الخميس، 18 يناير 2024

7.سورة الأعراف ج3.{206 مكية}

 

7.سورة الأعراف ج3.{206 مكية} 

 سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (161-162)

ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ

غريب الكلمات:

 

حِطَّةٌ: أي: طَلَبُنا أن تحُطَّ عنَّا ذنوبَنا، وأصلُ الحطِّ: إنزالُ الشَّيءِ مِن علوٍّ

 

سُجَّدًا: أي: رُكَّعًا، والسُّجُودُ أصلُه: التَّطامُن والتَّذلُّل، وجُعِلَ ذلك عبارةً عن التَّذلُّلِ لله، وعبادَتِه، وهو عامٌّ في الإنسانِ والحيواناتِ والجَماداتِ .

خَطِيئَاتِكُمْ: جمعُ خطيئةٍ، وهي فعيلةٌ مِن الخطأِ، وهو العُدولُ عن القَصدِ والجِهةِ؛ يقال: خَطِئَ الرجلُ يَخْطَأُ خِطْأً: إذا تعمَّدَ الذَّنبَ

المعنى الإجمالي:

واذكرُ- يا محمَّدُ- إذ قال اللهُ لِقَومِ موسى: اسكُنوا بيتَ المَقدِس، وكُلوا مِن ثِمارِها وحُبوبِها ونَباتِها في أيِّ مكانٍ شِئتُم منها، وقولوا: مسألَتُنا يا ربَّنا أن تحُطَّ ذُنوبَنا، وادخُلوا بابَ القريةِ ركَّعًا متواضعينَ خاضعينَ للهِ، نَغْفِرْ لكم ذُنوبَكم، وسنزيدُ المُحسنينَ.

فغَيَّرَ الذين ظَلَموا مِن قَومِ موسى قولًا غيرَ الذي أُمِرُوا أن يقولوه، فأرسَلَ اللهُ عليهم عذابًا مِن السَّماءِ؛ بسبَبِ ظُلمِهم لأنفُسِهم بالمعاصي.

تفسير الآيتين:

 

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكرَ اللهُ تعالى ما حَباهم في القِفارِ؛ أتبَعَه إنعامَه عليهم عند الوُصولِ إلى الدَّارِ، فقال سبحانه

:

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ

أي: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين قال اللهُ تعالى لقَومِ موسى لَمَّا خَرَجوا مِن مِصرَ: اسكنُوا مدينةَ بيتِ المَقدِس، واستوطِنُوها .

كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة: 20-22] .

وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ

أي: قال الله لِقَومِ موسى: وكُلُوا مِن ثِمارِ هذه القَريةِ وحُبوبِها ونَباتِها، في أيِّ مكانٍ شِئتُم منها .

وَقُولُوا حِطَّةٌ

أي: وقولوا: طَلَبُنا ومسألَتُنا- يا ربَّنا- أن تحُطَّ ذُنوبَنا .

وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا

أي: وادخُلوا بابَ القَريةِ رُكَّعًا مُنحَنينَ مُتواضِعينَ، وخاضِعينَ لله تعالى .

نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ

أي: إذا قُمتم بما أمَرَكم اللهُ تعالى به فقُلتم: حِطَّةٌ، ودخَلْتُم بابَ القَريةِ ساجِدينَ؛ فإنَّنا نستُرُ جميعَ ذُنوبِكم، ونتجاوَزُ عن مؤاخَذَتِكم بها .

سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ

أي: سنزيدُ المُطيعينَ لله، الذين أحسَنوا أعمالَهم، وأتقَنوها بمراقبةِ اللهِ تعالى فيها، فعَبَدوه كأنَّهم يَرونَه؛ سنزيدُهم على مَغفِرَتِنا لذُنوبهم، ثوابًا مِن خيرِ الدُّنيا والآخِرة .

كما قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60].

وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] .

وقال عزَّ وجلَّ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ [النحل: 30] .

وقال جلَّ جلالُه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

وقال تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: 20] .

وقال سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا [الشورى: 23] .

وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بارزًا يومًا للنَّاسِ، فأتاه جبريلُ، فقال: ما الإحسانُ؟ قال: أن تعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنَّه يراك )) .

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ

أي: فغيَّرَ الظَّالمون مِن قَومِ موسى ما أمَرَهم اللهُ أن يَقولوه ليغفِرَ لهم ذُنوبَهم، فقالوا بدَلَ حِطَّة: حَبَّةٌ في شَعرةٍ !!

عن أبي هريرةَ رَضيَ الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قيل لبني إسرائيلَ: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة: 58] فبدَّلوا، فدَخَلوا يزحَفونَ على أسْتاهِهم، وقالوا: حبَّةٌ في شَعرة )) .

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ

أي: فبَعَثْنا على الذين بدَّلوا ما أمَرَهم الله به، عذابًا نزَلَ عليهم من السَّماءِ؛ إمَّا الطَّاعونَ، وإمَّا غيرَه .

كما قال تعالى: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [البقرة: 59] .

وقال سبحانه: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [العنكبوت: 34] .

وعن أسامةَ بنِ زيدٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الطَّاعونُ رِجزٌ أو عذابٌ أُرسِلَ على بني إسرائيلَ، أو على مَن كان قَبلَكم، فإذا سَمِعتُم به بأرضٍ، فلا تَقدَمُوا عليه، وإذا وقَعَ بأرضٍ وأنتم بها، فلا تَخرُجوا فرارًا منه )) .

بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ

أي: أرسَلْنا على قومِ موسى العذابَ؛ بسبَبِ ظُلمِهم لأنفسِهم بمعصيةِ اللهِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

قولُ اللهِ تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ العبرةُ فيه أن نتَّقيَ الظُّلمَ والفِسقَ، ونَعلَمَ أنَّ اللهَ يُعاقِبُ الأمَمَ على ذُنوبِها في الدُّنيا قبل الآخرةِ، وأنَّه قد عاقب بني إسرائيلَ بِظُلمِهم، ولم يَحُلْ دون عقابِه ما كان لهم مِن المزايا والفضائِلِ، وكثرةِ وُجودِ الأنبياءِ فيهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ عبَّرَ هنا بالمجهولِ في قيل أي: مِن أيِّ قائلٍ كان، وبأيِّ صيغةٍ ورَدَ القَولُ، وعلى أيِّ حالةٍ كان؛ وذلك إعراضًا عن تلذيذِهم بالخِطابِ؛ إيذانًا بأنَّ هذا السِّياقَ للغَضَبِ عليهم؛ بتساقُطِهم في الكُفرِ، وإعراضِهم عن الشُّكر، وإظهارًا للعَظَمةِ؛ حيث كانت أدنى إشارةٍ منه كافيةً في سُكناهم في البِلادِ، واستقرارِهم فيها، قاهِرينَ لأهلِها الذين مَلؤُوا قلوبَهم هيبةً

.

2- قولُ اللهِ تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ جُمِعَ خَطِيئَاتِكُمْ جمعَ قلَّةٍ؛ للإشارةِ إلى أنَّها قليلٌ في جَنبِ عَفوِه تعالى .

3- قولُ اللهِ تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ لَمَّا كان مِن المعلومِ أنَّ القائِلَ مَن له إلزامُهم، بنى الفِعلَ للمَجهولِ في قَولِه قِيلَ لَهُمْ

 

.

بلاغة الآيتين :

 

هاتان الآيتان (161-162) من سورةِ الأعرافِ، نظيرُ ما في سورةِ البَقَرةِ، وهو قولُه تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة: 58- 59] ، وفِيهما مُناسَباتٌ حَسنةٌ من وجوهٍ، وبيانُ ذلك على النحو التالي

:

عبَّرَ هنا في سورة الأعرافِ بقَولِه: اسْكُنُوا، وفي سورةِ البَقَرةِ بقَولِه: ادْخُلُوا لأنَّ القَولينِ قيلَا لهم، أي قيل لهم: ادخُلوا واسكُنوها. وقيل: إنَّ أمْرَهم بدخولِ القَريةِ مُغايرٌ مِن حيث المعنى لأمْرِهم بسُكناها، وإن كان الأمرُ بدُخولِهم قد يُشيرُ بما نُسِقَ معه إلى سُكناها، لكنْ ليس نصًّا، بل ولا هو ظاهِرٌ، وإنَّ آيةَ الأعراف بيَّنَتْ ذلك، وأوضحتِ المقصودَ، وحصَل الأمرُ بالدُّخول والسُّكنى، وتبيَّنَ وجهُ ورودِ العِبارَتينِ على الترتيبِ.

وقال هنا: وَكُلُوا وفي سُورةِ البقرة قال: فَكُلُوا بَحرْفِ التعقيبِ؛ لأنَّ الأكلَ لا يكونُ إلَّا بعد الدُّخولِ، ولا يكونُ قَبلَه ولا معه، وإنَّما يكونُ مرتَّبًا عليه، ولأنَّ الدُّخولَ سَريعُ الانقِضاءِ فيتبَعُه الأكلُ؛ فجيءَ بالحرفِ الذي يُبيِّنُ ذلك المعنى، ويُفيدُ أنَّه على التعقيبِ مِن غيرِ مُهلة. وأمَّا قولُه: وَكُلُوا هنا في سورة الأعراف؛ فلأنَّ السَّكَنَ مُنجرٌّ معه الأكلُ ومُساوِقٌ له، ولا يمكِنُ أن يكونَ مُرتَّبًا عليه؛ فجاء بالحَرفِ الصَّالح لذلك المعنى، وهو الواو، والمعنى: أقيموا فيها، وذلك ممتَدٌّ؛ فذُكِرَ بالواو، أي: اجمَعوا بين الأكلِ والسُّكونِ؛ فقيل في البقرة بما يُرادِفُ فاءَ التعقيبِ؛ لأنَّ التعقيبَ معنًى زائدٌ على مُطلَقِ الجَمعِ، الذي تفيدُه واو العَطفِ في سورة الأعرافِ.

وردَ قَولُه: رَغَدًا في البقرة، ولم يَرِدْ في الأعراف؛ وذلك لأنَّ مفهومَ السُّكنى الوارد في الأعرافِ، مع الأمرِ بالأكلِ حيث شاؤوا، مع انضمامِ معنى الامتنانِ والإنعامِ المقصودِ في الآيةِ؛ كلُّ ذلك مُشعِرٌ ومعرِّفٌ بتمادي الأكلِ، وقوَّةُ السِّياقِ مانعةٌ مِن التَّحجير والاقتصارِ؛ فحصل معنى الرَّغَد، فوقَع الاكتفاءُ بهذا المفهومِ الحاصِل قطعًا من سياقِ آيةِ الأعرافِ، ولو لم يَرِد في سورةِ البَقَرة لم يُفهَم من سياقِ الآية كفَهمِه مِن سياقِ آية الأعرافِ، وأيضًا ذَكرَ رَغَدًا في سورةِ البقرة؛ لأنَّ زيادةَ المنَّة أدخَلُ في تقويةِ التَّوبيخِ، وأيضًا لأنَّه سبحانه أسنَدَه إلى ذاتِه بلَفظِ التَّعظيمِ، وهو قولُه: وَإِذ قُلْنَا بخلافِ ما في الأعراف؛ فإنَّ فيه وَإِذ قِيلَ

واقتُصِرَ هنا على حِكايةِ أنَّه قيل لهم، وكانت آيةُ البقرةِ أَوْلى بحكايةِ ما دلَّت عليه فاءُ التَّعقيبِ؛ لأنَّ آيةَ البقرةِ سيقَت مَساقَ التَّوبيخِ، فناسَبَها ما هو أدَلُّ على المنَّةِ، وهو تعجيلُ الانتفاعِ بخَيراتِ القَريةِ، وآياتُ الأعرافِ سِيقَت لمجرَّدِ العبرةِ بقصَّةِ بني إسرائيلَ، ولأجْلِ هذا الاختلافِ مُيِّزَت آيةُ البَقَرة بإعادةِ الموصولِ وصِلَتِه في قَولِه: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا، وعُوِّضَ عنه هنا بضميرِ الَّذِينَ ظَلَمُوا؛ لأنَّ القَصدَ في آيةِ البَقَرة بيانُ سببِ إنزالِ العَذابِ عليهم مرَّتين، أُشيرَ إلى أولاهما بما يومِئُ إليه الموصولُ مِن علَّةِ الحُكم، وإلى الثَّانية بحرف السببيَّةِ، واقتصَرَ هنا على الثاني.

وقد وقع في سورة البَقَرة لفظ فَأَنْزَلْنَا، ووقع هنا لَفظُ فَأَرْسَلْنَا ولَمَّا قُيِّدَ كِلاهما بقوله: مِنَ السَّمَاءِ كان مفادُهما واحدًا، فالاختلافُ لمجرَّدِ التفنُّنِ بين القصَّتينِ، أو لأنَّ لَفظَ الرَّسولِ والرِّسالة كَثُر في الأعرافِ، فجاء ذلك وَفقًا لِما قَبلَه، وليس كذلك في سورةِ البقرةِ.

وعبَّرَ هنا بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ وفي البقرة بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ؛ لأنَّه لَمَّا اقتضى الحالُ في القِصَّتينِ تأكيدَ وَصْفِهم بالظُّلم، وأُدِّي ذلك في البقرة بقَولِه: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا- استُثقِلت إعادةُ لَفظِ الظُّلمِ هنالك مرةً ثالثةً، فعدَلَ عنه إلى ما يُفيدُ مفادَه، وهو الفِسقُ، وهو أيضًا أعَمُّ، فهو أنسبُ بتذييلِ التَّوبيخِ، وجِيء هنا بلَفظِ يَظْلِمُونَ؛ لئلَّا يفوتَ تسجيلُ الظُّلمِ عليهم مرةً ثالثةً، فكان تذييلُ آيةِ البَقَرة أنسبَ بالتَّغليظِ في ذمِّهم؛ لأنَّ مقامَ التَّوبيخِ يَقتضيه. وقيل: إنَّ وجهَ ذلك: أنَّه لَمَّا وُصِفَ اعتداؤُهم نِيطَت بهم أوَّلًا صفةُ الظُّلمِ، ومِن المعلومِ أنَّ مَواقِعَه تتَّسِعُ، ثُم لَمَّا ذَكَر من اعتدائِهم وسُوءِ مُرتَكَبِهم غيرَ ما تَقَدَّم، وتضاعَفَ مُوجِبُ وَبيلِ جَزائِهم- وُصِفوا بالفِسقِ المُنبئِ عن حالٍ أوبَقَ من الظُّلم، فالفِسقُ نقيضُ الإيمانِ، وفي طَرَفٍ منه؛ كما في قوله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ، والظُّلمُ قد يقعُ على أضعَفِ المعاصي، ولوقوعِه على مُختَلفاتِ المآثِمِ، ومُطابَقتِه لِما قلَّ أو كثُرَ منها، وُصِفَ بالعِظَمِ حين أُريدَ به الشِّركُ؛ قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وإذا تقرَّرَ هذا، فسياقُ آياتِ البَقَرة مِن لَدُن قولِه تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ إلى ذِكرِ وَصْفِهم بتظليلِهم بالغمامِ؛ ذُكروا فيه أولًا بالظُّلم، فقال تعالى عَقِبَ ذِكرِ تظليلِهم بالغَمامِ: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، ثم أردفَ ذِكرَ اعتدائِهم في تبديلِهم قولًا غيرَ الذي قيل لهم، وأعقَبَ بقَولِه: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، وجَعَلَ الفِسقَ ختامَ وصفِهم الجاري؛ جزاءً على مُرتَكَباتِهم، ولم يقَعْ بعده ذِكرُ علَّةٍ مَنوطةٍ بجزاءِ ما وقعَ منهم، وأمَّا آيةُ الأعراف فهي جاريةٌ على منهجِ ما ورد في سورة البَقَرةِ، وأنَّ أوَّلَ وَصفِهم جزاءً على مُرتكَباتِهم قَولُه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ، ثم قال تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إلى قوله تعالى: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ؛ فطابقَ هذا ما ورَدَ في البقرةِ مِن تَقَدُّم وصفِهم أوَّلًا بالظُّلم، ثم بعد ذلك بالفِسقِ، ووضحَ الاتِّفاقُ في ختامِ القِصَّة في السُّورتينِ مِن غيرِ اختلافٍ فيهما.

ووقع في هذه الآية فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ولم يقَعْ لَفظُ مِنْهُمْ في سورةِ البَقَرة، ووجهُ زيادَتِها هنا: التصريحُ بأنَّ تبديلَ القَولِ لم يصدُرْ مِن جَميعِهم، وأجمَلَ ذلك في سورة البقرة؛ لأنَّ آيةَ البقرة لَمَّا سِيقَت مساقَ التَّوبيخ ناسَب إرهابَهم بما يُوهِمُ أنَّ الذين فعلوا ذلك هم جميعُ القَومِ؛ لأنَّ تَبِعاتِ بعض القبيلةِ تُحمَلُ على جماعَتِها؛ لأنَّ آيةَ البَقَرة يُفهَم منها أنَّها ليست على عُمومِها، فزادت آيةُ الأعراف تخصيصًا سمعيًّا بما يعطيه حرفُ التَّبعيضِ في قولِه تعالى: مِنْهُمْ، وآيةُ الأعراف مخَصِّصةٌ للعموم البادي من آيةِ البقرة؛ ولهذا القَصدِ من التَّخصيصِ ورد أيضًا في سورة البَقَرة: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ولم يَرِدْ فيها (فأنزَلْنا عليهم)؛ لأنَّه لو ورد كذلك لكان يتناوَلُ المتقَدِّمَ ذكرُهم على التَّعميمِ، وليس مقصودًا، فناسب: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنَّ المُعَذَّب هو الظَّالم ممَّن تَقدَّم، وجاء في الأعراف: عَلَيْهِمْ؛ لتخصيصِ ذِكرِ الظَّالمِ بقَولِه: مِنْهُمْ فجاء كلٌّ على ما يجِبُ.

وقدَّم في سورةِ البَقَرة قَولَه: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا على قَولِه: وَقُولُوا حِطَّةٌ وعَكَسَ هنا في الأعرافِ؛ لأنَّ قَولَهم: (حِطَّةٌ) دعاءٌ أُمِروا به في سُجودِهم، فلو ورد في السُّورتينِ على حدٍّ سواءٍ، لأوهَم من حيث مقتضى الواو من الاحتمالِ، أنَّهم أُمِروا بالسُّجودِ والقَولِ منفصلينِ غيرَ مُساوِقٍ أحدُهما للآخَرِ، على أحدِ مُحتمَلاتِ الواو في عدمِ الرُّتبة، فقَدَّمَ وأخَّرَ في السُّورتين؛ ليُحرِزَ المجموعُ أنَّ المرادَ بهذا القَولِ أن يكونَ في حالِ السُّجودِ لا قَبلَه ولا بَعدَه وتعيَّن بهذا معنى المعيَّةِ مِن محتَمَلات الواوِ، وتحرَّرَ المقصودُ، وأنَّ المراد: وادخلوا البابَ سجَّدًا قائلينَ في سجودكم: حِطَّةٌ، فاكتفى بتقلُّبِ الورودِ عن الإفصاحِ بمعنى المعيَّة؛ إيجازًا جليلًا، وبلاغةً عظيمةً، وقدَّم في البقرةِ الأمرَ بالسُّجودِ؛ لأنَّ ابتداءَ السُّجودِ يتقدَّمُ ابتداءَ الدُّعاءِ، ثمَّ يتساوَقُ المطلوبانِ، فجاء ذلك على التَّرتيبِ الثَّابتِ في السُّور والآياتِ.

ومن عادة العَرَب في كلامِهم: أنَّهم يقَدِّمونَ ما بيانُه أهَمُّ لهم، وهم به أعْنَى؛ فقولُه تعالى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ مقتضاه على ما تمهَّدَ الابتداءُ بأوَّلِ الأمرَينِ، فلا يمكنُ تحصيلُ ذلك في الآيتين إلَّا بالمساوَقةِ، وكونِهما معًا في حالةٍ واحدةٍ. وقيل: هو اختلافٌ في الإخبارِ لمُجرَّد التفنُّنِ؛ فإنَّ كِلا القولينِ واقعٌ، قُدِّم أو أُخِّر.

وأمَّا الاختلافُ في جمعِ خطيئة في السُّورتين؛ فإنَّها تُجمَع من حيثُ ثبوتُ تاء التأنيث في الواحدةِ منها بالألفِ والتاءِ، وتُجمَع أيضًا جمع تكسيرٍ، وورد جمعُها في البقرة جمعَ تكسيرٍ؛ ليُناسِبَ ما بُنِيَت عليه آياتُ البقرة من تَعدادِ النِّعَم والآلاءِ، لأنَّ جموعَ التَّكسير- ما عدَا الأربعةَ الأبنيةِ التي هي: (أفعُل وأفعال وأفعِلة وفِعْلة)- إنما ترِدُ في الغالِبِ للكثرة؛ فطابق الوارِدُ في البَقَرة ما قُصِدَ من تكثيرِ الآلاءِ والنِّعَم، وأمَّا الجمعُ بالألف والتَّاء فبابُه القِلَّةُ في الغالِبِ أيضًا ما لم يقتَرِنْ به ما يبَيِّنُ أنَّ المرادَ به الكثرةُ؛ فناسَب ما ورد في الأعرافِ من حيثُ لم تُبْنَ آياتُها على قَصدِ تَعَدُّد النِّعَم، على ما بُنيَت عليه آياتُ البَقَرة، ولأنَّ صِيغةَ الجَمعِ الكثيرِ ومَغفِرَتَها في قوله: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ، أليقُ في آيةِ البقرةِ بإسنادِ الفِعلِ إلى نفْسِه سبحانَه؛ فجاء كلٌّ على ما يناسِبُ.

وأيضًا قولُه: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فيه وعدٌ بشيئينِ: بالغُفرانِ، وبالزِّيادةِ، وطَرحُ الواو لا يُخلُّ بذلك؛ لأنَّه استئنافٌ مُرتَّبٌ على تقديرِ قَولِ القائِلِ: وماذا بعد الغُفرانِ؟ فقيل له: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ .

==============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (163-166)

ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ

غريب الكلمات:

 

حَاضِرَةَ الْبَحْرِ: أي قريبةً مِن شاطِئِه، وأصلُ (حضر) إيرادُ الشَّيءِ، ووُرودُه ومُشاهَدَتُه

.

يَعْدُونَ: أي: يتعَدَّون ويُجاوِزونَ ما أُمِروا به، أو يظلمونَ؛ يقال: عَدَوْتُ على فلانٍ: إذا ظَلمْتَه، والاعتِداءُ: مُجاوزةُ الحقِّ .

حِيتَانُهُمْ: الحوتُ: السمكُ، وقيل: العَظيمُ مِنه، وهو مُضطرِبٌ أبدًا غيرُ مُستقِرٍّ، ويقال: حاوَتَني فلانٌ، أي: راوَغَني مُراوغةَ الحُوتِ، وأصله: مِن الاضطرابِ والرَّوغانِ .

شُرَّعًا: أي: ظاهرةً، واحِدُها شارعٌ، وأصلُ (شرع): شيءٌ يُفتَح في امتدادٍ يكونُ فيه .

لا يَسْبِتُونَ: أي: لا يَفعَلونَ سَبتَهم، أو لا يَدَعونَ العَملَ في السَّبتِ، وقيل: معناه: لا يقطعونَ العَمَل، وقيل: لا يكونونَ في السَّبتِ، وأصلُ السَّبتِ: القَطعُ

نَبْلُوهُمْ: أي: نَختبرُهم ونمتَحِنُهم .

يَفْسُقُونَ: أي: يَخرُجونَ عَن الطَّاعةِ، وذلك مِن قولِهم: فسَقَ الرُّطَبُ، إذا خرجَ عَن قِشرِه، والفُسوق: خروجٌ مِن الطَّاعةِ إلى المعصيةِ، وخروجٌ من الإيمانِ إلى الكُفرِ .

تَعِظُونَ: أي: تَنْهونَ وتَزجُرونَ .

مَعْذِرَةً: أي: لِنُعذَرَ فيهم، والعُذْرُ: تحرِّي الإنسانِ ما يمحو به ذنوبَه؛ فهو مَصدَرُ (عَذَرْت)، كأنَّه قيل: أطلُبُ منه أن يَعذِرَنِي .

بَئِيسٍ: أي: شَدِيدٍ، والبُؤْسُ والبَأْسُ والبَأْسَاءُ: الشدَّةُ والمَكروهُ، إلَّا أنَّ البُؤسَ في الفَقرِ والحَربِ أكثَرُ، والبأسُ والبأساءُ في النِّكايةِ، وأصلُ الكَلِمةِ مِن الشِّدَّة .

عَتَوْا: أي: تكبَّروا وتجبَّروا، والعُتُوُّ: النبُوُّ عن الطَّاعةِ، وأَصلُه يدُلُّ على استكبارٍ .

خَاسِئِينَ: أي: صاغِرينَ ذليلينَ، أو باعِدينَ ومُبعَدينَ أيضًا، والخسوءُ: الصَّغارُ والطَّردُ، ويقال: خَسَأْتُ الكَلبَ فَخَسَأَ، أي: زَجَرتُه مستهينًا به فانزجَرَ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يسألَ اليَهودَ الذين بحَضرتِه، عن القريةِ التي على شاطئِ البَحرِ، وأن يستفسِرَهم عن اعتداءِ أهلِها يومَ السَّبتِ، ومُخالَفَتِهم لأمرِ اللهِ؛ بتعظيمِ ذلك اليومِ، والانقطاعِ للعبادةِ، وتركِ الاصطيادِ فيه، حين كانت تأتيهم الحيتانُ يومَ السَّبتِ كثيرةً ظاهرةً ومُقبلةً، وفي بقيَّةِ الأيَّامِ غَير السَّبتِ لا تأتيهم، كذلك يختبِرُهم اللهُ بما كانوا يفسُقونَ.

واذكر- يا محمَّدُ- حين قالت جماعةٌ مِن أهلِ تلك القريةِ لِمَن كان يعِظُ المُعتدينَ منهم: لمَ تنهَونَ المُستحِلِّينَ للصَّيدِ يومَ السَّبتِ، واللهُ تعالى مُهلِكُهم، أو مُعذِّبُهم عذابًا شديدًا، فأجابوهم: نفعلُ ذلك مَعذِرةً إلى رَبِّكم فيما أخَذ علينا مِن الأمرِ بالمعروفِ، والنَّهي عن المُنكَر، ولعلَّ هؤلاء المُعتدينَ يتَّقونَ اللهَ، ويجتنبونَ المعصيةَ، فلمَّا تَرَك المعتدونَ ما ذُكِّروا به، ولم يَقبَلوا نصيحةَ الواعظينَ؛ أنجى اللهُ الذين ينهونَ عَن المعصيةِ، وأخذَ الذينَ ظَلَموا أنفسَهم بمعصِيَتِهم لله، بعذابٍ شديدٍ نتيجةَ فِسقِهم.

فلمَّا تَمَرَّدوا وتجاوَزوا ما نُهوا عنه، وتمادَوْا في صَيدِ السَّمَكِ يومَ السَّبتِ، قال اللهُ لهم: صِيرُوا قردةً حَقيرينَ، مَطرودينَ مِن الخَيرِ.

تفسير الآيات:

 

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ

أي: واسأَلْ- يا محمَّدُ- اليهودَ الذين بحَضرَتِك، عن خَبرِ المدينة التي كانت على شاطئِ البحرِ

.

إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ

أي: اسألِ اليَهودَ عن اعتداءِ أهلِ تلك القريةِ في يومِ السَّبتِ، ومُخالَفَتِهم ما أمَرَهم اللهُ به مِن تعظيمِ يومِ السَّبتِ بالانقطاعِ للعِبادةِ، وتَركِ العَمَل، والاصطيادِ فيه .

كما قال سبحانه: وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ [النساء: 154] .

وقال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 65-66] .

إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا

أي: اسْأَلْهم حينَ اعتدى أهلُ تلك القريةِ عندما كانت الأسماكُ الكثيرةُ تَجيءُ إليهم في يَومِ السَّبتِ مُقبلةً ظاهرةً، وكثيرةً على وَجهِ البَحرِ .

وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ

أي: وفي سائِرِ الأيَّامِ غير يومِ السَّبتِ لا تأتيهم الحِيتانُ .

كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ

أي: مِثلَ ذلك الابتلاءِ العَظيمِ الذي وصَفْنا؛ نختَبِرُهم؛ بسبَبِ خُروجِهم عن طاعةِ الله .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَرتَكِبوا ما ارتكَبَت اليهودُ، فتستحِلُّوا محارِمَ اللهِ بأدنى الحِيَل)) .

وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)

وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ

أي: واذكُرْ - يا مُحمَّدُ- حينَ قالت جماعةٌ مِن أهلِ تلك القَريةِ لِمَن كان يعِظُ المُعتَدينَ منهم: لِماذا تَنهَونَ المُستحِلِّينَ للصَّيدِ في يَومِ السَّبتِ، واللهُ سيُهلِكُهم في الدُّنيا بعذابٍ يستأصِلُهم ؟!

أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا

أي: أو سيعذبهم الله بعذابٍ شديدٍ .

كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الإسراء: 58] .

وقال سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الطلاق: 8-10] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 56] .

وقال جلَّ جلاله: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت: 27] .

قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ

أي: قال الذين يَنهونَ المُعتَدينَ عن مَعصيةِ اللهِ: نحن نعِظُهم مِن أجلِ أن نُعذَرَ عند اللهِ فيما فَرَضَ علينا مِن الأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ، فلا يؤاخِذنا بالتَّقصيرِ في ذلك .

وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

أي: ونَعِظُهم أيضًا رجاءَ أن تُؤَثِّرَ فيهم موعِظَتُنا، فيمتَثِلوا أوامِرَ اللهِ تعالى، ويجتَنِبوا نواهِيَه، فيكفُّوا عن اقترافِ هذا الجُرمِ العَظيمِ، وهو مخالفةُ نَهيِ اللهِ تعالى عن صَيدِ السَّمكِ يَومَ السَّبتِ .

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ

أي: فلما تَرَك المُعتَدونَ ما أمَرَهم اللهُ تعالى به مِن تَعظيمِ يَومِ السَّبتِ، ولم يَقبَلوا نصيحةَ الواعظينَ .

أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ

أي: أنجَينَا مِن العَذابِ، الذين كانوا يَنهَونَ المُعتَدينَ عن ارتكابِ السيِّئاتِ، واستحلالِ المُحرَّمات .

وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ

أي: وأخَذْنا الذين ظَلَموا أنفُسَهم بمعصِيةِ الله، بعذابٍ شَديدٍ .

كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] .

بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ

أي: عذَّبناهم بسبَبِ خُروجِهم عن طاعةِ اللهِ .

فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)

فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ

أي: فلمَّا تَمَرَّدوا وتجاوَزوا ما نُهوا عنه، وتمادَوْا في صَيدِ السَّمَكِ يومَ السَّبتِ .

وقيل: فلمَّا تكَبَّروا عن تَركِ ما نهاهم اللهُ عنه .

قال تعالى: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الملك: 21] .

وقال سبحانه: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21] .

وقال عز وجل: وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ [الأعراف: 77] .

قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ

أي: فلما تمرَّدوا وتكبَّروا، قُلنا لهم: صِيرُوا قردةً حَقيرينَ، مَطرودينَ مِن الخَيرِ

 

.

كما قال سبحانَه: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 65-66] .

وقال تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء: 47] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] .

الفوائد التربوية:

 

1- مَن أطاعَ اللهَ تعالى خفَّفَ اللهُ عنه أحوالَ الدُّنيا والآخرةِ، ومَن عصاه ابتلاه بأنواعِ البَلاءِ والمِحَنِ؛ يُبيِّنُ ذلك قَولُ الله تعالى: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ففِسقُهم هو الذي أوجَبَ أن يبتَلِيَهم اللهُ تعالى، وأن تكونَ لهم هذه الِمحنةُ، وإلَّا فلو لم يَفسُقوا، لعافاهم الله، ولَما عَرَّضَهم للبلاءِ والشَّرِّ

.

2- العقوبةُ إذا نزلَت نجا منها الآمِرونَ بالمعروفِ، والنَّاهونَ عَن المنكَرِ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ اللهِ تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ يدلُّ على أنَّ الحِيَلَ في تحليلِ الأمورِ التي حرَّمَها الشَّارِعُ، مُحرَّمةٌ؛ كنِكاح المُحَلِّل، وما أشبَهَه مِن الحِيَلِ

.

2- قولُ اللهِ تعالى: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا زاد في تَبكِيتِهم بالإشارةِ إلى المُسارعةِ في الكُفرِ، بالإضافةِ في قَولِه: حِيتَانُهُمْ إيماءً إلى أنَّها مخلوقةٌ لهم، فلو صَبَروا نالوها وهم مُطيعونَ .

3- قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ هذه الآيةُ الكريمةُ جاء فيها بيانُ حِكمَتينِ مِن حِكَمِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عَن المُنكَرِ؛ لأنَّ استقراءَ القُرآنِ دَلَّ على أنَّ الأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ، له حِكَمٌ ثلاثٌ، تضمَّنَت هذه الآيةُ مِن تلك الحِكَمِ الثَّلاثِ اثنتينِ، أمَّا الحِكَمُ الثَّلاثُ:

فالأولى منها: أن يُقيمَ الإنسانُ عُذرَه أمامَ رَبِّه، ويَخرُجَ بذلك الأمرِ مِن عُهدةِ التَّقصيرِ في الأمرِ بالمَعروفِ؛ لِئلَّا يدخُلَ في قَولِه: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 79] وهذه الحكمةُ أشاروا لها بِقَولِهم: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ

الحكمةُ الثَّانيةُ: هي رَجاءُ انتفاعِ المُذَكَّرِ، كما قال هنا عنهم: وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

الحكمةُ الثَّالثةُ مِن حِكَمِ الأمرِ بالمعروفِ التي لم تُذكَرْ في هذه الآيةِ الكريمةِ: هي إقامةُ الحُجَّةِ لله على خَلقِه في أرضِه نيابةً عَن رُسُلِه؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] فأهلُ العِلمِ يُقيمونَ حُجَّةَ اللهِ على خَلقِه بإقامةِ الحُجَّةِ، والأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عَن المُنكَرِ، نيابةً عن الرُّسُلِ في ذلك .

4- قولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ مَسَخَهم اللَّه إلى صورَةِ الْقِرَدةِ، وهي أشبهُ شيءٍ بالأناسِيِّ في الشَّكْلِ  الظَّاهرِ، وليست بإنسانٍ حقيقَةً، فكذلك أعمالُ هؤلاء وحِيَلُهم لـمَّا كانت مُشابهةً للحقِّ في الظَّاهرِ، وَمُخالِفَةً له في الباطنِ، ولما كان الذَّنبُ الذي فعلُوه صورتُه صورةُ المباحِ، ولكنَّ حقيقتَه غيرُ مباحٍ، كَانَ جَزاؤُهم مِن جنسِ عَملِهم، فمُسِخوا قردةً، لما مسَخوا دينَ الله بحيثُ لم يتمسَّكوا إلا بما يشبهُ الدِّينَ في بعضِ ظاهرِه، دونَ حقيقتِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ هذا السُّؤالُ معناه التَّقريرُ، والتَّقريعُ بقديمِ كُفْرِهم وتجاوُزِهم حدودَ اللهِ، والإعلامُ بأنَّ هذا مِن عُلومِهم التي لا تُعلَمُ إلَّا بكِتابٍ أو وَحيٍ، فإذا أعلَمَهم به مَن لم يَقرأْ كِتابَهم، عُلِمَ أنَّه مِن جِهةِ الوَحيِ

.

قَولُه تعالى: يَعْدُونَ اختيارُ صِيغةِ المُضارِعِ؛ للدَّلالةِ على تكرُّرِ ذلك منهم .

وقُولُه: سَبْتِهِمْ أضيفَ إلى ضَميرِهم؛ لاختصاصِه بهم بما أنَّهم يهود، تعريضًا بهم لاستحلالِهم حُرمةَ السَّبتِ .

قوله: كَذِلَكَ نَبْلُوهُمْ مُستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا لجوابِ سُؤالِ مَن يَقولُ: ما فائدةُ هذه الآيةِ مع عِلمِ اللهِ بأنَّهم لا يَرعَوُونَ عَن انتهاكِ حُرمةِ السَّبتِ .

قَولُه: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا الاستفهامُ هنا إنكاريٌّ في معنى النَّفي، فيدلُّ على انتفاءِ جَميعِ العِلَلِ التي مِن شَأنِها أن يُوعَظَ لِتَحصيلِها، وذلك يُفضي إلى اليَأسِ مِن حُصولِ اتِّعاظِهم .

واسما الفاعِلِ في قَولِه: مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ مُستَعملانِ في مَعنى الاستقبالِ، بِقَرينةِ المقامِ، وبقرينةِ التَّردُّدِ بين الإهلاكِ والعَذابِ؛ فإنَّها تُؤذِنُ بأنَّ أحدَ الأمرينِ غَيرُ مُعَيَّنِ الحُصولِ، لأنَّه مُستقبَلٌ، ولكِنْ لا يخلو حالُهم عن أحَدِهما .

قَولُه: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةَ خَاسِئِينَ بيانٌ لإجمالِ العَذابِ البَئيسِ- على القَولِ بأنَّ العذابَ البَئِيسَ هو المَسخُ- وهو بمنزلةِ التَّأكيدِ لِقَولِه: فَلَمَّا نَسُوا... صِيغَ بهذا الأُسلوبِ لِتَهويلِ النِّسيانِ والعُتُوِّ، ويكون المعنى أنَّ النِّسيانَ- وهو الإعراضُ- وقع مُقارِنًا للعُتُوِّ؛ وما ذُكِّروا به وما نُهُوا عنه معناهما شَيءٌ واحدٌ، فكان مقتضى الظَّاهِرِ أن يُقالَ: (فلمَّا نَسُوا وعَتَوا عمَّا نهُوا عنه وذُكِّرُوا به قُلنَا لهم...)، فعدل عن مُقتضى الظَّاهِرِ إلى هذا الأسلوبِ مِن الإطنابِ؛ لتَهويلِ أمرِ العَذابِ، وتكثيرِ أشكالِه، ومقامُ التَّهويلِ مِن مُقتَضياتِ الإطنابِ .

===================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (167-170)

ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ

غريب الكلمات:

 

تَأَذَّنَ: أي: أعْلَمَ، وهو من آذَنْتُك بالأمرِ، والتأذُّنُ: مِن قَولِك: لأفعلَنَّ كذا، تريدُ به إيجابَ الفِعلِ، أي: سأفعَلُه لا محالةَ، وأصلُ (أذن): العِلمُ

.

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ: أي: جاءَ بَعدَهم، والخَلْف: الرَّدِيءُ مِن النَّاسِ ومِنَ الكلامِ، وأصلُ (خلف): مجيءُ شيءٍ بعدَ شيءٍ يقومُ مقامَه .

عَرَضَ هذا الْأَدْنَى: أي: ما يَعرِضُ لهم مِنَ الدُّنيا، وقيل: الرِّشوةُ في الحُكمِ، والعَرَضُ: ما لا يكونُ له ثباتٌ، والْأَدْنَى الأمرُ الأقربُ، وهي الدُّنيا .

مِيثَاقُ: الميثاقُ: عَقدٌ مُؤكَّدٌ بِيَمينٍ وعَهدٍ، أو العَهدُ المُحكَم، وأصله: العَقدُ والإحكامُ .

وَدَرَسُوا: أي: قَرَؤُوا، وأصلُه مِن: دَرَس العِلمَ، أي: تناوَلَ أثَرَه بالحِفظِ، ولَمَّا كان تناوُلُ ذلك بمداومةِ القِراءةِ، عبَّرَ عن إدامةِ القِراءةِ بالدَّرسِ .

يُمَسِّكُونَ: أي: يسْتَمْسكون ويعملونَ بِه، أو: يعتصمونَ به ويَقتَدونَ بأوامِرِه، ويتركونَ زواجِرَه، وأصلُ (مسك) يدلُّ على حَبسِ الشَّيءِ أو تحبُّسِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين أعلمَ ربُّك اليهودَ بما قَضاه عليهم، مِمَّا هو واقِعٌ بهم لا محالةَ، وذلك أنَّه سيُسَلِّطُ عليهم مَن يُذيقُهم أشَدَّ العذابِ، إنَّ ربَّك لَسريعُ العِقابِ، وإنَّه لغفورٌ رَحيمٌ.

ويخبِرُ تعالى أنَّه مَزَّقَ بني إسرائيلَ، فجَعَلَهم أمَمًا متفرِّقةً في أنحاءِ الأرضِ، منهم الصَّالحونَ، ومنهم دونَ ذلك، واختبَرَهم بالأحوالِ الحَسَنةِ والأحوالِ السيِّئةِ؛ لعلَّهم يرجعونَ، فجاء مِن بَعدِهم جيلُ سُوءٍ لا خيرَ فيهم، وَرِثُوا الكتابَ عَمَّن تقَدَّمَهم، يأخذونَ المالَ الحرامَ، وأضاعوا العملَ بالتَّوراة، ويقولونَ اغترارًا: سيَغفِرُ اللهُ لنا، وإن يأتِهم كَسْبٌ حرامٌ مِثلُ الأوَّلِ، يأخُذوه أيضًا؛ إصرارًا منهم على ذُنوبِهم، ألم يأخُذِ اللهُ على هؤلاءِ العَهدَ المؤكَّدَ في التَّوراةِ، بألَّا يَقولُوا على اللهِ إلَّا الحَقَّ، وقَرَءُوا ما فيها وفَهِموها، والدَّارُ الآخرةُ خَيرٌ للَّذينَ يتَّقونَ، أفلا يعقِلُ هؤلاء الذينَ يأخُذونَ الحَرامَ، ويُخالِفونَ كِتابَ اللهِ.

ثم أخبَرَ تعالى أنَّ الذين يعتصِمونَ بكتابِ اللهِ، ويَعملونَ بما فيه، وأقاموا الصَّلاةَ، هم مِن المُصلحين، واللهُ تعالى لن يُضِيعَ أجرَ المُصلحينَ.

تفسير الآيات:

 

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى قُبحَ فِعالِهم، واستعصاءَهم؛ أخبَرَ تعالى أنَّه حكَمَ عليهم بالذُّلِّ والصَّغارِ إلى يومِ القِيامةِ

، فقال تعالى:

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ

أي: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين أعلَمَ ربُّك اليهودَ بما قضاه عليهم، ممَّا هو واقعٌ بهم لا محالةَ .

كما قال تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء: 4- 8] .

لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ

أي: أعلَمَهم مُؤكِّدًا لهم بأنَّه سيُرسِلُ ويُسَلِّطُ عليهم في الدُّنيا إلى يومِ القِيامةِ مَن يُذيقُهم أشدَّ العَذابِ بسبَبِ كُفرِهم وعِصيانِهم، واحتيالِهم على المَحارِمِ .

كما قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران: 112].

إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ

أي: إنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- يعاقِبُ الكُفَّارَ والعصاةَ بلا تأخيرٍ، إذا حلَّ وقتُ عَذابِهم .

وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

أي: وإنَّ ربَّك كثيرُ المغفرةِ لِعبادِه التَّائبينَ، فيستُرُ ذُنوبَهم، ولا يعاقِبُهم بها، رحيمٌ بهم؛ إذ يَقبَلُ توبَتَهم، ويتقَبَّل طاعاتِهم، ويُثيبُهم عليها .

كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] .

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا أخبَرَ الله تعالى بالتأذُّنِ، كان كأنَّه قيل: (فأسرَعْنا في عقابِهم بذنوبِهم، وبعثْنا عليهم مَن سامَهم سوءَ العذابِ بالقتل والسبيِ)، فعَطَف عليه قولَه: وَقَطَّعْنَاهُمْ- أي: بسبَبِ ما حصل لهم مِن السَّبيِ المترتِّبِ على العذابِ- تقطيعًا كثيرًا، بأنْ أكثَرْنا تَفريقَهم .

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا

أي: ومزَّقْنا بني إسرائيلَ في أقطارِ الأرضِ، إلى جماعاتٍ مُتفَرِّقةٍ؛ بحيثُ لا تَخلو ناحيةٌ من الأرضِ مِنهم .

مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ

أي: مِن بني إسرائيلَ الصَّالحونَ الذين يُؤمِنونَ باللهِ ورُسُلِه، ومنهم مَن انحطَّت رُتبَتُهم عن مَرتبةِ الصَّلاحِ، فكانوا عُصاةً مُذنبينَ، أو كَفرةً مُجرمينَ .

كما قال تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 66] .

وقال سبحانه: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 113-114] .

وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [القصص: 52-54] .

وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ

أي: واختبَرْنا بني إسرائيلَ بالأحوالِ الحَسَنةِ؛ كالرَّخاءِ والخِصبِ والعافيةِ تارةً، وبالأحوالِ السيِّئةِ؛ كالشِّدَّةِ والجَدْبِ والأمراضِ تارةً أخرى .

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الأعراف: 94-95] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] .

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

أي: اختبَرْنا بني إسرائيلَ بالخَيرِ والشَّرِّ؛ ليتُوبُوا ويَرجِعوا عن مَعصيةِ اللهِ عزَّ وجلَّ إلى طاعَتِه .

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ

أي: فجاء بعد أولئكَ القَومِ- الَّذينَ كان منهم صالِحونَ، ومِنهم دونَ ذلك- جيلُ سُوءٍ لا خير فيه، قد أخَذُوا التَّوراةَ مِن أسلافِهم، وعَلِمُوا ما فيها مِن الأحكامِ .

يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى

أي: إنَّ خَلْفَ السُّوءِ- الَّذين وَرِثُوا التَّوراة- يأخذونَ المالَ الحَرامَ؛ مِن الرِّشوةِ وغَيرِها مِن مَتاعِ الدُّنيا الزَّائل، وأضاعوا العَمَل بالتَّوراةِ .

كما قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ * وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 79-80] .

وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا

أي: ويقولُ هؤلاءِ الَّذينَ يأخُذونَ المالَ الحَرامَ، ويُخالِفونَ كِتابَ اللهِ تعالى، يقولونَ- اغترارًا وتمنِّيًا على اللهِ الباطِلَ-: سيغفِرُ اللهُ لنا ذُنوبَنا هذه .

وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ

أي: وإن جاء أولئك اليهودَ كَسبٌ حرامٌ مِن متاعِ الدُّنيا الزائِلِ، مِثل الكَسبِ السَّابِقِ؛ استَحَلُّوه، وتناوَلُوه مَرَّةً ثانيةً؛ إصرارًا منهم على ذُنوبِهم، فهم مُنهَمِكونَ في أخذِ الحَرامِ، ومع هذا يزعُمونَ أنَّ اللهَ تعالى يَغفِرُ لهم !

أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ

أي: ألم يأخُذِ اللهُ على أولئك اليَهودِ- الذينَ وَرِثُوا التَّوراةَ، وأكلوا تلك المكاسِبَ الخبيثةَ- العهدَ المؤكَّدَ في التَّوراةِ بأن يُبَيِّنوا الحقَّ للنَّاسِ، ولا يَكذِبوا على اللهِ سُبحانَه ؟!

كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران: 187] .

وَدَرَسُوا مَا فِيهِ

أي: والحالُ أنَّهم قد قَرَؤوا كتابَ اللهِ، وعَلِموا ما فيه، وفَهِموا معانِيَه .

وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

أي: وما أعدَّه اللهُ تعالى في الآخرةِ مِن ثوابٍ ونعيمٍ، خيرٌ للَّذين يمتَثِلونَ ما أمرَ اللهُ تعالى به، ويجتنبونَ ما نهى عنه، من هذا الحُطامِ الدُّنيويِّ الفاني، أفلا يكونُ لكم عَقلٌ- يا من تأخُذونَ الحرامَ، وتُخالِفونَ كِتابَ الله- تنظرونَ به إلى العَواقِبِ، فتعلمونَ أنَّ ما عِندَ الله خيرٌ مِن هذا العَرَضِ القَليلِ الزَّائلِ الذي تستعجِلونَه في الدُّنيا، وترتَدِعونَ به عن التَّهافُتِ على هذا الكَسبِ الحَرامِ المُورِث لخزي الدُّنيا والآخرةِ ؟!

كما قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ [القصص: 60] .

وقال سبحانَه: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 17] .

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

وقعَت جملةُ: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ... إلى آخِرِها عقِبَ التي قَبلَها؛ لأنَّ مَضمونَها مُقابِلُ حُكمِ التي قَبلَها؛ إذ حصل مِن التي قَبلَها أنَّ هؤلاءِ الخَلْفَ الذين أخَذُوا عَرَض الأدنى، قد فرَّطوا في مِيثاقِ الكِتابِ، ولم يكونوا مِن المتَّقينَ، فعقَّبَ ذلك ببشارةِ مَن كانوا ضِدَّ أعمالِهم، وهم الآخِذونَ بمِيثاقِ الكِتابِ، والعامِلونَ ببِشارَتِه بالرُّسُل، وآمَنوا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأولئك يستكملِونَ أجرَهم؛ لأنَّهم مُصلِحونَ .

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ

أي: والَّذينَ يعتَصِمونَ بكِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويَعملونَ بما فيه .

وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ

أي: وحافَظُوا على الصَّلاةِ، وأقامُوها بحدُودِها .

إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ

أي: فمَن تمسَّك بالكِتابِ، وأقام الصَّلاةَ، فهو مِن المُصلحينَ، الذين يُصلِحونَ أنفُسَهم وأعمالَهم، ويُصلِحونَ غَيرَهم، ونحنُ لا نُضيعُ ثوابَهم

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30] .

وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 29-30] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ قلَّما ذكَرَ اللهُ عذابَ الفاسِقينَ المُفسدينَ، إلَّا وقَرَنه بذِكرِ المغفرةِ والرَّحمةِ للتَّائبينَ المُحسنينَ، حتى لا ييأسَ صالحٌ مُصلِحٌ مِن رَحمَتِه بذَنبٍ عَمِلَه بجهالةٍ، ولا يأمَنَ مُفسِدٌ مِن عِقابِه؛ اغترارًا بِكَرمِه وعَفوِه، وهو مُصِرٌّ على ذَنبِه

.

2- قال الله تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَكلُّ واحدٍ مِن الحَسَناتِ والسيِّئاتِ يدعو إلى الطَّاعةِ، أمَّا النِّعَمُ فلأجْلِ التَّرغيبِ، وأمَّا النِّقَمُ فلأجلِ التَّرهيبِ .

3- ما أعَدَّه اللهُ في الآخرةِ للَّذينَ يتَّقونَ الرَّذائِلَ والمعاصيَ، خيرٌ مِن الحُطامِ الفاني مِن عَرَضِ الدُّنيا؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ الله تعالى: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ .

4- قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى هذه الآيةُ وإن كانَت في اليهودِ، فكُلُّ مَن فَعَل فِعلَهم فهو أخُوهم، ينالُه مِن وَعيدِها وعذابِها ما نالَهم، فيجِبُ على المُسلمِ إذا كان في مَنصِبٍ يُوصَلُ فيه الحقُّ لصاحِبِه بإنابةِ مَن بَسَط اللهُ يَدَه، ألَّا يُغَيِّرَ أحكامَ اللهِ، ويأخُذَ الرِّشا بدلًا منها؛ فإنَّه إن أخذَ الرِّشوةَ وغَيَّرَ وبدَّلَ، فهو أخو اليَهودِ، وهو مِن هذا الخَلْفِ السَّيِّئِ القبيحِ .

5- إذا ما وُجدَ مُسلِمٌ أو من يَدَّعي أنَّه مُسلِمٌ، ينتَهِكُ حُرُماتِ اللهِ، ويُصِرُّ ويثِقُ بالمغفرةِ؛ فاعلَمْ أنَّه مغرورٌ، وأنَّه أخو اليهودِ؛ قال تعالى عنهم: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا .

6- قولُ اللهِ تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَد عُلِمَ من الآيةِ أنَّ الطَّمَعَ في متاعِ الدُّنيا هو الذي استحوَذَ على بني إسرائيلَ، فأفسَدَ عليهم أمْرَهم، ولا يزالُ هذا التَّفاني فيه أخَصَّ صفاتِهم، وقد سرى شيءٌ كثيرٌ مِن هذا الفَسادِ إلى المُسلمينَ، حتى  أولئك الذين وَرِثُوا الكتابَ الكَريمَ، والقرآنَ الحَكيمَ، ودَرَسوا ما فيه، غَلَب على كثيرٍ منهم الطَّمَعُ في حُطامِ الدُّنيا القليلِ، وعَرَضِها الدَّنيءِ، والغُرورُ بالنِّسبةِ إلى الإسلامِ والتَّحلِّي بلَقَبِه، والتعَلُّلُ بأماني المغفرةِ، مع الإصرارِ على الذَّنبِ، والاتِّكالِ على المُكَفِّراتِ والشَّفاعات، وهم يَقرَؤونَ ما في الكتابِ مِن النَّهيِ عن الأمانيِّ والأوهامِ، ومِن نَوْطِ الجزاءِ بالأعمالِ، والمغفرةِ بالتَّوبةِ والإصلاحِ، وكَونِ الشَّفاعةِ لا تقَعُ إلَّا بإذنِ اللهِ لِمَن رَضِيَ عنه، بل ما قَصَّ اللهُ علينا مِثلَ هذه الآياتِ مِن أخبارِ بني إسرائيلَ إلَّا لنَعتبِرَ بأحوالِهم، ونتَّقِيَ الذُّنوبَ التي أخَذَهم بها، ولكِنَّنا مع هذا كُلِّه اتَّبَعْنا سُنَنَهم شبرًا بشِبرٍ، وذراعًا بذِراعٍ .

7- قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ أي: يُمسِكونَ إمساكًا شديدًا يتجَدَّدُ على وجهِ الاستمرارِ، وهو إشارةٌ إلى أنَّ التمَسُّكَ بالسُّنَّةِ في غاية الصعوبةِ، لا سيَّما عند ظُهورِ الفَسادِ .

8- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ يدلُّ على أنَّ اللهَ بعَثَ رُسُلَه- عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- بالصَّلاحِ لا بالفَسادِ، وبالمنافِعِ لا بالمضارِّ، وأنَّهم بُعِثوا بصلاحِ الدَّارَينِ، فكلُّ من كان أصلَحَ، كان أقرَبَ إلى اتِّباعِهم .

9- فى التعبيرِ بقولِه: الْمُصْلِحِينَ إشارةٌ إلى أنَّ تَمْسيكَهم للكتابِ يتجاوزُ الإمساكَ إلى الدعوةِ إليه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُه تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا ... المقصودُ هو ذَمُّ الخَلْفِ بأنَّهم يأخُذُونَ عَرَضَ الأدنى، ويقولونَ سيُغفَرُ لنا، ومَهَّدَ لذلك بأنَّهم وَرِثُوا الكتابَ؛ ليَدُلَّ على أنَّهم يفعلونَ ذلك عَن عِلمٍ لا عَن جهلٍ، وذلك أشَدُّ مَذمَّةً

.

قولُ اللهِ تعالى: وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا لَمَّا كان النَّافِعُ الغفرانَ مِن غَيرِ نَظَرٍ إلى مُعيَّنٍ، بنَوُا الفِعلَ للمَفعولِ، ومن غيرِ شَكٍّ .

قولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ بنى الفِعلَ للمَفعولِ؛ إشارةً إلى أنَّ العَهدَ يَجِبُ الوفاءُ به على كلِّ حالٍ .

قولُ اللهِ تعالى: وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ لَمَّا كان مِن تَمسيكِهم بالكتابِ عند نُزولِ هذا الكلامِ انتقالُهم عن دِينِهم إلى الإسلامِ؛ عَبَّرَ عن إقامةِ الصَّلاةِ المعهودةِ لهم بلَفظِ الماضي دونَ المُضارعِ؛ لِئلَّا يَجعلُوه حجَّةً في الثَّباتِ على دينِهم، فيُفيدَ ضِدَّ المرادِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

قوله: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى استئنافٌ مَسوقٌ لِبَيانِ ما يَصنَعونَ بالكِتابِ بَعدَ وِراثَتِهم إيَّاه، أي: يأخُذونَ حُطامَ هذا الشَّيءِ الأدنى، أي: الدُّنيا

.

قَولُه: عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى في اسمِ الإشارةِ إيماءٌ إلى تَحقيرِ هذا العَرَضِ الذي رَغِبُوا فيه .

قوله: وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا معطوفةٌ على جُملةِ يَأْخُذُونَ لأنَّ كِلَا الخَبَرينِ يُوجِبُ الذَّمَّ، واجتماعُهما أشَدُّ في ذلك .

قَولُه: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ الاستفهامُ للتَّقريرِ المقصودِ منه التَّوبيخُ .

قوله: وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ كنايةٌ عَن كَونِهم خَسِروا خيرَ الآخرةِ بأخذِهم عَرَضَ الدُّنيا بتلك الكيفيَّةِ؛ لأنَّ كَونَ الدَّارِ الآخرةِ خَيرًا مِمَّا أخَذُوه، يستلزِمُ أن يكونَ ما أخَذُوه قد أفات عليهم خَيرَ الآخرةِ .

وفي جَعْلِ الآخرةِ خيرًا للمُتَّقينَ كنايةٌ عن كَونِ الذين أخَذُوا عَرَضَ الدُّنيا بتلك الكيفيَّةِ لم يكونوا مِن المتَّقينَ؛ لأنَّ الكنايةَ عَن خسرانِهم خَيرَ الآخرةِ، مع إثباتِ كَونِ خَيرِ الآخرةِ للمُتَّقينَ، تستلزِمُ أنَّ الذينَ أضاعوا خَيرَ الآخرةِ لَيسُوا من المتَّقينَ .

قَولُه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ الاستفهامُ هنا إنكاريٌّ، وفي (تَعْقِلُونَ) التفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخطابِ؛ ليكونَ أوقَعَ في توجيهِ التَّوبيخِ إليهم مُواجهةً .

قولُه: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ خصَّ الصَّلاةَ بالذِّكرِ، مع دُخُولِها فيما قبلهَا، فالتمسُّكُ بالكتابِ يشتَمِلُ على كلِّ عبادةٍ، ومنها إقامةُ الصَّلاةِ؛ إظهارًا لعُلُوِّ مَرتَبَتِها؛ لكونِها عمادَ الدِّينِ، وأعظَمَ العباداتِ بعد الإيمانِ، وناهيةً عن الفحشاءِ والمُنكَرِ، ولِكَونِها ميزانَ الإيمانِ، وإقامَتِها داعيةً لإقامةِ غَيرِها مِن العِباداتِ .

قوله: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ خبرٌ عن الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ، والمُصلِحونَ هم، والتقديرُ: إنَّا لا نُضيعُ أجرَهم؛ لأنَّهم مُصلِحونَ، فطُوِيَ ذِكرُهم؛ اكتفاءً بشُمولِ الوَصفِ لهم، وثناءً عليهم، على طريقةِ الإيجازِ البَديعِ .

=======================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (171-174)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ

غريب الكلمات:

 

نَتَقْنَا الجَبَلَ: أي: قَلَعْناه مِن أَصلِه، ورَفَعْناه فوقَهم، أو زعزَعْناه؛ يُقالُ: نتَقَ الشيءَ: جذبَه، ونزَعَه حتى يسترخِيَ

.

ظُلَّةٌ: الظُّلَّة: مَا غطَّى وستَرَ، وأصلُ (ظلل) يدلُّ على سَترِ شَيءٍ لِشيءٍ .

ذُرِّيَّتَهُمْ: الذُّرِّيَّة: الأولادُ وأولادُ الأولادِ، و(ذُريَّة) مأخوذةٌ مِن (ذَرَأَ)، أي: خَلَق؛ لأنَّ الذُّريَّة خَلْقُ اللهِ؛ يُقال: ذَرَأ اللهُ الخَلْقَ، أي: خَلَقَهم فهو يَذْرَؤُهم، وتُرِكتِ الهَمزةُ فيها؛ لكثرةِ ما يُتكلَّم بِها .

الْمُبْطِلُونَ: أي: الآخِذونَ بالباطِلِ. والبَاطِلُ: نقيضُ الحقِّ، وهو ما لا ثباتَ له عند الفَحصِ عنه، وأصلُه: ذهابُ الشَّيءِ، وقلَّةُ مُكثِه ولُبثِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

واذكُر- يا محمَّدُ- حين اقتلَعْنا الجبلَ، فرَفَعْناه فوقَ بني إسرائيلَ كأنَّه سحابةٌ تُظِلُّهم، وظنُّوا أنَّه ساقِطٌ عليهم، وقُلْنا لهم: اعمَلوا بما آتَيناكم في التَّوراةِ بجِدٍّ واجتهادٍ، واذكروا ما فيه، لعلَّكم تتَّقونَ اللهَ ربَّكم بالعَمل ِبه.

واذكُرْ- يا محمَّدُ- حين استخرجَ ربُّك من ظهورِ بني آدمَ ذُرِّيَّتَهم، وأشهَدَهم على أنفُسِهم، فقال لهم: ألستُ بربِّكم؟ قالوا: بلى شَهِدْنا، وكان إشهادُهم على أنفُسِهم كراهةَ أن يُنكِروا يومَ القيامةِ، ويقولوا: إنَّه لا عِلمَ لنا بأنَّ اللهَ هو الرَّبُّ المعبودُ بحَقٍّ وَحدَه لا شريكَ له، أو يقولوا: إنَّما حصل الشِّركُ مِن آبائنا قبل زَمانِنا، وكنَّا ذريَّةً من بَعدِهم، فاقتدَينا بهم عن جَهلٍ، أفتُهلِكُنا بما فعل آباؤُنا الذين أتَوا بالباطِلِ، وتَرَكوا التَّوحيدَ؟!

ثم بيَّنَ تعالى أنَّه كما وضَّحَ هذه الآياتِ، يوضِّحُ أيضًا غيرَها من آياتِ القُرآنِ الكريمِ؛ لكي يهتديَ بها النَّاسُ.

تفسير الآيات:

 

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ

أي: واذكُر- يا مُحمَّد- حين اقتَلَعْنا جبلَ الطُّورِ، فرَفَعْناه فوقَ بني إسرائيلَ، كأنَّه سحابةٌ تُظِلُّهم

.

كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 63] .

وقال سبحانه: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ [النساء: 154] .

وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ

أي: وغلَبَ على ظَنِّهم أنَّ الجَبلَ ساقِطٌ عليهم .

خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ

أي: وقُلْنا لهم: خُذوا ما أعطيناكم في التَّوراةِ، فاقبَلوه، واعمَلُوا به بجِدٍّ واجتهادٍ، من غيرِ تقصيرٍ ولا تفريطٍ .

كما قال تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف: 145] .

وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

أي: وقُلْنا لهم: واذكروا ما في التَّوراةِ مِن العقائِدِ والأوامِرِ والنَّواهي، وتدارَسُوها؛ كي تتَّقوا ربَّكم بالعَمَل بها .

وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)

وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ

أي: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين استخرجَ ربُّك ذريَّةَ بني آدَمَ، بَعضَهم من ظهورِ بَعضٍ، وأخرَجَ جميعَ ذلك من صُلبِ آدَمَ في صورةِ الذَّرِّ؛ ليأخُذَ عليهم العَهدَ .

عن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَمَّا خلَقَ اللهُ آدمَ مَسحَ ظَهرَه، فسقَطَ مِن ظَهرِه كُلُّ نَسَمةٍ هو خالِقُها مِن ذُرِّيَّتِه إلى يومِ القيامةِ )) .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أخذ اللهُ تبارك وتعالى الميثاقَ مِن ظَهرِ آدمَ بـ (نَعمان)- يعني عرفة- فأخرج مِن صُلبِه كلَّ ذريَّةٍ ذرَأَها، فنَثَرَهم بين يديه كالذَّرِّ، ثمَّ كَلَّمَهم قُبُلًا، قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)) .

وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ

أي: قرَّرَهم على توحيدِه، حين أخرجَهم مِن صُلبِ آدمَ في صُورةِ الذَّرِّ، فقال لهم: ألسْتُ أنا خالِقَكم ومَعبُودَكم ؟

قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا

أي: قال بنو آدَمَ: قد أقرَرْنا بأنَّك ربُّنا .

أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ

أي: أشهَدْناكم على أنفُسِكم بأنَّ اللهَ ربُّكم؛ لِئَلَّا تقولوا يومَ القيامةِ: إنَّه لا عِلمَ لنا بأنَّ اللهَ هو الرَّبُّ المعبودُ بحَقٍّ، وَحْدَه لا شريكَ له .

أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)

أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ

أي: وَلئلَّا تعتذِرُوا يومَ القيامةِ، فتقولوا: إنَّما أشرَكَ آباؤُنا مِن قَبلِ زَمانِنا، فنَقَضوا الميثاقَ، وكُنَّا ذرِّيَّةً أتينا مِن بَعدِهم، فاقتَدَينا بهم عن جَهلٍ منَّا .

أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ

أي: أتُعامِلُنا بغيرِ ما فَعَلْنا، فتُعَذِّبَنا بِشِرْك آبائِنا الذين أتَوْا بالباطِلِ، وتركوا التَّوحيدَ ؟!

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ

أي: وكما بيَّنَّا هذه الآياتِ ووضَّحْناها، نبيِّنُ أيضًا غيرَها من آياتِ القُرآنِ الكَريمِ .

كما قال تعالى: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 32] .

وقال سبحانه: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24] .

وقال عزَّ وجلَّ: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] .

وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

أي: ووضَّحْنا الآياتِ؛ لكي يهتَديَ بها النَّاسُ فيرجِعوا عن الشِّركِ والمعاصي إلى التَّوحيدِ والطَّاعةِ

 

.

كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: 113] .

وقال سبحانه: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر: 27- 28] .

وقال عزَّ وجلَّ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .

الفوائد التربوية:

 

الجِدُّ وقوَّةُ العَزمِ في إقامةِ الدِّينِ، يُهذِّبُ النَّفسَ ويُزَكِّيها، والتَّهاونُ والإغماضُ فيه، يُدَسِّيها ويُغوِيها؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

.

قال اللهُ تعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ يُفهَمُ مِن هذه الآيةِ أنَّه يَجِبُ على مَن خُوطِبَ بأوامِرِ اللهِ في كُتُبِه المُنَزَّلة، أن يلتَزِمَها بقوةٍ ونَشاطٍ واجتهاد، فلا يضعُف فيها، ولا يُفَرِّط فيها؛ لأنَّها لا تُمتثَلُ على الوجهِ الأكمَلِ إلَّا بالقوَّةِ والجِدِّ والاجتهادِ .

النَّفسُ بِفِطرتِها إذا تُرِكَت كانت مُقِرَّةً لله بالإلهيَّة، مُحبَّةً له، تعبُدُه لا تُشرِكُ به شيئًا؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ هذه آيةٌ أظهَرَها اللهُ لهم تخويفًا لهم؛ لتكونَ مُذَكِّرةً لهم، فيَعقُب ذلك أخذُ العَهدِ عليهم بعزيمةِ العَمَلِ بالتَّوراةِ

.

قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ عَرَّفَ الْجَبَلَ لمَعرِفَتِهم به، وعبَّرَ به لدَلالةِ لفْظِه على الصُّعوبةِ والشِّدَّة، دونَ (الطُّورِ) كما في البَقرةِ؛ لأن السِّياقَ لبيانِ نَكَدِهم بإسراعِهم في المعاصي الدَّالَّةِ على غِلظِ القَلبِ .

قَولُ اللهِ تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أصلٌ في الإقرارِ .

شأنُ الذرِّيَّةِ الاقتداءُ بالآباءِ، وإقامةُ عوائدِهم؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ .

لا يُعاقِبُ اللهُ تعالى أحدًا بِذَنبِ غَيرِه؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ فأخبَرَ سُبحانه أنَّه استخرَجَ ذُرِّياتِهم، وأشهَدَهم على أنفُسِهم؛ لئلَّا يقولوا: أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أتى بنونِ العَظَمةِ في نَتَقْنَا لزيادةِ التَّرهيبِ

.

في قَولِه وَاقِعٌ بِهِمْ عُدِّيَ وَاقِعٌ بالباءِ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم كانوا مُستقريِّنَ في الجبلِ، فهو إذا ارتفَعَ وقَعَ ملابسًا لهم ففتَّتَهم، فهم يرَونَ أعلاه فوقَهم، وهم في سَفْحِه، وهذا وجهُ الجمعِ بين قولِه فَوْقَهُمْ وبين باءِ المُلابسةِ. وقيل: إنَّ الباءَ بِمَعنى (على) .

قوله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ

في قَولِه: أَخَذَ رَبُّكَ إيثارُ الأخذِ على الإخراجِ؛ للإيذانِ بالاعتناءِ بِشَأنِ المأخوذِ؛ لِما فيه من الإنباءِ عن الاجتباءِ والاصطفاء، هو السببُ في إسنادِه إلى اسمِ الربِّ بطريق الالتفات، مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي ، وقِيل: إنَّ إيثارَ الأخذِ على الإخراجِ؛ لمناسبةِ ما تضمَّنتْه الآيةُ مِن الميثاقِ؛ فإنَّ الذي يناسبُه هو الأخذُ دونَ الإخراجِ، وإضافتُه إلى ضميره صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للتشريف .

وقولُه تعالى: مِنْ ظُهُورِهِمْ بدلٌ من بَنِي آدَمَ بدل البَعضِ بتكريرِ الجارِّ، وفيه مزيدُ تقريرٍ؛ لابتنائِه على البيانِ بعد الإبهامِ، والتفصيلِ بعد الإجمالِ .

والاستفهامُ في قَولِه: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ تقريريٌّ، وجملة: قَالُوا بَلَى جوابٌ عَنِ الاستفهامِ التَّقريريِّ، وفُصِلَت؛ لأنَّها جاءَت على طريقةِ المُحاورةِ، وقوله: شَهِدْنَا تأكيدٌ لِمَضمونِ بلى، والشَّهادةُ هنا أيضًا بمعنى الإقرارِ .

قوله: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ فيه تحويلٌ مِن خِطابِ الرَّسولِ في قَولِه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ إلى خطابِ قَومِه؛ تصريحًا بأنَّ المقصودَ مِن قِصَّةِ أخْذِ العَهدِ تذكيرُ المُشركينَ بما أودَعَ اللهُ في الفِطرةِ مِن التَّوحيدِ، وهذا الأسلوبُ هو مِن تَحويلِ الخِطابِ عن مخاطَبٍ إلى غيرِه، وليس مِن الالتفاتِ؛ لاختلافِ المُخاطبينَ .

والإشارةُ بـ هَذَا إلى مَضمونِ الاستفهامِ وجَوابِه، وهو الاعترافُ بالربوبيَّةِ لله تعالى، على تقديرِه بالمذكورِ .

والاستفهامُ في قوله: أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ إنكاريٌّ .

قولُه: وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فيه شَبَّه الإقلاعَ عن الحالةِ التي هم متلبِّسونَ بها، بِتَركِ مَن حَلَّ في غيرِ مَقَرِّه، الموضِعَ الذي هو به؛ ليرجِعَ إلى مَقَرِّه، وهذا التشبيهُ يقتضي تشبيهَ حالِ الإشراكِ بمَوضِعِ الغُربةِ؛ لأنَّ الشِّركَ ليس مِن مُقتضى الفِطرةِ، فالتلبُّسُ به خروجٌ عن أصلِ الخِلقةِ، كخُروجِ المُسافِرِ عن مَوطِنِه، ويقتضي أيضًا تشبيهَ حالِ التَّوحيدِ بمحَلِّ المَرءِ وحَيِّه الذي يأوِي إليه، وهو تعريضٌ بالعَرَبِ؛ لأنَّهم المُشركونَ مِن عَقِبِ إبراهيمَ .

==========================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (175-178)

ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ

غريب الكلمات:

 

نَبَأَ: النَّبأُ: خَبَرٌ له شَأنٌ، وفائدةٌ عظيمةٌ، يحصُلُ به عِلمٌ أو غَلَبةُ ظَنٍّ، وأصلُ (نبأ): الإتيانُ مِن مكانٍ إلى مكانٍ

.

فَانْسَلَخَ: أي: خرَجَ مِن العَمَلِ بها، وأصلُ (سلخ): إخراجُ الشَّيءِ عَن جِلدِه .

فَأَتْبَعَهُ: أي أدرَكَه ولَحِقَه، يقال: أتبعتُ القَومَ: إذا لحِقتُهم، وَأصل (تبع): يدلُّ على التُلُوِّ والقَفْوِ

الْغَاوِينَ: أي: الضَّالِّينَ أو الهالِكينَ، والغَيُّ: جَهلٌ مِن اعتقادٍ فاسدٍ، وأصلُ (غوي): يدلُّ على خِلافِ الرُّشدِ .

أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ: أي: اطمأنَّ إليها، ولزِمها، أو ركَن إلى الدُّنيا وسكَنَ؛ ظانًّا أنَّه يخلدُ فيها، وأصلُ (خلد): يدلُّ على الثَّباتِ والمُلازمةِ .

تَحْمِلْ عَلَيْهِ: أي: تَزجُرْه، أو تَطرُدْه، وأَصلُ (حمل): يَدُلُّ عَلَى إِقْلَالِ الشَّيْءِ، يُقَالُ: حَمَلْتُ الشَّيْءَ أَحْمِلُه حَمْلًا .

يَلْهَثْ: أي: يُخرجْ لِسانَه من حرٍّ أو عطَشٍ، واللَّهَثُ يقال للإعياءِ وللعَطشِ جميعًا .

سَاءَ: أي: قَبُحَ، والسُّوءُ: اسمٌ جامِعٌ للآفاتِ، ثم استُعمِلَ في كلِّ ما يُستقبَحُ. وهو أيضًا كلُّ ما يغمُّ الإنسان

الْخَاسِرُونَ: أي: الهالكونَ والمَغبونونَ، والخُسرُ والخُسرانُ: انتقاصُ رأسِ المالِ، ويستعمَلُ في نُقصان العقل والإيمان، والثواب، وأصلُ (خسر) يدلُّ على النَّقصِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه أن يتلُوَ على قَومِه قصَّةَ الرَّجُلِ الذي عَلَّمَه اللهُ- عزَّ وجَلَّ- آياتِه، فتبرَّأَ منها وفارَقَها، فلَحِقَه الشَّيطانُ، وجَعَله له تابعًا، فصار مِن أهلِ الضَّلالِ والغَوايةِ، ولو شاء اللهُ لرَفَعه بها، ولكنَّه سكَنَ إلى الأرضِ وزِينَتِها، واتَّبَع ما تميلُ إليه نَفسُه مِن الباطِلِ، فمَثَلُه كمَثَلِ الكَلبِ؛ إنْ تَطرُدْه أو تترُكْه لا يزالُ لاهثًا، ذلك مَثَلُ القَومِ المكَذِّبينَ بآياتِ اللهِ، ثم أمر اللهُ نبيَّه أن يَقصُصَ على قَومِه وعلى اليهودِ القَصَصَ؛ لعَلَّهم يتفكَّرونَ.

قَبُحَ هذا المثَلُ الذي شُبِّه به المكَذِّبونَ بآياتِ اللهِ تعالى، والظَّالِمونَ لأنفُسِهم، مَن يَهدِ اللهُ تعالى فهو المُوفَّقُ، ومن يُضْلِلْه فأولئك الذينَ خَسِروا الدُّنيا والآخرةَ.

تفسير الآيات:

 

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان تعالى قد ذكَرَ أخْذَ الميثاقِ على توحيدِه تعالى، وتقريرِ رُبوبِيَّتِه، وذكَرَ إقرارَهم بذلك، وإشهادَهم على أنفُسِهم- ذكَرَ حالَ مَن آمن به، ثم بعد ذلك من كَفَر، كحالِ اليهودِ؛ حيث كانوا مُقِرِّينَ مُنتظِرينَ بَعثةَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِما اطَّلَعوا عليه مِن كُتُبِ اللهِ المُنزَّلةِ وتَبشيرِها به، وذِكْرِ صفاتِه، فلمَّا بُعِثَ كفروا به، فذُكِّرُوا أنَّ ما صدَرَ منهم هو طريقةٌ لأسلافِهم اتَّبَعوها

.

وأيضًا مناسَبةُ هذه الآيةِ للتي قَبلَها أنَّها إشارةٌ للعبرةِ مِن حالِ أحدِ الَّذينَ أخَذَ اللهُ عليهم العَهدَ بالتَّوحيدِ والامتثالِ لأمرِ الله، وأمَدَّه اللهُ بعِلمٍ يُعينُه على الوفاءِ بما عاهدَ اللهَ عليه، وما أودعَ في فطرتِه، ثمَّ لم ينفَعْه ذلك كلُّه حين لم يُقَدِّرِ اللهُ له الهُدى المُستَمِرَّ .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا

أي: واقرأْ- يا مُحمَّدُ- على قَومِك قِصَّةَ الرَّجُلِ الذي عَلَّمْناه آياتِنا .

فَانْسَلَخَ مِنْهَا

أي: فخرَج من تلك الآياتِ التي علَّمَه اللهُ تعالى إيَّاها، وتبرَّأَ منها وفارَقَها، ولم يَعْلَقْ به منها شيءٌ .

عن حُذيفةَ بنِ اليَمانِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ مِمَّا أتخَوَّفُ عليكم لَرجُلًا قرأَ القرآنَ، حتى إذا رُئِيَت بهجَتُه عليه، وكان ردءًا للإسلامِ، اعتراه إلى ما شاءَ الله، انسلَخَ منه، ونبَذَه وراءَ ظَهرِه، وسعى على جارِه بالسَّيفِ، ورماه بالشِّرْكِ، قلتُ: يا نبيَّ الله، أيُّهما أَوْلى بالشِّرْكِ: المرميُّ أو الرَّامي؟ قال: بل الرَّامي)) .

فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ

أي: فلَحِقَه الشَّيطانُ وأدرَكَه، وجعَلَه له تابعًا يُطيعُ أمْرَه، فصار من الضالِّين الذين لا يَعملونَ بعِلْمِهم .

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان قَولُه تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ مُوهمًا لِمَن لم يرسخْ قَدَمُه في الإيمانِ أنَّ الشيطانَ له تأثيرٌ مُستقِلٌّ في الإغواءِ- نفى ذلك؛ غيرةً على هذا المقامِ في مَظهَرِ العظمةِ، فقال :

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا

أي: ولو شِئْنا لرَفَعْنا قَدْرَه ومنزِلتَه في الدُّنيا والآخرةِ، بتوفيقِنا له للعَمَلِ بآياتِنا .

وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ

أي: ولكنَّه سكَنَ إلى الحياةِ الدُّنيا، ومال إلى زِينَتِها، وآثَرَ لذَّاتِها وشَهَواتِها على الآخرةِ، واتَّبعَ ما تميلُ إليه نَفسُه مِن الباطِلِ، وخالَفَ أمرَ اللهِ .

فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ

أي: فمَثَلُ هذا الذي آتَيناه آياتِنا فانسلَخَ منها؛ في عَدَمِ اتعاظِه، وعَدَمِ تَركِه الحِرصَ على الدُّنيا بحالٍ- مَثَلُ الكَلْبِ الذي لا يترُكُ اللَّهَثَ بحالٍ، سواءٌ زَجَرتَه وطَرَدْتَه، أم تَركْتَه؛ فهذا الذي ترك العَملَ بكتابِ اللهِ، إن وعَظْتَه فهو على ضلالِه لا يتَّعِظُ، وإن تركْتَه فهو مستمِرٌّ في ضلالِه، لا يترُكُ في جميعِ الأحوالِ ما هو عليه من الكُفرِ، واللَّهَفِ على الدُّنيا .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6-7] .

وقال سبحانه: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ [الأعراف: 193] .

ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا

أي: ذلك المثَلُ المضروبُ لِتَشبيهِ المُنسلِخ مِن آياتِنا، بالكَلْبِ الذي يلهَثُ في جميعِ الأحوالِ؛ هو مَثَلُ جميعِ المُكَذِّبينَ بآياتِنا .

فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

أي: فاسْرُدْ- يا مُحمَّدُ- على قَومِك مِن قُريشٍ، وعلى اليَهودِ، ما قصَصْتُه عليك في القُرآنِ من أخبارِ الأمَمِ السَّابقة؛ ليتفَكَّروا فيها، فيعتَبِروا ويتوبوا إلى ربِّهم، ولِيعلَمَ أهلُ الكِتابِ صِحَّةَ نبوَّتِك، فيُؤمِنوا بك .

سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)

سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا

أي: بِئسَ وقبُحَ هذا المَثَلُ الذي شُبِّه به المكَذِّبونَ بآياتِنا .

عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليس لنا مَثَلُ السَّوءِ ؛ الذي يعودُ في هِبَتِه كالكَلبِ يَرجِعُ في قَيئِه )) .

وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ

أي: والَّذين كذَّبوا بآياتِنا، لم يظلِمْهم اللهُ سبحانه، بل كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم بنَقْصِها مِن الخَيرِ الذي ينفَعُها، وتعريضِها لعذابِ اللهِ .

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وصَفَ الله تعالى الضَّالِّينَ بالوَصفِ المذكورِ فيما تقَدَّمَ مِن الآياتِ، وعرَّفَ حالَهم بالمَثَلِ المذكورِ؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ الهِدايةَ مِن اللهِ تعالى، وأنَّ الضَّلالَ مِن اللهِ تعالى ، فقال:

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي

أي: مَن يَهْدِه اللهُ فهو الموفَّقُ لاتِّباعِ الحَقِّ، ولا مُضِلَّ له .

كما قال تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزُّمَر: 37].

وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

أي: ومَن يُضْلِلْه اللهُ ويَخذُلْه، ولا يُوفِّقْه لطاعَتِه؛ فأولئك هم الذينَ خَسِروا الدُّنيا والآخرةَ

 

.

كما قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف: 17] .

وقال سبحانه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 88] .

الفوائد التربوية:

 

قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فالرِّفعةُ عند اللهِ تعالى ليست بمجَرَّدِ العِلمِ- فإنَّ هذا كان مِن العُلَماءِ- وإنَّما هي باتِّباعِ الحَقِّ وإيثارِه، وقَصدِ مرضاةِ اللهِ تعالى، فإنَّ هذا كان مِن أعلَمِ أهلِ زَمانِه، ولم يرفَعْه اللهُ بعِلمِه، ولم ينفَعْه به، وفي الآيةِ أنَّه هو سبحانه الذي يرفَعُ عَبْدَه- إذا شاء- بما آتاه اللهُ مِن العِلمِ، وإنْ لم يرفَعْه اللهُ، فهو موضوعٌ لا يرفَعُ أحدٌ به رأسًا؛ فإنَّه سبحانه هو الخافِضُ الرَّافِعُ؛ وقد خَفَضَه اللهُ سبحانه، ولم يَرْفَعْه

.

قال الله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ هَذَا مَثَلُ عَالمِ السُّوءِ، الَّذِي يعمَلُ بخِلافِ عِلْمِه، وقد تضمَّنَت هذه الآيةُ ذَمَّه مِن عِدَّة وجوهٍ:

أحدُها: أنَّه ضلَّ بعد العِلمِ، واختار الكُفرَ على الإيمانِ، عمدًا لا جَهلًا.

ثانيها: أنَّه فارقَ الإيمانَ مُفارقةَ مَن لا يعودُ إليه أبدًا؛ فإنَّه انسلخَ مِن الآياتِ بالجُملةِ، كما تنسلِخُ الحيَّةُ مِن قِشرِها، ولو بَقِيَ معه منها شيءٌ، لم ينسلِخْ منها.

ثالثُها: أنَّ الشَّيطانَ أدرَكَه ولَحِقَه بحيث ظفِرَ به وافترَسَه؛ ولهذا قال: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ولم يقُلْ تَبِعَه؛ فإنَّ في معنى أتبَعَه: أدرَكَه ولَحِقَه، وهو أبلَغُ مِن تَبِعَه لفظًا ومعنًى.

رابعُها: أنَّه غَوى بعد الرُّشدِ، والغَيُّ: الضَّلالُ في العِلمِ والقَصدِ، وهو أخَصُّ بفسادِ القَصدِ والعَمَلِ، كما أنَّ الضَّلالَ أخَصُّ بفسادِ العِلمِ والاعتقادِ، فإذا أُفرِدَ أحدُهما دخل فيه الآخَرُ، وإن اقتَرَنا فالفَرْقُ ما ذُكِرَ.

خامسُها: أنَّه سبحانَه لم يَشَأْ أن يَرفَعَه بالعِلمِ، فكان سبَبَ هلاكِه؛ لأنَّه لم يُرفَعْ به، فصار وَبالًا عليه، فلو لم يكُنْ عالِمًا، كان خيرًا له، وأخَفَّ لِعذابِه.

سادسُها: أنَّه سبحانه أخبَرَ عن خِسَّةِ هِمَّتِه، وأنَّه اختار الأسفَلَ الأدنى على الأشرَفِ الأعلى.

سابعُها: أنَّ اختيارَه للأدنى لم يكُنْ عن خاطرٍ وحديثِ نَفْسٍ، ولكنَّه كان عن إخلادٍ إلى الأرضِ، ومَيلٍ بكُلِّيَّتِه إلى ما هناك، وأصلُ الإخلادِ اللُّزومُ على الدَّوامِ، وعبَّرَ عن مَيلِه إلى الدُّنيا بإخلادِه إلى الأرضِ؛ لأنَّ الدُّنيا هي الأرضُ وما فيها، وما يُستخرَجُ منها مِن الزِّينةِ والمَتاعِ.

ثامنُها: أنَّه رغِبَ عن هُداه، واتَّبَع هواه، فجَعلَ هواه إمامًا له، يقتَدي به ويتَّبِعُه.

تاسعُها: أنَّه شبَّهَه بالكَلبِ الذي هو أخَسُّ الحيواناتِ هِمَّةً ، وأسقَطُها نَفْسًا وأبخَلُها، وأشَدُّها كَلَبًا، ولهذا سُمِّيَ كَلْبًا.

عاشرُها: أنَّه شَبَّه لهَثَه على الدُّنيا وعدَمَ صَبْرِه عنها، وجَزَعَه لفَقْدِها وحِرصَه على تحصيلِها، بلَهَثِ الكَلْبِ في حالتَي ترْكِه، والحَمْلِ عليه بالطَّردِ، وهكذا هذا؛ إن تُرِكَ فهو لَهْثانُ على الدُّنيا، وإن وُعِظَ وزُجِرَ فهو كذلك؛ فاللَّهَثُ لا يُفارِقُه في كلِّ حالٍ، كلَهَثِ الكَلْبِ، وهذا التَّمثيلُ لم يقَعْ بكلِّ كَلْبٍ، وإنما وقعَ بالكَلْبِ اللَّاهِثِ، وذلك أخَسُّ ما يكونُ وأشنَعُه .

اتِّباعُ الإنسانِ لِهَواه، بتَحَرِّيه وتشَهِّيه ما تَميلُ إليه نفسُه في كلِّ عَمَلٍ مِن أعماله، دونَ ما فيه المصلحةُ والفائدةُ له؛ مِن حيث هو جَسَدٌ وروحٌ- يُضِلُّه عن سبيلِ اللهِ، المُوصِلةِ إلى سعادةِ الدُّنيا والآخرة، ويتعَسَّفُ به في سُبُلِ الشَّيطانِ المُردِيَةِ المُهلِكة؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ .

قال تعالى: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ هذه الآيةُ مِن أشَدِّ الآيِ على أصحابِ العِلمِ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ أنَّه آتاه آياتِه، فاستوجَبَ بالسُّكونِ إلى الدُّنيا واتِّباعِ الهوى، تغييرَ النِّعمةِ عليه، والانسلاخَ عنها، ومَنِ الذي سَلِمَ من هاتين الخَلَّتينِ، إلَّا مَن عَصَمَه اللهُ !

من كانت نِعَمُ اللهِ تعالى في حَقِّه أكثَرَ، كان بُعْدُه عن اللهِ- إذا أعرَضَ عنه- أعظَمَ وأكبَرَ؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا... وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ .

لا يغتَرَّ أحدٌ بما أوتِيَ من المعارِف، وما حاز من المفاخِرِ واللَّطائِفِ؛ فإنَّ العِبرةَ بالخواتيمِ، يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ .

قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا عبرةٌ للمُوفَّقينَ؛ ليَعلَموا فَضلَ اللهِ عليهم في توفيقِهم .

قال الله تعالى: قال تعالى وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ أي: سكَن إليها، ونزَل بطبعِه إليها، فكانت نفسُه أرضيةً سفليةً، لا سماويةً علويةً، وبحسبِ ما يخلدُ العبدُ إلى الأرضِ يهبطُ مِن السَّماءِ .

قالَ الله تعالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا المُرادُ بهذا المثلِ: أنَّ منْ لم يزجرْه علمُه عن القبيحِ، صارَ القبيحُ عادةً له، ولم يؤثِّرْ فيه علمُه شيئًا، فيصيرُ حالُه كحالِ الكلبِ اللاهثِ فإنَه إنْ طُرِدَ لَهِثَ، وإنْ ترِكَ لَهِثَ، فالحالتانِ عنده سواءٌ. وهذا أخسُّ أحوالِ الكلبِ وأبشعُهَا، فكذلكَ من يرتكبُ القبائح مع جهلِهِ ومع علمِهِ، فلا يؤثِّرُ علمُه شيئًا، وكذلكَ مثلُ مَنْ لا يرتدعُ عن القبيحِ بوعظٍ ولا زجرٍ ولا غيرِهِ، فإنَّ فعلَ القبيحِ يصيرُ عادةً، ولا ينزجِرُ عنه بوعظٍ ولا تأديبٍ ولا تعليمٍ، بل هو متبعٌ للهَوى على كلِّ حالٍ، فهذا حالُ كلِّ مَن اتَبعَ هواه، ولم ينزجِرْ عنه بوعظٍ ولا غيرِهِ، وسواءٌ كانَ الهَوى المُتبعُ داعيًا إلى شهوةٍ حسيةٍ، كالزِّنا والسرقةِ وشربِ الخمرِ، أو إلى غضبٍ وحقدٍ وكبرٍ وحسدٍ، أو إلى شُبهةٍ مضلَّةٍ في الدِّينِ، وأشدُّ ذلكَ: حالُ من اتَّبع هواهُ في شبهةٍ مضلةٍ، ثمَّ من اتبع هواهُ في غضبٍ وكبرٍ وحقدٍ وحسدٍ، ثم من اتَّبع هواهُ في شهوةٍ حسيةٍ .

قَولُ اللهِ تعالى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يدلُّ على تعظيمِ شَأنِ ضَربِ الأمثالِ في تأثيرِ الكَلامِ، وكونِه أقوى مِن سَوقِ الدَّلائلِ والحُجَجِ المجَرَّدةِ، ويدلُّ على تعظيمِ شأنِ التفَكُّر، وكونِه مبدأَ العِلمِ، وطَريقَ الحَقِّ .

ما يحصُلُ بالقَلبِ مِن العِلمِ، وإن كان بكَسْبِ العَبدِ ونَظَرِه، واستدلالِه واستماعِه ونحو ذلك؛ فإنَّ الله تعالى هو الذي أثبَتَ ذلك العِلمَ في قَلْبِه، وهو حاصِلٌ في قَلْبِه بفَضلِ اللهِ وإحسانِه وفِعْلِه؛ قال الله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .

قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ فيه تنويهٌ بشأنِ المُهتَدينَ، وتلقينٌ للمُسلمينَ؛ للتَّوجُّهِ إلى اللهِ تعالى بطَلَبِ الهِدايةِ منه، والعِصمةِ مِن مَزالِقِ الضَّلالِ .

قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ العبدُ فقيرٌ إلى اللهِ في كُلِّ شَيءٍ، يحتاجُ إليه في كلِّ شَيءٍ، لا يستغني عن اللهِ طَرفةَ عَينٍ؛ فمَن يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِيَ له. فإذا ثبتَتْ هاتانِ المُقَدِّمتانِ، فنقول: إذا أُلهِمَ العبدُ أن يسألَ اللهَ الهدايةَ، ويستعينَه على طاعَتِه؛ أعانه وهداه، وكان ذلك سببَ سَعادَتِه في الدنيا والآخرةِ، وإذا خُذِلَ العَبدُ فلم يعبُدِ اللهَ، ولم يستعِنْ به، ولم يتوكَّلْ عليه؛ وُكِلَ إلى حَولِه وقُوَّتِه، فيُوَلِّيه الشَّيطانَ، وصُدَّ عن السَّبيلِ، وشَقِيَ في الدُّنيا والآخرةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُه تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا دلَّت على مَنعِ التَّقليدِ لِعالِم إلَّا بحجَّةٍ يُبَيِّنُها؛ لأنَّ الله تعالى أخبَرَ أنَّه أعطى هذا آياتِه فانسلَخَ منها، فوجب أن يُخافَ مثلُ هذا على غَيرِه، وألَّا يُقبَلَ منه إلَّا بحُجَّةٍ

.

الآياتُ مِن شأنِها أن تكونَ سَببًا للهدايةِ والتَّزكيةِ؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا .

قَولُ اللهِ تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا التعبيرُ بالانسلاخِ المُستعمَلِ عند العَرَبِ في خروجِ الحَيَّاتِ والثَّعابينِ أحيانًا مِن جُلودِها؛ يدلُّ على أنَّه كان متمَكِّنًا منها ظاهرًا، لا باطنًا .

قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قولُه: آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا أخبَرَ سبحانه أنَّه هو الذي آتاه آياتِه؛ فإنَّها نعمةٌ، واللهُ هو الذي أنعَمَ بها عليه، فأضافَها إلى نفسِه، ثمَّ قال: فَانْسَلَخَ مِنْهَا أي: خرجَ منها، كما تنسَلِخُ الحيَّةُ مِن جِلْدِها، وفارَقَها فِراقَ الجِلدِ ينسَلِخُ عن اللَّحمِ، ولم يقُلْ: (فسلخْناه منها)؛ لأنَّه هو الذي تسبَّبَ إلى انسلاخِه منها؛ باتِّباعِ هواه .

قال تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ فقد كان محفوظًا مَحروسًا بآياتِ اللهِ، محمِيَّ الجانِبِ بها مِن الشَّيطانِ، لا يَنالُ منه شيئًا إلَّا على غِرَّةٍ وخَطفةٍ؛ فلمَّا انسلَخَ من آياتِ اللهِ، ظَفِرَ به الشَّيطانُ ظَفَرَ الأسَدِ بفَريسَتِه، فكان مِن الغاوينَ العامِلينَ بخِلافِ عِلمِهم، الذينَ يعرِفونَ الحَقَّ ويعملونَ خِلافَه، كعُلَماءِ السُّوءِ .

قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ في هذا التعبيرِ تَعليمٌ للأدَبِ؛ في إسنادِ الخَيرِ إلى اللهِ، والشَّرِّ إلى غَيرِه، وإن كان الكُلُّ خَلْقَه .

قَولُ اللهِ تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا في تشبيهِ مَن آثَرَ الدُّنيا وعاجِلَها على اللهِ والدَّارِ الآخرةِ- مع وُفورِ عِلمِه- بالكَلْبِ في لَهَثِه؛ سِرٌّ بديعٌ، وهو: أنَّ الذي حالُه ما ذَكَرَه اللهُ؛ مِن انسلاخِه مِن آياتِه، واتِّباعِه هواه- إنَّما كان لشِدَّةِ لَهَفِه على الدُّنيا؛ لانقطاعِ قَلْبِه عن اللهِ والدَّارِ الآخِرةِ، فهو شديدُ اللَّهَفِ عليها، ولهَفُه نظيرُ لَهَثِ الكَلْبِ الدَّائِمِ في حالِ إزعاجِه وتَرْكِه .

قَولُ اللهِ تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الاقتصارُ في الإخبارِ عَمَّن هَدى اللهُ بالمهتدي؛ تعظيمٌ لشَأنِ الاهتداءِ، وتَنبيهٌ على أنَّه في نفسِه كمالٌ جَسيمٌ، ونَفعٌ عَظيمٌ، لو لم يحصُلْ له غيرُه لَكَفاه، وأنَّه المُستلزِمُ للفوزِ بالنِّعَم الآجِلةِ، والعنوانُ له .

أفضلُ ما يُقدِّر الله لعبدِه، وأجلُّ ما يقسِمُه له الهدَى، وأعظمُ ما يَبتَليه به، ويُقدِّرُه عليه الضَّلالُ، وكلُّ نعمةٍ دونَ نعمةِ الهدَى، وكلُّ مصيبةٍ دونَ مصيبةِ الضَّلالِ، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .

اتَّفقتْ رسلُ الله- مِن أوَّلِهم إلى آخرِهم- وكتبُه المنزلةُ عليهم على أنَّه سبحانَه يُضلُّ مَن يشاءُ، ويهدي مَن يشاءُ، وأنَّه مَن يهدِهِ الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأنَّ الهدَى والإضلالَ بيدِه لا بيدِ العبدِ، وأنَّ العبدَ هو الضالُّ أو المهتدي، فالهدايةُ والإضلالُ فعلُه سبحانه وقدرُه، والاهتداءُ والضلالُ فعلُ العبدِ وكسبُه، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ

في قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا عظَّمَ ما أعطاه بمَظهرِ العَظَمةِ، ولَفْظِ الإيتاءِ، بعدما عَظَّمَ خَبَرَه بلَفْظِ الإنباءِ

.

قوله: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَأَتْبَعَهُ مِن (أتْبع) رُباعيًّا، أي: لَحِقه وصارَ معه، وهي مُبالغةٌ في حقِّه؛ إذ جُعِلَ كأنَّه هو إمامٌ للشَّيطانِ يَتْبَعُه، وكذلك قولُه تعالى: فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:10] .

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فيه تمثيلٌ لحالِ المتلَبِّسِ بالنَّقائصِ والكُفرِ، بعد الإيمانِ والتَّقوى؛ بحالِ مَن كان مُرتفعًا عن الأرضِ، فنزَلَ من اعتلاءٍ إلى أسفَل، فبِذِكرِ (الأرض) عُلِمَ أنَّ الإخلادَ هنا ركونٌ إلى السُّفلِ، أي: تلبُّسٌ بالنَّقائِصِ والمفاسِدِ .

وقوله: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ جاءَ الاستدراكُ هنا تَنبيهًا على السَّببِ الذي لأجْلِه لم يُرفَعْ ولم يُشرفْ، كما فُعِل بغيرِه ممَّن أُوتِي الهُدَى فآثَرَه واتَّبعَه ؛ فعبر بقولِه: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ ولم يقُل: (ولكنَّه أعْرَض عنها)؛ مُبالغةً وتنبيهًا على ما حَمَله عليه، وأنَّ حُبَّ الدُّنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ .

قوله تعالى: ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فيه تَشبيهُ المكذِّبينَ بالآياتِ- حيثُ أُوتوها وجاءتْهم واضحاتٍ تَقتضي التَّصديقَ بها، فقابَلُوها بالتكذيبِ، وانْسَلخوا منها- كما شُبِّهَ وصْفُ المُؤتَى الآياتِ المنسلخِ منها بالكَلبِ في أخسِّ حالاتِه، وذَلِكَ يَحتمِلُ أنْ يكونَ إشارةً لِمَثَل المنسلِخِ، وأنْ يكونَ إشارةً لوصفِ الكَلبِ، ويَحتمِلُ أنْ تكونَ أداةُ التَّشبيهِ مَحذوفةً مِن ذَلِكَ، أي: صِفةُ ذلِك صِفةُ الذين كذَّبوا، ويَحتمِلُ أنْ تكونَ مَحذوفةً مِن مَثَلُ الْقَوْمِ، أي: ذلك الوصْفُ وصْفُ المنسلِخِ، أو وصفُ الكَلبِ كمَثَل الذين كذَّبوا بآياتِنا، ويَكون أبلغَ في ذمِّ المكذِّبين حيثُ جُعِلوا أصلًا، وشُبِّهَ بهم .

وجملةُ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا جملةٌ مُبَيِّنةٌ لجُملةِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا...، أي: ذلك التمثيلُ مَثَلٌ للمُشركينَ المُكَذِّبينَ بالقُرآنِ، وهو تَشبيهٌ بليغٌ؛ لأنَّ حالةَ الكَلبِ المُشبَّه شَبيهةٌ بحالِ المُكَذِّبين، وليستْ عَينَها .

قولُه: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ تذييلٌ للقِصَّةِ المُمَثَّلِ بها، يشمَلُها وغَيرَها مِن القَصَص التي في القُرآن؛ فإنَّ في القَصَصِ تفكُّرًا ومَوعظةً، فيُرجى منه تفكُّرُهم ومَوعِظَتُهم .

قولُه تعالى: سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ

قوله تعالى: سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا هذه الجُملةُ تأكيدٌ للجُملةِ السَّابقةِ ، وهي جملةٌ مُستأنفةٌ؛ لأنَّها جُعِلَت إنشاءَ ذَمٍّ لهم، بأنْ كانوا في حالةٍ شَنيعةٍ، وظَلَموا أنفُسَهم .

قوله: وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ فيه تقديمُ المَفعولِ أَنْفُسَهُمْ للاختصاصِ، كأنَّه قِيل: وخَصُّوا أنفُسَهم بالظُّلمِ، وما تَعدَّى أثرُ ذلك الظُّلمِ عنهم إلى غيرِهم .

وقولُه: كَانُوا يَظْلِمُونَ أقْوَى في إفادةِ وَصْفِهم بالظُّلمِ مِن أن يُقالَ: وظَلموا أنفُسَهم .

قوله: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ تذييلٌ للقِصَّةِ والمَثَلِ وما أُعقِبا به من وَصْفِ حالِ المُشركينَ؛ فإنَّ هذه الجُملةَ تُحصِّلُ ذلك كُلَّه، وتجري مجرى المَثَلِ، وذلك أعلى أنواعِ التَّذييلِ .

والقَصرُ المُستفادُ مِن تعريفِ جُزأيِ الجُملةِ فَهُوَ الْمُهْتَدِي قَصرٌ حقيقيٌّ ادِّعائيٌّ، باعتبارِ الكَمالِ، واستمرارِ الاهتداءِ إلى وفاةِ صاحِبِه. وكذلك القَولُ في فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وزِيدَ في جانِبِ الخاسرينَ الفَصلُ باسمِ الإشارةِ (أُولَئِكَ)؛ لزيادةِ الاهتمامِ بتَمييزِهم بعنوانِ الخُسرانِ تحذيرًا منه، فالقَصرُ فيه مؤكَّدٌ. وقد عُلِمَ مِن مُقابلةِ الهِدايةِ بالإضلالِ، ومُقابلةِ المهتدي بالخاسِرِ أنَّ المُهتديَ فائِزٌ رابِحٌ، فحُذِفَ ذِكرُ رِبحِه إيجازًا .

وجاء الإفرادُ في الأوَّلِ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، والجَمعُ في الثَّاني فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ باعتبارِ اللَّفظِ والمعنى لـمَنْ؛ تنبيهًا على أنَّ المُهتَدينَ كواحدٍ، لاتِّحادِ طَريقتِهم، بخلافِ الضَّالِّينَ .

=======================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (179-183)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات:

 

ذَرَأْنَا: أَي: خَلَقنَا، وَأصلُ (ذرأ) البَذْرُ والزَّرعُ

.

لَا يَفْقَهُونَ: أي: لا يَفهمونَ، والفقه هو مطلقُ الفهمِ، أو: فهمُ الأشياءِ الدقيقةِ، يُقال: فقهتُ الكلامَ. إذا فهمتَه حقَّ الفهمِ، والفقهُ التوصُّلُ إلى علمٍ غائبٍ بعلمٍ شاهدٍ، فهو أخصُّ مِن العلمِ .

وَذَرُوا: أي: اترُكُوا ودَعُوا، وفلانٌ يَذَرُ الشَّيءَ، أي: يَقذِفُه لقلَّةِ اعتدادِه به .

يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ: أي: يَجُورونَ فيها عن الحَقِّ ويَعْدِلونَ، وذلك بتَسمِيَتِهم آلهتَهم بأسمائِه تعالى، فاشتقُّوا اللَّاتَ مِن (اللهِ) والعُزَّى من (العزيزِ)، وأصلُ (لحد): يدلُّ على مَيلٍ عن استقامةٍ .

أُمَّةٌ: أي: جماعةٌ، وأصلُ (أمَّ): الأصلُ والمرجِعُ، والجماعةُ والدِّينُ .

سَنَسْتَدْرِجُهُمْ: أي: سنأخُذُهم قليلًا قليلًا، درجةً فدرجةً، ولا نُباغِتُهم، وأصلُ (درج): يدلُّ على مُضِيِّ الشَّيءِ، والمُضيِّ في الشَّيءِ .

وَأُمْلِي: أي: أؤخِّرُهم وأُمْهلُهم؛ مأخوذٌ مِن المُلاوةِ، وهي الحينُ .

كَيْدِي: أي: مَكْرِي أو أخْذي، والكيدُ: ضربٌ من الاحتيالِ، وقد يكونُ مَذمومًا وممدوحًا، وإن كان يستعمَلُ في المذمومِ أكثَرَ، وأصلُ (كيد) يدلُّ على معالجةٍ لِشَيءٍ بِشِدَّةٍ .

مَتِينٌ: أي: شديدٌ، وأصلُ (متن) يدلُّ على صلابةٍ في الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه خلَقَ لجهنَّمَ كثيرًا من الجِنِّ والإنسِ، لهم قلوبٌ لا يَفهمونَ بها الحقَّ، ولهم أعيُنٌ لا يُبصرونَ بها آياتِ اللهِ وأدلَّتَه، ولهم آذانٌ لا يَسمعونَ بها كتابَ اللهِ سَماعَ تَدبُّرٍ وتفَكُّرٍ، أولئك كالأنعامِ التي لا تفهَمُ شيئًا، بل هم أضَلُّ منها، أولئك هم الغافلونَ عن آياتِ اللهِ وذِكرِه، وعمَّا ينفَعُهم من الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ.

ويخبِرُ تعالى أنَّ له الأسماءَ الحُسنى، ويأمُرُ عبادَه أن يدعُوه بها، ويتركُوا الذين يميلونَ في أسمائِه عن الحَقِّ الواجِبِ لها؛ فإنَّه تعالى سيُجازيهم بما كانوا يَعملونَ؛ مِن الكُفرِ والإلحادِ في أسمائِه.

ويخبِرُ تعالى أنَّ مِمَّن خَلَق جماعةً مِن المُسلمينَ، يهتدونَ بالحَقِّ، ويُرشِدونَ النَّاسَ إليه، وبه يعدِلونَ بينهم، والذين جَحَدوا بآياتِه- عزَّ وجَلَّ- سيستدرجُهم إلى ما يُهلكُهم ويُضاعفُ عقابَهم مِن حيثُ لا يعلمون، فيمهِلُهم، ويطيلُ أعمارَهم، ولا يعاجِلُهم بالعقوبةِ؛ ليتمادَوا في الكُفرِ والعِصيانِ؛ إنَّ كيدَه- عزَّ وجلَّ- قويٌّ شديدٌ، لا يُمكِنُ الإفلاتُ منهُ.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(179)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه هو الهادي وهو المُضِلُّ؛ أعقَبَه بذكْرِ مَن خُلِقَ للخُسرانِ والنَّارِ، وذكَرَ أوصافَهم فيما ذَكَر، وفي ضِمنِه وعيدُ الكُفَّار

.

وأيضًا فهذه الآيةُ عطفٌ على جملةِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا والمناسبةُ أنَّ صاحبَ القصَّة المعطوفِ عليها انتقَل مِن صورةِ الهدَى إلى الضَّلال؛ لأنَّ الله لما خلَقه خلَقه ليكونَ مِن أهلِ جهنَّمَ، مع ما لها- أيضًا- مِن المناسبةِ للتذييلِ الذي خُتِمت به القصةُ، وهو قولُه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ... .

وأيضًا لَمَّا انقضَتْ تلك القَصَصُ، فأسفَرَت عن أنَّ أكثَرَ الخَلقِ هالكٌ، صَرَّحَ بذلك هنا ، فقال:

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ

أي: ولقد خَلَقْنا وبثَثْنا لنارِ جَهنَّم كثيرًا مِن الجِنِّ والإنسِ؛ ليصيرُوا إليها يومَ القِيامةِ، فهم لطَريقِها سالكونَ، وبعَملِ أهلِها عاملونَ .

عن عائشةَ أمِّ المُؤمنينَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ خلقَ للجنَّةِ أهلًا، خلَقَهم لها، وهم في أصلابِ آبائِهم، وخلَقَ للنَّارِ أهلًا، خَلَقَهم لها، وهم في أصلابِ آبائِهم )) .

وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سمعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يقولُ: ((كتبَ اللهُ مَقاديرَ الخَلائقِ، قبلَ أن يخلُقَ السَّمواتِ والأرضَ بخَمسينَ ألفَ سنةٍ، قال: وعَرشُه على الماءِ )) .

لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا

أي: لهؤلاءِ- الذين خلَقْناهم لجهنَّمَ- قلوبٌ لا يَفهمونَ بها الحَقَّ الذي جاء مِن عندِ اللهِ، ولا يتفكَّرونَ فيه .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأحقاف: 26] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [الأنفال: 22] .

وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا

أي: ولهم أعينٌ لا يَنظرونَ بها إلى آياتِ اللهِ وأدِلَّتِه، فيتأمَّلُوها ويعلَموا الحَقَّ .

كما قال سُبحانه: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي [الكهف: 101] .

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْبَقَرَةِ: 18]

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَةِ: 171]

وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا

أي: ولهم آذانٌ لا يَسمَعونَ بها آياتِ كتابِ اللهِ سَماعَ تَدَبُّرٍ وتفَكُّرٍ في معانيها، فيهتَدُوا بها إلى الحَقِّ .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأحقاف: 26] .

وقال سُبحانه: وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف: 101] .

وقال عز وجل: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 23] .

أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ

أي: أولئك- الَّذينَ ذرَأْنا لجهنَّم، الَّذينَ لا يَسمعونَ الحَقَّ ولا يَعُونَه ولا يُبصِرونَه، إنما همُّهم من الدُّنيا الأكلُ والتمتُّعُ بالشَّهواتِ- مِثلُ البَهائِم التي لا تفهَمُ الحقَّ، بل هم أضلُّ منها؛ لأنَّ الأنعامَ تُبصِرُ منافِعَها ومضارَّها، وتتْبَعُ مالِكَها، وتُستعمَل فيما خُلِقَت له، بخلافِ أولئك القَومِ الضَّالينَ .

كما قال عزَّ وجلَّ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] .

وقال سبحانه: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44] .

أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ

أي: هؤلاءِ الكفَّارُ- الَّذين لم ينتَفِعوا بعُقولِهم ولا بأعيُنِهم ولا بآذانِهم- همُ الذينَ غَفَلوا غفلةً كاملةً عن آياتِ اللهِ وذِكرِه، وعمَّا ينفَعُهم من الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ .

كما قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [النحل: 108] .

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه ذرأَ كثيرًا من الجنِّ والإنسِ للنَّارِ؛ ذكرَ نوعًا منهم، وهم الذينَ يُلحِدونَ في أسمائِه . ولَمَّا بيَّنَ في الآيةِ السَّابقةِ حالَ المَخلوقينَ لجَهنَّمَ؛ في عدَمِ استعمالِ عُقولِهم وحَواسِّهم في الاعتبارِ بآياتِ اللهِ، والتفَقُّهِ في تزكِيةِ أنفُسِهم بالعِلمِ الصَّحيحِ، الذي يترتَّبُ عليه العمَلُ الصَّالِحُ، وأنَّ ذلك الإهمالَ أعقَبَهم الغفلةَ التَّامةَ عَن أنفُسِهم، وما فيه صَلاحُها؛ من ذِكرِ الله تعالى وشُكرِه، والثَّناءِ عليه بما هو أهلُه مِن صفاتِ الكَمالِ- قفَّى على ذلك بدَواءِ هذه الغَفلةِ، فأمرَ سُبحانه بذِكرِه، فقال: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا، وهذا كالتَّنبيهِ على أنَّ المُوجِبَ لدُخولِ جهنَّمَ، هو الغفلةُ عن ذِكرِ اللهِ، والمُخَلِّصَ من عذابِ جهنَّمَ هو ذِكرُ اللهِ تعالى .

وأيضًا لَمَّا أنتَجَ ما سبَقَ أنَّ للمُشركينَ الأسماءَ السُّوأى، ولِمَعبوداتِهم أسوأَ منها؛ عطَفَ عليه الآيةَ هنا؛ دفعًا لِوَهْم من يتوهَّمُ- بالحُكمِ بالضَّلالِ، والذَّرْءِ لِجَهنَّمَ- ما لا يليقُ بالله تعالى .

وأيضًا لَمَّا كان أفظَعُ أحوالِ المَعدودينَ لجهنَّمَ هو حالَ إشراكِهم باللهِ غَيرَه؛ لأنَّ فيه إبطالًا لأخَصِّ الصِّفاتِ بمعنى الإلهيَّةِ: وهي صِفةُ الوحدانيَّةِ، وما في معناها مِن الصِّفاتِ؛ نحو: الفَرْد الصَّمَد، وينضوي تحتَ الشِّركِ تعطيلُ صِفاتٍ كَثيرةٍ، مع إنكارِ أهلِ الشِّركِ صِفةَ الرَّحمنِ- فعُقِّبَت الآياتُ التي وصَفَت ضلالَ إشراكِهم، بتَنبيهِ المُسلمينَ للإقبالِ على دُعاءِ اللهِ بأسمائِه الدَّالَّةِ على عظيمِ صِفاتِ الإلهيَّةِ، والدَّوامِ على ذلك، وأن يُعرِضوا عن شَغْبِ المُشرِكينَ وجِدَالِهم في أسماءِ اللهِ تعالى ، فقال تعالى:

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا

أي: ولله أحسَنُ الأسماءِ الدالَّةِ على صفاتِ كمالِه، فادعُوا اللهَ وَحْدَه بتلك الأسماءِ العظيمةِ .

كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] .

وقال عزَّ وجلَّ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه: 8] .

وقال سبحانه: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الحشر: 24] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ للهِ تسعةً وتِسعينَ اسمًا- مئةً إلَّا واحدًا- مَن أحصاها دخَلَ الجنَّةَ )) .

وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ

أي: واترُكوا الذينَ يَميلونَ في أسماءِ اللهِ، عن الحقِّ الواجبِ لها، كأنْ يُسَمُّوا بها آلهتَهم، أو يزيدُوا فيها، أو ينقُصوا منها، أو يُنكِروا بَعضَها .

سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

أي: سيُجازي اللهُ أولئك الذين يُلحِدونَ في أسمائِه، على جميع ما كانوا يعمَلونَ مِن الكُفرِ والإلحادِ في أسمائِه .

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكرَ اللهُ تعالى مَن ذرَأَ للنَّارِ، ذكَرَ هنا مُقابِلَهم ، فقال:

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ

أي: ومِنَ الذين خَلَقْنا، جماعةٌ مِن المُسلمينَ، يهتدونَ بالحَقِّ الذي أنزَلَه اللهُ، ويُرشِدونَ النَّاسَ إليه .

كما قال تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1- 3] .

وقال سبحانه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104] .

وعن ثوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تزالُ طائفةٌ مِن أمَّتي ظاهرينَ على الحقِّ، لا يضُرُّهم مَن خَذَلهم، حتى يأتيَ أمرُ اللهِ وهم كذلك )) .

وَبِهِ يَعْدِلُونَ

أي: وبالحَقِّ يعدلونَ بين النَّاسِ ويُنصِفونَهم .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حال الهادينَ المَهديِّينَ، وكان أصلُ السِّياقِ الضَّالِّينَ المُضلِّين؛ أتبَعَه بقيَّةَ الحديثِ عنهم على وجهٍ مُلَوِّحٍ بأنَّ عِلَّةَ الهدايةِ التَّوفيقُ .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)

أي: والَّذينَ جَحَدوا آياتِنا ورَدُّوها، سنُقرِّبُهم إلى هلاكِهم بالتَّدريجِ، درجةً درجةً، فنُغدِقُ عليهم مِن نِعَمِنا، ونفتَحُ لهم أبوابَ رِزقِنا، حتى يغتَرُّوا بما هم فيه، فيزدادوا انهماكًا في الفَسادِ، وتماديًا في البَطَرِ والغَفلةِ والعِنادِ، وهم لا يَعلمونَ حقيقةَ ما يُرادُ بهم، حتى يأخُذَهم اللهُ تعالى بعذابِه على غِرَّةٍ .

كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 44-45] .

وقال سُبحانه: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 54- 56] .

وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)

وَأُمْلِي لَهُمْ

أي: وأُمهِلُ الذين كذَّبوا بآياتي، فأُطيلُ أعمارَهم، ولا أعاجِلُهم بالعُقوبةِ؛ ليتمادَوْا في الكُفرِ، ويزدادُوا عصيانًا، فتزيدَ عقوبَتُهم، ويتضاعَفَ عذابُهم .

عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُملي للظَّالِمِ حتَّى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه. ثم قرأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[هود: 102] )) .

إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ

أي: إنَّ كَيْدي قَويٌّ شديدٌ لا يُمكِنُ الإفلاتُ منه

 

.

قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق: 15- 17] .

الفوائد التربوية:

 

1- مِن أعظَمِ الأسبابِ التي يُحرَمُ بها العبدُ خَيرَ الدُّنيا والآخرةِ، ولذَّةَ النَّعيمِ في الدَّارينِ، ويَدخُلُ عليه عدوٌّ منها: الغفلةُ المُضادَّةُ للعِلمِ، وقد ذَمَّ اللهُ تعالى أهلَها، فقال: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ

.

2- الدُّعاةُ إلى الحَقِّ لا يسكُتونَ عن الدَّعوةِ به وإليه، ولا يتقَوقعونَ على أنفُسِهم، ولا يَنْزَوونَ بالحَقِّ الذي يعرفونَه، ولكنَّهم يَهدُونَ به غيرَهم؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فهذه أمَّةٌ فاضِلةٌ كاملةٌ في نَفسِها، مُكمِّلةٌ لِغَيرِها، يهدونَ أنفُسَهم وغيرَهم بالحقِّ، فيعلمونَ الحقَّ ويعملونَ به، ويُعلِّمونَه، ويدعونَ إليه وإلى العمَلِ به

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا لَمَّا كانوا لا يتدبَّرونَ شيئًا مِن الآياتِ، ولا ينظرونَ إليها نظَرَ اعتبارٍ، ولا يسمعونَها سماعَ تفكُّرٍ، جُعِلوا كأنَّهم فَقَدوا الفِقهَ بالقُلوبِ، والإبصارَ بالعيونِ، والسَّماعَ بالآذانِ، وليس المرادُ نفيَ هذه الإدراكاتِ عن هذه الحواسِّ، وإنَّما المرادُ نفيُ الانتفاعِ بها فيما طُلِبَ منهم من الإيمانِ

.

قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يدلُّ على أنَّ كُفَّارَ الجِنِّ في النَّارِ .

قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ تقديمُ المجرورِ على المفعولِ في قَولِه: لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا لِيَظهرَ تعلُّقُه بـ ذَرَأْنَا .

قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قدَّمَ ذكرَ الجِنِّ على الإنسِ في الآيةِ، والعلَّةُ في ذلك:

قيل: لَمَّا كانوا يُعَظِّمونَ الجِنَّ ويخافونَهم ويَضِلُّون بهم، بدأ بالجِنِّ .

وقيل: لعلَّ تقديمَهم هنا في الذِّكرِ على الإنسِ أنَّهم أكثَرُ أهلِ جَهنَّم؛ لأنَّهم أجدَرُ وأعرَقُ في الصِّفاتِ المذكورةِ عَقِبَ هذه الجملةِ في الآية، والتي هي سببُ استحقاقِها .

وقيل: بل قدَّمَ الجِنَّ على الإنسِ في الذِّكرِ؛ ليتعيَّنَ كونُ الصِّفاتِ الواردةِ مِن بعدُ صِفاتٍ للإنسِ، وبقرينةِ قَولِه: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ .

قَولُ اللهِ تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا فيه دليلٌ على أنَّ القَلبَ آلةٌ للفِقهِ والعِلمِ، كما أنَّ العينَ آلةٌ للإبصارِ، والأذُنَ آلةٌ للسَّماعِ .

قَولُ اللهِ تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا لَمَّا كان السِّياقُ للتفكُّرِ، بدأ بالقُلوبِ .

قَولُ اللهِ تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا أبلَغُ مِن أن يُقالَ: (ليس لهم قلوبٌ يفقهونَ بها)؛ لأنَّ إثباتَ خلقِ القُلوبِ لهم، هو موضِعُ قيامِ الحُجَّةِ عليهم، والتعبيرُ الآخَرُ يَصدُقُ بأمرينِ: بعَدَمِ وجودِ القُلوبِ لهم بالمرَّةِ، وبوجودِ قلوبٍ لا يفقهونَ بها، وفي الحالةِ الأولى لا تقومُ عليهم حجَّةٌ؛ لأنَّهم لم يُؤتَوا آلةَ التَّكليفِ، وهو العَقلُ والوِجدانُ، فلا تكونُ العبارةُ نصًّا في قيامِ الحُجَّةِ؛ لاحتمالِها عدمَ التَّكليفِ. وإنَّما قال: لَا يَفْقَهُونَ بها، ولم يقُل: (لا تفقَهُ)؛ لبيانِ أنَّهم هم المؤاخَذونَ بعَدمِ تَوجيهِ إرادتِهم لِفقهِ الأمورِ، واكتناهِ الحَقائقِ، ويقالُ مثلُ هذا وما قبلَه فيما بَعدَه، وهو: وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا .

السَّمعُ والعَقلُ هما أصلُ العِلمِ، وبهما يُنالُ؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا .

قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ليس في تقديمِ الأعيُنِ على الآذانِ مُخالَفةٌ لِما جرى عليه اصطلاحُ القُرآنِ، مِن تقديمِ السَّمعِ على البَصرِ؛ لتَشريفِ السَّمعِ بتلقِّي ما أمرَ اللهُ به، كما في قولِه تعالى: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7] لأنَّ التَّرتيبَ في آيةِ سُورةِ الأعرافِ هذه، سلك طريقَ الترقِّي مِن القُلوبِ التي هي مقَرُّ المُدرَكاتِ، إلى آلاتِ الإدراكِ: الأعيُنِ، ثم الآذانِ؛ فللآذانِ المرتبةُ الأولى في الارتقاءِ .

قَولُ اللهِ تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ وقع هنا التدرُّجُ في وَصفِهم بهذه الأوصافِ: مِن نَفيِ انتفاعِهم بمَدارِكهم، ثم تَشبيهِهم بالأنعامِ، ثم الترقِّي إلى أنَّهم أضَلُّ مِن الأنعامِ، ثمَّ قَصرِ الغَفلةِ عليهم .

قال اللهُ تعالى: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ وجهُ كونِهم أضلَّ مِن الأنعامِ: أنَّها تَنقادُ لأربابِها، وتعرِفُ مَن يُحسِنُ إليها، وتجتنِبُ ما يضرُّها، وهؤلاءِ لا يَنقادونَ لِرَبِّهم، ولا يَعرفونَ إحسانَه إليهم، من إساءةِ الشَّيطانِ الذي هو عدوُّهم !

قَولُ اللهِ تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فأسماءُ اللهِ ليسَت إلَّا لِلَّهِ، والصِّفاتُ الحُسنى ليسَت إلَّا للَّهِ، فيجِبُ كَونُها موصوفةً بالحُسنِ والكَمالِ؛ فهذا يفيدُ أنَّ كلَّ اسمٍ لا يُفيدُ في المسمَّى صفةَ كمالٍ وجلالٍ، فإنَّه لا يجوزُ إطلاقُه على اللهِ سُبحانه .

قَولُه تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ دلَّت الآيةُ على أنَّ اللهَ- عزَّ وجلَّ- لا يُخلِي الدُّنيا في وقتٍ مِن الأوقاتِ مِن داعٍ يدعو إلى الحَقِّ

 

.

بلاغة الآيات:

 

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ

قولُه تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فيه تأكيدٌ بلامِ القَسَمِ وبـ(قَد)؛ لقَصدِ تحقيقِ الخَبَرِ؛ لأنَّ غرابتَه تُنَزِّلُ سامِعَه خاليَ الذِّهنِ منه منزلةَ المُتردِّدِ في تأويلِه، ولأنَّ المُخبَرَ عنهم قد وُصِفوا بـ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا إلى قَولِه: بَلْ هُمْ أَضَلُّ، والمعنيُّ بهم المُشركونَ، وهم يُنكِرونَ أنَّهم في ضلالٍ، ويحسَبونَ أنَّهم يُحسِنونَ صُنعًا، وكانوا يحسَبونَ أنَّهم أصحابُ أحلامٍ وأفهامٍ

.

قولُه: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ مستأنفةٌ لابتداءِ كلامٍ بتفظيعِ حالِهم، فجُعِلَ ابتداءَ كلامٍ؛ ليكونَ أدعى للسَّامِعينِ، وعُرِّفوا بالإشارةِ أُولَئِكَ؛ لزيادةِ تَمييزِهم بتلك الصِّفات، وللتنبيهِ على أنَّهم بسبَبِها أحْرِياءُ بما سيُذكَرُ مِن تَسويَتِهم بالأنعامِ، أو جَعلِهم أضلَّ مِن الأنعامِ .

قَولُه: أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ تعليلٌ لِكَونِهم أضلَّ مِن الأنعامِ، وهو بلوغُهم حدَّ النِّهايةِ في الغَفلةِ، وبلوغُهم هذا الحدَّ أُفيدَ بِصيغةِ القَصرِ الادِّعائيِّ؛ إذِ ادُّعِيَ انحصارُ صِفةِ الغَفلةِ فيهم، بحيث لا يُوجدُ غافلٌ غيرُهم؛ لعدمِ الاعتدادِ بغَفلةِ غَيرِهم، فكلُّ غفلةٍ في جانبِ غَفلَتِهم كَلَا غفلةٍ؛ لأنَّ غَفلةَ هَؤلاءِ تعلَّقَت بأجدَرِ الأشياءِ بألَّا يُغفَلَ عنه، وهو ما تُفضي الغفلةُ عنه بالغافِلِ إلى الشَّقاءِ الأبديِّ، فهي غفلةٌ لا تدارُكَ منها .

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

قولُه تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى تقديمُ المجرورِ المسنَدِ على المسنَدِ إليه؛ لمجرَّدِ الاهتمامِ المُفيدِ تأكيدَ استحقاقِه إيَّاها، المُستفاد من اللَّام، والمعنى أنَّ اتِّسامَه بها أمرٌ ثابِتٌ .

والتَّفريعُ في قَولِه: فَادْعُوهُ بِهَا تفريعٌ عَن كَونِها أسماءً له، وعن كونِها حُسنى، أي: فلا حَرجَ في دعائِه بها؛ لأنَّها أسماءٌ مُتعدِّدةٌ لمسمًّى واحدٍ، لا كما يزعُمُ المُشركون، ولأنها حُسنى فلا ضيرَ في دعاءِ الله تعالى بها .

وجملةُ: سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ تتنزَّلَ منزلةَ التَّعليلِ للأمرِ بتَركِ المُلحِدينَ، و (ما) موصولةٌ عامَّةٌ، أي: سيُجزَونَ بِجَميعِ ما يَعمَلونَه مِن الكُفرِ، ومِن جملة ذلك إلحادُهم في أسمائِه، والسينُ للاستقبالِ، وهي تفيدُ التَّأكيد .

وقيل: مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ دونَ أن يُقالَ (ما عَمِلوا) أو (ما يعملونَ)؛ للدَّلالةِ على أنَّ ذلك العمَلَ سنةٌ لهم، ومتجَدِّدٌ منهم .

قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ الاستدراجُ: استفعالٌ من درَجَ بمعنى (صعِد)، ثم اتُّسِع فيه، فاستُعمِلَ في كلِّ نقلٍ تدريجيٍّ، سواءٌ كان بطريقِ الصُّعودِ أو الهبوطِ أو الاستقامةِ، ثم استُعيرَ لطَلبِ كُلِّ نَقلٍ تدريجيٍّ مِن حالٍ إلى حالٍ، من الأحوالِ المُلائمةِ للمُنتَقِل، المُوافِقةِ لِهَواه، بحيث يزعُم أنَّ ذلك ترقٍّ في مراقي منافِعِه، مع أنَّه في الحقيقة ترَدٍّ في مهاوي مصارعِه، فاستدراجُه- سُبحانَه- إيَّاهم: أن يواتِرَ عليهم النِّعمَ مع انهماكِهم في الغَيِّ، فيحسَبوا أنَّها لُطفٌ لهم منه تعالى، فيَزدادوا بَطرًا وطغيانًا، لكِنْ لا على أنَّ المطلوبَ تدرُّجُهم في مراتِبِ النِّعَمِ، بل هو تدرُّجُهم في مدارجِ المعاصي إلى أن يحِقَّ عليهم كلمةُ العذابِ على أفظَعِ حالٍ وأشنَعِها .

قولُه تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (إنَّ وما بَعدَها) في موضِعِ العِلَّةِ للجُملَتينِ قبلها؛ فإنَّ الاستدراجَ والإملاءَ ضَربٌ مِن الكَيدِ .

والمغايرةُ بين فعلَيْ (نستَدرِج) و(أُملي)- في كونِ ثانيهِما بهمزةِ المتكَلِّم، وأوَّلِهما بنونِ العَظَمةِ- مغايرةٌ اقتضَتْها الفصاحةُ، مِن جِهةِ ثِقلِ الهَمزةِ بين حرفينِ مُتماثِلَين في النُّطقِ في سَنَسْتَدْرِجُهُمْ، وللتفنُّنِ والاكتفاءِ بحُصولِ معنى التعظيمِ الأوَّلِ .

=============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (184-186)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات:

 

جِنَّةٍ: أي: جُنونٍ، وَأصلُ (جنن): السَّترُ والتسَتُّر

.

مَلَكُوتِ: أي: مُلْكِ، وزيدَت فيه الواوُ والتاءُ، وبُنِي بناءَ جَبَروتٍ، وهو مختَصٌّ بمُلكِ اللهِ تعالى .

طُغْيَانِهِمْ: أي: عُتُوِّهِمْ وتكبُّرِهم، أو غَيِّهم وكُفْرِهم، وأصلُ الطُّغيانِ: مجاوزةُ الحدِّ .

يَعْمَهُونَ: أي: يتَحيَّرون ويجورونَ عَن الطَّريقِ، وأصلُ العَمهِ: التردُّدُ في الأمْرِ، مِن التحيُّرِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

أوَلم يتفكَّرْ هؤلاءِ المكَذِّبونَ بآياتِ اللهِ، فيما جاءهم به مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّهم لا يخفى عليهم حالُه، فيعلَمُوا أنَّه ليس به جُنونٌ، وما هو إلَّا نذيرٌ مُبينٌ.

أوَلم ينظُرْ هؤلاءِ المكَذِّبونَ بآياتِ اللهِ نظَرَ تأمُّلٍ واعتبارٍ، في ملكوتِ السَّمَواتِ والأرضِ، وفي جميعِ ما خلقَ اللهُ تعالى فيهما، فيعلَمُوا أنَّ خالِقَ ذلك كلِّه ومُدبِّرَه، هو المستحِقُّ وَحْدَه للعبادةِ، وينظرُوا في آجالهم التي عسَى أن تكونَ قد قربَتْ، فيَحذَروا ويُبادِرُوا إلى التَّوبةِ، فبأيِّ حديثٍ بعد القرآنِ يُصَدِّقونَ ويَنْقادون.

وأخبَرَ تعالى أنَّ مَن يَكتُب عليه الضَّلالةَ فلن يهْديَه أحدٌ، ويتركُهم اللهُ تعالى في كُفرِهم وضلالِهم يتحيَّرونَ، فلا يهتَدونَ للحَقِّ.

تفسير الآيات:

 

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان تكذيبُ المُشركينَ بالآياتِ مُنبعِثًا عن تكذيبِهم مَن جاء بها، وناشئًا عن ظَنِّ أنَّ آياتِ اللهِ لا يجيءُ بها البشَرُ، وأنَّ مَن يدَّعي أنَّه مُرسَلٌ مِن الله مجنونٌ- عقَّبَ الإخبارَ عن المُكَذِّبينَ ووعيدِهم، بدَعوتِهم للنَّظَرِ في حالِ الرَّسولِ، وأنَّه ليس بمجنونٍ كما يزعمونَ

.

وأيضًا لَمَّا بالغَ اللهُ تعالى في تهديدِ المُعرضينَ عن آياتِه، الغافلينَ عن التأمُّلِ في دلائِلِه وبيِّناتِه- عاد إلى الجوابِ عن شُبُهاتِهم ، فقال تعالى:

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ

أي: أوَلم يُعمِلْ أولئك المكَذِّبونَ بآياتِنا فِكرَهم فيما جاءَهم به مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذي خالَطوه وعَرَفوه، ولا يخفى عليهم شيءٌ مِن حالِه، فيعلَمُوا أنْ ليس به أيُّ جنونٍ ؟!

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46] .

وقال سبحانه: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ [الطور: 29].

إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ

مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا نفى أن يكونَ به شَيءٌ ممَّا نَسَبوه إليه وافتَرَوْه عليه، فثبَتَت رسالتُه- حصَرَ أمْرَه في النِّذارةِ؛ لأنَّها النَّافِعةُ لهم ، فقال:

إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ

أي: ما محمَّدٌ إلا نذيرٌ يخوِّفُ الكفَّارَ مِن عِقابِ اللهِ إن لم يُؤمِنوا، يُبِينُ ما يُنذِرُهم به؛ ليكونَ إنذارًا واضحًا جليًّا، لا لبْسَ فيه ولا شَكَّ، ولا عُذرَ معه .

أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا حضَّهم اللهُ تعالى على التفكُّرِ في حالِ الرَّسولِ، وكان مُفرَّعًا على تقريرِ دليلِ التَّوحيدِ؛ أعقَبَ بما يدلُّ على التَّوحيدِ، ووجودِ الصَّانِعِ الحَكيمِ ، فقال تعالى:

أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ

أي: أوَلم ينظُرِ المُكَذِّبونَ بآياتِ اللهِ نظَرَ تأمُّلٍ واعتبارٍ في مُلكِ اللهِ الواسِعِ، وسُلطانِه العظيمِ، في السَّمواتِ وفي الأرضِ، وفيما خلَقَ مِن الأشياءِ كُلِّها، فيتفكَّروا في كلِّ ذلك، فيعلَموا أنَّ خالِقَ ذلك ومُدبِّرَه هو المُستحِقُّ للعبادة وَحْدَه، فيؤمِنوا به ويُصَدِّقوا رسولَه ؟

وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ

أي: وينظُروا في احتمالِ دنُوِّ وَقتِ مَوتِهم وهم على كُفْرِهم، فيَحْذَروا ويبادِرُوا إلى التَّوبةِ قبل أن يصيروا إلى عذابِ اللهِ .

فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ

أي: فبأيِّ تخويفٍ وتحذيرٍ بعد القرآنِ يُصَدِّقون، إن لم يُصَدِّقوا بهذا الكتابِ الذي جاءَهم به مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِن عندِ الله تعالى ؟

كما قال عزَّ وجلَّ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] .

وقال سبحانه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر: 23] .

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكر اللهُ تعالى إعراضَهم عن الإيمانِ، ذكرَ علَّةَ ذلك: فضَلالُهم أمْرٌ قَدَّرَ اللهُ دوامَه، فلا طمَعَ لأحدٍ في هَدْيِهم ، فقال تعالى:

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ

أي: مَن كتبَ اللهُ عليه الضَّلالةَ، فلن يهدِيَه أحدٌ مِن بعدِ اللهِ .

كما قال تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 41] .

وقال سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23] .

وقال جلَّ جلاله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 36] .

وقال تبارك وتعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 88] .

وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

أي: ويترُكُهم اللهُ في تمادِيهم في كفْرِهم وضلالِهم، يتحَيَّرون ويتردَّدونَ، فلا يهتدونَ إلى الحقِّ

 

.

كما قال تعالى: فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [يونس: 11] .

وقال جل جلاله: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 15] .

وقال تبارك وتعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .

وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ [النمل: 4] .

الفوائد التربوية:

 

1- الحَثُّ على الفِكرِ والتأمُّلِ والتدبُّرِ، والترَوِّي لطَلَبِ معرفةِ الأشياءِ كما هي، عِرفانًا حقيقيًّا تامًّا؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ اللهِ تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا

.

2- يجِبُ على العاقِلِ المُبادرةُ إلى التفكُّرِ والاعتبارِ، والنَّظرِ المؤدِّي إلى الفَوزِ والنَّعيمِ الدَّائمِ؛ قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ نبَّهَ على الفِكرِ في اقترابِ الأجَلِ؛ لعلَّهم يُبادِرونَ إليه، وإلى طلَبِ الحَقِّ وما يُخَلِّصُهم من عذابِ الله، قبل مُقانَصةِ الأجَلِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ اللهِ تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا حَذفُ مَعمولِ التفَكُّرِ يؤذِنُ بِعُمومِ ما يدلُّ عليه المقامُ ممَّا تقتضيه الحالُ

.

في قَولِه تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ دليلٌ على أنَّ مُحمَّدًا خاتَمُ الرُّسُلِ، وأنَّ الوَحيَ ينقطِعُ بعد القُرآنِ .

قَولُ اللهِ تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ فيه أنَّ الهُدى والضَّلالَ مِن اللهِ تعالى

 

.

بلاغة الآيات:

 

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ

قوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لإنكارِ عَدمِ تفكُّرِهم في شأنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجَهلِهم بحقيقةِ حالِه، المُوجِبةِ للإيمانِ به وبما أُنزِلَ عليه مِن الآياتِ التي كذَّبوا بها، والهمزةُ في أَوَلَمْ استفهاميَّةٌ للإنكارِ والتَّعجيبِ والتَّوبيخِ

.

ودخولُ (مِن) على النَّكرةِ في قولِه: مِنْ جِنَّةٍ؛ لتوكيدِ العمومِ في النَّفي ، فيوجب ألَّا يكونَ به نوعٌ مِن أنواعِ الجنونِ .

والتَّعبيرُ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصاحِبِهم؛ للإيذانِ بأنَّ طولَ مُصاحَبتِهم له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ممَّا يُطْلِعُهم على نزاهَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن شائبةِ ما ذُكِرَ، ففيه تأكيدٌ للنَّكيرِ، وتشديدٌ له .

وقَولُه تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ جملةٌ مُقَرِّرةٌ لِمَضمونِ ما قَبلَها، ومبيِّنةٌ لحقيقةِ حالِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أي: ما هو إلَّا مُبالغٌ في الإنذارِ، مُظهِرٌ له غايةَ الإظهارِ؛ إبرازًا لكمالِ الرَّأفةِ، ومبالغةً في الإعذارِ .

القَصرُ المُستفادُ مِن النَّفيِ والاستثناءِ في قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ قَصرُ مَوصوفٍ على صفةٍ، وهو يقتضي انحصارَ أوصافِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النِّذارةِ والبَيانِ، وذلك قَصرٌ إضافيٌّ، هو قَصرُ قَلبٍ، أي هو نذيرٌ مُبِينٌ، لا مجنونٌ كما يزعمونَ، وفي هذا استغباءٌ أو تسفيهٌ لهم بأنَّ حالَه لا يلتبِسُ بحالِ المَجنونِ؛ لِلْبَونِ الواضحِ بين حالِ النِّذارةِ البيِّنةِ، وحال هَذَيانِ المجنونِ؛ فدعواهم جُنونَه: إمَّا غباوةٌ منهم، بحيث التَبَسَت عليهم الحقائِقُ المتمايِزةُ، وإمَّا مكابرةٌ وعنادٌ وافتراءٌ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .

أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ

قولُه تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ... ترَقٍّ في الإنكارِ والتَّعجيبِ مِن حالِهم في إعراضِهم عن النَّظرِ في حالِ رَسولِهم، إلى الإنكارِ والتَّعجيبِ مِن إعراضِهم عن النَّظَرِ فيما هو أوضَحُ من ذلك وأعَمُّ، وهو مَلَكوتُ السَّمواتِ والأرضِ، وما خلَقَ اللهُ مِن شَيءٍ ممَّا هو آياتٌ مِن آياتِ وحدانيَّة اللهِ تعالى، التي دعاهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الإيمانِ بها .

وعُدِّيَ فِعلُ النَّظرِ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا إلى مُتعلِّقِه بحَرفِ الظَّرفيَّةِ (في)؛ لأنَّ المرادَ التأمُّلُ بتدبُّرٍ، وهو التفَكُّرُ، فدلَّ بحَرفِ الظَّرفيَّةِ على أنَّ هذا التفكُّرَ عَميقٌ مُتغلغِلٌ في أصنافِ الموجوداتِ .

قَوْلُه: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ معطوفٌ على وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وصِيغَ الكلامُ على هذا النَّظمِ؛ لإفادةِ تَهويلِ الأمرِ عليهم وتخويفِهم، بجَعْلِ متعَلِّقِ النَّظرِ مِن معنى الإخبارِ؛ للدَّلالةِ على أنَّه أمرٌ مِن شأنِه أن يخطُرَ في النُّفوسِ، وأن يتحَدَّثَ به النَّاسُ، وأنَّه قد صار حديثًا وخَبرًا، فكأنَّه أمرٌ مُسلَّمٌ مُقَرَّرٌ .

قَولُه فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ استفهامٌ تعجيبيٌّ، مَشوبٌ باستبعادٍ للإيمانِ بما أبلَغَ إليهم اللهُ بلِسانِ رَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما نصَبَ لهم من الآياتِ في أصنافِ المَخلوقاتِ؛ فإنَّ ذلك كُلَّه قد بلغ مُنتهى البَيانِ قَولًا ودلالةً، بحيث لا مَطمَعَ أن يكونَ غيرُه أدلَّ منه .

قولُه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ هذه الجملةُ تعليلٌ للإنكارِ في قَولِه: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ لإفادةِ أنَّ ضَلالَهم أمرٌ قَدَّرَ اللهُ دوامَه، فلا طَمَعَ لأحدٍ في هَدْيِهم .

=============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (187-188)

ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ

غريب الكلمات:

 

أَيَّانَ مُرْسَاهَا: أَي: متى إِقَامَتهَا وإثباتها ومُستقَرُّها، ويُسألُ بأيَّانَ عن الزَّمانِ المُستقبَلِ، وأصلُ (رسو): يدلُّ على الثَّبات

.

لَا يُجَلِّيهَا: أي: لا يُظهِرُها، يقال: جلَّى لي الخَبَر: أي كشَفَه وأوضَحَه، وأصلُ (جلو): يدلُّ على انكشافِ الشَّيءِ وبُروزِه .

ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: أي: خَفِيَ عِلمُ السَّاعة على أهلِ السَّمواتِ والأرضِ، وإذا خَفِيَ الشَّيءُ ثَقُلَ، أو ثقُلَ وقوعُها على أهل السَّمواتِ والأرضِ، وأصل (ثقل) ضِدُّ الخفَّةِ .

حَفِيٌّ: أي: مُلِحٌّ في طَلَبِ عِلْمِها، مُستَقْصٍ السُّؤالَ عنها. يقال: أحفى فلانٌ في المسألةِ: إذا ألحَّ فيها وبالَغَ، وأصلُ (حفي): يدلُّ على استقصاءٍ في السُّؤالِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قال تَعالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ

إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ: ما اسمٌ مَوصولٌ مبنيٌّ في محلِّ نَصبٍ على الاستثناءِ المتَّصِل مِن مَجموعِ النَّفعِ والضَّرِّ- على تقديرِ أنَّه يملِكُ من ذلك ما ملَّكَه اللهُ- أي: إلَّا ما شاءَ اللهُ تمكيني منه، فإنِّي أملِكُه، وقيل: الاستثناءُ مُنقطِعٌ- لأنَّ المخلوقَ لا يملِكُ لنَفسِه نفعًا ولا ضَرًّا بحالٍ- والتَّقديرُ: لكنْ ما شاء اللهُ مِن ذلك كائِنٌ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى لنبيِّه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يسألُك النَّاسُ متى يحُلُّ يومُ القيامةِ، قل لهم: إنَّما عِلمُ ذلك عند ربِّي، لا يُظهِرُه في وقتِه إلَّا هو وَحدَه، خفِي علمُ وقتِها على أهلِ السمواتِ والأرضِ، لا تأتيكم إلَّا فجأةً، يَسألونَك عنها يا مُحمَّدُ، وكأنَّك قد أكثَرْتَ السُّؤالَ عنها حتى عَلِمْتَ وَقتَها، قلْ لهم: لا عِلمَ لي بوَقتِها، إنَّما عِلمُ ذلك عند اللهِ، ولكِنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يعلمونَ.

قلْ لهم: لا أملِكُ أنْ أجلِبَ لنفسي النَّفعَ، ولا أدفَعَ عنها الضُّرَّ، إلَّا ما شاء اللهُ، ولو كنتُ أعلَمُ الغيبَ لفعَلتُ الأسبابَ التي أعلَمُ أنَّها تُنتِجُ لي الكثيرَ مِن المصالِحِ، ولَتجنَّبتُ الشَّرَّ قبل أن يقَعَ، ما أنا إلَّا مُنذِرٌ ومُبَشِّرٌ لِقَومٍ يُؤمنونَ.

تفسير الآيتين:

 

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

في مُناسَبةِ الآيةِ لِما قَبلَها وجهان:

الوجهُ الأول: لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى التوحيدَ والنبوَّةَ والقضاءَ والقدَرَ؛ أتبعَ ذلك بذِكرِ المَعادِ.

الوجه الثاني: لَمَّا تقدَّمَ قَولُه تعالى: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ وكان ذلك باعثًا للمبادرةِ إلى التَّوبةِ والإصلاحِ، قال بعده: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا؛ ليتحقَّقَ في القُلوبِ أنَّ وقتَ السَّاعةِ مكتومٌ عن الخَلقِ، فيصيرَ ذلك حاملًا للمُكلَّفينَ على المسارعةِ إلى التَّوبةِ وأداءِ الواجباتِ

.

سببُ النُّزولِ:

عن طارقِ بنِ شِهابٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان لا يزالُ يَذكُرُ مِن شأنِ السَّاعةِ، حتى نزلَت: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا

أي: يسألُكَ النَّاسُ - يا مُحمَّدُ- عن يومِ القيامةِ متى يحُلُّ وَقتُه .

كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63] .

وقال سُبحانه: يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12].

وقال عزَّ وجلَّ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [القيامة: 5-6] .

قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَﰀ

أي: قلْ- يا مُحمَّد- للَّذينَ يسألونَك عن وَقتِ وُقوعِ يَومِ القيامةِ: إنَّما عِلمُ ذلك عند خالِقي ومُدَبِّر شُؤوني، لا عندي، لا يُظهِرُها ولا يوجِدُها في وَقتِها الذي قُدِّرَ أنَّها تقومُ فيه، إلَّا اللهُ وحده .

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] .

وقال سبحانه: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ [فصلت: 47] .

ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ

أي: خَفِيَتِ السَّاعةُ عَلَى أَهْلِ السَّمواتِ والأرضِ، وثقلُ علمُها عليهم، واشتَدَّ خَوفُهم منها؛ لِما سيكونُ فيها من الأهوالِ .

كما قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه: 15] .

وقال سبحانه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [الشورى: 17-18] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] .

وقال تبارك وتعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [المزمل: 17-18] .

لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً

أي: لا تجيءُ السَّاعةُ إلَّا فجأةً، وأنتم لا تَشعرونَ بِمَجيئِها .

كما قال عزَّ وجلَّ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام: 31] .

وقال سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الزخرف: 66] .

وقال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس: 48-50] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حتى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِها، فإذا طلَعَت فرآها النَّاسُ آمَنُوا أجمعونَ، فذلك حين: لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158] ، ولَتَقومَنَّ السَّاعةُ وقد نشر الرَّجُلانِ ثَوبَهما بينهما فلا يَتَبايعانِه، ولا يَطْويانِه، ولَتَقومَنَّ السَّاعةُ وقد انصرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقحَتِه فلا يطعَمُه، ولتَقَومَنَّ السَّاعةُ وهو يَليطُ حَوضَه فلا يَسقي فيه، ولَتَقومَنَّ السَّاعةُ وقد رفَعَ أحدُكم أُكلَتَه إلى فيه فلا يطعَمُها )) .

وعن أبي هُريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بارِزًا يومًا للنَّاسِ، فأتاه جبريلُ... قال: متَّى السَّاعةُ؟ قال: ((ما المَسؤولُ عنها بأعلَمَ مِن السَّائِلِ )) .

وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ قبلَ أن يموتَ بِشَهرٍ: ((تَسألوني عن السَّاعةِ؟! وإنَّما عِلْمُها عندَ اللهِ، وأُقسِمُ باللهِ ما على الأرضِ مِن نفسٍ مَنفوسةٍ تأتي عليها مئةُ سَنةٍ )) .

يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا

أي: يَسألُك النَّاسُ عن وقتِ وُقوعِ القيامةِ، وكأنَّك- يا مُحمَّدُ- قد أكثَرْتَ وبالغتَ في السُّؤالِ عنها حتى علِمتَ وقتَها !!

قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ

أي: قلْ- يا مُحمَّد- لِمَن يسألُك عن مَوعدِ وقوعِ القيامةِ: لا عِلمَ لي بِوَقتِها، ولا يعلَمُ وَقتَها إلَّا اللهُ وَحدَه .

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يعلمونَ أنَّ وَقتَ وُقوعِ يومِ القيامةِ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ وَحدَه .

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ

أي: قلْ- يا مُحمَّد- لِسَائليك عن وَقتِ قيامِ السَّاعةِ: أنا لا أقدِرُ على جَلبِ نَفعٍ إلى نفسي، ولا دفْعِ ضَرٍّ عنها، إلَّا ما أقدرَني اللهُ عليه بمشيئتِه، فيعينُني عليه .

وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ

أي: وقل- يا مُحمَّدُ- لِمَن يسألُك عن وقتِ قيامِ السَّاعةِ: ولو كنتُ أعلَمُ ما هو كائنٌ في المستقبَلِ، لأعدَدْتُ الكثيرَ ممَّا ينفعُني من المالِ وغَيرِه . 

وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ

أي: ولو كنتُ أعلَمُ الغَيبَ لاحتَرَستُ ممَّا يُفضي إلى المكروهِ، ولكنِّي لا أعلَمُ الغيبَ؛ ولهذا يصيبُني ما قدَّر اللهُ لي .

إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

أي: ما أنا إلَّا مُنذِرٌ عقابَ اللهِ مَن عصاه، ومُبَشِّرٌ بثوابِه مَن أطاعَه، وإنذاري وتبشيري إنَّما ينتفِعُ به المؤمنونَ

 

.

كما قال سبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [فاطر: 18] .

وقال تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 11] .

الفوائد التربوية:

 

قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يجِبُ على المؤمنينَ أن يخافوا ذلك اليومَ، وأن يحمِلَهم الخوفُ على مُراقبةِ الله تعالى في أعمالِهم، فيلتَزِموا فيها الحقَّ، ويتحَرَّوا الخيرَ، ويتَّقُوا الشَّرَّ والمعاصيَ، ولا يجعَلوا حَظَّهم مِن أمْرِ السَّاعةِ الجِدالَ، والقيلَ والقالَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ اللهِ تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا في السُّؤالِ عن زَمَنِ وُقوعِها بكلمةِ (الإرساءِ)- الدَّالةِ على استقرارِ ما شأنُه الحركةُ والجَرَيانُ، أو المَيَدانُ والاضطرابُ- نكتةٌ دقيقةٌ: وهو أنَّ قيامَ السَّاعةِ عبارةٌ عن انتهاءِ أمْرِ هذا العالَمِ، وانقضاءِ عُمُرِ هذه الأرضِ التي تدورُ بمَن فيها من العوالِم المتحَرِّكة المُضطربةِ، فعبَّرَ بإرسائِها عن منتهى أمْرِها، ووقوفِ سَيرِها. والسَّاعةُ زمَنٌ، وهو أمرٌ مُقدَّرٌ، لا جسمٌ سائِرٌ أو مُسَيَّرٌ، وما يقع فيها ويعبَّرُ بها عنه فهو حركةُ اضطرابٍ وزلزالٍ، لا رَسْوَ ولا إرساءَ، وهو أمرٌ مُستقبَلٌ لا حاصلٌ، ومتوقَّعٌ لا واقِعٌ، فلم يبقَ لإرسائِها معنًى إلَّا إرساءُ حركةِ هذا العالَم فيها، وإنَّه لتعبيرٌ بليغٌ، لم يُعهَدْ له في كلامِ البُلَغاءِ نَظيرٌ

.

قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي وقال بَعدَها: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ فأجابَ عن الأوَّلِ بِقَولِه: إِنَّما عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي وعن الثَّاني بقولِه: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ فذكَرَ في الثَّاني اسمَ الجلالةِ؛ للإشعارِ بأنَّه ممَّا استأثَرَ بعِلمِه لِذاتِه، كما أنَّ ذِكرَه للرَّبِّ في الأوَّلِ أشعَرَ بأنَّه مِن شُؤونِ رُبوبيَّتِه، وكلٌّ منهما ممَّا يستحيلُ على خَلقِه

 

.

بلاغة الآيتين:

 

قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا استئنافٌ ابتدائيٌّ، يَذكرُ به شيئًا مِن ضلالِهم ومحاولةِ تعجيزِهم النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بتعيينِ وَقتِ السَّاعةِ. ومناسبةُ هذا الاستئنافِ هي التعرُّضُ لتوقُّعِ اقترابِ أجَلِهم في قَولِه: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ

.

وقد أُطلِقَ الإرساءُ هنا؛ تشبيهًا لوقوعِ الأمرِ الذي كان مترقَّبًا أو متردَّدًا فيه بوصولِ السَّائرِ في البرِّ أو البحرِ، إلى المكان الذي يريدُه .

وذَكرَ السَّاعةَ أوَّلًا، والاستفهامَ عن زمَنِ وُقوعِها ثانيًا؛ على قاعدةِ تَقديمِ الأهَمِّ، وهو المقصودُ بالذَّاتِ .

قوله تعالى: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فيه حصرٌ حقيقيٌّ؛ لأنَّه الأصلُ: أنَّ عِلمَ السَّاعةِ بالتَّحديدِ مقصورٌ على اللهِ تعالى، والتَّعريفُ بوَصفِ الرَّبِّ وإضافَتِه إلى ضميرِ المتكَلِّمِ إيماءٌ إلى الاستدلالِ على استئثارِ اللهِ تعالى بعِلمِ وَقتِ السَّاعةِ دون الرَّسولِ المسؤولِ؛ ففيه إيماءٌ إلى خَطئِهم، وإلى شُبهةِ خَطَئِهم .

وفُصِلَت جُملةُ: لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ لأنَّها تتنزَّلُ مِن إنِمَّا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي منزلةَ التَّأكيدِ والتقريرِ، وقدَّمَ المجرورَ، وهو لِوَقْتِهَا، على فاعِلِ يُجَلِّيها الواقعِ استثناءً مفرَّغًا؛ للاهتمامِ به، تنبيهًا على أنَّ تَجليةَ أَمْرِها تكونُ عند وقتِ حُلولِها؛ لأنَّها تأتي بغتةً .

جملةُ: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا مؤكِّدةٌ لجملةِ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ، ومُبَيِّنة لكيفيَّةِ سؤالِهم فلِذَينِكَ فُصِلَت، وحُذِفَ مُتعَلِّقُ السُّؤالِ؛ لعِلمِه مِن الجملةِ الأولى .

وقيل: السُّؤالُ الأوَّلَ عن وقتِ قيامِ السَّاعة، والثَّاني عن كُنهِ ثِقلِ السَّاعةِ وشِدَّتِها ومهابَتِها، وقيل: ذُكِرَ الثَّاني للتَّأكيدِ، ولِما جاء به من زيادةِ قَولِه: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا .

قولُه: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا أي: كأنَّك عالمٌ بها. وحقيقتُه: كأنَّك بليغٌ في السُّؤالِ عنها؛ لأنَّ من بالغَ في المسألةِ عن الشَّيءِ والتنقيبِ عنه، استحكَمَ عِلمُه فيه ورصَنَ، وهذا التركيبُ معناه المبالغةُ .

قوله: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

قولُه تعالى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ استئنافٌ ابتدائيٌّ، قُصِدَ منه الاهتمامُ بمضمونِه؛ كي تتوجَّهَ الأسماعُ إليه، ولذلك أعيدَ الأمرُ بالقَولِ مع تقدُّمِه مرَّتينِ في قَولِه: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي وقُلْ إِنَّما عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ للاهتمامِ باستقلالِ المَقولِ، وألَّا يندرِجَ في جملةِ المقُولِ المحكيِّ قَبلَه .

وقال اللهُ تعالى هنا في سورةِ الأعرافِ: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ* قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وقال في سورة يونس: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [يونس:48-49] ، فقَدَّمَ النَّفعَ على الضَّرِّ في الأُولى، وأخَّره عنه في الأُخرى، وذلك لمناسبةٍ حسنةٍ؛ أنَّه هنا في الأعرافِ لَمَّا تقدَّمَ سُؤالُ المشركينَ عن السَّاعةِ، وتكرَّر في قولِه: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا، وكان ظاهِرُ السِّياقِ يُشيرُ إلى أنَّهم كانوا يظنُّونَ أنَّه- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- يعلَمُها، فطَلَبوا تعريفَهم بها، وأن يخُصَّهم بذلك، ولا شَكَّ أنَّ العِلمَ بالشَّيءِ نَفعٌ لصاحِبِه، فعَرَّفَهم أنَّه لا يملِكُ لنَفسِه نفعًا ولا ضَرًّا، فتقدَّمَ ذِكرُ النَّفعِ؛ لأنَّه مُشيرٌ إلى ما ظَنُّوه أنَّه عِندَه مِن عِلمِها، فأعلَمَهم أنَّه سبحانَه استأثرَ بعِلمِها، وأنَّه- عليه الصَّلاةُ والسَّلام- لا يملِكُ من ذلك شيئًا إلَّا ما شاء اللهُ له ممَّا عدا عِلمَ السَّاعةِ؛ لانفرادِه سبحانه عن خَلقِه بعِلمِها، لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] ، ثم تأكَّدَ هذا الغَرَضُ بِقَولِه تعالى على لسانِ نبيِّه- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وهذا كلُّه بيِّنُ التناسُبِ.

وأمَّا الآيةُ في سورةِ يونُسَ فإنَّها فيما كان يستعجِلُه الكُفَّارُ مِن عذابِ اللهِ تعالى، وقَبلَها وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [يونس: 46] ، ويقولُ الكُفَّارُ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 48] قلُ: لا أملِكُ ما وعدَكم اللهُ مِن هذا العذابِ، ولا أن أدفَعَ عنكم سُوءَ العِقابِ، كما لا أملِكُ لنفسي ضرًّا ولا نفعًا إلَّا ما شاء اللهُ أن يملِّكَنيه منهما، فتقديمُ (الضَّرِّ) على (النَّفعِ) في هذه الآية؛ لخروجِها عن ذكرِ العذابِ الذي قال اللهُ تعالى فيه بَعدَها: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [يونس: 51] .

وإنَّما عَطفَ قَولَه: ولا ضرًّا مع أنَّ المرءَ لا يتطَلَّبُ إضرارَ نَفسِه؛ لأنَّ المقصودَ تَعميمُ الأحوالِ، إذ لا تعدو أحوالُ الإنسانِ عن نافعٍ وضارٍّ، فصار ذِكرُ هَذينِ الضِّدَّينِ مثلَ ذِكرِ المساءِ والصَّباحِ، وذِكرِ اللَّيلِ والنَّهارِ، والشَّرِّ والخَيرِ .

وجملة وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ فيها الاستدلالُ على انتفاءِ عِلمِه بالغَيبِ، بانتفاءِ الاستكثارِ مِن الخَيرِ، وتجنُّبِ السُّوء؛ وهو استدلالٌ بأخَصِّ ما لو عَلِمَ المرءُ الغَيبَ لعَلِمَه أولَ ما يعلَمُ، وهو الغيبُ الذي يُهمُّ نفسَه، ولأنَّ اللهَ لو أراد إطلاعَه على الغيبِ، لكان القَصدُ من ذلك إكرامَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيكونُ إطلاعُه على ما فيه راحتُه أوَّلَ ما ينبغي إطلاعُه عليه، فإذا انتفى ذلك كان انتفاءُ غيرِه أَولى. ودليلُ التَّالي في هذه القضيَّةِ الشَّرطيَّةِ، هو المُشاهَدةُ مِن فواتِ خَيراتٍ دُنيويَّةٍ لم يتهيَّأْ لتَحصيلِها، وحصولِ أسواءٍ دُنيويَّةٍ، وفيه تعريضٌ لهم؛ إذ كانوا يتعرَّضونَ له- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بالسُّوءِ .

قوله: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مِن تمامِ القَولِ المأمورِ به، وهي مُستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا، ناشئًا عن التبرُّؤِ مِن أن يملِكَ لنَفسِه نَفعًا أو ضَرًّا .

وخصَّ اللهُ تعالى المؤمنينَ بالذِّكرِ في قوله: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإن كان نذيرًا وبشيرًا للكُلِّ، إلَّا أنَّ المُنتفِعَ بتلك النِّذارةِ والبِشارةِ هم المؤمنونَ .

 

=================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (189-193)

ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ

غريب الكلمات:

 

لِيَسْكُنَ: أي: ليأوِيَ. وأصلُ (سكن): يدلُّ على خلافِ الاضْطرابِ والحَركةِ

.

تَغَشَّاهَا: أي: جامَعَها، وأصلُ (غشي): يدلُّ على تغطيةِ شَيءٍ بِشَيءٍ .

حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا: وذلك أوَّل الحَمْلِ، لا تجِدُ المرأةُ له ألَمًا، والخَفِيفُ: بإزاءِ الثَّقيلِ .

فَمَرَّتْ بِهِ: أي: استمَرَّت به، وقعَدَت وقامَت، ولم يُثقِلْها الحَملُ .

أَثْقَلَتْ: أَيْ: صارت ذات ثِقلٍ بكِبَرِ الولَدِ في بَطنِها، وأصلُ (ثقل): ضِدُّ الخِفَّةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

اللهُ الذي خَلَقكم- أيُّها النَّاسُ- مِن نَفسٍ واحدةٍ: هي آدَمُ، وخلقَ مِن آدَمَ زَوجَه حَوَّاءَ- عليهما السَّلامُ؛ ليأوِيَ إليها، فلما جامَعَها حمَلَت في رَحِمِها حملًا خفيفًا عليها، وذلك في أوَّلِه، فاستمَرَّتْ بذلك الحَملِ الخفيفِ تقومُ وتقعدُ مِن دُونِ أن يُثقِلَها الحَملُ، فلمَّا كبِرَ الجنينُ في بَطنِها وصار حَمْلُها ثقيلًا، دعا آدمُ وحوَّاءُ ربَّهما لَئِن آتيتَنا ولدًا سَوِيَّ الخِلقةِ لنكوننَّ ممَّن يشكُرُ نِعمَك، فلما آتاهما ما طلبَا جعَل أولادُهما لله شُركاءَ، فتنَزَّه جل وعلا عمَّا يُشركونَ.

أيعبُدُ المُشركونَ مع اللهِ ما لا يقدِرُ على خَلْقِ شَيءٍ، وهم مخلوقونَ مَصنوعونَ، ولا يستطيعونَ نصْرَ مَن يعبُدُهم، ولا أن ينصُروا أنفُسَهم ممَّن أراد بهم سُوءًا.

وإن تدْعُوا- أيُّها المُشركونَ- هذه الأصنامَ إلى طريقِ الحَقِّ، لا يستجيبوا لكم؛ لأنَّها جماداتٌ لا تعقِلُ، ولا تسمَعُ الدُّعاءَ، وسواءٌ عليكم أدعَوْتُموهم أم صَمَتُّم عن ذلك، فإنَّها لا تتَّبِعُكم ولا تسمَعُكم، فكيف تعبدونَ مَن هذه صِفَتُه.

تفسير الآيات:

 

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا تقدَّمَ سؤالُ الكُفَّارِ عن السَّاعةِ ووَقتِها، وكان فيهم من لا يُؤمِنُ بالبعثِ، ذكَرَ ابتداءَ خَلقِ الإنسانِ وإنشائِه؛ تنبيهًا على أنَّ الإعادةَ مُمكِنةٌ، كما أنَّ الإنشاءَ كان مُمكِنًا، وإذا كان إبرازُه مِن العَدَمِ الصِّرْفِ إلى الوجودِ واقعًا بالفِعلِ، فإعادَتُه أحرى أن تكونَ واقعةً بالفِعلِ

.

وأيضًا لَمَّا أمرَ تعالى بالنَّظَرِ في الملكوتِ الدَّالِّ على الوحدانيَّة، وقسَّمَ خَلْقَه إلى مؤمنٍ وكافرٍ، ونفى قُدرةَ أحدٍ مِن خَلْقِه على نَفعِ نَفسِه أو ضَرِّها؛ رجع إلى تقريرِ التَّوحيدِ ، فقال تعالى:

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ

أي: اللهُ هو الذي خَلَقكم- أيُّها النَّاسُ- من آدَمَ، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الأنعام: 98] .

وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا

أي: وخلقَ اللهُ- عزَّ وجلَّ- حوَّاءَ مِن آدَمَ، عليهما السَّلامُ .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء: 1] .

وقال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الزمر: 6] .

وعن أبي هُريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اسْتَوْصوا بالنِّساءِ، فإنَّ المرأةَ خُلقت من ضِلَع، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضلعِ أعلاه، فإن ذهبْتَ تُقيمه كسرْتَه، وإن تركتَه لم يزلْ أعوجَ، فاستوصوا بالنِّساءِ )) .

لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا

أي: خلَقَ اللهُ حوَّاءَ؛ لأجْلِ أن يأوِيَ إليها آدَمُ، ليقضِيَ وطَرَه ولَذَّتَه، ويأنَسَ بها، ويطمَئِنَّ إليها .

كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21] .

فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا

أي: فلمَّا جامَعَها حَمَلت في رَحِمِها حملًا يخِفُّ عليها، وذلك في أوَّلِه .

فَمَرَّتْ بِهِ

أي: فاستمَرَّتْ بذلك الحَملِ الخَفيفِ تقومُ وتقعُدُ، مِن غَيرِ أن يُثقِلَها الحَملُ .

فَلَمَّا أَثْقَلَتْ

أي: فلما صار حَملُها ثقيلًا؛ لِكِبَر الجَنينِ في بطنِها، ودُنُوِّ وِلادَتِها .

دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ

أي: نادى آدَمُ وحوَّاءُ إلهَهما وربَّهما قائِلَينِ: نُقسِمُ بك- يا ربَّنا- لئِنْ رَزَقْتَنا ولدًا سَوِيَّ الخِلقةِ صحيحًا لا عيبَ فيه لنكونَنَّ ممَّن يشكُرُك على نِعَمِك .

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا

أي: فلمَّا رزَقَهما اللهُ ولدًا صالحًا كمَا سألاه، جعَلَ أهلُ الكُفرِ مِن بني آدمَ لله شُرَكاءَ فيما رزَقَهم ، سبحانَه .

فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ

أي: فتنزَّه اللهُ وتعاظَمَ عن شِركِ الذين يُشرِكونَ باللهِ، بأقوالِهم أو أفعالِهم !!

كما قال تعالى: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] .

وقال سبحانه: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 43] .

أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)

أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا

أي: أيعبُدُ المُشركونَ مع اللهِ ما لا يقدِرُ على خلْقِ شَيءٍ ؟!

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73] .

وَهُمْ يُخْلَقُونَ

أي: وهؤلاءِ الذينَ يعبدونَهم مع اللهِ- مِن الأصنامِ وغَيرِها- مخلوقونَ مَصنوعونَ .

كما قال الله تعالى حاكيًا قولَ إبراهيمَ الخليلِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 95-96] .

وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)

وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا

أي: ولا يستطيعُ هؤلاءِ الذين يعبدونَهم مع اللهِ، أن ينصرُوا عابِدِيهم .

كما قال تعالى: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [الشعراء: 92-93] .

وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ

أي: ولا هؤلاءِ المعبودونَ مع اللهِ، يستطيعونَ أن ينصُروا أنفُسَهم ممَّن أرادَهم بسُوءٍ، فكيف يكونونَ آلهةً، وهم لا يملِكونَ لأنفُسِهم جلبَ نفْعٍ، ولا دفْعَ ضُرٍّ؟! ومَن عجَز عن نَصرِ نَفسِه فهو عن نَصرِ غَيرِه أعجَزُ .

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أثبتَ اللهُ تعالى بالآيةِ المتقَدِّمةِ أنَّه لا قُدرةَ لهذه الأصنامِ على أمْرٍ مِن الأمورِ؛ بيَّنَ بهذه الآيةِ أنَّه لا عِلمَ لها بشيءٍ مِن الأشياءِ ، فقال:

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ

أي: وإن تَدْعُوا- أيُّها المُشركون- هذه الأصنامَ إلى طَريقِ الحقِّ، لا يستجيبوا لكم؛ لأنَّها جماداتٌ لا تعقِلُ، ولا تسمَعُ دعاءَ مَن دعاها .

كما قال تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا [الأعراف: 198] .

سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ

أي: سواءٌ عليكم- أيُّها المُشركونَ- أدعوتُم هذه الأصنامَ، أم أنتم ساكتونَ عن دُعائِها؛ فإنَّها لا تتَّبِعُكم ولا تسمَعُكم، فكيف تعبدونَ مَن هذه صِفتُه وحالُه

 

؟!

الفوائد التربوية:

 

قولُه تعالى: تَغَشَّاهَا أي: أتاها، كغَشِيَها، ويزيدُ ما تُعطيه صيغةُ التَّفعُّل مِن جُهدٍ، وهو كنايةٌ نزيهةٌ عن أداءِ وظيفةِ الزَّوجيَّة، تشيرُ إلى أنَّ مُقتضى الفِطرةِ وأدبَ الشَّريعةِ فيها، السَّترُ

.

إيتاءُ الصَّالِحِ مِن الوَلدِ نِعمةٌ مِن اللهِ على والِدَيه، فينبغي الشُّكرُ عليها؛ إذ هي مِن أجَلِّ النِّعَم؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فأقسَمَا على أنَّهما يكونانِ مِن الشَّاكرينَ إنْ آتاهما صالحًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

عِلَّةُ سُكونِ الرَّجُلِ إلى امرأتِه كَونُها مِن جِنسِه وجوهَرِه؛ قال اللهُ تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فالجِنسُ إلى الجِنسِ أميَلُ، وبه آنَسُ

.

قَولُ اللهِ تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ احتُجَّ به على أنَّ العَبدَ غَيرُ مُوجِدٍ ولا خالقٍ لأفعالِه، خلافًا للمعتزلةِ القائلينَ بخلقِ الإنسانِ أفعالَ نفسِه؛ وذلك لأنَّ الله تعالى طعنَ في إلهيَّةِ الأجسامِ؛ بسببِ أنَّها لا تخلقُ شَيئًا، وهذا يقتضي أنَّ كلَّ مَن كان خالقًا كان إلهًا، فلو كان العبدُ خالقًا لأفعالِ نَفسِه، كان إلهًا، ولَمَّا كان ذلك باطلًا، عَلِمْنا أنَّ العبدَ غَيرُ خالقٍ لأفعالِ نَفسِه .

قَولُ اللهِ تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أشار إلى الأصنامِ في يُخْلَقُونَ بضميرِ العُقَلاءِ مِن قَبيلِ الحكايةِ؛ لاعتقادِ المُشركينَ فيها ما يعتَقِدونَه في العُقَلاءِ، أو لأنَّهم مُختَلِطونَ بمَن عُبِدَ مِن العقلاءِ؛ كالمَسيحِ وعُزيرٍ .

قَولُ اللهِ تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ لَمَّا كان المصنوعُ لا يكونُ صانعًا، اكتفى بالبناءِ للمَفعولِ، فقال: يُخْلَقُونَ ، والتعبيرُ بالفِعلِ المُضارعِ يُخْلَقُونَ؛ لِتصويرِ حُدوثِ خَلْقِهم، وكونِ مِثلِه ممَّا يتجَدَّدُ فيهم وفي أمثالِهم مِن المُشركين، وهذا أسوأُ فضائِحِهم في الشِّركِ .

قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ لعلَّه عبَّرَ بصيغةِ العاقِلِ عن الأصنامِ؛ إشارةً إلى أنَّهم لو كانوا يَعقِلونَ، وكانوا بهذه الصِّفاتِ الخَسيسةِ؛ ما أهَّلُوهم لِأنْ يكونوا أحبابَهم، فضلًا عن أن يجعَلوهم أربابَهم .

قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ الظَّاهِرُ أنَّ تَخصيصَ النَّصرِ مِن بين الأعمالِ التي يتخيَّلونَ أن تقومَ بها الأصنامُ؛ مقصودٌ منه تنبيهُ المُشركينَ على انتفاءِ مَقدرةِ الأصنامِ على نَفعِهم؛ إذ كان النَّصرُ أشَدَّ مرغوبٍ لهم، لأنَّ العَربَ كانوا أهلَ غاراتٍ وقتالٍ وَتِراتٍ، فالانتصارُ مِن أهَمِّ الأمورِ لَدَيهم، وأنَّ اللهَ أعلَمَ المسلمينَ بذلك؛ تعريضًا بالبشارةِ بأنَّ المُشركينَ سيُغلبونَ .

قَولُ اللهِ تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ جُعِلَ الأمرانِ سواءً على المُخاطَبينَ، ولم يُجعَلا سواءً على المدْعُوِّينَ: فلم يقُل (سواءٌ عليهم)، وإن كان ذلك أيضًا سواءً عليهم؛ لأنَّ المقصودَ مِن الكلامِ هو تأيِيسُ المُخاطبينَ مِن استجابةِ المَدعُوِّينَ إلى ما يَدعُونَهم إليه، لا الإخبارُ، وإن كان المعْنَيانِ مُتَلازِمَينِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ

قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ... جملةٌ مُستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا، عاد بها الكلامُ إلى تقريرِ دليلِ التَّوحيدِ، وإبطالِ الشِّركِ

.

وإيقاعُ الموصولِ خبَرًا في قَولِه: هُوَ الَّذِي لِتَفخيمِ شأنِ المبتدأِ، أي: هو ذلك العظيمُ الشَّأنِ الذي خلقَكم جميعًا وحدَه مِن غَيرِ أن يكونَ لِغيرِه مدخلٌ في ذلك بوجهٍ مِن الوجوهِ .

قولُه: لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا تعليلٌ لِما أفادَتْه (مِن) التبعيضيَّة، أي: جعَلَ مِن نوعِ الرَّجُلِ زَوجَه ليألَفَها، ولا يجفُوَ قُربَها، ففي ذلك منَّةُ الإيناسِ بها، وكثرةُ ممارَستِها؛ لينساقَ إلى غِشْيانِها .

قوله: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا التغشِّي: كنايةٌ عن الجِماعِ، وصِيغَت هذه الكنايةُ بالفِعلِ (تغشَّى) الدَّالِّ على التكَلُّفِ- لأنَّه بزِنةِ تفعَّلَ- لإفادةِ قُوَّةِ التمَكُّنِ مِن ذلك؛ لأنَّ التكَلُّفَ يقتضي الرَّغبةَ .

وقد سلَكَ في وصفِ تَكوينِ النَّسلِ مَسلَكَ الإطنابِ؛ لِما فيه من التَّذكيرِ بتلك الأطوارِ الدَّالةِ على دقيقِ حِكمةِ اللهِ وقُدرتِه، وبِلُطفِه بالإنسانِ .

وإجراءُ صِفةِ رَبَّهُمَا المؤذِنةِ بالرِّفقِ والإيجادِ، في قَولِه: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا؛ للإشارةِ إلى استحضارِ الأبوَينِ هذا الوَصفَ عند دُعائِهما اللهَ، أي: يذكُرُ أنَّه باللَّفظِ أو ما يُفيدُ مَفادَه

قوله: جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا مرادٌ منه مع الإخبارِ التَّعجيبُ مِن سَفَهِ آرائِهم؛ إذ لا يَجعَلُ رشيدُ الرَّأيِ شريكًا لأحدٍ في مُلكِه وصُنعِه بدونِ حَقٍّ؛ فلذلك عُرِّفَ المشروكُ فيه بالموصوليَّةِ، فقيل فِيمَا آتَاهُمَا دونَ الإضمارِ، بأن يقال: (جعَلا له شُركاءَ فيه)؛ لِما تؤذِنُ به الصِّلةُ مِن فَسادِ ذلك الجَعلِ، وظُلْمِ جاعِلِه، وعدمِ استحقاقِ المَجعولِ شَريكًا لِما جُعِلَ له، وكُفرانِ نِعمةِ ذلك الجاعِلِ؛ إذ شكَرَ لِمَن لم يُعطِه، وكفَرَ مَن أعطاه، وإخلافِ الوَعدِ المؤَكَّدِ. وجعْلُ الموصولِ (ما) دون (مَن) باعتبارِ أنَّه عطيَّةٌ، أو لأنَّ حالةَ الطُّفولةِ أشبَهُ بغَيرِ العاقِلِ .

قوله: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ استئنافٌ مَسوقٌ لتوبيخِ المُشركينَ، واستقباحِ إشراكِهم على الإطلاقِ، وإبطالِه بالكُليَّةِ، والاستفهامُ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ والإنكارِ، وصيغةُ المُضارِعِ في (يُشْرِكُونَ) دالَّةٌ على تجدُّدِ هذا الإشراكِ منهم. ونفيُ المضارعِ في قَولِه: مَا لَا يَخْلُقُ للدَّلالةِ على تجدُّدِ نفيِ الخالقيَّةِ عنهم .

و (ما) في قَولِه تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ لِما لا يَعقِلُ، ولَفظُها مفردٌ، وهو مِن صِيَغِ العُمومِ، فأُفرِدَ الضَّميرُ في يَخْلُقُ مراعاةً لِلَّفظِ، ثمَّ جُمِعَ في يُخْلَقُونَ مُراعاةً للمَعنى .

وتقديمُ المَفعولِ في وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ للاهتمامِ بنَفيِ هذا النَّصرِ عنهم؛ لأنَّه أدَلُّ على عجزِ تلك الآلهةِ؛ لأنَّ مَن يُقصِّرُ في نَصرِ غَيرِه لا يُقصِّرُ في نَصرِ نَفسِه لو قَدَر .

قولُه: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ

الخطابُ للمُشركينَ، بطريقِ الالتفاتِ المُنبِئِ عَن مَزيدِ الاعتناءِ بأمْرِ التَّوبيخِ والتَّبكيتِ .

قوله: سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبلَه، ومُبَيِّنٌ لكيفيَّةِ عدمِ الاتِّباعِ؛ فهو مؤكِّدُ لجُملةِ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ فلذلك فُصِلَ .

وعَطْفُ الجُملةِ الاسميَّةِ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ على الفِعليَّةِ أَدَعَوْتُمُوهُمْ لفائدةٍ وحِكمةٍ، وهي أنَّ صيغةَ الفِعلِ مُشعِرةٌ بالتجَدُّدِ والحُدوثِ حالًا بعد حالٍ، وصيغةُ الاسمِ مُشعِرةٌ بالدَّوامِ والثَّباتِ والاستمرارِ، فهؤلاءِ المُشركونَ كانوا إذا وقَعوا في مُهِمٍّ وفي معضلةٍ تضرَّعوا إلى تلك الأصنامِ، وإذا لم تَحدُثْ تلك الواقعةُ بَقُوا ساكِتينَ صامِتينَ، فقِيل لهم: لا فرقَ بينَ إحداثِكم دعاءَهم، وبينَ أن تستمرُّوا على صَمتِكم وسُكوتِكم .

============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (194-198)

ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ

غريب الكلمات:

 

يَبْطِشُونَ: البَطْشُ: تناوُلُ الشَّيءِ بِصَولةٍ، وأصلُه: أخذُ الشَّيءِ بقَهرٍ وغَلَبةٍ وقوَّةٍ

.

تُنْظِرُونِ: أي: تُؤخِّرونِ، والنَّظَرُ: الانْتِظَارُ. يقال: نَظَرتُه وانتظَرتُه وأنْظَرتُه، أي: أخَّرْتُه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ المُشركين قائلًا لهم: إنَّ الذينَ تعبُدونَهم مِن دونِ اللهِ هم عِبادٌ أمثالُكم، فادعُوهم، وليُجِيبوا دُعاءَكم، إن كُنتُم صادقينَ في أنَّها تستحِقُّ العبادةَ.

ألِهَؤلاءِ الأصنامِ أرجُلٌ يمشونَ بها، أم لهم أيدٍ يأخُذونَ ما أرادُوا بها بشِدَّةٍ وينصُرونَكم بها، أم لهم أعيُنٌ يُبصِرونَ بها، قلْ لهم يا مُحمَّدُ: ادعُوا شُرَكاءَكم ثم اجتَمِعوا أنتم وهم على إيقاعِ السُّوءِ والمكروهِ بي عاجلًا، ولا تُمهِلوني، وقلْ لهم: إنَّ الذي يتولَّاني فينصُرُني ويحفَظُني، هو الله الذي نزَّلَ القُرآنَ، وهو سبحانه يتولَّى الصَّالحينَ، وقلْ لهم أيضًا: إنَّ الذين تعبُدونَهم مِن دونِ اللهِ مِن الأصنامِ لا يَقدِرونَ على نَصرِكم، ولا يَستطيعونَ نَصرَ أنفُسِهم ممَّن أرادَهم بسُوءٍ، وإن تدعُوا- أيُّها المُشركونَ- هؤلاءِ الأصنامَ إلى الحَقِّ، لا يسمَعُوا، وترى- يا مُحمَّدُ- هذه الأصنامَ المنحوتةَ تُقابِلُك بعيونٍ مُصَوَّرةٍ، كأنَّها تنظُرُ إليك، بينما هي لا تُبصِرُ في الحقيقةِ.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذه الجُملةَ ورَدَت على سبيلِ التَّوكيدِ لِما قَبلَها في انتفاءِ كَونِ هذه الأصنامِ قادرةً على شيءٍ مِن نَفعٍ أو ضَرٍّ

.

وأيضًا ورَدَت بيانًا وتعليلًا لِجُملةِ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ [الأعراف: 193] ، أي: لأنَّهم عبادٌ، أي: مخلوقونَ .

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ

يقولُ اللهُ تعالى مُوبِّخًا المُشركينَ على عِبادتِهم ما لا يضُرُّهم ولا ينفَعُهم مِن الأصنامِ: إنَّ الذينَ تعبدونَ ممَّا سِوى اللهِ وتَدعونَهم، هم مملوكونَ للهِ، كما أنَّكم مماليكُ للهِ سُبحانَه، لا فَرْقَ بينكم وبَينَهم .

فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

أي: فادعُوا أصنامَكم، ولْتُجِبْ دُعاءَكم إن كُنتُم صادقينَ في أنَّها تضرُّ وتنفَعُ، وأنَّها تستحِقُّ العبادةَ .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13-14] .

وقال سبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5] .

أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)

أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا

أي: ألهؤلاءِ الأصنامِ أرجُلٌ يَمشونَ بها، كما لكم- أيُّها المُشركون- أرجُلٌ تَمشونَ بها ؟!

أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا

أي: أمْ لهؤلاءِ الأصنامِ أيدٍ يأخُذونَ بها ما يريدونَ أخْذَه وتناوُلَه بشِدَّةٍ، وينصرونَكم بها، كما لكم أيُّها المُشرِكونَ ؟!

أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا

أي: أمْ لهؤلاءِ الأصنامِ أعيُنٌ يُعايِنونَ بها الأشياءَ، كما لكم ؟!

أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا

أي: أمْ لِهَؤلاءِ الأصنامِ آذانٌ يَسمعونَ بها، كما لكم؟! فكيف تَعبدونَها، وأنتم أفضَلُ وأقدَرُ منها ؟!

قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- متحدِّيًا هؤلاءِ المُشركينَ: استنصِرُوا عليَّ بأصنامِكم التي تزعُمونَ أنَّها آلهةٌ مع اللهِ، ثم عجِّلوا أنتم وهِي بالكَيدِ لي، والمَكرِ بي، فلا تُمهِلوني .

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى في الآياتِ المُتقَدِّمة أنَّ هذه الأصنامَ لا قدرةَ لها على النَّفعِ والضَّرِّ؛ بيَّنَ بهذه الآيةِ أنَّ الواجِبَ على كلِّ عاقلٍ عبادةُ اللهِ تعالى؛ لأنَّه هو الذي يتولَّى تحصيلَ منافِعِ الدِّينِ والدُّنيا .

وأيضًا لَمَّا أحالَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الاستنجادِ بآلهَتِهم في ضَرِّه، في قولِه تعالى: قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ وأراهم أنَّ اللهَ هو القادِرُ على كلِّ شَيءٍ- عقَّبَ ذلك بالاستنادِ إلى اللهِ تعالى والتوكُّلِ عليه، والإعلامِ أنَّه تعالى هو ناصِرُه عليهم ، فقال:

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشركينَ: إنَّ نَصيري الذي ينصُرُني عليكم ويحفَظُني، ويعصِمُني منكم؛ هو اللهُ الذي نزَّل عليَّ القُرآنَ .

كما قال سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر: 36] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] .

وقال تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران: 2، 3].

وعن جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((غَزَوْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غزوةَ نَجدٍ، فلما أدرَكَتْه القائلةُ، وهو في وادٍ كَثيرِ العِضاهِ ، فنزل تحتَ شَجَرةٍ واستظَلَّ بها وعلَّق سيفَه، فتفَرَّقَ النَّاسُ في الشَّجرِ يستظِلُّونَ، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فجِئْنا، فإذا أعرابيٌّ قاعِدٌ بين يدَيه، فقال: إنَّ هذا أتاني وأنا نائِمٌ، فاختَرَط سيفي ، فاستيقظتُ وهو قائِمٌ على رأسي، مُختَرطٌ صَلتًا ، قال: من يمنَعُك مني؟ قلتُ: اللهُ، فشامَه ثم قعَدَ، فهو هذا. قال: ولم يعاقِبْه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) .

وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ

أي: وهو سُبحانَه ينصُرُ ويحفَظُ الذين صلَحَت نيَّاتُهم وأعمالُهم وأقوالُهم، فآمَنُوا باللهِ تعالى، وامتَثَلوا ما أمَرَ به، واجتَنَبوا ما نهى عنه .

كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257].

وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ قال: مَن عادَى لي وليًّا فقد آذنْتُه بالحَربِ، وما تقرَّبَ إليَّ عَبدِي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ ممَّا افترضْتُ عليه، وما يزالُ عبدي يتقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتى أحِبَّه، فإذا أحبَبْتُه كنتُ سَمعَه الذي يسمَعُ به، وبصَرَه الذي يُبصِرُ به، ويَدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، وإن سألَني لأُعطيَنَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذَنَّه )) .

وعن ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كنتُ خَلفَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فقال: يا غُلامُ، إنِّي أعَلِّمُك كلماتٍ، احفَظِ اللهَ يَحفَظْك، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَك )) .

وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)

وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ

أي: وقُل- يا مُحمَّدُ- للمُشركينَ: والذينَ تعبدونَهم وتَدعُونَهم مِن دونِ اللهِ تعالى لا يَقدِرونَ على نَصرِكم على عَدُوِّكم، ولا أن يدفَعُوا عنكم ظُلمًا أو عذابًا حلَّ بكم .

كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ [يس: 74-75] .

وقال سبحانه: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 100-101] .

وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ

أي: ولا تلك الأصنامُ- مع عَجْزِهم عن نُصرَتِكم- يقدرونَ على نُصرةِ أنفُسِهم ممَّن أرادَهم بِسُوءٍ .

كما قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء: 98-99] .

وقال سبحانه: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22-23] .

وقال عزَّ وجلَّ ذاكرًا فعلَ إبراهيمَ عليه السَّلام حينَ كسَر أصنامَ قومِه: فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [الصافات: 91-93] .

وقال تعالى حاكيًا قولَ إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسَّلامُ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء: 57-58] .

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا

أي: وقُلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشركينَ: وإنْ تَدْعُوا أصنامَكم إلى الحَقِّ، لا يَسمَعوا دُعاءَكم؛ لأنَّها جماداتٌ لا تَسمَعُ .

وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ

أي: وترى- يا مُحمَّدُ- آلهةَ المُشركينَ المنحوتةَ، تُقابِلُك بعيونٍ مُصَوَّرةٍ، كأنَّها تنظُرُ إليك، وهي لا تُبصِرُ شيئًا في الحقيقةِ؛ لأنَّها جماداتٌ لا تُبصِرُ

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال اللهُ تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ المؤمنونَ الصَّالِحونَ لَمَّا توَلَّوا ربَّهم بالإيمانِ والتَّقوى، ولم يتوَلَّوا غيرَه مِمَّن لا ينفَعُ ولا يضُرُّ؛ تولَّاهم اللهُ ولَطفَ بهم، وأعانَهم على ما فيه الخَيرُ والمصلحةُ لهم، في دِينِهم ودُنياهم، ودفَعَ عنهم بإيمانِهم كُلَّ مَكروهٍ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ أطلقَ الدُّعاءَ على العبادةِ؛ إشارةً إلى أنَّه لا تصِحُّ عبادةُ مَن ليس فيه قابليَّةٌ أن يُدعى

.

قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فيه أنَّه قد يُطلَقُ لَفظُ (العَبد) على المخلوقاتِ كُلِّها؛ الذي يعقِلُ والذي لا يَعقِلُ .

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ إنَّما أطلَقَ على الأصنامِ اسمَ العِبادِ، وعبَّرَ عنها بضمائِرِ العُقَلاءِ؛ لأنَّ الكُفَّارَ يَصِفونَها بصفاتِ مَن هو خيرٌ مِن مُطلَقِ العُقَلاءِ: أنَّها مَعبوداتٌ، وأنَّها تشفَعُ وتُقرِّبُ إلى الله زُلفَى، فبهذا الاعتبارِ أجرى عليها ضمائِرَ العُقَلاءِ، وعبَّرَ عنها بالعبادِ، ووجهُ مُماثَلتِهم هنا: أنَّ الكُفَّارَ العابِدينَ، والأصنامَ المعبوداتِ؛ كلُّهم مَخلوقاتٌ لله، لا تَقدِرُ أن تجلِبَ لِنَفسِها نفعًا، ولا أن تدفَعَ عنها ضرًّا، فهم مِن قَبيلِ تسخيرِ اللهِ لهم، وخَلْقِه للجَميعِ، وقُدرتِه على الجَميعِ، بهذا الاعتبارِ هم سواءٌ؛ ولذا قال: عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ .

قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا لَمَّا كان دعاءُ الجماعةِ أقرَبَ إلى السَّماعِ مِن دُعاءِ الواحدِ، نسَقَ على ما قَبلَه قَولَه: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ... استئنافٌ ابتدائيٌّ، انتقل به إلى مُخاطبةِ المُشرِكينَ؛ ولذلك صُدِّرَ بِحَرفِ التَّوكيدِ؛ لأنَّ المُشرِكينَ يُنكِرونَ مساواةَ الأصنامِ إيَّاهم في العبوديَّةِ

.

قَولُه تعالى:فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ تحقيقٌ لِمَضمونِ ما قَبلَه بتَعجيزِهم وتَبكيتِهم، أي: فادعُوهم في جَلبِ نَفعٍ أو كَشْفِ ضُرٍّ

قوله: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ

قوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا تبكيتٌ إثْرَ تبكيتٍ، مؤكِّدٌ لِما يفيدُه الأمرُ التَّعجيزي مِن عَدمِ الاستجابةِ، ببيانِ فُقدانِ آلاتِها بالكليَّةِ .

والاستفهامُ في أَلَهُمْ وما بَعدَه؛ إنكاريٌّ، وتقديمُ المُسنَدِ على المُسنَد إليه؛ للاهتمامِ بانتفاءِ المِلْك الذي دَلَّت عليه اللَّامُ .

وقد وُجِّهَ الإنكارُ إلى كُلِّ واحدةٍ من هذه الآلاتِ الأربعِ على حِدَةٍ؛ تكريرًا للتَّبكيتِ، وتثنيةً للتَّقريعِ، إشعارًا بأنَّ انتفاءَ كلِّ واحدةٍ منها بِحِيالِها كافٍ في الدَّلالةِ على استحالةِ الاستجابةِ .

ووصفُ الأرجُلِ بـ يَمْشُونَ، والأيدي بـيَبْطِشُونَ، والأعيُنِ بـ يُبْصِرُونَ، والآذانِ بـ يَسْمَعُونَ: إمَّا لزيادةِ تسجيلِ العَجزِ عليهم فيما يَحتاجُ إليه النَّاصِرُ، وإمَّا لأنَّ بَعضَ تلك الأصنامِ كانت مجعولةً على صورِ الآدَميِّينَ، وخَصَّ الأرجُلَ والأيديَ والأعيُنَ والآذانَ؛ لأنَّها آلاتُ العِلمِ والسَّعيِ والدَّفعِ للنَّصرِ .

والأمرُ والنَّهيُ في قولِه تعالى: كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونَ للتَّعجيزِ

وقولُه: فَلَا تُنْظِرُونِ تفريعٌ على الأمرِ بالكَيدِ، أي: فإذا تمكَّنْتُم مِن إضراري، فأعجِلُوا، ولا تؤَجِّلوني .

وفي هذا التحدِّي تعريضٌ بأنَّه سيبلغُهم، وينتصرُ عليهم، ويستأصلُ آلهتَهم .

قولُه تعالى: إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ هذا مِن المأمورِ بِقَولِه أيضًا، وفُصِلَت هذه الجُملةُ عَن جُملةِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ؛ لِوُقوعِها مَوقِعَ العلَّةِ لِمَضمونِ التَّحدِّي في قَولِه ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ الذي هو تحقُّقُ عَجْزِهم عن كَيدِه .

وإجراءُ الصِّفةِ لاسْمِ اللهِ بالموصوليَّةِ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ؛ لِمَا تدُلُّ عليه الصِّلةُ مِن عَلاقاتِ الوِلايةِ؛ فإنَّ إنزالَ الكِتابِ عليه وهو أمِّيٌّ، دليلُ اصطفائِه وتوَلِّيه .

والتَّعريفُ في الكتابِ للعَهدِ، أي: الكتابَ الَّذي عَهِدتُموه وسَمِعتُموه، وعَجَزتُم عن مُعارَضتِه، وهو القُرآنُ .

ومَجيءُ المُسنَدِ يَتَوَلَّى فعلًا مُضارعًا؛ لقَصدِ الدَّلالةِ على استمرارِ هذا التَّولِّي وتجدُّدِه، وأنَّه سُنَّةٌ إلهيَّةٌ، فكما توَّلى النبيَّ يتولَّى المؤمنينَ أيضًا، وهذه بِشارةٌ للمُسلمينَ المُستَقيمينَ على صِراطِ نَبِيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يَنصُرَهم اللهُ، كما نصَرَ نبيَّه وأولياءَه .

وقولُه: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ تذييلٌ مقرِّرٌ لِمَضمونِ ما قَبلَه .

قولُه تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ عَطْفٌ على جملةِ: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ وسلوكُ طَريقِ المَوصوليَّة في التَّعبيرِ عن الأصنامِ؛ للتَّنبيهِ على خَطأِ المُخاطَبينَ في دُعائِهم إيَّاها مِن دُونِ اللهِ، مع ظُهورِ عَدمِ استِحقاقِها للعِبادةِ؛ بِعَجزِها عن نَصرِ أتباعِها، وعن نَصرِ أنفُسِها .

قولُه تعالى: وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تشبيهٌ بليغٌ، أي: تَراهم كأنَّهم يَنظُرونَ إلَيك؛ لأنَّ صُوَرَ كَثيرٍ مِن الأصنامِ كان على صُوَرِ الأناسيِّ، وقد نحتوا لها أمثالَ الحِدَقِ النَّاظِرةِ إلى الواقِفِ أمامَها .

============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (199-203)

ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ

غريب الكلمات:

 

الْعَفْوَ: أي: الميسورَ مِن أخلاقِ النَّاسِ، والعفوُ يُطلق على ضدِّ الجهدِ، فكلُّ شيءٍ متيسرٍ، لا مجهودَ فيه يسمَّى عفوًا، وأصلُ العَفْوِ: القَصدُ لِتَناوُلِ الشَّيءِ

.

بِالْعُرْفِ:أي: المَعْرُوف مِن الإحسانِ، وأصلُ (عرف) يدلُّ على السُّكونِ والطُّمأنينةِ، ومنه العُرفُ والمعروفُ، سُمِّي بذلك؛ لأنَّ النُّفوسَ تسكُنُ إليه .

يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ: أي: يستَخِفَّنَّك منه خِفَّةٌ وغضَبٌ وعَجَلةٌ، أو يُحَرِّكنَّك بِالشَّرِّ. وأصلُ (نزغ): يدلُّ على إفسادٍ بينَ اثنَينِ .

مَسَّهُمْ: أي: أصابَهم، أو ألمَّ بِهم، والمسُّ يقالُ في كلِّ ما يَنالُ الإنسانَ مِن أذًى، وأصلُ (مس): جَسُّ الشَّيءِ باليَدِ .

طَائِفٌ: أي: عارِضٌ أو وَسْوَسةٌ مِن الشَّيطانِ، وأصلُ (طيف): يَدُلُّ على دَوَرانِ الشَّيءِ على الشَّيءِ .

يَمُدُّونَهُمْ في الْغَيِّ : أي: يُزَيِّنونَه لهم، أو يُطِيلونَ لهم فيه، وأصلُ (مَدَّ): يدلُّ على جَرِّ شيءٍ في طُولٍ. والغَيُّ: خِلافُ الرُّشدِ، والانهماكُ في الباطِلِ .

لَا يُقْصِرُونَ: أي: لا يَسأَمونَ، وأصلُ (قصر): كفٌّ مع القُدرةِ عليه .

اجْتَبَيْتَهَا: أي: تقوَّلْتَها مِن نَفْسِك؛ مِن اجتَبيتُ الشَّيءَ: إذا اختَرَعتَه وارتجَلْتَه واختَلقْتَه والاجتباءُ: الجَمعُ على طريقِ الاصْطفاءِ .

بَصَائِرُ: أي: حُجَجٌ ظاهِرةٌ بَيِّنة، واحدتُها بَصِيرة، وأصلُ (بصر): العِلمُ بالشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَقبَلَ ما تيسَّرَ مِن أخلاقِ النَّاسِ، وأن يأمُرَ بالمَعروفِ الذي يُقِرُّه الشَّرعُ، وأن يُعرِضَ عمَّن جَهِلَ عليه.

ويأمُرُه إن ناله مِن الشَّيطانِ وَسوسةٌ ما أو غَضَبٌ أو غيرُ ذلك، أن يَستعيذَ باللهِ؛ إنَّه هو السَّميعُ العَليمُ.

ويخبِرُ تعالى أنَّ الذينَ اتَّقَوا إذا أصابَتْهم وسْوَسةٌ مِن الشَّيطانِ أو غضَبٌ أو غيرُ ذلك، تذكَّرُوا؛ فإذا هم يُبصِرونَ بقُلوبِهم هُدى الله، فيَنتَهونَ عن مَعصِيتِه.

كما يخبِرُ تعالى أنَّ إخوانَ الشَّياطينِ- وهُم كَفَرةُ الإنْسِ وفجَرَتُهم- تُزَيِّنُ لهم الشَّياطينُ الضَّلالَ، وتُعينُهم على الكُفرِ والمعاصي، ثمَّ لا يسأمُ الشَّياطينُ ولا يَفتُرونَ عن ذلك، كما أنَّ أولياءَهم مِن الإنسِ لا يُقصِرونَ في ارتكابِ تلك السَّيئاتِ.

ويُخاطِبُ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قائلًا له: وإذا لم تأتِ المُشركينَ بآيةٍ وَفْقَ ما يَطْلبونَ، قالوا: هلَّا أتَيتَ بها مِن تِلقاءِ نَفسِك، قل لهم- يا مُحمَّد: إنَّما أتَّبِعُ ما يُوحيه إليَّ ربِّي، وهذا القُرآنُ عَلاماتٌ واضحة للهُدى، وحُجَجٌ قاطعةٌ على الحَقِّ مِن الله سبحانَه وتعالَى، ومُرشِدٌ إلى الصِّراطِ المُستقيمِ، ورحمةٌ في الدُّنيا والآخرةِ للمُؤمنينَ.

تفسير الآيات:

 

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما أشبعتِ السُّورة مِن أفانينِ قوارعِ المشركين، وعظتِهم، وإقامةِ الحجَّةِ عليهم، وفضحِ ضلالِهم، وفسادِ معتقدِهم، والتشويهِ بشركائِهم، وقد تخلَّل ذلك كلَّه التسجيلُ بمكابرتِهم، والتعجيبُ منهم كيفَ ينأَوْن بجانبِهم، وكيف يصمُّون أسماعَهم، ويغمضونَ أبصارَهم عما دُعوا إلى سماعِه وإلى النَّظر فيه، إلى غيرِ ذلك، وإذ قد كان مِن شأنِ ذلك أن يثيرَ في أنفسِ المسلمين كراهيةَ أهلِ الشِّرك، ويحفزَهم للانتقامِ منهم، ومجافاتِهم، والإعراضِ عن دعائِهم إلى الخيرِ- لا جرمَ شرَع في استئنافِ غرضٍ جديدٍ، يكونُ ختامًا لهذا الخوضِ البديعِ، وهو غرضُ أمرِ الرَّسول والمؤمنين بقلَّةِ المبالاةِ بجفاءِ المشركينَ وصلابتِهم، وبأن يَسَعوهم مِن عفوِهم، والدأبِ على محاولةِ هديِهم، والتبليغِ إليهم

.

وأيضًا لَمَّا بَيَّن اللهُ تعالى أنَّه هو الذي يتولَّى رَسولَه، وأنَّ الأصنامَ وعابِدِيها لا يَقدِرونَ على الإيذاءِ والإضرارِ؛ بَيَّن في هذه الآيةِ ما هو المَنهَجُ القَويمُ والصِّراطُ المُستقيمُ في مُعاملةِ النَّاسِ ، فقال تعالى:

خُذِ الْعَفْوَ

أي: اقبَلْ ما تيسَّرَ مِن أخلاقِ النَّاسِ، وما سَمَحت به أنفُسُهم، ولا تُغلِظْ عليهم، فإنْ وَجدْتَ منهم خُلُقًا طَيِّبًا فاقبَلْه، وما جاءَك مِن غَيرِ ذلك فاصفَحْ عنه وتجاوَزْه، واترُكْ ما لك من الحَقِّ عليهم .

كما قال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34-35] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (أمَرَ اللهُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يأخُذَ العَفْوَ مِن أخلاقِ النَّاسِ) .

وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ

أي: وأْمُرِ النَّاسَ- يا مُحمَّد- بالمَعروفِ الذي يُقِرُّه الشَّرعُ؛ مِن كُلِّ قَولٍ وفِعلٍ تَعرِفُ حُسنَه ونَفعَه العُقولُ والفِطَرُ السَّليمةُ، وتطمئِنُّ إليه النُّفوسُ المُستقيمةُ .

كما قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104] .

وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ

أي: وأعرِضْ عمَّن جَهِلَ عليك، فإذا سَفِهَ عليك، وأساءَ إليك، فلا تؤاخِذْه بزَلَّتِه .

كما قال تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63] .

وقال سبحانه: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص: 55] .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((قَدِمَ عُيينةُ بنُ حِصنِ بنِ حُذيفةَ، فنزل على ابنِ أخيه الحُرِّ بنِ قيسٍ، وكان مِن النَّفَرِ الذين يُدنِيهم عُمَرُ، وكان القُرَّاءُ أصحابَ مجالسِ عمرَ ومُشاورتِه، كهولًا كانوا أو شبَّانًا، فقال عُيينةُ لابنِ أخيه: يا ابنَ أخي، هل لك وجهٌ عندَ هذا الأميرِ؟ فاستأذِنْ لي عليه، قال: سأستأذِنُ لك عليه، فاستأذَنَ الحرُّ لِعُيَينةَ، فأذِنْ له عُمرُ، فلما دخَل عليه قال: هِيْ يا ابنَ الخطَّابِ، فواللهِ ما تُعطينا الجَزلَ ولا تَحكمُ بيننا بالعَدلِ! فغضِبَ عُمرُ حتى همَّ أن يوقِعَ به، فقال له الحرُّ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ اللهَ تعالى قال لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وإنَّ هذا مِن الجاهِلينَ. واللهِ ما جاوَزها عمرُ حينَ تلاها عليه، وكان وقَّافًا عندَ كتابِ اللهِ )) .

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما كان الشيطانُ بعداوتِه لبني آدمَ مجتهدًا في التنفيرِ من هذه المحاسنِ المذكورةِ في قولِه تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ والترغيبِ في أضدادِها- شرَع لأُمتِه ما يعصمُهم منه عندَ نزغِه، مخاطبًا له بذلك؛ ليكونَ أدعَى لهم إلى القبولِ، وأجدرَ باشتدادِ الخوفِ المقتضي للفرارِ، المثمرِ للنَّجاة .

وأيضًا لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ السَّابقةِ أفضَلَ ما يُعامِلُ البَشَرُ به بعضُهم بعضًا، ولو عَمِلَ النَّاسُ بهذه الوصايا لصَلَحَت أحوالُهم، ولم يجِدِ الفَسادُ إليهم سبيلًا- قفَّى عليها بالوصيَّةِ باتِّقاءِ إفسادِ الشَّيطانِ .

وأيضًا أنَّه عندَ الأمرِ بالعُرفِ ربَّما يَهيجُ سَفيهٌ ويُظهِرُ السَّفاهةَ، فعند ذلك أمرَ تعالى نبيَّه بالسُّكوتِ عن مُقابَلتِه، فقال: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ولَمَّا كان مِن المَعلومِ أنَّه عند إقدامِ السَّفيهِ على السَّفاهةِ يَهيجُ الغَضَبُ والغَيظُ، ولا يبقى الإنسانُ على حالةِ السَّلامةِ، وعند تلك الحالةِ يَجِدُ الشَّيطانُ مَجالًا في حَملِ ذلك الإنسانِ على ما لا ينبغي- لا جرَمَ بَيَّن تعالى ما يَجري مَجْرى العلاجِ لهذا الغَرَضِ، فقال :

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ

أي: وإن نالَك مِن الشَّيطانِ وَسوسةٌ ما أو غَضَبٌ أو غيرُ ذلك؛ لِيُثبِّطَك عن الخيرِ، أو يَحُثَّك على الشَّرِّ والفَسادِ، أو يحمِلَك على الغَضَبِ، ومُجازاةِ مَن جَهِلَ عليك- فالتجِئْ إلى اللهِ، واطلُبْ منه أن يحفَظَك مِن الشَّيطانِ .

عن سُلَيمانَ بنِ صُرَدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: كنتُ جالسًا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورجلانِ يَستبَّانِ، فأحَدُهما احمَّرَ وَجهُه، وانتفخَتْ أوداجُه ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنِّي لأعلَمُ كَلمةً لو قالَها، ذهب عنه ما يَجِدُ، لو قال: أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ، ذهَبَ عنه ما يجِدُ )) .

وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقولُ: مَن خلَق كذا؟ مَن خلَق كذا؟ حتى يقولَ: مَن خلَق ربُّك؟ فإذا بلَغه فليستعِذْ بالله ولْيَنْتَهِ )) .

إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

أي: إنَّ اللهَ الذي تستعيذُ به مِن نَزغِ الشَّيطانِ، سَميعٌ لِدُعائِك، ولِوَسْوسةِ الشَّيطانِ، ولكلِّ صوتٍ، عليمٌ باستعاذَتِك، وبِوَسْوسةِ الشَّيطانِ، ولا يخفَى عليه شيءٌ؛ فهو الذي بيَدِه إنجاؤُك منه، وحمايَتُك مِن نَزَغاتِه .

كما قال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس: 1- 6] .

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ تعالى في الآيةِ السَّابِقةِ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد ينزَغُه الشَّيطانُ، وبيَّنَ أنَّ علاجَ هذه الحالةِ الاستعاذةُ بالله؛ بيَّنَ هنا في هذه الآيةِ أنَّ حالَ المتَّقينَ يَزيدُ على حالِ الرَّسولِ في هذا البابِ ، فقال:

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا

أي: إنَّ الَّذينَ اتَّقَوا اللهَ تعالى بفِعلِ الواجِباتِ، وتَرْكِ الشِّرْكِ والسَّيِّئاتِ، إذا أصابَتْهم وَسْوسةٌ مِن الشَّيطانِ، أو غضَبٌ أو غيرُ ذلك، فَهَمُّوا بتَرْكِ طاعةِ اللهِ، أو اقترافِ مَعصيَتِه- تذَكَّروا عَظَمةَ اللهِ تعالى، وما يَعلَمونَه مِن عِقابِه وثَوابِه، وما أمَرَهم به مِن الاستعاذةِ مِن الشَّيطانِ .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 135] .

فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ

أي: فإذا المُتَّقونَ بِسَببِ ذلك التذكُّرِ يُبصِرونَ بقُلوبِهم هُدى اللهِ، ومكائِدَ الشَّيطانِ، ومَواطِنَ الزَّلَلِ، فيَنتَهونَ عَن مَعصِيَتِه سُبحانه .

عن حُذيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ كالحَصيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قَلبٍ أنكَرَها، نُكِتَ فيه نُكتةٌ بَيضاءُ، حتى تصيرَ على قَلبينِ؛ على أبيضَ مِثلِ الصَّفَا ، فلا تَضَرُّه فتنةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسوَدُ مُرْبادًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا ، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكرًا، إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواه )) .

وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّها عَطفٌ على جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا عطفَ الضِّدِّ على ضِدِّه؛ فإنَّ الضِّدِّيةَ مُناسَبةٌ يحسُنُ بها عَطفُ حالِ الضِّدِّ على ضِدِّه، فلمَّا ذَكَر شَأنَ المتَّقينَ في دَفْعِهم طائِفَ الشَّياطينِ، ذكَرَ شَأنَ أضدادِهم مِن أهْلِ الشِّركِ والضَّلالِ ، فقال:

وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ

أي: وإخوانُ الشَّياطينِ- وهم كَفَرةُ الإنسِ وفَجَرتُهم- تُزَيِّنُ لهم الشَّياطينُ الضَّلالَ، وتُساعِدُهم على الكُفرِ والمعاصي .

كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] .

وقال سبحانه: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام: 128] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء: 27] .

ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ

أي: إنَّ الشَّياطينَ لا تَسأمُ ولا تَفتُرُ مِن إمدادِ أوليائِهم مِن الإنسِ بالضَّلالِ، ولا تتوقَّفُ عن تَزيِينِ الكُفرِ والمعاصي لهم، وكذلك أولياؤُهم مِن الإنسِ لا يُقصِرونَ أيضًا في ارتكابِ تلك السَّيِّئاتِ، فهم دائمًا في ازديادٍ مِن الآثامِ .

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ شياطينَ الجِنِّ والإنسِ لا يُقصِرونَ في الإغواءِ والإضلالِ؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ نوعًا مِن أنواعِ الإغواءِ والإضلالِ، وهو: أنَّهم كانوا يَطلُبونَ آياتٍ مُعَيَّنةً، ومعجزاتٍ مَخصوصةً على سبيلِ التعنُّتِ ، فقال تعالى:

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا

أي: وإذا لم تأتِ المُشركينَ- يا مُحمَّدُ- بآيةٍ وَفقَ ما يطلُبونَ، قالوا: هلَّا أتيتَ بها، وافتعلتَها مِن تلقاءِ نفسِك .

كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21].

وقال سبحانه: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ [الإسراء: 90-93] .

وقال تبارك وتعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ [العنكبوت: 50] .

وقال عز وجل: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [يونس: 15] .

قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشركينَ الذينَ يَطلبونَ مِنك الآياتِ: ليس لي ذلك، وهو ليس مِن شأني، إنَّما أنا عبدٌ مأمورٌ، لا أتَّبِعُ إلَّا ما يُوحيه إليَّ ربِّي .

كما قال تعالى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام: 50] .

وقال سبحانه: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 50-51] .

هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ

مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا حكى اللهُ تعالى قَولَ المُشركينَ: لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا؛ بَيَّنَ لهم أنَّ هذا القُرآنَ العظيمَ أعظَمُ آيةٍ، لا ينبغي للإنسانِ أن يطلُبَ آيةً غَيرَه ، فقال تعالى:

هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ

أي: هذا القُرآنُ العظيمُ عَلاماتٌ للهُدى بَيِّناتٌ، وحُجَجٌ على الحَقِّ قاطعاتٌ، وأنوارٌ للقُلوبِ ساطعاتٌ مِن ربِّكم سبحانه وتعالى .

وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

أي: وهذا القُرآنُ مُرشِدٌ إلى الصِّراطِ المُستقيمِ، ورحمةٌ في الدُّنيا والآخرةِ للمُؤمنينَ الذين يعملونَ بما فيه

 

.

كما قال تعالى: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 20] .

وقال سبحانه: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15-16] .

وقال جلَّ جلاله: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] .

وقال سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت: 44] .

وقال تبارك وتعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ هذه الآيةُ مِن ثلاثِ كلماتٍ، تضمَّنَت قواعِدَ الشَّريعةِ في المأموراتِ والمنهِيَّاتِ؛ فَقولُه: خُذِ الْعَفْوَ دخل فيه صلةُ القاطعينَ، والعَفوُ عن المُذنِبينَ، والرِّفقُ بالمؤمنينَ، وغيرُ ذلك من أخلاقِ المُطيعينَ، ودخَلَ في قولِه: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ صِلةُ الأرحامِ، وتَقْوى اللهِ في الحَلالِ والحرامِ، وغضُّ الأبصارِ، والاستعدادُ لدارِ القَرارِ، وفي قولِه: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ الحَضُّ على التعلُّقِ بالعِلمِ، والإعراضُ عن أهلِ الظُّلمِ، والتنَزُّهُ عن مُنازعةِ السُّفَهاءِ، ومُساواةِ الجَهَلةِ الأغبياءِ، وغيرُ ذلك من الأخلاقِ الحميدةِ، والأفعالِ الرَّشيدةِ

.

2- قَولُ الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ فيه جِماعُ الأخلاقِ الكريمةِ، وقد تضمَّن الحثَّ على حُسنِ المعاشرةِ مع الخلقِ، وأداءَ حقِّ الله فيهم، والسلامةَ مِن شرِّهم، فلو أخَذ النَّاس كلُّهم بهذه الآيةِ لكفَتْهم وشَفَتْهم؛ فإنَّ الإنسانَ مع النَّاسِ مأمورٌ أن يأخُذَ منهم ما يحِبُّ، ما سَمَحوا به، ولا يُطالِبَهم بزيادةٍ؛ فإنَّ العفوَ ما عفا مِن أخلاقِهم، وسمحَتْ به طبائعُهم، ووسِعهم بذلُه مِن أموالِهم وأخلاقِهم، فهذا ما منهم إليه. وأمَّا ما يكونُ منه إليهم فأمرُهم بالمعروفِ، وهو ما تشهدُ به العقولُ، وتعرفُ حسنَه، وهو ما أمَر الله به. وإذا فعَل معه جاهلُهم ما يَكرَهُ فإنَّه يُعرضُ عنه، ويتركُ الانتقامَ لنفسِه والانتصارَ لها، فأيُّ كمالٍ للعبدِ وراءَ هذا؟ وأيُّ معاشرةٍ وسياسةٍ لهذا العالمِ أحسنُ مِن هذه المعاشرةِ والسياسةِ؟ فلو فكَّر الرجلُ في كلِّ شرٍّ يلحقُه مِن العالمِ- أي الشرِّ الحقيقيِّ الذي لا يوجبُ له الرفعةَ والزلفَى مِن الله- وجَد سببَه الإخلالَ بهذه الثلاثِ أو بعضِها، وإلا فمع القيامِ بها فكلُّ ما يحصلُ له مِن النَّاس فهو خيرٌ له، وإن كان شرًّا في الظاهرِ .

3- قَولُه تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقَولُه تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 96-98] ، وقَولُه تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 34-36] هذه الآياتُ الثَّلاثُ- في «الأعرافِ» و«المؤمنون» و«فُصِّلَت»- لا رابعَ لهنَّ، فإنَّه تعالى يُرشِدُ فيهنَّ إلى مُعاملةِ العاصي من الإنسِ بالمَعروفِ، والتي هي أحسَنُ؛ فإنَّ ذلك يكُفُّه عمَّا هو فيه مِن التَّمرُّدِ بإذنه تعالى؛ ولهذا قال: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ثم يُرشِدُ تعالى إلى الاستعاذةِ به من شيطانِ الجانِّ؛ فإنَّه لا يكفُّه عنك الإحسانُ، وإنَّما يُريدُ هَلاكَك ودَمارَك بالكُليَّةِ؛ فإنَّه عَدوٌّ مُبينٌ لك ولأبيك مِن قَبلِك .

4- قال الله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ الأمرُ بالاستعاذةِ قد عُلِّلَ بعلَّتينِ:

أولاهما: أنَّ الاستعاذةَ باللهِ مَنجاةٌ للرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- مِن نَزغِ الشَّيطانِ.

والثانية: أنَّ في الاستعاذةِ باللهِ مِن الشَّيطانِ تَذكُّرَ أنَّ الواجِبَ مُجاهدةُ الشَّيطانِ، والتيقُّظُ لِكَيدِه، وأنَّ ذلك التيقُّظَ سُنَّةُ المُتَّقينَ؛ فالرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مأمورٌ بِمُجاهدةِ الشَّيطانِ؛ لأنَّه مُتَّقٍ، ولأنَّه يبتهِجُ بمُتابعةِ سِيرةِ سَلَفِه مِن المتَّقينَ، كما قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] .

5- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ لا شيءَ أقوى على طَردِ الشَّيطانِ مِن ذِكرِ اللهِ تعالى بالقَلبِ، ومُراقَبتِه في السِّرِّ والجَهرِ؛ فذِكرُ اللهِ تعالى بأيِّ نَوعٍ مِن أنواعِه يُقَوِّي في النَّفسِ حُبَّ الحقِّ، ودواعيَ الخَيرِ، ويُضعِفُ فيها المَيلَ إلى الباطِلِ والشَّرِّ، حتى لا يكونَ للشَّيطانِ مَدخلٌ إليها .

6- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ المتَّقونَ إذا أصابَهم هذا الطَّيفُ الذي يَطيفُ بِقُلوبِهم، يتذَكَّرونَ ما عَلِمُوه قبل ذلك، فيزولُ الطَّيفُ، ويُبْصِرونَ الحَقَّ الذي كان معلومًا، ولكِنَّ الطَّيفَ يمنَعُهم عن رُؤيَتِه .

7- قَولُ اللهِ تعالى: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ فيه تنبيهٌ على أنَّ مَن تمادى مع الشَّيطانِ عَمِيَ، وأنَّ مَسَّ الشَّيطانِ يُعمِي ويَطمِسُ ويُغلِقُ البصيرةَ .

8- القرآنُ العظيمُ يُستبصَرُ به في جميعِ المَطالِبِ الإلهيَّةِ، والمقاصِدِ الإنسانيَّةِ؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .

9- ذَكرَ اللهُ في غيرِ مَوضعٍ مِن كِتابِه أنَّ الرَّحمةَ تَحصُلُ بالقرآنِ، كقَولِه تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82] ، وقال هنا في سورةِ الأعرافِ: هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قال الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ الأمرُ يشمَلُ النَّهيَ عَن الضِّدِّ؛ فإنَّ النَّهيَ عَن المُنكَرِ أمْرٌ بالمعروفِ، والأمرَ بالمَعروفِ نَهيٌ عن المُنكَرِ؛ لأنَّ الأمرَ بالشَّيءِ نَهيٌ عَن ضِدِّه، وإنَّما اقتصَرَ على الأمرِ بالعُرفِ هنا؛ لأنَّه الأهَمُّ في دَعوةِ المُشركينَ، لأنَّه يدعوهم إلى أصولِ المَعروفِ واحدًا بعد واحدٍ

.

قَولُ اللهِ تعالى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ أشار إلى مَزيدِ اعتنائِهم بالإغواءِ، ومُثابَرتِهم على الإضلالِ والإغراءِ بأداةِ التَّراخي، فقال: ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ أي: لا يتركُونَ إغواءَهم ولو لحظةً؛ لِجَهلِهم وشَرِّهم .

قال تعالى وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ فإخوانُ الشَّياطينِ تَمُدُّهم الشَّياطينُ في غَيِّهم ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ لا تُقصِرُ الشَّياطينُ عَن المَدَد والإمدادِ، ولا الإنسُ عن الغَيِّ، فلا يُبصِرونَ مع ذلك الغَيِّ ما هو معلومٌ لهم مُستقِرٌّ في فِطَرِهم، لكِنَّهم يَنسَونَه؛ ولِهذا كانت الرُّسُل إنَّما تأتي بتَذكيرِ الفِطرةِ ما هو معلومٌ لها، وتقويَتِه وإمدادِه، ونَفيِ المُغَيِّر للفِطرةِ، فالرسُلُ بُعِثوا بتقريرِ الفِطرةِ وتكميلِها، لا بِتَغييرِ الفِطرةِ وتَحويلِها، والكمالُ يَحصُلُ بالفِطرةِ المُكَمَّلة بالشِّرعةِ المُنَزَّلة

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ

التَّعريفُ في الْعَفْوَ تعريفُ الجِنسِ؛ فهو مُفيدٌ للاستغراقِ

.

والاجتزاءُ بالأمرِ بالعُرفِ عنِ النَّهيِ عن المُنكَرِ مِن الإيجازِ .

وحُذِفَ مَفعولُ الأمرِ في قَولِه: وَأْمُرْ لإفادةِ عُمومِ المأمورينَ، فأمَرَ اللهُ رسولَه بأن يأمُرَ النَّاسَ كُلَّهم بكلِّ خَيرٍ وصلاحٍ، فيدخُلُ في هذا العمومِ المُشركونَ دُخولًا أوَّليًّا؛ لأنَّهم سبَبُ الأمرِ بهذا العُمومِ .

قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

جملة: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ في موقِعِ العلةِ للأمرِ بالاستعاذةِ بالله مِن الشَّيطانِ .

وقال اللهُ تعالى هنا: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقال في سُورةِ فُصِّلَت: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36] ، فجاء في الآيةِ هنا سَمِيعٌ عَلِيمٌ على لفظِ النَّكرةِ، وفي سورةِ فُصِّلَت مُعرَّفتينِ بالألفِ واللَّامِ، مُؤَكَّدَتينِ بـ (هو)، وذلك لمناسبةٍ حسنة؛ أنَّ التي هنا وقع في فاصلةِ ما قَبلَها من الفواصِلِ أفعالُ جماعةٍ، وأسماءٌ مأخوذةٌ من الأفعالِ: نحوُ قَولِه تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، وبَعْدَه يُخْلَقُونَ، و يَنْصُرُونَ، و لَا يُبْصِرُونَ، والْجَاهِلِينَ، فأُخرِجَت هذه الفاصلةُ بأقرَبِ ألفاظِ الأسماءِ المُؤدِّيةِ معنى الفِعلِ، وهي النَّكِرةُ، وكان المعنى: استعِذْ باللهِ إنَّه يسمَعُ استعاذَتَك، ويعلَمُ استجارَتَك.

والتي في سورة فُصِّلَت: قبلها فواصِلُ سلك بها طريقَ الأسماءِ، وهي ما في قَولِه تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34، 35]. فقولُه: وَلِيٌّ حَمِيمٌ ليس من الأسماءِ التي يُرادُ بها الأفعالُ، وكذلك قَولُه: ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ليس ذو حَظِّ بمعنى فِعلٍ، فأُخرِجَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ بعد الفواصِلِ التي هي على سَنَنِ الأسماءِ على لفظٍ يَبعُدُ عَن اللَّفظِ الذي يؤدِّي معنى الفِعلِ، فكأنَّه قال: إنَّه هو الذي لا يَخفى عليه مسموعٌ ولا معلومٌ، فليس القصدُ الإخبارَ عن الفِعلِ، كما كان في الأولى: إنَّه يَسمَعُ الدُّعاءَ، ويعلَمُ الإخلاصَ، فهذا فَرقُ ما بين المَكانَينِ .

وفيه وجهٌ آخَرُ: وهو أنَّ آيةَ فُصِّلَت تَقَدَّمَ قَبلَها قولُه تعالى وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35] فكان مُؤَكَّدًا بالتَّكرارِ، وبالنَّفي والإثباتِ، فبالغَ في قَولِه: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36] بزيادة هُوَ وبالألفِ واللَّامِ، ولم يكُنْ في الأعرافِ هذا النَّوعُ مِن الاتِّصالِ، فأتى على القِياسِ: المُخبَرُ عنه معرفةٌ، والخَبَرُ نَكرةٌ .

وقيل: سِرُّ ذلك- والله أعلم- أنَّه حيث اقتصَرَ على مجرَّدِ الاسمِ، ولم يؤكِّدْه، أُريدَ إثباتُ مُجرَّدِ الوَصفِ الكافي في الاستعاذةِ، والإخبارُ بأنَّه سبحانه يسمَعُ ويَعلَمُ، فيسمَعُ استعاذتَك فيُجيبُك، ويَعلَمُ ما تستعيذُ منه فيدفَعُه عنك، فالسَّمعُ لكلامِ المُستعيذِ، والعِلمُ بالفِعلِ المُستعاذِ منه، وبذلك يحصُلُ مَقصودُ الاستعاذةِ، وهذا المعنى شامِلٌ للمَوضِعَينِ، وامتاز المذكورُ في سورة فُصِّلت بمزيدِ التأكيدِ والتَّعريفِ والتَّخصيصِ؛ لأنَّ سياقَ ذلك بعد إنكارِه سُبحانه على الذين شَكُّوا في سَمْعِه لِقَولِهم وعِلْمِه بهم، كما جاء في الصَّحيحينِ مِن حديثِ ابنِ مَسعودٍ، قال: ((اجتمَعَ عند البيتِ ثلاثةُ نفَرٍ: قُرشيَّانِ وثَقَفيٌّ، أو ثَقَفيَّانِ وقُرَشيٌّ، كثيرٌ شَحمُ بُطونِهم، قليلٌ فِقهُ قُلوبِهم، فقالوا: أتَرَونَ اللهَ يسمَعُ ما نقولُ؟ فقال أحدُهم: يسمَعُ إن جَهَرْنا، ولا يسمَعُ إن أخَفَينا، فقال الآخَرُ: إن سَمِعَ بعضَه، سَمِعَ كلَّه، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ إلى قَولِه: فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت: 22- 23] )) .

فجاء التوكيدُ في قَولِه: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36] في سياقِ هذا الإنكارِ، أي: هو وَحدَه الذي له كمالُ قُوَّةِ السَّمعِ وإحاطةِ العِلمِ، لا كما يظُنُّ به أعداؤُه الجاهلونَ: أنَّه لا يسمَعُ إنْ أخْفَوا، وأنَّه لا يعلَمُ كثيرًا ممَّا يعملونَ، وحَسَّنَ ذلك أيضًا: أنَّ المأمورَ به في سورةِ فُصِّلَت دفْعُ إساءتِهم إليه بإحسانِه إليهم، وذلك أشَقُّ على النُّفوسِ مِن مجرَّدِ الإعراضِ عنهم؛ ولهذا عقَّبَه بقَولِه: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35] فحَسُنَ التأكيدُ لحاجةِ المُستعيذِ.

وأيضًا فإنَّ السِّياقَ هاهنا لإثباتِ صِفاتِ كَمالِه وأدلَّةِ ثُبوتِها، وآياتِ رُبُوبيَّتِه وشواهِدِ تَوحيدِه؛ ولهذا عقَّبَ ذلك بقَولِه: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ [فصلت: 37] وبِقَولِه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً [فصلت: 39] فأتى بأداة التَّعريفِ الدَّالَّةِ على أنَّ مِن أسمائِه «السَّميع العليم» كما جاءت الأسماءُ الحُسنى كلُّها مَعرفةً، والذي في الأعرافِ في سياقِ وعيدِ المُشركين وإخوانِهم مِن الشَّياطينِ، ووعْدِ المستعيذِ بأنَّ له ربًّا يسمَعُ ويعلَمُ، وآلهةُ المُشرِكين التي عَبَدوها من دونِه ليس لهم أعيُنٌ يُبصِرون بها، ولا آذانٌ يَسمَعونَ بها؛ فإنَّه سميعٌ عليمٌ، وآلهتُهم لا تسمَعُ ولا تُبصِرُ ولا تَعلَمُ، فكيف تُسَوُّونَها به في العبادةِ؟! فعُلِمَ أنَّه لا يليقُ بهذا السِّياقِ غيرُ التَّنكيرِ، كما لا يليقُ بذلك غيرُ التعريفِ، واللهُ أعلَمُ بأسرار كلامِه.

وختَم الآيةَ هنا، وفي سورةِ فُصِّلت بصِفتي السَّمعِ والعِلم، وختَمها في سورةِ غافر بقوله: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لأنه لَمَّا كان المُستعاذُ منه في سورة غافر هو شَرَّ مجادلةِ الكُفَّارِ في آياتِه، وما ترتَّبَ عليها من أفعالِهم المرئيَّةِ بالبَصرِ في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فلَمَّا كان المستعاذُ منه كلامَهم وأفعالَهم المُشاهَدةَ عِيانًا، قال: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر: 56] ، وهنا المُستعاذُ منه غيرُ مُشاهَدٍ لنا؛ فإنَّه يَرانا هو وقَبيلُه من حيثُ لا نراه. بل هو معلومٌ بالإيمانِ، وإخبارِ اللهِ ورَسولِه .

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ

هذا تأكيدٌ وتقريرٌ لِما تقدَّمَ مِن وُجوبِ الاستعاذةِ باللهِ عند نَزغِ الشَّيطانِ، فتتنَزَّلُ جُملةُ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إلى آخِرِها، مَنزلةَ التَّعليلِ للأمرِ بالاستعاذةِ مِن الشَّيطانِ إذا أحسَّ بِنَزغِ الشَّيطانِ .

والطَّائِفُ هو النَّازِلُ بالمكانِ قبل دُخولِه المكانَ، أُطلِقَ هنا على الخاطِرِ الذي يخطُرُ في النَّفسِ، يبعَثُ على فِعلِ شَيءٍ نهى اللهُ عن فِعلِه؛ شَبَّه ذلك الخاطِرَ في مَبدأِ جَوَلانِه في النَّفسِ بِحُلولِ الطَّائِفِ قبل أن يستقِرَّ .

في كَلمةِ (إذا) مِن قَولِه: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا مع التعبيرِ بِفعلِ مَسَّهُمْ الدَّالِّ على إصابةٍ غيرِ مَكينةٍ- إشارةٌ إلى أنَّ الفَزَعَ إلى اللهِ مِن الشَّيطانِ، عند ابتداءِ إلمامِ الخواطِرِ الشَّيطانيَّةِ بالنَّفسِ؛ لأنَّ تلك الخواطِرَ إذا أُمهِلَت لم تلبَثْ أن تصيرَ عَزمًا ثم عملًا .

والفاءُ في فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ لتفريعِ الإبصارِ على التذكُّرِ، وأكَّدَ معنى (فاء) التَّعقيبِ بـ(إذا) الفُجائيَّةِ الدَّالةِ على حُصولِ مَضمونِ جُملَتِها دفعةً بدونِ تَريُّثٍ، أي: تذكَّروا تذكُّرَ ذوي عَزْمٍ، فلم تتريَّثْ نفوسُهم أن تَبَيَّنَ لها الحقُّ الوازِعُ عن العَملِ بالخواطِرِ الشَّيطانيَّةِ، فابتعَدَت عنها، وتمسَّكَت بالحَقِّ، وعَمِلَت بما تذكَّرَت

ووصْفُهم باسمِ الفاعِل مُبْصِرُونَ دونَ الفِعلِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الإبصارَ ثابِتٌ لهم مِن قَبلُ، وليس شيئًا مُتجدِّدًا، ولذلك أخبَرَ عنهم بالجملةِ الاسميَّةِ الدَّالةِ على الدَّوامِ والثَّباتِ .

قَولُه تعالى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ عطفٌ على جُملةِ إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِن الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا عطفَ الضِّدِّ على ضِدِّه .

قولُه: وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

قوله: هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مُستأنفةٌ لابتداءِ كَلامٍ في التَّنويهِ بشأنِ القُرآنِ، مُنقطعةٌ عَن المَقولِ؛ للانتقالِ مِن غَرَضٍ إلى غرَضٍ، بمنزلةِ التَّذييلِ لِمَجموعِ أغراضِ السُّورةِ، والخطابُ للمُسلمين. ويجوزُ أن تكونَ مِن تمامِ القَولِ المأمورِ بأن يجيبَهم به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيكون الخِطابُ للمُشركينَ، ثمَّ وقع التخلُّصُ لِذكرِ المُؤمنينَ بِقَوله: وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .

وجمَعَ (البصائِرَ)؛ لأنَّ في القرآنِ أنواعًا مِن الهدى على حسَبِ النَّواحي التي يَهدِي إليها ، وأفرَدَ (الهدى والرحمة)؛ لأنَّهما جِنسانِ عامَّانِ يَشملانِ أنواعَ البَصائِرِ؛ فالهُدى يُقارِنُ البَصائِرَ، والرَّحمةُ غايةٌ للبصائِرِ .

==============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (204-206)

ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ

غريب الكلمات:

 

وَأَنْصِتُوا: الإنصاتُ: السُّكوتُ للاستماعِ، مع ترْكِ الكَلامِ، وَأصلُ (نصت) يدُلُّ على السُّكوتِ

.

وَخِيفَةً: أي: خوفًا مِن اللهِ، وأصلُه يدلُّ على الذُّعرِ والفَزَعِ .

بِالْغُدُوِّ: جمع غَدَاةٍ: وهي أولُ النَّهَارِ، وأصْلُ (غدو): يَدُلُّ عَلَى زَمَانٍ .

وَالْآصَالِ: جمعُ أُصُلٍ، والأُصُل: جمعُ أصيلٍ: وهو آخِرُ النَّهارِ .

لَا يَسْتَكْبِرُونَ: أي: لا يتكبَّرونَ، والاستكبارُ: أن يتشبَّعَ الإنسانُ فيُظهِرَ مِن نَفسِه ما ليس له، وأصلُ (كبر): يدلُّ على خلافِ الصِّغَر .

وَيُسَبِّحُونَهُ: أي: يُعظِّمونَه ويُنزِّهونَه عن كلِّ سُوءٍ، وأصل (سبح): يدلُّ على جِنسٍ مِن العبادةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمرُ اللهُ عبادَه في حالِ تِلاوةِ القُرآنِ أن يستمِعُوا له ويُنصِتوا؛ لعلَّهم يُرحَمونَ بذلك.

وأمرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يذكُرَه بلِسانِه في نفسِه بحيث لا يشعُرُ بذلك أحدٌ، مُتخَشِّعًا متذلِّلًا لله، وخائفًا منه عزَّ وجلَّ، ومن عقابِه، وأن يذكُرَه أيضًا بلِسانِه مِن غَيرِ رَفعِ الصَّوتِ أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه، ونهاه أن يكونَ مِن الغافلينَ.

وأخبَرَ تعالى أنَّ الذينَ عِندَه مِن الملائكةِ، لا يتكبَّرونَ عن عبادَتِه سُبحانه، ويُنزِّهونَه عن كُلِّ سُوءٍ، وله وَحْدَه يَسجُدونَ.

تفسير الآيات:

 

وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكرَ اللهُ تعالى أنَّ القُرآنَ بَصائِرُ وهُدًى ورحمةٌ؛ أمرَ باستماعِه إذا شُرِعَ في قراءتِه، وبالإنصاتِ- وهو السُّكوتُ مع الإصغاءِ إليه؛ إعظامًا له واحترامًا، ولأنَّ ما اشتمَلَ على هذه الأوصافِ مِن البَصائِرِ والهُدى والرَّحمةِ، حَريٌّ بأن يُصغى إليه؛ حتى يحصُلَ منه للمُنصِتِ هذه النَّتائِجُ العَظيمةُ، وينتفِعَ بها فيستبصِرَ مِن العَمى، ويهتديَ مِن الضَّلالِ، ويُرحَمَ بها

.

وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا

أي: وإذا قُرِئَ عليكم القرآنُ فأَصْغُوا له سَمعَكم، وأحضِرُوا قلوبَكم؛ لِتتفهَّموا آياتِهِ، واصمُتُوا حينَ تسمَعونَه لِتتدبَّروه .

لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

أي: استَمِعوا للقُرآنِ وأنصِتوا له؛ لِيرحمَكم اللهُ تعالى .

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعد أن أُمِرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الآيةِ السَّابقة بما أُمِرَ بتبليغِه مِن الآياتِ المتقَدِّمةِ، وأُمِرَ النَّاسُ باستماعِ القُرآنِ، كان ذلك يستلزِمُ أمْرَ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقراءةِ القُرآنِ عليهم قراءةً جَهريَّةً يَسمعونَها، بصوتٍ عالٍ رفيعٍ؛ ليحصلَ المقصودُ مِن تبليغِ الوحيِ والرِّسالةِ، ثم إنَّه تعالى أردَف ذلك الأمرَ، بأن أمَره في هذه الآيةِ بأن يذكرَ ربَّه في نفسِه، وهو التذكُّرُ الخاصُّ به، فأمَرَه بأن يذكُرَ اللهَ ما استطاع، وكيفما تسنَّى له، وفي أوقاتِ النَّهارِ المختلفةِ .

وأيضًا لَمَّا أمَرَهم تعالى بالاستماعِ والإنصاتِ إذا شُرِعَ في قراءةِ القُرآنِ، ارتقى مِن أمْرِهم إلى أمْرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يذكُرَ ربَّه في نَفسِه، أي: بحيثُ يراقِبُه ويذكُرَه في الحالةِ التي لا يَشعُرُ بها أحَدٌ، وهي الحالةُ الشَّريفةُ العُليا ، فقال تعالى:

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ

أي: واذكُرِ اللهَ تعالى بلسانِك فيما بينك وبينَه ، مِن حيثُ لا يشعُرُ بذلك أحَدٌ، متذكِّرًا ومُستحضِرًا بقَلْبِك عظَمَته وصِفاتِه، وثوابَه وعقابَه، ونحوَ ذلك .

كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 41-42] .

وقال تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الإنسان: 25] .

وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: أنا عندَ ظنِّ عَبدِي بي، وأنا مَعَه حين يذكُرُني، إنْ ذَكَرَني في نفسِه، ذكَرتُه في نَفسي، وإنْ ذَكَرَني في ملإٍ، ذَكَرتُه في ملإٍ هم خيرٌ منهم )) .

تَضَرُّعًا وَخِيفَةً

أي: اذكُرِ اللهَ تعالى، وأنت مُتخشِّعٌ متذلِّلٌ، متواضِعٌ مُستكينٌ لله، وخائفٌ وَجِلُ القَلبِ من اللهِ تعالى، ومن عقابِه- سُبحانه .

وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ

أي: اذكُرِ اللهَ- عزَّ وجلَّ- بلسانِك، في خفاءٍ من القَولِ، من غيرِ رفعٍ للصَّوتِ .

كما قال تعالى: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110] .

وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنَّا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكنَا إذا أشرَفْنا على وادٍ هَلَّلْنا وكَبَّرْنا، ارتفَعَت أصواتُنا، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا أيُّها النَّاسُ، ارْبَعُوا على أنفُسِكم؛ فإنَّكم لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غائبًا، إنَّه معكم، إنَّه سَميعٌ قريبٌ )) .

بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ

أي: اذكُرِ اللهَ في أوَّلِ النَّهارِ، وفي آخِرِه مِن العَصرِ إلى المَغربِ .

كما قال تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الإنسان: 25] .

وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 41-42] .

وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ

أي: وأكثِرْ مِن ذِكرِ اللهِ تعالى، ولا تكُنْ مِن الغافِلينَ عن ذِكرِه- سُبحانَه .

كما قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] .

وقال سبحانه: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19] .

وقال جلَّ جلاله: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة: 19] .

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا رغَّبَ اللهُ تعالى رسولَه في الذِّكرِ، وفي المواظبةِ عليه، ذكَرَ عَقيبَه ما يقَوِّي دواعيَه، فبَيَّنَ أنَّ الملائكةَ- مع نهايةِ شَرَفِهم، وغايةِ طَهارَتِهم، وعِصمَتِهم وبراءَتِهم عن بواعثِ الشَّهوةِ والغَضبِ، وحوادثِ الِحقدِ والحَسَد- لَمَّا كانوا مُواظِبينَ على العبوديَّةِ والسُّجودِ والخُضوعِ والخُشوعِ؛ فالإنسانُ- مع كَونِه مُبتلًى بظُلُماتِ عالَم الجُسمانيَّاتِ، ومُستعِدًّا للَّذَّاتِ البشريَّةِ والبواعِثِ الإنسانيَّةِ- أولى بالمُواظبةِ على الطَّاعةِ .

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ

أي: إنَّ الملائكةَ الَّذين عند اللهِ تعالى، لا يتكبَّرونَ عن عبادتِهِ سُبحانَه؛ فهم خاضِعونَ لِرَبِّهم، مُتذلِّلونَ له، ومُنقادونَ لأوامِرِه سُبحانه .

كما قال تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء: 19] .

وقال سُبحانه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 49-50] .

وَيُسَبِّحُونَهُ

أي: والملائكةُ ينزِّهونَ اللهَ عزَّ وجلَّ عن كلِّ سُوءٍ .

كما قال تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] .

وقال سبحانه: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [غافر: 7] .

وقال جلَّ جلاله: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزمر: 75] .

وقال عزَّ وجلَّ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20] .

وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصافات: 165-166] .

وَلَهُ يَسْجُدُونَ

أي: وله- وَحْدَه لا شريكَ له- يَسجُدونَ سُجودَ تذلُّلٍ وخُضوعٍ، وتواضُعٍ له تعالى، ويخصُّونه بأشرفِ عبادةٍ .

عن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنِّي أرى ما لا تَرَونَ، وأسمَعُ ما لا تَسمعونَ: أطَّتِ السَّماءُ، وحُقَّ لها أن تَئِطَّ؛ والَّذي نفسي بيَدِه، ما فيها موضِعُ أربعةِ أصابعَ، إلَّا ومَلَكٌ واضعٌ جَبهتَه، ساجِدٌ للهِ... ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ مَن لازَمَ على الاستماعِ والإنصاتِ حين يُتلَى كتابُ اللهِ؛ فإنَّه ينالُ خَيرًا كثيرًا، وعِلمًا غَزيرًا، وإيمانًا مُستمِرًّا مُتجدِّدًا، وهدًى مُتزايدًا، وبصيرةً في دينِه؛ ولهذا رتَّبَ اللهُ حُصولَ الرَّحمةِ عليهما، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن تُلِيَ عليه الكتابُ، فلم يستمِعْ له ويُنصِتْ، أنَّه مَحرومُ الحَظِّ مِن الرَّحمةِ، قد فاته خيرٌ كثيرٌ

.

قَولُ اللهِ تعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قال بعضُهم: الرَّحمةُ أقرَبُ شَيءٍ إلى مُستمِعِ القُرآنِ؛ لهذه الآيةِ .

الترغيبُ في الإكثارِ مِن ذِكرِ اللهِ آناءَ اللَّيلِ والنَّهارِ، خصوصًا طرَفَيِ النَّهارِ، والتَّحذيرُ مِن الغفلةِ؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ الله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ .

لا يريدُ اللهُ تعالى أن يتكثَّرَ بعبادةِ الخَلقِ مِن قِلَّةٍ، ولا ليتعزَّزَ بها من ذِلَّةٍ، وإنَّما يريدُ نَفعَهم، وأن يربَحوا عليه أضعافَ أضعافَ ما عَمِلوا؛ فإنَّ لله تعالى عبادًا مُستديمينَ لعبادتِه، مُلازمينَ لِخدمَتِه، وهم الملائكةُ، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا استدلَّ به من قال: إنَّ المأمومَ إذا سَمِعَ قراءةَ الإمامِ يستمِعُ لها، ويُنصِتُ لا يقرأُ بالفاتحةِ ولا غَيرِها، وإذا لم يسمَعْ قراءَتَه بها، يقرأ الفاتحةَ وما زاد

.

قَولُ اللهِ تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ فيه دليلٌ على أنَّ المَشروعَ في الذِّكرِ كُلِّه؛ المخافتةُ، إلَّا أن يكونَ هناك سببٌ يُشرَعُ له الجَهرُ ، أو ما دلَّ دليلٌ خاصٌّ على مشروعيةِ الجهرِ به.

قَولُ اللهِ تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَة فيه دقيقةٌ، وهي أنَّ سَماعَ لَفظِ (الرِّبِّ) يُوجِبُ الرَّجاءَ، وسَماعَ لَفْظِ (التضَرُّع) و(الخِيفةِ) يوجِبُ الخوفَ، فلمَّا وقع الابتداءُ بما يُوجِبُ الرَّجاءَ، عَلِمْنا أنَّ جانِبَ الرَّجاءِ أقوى .

قَولُ اللهِ تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ خَصَّ (الغُدُوَّ) و(الآصالَ) بهذا الذِّكرِ؛ والحكمةُ فيه:

قيل: إنَّ عند الغُدوةِ انقلب الإنسانُ مِن النَّومِ- الذي هو كالموتِ- إلى اليقظةِ التي هي كالحياةِ، والعالَمُ انقلب من الظُّلْمة- التي هي طبيعةٌ عَدَميَّةٌ- إلى النُّورِ الذي هو طبيعةٌ وُجوديَّة. وأمَّا عند الآصالِ، فالأمرُ بالضِّدِّ؛ لأنَّ الإنسانَ ينقلِبُ فيه من الحياةِ إلى الموتِ، والعالَمُ ينقلِبُ فيه من النُّورِ الخالصِ إلى الظُّلمةِ الخالصةِ، وفي هذينِ الوَقتينِ يحصُلُ هذان النَّوعانِ مِن التَّغييرِ العَجيبِ القويِّ القاهِرِ، ولا يقدِرُ على مِثلِ هذا التَّغييرِ إلَّا الإلهُ الموصوفُ بالحِكمةِ الباهرةِ، والقُدرةِ غيرِ المُتناهية؛ فلهذه الحِكمةِ العَجيبةِ خَصَّ اللهُ تعالى هذينِ الوَقتينِ بالأمرِ بالذِّكرِ.

وقيل: إنَّما خُصَّا بالذِّكرِ؛ لأنَّ الصَّلاةَ بعد صلاةِ الصُّبحِ، وبعد صلاةِ العَصرِ مكروهةٌ، واستُحِبَّ للعبدِ أن يذكُرَ اللهَ تعالى فيهما؛ ليكونَ في جميعِ أوقاتِه مُشتغِلًا بما يقرِّبُه إلى اللهِ تعالى، مِن صلاةٍ وذِكرٍ.

وقيل: إنَّ أعمالَ العِبادِ تَصعَدُ أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه، فيصعَدُ عَملُ اللَّيلِ عند صلاةِ الفَجرِ، ويصعَدُ عَملُ النَّهارِ بعد العَصرِ إلى الغُروبِ، فاستُحِبَّ له الذِّكرُ فيهما؛ ليكونَ ابتداءُ عَمَلِه بالذِّكرِ، وختامُه بالذِّكرِ.

وقيل: خَصَّ هذينِ الوَقتينِ لِشَرفِهما، والمرادُ دَوامُ الذِّكرِ لله .

قَولُ اللهِ تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ لَمَّا كان رُبَّما أوهمَ هذا الخُصوصَ بهَذينِ الوَقتينِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وإن كان ظاهِرًا في الدَّوامِ، قال مُصَرِّحًا: وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ أي: في وَقتٍ غَيرِهما، بل كُن ذاكِرَه في كلِّ وَقتٍ، على كلِّ حالٍ .

قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ذكرَ مِن طاعاتِهم أوَّلًا: كونَهم يُسبِّحونَ، والتَّسبيحُ عبارةٌ عن تنزيهِ اللهِ تعالى مِن كلِّ سُوءٍ، وذلك يرجِعُ إلى المعارفِ والعُلومِ، ثمَّ لَمَّا ذكَرَ التَّسبيحَ أردَفَه بذِكرِ السُّجودِ، وذلك يرجِعُ إلى أعمالِ الجَوارِحِ، وهذا الترتيبُ يدلُّ على أنَّ الأصلَ في الطَّاعةِ والعبوديَّةِ أعمالُ القلوبِ، ويتفَرَّعُ عليها أعمالُ الجَوارِحِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ذِكرُ اسْمِ (القُرآنِ) هنا إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ؛ لأنَّ القرآنَ تقدَّمَ ذِكرُه بواسطةِ اسمِ الإشارةِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فنكتةُ هذا الإظهارِ: التَّنويهُ بهذا الأمرِ، وجَعْلُ جُملَتِه مُستقلَّةً بالدَّلالةِ غَيرَ مُتوقِّفةٍ على غَيرِها، وهذا من وجوهِ الاهتمامِ بالكَلامِ، ومِن دواعي الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ

.

والاستماعُ: الإصغاءُ. وصيغةُ الافتعالِ دالَّةٌ على المُبالغةِ في الفِعلِ .

قولُه: وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ أشَدُّ في الانتفاءِ وفي النَّهيِ مِن نحوِ: (ولا تَغفُلْ)؛ لأنَّه يَفرِضُ جماعةً يحِقُّ عليهم وصفُ الغافلينَ، فيُحَذَّرُ مِن أن يكونَ في زُمرَتِهم، وذلك أبيَنُ للحالةِ المنهيِّ عنها .

قوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ يتنزَّلُ مَنزلةَ العِلَّة للأمرِ بالذِّكرِ؛ ولذلك صُدِّرَ بـ (إنَّ) التي هي لمجرَّدِ الاهتمامِ بالخَبَر، لا لرَدِّ تردُّدٍ أو إنكارٍ؛ لأنَّ المخاطَبَ مُنَزَّهٌ عن أن يتردَّدَ في خبرِ الله تعالى، فحَرفُ التوكيد في مثل هذا المقامِ يُغني غَناءَ فاءِ التَّفريعِ، ويُفيدُ التَّعليلَ، وفيها تعريضٌ بالمُشركينَ المُستكبرينَ عن عبادةِ الله، بأنَّهم مُنحطُّونَ عن تلك الدَّرَجاتِ .

وجهُ العُدولِ عن لفظِ الملائكةِ إلى الموصوليَّةِ في قَولِه: الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ما تُؤذِنُ به الصِّلةُ مِن رِفعةِ مَنزِلَتِهم، فيتذرَّعُ بذلك إلى إيجادِ المُنافَسةِ في التخَلُّقِ بأحوالِهم .

قوله تعالى: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ليس المقصودُ به التَّنويهَ بِشأنِ الملائكةِ؛ لأنَّ التَّنويهَ بهم يكونُ بأفضَلَ مِن ذلك، وإنَّما أريدَ به التَّعريضُ بالمُشركينَ، وأنَّهم على النَّقيضِ مِن أحوالِ الملائكةِ المُقَرَّبينَ؛ فخليقٌ بهم أن يكونوا بُعَداءَ عَن مَنازِلِ الرِّفعةِ، والمقصودُ هو قَولُه: وَيُسَبِّحُونَهُ أي: يُنزِّهونَه بالقَولِ والاعتقادِ عن صِفاتِ النَّقصِ، وهذه الصِّلةُ هي المقصودةُ مِن التَّعليلِ للأمرِ بالذِّكرِ .

وتقديمُ المعمولِ في قَولِه: وَلَهُ يَسْجُدُونَ للدَّلالةِ على الاختصاصِ، أي: ولا يَسجُدونَ لِغَيره، وهذا أيضًا تَعريضٌ بالمُشركينَ الذين يَسجُدونَ لِغَيرِه، وصيغةُ المُضارِعِ تُفيدُ الاستمرارَ . {آخر سورة الاعراف}

7.سورة الأعراف ج3.{206 مكية}

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...