُها الأعمالُ، وثَمرتُها ما تُوجِبُه الأعمالُ الصالحةُ مِن الآثارِ الحَميدةِ، والصِّفاتِ الممدوحةِ، والأخلاقِ الزَّكيَّةِ، والسَّمتِ الصَّالحِ، والهَدْيِ والدَّلِّ المَرْضِيِّ، فيُستدَلُّ على غَرسِ هذه الشَّجَرةِ في القَلبِ وثُبوتِها فيه بهذه الأمورِ، فإذا كان العِلمُ صَحيحًا مُطابِقًا لِمَعلومِه الذي أنزَلَ اللهُ كِتابَه به، والاعتقادُ مُطابِقًا لِمَا أخبَرَ به عن نفسِه، وأخبَرَت به عنه رسُلُه، والإخلاصُ قائمًا في القَلبِ، والأعمالُ مُوافِقةً للأمرِ، والهَديُ والدَّلُّ والسَّمتُ مُشابهًا لهذه الأصولِ مُناسِبًا لها- عُلِمَ أنَّ شَجَرةَ الإيمانِ في القَلبِ أصلُها ثابِتٌ وفَرعُها في السَّماءِ، وإذا كان الأمرُ بالعَكسِ عُلِمَ أنَّ القائِمَ بالقلبِ إنَّما هو الشَّجَرةُ الخبيثةُ التي اجتُثَّت من فوقِ الأرضِ ما لها مِن قَرارٍ.

ومنها: أنَّ الشَّجَرةَ لا تبقَى حَيَّةً إلَّا بمادَّةٍ تَسقيها وتُنَمِّيها، فإذا قُطِعَ عنها السَّقيُ أوشك أن تيبَس، فهكذا شجرةُ الإسلامِ في القَلبِ؛ إن لم يتعاهَدْها صاحِبُها بسَقْيها كُلَّ وقتٍ بالعِلمِ النَّافِعِ والعمَلِ الصَّالحِ والعَودِ بالتذَكُّرِ على التفكُّر، والتفَكُّرِ على التذَكُّر، وإلَّا أوشكَ أن تيبَسَ، وفي الحديثِ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الإيمانَ ليَخلُقُ

في جوفِ أحدِكم، كما يَخلُقُ الثَّوبُ الخَلَقُ، فسَلوا الله أن يجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم )) . وبالجملةِ: فالغَرسُ إن لم يَتعاهَدْه صاحِبُه أوشَكَ أن يَهلِكَ، ومن هنا تعلَمُ شِدَّةَ حاجةِ العبادِ إلى ما أمَرَ اللهُ به مِن العباداتِ على تَعاقُبِ الأوقاتِ، وعَظيمِ رَحمتِه، وتمامِ نِعمتِه وإحسانِه إلى عبادِه بأنْ وظَّفَها عليها، وجعَلَها مادَّةً لِسَقيِ غِراسِ التَّوحيدِ الذي غرَسَه في قلوبِهم.

ومنها: أنَّ الغَرسَ والزَّرعَ النافِعَ قد أجرى اللهُ سُبحانَه العادةَ أنَّه لا بُدَّ أن يخالِطَه دَغَلٌ ونَبتٌ غَريبٌ ليس مِن جِنسِه، فإنْ تعاهَدَه رَبُّه ونقَّاه وقَلَعَه، كَمَلَ الغَرسُ والزَّرعُ واستوى، وتمَّ نباتُه، وكان أوفَرَ لثَمرتِه، وأطيبَ وأزكى، وإن تركَه أوشكَ أن يغلِبَ على الغَرسِ والزَّرعِ، ويكونَ الحُكمُ له، أو يُضعِفَ الأصلَ ويجعَلَ الثَّمرةَ ذَميمةً ناقِصةً بحسَبِ كَثرتِه وقِلَّتِه، ومَن لم يكُنْ له فِقهُ نَفسٍ في هذا ومَعرِفةٌ به، فإنَّه يفوتُه رِبحٌ كبيرٌ وهو لا يشعُرُ؛ فالمؤمِنُ دائِمًا سَعيُه في شيئينِ: سَقيِ هذه الشَّجَرةِ، وتنقيةِ ما حَولَها، فبِسَقيِها تبقَى وتدومُ، وبتنقيةِ ما حَولَها تكمُلُ وتَتِمُّ، واللهُ المُستَعانُ وعليه التُّكْلانُ .

2- قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ شَبَّهَ سُبحانه وتعالى الكَلِمةَ الطيبةَ بالشَّجَرةِ الطَّيِّبةِ؛ لأنَّ الكَلِمةَ الطيبةَ تُثمِرُ العمَلَ الصالحَ؛ والشجرةَ الطيبةَ تُثمِرُ الثَّمَرَ النَّافعَ .

3- ضرَب الله المَثَل لِكَلِمَةِ الإيمانِ بالشَّجَرَةِ، فقال الله تعالى: أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ فالشَّجرةُ كُلَّما قَوِيَ أصلُها وعرَّقَ ورَوِيَ، قَوِيَت فروعُها، وفروعُها أيضًا إذا اغتَذَت بالمطَرِ والرِّيحِ أثَّرَ ذلك في أصلِها، وكذلك الإيمانُ في القلبِ، والإسلامُ علانيةً .

4- قال الله تعالى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، ففي ضَربِ الأمثالِ زِيادةُ إفهامٍ، وتذكيرٌ، وتصويرٌ للمعاني ، وتقريبٌ للمعاني المَعقولةِ مِن الأمثالِ المَحسوسةِ، ويتبيَّنُ المعنى الذي أراده اللهُ غايةَ البيانِ، ويتَّضِحُ غايةَ الوضوحِ، وهذا مِن رَحمتِه وحُسنِ تَعليمِه، فللَّه أتمُّ الحمدِ وأكمَلُه وأعَمُّه .

5- قولُ الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ في هذه الآيةِ دَلالةٌ على فِتنةِ القَبرِ وعَذابِه، ونَعيمِه، كما تواتَرَت بذلك النصوصُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الفِتنةِ، وصِفتِها، ونعيمِ القَبرِ وعَذابِه .

6- في قَولِه تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ دليلٌ على أنَّ القَبرَ مِن منازلِ الآخرةِ .

7- العبدُ يَحتاجُ إلى الثَّبَاتِ في طُولِ حياتِه، وأحوَجُ ما يَحتاجُ إليه عندَ مماتِه، ويَحتاجُ إلى الثَّباتِ أيضًا بعد الموتِ؛ قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ .

8- قَولُه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ فأخبَرَ سُبحانَه أنَّ تَثبيتَ المُؤمِنينَ وإضلالَ الظَّالِمينَ فِعلُه؛ فإنَّه يفعَلُ ما يشاءُ، وأمَّا الثَّباتُ والضَّلالُ فمَحضُ أفعالِهم ، ففيه حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّة .

9- في قَولِه تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ أنَّ أفعالَ اللهِ- سبحانه وتعالى- اختياريَّةٌ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّـبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ

- قولُه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا... إيقاظٌ للذِّهْنِ؛ لِيَتَرقَّبَ ما يَرِدُ بعدَ هذا الكلامِ، ولم يكُنْ هذا المثَلُ ممَّا سبَقَ ضرْبُه قبلَ نُزولِ الآيةِ، بل الآيةُ هي الَّتي جاءتْ به؛ فالكلامُ تشويقٌ إلى عِلْمِ هذا المثَلِ، وصَوغُ التَّشويقِ إليه في صِيغَةِ الزَّمنِ الماضي الدَّالِّ عليها حرْفُ (لَمْ) الَّتي هي لِنفْيِ الفعْلِ في الزَّمنِ الماضي، والدَّالِّ عليها فعْلُ ضَرَبَ بصِيغَةِ الماضي؛ لِقصْدِ الزِّيادةِ في التَّشويقِ لِمعرفةِ هذا المثَلِ وما مُثِّلَ به

.

- والاستفهامُ في أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا... إنكاريٌّ، نُزِّلَ فيه المُخاطَبُ مَنزِلةَ مَن لم يَعلَمْ، فأنكَرَ عليه عدَمَ العِلْمِ، أو هو مُستعمَلٌ في التَّعجُّبِ مِن عدَمِ العِلْمِ بذلك، مع أنَّه ممَّا تتوفَّرُ الدَّواعي على علْمِه، أو هو للتَّقريرِ، وهو كِنايةٌ عنِ التَّحريضِ على العِلْمِ بذلك، وإيثارُ كَيْفَ هنا للدَّلالةِ على أنَّ حالةَ ضرْبِ هذا المثَلِ ذاتُ كيفيَّةٍ عجيبةٍ مِن بلاغَتِه وانْطباقِه .

- قولُه: كَشَجَرَةٍ طَيِّـبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ فيه حُسْنُ التَّقسيمِ؛ إذ جاء أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، يُريدُ بالفرعِ: أعلاها ورأْسَها، وإنْ كان المُشبَّهُ به ذا فُروعٍ، فيكونُ مِن بابِ الاكتِفاءِ بلفْظِ الجِنْسِ ؛ فيجوزُ أنَّ المرادَ: وفُروعُها، أي: أفناؤُها، على الاكتفاءِ بلفْظِ الجِنْسِ؛ لاكتسابِه الاستغراقَ مِن الإضافةِ .

2- قوله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

- قولُه: تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا المُشبَّهُ هو: الهيئةُ الحاصِلةُ مِن البَهجةِ في الحسِّ، والفرَحِ في النَّفسِ، وازديادِ أُصولِ النَّفعِ باكتسابِ المَنافِعِ المُتتاليةِ بهيئةِ رُسوخِ الأصْلِ، وجمالِ المَنظَرِ، ونَماءِ أغصانِ الأشجارِ، ووفْرةِ الثِّمارِ، ومُتعةِ أكْلِها .

- وفي الآيتينِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا تَشبيهٌ تمثيليٌّ في تشبيهِ الكلمةِ الطَّيِّبةِ الموصوفةِ بثلاثِ صِفاتٍ، وهي إيتاءُ الأُكُلِ كلَّ حينٍ، أي: مِن وقْتِ أنْ تُؤْكَلَ إلى حينِ انصرامِها، ووجْهُ الشَّبهِ في تَمثيلِ الإيمانِ بالشَّجرةِ: أنَّ الشَّجرةَ لا تكونُ شجرةً إلَّا بثلاثةِ أشياءَ: عِرْقٍ راسِخٍ، وأصلٍ قائمٍ، وفرْعٍ عالٍ، كذلك الإيمانُ لا يَتِمُّ إلَّا بثلاثةِ أشياءَ: تصديقٍ بالقلْبِ، وقولٍ باللِّسانِ، وعمَلٍ بالأبدانِ؛ فوُجودُ الصِّفاتِ الثَّلاثِ في جانِبِ المُشبَّهِ به حِسِّيَّةٌ، بينما هي في جانِبِ المُشبَّهِ معنويَّةٌ .

3- قوله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ فيه تَشبيهٌ تمثيليٌّ أيضًا في تَشبيهِ الكلمةِ الخبيثةِ بالشَّجرةِ الخبيثةِ غيرِ الثَّابِتةِ؛ كأنَّها اجْتُثَّتْ، أو كأنَّها مُلقاةٌ على وجْهِ الأرضِ، فلا تغوصُ إلى الأرضِ، بل عُروقُها في وجْهِ الأرضِ، ولا غُصونَ لها تمتَدُّ صُعُدًا إلى السَّماءِ، وهذا معنى قولِه: مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ .

- قولُه: اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ في مُقابَلةِ قولِه في صِفَةِ الشَّجرةِ الطَّيِّبةِ: أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ، ومِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ تصويرٌ لـ اجْتُثَّتْ، وجُملةُ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ تأْكيدٌ لِمعنى الاجْتِثاثِ؛ لأنَّ الاجْتِثاثَ مِن انْعدامِ القرارِ .

4- قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ جُملةٌ مُستأنَفَةٌ استئنافًا بيانيًّا، ناشئًا عمَّا أثاره تمثيلُ الكلمةِ الطَّيِّبةِ بالشَّجرةِ الثَّابِتةِ الأصلِ، بأنْ يُسْأَلَ عنِ الثَّباتِ المُشبَّهِ به: ما أثَرُه في الحالةِ المُشبَّهةِ؟ فيُجابُ بأنَّ ذلك الثَّباتَ ظهَرَ في قُلوبِ أصحابِ الحالةِ المُشبَّهةِ، وهم الَّذين آمنوا إذ ثبَتوا على الدِّينِ ولم يتَزَعْزَعوا فيه؛ لأنَّهم استَثْمَروا مِن شجرةٍ أصلُها ثابتٌ .

- وفيه حُسْنُ تَرتيبٍ؛ فإنَّه لمَّا تقدَّمَ تَشبيهُ الكلمةِ الطَّيِّبةِ على تشبيهِ الكلمةِ الخبيثةِ، تقدَّمَ في هذا الكلامِ مَن نُسِبَت إليه الكلمةُ الطَّيِّبةُ، وتلاه مَن نُسِبَت إليه الكلمةُ الخبيثةُ .

- قولُه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا... وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ فيه إظهارُ اسمِ الجَلالةِ في الموضعَيْنِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ؛ لِقصْدِ أنْ تكونَ كلُّ جُملةٍ مِن الجُمَلِ الثَّلاثِ مُستقلَّةً بدَلالتِها؛ حتَّى تَسِيرَ مَسِيرَ المثَلِ ، وفيه مِن الفَخامةِ وتربيةِ المَهابةِ ما لا يَخفَى، مع ما فيه مِن الإيذانِ بالتَّفاوُتِ في مبدَأِ التَّثبيتِ والإضلالِ؛ فإنَّ مبْدَأَ صُدورِ كلٍّ منهما عنه سبحانَه وتعالى مِن صفاتِه العلا غيرُ ما هو مبْدَأُ صُدورِ الآخرِ .

- وجُملةُ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ كالتَّذييلِ لِمَا قبلَها، وتحتَ إبهامِ مَا يَشَاءُ وعُمومِه مَطَاوٍ كثيرةٌ؛ مِن ارتباطِ ذلك بمَراتِبِ النُّفوسِ، وصَفاءِ النِّيَّاتِ في تطلُّبِ الإرشادِ، وتربيةِ ذلك في النُّفوسِ بنمائِه في الخيرِ والشَّرِّ، حتَّى تبلُغَ بذُورُ تَيْنِك الشَّجرتَينِ مُنْتَهى أَمَدِهما؛ مِن ارتفاعٍ في السَّماءِ، واجتثاثٍ مِن فوقِ الأرضِ، المُعبَّرِ عنهما بالتَّثبيتِ والإضلالِ، وفي كلِّ تلك الأحوالِ مَراتبُ ودرجاتٌ لا تبلُغُ عُقولُ البشَرِ تَفصيلَها

====================

 

سورةُ إبراهيمَ

الآيات (28-31)

ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات:

 

الْبَوَارِ: أي: الهَلاكِ، وأصلُ (بور): يدلُّ على هلاكِ الشَّيءِ

.

خِلَالٌ: أي: مُخالَّةٌ ومُصادَقةٌ، مصدرُ: خاللتُه خِلالًا ومُخالَّةً، وأصلُ (خلل): يدُلُّ على فُرجةٍ، ومنه سُمِّيَ الخَليلُ؛ لأنَّه تخلَّلَ أحوالَ الآخَرِ، وعرَفَ سرائِرَه، أو لتخَلُّلِ كلِّ واحدٍ مِنهما قلبَ الآخَر

 

.

مشكل الإعراب :

 

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ.

يُقِيمُوا فِعلٌ مُضارِعٌ مَجزومٌ؛ وفي سبَبِ جَزمِه أوجهٌ؛ أحدها: أنَّه مجزومٌ بلامِ أمرٍ محذوفةٍ، تقديرُه: ليُقيموا، فحُذِفَتْ وبَقِيَ عملُها،  فهو أمرٌ مُستأنَفٌ. والثاني: أنَّه واقِعٌ في جَوابِ الأمرِ قُلْ. الثالثُ: أنَّه واقِعٌ في جوابِ شَرطٍ مُقدَّرٍ بعدَ قُلْ، أي: إن تقُلْ لهم أقيمُوا يُقيموا. وقيلَ غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: ألمْ تَنظُرْ– يا محمَّدُ- إلى المكَذِّبينَ مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ، الذين غَيَّروا نِعمةَ اللهِ عليهم بإرسالِك إليهم مِن اللهِ، فكَفَروا باللهِ، ولم يُؤمِنوا برِسالتِك، ويَشكُروا اللهَ عليها؟ وأنزَلوا أتباعَهم من قريشٍ دارَ الهَلاكِ، وهي جهنَّمُ، يدخُلونَها، ويُقاسُونَ حَرَّها، وبئس المستقَرُّ جهنمُ. وجعَلَ أولئكَ الكُفَّارُ لله شُرَكاءَ عَبَدوهم معه؛ ليُضلُّوا النَّاسَ عَن دِينِه. قلْ لهم- يا محمدُ: استَمتِعوا في حياتِكم الدُّنيا؛ فإنَّها فانيةٌ، وإنَّ مَرجِعَكم إلى عذابِ النارِ، وقلْ - يا مُحمَّدُ- لعبادي المؤمنين يُقيموا الصَّلواتِ الخمسَ المفروضةَ بحُدودِها في أوقاتِها، وينفقوا مما أعطيناهم مِن فضلِنا في الحقوقِ الواجِبةِ، مُسرِّين ذلك ومُعلِنينَ، من قبل ِأن يأتيَ يومُ القيامةِ الذي لا سبيلَ فيه إلى استدراكِ ما فات، لا بمُعاوَضةِ بَيعٍ وشراءٍ، ولا بهِبَةِ خَليلٍ وصَديقٍ.

تفسير الآيات:

 

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

بعدَ أنْ ذكَر الله تعالى فيما مضَى بعضَ أوصافِ الكفارِ وأحوالِهم؛ عادَ إلى وَصفِ أحوالِهم في هذه الآيةِ

.

وأيضًا فإنَّه تعالى أعقَبَ تمثيلَ الدِّينَينِ ببيانِ آثارِهما في أصحابِهما، وابتُدِئَ بذِكرِ أحوالِ المُشرِكينَ؛ لأنَّها أعجَبُ، والعبرةَ بها أَولى، والحذَرَ منها مقَدَّمٌ على التحلِّي بضِدِّها .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى حالَ المُؤمِنينَ وهُداهم، وحالَ الكافرينَ وإضلالَهم؛ ذكَرَ السَّبَبَ في إضلالِهم ، فقال:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا.

أي: ألم تنظُرْ- يا محمَّدُ- إلى كفَّارِ قُرَيشٍ، الذين غَيَّروا نِعمةَ اللهِ عليهم ببَعثتِك رسولًا إليهم مِن اللهِ، فكَفَروا باللهِ وكَذَّبوك، فلم يُؤمِنوا برِسالتِك، ويَشكُروا اللهَ عليها ؟!

وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ.

أي: وأنزَلوا قَومَهم- الذين اتَّبَعوهم مِن قُرَيشٍ- دارَ الهَلاكِ .

كما قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [النحل: 112-113] .

جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29).

أي: ودارُ الهَلاكِ هي جهنَّمُ يَدخُلونَها، ويُحيطُ بهم حَرُّها مِن جميعِ جَوانبِهم، وبِئسَ المُستقَرُّ جهنَّمُ .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن الكافرينَ أنَّهم بدَّلوا نِعمةَ اللهِ كُفرًا؛ ذكَرَ أنَّهم بعد أن كَفَروا باللهِ جَعَلوا له أندادًا .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ.

أي: وجعَل أولئك الكُفَّارُ لله نُظراءَ وشُرَكاءَ، يعبُدونَهم معه؛ كي يُضِلُّوا الناسَ عن دينِ اللهِ الحَقِّ، وإخلاصِ العِبادةِ له وَحدَه .

قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ.

أي: قُلْ لهم- يا محمَّدُ: استمتِعوا في حياتِكم الدُّنيا الفانيةِ؛ فإنَّ مَرجِعَكم في الآخرةِ إلى النَّارِ .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 69- 70] .

وقال سُبحانه: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8] .

وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد: 12] .

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى حالَ الكُفَّارِ، وكُفرَهم نِعمَتَه، وجعْلَهم له أندادًا، وتهدَّدَهم؛ أمرَ المؤمنينَ بلُزومِ الطاعةِ، والتيقُّظِ لأنفُسِهم، وإلزامِ عَمودَيِ الإسلامِ: الصَّلاةِ والزَّكاةِ، قبل مجيءِ يَومِ القيامةِ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى كُفرَ الكافرينَ وضَلالَهم عن السَّبيلِ، وما أمَرَه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم بأن يقولَ لهم، وكان ذلك محرِّكًا لنفسِ السَّامِعِ إلى الوقوفِ على ما يُقالُ لِمَن خلَع الأندادَ، وكان أوثَقُ عُرى السَّبيلِ بعدَ الإيمانِ وأعمُّها الصَّلاةَ النَّاهيةَ عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ، والنَّفَقةَ الشَّامِلةَ لوُجوهِ البِرِّ- أمَرَه تعالى أن يندُبَ أولياءَه إلى الإقبالِ إلى ما أعرَضَ عنه أعداؤُه، والإعراضِ عمَّا أقبلوا بالتمَتُّعِ عليه مِن ذلك ، فقال:

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- لعبادي المُؤمِنينَ يُقيموا الصَّلَواتِ الخَمسَ المَفروضةَ عليهم، بحُدودِها في أوقاتِها .

وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً.

أي: ويُنفِقوا ممَّا رَزَقناهم مِن فَضلِنا، فيُؤدُّوا ما أوجبْتُ عليهم مِن الحقوقِ سرًّا وإعلانًا .

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ .

أي: مِن قَبلِ أن يأتيَ يومُ القيامةِ الذي لا يَقدِرونَ فيه على ذلك، ولا سبيلَ إلى استدراكِ ما فات، لا بمُعاوَضةِ بَيعٍ وشراءٍ، ولا بهِبَةِ خَليلٍ وصَديقٍ؛ فكُلُّ امرئٍ له شأنٌ يُغنِيه

 

.

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254].

الفوائد التربوية:

 

1- في قَولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ تحذيرٌ مِن كُفْرانِ النِّعمةِ، وصَرفِها فيما لا يُرضي اللهَ

.

2- قال الله تعالى: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ الإنسانُ بعد الفراغِ مِن الإيمانِ، لا قُدرةَ له على التصَرُّفِ في شَيءٍ إلَّا في نفسِه أو في مالِه؛ أمَّا النَّفسُ فيجِبُ شَغلُها بخِدمةِ المعبودِ في الصَّلاةِ، وأمَّا المالُ فيجِبُ صَرفُه إلى البَذلِ في طاعةِ اللهِ تعالى، فهذه الثَّلاثةُ هي الطَّاعاتُ المُعتبَرةُ، وهي الإيمانُ والصَّلاةُ والزَّكاةُ .

3- قولُ الله تعالى: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ، أي: لا ينفَعُ فيه شَيءٌ، ولا سبيلَ إلى استدراكِ ما فات، فلْيُقَدِّمِ العبدُ لنَفسِه، ولْيَنظُرْ ما قدَّمَه لغَدٍ، ولْيتفقَّدْ أعمالَه، ويُحاسِبْ نَفسَه قبلَ الحِسابِ الأكبرِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ لعلَّه سِيقَ سِياقَ الشَّرطِ؛ تنبيهًا لهم على أنَّ مُجرَّدَ قولِه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم أقوى الأسبابِ، فيَجبُ عليهم ألَّا يتخلَّفوا عنه أصلًا

.

2- قولُ الله تعالى: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً زيادةُ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ للتَّذكيرِ بالنِّعمةِ تَحريضًا على الإنفاقِ؛ ليكونَ شُكرًا للنِّعمةِ .

3- قولُ الله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ فيه سؤالٌ: كيف نفى المُخالَّةَ هنا، مع أنَّه تعالى أثبَتَها في قَولِه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] ؟

الجوابُ: أنَّ الآيةَ الدَّالَّةَ على نفي المُخالَّةِ مَحمولةٌ على نفيِ المُخالَّة بسبَبِ مَيلِ الطَّبيعةِ، ورَغبةِ النَّفسِ، والآيةُ الدالَّةُ على ثبوتِ المُخالَّةِ مَحمولةٌ على حُصولِ المُخالَّةِ الحاصلةِ بسببِ عُبوديَّةِ الله تعالى، ومحبَّةِ الله تعالى .

4- عن قتادةَ رحمه الله في قَولِه: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ قال: (إنَّ اللهَ تعالى قد عَلِمَ أنَّ في الدنيا بيوعًا وخِلالًا يتخالُّونَ بها في الدُّنيا، فلينظُرْ رجُلٌ مَن يُخالِلُ، وعلامَ يُصاحِبُ؟ فإنْ كان لله فلْيُداومْ، وإن كان لغيرِ اللهِ فلْيَعلمْ أنَّ كُلَّ خُلَّةٍ ستصيرُ على أهلِها عداوةً يومَ القيامةِ إلَّا خُلَّةَ المتَّقينَ)

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ

- قولُه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا... الاستِفهامُ مُستعمَلٌ في التَّشويقِ إلى رُؤيةِ ذلك

، وفيه تَعجُّبٌ ممَّا صنَعَ الكَفَرةُ مِن الأباطيلِ الَّتي لا تَكادُ تصدُرُ عمَّن له أدْنى إدراكٍ، ومِن أعمالِهم الَّتي لا تمُتُّ إلى الحِلْمِ بِصِلَةٍ؛ فقد بدَّلوا نفْسَ النِّعمةِ كُفرًا، وجَنَوْا على أنفُسِهم وعلى قومِهم .

- وفي قولِه: بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا مُحَسِّنٌ بَديعيٌّ هو الاحتِباكُ، وتقديرُ الكلام: بدَّلوا نِعمةَ اللهِ وشُكرَها كفْرًا بها، ونِقمةً منه، كما دلَّ عليه قولُه: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ... .

- قولُه: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ فيه عدمُ التَّعرُّضِ لِحُلولِهم هم؛ لدَلالةِ الإحلالِ عليه؛ إذ هو فرْعُ الحُلولِ، كقولِه تعالى عن فرعونَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود: 98] .

- واستعمالُ صِيغَةِ المُضِيِّ في أَحَلُّوا؛ لِقصدِ التَّحقيقِ؛ لأنَّ الإحلالَ مُتأخِّرٌ زمنُه؛ فإنَّ السُّورةَ مكِّيَّةٌ .

2- قوله تعالى: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ هذا مِن البيانِ بَعدَ الإبهامِ، وفيه ما لا يَخْفَى مِن التَّهويلِ .

3- قولُه تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ فيه تَغييرُ التَّرتيبِ؛ إذ مُقْتَضى ظاهِرِ النَّظمِ أنْ يُذْكَرَ كُفرانُهم نِعمةَ اللهِ تعالى، ثمَّ كُفرُهم بذاتِه تعالى باتِّخاذِ الأندادِ، ثمَّ إضلالُهم لِقومِهم المُؤدِّي إلى إحلالِهم دارَ البَوارِ؛ ولعلَّ ذلك لِتثنيةِ التَّعجُّبِ وتَكريرِه، والإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدٍ، مِن وضْعِ الكُفرِ موضِعَ الشُّكرِ، وإحلالِ القومِ دارَ البوارِ، واتِّخاذِ الأندادِ للإضلالِ؛ أمْرٌ يَقْضِي منه العجبُ، ولو سِيقَ النَّظمُ على نَسَقِ الوجودِ لَرُبَّما فُهِمَ التَّعجُّبُ مِن مجموعِ الهَنَاتِ الثَّلاثِ .

- وقولُه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فيه دُخولُ اللَّامِ على لِيُضِلُّوا مع أنَّ الضَّلالَ والإضلالَ لم يكُنْ غرضَهم في اتِّخاذِ الأندادِ؛ لأنَّه لمَّا كان الضَّلالُ والإضلالُ نتيجةَ اتِّخاذِ الأندادِ، دخَلَتِ اللَّامُ على طريقِ التَّشبيهِ والتَّقريبِ؛ فليس ذلك غرضًا حقيقيًّا لهم مِن اتِّخاذِ الأندادِ، لكنْ لمَّا كان ذلك نَتيجةً له شُبِّهَ بالغرضِ؛ فاللَّامُ لامُ الصَّيرورةِ والمآلِ؛ لمَّا كانتْ نَتيجةُ جَعْلِ الأندادِ آلهةً الضَّلالَ أو الإضلالَ، جرَى مجْرى لامِ العِلَّةِ في قولِك: جئْتُك لِتُكرمَني، على طريقةِ التَّشبيهِ . أو جُعِلَ الإضلالُ عِلَّةً لِجعْلِهم للهِ أندادًا، وإنْ كانوا لم يَقصِدوا تضليلَ النَّاسِ، وإنَّما قصَدوا مقاصِدَ هي مُساويةٌ للتَّضليلِ؛ لأنَّها أوقَعَتِ النَّاسَ في الضَّلالِ، فعُبِّرَ على مَساوي التَّضليلِ بالتَّضليلِ؛ لأنَّه آيلٌ إليه وإنْ لم يَقصِدوه؛ فكأنَّه قيل: للضَّلالِ عن سَبيلِه؛ تَشنيعًا عليهم بغايةِ فعْلِهم، وهم ما أضَلُّوا إلَّا وقد ضَلُّوا، فعُلِمَ أنَّهم ضلُّوا وأضَلُّوا، وذلك إيجازٌ .

- وجُملةُ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ مُستأنَفَةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ المُخاطَبَ بـ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا إذا عَلِمَ هذه الأحوالَ يتساءلُ عنِ الجزاءِ المُناسبِ لِجُرمِهم، وكيف ترَكَهم اللهُ يرْفُلونَ في النَّعيمِ؟ فأُجِيبَ بأنَّهم يَصيرونَ إلى النَّارِ، أي: يموتونَ فيصيرونَ إلى العَذابِ .

- والأمْرُ بالتَّمتُّعِ قُلْ تَمَتَّعُوا أمْرُ تهديدٍ ووعيدٍ، على حدِّ قولِه: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] ، وفي التَّهديدِ بصِيغَةِ الأمْرِ إيذانٌ بأنَّ المُهدَّدَ عليه كالمطلوبِ؛ لإفضائِه إلى المُهدَّدِ به، وأنَّ الأمرينِ كائنانِ لا مَحالةَ؛ ولذلك علَّلَه بقولِه: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ، وأنَّ المُخاطَبَ لانْهِماكِه فيه كالمأمورِ به مِن آمِرٍ مُطاعٍ؛ ففيه إيذانٌ بأنَّهم لانْغِماسِهم في التَّمتُّعِ بالحاضرِ، وأنَّهم لا يعرِفونَ غيرَه ولا يريدونَه: مأْمورونَ به؛ قد أمَرَهم آمِرٌ مُطاعٌ لا يسَعُهم أنْ يُخالِفوه، ولا يملِكونَ لأنفُسِهم أمرًا دونَه، وهو أمْرُ الشَّهوةِ؛ والمعنى: إنْ دُمْتُم على ما أنتُم عليه مِن الامتثالِ لأمْرِ الشَّهوةِ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ .

4- قولُه تعالى: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ استِئنافٌ نشَأَ عن ذكْرِ حالِ الفريقِ الَّذي حَقَّت عليه الكلمةُ الخبيثةُ بذكْرِ حالِ مُقابِلِه، وهو الفريقُ الَّذي حَقَّتْ عليه الكلمةُ الطَّيِّبةُ .

- وفي قولِه: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا خصَّهم بالإضافةِ إليه؛ تنويهًا لهم، وتَنبيهًا على أنَّهم المُقيمونَ لِوظائفِ العُبوديَّةِ، المُوفونَ بحُقوقِها، وتُرِكَ العاطِفُ بين الأمرينِ؛ للإيذانِ بتبايُنِ حالِهما باعتبارِ المقولِ تَهديدًا وتَشريفًا .

- قولُه: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً لمَّا كان المُؤمنونَ يُقيمونَ الصَّلاةَ مِن قبْلُ، ويُنفِقونَ مِن قبْلُ؛ تعيَّنَ أنَّ المُرادَ الاستزادةُ مِن ذلك؛ ولذلك اخْتِيرَ المُضارِعُ مع تَقديرِ لامِ الأمْرِ دونَ صِيغَةِ فعْلِ الأمْرِ؛ لأنَّ المُضارِعَ دالٌّ على التَّجدُّدِ، فهو مع لامِ الأمْرِ يُلاقي حالَ المُتلبِّسِ بالفعْلِ الَّذي يُؤْمَرُ به بخِلافِ صِيغَةِ (افْعَلْ)؛ فإنَّ أصلَها طلَبُ إيجادِ الفعْلِ المأمورِ به ممَّن لم يكُنْ مُلْتبِسًا به، فأصْلُ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ: لِيُقيموا؛ فحُذِفَت لامُ الأمْرِ تخفيفًا .

- واقتصرَ على هاتينِ الخَلَّتينِ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ؛ لأنَّه لم يكُنْ فُرِضَ في مكَّةَ غَيرُهما، مع ما فيهما من الفَضلِ العَظيمِ .

- وتقديمُ السِّرِّ على العلانيةِ في قوله: وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً تنبيهٌ على أنَّه أَولى الحالَينِ؛ لبُعدِه عن خواطِرِ الرِّياءِ، ولأنَّ فيه استبقاءً لبَعضِ حياءِ المتصَدَّقِ عليه .

- قولُه: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ فيه إدخالُ حرْفِ الجرِّ على اسمِ الزَّمانِ (قَبْل)؛ لِتأكيدِ القَبْلِيَّةِ؛ لِيُفْهَمَ معنى المُبادَرةِ .

- قولُه: لَا بَيْعٌ فِيهِ فيه تَخصيصُ البيعِ بالذِّكْرِ للإيجازِ، مع المُبالَغةِ في نفْيِ العَقدِ؛ إذ انتفاءُ البيعِ يَستَلزِمُ انتِفاءَ الشِّراءِ على أبلَغِ وجْهٍ، وانْتِفاؤه رُبَّما يُتَصَوَّرُ مع تحقُّقِ الإيجابِ مِن قِبَلِ البائعِ . وقيل: خصَّ البيعَ؛ لما في المبايعةِ مِن المعاوضةِ، فيظنُّ أنَّ ذلك كالفداءِ في النجاةِ عما أُوعدوا به، فصار في المعنى كقوله: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا [الأنعام:70] .

- وفي قولِه: وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ طابَقَ الأمْرُ بالإنفاقِ وصْفَ اليومِ بأنَّه لا بَيْعٌ فيه ولا خِلالٌ؛ لأنَّ النَّاسَ يُخرِجونَ أَموالَهم في عُقودِ المُعاوضاتِ، فيُعْطُونَ بدلًا لِيأْخُذوا مثْلَه، وفي المُكارماتِ ومُهاداةِ الأصدقاءِ؛ لِيستَجِرُّوا بهداياهم أَمثالَها أو خيرًا منها، وأمَّا الإنفاقُ لِوجْهِ اللهِ خالصًا، كقولِه: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [الليل: 19، 20]، فلا يفعَلُه إلَّا المُؤمنونَ الخُلَّصُ، فَبُعِثُوا عليه؛ لِيأْخُذوا بدَلَه في يومٍ لا بيعٌ فيه ولا خِلالٌ، أي: لا انتفاعَ فيه بمُبايعةٍ ولا بمُخالَّةٍ، ولا بما يُنفِقونَ به أَموالَهم مِن المُعاوضاتِ والمُكارماتِ، وإنَّما يُنْتَفَعُ فيه بالإنفاقِ لِوجْهِ اللهِ

===================

 

سورةُ إبراهيمَ

الآيات (32-34)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ

غريب الكلمات:

 

دَائِبَيْنِ: دائِمَينِ، لا يَفتُرانِ، والدُّؤُوبُ: مُرورُ الشَّيءِ في العمَلِ على عادةٍ جاريةٍ فيه، وأصلُ (دأب): يدلُّ على مُلازمةٍ ودَوامٍ

.

تُحْصُوهَا: أي: تحصرُوها، وتضبِطوا عدَّها، وتُطيقوا إحصاءَ عددِها، وأصلُ الإحصاءِ: العدُّ والإطاقةُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ اللهُ تعالى أنَّه هو الذي أنشأ السَّمَواتِ والأرضَ من العدَمِ، وأنزل المطَرَ مِن السَّحابِ فأخرجَ به مِن الثَّمَراتِ المُتَنوِّعةِ رِزقًا لكم، وذلَّلَ لكم السُّفُنَ؛ لتسيرَ في البحرِ بإذنِه، وذلَّل لكم الأنهارَ؛ لتشربُوا مِن مياهِها، وتَسقُوا بها زُروعَكم وأنعامَكم، إلى غيرِ ذلك من المنافعِ، وذلَّل لكم الشَّمسَ والقمَرَ لا يَفْتُرانِ عن حرَكتِهما، فيتعاقَبانِ عليكم بلا انقطاعٍ؛ لتتحقَّقَ مصالحُكم بهما، وذلَّل لكم اللَّيلَ؛ لتسكُنوا فيه؛ راحةً لأبدانِكم، والنَّهارَ لتبتَغوا فيه مِن فَضلِه، وأعطاكم- أيُّها النَّاسُ- مِن كُلِّ ما طلبتُموه، وإن تعدُّوا نِعَمَ اللهِ عليكم لا تُطيقُوا عَدَّها، ولا القيامَ بحَصرِها فضلًا عن شُكرِها؛ لِكثرتِها وتنوُّعِها، إنَّ الإنسانَ لَعظيمُ الظُّلمِ لنَفسِه، شديدُ الجُحودِ لنِعَمِ الله عليه.

تفسير الآيات:

 

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أطال اللهُ تعالى الكلامَ في وصفِ أحوالِ السُّعَداءِ، وأحوالِ الأشقياءِ، وكانت العُمدةَ العُظمى والمنزلةَ الكُبرى في حُصولِ السَّعاداتِ مَعرِفةُ اللهِ تعالى بذاتِه وبصفاتِه، وفي حُصولِ الشَّقاوةِ فِقدانُ هذه المَعرفةِ- لا جرَمَ ختَمَ تعالى وصْفَ أحوالِ السُّعَداءِ والأشقياءِ بالدَّلائِلِ الدَّالَّةِ على وجودِ الصَّانعِ، وكمالِ عِلمِه وقُدرتِه

، فقال:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ .

أي: اللهُ المُستحِقُّ للعبادةِ وَحدَه هو الذي أنشأ السَّمواتِ والأرضَ مِن العدَمِ، وأبدعَهما على غيرِ مثالٍ سابقٍ .

وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ.

أي: وأنزَل مِن السَّحابِ مَطَرًا، فأخرجَ به مِن الثَّمَراتِ المُتَنوِّعةِ رِزقًا لكم تعيشونَ به .

وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ.

أي: وذلَّلَ لكم السُّفُنَ لتجريَ بكم في البحرِ بإذنِه، فهو الذي يسَّرَ لكم صُنعَها، وأقدَرَكم عليها، وجعَلَها طافيةً على البَحرِ بتَيسيرِه، وحَفِظَها على تيَّارِ الماءِ لتحمِلَكم، مع كَفِّ العواصِفِ عنها وإعانتِها بالرِّيحِ الطَّيِّبةِ، فتركبونَها لتنتَقِلوا عَبْرَها من مكانٍ إلى آخرَ، وتَحمِلوا فيها أمتِعتَكم مِن بلدٍ إلى بلدٍ .

كما قال تعالى: ... وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ [البقرة: 164] .

وقال سُبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى: 32 - 33] .

وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ .

أي: وذلَّلَ لكم الأنهارَ لتشربُوا مِن مياهِها، وتَسقُوا بها زُروعَكم وأنعامَكم، وذلَّلَها لكم بالرُّكوبِ عليها، والإجراءِ لها إلى حيثُ تُريدونَ .

وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33).

وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ.

أي: وذلَّلَ لكم الشَّمسَ والقمَرَ يَدأَبانِ في سَيرِهما، فيتعاقَبانِ عليكم بلا انقطاعٍ؛ لتَحقيقِ مَصالِحِكم، كحِسابِ أزمِنَتِكم، وضَبطِ أوقاتِكم، ونفعِ أبدانِكم، وحيواناتِكم، وزُروعِكم، وثمارِكم، وغيرِ ذلك .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] .

وقال سُبحانه: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ [النحل: 12] .

وقال تبارك وتعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 38 - 40] .

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.

أي: وذلَّل اللهُ لكم اللَّيلَ والنَّهارَ يتعاقبانِ عليكم؛ فجعل الليلَ لِتَسكُنوا فيه؛ راحةً لأبدانِكم، وجعل النَّهارَ لِتَبتَغوا فيه مِن فَضلِه .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [يونس: 67] .

وقال سُبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 71 - 73] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ: 10-11] .

وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى تلك النِّعمةَ العظيمةَ؛ بَيَّنَ بعد ذلك أنَّه لم يقتصِرْ عليها، بل أعطَى عبادَه مِن المنافِعِ والمُراداتِ ما لا يأتي على بَعضِها التَّعديدُ والإحصاءُ، فقال:

وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ.

أي: وأعطاكم اللهُ- أيُّها النَّاسُ- مِن كُلِّ ما رَغِبتُم إليه أن يَرزُقَكم إيَّاه، وهيَّأَ لكم كلَّ ما تحتاجونَ إليه، ممَّا تَسْألونَه إيَّاه، سواءً بلسانِ حالِكم أو مقالِكم .

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا .

أي: وإن تعُدُّوا- أيُّها النَّاسُ- نِعَمَ اللهِ عليكم، لا تُطيقوا إحصاءَ عَدَدِها، والقيامَ بحَصرِها؛ لكَثرتِها، فضلًا عن القيامِ بشُكرِها، فلِمَ تُبَدِّلونَ نِعمةَ اللهِ كُفرًا؟! وهلَّا استعَنتُم بها على طاعتِه ؟

إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.

أي: إنَّ الإنسانَ لعَظيمُ الظُّلمِ لنَفسِه، بوضعِه العبادةَ في غيرِ مَوضِعِها، وشُكرِه غيرَ مَن أنعَمَ عليه، وتجَرُّئِه على عصيانِ ربِّه، شديدُ الجُحودِ لنِعَم اللهِ عليه، فلا يشكُرُه عليها، ولا يقومُ بحقِّه سُبحانَه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ في هذه الآياتِ مِن أصنافِ نِعَمِ اللهِ على العبادِ شَيءٌ عَظيمٌ- مُجمَلٌ ومُفصَّلٌ- يدعو اللهُ به العبادَ إلى القيامِ بشُكرِه وذِكرِه، ويَحُثُّهم على ذلك، ويرَغِّبُهم في سؤالِه ودُعائِه آناءَ اللَّيلِ والنَّهارِ، كما أنَّ نِعَمَه تتكَرَّرُ عليهم في جميعِ الأوقاتِ

.

2- في قَولِه تعالى: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ أنَّه ينبغي لِمن أرادَ أنْ يُضيفَ الشَّيءَ إلى سببِه؛ أنْ يُضيفَه إلى اللهِ مقرونًا بالسَّببِ .

3- لا أحدَ أعظَمُ إحسانًا مِن اللهِ سُبحانه؛ فإنَّ إحسانَه على عبدِه في كلِّ نفَسٍ ولَحظةٍ، وهو يتقَلَّبُ في إحسانِه في جميعِ أحوالِه، ولا سبيلَ له إلى ضبطِ أجناسِ هذا الإحسانِ فَضلًا عن أنواعِه أو عن أفرادِه، ويكفي أنَّ مِن بَعضِ أنواعِه نِعمةَ النَّفَسِ التي لا تكادُ تخطُرُ ببالِ العبدِ، فإنَّه يتنفَّسُ في اليومِ والليلةِ أربعةً وعِشرينَ ألفَ نَفَسٍ، وكلُّ نفَسٍ نِعمةٌ منه سُبحانه، فإذا كان أدنى نعمةٍ عليه في كلِّ يومٍ أربعةً وعشرينَ ألفَ نِعمةٍ، فما الظنُّ بما فوقَ ذلك وأعظَمُ منه وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا، هذا إلى ما يُصرَفُ عنه من المضَرَّات، وأنواعِ الأذى التي تَقصِدُه، ولعلَّها تُوازِنُ النِّعَمَ في الكثرةِ، والعبدُ لا شُعورَ له بأكثَرِها أصلًا، واللهُ سُبحانَه يَكلَؤُه منها باللَّيلِ والنَّهارِ، كما قال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ

 

[الأنبياء:42] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ الانتفاعُ بما يَنبُتُ مِن الأرضِ إنَّما يَكمُلُ بوُجودِ الفُلكِ الجاري في البَحرِ؛ وذلك لأنَّه تعالى خَصَّ كُلَّ طَرَفٍ مِن أطرافِ الأرضِ بنَوعٍ آخَرَ مِن أنْعُمِه، حتى إنَّ نِعمةَ هذا الطَّرَفِ إذا نُقِلَت إلى الجانبِ الآخَرِ مِن الأرضِ وبالعكسِ، كَثُرَ الرِّبحُ في التِّجاراتِ، ثمَّ إنَّ هذا النَّقلَ لا يُمكِنُ إلَّا بسُفُنِ البَرِّ، وهي الجِمالُ، أو بسُفُنِ البَحرِ، وهي الفُلْكُ المذكورةُ في هذه الآيةِ

.

2- قَولُه تعالى: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فيه إثباتُ الأسبابِ، وأنَّها لا تكونُ مؤثِّرةً إلَّا بإرادةِ اللهِ عزَّ وجلَّ .

3- قَولُه تعالى: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فيه أنَّ اللهَ- عزَّ وجلَّ- مُنعِمٌ على الإنسانِ، كافرًا كان أو مُؤمِنًا .

4- قال الله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ فأضافَ ذلك التَّسخيرَ إلى أمْرِه؛ لأنَّ المَلِكَ العظيمَ قَلَّما يُوصَفُ بأنَّه فعَلَ، وإنَّما يقالُ فيه: إنَّه أمَرَ بكذا؛ تعظيمًا لِشأنِه، ومنهم مَن حمَلَه على ظاهِرِ قَولِه: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] .

5- في قَولِه تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ تكذيبٌ لِمَا يُقال مِن أنَّ «الشَّمسَ ثابتةٌ لا تدورُ» .

6- قولُه تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ، وقولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 2] ، وقولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] ، وقولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج: 19] ، وقولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6- 7] ، وقولُه: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72] هذه كلُّها وصفٌ لِشَأْنِ الإنسانِ مِن حيثُ ذاتُه ونفْسُه، وأمَّا خروجُه عن هذه الصِّفاتِ فهو بفَضلِ رَبِّه وتوفيقِه له ومِنَّتِه عليه، لا مِن ذاتِه، فليس له مِن ذاتِه إلَّا هذه الصِّفَاتُ، وما به مِن نِعمةٍ فمِنَ اللهِ وَحدَه، فهو الذي حبَّبَ إلى عبدِه الإيمانَ، وزَيَّنَه في قَلبِه، وكَرَّهَ إليه الكُفرَ والفُسوقَ والعِصيانَ، وهو الذي كتب في قَلبِه الإيمانَ، وهو الذي يثَبِّتُ أنبياءَه ورُسُلَه وأولياءَه على دينِه، وهو الذي يَصرِفُ عنهم السُّوءَ والفَحشاءَ، وقد قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 100] ، وقال تعالى: وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [المدثر: 56] ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29] ؛ فهو رَبُّ جميعِ العالَمِ رُبوبيَّةً شامِلةً لجَميعِ ما في العالَمِ مِن ذَواتٍ وأفعالٍ وأحوالٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ استِئنافٌ واقِعٌ موقِعَ الاستِدلالِ على ما تَضمَّنَتْه جُملةُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا... الآيةَ، وقد فُصِلَ بينَه وبينَ المُستدَلِّ عليه بجُملةِ: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ... الآيةَ، وأُدْمِجَ في الاستدلالِ تَعدادُهم لنِعَمٍ تستحِقُّ الشُّكرَ عليها؛ لِيظهَرَ حالُ الَّذين كفَرُوها، وبالضِّدِّ حالُ الَّذين شكَرُوا عليها، ولِيزدادَ الشَّاكِرونَ شُكْرًا؛ فالمقصودُ الأوَّلُ هو الاستِدلالُ على أهلِ الجاهليَّةِ

.

- قولُه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ... فيه افتتاحُ الكلامِ باسمِ الخالِقِ المُوجِدِ؛ لأنَّ تعيينَه هو الغرَضُ الأهمُّ، وأُخْبِرَ عنه بالموصولِ؛ لأنَّ الصِّلةَ معلومةُ الانتسابِ إليه والثَّبوتِ له . وأيضًا في جَعْلِ المُبتدأِ الاسمَ الجليلَ اللَّهُ، والخبَرِ الاسمَ الموصولَ بتِلك الأفاعيلِ العَظيمةِ؛ مِن خلْقِ هذه الأجرامِ العِظامِ، وإنزالِ الأمطارِ، وإخراجِ الثَّمراتِ، وما يتْلوها مِن الآثارِ العجيبةِ- ما لا يَخْفى مِن تربيةِ المَهابةِ، والدَّلالةِ على قوَّةِ السُّلطانِ .

- وبدأ بذِكرِ السَّمواتِ والأرضِ هاهنا؛ لأنَّهما هما الأصلانِ اللَّذانِ يتفَرَّعُ عليهما سائِرُ الأدِلَّةِ المذكورةِ بعدَ ذلك .

- قولُه: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فيه تقديمُ المجرورِ على المنصوبِ؛ إمَّا باعتِبارِ كونِه مَبدأً لِنُزولِه، أو لتَشريفِه- كما يُقال: أعطاه السُّلطانُ مِن خِزانتِه مالًا- أو للتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ .

- وفي قولِه: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ مُناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بدونِ (لكم)، وقاله في سُورةِ النَّملِ بذكْرِ (لكم) في قولِه: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [النمل: 60] ، فجاء لفْظُ (لكم) مُؤخَّرًا في سُورةِ إبراهيمَ عن لفْظِ (أَنْزَلَ)، ومُقدَّمًا في آيةِ النَّملِ؛ وذلك لِمُناسبةٍ حَسَنةٍ، وهي أنَّ آيةَ سُورةِ إبراهيمَ قد تقدَّمَها قولُه تعالى: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ [إبراهيم: 31] ، وقد علِمَ المُؤمنونَ أنَّ اللهَ غنِيٌّ عنِ العالمينَ، وأنَّ المُنزَّلَ مِن ماءِ السَّماءِ إنَّما هو رَحمةٌ للعِبادِ، وإحياءٌ للأرضِ بعدَ موتِها؛ لِيخرُجَ ما بَثَّ فيها سُبحانَه مِن أنواعِ الحُبوبِ والثَّمراتِ وغيرِ ذلك، ممَّا به صَلاحُ أحوالِ العِبادِ، وتتْميمُ معائشِهم، ولم يغِبْ عنِ المُؤمنينَ المَذكورينَ قبلُ أنَّ ربَّهم غنِيٌّ عن ذلك كلِّه، ومُنفرِدٌ بخلْقِه والإنعامِ به؛ فلم يُحْتَجْ هنا إلى تَنبيهِهم بأنَّ ذلك لهم؛ إذ حالُهم التَّذكُّرُ، ومُوَالاةُ الاعتبارِ لا الغفلةُ، وأُخِّرَ ذِكْرُ ذلك إلى ذِكْرِ الرِّزقِ؛ لِيجرِيَ مع قولِه في الزِّينةِ والطَّيِّبِ مِن الرِّزقِ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف: 32] . أمَّا آيةُ (النَّملِ) فقد تقدَّمَها قولُه تعالى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 59] ؛ فلمَّا تضمَّنَت تعنيفًا للمُشركينَ على سُوءِ مُرْتَكَبِهم، وعَمَاهم عنِ التَّفكُّرِ والاعتبارِ، قُصِدَ تحريكُهم وإيقاظُهم مِن رَقْدةِ الغَفلةِ، فقيل: وَأَنْزَلَ لَكُمْ [النمل: 60] ؛ فحصَلَ تنْبيهُهم وإعلامُهم أنَّ إنزالَ الماءِ مِن السَّماءِ إنَّما هو لهم، وأنَّه لا حاجةَ به سُبحانَه إليه، فاستجَرَّ الكلامُ تعنيفَهم، ويشهَدُ لهذا قولُه تعالى عَقِبَ الآيةِ: مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل: 60] ، أي: يعدِلونَ بِربِّهم غيرَه، ويعدِلونَ بِعبادتِه إلى عِبادةِ غيرِه، وكلُّ هذا شِركٌ لا فلاحَ معه، فلمَّا قُصِدَ في الآيةِ الثَّانيةِ ما ذكَرْنا قُدِّمَ المَجرورُ، وشأْنُه أبدًا إذا قُدِّمَ إحرازُ معنى التَّنبيهِ، حيثُ يُقْصَدُ التَّحريكُ والإيقاظُ لِذِي غفلةٍ، أمَّا إذا تأخَّرَ فلا يُحْرِزُ هذا المعنى على الصِّفةِ الَّتي يُحْرِزُه مُتقدِّمًا .

2- قولُه تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أبرَزَ كلَّ واحدةٍ منها في جُملةٍ مُستقلَّةٍ؛ تَنويهًا لِشأْنِها، وتَنبيهًا على رِفعةِ مكانِها، وتَنصيصًا على كونِ كلٍّ منها نِعمةً جَليلةً مُستوجِبةً للشُّكرِ. وفي التَّعبيرِ عنِ التَّصريفِ المُتعلِّقِ بما ذُكِرَ مِن الفُلكِ والأنهارِ- في الآيةِ السَّابقةِ- والشَّمسِ والقمَرِ، واللَّيلِ والنَّهارِ- في هذه الآيةِ- بالتَّسخيرِ؛ مِن الإشعارِ بما فيها مِن صُعوبةِ المَأخَذِ، وعِزَّةِ المَنالِ، والدَّلالةِ على عِظَمِ السُّلطانِ، وشِدَّةِ المِحالِ- ما لا يَخفَى. وتأْخيرُ تسخيرِ الشَّمسِ والقمَرِ عن تَسخيرِ ما تقدَّمَه مِن الأُمورِ المعدودةِ، مع ما بينه وبينَ خلْقِ السَّمواتِ مِن المُناسبةِ الظَّاهِرةِ؛ لاسْتِتباعِ ذكْرِها لِذكْرِ الأرضِ، المُستَدْعي لِذكْرِ إنزالِ الماءِ منها إليها، المُوجِبِ لِذكْرِ إخراجِ الرِّزْقِ الَّذي مِن جُملَتِه ما يحصُلُ بواسطةِ الفُلكِ والأنهارِ، أو للتَّفادي عن توهُّمِ كونِ الكلِّ- أي: خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، وتَسخيرِ الشَّمسِ والقمرِ- نِعمةً واحدةً .

3- قوله تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ

- قولُه: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ كلمةُ كُلِّ للتَّكثيرِ، ومنه قولُه عزَّ وجلَّ: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 44] . وقيل: الأصلُ (وآتاكم مِن كلِّ ما سأَلْتُموه وما لم تسْأَلوه)؛ فحُذِفَ الثَّاني لدَلالةِ ما أُبْقِيَ على ما أُلْقِيَ .

- قولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ صِيغَتَا المُبالَغةِ في لَظَلُومٌ كَفَّارٌ اقتَضاهما كثْرةُ النِّعمِ المُفادُ مِن قولِه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا؛ إذ بمقدارِ كثرَةِ النِّعمِ يكثُرُ كُفْرُ الكافرينَ بها؛ إذ أعْرَضوا عن عِبادةِ المُنعِمِ، وعبَدوا ما لا يُغْني عنهم شَيئًا، فأمَّا المُؤمنونَ فلا يَجحَدونَ نِعَمَ اللهِ، ولا يعبُدونَ غيرَه .

- وفيه التَّأكيدُ الَّذي جعَلَ الخبرَ إنكاريًّا بقولِه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ؛ فقد اشتمَلَتْ هذه الآيةُ على أربعةِ تأْكيداتٍ، وهي: (إنَّ)، واللَّامُ المُزَحْلَقَةُ أو لامُ التَّأكيدِ، وصِيغَةُ (ظَلومٍ)، وصِيغَةُ (كَفَّارٍ) .

- وفي قولِه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال في سُورةِ النَّحلِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 18] ؛ فأعقَبَ في الأُولى قولَه تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا بغَيرِ ما أعقَبَ في الثَّانيةِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ آيةَ (إبراهيمَ) تَقدَّمَها قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [إبراهيم: 28] ، ثمَّ قولُه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ [إبراهيم: 30] ، ثمَّ ذكَرَ إنعامَه على عِبادِه في قولِه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [إبراهيم: 32] إلى قولِه: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم: 34] ؛ فناسَبَ وصْفُ الإنسانِ بأنَّه ظَلومٌ كَفَّارٌ ما ذكَرَه تعالى مِن توالي إنعامِه ودُرورِ إحسانِه، ومُقابلةِ ذلك مِن العَبيدِ بالتَّبديلِ، وجَعْلِ الأندادِ. أمَّا آيةُ النَّحلِ فلم يتقدَّمْها غيرُ ما نبَّهَ سُبحانَه عبادَه المُؤمنينَ مِن توالي آلائِه وإحسانِه، وما ابْتدَأَهم به مِن نعمةٍ، مِن لَدُنْ قولِه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ [النحل: 4] ، ثمَّ توالَتْ آياتُ الامتنانِ والإحسانِ، فقال تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ [النحل: 5] ، فذكَرَ تعالى بِضعًا وعشرينَ مِن أُمَّهاتِ النِّعمِ إلى قولِه- مُنبِّهًا ومُوقِظًا مِن الغَفلةِ والنِّسيانِ-: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] ، ثمَّ أُتْبِعَ بقولِه سُبحانَه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [النحل: 18] ؛ فناسَبَ خِتامُ هذا بقولِه: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 18] ، فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ .

وقيل في سببِ اخْتِلافِ الفاصلتينِ مع أنَّ المُحَدَّثَ عنه واحِدٌ: كأنَّه يقولُ: إِذا حَصَلتِ النِّعَمُ الكثيرةُ فأنت آخِذُها وأنا مُعْطيها، فحصلَ لك عندَ أخْذِها وصفانِ: كونُكَ ظلومًا، وكوْنُكَ كفَّارًا، يَعْني لعدمِ وفائِكَ بشُكْرِها، ولي عندَ إعطائِها وصفانِ، وهما: أنِّي غفورٌ رَحيمٌ، أقابِلُ ظلمَكَ بغُفراني، وكفرَك برحْمَتي، فلا أُقابِلُ تَقْصيرَك إلَّا بالتَّوقيرِ، ولا أُجازي جفاكَ إلَّا بالوفاءِ. وقيل: إِنَّما خَصَّ سورةَ إبراهيمَ بوصفِ المنعَمِ عليه، وسورةَ النَّحلِ بوصفِ المنعِمِ؛ لأنَّه في سورةِ إبراهيمَ في مَساقِ وَصفِ الإنسانِ، وفي سورةِ النَّحلِ في مساقِ صفاتِ اللَّهِ، وإثباتِ أُلوهيَّتِه

===================

 

سورةُ إبراهيمَ

الآيات (35-41)

ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ

غريب الكلمات:

 

تَهْوِي: أي: تَنزِعُ، وتَميلُ، وأصلُ (هوي): يدُلُّ على مَيلِ النَّفسِ، وانحرافِها نحوَ الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين دعا إبراهيمُ ربَّه قائلًا: ربِّ اجعَلْ مكَّةَ حَرَمًا آمِنًا يأمَنُ كلُّ مَن فيها، وأبعِدْني وأبنائي عن عبادةِ الأصنامِ، ربِّ إنَّ الأصنامَ قد حرفت كَثيرًا مِن النَّاسِ عن طريقِ الحَقِّ، فمن تبِعني على التوحيدِ، فإنَّه مِن أهلِ ديني يَستَنُّ بسُنَّتي، ومَن خالفَني فكفَر، فإنَّك غفورٌ رحيمٌ؛ بتوبتِكَ عليهم حتَّى يُؤْمنوا، وهدايتِهم إلى التوحيدِ. ربَّنا إنِّي أسكَنتُ مِن ذُرِّيتي في وادٍ ليس فيه زَرعٌ ولا ماءٌ عند بَيتِك المُحرَّمِ، ربَّنا إنَّني فعلتُ ذلك وأسكنتُهم في هذا الوادي؛ لكي يُقيمُوا الصَّلاةَ، ويَعْمُروه بذِكرِك وعبادتِك، فاجعَلْ قُلوبَ بَعضِ الناسِ تُسرِعُ إليهم شوقًا إلى حجِّ بَيتِك الحَرامِ، وارزُقْهم مِن أنواعِ الثِّمارِ؛ ليَشكُروك على ما رزَقْتَهم، ويكونَ عَونًا لهم على طاعتِك. فاستجابَ اللهُ دُعاءَه.

ربَّنا، إنَّك تعلَمُ ما نُخفِيه وما نجهرُ به ونُظهِرُه، وما يخفى عن عِلمِ اللهِ شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ. ثمَّ أثنَى إبراهيمُ عليه السلامُ على اللهِ تعالى، فقال: الحمدُ لله الذي رَزَقني رغمَ كِبَرِ سِنِّي إسماعيلَ وإسحاقَ؛ فإنَّ رَبِّي يسمعُ الدُّعاءَ ممَّن دعاه، ويجيبُه، وقد دَعوتُه ولم يخيِّبْ رَجائي. ربِّ، اجعَلْني مقيمًا للصَّلاةِ على أتَمِّ وُجوهِها، واجعَلْ مِن ذُرِّيَّتي مَن يقيمُها كذلك، ربَّنا واستجِبْ لي دُعائي، ربَّنا اغفِرْ لي ولوالِدَيَّ، ولجميعِ المُؤمنينَ يومَ تُحاسِبُ عِبادَك.

تفسير الآيات:

 

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى بالدَّلائلِ أنَّه لا مَعبودَ إلَّا هو سُبحانَه، وأنَّه لا يجوزُ عِبادةُ غيرِه تعالى البتَّةَ؛ حكى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ مُبالغَتَه في إنكارِ عِبادةِ الأوثانِ

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى التَّعجيبَ مِن الذينَ بَدَّلوا نِعمةَ اللهِ كُفرًا، وجعلوا لله أندادًا- وهم قُريشٌ، ومَن تابَعَهم من العربِ، الذين اتَّخذوا آلهةً مِن دونِ الله- وكان مِن نِعَمِ اللهِ عليهم إسكانُه إيَّاهم حَرَمَه؛ أردَفَ ذلك بذِكرِ أصلِهم إبراهيمَ، وأنَّه- صَلواتُ اللهِ عليه- دعا اللهَ تعالى أن يجعَلَ مكَّةَ آمِنةً، ودعا بأن يَجنُبَ بنيه عبادةَ الأصنامِ، وأنَّه أسكَنَه وذُرِّيَّتَه في بيتِه؛ ليَعبُدوه وَحدَه بالعبادةِ التي هي أشرَفُ العبادةِ، وهي الصَّلاةُ؛ لينظُروا في دينِ أبيهم، وأنَّه مُخالِفٌ لِما ارتكَبوه من عبادةِ الأصنامِ، فيَزدَجِروا ويَرجِعوا عنها .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا.

أي: واذكُرْ- يا محمَّدُ- إذ قال إبراهيمُ: رَبِّ، اجعَلْ مكَّةَ حَرَمًا آمِنًا لأهلِه وسُكَّانِه .

كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة: 126] .

وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا دعا بالأمنِ مِن فَسادِ الأموالِ والأبدانِ؛ أتبَعَه بالدُّعاءِ بالأمنِ مِن فَسادِ الأديانِ، فقال :

وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ .

أي: وأبْعِدْني وأبنائي عن عبادةِ الأصنامِ، واجْعَلْنا في جانبٍ، والأصنامَ في جانبٍ .

رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما دعا الله أن يُجَنَّبَ هو وبَنوه عبادةَ الأصنامِ؛ ذكَرَ سَببَ طَلَبِه ، والمُوجبَ لخَوفِه عليه وعلى بَنيه بكثرةِ مَن افتُتِنَ وابتُلِيَ بعبادتِها، فقال :

رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ .

أي: قال إبراهيم: ربِّ، إنَّ الأصنامَ قد حَرَفَت كثيرًا مِن النَّاسِ عن طريقِ الحَقِّ؛ بسبَبِ افتِتانِهم بها، وعِبادتِها .

فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي.

أي: فمَن تَبِعَني على الإيمانِ بك وتوحيدِك وفِراقِ عبادةِ الأصنامِ؛ فإنَّه مِن أهلِ دِيني، يَستَنُّ بسُنَّتي، ويعمَلُ بمِثلِ عَمَلي .

وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

ومَن عصاني فكفَر ، وخالَفَ أمْري، فإنَّك غفورٌ رحيمٌ؛ بتوبتِكَ عليهم حتَّى يُؤْمنوا، وهدايتِهم إلى التوحيدِ، وتوفيقِهم للرُّجوعِ مِن المعصيةِ إلى الطاعةِ .

عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تلا قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ في إبراهيمَ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم: 36] الآيةَ، وقال عيسى عليه السَّلامُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] ، فرفعَ يديهِ، وقال: اللهمَّ، أُمَّتي أُمَّتي، وبكى. فقال اللهُ عزَّ وجلَّ: يا جبريلُ، اذهب إلى محمدٍ- وربُّكَ أعلمُ- فسَلهُ: ما يُبكيكَ؟ فأتاهُ جبريلُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فسَألهُ، فأخبرهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بما قالَ- وهو أعلمُ-، فقال اللهُ: يا جبريلُ، اذهبْ إلى محمدٍ، فقلْ : إنَّا سنُرضيكَ في أُمَّتكَ ولا نَسُوؤُك )) .

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا دَعا بدَرءِ المفاسِدِ النَّاشِئةِ مِن نوعَيِ الإنسانِ والشَّيطانِ، بأمنِ البلَدِ وإيمانِه؛ ذكَرَ السبَبَ الحامِلَ له على تخصيصِه بذلك، مُستجلِبًا للمَصالِحِ، فقال :

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ.

أي: ربَّنا، إنِّي أسكَنتُ بعضَ ولَدِي- وهو إسماعيلُ عليه السَّلامُ- في وادٍ لا زَرْعَ فيه ولا ماءَ، عند بَيتِك الذي يَحرُمُ استِحلالُ حُرُماتِه والتَّهاوُنُ به، والاستخفافُ بحَقِّه، والتعرُّضُ له أو لأهلِه بسُوءٍ .

رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ .

أي: رَبَّنا، إنِّي أسكنتُ بعضَ ذُرِّيَّتي في هذا الوادي المقْفِرِ؛ كي يُقيمُوا الصَّلاةَ عند بيتِك المحَرَّمِ، ويَعْمُروه بذِكرِك وعبادتِك وَحدَك، فاجعَلْ قُلوبَ بعضِ النَّاسِ تُسرِعُ إليهم شوقًا إلى حجِّ بَيتِك الحَرامِ .

وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.

أي: وارزُقْهم مِن ثِمارِ النَّباتِ والأشجارِ بأنواعِها المُختَلِفة، بجَلْبِها إليهم؛ ليَشكُروك على ما رزَقْتَهم، ويكونَ عَونًا لهم على طاعتِك .

كما قال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [القصص: 57] .

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا طلَبَ إبراهيمُ- عليه السَّلامُ- مِن اللهِ تيسيرَ المنافِعِ لأولادِه، وتَسهيلَها عليهم؛ ذكَرَ أنَّه لا يعلَمُ عواقِبَ الأحوالِ، ونِهاياتِ الأمورِ في المُستقبَل، وأنَّه تعالى هو العالِمُ بها، المحيطُ بأسرارِها ، فقال:

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ.

أي: ربَّنا، إنَّك تعلَمُ ما نُخفي في قُلوبِنا عند مسألتِنا ودُعائِك، وفي غيرِ ذلك من أحوالِنا، وتعلَمُ ما نجهَرُ به مِن دُعائِنا، وغيرِ ذلك مِن أقوالِنا وأعمالِنا .

وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.

أي: ولا يخفى على اللهِ أيُّ شَيءٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا تمَّ إبراهيمُ ما دعا به من النَّزاهةِ عن رَجاسةِ الشِّركِ، وتبيَّنَ بتَقديمِه أنَّ أهَمَّ المُهِمَّاتِ البراءةُ منه؛ أتبَعَه الحمدَ على ما رُزِقَ مِن النِّعَم، وما تَبِعَ ذلك من الإشارةِ إلى وجوبِ الشُّكرِ .

وأيضًا لَمَّا دعا إبراهيمُ- عليه السَّلامُ- اللهَ تعالى لأهَمِّ ما يُهِمُّه، وهو إقامةُ التوحيدِ، وكان يرجو إجابةَ دَعوتِه، وأنَّ ذلك ليس بعجَبٍ في أمرِ اللهِ- خطَرَ ببالِه نِعمةُ الله عليه بما كان يسألُه، وهو أن وهَبَ له ولَدَينِ في إبَّانِ الكِبَرِ، وحينَ اليأسِ مِن الولادةِ، فناجى اللهَ فحَمِدَه على ذلك، وأثنى عليه بأنَّه سميعُ الدُّعاءِ- أي: مُجيبٌ، أي: متَّصِفٌ بالإجابةِ وَصفًا ذاتيًّا- تمهيدًا لإجابة دعوتِه هذه، كما أجاب دعوتَه سلَفًا، فهذا مناسَبةُ مَوقِعِ هذه الجُملةِ بعد ما قَبلَها بقرينةِ قَولِه: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ .

أي: الحَمدُ لله الذي رزَقَني- رَغْمَ كِبَرِ سِنِّي- إسماعيلَ وإسحاقَ .

إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ.

أي: وهَبَ لي ربِّي الولَدَينِ؛ لأنَّه يسمَعُ دُعاءَ مَن يدعوه، ويُجيبُ طلَبَ مَن يسألُه .

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أتمَّ إبراهيمُ عليه السلامُ الحمدَ على النِّعمةِ بعد الدُّعاءِ بالتخَلِّي مِن كلِّ ما ينافي السَّعادةَ، وختَمَه بالحمدِ على إجابةِ الدُّعاءِ- انتهَزَ الفُرصةَ في إتباعِه الدُّعاءَ بالتحَلِّي بحِليةِ العبادةِ التي أخبَرَ أنَّها قَصدُه بإسكانِه مِن ذُرِّيتِه ، فقال:

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي.

أي: ربِّ، وفِّقْني لإقامةِ الصَّلَواتِ، بالمحافظةِ على أدائِها بحُدودِها، واجعَلْ مِن ذُرِّيتي مَن يقيمُها كذلك .

رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ .

أي: رَبَّنا، واستجِبْ لي دُعائي فيما سألتُك فيه .

رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41).

أي: ربَّنا اغفِرْ لي ولوالِدَيَّ ولجميعِ المؤمنينَ يومَ تُحاسِبُ عِبادَك يومَ القيامةِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال تعالى على لسانِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ، وقال أيضًا: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي...، وقال أيضًا: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] فينبغي للإنسانِ أنْ يَشملَ ذريَّتَه في الدُّعاءِ؛ لأنَّ الذُّرِّيَّةَ الصالحةَ مِن آثارِ الإنسانِ الصَّالحةِ، فالذُّرِّيَّةُ صلاحُها له شأنٌ كبيرٌ بالنِّسبةِ للإنسانِ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ هذا الدُّعاءُ مِن الخليلِ عليه السلامُ يقتضي إفراطَ خَوفِه على نفسِه، ومَن حصَلَ في رُتبتِه، فكيف يخافُ أن يَعبُدَ صَنمًا؟! لكنْ هذه الآيةُ ينبغي أن يُقتَدى بها في الخوفِ وطلَبِ الخاتمةِ ، فإذا كان إبراهيمُ عليه السَّلامُ يَخافُ الشِّركَ على نفسِه- وهو خليلُ الرَّحمنِ، وإمامُ الحنفاءِ- فما بالُك بنا نحنُ إذن؟! فلا ينبغي أن نأمَنَ الشِّركَ، ولا أن نأمَنَ النِّفاقَ؛ إِذْ لا يأمَنُ النِّفاقَ إلَّا مُنافِقٌ، ولا يَخافُ النِّفاقَ إلَّا مُؤمِنٌ . عن إِبراهيمَ التَّيميِّ قال: (مَن يَأْمَنُ البلاءَ بعدَ قولِ إبراهيمَ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ؟!) .

3- قولُه: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ليس مُرادُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ أنَّ اللهَ يَغفِرُ لكافرٍ، لكنَّه حمَلَهُ على هذه العِبارةِ ما كان يأخُذُ نفْسَه به مِن القَولِ الجميلِ، والنُّطقِ الحسنِ، وجَميلِ الأدَبِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. قال قَتادةُ: اسْمَعوا قولَ الخليلِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واللهِ ما كانوا طعَّانِينَ ولا لَعَّانينَ، وكذلك قال نَبِيُّ اللهِ عِيسى: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] .

4- قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ جملةُ: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تعليلٌ للدَّعوةِ بإجنابِه عِبادتَها بأنَّها ضلالٌ راجَ بين كثيرٍ مِن النَّاسِ، فحُقَّ للمؤمِنِ الضَّنينِ بإيمانِه أن يخشَى أن تجتَرِفَه فتنتُها .

5- قولُ الله تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ يدلُّ على أنَّ المقصودَ للعاقلِ مِن منافعِ الدُّنيا أن يتفرَّغَ لأداءِ العباداتِ، وإقامةِ الطَّاعاتِ؛ فإنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ بيَّنَ أنَّه إنما طلَبَ تيسيرَ المنافِعِ على أولادِه؛ لأجلِ أن يتفَرَّغوا لإقامةِ الصَّلَواتِ، وأداءِ الواجباتِ .

6- إقامةُ الصَّلاةِ مِن أخَصِّ وأفضَلِ العباداتِ الدِّينيةِ، فمَن أقامَها كان مقيمًا لدينِه؛ لذا قال إبراهيم: رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ ، ولأهميةِ إقامةِ الصلاةِ لن تكادَ تجدُ ذكرَ الصلاةِ في موضعٍ مِن التنزيلِ إلا مقرونًا بإقامتِها، فالمصلُّون في الناسِ قليلٌ، ومقيمُ الصلاةِ منهم أقلُّ القليلِ .

7- في قَولِه تعالى- عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ دليلٌ على أهميَّةِ الصَّلاةِ، ولا سيَّما في مكَّةَ عندَ بيتِ اللهِ الحرامِ .

8- أنَّ هِمَّةَ الصَّالحينَ في إقامةِ الدِّينِ، فقد علَّق إبراهيم عليه السلامُ لِيُقِيمُوا بـ أَسْكَنْتُ، أي: علةُ الإسكانِ بذلك الوادي عندَ ذلك البيتِ أن لا يشغلَهم عن إقامةِ الصلاةِ في ذلك البيتِ شاغلٌ، فيكون البيتُ معمورًا أبدًا، وتهيَّأَ بذلك أنْ يُفرِّعَ عليه الدُّعاءَ لهم بأنْ يجعَلَ أفئدةً مِن النَّاس تَهْوي إليهم، فقال: رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ .

9- قَولُ الله تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ فيه تعليمٌ مِن إبراهيمَ عليه السَّلامُ لأهلِه وأتباعِه بعُمومِ عِلمِ اللهِ تعالى؛ حتى يُراقِبوه في جميعِ الأحوالِ، ويُخلِصوا النيَّةَ إليه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ فيه سُؤالٌ: أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ دعا ربَّه أنْ يَجعَلَ مَكَّةَ آمِنةً، إلَّا أنَّه قد وقَعَ فيها ما أخَلَّ بالأمنِ، وأخافَ أهْلَها؟

والجوابُ عن هذا السُّؤالِ مِن وَجْهينِ:

الأوَّل: أنَّ المُرادَ جَعْلُ تلك البلدةِ آمِنةً مِنَ الخَرابِ

، وهذا مَوجودٌ بحمْدِ اللهِ، ولم يقْدِرْ أحدٌ على خَرابِ مكَّةَ.

الثَّاني: أنْ يكونَ المُرادُ: اجعَلْ أهْلَ هذا البلَدِ آمنينَ، كقولِه تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . وهذا الوَجْهُ عليه أكثَرُ العُلماءِ مِنَ المُفسِّرينَ وغيرِهم، وعلى هذا فقدِ اختُصَّ أهْلُ مكَّةَ بزِيادةِ الأمْنِ في بلَدِهم، كما أخبَرَ اللهُ سُبحانَه وتَعالى بقولِه: وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] ، وأهْلُ مكَّةَ آمِنونَ مِن ذلك، حتَّى إنَّ مَن الْتجَأَ إلى مكَّةَ أَمِنَ على نفْسِه ومالِه مِن ذلك، وحتَّى إنَّ الوُحوشَ إذا كانت خارِجةً مِنَ الحرَمِ استوحَشَتْ، فإذا دخَلَتِ الحرَمَ أمِنَتْ واستأْنَسَتْ؛ لِعِلْمِها أنَّها لا يُهيِّجُها أحدٌ في الحرَمِ، وهذا القدْرُ مِنَ الأمْنِ حاصِلٌ بحمْدِ اللهِ بمكَّةَ وحرَمِها .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ فيه سُؤالٌ: أنَّ الأنبياءَ عليهم السَّلامُ لا يَعْبُدون الوثَنَ الْبَتَّةَ، وإذا كان كذلك؛ فما الفائدةُ في قولِه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ؟

والجوابُ مِن وَجْهينِ:

الأوَّل: أنَّ معناهُ: ثَبِّتْني على اجتنابِ عِبادتِها، كما قال: وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة: 128] ، أي: ثَبِّتْنا على الإسلامِ.

الثَّاني: أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ وإنْ كان يَعلَمُ أنَّه تعالى يَعصِمُه مِن عِبادةِ الأصنامِ، إلَّا أنَّه ذكَرَ ذلك؛ هَضْمًا للنَّفسِ، وإظهارًا للحاجةِ والفاقةِ إلى فَضْلِ اللهِ في كلِّ المَطالِبِ .

3- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ فيه سؤالٌ: أنَّ إبراهيمَ- عليه السَّلامُ- طلبَ مِن الله تعالى ألَّا يجعَلَ أبناءَه مِن عبَدةِ الأصنامِ، وكُفَّارُ قُرَيشٍ كانوا من أولادِه، وكانوا يعبُدونَ الأصنامَ؟

والجوابُ من وجوه:

الوجه الأول: قال بعضُهم: أراد مِن أولادِه وأولادِ أولادِه كلَّ مَن كانوا موجودينَ حالَ الدُّعاءِ، ولا شُبهةَ أنَّ دَعوتَه مُجابةٌ فيهم.

الوجه الثاني: أنَّ هذا الدُّعاءَ مختَصٌّ بالمؤمنينَ مِن أولاده، والدَّليلُ عليه أنَّه قال في آخر الآية: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وذلك يفيدُ أنَّ مَن لم يتَّبِعْه على دينِه، فإنَّه ليس منه، ونظيرُه قولُه تعالى لنوح: إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود: 46] .

الوجه الثالث: لعلَّه وإن كان عمَّمَ في الدُّعاءِ إلَّا أنَّ الله تعالى أجاب دعاءَه في حَقِّ البَعضِ دونَ البَعضِ ، وذلك لا يُوجِبُ تحقيرَ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، ونظيرُه قولُه تعالى في حقِّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] .

4- قولُه: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا قَدَّمَ طلَبَ الأمنِ على سائِرِ المطالِبِ المذكورةِ بَعدَه، وذلك يدُلُّ على أنَّه أعظَمُ أنواعِ النِّعَمِ والخيراتِ، وأنَّه لا يَتِمُّ شَيءٌ مِن مصالحِ الدِّينِ والدُّنيا إلَّا به؛ فإنَّه إذا انتفَى الأمنُ لم يَفرُغِ الإنسانُ لشيءٍ آخَرَ مِن أمورِ الدِّينِ والدُّنيا .

5- قَولُه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ فيه دليلٌ على أنَّ عِصمةَ الأنبياءِ بتَوفيقِ الله تعالى وحِفظِه إيَّاهم .

6- قولُه: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، فيه سُؤالٌ: كيف جعَلَ الأصنامَ مُضِلَّةً، والمُضِلُّ ضارٌّ، وقد نَفَى عنهم الضَّررَ بقولِه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [يونس: 18] ؟

الجَوابُ: أنَّ نِسبةَ الإضلالِ إليها مِن بابِ نِسبةِ الشَّيءِ إلى سبَبِه، كما يُقالُ: فَتَنَتْهم الدُّنيا، فهي سبَبٌ للإضلالِ، وفاعِلُه حقيقةً هو اللهُ تعالى . وأيضًا فنفْيُ ضَررِها باعتبارِ أنَّها لا تُوصِلُ إليهم مَكروهًا كما كان يَعتقِدُ عابِدُوها.

7- قولُ الخليلِ عليه السَّلامُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولم يقُلْ: (فإنَّك عزيزٌ حَكيمٌ)؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ استرحامٍ، وتَعريضٍ بالدُّعاءِ .

8- في قَولِه تعالى على لسانِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دلالةٌ ظاهرةٌ على أنَّ أسماءَ الرَّبِّ تعالى مشتقَّةٌ مِن أوصافٍ ومعانٍ قامت به، وأنَّ كلَّ اسمٍ يُناسِبُ ما ذُكِرَ معه، واقترنَ به مِن فِعلِه وأمْرِه .

9- قال الله تعالى على لسانِ إبراهيمَ: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ في هذا القولِ منه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- دليلٌ على أنَّه لم يكُنْ هنالك يومَئذٍ ماءٌ؛ لأنَّه لو كان هنالك ماءٌ، لم يَصِفْه بأنَّه غيرُ ذي زرعٍ عند بيتِك الذي حرَّمْتَه على جميعِ خَلْقِك أن يستحِلُّوه .

10- قال اللهُ تعالى على لِسانِ إبراهيمَ: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. هذه الآيةُ تَقْتَضي أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ قد كان علِمَ مِنَ اللهِ تعالى أنَّه لا يُضيِّعُ هاجَرَ وابْنَها في ذلك الوادي، وأنَّه يَرزُقُهما الماءَ، وإنَّما نظَرَ النَّظرَ البعيدَ للعاقبةِ، فقال: غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، ولو لم يَعلَمْ ذلك مِنَ اللهِ لَقال: (غيرِ ذي ماءٍ)، على ما كانتْ عليه حالُ الوادي عندَ ذلك .

11- في قَولِه تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لا يجوزُ لأحدٍ أن يتعلَّقَ به في طَرحِ عيالِه ووَلدِه بأرضٍ مَضْيَعةٍ؛ اتِّكالًا على العزيزِ الرَّحيمِ، واقتداءً بفِعلِ إبراهيمَ، كما تقولُ الغُلاةُ مِن الصوفيَّةِ في حقيقةِ التوكُّلِ؛ فإنَّ إبراهيمَ فعَلَ ذلك بأمرِ اللهِ .

12- افتَرضَ الله حجَّ هذا البيتِ الذي أسكَنَ به ذُرِّيَّةَ إبراهيمَ، وجعَلَ فيه سِرًّا عجيبًا جاذِبًا للقُلوبِ، فهي تحُجُّه، ولا تقضي منه وطَرًا على الدَّوامِ، بل كلَّما أكثَرَ العبدُ التردُّدَ إليه، ازداد شَوقُه، وعَظُمَ ولَعُه وتَوْقُه، وهذا سِرُّ إضافتِه تعالى إلى نفسِه المقدَّسةِ؛ قال الله تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ .

13- في قَولِه تعالى- عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ لم يقُل: «أفئدةَ النَّاسِ»؛ لأنَّ الحجَّ لا يجِبُ على كلِّ أحدٍ، إنما يجبُ على مَن كان قادِرًا. قال بعضُ العُلَماءِ: لو قال: «أفئدةَ النَّاسِ تهوي إليهم» وأجابَه اللهُ، لوجبَ على جميعِ النَّاسِ أنْ يَحُجُّوا، وفي هذا مِن المشَقَّةِ ما هو ظاهرٌ، لكنَّ اللهَ أَلْهَمَ إبراهيمَ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- أنْ يقولَ: مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ .

14- عن السُّدِّيِّ رحمه الله، في قولِه تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ يقولُ: (خُذ بقُلوبِ النَّاسِ إليهم؛ فإنَّه حيث يَهوى القلبُ يذهَبُ الجسَدُ؛ فلذلك ليس مِن مؤمنٍ إلَّا وقَلبُه معَلَّقٌ بحُبِّ الكعبةِ) .

15- قال الله تعالى: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ الآيةُ لتذكيرِ قُرَيشٍ بهذه النِّعَمِ الجليلةِ عليهم ببرَكةِ أبيهم الأعظَمِ الذي نهَى عن عبادةِ الأوثانِ .

16- مكَّةُ نَفسُها لا يُدفَعُ البلاءُ عن أهلِها، ويُجلَبُ لهم الرِّزقُ إلَّا بطاعتِهم لله ورَسولِه، كما قال الخليلُ عليه السَّلامُ: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم: 37] .

17- قال تعالى على لسانِ إبراهيمَ عليه السلامُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ فذكَرَ حالَ الكِبَرِ؛ لأنَّ المِنَّةَ فيها بهِبةِ الولَدِ أعظمُ؛ مِن حيثُ إنَّ الكِبَرَ مَظِنَّةُ اليأسِ مِن الولدِ؛ فإنَّ مجيءَ الشَّيءِ بعد الإياسِ أحلَى في النَّفسِ وأبهَجُ .

18- قولُه: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي احتُجَّ به على أنَّ أفعالَ العبدِ مَخلوقةٌ لله تعالى؛ فإنَّ قَولَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يدُلُّ على أنَّ فِعلَ المأموراتِ لا يحصُلُ إلَّا مِن الله .

19- قولُه: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ فيه سؤالٌ: كيفَ جاز أن يستغفِرَ لأبويهِ وكانا كافِرَينِ؟

والجوابُ عنه مِن وُجُوهٍ:

الوجهُ الأوَّل: أنَّه دَعا لأبيه قبلَ أن يتبيَّن له أنَّه عدوٌّ لله .

الوجه الثاني: أنَّ المنعَ منه لا يُعلَمُ إلَّا بالتَّوقيفِ، فلعلَّه لم يجِدْ منه مَنعًا، فظَنَّ كونَه جائِزًا .

الوجهُ الثالثُ: أنَّهما كانا في الأحياءِ، فرجَا إيمانَهما . وقيل غيرُ ذلك .

20- قولُه: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ فيه بِشارةٌ عَظيمةٌ للمؤمنينَ بالمَغفِرةِ .

21- في قَولِه تعالى عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ دَلالةٌ على انتفاعِ الميِّتِ بدُعاءِ الخَلْقِ له

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ

- قولُه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا... أي: واذْكُرْ إذ قال إبراهيمُ؛ زِيادةً في التَّعجُّبِ مِن شأْنِ المُشركينَ الَّذي مَرَّ في قولِه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا؛ فموقِعُ العِبْرةِ مِن الحالينِ واحدٌ

، والمقصودُ مِن تذْكيرِه: تذْكيرُ ما وقَعَ فيه مِن مَقالاتِه عليه السَّلامُ على نهْجِ التَّفصيلِ، والمُرادُ به: تأْكيدُ ما سلَفَ مِن تعْجيبِه عليه السَّلامُ بِبَيانِ فنٍّ آخَرَ مِن جِناياتِهم، حيثُ كفَروا بالنِّعمِ الخاصَّةِ بهم بعدَما كفَروا بالنِّعمِ العامَّةِ، وعَصَوا أباهم إبراهيمَ عليه السَّلامُ، حيث أسكَنَهم مكَّةَ- شرَّفَها اللهُ تعالى- لإقامةِ الصَّلاةِ، والاجتنابِ عن عِبادةِ الأصنامِ، والشُّكرِ لِنِعَمِ اللهِ تعالى، وسأَلَه تعالى أنْ يجعَلَه بلدًا آمِنًا، ويَرزُقَهم مِن الثَّمراتِ، وتَهْوِيَ قُلوبُ النَّاسِ إليهم مِن كلِّ أَوْبٍ سحيقٍ، فاستجابَ اللهُ تعالى دُعاءَه، وجعَلَه حرَمًا آمِنًا يَجِيءُ إليه ثَمراتُ كلِّ شيءٍ، فكفَروا بتلك النِّعَمِ العِظامِ، واستبْدَلوا بالبلدِ الحرامِ دارَ البَوارِ، وجعَلوا للهِ أندادًا، وفعَلوا ما فعَلوا .

- والفرْقُ بين قولِه هنا: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا، وبين قولِه في سُورةِ البَقرةِ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة: 126] : أنَّه قد سأَلَ في الأوَّلِ في سُورةِ البقرةِ أنْ يجعَلَه مِن جُملةِ البلادِ الَّتي يأمَنُ أهْلُها ولا يَخافونَ، وفي الثَّاني أنْ يُخْرِجَه مِن صِفَةٍ كان عليها مِن الخوفِ إلى ضِدِّها مِن الأمْنِ؛ كأنَّه قال: هو بلَدٌ مخوفٌ، فاجعَلْه آمِنًا . وقيل: الفرْقُ بينه وبين قولِه: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة: 126] : أنَّ المسؤولَ هناك البَلَدِيَّةُ والأمْنُ معًا، وهاهنا الأمْنُ فقط؛ حيث جُعِلَ هو المفعولَ الثَّانيَ للجَعْلِ، وجُعِلَ البلدُ صِفَةً للمفعولِ الأوَّلِ؛ فإنْ حُمِلَ على تعدُّدِ السُّؤالِ، فلعلَّه عليه السَّلامُ سأَلَ أوَّلًا كِلَا الأمرينِ، فاسْتُجِيبَ له في أحدِهما، وتأخَّرَ الآخَرُ إلى وقْتِه المُقدَّرِ؛ لِمَا يقْتَضيه مِن الحكمةِ الدَّاعيةِ إليه، ثمَّ كرَّرَ السُّؤالَ كما هو المُعتادُ في الدُّعاءِ والابتهالِ ، أو كان المسؤولُ أوَّلًا مُجرَّدَ الأمْنِ المُصَحِّحِ للسَّكنِ كما في سائرِ البلادِ، وقد أُجِيبَ إليه، وثانيًا الأمْنَ المعهودَ، أو كان هو المسؤولَ فيهما، وقد أُجِيبَ إليه أيضًا، لكنَّ السُّؤالَ الثَّانيَ للاستدامةِ، والاقتصارِ على ذلك؛ لأنَّه المقصودُ الأصلِيُّ، أو لأنَّ المُعتادَ في البلَدِيَّةِ الاستمرارُ بعدَ التَّحقُّقِ، بخلافِ الأمْنِ. وإنْ حُمِلَ على وَحدةِ السُّؤالِ وتكرُّرِ الحكايةِ كما هو المُتبادَرُ؛ فالظاهِرُ أنَّ المسؤولَ كِلَا الأمرينِ، وقد حُكِيَ أوَّلًا، واقْتُصِرَ هاهنا على حِكايةِ سُؤالِ الأمْنِ، لا لِمُجرَّدِ أنَّ نِعمةَ الأمْنِ أَدْخَلُ في استيجابِ الشُّكرِ؛ فذِكْرُه أنسَبُ بمقامِ تقريعِ الكَفَرة ِعلى إغفالِه كما قيل، بل لأنَّ سُؤالَ البلَدِيَّةِ قد حُكِيَ بقولِه تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ؛ إذ المسؤولُ هُوِيَّتُها إليهم للمُساكَنةِ معهم لا للحجِّ فقط، وهو عينُ سُؤالٍ قد حُكِيَ بعبارةٍ أُخرى، وكان ذلك أوَّلَ ما قدِمَ عليه السَّلامُ مكَّةَ .

- في قولِه تعالى عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَاجْنُبْنِي لم يَقُلْ: «وامنَعْني»؛ لأنَّ معنى وَاجْنُبْنِي أي: اجعَلْني في جانبٍ وعبادةَ الأصنامِ في جانبٍ، وهذا أبلغُ مِن «امنَعْني»؛ لأنَّه إذا كان في جانبٍ وهي في جانبٍ، كان أَبْعَدَ .

2- قوله تعالى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

- قولُه: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ هو تَعليلٌ لِدُعائِه بإجْنابِه عِبادتَها؛ فافتتاحُ الجُملةِ بحرْفِ التَّوكيدِ لِمَا يُفيدُه حرْفُ (إنَّ) في هذا المقامِ مِن معنى التَّعليلِ، وإنَّما صدَّرَه بالنِّداءِ رَبِّ؛ إظهارًا لاعتنائِه به، ورَغبةً في استجابتِه، أو أعاد النِّداءَ؛ لإنشاءِ التَّحسُّرِ على ذلك .

- قولُه: فَإِنَّهُ مِنِّي، أي: بعْضي؛ قاله عليه السَّلامُ مُبالَغةً في بيانِ اختصاصِه به، أو مُتَّصلٌ بي، لا ينفَكُّ عنِّي في أمْرِ الدِّينِ، ووَمَنْ عَصَانِي فيه طِباقٌ مَعنويٌّ؛ لأنَّ التَّبعيَّةَ طاعةٌ .

3- قوله تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ

- قولُه: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي مُستأنَفَةٌ لابتداءِ دُعاءٍ آخَرَ، وافْتُتِحَتْ بالنِّداءِ؛ لِزيادةِ التَّضرُّعِ، وفي كونِ النِّداءِ تأكيدًا لِنِداءٍ سابِقٍ: ضرْبٌ مِن الرَّبْطِ بين الجُمَلِ المُفْتَتَحَةِ بالنِّداءِ؛ رَبْطُ المِثْلِ بمِثْلِه .

- قولُه: رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فيه تَكرارُ النِّداءِ؛ رَغبةً في الإجابةِ، وإظهارًا للتَّذلُّلِ والالتجاءِ إلى اللهِ تعالى. وأيضًا تكريرُ النِّداءِ وتوسيطُه؛ لإظهارِ كَمالِ العِنايةِ بإقامةِ الصَّلاةِ، وللاهتِمامِ بمُقدِّمةِ الدُّعاءِ؛ زِيادةً في الضَّراعةِ، والاهتمامِ بعرْضِ أنَّ الغرَضَ مِن إسكانِهم بذلك الوادي البَلْقَعِ ذلك المقصِدُ الأقصى، والمطلَبُ الأَسْنى؛ للإشعارِ بأنَّها المقصودةُ بالذَّاتِ مِن إسكانِهم ثمَّةَ، والمقصودُ مِن الدُّعاءِ توفيقُهم لها، وكلُّ ذلك لِتمهيدِ مَبادي إجابةِ دُعائِه، وإعطاءِ مسؤولِه الَّذي لا يتسنَّى ذلك المَرامُ إلَّا به؛ ولذلك أُدْخِلَ عليه الفاءُ فقال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ، أي: أفئدةً مِن أفئدتِهم .

- وفي قولِه: رَبَّنَا إيثارُ ضَميرِ الجَماعةِ خِلافًا لسابِقيه، حيثُ قال فيهما: رَبِّ؛ لأنَّه تقدَّمَ ذِكْرُه وذِكْرُ بَنِيهِ في قولِه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ ، أو أُضِيفَ الرَّبُّ هنا إلى ضَميرِ الجمْعِ؛ لأنَّ الدُّعاءَ الَّذي افْتُتِحَ به فيه حَظٌّ للدَّاعي ولأبنائِه، ولعلَّ إسماعيلَ عليه السَّلامُ حاضِرٌ معه حينَ الدُّعاءِ، كما تدلُّ له الآيةُ الأُخرى . وقيل: ليس إيثارُ الجمْعِ لِتقدُّمِ ذِكْرِه وذِكْرِ بَنِيهِ، وإلَّا لَراعاهُ في قولِه: رَبِّ إِنَّهُنَّ... إلخ، بل لأنَّ الدُّعاءَ المُصدَّرَ به وما أورَدَه بِصدَدِ تَمهيدِ مَبادي إجابتِه مِن قولِه: إِنِّي أَسْكَنْتُ... مُتعلِّقٌ بذريتِه؛ فالتعرُّضُ لوصفِ رُبوبيَّتِه تعالى لهم أَدْخلُ في القَبولِ، وإجابةِ المسؤولِ .

- وخَصَّ الصلاةَ دونَ سائِرِ العباداتِ في قولِه: رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ؛ لأنَّها أفضَلُها، أو لأنَّها سببٌ لكُلِّ خَيرٍ .

- وذِكْر (الأفئدةِ)؛ لِإرادةِ أنْ يكونَ مَسِيرُ النَّاسِ إليهم عن شوقٍ ومحبَّةٍ، حتَّى كأنَّ المُسرِعَ هو الفؤادُ لا الجسَدُ . وقيل: (مِن) للتَّبعيضِ؛ ولذلك قيل: لو قال: (أفئدةَ النَّاسِ) لَازْدَحَمَت عليهم فارسُ والرُّومُ .

- قولُه: تَهْوِي إِلَيْهِمْ تَهوِي مُضارِعُ (هَوَى)؛ أُطْلِقَ هنا على الإسراعِ في المشْيِ، والإسراعُ: جُعِلَ كِنايةً عنِ المحبَّةِ والشَّوقِ إلى زيارتِهم .

- قولُه: وَارْزُقْهُمْ لم يخُصَّ الدُّعاءَ بالرِّزقِ بالمُؤمنينَ منهم، كما في قولِه: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: 126] ؛ اكتفاءً بذِكْرِ إقامةِ الصَّلاةِ .

4- قوله تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ

- قولُه: رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ فيه تَكْريرُ النِّداءِ رَبَّنَا؛ للمُبالَغَةِ في الضَّراعةِ والابتهالِ .

- وقولُه: مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ فيه تَقديمُ مَا نُخْفِي على مَا نُعْلِنُ؛ لِتحقيقِ المُساواةِ بينهما في تعلُّقِ العِلْمِ بهما على أبلَغِ وجْهٍ؛ فكأنَّ تعلُّقَه بما يُخْفَى أقدَمُ منه بما يُعْلَنُ، أو لأنَّ مَرتبةَ السِّرِّ والخَفاءِ مُتقدِّمةٌ على مَرتبةِ العَلَنِ؛ إذ ما مِن شَيءٍ يُعْلَنُ إلَّا وهو قَبلَ ذلك خفِيٌّ؛ فتعلُّقُ علْمِه سبحانه بحالتِه الأُولى أقدَمُ مِن تعلُّقِه بحالتِه الثَّانيةِ .

- قولُه: وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ تذييلٌ لِجُملةِ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ، أي: تَعلَمُ أحوالَنا وتَعلَمُ كلَّ شيءٍ، ولكونِها تذييلًا أُظْهِرَ فيها اسمُ الجلالةِ؛ لِيكونَ التَّذييلُ مُستقِلًّا بنفْسِه بمنزِلةِ المثَلِ والكلامِ الجامِعِ .

- وفي قولِه: وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ الالْتفاتُ مِن الخِطابِ إلى اسمِ الذَّاتِ المُستجمِعةِ للصِّفاتِ؛ لِتربيةِ المَهابَةِ، والإشعارِ بعِلَّةِ الحكمِ- على نهْجِ قولِه تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] - والإيذانِ بعُمومِه؛ لأنَّه ليس بشأْنٍ يختَصُّ به أو بِمَن يتعلَّقُ به، بل شاملٌ لِجميعِ الأشياءِ؛ فالمُناسِبُ ذِكْرُه تعالى بعُنوانٍ مُصَحِّحٍ لِمبدأِ الكلِّ. وقيل: هو مِن كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ وارِدٌ بطريقِ الاعتراضِ؛ لِتصديقِه عليه السَّلامُ، كقولِه سبحانه: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34] .

- وقولُه: مِنْ شَيْءٍ؛ للاستغراقِ، كأنَّه قيل: وما يَخْفى عليه شيءٌ ما .

- قولُه: فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ فيه تَقديمُ الأرضِ على السَّماءِ، مع تَوسيطِ حرْفِ النَّفي (لا) بينهما؛ باعتِبارِ القُربِ والبُعدِ مِنَّا المُسْتَدْعِيَيْنِ للتَّفاوتِ بالنِّسبةِ إلى عُلُومِنا .

5- قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ

- و(على) في قولِه: عَلَى الْكِبَرِ للاستعلاءِ بمعنى (مع)، أي: وَهَبَ ذلك تَعَلِّيًا على الحالةِ الَّتي شأنُها ألَّا تسمَحَ بذلك، أي: مع الكِبَرِ الَّذي لا تحصُلُ معه الوِلادةُ .

- قولُه: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ تَعليلٌ على طريقةِ التَّذييلِ للهِبَةِ المذكورةِ، وفيه إيذانٌ بتضاعيفِ النِّعمةِ فيها، حيثُ وقَعَتْ بعد الدُّعاءِ بقولِه: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] ، فاقترَنَتِ الهِبةُ بقَبولِ الدَّعوةِ. وتَوحيدُ ضَميرِ المُتكلِّمِ وإنْ كان عَقِيبَ ذكْرِ هِبَتِهما؛ لِمَا أنَّ نِعمةَ الهبةِ فائضةٌ عليه خاصَّةً، وهما مِن النِّعمِ لا مِن المُنعَمِ عليهم، أي: وَهَبَ ذلك؛ لأنَّه سميعُ الدُّعاءِ .

- وفي قولِه: لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ كنَّى بـ (سميع الدُّعاءِ) عنِ الإجابةِ والتَّقبُّلِ-معَ إثباتِ صفةِ السمعِ لله على ما يَليقُ بكَمالِه- وكان إبراهيمُ عليه السلامُ قد دعا اللهَ أنْ يهَبَه ولدًا، وصِيغَ بمِثالِ المُبالَغةِ أو الصِّفةِ المُشبَّهَةِ؛ لِيدُلَّ على كَثرةِ ذلك، وأنَّ ذلك شأْنُه، وفيه إشعارٌ بأنَّه دعا ربَّه وسأَلَ منه الولدَ، فأجابه ووهَبَ له سُؤْلَه حينما وقَعَ اليأْسُ منه؛ لِيكونَ مِن أجَلِّ النِّعمِ وأجْلَاها .

6- قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ

- قولُه: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي: وبعْضَ ذُرِّيَّتي- على اعتبارِ أنَّ (مِن) تبعيضيةٌ- عطفًا على المنصوبِ في اجْعَلْنِي، وإنَّما بَعَّضَ؛ لأنَّه علِمَ بإعلامِ اللهِ له، أو استِقراءِ عادتِه في الأُمَمِ الماضيةِ، أنَّه يكونُ في ذُرِّيَّتِه كُفَّارٌ .

7- قوله تعالى: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ

- قولُه: يَقُومُ الْحِسَابُ، أي: يثبُتُ؛ عُبِّرَ به عنِ الثُّبوتِ تبَعًا لِتشبيهِ الحسابِ بإنسانٍ قائمٍ؛ لأنَّ حالةَ القِيامِ أقْوى أحوالِ الإنسانِ؛ إذ هو انتِصابٌ للعَملِ، مِن قِيامِ القائمِ على الرِّجْلِ، والدليلُ عليه قولُهم: قامَتِ الحربُ على ساقِها، ونحوُه. وقيل: أُسنِد إلى الحسابِ قيامُ أهلِه، أو حُذِف المضافُ، مثلَ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] .

===================

 

سورةُ إبراهيمَ

الآيات (42-46)

ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ

غريب الكلمات:

 

تَشْخَصُ: أي: تُرفَعُ وتُفتَحُ فلا تَطرِفُ، وأصلُ (شخص): يدُلُّ على ارتفاعٍ في شَيءٍ

.

مُهْطِعِينَ: أي: مُسرِعينَ، مُديمِي النَّظَرِ، وأصلُ (هطع): يدُلُّ على إقبالٍ على الشَّيءِ، وانقيادٍ .

مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ: أي: رافِعِيها مع الإقبالِ بأبصارِهم إلى ما بينَ أيديهم، مِن غيرِ التفاتٍ إلى شَيءٍ، وأصلُ (قنع): ارتفاعُ الشَّيءِ ليس فيه تَصَوُّبٌ، وأيضًا يدُلُّ على الإقبالِ على الشَّيءِ .

طَرْفُهُمْ: أي: نَظَرُهم وأبصارُهم، ولا يُثنَّى (الطَّرْفُ) ولا يُجمَعُ؛ لأنَّه في الأصلِ مَصدرٌ، وأصلُ الطَّرفِ: تحريكُ الجَفنِ، وعُبِّرَ به عن النَّظرِ؛ إذ كان تحريكُ الجَفنِ لازِمُه النَّظرُ .

هَوَاءٌ: أي: خالِيةٌ خاوِيةٌ فارِغةٌ، وأصلُ (هوي): يدلُّ على خُلُوٍّ وسُقوطٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

1- قولُه تعالى: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ

وتَبَيَّنَ فاعلُه مُضمَرٌ؛ لدَلالةِ الكلامِ عليه، أي: تَبَيَّنَ لكم حالُهم، وخبَرُهم، وهلاكُهم.

وكَيْفَ اسمُ استفهامٍ في محَلِّ نَصبٍ مَفعولٌ مُطلَقٌ، وجملةُ كَيْفَ فَعَلْنَا مُفسِّرةٌ للفاعِلِ المقدَّرِ، فلا محلَّ لها من الإعرابِ

.

2- قولُه تعالى: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ

لِتَزُولَ اللامُ في لِتَزُولَ للجُحودِ، وإِنْ نافيةٌ، و(تَزولَ) مُضارعٌ منصوبٌ بأنْ مُضمَرة بعدَ اللَّامِ، والمصدرُ المؤَوَّلُ (أَنْ تَزُولَ) مجرورٌ باللَّامِ متعَلِّقٌ بخَبَرِ كان المحذوف، أي: ما كان مكرُهم أهلًا أو مُعَدًّا لإزالةِ الجبالِ، وهو استخفافٌ بهم، أي: ليس مكرُهم بمتجاوزٍ مكْرَ أمثالِهم، وما هو بالذي تزولُ منه الجبالُ. ويجوز أن تكونَ اللامُ في لِتَزُولَلامَ التَّعليلِ، وإِنْ شرطيَّةٌ، وجوابُها محذوفٌ، والتَّقديرُ: وإنْ كان مكرُهم لشِدَّتِه مُعَدًّا لإزالةِ أشباهِ الجبالِ الرَّواسي- وهي المُعجِزاتُ والآيات- فاللهُ مُجازيهم بمكرٍ هو أعظمُ منه.

وقُرِئَ لَتَزُولُ بفَتحِ اللام الأولى، ورفعِ اللامِ الثانيةِ، فـ إِنْ مُخفَّفةٌ مِن الثَّقيلة، واللامُ فارِقةٌ بينها وبين النَّافيةِ، فيكونُ الكلامُ إثباتًا لزوالِ الجبالِ مِن مَكرِهم، أي: هو مكرٌ عظيمٌ لَتَزولُ منه الجِبالُ لو كان لها أن تزولَ؛ فهو مستعمَلٌ في معنى الجدارةِ والتأهُّلِ للزَّوالِ، لو كانت الجِبالُ زائلةً

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول الله تعالى: ولا تظُنَّ- يا مُحمَّدُ- أنَّ اللهَ ساهٍ عن أعمالِ هَؤلاءِ الظَّالِمينَ، كالمشركينَ مِن قومِك، بل هو عالِمٌ بأعمالِهم، وسيُعاقِبُهم على ظُلمِهم، إنَّما يمهلُهم ويؤخِّرُ عِقابَهم إلى يومٍ شَديدٍ ترتفِعُ فيه أبصارُ الخلقِ دونَ أن تطرِفَ جفونُهم؛ مِن هولِ ما تراه، وشدةِ ما يصيبُهم مِن الفزعِ. يمشُونَ مُسرِعينَ عندَ الخُروجِ مِن قُبورِهم، والمَجيءِ لمحشَرِهم، رافعي رُؤوسِهم: لا تعودُ إليهم أبصارُهم، فلا يتمكَّنونَ من توجيهِ أنظارِهم حيث شاؤوا، أو الطَّرْفِ بأعيُنِهم كما أرادوا، وقلوبُهم خاليةٌ ليس فيها شَيءٌ؛ ولا تعقِلُ شيئًا من شدَّةِ الخَوفِ.

وخَوِّفِ النَّاسَ- يا محمدُ- ما ينزلُ بهم مِن عذابِ اللهِ يومَ القيامةِ، فيقولُ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والتكذيبِ والمعاصي: ربَّنا أَمْهِلْنا وأرجِعْنا إلى الدُّنيا زمنًا قليلًا نُؤمِنْ بك ونُصَدِّقْ رُسُلَك. فيقولُ الله لهم: ألم تَحْلِفوا في حياتِكم أنَّه لا انتقالَ لكم مِن الحياةِ الدُّنيا إلى الآخرةِ، ولا بعثَ بعدَ الموتِ؟ وحلَلْتُم في مساكِنِ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بكُفرِهم باللهِ، وعَلِمتُم- بما رأيتُم مِن آثارِهم، وسمعتُم مِن أخبارِهم- ما أنزَلْناه بهم من الهلاكِ، ومثَّلْنا لكم الأمثالَ في القُرآنِ؛ لتعتَبِروا بها، فلم تعتَبِروا؟ وقد مكروا مَكرَهم العظيمَ، وعندَ اللهِ جزاءُ مَكرِهم، وما كان مَكرُ الكُفَّارِ بالذي تزولُ منه الجبالُ لضعفِه ووهنِه، ولو كان مكرُهم تزولُ منه الجبالُ فلن يستطيعوا أيضًا إبطالَ دينِ الإسلامِ.

تفسير الآيات:

 

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ الله تعالى دلائِلَ التَّوحيدِ، ثمَّ حكى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ أنَّه طلَبَ مِن اللهِ أن يَصونَه عن الشِّركِ، وطلَبَ منه أن يوفِّقَه للأعمالِ الصَّالحةِ، وأن يخُصَّه بالرَّحمةِ والمغفرةِ في يومِ القيامةِ- ذكرَ بعد ذلك ما يدُلُّ على وجودِ يومِ القيامةِ، وما يدُلُّ على صفةِ يومِ القيامةِ

.

وأيضًا لَمَّا ختَمَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ دُعاءَه بيومِ الحِسابِ، المُوجِبِ ذِكرُه لكلِّ سَعادةٍ، ونِسيانُه لكُلِّ شَقاوةٍ- ذكرَ بعضَ ما يتَّفِقُ فيه؛ رجوعًا إلى ما مضى من أحوالِ يومِ القيامةِ .

وأيضًا فإنَّها عَطفٌ على الجُمَلِ السَّابقةِ، ولها اتِّصالٌ بجُملةِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم: 30] الذي هو وعيدٌ للمُشرِكينَ، وإنذارٌ لهم بألَّا يغتَرُّوا بسلامتِهم وأمْنِهم؛ تنبيهًا لهم على أنَّ ذلك متاعٌ قليلٌ زائِلٌ، فأكَّدَ ذلك الوعيدَ بهذه الآيةِ ، فقال:

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ.

أي: ولا تظُنَّ- يا محمدُ- اللهَ الذي مِن سُنَّتِه إمهالُ الظَّالِمينَ، وإنظارُهم مُدَّةً قبل أن يُحِلَّ بهم عِقابَه؛ ساهيًا عن أعمالِ هَؤلاءِ الظَّالِمينَ لأنفُسِهم، كمُشرِكي قَومِك وغَيرِهم، بل هو عالِمٌ بأعمالِهم، وسيُعاقِبُهم على ظُلمِهم؛ فإنَّه سُبحانه يُمهِلُ ولا يُهمِلُ .

عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُملي للظَّالمِ، حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] )) .

إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ .

أي: إنَّما يُمهِلُ اللهُ الظَّالِمينَ ويُؤخِّرُ عِقابَهم إلى يومِ القيامةِ الذي ترتفِعُ فيه أبصارُ الخَلقِ، وهم يُحَدِّقونَ بها مَبهُوتينَ خائفينَ، دون أن تَطرِفَ أجفانُهم، أو تَغتَمِضَ أعيُنُهم؛ لشدَّةِ ما أصابَهم من الفزَعِ، وما يَرَونه من عظيمِ الأهوالِ .

كما قال تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء: 97] .

مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43).

مُهْطِعِينَ.

أي: يمشُونَ مُسرِعينَ عند خُروجِهم مِن قُبورِهم، ومَجيئِهم لمحشَرِهم، وحضورِ حِسابِهم .

كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر: 8].

وقال عزَّ وجلَّ: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: 43] .

مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ .

أي: رافِعي رُؤوسِهم ينظُرونَ إلى ما بينَ أيديهم، دونَ أن يلتَفِتوا يمينًا أو شِمالًا .

لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ.

أي: لا تعودُ إليهم أبصارُهم على ما اعتادُوه، بحيثُ يتمكَّنونَ من توجيهِ أنظارِهم حيث شاؤوا، أو الطَّرْفِ بأعيُنِهم كما أرادوا؛ وذلك لإدامةِ نَظَرِهم إلى ما يُشاهِدونَه مِن أهوالٍ، فأجفانُهم إليها شاخِصةٌ، وأعيُنُهم نحوَها مُصَوَّبةٌ لا تَطرِفُ لَحظةً .

وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ.

أي: وقلوبُهم خاليةٌ، ليس فيها شيءٌ، ولا تعقِلُ شيئًا من شدَّةِ الخَوفِ .

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّها عَطفٌ على جُملةِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، أي: تسَلَّ عنهم، ولا تملَلْ مِن دَعوتِهم، وأنذِرْهم .

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ.

أي: وخَوِّفِ النَّاسَ- يا محمَّدُ- ما هو نازِلٌ بهم يومَ يأتيهم العذابُ يومَ القيامةِ، فيَحذَروا مِن الأعمالِ المُوجِبةِ لذلك العذابِ .

فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ.

أي: فيقولُ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والتَّكذيبِ، وأنواعِ المعاصي، في ذلك اليَومِ: ربَّنا أمهِلْنا، وأرجِعْنا إلى الدُّنيا زمنًا قليلًا، نُؤمِنْ بك ونوَحِّدْك، ونتَّبِعْ رُسُلَك .

كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: 27] .

وقال سُبحانَه: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37] .

أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ.

أي: فيقولُ الله للظَّالِمينَ الذين سألوه الرَّجعةَ إلى الدُّنيا، مُوبِّخًا لهم: أولمْ تكونوا تحلِفونَ في الدُّنيا أنَّه لا انتقالَ لكم مِن الدُّنيا إلى الآخرةِ، ولا بعْثَ بعدَ الموتِ ؟

كما قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] .

وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45).

وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ.

أي: وحلَلْتُم في الدُّنيا في مساكنِ الأُمَمِ السَّابقةِ، الذين ظَلَموا أنفُسَهم بكُفرِهم باللهِ تعالى .

وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ.

أي: وعَلِمتُم بالنَّظَرِ في آثارِهم، والسَّماعِ لأخبارِهم كيف أهلَكْناهم، حينَ أصَرُّوا على كُفرِهم وطُغيانِهم .

وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ.

أي: ومَثَّلْنا لكم في القُرآنِ الأمثالَ الواضِحةَ، وبيَّنَّا الأشباهَ؛ لتعتَبِروا بها، لكِنَّكم لم تفعَلوا، فالآن تَسألونَ التَّأخيرَ للتَّوبةِ يومَ أتاكم العذابُ؟! إنَّ هذا غيرُ كائنٍ أبدًا .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] .

وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ صِفةَ عِقابِ الكافرينَ؛ أتبَعَها بذِكرِ كيفيَّةِ مَكرِهم .

وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ.

أي: وقد مَكَروا مَكرَهم العظيمَ .

وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ.

أي: وعندَ اللهِ عِلمُ مَكرِهم، وجَزاءُ مَكرِهم، فسيُعاقِبُهم بما يستَحِقُّونَ .

وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ.

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ لَتَزُولُ بفتحِ اللامِ الأولى ورفعِ الثَّانية؛ فاللامُ الأولى لامُ التَّوكيدِ، والمعنى: قد كاد مَكرُهم العظيمُ يَبلُغُ مِن شِدَّتِه إلى إزالةِ الجِبالِ. وقيل: المعنى: ولو كان مَكرُهم يبلُغُ في الكيدِ إلى إزالةِ الجِبالِ، فلن يُزيلُوا دينَ اللهِ؛ فإنَّ اللهَ ناصِرٌ دِينَه .

2- قراءةُ لِتَزُولَ بكَسرِ اللام الأولى، ونصبِ الثانية، فاللامُ الأولى لامُ الجحود، أي: ما كان مكرُهم لتزولَ منه الجبالُ، والمعنى: ما كان مَكرُهم لِيَزولَ به أمرُ النبيِّ وأمرُ دينِ الإسلامِ؛ لأنَّ ثُبوتَه كثبوتِ الجِبالِ الرَّاسياتِ .

وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ.

أي: وما كان مَكرُ الكُفَّارِ بالذي تزولُ منه الجبالُ لضعفِه ووهنِه ، ولو كان مكرُهم تزولُ منه الجبالُ فلن يستطيعوا أيضًا إبطالَ دينِ الإسلامِ؛ فإنَّ الله ينصُرُ دينَه

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76] .

وقال سُبحانه: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 32، 33].

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36].

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ هذه الآيةُ بجُملتِها فيها وعيدٌ للظَّالِمينَ، وتسليةٌ للمَظلومينَ

.

2- يجِبُ على كلِّ مَن شاهدَ أحوالَ الماضِينَ مِن الأُمَمِ الخاليةِ، والقُرونِ الماضيةِ، وعَلِمَ ما جرى لهم، وكيف أُهلِكوا- أن يعتَبِرَ بهم، ويعمَلَ في خَلاصِ نَفسِه من العقابِ والهَلاكِ؛ قال الله تعالى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ فيه سؤالٌ: كيف يليقُ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يحسَبَ اللهَ مَوصوفًا بالغَفلةِ؟

والجوابُ مِن وجوهٍ:

الوجه الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ به التَّثبيتُ على ما كان عليه مِن أنَّه لا يحسَبُ اللهَ غافِلًا، كقوله: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14] ، ووَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [القصص: 88] .

الوجه الثاني: أنَّ المقصودَ منه بيانُ أنَّه لو لم ينتقِمْ لكان عدمُ الانتقامِ لأجلِ غَفلتِه عن ذلك الظُّلمِ، ولَمَّا كان امتناعُ هذه الغَفلةِ معلومًا لكُلِّ أحدٍ، لا جرَمَ كان عدَمُ الانتقامِ مُحالًا.

الوجه الثالثُ: أنَّ المُرادَ: ولا تحسَبَنَّه يُعامِلُهم مُعاملةَ الغافِلِ عمَّا يعملونَ، ولكِنْ مُعاملةَ الرَّقيبِ عليهم، المُحاسِبِ على النَّقيرِ والقِطميرِ.

الوجه الرابعُ: أن يكونَ هذا الكلامُ وإن كان خطابًا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الظَّاهِرِ، إلَّا أنَّه يكونُ في الحقيقةِ خِطابًا مع الأمَّةِ

.

الوجه الخامسُ: أنَّ نهيَه عنه تحذيرٌ مِن التلبسِ به، بقطعِ النظرِ عن تقديرِ تلبُّسِ المخاطَبِ بذلك الحسبانِ .

2- في قَولِه تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ سُمِّيَ جزاءُ المَكرِ مَكرًا؛ تنبيهًا على أنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العمَلِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ

- قولُه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ المُرادُ بالنَّهيِ عن حُسبانِه غافلًا: الإيذانُ بأنَّه عالِمٌ بما يفعَلُ الظَّالمونَ، لا يخْفى عليه مِنْهُ شيءٌ، وأنَّه مُعاقِبُهم على قليلِه وكثيرِه، على سبيلِ الوعيدِ والتَّهديدِ

، وصِيغَةُ لَا تَحْسَبَنَّ ظاهِرُها نهْيٌ عن حُسبانِ ذلك، وهذا النَّهيُ كِنايةٌ عن إثباتِ وتَحقيقِ ضدِّ المَنْهيِّ عنه في المقامِ الَّذي مِن شأنِه أنْ يُثيرَ للنَّاسِ ظنَّ وُقوعِ المَنْهيِّ عنه؛ لِقوَّةِ الأسبابِ المثيرةِ لذلك؛ وذلك أنَّ إمهالَهم، وتأْخيرَ عُقوبتِهم يُشبِهُ حالةَ الغافلِ عن أعمالِهم، أي: تحقَّقْ أنَّ اللهَ ليس بغافلٍ، وهو كِنايةٌ ثانيةٌ عن لازِمِ عدَمِ الغفلةِ، وهو المُؤاخذةُ، فهو كِنايةٌ بمرتبتَينِ؛ ذلك لأنَّ النَّهيَ عن الشَّيءِ يُؤذِنُ بأنَّ المَنْهيَّ عنه بحيثُ يَتلبَّسُ به المُخاطَبُ، فنهْيُه عنه تحذيرٌ مِن التَّلبُّسِ به بقطْعِ النَّظرِ عن تقديرِ تلبُّسِ المُخاطَبِ بذلك الحُسبانِ. وعلى هذا الاستِعمالِ جاءتِ الآيةُ، سواءٌ جعَلْنا الخِطابَ لكلِّ مَن يصِحُّ أنْ يُخاطَبَ؛ فيدخُلُ فيه النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، أمْ جعَلْناه للنَّبيِّ ابتداءً، ويدخُلُ فيه أُمَّتُه. ونفْيُ الغفلةِ عنِ اللهِ ليس جاريًا على صَريحِ معناه؛ لأنَّ ذلك لا يظُنُّه مُؤمنٌ، بل هو كِنايةٌ عنِ النَّهيِ عنِ استعجالِ العَذابِ للظَّالمينَ، ومنه جاء معنى التَّسليةِ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ففي قولِه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ تسليةٌ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووعْدٌ له أكيدٌ، ووعيدٌ شَديدٌ للكَفَرةِ وسائرِ الظَّالمينَ، أو لكلِّ أحدٍ ممَّن يَستعجِلُ عذابَهم أو يتوهَّمُ إهمالَهم؛ للجهْلِ بصِفاتِه تعالى والاغترارِ بإمهالِه .

- قولُه: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ استِئنافٌ وقَعَ تعليلًا للنَّهيِ السَّابقِ ، وإيقاعُ التَّأخيرِ عليهم مع أنَّ المؤخَّرَ إنَّما هو عذابُهم؛ لِتهويلِ الخطْبِ، وتفظيعِ الحالِ، ببيانِ أنَّهم مُتوجِّهونَ إلى العذابِ، مُرْصَدونَ لأمْرٍ ما، لا أنَّهم باقونَ باختِيارِهم، وللدَّلالةِ على أنَّ حقَّهم مِن العذابِ هو الاستئصالُ بالمرَّةِ، وألَّا يَبْقَى منهم في الوُجودِ عَينٌ ولا أثَرٌ، ولو قيل: (إنَّما يُؤَخِّرُ عذابَهم...) لَمَا فُهِمَ ذلك .

2- قوله تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ

- قولُه: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ كِنايةٌ عن هوْلِ ما شاهَدُوه، بحيثُ يَبقُونَ ناظرينَ إليه، لا تطْرِفُ أعينُهم، والمعنى: لا يَرجِعُ إليهم، أي: لا يعودُ إلى مُعتادِه، أي: لا يستطيعونَ تحويلَه .

- وقولُه: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ تَشبيهٌ محْضٌ؛ لأنَّ أفئدتَهم ليستْ بهواءٍ حقيقةً، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ التَّشبيهُ في فراغِها مِن الرَّجاءِ والطَّمَعِ في الرَّحمةِ؛ فهي مُنخَرِقةٌ مُشْبِهةٌ الهواءَ في تفرُّغِه مِن الأشياءِ وانخراقِه، وأنْ يكونَ في اضْطرابِ أفئدتِهم، وجَيَشانِها في الصُّدورِ، وأنَّها تَجِيءُ وتذهَبُ وتبلُغُ- على ما رُوِيَ- حناجِرَهم، فهي في ذلك كالهواءِ الَّذي هو أبدًا في اضْطرابٍ .

3- قوله تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ

- قولُه: وَأَنْذِرِ النَّاسَ على القولِ بأنَّ المرادَ بالناسِ: الكفارُ المعبَّرُ عنهم بالظالمينَ ففيه العُدولُ مِن الإضمارِ- حيثُ لم يقُلْ: (وأنذِرْهم)- إلى ذكْرِ النَّاسِ بقولِه: وَأَنْذِرِ النَّاسَ؛ للإشعارِ بأنَّ المُرادَ بالإنذارِ هو الزَّجرُ عمَّا هم عليه مِن الظُّلمِ؛ شفقةً عليهم، لا التَّخويفُ للإزعاجِ والإيذاءِ؛ فالمُناسِبُ عدَمُ ذكْرِهم بعنوانِ الظُّلمِ. وعلى القول بأنَّ المرادَ: النَّاسُ جميعًا: فإنَّ الإنذارَ عامٌّ للفريقَينِ، كقولِه تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] ، والإتيانُ يعُمُّهما مِن حيثُ كونُهما في الموقِفِ، وإنْ كان لُحوقُه بالكُفَّارِ خاصَّةً، أي: أنذِرْهم وخوِّفْهم .

- وإنَّما خَصَّهم بيومِ العذابِ فقال: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ - وإن كان يومَ الثَّوابِ- لأنَّ الكلامَ خرجَ مَخرجَ التَّهديدِ للعاصي .

- قولُه: فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا، أي: فيقولونَ؛ ففيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ، والعُدولُ عن المُضمَرِ إلى ما عليه النَّظمُ الكريمُ؛ للتَّسجيلِ عليهم بالظُّلمِ، وللإشعارِ بأنَّ ما لَقُوه مِن الشِّدَّةِ إنَّما هو لِظُلمِهم، وإيثارُه على صِيغَةِ الفاعِلِ (الظَّالِمونَ) حسْبَما ذُكِرَ أوَّلًا؛ للإيذانِ بأنَّ الظُّلمَ في الجُملةِ كافٍ في الإفضاءِ إلى ما ذُكِرَ مِن الأهوالِ مِن غيرِ حاجةٍ إلى الاستمرارِ عليه، كما يُنْبِئُ عنه صِيغَةُ الفاعِلِ. وعلى تقديرِ كونِ المُرادِ بالنَّاسِ مَن يعُمُّ المُسلمينَ أيضًا؛ فالمعنى: الَّذين ظلَموا منهم، وهم الكُفَّارُ، أو يقولُ كلُّ مَن ظلَمَ بالشِّركِ والتَّكذيبِ مِن المُنذَرينَ وغيرِهم مِن الأُمَمِ الخاليةِ؛ فإنَّ إتيانَ العذابِ يعُمُّهم، كما يُشْعِرُ بذلك وعْدُهم باتِّباعِ الرُّسلِ .

- قولُه: أَوَلَمْ تَكُونُوا استِفهامٌ معناه التَّوبيخُ والتَّقريعُ .

- وصِيغَةُ الخِطابِ في جوابِ القسَمِ مَا لَكُمْ؛ لِمُراعاةِ حالِ الخطابِ في أَقْسَمْتُمْ، كما يُقال: حلَفَ باللهِ لَيَخْرُجَنَّ، وهو أَدْخَلُ في التَّوبيخِ مِن أنْ يُقالَ: ما لنا؛ مُراعاةً لِحالِ المُقسِمِ؛ فجاء على إرادةِ القولِ، ومَا لَكُمْ جوابُ القسَمِ، جاءَ بلفْظِ الخِطابِ على المُطابَقةِ دونَ الحكايةِ، والمعنى: أقسَمْتُم أنَّـكم باقونَ في الدُّنيا لا تُزَالُونَ بالموتِ، ولعلَّهم أقْسَموا بطَرًا وغُرورًا، أو دلَّ عليه حالُهم، حيث بَنَوْا شديدًا، وأمَّلوا بعيدًا .

- وافْتُتِحَت جُملةُ الجوابِ أَوَلَمْ بواوِ العَطفِ؛ تَنبيهًا على مَعطوفٍ عليه مُقدَّرٍ هو رفْضُ ما سأَلوه؛ حُذِفَ إيجازًا؛ لأنَّ شأْنَ مُستحِقِّ التَّوبيخِ ألَّا يُعْطَى سُؤْلَه، والتَّقديرُ: كلَّا وأَلَمْ تكونوا أقسَمْتُم... إلخ .

4- قولُه تعالى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ هذا مِن الاستِطرادِ، وهو التَّعريضُ بِعَيبِ إنسانٍ بذِكْرِ عَيبِ غيرِه .

- قولُه: كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ فيه مِن المُبالَغةِ ما ليس في أنْ يُقالَ: (ما فعَلْنا بهم) ، والتَّعبيرُ بـ فَعَلْنَا مَحمولٌ على الوَعيدِ الشَّديدِ .

5- قوله تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ

- قولُه: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ فيه تَعريضٌ بالوعيدِ والتَّهديدِ بالمُؤاخذةِ بِسُوءِ فعْلِهم، أو هو وَعيدٌ بالجزاءِ على مكْرِهم .

- قولُه: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ هذا مِن بابِ الغُلُوِّ والإيغالِ والمُبالَغةِ في ذمِّ مكْرِهم .

- قولُه: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ على قِراءةِ الجمهورِ لِتَزُولَ- بكسرِ اللامِ وبنَصبِ الفِعلِ المضارِع بعدَها- فتكونُ (إنْ) نافيةً، ولامُ لِتَزُولَ لامَ الجُحودِ، أي: وما كان مكْرُهم زائلةً منه الجبالُ، وهو استخفافٌ بهم، أي: ليس مكْرُهم بمُتجاوِزٍ مكْرَ أمثالِهم، وما هو بالَّذي تزولُ منه الجبالُ. وفي هذا تعريضٌ بأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمُسلمينَ الَّذين يريدُ المُشركونَ المكْرَ بهم لا يُزَعْزِعُهم مكْرُهم؛ لأنَّهم كالجبالِ الرَّواسي ، وجُعِلَتْ (إنْ) نافيةً، واللَّامُ مُؤكِّدةً لها، والمعنى: ومُحالٌ أنْ تزولَ الجبالُ بمكْرِهم

======================

 

سورةُ إبراهيمَ

الآيات (47-52)

ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ

غريب الكلمات:

 

مُقَرَّنِينَ: أي: مَشدُودينَ، قد قُرِنَ بعضُهم إلى بعضٍ، أو قُرِنَت أيديهم وأرجلُهم إلى رِقابِهم، وأصلُ (قرن): يدُلُّ على جمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ

.

الْأَصْفَادِ: أي: الأغلالِ والقُيودِ، وأصلُ (صفد): يدلُّ على شَدٍّ بشَيءٍ .

سَرَابِيلُهُمْ: أي: قُمُصُهم، واحِدُها: سِربالٌ، وهو القَميصُ مِن أيِّ جِنسٍ كان .

قَطِرَانٍ: القَطِرانُ: مادَّةٌ حارَّةٌ، سَوداءُ اللَّونِ، نَتِنةُ الرَّائِحةِ، شديدةُ الاشتعالِ، تُطلَى بها جُلودُ الإبِلِ الجَربَى؛ لِيَزولَ الجَرَبُ منها .

وَتَغْشَى: أي: تَلفَحُ وتَعلو وتغطِّي، وأصلُ (غشي): يدُلُّ على تغطيةِ شَيءٍ بشَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالَى: فلا تظُنَّ - يا محمَّدُ- أنَّ اللهَ مخلفُ رُسُلِه ما وعَدَهم به من النَّصرِ على أعدائِهم؛ إنَّ اللهَ قَويٌّ قاهِرٌ لا يُغالَبُ، ولا يمتَنِعُ عليه شيءٌ أراده، مُنتَقِمٌ مِن أعدائِه أشَدَّ انتقامٍ، يومَ تُبَدَّلُ صفاتُ هذه الأرضِ إلى صفاتٍ أخرَى، وكذلك تُبَدَّلُ السَّمواتُ، ويخرُجُ الناسُ مِن قُبورِهم أحياءً ظاهرينَ لِلقاءِ اللهِ المتفَرِّدِ بالمُلْك والخَلقِ والتَّدبيرِ، والعَظَمةِ والكمالِ، الذي قهَرَ كُلَّ خَلْقِه، فهم تحتَ تصَرُّفِه وتَدبيرِه وحُكمِه، وترى- يا محمدُ- الكافرينَ يومَ القيامةِ مُقَيَّدينَ بالقيودِ، ثِيابُهم مِن القَطِرانِ الشَّديدِ الاشتعالِ، وتلفَحُ وُجوهَهم النَّارُ فتَحرِقُها، يفعَل اللهُ ذلك بهم؛ ليكونَ في ذلك جزاءٌ للمُسيءِ على إساءتِه، واللهُ يجازي كلَّ إنسانٍ بما عَمِلَ مِن خيرٍ أو شَرٍّ، إنَّ اللهَ سَريعُ الحسابِ.

هذا القرآنُ الذي أنزَلْناه إليك- أيُّها الرَّسولُ- بلاغٌ وإعلامٌ للنَّاسِ؛ وكفايةٌ لهم به يتبلَّغونَ؛ للوُصولِ إلى أعلى المَقاماتِ والدَّرَجاتِ، أنزلناه ليُخَوَّفَوا به عِقابَ اللهِ، ويُحَذَّروا من نقمتِه، وليعلموا أنَّ اللهَ المعبودَ بحقٍّ إلهٌ واحِدٌ، لا يستحِقُّ غيرُه العبادةَ، وليتَّعِظَ أصحابُ العُقولِ السَّليمةِ.

تفسير الآيات:

 

فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47).

فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ.

أي: فلا تظُنَّ اللهَ- يا مُحمَّدُ- مُخلِفَ رُسُلِه ما وعَدَهم من النُّصرةِ لهم ولأتباعِهم، وإهلاكِ أعدائِهم، وخِذلانِهم في الدُّنيا والآخرةِ

.

كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] .

وقال سُبحانه: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر: 20] .

إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ .

أي: إنَّ اللهَ قَويٌّ قاهِرٌ لا يُغالَبُ، ولا يمتَنِعُ عليه شيءٌ أراده، مُنتقِمٌ مِن أعدائِه الكافرينَ .

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قال اللهُ تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ، بيَّنَ وقتَ انتقامِه .

وأيضًا لَمَّا تقَرَّرَت عظَمةُ ذلك اليومِ الذي تشخَصُ فيه الأبصارُ، وكان أعظَمَ يومٍ يظهَرُ فيه الانتقامُ؛ بيَّنَه بقَولِه تعالى :

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ .

أي: إنَّه تعالى ذو انتقامٍ مِن الكافرينَ حينَ تتبدَّلُ صِفاتُ هذه الأرضِ إلى صفاتٍ أُخرَى، ومِن ذلك نَسْفُ جِبالِها، وتفجيرُ بحارِها، وذَهابُ أوديتِها وأشجارِها، وجميعِ ما عليها مِن عِمارةٍ وغَيرِها، فلا يبقَى على وَجهِها شيءٌ، وتُبسَطُ وتُمدُّ مَدًّا، وتتبدَّلُ صِفاتُ هذه السَّمواتِ كذلك إلى صفاتٍ أُخرَى، ومن ذلك انتِثارُ كواكِبِها، وكسوفُ شَمسِها، وخُسوفُ قَمَرِها، وانشقاقُها وغيرُ ذلك .

كما قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [طه: 105-107] .

وقال جلَّ جلالُه: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور: 9-10].

وقال عزَّ وجلَّ: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [المعارج: 8- 9] .

وقال سُبحانه وتعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ [المرسلات: 8-10] .

وقال تبارك وتعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير: 1-3] .

وقال عزَّ مِن قائلٍ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ [الانشقاق: 1-4] .

وعن سَهلِ بنِ سعدٍ السَّاعديِّ رَضِيَ الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ على أرضٍ بَيضاءَ عَفراءَ ، كقُرصةِ النَّقِيِّ ، ليس فيها عَلَمٌ لأحدٍ )) .

وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.

أي: وخرجَ النَّاسُ مِن قُبورِهم أحياءً ظاهِرينَ- لا يُوارِيهم شَيءٌ مِن بِناءٍ أو غيرِه- لِلَّهِ المتفَرِّدِ بالمُلْك والخَلقِ والتَّدبيرِ، والعَظَمةِ والكمالِ، الذي قهَرَ كُلَّ خَلْقِه، فهم تحتَ تصَرُّفِه وتَدبيرِه وحُكمِه .

كما قال تعالى: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] .

وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) .

أي: وترى- يا محمَّدُ- الكافرينَ يومَ القيامةِ مُقَيَّدينَ بالأغلالِ والقُيودِ .

كما قال تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان: 13] .

وقال سُبحانه: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر: 70 - 72] .

سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50).

سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ.

أي: ثيابُهم التي يَلبَسونَها مِن القَطِرانِ .

عن أبي مالكٍ الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((النَّائِحةُ إذا لم تتُبْ قبل مَوتِها تُقامُ يومَ القيامةِ وعليها سِربالٌ مِن قَطِرانٍ، ودِرعٌ مِن جَرَبٍ ) .

وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ.

أي: وتلفَحُ وُجوهَ المُجرِمينَ النَّارُ، فتُحيطُ بها مِن كُلِّ جانبٍ، وتَحرِقُها .

كما قال تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [الأنبياء: 39-40] .

وقال سُبحانه: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون: 104] .

لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51).

لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ .

أي: يفعَلُ اللهُ بالمُجرِمينَ ما يفعَلُ؛ ليكونَ في ذلك جزاءٌ للمُسيءِ على إساءتِه، لا ظُلمًا منه سُبحانه، وكما يعاقِبُ من أساء يُثيبُ من أحسَنَ وأطاع .

كما قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 4] .

وقال سُبحانه: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] .

إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.

أي: إنَّ اللهَ سَريعُ المُحاسَبةِ لعبادِه يومَ القيامةِ، لا يخفَى عليه شيءٌ مِن أعمالِهم .

هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا اشتَمَلت هذه السُّورةُ على ما قَرَع السَّمعَ مِن هذه المواعِظِ والأمثالِ والحِكَم التي أبكَمَت البُلَغاءَ، وأخرَسَت الفُصَحاءَ، وبَهَرت العُقولَ؛ تَرجَمَها سُبحانَه بما يصلُحُ عُنوانًا لجميعِ القُرآنِ، فقال تعالى :

هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ.

أي: هذا القُرآنُ تَبليغٌ مِن اللهِ تعالى إلى جميعِ النَّاسِ؛ لإقامةِ الحُجَّةِ عليهم، والإعذارِ إليهم ، وهو كفايةٌ لهم في الموعظةِ والتذكيرِ ، وبه يتبلَّغونَ، ويتزوَّدونَ للوُصولِ إلى أعلى المَقاماتِ والدَّرَجاتِ .

كما قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] .

وقال سُبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] .

وَلِيُنْذَرُوا بِهِ .

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لما كان متعلقُ البلاغِ يتضمَّنُ البشارةَ؛ عُطِف عليه النذارةُ ، فقال تعالى:

وَلِيُنْذَرُوا بِهِ .

أي: وأنزَلْنا القُرآنَ ليُخَوَّفَ النَّاسُ به عِقابَ اللهِ، ويُحَذَّروا من نقمتِه .

كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الأنعام: 92] .

وقال سُبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] .

وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ .

أي: وليعلمَ النَّاسُ بحُجَجِ القرآنِ وبَراهينِه أنَّ اللهَ المعبودَ بحَقٍّ إلهٌ واحِدٌ، لا يستحِقُّ غيرُه العبادةَ .

كما قال تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود: 1-2] .

وقال سُبحانه: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء: 108] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت: 6] .

وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ.

أي: وليتذَكَّرَ ويتَّعِظَ أصحابُ العُقولِ السَّليمةِ بهذا القرآنِ، فيَهتَدوا إلى العمَلِ بما ينفَعُهم، وتَرْكِ ما يضُرُّهم

 

.

كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .

وقال سُبحانه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت: 44] .

الفوائد التربوية:

 

 

- قال الله تعالى: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ- أي: العُقولِ الكاملةِ- ما ينفَعُهم فيفعَلوه، وما يضُرُّهم فيتركوه، وبذلك صاروا أولي الألبابِ والبَصائِرِ؛ إذ بالقُرآنِ ازدادت معارِفُهم وآراؤُهم، وتنوَّرَت أفكارُهم لَمَّا أخَذُوه غَضًّا طَرِيًّا، فإنَّه لا يدعو إلَّا إلى أعلى الأخلاقِ والأعمالِ وأفضَلِها، ولا يستدلُّ على ذلك إلَّا بأقوى الأدلَّةِ وأبيَنِها، وهذه القاعدةُ إذا تدَرَّبَ بها العبدُ الذَّكيُّ، لم يزَلْ في صعودٍ ورُقِيٍّ على الدَّوامِ في كلِّ خَصلةٍ حَميدةٍ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- أنَّ اللهَ تعالى قال في الآيةِ الأُولَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: 42] ، وقال في هذه الآيةِ: فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ والمقصودُ منه التنبيهُ على أنَّه تعالى لو لم يُقِمِ القيامةَ، ولم ينتقِمْ للمظلومينَ مِن الظَّالِمينَ، لزِمَ إمَّا كونُه غافِلًا، وإمَّا كَونُه مُخلِفًا في الوعدِ، ولَمَّا تقَرَّرَ في العقولِ السَّليمةِ أنَّ كُلَّ ذلك مُحالٌ، كان القولُ بأنَّه لا يقيمُ القيامةَ، باطِلًا

.

2- إنَّما قال اللهُ تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ مع كونِه سُبحانَه عالِمًا بهم، لا تخفَى عليه خافيةٌ مِن أحوالِهم، برَزوا أو لم يَبرُزوا؛ لأنَّهم كانوا يستَتِرونَ عن العُيونِ عند فِعلِهم للمعاصي، ويظنُّونَ أنَّ ذلك يخفَى على اللهِ تعالى، فالكلامُ خارِجٌ على ما يعتَقِدونَه .

3- قولُ الله تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ لَمَّا عَظُمَ الأمرُ بإسنادِ الجَزاءِ إلى الاسمِ الأعظَمِ الجامِعِ لجميعِ صِفاتِ الكَمالِ، اقتضَى ذلك أن يكونَ نَفسُ الكسبِ هو الجزاءَ؛ لأنَّ ذلك أبدَعُ وأدَقُّ في الصُّنعِ، وأبرَعُ بأن يُصَوَّرَ بما يَحِقُّ من الصُّوَرِ المَليحةِ عند إرادةِ الثوابِ، والقبيحةِ عند إرادة العِقابِ .

4- اللهُ سُبحانَه حَكيمٌ لا يفعَلُ شَيئًا عَبَثًا، ولا لغَيرِ معنًى ومَصلحةٍ، وحِكَمُه هي الغايةُ المقصودةُ بالفِعلِ، بل أفعالُه سُبحانَه صادِرةٌ عن حِكمةٍ بالغةٍ لأجْلِها فعَلَ، كما هي ناشِئةٌ عن أسبابٍ بها فَعَل، وقد دلَّ كَلامُه وكلامُ رَسولِه على هذا، ومن ذلك قَولُه تعالى: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ .

5- في قول الله تعالى: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ذكَرَ الله لِهذا البلاغِ ثلاثَ فوائدَ هي الغايةُ والحكمةُ في إنزالِ الكتُبِ: تكميلَ الرُّسلِ للنَّاسِ، واستكمالَ القوَّةِ النَّظريَّةِ الَّتي مُنْتهى كَمالِها التَّوحيدُ، واستصلاحَ القوَّةِ العَمليَّةِ الَّذي هو التَّدرُّعُ بِلِباسِ التَّقوى، جعَلَنا اللهُ تعالى مِن الفائزينَ بهما، فقوله: بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي: كفايةٌ لهم في الموعظةِ. وَلِيُنْذَرُوا بِهِ عطفٌ على محذوفٍ، أي: لينصحوا ولينذروا بهذا البلاغِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ بالنظرِ والتأملِ فيما فيه مِن الآياتِ الدالةِ عليه، أو المنبِّهةِ على ما يدلُّ عليه وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ فيرتَدِعوا عما يُرْديهم، ويتدرَّعوا بما يُحْظيهم .

6- بيَّنَ الله تعالى بقوله: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ أنَّه إنما أنزَلَ هذه الكُتُبَ، وإنما بعَثَ الرُّسُلَ؛ لتذكيرِ أولي الألبابِ، فلولا الشَّرفُ العَظيمُ والمرتبةُ العاليةُ لأولي الألبابِ، لَما كان الأمرُ كذلك

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ

- قولُه: فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ أصْلُه: مُخلِفَ رُسلِه وعدَه، وإنَّما قال ذلك، وقدَّمَ المفعولَ الثَّانيَ على الأوَّلِ؛ فقدَّمَ الوعْدَ؛ لِيُعْلَمَ أنَّه لا يُخلِفُ الوعْدَ أصلًا، كقولِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 9] ، ثمَّ قال: رُسُلَهُ؛ لِيُؤذِنَ أنَّه إذا لم يُخْلِفْ وعدَه أحدًا، وليس مِن شأنِه إخلافُ المواعيدِ؛ فكيف يُخْلِفُه رُسلَه الَّذين هم خِيرتُه وصفوتُه

؟!

- وجُملةُ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ تَعليلٌ للنَّهيِ المذكورِ، وتذييلٌ له، وحيثُ كان الوعْدُ عبارةً عن تَعذيبِهم خاصَّةً، لم يُذَيَّلْ بأنْ يُقالَ: (إنَّ اللهَ لا يخلِفُ الميعادَ)، بل تَعرَّضَ لِوصْفِ العزَّةِ والانتقامِ المُشعرَيْنِ بذلك .

2- قولُه تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ استِئنافٌ لِزيادةِ الإنذارِ بيومِ الحسابِ؛ لأنَّ في هذا تَبْيينَ بَعضِ ما في ذلك اليومِ مِن الأهوالِ .

- وفي قولِه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ مَحذوفٌ، أي: غيرَ السَّمواتِ؛ حُذِفَ لدَلالةِ ما قبلَه عليه .

- قولُه: وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ التَّعرُّضُ للوصفَيْنِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الأمْرَ في غايةِ الصُّعوبةِ، ولِتهويلِ الخطْبِ، وتَربيةِ المَهابةِ، وإظهارِ بُطلانِ الشِّركِ، وتَحقيقِ الانتقامِ في ذلك اليومِ، على تقديرِ كونِه ظرفًا له، وتَحقيقِ إتيانِ العذابِ الموعودِ، على تَقديرِ كونِه بدلًا مِن يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ؛ فإنَّ الأمْرَ إذا كان لواحدٍ غلَّابٍ لا يُعَازُّ، وقادرٍ لا يُضارُّ، كان في غايةِ ما يكونُ مِن الشِّدَّةِ والصُّعوبةِ .

3- قوله تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ

- قولُه: وَتَرَى فيه العُدولُ إلى صِيغَةِ المُضارِعِ؛ لاستِحضارِ الصُّورةِ، أو للدَّلالةِ على الاستِمرارِ .

4- قوله تعالى: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ

- قولُه: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ خَصَّ الوُجوهَ هنا؛ لأنَّ الوجْهَ أعزُّ مَوضِعٍ في ظاهِرِ البدَنِ وأشرَفُه، كالقلْبِ في باطنِه ؛ فلهذا السَّببِ خصَّ اللهُ تعالى هذين العُضوينِ بظُهورِ آثارِ العِقابِ فيهما، فقال في القلبِ: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: 6- 7] ، وقال في الوجهِ: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: 50] ؛ فالوجهُ لَمَّا كان أشرَفَ ما في الإنسانِ- فإهانتُه إهانةٌ عظيمةٌ لصاحِبِه- ذكَرَه وقَدَّمَه؛ تعجيلًا لإفهامِ الإهانةِ .

5- قوله تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

- قولُه: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ فيه مَحذوفٌ، والتَّقديرُ: كلَّ نفْسٍ مُجْرِمةٍ، أو كلَّ نفْسٍ مِن مُجْرِمةٍ ومُطيعَةٍ؛ لأنَّه إذا عاقَبَ المُجرمينَ لِإجرامِهم، عُلِمَ أنَّه يُثيبُ المُطيعينَ لِطاعتِهم، واكتُفِيَ بذكْرِ عِقابِ العُصاةِ؛ تعويلًا على شهادةِ الحالِ، لا سيَّما مع مُلاحظةِ سبْقِ الرَّحمةِ الواسعةِ .

- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ مُستأنَفَةٌ؛ إمَّا لِتحقيقِ أنَّ ذلك واقعٌ، وإمَّا استئنافٌ ابتدائيٌّ، وأُخِّرَتْ إلى آخِرِ الكلامِ؛ لِتقديمِ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ إذا قُدِّرَ معمولًا لها .

6- قوله تعالى: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ

- قولُه: وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ أي: ولِيعْلَموا ممَّا ذُكِرَ فيه مِن الأدلَّةِ: ما اللهُ إلَّا إلهٌ واحدٌ، أي: مَقصورٌ على الإلهيَّةِ المُوحَّدةِ، وهذا قصْرُ موصوفٍ على صِفَةٍ .

- وقد رُتِّبَت صِفاتُ الآياتِ المُشارِ إليها باسمِ الإشارةِ هَذَا على تَرتيبٍ عقليٍّ بحسَبِ حُصولِ بعضِها عَقِبَ بعضٍ؛ فابْتُدِئَ بالصِّفةِ العامَّةِ، وهي حُصولُ التَّبليغِ، ثمَّ ما يَعقُبُ حُصولَ التَّبليغِ مِن الإنذارِ، ثمَّ ما ينشَأُ عنه مِن العِلْمِ بالوحدانيَّةِ؛ لِمَا في خِلالِ هذه السُّورةِ مِن الدَّلائلِ، ثمَّ بالتَّذكيرِ في ما جاء به ذلك البلاغُ، وهو تفاصيلُ العِلْمِ والعمَلِ، وهذه المَراتبُ هي جامِعُ حِكمةِ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُوَزَّعة على مَن بلَّغَ إليهم، ويختَصُّ المُسلمونَ بمضمونِ قولِه: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ 

قلت المدون التالي يمشيئة الله هو

 {15 الحجر مكية 99 }

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...