الخميس، 18 يناير 2024

7. سورة الاعراف ج1.{206 اية}

 

7. سورة الاعراف ج1.{206 اية}

سُورةُ الأعرافِ

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

سُمِّيَتْ هذه السُّورةُ بِسُورةِ الأعرافِ

فعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قَرَأَ في صلاةِ الـمَغرِبِ بسورةِ الأعرافِ؛ فَرَّقَها في رَكعتَينِ )) .

وعَن زَيدِ بنِ ثابتٍ: أنَّه قال لِمَروانَ بنِ الحَكَمِ: ((ما لي أَراكَ تَقرَأُ في المَغرِبِ بِقِصارِ السُّوَرِ، وقد رأيتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم يقرأُ فيها بأطوَلِ الطُّولَيَينِ؟ قال مروانُ: قُلتُ: يا أبا عبدِ اللهِ، ما أطَولُ الطُّولَيَينِ؟ قال: الأعرافُ ))

بيان المكي والمدني :

 

سورةُ الأعرافِ مَكِّيَّةٌ

؛ ونقَلَ غَيرُ واحدٍ الإجماعَ على ذلك

مقاصد السورة :

 

مِن أهَمِّ المقاصِدِ التي تضَمَّنَتْها سورةُ الأعرافِ:

تَسليةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم في تَكذيبِ الكفَّارِ إِيَّاه

.

إنذارُ مَن أعرَضَ عمَّا دعا إليه الكِتابُ في السُّوَرِ الماضِيَةِ

موضوعات السورة :

 

من أبرَزِ مَوضوعاتِ سُورةِ الأعرافِ:

التَّنويهُ بِعَظَمةِ الكِتابِ الكَريمِ.

النَّهيُ عن اتِّخاذِ الشُّركاءِ مِن دُونِ اللهِ، وإنذارُ المُشركينَ مِن سُوءِ عاقِبةِ الشِّركِ في الدُّنيا والآخرةِ، ووَصْفُ ما حَلَّ بالمُشركينَ والَّذينَ كَذَّبوا الرُّسُلَ؛ مِن سُوءِ العَذابِ في الدُّنيا، وما سيحُلُّ بهم في الآخِرةِ، وإقامةُ الأدلَّةِ على وحدانيةِ الله.

ذِكْرُ وَزنِ الأَعمالِ يَومَ القيامةِ، وتذكيرُ النَّاسِ بِنِعمةِ خَلقِ الأرضِ، وتمكينِ النَّوعِ الإنسانيِّ مِن خَيراتِ الأرضِ، وبنعمةِ اللهِ على هذا النَّوعِ بخَلْقِ أصْلِه وتفضيلِه.

ذِكرُ خَلقِ آدَمَ، وإِباء إِبليسَ مِنَ السَّجدةِ لآدَمَ، ووسوسَته لهما للأكْلِ مِنَ الشَّجَرةِ، وما نشَأَ مِن عَداوةِ جِنسِ الشَّيطانِ لِنَوعِ الإنسانِ، وتحذيرُ النَّاسِ مِنَ التَّلَبُّسِ ببقايا مَكرِ الشَّيطانِ؛ مِن تَسويلِه لهم حِرمانَ أنفُسِهم الطَّيِّباتِ، ومِنَ الوُقوعِ فيما يَزُجُّ بهم في العذابِ في الآخرةِ.

وصفُ أهوالِ يَومِ الجَزاءِ للمُجرمينَ، وكراماتِه للمُتَّقينَ.

ذِكرُ قِصَّةِ أصحاب الأعرافِ، والتذكيرُ بالبَعثِ، وتقريبُ دَليلِه.

النَّهيُ عن الفسادِ في الأرضِ التي أصلَحَها اللهُ لفائدةِ الإنسانِ، والتَّذكيرُ بِبَديعِ ما أوجَدَه اللهُ لإصلاحِها وإحيائِها.

ذِكرُ أحوالِ الرُّسُلِ مع أقوامِهم المُشركينَ، وما لاقَوْه مِن عنادِهم وأذاهم، بدأً بقِصَّةِ نوحٍ والطُّوفانِ، ثم ذِكْرِ هُودٍ وهلاكِ عادٍ، ثمَّ حديثِ صالحٍ وقَهرِ ثَمودَ، ثمَّ خبَرِ لُوطٍ وقَومِه، ثمَّ خبَرِ شُعَيْبٍ وأَهلِ مَدْيَنَ.

تَخويفُ الآمنينَ مِن مَكرِ اللهِ، وإنذارُهم بعَدَمِ الاغترارِ بإمهالِ اللهِ النَّاسَ، قبل أن يُنزِلَ بهم العذابَ؛ إعذارًا لهم أن يُقلِعُوا عن كُفْرِهم وعِنادِهم؛ فإنَّ العَذابَ يأتِيهم بغتةً بعد ذلك الإمهالِ.

تَفصيلُ أَحوالِ موسى وفِرعونَ والسَّحَرةِ، واستغاثةُ بني إِسرائيلَ، وذِكرُ الآياتِ المُفَصَّلاتِ، وحديثُ خِلافةِ هارونَ، وميقاتُ موسى، وقصَّةُ عِجْل السَّامِرىِّ في غَيْبَةِ موسى، ورجوعُ موسى إِلى قَومِه، ومُخاطَبَتُه لأَخيه هارونَ.

ذِكرُ بِشارةِ اللهِ بِبَعثةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، وصِفَة أُمَّتِه، وفَضْل دِينِه.

الإِشارةُ إِلى ذِكرِ الأَسباطِ، وقصَّةِ أَصحابِ السَّبْتِ.

مَوعظةُ المشركينَ كيف بدَّلُوا الحنيفيَّةَ، وتقَلَّدوا الشِّركَ، وضَرَبَ لهم مَثلًا بمَن آتاه اللهُ الآياتِ، فوَسْوَس له الشَّيطانُ، فانسلَخَ عن الهُدى.

وَصْفُ حالِ أهلِ الضَّلالةِ، ووَصْفُ تَكذيبِهم بما جاء به الرَّسولُ، ووَصْفُ آلِهَتِهم بما يُنافي الإلهيَّةَ، وأنَّ لله الصِّفاتِ الحُسنى، صفاتِ الكَمالِ.

أمْرُ اللهِ لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم والمُسلمينَ؛ بِسَعةِ الصَّدرِ، والمُداومةِ على الدَّعوةِ، وتَحذيرُهم مِن مَداخِلِ الشَّيطانِ؛ بِمُراقبةِ اللهِ بذِكْرِه سِرًّا وجَهرًا، والإقبالِ على عبادَتِه.

الحديثُ عن العهدِ الذي أخَذه الله على البشرِ؛ بأنْ يعبدُوه، ولا يُشْركوا به شيئًا، والحضُّ على التفكُّرِ والتدبُّر في ملكوتِ السمواتِ والأرضِ.

 

===================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (1-3)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ

غريب الكلمات:

 

حَرَجٌ: الحَرَج: الضِّيقُ، وأصلُ (حرج): تجمُّعُ الشَّيءِ وضِيقُه، ومنه الحَرَجُ: جمْعُ حَرَجةٍ: وهي الشَّجَرةُ المُلتَفُّ بها الأشجارُ، لا يدخُلُ بينها وبينها شَيءٌ؛ لشِدَّةِ التفافِها بها

.

لِتُنْذِرَ: أي: لتُخَوِّفَ، أو لتُعْلِمَ بما تُحذِّرُ منه، وأصلُ الإنْذارِ: إخبارٌ فيه تخويفٌ، أو الإبْلاغُ .

وَذِكْرَى: أي: تذكِرَةً ومَوعِظَةً، وأصلُ الذِّكر: خِلافُ النِّسيانِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

افتُتِحَت هذه السُّورةُ العظيمةُ بالحُروفِ المُقطَّعةِ؛ للإشارة إلى إعجازِ القُرآنِ؛ إذ تشير إلى عجزَ الخَلْقِ عن معارَضَتِه بالإتيانِ بشيءٍ مِن مِثلِه، مع أنَّه مُركَّبٌ من هذه الحُروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها!

ثم خاطبَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بأنَّ هذا القرآنَ كتابٌ أنزَلَه إليه، وأمره ألا يَضيقَ صدرُه من إبلاغِه، والإنذارِ به، وألا يكونَ لديه شَكٌّ أنَّه مُنزَّلٌ مِن عندِ الله تباركَ وتعالى؛ أنزَلَه إليه ليُخَوِّفَ به الكافرينَ، وموعظةً للمؤمنينَ.

ثم أمرَ اللهُ تعالى النَّاسَ أن يتَّبِعوا القرآنَ المُنَزَّلَ مِن عندِه، ونهاهم أن يتَّبِعوا مِن دُونِه أولياءَ، وأخبَرَ تعالى أنَّ النَّاسَ قليلًا ما يتَّعِظونَ ويعتَبِرون، فيُراجِعونَ الحَقَّ.

تفسير الآيات:

 

المص (1)

تقدَّم الكلامُ على هذه الحروفِ المقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سُورةِ البَقَرةِ

.

كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)

كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ

أي: هذا القرآنُ- يا محمَّدُ- كِتابٌ أنزَلَه اللهُ تعالى إليك .

فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ

أي: فلا يَضِقْ صدرُك- يا محمَّدُ- مِن إبلاغِ القُرآنِ، والإنذارِ به، ولا يكُنْ لديكَ شكٌّ واشتباهٌ في أنَّه مُنزَّلٌ مِن عندِ الله تبارك وتعالى، فلْيَنشرِحْ له صَدرُك ويتَّسِعْ، ولْتطمَئِنَّ به نفسُك، واصبِرْ على ما كُلِّفْتَ به مِن أثقالِ النُّبوَّةِ، وتَحمَّلِ الأذى، ولا تخشَ لائمًا، ولا مُعارِضًا .

لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ

أي: هذا كتابٌ أنزلناه إليك- يا محمَّدُ- لِتخوِّفَ به الكافرينَ، وموعظةً للمُؤمنينَ .

قال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم: 97] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].

اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّه أنزَلَ هذا الكتابَ العظيمَ على هذا النبيِّ الكريمِ؛ ليُنذِرَ به ويُذَكِّرَ- أَمَر من ذُكِّروا وأُنذِروا بما ينبغي أن يفعلوا تجاه ذلك الإنذارِ والتَّذكيرِ، الذي بعَث به رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال :

اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ

أي: اتَّبِعوا- أيُّها النَّاسُ- القُرآنَ الذي جاءكم مِن عندِ اللهِ الذي خلَقَكم، وهو مالِكُكم ومُدَبِّرُكم .

وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ

أي: ولا تتَّبعوا شيئًا غيرَ ما أَنزَلَ إليكم ربُّكم؛ فتَخرُجوا عن الحَقِّ الذي جاءكم به الرَّسولُ إلى غيرِه، فتكونوا قد عدَلتُم بذلك عن حُكمِ اللهِ إلى حُكمِ آخَرينَ تتولَّونَهم، وتتَّبِعون أهواءَهم .

قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ

أي: تَذكُّرُكم تذكُّرٌ قليلٌ لا يُجدي شيئًا، فقليلًا ما تتَّعظون وتَعْتَبرون، فتُراجعونَ الحقَّ

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال الله تعالى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ في هذه الآيةِ الكريمةِ وأمثالِها مِن الآياتِ زَواجِرُ عَظيمةٌ، ينبغي لنا أن نعتبِرَها؛ لأنَّ خالِقَنا جلَّ وعلا بَيَّن لنا أنَّه أنزلَ على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم هذا الكتابَ؛ لِيُخوِّفَ به الخَلقَ مِن عقوباتِ خالقِ السَّموات والأرضِ وسَخَطِه؛ فإنَّه الجبَّارُ الأعظَمُ، الذي إذا سَخِطَ عاقَبَ العقوبةَ المُهلِكةَ المُستأصِلةَ، فبهذا يجِبُ علينا أن نتأمَّلَ في معاني القرآنِ، ونعرِفَ أوامِرَ رَبِّنا التي أمَرَنا بها فيه، ونواهِيَه التي نهانا عنها، ونخافَ مِن هذا الإنذارِ والتَّهديدِ، الذي أُنزِلَ هذا القرآنُ على الرَّسولِ ليفعَلَه بمن لم يعمَلْ بهذا القرآنِ العَظيمِ؛ فالإنسانُ يجِبُ عليه أن يتدبَّرَ هذا القرآنَ العظيمَ، وينظُرَ أوامِرَه، وينظُرَ نواهِيَه، فَيُحِلَّ حلالَه، ويُحرِّمَ حَرامَه، ويعتقِدَ عقائِدَه، ويعمَلَ بمُحكَمِه، ويؤمِنَ بمُـتشابِهِه، ويعتبِرَ بما فيه مِن الأمثالِ، ويَلينَ قَلبُه لِما فيه من المواعِظِ، وضُروبِ الأمثالِ، فهذا الإنذارُ لا ينبغي للمُسلمِ أن يُهمِلَه، ويُعرِضَ عنه صَفحًا

.

قَولُه تعالى وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ المتبادِرُ هنا مِنَ النَّهيِ عَنِ اتِّباعِ الأولياءِ مِن دُونِه تعالى؛ هو النَّهيُ عن طاعةِ كُلِّ أحدٍ مِنَ الخَلْقِ في أمْرِ الدِّينِ؛ غَير ما أنزَلَ اللهُ مِن وَحْيِه، كما فعلَ أهلُ الكِتابِ في طاعةِ أحبارِهم ورُهبانِهم؛ فيما أحَلُّوا لهم، وزادوا على الوَحْيِ مِنَ العباداتِ، وما حَرَّمُوا عليهم مِنَ المباحاتِ، وكلُّ مَن أطاع أحدًا طاعةً دِينيَّةً في حُكمٍ شَرعيٍّ لم يُنْزِلْه رَبُّه إليه؛ فقد اتَّخَذه رَبًّا، قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ

 

[التوبة: 31] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فبَناه لِمَا لم يُسَمَّ فاعِلُه، ولم يَقُل: (أنزَلَ اللهُ)، أو: (أنزلناه)؛ إيجازًا مُؤذِنًا بأنَّ الـمُنزِلَ مُستغنٍ عَنِ التَّعريفِ، وعن إسنادِه إلى الضَّميرِ أو الاسمِ الصَّريحِ؛ فإنَّ هذا الكتابَ البديعَ، لا يمكِنُ أن يكون إلَّا مِن فوقِ ذلك العَرشِ الرَّفيعِ

.

2- في قَولِه تعالى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ دلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى رَفَعَ الحرجَ عن الصدور بكتابِه، وكانت قبلَ إنزالِ الكتابِ في أعظمِ الحرجِ والضِّيقِ؛ فلما أنزل كتابَه ارتفعَ به عنها ذلك الحرجُ، وبقي الحرجُ والضيقُ على مَن لم يُؤْمِن به، كما قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام: 125] .

3- قال الله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ استَدلَّ به بعضُهم على أنَّ المباحَ مأمورٌ به؛ لأنَّه من جملةِ ما أنزَلَ اللهُ، وقد أَمَرَنا باتِّباعِه .

4- قولُ اللهِ تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، قال: أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وإنَّما أُنزِلَ على الرَّسولِ؛ ليُفيدَ أنَّه مُنزَّلٌ على الكُلِّ، بمعنى أنَّه خِطابٌ للكُلِّ

5- في قَولِه تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ أمرٌ باتباع ما أَنزلَ اللهُ على رسوله، ونهيٌ عن اتِّباعِ غيره، فما هو إلَّا اتِّباعُ المُنزَّلِ؛ أو اتِّباعُ أولياء مِن دونه، فإنَّه لم يجعلْ بينهما واسطةً، فكلُّ مَن لا يَتَّبعُ الوحيَ؛ فإنما يَتَّبعُ الباطلَ، واتَّبَعَ أولياءَ مِن دون اللهِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: كتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ فيه النَّهيُ في اللَّفظِ- في قوله: فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ- للحَرَجِ، والمرادُ المخاطَبُ؛ مبالغةً في النهيِ عن ذلك، كأنَّه قيل: لا تتسبَّبْ في شيءٍ ينشَأُ منه حَرَجٌ، وهو من بابِ «لَا أَرَيَنَّك هاهنا»؛ فالنَّهيُ في اللَّفظِ للمُتكلِّم، والمرادُ المخاطَبُ، أي: لا تكُنْ بحَضرتي فأراكَ، ومثلُه: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا

.

والتنكيرُ في قولِه: كِتَابٌ نَوعيٌّ؛ لدَفعِ الاستِبْعادِ، أي: استبعادِ المُشركينَ، وإنكارِهم أنْ يكونَ القُرآنُ مِن عندِ اللهِ، فذَكَّرَهم اللهُ بأنَّه كتابٌ مِن نَوعِ الكُتُبِ المُنَزَّلةِ على الأنبياءِ، فكَما نزَلَت صُحُفُ إبراهيمَ، وكتابُ موسى، كذلك نَزَل هذا القُرآنُ. أو أُريدَ بالتَّنكيرِ التَّعظيمُ، أي: هو كِتابٌ عظيمٌ؛ تَنويهًا بشَأنِه، فصار التَّنكيرُ في معنى التَّوصيفِ. أو أُريد بالتَّنكيرِ التَّعجيبُ مِن شأنِ هذا الكِتابِ في جميعِ ما حفَّ به مِنَ البلاغةِ والفَصاحة والإعجازِ والإرشادِ .

قوله: لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ فيه إيجازٌ بحَذفِ مُتعَلِّقِ لِتُنْذِرَ؛ لظُهورِ تقديرِ المَحذوفِ مِن ذِكرِ مُقابِلِه المذكورِ في قَولِه: وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، والتَّقديرُ: لِتُنذِرَ به الكافرينَ .

وصرَّحَ بمتعَلِّقِ الذِّكْرى دون مُتعَلِّقِ لِتُنْذِرَ؛ تنويهًا بشأنِ المؤمنينَ، وتَعريضًا بتحقيرِ الكافرينَ تِجاهَ ذِكرِ المُؤمنينَ، ولأنَّ المُؤمنِينَ هم الذين ينتفعونَ بالمواعِظِ، وللإيذانِ باختِصاصِ الإنذارِ بالكَفرةِ، أي: لتُنذِرَ به المشرِكين، وتُذكِّر المؤمنينَ .

وجُعِلَ الإنذارُ بالكِتابِ مُقَدَّمًا في التَّعليلِ على الذِّكرى؛ لأنَّه أهمُّ بحسَب المقامِ؛ لأنَّه الغَرَضُ الأهمُّ لإبطالِ ما عليه المشركونَ مِن الباطِلِ، وما يُخلِّفُونَه في النَّاسِ مِنَ العَوائِدِ الباطِلةِ، التي تُعانَى إزالَتُها مِنَ النَّاسِ بعدَ إسلامِهم .

قوله: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أولِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ كلامٌ مُستأنَفٌ خُوطِبَ به كافَّةُ المُكَلَّفينَ بِطَريقِ التَّلوينِ، وكُلٌّ مأمورٌ باتِّباعِ ما أُنزِلَ إليه، والمقصودُ الأجدَرُ هُم المُشركونَ؛ تعريضًا بأنَّهم كَفَروا بنِعمةِ رَبِّهم .

قولُه: مِنْ رَبِّكُمْ في التَّعَرُّضِ لوَصفِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافَةِ إلى ضميرِ المُخاطَبينَ: مزيدُ لُطفٍ بهم، وتَرغيبٌ لهم في الامتثالِ بما أُمِرُوا به، وتأكيدٌ لوُجُوبِه .

قولُه: وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أولِيَاءَ المقصودُ مِن هذا النَّهيِ بعدَ الأمرِ بالاتِّباعِ؛ تأكيدُ مُقتضَى الأمرِ باتِّباعِ ما أُنزِلَ إليهم؛ اهتمامًا بهذا الجانِبِ مِمَّا أُنزِلَ إليهم، وتسجيلًا على المشركينَ، وقطعًا لمعاذيرِهم أنْ يَقُولوا: إنَّنا اتَّبَعْنا ما أُنزِلَ إلينا، وما نرى أولياءَنا إلَّا شُفَعاءَ لنا عندَ اللهِ، فما نعبُدُهم إلَّا لِيُقَرِّبونا إلى اللهِ زُلفَى، فإنَّهم كانوا يُمَوِّهونَ بِمثلِ ذلك .

وقد أفاد مجموعُ قولِه: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أولِيَاءَ مَفادَ صِيغةِ قَصرٍ؛ كأنَّه قال: لا تَتَّبِعوا إلَّا ما أمَرَ به ربُّكم، أي: دُونَ ما يأمُرُكم به أولياؤُكم، فعَدَل عن طَريقِ القَصرِ؛ لتكون جملةُ: وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِه أَوْلِيَاءَ مُستقِلَّةً صريحةَ الدَّلالةِ؛ اهتمامًا بمضمونِها .

وقولُه: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ اعتراضٌ تذييليٌّ مَسوقٌ لتَقبيحِ حالِ المُخاطَبينَ .

ومَا مزيدةٌ لتَوكيدِ القِلَّةِ، أي: تذكُّرًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا

==========

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (4-9)

ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ

غريب الكلمات:

 

بَأْسُنَا: أي: عذابُنا، وأصلُ (بأس) الشِّدُّة وما ضاهاها

.

بَيَاتًا: أي: ليلًا، أو وَقتَ بَياتٍ، واشتغالٍ بالنَّومِ، وأصلُ البيت: مَأْوَى الإنسانِ باللَّيلِ؛ لأنَّه يقال: بَاتَ، أي: أقامَ باللَّيلِ .

قَائِلُونَ: أي: نائِمون نِصفَ النَّهَارِ في وَقْتِ القائِلَةِ .

فَلَنَقُصَّنَّ: أي: فلنُخبِرَنَّ، والقَصَصُ: الأخبارُ المتتبَّعةُ، والأثَرُ، وأصْل القصِّ: تتبُّعُ الأثَرِ أو الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه كثيرًا ما أهلكَ أهلَ القُرى مِنَ الأُمَمِ السَّابقةِ؛ الذين عَبَدوا غيرَه، وكذَّبوا رُسُلَه، فأتَتْهم عُقوبَتُه التي أستأصَلَتْهم على غِرَّةٍ منهم، وهم غافلونَ؛ فبعضُهم جاءَتهم العُقوبةُ في بيوتِهم ليلًا قبل أن يُصبِحُوا، وبعضُهم نهارًا في وقتِ القَيلولةِ، فما كان قولُهم حين جاءَهم العذابُ إلَّا أنِ اعتَرَفوا أنَّهم كانوا ظالِمينَ.

ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّه سيَسألُ الأُمَمَ التي أرسَل إليهم رُسُلَه سؤالَ توبيخٍ عمَّا عَمِلَت فيما جاءَتها به الرُّسُل، هل أطاعوا الله، وأجابوا الرُّسُلَ، أم عَصَوه وكذَّبُوهم، وسيَسألُ الـمُرسَلينَ عن تبليغِهم للرِّسالة، وعمَّا أُجِيبُوا، وأخبَرَ تعالى أنَّه سيقُصُّ على العبادِ يومَ القيامةِ عنْ علمٍ بما قالوا، وبما عَمِلوا في الدُّنيا، وما كان سبحانَه غائبًا في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ عنهم، وعن أفعالِهم؛ فهو على كلِّ شيءٍ شَهيدٌ.

وأخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ الوَزنَ يومَ القيامةِ لأعمالِ الخلائقِ يكونُ بالعَدلِ؛ فمَن ثَقُلَت موازينُ عَمَلِه الصَّالِحِ فأولئك هم الفائزونَ، ومَن خفَّتْ موازينُ أعمالِه الصَّالحة، فرَجَحَت سيِّئاتُه، فأولئك الذين خَسِروا أنفسَهم؛ نتيجةَ تَكذيبِهم وجَحدِهم بآياتِ اللهِ.

تفسير الآيات:

 

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ رَسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالإنذارِ والتَّبليغِ، وأمرَ القَومَ بالقَبولِ والمُتابعة؛ ذَكرَ في هذه الآيةِ ما في تَركِ المُتابعَةِ والإعراضِ عنها مِنَ الوَعيدِ

، فقال تعالى:

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا

أي: كثيرًا ما أهلَكْنا أهلَ القُرى مِنَ الأُمَم السَّابقةِ، الذين عَصَوني، وكذَّبوا رُسُلي، وعَبَدوا غيري .

كما قال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] .

وقال سبحانه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص: 58] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] .

وقال سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق: 8 - 9] .

فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ

أي: فجاءَتَهم عُقوبَتُنا المُستأصِلةُ لهم، فدمَّرنا بعضَهم في بُيوتِهم ليلًا قبل أن يُصبِحوا، وجاء العذابُ بعضَهم نهارًا في وقتِ القَيلولةِ، فاحذروا تكذيبَ رَسُولي محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لئلَّا أُنزِلَ بكم مِثلَ ما أنزَلتُ بتلك الأُمَمِ السَّالفةِ مِنَ العذابِ .

كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف: 97-98] .

وقال سبحانه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 45-47] .

فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)

أي: فما كان قَولُ أهلِ القُرى التي أهلَكْنَاها حين مَجيءِ العَذابِ إلَّا اعترافَهم بظُلمِ أنفُسِهم، وإقرارَهم بالإساءةِ إليها، ولم يَقدِرُوا على رَدِّ العذابِ عنهم .

كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 11-15] .

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

في مُناسَبةِ هذه الآيةِ لِما قَبلَها وجهانِ:

الوجهُ الأوَّلُ: لَمَّا أمَرَ اللهُ الرُّسُلَ في الآيةِ الـمُتقَدِّمة بالتَّبليغِ، وأمَرَ الأُمَّةَ بالقَبولِ والمُتابَعة، وذَكَر التَّهديدَ على تَركِ القَبولِ والمُتابعة بذِكرِ نُزُولِ العَذابِ في الدُّنيا؛ أتبَعَه بنوعٍ آخَرَ مِنَ التَّهديدِ، وهو أنَّه تعالى يَسألُ الكُلَّ عن كيفيَّةِ أعمالِهم، يومَ القيامةِ.

الوجهُ الثَّاني: لَمَّا قال تعالى: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ؛ أتْبَعَه بأنَّه لا يقَعُ يومَ القيامةِ الاقتصارُ على ما يكونُ مِنهم مِن الاعترافِ، بل ينضافُ إليه أنَّه تعالى يَسأَلُ الكُلَّ عن كيفيَّة أعمالِهم، وبيَّنَ أنَّ هذا السُّؤالَ لا يختَصُّ بأهلِ العِقابِ، بل هو عامٌّ في أهلِ العِقابِ، وأهلِ الثَّوابِ ، والمرسلين كذلك، كلٌّ بحسبِه، فقال تعالى:

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ

أي: فلَنَسألَنَّ الأمَمَ الذين أرسَلْتُ إليهم رُسُلي سُؤالَ تَوبيخٍ، لا سُؤالَ استعلامٍ: ماذا عَمِلوا فيما جاءَتَهم به الرُّسُلُ مِن أمرِي ونَهْيِي، هل أطاعوني وأجابوا رُسُلي، أم أنَّهم عَصَوني وكَذَّبوا رُسُلي؟ .

كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] .

وقال سبحانه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92-93] .

وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قال: ((ألَا كُلُّكم راعٍ، وكلُّكم مَسؤولٌ عَن رَعِيَّتِه، فالأميرُ الذي على النَّاسِ راعٍ، وهو مَسؤولٌ عَن رَعِيَّتِه، والرَّجُلُ راعٍ على أهلِ بَيتِه، وهو مسؤولٌ عنهم، والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بَعلِها ووَلَدِه، وهي مسؤولةٌ عنهم، والعبدُ راعٍ على مالِ سَيِّدِه، وهو مَسؤولٌ عنه، ألَا فكُلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رَعِيَّتِه )) .

وعن أبي بَرْزةَ الأسلميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القِيامةِ حتى يُسأَلَ عَن عُمُرِه فيمَ أفناه، وعن عِلْمِه فيمَ فَعَل، وعن مالِه مِن أينَ اكتسَبَه وفيمَ أنفَقَه، وعن جِسمِه فيمَ أبلاه )) .

وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ

أي: ولنَسألَنَّ الرُّسُلَ الذين أرسلتُهم إلى الأُمَم عن تبليغِهم لرِسالاتِ رَبِّهم، وعمَّا أجابَتْهم به أمَمُهم .

كما قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] .

وقال سبحانه: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] .

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان السُّؤالُ في الآيةِ السَّابقةِ يُوهم خَفاءَ المَسؤولِ عنه على السَّائل؛ سَبَّبَ عن ذلك ما يُزيلُ هذا الوَهمَ بِقَولِه، مُؤذِنًا بأنَّه أعلمُ مِنَ المسؤولينَ عَمَّا سألَهم عنه :

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ

أي: فلَنُخبِرَنَّ العبادَ يومَ القيامةِ عَن علمٍ بما قالوا، وبما عَمِلوا في الدُّنيا .

وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ

أي: وما كنَّا غائبينَ في أيِّ وقتٍ مِنَ الأوقاتِ عنهم، وعن أفعالِهم التي كانوا يفعَلونها؛ فاللهُ تعالى شهيدٌ على كلِّ شيءٍ، لا يغيبُ عنه شيءٌ .

كما قال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] .

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ الأُولى أنَّ مِن جُملةِ أحوالِ القِيامةِ السُّؤالَ والحِسابَ؛ بَيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ مِن جُملةِ أحوالِ القِيامةِ أيضًا وزنَ الأعمالِ ، فقال تعالى:

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ

أي: والوزنُ يومَ القيامةِ لأعمالِ الخَلقِ: الحَسناتِ مِنها والسَّيِّئاتِ؛ يكونُ بالعَدلِ، ولا يَظلِمُ اللهُ تعالى أحدًا .

كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .

وقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة: 6-11] .

وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون: 101 -103] .

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ العِبرةَ بالمِيزانِ على وجهٍ يُظهِرُ أنَّه لا حَيفَ فيه بوَجهٍ؛ جاء قولُه :

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

أي: فمَن ثَقُلَت موازينُ عَمَلِه الصَّالِحِ، بأنْ رَجَحَتْ كِفَّةُ حَسَناتِه على سَيِّئاتِه؛ فأولئك هم النَّاجُونَ الفائِزونَ .

عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ الله عنه، قال: سمِعْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((ما مِن شَيءٍ يُوضَعُ في الميزانِ أثقَلُ مِن حُسْنِ الخُلُقِ، وإنَّ صاحِبَ حُسْنِ الخُلُقِ لَيَبلُغُ به درجةَ صاحِبِ الصَّومِ والصَّلاةِ )) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كَلِمَتانِ خَفِيفتانِ على اللِّسانِ، ثَقيلتانِ في المِيزانِ، حَبيبتانِ إلى الرَّحمنِ: سُبحانَ اللهِ وبِحَمدِه، سُبحانَ اللهِ العظيمِ )) .

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ

أي: ومَنْ خفَّتْ مَوازينُ أعمالِه الصَّالحةِ، بأنْ رَجَحَت سيِّئاتُه، وصار الحُكمُ لها، ولم تَثْقُلْ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ؛ فأولئك الذين أضاعوا حَظَّ أنفُسِهم مِن ثَوابِ اللهِ وكَرامَتِه .

بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ

أي: خَسِرُوا أنفُسَهم؛ لأنَّهم كذَّبوا وجَحَدوا بآياتِ اللهِ سُبحانه وتعالى

 

.

الفوائد التربوية :

 

لا يَنبغي للعاقِلِ أنْ يأمَنَ صَفوَ اللَّيالي، ولا مُواتاةَ الأيَّامِ، ولا يَغتَرَّ بالرَّخاءِ؛ فيَعُدَّه آيةً على الاستحقاقِ له، الذي هو مَظِنَّةُ الدَّوامِ، بل يلزَم التَّذكُّرَ والحَذرَ والتَّوقِّيَ والاحتياطَ؛ قال الله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

لقائِلٍ أن يقولَ: قولُه: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ يقتضي أن يكونَ الإهلاكُ مُتقَدِّمًا على مجيءِ البأسِ، وليس الأمرُ كذلك؛ فإنَّ مجيءَ البأسِ مُقَدَّمٌ على الإهلاكِ. والإجابةُ عن هذا السؤالِ من وجوهٍ:

الأول: المرادُ بقولِه: أَهْلَكْنَاهَا أي: حَكَمْنا بهلاكِها فجاءَها بأسُنا.

وثانيها: كم مِن قريةٍ أرَدْنا إهلاكَها فجاءَها بأسُنا، كقوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] .

وثالثها: أنْ يكونَ التَّرتيبُ تَرتيبَ تَفصيلٍ على جملةٍ؛ ذَكَرَ الإهلاكَ ثمَّ فَصَّلَه بنوعينِ؛ أحدُهما: مجيءُ البأسِ بياتًا، أي: ليلًا. والثَّاني: مجيئُه وقتَ القائِلةِ

.

قوله: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا فيه الإتيانُ بِقَولِه: أَهْلَكْنَاهَا في مَوضِعِ (أَرَدْنَا إِهْلاكَها) بقرينةِ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا- على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ- والإتيانُ بحرفِ التَّعقيبِ بعدَ ذلك؛ للدَّلالَةِ على عدمِ التَّرَيُّثِ، فدلَّ الكلامُ كلُّه: على أنَّه تعالى يُريدُ فيخلُقُ أسبابَ الفعلِ المرادِ، فيحصلُ الفعلُ، كُلُّ ذلك يَحْصُلُ كالأشْياءِ الـمُتَقارِنَةِ، والغرضُ مِنْ ذلك تَهْديدُ السَّامِعينَ المعانِدينَ، وتَحْذيرُهم مِنْ أنْ يَحُلَّ غَضَبُ الله عليهم، فيُريد إهلاكَهم، فضَيَّقَ عليهم المهلةَ؛ لِئلَّا يتباطَؤُوا في تدارُكِ أمْرِهم، والتَّعجيلِ بالتَّوبةِ .

قول الله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فيه لطيفةٌ، حيث أُجْريَ الضَّميرانِ في قولِه: أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا على الإفرادِ والتأنيثِ؛ مُراعاةً للفظِ (قَرية)؛ ليَحصُلَ التماثُلُ بين لفظِ الـمُعادِ ولفظِ ضَميرِه في كلامٍ مُتَّصلِ القُربِ، ثم أُجريتْ ضمائرُ القرية على صِيغة الجمعِ في الجملةِ الـمُفرَّعةِ عن الأُولى في قوله: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ؛ لحُصولِ الفَصلِ بينَ الضَّميرِ ولفظِ مُعادِه بجُملةٍ فيها ضميرُ مُعادِه غير لَفظِ القرية، وهو بَأْسُنَا بَيَاتًا؛ لأنَّ (بَياتًا) مُتحمِّلٌ لضميرِ البأسِ، أي: مُبيَّتًا لهم، وانتقَل منه إلى ضميرِ القرية باعتبارِ أَهلِها، فقال: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ .

قوله تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يدُلُّ على أنَّ اللهَ يسألُ جَميعَ النَّاسِ يومَ القيامةِ، ونظيرُه قولُه تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 93] ، وقولُه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئولُونَ [الصفات: 24]، وقولُه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] ، وقد جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على خلافِ ذلك؛ كقوله: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 39]، وكقوله: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] ، والجوابُ عن هذا من ثلاثةِ أوجُهٍ:

الأوَّل- وهو أوجَهُها؛ لدَلالةِ القُرآنِ عليه- هو: أنَّ السُّؤالَ قِسمانِ: سؤالُ تَوبيخٍ وتقريعٍ، وأداتُه غالبًا: (لِمَ)، وسؤالُ استخبارٍ واستعلامٍ، وأداتُه غالبًا: (هَل)، فالـمُثبَتُ هو سؤالُ التَّوبيخِ والتَّقريعِ، والمنفيُّ هو سُؤالُ الاستخبارِ والاستعلامِ، وجهُ دلالةِ القرآنِ على هذا: أنَّ سؤالَه لهم المنصوصَ في كُلِّه توبيخٌ وتقريعٌ، كقوله: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ، وقوله: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ، وكقوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.

الوجه الثاني: أنَّ في القيامةِ مواقِفَ مُتعدِّدةً؛ ففي بعضِها يُسألونَ، وفي بعضها لا يُسألونَ.

الوجه الثالث: أنَّ إثباتَ السُّؤالِ مَحمولٌ على السُّؤالِ عَنِ التَّوحيدِ، وتَصديقِ الرُّسلِ، وعدمَ السُّؤالِ مَحمولٌ على ما يستلزِمُه الإقرارُ بالنُّبوَّاتِ مِن شرائِعِ الدِّينِ وفُروعِه ، وقيل غير ذلك .

قولُ الله تعالى: وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ الفائدةُ في سُؤالِ الرُّسُلِ مع العِلمِ بأنَّه لم يصدُرْ عنهم تقصيرٌ ألبتَّةَ: أنَّهم إذا أثبَتُوا أنَّه لم يَصدُرْ عنهم تقصيرٌ ألبتَّةَ، التحَقَ التَّقصيرُ بكُلِّيَّتِه بالأمَّةِ، فيتضاعَفُ إكرامُ اللهِ في حَقِّ الرُّسُلِ؛ لظُهورِ بَراءَتِهم عن جميعِ مُوجباتِ التَّقصيرِ، وتتضاعَفُ أسبابُ الخِزي والإهانةِ في حقِّ الكُفَّارِ؛ لِمَا ثبت أنَّ كُلَّ التقصيرِ كان منهم .

قولُ اللهِ تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ يدلُّ على أنَّه تعالى عالِمٌ بالعِلمِ، وهو صِفَةٌ له، قائِمٌ بذاتِه، وأنَّ قَولَ مَن يقولُ: (إنَّه لا عِلمَ لله) قولٌ باطِلٌ .

قولُ الله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إنْ قيل: الميزانُ واحِدٌ، فما وجهُ الجَمعِ؟ فالجوابُ: أنَّ العَربَ قد تُوقِعُ لفظَ الجَمعِ على الواحِدِ تفخيمًا له. وقيل: إنَّه يُنصَبُ لكُلِّ عبدٍ مِيزانٌ. وقيل: جُمِعَ لاختلافِ الموزوناتِ، وتعَدُّدِ الجَمعِ، فهو جمعُ مَوزونٍ أو ميزانٍ فالميزانُ واحدٌ، وأُطلق عليه اسمُ الجمعِ؛ لكثرةِ ما يُوزن فيه مِن أنواعِ الأعمالِ، وكثرةِ الأشخاصِ العاملين، الموزونةِ أعمالُهم .

في قَولِه تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ دلالةٌ على أنَّ الحَسَناتِ هي مِن أسبابِ مَحْوِ الذُّنُوبِ، وزوالِ العُقُوبةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ هذا الخبرُ مُستعمَلٌ في التَّهديدِ للمُشركينَ، الذين وُجِّهَ إليهم التعريضُ في الآيةِ الأولى

، وقد خَصَّ بالذِّكرِ إهلاكَ القُرى، دون ذِكرِ الأُمَم؛ لأنَّ المُواجَهينَ بالتَّعريضِ هم أهلُ مَكَّةَ، وهي أمُّ القرى؛ فناسَبَ أن يكونَ تهديدُ أهلِها بما أصابَ القُرى وأهلَها، وأيضًا لأنَّ تعليقَ فِعلِ أَهْلَكْنَاهَا بالقريةِ دون أهلِها؛ لِقَصدِ الإحاطةِ والشُّمولِ، فهو مُغنٍ عن أدواتِ الشُّمولِ، فالسَّامِعُ يعلَمُ أنَّ الـمُرادَ مِنَ القريةِ أهلُها؛ لأنَّ العِبرةَ والموعِظةَ إنَّما هي بما حَصَل لأهلِ القَريةِ .

والتَّعبيرُ عن إرادةِ الفِعلِ بذِكرِ الصِّيغةِ التي تدُلُّ على وقوعِ الفِعلِ في قولِه: أَهْلَكْنَاهَا؛ لإفادةِ عَزمِ الفاعِلِ على الفِعلِ عزمًا لا يتأخَّرُ عنه العَمَلُ، بحيث يُستعارُ اللَّفظُ الدَّالُّ على حُصولِ المرادِ للإرادةِ؛ لتَشابُهِهما . وهذا على أحدِ الأوجهِ في التفسيرِ.

وقولُه: فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فيه مبالغةٌ في تصويرِ غَفْلتِهم، وأمْنِهم مِن العذابِ، وخُصَّ مَجيءُ البَأسِ بهَذينِ الوَقتينِ؛ لأنَّهما وقتانِ للسُّكونِ والدَّعَةِ والاستراحةِ، على عادَتِه سُبحانَه في أخْذِ الظَّالِمِ في وَقتِ بُلوغِ آمالِه وفَرَحِه ورُكونِه إلى ما هو فيه؛ فمَجيءُ العذابِ فيهما أقطَعُ وأشَقُّ، ولأنَّه يكون المجيءُ فيه على غَفلةٍ مِنَ المُهلَكينَ، فهو كالمجيءِ بَغتةً، كما أنَّ التَّذكيرَ بالعذابِ فيهما يُنَغِّصُ على المُكَذِّبين تَخَيُّلَ نَعيمِ الوَقتينِ، وفي هذا التَّقسيمِ تهديدٌ؛ حتَّى يكونوا على وَجَلٍ في كلِّ وقتٍ، لا يَدْرُون متَى يَحُلُّ بِهم العذابُ، بحيثُ لا يَأْمَنون في وقتٍ ما .

قوله: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فيه حَصْرٌ، ومعناه: أنَّهم لم يَستغيثوا اللهَ ولا توَجَّهوا إليه بالدُّعاءِ، ولِكَنَّهم وَضَعوا الاعترافَ بالظُّلمِ مَوضِعَ الاستغاثةِ؛ فلذلك استثناه اللهُ مِنَ الدَّعوى . هذا على القولِ بأنَّ الاستثناءَ متَّصلٌ.

والتَّوكيدُ بـ(إنَّ) في قولهم: إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ؛ لتحقيقِ الخَبرِ للنَّفسِ أو للمُخاطَبينَ .

قوله: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ المرادُ من هذا السؤالِ توبيخُ الكفَرَةِ وتقريعُهم .

والذينَ أُرسِلَ إليهم هُم أُمَمُ الرُّسُل، وعبَّرَ عنهم بالموصولِ الَّذِينَ؛ لِمَا تَدُلُّ عليه الصِّلةُ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّعليلِ، فإنَّ فائدةَ الإرسالِ هي إجابةُ الرُّسُلِ .

وفي قوله: فَلَنَسْأَلَنَّ وقوله: وَلَنَسْأَلَنَّ التأكيدُ بلامِ القَسمِ ونُونِ التَّوكيدِ؛ لإزالةِ الشَّكِّ في ذلك، ولأنَّ الـمُخاطَبينَ مِنَ العَرَبِ في أوَّلِ الدَّعوةِ كانوا يُنكِرونَ البَعثَ والجَزاءَ، ولتأكيدِ الخَبرِ تأثيرٌ في الأنفُسِ، ولا سيَّما خَبرُ الـمَشهورِ بالأمانةِ والصِّدقِ، كالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقد كانوا يُلَقِّبونَه قبل البَعثةِ بالأمينِ .

وقدَّمَ ذِكرَ سُؤالِ الأمَمِ على ذِكرِ الرُّسُلِ؛ لأنَّ المقصودَ الأهَمَّ مِنَ السُّؤالِ هو الأمَمُ؛ لإقامَةِ الحُجَّةِ عليهم في استحقاقِ العِقابِ .

قوله: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ هذا مِن أعظَمِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ؛ حيث يُقِرُّونَ بالظُّلمِ، وتَشهَدُ عليهم أنبياؤُهم، ويَقُصُّ اللهُ عليهم أعمالَهم .

وتَنكيرُ قَولِه: بِعِلْمٍ يدلُّ على إرادةِ التَّفصيلِ، أي: عالِمينَ بأحوالِهِم الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، وأقوالِهم وأفعالِهم، وتَنوينُه للتَّعظيمِ، أي: بعلمٍ عَظيمٍ .

وقوله: وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ تذييلٌ مُقَرِّرٌ لِما قبلَه ، والغائِبُ ضِدُّ الحاضِرِ، وهو هنا كنايةٌ عن الجاهِلِ؛ لأنَّ الغَيبةَ تستلزِمُ الجهالةَ عُرفًا، أي: الجَهالة بأحوالِ المَغيبِ عنه؛ فإنَّها ولو بلَغَتْه بالإخبارِ، لا تكونُ تامَّةً عنده مثلَ الـمُشاهِد .

قولُه: فَمَنْ ثقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ: فيه اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ وما فيه مِن مَعنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ طَبَقَتِهم، وبُعدِ منزلَتِهم في الفَضلِ والشَّرَفِ .

وضَميرُ الفَصلِ (هُمْ) في قوله: هُمُ الْمُفْلِحُونَ؛ لقَصدِ الانحصارِ، أي: هُم الذين انحصَرَ فيهم تحقُّقُ المُفلِحينَ، أي: إن عَلِمْتَ جماعةً تُعرَفُ بالمُفلحينَ فَهُمُ هُمُ .

وتعريفُ الْمُفْلِحُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم النَّاسُ الذين بلغَك أنَّهم مُفلِحون في الآخِرَةِ، أو إشارةٌ إلى ما يَعرِفُه كلُّ أحدٍ مِن حقيقةِ المُفلحينَ، وخصائِصِهم .

قوله: بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ صِيغةُ المضارِعِ في قوله: يَظْلِمُونَ؛ لحكايةِ حالِهم في تجدُّدِ الظُّلمِ فيما مضَى .

وتقديمُ المجرورِ في قوله: بِآيَاتِنَا على عامِلِه، وهو يَظْلِمُونَ؛ للاهتمامِ بالآياتِ .

الجَمعُ بين صِيغَتَي الماضي والمُستقبَل (كَانوا... يَظلمون)؛ للدَّلالةِ على استمرارِ الظُّلمِ في الدُّنيا

 

.===========

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (10-18)

ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ

غريب الكلمات:

 

مَكَّنَّاكُمْ: أي: وطَّأْنا لكم الأرضَ، أو جَعَلْناها قرارًا لكم، وأصلُ (مكن): الموضِعُ الحاوي للشَّيءِ

.

مَعَايِشَ: أي: أسبابًا تعيشونَ بهَا مِن مَطاعِمَ ومَشارِبَ، مُفرَدُها مَعِيشةٌ، وَهِي مَا يُعاشُ بِهِ مِنَ النَّباتِ والحيوانِ وغيرِ ذلك، والعَيْشُ: أخصُّ مِنَ الحَياةِ .

صَوَّرْنَاكُمْ: أي: صَوَّرْنا أباكُم آدَمَ بَشَرًا سَوِيًّا، وقيل: صَوَّرْنا الذُّرِّيةَ، وصُورةُ كُلِّ مَخلوقٍ: هَيئةُ خِلْقَتِه، وما يَتميُّز به عن غيره .

إِبْلِيسَ: هو أبو الشَّياطينِ، وأصلُ الإبلاسِ: اليَأسُ، والحُزنُ المعترِضُ مِن شِدَّةِ اليأسِ، ومنه اشتُقَّ إبليسُ، وقيل: هو اسمٌ أعجميٌّ؛ ولذلك لم يَنصرِفْ .

الصَّاغِرِينَ: أي: الـمُهانِينَ، أو الـمُبعَدينَ، جمْعُ صاغرٍ، والصَّغَارُ: الذِّلَّةُ، وأصلُ (صغر): يدُلُّ على قِلَّةٍ وَحَقَارَةٍ .

أَنْظِرْنِي: أي: أخِّرْني وأجِّلْني، وأصلُ (نظر): تأمُّلُ الشَّيءِ ومعاينتُه، ومنه: نَظَرْتُه، أي: انتَظَرْتُه، كأنَّه ينظُرُ إلى الوَقتِ الذي يأتي فيه .

أَغْوَيْتَنِي: أي: أضْلَلْتَني، والغَيُّ: جَهلٌ مِن اعتقادٍ فاسدٍ، وأصلُ (غوي): يدُلُّ على خِلافِ الرُّشدِ، وإِظْلامِ الْأَمْرِ، ويدلُّ على فَسادٍ في شَيْءٍ .

مَذْؤُومًا: أي: مَذمومًا بأبلَغِ الذَّمِّ، أو مَلُومًا، وأَصْل (ذأم): يدلُّ على كَرَاهَةٍ وَعَيْبٍ .

مَدْحُورًا: أي: مُقْصًى مطرودًا مُبْعَدًا؛ يُقَال: ادْحَرْ عنكَ الشَّيطانَ، أي: أَبعِدْه، وأصل الدَّحْرِ: الطَّردُ والإبعادُ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ

فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي: في هذه الباءِ وَجهانِ؛ أحدُهما: أنْ تكونَ للقَسَمِ، أي: فأُقسِمُ بإغوائِكَ لأقعُدَنَّ. والثاني: أن تكون سَببيَّةً، تعلَّقَتْ بفعلِ القَسَمِ المحذوفِ، تقديرُه: فبما أغوَيتَني أُقسِمُ باللهِ لأَقعُدَنَّ، أي: فبسَبَبِ إغوائِك أُقسِمُ.

صِراطَكَ: (صِراطَ) مَنصوبٌ على نزْعِ الخافِضِ (على)، والتقديرُ: لأقعُدَنَّ لهم على صراطِك، أو منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ به للفِعل أَقْعُدَنَّ على تَضمينِ الفِعلِ (قعَدَ) معنَى فِعلٍ مُتعدٍّ، والتقديرُ: لألزَمَنَّ صراطَك المستقيمَ بقُعودِي عليه، وقيلَ غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يمتَنُّ اللهُ على عبادِه بأنْ هيَّأَ لهم الأرضَ، وأقدَرَهم على الانتفاعِ بما فيها، ويَسَّرَ لهم فيها ما يعيشونَ به في حياتِهم، ومع ذلك فإنَّ قليلًا منهم مَن يَشكُرُه تعالى على نِعَمِه.

ثم خاطَبَ اللهُ بني آدَمَ قائلًا لهم إنَّه خلَقَ أباهم آدَمَ، ثمَّ صَوَّرَه بَشَرًا سَوِيًّا في أحسَنِ تَقويمٍ، ثمَّ قال للملائكةِ: اسجُدُوا لآدَمَ، فكُلُّهم امتَثَلَ الأمرَ وسجَدَ؛ إلَّا إبليسَ؛ استكبَرَ ورفَضَ السُّجودَ.

فسأله اللهُ تعالى عمَّا منَعَه مِنَ السُّجودِ حين أمَرَه، فأجاب أنَّ ما منَعَه مِن ذلك هو أنَّه أفضَلُ مِن آدَمَ؛ إذ خلَقَه اللهُ تعالى مِن نارٍ، بينما خلَقَ آدَمَ مِن طينٍ.

فأمَرَه اللهُ تعالى حينَها أن يَهبِطَ مِنَ الجنَّةِ؛ فليس له أن يتكبَّرَ فيها، وأمره أن يخرُجَ مِنَ الجنَّةِ، فهو من الذين قد نالهم مِن الله الصَّغارُ والذلُّ والمَهانةُ.

فطلب إبليسُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ أن يُمهِلَه إلى يومِ بَعثِ الخَلائِقِ، فأخبَرَه أنَّه مِنَ الـمُمهَلينَ. فأقسَمَ إبليسُ لِرَبِّه إنَّه بسبَبِ إغوائِه له، ليَلْزَمَنَّ لبني آدَمَ الطَّريقَ القَويمَ، ويَصُدُّهم عنه، مُزَيِّنًا لهم طريقَ الباطِلِ، وإنَّه سيَأتِيهم مِن جَميعِ الوُجوهِ، ومِن مُختَلِف الطُّرُق؛ لِيَصُدَّهم عن الحَقِّ، ولن يجِدَ تعالى أكثَرَهم شاكرينَ له.

فأمَرَه اللهُ أن يَخرُجَ مِنَ الجنَّةِ مَذمومًا مَمقوتًا مَطرودًا مِن رحمتِه، وأقسَم أنَّ مَن اتَّبعه مِن بني آدمَ، أنْ يملأَ جهنَّمَ مِن جميعِهم: مِن الكفرةِ أتباعِ إبليسَ، ومِنه وذرِّيتِه.

تفسير الآيات :

 

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ الخَلقَ بمتابَعةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وبقَبولِ دَعوَتِهم، ثمَّ خَوَّفَهم بعذابِ الدُّنيا، ثمَّ خَوَّفَهم بعذابِ الآخِرَةِ- رغَّبَهم في قَبولِ دَعوةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ في هذه الآيةِ بطَريقٍ آخَرَ، وهو أنَّه كَثُرَت نِعَمُ اللهِ عليهم، وكَثرةُ النِّعَمِ تُوجِبُ الطَّاعةَ

.

وأيضًا لَمَّا كان الدِّينُ الذي أمَرَ تعالى باتِّباعِ التَّنزيلِ فيه، هو دينَ الفِطرةِ، الـمُبَيِّنَ لكُلِّ ما يُوصِلُها إلى كمالِها، والنَّاهيَ لها عن كُلِّ ما يَحُولُ بينها وبين هذا الكَمالِ، وكان افتتانُ النَّاسِ بأمْرِ المَعيشةِ مِن أسبابِ إفسادِ الفِطرةِ، بالإسرافِ في الشَّهَواتِ، مِن حيثُ إنَّه يجِبُ أن تكونَ نِعَمُ اللهِ عليهم بما يحتاجونَ إليه مِن أمرِ المَعيشةِ، سببًا لإصلاحِها بشُكرِ اللهِ عليه، الموجِبِ للمَزيدِ منه - لَمَّا كان الأمرُ كذلك، ذكَّرَ سبحانه النَّاسَ في هذه الآيةِ بنِعَمِه عليهم في التَّمكينِ في الأرضِ، وخَلْقِ أنواعِ المعايشِ فيها ، فقال:

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ

أي: ولقد هيَّأْنا لكم الأرضَ- أيُّها النَّاسُ- وأقدَرْناكم عليها، وجَعَلْناها لكم قرارًا تستَقِرُّونَ فيها، وفِراشًا تفتَرِشونَها، وأبَحْنا لكم منافِعَها .

وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ

أي: ويسَّرْنا لكم في الأرضِ ما تعيشونَ به أيامِ حياتِكم؛ مما يخرُجُ مِنَ الأشجارِ والنَّباتاتِ، ومِنَ المعادِنِ والحيواناتِ، والصَّنائِعِ والتِّجاراتِ، وغيرِ ذلك مِن أسبابِ المعيشةِ .

قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ

أي: وأنتم مع ذلك قليلٌ شكرُكم على هذه النِّعَمِ التي أنعَمْتُها عليكم .

كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] .

وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [البقرة: 243] .

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

مناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا ذَكَر سبحانَه ما منَحَ العبادَ مِنَ التَّمكينِ؛ ذكَّرَهم بنعمةِ الإيجادِ، وهي نعمةُ عنايةٍ، بعد ما كانوا عليه مِنَ العَدَمِ، وذكَرَ تفضيلَه لهم؛ حيث خلَقَ أباهم آدَمَ، وأمَرَ الملائكةَ بالسُّجودِ له؛ فإنَّ الإنعامَ على الأبِ يَجرِي مَجرى الإنعامِ على الابنِ، ثمَّ ذكَرَ لهم أنَّ أباهم لَمَّا خالفَ الأمرَ أهبَطَه مِنَ الجنَّةِ؛ وفي ذلك تحذيرٌ لذُرِّيتِه .

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ

أي: ولقد خَلَقْنا أباكم آدَمَ عليه السَّلامُ، ثمَّ صَوَّرْناه بشرًا سَوِيًّا في أحسَنِ تَقويمٍ .

ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ

أي: لَمَّا خَلَقْنا آدَمَ وصَوَّرناه، قُلْنا للملائكةِ ابتلاءً منَّا واختبارًا لهم: اسجُدُوا لآدَمَ؛ إكرامًا له، وإظهارًا لفَضْلِه عليه السَّلامُ .

فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ

أي: فسجَدَ الملائكةُ كُلُّهم إلَّا إبليسَ، لم يكُنْ مِنَ السَّاجدينَ لآدَمَ عليه السَّلامُ؛ تكبُّرًا عليه، وإعجابًا بنَفسِه .

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12)

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ

أي: قال اللهُ تعالى لإبليسَ: ما منَعك مِن السُّجودِ، فأحوجَك ألَّا تسجدَ لآدَمَ حين أمَرْتُك بالسُّجُودِ له ؟

قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ

أي: قال إبليسُ لله سبحانه: منعني من السُّجودِ له أنَّني أفضَلُ منه؛ لأنَّك خَلَقْتَني مِن النَّارِ، وخَلَقْتَه مِن الطِّينِ، والنَّارُ أفضَلُ مِنَ الطِّينِ، فكيف أسجُدُ له ؟

كما قال تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: 75-76] .

وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُلِقَتِ الملائكةُ من نورٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن مارجٍ مِن نارٍ، وخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم )) .

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا

أي: قال اللهُ تعالى لإبليسَ: فاهبِطْ مِنَ الجنَّةِ؛ بسبَبِ عصيانِك لأمرِي، وخُروجِك عن طاعَتي؛ فليس لك أن تستكبِرَ في الجَنَّةِ عن طاعتي وأمرِي .

فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ

أي: فاخرُجْ مِنَ الجنَّةِ؛ إنَّك مِنَ الذَّلِيلينَ الحَقيرينَ .

قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)

أي: قال إبليسُ: أخِّرْني وأمهِلْني إلى أن يُبعَثَ الخَلقُ يومَ القِيامةِ .

قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)

أي: قال اللهُ لإبليسَ: إنَّك مِنَ المؤخَّرينَ الذين لا يُميتُهم اللهُ إلَّا وَقتَ النَّفخةِ الأولى، حين يموتُ الخَلقُ كُلُّهم .

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)

أي: قال إبليسُ مُخاطبًا رَبَّه: فبسَبَبِ إضلالِك لي، أُقسِمُ بك لألزَمَنَّ الجلوسَ لذُرِّيَّةِ آدَمَ على طريقِكَ الحَقِّ القَويمِ، المُوصِلِ إلى الجنَّة- وهو الإسلامُ وشرائِعُه- فأَصُدُّهم عن عبادَتِك وطاعَتِك، وأُزَيِّنُ لهم الباطِلَ؛ لئلَّا يُوَحِّدوك ويَعبُدوك .

كما قال تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82-83] .

وعن سَبْرةَ بنِ أبي فاكهٍ رَضِيَ الله عنه، قال: سمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ الشَّيطانَ قعَدَ لابنِ آدَمَ بأطرُقِه، فقعد له بِطَريقِ الإسلامِ، فقال له: أتُسلِمُ وتَذَرُ دِينَك، ودينَ آبائِك، وآباءِ أبيك؟! قال: فعصاه، فأسلَمَ، ثمَّ قعَدَ له بطريقِ الهِجرةِ، فقال: أتُهاجِرُ وتَذَرُ أرضَك، وسماءَك؟! وإنَّما مَثَلُ المُهاجِرِ كمَثَلِ الفَرَسِ في الطِّوَلِ ، قال: فعَصَاه فهاجَرَ، قال: ثمَّ قعَدَ له بِطَريقِ الجِهادِ، فقال: هو جَهْدُ النَّفسِ والمالِ، فتُقاتِلُ فتُقتَلُ، فتُنكَحُ المرأةُ، ويُقسَمُ المالُ، قال: فعصاه فجاهَدَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فمَن فعَلَ ذلك منهم فمات، كان حقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ ، أو قُتِلَ كان حَقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ، وإن غَرِقَ كان حقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ ، أو وَقَصَتْه دابَّةٌ كان حقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ )) .

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ

أي: ثمَّ لآتِينَّ بني آدَمَ مِن جَميعِ الوُجوهِ، ومُختَلِفِ الطُّرُق، فأصُدُّهم عن الحَقِّ، وأُحَسِّنُ لهم الباطِلَ .

وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ

مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا عَلِمَ الخبيثُ إبليسُ أنَّهم ضُعفاءُ، قد تغلِبُ الغفلةُ على كثيرٍ منهم، وكان جازمًا ببَذلِ مجهودِه على إغوائِهم- ظَنَّ وصَدَّق ظَنَّه، فقال :

وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ

أي: ولا تجِدُ أكثَرَ بني آدَمَ شاكرينَ لك، بل يُشرِكونَ بك، ولا يُوَحِّدونَك، ويعصُونَك، ولا يُطيعونَك .

وقولُ إبليسَ هذا إنَّما هو ظنٌّ منه وتوَهُّم، وقد وافَقَ في هذا الواقِعَ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ:20-21] .

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا

أي: قال اللهُ عزَّ وجلَّ لإبليسَ: اخرُجْ مِنَ الجنَّةِ مَذمومًا ممقوتًا، مطرودًا مِن رحمةِ اللهِ سبحانه .

كما قال تعالى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص: 77-78] .

لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ

أي: أُقسِمُ على أنَّ مَنِ اتَّبَعك مِن بَني آدَمَ أنْ أمَلأَ نارَ جهنَّمَ يومَ القيامةِ منهم ومِنك ومِن ذُرِّيتِك

 

.

كما قال تعالى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 63-65] .

وقال سبحانه: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84-85] .

الفوائد التربوية:

 

1- في التَّعقيبِ بهذه الآيةِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ على آيةِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا إيماءٌ إلى أنَّ إهمالَ شُكْرِ النِّعمةِ يُعَرِّضُ صاحِبَها لِزَوالِها، وهو ما دلَّ عليه قَولُه: أَهْلَكْنَاهَا

.

2- قولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ... فيه التَّذكيرُ بنِعمةِ الإيجادِ؛ ليشكُرُوا مُوجِدَهم .

3- قولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فيه تنبيهٌ وإيقاظٌ إلى عَداوةِ الشَّيطانِ لِنَوعِ الإنسانِ مِنَ القِدَمِ؛ ليكون ذلك تحذيرًا مِن وَسوَسَتِه وتَضليلِه، وإغراءً بالإقلاعِ عمَّا أوقَعَ فيه النَّاسَ مِن الشِّركِ والضَّلالةِ .

4- جعْلُ امتثالِ أمْرِ الرَّبِ تعالى مشروطًا باستحسانِ العَبدِ له، ومُوافَقَتِه لرَأيِه وهواه؛ هو رفضٌ لطاعةِ الرَّبِّ، وترَفُّعٌ عن مرتبةِ العبد

5- في قَولِه تعالى عن إبليسَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إشارةٌ إلى أنَّ العُجْبَ هو الذي أَهلَكَه .

6- الاحتجاجُ على فضلِ الإِنسانِ على غيرِه بفضلِ أصْلِه على أصلِه حَجَّةٌ فاسِدَةٌ، احتجَّ بها إبليسُ حيثُ قال: أَنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، وهي حجَّةُ الَّذين يفخرونَ بأنسابِهم، وقد قال النَّبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: ((مَن بطَّأ به عملُه لم يُسرِعْ به نَسَبُه )) .

7- التكبُّرُ على اللهِ تعالى يوجِبُ العِقابَ الشَّديدَ، والإخراجَ مِن زُمرةِ الأولياءِ، والإدخالَ في زُمرةِ المَلْعونينَ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا .

8- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ فيه تنبيهٌ على أنَّه ليس لِمَن في الجنَّةِ أنْ يتكبَّرَ، وأنَّ التكبُّرَ لا يليقُ بأهلِ الجنَّةِ والسَّماءِ، وأنَّه تعالى إنَّما طرَدَ إبليسَ لتكبُّرِه، لا لمجرَّدِ المعصيةِ، وكما في الحديثِ: ((لا يَدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قَلْبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كِبْرٍ )) .

9- قال الله تعالى: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ حكمةُ إنظارِ اللهِ تعالى لإبليسَ- وإن كان ذلك سَببًا للغَوايةِ والفِتنةِ- أنَّ في ذلك ابتلاءَ العبادِ بمُخالَفَتِه وطَواعِيَتِه، وما يترتَّبُ على ذلك مِن إعظامِ الثَّوابِ بالمُخالفةِ، وإدامةِ العِقابِ بالطَّواعِيَةِ .

10- قال تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ إنَّما نَبَّهَنا اللهُ تعالى على ما قال إبليسُ وعَزَم على فِعْلِه؛ لِنأخُذَ منه حِذْرَنا، ونستَعِدَّ لعَدُوِّنا، ونحترِزَ منه بعِلْمِنا بالطَّريقِ التي يأتي منها، ومَداخِلِه التي ينفُذُ منها .

11- في قَولِه تعالى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ إشارةٌ إلى منزلةِ الشُّكرِ؛ حيث إنَّ ابليسَ لَمَّا عَرَفَ قدْرَ مقامِ الشُّكرِ، وأنَّه مِن أجَلِّ المقاماتِ وأعلاها، جَعَلَ غايَتَه أنْ يسعَى في قَطْعِ النَّاسِ عنه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ إثباتُ الصِّفاتِ الاختياريَّةِ للهِ تعالى- كصِفةِ الكَلامِ هنا- فهذا بَيِّنٌ في أنَّه إنَّما أَمَرَ الملائكةَ بالسُّجودِ بعد خَلْقِ آدمَ، ولم يَأمُرْهُم في الأزَلِ

.

قولُه تعالى: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ استُدلَّ به على أنَّ صِيغةَ (افْعَلْ) تأتي -في أصلِ وضعِها- للوُجوبِ، وكذلك قولُه: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ استُدِلَّ به على أنَّ مُطلَقَ الأمرِ يدلُّ على الوُجوبِ؛ لذمِّ إبليسَ على امتناعِه مِنَ السُّجُودِ، ولو لم يَدُلَّ على الوُجوبِ لم يَستوجِبِ الذَّمَّ والتوبيخَ .

استُدِلَّ بقَولِه تعالى: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ على تفضيلِ النبيِّ على المَلَك؛ لأنَّ اللهَ أَمَرَ الملائكةَ بالسُّجودِ لآدَمَ على سبيلِ التَّكريمِ له؛ حتى قال إبليسُ: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء: 62] .

قولُ الله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ استُدِلَّ به على أنَّ مُطلَقَ الأمرِ يدلُّ على الفَورِ؛ لِذَمِّ إبليسَ على امتناعِه مِنَ السُّجودِ في الحالِ، ولو لم يدُلَّ على الفَورِ لم يستوجِبِ الذَّمَّ في الحالِ .

قوله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قال الله هنا في سورةِ الأعرافِ: مَا مَنَعَكَ وفي سورةِ الحِجر قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَالَكَ أَلَّا تُكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ وقال في سورةِ ص: أنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ واختلافُ العباراتِ عندَ الحكايةِ يدلُّ على أنَّ اللعينَ قد أَدْرج في معصيةٍ واحدةٍ ثلاثَ معاصٍ: مخالفةُ الأمرِ، ومفارقةُ الجماعةِ، والاستكبارُ معَ تحقيرِ آدمَ، وقد وُبِّخ على كلِّ واحدةٍ منها، لكن اقتصر عندَ الحكايةِ في كلِّ موطنٍ على ما ذكر فيه؛ اكتفاءً بما ذكر في موطنٍ آخرَ .

قولُ الله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ استُدِلَّ به على أنَّ القِياسَ في مَورِدِ النَّصِّ فاسِدٌ ، فقد كانت حُجَّةُ إبليسَ باطلة؛ لأنَّه عارضَ النصَّ بالقِياسِ .

قولُ الله تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ أصلٌ في ثُبُوتِ الحَقِّ لأهلِ المحَلَّةِ أن يُخرِجُوا مِن مَحَلَّتِهم مَن يُخشَى مِن سِيرَتِه فُشُوُّ الفَسادِ بينهم .

قولُ الله تعالى: قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أفاد التَّأكيدُ بـ (إنَّ) والإخبارُ بصيغةِ (مِنَ المُنْظَرينَ) أنَّ إنظارَه أمرٌ قد قضاه اللهُ وقَدَّرَه مِن قَبلِ سُؤالِه؛ أي: تحقَّقَ كَونُك مِن الفَريقِ الذين أُنظِرُوا إلى يومِ البَعثِ، وأنَّ اللهَ ليس بمُغَيِّرٍ ما قدَّرَه له، فجوابُ اللهِ تعالى لإبليسَ إخبارٌ عن أمرٍ تحَقَّقَ، وليس إجابةً لطَلِبَةِ إبليسَ ؛ لأنَّه أهونُ على اللهِ مِن أن يُجيبَ له طلبًا، وهذه هي النُّكتةُ في العدولِ عَن أن يكونَ الجوابُ: أنظَرْتُك، أو أجبْتُ لك؛ ممَّا يدُلُّ على تَكرُمةٍ باستجابةِ طَلَبِه، ولكنَّه أعلَمَه أنَّ ما سألَه أمرٌ حاصِلٌ، فسؤالُه تحصيلُ حاصلٍ .

إن قال قائل: فهل أحَدٌ مُنْظرٌ إلى ذلك اليومِ سِوى إبليسَ، فيُقال له: (إنك منهم)؟

قيل: نعم، مَنْ لم يقبضِ الله رُوحَه مِن خلقِه إلى ذلك اليومِ، ممَّن تقومُ عليه الساعةُ، فهم مِن المنظرين بآجالِهم إليه، ولذلك قِيل لإبليسَ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، بمعنى: إنَّك ممَّن لا يميتُه الله إلا ذلك اليومَ .

قال تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ.. استخدَمَ لفظَ القُعودِ؛ لأنَّ المرادَ مِنَ الآيةِ أنَّه يُواظِبُ على الإفسادِ مُواظبةً لا يفتُرُ عنها، فإنَّ مَن أراد أن يبالِغَ في تكميلِ أمرٍ مِنَ الأمورِ، قعدَ حتى يصيرَ فارِغَ البالِ، فيُمكِنه إتمامُ المقصودِ .

قولُه تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ يدلُّ على أنَّ إبليسَ عَلِمَ أنَّ اللهَ خلَقَ البَشَر للصَّلاحِ والنَّفعِ، وأنَّه أودَعَ فيهم معرفةَ الكَمالِ، وأعانهم على بلوغِه بالإرشادِ، وبهذا الاعتبارِ كان إبليسُ عَدُوًّا لبني آدمَ؛ لأنَّه يطلُبُ منهم ما لم يُخلَقوا لأجلِه، وما هو مُنافٍ للفِطرةِ التي فطرَ اللهُ عليها البشَرَ .

قولُ الله تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ إبليسَ كان عالِمًا بالدِّينِ الحقِّ، والمنهجِ الصَّحيحِ؛ لأنه قال: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وصراطُ اللهِ المستقيمُ هو دِينُه الحقُّ، ودلَّ أيضًا على أنَّ إبليسَ كان عالِمًا بأنَّ الذي هو عليه مِنَ المذهَبِ والاعتقادِ هو مَحضُ الغَوايةِ والضَّلالِ؛ لأنَّه لو لم يكن كذلك لَمَا قال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي .

قال اللهُ تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ في هذا بيانٌ واضِحٌ على فسادِ ما يقولُ القَدَريَّةُ مِن أنَّ كُلَّ مَن كفَرَ أو آمَنَ فبِتَفويضِ اللهِ أسبابَ ذلك إليه، وأنَّ السَّبَبَ الذي به يَصِلُ المؤمِنُ إلى الإيمانِ، هو السبَبُ الذي به يصِلُ الكافِرُ إلى الكُفرِ، وذلك أنَّ ذلك لو كان كما قالوا لكان الخَبيثُ قد قال بقَولِه: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي فبما أصلَحْتَني، إذ كان سببُ الإغواءِ هو سببَ الإصلاحِ، وكان في إخبارِه عن الإغواءِ إخبارٌ عَنِ الإصلاحِ، ولكِنْ لَمَّا كان سَبَباهما مختلفينِ، وكان السَّبَبُ الذي به غوى وهلك، مِن عندِ اللهِ؛ أضاف ذلك إليه فقال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ، فخالف القَدَريَّة وغيرُهم شيخَهم إبليسَ الذي طاوَعُوه في كلِّ ما زَيَّنَه لهم، ولم يطاوِعوه في هذه المسألةِ، ويقولون: أخطأ إبليسُ، وهو أهلٌ للخَطَأِ؛ حيث نسَبَ الغَوايةَ إلى ربِّه، تعالى اللهُ عَن ذلك. فيُقال لهم: وإبليسُ وإن كان أهلًا للخطأِ، فما تصنعونَ في نَبيٍّ مُكَرَّمٍ مَعصومٍ، وهو نوحٌ عليه السَّلامُ؛ حيث قال لِقَومِه: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود: 34] .

وَجهُ جَمعِ اليَمينِ والشِّمالِ في قَولِه تعالى عن إبليسَ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ أنَّه جاءَ في مُقابلةِ كَثرةِ مَن يريدُ إغواءَهم، فكأنَّه أَقسمَ أنْ يأتيَ كلَّ واحدٍ مِن بَينِ يَدَيه ومِن خَلْفِه، وعن يمينِه وعَن شِمالِه، ولا يحسُنُ هنا عن يَمينِهم وعن شِمالِهم، بل الجمعُ هنا مِن مُقابلةِ الجُملةِ بالجملةِ، المقتضي توزيعَ الأفرادِ، ونظيرُه: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ .

ذكَرَ اللهُ تعالى عن آدَمَ عليه السَّلامُ أنَّه لَمَّا فعَلَ ما فَعَل، قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وعن إبليسَ أنه قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، فمَن تاب أشبَهَ أباه آدَمَ، ومن أصَرَّ واحتَجَّ بالقَدَرِ، أشبَهَ إبليسَ .

كان إبليسُ أوَّلَ مَن قَدَّمَ القَدَرَ على الأمرِ، وعارَضَه به، وقال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، وقال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فرَدَّ أمرَ اللهِ بقَدَرِه، واحتجَّ على ربِّه بالقَدَر .

قَولُه تعالى: فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا دلَّ على أنَّ ذلك الوَصْفَ لا يُغتفَرُ منه؛ لأنَّ النَّفيَ بصيغةِ (ما يكونُ لك كذا) أشَدُّ مِنَ النَّفيِ بـ (ليس لك كذا)، وهو يستلزِمُ هنا نهيًا؛ لأنَّه نفاه عنه مع وقوعِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

قولُه تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ

قوله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ فيه تأكيدُ الخبَرِ باللَّامِ و (قد) المفيدِ للتَّحقيقِ؛ تنزيلًا للمقصودِينَ مِنَ الخطابِ مَنزلةَ مَن يُنكِرُ مَضمونَ الخَبَر؛ لأنَّهم لَمَّا عَبَدوا غيرَ اللهِ كان حالُهم كحالِ مَن يُنكِرُ أنَّ الله هو الذي مكَّنَهم مِنَ الأرضِ، أو كحالِ مَن يُنكِرُ وُقوعَ التَّمكينِ مِن أصلِه

.

قوله: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ فيه تقديمُ لَكُمْ فِيهَا على المفعولِ به مَعَايِشَ مع أنَّ الأصلَ أنْ يُقَدَّمَ المفعولُ به على غَيرِه مِن مُتعَلِّقاتِ الفِعلِ؛ لأنَّ القاعدةَ في تَقديمِ بعضِ الكَلامِ على بعضٍ، هي أن يُقَدَّمَ المقصودُ بالذَّاتِ، والأهَمُّ فالأهَمُّ منه؛ فهَاهُنا ثلاثةُ أشياءَ: المعايشُ، وكونُها في الوَطَنِ الذي يعيش فيه المَرءُ، وكَونُ المرءِ مالكًا لها، ومُتَصرِّفًا فيها، ولا مُشاحَّةَ في أنَّ الأهمَّ عند كلِّ إنسانٍ: أن يكون مالكًا لِمَا يَعيشُ به، ويتلوه أن يكونَ ذلك في وَطَنِه، ويتلوه أنواعُه وأن تكونَ كثيرةً، وهو ما أفاده تركيبُ الكَلِماتِ في الآيةِ، ولا تَجِدُ هذه الدِّقَّةَ في تقديمِ ما ينبغي وتأخيرِ ما ينبغي، مُطَّرِدةً إلَّا في كتابِ الله تعالى .

قولُه: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ تذييلٌ مَسوقٌ لِبيانِ سوءِ حالِ المُخاطَبينَ، وتَحذيرِهم ، ويجوز أنْ تكون القِلَّةُ كنايةً عَنِ العَدَمِ على طريقَةِ الكَلامِ المُقتَصَد؛ استنزالًا لتذَكُّرِهم .

قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ تصديرُ جُملةِ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ بالقَسَمِ وحرفِ التَّحقيقِ؛ لإظهار كَمالِ العِنايةِ بِمَضمونِهما .

وفيه نُسِبَ الخلقُ والتَّصويرُ إلى المُخاطَبينَ مع أنَّ المُرادَ بهما خَلْقُ آدَمَ عليه السَّلامُ وتَصويرُه؛ توفيةً لِمَقامِ الامتنانِ حَقَّه، وتأكيدًا لِوُجوبِ الشُّكرِ عَليهم .

وعُطِفَتْ جُملةُ صَوَّرْنَاكُمْ على خَلَقْنَاكُمْ بحَرفِ (ثُمَّ) الدالِّ على تراخي رُتبةِ التَّصويرِ عن رُتبةِ الخَلقِ؛ لأنَّ التَّصويرَ حالةُ كَمالٍ في الخَلقِ .

قوله: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ في اختيارِ الإخبارِ عن نَفيِ سُجُودِه بجَعْلِه مِن غَيرِ السَّاجدينَ: إشارةٌ إلى أنَّه انتَفَى عنه السُّجودُ انتفاءً شديدًا؛ لأنَّ قَولَك: (لم يكُنْ فُلانٌ مِن المُهتدينَ) يفيدُ مِنَ النَّفيِ أشَدَّ مِمَّا يُفيدُه قولُك: (لم يكُنْ مُهتَديًا) ، وأيضًا فنفيُ كَونِ إبليسَ مِنَ السَّاجدينَ أخصُّ مِن نَفيِ السُّجودِ عنه؛ لأنَّ نَفيَ الكونِ يقتَضي نفيَ الأهليَّةِ والاستعدادِ، فهو أبلغُ في الذَّمِّ مِن أنْ يُقالَ: لم يسجُدْ .

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ

قوله: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ استئنافٌ مَسوقٌ للجَوابِ عَن سؤالٍ نَشأَ مِن حكايةِ عَدَمِ سُجُودِه؛ كأنَّه قيل: فماذا قال اللهُ تعالى حينئذٍ؟ وكان مقتضى الظَّاهِرِ أن يُقال: (قُلْنا)، فكان العدولُ إلى ضميرِ الغائِبِ الْتِفاتًا نُكتَتُه تحويلُ مَقامِ الكَلامِ؛ إذ كان المقامُ مَقامَ أمرٍ للمَلائكةِ ومَن في زُمرَتِهم، فصار مقامَ تَوبيخٍ لإبليسَ خاصَّةً .

والاستفهامُ في قولِه: مَا مَنَعَكَ للتَّوبيخِ، ولإظهارِ معانَدَتِه وكُفْرِه، وكِبْرِه، وافتخارِه بأصلِه، وازدرائِه بأصلِ آدَمَ، وأنَّه خالَفَ أمرَ رَبِّه معتقدًا أنَّه غيرُ واجبٍ عليه، لَمَّا رأى أنَّ سُجودَ الفاضِلِ للمَفْضولِ خارجٌ مِنَ الصَّوابِ .

و(لا) في قوله: أَلَّا تَسْجُدَ مَزيدةٌ للتَّأكيدِ والتَّحقيقِ، ولا تُفيدُ نَفيًا؛ لأنَّ الحرفَ المَزيدَ للتَّأكيدِ لا يُفيدُ معنًى غيرَ التَّأكيدِ؛ كأنَّه قيل: ما منَعَك أن تُحقِّقَ السُّجودَ وتُلزِمُه نَفسَك إِذْ أَمَرْتُكَ؟ لأنَّ أمري لك بالسُّجودِ أُوجِبُه عليك إيجابًا، وأُحَتِّمُه عليك حَتمًا لا بدَّ لك منه ، وذلك على أحدِ القولينِ في (ألَّا).

قولُه تعالى حاكيًا عن إبليسَ أنَّه قال: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مَسوقٌ مَساقَ التَّعليلِ للامتناعِ، وجُملةُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ بيانٌ لِجُملةِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ؛ فلذلك فُصِلَتْ-أي: لم تُعطَفْ بالواوِ .

وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سورةِ الأعراف: مَا مَنَعَكَ من غيرِ نِدائِه باسِمه، وقال تعالى في سورةِ الحِجر: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ [الحجر: 32] ، وقال في سُورة ص: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ [ص: 75] بزيادةِ يَا إِبْلِيسُ فيهما؛ وذلك لأنَّ خِطابَه قَالَ مَا مَنَعَكَ قَرُبَ مِن ذِكرِه في هذه السُّورةِ، وهو قولُه: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ؛ فحَسُنَ حذْفُ حرْفِ النِّداء والمُنادَى، ولم يقرُبْ في سورةِ ص قُربَه منه في هذِه السُّورةِ؛ لأنَّه قال في ص: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص: 74] بزِيادةِ اسْتَكْبَرَ؛ فزادَ حرْف النِّداءِ والمنادَى فقال: يَا إِبْلِيسُ، وكذلك في الحِجر؛ فإنَّ فيها: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 31] .

وقيل: إنَّه لَمَّا تَقدَّم في الأعرافِ ذِكرُ خَلْق الإنسانِ وتصويرِه مِن غيرِ ذِكرِ المادَّة التي خُلِق منها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، والخِطاب لبَنِي آدَم، ولم يُذْكَر خَلْقُ غيرِهم مِن مَلَك أو جِن، ثم إنَّ الأمرَ بالسُّجود ورَد للملائكةِ، ولم يرِدْ إشعارٌ بأنَّ إبليسَ مِن غيرهم، فسَبَق من ظاهِرِ الكلامِ أنَّه منهم ومأمورٌ معهم؛ فناسَبَ هذا قوله: مَا مَنَعَكَ؛ لأنَّه مأمورٌ بظاهرِ ما تقدَّم، وناسَب ذلك أيضًا وعضَّدَه قولُه تعالى: إِذْ أَمَرْتُكَ، أمَّا آيةُ الحِجرِ فقدْ تقدَّم قَبْلَها قولُه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] ، وقال في سُورة ص: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ [ص: 71] ، فلمَّا لم يكُن في أصلِ الخِلقةِ والمادَّة منهم، وكان الأمرُ بظاهِرِ العِبارةِ لهم، وإنْ كان مُرادًا أنَّه معهم، فبحسَبِ ذلك استُؤنِفَ نِداؤُه، فقِيل: يَا إِبْلِيسُ؛ فنُودي باسمِه المشعِرِ بطَرْدِه ومغايرتِه لهم . وقيل: ذلك الاختلافُ تَفنُّنٌ؛ جريًا على عادةِ العربِ في تَفنُّنهم في الكلامِ .

وأيضًا قال تعالى هنا في سُورةِ الأعرافِ: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ، وقال تعالى في سُورةِ الحجر: أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 32] ، فلم يَذكُرِ المعيَّةَ في سورة الأعراف وذَكَرَها في الحِجرِ؛ وذلك لمُناسَبةٍ حسَنةٍ؛ فإنَّه لَمَّا تقدَّم في الأعرافِ ذِكرُ خَلقِ الإنسانِ وتَصويرِه من غيرِ ذِكرِ المادَّة التي خُلِق منها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ولم يَذكُر خَلْق غيرِهم مِن مَلَك أو جِنٍّ، ثم إنَّ الأمرَ بالسُّجودِ ورَدَ للملائكةِ، ولم يَرِدْ إشعارٌ بأنَّ إبليس مِن غيرهم؛ فسَبَق من ظاهرِ الكلامِ أنَّه منهم، ومأمورٌ معهم، فناسَب هذا قولُه: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ؛ لأنَّه مأمورٌ بظاهرِ ما تَقدَّم. أمَّا آيةُ الحجرِ فقدْ تقدَّم قبلها قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ *  وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ إلى قوله: فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 26- 29] ؛ فأشارتِ الآياتُ بظاهرِها إلى أنَّ إبليسَ لم يَكُن في أصلِ الخِلقةِ والمادَّةِ من الملائكةِ، وكان الأمرُ بظاهرِ العبارةِ لهم، وإنْ كان مرادًا أنَّه معهم؛ فبَحسَبِ هذا وردتِ المعيةُ في قولِه: يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 32] .

وأيضًا قال تعالى هنا في سُورة الأعرافِ، وكذا في سورة ص: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12، ص: 28]، فاستُوفِيَ ذِكرُ المادَّتينِ: الطِّين والنار، وقال في سُورةِ الحجر: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 33] ، فلم يَذكُرِ النَّارَ؛ وذلك لمُناسَبةٍ حَسنةٍ؛ إذ إنَّه لم يقَعْ ذِكرٌ لخَلقٍ غيرِ الآدميِّين في سورة الأعراف؛ فناسَبَ ذلك ما ذَكَره سبحانه عن إبليس من قولِه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فاسْتُوفي ذِكرُ المادَّتَينِ، وبَنَى على ذلِك إبليسُ ما توهَّم مِن فَضلِ النَّارِ على الطِّينِ .

قوله: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الفاءُ في فَما يَكُونُ... للسَّببيَّةِ والتَّفريعِ؛ تعليلًا للأمرِ بالهُبوط، وهو عُقوبةٌ خاصَّةٌ: عُقوبةُ إبعادٍ عَنِ المَكانِ المُقَدَّسِ؛ لأنَّه قد صار خُلُقُه غيرَ ملائمٍ لِمَا جَعَلَ اللهُ ذلك المكانَ له .

قَولُه: فَاخْرُجْ فيه تأكيدٌ لجُملةِ فَاهْبِطْ بِمُرادِفِها، وأُعيدَتِ الفاءُ مع فَاخْرُجْ؛ لزيادةِ تأكيدِ تَسَبُّبِ الكِبرِ في إخراجِه مِنَ الجنَّةِ .

وجملةُ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ واقعةٌ مَوقِعَ التَّعليلِ للإخراجِ، على طَريقةِ استعمالِ (إنَّ) في مِثلِ هذا  المَقامِ استعمالَ فاءِ التَّعليلِ، وقوله: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أشَدُّ في إثباتِ الصَّغارِ له مِن نحو: (إنَّك صاغِرٌ)، أو (قد صَغُرْتَ) .

وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: فَاهْبِطْ مِنْهَا، وقال في سورةِ الحجر: فَاخْرُجْ مِنْهَا [الحجر: 34] ؛ وذلك لأنَّ ما ورَدَ في سورة الحجر مِن تَبيينِ خَلْقِ إبليسَ مِن النارِ، وفَصْله عن الملائكةِ أَعْقَبَ به قولَه تعالى: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر:34] ، أمَّا في آية الأعراف- فاهْبِطْ مِنْهَا- فلمْ  يَتقدَّم فيها أنَّ إبليس ليس من الملائكةِ، كالذي تَقدَّم في سورة الحجر، بل ظاهرُ ما في الأعرافِ أنَّه منهم، فجرَى الأمرُ مناسبًا لهذا الظاهرِ فعَبَّر بالهُبوط، ولَمَّا تَقدَّم في الحِجرِ أنَّه ليس مِن الملائكةِ لخَلْقِه من نارِ السَّموم، وأَشعرَ ذلك بشَرِّ المادَّة؛ ناسَبه قولُه: فَاخْرُجْ مِنْهَا، وإتْباعُ ذلك بما يُلائِمُه من الوصفِ ويُناسبِه من قوله: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، ثم بما كُتِب عليه مِن الطَّردِ واللَّعنةِ، ولم يَرِدْ في الأعرافِ هكذا، بل رُوعي فيه مُناسَبةُ ما تَقدَّم؛ ولئلَّا يَتنافَرَ الكلامُ ويَتنافرَ المعنى؛ فقيل: فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الأعراف: 13] .

قوله تعالى: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ

قولُه تعالى حاكيًا عن إبليسَ أنَّه قال: قَالَ أَنْظِرْنِي... استئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نشأ مِمَّا قَبلَه؛ كأنَّه قيل: فماذا قال اللَّعيُن بعدَما سَمِعَ هذا الطَّردَ المُؤَكَّد؟، فقيل: قَالَ أَنْظِرْنِي... .

وقوله تعالى: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ فيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: أَنْظِرْنِي، وقال في سورةِ الحجر وسورة ص: فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36، ص: 79]؛ ووجه هذه المناسبةِ: أنَّ قوله: أَنْظِرْنِي في سورةِ الأعراف ورَد مُستأنفًا، غيرَ مقصودٍ به عطفٌ على ما يَقعُ به هذا السؤالُ عقيبَه؛ فلم يُحْتَجْ إلى الفاءِ، وأمَّا في الآيتين في سورتي الحجر وص فإنَّ قولَه تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36، ص: 79] جاءَ بعدَ إخبارِ اللهِ تعالى بلَعْنِه إبليسَ، فكأنَّه قال: يا ربِّ إنْ لعَنْتَني وآيَسْتَني من الجنَّةِ فأَخِّرْ أَجلي إلى يومِ يُبعثون؛ فاقتَضَى إضمارَ (إنْ لعَنْتَني يا ربِّ) أن يأتي بالفاءِ . وقيل: حَذَف الفاء في الأعرافِ؛ موافقةً لحَذفِ يَا إِبْلِيسُ، وقال في الحجر و ص بذِكرِها؛ موافقةً لذِكرِه قبلُ . وقيل: قال في الحجر وص بذِكر الفاءِ؛ لِمَا تَضمَّنه النداءُ في قوله تعالى: قَالَ رَبِّ مِن أَدعوك وأُناديك، كما في قوله تعالى رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران: 193] .

وأيضًا قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: قَالَ أَنْظِرْنِي مِن غير ذِكر كلمة (رَبِّ)، وقال في سورةِ الحجر وسورة ص: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36، ص: 79] بذِكرِها؛ وذلك لمُناسبةٍ حَسنةٍ؛ فإنَّه سبحانه لَمَّا اقتصرَ في السؤالِ على الخِطابِ دون صريحِ الاسم في هذه السُّورة في قوله: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ اقتصَر في الجوابِ أيضًا على الخِطابِ دون ذِكرِ المُنادَى .

وأيضًا قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ مِن غير فاءِ في إِنَّكَ، وفي السُّورتينِ الحجر وص: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الحجر: 37، ص: 80] بفاء؛ وذلك لأنَّ الجوابَ يُبنَى على السُّؤال، ولَمَّا خلَا سؤالُه أَنْظِرْنِي في هذه السُّورةِ عن الفاءِ، خلا الجوابُ عنه، ولَمَّا ثَبتتِ الفاءُ في السُّؤالِ فأَنْظِرْنِي في السُّورتَينِ  ثَبتَتْ في الجوابِ .

وقيل في كلِّ ما مَضَى مِن زِياداتٍ في آيَتَيِ الحِجر وص لم تَرِدْ في الأعراف: إنَّه قُصِدَ في سورة الأعرافِ إيجازُ الأخبارِ في القِصَّة، وقُصِدَ في السُّورتَينِ الإطنابُ؛ ليحصُلَ مِن ذلك الاطِّلاعُ على البَلاغةِ وجلالةِ النَّظمِ وعلى فَصاحتِه في طرَفَيِ الإيجازِ والإطنابِ، ويُشيرُ إلى هذا الغرضِ: أنَّ مجموعَ الكلمِ الواقع مِن لدن قولِه في سورة الأعراف: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ [الأعراف: 11] - وهو ابتداءُ القِصَّة- إلى قولِه: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف: 14] بِضعٌ وأربعونَ كلمةً، والواردَ في الحِجرِ مِن لَدُن قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ [الحجر: 26] إلى قولِه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36] بِضعٌ وسَبعون كلمةً، وفي سورةٍ ص من لَدُن قوله: إِذْ قَالَ رَبُّكَ [ص: 71] إلى آخِرِ الآياتِ بِضعٌ وسِتُّون كلمهً؛ فقدْ وضَحَ ما قُصِد في الأعراف مِن إيجازِ الأخبارِ في القِصَّة، وما في السُّورتَينِ بَعدُ مِن الإطنابِ .

قوله تعالى حاكيًا عن إبليسَ أنَّه قال: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ اللام في قَولِه: لَأَقْعُدَنَّ لامُ القَسَمِ؛ قَصَدَ اللَّعينُ تأكيدَ حُصُولِ ذلك، وتحقيقَ العَزمِ عليه .

وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي، وقال في سورةِ الحجر: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر: 39] ؛ فزادَ هنا في هذه السُّورةِ الفاءَ في قوله: فَبِمَا وحَذَفها في الحِجر؛ وذلِك لأنَّ الفاءَ في الأعرافِ مُتسبِّبةٌ عمَّا قَبْلها؛ فهي للعطفِ ليكونَ الثاني مربوطًا بالأوَّلِ، ومُوافقًا له في الاقتصارِ على الخِطابِ دونَ النِّداءِ، ولم تَدخُل الفاءُ في سورة الحِجرِ؛ لوقوعِ النِّداءِ، والنداءُ يُوجِبُ القطعَ، واستئنافَ الكلامِ، لا سيَّما في قِصَّةٍ لا يَقتضيها ما قَبْلَها؛ فلمْ يَحسُنْ مجيءُ الفاءِ .

وأيضًا قال هنا في سُورةِ الأعراف: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، وقال في سورةِ الحِجرِ: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39] ، فاخْتَلَف التعبيرُ في المَوضِعينِ؛ وذلك لمناسبةٍ حَسنةٍ بحسَب ما تَقدَّم في كلِّ واحدةٍ مِن السُّورتَينِ؛ فإنَّه لـمَّا تَقدَّم في الأعرافِ قولُه تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3] ، والإشارةُ إلى القرآنِ بأنَّه يُوضِّح الصِّراطَ المستقيمَ، والإشارةُ بهذا إلى المنزلِ قُرآنًا أنَّه مُبيِّنٌ للصِّراطِ المستقيمِ الذي طَمِع اللَّعينُ في الاستيلاءِ عليه، فقِيل عِبارة عن غَرَضِه مِن ذلك: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ولَمَّا كان قد ورَدَ في سُورةِ الحِجر مَنْعُه، ومَنْعُ جُنودِه عن تَعرُّف خبَرِ السَّماءِ، واستراقِ السَّمعِ في قولِه عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر: 16- 18] ، وصُدَّ مِن هذه الجِهةِ، عدَل إلى الأُخرى فقال: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39] ، أي: رجعتُ إلى إغوائِهم مِن جِهةٍ لم تَمنعْنِي عنها؛ فلأَجْلِ اختلافِ المتقدِّمِ في كلٍّ مِن السُّورَتينِ، اختَلَفَ المبنيُّ عليه مِن المحكيِّ عن إبليسَ مِن طَمَعِه، ووَرَدَ كلٌّ على ما يُناسِبُ .

قولُه تعالى حاكيًا عن إبليسَ أنَّه قال: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ في هذه الآيَةِ فَنُّ المُخالَفةِ بينَ حَرفَيِ الجَرِّ؛ فقد ذَكَرَ الجِهاتِ الأربَعَ؛ لأنَّها هي التي يأتي منها العَدُوُّ عَدُوَّه؛ ولهذا ترَكَ جِهةَ الفَوقِ والتَّحتِ، وعَدَّى الفِعلَ إلى الجِهَتينِ الأُولَيَينِ بـ (مِن)، وإلى الأُخرَيَينِ بـ (عن)؛ لأنَّ الغالِبَ فيمَن يأتي مِن قُدَّام وخَلْف أنْ يكون مُتوجِّهًا بكُلِّيتِه، والغالِبَ فيمَن يأتي مِن جِهَةِ اليَمينِ والشِّمال أن يكونَ مُنحرِفًا، فناسب في الأوَّلَينِ التَّعديَةَ بحرْفِ الابتداء (مِن)، وفي الآخَرَينِ التَّعديةَ بحَرْفِ المُجاوَزة (عَن) .

قوله: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ فيه التأكيدُ بقوله: أَجْمَعِينَ؛ للتَّنصيصِ على العُمومِ؛ لئلَّا يُحمَلَ على التَّغليبِ؛ وذلك أنَّ الكَلامَ جَرى على أمَّةٍ بعُنوانِ كَونِهم أتباعًا لواحدٍ

==================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (19-25)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

 

فَوَسْوَسَ: فألقى وحَدَّث، والوَسْوَسَةُ: الخَطْرةُ الرَّديئةُ، وحَدِيثُ النَّفسِ والشَّيطانِ بِمَا لَا نفْعَ فيه؛ مِنَ الوَسْوَاسِ، وهو صَوتُ الحُلِيِّ، والهَمْسُ الخَفيُّ، أو القَوْلُ الْخَفيُّ لِقَصدِ الإضلالِ، وأصل (وسوس): يدُلُّ عَلَى صَوْتٍ غَيْرِ رَفِيعٍ

.

وُورِيَ: أي: سُتِرَ أو غُطِّي، وأصلُ (وري): سَتر .

سَوْآتِهِمَا: أي: عَوْراتِهما، أو كنايةٌ عَنِ الفَرْج، وسُمِّيَت العورةُ سوأةً؛ لأنَّه يَسوءُ صاحِبَها انكشافُها مِن جَسَدِه، وأصلُ (سوء): كلُّ ما يَقبُحُ .

وَقَاسَمَهُمَا: أي: حَلَف لهما، وأصلُه مِنَ القَسامَةِ، وهي أيمانٌ تُقْسَمُ على أولياءِ المَقتولِ، ثم صار اسمًا لكلِّ حَلِفٍ .

فَدَلَّاهُمَا: أي: فخَدَعَهما، أو أوْقَعَهما في الهلاكِ، أو جَرَّأهما على المعصيةِ، ويُقال لكُلِّ مَن ألقى إنسانًا في بليَّةٍ: قد دلَّاه في كذا، مأخوذٌ من تَدْليةِ الرجلِ العطشانِ في البِئرِ؛ لِيَرْوَى مِن مائِها، فلا يجِدُ فيها ماءً؛ فيكونُ مُدَلًّى فيها بغُرورٍ؛ فوُضِعَتِ التَّدليةُ مَوضِعَ الإطماعِ فيما لا يُجْدي نفعًا، وأصلُ (دلي): يدُلُّ على مُقارَبةِ الشَّيءِ، ومُداناتِه بسُهولَةٍ ورِفقٍ .

بِغُرُورٍ: الغُرور- بضمِّ الغينِ- مصدر غَرَّه يغرُّه غُرورًا، أي: أصاب غِرَّتَه، أي: غفلتَه في اليَقَظةِ، ونال منه ما يُريد، حتَّى يُدخِلَه مِن معصيةِ اللهِ فيما يستوجِبُ به عُقوبتَه، وأصلُ (غرر) يدلُّ على النُّقْصانِ .

وَطَفِقَا: أي: أقبلَا وجعَلَا، وظلَّا وأخذَا، وفِعلُ (طفق) يُستعمَلُ في الإيجابِ دون النَّفيِ، فلا يُقال: ما طَفِقَ .

يَخْصِفَانِ: أي: يَرْقَعان، ويُلزِقان، أو يَجعلان وَرَقةً على وَرَقةٍ، أو يَصِلانِ الوَرَقَ بَعضَه ببعضٍ، ويُلصقانِ بعضَه على بعضٍ، ومنه يقال: خَصَفْتُ نَعلِي: إذا طبَّقْتَ عليها رُقعةً، وأصل (خصف): اجْتِمَاعُ شَيءٍ إلى شَيْءٍ .

مُسْتَقَرٌّ: أي: موضِعُ استقرارٍ؛ قرارٌ تستقرُّونَه، وفراشٌ تَمتهِدونه، وأصل (قرر): يدلُّ على تَمَكُّنٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ

وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ: (إنْ) حرْفُ شَرطٍ، وقَبْلَه لامُ التَّوطئةِ للقَسَمِ مُقدَّرة، والتقديرُ: (لَئِنْ)، وقوله: لَنَكُونَنَّ جوابُ القَسمِ المُقدَّرِ الذي وطَّأتْ له اللامُ، وجوابُ الشَّرطِ محذوفٌ؛ لدلالةِ جَوابِ القَسمِ عليه؛ كقوله تعالى: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ

 

[المائدة: 73] .

المعنى الإجمالي:

 

أمرَ اللهُ تعالى آدَمَ وزوجَه حوَّاءَ أن يسكُنا الجنَّةَ، ويأكُلا مِن حيثُ أرادا منها، وألَّا يَقْرَبا شجرةً مُعَيَّنةً حَدَّدَها لهما تعالى، فيكونا مِنَ الظَّالِمينَ.

فوَسْوَس الشَّيطانُ لآدَمَ وحوَّاءَ؛ ليخدَعَهما، فيُظهِرَ لهما ما سُتِرَ مِن عَوْراتِهما، زاعمًا لهما كذِبًا أنَّ الله تعالى لم يَنْهَهما عن أكلِ ثَمَرِ هذه الشَّجَرةِ، إلَّا كراهةَ أن يكُونا مِن جِنسِ الملائكةِ، أو يكونَا مِنَ الخالِدينَ، وأقسَمَ لهما باللهِ إنَّه ناصِحٌ لهما في ذلك.

فخَدَعَهما وغَرَّهما وجَرَّأَهما على الأكلِ مِن تلك الشَّجَرةِ، فلمَّا أكَلَا منها انكشَفَت عَوْرَاتُهما، فجَعلا يَشُدَّانِ على جَسَدَيهما مِن وَرَقِ الجنَّةِ؛ ليستُرا ما ظهَرَ مِن عَوْرَاتِهما، وناداهما ربُّهما معاتبًا لهما: ألمْ أنهَكُما عن تلك الشَّجرةِ، وأخُبِرْكما أنَّ الشَّيطانَ عدوٌّ لكما ظاهِرُ العَداوةِ.

فاعتَرَفا بالعِصْيانِ، وقالا: رَبَّنا ظَلَمْنا أنفُسَنا، وإنْ لم تَغفِرْ لنا وتَرْحَمْنا لنكونَنَّ مِنَ الهالكينَ.

فأمر اللهُ تعالى آدَمَ وحوَّاءَ وإبليسَ بالهُبوطِ إلى الأرضِ، بعضُهم لبعضٍ عَدُوٌّ، هم وذُرِّيَّتُهم، ولهم في الأرضِ مكانٌ يَستقِرُّونَ فيه على ظَهْرِها في حياتِهم، وفي بَطنِها بَعد مَوتِهم، ولهم فيها مَتاعٌ يَستَمتِعونَ به إلى أن يأتِيَهم الموتُ، وأخبَرَهم تعالى أنَّهم في الأرضِ يَعيشونَ، وفيها يَموتونَ، ومنها يُخرَجونَ مِن قُبورِهم لِيومِ الجَزاءِ.

تفسير الآيات:

 

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا

أي: قال اللهُ تعالى لآدَمَ عليه السَّلامُ بعد أن أخرَجَ إبليسَ مِنَ الجنَّةِ: اتَّخِذْ أنت وزَوجُك حوَّاءُ الجنَّة مَنزِلًا، وكُلَا مِن أيِّ مكانٍ فيها، مِن جَميعِ ثِمارهِا

.

وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ

أي: ولا تَأكُلَا من هذه الشَّجَرةِ؛ فتَصِيرا مِمَّنْ ظَلَم نفسَه بمُخالَفةِ أمرِ رَبِّه .

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا

أي: فألقى إبليسُ لآدَمَ وحوَّاءَ قَولًا ليخدَعَهما به، فيُظهِرَ لهما ما ستَرَه اللهُ عنهما مِن عَوْراتِهما .

وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ

أي: وقال لهما كَذِبًا وافتراءً: ما نهاكُما ربُّكما عن أكلِ ثَمَرِ هذه الشَّجَرةِ، إلَّا كراهةَ أن تكونَا ملَكينِ مِن جِنسِ الملائكةِ، أو تكونَا مِنَ الخالِدينَ في الجنَّةِ .

كما قال تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى [طه:120] .

وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)

أي: وحَلَفَ لهما باللهِ إنِّي ناصِحٌ لكما في الأكلِ مِن ثَمَرِ هذه الشَّجَرةِ التي نهاكما اللهُ عنها .

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ

أي: فخَدَعَهما وأطمَعَهما بالقَولِ الباطِلِ، وجرَّأهما على الأكلِ مِن تلك الشَّجَرةِ، فنزَّلَهما عن رُتبَتِهما العاليةِ، التي هي البُعدُ عن المعاصي إلى التَّلوُّثِ بها .

فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا

أي: فلمَّا طَعِمَ آدمُ وحوَّاءُ ثَمَرَ الشَّجرةِ، انكشَفَتْ عورةُ كُلٍّ منهما، بعد ما كانت مَستورةً .

وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ

أي: خَجِلا، وجَعَلا يشُدَّانِ على جَسَدِهما مِن وَرَقِ الجنَّةِ؛ ليستُرَا به عَوْراتِهما .

وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ

أي: وقال اللهُ لآدَمَ وحوَّاءَ، مُوَبِّخًا ومُعاتِبًا لهما: ألم أنْهَكما عن أكلِ ثَمَرِ تلك الشَّجَرةِ ؟

وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ

أي: وأُعْلِمْكما أنَّ إبليسَ عدوٌّ بيِّنُ العَداوةِ لكما؛ فلِمَ اقتَرَفْتُما ما نهيتُكما عنه، وأطَعْتُما عدوَّكُما ؟!

قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)

قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا

أي: قال آدَمُ وحوَّاءُ اعترافًا بالعِصيانِ : يا رَبَّنا أسأَنْا إلى أنفُسِنا، وأضْرَرْنا بها بمَعصِيَتِك، وبِطاعَتِنا عَدُوَّنا وعَدُوَّك .

وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ

أي قالَا في تَوبَتِهما: وإنْ لم تستُرْ علينا ذَنْبَنا، وتتجاوَزْ عن عُقوبَتِنا، وتَرحَمْنا بقَبولِ تَوبَتِنا، والمُعافاةِ مِن هذه الخَطايا، لنَكونَنَّ مِنَ الهالكينَ .

وقد قَبِلَ اللهُ تعالى هذه التَّوبةَ، كما قال: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122] .

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ

أي: قال اللهُ لآدَمَ وحوَّاءَ وإبليسَ : اهبِطوا مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ، بعضُكم لبعضٍ عَدُوٌّ أنتم وذُرِّيَّتُكم .

كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] .

وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 168، 169].

وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ

أي: ولَكم أنتم وذُرِّيَّتِكم في الأرضِ قرارٌ، تَستقِرُّونَه في حياتِكم على ظَهْرِها، وبعد وَفاتِكم في بَطنِها، ولكم فيها مَتاعٌ تَستَمتِعونَ به حتى يأتِيَكم الموتُ .

قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)

أي قال اللهُ: في الأرضِ تَعيشونَ أيَّامَ حَياتِكم، وتكونُ فيها وفاتُكم، ثم يُخرِجُكم منها رَبُّكم مِن قُبورِكم أحياءً يومَ القيامةِ؛ ليُجازِيَ كلًّا بعَمَلِه

 

.

كما قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55].

وقال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق:43-44] .

الفوائد التربوية:

 

قال تعالى: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا... ممَّا يُستفادُ مِن قِصَّةِ آدَمَ وحوَّاءَ وإبليسَ: أنَّه ينبغي لنا أن نَعرِفَ أنفُسَنا بغرائِزِها واستعدادِها للكَمالِ، وما يَعرِضُ لها دُونَه مِن الموانِعِ، فيصرِفُها عنه إلى النَّقائِصِ، وأنَّ أنفَعَ ما يُعِينُنا على تَربِيَتِها عَهدُ اللهِ إلينا بأنْ نَعبُدَه وَحدَه، وألَّا نعبُدَ معه الشَّيطانَ ولا غَيرَه، وأنْ نَذكُرَه ولا ننساه؛ فننسى أنفُسَنا، ونَغفُلُ عَن تزكِيَتِها، وصَقْلِها بصِقالِ التَّوبةِ، كلَّما عَرَضَ لها مِن وِسواسِ الشَّيطانِ ما يُلَوِّثُها؛ فإنَّه إن يُترَكْ صار صَدَأً وطَبْعًا مُفسِدًا لها، وما أفسَدَ أنفُسَ البَشَرِ ودسَّاها إلَّا غفلةُ عُقُولِهم وبصائِرِهم عنها، وترْكُها كالرِّيشةِ في مهابِّ أهواءِ الشَّهواتِ، ووساوسِ شَياطينِ الضَّلالاتِ، فعلى العاقِلِ أن يعرِفَ قِيمَتَها، ويحرِصَ عليها أشَدَّ مِن حِرصِه على ما عساه يملِكُ مِن نفائِسِ الجواهِرِ، وأعلاقِ الذَّخائِرِ

.

قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ النَّهيُ عن قُربِ الشَّيءِ أبلَغُ مِنَ النَّهيِ عنه؛ فهو يَقتضي البُعدَ عن موارِدِ الشُّبُهاتِ التي تُغرِي به، وتُفضِي إليه، وَرَعًا واحتياطًا؛ فإنَّ مَن حام حَولَ الحِمَى أوشَكَ أن يُواقِعَه؛ فقولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ أشَدُّ في التَّحذيرِ مِن أن يَنهى عن الأكلِ مِنَ الشَّجَرةِ، لأنَّ النَّهيَ عن قِربانِها سَدٌّ لذريعةِ الأكلِ منها .

قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا المعصيةُ تَهتِكُ سِترَ ما بين اللهِ والعَبدِ، فلمَّا عصَيَا انهتَكَ ذلك السِّترُ، فبَدَت لهما سوآتُهما، فالمعصيةُ تُبدِي السَّوأةَ الباطِنَةَ والظَّاهِرةَ، فإنَّ الله سبحانه أنزَلَ لِباسَينِ: لباسًا ظَاهرًا يوارِي العورةَ ويَستُرُها، ولباسًا باطِنًا مِنَ التقوى، يُجَمِّلُ العبدَ ويَستُرُه، فإذا زالَ عنه هذا اللِّباسُ انكشَفَتْ عَورَتُه الباطنةُ، كما تنكشِفُ عَورَتُه الظَّاهِرةُ بنَزْعِ ما يستُرُها .

الحَذَرُ مِن خداعِ إبليسَ، بإظهارِه النُّصحَ، وإبطانِه الغِشَّ؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قولُ الله تعالى: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ .

قولُ الله تعالى: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.. إلى قَولِه تعالى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.. يُرشِدُنا إلى أنَّ مَن خالَفَ أمرَه تعالى، ثُلَّ عَرشُه، وهُدِمَ عِزُّه، وإن كان في غايةِ المَكِنَةِ، ونهايةِ القُوَّةِ، كما أخرَجَ مَن أعظَمَ له المَكِنَةَ بإسجادِ مَلائِكَتِه، وإسكانِ جَنَّتِه، وإباحَةِ كلِّ ما فيها غيرَ شَجَرةٍ واحدةٍ .

في قَولِه تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا إشارةٌ إلى الأدبِ في دُعاءِ اللهِ تعالى؛ حيث نسبَ آدمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المعصيةَ إلى نَفسِه؛ ولم يقُلْ: ربِّ قَدَّرْتَ عليَّ، وقَضَيتَ عليَّ ذلك

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

في قَولِه تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ دلالةٌ على أنَّ تَعرُّضَ الشَّيطانِ للأنبياءِ، لا يَقدَحُ في نبوَّتِهم عليهم السَّلامُ

.

في قَولِه تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ دلالةٌ على أنَّه ليس مِن شَرطِ المُوَسوِسِ أنْ يكون مُستَتِرًا عن البَصَرِ- بل قد يُشاهَدُ- فالكلامُ هنا هو كلامُ مَن يُعْرَفُ قائلُه، ليس شيئًا يُلقى في القَلبِ، لا يُدرى ممَّن هو .

في قَولِه تعالى: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ حكايةٌ لابتداءِ عَمَلِ الإنسانِ لِسَترِ نقائِصِه، وتحَيُّلِه على تجنُّبِ ما يكرَهُه، وعلى تَحسينِ حالِه بحَسَبِ ما يُخَيِّلُ إليه خيالُه، وهذا أوَّلُ مَظهرٍ مِن مظاهِرِ الحضارةِ .

قولُ الله تعالى: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ تأخَّرَ نداءُ الرَّبِّ إيَّاهما إلى أن بدَتْ لهما سَوآتُهما، وتحيَّلَا لِسَترِ عَوْراتِهما؛ ليَكونَ للتَّوبيخِ وَقعٌ مَكينٌ مِن نُفوسِهما، حين يقَعُ بعد أن تظهَرَ لهما مفاسِدُ عِصْيانِهما، فيعلَمَا أنَّ الخَيرَ في طاعةِ اللهِ، وأنَّ في عِصيانِه ضُرًّا .

قولُ الله تعالى: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ دلَّ على أنَّ كَشْفَ العَورةِ مِنَ المُنكَراتِ .

في قَولِه تعالى: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ دلالةٌ على أنَّ العُريانَ يلزَمُه سَترُ عَورتِه، فإنْ لم يجِدْ إلَّا حَشيشًا أو وَرَقًا يربِطُه عليه؛ فإنَّه يلزَمُه السَّترُ به؛ لأنَّه مُغَطٍّ للبَشَرةِ مِن غَيرِ ضَررٍ، فأشبَهَ الجُلودَ والثِّيابَ .

قولُ اللهِ تعالى: وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ فيه نُكتةٌ لَطيفةٌ، وهي أنَّه لَمَّا كان وَقتُ الهَناءِ شُرِّفَ بالتَّصريحِ باسْمِه في النِّداءِ، فقيلَ: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ، وحين كان وَقْتُ العِتابِ أخبَرَ أنَّه ناداه، ولم يُصَرِّحْ باسْمِه .

في قَولِه تعالى: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا دلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى لم يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذا شاءَ، وهو يتكَلَّمُ بمَشِيئَتِه وقُدرَتِه، فيتكَلَّمُ بشيءٍ بعدَ شيءٍ، ووجهُ ذلك: أنَّه سُبحانه ناداهما حين أكَلَا منها، ولم ينادِهما قبلَ ذلك .

يُستفادُ مِن قَولِه تعالى عن آدَمَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وقَولِه عن إبليسَ: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أنَّ مَن تاب أشبهَ أباه آدمَ، ومَن أَصَرَّ واحتجَّ بالقَدَر على المعاصِي أشبهَ إبليسَ .

في قَولِه تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ دلالةٌ على أنَّ الاعترافَ بالذَّنبِ يتضَمَّنُ طلبَ المغفرةِ؛ فإنَّ الطَّالبَ السَّائلَ تارةً يَسألُ بصيغةِ الطَّلَب؛ وتارةً يَسألُ بصيغةِ الخَبَرِ- إمَّا بوصْفِ حالِه، وإمَّا بِوَصفِ حالِ المَسؤولِ، وإمَّا بوَصفِ الحالَينِ-، وأيضًا الإخبارُ عَنِ اللهِ تعالى أنَّه إنْ لم يغفرْ لهما ويَرحَمْهما خَسِرَا؛ يتضَمَّنُ سُؤالَ المَغفرةِ كذلك ، فقوله تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ فيه دلالةٌ على أنَّ السُّؤالَ والطَّلَبَ قد يكون بصيغةِ الشَّرطِ .

إنَّما كَمُلَتْ فضائِلُ آدَمَ باعترافِه على نَفسِه، فقال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا  فكُلَّما أوقَدَ إبليسُ نارَ الحَسَدِ لآدَمَ، فاح بها رِيحُ طِيبِ آدَمَ، واحترَقَ إبليسُ بحَسَدِه .

في قَولِه تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ دلالةٌ على جوازِ وُقوعِ الصَّغائِرِ مِنَ الأنبياءِ، وإنَّما ابتلى اللهُ الأنبياءَ بالذُّنوبِ؛ رفعًا لدَرَجاتِهم بالتَّوبةِ، وتبليغًا لهم إلى مَحَبَّتِه وفَرَحِه بهم؛ فإنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوابِينَ، ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ، ويَفرَحُ بتَوبةِ التَّائبِ أشَدَّ فَرَحٍ، فالمقصودُ كَمالُ الغايةِ، لا نَقصُ البِدايةِ؛ فإنَّ العَبدَ يكونُ له الدَّرجةُ لا يَنالُها إلَّا بما قَدَّرَه اللهُ له مِنَ العَمَلِ أو البَلاءِ .

قال تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ طوى القرآنُ هنا ذِكرَ التَّوبةِ على آدَمَ؛ لأنَّ المقصودَ مِن القِصَّةِ في هذه السُّورةِ: التَّذكيرُ بِعَداوةِ الشَّيطانِ، وتحذيرُ النَّاسِ مِنِ اتِّباعِ وَسْوَسَتِه، وإظهارُ ما يُعقِبُه اتِّباعُه مِنَ الخُسرانِ والفَسادِ، ومقامُ هذه الموعظةِ يقتضي الإعراضَ عن ذِكرِ التَّوبةِ؛ للاقتصارِ على أسبابِ الخَسَارةِ .

قولُه تعالى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ذكَر فيه الإهباطَ بلفظِ الجمعِ اهْبِطُوا، وتارةً يذكرُه بلفظِ التثنيةِ اهْبِطَا [طه: 123] ، وتارةً بلفظِ الإفرادِ (اهْبِطْ)، فحيث ورَد بصيغة الجمعِ فهو لآدمَ وزوجِه وإبليسَ؛ إذ مدارُ القصةِ عليهم، وحيثُ ورَد بلفظ التثنيةِ فإمَّا أن يكونَ لآدمَ وزوجِه؛ إذ هما اللذان باشَرا الأكلَ مِن الشَّجرةِ، وأقْدَما على المعصيةِ، وإمَّا أن يكونَ لآدمَ وإبليسَ؛ إذ هما أبَوَا الثَّقلينِ، وأصْلَا الذُّريةِ، فذكَر حالَهما ومآلَ أمرِهما؛ ليكونَ عظةً وعبرةً لأولادهما، ولم يذكُرِ الزوجةَ؛ لأنَّها تبعٌ لآدمَ، وجاء الإهباطُ بالإفرادِ في قولِه تعالى لإبليسَ: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا

 

[الأعراف: 13] .

بلاغة الآيات:

 

قولُه: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فيه: تصديرُ الكلامِ بالنِّداءِ؛ للتَّنبيهِ على الاهتمامِ بتلَقِّي المأمورِ به. وتَخصيصُ الخِطابِ به عليه السَّلامُ؛ للإيذانِ بأصالَتِه في تلَقِّي الوَحْيِ، وتعاطِي المأمورِ به

.

وقوله: اسْكُنْ أَنْتَ فيه الإتيانُ بالضَّميرِ المنفصِلِ بعدَ الأمرِ؛ لقَصدِ زِيادةِ التَّنكيلِ بإبليسَ؛ لأنَّ ذِكْرَ ضَميرِه في مقامِ العَطفِ يُذَكِّرُ غَيرَه بأنَّه ليس مِثلَه؛ إذ الضَّميرُ، وإن كان مِن قَبيلِ اللَّقَبِ، وليس له مفهومُ مخالفةٍ؛ فإنَّه قد يُفيدُ الاحترازَ عَن غَيرِ صاحبِ الضَّميرِ بالقَرينةِ على طريقةِ التَّعريضِ .

قوله: فَوَسْوَسَ تجسيدٌ حَيٌّ، وتصويرٌ بليغٌ لدَأَبِ إبليسَ على الإغواءِ، وإجهادِه نَفْسَه لِحَمْلِها على أن تَزِلَّ بهما القَدَمُ، ويرتَطِما في مزالِقِ الشَّرِّ؛ فهو يُوسوِسُ إليهما المرَّةَ بعد المرَّةِ؛ فإنَّه كُلَّما تكَرَّرَتِ الحروفُ في اللَّفظِ الواحِدِ، كان ذلك إيذانًا بتكريرِ العَمَلِ .

قوله: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ جاءتْ قَاسَمَهُمَا على زِنَةِ المُفاعلة للمُبالغةِ؛ ليدُلَّ على أنَّه حَصَلت بينهما في ذلك مُراوغاتٌ ومُحاولاتٌ بُذِلَ فيها الجُهدُ، وفيه تأكيدُ إخبارِ إبليسَ عَن نَفسِه بالنُّصحِ لآدَمَ وزَوجِه بثلاثِ مُؤَكِّداتٍ- إنَّ واللَّامُ في لَمِنَ والجُملة الاسميَّة- مِمَّا يَدُلُّ على مَبلَغِ شَكِّهِما في نُصحِه لَهما، وما رأى عَلَيهما مِن مَخائِلِ التَّرَدُّدِ في صِدْقِه .

قولُه: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فيه تمثيلُ حالِ مَن يطلُبُ شَيئًا مِن مَظِنَّتِه فلا يجِدُه، بِحالِ مُن يُدَلِّي دَلْوَه أو رِجْلَيه في البِئرِ؛ ليَسْتَقيَ مِن مائِها فلا يَجِدُ فيها ماءً، فيُقال: دلَّى فلانٌ، كما يُقالُ: أَدْلَى .

قوله تعالى: وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ عَطَفَ جُملةَ: وَأَقُلْ لَكُمَا على جملةِ: أَنْهَكُمَا؛ للمبالغةِ في التَّوبيخِ؛ لأنَّ النَّهيَ كان مشفوعًا بالتَّحذيرِ مِنَ الشَّيطانِ الذي هو المُغْرِي لهما بالأكلِ مِنَ الشَّجَرةِ، فهُما قد أضاعَا وَصِيَّتينِ .

والاستفهامُ في قَولِه: أَلَمْ أَنْهَكُمَا للتَّقريرِ والتَّوبيخِ، وأُولِيَ هذا الاستِفهامُ حرْفَ النَّفيِ زيادةً في التَّقريرِ؛ لأنَّ نَهيَ اللهِ إيَّاهما واقِعٌ، فانتفاؤُه مُنتَفٍ، فإذا أُدخِلَتْ أداةُ التَّقريرِ، وأَقَرَّ المُقَرِّرُ بضِدِّ النَّفيِ، كان إقرارُه أقوى في المؤاخَذةِ بِمُوجِبِه؛ لأنَّه قد هُيِّئَ له سَبيلُ الإنكارِ، لو كان يستطيعُ إنكارًا؛ ففِي هذا الاستفهامِ عِتابٌ مِنَ اللهِ تعالى وتوبيخٌ، وتنبيهٌ على الخَطأِ؛ حيثُ لم يَتحَذَّرا ما حَذَّرَهما اللهُ مِن عداوةِ إبليسَ .

قوله: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ فيه تَقديمُ المَجْروراتِ الثَّلاثةِ (فيها - فيها - منها) على مُتَعَلِّقاتِها (تَحْيَون - تَمُوتون - تُخرَجون)؛ للاهتمامِ بالأَرضِ التي جُعِلَ فيها قَرارُهم ومتاعُهم؛ إذ كانتْ هي مَقَرَّ جَميعِ أحوالِهم

=======================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (26-30)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ

غريب الكلمات:

 

وَرِيشًا: الرِّيشُ المَتَاعُ والأموالُ

، ويُطلَقُ على ما ظهَر مِنَ اللِّباسِ، ولِباسِ الزِّينةِ، وكلِّ ما ستَرَ الإِنسانَ في جِسمِه ومَعِيشَتِه، ورُبَّمَا اسْتُعْمِلَ فِي الثِّيَابِ والكِسْوَةِ دونَ سائِرِ المَالِ، وأَصْلُ (ريش): يَدُلُّ على حُسْنِ الحالِ، وما يَكتَسِبُ الإنسانُ مِن خيرٍ .

لَا يَفْتِنَنَّكُمُ: أي: لا يَخدَعَنَّكم، أو لا يَصْرِفَنَّكم، والفِتنةُ تُطلَق على: الشِّرْك والكُفر، والشَّرِّ والعَذابِ، وهي في الأصلُ: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحانُ، مأخوذةٌ مِنَ الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهَبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودَتُه مِن رَداءتِه .

يَنْزِعُ: نزْعُ الشَّيءِ: جذْبُه مِن مَقرِّه، وفَصلُه عنه أو اقتِلاعُه، وأصلُ (نزع): يَدُلُّ على قلْعِ شيءٍ .

وَقَبِيلُهُ: أي: أصحابُه وجُندُه، وجِيلُه وأمَّتُه، وصِنْفُه وجِنسُه الَّذي هو منه، وهم الجِنُّ، وقَبيلُ القَومِ: عَريفُهم؛ وسُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه يُقبِل عليهم يَتعرَّفُ أُمورَهم، وأصل (قبل): يدلُّ على مُواجهةِ الشَّيءِ للشَّيءِ .

فَاحِشَةً: أي: فِعلةً مُتناهِيةً في القُبحِ، وأصلُ (فحش) يدلُّ على قُبحٍ في شَيءٍ وشَناعةٍ .

الضَّلَالَةُ: أي: الضَّلالُ، وهو العُدولُ عن الطَّريقِ المُستقيمِ، وأصل (ضلل): ضَياعُ الشَّيءِ، وذَهابُه في غيرِ حقِّه

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ

وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ: قُرِئ بالرَّفْع ولِبَاسُ التَّقْوَى وقُرِئ بالنَّصبِ وَلِبَاسَ التَّقْوَى، فعلى قراءةِ الرَّفْعِ فقولُه: لِبَاسُ مُبتدأٌ مرفوعٌ، وذَلِكَ مُبتدأٌ ثانٍ، وخَيْرٌ خبرُ المبتدأِ الثاني، والمبتدأُ الثَّاني وخبرُه ذَلِكَ خَيْرٌ خبرٌ للمُبتدأِ الأوَّل لِبَاسُ، والرابطُ هنا اسمُ الإشارةِ. أَوْ يكونُ لِبَاسُ مبتدأً، وذَلِكَ بَدلًا منه، أو عَطْفَ بيانٍ له، ويكونُ خَيْرٌ خبرًا لـلِبَاسُ، وقِيلَ غيرُ ذلك. وأمَّا على قِراءةِ النَّصبِ وَلِبَاسَ التَّقْوَى، فهو حِينئذٍ معطوفٌ على لِبَاسًا، أي: أَنْزَلْنا لِباسًا يُوارِي سَوآتِكم، وأَنْزلْنا أَيضًا لِبَاسَ التَّقْوى، وعلى هذا الوَجهِ فجُملةُ ذَلِكَ خَيْرٌ استئنافيَّةٌ لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ، أو حالٌ مِن لِبَاسًا وما عُطِفَ عليه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ اللهُ تعالى بني آدَمَ أنَّه خلقَ لهم لباسًا يستُرُ عَوراتِهم، ورَزَقَهم الأثاثَ واللِّباسَ الفاخِرَ الذي يتزيَّنونَ به، وأعلَمَهم أنَّ لِباسَ التَّقوى خيرٌ مِن  ذلك، وأخبَرَ أنَّ ما مَنَّ به مِن ذلك عليهم هو مِن آياته التي خَلَقَها لهم؛ لعَلَّهم يتذكَّرونَ.

ثم حذَّرَ اللهُ بني آدَمَ مِن أن يخدَعَهم الشَّيطانُ بِتَزيينِه المعاصِيَ لهم، كما خدَعَ أبَوَيهِم آدَمَ وحوَّاءَ، فكان سببًا في خروجِهما مِنَ الجنَّةِ؛ ينزِعُ عنهما لِباسَهما؛ لِيُرِيَهما عَوْراتِهما التي كانت مستترةً، وأعلَمَهم تعالى أنَّ الشَّيطانَ يَراهم هو وذُرِّيتُه مِن حيثُ لا يرونَهم هم، وأنَّه جعلَ الشَّياطينَ أولياءَ للَّذين لا يؤمنون.

وإذا فعل الكُفَّارُ ما يُستفحَشُ ويُستقبَحُ- كَطَوافِهم عُراةً- اعتذروا أنَّهم وَجَدوا آباءَهم كذلك يفعلونَ، واللهُ أمَرَهم به، فأمَرَ اللهُ نَبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُبَيِّنَ لهم أنَّ الله لا يأمُرُ بالفَحشاءِ، أيقولونَ على اللهِ ما لا يعلمونَ، وأمَرَه أن يقولَ لهم إنَّ رَبَّه جَلَّ وعلا أمَرَ بالعَدلِ، وليتوجَّهوا في صلاتِهم إلى اللهِ وحده، في أيِّ مسجدٍ كانوا، ولْيَدعوه مُخلصينَ له الدِّينَ، ثمَّ ذكَّر الله تعالى بالمبدأ والنهايةِ، وأنَّه كما خَلَقَكم أوَّلَ مَرَّةٍ بعد أن كُنتم عَدمًا، فكذلك ستَعودونَ إليه يومَ القيامةِ.

فريقًا منهم هداهم الله، وفريقًا وجَبَتْ عليهم الضَّلالة، هؤلاء الذين وَجَبَت عليهم الضَّلالةُ اتَّخذوا الشَّياطينَ أولياءَ مِن دُونِ الله، ويظنُّون أنَّهم مُهتدونَ.

تفسير الآيات:

 

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ أنَّه أمر آدَمَ وحوَّاءَ بالهُبوطِ إلى الأرضِ، وجعَلَ الأرضَ لهما مُستقَرًّا؛ بَيَّنَ بَعده أنَّه تعالى أنزَلَ كلَّ ما يحتاجونَ إليه في الدِّينِ والدُّنيا، ومن جُملَتِها اللِّباسُ الذي يُحتاجُ إليه في الدِّينِ والدُّنيا

.

وأيضًا لَمَّا ذكر تعالى واقعةَ آدَمَ في انكشافِ العَورةِ أنَّه كان يخصِفُ الوَرَقَ عليها؛ أتبَعَه بأن بَيَّنَ أنَّه خَلقَ اللِّباسَ للخَلقِ؛ ليستُرُوا به عَورَتَهم، ونَبَّه به على المِنَّةِ العظيمةِ على الخَلقِ؛ بِسَبَب أنَّه أقدَرَهم على التستُّرِ ، فقال تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا

أي: يا بني آدَمَ، قد خَلَقْنا لكم ورَزَقْناكم ما تَلْبَسون مِنَ الثِّيابِ .

يُوَارِي سَوْآتِكُمْ

أي: لباسًا يَستُرُ عَوْراتِكم .

وَرِيشًا

أي: وخَلَقْنا لكم ورَزَقْناكم الأثاثَ واللِّباسَ الفاخِرَ الذي تتزَيَّنونَ وتتجَمَّلونَ به .

وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قوله تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ قراءتان:

قراءةُ وَلِبَاسَ عطفًا على رِيشًا، والمعنى: قد أنزَلْنَا عليكم لباسًا يُوارِي سوآتِكم وريشًا، وأنزَلْنا لباسَ التَّقوى .

قراءة وَلِبَاسُ مبتدأٌ و(ذلك) بدلٌ منه، أو عَطفُ بيانٍ له، و(خَيْرٌ) خبَرُه، والمعنى: لباسُ التقوى ذلك الذي قد عَلِمْتُموه خيرٌ لكم يا بني آدَمَ مِن لِباسِ الثِّيابِ التي تُوارِي سَوْآتِكم، ومِنَ الرِّياشِ التي أنزَلْناها إليكم؛ فالبَسُوه .

وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ

أي: واستشعارُ النُّفوسِ تقوى اللهِ: بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، والحياءِ وخَشيةِ اللهِ، والسَّمتِ  الحَسَنِ؛ خيرٌ لصاحِبِه من اللِّباسِ والرِّياشِ الذي يُتجَمَّلُ به .

ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ

أي: ذلك اللِّباسُ والرِّياشُ مِن آياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على رَحمَتِه بعبادِه؛ خَلَقَه لهم لكي يعرِفوا عَظيمَ النِّعمة فيه، ولِيَتَّعِظوا ويعتَبِروا في صُنعِه، فيُوحِّدوه سبحانه، ويُنِيبوا إلى الحَقِّ، ويترُكوا الباطِلَ .

قال تعالى: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 3-6] .

وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [غافر: 79-81] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] .

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ

أي: يا بني آدَمَ؛ لا تُمكِّنوا الشَّيطانَ مِن خِداعِكم بتزيينِه المعاصِيَ لكم، كما خدَعَ أباكم آدَمَ وأُمَّكُم حوَّاءَ، فأطاعاه وعَصَيا ربَّهما، فأخرَجَهما بمَكْرِه مِنَ الجنَّةِ .

يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا

أي: نزع الشَّيطانُ عن آدمَ وحَوَّاءَ ما رزَقَهما اللهُ مِنَ اللِّباسِ؛ ليكشف عَورةَ كُلِّ واحدٍ منهما بعد أن كانَتْ مُستَترةً، ويُظهِرَها لأعيُنِهما .

إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ

أي: إنَّ الشَّيطانَ يراكم هو وذُرِّيتُه، وأنتم لا تَرونَهم .

إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ

أي: إنَّا سلَّطْنا الشَّياطينَ على الكفَّارِ، فيزيدونَهم ضلالًا .

كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37] .

وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99-100] .

وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام: 121] .

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً

أي: وإذا فعَلَ الكُفَّارُ ما يُستفحَشُ ويُستقبَحُ مِنَ الأفعالِ؛ مثل طوافِهِم بالبَيتِ عُراةً .

قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا

أي: قالوا وَجَدْنا آباءَنا يفعلونَ هذا، فنحنُ نقتدي بهم، واللهُ أمَرَنا به، فنحن نتَّبِعُ أمْرَه .

قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- لِمَن ادَّعى ذلك: إنَّ اللهَ لا يأمُرُ عبادَه بقبائِحِ الأفعالِ، ولا يليقُ ذلك بكَمالِه وحِكمَتِه، كهذا التَّعرِّي الذي تصنَعونَه، وتزعمونَ أنَّ اللهَ سبحانه أمَرَكم به .

أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

أي: أَتَزعمونَ أنَّ اللهَ أمَرَكم بالفاحشةِ- مثلَ زَعمِكم أنَّه أمَرَكم بالتَّعَرِّي في الطَّوافِ- وأنتم لا تَعلمونَ أنَّه أمَرَكم بذلك .

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ الذين يَزعمونَ أنَّ اللهَ أمَرَهم بالفَحشاءِ: ما أمَرَ رَبِّي بما تَزعُمونَ، بل أمَرَ بالعَدلِ في العِباداتِ بتَوحيدِه، وفي المُعاملاتِ بأداءِ حُقوقِ عِبادِه .

وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ

أي: تَوَجَّهوا في صلاتِكم إلى اللهِ وَحدَه، في أيِّ مَسجدٍ كُنتم، واجتَهِدوا في إقامَةِ الصَّلاةِ ظاهِرًا وباطِنًا وَفقَ ما شَرَعه اللهُ تعالى .

كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم: 30] .

وقال سبحانه: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] .

وعن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا قام إلى الصَّلاةِ، قال: ((وجَّهْتُ وَجهِيَ لِلَّذي فطَرَ السَّمواتِ والأرضَ حنيفًا، وما أنا مِنَ  المُشركينَ، إنَّ صَلاتي ونُسُكي، ومَحْياي ومماتي، لله رَبِّ العالَمينَ، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ، وأنا مِنَ المُسلمينَ )) .

وعن البَراء بنِ عازبٍ رَضِيَ الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوصى رجلًا، فقال: ((إذا أرَدْتَ مَضجَعَك فقل: اللهُمَّ أسلَمْتُ نَفْسي إليك، وفوَّضْتُ أمري إليك، ووجَّهْتُ وَجْهي إليك، وألجَأْتُ ظَهري إليك؛ رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجَأَ ولا منجا منك إلَّا إليك، آمنْتُ بكتابِك الذي أنزَلْتَ، وبنبِيِّكَ الذي أرسَلْتَ؛ فإنْ مُتَّ مُتَّ على الفِطرةِ )) .

وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

أي: وادْعُوا اللهَ، واعبُدُوه وَحدَه لا شريكَ له .

كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ

أي: كما خَلَقَكم اللهُ أوَّلَ مَرَّةٍ، فجَعَلكم أحياءً بعد أنْ كُنتم عَدَمًا؛ فكذلك تَعودونَ إليه يومَ القِيامةِ، فيبعَثُكم مِن قُبُوركم أحياءً بعد مَوتِكم .

كما قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] .

وقال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] .

وقال تبارك وتعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 78-79] .

وعنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّكم مَحشُورونَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، ثمَّ قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] )) .

فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ

أي: طائفةً منكم وفَّقَها اللهُ تعالى، ويسَّرَ لها أسبابَ الهِدايةِ، وطائفةً وَجَبتْ عليها الضَّلالةُ، ولَزِمَتْها بعد أن بَيَّنَ لها الهُدى، فلم تَقبَلْ به، وعَمِلَتْ بأسبابِ الغَوايةِ .

كما قال الله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر: 36-37] .

وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .

إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

أي: إنَّ الفَريقَ الذي ثبتَتْ عليهم الضَّلالةُ إنَّما ضَلُّوا بسبَبِ اتِّخاذِهم الشَّياطينَ أنصارًا وأعوانًا يتولونهم مِن دُونِ اللهِ، فأطاعوهم فيما يخالفُ ما شرعَه، فطابَتْ نُفُوسُهم بوَسْوَسَتِهم، وأْتَمَروا بأَمرِهم .

كما قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد: 25-26] .

وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ

أي: ويظنُّ أولئك الضَّالُّونَ أنَّهم على الهُدى

 

.

كما قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 103- 105] .

وقال سُبحانه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8] .

الفوائد التربوية:

 

1- قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ فيه إيماءٌ إلى عُلُوِّ رُتبةِ لِباسِ التَّقوى، وحُسنِ عاقِبَتِه؛ لكونِه أهمَّ اللِّباسَينِ؛ لأنَّ نَزعَه يكون بكَشفِ العَورةِ الحِسِّيَّةِ والمعنويَّة، فلو تجمَّلَ الإنسانُ بأحسَنِ المَلابِسِ، وهو غيرُ مُتَّقٍ؛ كان كلُّه سَوْءاتٍ، ولو كان مُتَّقيًا وليس عليه إلَّا خُريقةٌ تُواري عَوْرَتَه، كان في غايةِ الجَمالِ والسِّترِ والكَمالِ

.

 

2- أنعَمَ على عبادِه بزينتَينِ ولِباسَينِ: زينةٌ تُجَمِّلُ ظواهِرَهم، وزينةٌ مِنَ التَّقوى تُجَمِّلُ بواطِنَهم؛ قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ

 

3- في قولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ شَبَّه الفُتُونَ الصَّادِرَ مِنَ الشَّيطانِ للنَّاسِ، بفَتْنِه آدَمَ وزَوجَه؛ إذ أقدَمَهما على الأكلِ مِنَ الشَّجرةِ المنهيِّ عنها، فأخرَجَهما مِن نعيمٍ كانا فيه- تذكيرًا للبَشَرِ بأعظَمِ فِتنةٍ فَتَنَ الشَّيطانُ بها نوعَهم؛ إذ حَرَمَهم مِنَ النَّعيمِ الذي كان يتحَقَّقُ لهم لو بَقِيَ أبَواهم في الجنَّةِ وتناسَلا فيها، وفيه أيضًا تذكيرٌ بأنَّ عَداوةَ البَشَرِ للشَّيطانِ مَوروثةٌ، فيكونُ أبعَثَ لهم على الحَذَرِ مِن كَيدِه .

 

4- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ فيه أنَّ الشَّيطانَ أقدَرُ على فِتنةِ بني آدَمَ بوسائِلِه الخفيَّةِ؛ فهم مُحتاجونَ إلى شِدَّةِ الاحتياطِ، وإلى مُضاعَفةِ اليَقَظة، وإلى دَوامِ الحَذَر، كي لا يأخُذَهم على غِرَّةٍ ، قال مالكُ بنُ دينار: (إنَّ عَدُوًّا يراك ولا تَراه؛ لَشديدُ المَئُونةِ، إلَّا مَن عَصَم اللهُ) .

 

5- عدمُ الإيمانِ هو الموجِبُ لعَقدِ الوِلايةِ بين الإنسانِ والشَّيطانِ؛ قال اللهُ تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ .

 

6- قولُه تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ فيه الأمرُ بالعَدلِ والاعتدالِ في الأمورِ كُلِّها؛ في العباداتِ والمعاملاتِ، وتركِ الظلمِ والجَورِ، والبُعدِ عَنِ الفُحشِ والتَّجاوُزِ .

 

7- قولُه: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ  فيه الأمرُ بالتوجهِ لله، والاجتهادِ في تكميلِ العباداتِ، خصوصًا الصلاة، وإقامتِها ظاهرًا وباطنًا، وتنقيتِها مِن كلِّ نقصٍ ومفسدٍ .

 

8- يُرشِدُنا قولُ اللهِ تعالى: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ إلى تجريدِ التَّوحيدِ مِن كلِّ شائبةٍ، والإخلاصِ للهِ في العبادةِ

 

9- في قولِه تعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ تذكيرٌ بالبعثِ والجَزاءِ على الأعمالِ، ودعوةٌ إلى الإيمانِ به، في إثْرِ بيانِ أصْلِ الدِّينِ، ومَناطِ الأمْرِ فيه، والنَّهيِ الوارِدِ في سياقِ أصلِ تَكوينِ البَشَرِ، واستعدادِهم للإيمانِ والكُفرِ والخَيرِ والشَّرِّ، وما للشَّيطانِ في ذلك مِن إغواءِ الكَافرينَ الذينَ يتَوَلَّونَه، وعدم سُلطانِه على المؤمنينَ الذين يتولَّونَ اللهَ ورسولَه .

 

10- في قولِه تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ هذا كُلُّه إنذارٌ مِنَ الوُقوعِ في الضَّلالةِ، وتحذيرٌ مِنِ اتِّباعِ الشَّيطانِ، وتَحريضٌ على تَوَخِّي الاهتداءِ الذي هو مِنَ الله تعالى؛ فالفريقُ المُفلِحُ هو الفريقُ الذين هداهم اللهُ تعالى، والفريقُ الخاسِرُ هم الذين حَقَّتْ عليهم الضَّلالةُ، واتَّخذوا الشَّياطينَ أولياءَ مِن دُونِ اللهِ .

 

11- الهِدايةُ تكونُ بِفَضلِ اللهِ تعالى، ومَنِّه على العَبدِ، والضَّلالةُ تكون بخِذْلانِه للعبدِ، إذا تولَّى- بجَهلِه وظُلمِه- الشَّيطانَ، وتسبَّبَ لنَفسِه بالضَّلالِ، وأنَّ مَن حَسِبَ أنَّه مهتدٍ وهو ضالٌّ، فإنَّه لا عُذرَ له؛ لأنَّه متمَكِّنٌ مِنَ الهدى، وإنمَّا أتاه حُسبانُه مِن ظُلمِه بتَركِ الطَّريقِ المُوصِل إلى الهُدى، يُرشِدُنا إلى ذلك قولُه تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا خاطَبَ اللهُ تعالى بني آدَمَ في هذه الآيةِ وأمثالِها بالنِّداءِ الذي يُخاطَبُ به البعيدُ؛ لِمَا كان عليه عَرَبُهم وعَجَمُهم عند نُزُولِ هذه السُّورةِ في مَكَّةَ مِنَ البُعدِ عَنِ الفِطرةِ السَّليمةِ، والشِّرعةِ القَويمةِ؛ تنبيهًا للأذهانِ بما يقرَعُ الآذانَ، فامتَنَّ عليهم- بعد أنْ أنبَأَهم بما كان مِن عُرْيِ سَلَفِهم الأوَّلِ- بما أنعَمَ به عليهم مِنَ اللِّباسِ على اختلافِ دَرَجاتِه وأنواعِه، مِنَ الأدنى الذي يستُرُ السَّوءةَ عن أعيُنِ النَّاسِ، إلى أنواعِ الحُلَلِ التي تُشبِهُ رِيشَ الطَّيرِ في وِقايةِ البَدَنِ مِنَ الحَرِّ والبَردِ بِسَترِ جَميعِ البَدَنِ

.

 

2- قال اللهُ تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا امتنانُ اللهِ تعالى على بَني آدَمَ بلِباسِ الزِّينةِ يدُلُّ على استحبابِها ، وأنَّ الزِّينةَ غَرَضٌ صَحيحٌ .

 

3- قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا فيه امتنانُ الله على عبادِه بما يسَّرَ لهم مِنَ اللِّباسِ الضروريِّ، واللباسِ الذي المقصودُ منه الجمالُ، وبيانُ أنَّ هذا ليس مقصودًا بالذات، وإنَّما أنزله الله ليكونَ معونةً لهم على عبادتِه وطاعتِه، ولهذا قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ من اللباسِ الحسيِّ، فإنَّ لباسَ التقوَى يستمرُّ مع العبدِ، ولا يبلَى ولا يبيدُ، وهو جمالُ القلبِ والرُّوح .

 

4- في قَولِه تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ دلالةٌ على جَوازِ إطلاقِ الثِّيابِ على العَمَلِ، ومِنه قولُه تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] على أحدِ الأقوالِ فيها .

 

5- اللِّباسُ مِن أصلِ الفِطرةِ الإنسانيَّةِ، وهو ممَّا كَرَّمَ اللهُ به الإنسانَ منذُ ظُهُورِه في الأرضِ، والعُرْيُ والتكشُّفُ عَمَلٌ مِن أعمالِ الفِتنةِ الشَّيطانيَّةِ؛ قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا

 

6- قولُ الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا استُدِلَّ به على وُجوبِ سَترِ العَورةِ .

 

7- في قَولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إشارةٌ إلى أنَّ الشَّيطانَ كما نَزَعَ عن الأبَوَينِ لباسَهما بمعصيةِ اللهِ وطاعَةِ الشَّيطانِ؛ فكذلك قد يَنزِعُ عن الذُّريَّةِ لِباسَ التَّقوى، ولباسَ البَدَنِ؛ لِيُرِيَها سَوْآتِها .

 

8- استُدلَّ بقَولِه تعالى: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ على أنَّ الجدَّ يُسمَّى أبًا .

 

9- لَمَّا سُلِّطَ إبليسُ وجُنودُه على بني آدَمَ هذا التَّسليطَ العظيمَ الذي لا يكادُ يَسلَمُ معه أحدٌ؛ قال الله تعالى- مُخَفِّفًا لأمرِهم، مُوهِيًا في الحقيقةِ لكَيدِهم- إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، أي: وأمَّا أولياؤُنا الذين مَنَعناهم بقُوَّتِنا منه، أو فَتنَّاهم يسيرًا بهم، ثمَّ خَلَّصْناهم بلُطْفِنا منهم؛ فليسوا لهم بأولياءَ .

 

10- في قولِ الله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ دليلٌ على أنَّ الأوامِرَ والنَّواهيَ الإلهيَّةَ تابعةٌ للحِكمةِ والمصلحةِ؛ حيث ذكر تعالى أنَّه لا يُتصَوَّر أن يأمُرَ بما تستفحِشُه وتُنكِرُه العُقولُ، وأنَّه لا يأمُرُ إلَّا بالعدلِ والإخلاصِ .

 

11- حُصِرَت جميعُ الواجباتِ في قولِه تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي باِلقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فالواجِبُ كُلُّه محصورٌ في حقِّ الله وحَقِّ عِبادِه؛ وحَقُّ اللهِ على عِبادِه أن يعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، وحقوقُ عبادِه العَدلُ .

 

12- قَولُ اللهِ تعالى: وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يدلُّ على أنَّ الكافِرَ- الذي يظُنُّ أنَّه في دينِه على الحقِّ- والجاحِدَ المعانِدَ؛ سواءٌ .

 

13- قال تعالى: وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ هذا مِن أبيَنِ الدَّلالةِ على خطأِ قَولِ مَن زَعَمَ أنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ أحدًا على معصيةٍ رَكِبَها، أو ضلالةٍ اعتَقَدها؛ إلَّا أن يأتِيَها بعد عِلمٍ منه بصوابِ وَجهِها فيَركَبها عنادًا منه لرَبِّه فيها؛ لأنَّ ذلك لو كان كذلك، لم يكُنْ بَينَ فَريقِ الضَّلالةِ- الذي ضَلَّ وهو يحسَبُ أنَّه مهتدٍ- وفريقِ الهُدى؛ فَرْقٌ، وقد فَرَّقَ اللهُ بين أسمائِهما وأحكامِهما في هذه الآيةِ .

 

14- قولُ الله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ضمَّن (تقولونَ) معنَى (تكذِبون) أو معنى (تتقوَّلونَ)، فلذلك عُدِّي بـ(على)، وكان حقُّه أن يعدَّى بـ (عن) لو كان قولًا صحيحَ النِّسبةِ .

 

15- في قوله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ إذا كان التوبيخُ واردًا على أن يَقولوا على اللهِ ما لا يَعلمونَ؛ كان القولُ على اللهِ بما يتحقَّقُ عدَمُ ورُودِه مِنَ اللهِ أحرَى .

 

16- قال الله تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، عَطْفُ جُملةِ: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ على جملة: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، واعتبارُهما سواءً في الإخبارِ عَنِ الفَريقِ الذين حَقَّتْ عليهم الضَّلالةُ؛ لِقَصدِ الدَّلالةِ على أنَّ ضَلالَهم حاصِلٌ في كُلِّ واحدٍ مِنَ الخَبَرينِ؛ فوِلايةُ الشَّياطينِ ضَلالةٌ، وحِسْبانُهم ضَلالَهم هُدًى، ضلالةٌ أيضًا، سواءٌ كان ذلك كُلُّه عن خطأٍ أو عَن عِنادٍ؛ إذ لا عُذرَ للضَّالِّ في ضَلالِه بالخَطَأِ؛ لأنَّ اللهَ نَصَبَ الأدلَّةَ على الحَقِّ، وعلى التَّمييزِ بَينَ الحَقِّ والباطِلِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا فيه تكريرُ النِّداءِ؛ للإيذانِ بكَمالِ الاعتناءِ بمَضمونِ ما صُدِّرَ به، وقد ابتُدِئَ الخِطابُ بالنِّداءِ؛ ليقعَ إقبالُهم على ما بَعدَه بهِمَمِ قُلوبِهم

.

وكان لاختيارِ استحضارِهم عند الخِطابِ بعنوانِ (بني آدم) مرَّتينِ وَقْعٌ عَجيبٌ بعدَ الفَراغِ مِن ذِكرِ قِصَّةِ خَلقِ آدَمَ، وما لَقِيَه مِن وَسوَسةِ الشَّيطان؛ وذلك أنَّ شأنَ الذريَّةِ أن تَثْأَرَ لآبائِها، وتُعادِيَ عَدُوَّهم، وتحتَرِسَ مِنَ الوُقوعِ في شَرَكِه .

وفيه: تعريضٌ بالمُشركينَ؛ إذ جَعلوا مِن قُرُباتِهم نَزعَ لِباسِهم بأن يحُجُّوا عُراةً .

قوله: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ أُطلِقَ على تقْوى الله وخَشيَتِه اسمُ اللِّباسِ؛ تَشبيهًا لمُلازَمةِ تقوى اللهِ بملازَمةِ اللَّابِسِ لِباسَه .

واسمُ الإشارةِ ذَلِكَ- على القَولِ بأنَّه مُبتدأٌ ثانٍ- استُعمِلَ مكانَ الضَّميرِ في الرَّبطِ، وجُعِلَتْ جملةُ ذَلِكَ خَيْرٌ خبرًا لِقَولِه: وَلِبَاسُ التَّقْوَى؛ فدلَّ على تأكيدِ مَضمُونِها بتَكرارِ الإسنادِ ، وأيضًا في الفَصْلِ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ المُقتَرِن بأداةِ البُعدِ؛ إيماءٌ إلى عُلُوِّ رُتبةِ لِباسِ التَّقوى، وحُسنِ عاقِبَتِه .

قوله: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيه التفاتٌ مِنَ الخطابِ إلى الغَيبةِ؛ إذ كان مُقتضى الظَّاهِر أن يُقال: (لعلَّكم تَذكَّرون)، وفي هذا الالتفاتِ تَعريضٌ بمَن لم يتذكَّرْ مِن بني آدم، فكأنَّه غائِبٌ عن حَضرةِ الخِطابِ .

قوله: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا نُهُوا عن أن يفتِنَهم الشَّيطانُ، أي: لا تُمكِّنوا الشَّيطانَ من أنْ يَفتِنَكم، والمعنى النَّهيُ عن طاعتِه، وهذا مِن مبالغةِ النَّهيِ؛ فالمعنى: لا تُطيعوا الشَّيطانَ في فَتْنِه فيفتِنَكم، ومثلُ هذا كنايةٌ عن النَّهيِ عن فِعلٍ، والنَّهيِ عن التعرُّضِ لأسبابِه .

وقوله: يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا استئنافٌ لتَعليلِ النَّهيِ، وتأكيدِ التَّحذيرِ منه ، والتَّعبيرُ عمَّا مضَى بالفِعلِ المُضارعِ في قوله: يَنْزِعُ؛ لاستحضارِ الصُّورةِ العَجيبةِ مِن تمكُّنِه مِن أنْ يترُكَهما عُرْيانَينِ، ونزْعُ اللِّباسِ تَمثيلٌ لحالِ التَّسَبُّب في ظُهورِ السَّوءةِ .

قولُه: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هو وَقَبِيلُهُ فيه تأكيدُ الخَبَرِ بحَرَفِ التَّوكيد إِنَّ لتنزيلِ المُخاطَبينَ في إعراضِهم عن الحذَرِ مِنَ الشَّيطانِ وفِتنَتِه منزلةَ مَن يتردَّدونَ في أنَّ الشَّيطانَ يراهم، وفي أنَّهم لا يَرونَه .

وجملة: إِنَّه يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ واقعةٌ موقِعَ التَّعليلِ للنَّهيِ عن الافتتانِ بفِتنةِ الشَّيطانِ، والتحذيرِ من كيدِه؛ لأنَّ شَأنَ الحَذِرِ أن يَرصُدَ الشَّيءَ المَخُوفَ بنَظَرِه؛ ليحتَرِسَ منه إذا رأى بوادِرَه، فأخبَرَ اللهُ النَّاسَ بأنَّ الشَّياطينَ ترى البَشرَ، وأنَّ البَشَرَ لا يرونَها، إظهارًا للتَّفاوُتِ بين جانِبِ كَيدِهم، وجانِبِ حَذَرِ النَّاسِ؛ فإنَّ جانِبَ كيدِهم قَوِيٌّ متمَكِّنٌ، وجانِبَ حَذَرِ النَّاسِ منهم ضعيفٌ؛ لأنَّهم يأتون المَكيدَ مِن حيثُ لا يدري .

قوله: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أولِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ جملةٌ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ قُصِدَ منه الانتقالُ إلى أحوالِ المُشركينَ في ائتِمارِهم بأمرِ الشَّيطانِ؛ تَحذيرًا للمؤمنينَ مِن الانتظامِ في سِلكِهم، وتنفيرًا مِن أحوالِهم ، وهي تعليلٌ آخَرُ للنَّهيِ، وتأكيدٌ للتَّحذيرِ إثرَ تَحذيرٍ .

وفيه: تأكيدُ الخَبَر بحَرفِ التَّأكيدِ (إِنَّ)؛ للاهتمامِ بالخَبَر بالنِّسبة لِمَن يَسمَعُه مِنَ المؤمنينَ .

قوله: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا فيه إيجازٌ؛ إذ المفهومُ أنَّهم إذا فَعَلوا فاحشةً فأنكَرْتَ عليهم أو نُهُوا عنها؛ قالوا: وَجَدْنا عليها آباءَنا... .

وجاء الشَّرطُ بحَرْفِ إِذَا الذي مِن شَأنِه إفادةُ اليَقينِ بوُقوعِ الشَّرطِ؛ ليُشِيرَ إلى أنَّ هذا حاصِلٌ منهم لا محالةَ .

قولُه: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ الاستفهامُ في قولِه: أَتَقُولُونَ إنكاريٌّ، وفيه تَوبِيخٌ لهم على كَذِبِهم، وتَوقيفٌ على ما لا عِلْمَ لهم به، ولا رِوايةَ لهم فيه، بل هي دَعْوَى واختلاقٌ .

قوله: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ

فُصِلَتْ جُملةُ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ عن التي قبلَها، ولم يُعطَفِ القَولُ على القَولِ، ولا المَقولُ على المَقولِ؛ لأنَّ في إعادةِ فِعلِ القَولِ، وفي تَركِ عَطفِه على نظيرِه؛ لَفْتًا للأذهانِ إليه .

وقولُه: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ إقامةُ الوُجوهِ تمثيلٌ لِكَمالِ الإقبالِ على عِبادةِ اللهِ تعالى في مواضِعِ عِبادَتِه، بحالِ المُتَهيِّئِ لمُشاهَدةِ أمرٍ مُهِمٍّ حين يوجِّه وَجهَه إلى صَوْبِه، لا يلتفِتُ يَمنةً ولا يَسرةً .

وقوله: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ كَمَا مُركَّبَةٌ من الكاف و(ما)؛ فالكافُ لِتَشبيهِ عَودِ خَلْقِهم ببَدئِه، و(ما) مصدريةٌ، والتقديرُ: تَعودونَ عَودًا جديدًا كبَدْئِه إيَّاكم، وقَدَّمَ المُتعَلِّقَ الدَّالَّ على التَّشبيهِ، على فِعلِه تَعُودُونَ؛ للاهتمامِ به .

قوله: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ

فيه تَقديمُ فَرِيقًا الأوَّلِ والثَّاني على عامِلَيهِما؛ للاهتمامِ بالتَّفصيلِ .

قوله: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ، فيه مناسبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا في سُورةِ الأعراف: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ، بينما قال في سُورةِ النَّحل: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [النحل: 36] ؛ وذلك لوجَهينِ: لفظي ومعنوي؛ أمَّا اللَّفظيُّ: فهو أنَّ الحروفَ الحواجزَ بينَ الفِعلِ والفاعِل في قوله: حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أكثرُ منها في قولِه: حَقَّتْ عَلَيْهِ والحذفُ مع كثرةِ الحواجزِ أحسنُ. وأمَّا المعنويُّ: فإنَّ (مَن) في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ واقعةٌ على الأمَّةِ والجماعةِ، وهي مؤنَّثةٌ لفظًا؛ فإنَّه قال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا ثمَّ قال: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، أي: مِن تِلك الأُممِ أممٌ حقَّتْ عليهم الضلالةُ، ولو قال بدَلَ ذلك: (ضلَّت) لتعيَّنتِ التاءُ، ومعنى الكلامين واحد، وإذا كان معنى الكلامينِ واحدًا كان إثباتُ التاءِ أحسنَ مِن ترْكِها؛ لأنَّها ثابتةٌ فيما هو في معنى الكلامِ الآخَرِ. وأمَّا: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ فالفريقُ مُذكَّر، ولو قال: (فريقًا ضلُّوا) لكان بغيرِ تاءٍ، وقوله: حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ في معناه؛ فجاءَ بغيرِ تاءٍ، وهذا أسلوبٌ لطيفٌ من أساليبِ العربيَّةِ؛ فإنَّ العرَبَ تدَعُ حُكمَ اللَّفظِ الواجبِ له في قِياسِ لُغتها إذا كان في مَعنَى كلمةٍ لا يجبُ لها ذلك الحُكمُ؛ كقولهم: (هو أحسنُ الفتيانِ وأجملُه)؛ لأنَّه في معنى هو أحسنُ فتًى وأجملهُ، وأحسنُ مِن هذا أنْ يُقال: إنَّهم أرادوا (أحسن شيءٍ وأجمله)، فجَعَلوا مكانَ (شيء) قولهم: (الفتيان)؛ تنبيهًا على أنَّه أحسنُ شيءٍ من هذا الجِنس، فلو اقتَصروا على ذِكرِ شيءٍ، لم يَدُلَّ على الجِنس المفضَّلِ عليه؛ فإذا حَسُنَ الحملُ على المعنَى فيما كان القياسُ لا يُجوِّزه؛ فكيفَ الظنُّ فيما يُجوِّزُه القياسُ والاستِعمالُ ؟!

وقوله: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أولِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... استئنافٌ مُرادٌ به التَّعليلُ لجُملة حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ .

================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (31-32)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

 

نُفَصِّلُ: أي: نُبيِّنُ ونميِّزُ، والتفصيلُ التبيينُ، وقيل: نَأْتِي بِهَا شَيْئًا بعد شَيءٍ، وَلَا نُنَزِّلُها جُمْلَةً مُتَّصِلَةً، وأصلُ (فصل): يدلُّ على تَمييزِ الشَّيءِ مِنَ الشَّيءِ، وإبانَتِه عنه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ تعالى بني آدَمَ أن يأخُذُوا زينَتَهم مِنَ اللِّباسِ الحَسَنِ، منظرًا ومخبرًا، ساترًا للعورة عند جَميعِ المساجِدِ، وفي جميعِ الصَّلَواتِ، وأن يأكُلُوا ويَشْرَبوا مِمَّا أحَلَّه لهم، ولا يُسرِفوا بالإفراطِ في الأكلِ والشُّربِ فوق ما يَكفِيهم، أو بتجاوُزِ حُدودِ اللهِ بتحريمِ ما أحَلَّه، أو بتناوُلِ ما حَرَّمَه مِنَ المأكولاتِ والمَشروباتِ؛ فاللهُ تعالى لا يُحِبُّ المُسرفينَ.

ثم أمَرَ اللهُ نبيَّه أن يقولَ لجَهَلةِ العَرَب الذين يتعَرَّونَ عند طَوافِهم بالبَيتِ، ويُحَرِّمونَ على أنفُسِهم ما أحلَّه اللهُ لهم؛ أمَرَه أن يقولَ لهم، مُنكِرًا عليهم: مَنِ الذي حَرَّمَ زينةَ اللهِ التي أخرَجَها لعبادِه، كاللِّباسِ الذي خَلَقَه لهم، ومَنِ الذي حَرَّمَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ، وأَمَرَه أن يقولَ لهم: إنَّ الزِّينةَ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ هي للَّذينِ آمنوا في الدُّنيا، ويُشارِكُهم فيها الكُفَّارُ، لكنَّها خالصةٌ لهم يومَ القيامةِ، لا يشارِكُهم فيها أحدٌ مِنَ الكَفَرة، كذلك يُفَصِّلُ اللهُ الآياتِ لقومٍ يَعلمونَ.

تفسير الآيتين:

 

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بالقِسطِ في الآيةِ الأُولى، وكان مِن جُملةِ القِسْطِ أمرُ اللِّباسِ، وأمرُ المأكولِ والمَشروبِ؛ لا جَرَمَ أتبَعَه بذِكْرِهما، وأيضًا لَمَّا أمَرَ بإقامةِ الصَّلاةِ في قوله: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكان سَترُ العَورةِ شَرطًا لصِحَّةِ الصَّلاةِ؛ لا جَرَمَ أتبَعَه بذِكرِ اللِّباسِ

، فقال تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ

سببُ النُّزولِ:

عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كانَتِ المرأةُ تَطوفُ بالبَيتِ وهي عُريانةٌ، فتقولُ: مَنْ يُعيرُني تِطوافًا ؟ تجعلُه على فَرجِها، وتقول:

اليومَ يَبدُو بعضُه أو كُلُّهْ * فما بدا مِنْه فلا أُحِلُّهْ

فنزلَتْ هذه الآيةُ: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31] )) .

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ

أي: يا بني آدَمَ خُذوا زينَتَكم مِنَ اللِّباسِ الحَسَن، واستُروا عَوْراتِكم به عند جميعِ المساجِدِ، في الصَّلواتِ كُلِّها؛ فَرضِها ونَفْلِها، وفي الطَّوافِ والاعتكافِ، وغيرِ ذلك .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ أبا بكرٍ الصِّديقَ رَضِيَ الله عنه، بَعَثَه في الحَجَّةِ التي أمَّرَه عليها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قبل حَجَّةِ الوَداعِ يومَ النَّحرِ، في رَهْطٍ يُؤَذِّنُ في النَّاسِ: ((ألَا لا يحُجُّ بعد العامِ مُشرِكٌ، ولا يطوفُ بالبَيتِ عُريانٌ )) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يُصَلِّي أحدُكم في الثَّوبِ الواحِدِ، ليس على عاتِقَيهِ مِنه شَيءٌ )) .

وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ. قال رجل: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أن يكونَ ثَوبُه حَسَنًا، ونَعْلُه حَسَنةً، قال: إنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ؛ الكِبرُ بَطَرُ الحَقِّ ، وغَمْطُ النَّاسِ ) .

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا

أي: وكُلُوا واشرَبُوا مِمَّا أحلَلْتُه لكم مِنَ الطَّيباتِ، ولا تُفْرِطُوا في الأكلِ والشُّربِ بالزِّيادةِ على القَدرِ الكافي، ولا تتجاوَزوا حُدودَ اللهِ؛ فتُحَرِّموا ما أحَلَّ اللهُ مِنَ الأطعمةِ والأشرِبَةِ، أو تتناوَلوا ما حَرَّمَه منها .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] .

وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأنعام: 141-142] .

وقال عزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة: 87-88] .

إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ

أي: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المجاوِزينَ أمْرَه، الغالينَ فيما أحلَّ أو حرَّم، المُستكثرينَ ممَّا لا ينبغي الاستكثارُ منه؛ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ وغيرِ ذلك .

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

مُناسَبَةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان مِنَ المعلومِ أنَّ ما كانوا ألِفُوه واتَّخذوه دِينًا يستعظمونَ تَرْكَه؛ لأنَّ الشَّيطانَ يُوسْوِسُ لهم بأنَّه توسُّعٌ في الدُّنيا، والتَّوَسُّعُ فيها ممَّا ينبغي الزُّهدُ فيه، كما دعا إليه كثيرٌ مِنَ الآياتِ- أكَّدَ سُبحانَه الإذنَ في ذلك بالإنكارِ على مَن حَرَّمَه، مُعْلِمًا أنَّ الزُّهدَ الممدوحَ ما كان مع صِحَّةِ الاعتقادِ في الحلالِ والحرامِ، وأمَّا ما كان مع تبديلِ شَيءٍ مِن الدِّينِ، بتحليلِ حرامٍ، أو عَكْسِه؛ فهو مذمومٌ .

وأيضًا لَمَّا حَرَّمَتِ العَرَبُ في جاهِلِيَّتِها زينةَ اللِّباسَ في الطَّوافِ تعبُّدًا وقُربةً، وحَرَّمَ بعضُهم أكْلَ بعضِ الطَّيِّباتِ مِنَ الأَدْهانِ وغَيرِها في حال الإحرامِ بالحَجِّ كذلك، وحَرَّموا مِنَ الحَرْثِ والأنعامِ ما بيَّنه تعالى في سورة الأنعام. وحَرَّمَ غَيرُهم مِنَ الوَثنِيِّينَ وأهلِ الكِتابِ كثيرًا مِنَ الطَّيِّباتِ والزِّينةِ كذلك- جاء دينُ الفِطرةِ الجامِعُ بين مصالِحِ البَشَرِ في معاشِهِم ومَعَادِهم، المُطَهِّرُ المُرَبِّي لأرواحِهم وأجسادهم، يُنكِرُ هذا التحَكُّمَ والظُّلمَ للنَّفْسِ ، فقال تعالى:

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ

أي: قُلْ- يا نبيَّ اللهِ- لجَهَلةِ العَرَبِ الذين يتعَرَّونَ عند طَوافِهم بالبَيتِ، ويُحرِّمونَ على أنفُسِهم- بآرائِهم الفاسِدَةِ- ما أحلَلْتُ لهم: مَنِ الَّذي حرَّمَ عليكم زينةَ اللهِ التي أبرَزَها مِنَ العَدَمِ إلى الوُجودِ، ويسَّرَ أسبابَ تَناوُلِها، كالِّلباسِ الذي خَلَقَه اللهُ لعِبادِه؟ ومَنْ حرَّمَ الطَّيِّباتِ مِن كُلِّ ما يُستلَذُّ ويُشتَهى مِن أنواعِ المأكولاتِ والمَشروباتِ وغيرِ ذلك، مِمَّا أحَلَّه اللهُ تعالى لعباده ؟!

عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ نَفَرًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، سألوا أزواجَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن عَمَلِه في السِّرِّ؟ فقال بعضُهم: لا أتزوَّجُ النِّساءَ، وقال بعضُهم: لا آكُلُ اللَّحمَ، وقال بعضُهم: لا أنامُ على فِراشٍ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، فقال: ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكِنِّي أُصَلِّي وأنامُ، وأصومُ وأُفطِرُ، وأتَزَوَّجُ النِّساءَ؛ فمَن رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مِنِّي )) .

قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ

أي: قُل- يا نَبِيَّ اللهِ- لهؤلاءِ المُشركينَ الذين يُحَرِّمونَ ما أحَلَّ اللهُ عزَّ وجلَّ: إنَّ الزِّينةَ والطَّيباتِ مِنَ الرِّزقِ، قد خَلَقَها اللهُ في الدُّنيا للَّذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه، ويُشارِكُهم فيها مَن كَفَرَ باللهِ ورَسولِه، ولكنَّها خالصةٌ للمُؤمنينَ في الآخِرَةِ، لا يشارِكُهم فيها أحَدٌ مِنَ الكُفَّارِ يومَئذٍ .

كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

أي: كهذا التَّفصيلِ الواضِحِ الذي فصَّلْنا لكم به الحلالَ والحَرامَ، وبَيَّنَّا لكم به حُرمةَ كَشْفِ العَوْراتِ، ولُزُومَ سَتْرِها، وإباحةَ الزِّينةِ والطَّيِّبات مِنَ الرِّزقِ؛ نُوَضِّحُ دائمًا في هذا القرآنِ جَميعَ ما يَحتاجُ إلى بيانٍ، وذلك للَّذين يفهمونَ عَنِ اللهِ آياتِه، وينتفعونَ بها

 

.

كما قال تعالى: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24] .

وقال سبحانه: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] .

الفوائد التربوية:

 

1- أمَرَ اللهُ بقَدرٍ زائدٍ على سَترِ العَورةِ في الصَّلاةِ، وهو أخذُ الزِّينةِ؛ فقال تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فعَلَّقَ الأمرَ بأخذِ الزِّينةِ، لا بِسَترِ العَورةِ؛ إيذانًا بأنَّ العَبدَ ينبغي له أن يلبَسَ أزيَنَ ثيابِه، وأجمَلَها في الصَّلاةِ، وكان لبَعضِ السَّلَفِ حُلَّةٌ بمبلغٍ عظيمٍ مِنَ المالِ، وكان يلبَسُها وقتَ الصَّلاةِ، ويقولُ: (ربِّي أحَقُّ مَن تجمَّلْتُ له في صلاتِي). ومعلومٌ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يُحِبُّ أن يرى أثَرَ نِعمَتِه على عَبدِه، لا سيَّما إذا وقَفَ بين يَدَيه، فأحسَنُ ما وَقَف بين يديه بملابِسِه ونِعمَتِه التي ألبَسَه إيَّاها ظاهرًا وباطنًا

.

2- قولُه تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ  فيه النهيُ عن الإسرافِ؛ فإنَّ السَّرَفَ يُبغِضُه الله، ويَضُرُّ بَدنَ الإنسانِ ومَعيشَتَه .

3- في قَوْلِه تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إرشادٌ عالٍ، فيه صَلاحٌ للبَشَرِ في دِينِهم ومَعاشِهم ومَعادِهم، لا يَستغنُونَ عنه في وَقتٍ مِنَ الأوقاتِ، ولا عَصْرٍ مِنَ الأعصارِ، وكلُّ ما بَلَغُوه مِن سَعَةِ العِلمِ في الطِّبِّ وغَيرِه، لم يُغْنِهِم عنه، بل هو يُغني المُهتديَ به في أمْرِه ونَهْيِه عَن مُعظَمِ وصايا الطِّبِّ لِحِفظِ الصِّحَّةِ ، قال عليُّ بنُ الحُسَينِ بنِ واقدٍ: (جَمَعَ اللهُ الطِّبَّ في نِصفِ آيةٍ، فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا) .

4- التَّوسيعُ مِنَ الله لعبادِه بالطَّيِّباتِ؛ جَعَلَه لهم ليَسْتعينوا به على عِبادَتِه، فلم يُبِحْه إلَّا لعبادِه المؤمنينَ؛ ولهذا قال تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أي: لا تَبِعَةَ عليهم فيها، ومفهومُ الآيةِ أنَّ مَن لم يؤمِنْ بالله، بل استعانَ بها على مَعاصِيه، فإنَّها غيرُ خالصةٍ له، ولا مُباحةٍ، بل يُعاقَبُ عليها وعلى التنعُّمِ بها، ويُسألُ عنِ النَّعيمِ يومَ القيامةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ جمعَتْ هذه الآيةُ أصُولَ أحكامِ الشَّريعةِ كُلَّها، فجَمَعتِ الأمرَ والنَّهيَ، والإباحةَ والخَبَر

.

قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ لهذه الآيةِ وما ورَدَ في معناها مِنَ السُّنَّة، يُستحَبُّ التجمُّلُ عند الصَّلاةِ- ولا سيَّما يومُ الجُمُعة، ويومُ العِيدِ- والطِّيْبُ؛ لأنَّه مِنَ الزِّينةِ، والسِّواكُ؛ لأنَّه مِن تمامِ ذلك .

في قَولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الأمرُ بسَترِ العَوراتِ عندَ المساجِدِ، فدخلَ في ذلك الطَّوافُ، والصَّلاةُ، والاعتكافُ، وغيرُ ذلك .

دلَّ قولُه تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ على أنَّ الصَّلاةَ في الثَّوْبِ الحَسَنِ غَيرُ مَكروهةٍ، إلَّا أنْ يُخشَى منه الالْتِهاءُ عن الصَّلاةِ، أو حُدوثُ الكِبْرِ .

قولُ الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مُطلَقٌ يتناوَلُ الأوقاتَ والأحوالَ، ويتناوَلُ جميعَ المطعوماتِ والمَشروباتِ؛ دلَّ ذلك على أنَّ الأصلَ في الملابِسِ وأنواعِ التَّجَمُّلات والمطاعِمِ؛ الإباحةُ، إلَّا ما ورَدَ النَّصُّ بخِلافِه .

قولُ اللهِ تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ فيه ردٌّ على مَن يتوَرَّعُ عن أكلِ المُستَلَذَّاتِ، ولُبسِ المَلابِسِ الرَّفيعةِ؛ فإنَّ الاستفهامَ المرادُ منه تقريرُ الإنكارِ، والمبالغةُ فيه .

قولُ الله تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: الزِّينةُ والطَّيِّباتُ هي لهم بالأصالةِ، والكَفَرةُ وإن شارَكُوهم فيها فتَبَعٌ؛ ولذا لم يَقُلْ تعالى: (لِلَّذِينَ آمنوا وغَيرِهم)

 

.

بلاغة الآيتين:

 

قولُه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ هذه الجُملةُ تتنَزَّلُ مِنَ التي بَعدَها، وهي قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ منزلةَ النَّتيجةِ مِنَ الجَدَلِ، فقُدِّمَتْ على الجَدَلِ، فصارَتْ غَرَضًا بمنزلةِ دَعوى، وجُعِلَ الجدلُ حجَّةً على الدَّعوى

.

قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ استئنافٌ مُعتَرِضٌ بين الخِطاباتِ المحكِيَّةِ والمُوجَّهة، وهو موضِعُ إبطالِ مَزاعِمِ أهلِ الجاهِليَّةِ فيما حرَّموه من اللِّباسِ والطَّعامِ، وهي زيادةُ تأكيدٍ لإباحةِ التسَتُّر في المساجِدِ، فابتُدِئَ الكلامُ السَّابِقُ بأنَّ اللِّباسَ نِعمةٌ مِنَ اللهِ .

والاستفهامُ في قَولِه: مَنْ حَرَّمَ إنكاريٌّ، قُصِدَ به التهَكُّم؛ إذ جَعَلَهم بمنزلةِ أهلِ عِلمٍ يُطلَبُ منهم البيانُ والإفادةُ، وقرينةُ التهَكُّمِ إضافةُ الزِّينةِ إلى اسمِ اللهِ في قوله: زِينَةَ اللَّهِ، وتعريفُها بأنَّها أخرَجَها اللهُ لعِبادِه، ووصْفُ الرِّزقِ بالطَّيِّباتِ، وذلك يقتَضي عَدَمَ التَّحريمِ؛ فالاستفهامُ يَؤُولُ أيضًا إلى إنكارِ تَحريمِها، وتوبيخِ مُحَرِّمِيها .

قوله: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيه تعريضٌ بجَهلِ وضَلالِ عُقولِ المُشركينَ الذين استَمَرُّوا على عنادِهم وضَلالِهم، رغمَ ما فُصِّلَ لهم مِنَ الآياتِ

=========================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (33-34)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ

غريب الكلمات:

 

سُلْطَانًا: أي: حُجَّةً، وأصْلُ السُّلطانِ: القوَّةُ والقَهرُ، مِنَ التَّسلُّطِ؛ ولذلك سُمِّيَ السُّلطانُ سُلطانًا

.

أُمَّةٍ: أي: جماعةٍ، أو قَرْنٍ وجِيلٍ، وتُطلَقُ الأمَّةُ على المِلَّةِ والسُّنَّةِ والدِّينِ والحِينِ .

أَجَلٌ: أي: وَقْتٌ لِحُلولِ الهَلاكِ، والأجَلُ غايةُ الوَقتِ في مَحِلِّ الدَّينِ وغَيرِه، والمدَّةُ المضَروبةُ للشَّيءِ، كالمُدَّة المضروبةِ لحياةِ الإنسانِ؛ فيُقال: دنا أجَلُه، وهو عبارةٌ عن دُنوِّ المَوتِ، واستيفاءُ الأجَلِ، أي: مدَّةُ الحياةِ .

سَاعَةً: أي: وقتًا قليلًا مِنَ الزَّمانِ، وأصل (سوع): يدلُّ على استمرارِ الشَّيءِ ومُضيِّه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

أمرَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يخبِرَ المُشركينَ أنَّه عزَّ وجلَّ إنَّما حرَّمَ الذُّنوبَ التي تناهَتْ في القُبحِ، ما ظهرَ منها وما خَفِيَ، وحرَّمَ المعاصِيَ التي تتعلَّقُ بمن عصى نفسَه، وحرَّمَ التعدِّيَ على الغيرِ  بغيرِ حقٍّ، وحرَّمَ أن يُتَّخَذ معه شريكٌ في عبادَتِه، لم يجعَلِ اللهُ معه حُجَّةً تدلُّ على إشراكِه، وحرَّمَ عزَّ وجلَّ القَولَ عليه بلا علمٍ.

وأخبَرَ تعالى أنَّ لكلِّ أمَّةٍ مُكَذِّبةٍ وقتًا محددًا لحُلولِ العُقوبةِ عليهم، فإذا جاءَ الوقتُ الذي وقَّتَه اللهُ لإهلاكِهم هَلَكوا، ولا يتأخَّرونَ عنه ساعةً، ولا يتقدَّمونَ.

تفسير الآيتين:

 

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ في الآيةِ الأولى أنَّ الذي حرَّمَه المشركونَ مِن الزَّينةِ وغَيرِها مِنَ الطَّيِّباتِ، ليس بحرامٍ، وانتهى من تَفنيدِ هذا الباطِلِ الذي يدَّعُونه ويَفتَرونَه- بَيَّنَ في هذه الآيةِ أنواعَ المُحَرَّمات، فحَرَّمَ أوَّلًا الفواحِشَ، وثانيًا الإثمَ

، فقال:

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

أي: قُلْ- يا نبيَّ اللهِ- لهؤلاءِ المُشركينَ: إنَّ ربِّي لم يُحَرِّمْ ما تُحَرِّمونَه، وإنَّما حرَّمَ الذُّنُوبَ التي تناهَتْ في القُبحِ، ما كان منها علانِيَةً، وما كان منها في خفاءٍ .

كما قال تعالى: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] .

وقال عزَّ جلَّ: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام: 151] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا أحَدَ أغيَرُ مِنَ الله؛ ولذلك حَرَّمَ الفواحِشَ ما ظهَرَ منها وما بَطَنَ )) .

وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ

أي: وحرَّمَ ربِّي الإثمَ، وهو المعاصِي المتعلِّقةُ بالفاعِلِ نَفسِه، وحرَّمَ البَغيَ، وهو التَّعدِّي على النَّاسِ في دمائِهم وأموالِهم وأعراضِهم .

وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا

أي: وحرَّمَ ربي اتِّخاذَ شَريكٍ له في عبادَتِه، لم يجعَلِ اللهُ معه حجَّةً تَدَلُّكم على إشراكِه .

وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

أي: وحرَّمَ ربي عليكم القَولَ عليه بلا علمٍ؛ في أسمائِه وصفاتِه، وأفعالِه وشَرعِه .

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا نعى اللهُ على المشركينَ ضلالَهم وتمرُّدَهم- بعد أنْ دعاهم إلى الإيمانِ- وإعراضَهم عنه، بالمجادلةِ والتَّوبيخِ، وإظهارِ نقائِصِهم بالحُجَّة البيِّنةِ، وكان حالُهم حالَ مَن لا يُقلِعُ عمَّا هم فيه- أعقَبَ ذلك بإنذارِهم ووعيدِهم؛ إقامةً للحُجَّةِ عليهم، وإعذارًا لهم قبل حُلولِ العَذابِ بهم .

وأيضا لَمَّا بَيَّنَ الله تعالى الحلالَ والحَرامَ، وأحوالَ التَّكليفِ، بَيَّنَ أنَّ لكُلِّ أحدٍ أجلًا مُعَيَّنًا لا يتقَدَّمُ ولا يتأخَّرُ، والغَرَضُ منه التَّخويفُ؛ ليَجِدَّ المرءُ في القيامِ بالتَّكاليفِ كما ينبغي ، فقال تعالى:

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ

أي: ولكُلِّ أمَّةٍ مُكَذِّبةٍ وقتٌ محدَّدٌ لحلولِ العذابِ .

فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ

أي: فإذا جاء الوَقتُ الذي وقَّتَه اللهُ تعالى لهلاكِهم، هَلَكوا، ولا يتأخَّرونَ بالبَقاءِ في الدُّنيا عن ذلك الوَقتِ ساعةً، ولا يتقدَّمونَ عنه ساعةً

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فذكَر المُحَرَّماتِ التي اتَّفَقَتْ على تحريمِها الشَّرائِعُ والأديانُ، ولا تُباحُ بحالٍ، بل لا تكونُ إلا مُحَرَّمةً، وليسَتْ كالمَيتةِ والدَّمِ ولحْمِ الخِنزيرِ، الذي يباحُ في حالٍ دُونَ حالٍ. فإنَّ المُحَرَّماتِ نوعانِ: مُحَرَّمٌ لِذاتِه لا يُباحُ بحالٍ، ومُحَرَّمٌ تحريمًا عارِضًا في وقتٍ دونَ وقتٍ؛ قال الله تعالى في المُحَرَّمِ لِذَاتِه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، ثم انتقَلَ منه إلى ما هو أعظَمُ منه، فقال: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، ثُمَّ انتقلَ منه إلى ما هو أعظَمُ منه، فقال: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَالَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، ثمَّ انتقَلَ منه إلى ما هو أعظَمُ منه، فقال: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، فهذا أعظَمُ المُحَرَّماتِ عند اللهِ، وأشَدُّها إثمًا، ولهذا ذُكِرَ في المرتَبةِ الرَّابعةِ مِنَ المُحَرَّمات المذكورةِ في هذه الآيةِ؛ فإنَّه يتضَمَّنُ الكَذِبَ على اللهِ، ونِسبَتَه إلى ما لا يليقُ به، وتغييرَ دِينِه وتَبديلَه، ونَفيَ ما أثبَتَه، وإثباتَ ما نفاه، وتحقيقَ ما أبطَلَه، وإبطالَ ما حَقَّقَه، وعداوةَ مَن والاه، ومُوالاةَ مَن عاداه، وحُبَّ ما أبغَضَه، وبُغضَ ما أحَبَّه، ووصْفَه بما لا يليقُ به في ذاتِه وصِفاتِه وأقوالِه وأفعالِه؛ فليس في أجناسِ المُحَرَّماتِ أعظَمُ عند اللهِ منه، ولا أشَدُّ إثمًا، وهو أصلُ الشِّركِ والكُفرِ، وعليه أُسِّسَتِ البِدَعُ والضَّلالاتُ، فكُلُّ بِدعةٍ مُضِلَّةٍ في الدِّينِ أساسُها القَولُ على الله بلا عِلمٍ

.

قال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فهذه الأنواعُ الأربعةُ هي التي حَرَّمَها تحريمًا مُطلقًا؛ فالفواحِشُ متعلِّقةٌ بالشَّهوةِ، والبَغيُ بغَيرِ الحَقِّ يتعلَّقُ بالغَضَبِ، والشِّركُ باللهِ فَسادُ أصلِ العَدلِ؛ فإنَّ الشِّركَ ظُلمٌ عَظيمٌ، والقَولُ على الله بلا علمٍ فَسادٌ في العِلمِ، فقد حَرَّمَ سبحانه هذه الأربعةَ؛ وهي: فَسادُ الشَّهوةِ، والغَضَبِ، وفسادُ العَدْلِ، والعِلمِ .

دخَلَ في قوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ تحريمُ كُلِّ فاحِشةٍ ظَاهِرةٍ وباطِنةٍ، وكُلِّ ظُلمٍ وعُدوانٍ في مالٍ أو نَفْسٍ أو عِرْضٍ، وكُلِّ شِركٍ باللهِ، وإنْ دَقَّ؛ في قولٍ أو عَمَلٍ أو إرادةٍ، بأن يَجعلَ للهِ عَدْلًا بِغَيرِه في اللَّفظِ أو القَصدِ أو الاعتقادِ، وكلِّ قولٍ على الله، لم يأتِ به نَصٌّ عنه ولا عن رسولِه؛ في تحريمٍ أو تحليلٍ، أو إيجابٍ أو إسقاطٍ، أو خبرٍ عنه باسْمٍ أو صِفةٍ، نفيًا أو إثباتًا، أو خبرًا عن فِعلِه؛ فالقَولُ عليه بلا عِلمٍ حرامٌ في أفعالِه وصِفاتِه ودِينِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

النَّظَرُ إلى العَوْراتِ حَرامٌ داخِلٌ في قولِه تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ فإنَّ الفواحِشَ وإن كانَتْ ظاهرةً في المُباشَرةِ بالفَرجِ أو الدُّبُرِ وما يتبَعُ ذلك مِنَ المُلامَسةِ والنَّظَر وغيرِ ذلك، وكما في قِصَّةِ لوط: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 80] ، وقوله: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً[الإسراء: 32] ، فالفاحشةُ أيضًا تتناوَلُ كشْفَ العَورةِ وإن لم يكُنْ في ذلك مُباشرةٌ، كما قال تعالى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا [الأعراف: 28] ، وهذه الفاحِشَةُ هي طَوافُهم بالبيتِ عُراةً

.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ دليلٌ على أنَّها فواحِشُ في نَفسِها، لا تَستَحسِنُها العُقولُ؛ فتعلَّقَ التحريمُ بها لفُحْشِها، فإنَّ ترتيبَ الحُكْمِ على الوَصفِ المُناسِبِ المُشتَقِّ؛ يدلُّ على أنَّه هو العلَّةُ المُقتَضِيةُ له، والعلَّةُ يجبُ أنْ تُغايرَ المَعلولَ، فلو كان كونُه فاحِشةً هو معنى كَونِه مَنهِيًّا عنه؛ كانت العلَّةُ عينَ المعلولِ! وهذا مُحالٌ .

في قَولِه تعالى:قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فيه بيانُ أُصولِ المُحَرَّماتِ العامَّةِ التي حَرَّمَها لضررٍ ثابتٍ لازمٍ لها، لا لعلَّةٍ عارضةٍ، وكلُّها مِن أعمالِهم الكَسبيَّةِ، لا مِن مواهِبِه ونِعَمِه الخِلقيةِ؛ ليُعلَمَ أنَّه- له الحمدُ والشُّكرُ- لم يُحَرِّمْ على النَّاسِ إلَّا ما هو ضارٌّ بهم، دون ما هو نافِعٌ لهم .

قولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، إنَّما ذُكِرَت (السَّاعة) وإن كان دُونَها كذلك؛ لأنَّها كانت أقلَّ اسمٍ للأوقاِت في العُرفِ .

قولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ،  ذِكرُ عُمومِ الأُمَمِ في هذا الوعيدِ- مع أنَّ المقصودَ هم المُشركونَ مِنَ العَرَبِ الذين لم يُؤمنوا- إنَّما هو مبالغةٌ في الإنذارِ والوعيدِ، بتقريبِ حُصُولِه كما حصَلَ لِغَيرِهم مِنَ الأُمَمِ؛ على طريقةِ الاستشهادِ بشواهِدِ التَّاريخِ في قياسِ الحاضِرِ على الماضي، فيكونُ الوَعيدُ خَبَرًا معضودًا بالدَّليلِ والحُجَّةِ .

قولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ذَكَرَ (الأجل) هنا، دون أن يقولَ (لكُلِّ أمَّةٍ عذابٌ أو استئصالٌ)؛ إيقاظًا لعُقُولِهم من أن يَغُرَّهم الإمهالُ، فيحسَبُوا أنَّ اللهَ غيرُ مُؤاخِذِهم على تكذيبِهم

 

.

بلاغة الآيتين:

 

قوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فيه قصرٌ إضافيٌّ؛ لأنَّه لَمَّا كانَتِ المُحَرَّماتُ المذكورةُ في الآيةِ غيرَ محصورةٍ في هذه الأشياءِ؛ دلَّ ذلك على أنَّ القَصرَ المفاد مِن إنَّمَا قَصرٌ إضافيٌّ، مَفادُه أنَّ اللهَ حَرَّمَ الفَواحِشَ وما ذُكِرَ معها، لا ما حَرَّمْتُموه مِنَ الزِّينةِ والطَّيِّباتِ، فأفاد إبطالَ اعتقادِهم، ثم هو يُفيدُ بطَريقِ التَّعريضِ أنَّ ما عَدَّه اللهُ مِنَ المُحَرَّماتِ الثَّابتِ تحريمُها قد تلبَّسوا بها؛ لأنَّه لَمَّا عدَّ أشياءَ، وقد عَلِمَ النَّاسُ أنَّ المُحَرَّماتِ ليستْ محصورةً فيها؛ عَلِمَ السَّامِعُ أنَّ ما عيَّنَه مقصودٌ به تعيينُ ما تلبَّسوا به، فحَصَل بصيغةِ القصرِ ردٌّ عليهم مِن جانَبَيْ ما في صِيغة (إِنَّمَا) من إثباتٍ ونفيٍ

.

وقوله: وَالْإِثْمَ هو كُلُّ ذَنبٍ، فهو أعَمُّ مِنَ الفَواحِشِ؛ فيكون ذِكرُ الفَواحِشِ قَبلَه للاهتمامِ بالتَّحذيرِ منها قبلَ التَّحذيرِ مِن عُمومِ الذُّنوبِ؛ فهو مِن ذِكرِ الخاصِّ قبلَ العامِّ للاهتمام، كذِكرِ الخاصِّ بعد العامِّ، إلَّا أنَّ الاهتمامَ الحاصِلَ بالتَّخصيصِ مع التَّقديمِ أقوى؛ لأنَّ فيه اهتمامًا مِن جِهَتينِ .

وعطفُ البَغيِ على الإثمِ في قولِه: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِن عَطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ للاهتمامِ به؛ لأنَّ البغيَ كان دأْبَهم في الجاهليَّةِ .

قوله: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أي الظُّلمُ أو الكِبرُ؛ أُفرِدَ بالذِّكرِ؛ للمُبالغةِ في الزَّجرِ عنه .

وقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ متعلِّقٌ بالبَغي مُؤَكِّدٌ له معنًى .

قوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ

قُدِّم الظَّرفُ في قوله: وَلِكُلِّ على عامِلِه أَجَلٌ؛ للاهتمامِ به؛ ليتأكَّدَ بذلك التقديمِ معنى التَّعليقِ .

وفي قوله: فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ أظهرَ لفْظ (أَجَل) في قوله: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ، ولم يَكتفِ بضَميرِه؛ لزيادةِ تقريرِ الحُكمِ عليه، ولتكونَ هذه الجملةُ مُستقلَّةً بنفسِها، غيرَ مُتوقِّفةٍ عن سماعِ غيرها؛ لأنَّها بحيثُ تَجرِي مَجرَى المَثَل، وإرسالُ الكلامِ الصَّالِحِ لأنْ يَكونَ مَثَلًا طريقٌ من طُرُقِ البلاغة ، والإضافةُ إلى الضَّميرِ؛ لإفادةِ أكملِ التَّمييز، أي: إذا جاءَها أجلُها الخاصُّ بها .

والسين والتاء في قوله: يَسْتَأْخِرُونَ، ويَسْتَقْدِمُونَ للتأكيدِ؛ إذ هما بمعنى: يَتأخَّرون ويَتقدَّمون؛ مِثل اسْتَجاب .

وفي هذِه الآيةِ مُناسَبةٌ حسنة؛ حيثُ قال تَعالى هنا في سُورةِ الأعراف: فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ،  وكذلك في سُورة النَّحل: فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ... [النحل: 61] ،  فعَطَفَ بالفاءِ، وأمَّا في سورة يونس فقال: إذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] ؛ وذلك لأنَّ ما هنا في سورةِ الأعرافِ وكذلك ما في سُورةِ النَّحلِ: جُملةٌ عُطِفتْ على جملةٍ أُخرى مصدَّرةٌ بالواوِ بينهما اتِّصالٌ وتَعقيب؛ فكان الموضعُ موضِعَ الفاء، فحسُنَ الِإتيانُ بالفاءِ الدَّالةِ على التعقيبِ، بخِلافِ ما في يُونَس

====================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (35-39)

ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

 

افْتَرَى: أي: كذَبَ واختَلَق؛ والافتراءُ: الاختِلاقُ، وهو ما عظُم مِن الكَذبِ، ومِنه قيل: افترَى فلانٌ على فلانٍ، إذا قذَفَه بما ليسَ فيه، ويُستَعمَل في القُرآنِ في الكَذِبِ والشِّركِ والظُّلمِ، وأصلُ (فري) قَطْعُ الشَّيءِ، ومِن ذلك: فَرَيت الشيءَ أفْريه فَرْيًا، وهو قطعُه لإصلاحِه، وأفريتَه: إذا أنت قطعتَه للإفسادِ، والافتِراءُ فيهما، وفي الإفسادِ أكثرُ

.

يَنَالُهُمْ: أي: يَصِلُ إليهم، والنَّوالُ: ما يَنالُه الإنسانُ مِنَ الصِّلة، وأصلُ (نيل): يدُلُّ على إعطاءٍ .

نَصِيبُهُمْ: أي: حظُّهم المنصوبُ، أي: المعيَّنُ، وأصل (نصب): إقامةُ شيءٍ، وإهدافٌ في استواء .

ادَّارَكُوا: أي: تَتابعوا فيها واجتَمعوا، أو لَحِق كلٌّ بالآخَر، وأصل (درك): لحوقُ الشَّيءِ بالشَّيءِ، ووصولُه إليه .

ضِعْفًا: أي: مُضاعَفًا، وضِعفُ الشَّيءِ: مِثلُه مرةً، وأصل (ضعف): يدلُّ على أنْ يُزادَ الشيءُ مِثلَه .

تَكْسِبُونَ: أي: تَعمَلون وتَجترِحونَ مِنَ المعاصي، والكَسبُ: ما يَتحرَّاه الإنسانُ ممَّا فيه اجتلابُ نفعٍ، وتحصيلُ حظٍّ، وأيضًا: الجمعُ والتَّحصيلُ، وأصلُ (كسب): ابتغاءٌ وطَلَبٌ وإصابةٌ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ بني آدَمَ أنَّه إن جاءَهم رُسُلٌ مِن جِنسِهم البَشَريِّ، يتلونَ عليهم آياتِ كِتابِه، فمَنِ اتَّقى فتَرَك المُحَرَّماتِ، وعَمِلَ الطَّاعاتِ؛ فلا خوفٌ عليهم ممَّا يَستقبِلونَ، ولا هم يحزَنونَ على ما مضى، والَّذين كذَّبوا بآياتِه، واستكبَرُوا عن التَّصديقِ بها، والعَمَلِ بما فيها؛ أولئك هم أصحابُ النَّارِ، ماكِثونَ فيها، لا يخرجونَ منها أبدًا.

ثم أخبَرَ تعالى أنَّه لا أحَدَ أشنَعُ ظُلمًا مِمَّنِ اختَلَق على اللهِ الكَذِبَ، أو كذَّبَ بآياتِه التي أنزَلَها، أولئك ينالُهم نصيبُهم المكتوبُ في اللَّوحِ المحفوظِ؛ مِنَ الأرزاقِ والأعمالِ والآجالِ، والخيرِ والشَّرِّ، إلى أن تأتِيَهم الملائكةُ؛ لتقبِضَ أرواحَهم، فتقولُ لهم الملائكةُ: أين ما كنتم تَدعونَ مِن دونِ اللهِ؟ فيقولون: ضَلُّوا عَنَّا، ويُقِرُّون على أنفُسِهم أنَّهم كانوا كافرينَ.

فيأمُرُهم اللهُ تعالى أن يَدخُلوا في جملةِ أمَمٍ أمثالِهم في الكُفرِ، قد سَلَفَت مِن قَبلِهم مِنَ الجِنِّ والإنسِ، فيدخلونَ جميعًا في النَّارِ، كلَّما دخَلَت أمَّةٌ مِن تلك الأُمَمِ في النَّارِ لَعَنَت أُختَها، حتى إذا اجتمَعَ الأوَّلونَ والآخِرونَ جميعًا في النَّارِ، قالت أُخْراهم لأُولاهم: ربَّنا هؤلاءِ الَّذينَ اتَّبَعْناهم في الدُّنيا، هم من أضَلَّنَا عن سبيلِك؛ فأَعْطِهم ضِعفًا مِن عَذابِ النَّارِ، فيُجيبُهم اللهُ تعالى، أنَّه لكُلٍّ  ضِعفٌ، ولكِنْ لا تعلمونَ.

وقالَتْ أُولاهم لأُخراهم: لم تكُنْ لكم مَزِيَّةٌ علينا، فيقولُ الله لهم جميعًا: فذُوقوا العذابَ بما  كَسَبتُم مِنَ الكُفرِ والمعاصي.

تفسير الآيات:

 

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ أحوالَ التَّكليفِ، وبيَّنَ أنَّ لكُلِّ أحدٍ أجلًا مُعَيَّنًا لا يتقدَّمُ ولا يتأخَّرُ- بيَّنَ أنهم بعد الموتِ إن كانوا مُطيعينَ، فلا خوفٌ عليهم ولا حُزنٌ، وإن كانوا متمَرِّدينَ، وقعوا في أشَدِّ العَذابِ

، فقال تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي

أي: يا أولادَ آدَمَ- الذي أخرَجَه الشَّيطانُ بوَساوِسِه مِنَ الجنَّةِ، إلى دارِ البَلاءِ والمِحَنِ- إنْ أتاكُم رُسُلي الَّذين أُرسِلُهم إليكم مِن جِنسِكُم البشريِّ، يتلونَ عليكم آياتِ كُتُبي، ويُبَيِّنونَ لكم ما فيها من عقائِدَ وأحكامٍ وأخبارٍ .

فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

أي: فمَنِ اتَّقى اللهَ منكم، فتَرَك المُحَرَّماتِ، وأصلَحَ أعمالَه فعَمِلَ الطَّاعاتِ؛ فلا خوفٌ عليهم ممَّا يستقبِلونَ، ولا هم على ما مضى يَحزَنونَ .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا

أي: والَّذين كذَّبوا منكم بآياتي التي جاءَت بها رُسُلي، واستكبَرُوا فأعرَضُوا عن التَّصديقِ بأخبارِها، والعَمَلِ بأحكامِها .

أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

أي: أولئك المُكَذِّبونَ بآياتي، المُستَكبِرونَ عَن طاعَتي؛ هم أهلُ النَّارِ المُلازِمونَ لها، ماكثونَ فيها، لا يخرجونَ منها أبدًا .

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ

أي: لا أحدَ أشنعُ ظُلمًا ممَّنِ افتَرَى الكَذِبَ على اللهِ، كمن يدَّعي أنَّ لله ولدًا وشريكًا، ويزعُمُ أنَّ اللهَ يأمُرُ بالفواحِشِ، أو كذَّبَ بآياتِ اللهِ التي أنزَلَها على رُسُلِه .

كما قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [الزمر: 32] .

أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ

أي: أولئك الكاذِبونَ على اللهِ، المُكَذِّبون بآياتِه، ينالُهم نَصيبُهم المكتوبُ في اللَّوحِ المَحفوظِ؛ مِنَ الأرزاقِ والأعمالِ والآجالِ، والخَيرِ والشَّرِّ .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 69-70] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 23-24] .

حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

أي: ينالُهُم ما كُتِبَ لهم في الدُّنْيا إلى أنْ تأتِيَهم الملائكةُ لِقَبضِ أرواحِهم، فإذا جاؤوهم قالوا لهم: أين الَّذين كُنتم تعبدونَهم مع اللهِ؛ فإنَّهم لم يحضُرُوا لِيُنقذِوكم ممَّا أنتم فيه؟ فهلَّا أغاثوكم مِن هذا الكَربِ الذي حلَّ بكم !

قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا

أي: قال الكُفَّارُ لملائكةِ المَوتِ: ذهَبَ عنَّا أولياؤُنا الذين كنَّا نَدعُو مِن دُونِ اللهِ، وغابوا وتركُونَا، فلم ينفَعُونا .

وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ

أي: وأقرَّ الكُفَّارُ واعتَرَفوا على أنفُسِهم عند مُعايَنةِ المَوتِ: أنَّهم كفَرُوا من قبلُ باللهِ .

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ

أي: يقولُ اللهُ يومَ القيامةِ للكافِرينَ: ادخُلُوا في زُمرةِ جَماعاتٍ على شاكِلَتِكم وصِفَاتِكم مِنْ أهلِ المِلَلِ الكافِرةِ مِنَ الجنِّ والإنسِ، الذين مَضَوا في أزمانٍ سَبَقَتْكم، فادخُلوا أنتم وهم في النَّارِ .

كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا

أي: كُلَّما دخلَتِ النَّارَ جماعةٌ مِن أهلِ تلك الأديانِ الكافِرةِ، شَتَمَتْ جماعةً أخرى مِن أهلِ دينِها، قد سبَقَتْها في دُخولِ النَّارِ .

كما قال اللهُ تعالى حاكيًا عن الخليلِ عليه السَّلامُ: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [العنكبوت: 25] .

حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا

أي: حتى إذا اجتمَعَ في النَّارِ الأوَّلونَ مِن أهلِ الأديانِ الكافِرةِ، والآخِرونَ مِنهم .

قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ

أي: قالت أُخرَاهم دُخولًا النَّارِ- وهم الأتباعُ- لأُولاهم- وهُمُ القادَةُ المَتبُوعونَ؛ لأنَّهم أشَدُّ جُرمًا مِن أتباعِهم، فدَخَلوا النَّارَ قَبلَهم .

رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ

أي قالوا: يا ربَّنا، هؤلاءِ الَّذين اتَّبَعْناهم في الدُّنيا، هم الَّذين أضَلُّونا عن سبيلِكَ، فضاعِفْ لهم العذابَ؛ عذابًا على الضَّلالِ، وعذابًا على الإضلالِ .

كما قال تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 67- 68] .

وقال سبحانه وتعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 31-33] .

قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ

أي: قال اللهُ للأتباعِ، الذين يَدعُونَه أن يُضاعِفَ العَذابَ على قادَتِهم الذين أضَلُّوهم: لكلٍّ منكم ومنهم زيادةُ عذابٍ ، ولكِنَّكم لا تعلمونَ مِقدارَ ما أعَدَّ اللهُ مِنَ العَذابِ .

كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: 88] .

وقال اللهُ تبارك وتعالى عن جميعِ أهلِ النَّارِ: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ: 30] .

وقال الله سبحانه: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: آية 97].

وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ

أي: قال المَتبوعونَ للأتباعِ: لم تكُنْ لَكم مَزِيَّةٌ علينا مِن إيمانٍ وتَقوى، تُوجِبُ أن يكونَ عذابُنا أشَدَّ مِن عذابِكم؛ فنحن وأنتم مُتشارِكونَ في الكُفرِ، وفي استحقاقِ العذابِ، فأيُّ فضلٍ لكم علينا ؟

كما قال سبحانه: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [سبأ: 32].

فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ

أي: فذُوقوا عذابَ جَهنَّمَ؛ بسبَبِ ما كسَبْتُم في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والمعاصي

 

.

الفوائد التربوية:

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قولُ الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ إنَّما قال: مِنْكُمْ؛ لأنَّ كَونَ الرَّسولِ منهم، أقطَعُ لعُذرِهم، وأبيَنُ للحُجَّةِ عليهم مِن جهاتٍ: أحدُها: أنَّ مَعرِفَتَهم بأحوالِه وبِطَهارَتِه تكونُ مُتقَدِّمةً. وثانيها: أنَّ مَعرِفَتَهم بما يليقُ بقُدرَتِه تكونُ مُتقَدِّمةً، فلا جَرَمَ لا يقَعُ في المُعجزاتِ التي تظهَرُ عليه شَكٌّ وشُبهةٌ في أنَّها حَصَلت بقدرةِ الله تعالى لا بقُدرَتِه؛ فلهذا السَّبَبِ قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا [الأنعام: 9] . وثالثها: ما يحصُلُ مِنَ الأُلفةِ وسُكونِ القَلبِ إلى أبناءِ الجِنسِ، بخلافِ ما لا يكونُ مِنَ الجِنسِ، فإنَّه لا يحصُلُ معه الأُلفةُ

.

وقولُه: رُسُلٌ مِنْكُمْ يدلُّ على أنَّه قد يُوجَدُ رُسُلٌ آخرونَ ليسُوا مِنَّا، وهو كذلك؛ لأنَّ مِنَ الملائكةِ رُسلًا، والملائكةُ لَيسُوا مِن جِنسِنا؛ كما قال الله: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] وقال: جَاعِلُ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ الآية [فاطر: 1] .

قولُ اللهِ تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ جملةُ: فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ جوابُ الشَّرط، وعدَلَ عن جعلِ الجوابِ اتِّباعَ الرُّسُلِ إلى جَعْلِه التَّقوى والصَّلاحِ، إيماءً إلى حِكمةِ إرسالِ الرُّسُلِ، وتحريضًا على اتِّباعِهم بأنَّ فائِدَتَه للأُمَمِ لا للرُّسُلِ .

في قَولِه تعالى عَمَّنِ اتَّقى وأصلَحَ: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ لم يقُلْ سُبحانَه: (لا يخافُونَ)؛ فهم لا خوفٌ عليهم، وإن كانوا يخافونَ اللهَ، ونفى عنهم أن يَحزَنُوا؛ لأنَّ الحُزنَ إنَّما يكون على ماضٍ، فهم لا يحزنونَ بحالٍ؛ لا في القَبرِ، ولا في عَرَصاتِ القِيامةِ، بخلافِ الخَوفِ، فإنَّه قد يحصُلُ لهم قبل دُخولِ الجَنَّةِ .

قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ استُدِلَّ به على أنَّ الفاسِقَ مِن أهلِ الصَّلاةِ، لا يبقى مُخلَّدًا في النَّارِ؛ لأنَّه تعالى بيَّنَ أنَّ المُكَذِّبينَ بآياتِ اللهِ، والمُستكبِرينَ عَن قَبُولِها؛ هم الذين يبقَونَ مُخَلَّدينَ في النَّارِ، فكلمةُ هُمْ تفيدُ الحصرَ، وذلك يقتضي أنَّ مَن لا يكونُ موصوفًا بذلك التَّكذيبِ والاستكبارِ، لا يبقى مُخلَّدًا في النَّارِ .

يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أنَّ جَميعَ الرُّسُلِ قد بلَّغُوا أمَمَهم أنَّ اتِّباعَهم في اتِّقاءِ ما يُفسِدُ فِطرَتَهم مِنَ الشِّركِ وخُرافاتِه، والرَّذائلِ والمعاصي، وفي إصلاحِ أعمالِهم بالطَّاعاتِ- يترتَّبُ عليه الأمنُ مِنَ الخَوفِ مِن كُلِّ ما يُتَوَقَّعُ، والحزنِ على كلِّ ما يقَعُ، وأنَّ تكذيبَ ما جاؤوا به من آياتِ اللهِ، والاستكبارَ عَن اتِّباعِها- يتَرَتَّبُ عليه الخلودُ في النَّارِ، فوق ما بَيَّنَ في آياتٍ أخرى مِن سُوءِ الحالِ في الدُّنيا، وقد سكَتَ عن الجزاءِ الدُّنيويِّ هنا؛ لأنَّ الآيةَ تدلُّ عليه، ولأنَّه لا يظهَرُ للنَّاسِ في كُلِّ وَقتٍ .

تضمَّنَ قولُه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ذِكْرَ الصِّنفَينِ المُبطِلَينِ؛ أحدُهما: مُنْشِئُ الباطِلِ والفِرْيَةِ، وواضعُها، وداعي النَّاسِ إليها، والثاني: مُكَذِّبٌ بالحَقِّ، فالأوَّلُ: كُفْرُه بالافتراءِ، وإنشاءِ الباطِلِ. والثَّاني: كُفْرُه بجُحودِ الحَقِّ، وهذان النَّوعانِ يَعرِضانِ لكُلِّ مُبطلٍ .

دلَّ قولُه تعالى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ على أنَّ الجنَّ كانوا مُكلَّفينَ في الشَّرائِعِ الماضيةِ قبل بَعثةِ نَبِيِّنا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَّا شَريعَتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فأجمَعَ المُسلمونَ على أنَّه بُعِثَ إلى الجِنِّ والإنسِ، وأنَّه يجِبُ على الجِنِّ طاعَتُه؛ لأنَّ الإخبارَ عن دُخولِ كُفَّارِ الجنِّ في النَّارِ، إنَّما يكونُ بعد إقامةِ الحُجَّةِ عليهم بالرِّسالةِ .

دلَّ قولُه تعالى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ على أنَّ كفَّارَ الجنِّ يدخُلونَ النَّارَ، وقد اتَّفقَ العُلَماءُ على ذلك .

في قَولِه تعالى: وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ دلالةٌ على أنَّ سائِرَ أنواعِ المُكَذِّبينَ بآياتِ الله؛ مُخَلَّدونَ في العذابِ، مُشتَرِكونَ فيه وفي أصلِه- وإن كانوا مُتفاوِتينَ في مقدارِه بحَسَبِ أعمالِهم، وعنادِهم، وظُلْمِهم وافترائِهم- وأنَّ مَوَدَّتَهم التي كانت بينهم في الدُّنيا تنقَلِبُ يومَ القيامةِ عداوةً ومُلاعَنةً

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

قوله: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ فيه إعادةُ النِّداء في صَدْرِ هذِه الجُملةِ؛ للاهتمامِ

.

وقوله: رُسُلٌ مِنْكُمْ فيه تنبيهٌ لبَنِي آدَمَ بأنَّهم لا يَترقَّبون أنْ تَجيئَهم رُسلُ اللهِ مِن الملائكةِ؛ لأنَّ المُرسَلَ يكونُ مِن جِنسِ مَن أُرْسِلَ إليهم، وفي هذا تعريضٌ بالجَهلةِ مِن الأُممِ الذين أَنكروا رسالةَ الرُّسلِ؛ لأنَّهم مِن جِنسِهم .

وفيه: تلوينٌ للخِطابِ، وتوجيهٌ له إلى كافَّةِ النَّاسِ؛ اهتمامًا بشأنِ ما في حيِّزه .

و(ما) في قوله: إِمَّا زائدة مُؤكِّدة، وهي تُفيدُ مع التأكيدِ عُمومَ الشَّرطِ .

قوله: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ بناءُ الخبرِ الفِعليِّ يَحْزَنُونَ على المُسنَدِ إليه هُمْ المتقدِّمِ عليه؛ يُفيدُ تَخصيصَ المسنَدِ إليه بذلِك الخَبرِ .

قوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أفادت هذه الآيةُ تحقيقَ أنَّهم صائِرون إلى النَّارِ بطريقِ قَصرِ مُلازمةِ النَّارِ عليهم في قوله: أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ؛ لأنَّ لفظ أَصْحَابُ مُؤذِنٌ بالملازمةِ، وبما تدلُّ عليه الجملةُ الاسميَّةُ مِن الدَّوامِ والثَّباتِ في قوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .

وقوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا الاستكبارُ مُبالغةٌ في التكبُّر؛ فالسِّينُ والتاءُ في قوله: وَاسْتَكْبَرُوا للمُبالغةِ .

قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ

قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ... الاستفهامُ إنكاريٌّ مُستعمَلٌ في تهويلِ ظُلم هذا الفريقِ، المعبَّر عنه بمَن افترَى على اللهِ كذبًا، أي: لا أحَدَ أَظلمُ ممَّن هذا وصْفُه .

وقولُه: أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ جملةٌ مستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا ناشئًا عن الاستفهامِ في قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا؛ لأنَّ التهويلَ المستفادَ مِن الاستفهامِ يَسترعي السَّامعَ أن يسألَ عمَّا سيُلاقونَه مِن اللهِ تعالى الذي افتَرْوا عليه، وكَذَّبوا بآياتِه .

قولُه: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا الكلامُ الواقعُ هنا بعدَ حتَّى فيه تهويلُ ما يُصيبهم عندَ قَبْضِ أرواحِهم، وهو أدخلُ في تهديدِهم وتَرويعِهم وموعظتِهم، مِن الوعيدِ المتعارَفِ .

وقولُه: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الاستفهامُ في قوله: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ؛ للتَّوبيخِ والتَّقريرِ، ومُستعمَلٌ في التهكُّمِ والتَّأْييسِ .

قوله: قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا استئنافٌ وقَعَ جوابًا عن سؤالٍ نشَأَ مِن حِكايةِ سؤالِ الرُّسُلِ؛ كأنه قيل: فماذا قالوا عندَ ذلك؟ فقيل: قالوا: ضَلُّوا عَنَّا .

قوله: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا...

قوله: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ اسئنافُ كلامٍ نَشأَ بمناسبةِ حِكايةِ حالِ المشركينَ حين أوَّلِ قُدومِهم على الحياةِ الآخِرَةِ، وهي حالةُ وفاةِ الواحدِ منهم، وفيه تذكيرٌ لهم بما حاقَ بأُولئك الأُممِ من عذابِ الدُّنيا، وتعريضٌ بالوعيدِ بأنْ يَحُلَّ بهم مِثلُ ذلك، وتصريحٌ بأنَّهم في عذابِ النَّارِ سواءٌ .

قولُه: قَالَ ادْخُلُوا الإتيانُ بفِعلِ القولِ بصِيغةِ الماضي في قولِه: قَالَ؛ للتنبيهِ على تَحقيقِ وقوعِه، والأمرُ في قولِه: ادْخُلُوا مُستعمَلٌ للوعيدِ، فيتأخَّر تنجيزُه إلى يومِ القِيامةِ .

قولُه: مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَدَّمَ الجِنَّ؛ لأنَّهم الأصلُ في الإغواءِ والإضلالِ .

قوله: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا جملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ لوصفِ أحوالِهم في النَّار، وتَفظيعِها للسَّامِعِ؛ ليتَّعِظَ أمثالُهم، ويستبشرَ المؤمنون بالسَّلامةِ ممَّا أصابَهم؛ فتكونُ جملةُ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا داخلةً في حيِّز الاستئنافِ .

وقوله: أُمَّةٌ نكرةٌ وقعَتْ في حيِّزِ عُمومِ الأَزمنةِ، فتُفيدُ العمومَ، أي: كلُّ أُمَّةٍ دخَلَتْ .

قول الله تعالى: وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ

صِيغةُ الأمْر فَذُوقُوا مُستعمَلَةٌ في الإهانةِ والتَّشفِّي، والتشفي منهم فيما نالَهم مِن عذابِ الضِّعفِ تَرتَّب على تحقُّقِ انتفاءِ الفَضلِ بَينهم في تَضعيفِ العذابِ، الذي أوضَحه بقولِه: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ .

وفي هذِه الآيةِ مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ، وورد في سُورةِ الأنفالِ أنَّ عَذابَهم بكُفرِهم، حيث قال: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنفال: 35] ؛ وذلك لأنَّ آيةَ الأعرافِ وردَتْ في أخلاطٍ مِن الأُممِ وأصنافٍ مِن المُكذِّبينَ، تَنوَّعَ كُفرُهم وتَكذيبُهم ضُروبًا مِن المخالفاتِ، وافْتَرَوْا على اللهِ سبحانه، فلِشَتَّى مُجترحاتِ هؤلاءِ، واتِّساعِ مُرْتَكَباتِهم، وأنَّهم ضلُّوا وأَضلُّوا؛ ناسَب ما وقَعَ جزاؤُهم عليه ذِكْرَ الاكتسابِ، أمَّا آيةُ الأنفال ففي قومٍ بأعيانِهم، وهم كُفَّارُ قريش مِن أهل مَكَّة، وحالهم معلومةٌ أنَّهم كانوا عَبَدَةَ أوثانٍ، ولم تَتكرَّرْ فيهم الرُّسُلُ، ولا كَفروا بغيرِ التَّكذيبِ به صلَّى الله عليه وسلَّم، وبتَصميمِهم على عِبادِةِ آلهتِهم

=====================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (40-41)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات:

 

يَلِجَ: أيْ: يَدخُلَ، والوُلُوجُ: الدُّخولُ في مَضِيقٍ، وأَصلُ (ولج): يدُلُّ على دُخولِ شَيْءٍ

.

سَمِّ الْخِيَاطِ: أيْ: ثَقْبِ الإِبْرَةِ، والسَّمُّ والسُّمُّ: كلُّ ثَقْبٍ ضيِّقٍ كخَرْقِ الإبرَةِ، وأصلُه يدلُّ على مَدْخَلٍ في الشَّيءِ، والخِياطُ: الإبرةُ التي يُخاطُ بها .

مِهَادٌ: أيْ: فِراشٌ وقَرارٌ، والمَهْدُ: ما يُهيَّأُ للصَّبيِّ، وأصلُ المِهَادِ: المكانُ المُمهَّدُ المُوطَّأُ .

غَوَاشٍ: أي: ما يَغشاهُم مِنَ النَّارِ، وهي لُحُفٌ تَغْشاهم وتُحيطُ بهِم مِنْ فوقِهم، أوْ ما يُغطِّيهِم مِن أنواعِ العَذابِ، وغَواشٍ جمعُ غاشِيَةٍ، وهي الغِطاءُ، وأصلُ (غشي): يَدُلُّ على تَغطيةِ شيءٍ بشَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ اللهُ تَعالى أنَّ المُكذِّبينَ بآياتِه، والَّذِينَ استَكْبَروا عَنْها لا يَصْعَدُ عمَلُهُم إلى اللهِ، ولا يُجابُ لهم دُعاءٌ، ولا تُنزَّلُ عَلَيهِم بَرَكاتٌ ولا رَحَماتٌ، وإذا مَاتُوا لا تُفَتَّحُ لأَرْواحِهِم أبوابُ السَّماءِ، ولا يَدْخُلونَ الجَنَّةَ أبَدًا، كَما أنَّ الجمَلَ لا يَدْخُلُ في ثَقْبِ الإِبْرةِ، وبمِثْلِ هذا العِقابِ يُعاقِبُ اللهُ مَن أجْرَمَ؛ لَهُم مِنَ النَّارِ فِراشٌ تَحتَهُم، ومِن فَوقِهِم غِطاءٌ مِنَ النَّارِ يَغْشاهُم، وكَذَلِك يَجْزي اللهُ الظَّالِمينَ.

تفسير الآيتين:

 

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ

أي: إنَّ الَّذينَ كَذَّبوا بآياتِيَ الَّتي جاءَتْ بها رُسُلي، وأَعْرَضوا عَنِ التَّصْديقِ بأَخْبارِها، والعَمَلِ بأَحْكامِها لا يَصْعَدُ لَهم في حَيَاتِهِم إلى اللهِ قولٌ ولا عَملٌ، ولا يُجابُ لهم دُعاءٌ، ولا تُنَزَّلُ إليهم برَكاتٌ ورَحَماتٌ، ولا تُفتَّحُ لأَرْواحِهم إذا مَاتوا أَبْوابُ السَّماءِ

.

عن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِي اللهُ عنه، قال: ((خَرَجْنا معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم، في جِنَازةِ رَجُلٍ مِن الأَنْصارِ، فانتَهَيْنا إلى القَبْرِ ولَمَّا يُلْحَدْ ، فجَلَسَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم، وجَلَسْنا حَوْلَه، كأَنَّ عَلى رُؤوسِنا الطَّيْرَ، وفي يَدِه عُودٌ يَنْكُتُ في الأرضِ ، فرَفَع رَأْسَه، فقال: اسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ عَذابِ القَبْرِ. مَرَّتَينِ أو ثَلاثًا.

ثمَّ قالَ: إنَّ العبْدَ المؤمِنَ إذا كانَ في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنْيا، وإقْبالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نزَلَ إليه مَلائكةٌ مِنَ السَّماءِ بِيضُ الوُجوهِ، كَأنَّ وُجوهَهُمُ الشَّمْسُ، معَهُم كَفَنٌ مِن أَكْفانِ الجَنَّةِ، وحَنُوطٍ مِن حَنُوطِ الجَنَّةِ، حتَّى يَجْلِسوا مِنه مَدَّ البَصَرِ ، ثمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوْتِ علَيه السَّلامُ، حتَّى يَجْلِسَ عندَ رَأْسِه، فيَقُولُ: أَيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجي إِلى مَغْفرةٍ مِنَ اللهِ ورِضْوانٍ. فتَخْرُجُ تَسِيلُ كَما تَسِيلُ القَطْرةُ مِن فِي السِّقَاءِ، فيَأْخُذُها، فإذا أخَذَها لم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عينٍ حتَّى يَأخُذوها، فيَجْعَلوها في ذَلِك الكَفَنِ، وفي ذَلِك الحَنُوطِ، ويَخْرُجُ مِنها كأَطْيبِ نَفْحةِ مِسْكٍ وُجِدَت على وَجْهِ الأَرْضِ. فيَصْعَدونَ بِها، فَلا يَمُرُّونَ بها على مَلَأٍ مِنَ المَلائِكَةِ، إلَّا قَالُوا: ما هذا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟! فيَقُولُونَ: فُلانُ بنُ فُلانٍ؛ بأحْسَنِ أسمائِه الَّتي كانوا يُسمُّونَه بها في الدُّنيا، حتَّى يَنْتَهوا بها إلى السَّماء الدُّنيا، فيَسْتَفتِحون له، فيُفتَحُ لهم، فيُشيِّعُه مِن كُلِّ سَماءٍ مُقَرَّبوها إِلى السَّماءِ الَّتي تَلِيها، حتَّى يُنْتَهى به إلى السَّماء السَّابِعَةِ، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبوا كِتابَ عَبْدي في عِلِّيِّينَ ، وأَعيدُوه إلى الأَرْضِ؛ فإنِّي مِنها خلَقْتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومِنْها أُخْرِجُهم تارَةً أُخْرى.

فتُعادُ رُوحُه في جَسَدِه، فيَأْتيه مَلَكانِ، فيُجْلِسانِه، فيَقُولانِ له: مَن رَبُّك؟ فيَقولُ: رَبِّيَ اللهُ، فيَقولانِ له: ما دِينُك؟ فيَقولُ: دِينيَ الإسلامُ، فيَقولانِ له: ما هذا الرَّجُلُ الَّذي بُعِث فيكُم؟ فيَقُولُ: هو رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم، فيَقولانِ له: وما عِلْمُك؟ فيَقولُ: قرَأتُ كِتابَ اللهِ، فآمَنْتُ به وصَدَّقتُ، فيُنادي مُنادٍ في السَّماءِ: أنْ صَدَق عَبْدي، فأفْرِشوه مِنَ الجنَّةِ، وألبِسُوه مِن الجَنَّةِ، وافْتَحوا له بابًا إلى الجنَّةِ. فيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِها وطِيبِها، ويُفْسَحُ له في قَبْرِه مَدَّ بَصَرِه. ويَأْتيه رجُلٌ حسَنُ الوَجهِ، حَسنُ الثِّيابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبْشِرْ بالَّذي يَسُرُّك؛ هذا يَومُك الَّذي كنتَ تُوعَدُ، فيَقولُ له: مَن أنتَ؛ فوَجهُك الوَجهُ يَجيءُ بالخَيرِ؟ فيَقولُ: أَنا عمَلُكَ الصَّالحُ، فيَقولُ: رَبِّ أقِمِ السَّاعةَ حتَّى أرجِعَ إلى أَهْلي ومالي.

وإنَّ العبدَ الكافِرَ إذا كان في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنيا، وإقبالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَل إليه مِن السَّماءِ مَلائكةٌ سُودُ الوُجوهِ، مَعَهمُ المُسُوحُ ، فيَجْلِسونَ منه مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوتِ حتَّى يَجْلِسَ عِندَ رَأسِه، فيَقولُ: أيَّتُها النَّفْسُ الخبيثةُ، اخْرُجي إلى سَخَطٍ مِن اللهِ وغَضَبٍ! فتَفَرَّقُ في جسَدِه، فيَنتَزِعُها كَما يُنتزع السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ المَبْلولِ، فيَأْخُذُها، فإذا أخَذَها لَم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عينٍ حتَّى يَجْعَلوها في تِلك المُسوحِ، ويَخْرُج مِنها كأنْتَنِ رِيحِ جِيفةٍ وُجِدَت على وَجهِ الأرضِ. فيَصْعَدونَ بها، فَلا يَمُرُّون بها على مَلأٍ مِنَ الملائكةِ إلَّا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيثُ؟! فيَقولونَ: فُلانُ بنُ فلانٍ؛ بأقبَحِ أسمائِه الَّتي كان يُسمَّى بها في الدُّنيا، حتَّى يُنتَهى به إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيُستَفتَحُ له، فلا يُفتَحُ له، ثمَّ قرَأ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبوا كِتابَه في سِجِّينٍ في الأَرضِ السُّفْلى، فتُطْرَحُ روحُه طَرحًا. ثمَّ قرَأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31].

فتُعادُ رُوحُه في جَسَدِه، ويَأْتيه مَلَكانِ، فيُجْلِسانِه، فيَقُولانِ له: مَن ربُّك؟ فيَقولُ: هاهْ هاهْ! لا أَدْري، فيَقولانِ له: ما دينُك؟ فيقول: هاهْ هاهْ! لا أَدْري، فيَقولانِ له: ما هذا الرَّجُلُ الَّذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاهْ هاهْ! لا أَدْري، فيُنادي مُنادٍ مِن السَّماءِ: أنْ كَذَب، فافْرُشوا له مِنَ النَّارِ، وافْتَحوا له بابًا إلى النَّارِ، فيَأتيهِ مِنْ حَرِّها، وسَمُومِها، ويُضيَّقُ عليه قَبرُه حتَّى تَختَلِفَ فيه أَضلاعُه، ويَأتيه رجلٌ قَبيحُ الوَجْهِ، قبيحُ الثِّيابِ، مُنتِنُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبْشِرْ بالَّذي يَسوؤُك! هذا يَومُك الَّذي كُنتَ تُوعَدُ، فيَقولُ: مَن أنتَ؛ فوَجْهُك الوَجهُ يَجيءُ بالشَّرِّ، فيَقولُ: أنا عمَلُك الخَبيثُ، فيَقولُ: رَبِّ لا تُقِمِ السَّاعةَ )) .

وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ

أيْ: ولا يَدْخُلُ هَؤلاءِ الَّذين كَذَّبوا بِآياتِنا واستَكْبَروا عَنْها الجَنَّةَ أبَدًا، كَما لا يَدخُلُ البَعيرُ في ثَقْبِ الإِبْرةِ .

كَما قال اللهُ تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة: 72] .

وقال سُبْحانَه: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف: 50-51] .

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ

أيْ: ومِثْلَ هذا العِقابِ الَّذي وَصَفْنا- مِن عدَمِ تَفَتُّحِ أَبْوابِ السَّماءِ للأَرْواحِ والأَعْمالِ وغَيرِ ذَلك، والحِرْمانِ مِن دُخولِ الجَنَّةِ- نُعاقِبُ الَّذين كَفَروا، فكَذَّبوا بآياتِنا، واستَكْبَروا عَنِ الإِيمانِ بِها .

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ

أي: لِهؤلاءِ الَّذين كَذَّبوا بآياتِنا، واستَكْبَروا عنها فِراشٌ مِنَ النَّارِ مِن تَحْتِهم، ومِن فَوقِهم غِطاءٌ مِن النَّارِ يَغْشاهُم، وتُحيطُ بهِمُ النَّارُ مِن كلِّ جَوانبِهِم .

كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] .

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ

أيْ: ومِثْلَ هذا الَّذي وصَفْنا مِنَ العَذابِ نُعاقِبُ مَن ظَلَمَ نفْسَه، فجَلَب سخَطَ اللهِ عَلَيها بالكُفْر به، ووضَعَ العِبادَةَ في غيرِ مَوضِعِها باتِّخاذِ شَريكٍ مَعَ اللهِ فيها

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال تَعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، الاستِكْبارُ هو طلَبُ التَّرفُّعِ بالباطِلِ، وهذا اللَّفْظُ في حَقِّ البشَرِ يَدُلُّ عَلى الذَّمِّ؛ قال تَعالى في صِفَةِ فِرْعونَ: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ

[القصص: 39] .

يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ أنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ؛ فكما أنَّهم كذَّبوا بآياتِ اللهِ، فلم يُؤمِنوا بها- مع أنَّها آياتٌ بَيِّناتٌ- واستكَبَروا عنها فلم يَنقادُوا لأحكامِها، بل كذَّبوا وتَوَلَّوا- فهم حينئذٍ آيِسونَ مِن كُلِّ خَيرٍ، فلا تُفَتَّحُ أبوابُ السَّماءِ لأرواحِهم إذا ماتوا وصَعِدَت تُريدُ العُروجَ إلى الله، كما لم تصعَدْ في الدُّنيا إلى الإيمانِ باللهِ ومَعرِفَتِه ومَحَبَّتِه؛ فكذلك لا تصعَدُ بعدَ الموتِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَوْلُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ يَدُلُّ على أنَّ الأَرْواحَ إنَّما تَكونُ سَعيدةً إمَّا بأن يُنَزَّلَ عَليها مِن السَّماءِ أنواعُ الخَيْراتِ، وإمَّا بأَنْ تَصعد أعمالُ تِلك الأَرْواحِ إلى السَّمَواتِ؛ وذَلك يَدُلُّ على أنَّ السَّمواتِ مَوْضعُ بَهجةِ الأَرْواحِ، وأماكِنُ سَعاداتِها، ومنها تُنزَّلُ الخَيراتُ والبَرَكاتُ، وإليها تَصْعَدُ الأَرْواحُ حالَ فَوزِها بكَمَالِ السَّعاداتِ؛ ولَمَّا كان الأَمْرُ كذَلِك كان قولُه: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ مِن أعظَمِ أنواعِ الوَعيدِ والتَّهْديدِ