الخميس، 18 يناير 2024

7. سورة الاعراف ج1.{206 اية}

 

7. سورة الاعراف ج1.{206 اية}

سُورةُ الأعرافِ

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

سُمِّيَتْ هذه السُّورةُ بِسُورةِ الأعرافِ

فعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قَرَأَ في صلاةِ الـمَغرِبِ بسورةِ الأعرافِ؛ فَرَّقَها في رَكعتَينِ )) .

وعَن زَيدِ بنِ ثابتٍ: أنَّه قال لِمَروانَ بنِ الحَكَمِ: ((ما لي أَراكَ تَقرَأُ في المَغرِبِ بِقِصارِ السُّوَرِ، وقد رأيتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم يقرأُ فيها بأطوَلِ الطُّولَيَينِ؟ قال مروانُ: قُلتُ: يا أبا عبدِ اللهِ، ما أطَولُ الطُّولَيَينِ؟ قال: الأعرافُ ))

بيان المكي والمدني :

 

سورةُ الأعرافِ مَكِّيَّةٌ

؛ ونقَلَ غَيرُ واحدٍ الإجماعَ على ذلك

مقاصد السورة :

 

مِن أهَمِّ المقاصِدِ التي تضَمَّنَتْها سورةُ الأعرافِ:

تَسليةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم في تَكذيبِ الكفَّارِ إِيَّاه

.

إنذارُ مَن أعرَضَ عمَّا دعا إليه الكِتابُ في السُّوَرِ الماضِيَةِ

موضوعات السورة :

 

من أبرَزِ مَوضوعاتِ سُورةِ الأعرافِ:

التَّنويهُ بِعَظَمةِ الكِتابِ الكَريمِ.

النَّهيُ عن اتِّخاذِ الشُّركاءِ مِن دُونِ اللهِ، وإنذارُ المُشركينَ مِن سُوءِ عاقِبةِ الشِّركِ في الدُّنيا والآخرةِ، ووَصْفُ ما حَلَّ بالمُشركينَ والَّذينَ كَذَّبوا الرُّسُلَ؛ مِن سُوءِ العَذابِ في الدُّنيا، وما سيحُلُّ بهم في الآخِرةِ، وإقامةُ الأدلَّةِ على وحدانيةِ الله.

ذِكْرُ وَزنِ الأَعمالِ يَومَ القيامةِ، وتذكيرُ النَّاسِ بِنِعمةِ خَلقِ الأرضِ، وتمكينِ النَّوعِ الإنسانيِّ مِن خَيراتِ الأرضِ، وبنعمةِ اللهِ على هذا النَّوعِ بخَلْقِ أصْلِه وتفضيلِه.

ذِكرُ خَلقِ آدَمَ، وإِباء إِبليسَ مِنَ السَّجدةِ لآدَمَ، ووسوسَته لهما للأكْلِ مِنَ الشَّجَرةِ، وما نشَأَ مِن عَداوةِ جِنسِ الشَّيطانِ لِنَوعِ الإنسانِ، وتحذيرُ النَّاسِ مِنَ التَّلَبُّسِ ببقايا مَكرِ الشَّيطانِ؛ مِن تَسويلِه لهم حِرمانَ أنفُسِهم الطَّيِّباتِ، ومِنَ الوُقوعِ فيما يَزُجُّ بهم في العذابِ في الآخرةِ.

وصفُ أهوالِ يَومِ الجَزاءِ للمُجرمينَ، وكراماتِه للمُتَّقينَ.

ذِكرُ قِصَّةِ أصحاب الأعرافِ، والتذكيرُ بالبَعثِ، وتقريبُ دَليلِه.

النَّهيُ عن الفسادِ في الأرضِ التي أصلَحَها اللهُ لفائدةِ الإنسانِ، والتَّذكيرُ بِبَديعِ ما أوجَدَه اللهُ لإصلاحِها وإحيائِها.

ذِكرُ أحوالِ الرُّسُلِ مع أقوامِهم المُشركينَ، وما لاقَوْه مِن عنادِهم وأذاهم، بدأً بقِصَّةِ نوحٍ والطُّوفانِ، ثم ذِكْرِ هُودٍ وهلاكِ عادٍ، ثمَّ حديثِ صالحٍ وقَهرِ ثَمودَ، ثمَّ خبَرِ لُوطٍ وقَومِه، ثمَّ خبَرِ شُعَيْبٍ وأَهلِ مَدْيَنَ.

تَخويفُ الآمنينَ مِن مَكرِ اللهِ، وإنذارُهم بعَدَمِ الاغترارِ بإمهالِ اللهِ النَّاسَ، قبل أن يُنزِلَ بهم العذابَ؛ إعذارًا لهم أن يُقلِعُوا عن كُفْرِهم وعِنادِهم؛ فإنَّ العَذابَ يأتِيهم بغتةً بعد ذلك الإمهالِ.

تَفصيلُ أَحوالِ موسى وفِرعونَ والسَّحَرةِ، واستغاثةُ بني إِسرائيلَ، وذِكرُ الآياتِ المُفَصَّلاتِ، وحديثُ خِلافةِ هارونَ، وميقاتُ موسى، وقصَّةُ عِجْل السَّامِرىِّ في غَيْبَةِ موسى، ورجوعُ موسى إِلى قَومِه، ومُخاطَبَتُه لأَخيه هارونَ.

ذِكرُ بِشارةِ اللهِ بِبَعثةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، وصِفَة أُمَّتِه، وفَضْل دِينِه.

الإِشارةُ إِلى ذِكرِ الأَسباطِ، وقصَّةِ أَصحابِ السَّبْتِ.

مَوعظةُ المشركينَ كيف بدَّلُوا الحنيفيَّةَ، وتقَلَّدوا الشِّركَ، وضَرَبَ لهم مَثلًا بمَن آتاه اللهُ الآياتِ، فوَسْوَس له الشَّيطانُ، فانسلَخَ عن الهُدى.

وَصْفُ حالِ أهلِ الضَّلالةِ، ووَصْفُ تَكذيبِهم بما جاء به الرَّسولُ، ووَصْفُ آلِهَتِهم بما يُنافي الإلهيَّةَ، وأنَّ لله الصِّفاتِ الحُسنى، صفاتِ الكَمالِ.

أمْرُ اللهِ لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم والمُسلمينَ؛ بِسَعةِ الصَّدرِ، والمُداومةِ على الدَّعوةِ، وتَحذيرُهم مِن مَداخِلِ الشَّيطانِ؛ بِمُراقبةِ اللهِ بذِكْرِه سِرًّا وجَهرًا، والإقبالِ على عبادَتِه.

الحديثُ عن العهدِ الذي أخَذه الله على البشرِ؛ بأنْ يعبدُوه، ولا يُشْركوا به شيئًا، والحضُّ على التفكُّرِ والتدبُّر في ملكوتِ السمواتِ والأرضِ.

 

===================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (1-3)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ

غريب الكلمات:

 

حَرَجٌ: الحَرَج: الضِّيقُ، وأصلُ (حرج): تجمُّعُ الشَّيءِ وضِيقُه، ومنه الحَرَجُ: جمْعُ حَرَجةٍ: وهي الشَّجَرةُ المُلتَفُّ بها الأشجارُ، لا يدخُلُ بينها وبينها شَيءٌ؛ لشِدَّةِ التفافِها بها

.

لِتُنْذِرَ: أي: لتُخَوِّفَ، أو لتُعْلِمَ بما تُحذِّرُ منه، وأصلُ الإنْذارِ: إخبارٌ فيه تخويفٌ، أو الإبْلاغُ .

وَذِكْرَى: أي: تذكِرَةً ومَوعِظَةً، وأصلُ الذِّكر: خِلافُ النِّسيانِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

افتُتِحَت هذه السُّورةُ العظيمةُ بالحُروفِ المُقطَّعةِ؛ للإشارة إلى إعجازِ القُرآنِ؛ إذ تشير إلى عجزَ الخَلْقِ عن معارَضَتِه بالإتيانِ بشيءٍ مِن مِثلِه، مع أنَّه مُركَّبٌ من هذه الحُروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها!

ثم خاطبَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بأنَّ هذا القرآنَ كتابٌ أنزَلَه إليه، وأمره ألا يَضيقَ صدرُه من إبلاغِه، والإنذارِ به، وألا يكونَ لديه شَكٌّ أنَّه مُنزَّلٌ مِن عندِ الله تباركَ وتعالى؛ أنزَلَه إليه ليُخَوِّفَ به الكافرينَ، وموعظةً للمؤمنينَ.

ثم أمرَ اللهُ تعالى النَّاسَ أن يتَّبِعوا القرآنَ المُنَزَّلَ مِن عندِه، ونهاهم أن يتَّبِعوا مِن دُونِه أولياءَ، وأخبَرَ تعالى أنَّ النَّاسَ قليلًا ما يتَّعِظونَ ويعتَبِرون، فيُراجِعونَ الحَقَّ.

تفسير الآيات:

 

المص (1)

تقدَّم الكلامُ على هذه الحروفِ المقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سُورةِ البَقَرةِ

.

كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)

كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ

أي: هذا القرآنُ- يا محمَّدُ- كِتابٌ أنزَلَه اللهُ تعالى إليك .

فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ

أي: فلا يَضِقْ صدرُك- يا محمَّدُ- مِن إبلاغِ القُرآنِ، والإنذارِ به، ولا يكُنْ لديكَ شكٌّ واشتباهٌ في أنَّه مُنزَّلٌ مِن عندِ الله تبارك وتعالى، فلْيَنشرِحْ له صَدرُك ويتَّسِعْ، ولْتطمَئِنَّ به نفسُك، واصبِرْ على ما كُلِّفْتَ به مِن أثقالِ النُّبوَّةِ، وتَحمَّلِ الأذى، ولا تخشَ لائمًا، ولا مُعارِضًا .

لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ

أي: هذا كتابٌ أنزلناه إليك- يا محمَّدُ- لِتخوِّفَ به الكافرينَ، وموعظةً للمُؤمنينَ .

قال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم: 97] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].

اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّه أنزَلَ هذا الكتابَ العظيمَ على هذا النبيِّ الكريمِ؛ ليُنذِرَ به ويُذَكِّرَ- أَمَر من ذُكِّروا وأُنذِروا بما ينبغي أن يفعلوا تجاه ذلك الإنذارِ والتَّذكيرِ، الذي بعَث به رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال :

اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ

أي: اتَّبِعوا- أيُّها النَّاسُ- القُرآنَ الذي جاءكم مِن عندِ اللهِ الذي خلَقَكم، وهو مالِكُكم ومُدَبِّرُكم .

وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ

أي: ولا تتَّبعوا شيئًا غيرَ ما أَنزَلَ إليكم ربُّكم؛ فتَخرُجوا عن الحَقِّ الذي جاءكم به الرَّسولُ إلى غيرِه، فتكونوا قد عدَلتُم بذلك عن حُكمِ اللهِ إلى حُكمِ آخَرينَ تتولَّونَهم، وتتَّبِعون أهواءَهم .

قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ

أي: تَذكُّرُكم تذكُّرٌ قليلٌ لا يُجدي شيئًا، فقليلًا ما تتَّعظون وتَعْتَبرون، فتُراجعونَ الحقَّ

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال الله تعالى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ في هذه الآيةِ الكريمةِ وأمثالِها مِن الآياتِ زَواجِرُ عَظيمةٌ، ينبغي لنا أن نعتبِرَها؛ لأنَّ خالِقَنا جلَّ وعلا بَيَّن لنا أنَّه أنزلَ على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم هذا الكتابَ؛ لِيُخوِّفَ به الخَلقَ مِن عقوباتِ خالقِ السَّموات والأرضِ وسَخَطِه؛ فإنَّه الجبَّارُ الأعظَمُ، الذي إذا سَخِطَ عاقَبَ العقوبةَ المُهلِكةَ المُستأصِلةَ، فبهذا يجِبُ علينا أن نتأمَّلَ في معاني القرآنِ، ونعرِفَ أوامِرَ رَبِّنا التي أمَرَنا بها فيه، ونواهِيَه التي نهانا عنها، ونخافَ مِن هذا الإنذارِ والتَّهديدِ، الذي أُنزِلَ هذا القرآنُ على الرَّسولِ ليفعَلَه بمن لم يعمَلْ بهذا القرآنِ العَظيمِ؛ فالإنسانُ يجِبُ عليه أن يتدبَّرَ هذا القرآنَ العظيمَ، وينظُرَ أوامِرَه، وينظُرَ نواهِيَه، فَيُحِلَّ حلالَه، ويُحرِّمَ حَرامَه، ويعتقِدَ عقائِدَه، ويعمَلَ بمُحكَمِه، ويؤمِنَ بمُـتشابِهِه، ويعتبِرَ بما فيه مِن الأمثالِ، ويَلينَ قَلبُه لِما فيه من المواعِظِ، وضُروبِ الأمثالِ، فهذا الإنذارُ لا ينبغي للمُسلمِ أن يُهمِلَه، ويُعرِضَ عنه صَفحًا

.

قَولُه تعالى وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ المتبادِرُ هنا مِنَ النَّهيِ عَنِ اتِّباعِ الأولياءِ مِن دُونِه تعالى؛ هو النَّهيُ عن طاعةِ كُلِّ أحدٍ مِنَ الخَلْقِ في أمْرِ الدِّينِ؛ غَير ما أنزَلَ اللهُ مِن وَحْيِه، كما فعلَ أهلُ الكِتابِ في طاعةِ أحبارِهم ورُهبانِهم؛ فيما أحَلُّوا لهم، وزادوا على الوَحْيِ مِنَ العباداتِ، وما حَرَّمُوا عليهم مِنَ المباحاتِ، وكلُّ مَن أطاع أحدًا طاعةً دِينيَّةً في حُكمٍ شَرعيٍّ لم يُنْزِلْه رَبُّه إليه؛ فقد اتَّخَذه رَبًّا، قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ

 

[التوبة: 31] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فبَناه لِمَا لم يُسَمَّ فاعِلُه، ولم يَقُل: (أنزَلَ اللهُ)، أو: (أنزلناه)؛ إيجازًا مُؤذِنًا بأنَّ الـمُنزِلَ مُستغنٍ عَنِ التَّعريفِ، وعن إسنادِه إلى الضَّميرِ أو الاسمِ الصَّريحِ؛ فإنَّ هذا الكتابَ البديعَ، لا يمكِنُ أن يكون إلَّا مِن فوقِ ذلك العَرشِ الرَّفيعِ

.

2- في قَولِه تعالى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ دلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى رَفَعَ الحرجَ عن الصدور بكتابِه، وكانت قبلَ إنزالِ الكتابِ في أعظمِ الحرجِ والضِّيقِ؛ فلما أنزل كتابَه ارتفعَ به عنها ذلك الحرجُ، وبقي الحرجُ والضيقُ على مَن لم يُؤْمِن به، كما قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام: 125] .

3- قال الله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ استَدلَّ به بعضُهم على أنَّ المباحَ مأمورٌ به؛ لأنَّه من جملةِ ما أنزَلَ اللهُ، وقد أَمَرَنا باتِّباعِه .

4- قولُ اللهِ تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، قال: أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وإنَّما أُنزِلَ على الرَّسولِ؛ ليُفيدَ أنَّه مُنزَّلٌ على الكُلِّ، بمعنى أنَّه خِطابٌ للكُلِّ

5- في قَولِه تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ أمرٌ باتباع ما أَنزلَ اللهُ على رسوله، ونهيٌ عن اتِّباعِ غيره، فما هو إلَّا اتِّباعُ المُنزَّلِ؛ أو اتِّباعُ أولياء مِن دونه، فإنَّه لم يجعلْ بينهما واسطةً، فكلُّ مَن لا يَتَّبعُ الوحيَ؛ فإنما يَتَّبعُ الباطلَ، واتَّبَعَ أولياءَ مِن دون اللهِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: كتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ فيه النَّهيُ في اللَّفظِ- في قوله: فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ- للحَرَجِ، والمرادُ المخاطَبُ؛ مبالغةً في النهيِ عن ذلك، كأنَّه قيل: لا تتسبَّبْ في شيءٍ ينشَأُ منه حَرَجٌ، وهو من بابِ «لَا أَرَيَنَّك هاهنا»؛ فالنَّهيُ في اللَّفظِ للمُتكلِّم، والمرادُ المخاطَبُ، أي: لا تكُنْ بحَضرتي فأراكَ، ومثلُه: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا

.

والتنكيرُ في قولِه: كِتَابٌ نَوعيٌّ؛ لدَفعِ الاستِبْعادِ، أي: استبعادِ المُشركينَ، وإنكارِهم أنْ يكونَ القُرآنُ مِن عندِ اللهِ، فذَكَّرَهم اللهُ بأنَّه كتابٌ مِن نَوعِ الكُتُبِ المُنَزَّلةِ على الأنبياءِ، فكَما نزَلَت صُحُفُ إبراهيمَ، وكتابُ موسى، كذلك نَزَل هذا القُرآنُ. أو أُريدَ بالتَّنكيرِ التَّعظيمُ، أي: هو كِتابٌ عظيمٌ؛ تَنويهًا بشَأنِه، فصار التَّنكيرُ في معنى التَّوصيفِ. أو أُريد بالتَّنكيرِ التَّعجيبُ مِن شأنِ هذا الكِتابِ في جميعِ ما حفَّ به مِنَ البلاغةِ والفَصاحة والإعجازِ والإرشادِ .

قوله: لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ فيه إيجازٌ بحَذفِ مُتعَلِّقِ لِتُنْذِرَ؛ لظُهورِ تقديرِ المَحذوفِ مِن ذِكرِ مُقابِلِه المذكورِ في قَولِه: وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، والتَّقديرُ: لِتُنذِرَ به الكافرينَ .

وصرَّحَ بمتعَلِّقِ الذِّكْرى دون مُتعَلِّقِ لِتُنْذِرَ؛ تنويهًا بشأنِ المؤمنينَ، وتَعريضًا بتحقيرِ الكافرينَ تِجاهَ ذِكرِ المُؤمنينَ، ولأنَّ المُؤمنِينَ هم الذين ينتفعونَ بالمواعِظِ، وللإيذانِ باختِصاصِ الإنذارِ بالكَفرةِ، أي: لتُنذِرَ به المشرِكين، وتُذكِّر المؤمنينَ .

وجُعِلَ الإنذارُ بالكِتابِ مُقَدَّمًا في التَّعليلِ على الذِّكرى؛ لأنَّه أهمُّ بحسَب المقامِ؛ لأنَّه الغَرَضُ الأهمُّ لإبطالِ ما عليه المشركونَ مِن الباطِلِ، وما يُخلِّفُونَه في النَّاسِ مِنَ العَوائِدِ الباطِلةِ، التي تُعانَى إزالَتُها مِنَ النَّاسِ بعدَ إسلامِهم .

قوله: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أولِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ كلامٌ مُستأنَفٌ خُوطِبَ به كافَّةُ المُكَلَّفينَ بِطَريقِ التَّلوينِ، وكُلٌّ مأمورٌ باتِّباعِ ما أُنزِلَ إليه، والمقصودُ الأجدَرُ هُم المُشركونَ؛ تعريضًا بأنَّهم كَفَروا بنِعمةِ رَبِّهم .

قولُه: مِنْ رَبِّكُمْ في التَّعَرُّضِ لوَصفِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافَةِ إلى ضميرِ المُخاطَبينَ: مزيدُ لُطفٍ بهم، وتَرغيبٌ لهم في الامتثالِ بما أُمِرُوا به، وتأكيدٌ لوُجُوبِه .

قولُه: وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أولِيَاءَ المقصودُ مِن هذا النَّهيِ بعدَ الأمرِ بالاتِّباعِ؛ تأكيدُ مُقتضَى الأمرِ باتِّباعِ ما أُنزِلَ إليهم؛ اهتمامًا بهذا الجانِبِ مِمَّا أُنزِلَ إليهم، وتسجيلًا على المشركينَ، وقطعًا لمعاذيرِهم أنْ يَقُولوا: إنَّنا اتَّبَعْنا ما أُنزِلَ إلينا، وما نرى أولياءَنا إلَّا شُفَعاءَ لنا عندَ اللهِ، فما نعبُدُهم إلَّا لِيُقَرِّبونا إلى اللهِ زُلفَى، فإنَّهم كانوا يُمَوِّهونَ بِمثلِ ذلك .

وقد أفاد مجموعُ قولِه: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أولِيَاءَ مَفادَ صِيغةِ قَصرٍ؛ كأنَّه قال: لا تَتَّبِعوا إلَّا ما أمَرَ به ربُّكم، أي: دُونَ ما يأمُرُكم به أولياؤُكم، فعَدَل عن طَريقِ القَصرِ؛ لتكون جملةُ: وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِه أَوْلِيَاءَ مُستقِلَّةً صريحةَ الدَّلالةِ؛ اهتمامًا بمضمونِها .

وقولُه: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ اعتراضٌ تذييليٌّ مَسوقٌ لتَقبيحِ حالِ المُخاطَبينَ .

ومَا مزيدةٌ لتَوكيدِ القِلَّةِ، أي: تذكُّرًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا

==========

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (4-9)

ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ

غريب الكلمات:

 

بَأْسُنَا: أي: عذابُنا، وأصلُ (بأس) الشِّدُّة وما ضاهاها

.

بَيَاتًا: أي: ليلًا، أو وَقتَ بَياتٍ، واشتغالٍ بالنَّومِ، وأصلُ البيت: مَأْوَى الإنسانِ باللَّيلِ؛ لأنَّه يقال: بَاتَ، أي: أقامَ باللَّيلِ .

قَائِلُونَ: أي: نائِمون نِصفَ النَّهَارِ في وَقْتِ القائِلَةِ .

فَلَنَقُصَّنَّ: أي: فلنُخبِرَنَّ، والقَصَصُ: الأخبارُ المتتبَّعةُ، والأثَرُ، وأصْل القصِّ: تتبُّعُ الأثَرِ أو الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه كثيرًا ما أهلكَ أهلَ القُرى مِنَ الأُمَمِ السَّابقةِ؛ الذين عَبَدوا غيرَه، وكذَّبوا رُسُلَه، فأتَتْهم عُقوبَتُه التي أستأصَلَتْهم على غِرَّةٍ منهم، وهم غافلونَ؛ فبعضُهم جاءَتهم العُقوبةُ في بيوتِهم ليلًا قبل أن يُصبِحُوا، وبعضُهم نهارًا في وقتِ القَيلولةِ، فما كان قولُهم حين جاءَهم العذابُ إلَّا أنِ اعتَرَفوا أنَّهم كانوا ظالِمينَ.

ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّه سيَسألُ الأُمَمَ التي أرسَل إليهم رُسُلَه سؤالَ توبيخٍ عمَّا عَمِلَت فيما جاءَتها به الرُّسُل، هل أطاعوا الله، وأجابوا الرُّسُلَ، أم عَصَوه وكذَّبُوهم، وسيَسألُ الـمُرسَلينَ عن تبليغِهم للرِّسالة، وعمَّا أُجِيبُوا، وأخبَرَ تعالى أنَّه سيقُصُّ على العبادِ يومَ القيامةِ عنْ علمٍ بما قالوا، وبما عَمِلوا في الدُّنيا، وما كان سبحانَه غائبًا في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ عنهم، وعن أفعالِهم؛ فهو على كلِّ شيءٍ شَهيدٌ.

وأخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ الوَزنَ يومَ القيامةِ لأعمالِ الخلائقِ يكونُ بالعَدلِ؛ فمَن ثَقُلَت موازينُ عَمَلِه الصَّالِحِ فأولئك هم الفائزونَ، ومَن خفَّتْ موازينُ أعمالِه الصَّالحة، فرَجَحَت سيِّئاتُه، فأولئك الذين خَسِروا أنفسَهم؛ نتيجةَ تَكذيبِهم وجَحدِهم بآياتِ اللهِ.

تفسير الآيات:

 

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ رَسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالإنذارِ والتَّبليغِ، وأمرَ القَومَ بالقَبولِ والمُتابعة؛ ذَكرَ في هذه الآيةِ ما في تَركِ المُتابعَةِ والإعراضِ عنها مِنَ الوَعيدِ

، فقال تعالى:

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا

أي: كثيرًا ما أهلَكْنا أهلَ القُرى مِنَ الأُمَم السَّابقةِ، الذين عَصَوني، وكذَّبوا رُسُلي، وعَبَدوا غيري .

كما قال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] .

وقال سبحانه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص: 58] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] .

وقال سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق: 8 - 9] .

فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ

أي: فجاءَتَهم عُقوبَتُنا المُستأصِلةُ لهم، فدمَّرنا بعضَهم في بُيوتِهم ليلًا قبل أن يُصبِحوا، وجاء العذابُ بعضَهم نهارًا في وقتِ القَيلولةِ، فاحذروا تكذيبَ رَسُولي محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لئلَّا أُنزِلَ بكم مِثلَ ما أنزَلتُ بتلك الأُمَمِ السَّالفةِ مِنَ العذابِ .

كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف: 97-98] .

وقال سبحانه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 45-47] .

فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)

أي: فما كان قَولُ أهلِ القُرى التي أهلَكْنَاها حين مَجيءِ العَذابِ إلَّا اعترافَهم بظُلمِ أنفُسِهم، وإقرارَهم بالإساءةِ إليها، ولم يَقدِرُوا على رَدِّ العذابِ عنهم .

كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 11-15] .

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

في مُناسَبةِ هذه الآيةِ لِما قَبلَها وجهانِ:

الوجهُ الأوَّلُ: لَمَّا أمَرَ اللهُ الرُّسُلَ في الآيةِ الـمُتقَدِّمة بالتَّبليغِ، وأمَرَ الأُمَّةَ بالقَبولِ والمُتابَعة، وذَكَر التَّهديدَ على تَركِ القَبولِ والمُتابعة بذِكرِ نُزُولِ العَذابِ في الدُّنيا؛ أتبَعَه بنوعٍ آخَرَ مِنَ التَّهديدِ، وهو أنَّه تعالى يَسألُ الكُلَّ عن كيفيَّةِ أعمالِهم، يومَ القيامةِ.

الوجهُ الثَّاني: لَمَّا قال تعالى: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ؛ أتْبَعَه بأنَّه لا يقَعُ يومَ القيامةِ الاقتصارُ على ما يكونُ مِنهم مِن الاعترافِ، بل ينضافُ إليه أنَّه تعالى يَسأَلُ الكُلَّ عن كيفيَّة أعمالِهم، وبيَّنَ أنَّ هذا السُّؤالَ لا يختَصُّ بأهلِ العِقابِ، بل هو عامٌّ في أهلِ العِقابِ، وأهلِ الثَّوابِ ، والمرسلين كذلك، كلٌّ بحسبِه، فقال تعالى:

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ

أي: فلَنَسألَنَّ الأمَمَ الذين أرسَلْتُ إليهم رُسُلي سُؤالَ تَوبيخٍ، لا سُؤالَ استعلامٍ: ماذا عَمِلوا فيما جاءَتَهم به الرُّسُلُ مِن أمرِي ونَهْيِي، هل أطاعوني وأجابوا رُسُلي، أم أنَّهم عَصَوني وكَذَّبوا رُسُلي؟ .

كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] .

وقال سبحانه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92-93] .

وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قال: ((ألَا كُلُّكم راعٍ، وكلُّكم مَسؤولٌ عَن رَعِيَّتِه، فالأميرُ الذي على النَّاسِ راعٍ، وهو مَسؤولٌ عَن رَعِيَّتِه، والرَّجُلُ راعٍ على أهلِ بَيتِه، وهو مسؤولٌ عنهم، والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بَعلِها ووَلَدِه، وهي مسؤولةٌ عنهم، والعبدُ راعٍ على مالِ سَيِّدِه، وهو مَسؤولٌ عنه، ألَا فكُلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رَعِيَّتِه )) .

وعن أبي بَرْزةَ الأسلميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القِيامةِ حتى يُسأَلَ عَن عُمُرِه فيمَ أفناه، وعن عِلْمِه فيمَ فَعَل، وعن مالِه مِن أينَ اكتسَبَه وفيمَ أنفَقَه، وعن جِسمِه فيمَ أبلاه )) .

وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ

أي: ولنَسألَنَّ الرُّسُلَ الذين أرسلتُهم إلى الأُمَم عن تبليغِهم لرِسالاتِ رَبِّهم، وعمَّا أجابَتْهم به أمَمُهم .

كما قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] .

وقال سبحانه: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] .

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان السُّؤالُ في الآيةِ السَّابقةِ يُوهم خَفاءَ المَسؤولِ عنه على السَّائل؛ سَبَّبَ عن ذلك ما يُزيلُ هذا الوَهمَ بِقَولِه، مُؤذِنًا بأنَّه أعلمُ مِنَ المسؤولينَ عَمَّا سألَهم عنه :

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ

أي: فلَنُخبِرَنَّ العبادَ يومَ القيامةِ عَن علمٍ بما قالوا، وبما عَمِلوا في الدُّنيا .

وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ

أي: وما كنَّا غائبينَ في أيِّ وقتٍ مِنَ الأوقاتِ عنهم، وعن أفعالِهم التي كانوا يفعَلونها؛ فاللهُ تعالى شهيدٌ على كلِّ شيءٍ، لا يغيبُ عنه شيءٌ .

كما قال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] .

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ الأُولى أنَّ مِن جُملةِ أحوالِ القِيامةِ السُّؤالَ والحِسابَ؛ بَيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ مِن جُملةِ أحوالِ القِيامةِ أيضًا وزنَ الأعمالِ ، فقال تعالى:

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ

أي: والوزنُ يومَ القيامةِ لأعمالِ الخَلقِ: الحَسناتِ مِنها والسَّيِّئاتِ؛ يكونُ بالعَدلِ، ولا يَظلِمُ اللهُ تعالى أحدًا .

كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .

وقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة: 6-11] .

وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون: 101 -103] .

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ العِبرةَ بالمِيزانِ على وجهٍ يُظهِرُ أنَّه لا حَيفَ فيه بوَجهٍ؛ جاء قولُه :

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

أي: فمَن ثَقُلَت موازينُ عَمَلِه الصَّالِحِ، بأنْ رَجَحَتْ كِفَّةُ حَسَناتِه على سَيِّئاتِه؛ فأولئك هم النَّاجُونَ الفائِزونَ .

عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ الله عنه، قال: سمِعْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((ما مِن شَيءٍ يُوضَعُ في الميزانِ أثقَلُ مِن حُسْنِ الخُلُقِ، وإنَّ صاحِبَ حُسْنِ الخُلُقِ لَيَبلُغُ به درجةَ صاحِبِ الصَّومِ والصَّلاةِ )) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كَلِمَتانِ خَفِيفتانِ على اللِّسانِ، ثَقيلتانِ في المِيزانِ، حَبيبتانِ إلى الرَّحمنِ: سُبحانَ اللهِ وبِحَمدِه، سُبحانَ اللهِ العظيمِ )) .

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ

أي: ومَنْ خفَّتْ مَوازينُ أعمالِه الصَّالحةِ، بأنْ رَجَحَت سيِّئاتُه، وصار الحُكمُ لها، ولم تَثْقُلْ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ؛ فأولئك الذين أضاعوا حَظَّ أنفُسِهم مِن ثَوابِ اللهِ وكَرامَتِه .

بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ

أي: خَسِرُوا أنفُسَهم؛ لأنَّهم كذَّبوا وجَحَدوا بآياتِ اللهِ سُبحانه وتعالى

 

.

الفوائد التربوية :

 

لا يَنبغي للعاقِلِ أنْ يأمَنَ صَفوَ اللَّيالي، ولا مُواتاةَ الأيَّامِ، ولا يَغتَرَّ بالرَّخاءِ؛ فيَعُدَّه آيةً على الاستحقاقِ له، الذي هو مَظِنَّةُ الدَّوامِ، بل يلزَم التَّذكُّرَ والحَذرَ والتَّوقِّيَ والاحتياطَ؛ قال الله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

لقائِلٍ أن يقولَ: قولُه: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ يقتضي أن يكونَ الإهلاكُ مُتقَدِّمًا على مجيءِ البأسِ، وليس الأمرُ كذلك؛ فإنَّ مجيءَ البأسِ مُقَدَّمٌ على الإهلاكِ. والإجابةُ عن هذا السؤالِ من وجوهٍ:

الأول: المرادُ بقولِه: أَهْلَكْنَاهَا أي: حَكَمْنا بهلاكِها فجاءَها بأسُنا.

وثانيها: كم مِن قريةٍ أرَدْنا إهلاكَها فجاءَها بأسُنا، كقوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] .

وثالثها: أنْ يكونَ التَّرتيبُ تَرتيبَ تَفصيلٍ على جملةٍ؛ ذَكَرَ الإهلاكَ ثمَّ فَصَّلَه بنوعينِ؛ أحدُهما: مجيءُ البأسِ بياتًا، أي: ليلًا. والثَّاني: مجيئُه وقتَ القائِلةِ

.

قوله: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا فيه الإتيانُ بِقَولِه: أَهْلَكْنَاهَا في مَوضِعِ (أَرَدْنَا إِهْلاكَها) بقرينةِ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا- على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ- والإتيانُ بحرفِ التَّعقيبِ بعدَ ذلك؛ للدَّلالَةِ على عدمِ التَّرَيُّثِ، فدلَّ الكلامُ كلُّه: على أنَّه تعالى يُريدُ فيخلُقُ أسبابَ الفعلِ المرادِ، فيحصلُ الفعلُ، كُلُّ ذلك يَحْصُلُ كالأشْياءِ الـمُتَقارِنَةِ، والغرضُ مِنْ ذلك تَهْديدُ السَّامِعينَ المعانِدينَ، وتَحْذيرُهم مِنْ أنْ يَحُلَّ غَضَبُ الله عليهم، فيُريد إهلاكَهم، فضَيَّقَ عليهم المهلةَ؛ لِئلَّا يتباطَؤُوا في تدارُكِ أمْرِهم، والتَّعجيلِ بالتَّوبةِ .

قول الله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فيه لطيفةٌ، حيث أُجْريَ الضَّميرانِ في قولِه: أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا على الإفرادِ والتأنيثِ؛ مُراعاةً للفظِ (قَرية)؛ ليَحصُلَ التماثُلُ بين لفظِ الـمُعادِ ولفظِ ضَميرِه في كلامٍ مُتَّصلِ القُربِ، ثم أُجريتْ ضمائرُ القرية على صِيغة الجمعِ في الجملةِ الـمُفرَّعةِ عن الأُولى في قوله: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ؛ لحُصولِ الفَصلِ بينَ الضَّميرِ ولفظِ مُعادِه بجُملةٍ فيها ضميرُ مُعادِه غير لَفظِ القرية، وهو بَأْسُنَا بَيَاتًا؛ لأنَّ (بَياتًا) مُتحمِّلٌ لضميرِ البأسِ، أي: مُبيَّتًا لهم، وانتقَل منه إلى ضميرِ القرية باعتبارِ أَهلِها، فقال: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ .

قوله تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يدُلُّ على أنَّ اللهَ يسألُ جَميعَ النَّاسِ يومَ القيامةِ، ونظيرُه قولُه تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 93] ، وقولُه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئولُونَ [الصفات: 24]، وقولُه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] ، وقد جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على خلافِ ذلك؛ كقوله: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 39]، وكقوله: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] ، والجوابُ عن هذا من ثلاثةِ أوجُهٍ:

الأوَّل- وهو أوجَهُها؛ لدَلالةِ القُرآنِ عليه- هو: أنَّ السُّؤالَ قِسمانِ: سؤالُ تَوبيخٍ وتقريعٍ، وأداتُه غالبًا: (لِمَ)، وسؤالُ استخبارٍ واستعلامٍ، وأداتُه غالبًا: (هَل)، فالـمُثبَتُ هو سؤالُ التَّوبيخِ والتَّقريعِ، والمنفيُّ هو سُؤالُ الاستخبارِ والاستعلامِ، وجهُ دلالةِ القرآنِ على هذا: أنَّ سؤالَه لهم المنصوصَ في كُلِّه توبيخٌ وتقريعٌ، كقوله: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ، وقوله: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ، وكقوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.

الوجه الثاني: أنَّ في القيامةِ مواقِفَ مُتعدِّدةً؛ ففي بعضِها يُسألونَ، وفي بعضها لا يُسألونَ.

الوجه الثالث: أنَّ إثباتَ السُّؤالِ مَحمولٌ على السُّؤالِ عَنِ التَّوحيدِ، وتَصديقِ الرُّسلِ، وعدمَ السُّؤالِ مَحمولٌ على ما يستلزِمُه الإقرارُ بالنُّبوَّاتِ مِن شرائِعِ الدِّينِ وفُروعِه ، وقيل غير ذلك .

قولُ الله تعالى: وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ الفائدةُ في سُؤالِ الرُّسُلِ مع العِلمِ بأنَّه لم يصدُرْ عنهم تقصيرٌ ألبتَّةَ: أنَّهم إذا أثبَتُوا أنَّه لم يَصدُرْ عنهم تقصيرٌ ألبتَّةَ، التحَقَ التَّقصيرُ بكُلِّيَّتِه بالأمَّةِ، فيتضاعَفُ إكرامُ اللهِ في حَقِّ الرُّسُلِ؛ لظُهورِ بَراءَتِهم عن جميعِ مُوجباتِ التَّقصيرِ، وتتضاعَفُ أسبابُ الخِزي والإهانةِ في حقِّ الكُفَّارِ؛ لِمَا ثبت أنَّ كُلَّ التقصيرِ كان منهم .

قولُ اللهِ تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ يدلُّ على أنَّه تعالى عالِمٌ بالعِلمِ، وهو صِفَةٌ له، قائِمٌ بذاتِه، وأنَّ قَولَ مَن يقولُ: (إنَّه لا عِلمَ لله) قولٌ باطِلٌ .

قولُ الله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إنْ قيل: الميزانُ واحِدٌ، فما وجهُ الجَمعِ؟ فالجوابُ: أنَّ العَربَ قد تُوقِعُ لفظَ الجَمعِ على الواحِدِ تفخيمًا له. وقيل: إنَّه يُنصَبُ لكُلِّ عبدٍ مِيزانٌ. وقيل: جُمِعَ لاختلافِ الموزوناتِ، وتعَدُّدِ الجَمعِ، فهو جمعُ مَوزونٍ أو ميزانٍ فالميزانُ واحدٌ، وأُطلق عليه اسمُ الجمعِ؛ لكثرةِ ما يُوزن فيه مِن أنواعِ الأعمالِ، وكثرةِ الأشخاصِ العاملين، الموزونةِ أعمالُهم .

في قَولِه تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ دلالةٌ على أنَّ الحَسَناتِ هي مِن أسبابِ مَحْوِ الذُّنُوبِ، وزوالِ العُقُوبةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ هذا الخبرُ مُستعمَلٌ في التَّهديدِ للمُشركينَ، الذين وُجِّهَ إليهم التعريضُ في الآيةِ الأولى

، وقد خَصَّ بالذِّكرِ إهلاكَ القُرى، دون ذِكرِ الأُمَم؛ لأنَّ المُواجَهينَ بالتَّعريضِ هم أهلُ مَكَّةَ، وهي أمُّ القرى؛ فناسَبَ أن يكونَ تهديدُ أهلِها بما أصابَ القُرى وأهلَها، وأيضًا لأنَّ تعليقَ فِعلِ أَهْلَكْنَاهَا بالقريةِ دون أهلِها؛ لِقَصدِ الإحاطةِ والشُّمولِ، فهو مُغنٍ عن أدواتِ الشُّمولِ، فالسَّامِعُ يعلَمُ أنَّ الـمُرادَ مِنَ القريةِ أهلُها؛ لأنَّ العِبرةَ والموعِظةَ إنَّما هي بما حَصَل لأهلِ القَريةِ .

والتَّعبيرُ عن إرادةِ الفِعلِ بذِكرِ الصِّيغةِ التي تدُلُّ على وقوعِ الفِعلِ في قولِه: أَهْلَكْنَاهَا؛ لإفادةِ عَزمِ الفاعِلِ على الفِعلِ عزمًا لا يتأخَّرُ عنه العَمَلُ، بحيث يُستعارُ اللَّفظُ الدَّالُّ على حُصولِ المرادِ للإرادةِ؛ لتَشابُهِهما . وهذا على أحدِ الأوجهِ في التفسيرِ.

وقولُه: فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فيه مبالغةٌ في تصويرِ غَفْلتِهم، وأمْنِهم مِن العذابِ، وخُصَّ مَجيءُ البَأسِ بهَذينِ الوَقتينِ؛ لأنَّهما وقتانِ للسُّكونِ والدَّعَةِ والاستراحةِ، على عادَتِه سُبحانَه في أخْذِ الظَّالِمِ في وَقتِ بُلوغِ آمالِه وفَرَحِه ورُكونِه إلى ما هو فيه؛ فمَجيءُ العذابِ فيهما أقطَعُ وأشَقُّ، ولأنَّه يكون المجيءُ فيه على غَفلةٍ مِنَ المُهلَكينَ، فهو كالمجيءِ بَغتةً، كما أنَّ التَّذكيرَ بالعذابِ فيهما يُنَغِّصُ على المُكَذِّبين تَخَيُّلَ نَعيمِ الوَقتينِ، وفي هذا التَّقسيمِ تهديدٌ؛ حتَّى يكونوا على وَجَلٍ في كلِّ وقتٍ، لا يَدْرُون متَى يَحُلُّ بِهم العذابُ، بحيثُ لا يَأْمَنون في وقتٍ ما .

قوله: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فيه حَصْرٌ، ومعناه: أنَّهم لم يَستغيثوا اللهَ ولا توَجَّهوا إليه بالدُّعاءِ، ولِكَنَّهم وَضَعوا الاعترافَ بالظُّلمِ مَوضِعَ الاستغاثةِ؛ فلذلك استثناه اللهُ مِنَ الدَّعوى . هذا على القولِ بأنَّ الاستثناءَ متَّصلٌ.

والتَّوكيدُ بـ(إنَّ) في قولهم: إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ؛ لتحقيقِ الخَبرِ للنَّفسِ أو للمُخاطَبينَ .

قوله: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ المرادُ من هذا السؤالِ توبيخُ الكفَرَةِ وتقريعُهم .

والذينَ أُرسِلَ إليهم هُم أُمَمُ الرُّسُل، وعبَّرَ عنهم بالموصولِ الَّذِينَ؛ لِمَا تَدُلُّ عليه الصِّلةُ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّعليلِ، فإنَّ فائدةَ الإرسالِ هي إجابةُ الرُّسُلِ .

وفي قوله: فَلَنَسْأَلَنَّ وقوله: وَلَنَسْأَلَنَّ التأكيدُ بلامِ القَسمِ ونُونِ التَّوكيدِ؛ لإزالةِ الشَّكِّ في ذلك، ولأنَّ الـمُخاطَبينَ مِنَ العَرَبِ في أوَّلِ الدَّعوةِ كانوا يُنكِرونَ البَعثَ والجَزاءَ، ولتأكيدِ الخَبرِ تأثيرٌ في الأنفُسِ، ولا سيَّما خَبرُ الـمَشهورِ بالأمانةِ والصِّدقِ، كالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقد كانوا يُلَقِّبونَه قبل البَعثةِ بالأمينِ .

وقدَّمَ ذِكرَ سُؤالِ الأمَمِ على ذِكرِ الرُّسُلِ؛ لأنَّ المقصودَ الأهَمَّ مِنَ السُّؤالِ هو الأمَمُ؛ لإقامَةِ الحُجَّةِ عليهم في استحقاقِ العِقابِ .

قوله: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ هذا مِن أعظَمِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ؛ حيث يُقِرُّونَ بالظُّلمِ، وتَشهَدُ عليهم أنبياؤُهم، ويَقُصُّ اللهُ عليهم أعمالَهم .

وتَنكيرُ قَولِه: بِعِلْمٍ يدلُّ على إرادةِ التَّفصيلِ، أي: عالِمينَ بأحوالِهِم الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، وأقوالِهم وأفعالِهم، وتَنوينُه للتَّعظيمِ، أي: بعلمٍ عَظيمٍ .

وقوله: وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ تذييلٌ مُقَرِّرٌ لِما قبلَه ، والغائِبُ ضِدُّ الحاضِرِ، وهو هنا كنايةٌ عن الجاهِلِ؛ لأنَّ الغَيبةَ تستلزِمُ الجهالةَ عُرفًا، أي: الجَهالة بأحوالِ المَغيبِ عنه؛ فإنَّها ولو بلَغَتْه بالإخبارِ، لا تكونُ تامَّةً عنده مثلَ الـمُشاهِد .

قولُه: فَمَنْ ثقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ: فيه اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ وما فيه مِن مَعنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ طَبَقَتِهم، وبُعدِ منزلَتِهم في الفَضلِ والشَّرَفِ .

وضَميرُ الفَصلِ (هُمْ) في قوله: هُمُ الْمُفْلِحُونَ؛ لقَصدِ الانحصارِ، أي: هُم الذين انحصَرَ فيهم تحقُّقُ المُفلِحينَ، أي: إن عَلِمْتَ جماعةً تُعرَفُ بالمُفلحينَ فَهُمُ هُمُ .

وتعريفُ الْمُفْلِحُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم النَّاسُ الذين بلغَك أنَّهم مُفلِحون في الآخِرَةِ، أو إشارةٌ إلى ما يَعرِفُه كلُّ أحدٍ مِن حقيقةِ المُفلحينَ، وخصائِصِهم .

قوله: بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ صِيغةُ المضارِعِ في قوله: يَظْلِمُونَ؛ لحكايةِ حالِهم في تجدُّدِ الظُّلمِ فيما مضَى .

وتقديمُ المجرورِ في قوله: بِآيَاتِنَا على عامِلِه، وهو يَظْلِمُونَ؛ للاهتمامِ بالآياتِ .

الجَمعُ بين صِيغَتَي الماضي والمُستقبَل (كَانوا... يَظلمون)؛ للدَّلالةِ على استمرارِ الظُّلمِ في الدُّنيا

 

.===========

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (10-18)

ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ

غريب الكلمات:

 

مَكَّنَّاكُمْ: أي: وطَّأْنا لكم الأرضَ، أو جَعَلْناها قرارًا لكم، وأصلُ (مكن): الموضِعُ الحاوي للشَّيءِ

.

مَعَايِشَ: أي: أسبابًا تعيشونَ بهَا مِن مَطاعِمَ ومَشارِبَ، مُفرَدُها مَعِيشةٌ، وَهِي مَا يُعاشُ بِهِ مِنَ النَّباتِ والحيوانِ وغيرِ ذلك، والعَيْشُ: أخصُّ مِنَ الحَياةِ .

صَوَّرْنَاكُمْ: أي: صَوَّرْنا أباكُم آدَمَ بَشَرًا سَوِيًّا، وقيل: صَوَّرْنا الذُّرِّيةَ، وصُورةُ كُلِّ مَخلوقٍ: هَيئةُ خِلْقَتِه، وما يَتميُّز به عن غيره .

إِبْلِيسَ: هو أبو الشَّياطينِ، وأصلُ الإبلاسِ: اليَأسُ، والحُزنُ المعترِضُ مِن شِدَّةِ اليأسِ، ومنه اشتُقَّ إبليسُ، وقيل: هو اسمٌ أعجميٌّ؛ ولذلك لم يَنصرِفْ .

الصَّاغِرِينَ: أي: الـمُهانِينَ، أو الـمُبعَدينَ، جمْعُ صاغرٍ، والصَّغَارُ: الذِّلَّةُ، وأصلُ (صغر): يدُلُّ على قِلَّةٍ وَحَقَارَةٍ .

أَنْظِرْنِي: أي: أخِّرْني وأجِّلْني، وأصلُ (نظر): تأمُّلُ الشَّيءِ ومعاينتُه، ومنه: نَظَرْتُه، أي: انتَظَرْتُه، كأنَّه ينظُرُ إلى الوَقتِ الذي يأتي فيه .

أَغْوَيْتَنِي: أي: أضْلَلْتَني، والغَيُّ: جَهلٌ مِن اعتقادٍ فاسدٍ، وأصلُ (غوي): يدُلُّ على خِلافِ الرُّشدِ، وإِظْلامِ الْأَمْرِ، ويدلُّ على فَسادٍ في شَيْءٍ .

مَذْؤُومًا: أي: مَذمومًا بأبلَغِ الذَّمِّ، أو مَلُومًا، وأَصْل (ذأم): يدلُّ على كَرَاهَةٍ وَعَيْبٍ .

مَدْحُورًا: أي: مُقْصًى مطرودًا مُبْعَدًا؛ يُقَال: ادْحَرْ عنكَ الشَّيطانَ، أي: أَبعِدْه، وأصل الدَّحْرِ: الطَّردُ والإبعادُ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ

فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي: في هذه الباءِ وَجهانِ؛ أحدُهما: أنْ تكونَ للقَسَمِ، أي: فأُقسِمُ بإغوائِكَ لأقعُدَنَّ. والثاني: أن تكون سَببيَّةً، تعلَّقَتْ بفعلِ القَسَمِ المحذوفِ، تقديرُه: فبما أغوَيتَني أُقسِمُ باللهِ لأَقعُدَنَّ، أي: فبسَبَبِ إغوائِك أُقسِمُ.

صِراطَكَ: (صِراطَ) مَنصوبٌ على نزْعِ الخافِضِ (على)، والتقديرُ: لأقعُدَنَّ لهم على صراطِك، أو منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ به للفِعل أَقْعُدَنَّ على تَضمينِ الفِعلِ (قعَدَ) معنَى فِعلٍ مُتعدٍّ، والتقديرُ: لألزَمَنَّ صراطَك المستقيمَ بقُعودِي عليه، وقيلَ غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يمتَنُّ اللهُ على عبادِه بأنْ هيَّأَ لهم الأرضَ، وأقدَرَهم على الانتفاعِ بما فيها، ويَسَّرَ لهم فيها ما يعيشونَ به في حياتِهم، ومع ذلك فإنَّ قليلًا منهم مَن يَشكُرُه تعالى على نِعَمِه.

ثم خاطَبَ اللهُ بني آدَمَ قائلًا لهم إنَّه خلَقَ أباهم آدَمَ، ثمَّ صَوَّرَه بَشَرًا سَوِيًّا في أحسَنِ تَقويمٍ، ثمَّ قال للملائكةِ: اسجُدُوا لآدَمَ، فكُلُّهم امتَثَلَ الأمرَ وسجَدَ؛ إلَّا إبليسَ؛ استكبَرَ ورفَضَ السُّجودَ.

فسأله اللهُ تعالى عمَّا منَعَه مِنَ السُّجودِ حين أمَرَه، فأجاب أنَّ ما منَعَه مِن ذلك هو أنَّه أفضَلُ مِن آدَمَ؛ إذ خلَقَه اللهُ تعالى مِن نارٍ، بينما خلَقَ آدَمَ مِن طينٍ.

فأمَرَه اللهُ تعالى حينَها أن يَهبِطَ مِنَ الجنَّةِ؛ فليس له أن يتكبَّرَ فيها، وأمره أن يخرُجَ مِنَ الجنَّةِ، فهو من الذين قد نالهم مِن الله الصَّغارُ والذلُّ والمَهانةُ.

فطلب إبليسُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ أن يُمهِلَه إلى يومِ بَعثِ الخَلائِقِ، فأخبَرَه أنَّه مِنَ الـمُمهَلينَ. فأقسَمَ إبليسُ لِرَبِّه إنَّه بسبَبِ إغوائِه له، ليَلْزَمَنَّ لبني آدَمَ الطَّريقَ القَويمَ، ويَصُدُّهم عنه، مُزَيِّنًا لهم طريقَ الباطِلِ، وإنَّه سيَأتِيهم مِن جَميعِ الوُجوهِ، ومِن مُختَلِف الطُّرُق؛ لِيَصُدَّهم عن الحَقِّ، ولن يجِدَ تعالى أكثَرَهم شاكرينَ له.

فأمَرَه اللهُ أن يَخرُجَ مِنَ الجنَّةِ مَذمومًا مَمقوتًا مَطرودًا مِن رحمتِه، وأقسَم أنَّ مَن اتَّبعه مِن بني آدمَ، أنْ يملأَ جهنَّمَ مِن جميعِهم: مِن الكفرةِ أتباعِ إبليسَ، ومِنه وذرِّيتِه.

تفسير الآيات :

 

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ الخَلقَ بمتابَعةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وبقَبولِ دَعوَتِهم، ثمَّ خَوَّفَهم بعذابِ الدُّنيا، ثمَّ خَوَّفَهم بعذابِ الآخِرَةِ- رغَّبَهم في قَبولِ دَعوةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ في هذه الآيةِ بطَريقٍ آخَرَ، وهو أنَّه كَثُرَت نِعَمُ اللهِ عليهم، وكَثرةُ النِّعَمِ تُوجِبُ الطَّاعةَ

.

وأيضًا لَمَّا كان الدِّينُ الذي أمَرَ تعالى باتِّباعِ التَّنزيلِ فيه، هو دينَ الفِطرةِ، الـمُبَيِّنَ لكُلِّ ما يُوصِلُها إلى كمالِها، والنَّاهيَ لها عن كُلِّ ما يَحُولُ بينها وبين هذا الكَمالِ، وكان افتتانُ النَّاسِ بأمْرِ المَعيشةِ مِن أسبابِ إفسادِ الفِطرةِ، بالإسرافِ في الشَّهَواتِ، مِن حيثُ إنَّه يجِبُ أن تكونَ نِعَمُ اللهِ عليهم بما يحتاجونَ إليه مِن أمرِ المَعيشةِ، سببًا لإصلاحِها بشُكرِ اللهِ عليه، الموجِبِ للمَزيدِ منه - لَمَّا كان الأمرُ كذلك، ذكَّرَ سبحانه النَّاسَ في هذه الآيةِ بنِعَمِه عليهم في التَّمكينِ في الأرضِ، وخَلْقِ أنواعِ المعايشِ فيها ، فقال:

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ

أي: ولقد هيَّأْنا لكم الأرضَ- أيُّها النَّاسُ- وأقدَرْناكم عليها، وجَعَلْناها لكم قرارًا تستَقِرُّونَ فيها، وفِراشًا تفتَرِشونَها، وأبَحْنا لكم منافِعَها .

وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ

أي: ويسَّرْنا لكم في الأرضِ ما تعيشونَ به أيامِ حياتِكم؛ مما يخرُجُ مِنَ الأشجارِ والنَّباتاتِ، ومِنَ المعادِنِ والحيواناتِ، والصَّنائِعِ والتِّجاراتِ، وغيرِ ذلك مِن أسبابِ المعيشةِ .

قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ

أي: وأنتم مع ذلك قليلٌ شكرُكم على هذه النِّعَمِ التي أنعَمْتُها عليكم .

كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] .

وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [البقرة: 243] .

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

مناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا ذَكَر سبحانَه ما منَحَ العبادَ مِنَ التَّمكينِ؛ ذكَّرَهم بنعمةِ الإيجادِ، وهي نعمةُ عنايةٍ، بعد ما كانوا عليه مِنَ العَدَمِ، وذكَرَ تفضيلَه لهم؛ حيث خلَقَ أباهم آدَمَ، وأمَرَ الملائكةَ بالسُّجودِ له؛ فإنَّ الإنعامَ على الأبِ يَجرِي مَجرى الإنعامِ على الابنِ، ثمَّ ذكَرَ لهم أنَّ أباهم لَمَّا خالفَ الأمرَ أهبَطَه مِنَ الجنَّةِ؛ وفي ذلك تحذيرٌ لذُرِّيتِه .

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ

أي: ولقد خَلَقْنا أباكم آدَمَ عليه السَّلامُ، ثمَّ صَوَّرْناه بشرًا سَوِيًّا في أحسَنِ تَقويمٍ .

ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ

أي: لَمَّا خَلَقْنا آدَمَ وصَوَّرناه، قُلْنا للملائكةِ ابتلاءً منَّا واختبارًا لهم: اسجُدُوا لآدَمَ؛ إكرامًا له، وإظهارًا لفَضْلِه عليه السَّلامُ .

فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ

أي: فسجَدَ الملائكةُ كُلُّهم إلَّا إبليسَ، لم يكُنْ مِنَ السَّاجدينَ لآدَمَ عليه السَّلامُ؛ تكبُّرًا عليه، وإعجابًا بنَفسِه .

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12)

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ

أي: قال اللهُ تعالى لإبليسَ: ما منَعك مِن السُّجودِ، فأحوجَك ألَّا تسجدَ لآدَمَ حين أمَرْتُك بالسُّجُودِ له ؟

قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ

أي: قال إبليسُ لله سبحانه: منعني من السُّجودِ له أنَّني أفضَلُ منه؛ لأنَّك خَلَقْتَني مِن النَّارِ، وخَلَقْتَه مِن الطِّينِ، والنَّارُ أفضَلُ مِنَ الطِّينِ، فكيف أسجُدُ له ؟

كما قال تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: 75-76] .

وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُلِقَتِ الملائكةُ من نورٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن مارجٍ مِن نارٍ، وخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم )) .

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا

أي: قال اللهُ تعالى لإبليسَ: فاهبِطْ مِنَ الجنَّةِ؛ بسبَبِ عصيانِك لأمرِي، وخُروجِك عن طاعَتي؛ فليس لك أن تستكبِرَ في الجَنَّةِ عن طاعتي وأمرِي .

فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ

أي: فاخرُجْ مِنَ الجنَّةِ؛ إنَّك مِنَ الذَّلِيلينَ الحَقيرينَ .

قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)

أي: قال إبليسُ: أخِّرْني وأمهِلْني إلى أن يُبعَثَ الخَلقُ يومَ القِيامةِ .

قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)

أي: قال اللهُ لإبليسَ: إنَّك مِنَ المؤخَّرينَ الذين لا يُميتُهم اللهُ إلَّا وَقتَ النَّفخةِ الأولى، حين يموتُ الخَلقُ كُلُّهم .

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)

أي: قال إبليسُ مُخاطبًا رَبَّه: فبسَبَبِ إضلالِك لي، أُقسِمُ بك لألزَمَنَّ الجلوسَ لذُرِّيَّةِ آدَمَ على طريقِكَ الحَقِّ القَويمِ، المُوصِلِ إلى الجنَّة- وهو الإسلامُ وشرائِعُه- فأَصُدُّهم عن عبادَتِك وطاعَتِك، وأُزَيِّنُ لهم الباطِلَ؛ لئلَّا يُوَحِّدوك ويَعبُدوك .

كما قال تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82-83] .

وعن سَبْرةَ بنِ أبي فاكهٍ رَضِيَ الله عنه، قال: سمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ الشَّيطانَ قعَدَ لابنِ آدَمَ بأطرُقِه، فقعد له بِطَريقِ الإسلامِ، فقال له: أتُسلِمُ وتَذَرُ دِينَك، ودينَ آبائِك، وآباءِ أبيك؟! قال: فعصاه، فأسلَمَ، ثمَّ قعَدَ له بطريقِ الهِجرةِ، فقال: أتُهاجِرُ وتَذَرُ أرضَك، وسماءَك؟! وإنَّما مَثَلُ المُهاجِرِ كمَثَلِ الفَرَسِ في الطِّوَلِ ، قال: فعَصَاه فهاجَرَ، قال: ثمَّ قعَدَ له بِطَريقِ الجِهادِ، فقال: هو جَهْدُ النَّفسِ والمالِ، فتُقاتِلُ فتُقتَلُ، فتُنكَحُ المرأةُ، ويُقسَمُ المالُ، قال: فعصاه فجاهَدَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فمَن فعَلَ ذلك منهم فمات، كان حقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ ، أو قُتِلَ كان حَقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ، وإن غَرِقَ كان حقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ ، أو وَقَصَتْه دابَّةٌ كان حقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ )) .

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ

أي: ثمَّ لآتِينَّ بني آدَمَ مِن جَميعِ الوُجوهِ، ومُختَلِفِ الطُّرُق، فأصُدُّهم عن الحَقِّ، وأُحَسِّنُ لهم الباطِلَ .

وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ

مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا عَلِمَ الخبيثُ إبليسُ أنَّهم ضُعفاءُ، قد تغلِبُ الغفلةُ على كثيرٍ منهم، وكان جازمًا ببَذلِ مجهودِه على إغوائِهم- ظَنَّ وصَدَّق ظَنَّه، فقال :

وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ

أي: ولا تجِدُ أكثَرَ بني آدَمَ شاكرينَ لك، بل يُشرِكونَ بك، ولا يُوَحِّدونَك، ويعصُونَك، ولا يُطيعونَك .

وقولُ إبليسَ هذا إنَّما هو ظنٌّ منه وتوَهُّم، وقد وافَقَ في هذا الواقِعَ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ:20-21] .

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا

أي: قال اللهُ عزَّ وجلَّ لإبليسَ: اخرُجْ مِنَ الجنَّةِ مَذمومًا ممقوتًا، مطرودًا مِن رحمةِ اللهِ سبحانه .

كما قال تعالى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص: 77-78] .

لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ

أي: أُقسِمُ على أنَّ مَنِ اتَّبَعك مِن بَني آدَمَ أنْ أمَلأَ نارَ جهنَّمَ يومَ القيامةِ منهم ومِنك ومِن ذُرِّيتِك

 

.

كما قال تعالى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 63-65] .

وقال سبحانه: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84-85] .

الفوائد التربوية:

 

1- في التَّعقيبِ بهذه الآيةِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ على آيةِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا إيماءٌ إلى أنَّ إهمالَ شُكْرِ النِّعمةِ يُعَرِّضُ صاحِبَها لِزَوالِها، وهو ما دلَّ عليه قَولُه: أَهْلَكْنَاهَا

.

2- قولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ... فيه التَّذكيرُ بنِعمةِ الإيجادِ؛ ليشكُرُوا مُوجِدَهم .

3- قولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فيه تنبيهٌ وإيقاظٌ إلى عَداوةِ الشَّيطانِ لِنَوعِ الإنسانِ مِنَ القِدَمِ؛ ليكون ذلك تحذيرًا مِن وَسوَسَتِه وتَضليلِه، وإغراءً بالإقلاعِ عمَّا أوقَعَ فيه النَّاسَ مِن الشِّركِ والضَّلالةِ .

4- جعْلُ امتثالِ أمْرِ الرَّبِ تعالى مشروطًا باستحسانِ العَبدِ له، ومُوافَقَتِه لرَأيِه وهواه؛ هو رفضٌ لطاعةِ الرَّبِّ، وترَفُّعٌ عن مرتبةِ العبد

5- في قَولِه تعالى عن إبليسَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إشارةٌ إلى أنَّ العُجْبَ هو الذي أَهلَكَه .

6- الاحتجاجُ على فضلِ الإِنسانِ على غيرِه بفضلِ أصْلِه على أصلِه حَجَّةٌ فاسِدَةٌ، احتجَّ بها إبليسُ حيثُ قال: أَنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، وهي حجَّةُ الَّذين يفخرونَ بأنسابِهم، وقد قال النَّبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: ((مَن بطَّأ به عملُه لم يُسرِعْ به نَسَبُه )) .

7- التكبُّرُ على اللهِ تعالى يوجِبُ العِقابَ الشَّديدَ، والإخراجَ مِن زُمرةِ الأولياءِ، والإدخالَ في زُمرةِ المَلْعونينَ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا .

8- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ فيه تنبيهٌ على أنَّه ليس لِمَن في الجنَّةِ أنْ يتكبَّرَ، وأنَّ التكبُّرَ لا يليقُ بأهلِ الجنَّةِ والسَّماءِ، وأنَّه تعالى إنَّما طرَدَ إبليسَ لتكبُّرِه، لا لمجرَّدِ المعصيةِ، وكما في الحديثِ: ((لا يَدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قَلْبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كِبْرٍ )) .

9- قال الله تعالى: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ حكمةُ إنظارِ اللهِ تعالى لإبليسَ- وإن كان ذلك سَببًا للغَوايةِ والفِتنةِ- أنَّ في ذلك ابتلاءَ العبادِ بمُخالَفَتِه وطَواعِيَتِه، وما يترتَّبُ على ذلك مِن إعظامِ الثَّوابِ بالمُخالفةِ، وإدامةِ العِقابِ بالطَّواعِيَةِ .

10- قال تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ إنَّما نَبَّهَنا اللهُ تعالى على ما قال إبليسُ وعَزَم على فِعْلِه؛ لِنأخُذَ منه حِذْرَنا، ونستَعِدَّ لعَدُوِّنا، ونحترِزَ منه بعِلْمِنا بالطَّريقِ التي يأتي منها، ومَداخِلِه التي ينفُذُ منها .

11- في قَولِه تعالى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ إشارةٌ إلى منزلةِ الشُّكرِ؛ حيث إنَّ ابليسَ لَمَّا عَرَفَ قدْرَ مقامِ الشُّكرِ، وأنَّه مِن أجَلِّ المقاماتِ وأعلاها، جَعَلَ غايَتَه أنْ يسعَى في قَطْعِ النَّاسِ عنه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ إثباتُ الصِّفاتِ الاختياريَّةِ للهِ تعالى- كصِفةِ الكَلامِ هنا- فهذا بَيِّنٌ في أنَّه إنَّما أَمَرَ الملائكةَ بالسُّجودِ بعد خَلْقِ آدمَ، ولم يَأمُرْهُم في الأزَلِ

.

قولُه تعالى: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ استُدلَّ به على أنَّ صِيغةَ (افْعَلْ) تأتي -في أصلِ وضعِها- للوُجوبِ، وكذلك قولُه: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ استُدِلَّ به على أنَّ مُطلَقَ الأمرِ يدلُّ على الوُجوبِ؛ لذمِّ إبليسَ على امتناعِه مِنَ السُّجُودِ، ولو لم يَدُلَّ على الوُجوبِ لم يَستوجِبِ الذَّمَّ والتوبيخَ .

استُدِلَّ بقَولِه تعالى: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ على تفضيلِ النبيِّ على المَلَك؛ لأنَّ اللهَ أَمَرَ الملائكةَ بالسُّجودِ لآدَمَ على سبيلِ التَّكريمِ له؛ حتى قال إبليسُ: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء: 62] .

قولُ الله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ استُدِلَّ به على أنَّ مُطلَقَ الأمرِ يدلُّ على الفَورِ؛ لِذَمِّ إبليسَ على امتناعِه مِنَ السُّجودِ في الحالِ، ولو لم يدُلَّ على الفَورِ لم يستوجِبِ الذَّمَّ في الحالِ .

قوله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قال الله هنا في سورةِ الأعرافِ: مَا مَنَعَكَ وفي سورةِ الحِجر قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَالَكَ أَلَّا تُكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ وقال في سورةِ ص: أنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ واختلافُ العباراتِ عندَ الحكايةِ يدلُّ على أنَّ اللعينَ قد أَدْرج في معصيةٍ واحدةٍ ثلاثَ معاصٍ: مخالفةُ الأمرِ، ومفارقةُ الجماعةِ، والاستكبارُ معَ تحقيرِ آدمَ، وقد وُبِّخ على كلِّ واحدةٍ منها، لكن اقتصر عندَ الحكايةِ في كلِّ موطنٍ على ما ذكر فيه؛ اكتفاءً بما ذكر في موطنٍ آخرَ .

قولُ الله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ استُدِلَّ به على أنَّ القِياسَ في مَورِدِ النَّصِّ فاسِدٌ ، فقد كانت حُجَّةُ إبليسَ باطلة؛ لأنَّه عارضَ النصَّ بالقِياسِ .

قولُ الله تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ أصلٌ في ثُبُوتِ الحَقِّ لأهلِ المحَلَّةِ أن يُخرِجُوا مِن مَحَلَّتِهم مَن يُخشَى مِن سِيرَتِه فُشُوُّ الفَسادِ بينهم .

قولُ الله تعالى: قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أفاد التَّأكيدُ بـ (إنَّ) والإخبارُ بصيغةِ (مِنَ المُنْظَرينَ) أنَّ إنظارَه أمرٌ قد قضاه اللهُ وقَدَّرَه مِن قَبلِ سُؤالِه؛ أي: تحقَّقَ كَونُك مِن الفَريقِ الذين أُنظِرُوا إلى يومِ البَعثِ، وأنَّ اللهَ ليس بمُغَيِّرٍ ما قدَّرَه له، فجوابُ اللهِ تعالى لإبليسَ إخبارٌ عن أمرٍ تحَقَّقَ، وليس إجابةً لطَلِبَةِ إبليسَ ؛ لأنَّه أهونُ على اللهِ مِن أن يُجيبَ له طلبًا، وهذه هي النُّكتةُ في العدولِ عَن أن يكونَ الجوابُ: أنظَرْتُك، أو أجبْتُ لك؛ ممَّا يدُلُّ على تَكرُمةٍ باستجابةِ طَلَبِه، ولكنَّه أعلَمَه أنَّ ما سألَه أمرٌ حاصِلٌ، فسؤالُه تحصيلُ حاصلٍ .

إن قال قائل: فهل أحَدٌ مُنْظرٌ إلى ذلك اليومِ سِوى إبليسَ، فيُقال له: (إنك منهم)؟

قيل: نعم، مَنْ لم يقبضِ الله رُوحَه مِن خلقِه إلى ذلك اليومِ، ممَّن تقومُ عليه الساعةُ، فهم مِن المنظرين بآجالِهم إليه، ولذلك قِيل لإبليسَ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، بمعنى: إنَّك ممَّن لا يميتُه الله إلا ذلك اليومَ .

قال تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ.. استخدَمَ لفظَ القُعودِ؛ لأنَّ المرادَ مِنَ الآيةِ أنَّه يُواظِبُ على الإفسادِ مُواظبةً لا يفتُرُ عنها، فإنَّ مَن أراد أن يبالِغَ في تكميلِ أمرٍ مِنَ الأمورِ، قعدَ حتى يصيرَ فارِغَ البالِ، فيُمكِنه إتمامُ المقصودِ .

قولُه تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ يدلُّ على أنَّ إبليسَ عَلِمَ أنَّ اللهَ خلَقَ البَشَر للصَّلاحِ والنَّفعِ، وأنَّه أودَعَ فيهم معرفةَ الكَمالِ، وأعانهم على بلوغِه بالإرشادِ، وبهذا الاعتبارِ كان إبليسُ عَدُوًّا لبني آدمَ؛ لأنَّه يطلُبُ منهم ما لم يُخلَقوا لأجلِه، وما هو مُنافٍ للفِطرةِ التي فطرَ اللهُ عليها البشَرَ .

قولُ الله تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ إبليسَ كان عالِمًا بالدِّينِ الحقِّ، والمنهجِ الصَّحيحِ؛ لأنه قال: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وصراطُ اللهِ المستقيمُ هو دِينُه الحقُّ، ودلَّ أيضًا على أنَّ إبليسَ كان عالِمًا بأنَّ الذي هو عليه مِنَ المذهَبِ والاعتقادِ هو مَحضُ الغَوايةِ والضَّلالِ؛ لأنَّه لو لم يكن كذلك لَمَا قال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي .

قال اللهُ تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ في هذا بيانٌ واضِحٌ على فسادِ ما يقولُ القَدَريَّةُ مِن أنَّ كُلَّ مَن كفَرَ أو آمَنَ فبِتَفويضِ اللهِ أسبابَ ذلك إليه، وأنَّ السَّبَبَ الذي به يَصِلُ المؤمِنُ إلى الإيمانِ، هو السبَبُ الذي به يصِلُ الكافِرُ إلى الكُفرِ، وذلك أنَّ ذلك لو كان كما قالوا لكان الخَبيثُ قد قال بقَولِه: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي فبما أصلَحْتَني، إذ كان سببُ الإغواءِ هو سببَ الإصلاحِ، وكان في إخبارِه عن الإغواءِ إخبارٌ عَنِ الإصلاحِ، ولكِنْ لَمَّا كان سَبَباهما مختلفينِ، وكان السَّبَبُ الذي به غوى وهلك، مِن عندِ اللهِ؛ أضاف ذلك إليه فقال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ، فخالف القَدَريَّة وغيرُهم شيخَهم إبليسَ الذي طاوَعُوه في كلِّ ما زَيَّنَه لهم، ولم يطاوِعوه في هذه المسألةِ، ويقولون: أخطأ إبليسُ، وهو أهلٌ للخَطَأِ؛ حيث نسَبَ الغَوايةَ إلى ربِّه، تعالى اللهُ عَن ذلك. فيُقال لهم: وإبليسُ وإن كان أهلًا للخطأِ، فما تصنعونَ في نَبيٍّ مُكَرَّمٍ مَعصومٍ، وهو نوحٌ عليه السَّلامُ؛ حيث قال لِقَومِه: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود: 34] .

وَجهُ جَمعِ اليَمينِ والشِّمالِ في قَولِه تعالى عن إبليسَ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ أنَّه جاءَ في مُقابلةِ كَثرةِ مَن يريدُ إغواءَهم، فكأنَّه أَقسمَ أنْ يأتيَ كلَّ واحدٍ مِن بَينِ يَدَيه ومِن خَلْفِه، وعن يمينِه وعَن شِمالِه، ولا يحسُنُ هنا عن يَمينِهم وعن شِمالِهم، بل الجمعُ هنا مِن مُقابلةِ الجُملةِ بالجملةِ، المقتضي توزيعَ الأفرادِ، ونظيرُه: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ .

ذكَرَ اللهُ تعالى عن آدَمَ عليه السَّلامُ أنَّه لَمَّا فعَلَ ما فَعَل، قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وعن إبليسَ أنه قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، فمَن تاب أشبَهَ أباه آدَمَ، ومن أصَرَّ واحتَجَّ بالقَدَرِ، أشبَهَ إبليسَ .

كان إبليسُ أوَّلَ مَن قَدَّمَ القَدَرَ على الأمرِ، وعارَضَه به، وقال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، وقال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فرَدَّ أمرَ اللهِ بقَدَرِه، واحتجَّ على ربِّه بالقَدَر .

قَولُه تعالى: فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا دلَّ على أنَّ ذلك الوَصْفَ لا يُغتفَرُ منه؛ لأنَّ النَّفيَ بصيغةِ (ما يكونُ لك كذا) أشَدُّ مِنَ النَّفيِ بـ (ليس لك كذا)، وهو يستلزِمُ هنا نهيًا؛ لأنَّه نفاه عنه مع وقوعِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

قولُه تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ

قوله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ فيه تأكيدُ الخبَرِ باللَّامِ و (قد) المفيدِ للتَّحقيقِ؛ تنزيلًا للمقصودِينَ مِنَ الخطابِ مَنزلةَ مَن يُنكِرُ مَضمونَ الخَبَر؛ لأنَّهم لَمَّا عَبَدوا غيرَ اللهِ كان حالُهم كحالِ مَن يُنكِرُ أنَّ الله هو الذي مكَّنَهم مِنَ الأرضِ، أو كحالِ مَن يُنكِرُ وُقوعَ التَّمكينِ مِن أصلِه

.

قوله: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ فيه تقديمُ لَكُمْ فِيهَا على المفعولِ به مَعَايِشَ مع أنَّ الأصلَ أنْ يُقَدَّمَ المفعولُ به على غَيرِه مِن مُتعَلِّقاتِ الفِعلِ؛ لأنَّ القاعدةَ في تَقديمِ بعضِ الكَلامِ على بعضٍ، هي أن يُقَدَّمَ المقصودُ بالذَّاتِ، والأهَمُّ فالأهَمُّ منه؛ فهَاهُنا ثلاثةُ أشياءَ: المعايشُ، وكونُها في الوَطَنِ الذي يعيش فيه المَرءُ، وكَونُ المرءِ مالكًا لها، ومُتَصرِّفًا فيها، ولا مُشاحَّةَ في أنَّ الأهمَّ عند كلِّ إنسانٍ: أن يكون مالكًا لِمَا يَعيشُ به، ويتلوه أن يكونَ ذلك في وَطَنِه، ويتلوه أنواعُه وأن تكونَ كثيرةً، وهو ما أفاده تركيبُ الكَلِماتِ في الآيةِ، ولا تَجِدُ هذه الدِّقَّةَ في تقديمِ ما ينبغي وتأخيرِ ما ينبغي، مُطَّرِدةً إلَّا في كتابِ الله تعالى .

قولُه: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ تذييلٌ مَسوقٌ لِبيانِ سوءِ حالِ المُخاطَبينَ، وتَحذيرِهم ، ويجوز أنْ تكون القِلَّةُ كنايةً عَنِ العَدَمِ على طريقَةِ الكَلامِ المُقتَصَد؛ استنزالًا لتذَكُّرِهم .

قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ تصديرُ جُملةِ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ بالقَسَمِ وحرفِ التَّحقيقِ؛ لإظهار كَمالِ العِنايةِ بِمَضمونِهما .

وفيه نُسِبَ الخلقُ والتَّصويرُ إلى المُخاطَبينَ مع أنَّ المُرادَ بهما خَلْقُ آدَمَ عليه السَّلامُ وتَصويرُه؛ توفيةً لِمَقامِ الامتنانِ حَقَّه، وتأكيدًا لِوُجوبِ الشُّكرِ عَليهم .

وعُطِفَتْ جُملةُ صَوَّرْنَاكُمْ على خَلَقْنَاكُمْ بحَرفِ (ثُمَّ) الدالِّ على تراخي رُتبةِ التَّصويرِ عن رُتبةِ الخَلقِ؛ لأنَّ التَّصويرَ حالةُ كَمالٍ في الخَلقِ .

قوله: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ في اختيارِ الإخبارِ عن نَفيِ سُجُودِه بجَعْلِه مِن غَيرِ السَّاجدينَ: إشارةٌ إلى أنَّه انتَفَى عنه السُّجودُ انتفاءً شديدًا؛ لأنَّ قَولَك: (لم يكُنْ فُلانٌ مِن المُهتدينَ) يفيدُ مِنَ النَّفيِ أشَدَّ مِمَّا يُفيدُه قولُك: (لم يكُنْ مُهتَديًا) ، وأيضًا فنفيُ كَونِ إبليسَ مِنَ السَّاجدينَ أخصُّ مِن نَفيِ السُّجودِ عنه؛ لأنَّ نَفيَ الكونِ يقتَضي نفيَ الأهليَّةِ والاستعدادِ، فهو أبلغُ في الذَّمِّ مِن أنْ يُقالَ: لم يسجُدْ .

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ

قوله: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ استئنافٌ مَسوقٌ للجَوابِ عَن سؤالٍ نَشأَ مِن حكايةِ عَدَمِ سُجُودِه؛ كأنَّه قيل: فماذا قال اللهُ تعالى حينئذٍ؟ وكان مقتضى الظَّاهِرِ أن يُقال: (قُلْنا)، فكان العدولُ إلى ضميرِ الغائِبِ الْتِفاتًا نُكتَتُه تحويلُ مَقامِ الكَلامِ؛ إذ كان المقامُ مَقامَ أمرٍ للمَلائكةِ ومَن في زُمرَتِهم، فصار مقامَ تَوبيخٍ لإبليسَ خاصَّةً .

والاستفهامُ في قولِه: مَا مَنَعَكَ للتَّوبيخِ، ولإظهارِ معانَدَتِه وكُفْرِه، وكِبْرِه، وافتخارِه بأصلِه، وازدرائِه بأصلِ آدَمَ، وأنَّه خالَفَ أمرَ رَبِّه معتقدًا أنَّه غيرُ واجبٍ عليه، لَمَّا رأى أنَّ سُجودَ الفاضِلِ للمَفْضولِ خارجٌ مِنَ الصَّوابِ .

و(لا) في قوله: أَلَّا تَسْجُدَ مَزيدةٌ للتَّأكيدِ والتَّحقيقِ، ولا تُفيدُ نَفيًا؛ لأنَّ الحرفَ المَزيدَ للتَّأكيدِ لا يُفيدُ معنًى غيرَ التَّأكيدِ؛ كأنَّه قيل: ما منَعَك أن تُحقِّقَ السُّجودَ وتُلزِمُه نَفسَك إِذْ أَمَرْتُكَ؟ لأنَّ أمري لك بالسُّجودِ أُوجِبُه عليك إيجابًا، وأُحَتِّمُه عليك حَتمًا لا بدَّ لك منه ، وذلك على أحدِ القولينِ في (ألَّا).

قولُه تعالى حاكيًا عن إبليسَ أنَّه قال: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مَسوقٌ مَساقَ التَّعليلِ للامتناعِ، وجُملةُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ بيانٌ لِجُملةِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ؛ فلذلك فُصِلَتْ-أي: لم تُعطَفْ بالواوِ .

وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سورةِ الأعراف: مَا مَنَعَكَ من غيرِ نِدائِه باسِمه، وقال تعالى في سورةِ الحِجر: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ [الحجر: 32] ، وقال في سُورة ص: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ [ص: 75] بزيادةِ يَا إِبْلِيسُ فيهما؛ وذلك لأنَّ خِطابَه قَالَ مَا مَنَعَكَ قَرُبَ مِن ذِكرِه في هذه السُّورةِ، وهو قولُه: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ؛ فحَسُنَ حذْفُ حرْفِ النِّداء والمُنادَى، ولم يقرُبْ في سورةِ ص قُربَه منه في هذِه السُّورةِ؛ لأنَّه قال في ص: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص: 74] بزِيادةِ اسْتَكْبَرَ؛ فزادَ حرْف النِّداءِ والمنادَى فقال: يَا إِبْلِيسُ، وكذلك في الحِجر؛ فإنَّ فيها: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 31] .

وقيل: إنَّه لَمَّا تَقدَّم في الأعرافِ ذِكرُ خَلْق الإنسانِ وتصويرِه مِن غيرِ ذِكرِ المادَّة التي خُلِق منها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، والخِطاب لبَنِي آدَم، ولم يُذْكَر خَلْقُ غيرِهم مِن مَلَك أو جِن، ثم إنَّ الأمرَ بالسُّجود ورَد للملائكةِ، ولم يرِدْ إشعارٌ بأنَّ إبليسَ مِن غيرهم، فسَبَق من ظاهِرِ الكلامِ أنَّه منهم ومأمورٌ معهم؛ فناسَبَ هذا قوله: مَا مَنَعَكَ؛ لأنَّه مأمورٌ بظاهرِ ما تقدَّم، وناسَب ذلك أيضًا وعضَّدَه قولُه تعالى: إِذْ أَمَرْتُكَ، أمَّا آيةُ الحِجرِ فقدْ تقدَّم قَبْلَها قولُه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] ، وقال في سُورة ص: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ [ص: 71] ، فلمَّا لم يكُن في أصلِ الخِلقةِ والمادَّة منهم، وكان الأمرُ بظاهِرِ العِبارةِ لهم، وإنْ كان مُرادًا أنَّه معهم، فبحسَبِ ذلك استُؤنِفَ نِداؤُه، فقِيل: يَا إِبْلِيسُ؛ فنُودي باسمِه المشعِرِ بطَرْدِه ومغايرتِه لهم . وقيل: ذلك الاختلافُ تَفنُّنٌ؛ جريًا على عادةِ العربِ في تَفنُّنهم في الكلامِ .

وأيضًا قال تعالى هنا في سُورةِ الأعرافِ: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ، وقال تعالى في سُورةِ الحجر: أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 32] ، فلم يَذكُرِ المعيَّةَ في سورة الأعراف وذَكَرَها في الحِجرِ؛ وذلك لمُناسَبةٍ حسَنةٍ؛ فإنَّه لَمَّا تقدَّم في الأعرافِ ذِكرُ خَلقِ الإنسانِ وتَصويرِه من غيرِ ذِكرِ المادَّة التي خُلِق منها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ولم يَذكُر خَلْق غيرِهم مِن مَلَك أو جِنٍّ، ثم إنَّ الأمرَ بالسُّجودِ ورَدَ للملائكةِ، ولم يَرِدْ إشعارٌ بأنَّ إبليس مِن غيرهم؛ فسَبَق من ظاهرِ الكلامِ أنَّه منهم، ومأمورٌ معهم، فناسَب هذا قولُه: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ؛ لأنَّه مأمورٌ بظاهرِ ما تَقدَّم. أمَّا آيةُ الحجرِ فقدْ تقدَّم قبلها قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ *  وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ إلى قوله: فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 26- 29] ؛ فأشارتِ الآياتُ بظاهرِها إلى أنَّ إبليسَ لم يَكُن في أصلِ الخِلقةِ والمادَّةِ من الملائكةِ، وكان الأمرُ بظاهرِ العبارةِ لهم، وإنْ كان مرادًا أنَّه معهم؛ فبَحسَبِ هذا وردتِ المعيةُ في قولِه: يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 32] .

وأيضًا قال تعالى هنا في سُورة الأعرافِ، وكذا في سورة ص: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12، ص: 28]، فاستُوفِيَ ذِكرُ المادَّتينِ: الطِّين والنار، وقال في سُورةِ الحجر: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 33] ، فلم يَذكُرِ النَّارَ؛ وذلك لمُناسَبةٍ حَسنةٍ؛ إذ إنَّه لم يقَعْ ذِكرٌ لخَلقٍ غيرِ الآدميِّين في سورة الأعراف؛ فناسَبَ ذلك ما ذَكَره سبحانه عن إبليس من قولِه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فاسْتُوفي ذِكرُ المادَّتَينِ، وبَنَى على ذلِك إبليسُ ما توهَّم مِن فَضلِ النَّارِ على الطِّينِ .

قوله: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الفاءُ في فَما يَكُونُ... للسَّببيَّةِ والتَّفريعِ؛ تعليلًا للأمرِ بالهُبوط، وهو عُقوبةٌ خاصَّةٌ: عُقوبةُ إبعادٍ عَنِ المَكانِ المُقَدَّسِ؛ لأنَّه قد صار خُلُقُه غيرَ ملائمٍ لِمَا جَعَلَ اللهُ ذلك المكانَ له .

قَولُه: فَاخْرُجْ فيه تأكيدٌ لجُملةِ فَاهْبِطْ بِمُرادِفِها، وأُعيدَتِ الفاءُ مع فَاخْرُجْ؛ لزيادةِ تأكيدِ تَسَبُّبِ الكِبرِ في إخراجِه مِنَ الجنَّةِ .

وجملةُ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ واقعةٌ مَوقِعَ التَّعليلِ للإخراجِ، على طَريقةِ استعمالِ (إنَّ) في مِثلِ هذا  المَقامِ استعمالَ فاءِ التَّعليلِ، وقوله: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أشَدُّ في إثباتِ الصَّغارِ له مِن نحو: (إنَّك صاغِرٌ)، أو (قد صَغُرْتَ) .

وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: فَاهْبِطْ مِنْهَا، وقال في سورةِ الحجر: فَاخْرُجْ مِنْهَا [الحجر: 34] ؛ وذلك لأنَّ ما ورَدَ في سورة الحجر مِن تَبيينِ خَلْقِ إبليسَ مِن النارِ، وفَصْله عن الملائكةِ أَعْقَبَ به قولَه تعالى: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر:34] ، أمَّا في آية الأعراف- فاهْبِطْ مِنْهَا- فلمْ  يَتقدَّم فيها أنَّ إبليس ليس من الملائكةِ، كالذي تَقدَّم في سورة الحجر، بل ظاهرُ ما في الأعرافِ أنَّه منهم، فجرَى الأمرُ مناسبًا لهذا الظاهرِ فعَبَّر بالهُبوط، ولَمَّا تَقدَّم في الحِجرِ أنَّه ليس مِن الملائكةِ لخَلْقِه من نارِ السَّموم، وأَشعرَ ذلك بشَرِّ المادَّة؛ ناسَبه قولُه: فَاخْرُجْ مِنْهَا، وإتْباعُ ذلك بما يُلائِمُه من الوصفِ ويُناسبِه من قوله: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، ثم بما كُتِب عليه مِن الطَّردِ واللَّعنةِ، ولم يَرِدْ في الأعرافِ هكذا، بل رُوعي فيه مُناسَبةُ ما تَقدَّم؛ ولئلَّا يَتنافَرَ الكلامُ ويَتنافرَ المعنى؛ فقيل: فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الأعراف: 13] .

قوله تعالى: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ

قولُه تعالى حاكيًا عن إبليسَ أنَّه قال: قَالَ أَنْظِرْنِي... استئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نشأ مِمَّا قَبلَه؛ كأنَّه قيل: فماذا قال اللَّعيُن بعدَما سَمِعَ هذا الطَّردَ المُؤَكَّد؟، فقيل: قَالَ أَنْظِرْنِي... .

وقوله تعالى: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ فيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: أَنْظِرْنِي، وقال في سورةِ الحجر وسورة ص: فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36، ص: 79]؛ ووجه هذه المناسبةِ: أنَّ قوله: أَنْظِرْنِي في سورةِ الأعراف ورَد مُستأنفًا، غيرَ مقصودٍ به عطفٌ على ما يَقعُ به هذا السؤالُ عقيبَه؛ فلم يُحْتَجْ إلى الفاءِ، وأمَّا في الآيتين في سورتي الحجر وص فإنَّ قولَه تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36، ص: 79] جاءَ بعدَ إخبارِ اللهِ تعالى بلَعْنِه إبليسَ، فكأنَّه قال: يا ربِّ إنْ لعَنْتَني وآيَسْتَني من الجنَّةِ فأَخِّرْ أَجلي إلى يومِ يُبعثون؛ فاقتَضَى إضمارَ (إنْ لعَنْتَني يا ربِّ) أن يأتي بالفاءِ . وقيل: حَذَف الفاء في الأعرافِ؛ موافقةً لحَذفِ يَا إِبْلِيسُ، وقال في الحجر و ص بذِكرِها؛ موافقةً لذِكرِه قبلُ . وقيل: قال في الحجر وص بذِكر الفاءِ؛ لِمَا تَضمَّنه النداءُ في قوله تعالى: قَالَ رَبِّ مِن أَدعوك وأُناديك، كما في قوله تعالى رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران: 193] .

وأيضًا قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: قَالَ أَنْظِرْنِي مِن غير ذِكر كلمة (رَبِّ)، وقال في سورةِ الحجر وسورة ص: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36، ص: 79] بذِكرِها؛ وذلك لمُناسبةٍ حَسنةٍ؛ فإنَّه سبحانه لَمَّا اقتصرَ في السؤالِ على الخِطابِ دون صريحِ الاسم في هذه السُّورة في قوله: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ اقتصَر في الجوابِ أيضًا على الخِطابِ دون ذِكرِ المُنادَى .

وأيضًا قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ مِن غير فاءِ في إِنَّكَ، وفي السُّورتينِ الحجر وص: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الحجر: 37، ص: 80] بفاء؛ وذلك لأنَّ الجوابَ يُبنَى على السُّؤال، ولَمَّا خلَا سؤالُه أَنْظِرْنِي في هذه السُّورةِ عن الفاءِ، خلا الجوابُ عنه، ولَمَّا ثَبتتِ الفاءُ في السُّؤالِ فأَنْظِرْنِي في السُّورتَينِ  ثَبتَتْ في الجوابِ .

وقيل في كلِّ ما مَضَى مِن زِياداتٍ في آيَتَيِ الحِجر وص لم تَرِدْ في الأعراف: إنَّه قُصِدَ في سورة الأعرافِ إيجازُ الأخبارِ في القِصَّة، وقُصِدَ في السُّورتَينِ الإطنابُ؛ ليحصُلَ مِن ذلك الاطِّلاعُ على البَلاغةِ وجلالةِ النَّظمِ وعلى فَصاحتِه في طرَفَيِ الإيجازِ والإطنابِ، ويُشيرُ إلى هذا الغرضِ: أنَّ مجموعَ الكلمِ الواقع مِن لدن قولِه في سورة الأعراف: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ [الأعراف: 11] - وهو ابتداءُ القِصَّة- إلى قولِه: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف: 14] بِضعٌ وأربعونَ كلمةً، والواردَ في الحِجرِ مِن لَدُن قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ [الحجر: 26] إلى قولِه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36] بِضعٌ وسَبعون كلمةً، وفي سورةٍ ص من لَدُن قوله: إِذْ قَالَ رَبُّكَ [ص: 71] إلى آخِرِ الآياتِ بِضعٌ وسِتُّون كلمهً؛ فقدْ وضَحَ ما قُصِد في الأعراف مِن إيجازِ الأخبارِ في القِصَّة، وما في السُّورتَينِ بَعدُ مِن الإطنابِ .

قوله تعالى حاكيًا عن إبليسَ أنَّه قال: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ اللام في قَولِه: لَأَقْعُدَنَّ لامُ القَسَمِ؛ قَصَدَ اللَّعينُ تأكيدَ حُصُولِ ذلك، وتحقيقَ العَزمِ عليه .

وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي، وقال في سورةِ الحجر: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر: 39] ؛ فزادَ هنا في هذه السُّورةِ الفاءَ في قوله: فَبِمَا وحَذَفها في الحِجر؛ وذلِك لأنَّ الفاءَ في الأعرافِ مُتسبِّبةٌ عمَّا قَبْلها؛ فهي للعطفِ ليكونَ الثاني مربوطًا بالأوَّلِ، ومُوافقًا له في الاقتصارِ على الخِطابِ دونَ النِّداءِ، ولم تَدخُل الفاءُ في سورة الحِجرِ؛ لوقوعِ النِّداءِ، والنداءُ يُوجِبُ القطعَ، واستئنافَ الكلامِ، لا سيَّما في قِصَّةٍ لا يَقتضيها ما قَبْلَها؛ فلمْ يَحسُنْ مجيءُ الفاءِ .

وأيضًا قال هنا في سُورةِ الأعراف: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، وقال في سورةِ الحِجرِ: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39] ، فاخْتَلَف التعبيرُ في المَوضِعينِ؛ وذلك لمناسبةٍ حَسنةٍ بحسَب ما تَقدَّم في كلِّ واحدةٍ مِن السُّورتَينِ؛ فإنَّه لـمَّا تَقدَّم في الأعرافِ قولُه تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3] ، والإشارةُ إلى القرآنِ بأنَّه يُوضِّح الصِّراطَ المستقيمَ، والإشارةُ بهذا إلى المنزلِ قُرآنًا أنَّه مُبيِّنٌ للصِّراطِ المستقيمِ الذي طَمِع اللَّعينُ في الاستيلاءِ عليه، فقِيل عِبارة عن غَرَضِه مِن ذلك: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ولَمَّا كان قد ورَدَ في سُورةِ الحِجر مَنْعُه، ومَنْعُ جُنودِه عن تَعرُّف خبَرِ السَّماءِ، واستراقِ السَّمعِ في قولِه عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر: 16- 18] ، وصُدَّ مِن هذه الجِهةِ، عدَل إلى الأُخرى فقال: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39] ، أي: رجعتُ إلى إغوائِهم مِن جِهةٍ لم تَمنعْنِي عنها؛ فلأَجْلِ اختلافِ المتقدِّمِ في كلٍّ مِن السُّورَتينِ، اختَلَفَ المبنيُّ عليه مِن المحكيِّ عن إبليسَ مِن طَمَعِه، ووَرَدَ كلٌّ على ما يُناسِبُ .

قولُه تعالى حاكيًا عن إبليسَ أنَّه قال: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ في هذه الآيَةِ فَنُّ المُخالَفةِ بينَ حَرفَيِ الجَرِّ؛ فقد ذَكَرَ الجِهاتِ الأربَعَ؛ لأنَّها هي التي يأتي منها العَدُوُّ عَدُوَّه؛ ولهذا ترَكَ جِهةَ الفَوقِ والتَّحتِ، وعَدَّى الفِعلَ إلى الجِهَتينِ الأُولَيَينِ بـ (مِن)، وإلى الأُخرَيَينِ بـ (عن)؛ لأنَّ الغالِبَ فيمَن يأتي مِن قُدَّام وخَلْف أنْ يكون مُتوجِّهًا بكُلِّيتِه، والغالِبَ فيمَن يأتي مِن جِهَةِ اليَمينِ والشِّمال أن يكونَ مُنحرِفًا، فناسب في الأوَّلَينِ التَّعديَةَ بحرْفِ الابتداء (مِن)، وفي الآخَرَينِ التَّعديةَ بحَرْفِ المُجاوَزة (عَن) .

قوله: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ فيه التأكيدُ بقوله: أَجْمَعِينَ؛ للتَّنصيصِ على العُمومِ؛ لئلَّا يُحمَلَ على التَّغليبِ؛ وذلك أنَّ الكَلامَ جَرى على أمَّةٍ بعُنوانِ كَونِهم أتباعًا لواحدٍ

==================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (19-25)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

 

فَوَسْوَسَ: فألقى وحَدَّث، والوَسْوَسَةُ: الخَطْرةُ الرَّديئةُ، وحَدِيثُ النَّفسِ والشَّيطانِ بِمَا لَا نفْعَ فيه؛ مِنَ الوَسْوَاسِ، وهو صَوتُ الحُلِيِّ، والهَمْسُ الخَفيُّ، أو القَوْلُ الْخَفيُّ لِقَصدِ الإضلالِ، وأصل (وسوس): يدُلُّ عَلَى صَوْتٍ غَيْرِ رَفِيعٍ

.

وُورِيَ: أي: سُتِرَ أو غُطِّي، وأصلُ (وري): سَتر .

سَوْآتِهِمَا: أي: عَوْراتِهما، أو كنايةٌ عَنِ الفَرْج، وسُمِّيَت العورةُ سوأةً؛ لأنَّه يَسوءُ صاحِبَها انكشافُها مِن جَسَدِه، وأصلُ (سوء): كلُّ ما يَقبُحُ .

وَقَاسَمَهُمَا: أي: حَلَف لهما، وأصلُه مِنَ القَسامَةِ، وهي أيمانٌ تُقْسَمُ على أولياءِ المَقتولِ، ثم صار اسمًا لكلِّ حَلِفٍ .

فَدَلَّاهُمَا: أي: فخَدَعَهما، أو أوْقَعَهما في الهلاكِ، أو جَرَّأهما على المعصيةِ، ويُقال لكُلِّ مَن ألقى إنسانًا في بليَّةٍ: قد دلَّاه في كذا، مأخوذٌ من تَدْليةِ الرجلِ العطشانِ في البِئرِ؛ لِيَرْوَى مِن مائِها، فلا يجِدُ فيها ماءً؛ فيكونُ مُدَلًّى فيها بغُرورٍ؛ فوُضِعَتِ التَّدليةُ مَوضِعَ الإطماعِ فيما لا يُجْدي نفعًا، وأصلُ (دلي): يدُلُّ على مُقارَبةِ الشَّيءِ، ومُداناتِه بسُهولَةٍ ورِفقٍ .

بِغُرُورٍ: الغُرور- بضمِّ الغينِ- مصدر غَرَّه يغرُّه غُرورًا، أي: أصاب غِرَّتَه، أي: غفلتَه في اليَقَظةِ، ونال منه ما يُريد، حتَّى يُدخِلَه مِن معصيةِ اللهِ فيما يستوجِبُ به عُقوبتَه، وأصلُ (غرر) يدلُّ على النُّقْصانِ .

وَطَفِقَا: أي: أقبلَا وجعَلَا، وظلَّا وأخذَا، وفِعلُ (طفق) يُستعمَلُ في الإيجابِ دون النَّفيِ، فلا يُقال: ما طَفِقَ .

يَخْصِفَانِ: أي: يَرْقَعان، ويُلزِقان، أو يَجعلان وَرَقةً على وَرَقةٍ، أو يَصِلانِ الوَرَقَ بَعضَه ببعضٍ، ويُلصقانِ بعضَه على بعضٍ، ومنه يقال: خَصَفْتُ نَعلِي: إذا طبَّقْتَ عليها رُقعةً، وأصل (خصف): اجْتِمَاعُ شَيءٍ إلى شَيْءٍ .

مُسْتَقَرٌّ: أي: موضِعُ استقرارٍ؛ قرارٌ تستقرُّونَه، وفراشٌ تَمتهِدونه، وأصل (قرر): يدلُّ على تَمَكُّنٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ

وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ: (إنْ) حرْفُ شَرطٍ، وقَبْلَه لامُ التَّوطئةِ للقَسَمِ مُقدَّرة، والتقديرُ: (لَئِنْ)، وقوله: لَنَكُونَنَّ جوابُ القَسمِ المُقدَّرِ الذي وطَّأتْ له اللامُ، وجوابُ الشَّرطِ محذوفٌ؛ لدلالةِ جَوابِ القَسمِ عليه؛ كقوله تعالى: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ

 

[المائدة: 73] .

المعنى الإجمالي:

 

أمرَ اللهُ تعالى آدَمَ وزوجَه حوَّاءَ أن يسكُنا الجنَّةَ، ويأكُلا مِن حيثُ أرادا منها، وألَّا يَقْرَبا شجرةً مُعَيَّنةً حَدَّدَها لهما تعالى، فيكونا مِنَ الظَّالِمينَ.

فوَسْوَس الشَّيطانُ لآدَمَ وحوَّاءَ؛ ليخدَعَهما، فيُظهِرَ لهما ما سُتِرَ مِن عَوْراتِهما، زاعمًا لهما كذِبًا أنَّ الله تعالى لم يَنْهَهما عن أكلِ ثَمَرِ هذه الشَّجَرةِ، إلَّا كراهةَ أن يكُونا مِن جِنسِ الملائكةِ، أو يكونَا مِنَ الخالِدينَ، وأقسَمَ لهما باللهِ إنَّه ناصِحٌ لهما في ذلك.

فخَدَعَهما وغَرَّهما وجَرَّأَهما على الأكلِ مِن تلك الشَّجَرةِ، فلمَّا أكَلَا منها انكشَفَت عَوْرَاتُهما، فجَعلا يَشُدَّانِ على جَسَدَيهما مِن وَرَقِ الجنَّةِ؛ ليستُرا ما ظهَرَ مِن عَوْرَاتِهما، وناداهما ربُّهما معاتبًا لهما: ألمْ أنهَكُما عن تلك الشَّجرةِ، وأخُبِرْكما أنَّ الشَّيطانَ عدوٌّ لكما ظاهِرُ العَداوةِ.

فاعتَرَفا بالعِصْيانِ، وقالا: رَبَّنا ظَلَمْنا أنفُسَنا، وإنْ لم تَغفِرْ لنا وتَرْحَمْنا لنكونَنَّ مِنَ الهالكينَ.

فأمر اللهُ تعالى آدَمَ وحوَّاءَ وإبليسَ بالهُبوطِ إلى الأرضِ، بعضُهم لبعضٍ عَدُوٌّ، هم وذُرِّيَّتُهم، ولهم في الأرضِ مكانٌ يَستقِرُّونَ فيه على ظَهْرِها في حياتِهم، وفي بَطنِها بَعد مَوتِهم، ولهم فيها مَتاعٌ يَستَمتِعونَ به إلى أن يأتِيَهم الموتُ، وأخبَرَهم تعالى أنَّهم في الأرضِ يَعيشونَ، وفيها يَموتونَ، ومنها يُخرَجونَ مِن قُبورِهم لِيومِ الجَزاءِ.

تفسير الآيات:

 

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا

أي: قال اللهُ تعالى لآدَمَ عليه السَّلامُ بعد أن أخرَجَ إبليسَ مِنَ الجنَّةِ: اتَّخِذْ أنت وزَوجُك حوَّاءُ الجنَّة مَنزِلًا، وكُلَا مِن أيِّ مكانٍ فيها، مِن جَميعِ ثِمارهِا

.

وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ

أي: ولا تَأكُلَا من هذه الشَّجَرةِ؛ فتَصِيرا مِمَّنْ ظَلَم نفسَه بمُخالَفةِ أمرِ رَبِّه .

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا

أي: فألقى إبليسُ لآدَمَ وحوَّاءَ قَولًا ليخدَعَهما به، فيُظهِرَ لهما ما ستَرَه اللهُ عنهما مِن عَوْراتِهما .

وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ

أي: وقال لهما كَذِبًا وافتراءً: ما نهاكُما ربُّكما عن أكلِ ثَمَرِ هذه الشَّجَرةِ، إلَّا كراهةَ أن تكونَا ملَكينِ مِن جِنسِ الملائكةِ، أو تكونَا مِنَ الخالِدينَ في الجنَّةِ .

كما قال تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى [طه:120] .

وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)

أي: وحَلَفَ لهما باللهِ إنِّي ناصِحٌ لكما في الأكلِ مِن ثَمَرِ هذه الشَّجَرةِ التي نهاكما اللهُ عنها .

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ

أي: فخَدَعَهما وأطمَعَهما بالقَولِ الباطِلِ، وجرَّأهما على الأكلِ مِن تلك الشَّجَرةِ، فنزَّلَهما عن رُتبَتِهما العاليةِ، التي هي البُعدُ عن المعاصي إلى التَّلوُّثِ بها .

فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا

أي: فلمَّا طَعِمَ آدمُ وحوَّاءُ ثَمَرَ الشَّجرةِ، انكشَفَتْ عورةُ كُلٍّ منهما، بعد ما كانت مَستورةً .

وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ

أي: خَجِلا، وجَعَلا يشُدَّانِ على جَسَدِهما مِن وَرَقِ الجنَّةِ؛ ليستُرَا به عَوْراتِهما .

وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ

أي: وقال اللهُ لآدَمَ وحوَّاءَ، مُوَبِّخًا ومُعاتِبًا لهما: ألم أنْهَكما عن أكلِ ثَمَرِ تلك الشَّجَرةِ ؟

وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ

أي: وأُعْلِمْكما أنَّ إبليسَ عدوٌّ بيِّنُ العَداوةِ لكما؛ فلِمَ اقتَرَفْتُما ما نهيتُكما عنه، وأطَعْتُما عدوَّكُما ؟!

قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)

قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا

أي: قال آدَمُ وحوَّاءُ اعترافًا بالعِصيانِ : يا رَبَّنا أسأَنْا إلى أنفُسِنا، وأضْرَرْنا بها بمَعصِيَتِك، وبِطاعَتِنا عَدُوَّنا وعَدُوَّك .

وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ

أي قالَا في تَوبَتِهما: وإنْ لم تستُرْ علينا ذَنْبَنا، وتتجاوَزْ عن عُقوبَتِنا، وتَرحَمْنا بقَبولِ تَوبَتِنا، والمُعافاةِ مِن هذه الخَطايا، لنَكونَنَّ مِنَ الهالكينَ .

وقد قَبِلَ اللهُ تعالى هذه التَّوبةَ، كما قال: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122] .

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ

أي: قال اللهُ لآدَمَ وحوَّاءَ وإبليسَ : اهبِطوا مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ، بعضُكم لبعضٍ عَدُوٌّ أنتم وذُرِّيَّتُكم .

كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] .

وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 168، 169].

وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ

أي: ولَكم أنتم وذُرِّيَّتِكم في الأرضِ قرارٌ، تَستقِرُّونَه في حياتِكم على ظَهْرِها، وبعد وَفاتِكم في بَطنِها، ولكم فيها مَتاعٌ تَستَمتِعونَ به حتى يأتِيَكم الموتُ .

قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)

أي قال اللهُ: في الأرضِ تَعيشونَ أيَّامَ حَياتِكم، وتكونُ فيها وفاتُكم، ثم يُخرِجُكم منها رَبُّكم مِن قُبورِكم أحياءً يومَ القيامةِ؛ ليُجازِيَ كلًّا بعَمَلِه

 

.

كما قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55].

وقال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق:43-44] .

الفوائد التربوية:

 

قال تعالى: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا... ممَّا يُستفادُ مِن قِصَّةِ آدَمَ وحوَّاءَ وإبليسَ: أنَّه ينبغي لنا أن نَعرِفَ أنفُسَنا بغرائِزِها واستعدادِها للكَمالِ، وما يَعرِضُ لها دُونَه مِن الموانِعِ، فيصرِفُها عنه إلى النَّقائِصِ، وأنَّ أنفَعَ ما يُعِينُنا على تَربِيَتِها عَهدُ اللهِ إلينا بأنْ نَعبُدَه وَحدَه، وألَّا نعبُدَ معه الشَّيطانَ ولا غَيرَه، وأنْ نَذكُرَه ولا ننساه؛ فننسى أنفُسَنا، ونَغفُلُ عَن تزكِيَتِها، وصَقْلِها بصِقالِ التَّوبةِ، كلَّما عَرَضَ لها مِن وِسواسِ الشَّيطانِ ما يُلَوِّثُها؛ فإنَّه إن يُترَكْ صار صَدَأً وطَبْعًا مُفسِدًا لها، وما أفسَدَ أنفُسَ البَشَرِ ودسَّاها إلَّا غفلةُ عُقُولِهم وبصائِرِهم عنها، وترْكُها كالرِّيشةِ في مهابِّ أهواءِ الشَّهواتِ، ووساوسِ شَياطينِ الضَّلالاتِ، فعلى العاقِلِ أن يعرِفَ قِيمَتَها، ويحرِصَ عليها أشَدَّ مِن حِرصِه على ما عساه يملِكُ مِن نفائِسِ الجواهِرِ، وأعلاقِ الذَّخائِرِ

.

قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ النَّهيُ عن قُربِ الشَّيءِ أبلَغُ مِنَ النَّهيِ عنه؛ فهو يَقتضي البُعدَ عن موارِدِ الشُّبُهاتِ التي تُغرِي به، وتُفضِي إليه، وَرَعًا واحتياطًا؛ فإنَّ مَن حام حَولَ الحِمَى أوشَكَ أن يُواقِعَه؛ فقولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ أشَدُّ في التَّحذيرِ مِن أن يَنهى عن الأكلِ مِنَ الشَّجَرةِ، لأنَّ النَّهيَ عن قِربانِها سَدٌّ لذريعةِ الأكلِ منها .

قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا المعصيةُ تَهتِكُ سِترَ ما بين اللهِ والعَبدِ، فلمَّا عصَيَا انهتَكَ ذلك السِّترُ، فبَدَت لهما سوآتُهما، فالمعصيةُ تُبدِي السَّوأةَ الباطِنَةَ والظَّاهِرةَ، فإنَّ الله سبحانه أنزَلَ لِباسَينِ: لباسًا ظَاهرًا يوارِي العورةَ ويَستُرُها، ولباسًا باطِنًا مِنَ التقوى، يُجَمِّلُ العبدَ ويَستُرُه، فإذا زالَ عنه هذا اللِّباسُ انكشَفَتْ عَورَتُه الباطنةُ، كما تنكشِفُ عَورَتُه الظَّاهِرةُ بنَزْعِ ما يستُرُها .

الحَذَرُ مِن خداعِ إبليسَ، بإظهارِه النُّصحَ، وإبطانِه الغِشَّ؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قولُ الله تعالى: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ .

قولُ الله تعالى: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.. إلى قَولِه تعالى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.. يُرشِدُنا إلى أنَّ مَن خالَفَ أمرَه تعالى، ثُلَّ عَرشُه، وهُدِمَ عِزُّه، وإن كان في غايةِ المَكِنَةِ، ونهايةِ القُوَّةِ، كما أخرَجَ مَن أعظَمَ له المَكِنَةَ بإسجادِ مَلائِكَتِه، وإسكانِ جَنَّتِه، وإباحَةِ كلِّ ما فيها غيرَ شَجَرةٍ واحدةٍ .

في قَولِه تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا إشارةٌ إلى الأدبِ في دُعاءِ اللهِ تعالى؛ حيث نسبَ آدمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المعصيةَ إلى نَفسِه؛ ولم يقُلْ: ربِّ قَدَّرْتَ عليَّ، وقَضَيتَ عليَّ ذلك

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

في قَولِه تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ دلالةٌ على أنَّ تَعرُّضَ الشَّيطانِ للأنبياءِ، لا يَقدَحُ في نبوَّتِهم عليهم السَّلامُ

.

في قَولِه تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ دلالةٌ على أنَّه ليس مِن شَرطِ المُوَسوِسِ أنْ يكون مُستَتِرًا عن البَصَرِ- بل قد يُشاهَدُ- فالكلامُ هنا هو كلامُ مَن يُعْرَفُ قائلُه، ليس شيئًا يُلقى في القَلبِ، لا يُدرى ممَّن هو .

في قَولِه تعالى: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ حكايةٌ لابتداءِ عَمَلِ الإنسانِ لِسَترِ نقائِصِه، وتحَيُّلِه على تجنُّبِ ما يكرَهُه، وعلى تَحسينِ حالِه بحَسَبِ ما يُخَيِّلُ إليه خيالُه، وهذا أوَّلُ مَظهرٍ مِن مظاهِرِ الحضارةِ .

قولُ الله تعالى: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ تأخَّرَ نداءُ الرَّبِّ إيَّاهما إلى أن بدَتْ لهما سَوآتُهما، وتحيَّلَا لِسَترِ عَوْراتِهما؛ ليَكونَ للتَّوبيخِ وَقعٌ مَكينٌ مِن نُفوسِهما، حين يقَعُ بعد أن تظهَرَ لهما مفاسِدُ عِصْيانِهما، فيعلَمَا أنَّ الخَيرَ في طاعةِ اللهِ، وأنَّ في عِصيانِه ضُرًّا .

قولُ الله تعالى: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ دلَّ على أنَّ كَشْفَ العَورةِ مِنَ المُنكَراتِ .

في قَولِه تعالى: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ دلالةٌ على أنَّ العُريانَ يلزَمُه سَترُ عَورتِه، فإنْ لم يجِدْ إلَّا حَشيشًا أو وَرَقًا يربِطُه عليه؛ فإنَّه يلزَمُه السَّترُ به؛ لأنَّه مُغَطٍّ للبَشَرةِ مِن غَيرِ ضَررٍ، فأشبَهَ الجُلودَ والثِّيابَ .

قولُ اللهِ تعالى: وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ فيه نُكتةٌ لَطيفةٌ، وهي أنَّه لَمَّا كان وَقتُ الهَناءِ شُرِّفَ بالتَّصريحِ باسْمِه في النِّداءِ، فقيلَ: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ، وحين كان وَقْتُ العِتابِ أخبَرَ أنَّه ناداه، ولم يُصَرِّحْ باسْمِه .

في قَولِه تعالى: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا دلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى لم يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذا شاءَ، وهو يتكَلَّمُ بمَشِيئَتِه وقُدرَتِه، فيتكَلَّمُ بشيءٍ بعدَ شيءٍ، ووجهُ ذلك: أنَّه سُبحانه ناداهما حين أكَلَا منها، ولم ينادِهما قبلَ ذلك .

يُستفادُ مِن قَولِه تعالى عن آدَمَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وقَولِه عن إبليسَ: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أنَّ مَن تاب أشبهَ أباه آدمَ، ومَن أَصَرَّ واحتجَّ بالقَدَر على المعاصِي أشبهَ إبليسَ .

في قَولِه تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ دلالةٌ على أنَّ الاعترافَ بالذَّنبِ يتضَمَّنُ طلبَ المغفرةِ؛ فإنَّ الطَّالبَ السَّائلَ تارةً يَسألُ بصيغةِ الطَّلَب؛ وتارةً يَسألُ بصيغةِ الخَبَرِ- إمَّا بوصْفِ حالِه، وإمَّا بِوَصفِ حالِ المَسؤولِ، وإمَّا بوَصفِ الحالَينِ-، وأيضًا الإخبارُ عَنِ اللهِ تعالى أنَّه إنْ لم يغفرْ لهما ويَرحَمْهما خَسِرَا؛ يتضَمَّنُ سُؤالَ المَغفرةِ كذلك ، فقوله تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ فيه دلالةٌ على أنَّ السُّؤالَ والطَّلَبَ قد يكون بصيغةِ الشَّرطِ .

إنَّما كَمُلَتْ فضائِلُ آدَمَ باعترافِه على نَفسِه، فقال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا  فكُلَّما أوقَدَ إبليسُ نارَ الحَسَدِ لآدَمَ، فاح بها رِيحُ طِيبِ آدَمَ، واحترَقَ إبليسُ بحَسَدِه .

في قَولِه تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ دلالةٌ على جوازِ وُقوعِ الصَّغائِرِ مِنَ الأنبياءِ، وإنَّما ابتلى اللهُ الأنبياءَ بالذُّنوبِ؛ رفعًا لدَرَجاتِهم بالتَّوبةِ، وتبليغًا لهم إلى مَحَبَّتِه وفَرَحِه بهم؛ فإنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوابِينَ، ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ، ويَفرَحُ بتَوبةِ التَّائبِ أشَدَّ فَرَحٍ، فالمقصودُ كَمالُ الغايةِ، لا نَقصُ البِدايةِ؛ فإنَّ العَبدَ يكونُ له الدَّرجةُ لا يَنالُها إلَّا بما قَدَّرَه اللهُ له مِنَ العَمَلِ أو البَلاءِ .

قال تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ طوى القرآنُ هنا ذِكرَ التَّوبةِ على آدَمَ؛ لأنَّ المقصودَ مِن القِصَّةِ في هذه السُّورةِ: التَّذكيرُ بِعَداوةِ الشَّيطانِ، وتحذيرُ النَّاسِ مِنِ اتِّباعِ وَسْوَسَتِه، وإظهارُ ما يُعقِبُه اتِّباعُه مِنَ الخُسرانِ والفَسادِ، ومقامُ هذه الموعظةِ يقتضي الإعراضَ عن ذِكرِ التَّوبةِ؛ للاقتصارِ على أسبابِ الخَسَارةِ .

قولُه تعالى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ذكَر فيه الإهباطَ بلفظِ الجمعِ اهْبِطُوا، وتارةً يذكرُه بلفظِ التثنيةِ اهْبِطَا [طه: 123] ، وتارةً بلفظِ الإفرادِ (اهْبِطْ)، فحيث ورَد بصيغة الجمعِ فهو لآدمَ وزوجِه وإبليسَ؛ إذ مدارُ القصةِ عليهم، وحيثُ ورَد بلفظ التثنيةِ فإمَّا أن يكونَ لآدمَ وزوجِه؛ إذ هما اللذان باشَرا الأكلَ مِن الشَّجرةِ، وأقْدَما على المعصيةِ، وإمَّا أن يكونَ لآدمَ وإبليسَ؛ إذ هما أبَوَا الثَّقلينِ، وأصْلَا الذُّريةِ، فذكَر حالَهما ومآلَ أمرِهما؛ ليكونَ عظةً وعبرةً لأولادهما، ولم يذكُرِ الزوجةَ؛ لأنَّها تبعٌ لآدمَ، وجاء الإهباطُ بالإفرادِ في قولِه تعالى لإبليسَ: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا

 

[الأعراف: 13] .

بلاغة الآيات:

 

قولُه: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فيه: تصديرُ الكلامِ بالنِّداءِ؛ للتَّنبيهِ على الاهتمامِ بتلَقِّي المأمورِ به. وتَخصيصُ الخِطابِ به عليه السَّلامُ؛ للإيذانِ بأصالَتِه في تلَقِّي الوَحْيِ، وتعاطِي المأمورِ به

.

وقوله: اسْكُنْ أَنْتَ فيه الإتيانُ بالضَّميرِ المنفصِلِ بعدَ الأمرِ؛ لقَصدِ زِيادةِ التَّنكيلِ بإبليسَ؛ لأنَّ ذِكْرَ ضَميرِه في مقامِ العَطفِ يُذَكِّرُ غَيرَه بأنَّه ليس مِثلَه؛ إذ الضَّميرُ، وإن كان مِن قَبيلِ اللَّقَبِ، وليس له مفهومُ مخالفةٍ؛ فإنَّه قد يُفيدُ الاحترازَ عَن غَيرِ صاحبِ الضَّميرِ بالقَرينةِ على طريقةِ التَّعريضِ .

قوله: فَوَسْوَسَ تجسيدٌ حَيٌّ، وتصويرٌ بليغٌ لدَأَبِ إبليسَ على الإغواءِ، وإجهادِه نَفْسَه لِحَمْلِها على أن تَزِلَّ بهما القَدَمُ، ويرتَطِما في مزالِقِ الشَّرِّ؛ فهو يُوسوِسُ إليهما المرَّةَ بعد المرَّةِ؛ فإنَّه كُلَّما تكَرَّرَتِ الحروفُ في اللَّفظِ الواحِدِ، كان ذلك إيذانًا بتكريرِ العَمَلِ .

قوله: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ جاءتْ قَاسَمَهُمَا على زِنَةِ المُفاعلة للمُبالغةِ؛ ليدُلَّ على أنَّه حَصَلت بينهما في ذلك مُراوغاتٌ ومُحاولاتٌ بُذِلَ فيها الجُهدُ، وفيه تأكيدُ إخبارِ إبليسَ عَن نَفسِه بالنُّصحِ لآدَمَ وزَوجِه بثلاثِ مُؤَكِّداتٍ- إنَّ واللَّامُ في لَمِنَ والجُملة الاسميَّة- مِمَّا يَدُلُّ على مَبلَغِ شَكِّهِما في نُصحِه لَهما، وما رأى عَلَيهما مِن مَخائِلِ التَّرَدُّدِ في صِدْقِه .

قولُه: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فيه تمثيلُ حالِ مَن يطلُبُ شَيئًا مِن مَظِنَّتِه فلا يجِدُه، بِحالِ مُن يُدَلِّي دَلْوَه أو رِجْلَيه في البِئرِ؛ ليَسْتَقيَ مِن مائِها فلا يَجِدُ فيها ماءً، فيُقال: دلَّى فلانٌ، كما يُقالُ: أَدْلَى .

قوله تعالى: وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ عَطَفَ جُملةَ: وَأَقُلْ لَكُمَا على جملةِ: أَنْهَكُمَا؛ للمبالغةِ في التَّوبيخِ؛ لأنَّ النَّهيَ كان مشفوعًا بالتَّحذيرِ مِنَ الشَّيطانِ الذي هو المُغْرِي لهما بالأكلِ مِنَ الشَّجَرةِ، فهُما قد أضاعَا وَصِيَّتينِ .

والاستفهامُ في قَولِه: أَلَمْ أَنْهَكُمَا للتَّقريرِ والتَّوبيخِ، وأُولِيَ هذا الاستِفهامُ حرْفَ النَّفيِ زيادةً في التَّقريرِ؛ لأنَّ نَهيَ اللهِ إيَّاهما واقِعٌ، فانتفاؤُه مُنتَفٍ، فإذا أُدخِلَتْ أداةُ التَّقريرِ، وأَقَرَّ المُقَرِّرُ بضِدِّ النَّفيِ، كان إقرارُه أقوى في المؤاخَذةِ بِمُوجِبِه؛ لأنَّه قد هُيِّئَ له سَبيلُ الإنكارِ، لو كان يستطيعُ إنكارًا؛ ففِي هذا الاستفهامِ عِتابٌ مِنَ اللهِ تعالى وتوبيخٌ، وتنبيهٌ على الخَطأِ؛ حيثُ لم يَتحَذَّرا ما حَذَّرَهما اللهُ مِن عداوةِ إبليسَ .

قوله: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ فيه تَقديمُ المَجْروراتِ الثَّلاثةِ (فيها - فيها - منها) على مُتَعَلِّقاتِها (تَحْيَون - تَمُوتون - تُخرَجون)؛ للاهتمامِ بالأَرضِ التي جُعِلَ فيها قَرارُهم ومتاعُهم؛ إذ كانتْ هي مَقَرَّ جَميعِ أحوالِهم

=======================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (26-30)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ

غريب الكلمات:

 

وَرِيشًا: الرِّيشُ المَتَاعُ والأموالُ

، ويُطلَقُ على ما ظهَر مِنَ اللِّباسِ، ولِباسِ الزِّينةِ، وكلِّ ما ستَرَ الإِنسانَ في جِسمِه ومَعِيشَتِه، ورُبَّمَا اسْتُعْمِلَ فِي الثِّيَابِ والكِسْوَةِ دونَ سائِرِ المَالِ، وأَصْلُ (ريش): يَدُلُّ على حُسْنِ الحالِ، وما يَكتَسِبُ الإنسانُ مِن خيرٍ .

لَا يَفْتِنَنَّكُمُ: أي: لا يَخدَعَنَّكم، أو لا يَصْرِفَنَّكم، والفِتنةُ تُطلَق على: الشِّرْك والكُفر، والشَّرِّ والعَذابِ، وهي في الأصلُ: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحانُ، مأخوذةٌ مِنَ الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهَبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودَتُه مِن رَداءتِه .

يَنْزِعُ: نزْعُ الشَّيءِ: جذْبُه مِن مَقرِّه، وفَصلُه عنه أو اقتِلاعُه، وأصلُ (نزع): يَدُلُّ على قلْعِ شيءٍ .

وَقَبِيلُهُ: أي: أصحابُه وجُندُه، وجِيلُه وأمَّتُه، وصِنْفُه وجِنسُه الَّذي هو منه، وهم الجِنُّ، وقَبيلُ القَومِ: عَريفُهم؛ وسُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه يُقبِل عليهم يَتعرَّفُ أُمورَهم، وأصل (قبل): يدلُّ على مُواجهةِ الشَّيءِ للشَّيءِ .

فَاحِشَةً: أي: فِعلةً مُتناهِيةً في القُبحِ، وأصلُ (فحش) يدلُّ على قُبحٍ في شَيءٍ وشَناعةٍ .

الضَّلَالَةُ: أي: الضَّلالُ، وهو العُدولُ عن الطَّريقِ المُستقيمِ، وأصل (ضلل): ضَياعُ الشَّيءِ، وذَهابُه في غيرِ حقِّه

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ

وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ: قُرِئ بالرَّفْع ولِبَاسُ التَّقْوَى وقُرِئ بالنَّصبِ وَلِبَاسَ التَّقْوَى، فعلى قراءةِ الرَّفْعِ فقولُه: لِبَاسُ مُبتدأٌ مرفوعٌ، وذَلِكَ مُبتدأٌ ثانٍ، وخَيْرٌ خبرُ المبتدأِ الثاني، والمبتدأُ الثَّاني وخبرُه ذَلِكَ خَيْرٌ خبرٌ للمُبتدأِ الأوَّل لِبَاسُ، والرابطُ هنا اسمُ الإشارةِ. أَوْ يكونُ لِبَاسُ مبتدأً، وذَلِكَ بَدلًا منه، أو عَطْفَ بيانٍ له، ويكونُ خَيْرٌ خبرًا لـلِبَاسُ، وقِيلَ غيرُ ذلك. وأمَّا على قِراءةِ النَّصبِ وَلِبَاسَ التَّقْوَى، فهو حِينئذٍ معطوفٌ على لِبَاسًا، أي: أَنْزَلْنا لِباسًا يُوارِي سَوآتِكم، وأَنْزلْنا أَيضًا لِبَاسَ التَّقْوى، وعلى هذا الوَجهِ فجُملةُ ذَلِكَ خَيْرٌ استئنافيَّةٌ لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ، أو حالٌ مِن لِبَاسًا وما عُطِفَ عليه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ اللهُ تعالى بني آدَمَ أنَّه خلقَ لهم لباسًا يستُرُ عَوراتِهم، ورَزَقَهم الأثاثَ واللِّباسَ الفاخِرَ الذي يتزيَّنونَ به، وأعلَمَهم أنَّ لِباسَ التَّقوى خيرٌ مِن  ذلك، وأخبَرَ أنَّ ما مَنَّ به مِن ذلك عليهم هو مِن آياته التي خَلَقَها لهم؛ لعَلَّهم يتذكَّرونَ.

ثم حذَّرَ اللهُ بني آدَمَ مِن أن يخدَعَهم الشَّيطانُ بِتَزيينِه المعاصِيَ لهم، كما خدَعَ أبَوَيهِم آدَمَ وحوَّاءَ، فكان سببًا في خروجِهما مِنَ الجنَّةِ؛ ينزِعُ عنهما لِباسَهما؛ لِيُرِيَهما عَوْراتِهما التي كانت مستترةً، وأعلَمَهم تعالى أنَّ الشَّيطانَ يَراهم هو وذُرِّيتُه مِن حيثُ لا يرونَهم هم، وأنَّه جعلَ الشَّياطينَ أولياءَ للَّذين لا يؤمنون.

وإذا فعل الكُفَّارُ ما يُستفحَشُ ويُستقبَحُ- كَطَوافِهم عُراةً- اعتذروا أنَّهم وَجَدوا آباءَهم كذلك يفعلونَ، واللهُ أمَرَهم به، فأمَرَ اللهُ نَبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُبَيِّنَ لهم أنَّ الله لا يأمُرُ بالفَحشاءِ، أيقولونَ على اللهِ ما لا يعلمونَ، وأمَرَه أن يقولَ لهم إنَّ رَبَّه جَلَّ وعلا أمَرَ بالعَدلِ، وليتوجَّهوا في صلاتِهم إلى اللهِ وحده، في أيِّ مسجدٍ كانوا، ولْيَدعوه مُخلصينَ له الدِّينَ، ثمَّ ذكَّر الله تعالى بالمبدأ والنهايةِ، وأنَّه كما خَلَقَكم أوَّلَ مَرَّةٍ بعد أن كُنتم عَدمًا، فكذلك ستَعودونَ إليه يومَ القيامةِ.

فريقًا منهم هداهم الله، وفريقًا وجَبَتْ عليهم الضَّلالة، هؤلاء الذين وَجَبَت عليهم الضَّلالةُ اتَّخذوا الشَّياطينَ أولياءَ مِن دُونِ الله، ويظنُّون أنَّهم مُهتدونَ.

تفسير الآيات:

 

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ أنَّه أمر آدَمَ وحوَّاءَ بالهُبوطِ إلى الأرضِ، وجعَلَ الأرضَ لهما مُستقَرًّا؛ بَيَّنَ بَعده أنَّه تعالى أنزَلَ كلَّ ما يحتاجونَ إليه في الدِّينِ والدُّنيا، ومن جُملَتِها اللِّباسُ الذي يُحتاجُ إليه في الدِّينِ والدُّنيا

.

وأيضًا لَمَّا ذكر تعالى واقعةَ آدَمَ في انكشافِ العَورةِ أنَّه كان يخصِفُ الوَرَقَ عليها؛ أتبَعَه بأن بَيَّنَ أنَّه خَلقَ اللِّباسَ للخَلقِ؛ ليستُرُوا به عَورَتَهم، ونَبَّه به على المِنَّةِ العظيمةِ على الخَلقِ؛ بِسَبَب أنَّه أقدَرَهم على التستُّرِ ، فقال تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا

أي: يا بني آدَمَ، قد خَلَقْنا لكم ورَزَقْناكم ما تَلْبَسون مِنَ الثِّيابِ .

يُوَارِي سَوْآتِكُمْ

أي: لباسًا يَستُرُ عَوْراتِكم .

وَرِيشًا

أي: وخَلَقْنا لكم ورَزَقْناكم الأثاثَ واللِّباسَ الفاخِرَ الذي تتزَيَّنونَ وتتجَمَّلونَ به .

وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قوله تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ قراءتان:

قراءةُ وَلِبَاسَ عطفًا على رِيشًا، والمعنى: قد أنزَلْنَا عليكم لباسًا يُوارِي سوآتِكم وريشًا، وأنزَلْنا لباسَ التَّقوى .

قراءة وَلِبَاسُ مبتدأٌ و(ذلك) بدلٌ منه، أو عَطفُ بيانٍ له، و(خَيْرٌ) خبَرُه، والمعنى: لباسُ التقوى ذلك الذي قد عَلِمْتُموه خيرٌ لكم يا بني آدَمَ مِن لِباسِ الثِّيابِ التي تُوارِي سَوْآتِكم، ومِنَ الرِّياشِ التي أنزَلْناها إليكم؛ فالبَسُوه .

وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ

أي: واستشعارُ النُّفوسِ تقوى اللهِ: بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، والحياءِ وخَشيةِ اللهِ، والسَّمتِ  الحَسَنِ؛ خيرٌ لصاحِبِه من اللِّباسِ والرِّياشِ الذي يُتجَمَّلُ به .

ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ

أي: ذلك اللِّباسُ والرِّياشُ مِن آياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على رَحمَتِه بعبادِه؛ خَلَقَه لهم لكي يعرِفوا عَظيمَ النِّعمة فيه، ولِيَتَّعِظوا ويعتَبِروا في صُنعِه، فيُوحِّدوه سبحانه، ويُنِيبوا إلى الحَقِّ، ويترُكوا الباطِلَ .

قال تعالى: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 3-6] .

وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [غافر: 79-81] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] .

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ

أي: يا بني آدَمَ؛ لا تُمكِّنوا الشَّيطانَ مِن خِداعِكم بتزيينِه المعاصِيَ لكم، كما خدَعَ أباكم آدَمَ وأُمَّكُم حوَّاءَ، فأطاعاه وعَصَيا ربَّهما، فأخرَجَهما بمَكْرِه مِنَ الجنَّةِ .

يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا

أي: نزع الشَّيطانُ عن آدمَ وحَوَّاءَ ما رزَقَهما اللهُ مِنَ اللِّباسِ؛ ليكشف عَورةَ كُلِّ واحدٍ منهما بعد أن كانَتْ مُستَترةً، ويُظهِرَها لأعيُنِهما .

إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ

أي: إنَّ الشَّيطانَ يراكم هو وذُرِّيتُه، وأنتم لا تَرونَهم .

إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ

أي: إنَّا سلَّطْنا الشَّياطينَ على الكفَّارِ، فيزيدونَهم ضلالًا .

كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37] .

وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99-100] .

وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام: 121] .

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً

أي: وإذا فعَلَ الكُفَّارُ ما يُستفحَشُ ويُستقبَحُ مِنَ الأفعالِ؛ مثل طوافِهِم بالبَيتِ عُراةً .

قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا

أي: قالوا وَجَدْنا آباءَنا يفعلونَ هذا، فنحنُ نقتدي بهم، واللهُ أمَرَنا به، فنحن نتَّبِعُ أمْرَه .

قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- لِمَن ادَّعى ذلك: إنَّ اللهَ لا يأمُرُ عبادَه بقبائِحِ الأفعالِ، ولا يليقُ ذلك بكَمالِه وحِكمَتِه، كهذا التَّعرِّي الذي تصنَعونَه، وتزعمونَ أنَّ اللهَ سبحانه أمَرَكم به .

أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

أي: أَتَزعمونَ أنَّ اللهَ أمَرَكم بالفاحشةِ- مثلَ زَعمِكم أنَّه أمَرَكم بالتَّعَرِّي في الطَّوافِ- وأنتم لا تَعلمونَ أنَّه أمَرَكم بذلك .

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ الذين يَزعمونَ أنَّ اللهَ أمَرَهم بالفَحشاءِ: ما أمَرَ رَبِّي بما تَزعُمونَ، بل أمَرَ بالعَدلِ في العِباداتِ بتَوحيدِه، وفي المُعاملاتِ بأداءِ حُقوقِ عِبادِه .

وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ

أي: تَوَجَّهوا في صلاتِكم إلى اللهِ وَحدَه، في أيِّ مَسجدٍ كُنتم، واجتَهِدوا في إقامَةِ الصَّلاةِ ظاهِرًا وباطِنًا وَفقَ ما شَرَعه اللهُ تعالى .

كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم: 30] .

وقال سبحانه: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] .

وعن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا قام إلى الصَّلاةِ، قال: ((وجَّهْتُ وَجهِيَ لِلَّذي فطَرَ السَّمواتِ والأرضَ حنيفًا، وما أنا مِنَ  المُشركينَ، إنَّ صَلاتي ونُسُكي، ومَحْياي ومماتي، لله رَبِّ العالَمينَ، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ، وأنا مِنَ المُسلمينَ )) .

وعن البَراء بنِ عازبٍ رَضِيَ الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوصى رجلًا، فقال: ((إذا أرَدْتَ مَضجَعَك فقل: اللهُمَّ أسلَمْتُ نَفْسي إليك، وفوَّضْتُ أمري إليك، ووجَّهْتُ وَجْهي إليك، وألجَأْتُ ظَهري إليك؛ رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجَأَ ولا منجا منك إلَّا إليك، آمنْتُ بكتابِك الذي أنزَلْتَ، وبنبِيِّكَ الذي أرسَلْتَ؛ فإنْ مُتَّ مُتَّ على الفِطرةِ )) .

وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

أي: وادْعُوا اللهَ، واعبُدُوه وَحدَه لا شريكَ له .

كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ

أي: كما خَلَقَكم اللهُ أوَّلَ مَرَّةٍ، فجَعَلكم أحياءً بعد أنْ كُنتم عَدَمًا؛ فكذلك تَعودونَ إليه يومَ القِيامةِ، فيبعَثُكم مِن قُبُوركم أحياءً بعد مَوتِكم .

كما قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] .

وقال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] .

وقال تبارك وتعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 78-79] .

وعنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّكم مَحشُورونَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، ثمَّ قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] )) .

فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ

أي: طائفةً منكم وفَّقَها اللهُ تعالى، ويسَّرَ لها أسبابَ الهِدايةِ، وطائفةً وَجَبتْ عليها الضَّلالةُ، ولَزِمَتْها بعد أن بَيَّنَ لها الهُدى، فلم تَقبَلْ به، وعَمِلَتْ بأسبابِ الغَوايةِ .

كما قال الله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر: 36-37] .

وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .

إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

أي: إنَّ الفَريقَ الذي ثبتَتْ عليهم الضَّلالةُ إنَّما ضَلُّوا بسبَبِ اتِّخاذِهم الشَّياطينَ أنصارًا وأعوانًا يتولونهم مِن دُونِ اللهِ، فأطاعوهم فيما يخالفُ ما شرعَه، فطابَتْ نُفُوسُهم بوَسْوَسَتِهم، وأْتَمَروا بأَمرِهم .

كما قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد: 25-26] .

وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ

أي: ويظنُّ أولئك الضَّالُّونَ أنَّهم على الهُدى

 

.

كما قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 103- 105] .

وقال سُبحانه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8] .

الفوائد التربوية:

 

1- قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ فيه إيماءٌ إلى عُلُوِّ رُتبةِ لِباسِ التَّقوى، وحُسنِ عاقِبَتِه؛ لكونِه أهمَّ اللِّباسَينِ؛ لأنَّ نَزعَه يكون بكَشفِ العَورةِ الحِسِّيَّةِ والمعنويَّة، فلو تجمَّلَ الإنسانُ بأحسَنِ المَلابِسِ، وهو غيرُ مُتَّقٍ؛ كان كلُّه سَوْءاتٍ، ولو كان مُتَّقيًا وليس عليه إلَّا خُريقةٌ تُواري عَوْرَتَه، كان في غايةِ الجَمالِ والسِّترِ والكَمالِ

.

 

2- أنعَمَ على عبادِه بزينتَينِ ولِباسَينِ: زينةٌ تُجَمِّلُ ظواهِرَهم، وزينةٌ مِنَ التَّقوى تُجَمِّلُ بواطِنَهم؛ قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ

 

3- في قولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ شَبَّه الفُتُونَ الصَّادِرَ مِنَ الشَّيطانِ للنَّاسِ، بفَتْنِه آدَمَ وزَوجَه؛ إذ أقدَمَهما على الأكلِ مِنَ الشَّجرةِ المنهيِّ عنها، فأخرَجَهما مِن نعيمٍ كانا فيه- تذكيرًا للبَشَرِ بأعظَمِ فِتنةٍ فَتَنَ الشَّيطانُ بها نوعَهم؛ إذ حَرَمَهم مِنَ النَّعيمِ الذي كان يتحَقَّقُ لهم لو بَقِيَ أبَواهم في الجنَّةِ وتناسَلا فيها، وفيه أيضًا تذكيرٌ بأنَّ عَداوةَ البَشَرِ للشَّيطانِ مَوروثةٌ، فيكونُ أبعَثَ لهم على الحَذَرِ مِن كَيدِه .

 

4- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ فيه أنَّ الشَّيطانَ أقدَرُ على فِتنةِ بني آدَمَ بوسائِلِه الخفيَّةِ؛ فهم مُحتاجونَ إلى شِدَّةِ الاحتياطِ، وإلى مُضاعَفةِ اليَقَظة، وإلى دَوامِ الحَذَر، كي لا يأخُذَهم على غِرَّةٍ ، قال مالكُ بنُ دينار: (إنَّ عَدُوًّا يراك ولا تَراه؛ لَشديدُ المَئُونةِ، إلَّا مَن عَصَم اللهُ) .

 

5- عدمُ الإيمانِ هو الموجِبُ لعَقدِ الوِلايةِ بين الإنسانِ والشَّيطانِ؛ قال اللهُ تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ .

 

6- قولُه تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ فيه الأمرُ بالعَدلِ والاعتدالِ في الأمورِ كُلِّها؛ في العباداتِ والمعاملاتِ، وتركِ الظلمِ والجَورِ، والبُعدِ عَنِ الفُحشِ والتَّجاوُزِ .

 

7- قولُه: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ  فيه الأمرُ بالتوجهِ لله، والاجتهادِ في تكميلِ العباداتِ، خصوصًا الصلاة، وإقامتِها ظاهرًا وباطنًا، وتنقيتِها مِن كلِّ نقصٍ ومفسدٍ .

 

8- يُرشِدُنا قولُ اللهِ تعالى: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ إلى تجريدِ التَّوحيدِ مِن كلِّ شائبةٍ، والإخلاصِ للهِ في العبادةِ

 

9- في قولِه تعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ تذكيرٌ بالبعثِ والجَزاءِ على الأعمالِ، ودعوةٌ إلى الإيمانِ به، في إثْرِ بيانِ أصْلِ الدِّينِ، ومَناطِ الأمْرِ فيه، والنَّهيِ الوارِدِ في سياقِ أصلِ تَكوينِ البَشَرِ، واستعدادِهم للإيمانِ والكُفرِ والخَيرِ والشَّرِّ، وما للشَّيطانِ في ذلك مِن إغواءِ الكَافرينَ الذينَ يتَوَلَّونَه، وعدم سُلطانِه على المؤمنينَ الذين يتولَّونَ اللهَ ورسولَه .

 

10- في قولِه تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ هذا كُلُّه إنذارٌ مِنَ الوُقوعِ في الضَّلالةِ، وتحذيرٌ مِنِ اتِّباعِ الشَّيطانِ، وتَحريضٌ على تَوَخِّي الاهتداءِ الذي هو مِنَ الله تعالى؛ فالفريقُ المُفلِحُ هو الفريقُ الذين هداهم اللهُ تعالى، والفريقُ الخاسِرُ هم الذين حَقَّتْ عليهم الضَّلالةُ، واتَّخذوا الشَّياطينَ أولياءَ مِن دُونِ اللهِ .

 

11- الهِدايةُ تكونُ بِفَضلِ اللهِ تعالى، ومَنِّه على العَبدِ، والضَّلالةُ تكون بخِذْلانِه للعبدِ، إذا تولَّى- بجَهلِه وظُلمِه- الشَّيطانَ، وتسبَّبَ لنَفسِه بالضَّلالِ، وأنَّ مَن حَسِبَ أنَّه مهتدٍ وهو ضالٌّ، فإنَّه لا عُذرَ له؛ لأنَّه متمَكِّنٌ مِنَ الهدى، وإنمَّا أتاه حُسبانُه مِن ظُلمِه بتَركِ الطَّريقِ المُوصِل إلى الهُدى، يُرشِدُنا إلى ذلك قولُه تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا خاطَبَ اللهُ تعالى بني آدَمَ في هذه الآيةِ وأمثالِها بالنِّداءِ الذي يُخاطَبُ به البعيدُ؛ لِمَا كان عليه عَرَبُهم وعَجَمُهم عند نُزُولِ هذه السُّورةِ في مَكَّةَ مِنَ البُعدِ عَنِ الفِطرةِ السَّليمةِ، والشِّرعةِ القَويمةِ؛ تنبيهًا للأذهانِ بما يقرَعُ الآذانَ، فامتَنَّ عليهم- بعد أنْ أنبَأَهم بما كان مِن عُرْيِ سَلَفِهم الأوَّلِ- بما أنعَمَ به عليهم مِنَ اللِّباسِ على اختلافِ دَرَجاتِه وأنواعِه، مِنَ الأدنى الذي يستُرُ السَّوءةَ عن أعيُنِ النَّاسِ، إلى أنواعِ الحُلَلِ التي تُشبِهُ رِيشَ الطَّيرِ في وِقايةِ البَدَنِ مِنَ الحَرِّ والبَردِ بِسَترِ جَميعِ البَدَنِ

.

 

2- قال اللهُ تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا امتنانُ اللهِ تعالى على بَني آدَمَ بلِباسِ الزِّينةِ يدُلُّ على استحبابِها ، وأنَّ الزِّينةَ غَرَضٌ صَحيحٌ .

 

3- قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا فيه امتنانُ الله على عبادِه بما يسَّرَ لهم مِنَ اللِّباسِ الضروريِّ، واللباسِ الذي المقصودُ منه الجمالُ، وبيانُ أنَّ هذا ليس مقصودًا بالذات، وإنَّما أنزله الله ليكونَ معونةً لهم على عبادتِه وطاعتِه، ولهذا قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ من اللباسِ الحسيِّ، فإنَّ لباسَ التقوَى يستمرُّ مع العبدِ، ولا يبلَى ولا يبيدُ، وهو جمالُ القلبِ والرُّوح .

 

4- في قَولِه تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ دلالةٌ على جَوازِ إطلاقِ الثِّيابِ على العَمَلِ، ومِنه قولُه تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] على أحدِ الأقوالِ فيها .

 

5- اللِّباسُ مِن أصلِ الفِطرةِ الإنسانيَّةِ، وهو ممَّا كَرَّمَ اللهُ به الإنسانَ منذُ ظُهُورِه في الأرضِ، والعُرْيُ والتكشُّفُ عَمَلٌ مِن أعمالِ الفِتنةِ الشَّيطانيَّةِ؛ قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا

 

6- قولُ الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا استُدِلَّ به على وُجوبِ سَترِ العَورةِ .

 

7- في قَولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إشارةٌ إلى أنَّ الشَّيطانَ كما نَزَعَ عن الأبَوَينِ لباسَهما بمعصيةِ اللهِ وطاعَةِ الشَّيطانِ؛ فكذلك قد يَنزِعُ عن الذُّريَّةِ لِباسَ التَّقوى، ولباسَ البَدَنِ؛ لِيُرِيَها سَوْآتِها .

 

8- استُدلَّ بقَولِه تعالى: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ على أنَّ الجدَّ يُسمَّى أبًا .

 

9- لَمَّا سُلِّطَ إبليسُ وجُنودُه على بني آدَمَ هذا التَّسليطَ العظيمَ الذي لا يكادُ يَسلَمُ معه أحدٌ؛ قال الله تعالى- مُخَفِّفًا لأمرِهم، مُوهِيًا في الحقيقةِ لكَيدِهم- إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، أي: وأمَّا أولياؤُنا الذين مَنَعناهم بقُوَّتِنا منه، أو فَتنَّاهم يسيرًا بهم، ثمَّ خَلَّصْناهم بلُطْفِنا منهم؛ فليسوا لهم بأولياءَ .

 

10- في قولِ الله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ دليلٌ على أنَّ الأوامِرَ والنَّواهيَ الإلهيَّةَ تابعةٌ للحِكمةِ والمصلحةِ؛ حيث ذكر تعالى أنَّه لا يُتصَوَّر أن يأمُرَ بما تستفحِشُه وتُنكِرُه العُقولُ، وأنَّه لا يأمُرُ إلَّا بالعدلِ والإخلاصِ .

 

11- حُصِرَت جميعُ الواجباتِ في قولِه تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي باِلقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فالواجِبُ كُلُّه محصورٌ في حقِّ الله وحَقِّ عِبادِه؛ وحَقُّ اللهِ على عِبادِه أن يعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، وحقوقُ عبادِه العَدلُ .

 

12- قَولُ اللهِ تعالى: وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يدلُّ على أنَّ الكافِرَ- الذي يظُنُّ أنَّه في دينِه على الحقِّ- والجاحِدَ المعانِدَ؛ سواءٌ .

 

13- قال تعالى: وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ هذا مِن أبيَنِ الدَّلالةِ على خطأِ قَولِ مَن زَعَمَ أنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ أحدًا على معصيةٍ رَكِبَها، أو ضلالةٍ اعتَقَدها؛ إلَّا أن يأتِيَها بعد عِلمٍ منه بصوابِ وَجهِها فيَركَبها عنادًا منه لرَبِّه فيها؛ لأنَّ ذلك لو كان كذلك، لم يكُنْ بَينَ فَريقِ الضَّلالةِ- الذي ضَلَّ وهو يحسَبُ أنَّه مهتدٍ- وفريقِ الهُدى؛ فَرْقٌ، وقد فَرَّقَ اللهُ بين أسمائِهما وأحكامِهما في هذه الآيةِ .

 

14- قولُ الله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ضمَّن (تقولونَ) معنَى (تكذِبون) أو معنى (تتقوَّلونَ)، فلذلك عُدِّي بـ(على)، وكان حقُّه أن يعدَّى بـ (عن) لو كان قولًا صحيحَ النِّسبةِ .

 

15- في قوله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ إذا كان التوبيخُ واردًا على أن يَقولوا على اللهِ ما لا يَعلمونَ؛ كان القولُ على اللهِ بما يتحقَّقُ عدَمُ ورُودِه مِنَ اللهِ أحرَى .

 

16- قال الله تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، عَطْفُ جُملةِ: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ على جملة: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، واعتبارُهما سواءً في الإخبارِ عَنِ الفَريقِ الذين حَقَّتْ عليهم الضَّلالةُ؛ لِقَصدِ الدَّلالةِ على أنَّ ضَلالَهم حاصِلٌ في كُلِّ واحدٍ مِنَ الخَبَرينِ؛ فوِلايةُ الشَّياطينِ ضَلالةٌ، وحِسْبانُهم ضَلالَهم هُدًى، ضلالةٌ أيضًا، سواءٌ كان ذلك كُلُّه عن خطأٍ أو عَن عِنادٍ؛ إذ لا عُذرَ للضَّالِّ في ضَلالِه بالخَطَأِ؛ لأنَّ اللهَ نَصَبَ الأدلَّةَ على الحَقِّ، وعلى التَّمييزِ بَينَ الحَقِّ والباطِلِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا فيه تكريرُ النِّداءِ؛ للإيذانِ بكَمالِ الاعتناءِ بمَضمونِ ما صُدِّرَ به، وقد ابتُدِئَ الخِطابُ بالنِّداءِ؛ ليقعَ إقبالُهم على ما بَعدَه بهِمَمِ قُلوبِهم

.

وكان لاختيارِ استحضارِهم عند الخِطابِ بعنوانِ (بني آدم) مرَّتينِ وَقْعٌ عَجيبٌ بعدَ الفَراغِ مِن ذِكرِ قِصَّةِ خَلقِ آدَمَ، وما لَقِيَه مِن وَسوَسةِ الشَّيطان؛ وذلك أنَّ شأنَ الذريَّةِ أن تَثْأَرَ لآبائِها، وتُعادِيَ عَدُوَّهم، وتحتَرِسَ مِنَ الوُقوعِ في شَرَكِه .

وفيه: تعريضٌ بالمُشركينَ؛ إذ جَعلوا مِن قُرُباتِهم نَزعَ لِباسِهم بأن يحُجُّوا عُراةً .

قوله: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ أُطلِقَ على تقْوى الله وخَشيَتِه اسمُ اللِّباسِ؛ تَشبيهًا لمُلازَمةِ تقوى اللهِ بملازَمةِ اللَّابِسِ لِباسَه .

واسمُ الإشارةِ ذَلِكَ- على القَولِ بأنَّه مُبتدأٌ ثانٍ- استُعمِلَ مكانَ الضَّميرِ في الرَّبطِ، وجُعِلَتْ جملةُ ذَلِكَ خَيْرٌ خبرًا لِقَولِه: وَلِبَاسُ التَّقْوَى؛ فدلَّ على تأكيدِ مَضمُونِها بتَكرارِ الإسنادِ ، وأيضًا في الفَصْلِ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ المُقتَرِن بأداةِ البُعدِ؛ إيماءٌ إلى عُلُوِّ رُتبةِ لِباسِ التَّقوى، وحُسنِ عاقِبَتِه .

قوله: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيه التفاتٌ مِنَ الخطابِ إلى الغَيبةِ؛ إذ كان مُقتضى الظَّاهِر أن يُقال: (لعلَّكم تَذكَّرون)، وفي هذا الالتفاتِ تَعريضٌ بمَن لم يتذكَّرْ مِن بني آدم، فكأنَّه غائِبٌ عن حَضرةِ الخِطابِ .

قوله: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا نُهُوا عن أن يفتِنَهم الشَّيطانُ، أي: لا تُمكِّنوا الشَّيطانَ من أنْ يَفتِنَكم، والمعنى النَّهيُ عن طاعتِه، وهذا مِن مبالغةِ النَّهيِ؛ فالمعنى: لا تُطيعوا الشَّيطانَ في فَتْنِه فيفتِنَكم، ومثلُ هذا كنايةٌ عن النَّهيِ عن فِعلٍ، والنَّهيِ عن التعرُّضِ لأسبابِه .

وقوله: يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا استئنافٌ لتَعليلِ النَّهيِ، وتأكيدِ التَّحذيرِ منه ، والتَّعبيرُ عمَّا مضَى بالفِعلِ المُضارعِ في قوله: يَنْزِعُ؛ لاستحضارِ الصُّورةِ العَجيبةِ مِن تمكُّنِه مِن أنْ يترُكَهما عُرْيانَينِ، ونزْعُ اللِّباسِ تَمثيلٌ لحالِ التَّسَبُّب في ظُهورِ السَّوءةِ .

قولُه: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هو وَقَبِيلُهُ فيه تأكيدُ الخَبَرِ بحَرَفِ التَّوكيد إِنَّ لتنزيلِ المُخاطَبينَ في إعراضِهم عن الحذَرِ مِنَ الشَّيطانِ وفِتنَتِه منزلةَ مَن يتردَّدونَ في أنَّ الشَّيطانَ يراهم، وفي أنَّهم لا يَرونَه .

وجملة: إِنَّه يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ واقعةٌ موقِعَ التَّعليلِ للنَّهيِ عن الافتتانِ بفِتنةِ الشَّيطانِ، والتحذيرِ من كيدِه؛ لأنَّ شَأنَ الحَذِرِ أن يَرصُدَ الشَّيءَ المَخُوفَ بنَظَرِه؛ ليحتَرِسَ منه إذا رأى بوادِرَه، فأخبَرَ اللهُ النَّاسَ بأنَّ الشَّياطينَ ترى البَشرَ، وأنَّ البَشَرَ لا يرونَها، إظهارًا للتَّفاوُتِ بين جانِبِ كَيدِهم، وجانِبِ حَذَرِ النَّاسِ؛ فإنَّ جانِبَ كيدِهم قَوِيٌّ متمَكِّنٌ، وجانِبَ حَذَرِ النَّاسِ منهم ضعيفٌ؛ لأنَّهم يأتون المَكيدَ مِن حيثُ لا يدري .

قوله: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أولِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ جملةٌ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ قُصِدَ منه الانتقالُ إلى أحوالِ المُشركينَ في ائتِمارِهم بأمرِ الشَّيطانِ؛ تَحذيرًا للمؤمنينَ مِن الانتظامِ في سِلكِهم، وتنفيرًا مِن أحوالِهم ، وهي تعليلٌ آخَرُ للنَّهيِ، وتأكيدٌ للتَّحذيرِ إثرَ تَحذيرٍ .

وفيه: تأكيدُ الخَبَر بحَرفِ التَّأكيدِ (إِنَّ)؛ للاهتمامِ بالخَبَر بالنِّسبة لِمَن يَسمَعُه مِنَ المؤمنينَ .

قوله: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا فيه إيجازٌ؛ إذ المفهومُ أنَّهم إذا فَعَلوا فاحشةً فأنكَرْتَ عليهم أو نُهُوا عنها؛ قالوا: وَجَدْنا عليها آباءَنا... .

وجاء الشَّرطُ بحَرْفِ إِذَا الذي مِن شَأنِه إفادةُ اليَقينِ بوُقوعِ الشَّرطِ؛ ليُشِيرَ إلى أنَّ هذا حاصِلٌ منهم لا محالةَ .

قولُه: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ الاستفهامُ في قولِه: أَتَقُولُونَ إنكاريٌّ، وفيه تَوبِيخٌ لهم على كَذِبِهم، وتَوقيفٌ على ما لا عِلْمَ لهم به، ولا رِوايةَ لهم فيه، بل هي دَعْوَى واختلاقٌ .

قوله: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ

فُصِلَتْ جُملةُ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ عن التي قبلَها، ولم يُعطَفِ القَولُ على القَولِ، ولا المَقولُ على المَقولِ؛ لأنَّ في إعادةِ فِعلِ القَولِ، وفي تَركِ عَطفِه على نظيرِه؛ لَفْتًا للأذهانِ إليه .

وقولُه: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ إقامةُ الوُجوهِ تمثيلٌ لِكَمالِ الإقبالِ على عِبادةِ اللهِ تعالى في مواضِعِ عِبادَتِه، بحالِ المُتَهيِّئِ لمُشاهَدةِ أمرٍ مُهِمٍّ حين يوجِّه وَجهَه إلى صَوْبِه، لا يلتفِتُ يَمنةً ولا يَسرةً .

وقوله: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ كَمَا مُركَّبَةٌ من الكاف و(ما)؛ فالكافُ لِتَشبيهِ عَودِ خَلْقِهم ببَدئِه، و(ما) مصدريةٌ، والتقديرُ: تَعودونَ عَودًا جديدًا كبَدْئِه إيَّاكم، وقَدَّمَ المُتعَلِّقَ الدَّالَّ على التَّشبيهِ، على فِعلِه تَعُودُونَ؛ للاهتمامِ به .

قوله: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ

فيه تَقديمُ فَرِيقًا الأوَّلِ والثَّاني على عامِلَيهِما؛ للاهتمامِ بالتَّفصيلِ .

قوله: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ، فيه مناسبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا في سُورةِ الأعراف: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ، بينما قال في سُورةِ النَّحل: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [النحل: 36] ؛ وذلك لوجَهينِ: لفظي ومعنوي؛ أمَّا اللَّفظيُّ: فهو أنَّ الحروفَ الحواجزَ بينَ الفِعلِ والفاعِل في قوله: حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أكثرُ منها في قولِه: حَقَّتْ عَلَيْهِ والحذفُ مع كثرةِ الحواجزِ أحسنُ. وأمَّا المعنويُّ: فإنَّ (مَن) في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ واقعةٌ على الأمَّةِ والجماعةِ، وهي مؤنَّثةٌ لفظًا؛ فإنَّه قال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا ثمَّ قال: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، أي: مِن تِلك الأُممِ أممٌ حقَّتْ عليهم الضلالةُ، ولو قال بدَلَ ذلك: (ضلَّت) لتعيَّنتِ التاءُ، ومعنى الكلامين واحد، وإذا كان معنى الكلامينِ واحدًا كان إثباتُ التاءِ أحسنَ مِن ترْكِها؛ لأنَّها ثابتةٌ فيما هو في معنى الكلامِ الآخَرِ. وأمَّا: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ فالفريقُ مُذكَّر، ولو قال: (فريقًا ضلُّوا) لكان بغيرِ تاءٍ، وقوله: حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ في معناه؛ فجاءَ بغيرِ تاءٍ، وهذا أسلوبٌ لطيفٌ من أساليبِ العربيَّةِ؛ فإنَّ العرَبَ تدَعُ حُكمَ اللَّفظِ الواجبِ له في قِياسِ لُغتها إذا كان في مَعنَى كلمةٍ لا يجبُ لها ذلك الحُكمُ؛ كقولهم: (هو أحسنُ الفتيانِ وأجملُه)؛ لأنَّه في معنى هو أحسنُ فتًى وأجملهُ، وأحسنُ مِن هذا أنْ يُقال: إنَّهم أرادوا (أحسن شيءٍ وأجمله)، فجَعَلوا مكانَ (شيء) قولهم: (الفتيان)؛ تنبيهًا على أنَّه أحسنُ شيءٍ من هذا الجِنس، فلو اقتَصروا على ذِكرِ شيءٍ، لم يَدُلَّ على الجِنس المفضَّلِ عليه؛ فإذا حَسُنَ الحملُ على المعنَى فيما كان القياسُ لا يُجوِّزه؛ فكيفَ الظنُّ فيما يُجوِّزُه القياسُ والاستِعمالُ ؟!

وقوله: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أولِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... استئنافٌ مُرادٌ به التَّعليلُ لجُملة حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ .

================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (31-32)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

 

نُفَصِّلُ: أي: نُبيِّنُ ونميِّزُ، والتفصيلُ التبيينُ، وقيل: نَأْتِي بِهَا شَيْئًا بعد شَيءٍ، وَلَا نُنَزِّلُها جُمْلَةً مُتَّصِلَةً، وأصلُ (فصل): يدلُّ على تَمييزِ الشَّيءِ مِنَ الشَّيءِ، وإبانَتِه عنه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ تعالى بني آدَمَ أن يأخُذُوا زينَتَهم مِنَ اللِّباسِ الحَسَنِ، منظرًا ومخبرًا، ساترًا للعورة عند جَميعِ المساجِدِ، وفي جميعِ الصَّلَواتِ، وأن يأكُلُوا ويَشْرَبوا مِمَّا أحَلَّه لهم، ولا يُسرِفوا بالإفراطِ في الأكلِ والشُّربِ فوق ما يَكفِيهم، أو بتجاوُزِ حُدودِ اللهِ بتحريمِ ما أحَلَّه، أو بتناوُلِ ما حَرَّمَه مِنَ المأكولاتِ والمَشروباتِ؛ فاللهُ تعالى لا يُحِبُّ المُسرفينَ.

ثم أمَرَ اللهُ نبيَّه أن يقولَ لجَهَلةِ العَرَب الذين يتعَرَّونَ عند طَوافِهم بالبَيتِ، ويُحَرِّمونَ على أنفُسِهم ما أحلَّه اللهُ لهم؛ أمَرَه أن يقولَ لهم، مُنكِرًا عليهم: مَنِ الذي حَرَّمَ زينةَ اللهِ التي أخرَجَها لعبادِه، كاللِّباسِ الذي خَلَقَه لهم، ومَنِ الذي حَرَّمَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ، وأَمَرَه أن يقولَ لهم: إنَّ الزِّينةَ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ هي للَّذينِ آمنوا في الدُّنيا، ويُشارِكُهم فيها الكُفَّارُ، لكنَّها خالصةٌ لهم يومَ القيامةِ، لا يشارِكُهم فيها أحدٌ مِنَ الكَفَرة، كذلك يُفَصِّلُ اللهُ الآياتِ لقومٍ يَعلمونَ.

تفسير الآيتين:

 

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بالقِسطِ في الآيةِ الأُولى، وكان مِن جُملةِ القِسْطِ أمرُ اللِّباسِ، وأمرُ المأكولِ والمَشروبِ؛ لا جَرَمَ أتبَعَه بذِكْرِهما، وأيضًا لَمَّا أمَرَ بإقامةِ الصَّلاةِ في قوله: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكان سَترُ العَورةِ شَرطًا لصِحَّةِ الصَّلاةِ؛ لا جَرَمَ أتبَعَه بذِكرِ اللِّباسِ

، فقال تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ

سببُ النُّزولِ:

عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كانَتِ المرأةُ تَطوفُ بالبَيتِ وهي عُريانةٌ، فتقولُ: مَنْ يُعيرُني تِطوافًا ؟ تجعلُه على فَرجِها، وتقول:

اليومَ يَبدُو بعضُه أو كُلُّهْ * فما بدا مِنْه فلا أُحِلُّهْ

فنزلَتْ هذه الآيةُ: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31] )) .

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ

أي: يا بني آدَمَ خُذوا زينَتَكم مِنَ اللِّباسِ الحَسَن، واستُروا عَوْراتِكم به عند جميعِ المساجِدِ، في الصَّلواتِ كُلِّها؛ فَرضِها ونَفْلِها، وفي الطَّوافِ والاعتكافِ، وغيرِ ذلك .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ أبا بكرٍ الصِّديقَ رَضِيَ الله عنه، بَعَثَه في الحَجَّةِ التي أمَّرَه عليها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قبل حَجَّةِ الوَداعِ يومَ النَّحرِ، في رَهْطٍ يُؤَذِّنُ في النَّاسِ: ((ألَا لا يحُجُّ بعد العامِ مُشرِكٌ، ولا يطوفُ بالبَيتِ عُريانٌ )) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يُصَلِّي أحدُكم في الثَّوبِ الواحِدِ، ليس على عاتِقَيهِ مِنه شَيءٌ )) .

وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ. قال رجل: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أن يكونَ ثَوبُه حَسَنًا، ونَعْلُه حَسَنةً، قال: إنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ؛ الكِبرُ بَطَرُ الحَقِّ ، وغَمْطُ النَّاسِ ) .

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا

أي: وكُلُوا واشرَبُوا مِمَّا أحلَلْتُه لكم مِنَ الطَّيباتِ، ولا تُفْرِطُوا في الأكلِ والشُّربِ بالزِّيادةِ على القَدرِ الكافي، ولا تتجاوَزوا حُدودَ اللهِ؛ فتُحَرِّموا ما أحَلَّ اللهُ مِنَ الأطعمةِ والأشرِبَةِ، أو تتناوَلوا ما حَرَّمَه منها .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] .

وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأنعام: 141-142] .

وقال عزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة: 87-88] .

إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ

أي: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المجاوِزينَ أمْرَه، الغالينَ فيما أحلَّ أو حرَّم، المُستكثرينَ ممَّا لا ينبغي الاستكثارُ منه؛ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ وغيرِ ذلك .

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

مُناسَبَةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان مِنَ المعلومِ أنَّ ما كانوا ألِفُوه واتَّخذوه دِينًا يستعظمونَ تَرْكَه؛ لأنَّ الشَّيطانَ يُوسْوِسُ لهم بأنَّه توسُّعٌ في الدُّنيا، والتَّوَسُّعُ فيها ممَّا ينبغي الزُّهدُ فيه، كما دعا إليه كثيرٌ مِنَ الآياتِ- أكَّدَ سُبحانَه الإذنَ في ذلك بالإنكارِ على مَن حَرَّمَه، مُعْلِمًا أنَّ الزُّهدَ الممدوحَ ما كان مع صِحَّةِ الاعتقادِ في الحلالِ والحرامِ، وأمَّا ما كان مع تبديلِ شَيءٍ مِن الدِّينِ، بتحليلِ حرامٍ، أو عَكْسِه؛ فهو مذمومٌ .

وأيضًا لَمَّا حَرَّمَتِ العَرَبُ في جاهِلِيَّتِها زينةَ اللِّباسَ في الطَّوافِ تعبُّدًا وقُربةً، وحَرَّمَ بعضُهم أكْلَ بعضِ الطَّيِّباتِ مِنَ الأَدْهانِ وغَيرِها في حال الإحرامِ بالحَجِّ كذلك، وحَرَّموا مِنَ الحَرْثِ والأنعامِ ما بيَّنه تعالى في سورة الأنعام. وحَرَّمَ غَيرُهم مِنَ الوَثنِيِّينَ وأهلِ الكِتابِ كثيرًا مِنَ الطَّيِّباتِ والزِّينةِ كذلك- جاء دينُ الفِطرةِ الجامِعُ بين مصالِحِ البَشَرِ في معاشِهِم ومَعَادِهم، المُطَهِّرُ المُرَبِّي لأرواحِهم وأجسادهم، يُنكِرُ هذا التحَكُّمَ والظُّلمَ للنَّفْسِ ، فقال تعالى:

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ

أي: قُلْ- يا نبيَّ اللهِ- لجَهَلةِ العَرَبِ الذين يتعَرَّونَ عند طَوافِهم بالبَيتِ، ويُحرِّمونَ على أنفُسِهم- بآرائِهم الفاسِدَةِ- ما أحلَلْتُ لهم: مَنِ الَّذي حرَّمَ عليكم زينةَ اللهِ التي أبرَزَها مِنَ العَدَمِ إلى الوُجودِ، ويسَّرَ أسبابَ تَناوُلِها، كالِّلباسِ الذي خَلَقَه اللهُ لعِبادِه؟ ومَنْ حرَّمَ الطَّيِّباتِ مِن كُلِّ ما يُستلَذُّ ويُشتَهى مِن أنواعِ المأكولاتِ والمَشروباتِ وغيرِ ذلك، مِمَّا أحَلَّه اللهُ تعالى لعباده ؟!

عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ نَفَرًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، سألوا أزواجَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن عَمَلِه في السِّرِّ؟ فقال بعضُهم: لا أتزوَّجُ النِّساءَ، وقال بعضُهم: لا آكُلُ اللَّحمَ، وقال بعضُهم: لا أنامُ على فِراشٍ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، فقال: ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكِنِّي أُصَلِّي وأنامُ، وأصومُ وأُفطِرُ، وأتَزَوَّجُ النِّساءَ؛ فمَن رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مِنِّي )) .

قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ

أي: قُل- يا نَبِيَّ اللهِ- لهؤلاءِ المُشركينَ الذين يُحَرِّمونَ ما أحَلَّ اللهُ عزَّ وجلَّ: إنَّ الزِّينةَ والطَّيباتِ مِنَ الرِّزقِ، قد خَلَقَها اللهُ في الدُّنيا للَّذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه، ويُشارِكُهم فيها مَن كَفَرَ باللهِ ورَسولِه، ولكنَّها خالصةٌ للمُؤمنينَ في الآخِرَةِ، لا يشارِكُهم فيها أحَدٌ مِنَ الكُفَّارِ يومَئذٍ .

كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

أي: كهذا التَّفصيلِ الواضِحِ الذي فصَّلْنا لكم به الحلالَ والحَرامَ، وبَيَّنَّا لكم به حُرمةَ كَشْفِ العَوْراتِ، ولُزُومَ سَتْرِها، وإباحةَ الزِّينةِ والطَّيِّبات مِنَ الرِّزقِ؛ نُوَضِّحُ دائمًا في هذا القرآنِ جَميعَ ما يَحتاجُ إلى بيانٍ، وذلك للَّذين يفهمونَ عَنِ اللهِ آياتِه، وينتفعونَ بها

 

.

كما قال تعالى: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24] .

وقال سبحانه: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] .

الفوائد التربوية:

 

1- أمَرَ اللهُ بقَدرٍ زائدٍ على سَترِ العَورةِ في الصَّلاةِ، وهو أخذُ الزِّينةِ؛ فقال تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فعَلَّقَ الأمرَ بأخذِ الزِّينةِ، لا بِسَترِ العَورةِ؛ إيذانًا بأنَّ العَبدَ ينبغي له أن يلبَسَ أزيَنَ ثيابِه، وأجمَلَها في الصَّلاةِ، وكان لبَعضِ السَّلَفِ حُلَّةٌ بمبلغٍ عظيمٍ مِنَ المالِ، وكان يلبَسُها وقتَ الصَّلاةِ، ويقولُ: (ربِّي أحَقُّ مَن تجمَّلْتُ له في صلاتِي). ومعلومٌ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يُحِبُّ أن يرى أثَرَ نِعمَتِه على عَبدِه، لا سيَّما إذا وقَفَ بين يَدَيه، فأحسَنُ ما وَقَف بين يديه بملابِسِه ونِعمَتِه التي ألبَسَه إيَّاها ظاهرًا وباطنًا

.

2- قولُه تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ  فيه النهيُ عن الإسرافِ؛ فإنَّ السَّرَفَ يُبغِضُه الله، ويَضُرُّ بَدنَ الإنسانِ ومَعيشَتَه .

3- في قَوْلِه تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إرشادٌ عالٍ، فيه صَلاحٌ للبَشَرِ في دِينِهم ومَعاشِهم ومَعادِهم، لا يَستغنُونَ عنه في وَقتٍ مِنَ الأوقاتِ، ولا عَصْرٍ مِنَ الأعصارِ، وكلُّ ما بَلَغُوه مِن سَعَةِ العِلمِ في الطِّبِّ وغَيرِه، لم يُغْنِهِم عنه، بل هو يُغني المُهتديَ به في أمْرِه ونَهْيِه عَن مُعظَمِ وصايا الطِّبِّ لِحِفظِ الصِّحَّةِ ، قال عليُّ بنُ الحُسَينِ بنِ واقدٍ: (جَمَعَ اللهُ الطِّبَّ في نِصفِ آيةٍ، فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا) .

4- التَّوسيعُ مِنَ الله لعبادِه بالطَّيِّباتِ؛ جَعَلَه لهم ليَسْتعينوا به على عِبادَتِه، فلم يُبِحْه إلَّا لعبادِه المؤمنينَ؛ ولهذا قال تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أي: لا تَبِعَةَ عليهم فيها، ومفهومُ الآيةِ أنَّ مَن لم يؤمِنْ بالله، بل استعانَ بها على مَعاصِيه، فإنَّها غيرُ خالصةٍ له، ولا مُباحةٍ، بل يُعاقَبُ عليها وعلى التنعُّمِ بها، ويُسألُ عنِ النَّعيمِ يومَ القيامةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ جمعَتْ هذه الآيةُ أصُولَ أحكامِ الشَّريعةِ كُلَّها، فجَمَعتِ الأمرَ والنَّهيَ، والإباحةَ والخَبَر

.

قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ لهذه الآيةِ وما ورَدَ في معناها مِنَ السُّنَّة، يُستحَبُّ التجمُّلُ عند الصَّلاةِ- ولا سيَّما يومُ الجُمُعة، ويومُ العِيدِ- والطِّيْبُ؛ لأنَّه مِنَ الزِّينةِ، والسِّواكُ؛ لأنَّه مِن تمامِ ذلك .

في قَولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الأمرُ بسَترِ العَوراتِ عندَ المساجِدِ، فدخلَ في ذلك الطَّوافُ، والصَّلاةُ، والاعتكافُ، وغيرُ ذلك .

دلَّ قولُه تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ على أنَّ الصَّلاةَ في الثَّوْبِ الحَسَنِ غَيرُ مَكروهةٍ، إلَّا أنْ يُخشَى منه الالْتِهاءُ عن الصَّلاةِ، أو حُدوثُ الكِبْرِ .

قولُ الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مُطلَقٌ يتناوَلُ الأوقاتَ والأحوالَ، ويتناوَلُ جميعَ المطعوماتِ والمَشروباتِ؛ دلَّ ذلك على أنَّ الأصلَ في الملابِسِ وأنواعِ التَّجَمُّلات والمطاعِمِ؛ الإباحةُ، إلَّا ما ورَدَ النَّصُّ بخِلافِه .

قولُ اللهِ تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ فيه ردٌّ على مَن يتوَرَّعُ عن أكلِ المُستَلَذَّاتِ، ولُبسِ المَلابِسِ الرَّفيعةِ؛ فإنَّ الاستفهامَ المرادُ منه تقريرُ الإنكارِ، والمبالغةُ فيه .

قولُ الله تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: الزِّينةُ والطَّيِّباتُ هي لهم بالأصالةِ، والكَفَرةُ وإن شارَكُوهم فيها فتَبَعٌ؛ ولذا لم يَقُلْ تعالى: (لِلَّذِينَ آمنوا وغَيرِهم)

 

.

بلاغة الآيتين:

 

قولُه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ هذه الجُملةُ تتنَزَّلُ مِنَ التي بَعدَها، وهي قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ منزلةَ النَّتيجةِ مِنَ الجَدَلِ، فقُدِّمَتْ على الجَدَلِ، فصارَتْ غَرَضًا بمنزلةِ دَعوى، وجُعِلَ الجدلُ حجَّةً على الدَّعوى

.

قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ استئنافٌ مُعتَرِضٌ بين الخِطاباتِ المحكِيَّةِ والمُوجَّهة، وهو موضِعُ إبطالِ مَزاعِمِ أهلِ الجاهِليَّةِ فيما حرَّموه من اللِّباسِ والطَّعامِ، وهي زيادةُ تأكيدٍ لإباحةِ التسَتُّر في المساجِدِ، فابتُدِئَ الكلامُ السَّابِقُ بأنَّ اللِّباسَ نِعمةٌ مِنَ اللهِ .

والاستفهامُ في قَولِه: مَنْ حَرَّمَ إنكاريٌّ، قُصِدَ به التهَكُّم؛ إذ جَعَلَهم بمنزلةِ أهلِ عِلمٍ يُطلَبُ منهم البيانُ والإفادةُ، وقرينةُ التهَكُّمِ إضافةُ الزِّينةِ إلى اسمِ اللهِ في قوله: زِينَةَ اللَّهِ، وتعريفُها بأنَّها أخرَجَها اللهُ لعِبادِه، ووصْفُ الرِّزقِ بالطَّيِّباتِ، وذلك يقتَضي عَدَمَ التَّحريمِ؛ فالاستفهامُ يَؤُولُ أيضًا إلى إنكارِ تَحريمِها، وتوبيخِ مُحَرِّمِيها .

قوله: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيه تعريضٌ بجَهلِ وضَلالِ عُقولِ المُشركينَ الذين استَمَرُّوا على عنادِهم وضَلالِهم، رغمَ ما فُصِّلَ لهم مِنَ الآياتِ

=========================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (33-34)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ

غريب الكلمات:

 

سُلْطَانًا: أي: حُجَّةً، وأصْلُ السُّلطانِ: القوَّةُ والقَهرُ، مِنَ التَّسلُّطِ؛ ولذلك سُمِّيَ السُّلطانُ سُلطانًا

.

أُمَّةٍ: أي: جماعةٍ، أو قَرْنٍ وجِيلٍ، وتُطلَقُ الأمَّةُ على المِلَّةِ والسُّنَّةِ والدِّينِ والحِينِ .

أَجَلٌ: أي: وَقْتٌ لِحُلولِ الهَلاكِ، والأجَلُ غايةُ الوَقتِ في مَحِلِّ الدَّينِ وغَيرِه، والمدَّةُ المضَروبةُ للشَّيءِ، كالمُدَّة المضروبةِ لحياةِ الإنسانِ؛ فيُقال: دنا أجَلُه، وهو عبارةٌ عن دُنوِّ المَوتِ، واستيفاءُ الأجَلِ، أي: مدَّةُ الحياةِ .

سَاعَةً: أي: وقتًا قليلًا مِنَ الزَّمانِ، وأصل (سوع): يدلُّ على استمرارِ الشَّيءِ ومُضيِّه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

أمرَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يخبِرَ المُشركينَ أنَّه عزَّ وجلَّ إنَّما حرَّمَ الذُّنوبَ التي تناهَتْ في القُبحِ، ما ظهرَ منها وما خَفِيَ، وحرَّمَ المعاصِيَ التي تتعلَّقُ بمن عصى نفسَه، وحرَّمَ التعدِّيَ على الغيرِ  بغيرِ حقٍّ، وحرَّمَ أن يُتَّخَذ معه شريكٌ في عبادَتِه، لم يجعَلِ اللهُ معه حُجَّةً تدلُّ على إشراكِه، وحرَّمَ عزَّ وجلَّ القَولَ عليه بلا علمٍ.

وأخبَرَ تعالى أنَّ لكلِّ أمَّةٍ مُكَذِّبةٍ وقتًا محددًا لحُلولِ العُقوبةِ عليهم، فإذا جاءَ الوقتُ الذي وقَّتَه اللهُ لإهلاكِهم هَلَكوا، ولا يتأخَّرونَ عنه ساعةً، ولا يتقدَّمونَ.

تفسير الآيتين:

 

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ في الآيةِ الأولى أنَّ الذي حرَّمَه المشركونَ مِن الزَّينةِ وغَيرِها مِنَ الطَّيِّباتِ، ليس بحرامٍ، وانتهى من تَفنيدِ هذا الباطِلِ الذي يدَّعُونه ويَفتَرونَه- بَيَّنَ في هذه الآيةِ أنواعَ المُحَرَّمات، فحَرَّمَ أوَّلًا الفواحِشَ، وثانيًا الإثمَ

، فقال:

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

أي: قُلْ- يا نبيَّ اللهِ- لهؤلاءِ المُشركينَ: إنَّ ربِّي لم يُحَرِّمْ ما تُحَرِّمونَه، وإنَّما حرَّمَ الذُّنُوبَ التي تناهَتْ في القُبحِ، ما كان منها علانِيَةً، وما كان منها في خفاءٍ .

كما قال تعالى: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] .

وقال عزَّ جلَّ: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام: 151] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا أحَدَ أغيَرُ مِنَ الله؛ ولذلك حَرَّمَ الفواحِشَ ما ظهَرَ منها وما بَطَنَ )) .

وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ

أي: وحرَّمَ ربِّي الإثمَ، وهو المعاصِي المتعلِّقةُ بالفاعِلِ نَفسِه، وحرَّمَ البَغيَ، وهو التَّعدِّي على النَّاسِ في دمائِهم وأموالِهم وأعراضِهم .

وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا

أي: وحرَّمَ ربي اتِّخاذَ شَريكٍ له في عبادَتِه، لم يجعَلِ اللهُ معه حجَّةً تَدَلُّكم على إشراكِه .

وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

أي: وحرَّمَ ربي عليكم القَولَ عليه بلا علمٍ؛ في أسمائِه وصفاتِه، وأفعالِه وشَرعِه .

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا نعى اللهُ على المشركينَ ضلالَهم وتمرُّدَهم- بعد أنْ دعاهم إلى الإيمانِ- وإعراضَهم عنه، بالمجادلةِ والتَّوبيخِ، وإظهارِ نقائِصِهم بالحُجَّة البيِّنةِ، وكان حالُهم حالَ مَن لا يُقلِعُ عمَّا هم فيه- أعقَبَ ذلك بإنذارِهم ووعيدِهم؛ إقامةً للحُجَّةِ عليهم، وإعذارًا لهم قبل حُلولِ العَذابِ بهم .

وأيضا لَمَّا بَيَّنَ الله تعالى الحلالَ والحَرامَ، وأحوالَ التَّكليفِ، بَيَّنَ أنَّ لكُلِّ أحدٍ أجلًا مُعَيَّنًا لا يتقَدَّمُ ولا يتأخَّرُ، والغَرَضُ منه التَّخويفُ؛ ليَجِدَّ المرءُ في القيامِ بالتَّكاليفِ كما ينبغي ، فقال تعالى:

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ

أي: ولكُلِّ أمَّةٍ مُكَذِّبةٍ وقتٌ محدَّدٌ لحلولِ العذابِ .

فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ

أي: فإذا جاء الوَقتُ الذي وقَّتَه اللهُ تعالى لهلاكِهم، هَلَكوا، ولا يتأخَّرونَ بالبَقاءِ في الدُّنيا عن ذلك الوَقتِ ساعةً، ولا يتقدَّمونَ عنه ساعةً

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فذكَر المُحَرَّماتِ التي اتَّفَقَتْ على تحريمِها الشَّرائِعُ والأديانُ، ولا تُباحُ بحالٍ، بل لا تكونُ إلا مُحَرَّمةً، وليسَتْ كالمَيتةِ والدَّمِ ولحْمِ الخِنزيرِ، الذي يباحُ في حالٍ دُونَ حالٍ. فإنَّ المُحَرَّماتِ نوعانِ: مُحَرَّمٌ لِذاتِه لا يُباحُ بحالٍ، ومُحَرَّمٌ تحريمًا عارِضًا في وقتٍ دونَ وقتٍ؛ قال الله تعالى في المُحَرَّمِ لِذَاتِه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، ثم انتقَلَ منه إلى ما هو أعظَمُ منه، فقال: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، ثُمَّ انتقلَ منه إلى ما هو أعظَمُ منه، فقال: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَالَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، ثمَّ انتقَلَ منه إلى ما هو أعظَمُ منه، فقال: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، فهذا أعظَمُ المُحَرَّماتِ عند اللهِ، وأشَدُّها إثمًا، ولهذا ذُكِرَ في المرتَبةِ الرَّابعةِ مِنَ المُحَرَّمات المذكورةِ في هذه الآيةِ؛ فإنَّه يتضَمَّنُ الكَذِبَ على اللهِ، ونِسبَتَه إلى ما لا يليقُ به، وتغييرَ دِينِه وتَبديلَه، ونَفيَ ما أثبَتَه، وإثباتَ ما نفاه، وتحقيقَ ما أبطَلَه، وإبطالَ ما حَقَّقَه، وعداوةَ مَن والاه، ومُوالاةَ مَن عاداه، وحُبَّ ما أبغَضَه، وبُغضَ ما أحَبَّه، ووصْفَه بما لا يليقُ به في ذاتِه وصِفاتِه وأقوالِه وأفعالِه؛ فليس في أجناسِ المُحَرَّماتِ أعظَمُ عند اللهِ منه، ولا أشَدُّ إثمًا، وهو أصلُ الشِّركِ والكُفرِ، وعليه أُسِّسَتِ البِدَعُ والضَّلالاتُ، فكُلُّ بِدعةٍ مُضِلَّةٍ في الدِّينِ أساسُها القَولُ على الله بلا عِلمٍ

.

قال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فهذه الأنواعُ الأربعةُ هي التي حَرَّمَها تحريمًا مُطلقًا؛ فالفواحِشُ متعلِّقةٌ بالشَّهوةِ، والبَغيُ بغَيرِ الحَقِّ يتعلَّقُ بالغَضَبِ، والشِّركُ باللهِ فَسادُ أصلِ العَدلِ؛ فإنَّ الشِّركَ ظُلمٌ عَظيمٌ، والقَولُ على الله بلا علمٍ فَسادٌ في العِلمِ، فقد حَرَّمَ سبحانه هذه الأربعةَ؛ وهي: فَسادُ الشَّهوةِ، والغَضَبِ، وفسادُ العَدْلِ، والعِلمِ .

دخَلَ في قوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ تحريمُ كُلِّ فاحِشةٍ ظَاهِرةٍ وباطِنةٍ، وكُلِّ ظُلمٍ وعُدوانٍ في مالٍ أو نَفْسٍ أو عِرْضٍ، وكُلِّ شِركٍ باللهِ، وإنْ دَقَّ؛ في قولٍ أو عَمَلٍ أو إرادةٍ، بأن يَجعلَ للهِ عَدْلًا بِغَيرِه في اللَّفظِ أو القَصدِ أو الاعتقادِ، وكلِّ قولٍ على الله، لم يأتِ به نَصٌّ عنه ولا عن رسولِه؛ في تحريمٍ أو تحليلٍ، أو إيجابٍ أو إسقاطٍ، أو خبرٍ عنه باسْمٍ أو صِفةٍ، نفيًا أو إثباتًا، أو خبرًا عن فِعلِه؛ فالقَولُ عليه بلا عِلمٍ حرامٌ في أفعالِه وصِفاتِه ودِينِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

النَّظَرُ إلى العَوْراتِ حَرامٌ داخِلٌ في قولِه تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ فإنَّ الفواحِشَ وإن كانَتْ ظاهرةً في المُباشَرةِ بالفَرجِ أو الدُّبُرِ وما يتبَعُ ذلك مِنَ المُلامَسةِ والنَّظَر وغيرِ ذلك، وكما في قِصَّةِ لوط: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 80] ، وقوله: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً[الإسراء: 32] ، فالفاحشةُ أيضًا تتناوَلُ كشْفَ العَورةِ وإن لم يكُنْ في ذلك مُباشرةٌ، كما قال تعالى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا [الأعراف: 28] ، وهذه الفاحِشَةُ هي طَوافُهم بالبيتِ عُراةً

.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ دليلٌ على أنَّها فواحِشُ في نَفسِها، لا تَستَحسِنُها العُقولُ؛ فتعلَّقَ التحريمُ بها لفُحْشِها، فإنَّ ترتيبَ الحُكْمِ على الوَصفِ المُناسِبِ المُشتَقِّ؛ يدلُّ على أنَّه هو العلَّةُ المُقتَضِيةُ له، والعلَّةُ يجبُ أنْ تُغايرَ المَعلولَ، فلو كان كونُه فاحِشةً هو معنى كَونِه مَنهِيًّا عنه؛ كانت العلَّةُ عينَ المعلولِ! وهذا مُحالٌ .

في قَولِه تعالى:قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فيه بيانُ أُصولِ المُحَرَّماتِ العامَّةِ التي حَرَّمَها لضررٍ ثابتٍ لازمٍ لها، لا لعلَّةٍ عارضةٍ، وكلُّها مِن أعمالِهم الكَسبيَّةِ، لا مِن مواهِبِه ونِعَمِه الخِلقيةِ؛ ليُعلَمَ أنَّه- له الحمدُ والشُّكرُ- لم يُحَرِّمْ على النَّاسِ إلَّا ما هو ضارٌّ بهم، دون ما هو نافِعٌ لهم .

قولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، إنَّما ذُكِرَت (السَّاعة) وإن كان دُونَها كذلك؛ لأنَّها كانت أقلَّ اسمٍ للأوقاِت في العُرفِ .

قولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ،  ذِكرُ عُمومِ الأُمَمِ في هذا الوعيدِ- مع أنَّ المقصودَ هم المُشركونَ مِنَ العَرَبِ الذين لم يُؤمنوا- إنَّما هو مبالغةٌ في الإنذارِ والوعيدِ، بتقريبِ حُصُولِه كما حصَلَ لِغَيرِهم مِنَ الأُمَمِ؛ على طريقةِ الاستشهادِ بشواهِدِ التَّاريخِ في قياسِ الحاضِرِ على الماضي، فيكونُ الوَعيدُ خَبَرًا معضودًا بالدَّليلِ والحُجَّةِ .

قولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ذَكَرَ (الأجل) هنا، دون أن يقولَ (لكُلِّ أمَّةٍ عذابٌ أو استئصالٌ)؛ إيقاظًا لعُقُولِهم من أن يَغُرَّهم الإمهالُ، فيحسَبُوا أنَّ اللهَ غيرُ مُؤاخِذِهم على تكذيبِهم

 

.

بلاغة الآيتين:

 

قوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فيه قصرٌ إضافيٌّ؛ لأنَّه لَمَّا كانَتِ المُحَرَّماتُ المذكورةُ في الآيةِ غيرَ محصورةٍ في هذه الأشياءِ؛ دلَّ ذلك على أنَّ القَصرَ المفاد مِن إنَّمَا قَصرٌ إضافيٌّ، مَفادُه أنَّ اللهَ حَرَّمَ الفَواحِشَ وما ذُكِرَ معها، لا ما حَرَّمْتُموه مِنَ الزِّينةِ والطَّيِّباتِ، فأفاد إبطالَ اعتقادِهم، ثم هو يُفيدُ بطَريقِ التَّعريضِ أنَّ ما عَدَّه اللهُ مِنَ المُحَرَّماتِ الثَّابتِ تحريمُها قد تلبَّسوا بها؛ لأنَّه لَمَّا عدَّ أشياءَ، وقد عَلِمَ النَّاسُ أنَّ المُحَرَّماتِ ليستْ محصورةً فيها؛ عَلِمَ السَّامِعُ أنَّ ما عيَّنَه مقصودٌ به تعيينُ ما تلبَّسوا به، فحَصَل بصيغةِ القصرِ ردٌّ عليهم مِن جانَبَيْ ما في صِيغة (إِنَّمَا) من إثباتٍ ونفيٍ

.

وقوله: وَالْإِثْمَ هو كُلُّ ذَنبٍ، فهو أعَمُّ مِنَ الفَواحِشِ؛ فيكون ذِكرُ الفَواحِشِ قَبلَه للاهتمامِ بالتَّحذيرِ منها قبلَ التَّحذيرِ مِن عُمومِ الذُّنوبِ؛ فهو مِن ذِكرِ الخاصِّ قبلَ العامِّ للاهتمام، كذِكرِ الخاصِّ بعد العامِّ، إلَّا أنَّ الاهتمامَ الحاصِلَ بالتَّخصيصِ مع التَّقديمِ أقوى؛ لأنَّ فيه اهتمامًا مِن جِهَتينِ .

وعطفُ البَغيِ على الإثمِ في قولِه: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِن عَطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ للاهتمامِ به؛ لأنَّ البغيَ كان دأْبَهم في الجاهليَّةِ .

قوله: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أي الظُّلمُ أو الكِبرُ؛ أُفرِدَ بالذِّكرِ؛ للمُبالغةِ في الزَّجرِ عنه .

وقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ متعلِّقٌ بالبَغي مُؤَكِّدٌ له معنًى .

قوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ

قُدِّم الظَّرفُ في قوله: وَلِكُلِّ على عامِلِه أَجَلٌ؛ للاهتمامِ به؛ ليتأكَّدَ بذلك التقديمِ معنى التَّعليقِ .

وفي قوله: فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ أظهرَ لفْظ (أَجَل) في قوله: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ، ولم يَكتفِ بضَميرِه؛ لزيادةِ تقريرِ الحُكمِ عليه، ولتكونَ هذه الجملةُ مُستقلَّةً بنفسِها، غيرَ مُتوقِّفةٍ عن سماعِ غيرها؛ لأنَّها بحيثُ تَجرِي مَجرَى المَثَل، وإرسالُ الكلامِ الصَّالِحِ لأنْ يَكونَ مَثَلًا طريقٌ من طُرُقِ البلاغة ، والإضافةُ إلى الضَّميرِ؛ لإفادةِ أكملِ التَّمييز، أي: إذا جاءَها أجلُها الخاصُّ بها .

والسين والتاء في قوله: يَسْتَأْخِرُونَ، ويَسْتَقْدِمُونَ للتأكيدِ؛ إذ هما بمعنى: يَتأخَّرون ويَتقدَّمون؛ مِثل اسْتَجاب .

وفي هذِه الآيةِ مُناسَبةٌ حسنة؛ حيثُ قال تَعالى هنا في سُورةِ الأعراف: فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ،  وكذلك في سُورة النَّحل: فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ... [النحل: 61] ،  فعَطَفَ بالفاءِ، وأمَّا في سورة يونس فقال: إذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] ؛ وذلك لأنَّ ما هنا في سورةِ الأعرافِ وكذلك ما في سُورةِ النَّحلِ: جُملةٌ عُطِفتْ على جملةٍ أُخرى مصدَّرةٌ بالواوِ بينهما اتِّصالٌ وتَعقيب؛ فكان الموضعُ موضِعَ الفاء، فحسُنَ الِإتيانُ بالفاءِ الدَّالةِ على التعقيبِ، بخِلافِ ما في يُونَس

====================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (35-39)

ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

 

افْتَرَى: أي: كذَبَ واختَلَق؛ والافتراءُ: الاختِلاقُ، وهو ما عظُم مِن الكَذبِ، ومِنه قيل: افترَى فلانٌ على فلانٍ، إذا قذَفَه بما ليسَ فيه، ويُستَعمَل في القُرآنِ في الكَذِبِ والشِّركِ والظُّلمِ، وأصلُ (فري) قَطْعُ الشَّيءِ، ومِن ذلك: فَرَيت الشيءَ أفْريه فَرْيًا، وهو قطعُه لإصلاحِه، وأفريتَه: إذا أنت قطعتَه للإفسادِ، والافتِراءُ فيهما، وفي الإفسادِ أكثرُ

.

يَنَالُهُمْ: أي: يَصِلُ إليهم، والنَّوالُ: ما يَنالُه الإنسانُ مِنَ الصِّلة، وأصلُ (نيل): يدُلُّ على إعطاءٍ .

نَصِيبُهُمْ: أي: حظُّهم المنصوبُ، أي: المعيَّنُ، وأصل (نصب): إقامةُ شيءٍ، وإهدافٌ في استواء .

ادَّارَكُوا: أي: تَتابعوا فيها واجتَمعوا، أو لَحِق كلٌّ بالآخَر، وأصل (درك): لحوقُ الشَّيءِ بالشَّيءِ، ووصولُه إليه .

ضِعْفًا: أي: مُضاعَفًا، وضِعفُ الشَّيءِ: مِثلُه مرةً، وأصل (ضعف): يدلُّ على أنْ يُزادَ الشيءُ مِثلَه .

تَكْسِبُونَ: أي: تَعمَلون وتَجترِحونَ مِنَ المعاصي، والكَسبُ: ما يَتحرَّاه الإنسانُ ممَّا فيه اجتلابُ نفعٍ، وتحصيلُ حظٍّ، وأيضًا: الجمعُ والتَّحصيلُ، وأصلُ (كسب): ابتغاءٌ وطَلَبٌ وإصابةٌ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ بني آدَمَ أنَّه إن جاءَهم رُسُلٌ مِن جِنسِهم البَشَريِّ، يتلونَ عليهم آياتِ كِتابِه، فمَنِ اتَّقى فتَرَك المُحَرَّماتِ، وعَمِلَ الطَّاعاتِ؛ فلا خوفٌ عليهم ممَّا يَستقبِلونَ، ولا هم يحزَنونَ على ما مضى، والَّذين كذَّبوا بآياتِه، واستكبَرُوا عن التَّصديقِ بها، والعَمَلِ بما فيها؛ أولئك هم أصحابُ النَّارِ، ماكِثونَ فيها، لا يخرجونَ منها أبدًا.

ثم أخبَرَ تعالى أنَّه لا أحَدَ أشنَعُ ظُلمًا مِمَّنِ اختَلَق على اللهِ الكَذِبَ، أو كذَّبَ بآياتِه التي أنزَلَها، أولئك ينالُهم نصيبُهم المكتوبُ في اللَّوحِ المحفوظِ؛ مِنَ الأرزاقِ والأعمالِ والآجالِ، والخيرِ والشَّرِّ، إلى أن تأتِيَهم الملائكةُ؛ لتقبِضَ أرواحَهم، فتقولُ لهم الملائكةُ: أين ما كنتم تَدعونَ مِن دونِ اللهِ؟ فيقولون: ضَلُّوا عَنَّا، ويُقِرُّون على أنفُسِهم أنَّهم كانوا كافرينَ.

فيأمُرُهم اللهُ تعالى أن يَدخُلوا في جملةِ أمَمٍ أمثالِهم في الكُفرِ، قد سَلَفَت مِن قَبلِهم مِنَ الجِنِّ والإنسِ، فيدخلونَ جميعًا في النَّارِ، كلَّما دخَلَت أمَّةٌ مِن تلك الأُمَمِ في النَّارِ لَعَنَت أُختَها، حتى إذا اجتمَعَ الأوَّلونَ والآخِرونَ جميعًا في النَّارِ، قالت أُخْراهم لأُولاهم: ربَّنا هؤلاءِ الَّذينَ اتَّبَعْناهم في الدُّنيا، هم من أضَلَّنَا عن سبيلِك؛ فأَعْطِهم ضِعفًا مِن عَذابِ النَّارِ، فيُجيبُهم اللهُ تعالى، أنَّه لكُلٍّ  ضِعفٌ، ولكِنْ لا تعلمونَ.

وقالَتْ أُولاهم لأُخراهم: لم تكُنْ لكم مَزِيَّةٌ علينا، فيقولُ الله لهم جميعًا: فذُوقوا العذابَ بما  كَسَبتُم مِنَ الكُفرِ والمعاصي.

تفسير الآيات:

 

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ أحوالَ التَّكليفِ، وبيَّنَ أنَّ لكُلِّ أحدٍ أجلًا مُعَيَّنًا لا يتقدَّمُ ولا يتأخَّرُ- بيَّنَ أنهم بعد الموتِ إن كانوا مُطيعينَ، فلا خوفٌ عليهم ولا حُزنٌ، وإن كانوا متمَرِّدينَ، وقعوا في أشَدِّ العَذابِ

، فقال تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي

أي: يا أولادَ آدَمَ- الذي أخرَجَه الشَّيطانُ بوَساوِسِه مِنَ الجنَّةِ، إلى دارِ البَلاءِ والمِحَنِ- إنْ أتاكُم رُسُلي الَّذين أُرسِلُهم إليكم مِن جِنسِكُم البشريِّ، يتلونَ عليكم آياتِ كُتُبي، ويُبَيِّنونَ لكم ما فيها من عقائِدَ وأحكامٍ وأخبارٍ .

فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

أي: فمَنِ اتَّقى اللهَ منكم، فتَرَك المُحَرَّماتِ، وأصلَحَ أعمالَه فعَمِلَ الطَّاعاتِ؛ فلا خوفٌ عليهم ممَّا يستقبِلونَ، ولا هم على ما مضى يَحزَنونَ .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا

أي: والَّذين كذَّبوا منكم بآياتي التي جاءَت بها رُسُلي، واستكبَرُوا فأعرَضُوا عن التَّصديقِ بأخبارِها، والعَمَلِ بأحكامِها .

أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

أي: أولئك المُكَذِّبونَ بآياتي، المُستَكبِرونَ عَن طاعَتي؛ هم أهلُ النَّارِ المُلازِمونَ لها، ماكثونَ فيها، لا يخرجونَ منها أبدًا .

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ

أي: لا أحدَ أشنعُ ظُلمًا ممَّنِ افتَرَى الكَذِبَ على اللهِ، كمن يدَّعي أنَّ لله ولدًا وشريكًا، ويزعُمُ أنَّ اللهَ يأمُرُ بالفواحِشِ، أو كذَّبَ بآياتِ اللهِ التي أنزَلَها على رُسُلِه .

كما قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [الزمر: 32] .

أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ

أي: أولئك الكاذِبونَ على اللهِ، المُكَذِّبون بآياتِه، ينالُهم نَصيبُهم المكتوبُ في اللَّوحِ المَحفوظِ؛ مِنَ الأرزاقِ والأعمالِ والآجالِ، والخَيرِ والشَّرِّ .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 69-70] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 23-24] .

حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

أي: ينالُهُم ما كُتِبَ لهم في الدُّنْيا إلى أنْ تأتِيَهم الملائكةُ لِقَبضِ أرواحِهم، فإذا جاؤوهم قالوا لهم: أين الَّذين كُنتم تعبدونَهم مع اللهِ؛ فإنَّهم لم يحضُرُوا لِيُنقذِوكم ممَّا أنتم فيه؟ فهلَّا أغاثوكم مِن هذا الكَربِ الذي حلَّ بكم !

قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا

أي: قال الكُفَّارُ لملائكةِ المَوتِ: ذهَبَ عنَّا أولياؤُنا الذين كنَّا نَدعُو مِن دُونِ اللهِ، وغابوا وتركُونَا، فلم ينفَعُونا .

وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ

أي: وأقرَّ الكُفَّارُ واعتَرَفوا على أنفُسِهم عند مُعايَنةِ المَوتِ: أنَّهم كفَرُوا من قبلُ باللهِ .

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ

أي: يقولُ اللهُ يومَ القيامةِ للكافِرينَ: ادخُلُوا في زُمرةِ جَماعاتٍ على شاكِلَتِكم وصِفَاتِكم مِنْ أهلِ المِلَلِ الكافِرةِ مِنَ الجنِّ والإنسِ، الذين مَضَوا في أزمانٍ سَبَقَتْكم، فادخُلوا أنتم وهم في النَّارِ .

كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا

أي: كُلَّما دخلَتِ النَّارَ جماعةٌ مِن أهلِ تلك الأديانِ الكافِرةِ، شَتَمَتْ جماعةً أخرى مِن أهلِ دينِها، قد سبَقَتْها في دُخولِ النَّارِ .

كما قال اللهُ تعالى حاكيًا عن الخليلِ عليه السَّلامُ: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [العنكبوت: 25] .

حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا

أي: حتى إذا اجتمَعَ في النَّارِ الأوَّلونَ مِن أهلِ الأديانِ الكافِرةِ، والآخِرونَ مِنهم .

قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ

أي: قالت أُخرَاهم دُخولًا النَّارِ- وهم الأتباعُ- لأُولاهم- وهُمُ القادَةُ المَتبُوعونَ؛ لأنَّهم أشَدُّ جُرمًا مِن أتباعِهم، فدَخَلوا النَّارَ قَبلَهم .

رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ

أي قالوا: يا ربَّنا، هؤلاءِ الَّذين اتَّبَعْناهم في الدُّنيا، هم الَّذين أضَلُّونا عن سبيلِكَ، فضاعِفْ لهم العذابَ؛ عذابًا على الضَّلالِ، وعذابًا على الإضلالِ .

كما قال تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 67- 68] .

وقال سبحانه وتعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 31-33] .

قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ

أي: قال اللهُ للأتباعِ، الذين يَدعُونَه أن يُضاعِفَ العَذابَ على قادَتِهم الذين أضَلُّوهم: لكلٍّ منكم ومنهم زيادةُ عذابٍ ، ولكِنَّكم لا تعلمونَ مِقدارَ ما أعَدَّ اللهُ مِنَ العَذابِ .

كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: 88] .

وقال اللهُ تبارك وتعالى عن جميعِ أهلِ النَّارِ: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ: 30] .

وقال الله سبحانه: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: آية 97].

وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ

أي: قال المَتبوعونَ للأتباعِ: لم تكُنْ لَكم مَزِيَّةٌ علينا مِن إيمانٍ وتَقوى، تُوجِبُ أن يكونَ عذابُنا أشَدَّ مِن عذابِكم؛ فنحن وأنتم مُتشارِكونَ في الكُفرِ، وفي استحقاقِ العذابِ، فأيُّ فضلٍ لكم علينا ؟

كما قال سبحانه: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [سبأ: 32].

فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ

أي: فذُوقوا عذابَ جَهنَّمَ؛ بسبَبِ ما كسَبْتُم في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والمعاصي

 

.

الفوائد التربوية:

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قولُ الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ إنَّما قال: مِنْكُمْ؛ لأنَّ كَونَ الرَّسولِ منهم، أقطَعُ لعُذرِهم، وأبيَنُ للحُجَّةِ عليهم مِن جهاتٍ: أحدُها: أنَّ مَعرِفَتَهم بأحوالِه وبِطَهارَتِه تكونُ مُتقَدِّمةً. وثانيها: أنَّ مَعرِفَتَهم بما يليقُ بقُدرَتِه تكونُ مُتقَدِّمةً، فلا جَرَمَ لا يقَعُ في المُعجزاتِ التي تظهَرُ عليه شَكٌّ وشُبهةٌ في أنَّها حَصَلت بقدرةِ الله تعالى لا بقُدرَتِه؛ فلهذا السَّبَبِ قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا [الأنعام: 9] . وثالثها: ما يحصُلُ مِنَ الأُلفةِ وسُكونِ القَلبِ إلى أبناءِ الجِنسِ، بخلافِ ما لا يكونُ مِنَ الجِنسِ، فإنَّه لا يحصُلُ معه الأُلفةُ

.

وقولُه: رُسُلٌ مِنْكُمْ يدلُّ على أنَّه قد يُوجَدُ رُسُلٌ آخرونَ ليسُوا مِنَّا، وهو كذلك؛ لأنَّ مِنَ الملائكةِ رُسلًا، والملائكةُ لَيسُوا مِن جِنسِنا؛ كما قال الله: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] وقال: جَاعِلُ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ الآية [فاطر: 1] .

قولُ اللهِ تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ جملةُ: فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ جوابُ الشَّرط، وعدَلَ عن جعلِ الجوابِ اتِّباعَ الرُّسُلِ إلى جَعْلِه التَّقوى والصَّلاحِ، إيماءً إلى حِكمةِ إرسالِ الرُّسُلِ، وتحريضًا على اتِّباعِهم بأنَّ فائِدَتَه للأُمَمِ لا للرُّسُلِ .

في قَولِه تعالى عَمَّنِ اتَّقى وأصلَحَ: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ لم يقُلْ سُبحانَه: (لا يخافُونَ)؛ فهم لا خوفٌ عليهم، وإن كانوا يخافونَ اللهَ، ونفى عنهم أن يَحزَنُوا؛ لأنَّ الحُزنَ إنَّما يكون على ماضٍ، فهم لا يحزنونَ بحالٍ؛ لا في القَبرِ، ولا في عَرَصاتِ القِيامةِ، بخلافِ الخَوفِ، فإنَّه قد يحصُلُ لهم قبل دُخولِ الجَنَّةِ .

قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ استُدِلَّ به على أنَّ الفاسِقَ مِن أهلِ الصَّلاةِ، لا يبقى مُخلَّدًا في النَّارِ؛ لأنَّه تعالى بيَّنَ أنَّ المُكَذِّبينَ بآياتِ اللهِ، والمُستكبِرينَ عَن قَبُولِها؛ هم الذين يبقَونَ مُخَلَّدينَ في النَّارِ، فكلمةُ هُمْ تفيدُ الحصرَ، وذلك يقتضي أنَّ مَن لا يكونُ موصوفًا بذلك التَّكذيبِ والاستكبارِ، لا يبقى مُخلَّدًا في النَّارِ .

يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أنَّ جَميعَ الرُّسُلِ قد بلَّغُوا أمَمَهم أنَّ اتِّباعَهم في اتِّقاءِ ما يُفسِدُ فِطرَتَهم مِنَ الشِّركِ وخُرافاتِه، والرَّذائلِ والمعاصي، وفي إصلاحِ أعمالِهم بالطَّاعاتِ- يترتَّبُ عليه الأمنُ مِنَ الخَوفِ مِن كُلِّ ما يُتَوَقَّعُ، والحزنِ على كلِّ ما يقَعُ، وأنَّ تكذيبَ ما جاؤوا به من آياتِ اللهِ، والاستكبارَ عَن اتِّباعِها- يتَرَتَّبُ عليه الخلودُ في النَّارِ، فوق ما بَيَّنَ في آياتٍ أخرى مِن سُوءِ الحالِ في الدُّنيا، وقد سكَتَ عن الجزاءِ الدُّنيويِّ هنا؛ لأنَّ الآيةَ تدلُّ عليه، ولأنَّه لا يظهَرُ للنَّاسِ في كُلِّ وَقتٍ .

تضمَّنَ قولُه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ذِكْرَ الصِّنفَينِ المُبطِلَينِ؛ أحدُهما: مُنْشِئُ الباطِلِ والفِرْيَةِ، وواضعُها، وداعي النَّاسِ إليها، والثاني: مُكَذِّبٌ بالحَقِّ، فالأوَّلُ: كُفْرُه بالافتراءِ، وإنشاءِ الباطِلِ. والثَّاني: كُفْرُه بجُحودِ الحَقِّ، وهذان النَّوعانِ يَعرِضانِ لكُلِّ مُبطلٍ .

دلَّ قولُه تعالى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ على أنَّ الجنَّ كانوا مُكلَّفينَ في الشَّرائِعِ الماضيةِ قبل بَعثةِ نَبِيِّنا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَّا شَريعَتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فأجمَعَ المُسلمونَ على أنَّه بُعِثَ إلى الجِنِّ والإنسِ، وأنَّه يجِبُ على الجِنِّ طاعَتُه؛ لأنَّ الإخبارَ عن دُخولِ كُفَّارِ الجنِّ في النَّارِ، إنَّما يكونُ بعد إقامةِ الحُجَّةِ عليهم بالرِّسالةِ .

دلَّ قولُه تعالى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ على أنَّ كفَّارَ الجنِّ يدخُلونَ النَّارَ، وقد اتَّفقَ العُلَماءُ على ذلك .

في قَولِه تعالى: وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ دلالةٌ على أنَّ سائِرَ أنواعِ المُكَذِّبينَ بآياتِ الله؛ مُخَلَّدونَ في العذابِ، مُشتَرِكونَ فيه وفي أصلِه- وإن كانوا مُتفاوِتينَ في مقدارِه بحَسَبِ أعمالِهم، وعنادِهم، وظُلْمِهم وافترائِهم- وأنَّ مَوَدَّتَهم التي كانت بينهم في الدُّنيا تنقَلِبُ يومَ القيامةِ عداوةً ومُلاعَنةً

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

قوله: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ فيه إعادةُ النِّداء في صَدْرِ هذِه الجُملةِ؛ للاهتمامِ

.

وقوله: رُسُلٌ مِنْكُمْ فيه تنبيهٌ لبَنِي آدَمَ بأنَّهم لا يَترقَّبون أنْ تَجيئَهم رُسلُ اللهِ مِن الملائكةِ؛ لأنَّ المُرسَلَ يكونُ مِن جِنسِ مَن أُرْسِلَ إليهم، وفي هذا تعريضٌ بالجَهلةِ مِن الأُممِ الذين أَنكروا رسالةَ الرُّسلِ؛ لأنَّهم مِن جِنسِهم .

وفيه: تلوينٌ للخِطابِ، وتوجيهٌ له إلى كافَّةِ النَّاسِ؛ اهتمامًا بشأنِ ما في حيِّزه .

و(ما) في قوله: إِمَّا زائدة مُؤكِّدة، وهي تُفيدُ مع التأكيدِ عُمومَ الشَّرطِ .

قوله: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ بناءُ الخبرِ الفِعليِّ يَحْزَنُونَ على المُسنَدِ إليه هُمْ المتقدِّمِ عليه؛ يُفيدُ تَخصيصَ المسنَدِ إليه بذلِك الخَبرِ .

قوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أفادت هذه الآيةُ تحقيقَ أنَّهم صائِرون إلى النَّارِ بطريقِ قَصرِ مُلازمةِ النَّارِ عليهم في قوله: أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ؛ لأنَّ لفظ أَصْحَابُ مُؤذِنٌ بالملازمةِ، وبما تدلُّ عليه الجملةُ الاسميَّةُ مِن الدَّوامِ والثَّباتِ في قوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .

وقوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا الاستكبارُ مُبالغةٌ في التكبُّر؛ فالسِّينُ والتاءُ في قوله: وَاسْتَكْبَرُوا للمُبالغةِ .

قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ

قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ... الاستفهامُ إنكاريٌّ مُستعمَلٌ في تهويلِ ظُلم هذا الفريقِ، المعبَّر عنه بمَن افترَى على اللهِ كذبًا، أي: لا أحَدَ أَظلمُ ممَّن هذا وصْفُه .

وقولُه: أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ جملةٌ مستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا ناشئًا عن الاستفهامِ في قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا؛ لأنَّ التهويلَ المستفادَ مِن الاستفهامِ يَسترعي السَّامعَ أن يسألَ عمَّا سيُلاقونَه مِن اللهِ تعالى الذي افتَرْوا عليه، وكَذَّبوا بآياتِه .

قولُه: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا الكلامُ الواقعُ هنا بعدَ حتَّى فيه تهويلُ ما يُصيبهم عندَ قَبْضِ أرواحِهم، وهو أدخلُ في تهديدِهم وتَرويعِهم وموعظتِهم، مِن الوعيدِ المتعارَفِ .

وقولُه: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الاستفهامُ في قوله: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ؛ للتَّوبيخِ والتَّقريرِ، ومُستعمَلٌ في التهكُّمِ والتَّأْييسِ .

قوله: قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا استئنافٌ وقَعَ جوابًا عن سؤالٍ نشَأَ مِن حِكايةِ سؤالِ الرُّسُلِ؛ كأنه قيل: فماذا قالوا عندَ ذلك؟ فقيل: قالوا: ضَلُّوا عَنَّا .

قوله: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا...

قوله: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ اسئنافُ كلامٍ نَشأَ بمناسبةِ حِكايةِ حالِ المشركينَ حين أوَّلِ قُدومِهم على الحياةِ الآخِرَةِ، وهي حالةُ وفاةِ الواحدِ منهم، وفيه تذكيرٌ لهم بما حاقَ بأُولئك الأُممِ من عذابِ الدُّنيا، وتعريضٌ بالوعيدِ بأنْ يَحُلَّ بهم مِثلُ ذلك، وتصريحٌ بأنَّهم في عذابِ النَّارِ سواءٌ .

قولُه: قَالَ ادْخُلُوا الإتيانُ بفِعلِ القولِ بصِيغةِ الماضي في قولِه: قَالَ؛ للتنبيهِ على تَحقيقِ وقوعِه، والأمرُ في قولِه: ادْخُلُوا مُستعمَلٌ للوعيدِ، فيتأخَّر تنجيزُه إلى يومِ القِيامةِ .

قولُه: مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَدَّمَ الجِنَّ؛ لأنَّهم الأصلُ في الإغواءِ والإضلالِ .

قوله: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا جملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ لوصفِ أحوالِهم في النَّار، وتَفظيعِها للسَّامِعِ؛ ليتَّعِظَ أمثالُهم، ويستبشرَ المؤمنون بالسَّلامةِ ممَّا أصابَهم؛ فتكونُ جملةُ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا داخلةً في حيِّز الاستئنافِ .

وقوله: أُمَّةٌ نكرةٌ وقعَتْ في حيِّزِ عُمومِ الأَزمنةِ، فتُفيدُ العمومَ، أي: كلُّ أُمَّةٍ دخَلَتْ .

قول الله تعالى: وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ

صِيغةُ الأمْر فَذُوقُوا مُستعمَلَةٌ في الإهانةِ والتَّشفِّي، والتشفي منهم فيما نالَهم مِن عذابِ الضِّعفِ تَرتَّب على تحقُّقِ انتفاءِ الفَضلِ بَينهم في تَضعيفِ العذابِ، الذي أوضَحه بقولِه: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ .

وفي هذِه الآيةِ مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ، وورد في سُورةِ الأنفالِ أنَّ عَذابَهم بكُفرِهم، حيث قال: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنفال: 35] ؛ وذلك لأنَّ آيةَ الأعرافِ وردَتْ في أخلاطٍ مِن الأُممِ وأصنافٍ مِن المُكذِّبينَ، تَنوَّعَ كُفرُهم وتَكذيبُهم ضُروبًا مِن المخالفاتِ، وافْتَرَوْا على اللهِ سبحانه، فلِشَتَّى مُجترحاتِ هؤلاءِ، واتِّساعِ مُرْتَكَباتِهم، وأنَّهم ضلُّوا وأَضلُّوا؛ ناسَب ما وقَعَ جزاؤُهم عليه ذِكْرَ الاكتسابِ، أمَّا آيةُ الأنفال ففي قومٍ بأعيانِهم، وهم كُفَّارُ قريش مِن أهل مَكَّة، وحالهم معلومةٌ أنَّهم كانوا عَبَدَةَ أوثانٍ، ولم تَتكرَّرْ فيهم الرُّسُلُ، ولا كَفروا بغيرِ التَّكذيبِ به صلَّى الله عليه وسلَّم، وبتَصميمِهم على عِبادِةِ آلهتِهم

=====================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (40-41)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات:

 

يَلِجَ: أيْ: يَدخُلَ، والوُلُوجُ: الدُّخولُ في مَضِيقٍ، وأَصلُ (ولج): يدُلُّ على دُخولِ شَيْءٍ

.

سَمِّ الْخِيَاطِ: أيْ: ثَقْبِ الإِبْرَةِ، والسَّمُّ والسُّمُّ: كلُّ ثَقْبٍ ضيِّقٍ كخَرْقِ الإبرَةِ، وأصلُه يدلُّ على مَدْخَلٍ في الشَّيءِ، والخِياطُ: الإبرةُ التي يُخاطُ بها .

مِهَادٌ: أيْ: فِراشٌ وقَرارٌ، والمَهْدُ: ما يُهيَّأُ للصَّبيِّ، وأصلُ المِهَادِ: المكانُ المُمهَّدُ المُوطَّأُ .

غَوَاشٍ: أي: ما يَغشاهُم مِنَ النَّارِ، وهي لُحُفٌ تَغْشاهم وتُحيطُ بهِم مِنْ فوقِهم، أوْ ما يُغطِّيهِم مِن أنواعِ العَذابِ، وغَواشٍ جمعُ غاشِيَةٍ، وهي الغِطاءُ، وأصلُ (غشي): يَدُلُّ على تَغطيةِ شيءٍ بشَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ اللهُ تَعالى أنَّ المُكذِّبينَ بآياتِه، والَّذِينَ استَكْبَروا عَنْها لا يَصْعَدُ عمَلُهُم إلى اللهِ، ولا يُجابُ لهم دُعاءٌ، ولا تُنزَّلُ عَلَيهِم بَرَكاتٌ ولا رَحَماتٌ، وإذا مَاتُوا لا تُفَتَّحُ لأَرْواحِهِم أبوابُ السَّماءِ، ولا يَدْخُلونَ الجَنَّةَ أبَدًا، كَما أنَّ الجمَلَ لا يَدْخُلُ في ثَقْبِ الإِبْرةِ، وبمِثْلِ هذا العِقابِ يُعاقِبُ اللهُ مَن أجْرَمَ؛ لَهُم مِنَ النَّارِ فِراشٌ تَحتَهُم، ومِن فَوقِهِم غِطاءٌ مِنَ النَّارِ يَغْشاهُم، وكَذَلِك يَجْزي اللهُ الظَّالِمينَ.

تفسير الآيتين:

 

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ

أي: إنَّ الَّذينَ كَذَّبوا بآياتِيَ الَّتي جاءَتْ بها رُسُلي، وأَعْرَضوا عَنِ التَّصْديقِ بأَخْبارِها، والعَمَلِ بأَحْكامِها لا يَصْعَدُ لَهم في حَيَاتِهِم إلى اللهِ قولٌ ولا عَملٌ، ولا يُجابُ لهم دُعاءٌ، ولا تُنَزَّلُ إليهم برَكاتٌ ورَحَماتٌ، ولا تُفتَّحُ لأَرْواحِهم إذا مَاتوا أَبْوابُ السَّماءِ

.

عن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِي اللهُ عنه، قال: ((خَرَجْنا معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم، في جِنَازةِ رَجُلٍ مِن الأَنْصارِ، فانتَهَيْنا إلى القَبْرِ ولَمَّا يُلْحَدْ ، فجَلَسَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم، وجَلَسْنا حَوْلَه، كأَنَّ عَلى رُؤوسِنا الطَّيْرَ، وفي يَدِه عُودٌ يَنْكُتُ في الأرضِ ، فرَفَع رَأْسَه، فقال: اسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ عَذابِ القَبْرِ. مَرَّتَينِ أو ثَلاثًا.

ثمَّ قالَ: إنَّ العبْدَ المؤمِنَ إذا كانَ في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنْيا، وإقْبالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نزَلَ إليه مَلائكةٌ مِنَ السَّماءِ بِيضُ الوُجوهِ، كَأنَّ وُجوهَهُمُ الشَّمْسُ، معَهُم كَفَنٌ مِن أَكْفانِ الجَنَّةِ، وحَنُوطٍ مِن حَنُوطِ الجَنَّةِ، حتَّى يَجْلِسوا مِنه مَدَّ البَصَرِ ، ثمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوْتِ علَيه السَّلامُ، حتَّى يَجْلِسَ عندَ رَأْسِه، فيَقُولُ: أَيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجي إِلى مَغْفرةٍ مِنَ اللهِ ورِضْوانٍ. فتَخْرُجُ تَسِيلُ كَما تَسِيلُ القَطْرةُ مِن فِي السِّقَاءِ، فيَأْخُذُها، فإذا أخَذَها لم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عينٍ حتَّى يَأخُذوها، فيَجْعَلوها في ذَلِك الكَفَنِ، وفي ذَلِك الحَنُوطِ، ويَخْرُجُ مِنها كأَطْيبِ نَفْحةِ مِسْكٍ وُجِدَت على وَجْهِ الأَرْضِ. فيَصْعَدونَ بِها، فَلا يَمُرُّونَ بها على مَلَأٍ مِنَ المَلائِكَةِ، إلَّا قَالُوا: ما هذا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟! فيَقُولُونَ: فُلانُ بنُ فُلانٍ؛ بأحْسَنِ أسمائِه الَّتي كانوا يُسمُّونَه بها في الدُّنيا، حتَّى يَنْتَهوا بها إلى السَّماء الدُّنيا، فيَسْتَفتِحون له، فيُفتَحُ لهم، فيُشيِّعُه مِن كُلِّ سَماءٍ مُقَرَّبوها إِلى السَّماءِ الَّتي تَلِيها، حتَّى يُنْتَهى به إلى السَّماء السَّابِعَةِ، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبوا كِتابَ عَبْدي في عِلِّيِّينَ ، وأَعيدُوه إلى الأَرْضِ؛ فإنِّي مِنها خلَقْتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومِنْها أُخْرِجُهم تارَةً أُخْرى.

فتُعادُ رُوحُه في جَسَدِه، فيَأْتيه مَلَكانِ، فيُجْلِسانِه، فيَقُولانِ له: مَن رَبُّك؟ فيَقولُ: رَبِّيَ اللهُ، فيَقولانِ له: ما دِينُك؟ فيَقولُ: دِينيَ الإسلامُ، فيَقولانِ له: ما هذا الرَّجُلُ الَّذي بُعِث فيكُم؟ فيَقُولُ: هو رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم، فيَقولانِ له: وما عِلْمُك؟ فيَقولُ: قرَأتُ كِتابَ اللهِ، فآمَنْتُ به وصَدَّقتُ، فيُنادي مُنادٍ في السَّماءِ: أنْ صَدَق عَبْدي، فأفْرِشوه مِنَ الجنَّةِ، وألبِسُوه مِن الجَنَّةِ، وافْتَحوا له بابًا إلى الجنَّةِ. فيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِها وطِيبِها، ويُفْسَحُ له في قَبْرِه مَدَّ بَصَرِه. ويَأْتيه رجُلٌ حسَنُ الوَجهِ، حَسنُ الثِّيابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبْشِرْ بالَّذي يَسُرُّك؛ هذا يَومُك الَّذي كنتَ تُوعَدُ، فيَقولُ له: مَن أنتَ؛ فوَجهُك الوَجهُ يَجيءُ بالخَيرِ؟ فيَقولُ: أَنا عمَلُكَ الصَّالحُ، فيَقولُ: رَبِّ أقِمِ السَّاعةَ حتَّى أرجِعَ إلى أَهْلي ومالي.

وإنَّ العبدَ الكافِرَ إذا كان في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنيا، وإقبالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَل إليه مِن السَّماءِ مَلائكةٌ سُودُ الوُجوهِ، مَعَهمُ المُسُوحُ ، فيَجْلِسونَ منه مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوتِ حتَّى يَجْلِسَ عِندَ رَأسِه، فيَقولُ: أيَّتُها النَّفْسُ الخبيثةُ، اخْرُجي إلى سَخَطٍ مِن اللهِ وغَضَبٍ! فتَفَرَّقُ في جسَدِه، فيَنتَزِعُها كَما يُنتزع السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ المَبْلولِ، فيَأْخُذُها، فإذا أخَذَها لَم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عينٍ حتَّى يَجْعَلوها في تِلك المُسوحِ، ويَخْرُج مِنها كأنْتَنِ رِيحِ جِيفةٍ وُجِدَت على وَجهِ الأرضِ. فيَصْعَدونَ بها، فَلا يَمُرُّون بها على مَلأٍ مِنَ الملائكةِ إلَّا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيثُ؟! فيَقولونَ: فُلانُ بنُ فلانٍ؛ بأقبَحِ أسمائِه الَّتي كان يُسمَّى بها في الدُّنيا، حتَّى يُنتَهى به إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيُستَفتَحُ له، فلا يُفتَحُ له، ثمَّ قرَأ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبوا كِتابَه في سِجِّينٍ في الأَرضِ السُّفْلى، فتُطْرَحُ روحُه طَرحًا. ثمَّ قرَأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31].

فتُعادُ رُوحُه في جَسَدِه، ويَأْتيه مَلَكانِ، فيُجْلِسانِه، فيَقُولانِ له: مَن ربُّك؟ فيَقولُ: هاهْ هاهْ! لا أَدْري، فيَقولانِ له: ما دينُك؟ فيقول: هاهْ هاهْ! لا أَدْري، فيَقولانِ له: ما هذا الرَّجُلُ الَّذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاهْ هاهْ! لا أَدْري، فيُنادي مُنادٍ مِن السَّماءِ: أنْ كَذَب، فافْرُشوا له مِنَ النَّارِ، وافْتَحوا له بابًا إلى النَّارِ، فيَأتيهِ مِنْ حَرِّها، وسَمُومِها، ويُضيَّقُ عليه قَبرُه حتَّى تَختَلِفَ فيه أَضلاعُه، ويَأتيه رجلٌ قَبيحُ الوَجْهِ، قبيحُ الثِّيابِ، مُنتِنُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبْشِرْ بالَّذي يَسوؤُك! هذا يَومُك الَّذي كُنتَ تُوعَدُ، فيَقولُ: مَن أنتَ؛ فوَجْهُك الوَجهُ يَجيءُ بالشَّرِّ، فيَقولُ: أنا عمَلُك الخَبيثُ، فيَقولُ: رَبِّ لا تُقِمِ السَّاعةَ )) .

وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ

أيْ: ولا يَدْخُلُ هَؤلاءِ الَّذين كَذَّبوا بِآياتِنا واستَكْبَروا عَنْها الجَنَّةَ أبَدًا، كَما لا يَدخُلُ البَعيرُ في ثَقْبِ الإِبْرةِ .

كَما قال اللهُ تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة: 72] .

وقال سُبْحانَه: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف: 50-51] .

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ

أيْ: ومِثْلَ هذا العِقابِ الَّذي وَصَفْنا- مِن عدَمِ تَفَتُّحِ أَبْوابِ السَّماءِ للأَرْواحِ والأَعْمالِ وغَيرِ ذَلك، والحِرْمانِ مِن دُخولِ الجَنَّةِ- نُعاقِبُ الَّذين كَفَروا، فكَذَّبوا بآياتِنا، واستَكْبَروا عَنِ الإِيمانِ بِها .

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ

أي: لِهؤلاءِ الَّذين كَذَّبوا بآياتِنا، واستَكْبَروا عنها فِراشٌ مِنَ النَّارِ مِن تَحْتِهم، ومِن فَوقِهم غِطاءٌ مِن النَّارِ يَغْشاهُم، وتُحيطُ بهِمُ النَّارُ مِن كلِّ جَوانبِهِم .

كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] .

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ

أيْ: ومِثْلَ هذا الَّذي وصَفْنا مِنَ العَذابِ نُعاقِبُ مَن ظَلَمَ نفْسَه، فجَلَب سخَطَ اللهِ عَلَيها بالكُفْر به، ووضَعَ العِبادَةَ في غيرِ مَوضِعِها باتِّخاذِ شَريكٍ مَعَ اللهِ فيها

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال تَعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، الاستِكْبارُ هو طلَبُ التَّرفُّعِ بالباطِلِ، وهذا اللَّفْظُ في حَقِّ البشَرِ يَدُلُّ عَلى الذَّمِّ؛ قال تَعالى في صِفَةِ فِرْعونَ: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ

[القصص: 39] .

يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ أنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ؛ فكما أنَّهم كذَّبوا بآياتِ اللهِ، فلم يُؤمِنوا بها- مع أنَّها آياتٌ بَيِّناتٌ- واستكَبَروا عنها فلم يَنقادُوا لأحكامِها، بل كذَّبوا وتَوَلَّوا- فهم حينئذٍ آيِسونَ مِن كُلِّ خَيرٍ، فلا تُفَتَّحُ أبوابُ السَّماءِ لأرواحِهم إذا ماتوا وصَعِدَت تُريدُ العُروجَ إلى الله، كما لم تصعَدْ في الدُّنيا إلى الإيمانِ باللهِ ومَعرِفَتِه ومَحَبَّتِه؛ فكذلك لا تصعَدُ بعدَ الموتِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَوْلُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ يَدُلُّ على أنَّ الأَرْواحَ إنَّما تَكونُ سَعيدةً إمَّا بأن يُنَزَّلَ عَليها مِن السَّماءِ أنواعُ الخَيْراتِ، وإمَّا بأَنْ تَصعد أعمالُ تِلك الأَرْواحِ إلى السَّمَواتِ؛ وذَلك يَدُلُّ على أنَّ السَّمواتِ مَوْضعُ بَهجةِ الأَرْواحِ، وأماكِنُ سَعاداتِها، ومنها تُنزَّلُ الخَيراتُ والبَرَكاتُ، وإليها تَصْعَدُ الأَرْواحُ حالَ فَوزِها بكَمَالِ السَّعاداتِ؛ ولَمَّا كان الأَمْرُ كذَلِك كان قولُه: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ مِن أعظَمِ أنواعِ الوَعيدِ والتَّهْديدِ

.

في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دلالةٌ على أنَّ المؤمنينَ تُفَتَّحُ لهم أبوابُ السَّماءِ؛ يعني: لأرواحِهم عند المَوتِ ، فمفهومُ الآيةِ أنَّ أرواحَ المؤمنينَ المُنقادينَ لأمرِ اللهِ، المُصَدِّقينَ بآياته، تُفَتَّحُ لها أبوابُ السَّماءِ حتى تعرُجَ إلى اللهِ، وتَصِلَ إلى حيثُ أراد اللهُ مِنَ العالَمِ العُلويِّ، وتبتهِجَ بالقُربِ مِن رَبِّها والحُظوةِ برِضوانِه .

في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ مناسبةٌ في أنَّ أبوابَ السَّماءِ لَمَّا لم تُفتَحْ لأعمالِهم بل أُغلِقَت عنها؛ كذلك لم تُفتَحْ لأرواحِهم عند المُفارَقةِ وأُغلِقَت عنها، وكذلك أهلُ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ؛ لَمَّا كانت أبوابُ السَّماءِ مفتوحةً لأعمالِهم، حتى وَصَلَت إلى اللهِ سُبحانه؛ فإنَّها فُتِحَت لأرواحِهم، حتى وصَلَتْ إليه تعالى، وقامَتْ بين يَدَيه؛ فرَحِمَها وأمرَ بكتابةِ اسْمِها في عِلِّيِّينَ .

قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وذَكَر (سَمَّ الخِيَاطِ)؛ لأَنَّه يُضرَبُ به المثَلُ في ضِيقِ المَسْلَكِ .

قولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فيهِ جَوازُ فَرْضِ المُحالِ، والتَّعْليقُ عَليه؛ كَما يقَعُ كَثيرًا للفُقَهاءِ .

قولُ اللهِ تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ، المرادُ مِن هذِه الآيَةِ الإِخْبارُ عَن إِحاطَةِ النَّارِ بهِم مِن كُلِّ جانِبٍ: فلَهُم مِنْها غِطاءٌ ووِطَاءٌ، وفِرَاشٌ ولِحافٌ .

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ؛ أفادَتِ الآيَتانِ أنَّ المُجْرِمينَ والظَّالِمينَ- الرَّاسِخِينَ في صِفَتَيِ الإِجْرامِ والظُّلمِ- هُمُ الكافِرونَ، وأنَّ المُؤْمِنينَ لا يَكُونُونَ كَذَلِك؛ كَما قال: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] ، وهذا تَحْقيقُ القُرْآنِ والنَّاسُ في غَفْلةٍ عَنه؛ ولِذلِكَ خَالَفُوه في عُرْفِه

 

.

بلاغة الآيتين:

 

قولُه: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ

قولُه: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ استِئنافٌ ابتِدائيٌّ مَسوقٌ لتَحْقيقِ خُلودِ الفَريقَينِ في النَّارِ

.

وقَد أكَّدَ الخبَرَ بقَولِه: إِنَّ لِتَأيِيسِهم مِن دُخولِ الجنَّةِ؛ لدَفْعِ تَوهُّمِ أن يَكونَ المُرادُ مِن الخُلودِ المُتقَدِّمِ ذِكرُه الكِنايَةَ عَن طُولِ مُدَّةِ البَقَاءِ في النَّارِ؛ فإنَّه ورَدَ في مَواضِعَ كَثيرةٍ مُرادًا به هذا المعنى .

وفي قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ... وقَعَ الإظهارُ في مَقامِ الإِضْمارِ، حيثُ لم يقُل: (إنَّهم لا تُفتَّح لهم..)؛ تَعميمًا، وتَعْليقًا للحُكمِ بالوَصْفِ؛ لِدَفعِ احْتِمالِ أن يَكونَ الضَّميرُ عائِدًا إلى إِحْدى الطَّائفتَينِ المُتَحاوِرَتَينِ في النَّارِ، واختِيرَ مِن طرُقِ الإِظْهارِ طَريقُ التَّعريفِ بالمَوصولِ؛ إيذَانًا بِما تُومِئُ إلَيْه الصِّلةُ مِن وَجْهِ بِناءِ الخبَرِ، أي: إنَّ ذلك لأجْلِ تكذيبِهم بآياتِ اللهِ واسْتِكبارِهم عنها .

وقولُه: لَا تُفَتَّحُ بضَمِّ التَّاءِ الأُولى، وفَتحِ الفاءِ والتَّاءِ الثَّانيةِ مُشدَّدةً، وهو مُبالَغةٌ في (فَتَحَ)؛ فيُفيدُ تَحقيقَ نَفْيِ الفَتحِ لَهم، أو أُشيرَ بتِلك المُبالَغةِ إلى أنَّ المنفيَّ فتحٌ مَخصوصٌ وهو الفَتحُ الَّذي يُفتَحُ للمُؤمِنينَ، وهو فتحٌ قويٌّ، فتَكونُ تلك الإشارةُ زيادةً في نِكايَتِهم .

قولُه: وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، بعدَ أنْ حقَّقَ خُلودَهم في النَّارِ بتَأكيدِ الخَبرِ كُلِّه بحَرْفِ التَّوكيدِ؛ زِيدَ تَأكيدًا بطَريقِ تأكيدِ الشَّيءِ بِما يُشبِهُ ضِدَّه، المشتَهِرِ عِندَ أهْلِ البَيانِ بتَأكيدِ المَدْحِ بِما يُشبِهُ الذَّمَّ؛ إذْ هو نفيٌ مُغَيًّا بمُسْتَحيلٍ؛ وهو أن يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ؛ أي: لو كان لانتِفاءِ دُخولِهمُ الجنَّةَ غايةٌ لكَانَت غايَتُه وُلوجَ الجَملِ في سَمِّ الخِياطِ، وهو أمرٌ لا يَكونُ أبَدًا .

وخَصَّ (الجمَلَ) بالذِّكْر مِنْ بينِ سائرِ الحيَواناتِ؛ لأَنَّه أكبَرُ الحيَواناتِ جِسْمًا عِندَ العرَبِ، وثَقْبُ الإبرةِ أضيقُ المنافِذِ، فكان وُلوجُ الجَملِ في تلك الثُّقبة الضَّيقةِ مُحالًا .

قولُه: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ تَذْييلٌ يُؤْذِنُ بأنَّ الإجرامَ هو الَّذي أوقَعَهم في ذلك الجزَاء .

قولُه: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ

قولُه: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ فيه: كِنايةٌ عَنِ انتِفاءِ الرَّاحةِ لهم في جَهنَّمَ؛ فإنَّ المرءَ يحتاجُ إلى المِهادِ والغاشِيَةِ عندَ اضْطِجاعِه للرَّاحةِ، فإذا كان مِهادُهم وغاشِيتُهم النَّارَ فَقَدِ انْتَفَتْ راحَتُهم، وهَذا ذِكْرٌ لعذابِهِم السُّوءِ بعْدَ أنْ ذَكَرَ حِرْمانَهم مِنَ الخَيرِ .

وقولُه: وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ صرَّحَ في هذا بالفَوقيَّةِ، بَينَما لم يُصرِّح بالتَّحتيةِ في المهادِ؛ لأنَّ المِهادَ كالصَّريحِ فيه، ولأنَّ (الغاشِيةَ) ربَّما كانَتْ عن يَمينٍ أَو شِمالٍ، أو كانَت بمعنَى مُجرَّدِ الوُصولِ والإِدْراكِ، ولَعلَّه حذَفَ الأوَّلَ؛ لأنَّ الآيةَ مِن الاحْتِباكِ: فذَكَر جَهنَّمَ أوَّلًا دَليلًا على إرادَتِها ثانيًا، وذكَرَ الفَوْقَ ثانيًا دَليلًا على إرادَةِ (التَّحْتِ) أوَّلًا .

قولُه: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ وقولُه: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ عَبَّر عنهم بالمُجرِمينَ تارَةً وبالظَّالِمينَ أُخْرى؛ إِشْعارًا بأنَّهم بتكذيبِهم الآياتِ اتَّصَفوا بكلِّ واحدٍ مِن ذَينِكَ الوَصْفَينِ القَبيحَينِ، وذكَر الجُرْمَ مَعَ الحِرْمانِ مِن دُخولِ الجنَّةِ، والظُّلْمَ مَع التَّعذيبِ بالنَّارِ؛ لِلتَّنبيهِ عَلى أنَّه أَعظَمُ الجَرائمِ والجَرائرِ

=================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (42-43)

ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ

غريب الكلمات:

 

غِلٍّ: أيْ: عَداوَةٍ وشَحْناءَ، والغِلُّ: الضِّغْنُ يَنْغَلُّ في الصَّدرِ، والْحَسَدُ أيضًا، وأصلُ (غلل): يَدُلُّ عَلى تخلُّلِ شيءٍ، وثَباتِ شيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تَعالى أنَّ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ- وَلا يُكلِّفُ سُبحانَه نَفسًا إلَّا ما تَستَطيعُه- هم أهلُ الجنَّةِ، ماكِثونَ فيها أبدًا.

كما يُخبِرُ تَعالى أنَّه نزَعَ مِن صُدورِ أهلِ الجَنَّةِ الأحقادَ والبَغْضاءَ والكَراهيةَ والحسَدَ، تَجْري مِن تَحتِهِمُ الأَنهارُ، وقَالوا: الحَمْدُ للهِ الَّذي وفَّقَنا للإيمانِ والعَملِ الصَّالحِ الَّذي أوصَلَنا لِهذا النَّعيمِ المُقيمِ، وما كُنَّا لِنُوفَّقَ لَولا توفيقُه تَعالى لَنا، ولَقد جاءَت رسُلُ ربِّنا بالحَقِّ، ويُنادَى أهلُ الجنَّةِ: أنَّ هذه الجَنَّةَ أُورِثتُموها بسَببِ إيمانِكُم وعمَلِكُمُ الصَّالحِ.

تفسير الآيتين:

 

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا استَوْفى اللهُ تعالى الكَلامَ في الإِنْذارِ والوَعيدِ للمُكذِّبينَ؛ أعقَبَه بالبِشارَةِ والوَعدِ لِلمُؤمِنينَ المُصدِّقينَ؛ وذَلك عَلى عادَةِ القُرْآنِ في تَعقيب أحَدِ الغرَضَينِ بالآخَرِ

، فقال تعالى:

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)

أي: والَّذين صدَّقوا وأقرُّوا وانقادوا لِمَا وجَب عليهِمُ الإيمانُ به، وعَمِلوا ما أمَرَهمُ اللهُ تعالى به، وتَرَكوا ما نَهاهُم عنه- ونَحنُ لَا نُكلِّفُ أحَدًا شَيئًا مِنَ الِاعْتِقاداتِ والأَعْمالِ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَليهِ ولا يَعْجِزُ عَنه- هُم أَهلُ الجنَّةِ دُونَ غَيرِهم، وهُم فيها يُنعَّمونَ، ماكِثونَ أبَدًا لا يَخرُجونَ .

كَما قال اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] .

وقال تَبارك وتعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق: 7] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] .

وقال سُبحانه: يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] .

وقالَ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] .

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ

أيْ: قَلَعْنا وأزَلْنا مِن صُدورِ أَهْلِ الجنَّةِ الأَحْقادَ والبَغْضاءَ والكَراهِيةَ والحسَدَ الَّذي كان بَينَهم في الدُّنيا؛ حتَّى يَكونوا في الجنَّةِ إِخْوانًا مُتَحابِّينَ، ومَع أنَّ مَنازِلَهم فيها مُتفاوِتةٌ، إلَّا أنَّه لا يَحْسُدُ أحَدٌ مِنهم أحَدًا عَلى ارتِفاعِ مَنزِلتِه عَليه .

قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] .

وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِي الله عنه، قال: قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم: ((يَخْلُصُ المؤمنونَ مِنَ النَّارِ، فيُحْبَسونَ على قَنطَرةٍ بينَ الجنَّةِ والنَّارِ، فيُقَصُّ لبَعضِهم مِن بَعضٍ مَظالِمُ كانت بينَهم في الدُّنيا، حتَّى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم في دُخول الجنَّةِ، فوَالَّذي نَفسُ محمَّدٍ بيَدِه، لأحَدُهم أهدى بمَنزلِه في الجنَّةِ مِنه بمَنزلِه كان في الدُّنيا )) .

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ

أيْ: تَجْري أَنهارُ الجنَّةِ بينَ أَيْديهِم، وهُم يرَوْنها مِنْ عُلْوٍ، تَجري مِن تَحتِ بَساتينِهِم وقُصورِهم .

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ

أيْ: وقالَ أهلُ الجنَّةِ حينَ أُدخِلوا الجنَّةَ، ورَأَوُا النَّعيمَ، وما صُرِفَ عَنهُم مِنَ العَذابِ المُهينِ: الحَمْدُ للهِ الَّذي وفَّقَنا للإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ الَّذي أكسَبَنا هذا النَّعيمَ، وما كُنَّا لِنُوفَّقَ لذَلِك لَولا أنْ وفَّقَنا اللهُ تَعالى إليه بفَضلِه ورَحمتِه .

كَما قال تَعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر: 34-35] .

وقال سُبحانَه: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْه، قال: قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم: ((كلُّ أهلِ الجنَّةِ يَرى مَقْعدَه مِنَ النَّارِ فيَقولُ: لَولا أنَّ اللهَ هَدَاني! فيَكُونُ له شُكرًا، وكُلُّ أَهلِ النَّارِ يَرى مَقعَدَه مِنَ الجنَّةِ فيَقولُ: لو أنَّ اللهَ هَداني! فيَكونُ له حَسْرةً )) .

وعَن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْه، قال: قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم: ((لَن يُنجِّيَ أحَدًا مِنكُم عمَلُه. قالوا: ولا أنتَ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: وَلا أنا، إلَّا أن يتَغمَّدَني اللهُ برَحمةٍ )) .

لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ

أيْ: يَقولُ أهلُ الجنَّةِ حِينَ يرَوْنَ عِيانًا ما وعَدَهم به الرُّسلُ: لقَد جاءَتْنا في الدُّنيا رُسلُ ربِّنا بالحَقِّ الثَّابتِ الَّذي لا شَكَّ فيه ولا مِرْيةَ .

وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

أيْ: ويُقالُ لأَهلِ الجنَّةِ : هذه الجنَّةُ أُوتيتُموها مِيراثًا مِنَ الكُفَّارِ؛ بسَببِ إيمانِكُم وكُفرِهم، وطاعَتِكم وعِصْيانِهم، فنِلْتُم بذلك رَحمةَ اللهِ فأدخَلَكم جنَّتَه، وبوَّأَكم فيها مَنازِلَ الكُفَّارِ الَّتي كانَت مِن نَصيبِهم، لو أنَّهم آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ ، أَعْطاكُمُوها اللهُ عَطِيَّةً هَنيئةً، لا تَعَبَ فيها ولا مُنازعَةَ ، ويُبْقيكم فيها في أكمَلِ نَعيمٍ وسُرورٍ خالدين، كما يبقَى على الوارِثِ مالُ المَوروثِ .

كما قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74] .

وقال سُبحانه: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 10 - 11] .

وعَن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عنه، قال: قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم: ((ما مِنكُم مِن أحَدٍ إلَّا له مَنزِلانِ: مَنزِلٌ في الجنَّةِ، ومنزلٌ في النَّارِ، فإذا ماتَ فدَخَلَ النَّارَ، وَرِثَ أهلُ الجنَّةِ مَنزِلَه، فذَلِك قولُه تَعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون: 10] ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

الجامِعونَ بينَ الإيمانِ والأَعمالِ الَّتي تَصلُح بها نَفسُ الإنسانِ، وتَزْكُو فتَكونُ أهْلًا لِلنَّعيمِ والرِّضْوانِ، هم أصحابُ الجنَّةِ الَّذين يُخلَّدونَ فيها أبَدًا؛ قال اللهً تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

.

يُنبِّه تعالى على أنَّ الإيمانَ والعملَ به سَهلٌ؛ لأنَّه تعالى قال: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ، وأنَّ الجنَّةَ- معَ عِظَمِ مَحلِّها- يُوصَلُ إليها بالعمَلِ السَّهلِ مِن غَيرِ تحمُّلِ الصَّعبِ ، فقولُه تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا؛ أيْ: بمِقْدارِ ما تسَعُه طاقَتُها، ولا يَعْسُرُ على قُدرتِها، فَعليها في هذه الحالِ أن تتَّقيَ اللهَ بحسَبِ استِطاعَتِها، وإذا عَجَزَت عن بعضِ الواجِباتِ الَّتي يَقدِرُ عليها غيرُها سقَطَت عَنها .

لا سبَبَ في الوُصولِ إلى نَعيمِ اللهِ تَعالى غيرُ فَضلِه وكرَمِه في الأُولى والأُخْرى، فالمُهْتدِي مَن هَداه اللهُ تَعالى، وإنْ لَم يَهْدِه اللهُ تَعالى لَم يَهْتَدِ، قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا: لَمَّا كان لفْظُ (الصَّالِحاتِ) عامًّا يَشمَلُ جميعَ الصَّالحاتِ الواجِبةِ والمستَحبَّةِ، وقد يَكونُ بعضُها غيرَ مَقدورٍ للعَبدِ؛ قال تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، ففي هذه الجملةِ المعترضةِ رَفْعُ تَوَهُّمِ السَّامعِ أنَّ المكَلَّفينَ عَمِلوا جميعَ الصَّالحاتِ؛ المَقدورِ عليها والمَعجوزِ عنها- كما يُجِوِّزهُ أصحابُ تكليفِ ما لا يُطاقُ- فرُفِعَ هذا التوهُّمُ بجملةِ: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا واعتُرِضَ بها بينَ المبتدأِ وخَبَرِه بما يُزيلُ الإشكالَ، ونظيرُه قَولُه تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام152] ومن ذلك قَولُه تعالى: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ

[النساء: 84].

نَستفيدُ مِن قولِ اللهِ تعالى: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أنَّه لا واجِبَ معَ العَجْزِ، ولا مُحرَّمَ معَ الضَّرورةِ .

قولُ الله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا قال: تِلْكُمْ؛ لأنَّهم وُعِدوا بِها في الدُّنيا، فكأنَّه قِيل لهم: هذه تِلْكمُ الَّتي وُعِدتُّم بها .

قولُ الله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا، التَّعبيرُ بالإيراثِ يَدُلُّ على أنَّها عَطيَّةٌ بدونِ قَصدِ تَعاوُضٍ ولا تَعاقُدٍ، وأنَّها فَضلٌ محضٌ مِن اللهِ تعالى .

في قَولِه تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قيل: أُضيفَ العَمَلُ إليهم وشُكِرُوا عليه؛ لَمَّا اعتَرَفوا لله بنِعمَتِه عليهم بالجنَّةِ وبأسبابِها مِن الهِدايةِ، وحَمِدُوا اللهَ على ذلك كُلِّه .

في قَولِه تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ دلالةٌ على أنَّ الجنَّةَ والعَمَلَ؛ كِلاهما مِن فضْلِ اللهِ ورَحْمَتِه على عبادِه المؤمنينَ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

قولُه: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَبَرٌ عَن وَالَّذِينَ آمَنُوا، وقولُه: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا جملةٌ مُعترِضةٌ بين المسنَدِ إليه والمسنَدِ على طَريقةِ الإدْماجِ، وفائدَةُ هذا الإدْماجِ الارتِفاقُ بالمؤمنِينَ؛ لِأنَّه لَمَّا بَشَّرَهم بالجَنَّةِ على فِعلِ الصَّالحاتِ طَمْأنَ قُلوبَهم بأنْ لَا يُطْلَبوا مِنَ الأَعْمالِ الصَّالحةِ بِما يَخرُجُ عَنِ الطَّاقةِ، وأيضًا لِلتَّرغيبِ في اكْتِسابِ النَّعيمِ المُقيمِ بِما يَكونُ في وُسْعِهم، ويَسهُلُ عَليهم، وهو الإمكانُ الواسِعُ غيرُ الضَّيِّقِ مِنَ الإيمانِ والعَملِ الصَّالحِ

.

قولُه: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ دلَّ على قَصْرِ مُلازَمةِ الجنَّةِ عَليهِم دونَ غَيرِهم؛ ففيه تأييسٌ آخَرُ للمُشرِكينَ بحَيثُ قَوِيَت نصِّيَّةُ حِرمانِهم مِن الجنَّةِ ونَعيمِها .

قولُه: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فيه التَّعبيرُ عَنِ المستَقْبَلِ بلَفظِ الماضي وَنَزَعْنَا؛ للتَّنبيهِ على تَحقُّقِ وُقوعِه؛ أيْ: ونَنزِعُ ما في صُدورِهم مِن غلٍّ .

واتِّساقُ النَّظْمِ يَقتَضي أن تَكونَ جُملةُ: وَنَزَعْنَا مُعتَرِضةً بينَ جُملةِ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 42] ، وجُملَةِ: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ اعتِراضًا بُيِّنَ به حالُ نُفوسِهم في المُعامَلةِ في الجنَّةِ؛ لِيُقابِلَ الاعتِراضَ الَّذي أُدمِجَ في أَثْناءِ وَصْفِ عذابِ أهلِ النَّارِ، والمبيَّن به حالُ نُفوسِهم في المعامَلةِ بقَولِه: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا اعتراضًا بينَ قولِه: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ وقولِه: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا .

قولُه: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ: فيه حذف المَفعولِ الثَّاني لكلٍّ من الفِعلينِ نَهْتَدِي وهَدَانَا؛ لِظُهورِ المُرادِ، أو لإِرادَةِ التَّعْميمِ .

وفي قولِه: وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ تَوكيدُ النَّفيِ باللَّام .

قولُه: لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ جملةٌ مُستأنَفةٌ استِئْنافًا ابتدائيًّا؛ لصُدورها عنِ ابتِهاجِ نُفوسِهِم واغتِباطِهم بما جاءَتْهم به الرُّسلُ، فجَعَلوا يتَذكَّرون أسبابَ هِدايتِهم، ويَعتَبِرون بذَلك ويَغْتَبِطون .

وتأكيدُ الفِعلِ بلَامِ القسَمِ وبـ(قَدْ) في قولِه: لَقَدْ معَ أنَّهم غيرُ مُنكِرينَ لِمَجيءِ الرُّسلِ: إمَّا لأنَّه كِنايةٌ عَنِ الإعجابِ بِمُطابَقةِ ما وعَدَهم به الرُّسلُ مِنَ النَّعيمِ لِمَا وجَدوه، وإمَّا لأنَّهم أَرادوا بقَولهِم هذا الثَّناءَ على الرُّسلِ، والشَّهادةَ بصِدْقِهم جَمْعًا مع الثَّناءِ على اللهِ، فأَتَوْا بالخبَرِ في صورةِ الشَّهادةِ المؤكَّدةِ الَّتي لا تَردُّدَ فيها .

قولُه: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه تَشْبيهُ أهلِ الجنَّةِ وأهلِ النَّارِ بالوارِثِ والمَوْروثِ عنه؛ لأنَّ اللهَ خلَقَ في الجنَّةِ مَنازلَ لِلكُفَّارِ، بتَقْديرِ إيمانِهم، فمَنْ لم يُؤمِنْ مِنهم جُعِلَ مَنزلُه لأهلِ الجنَّةِ، أو لأنَّ دُخولَ الجنَّةِ لا يَكونُ إلَّا برَحْمةِ اللهِ تَعالى لا بعَملٍ، فأشبَهَ الميراثَ .

وباءُ السَّبَبيَّةِ في قولِه: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اقتَضَتِ الَّذي أَعْطاهُم مَنازِلَ الجنَّةِ؛ أَرادَ به شُكرَ أَعْمالِهم وثَوابَها مِن غَيرِ قَصدِ تَعاوُضٍ ولا تَقابُلٍ، فجَعَلها كالشَّيءِ الَّذي استَحقَّه العامِلُ عِوضًا عن عمَلِه

=========================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (44-49)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ

غريب الكلمات:

 

يَصُدُّونَ: أي: يُعرِضون وينصرَفون، ويصرفون غيرَهم، والصَّدُّ قد يكونُ انصرافًا عن الشَّيء وامتناعًا؛ إذا كان لازمًا غير مُتعدٍّ، وقد يكونُ صرفًا ومنعًا؛ إذا كان مُتعدِّيًا بمعنى يصَدُّون غيرَهم. وأصل (صدد): إعراضٌ وعدولٌ

.

وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا: أي: يُحاولونَ أن يُغَيِّرُوا سَبيلَ الله، ويُبَدِّلُوها عنِ الاستقامَةِ الَّتي جعلَها اللهُ لها، وأصلُ (بغي) طَلَبُ الشَّيءِ، ومنه: بَغَيْتُ الشَّيءَ أبغيه: إذا طلبتَه، وعِوَجًا: أيْ: زَيغًا وتَحْريفًا، واعْوِجاجًا في الدِّينِ، وأصلُ (عوج): الميلُ في الشَّيءِ .

حِجَابٌ: أي: سُورٌ، والحِجابُ: كلُّ ما يَستُرُ المَطلوبَ، ويمنعُ مِنَ الوُصولِ إليه، وأصلُ (حجب): المنعُ .

الْأَعْرَافِ: جمْعُ عُرْفٍ، وهو سورٌ بينَ الجنَّةِ والنَّارِ؛ سُمِّي بذَلِك لارتِفاعِه، وكلُّ مرتفِعٍ عندَ العرَبِ: عُرْفٌ .

بِسِيمَاهُمْ: أي: بعَلاماتِهم، والسِّيما: العلامةُ التي يُميَّزُ بها الشيءُ عن غيرِه؛ وأصلُ الوَسْمِ: الأثرُ والمَعْلَمُ .

صُرِفَتْ: أيْ: وُجِّهَت، والصَّرفُ: ردُّ الشَّيءِ مِن حالةٍ إلى حالةٍ، أو إبدالُه بغَيرِه، وأصلُ (صرف): يدُلُّ على رجْعِ الشَّيءِ .

تِلْقَاءَ: أيْ حِيالَ، أو تُجاهَ، أو نَحْوَ، واللِّقاءُ: مُقابلَةُ الشَّيءِ ومُصادَفتُه مَعًا، وأصلُ (لقي): تَوافِي شيئيْنِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

ونادى أهلُ الجنَّةِ أهلَ النَّارِ بعدَ استِقْرارِ كلٍّ مِنهم في مَنازلِهم، قائِلينَ لهم: إنَّهم قد وجَدوا ما وعَدَهم ربُّهم مِن إثابةِ أهلِ طاعتِه حقًّا، وسَألوهم: هل وجَدوا هم ما وعَدَ ربُّهم حقًّا، قالوا: نعَم، فنادى مُنادٍ بصوتٍ عالٍ بينَ أصحابِ الجنَّةِ وأَصْحابِ النَّارِ: أنْ لعنَةُ اللهِ عَلى الظَّالِمينَ، الَّذين كانوا في الدُّنيا يُعْرِضونَ عَنِ الإسلامِ، ويَمنَعون غيْرَهم مِنِ اتِّباعِه، ويَسْعَونَ لإِظْهارِ دينِ الإسلامِ أعوَجَ غيرَ مُستقيمٍ، وهُم بالآخِرةِ لا يُؤمِنونَ.

وأخبَرَ تعالى أنَّ بينَ الجنَّةِ والنَّارِ حاجزًا يَمنَعُ مِن وُصولِ أهلِ النَّارِ إلى الجنَّةِ، وعَلى هذا السُّورِ المرتفِعِ الَّذي يَحْجِزُ بينَهما رِجالٌ استَوَتْ حسَناتُهُم معَ سيِّئاتِهم، يَعرِفون كُلًّا مِن أهلِ الجنَّةِ وأَهلِ النَّارِ بعَلاماتِهم، ونادَوْا أصحابَ الجنَّةِ أنْ سَلامٌ علَيكم، ولَم يَدخُلوا الجنَّةَ بَعدُ، لَكنَّهم يَطمَعون في دُخولِها، وإذا صَرَفَ اللهُ عُيونَهم تُجاهَ أهلِ النَّارِ، فأبصَروا ما هم فيه، قالوا: ربَّنا لا تَجْعَلْنا مَع القومِ الظَّالمِينَ في النَّارِ.

ونادَوْا رِجالًا مِمَّن هُم في النَّارِ مِن رُؤَساءِ الكُفَّارِ والمُشرِكينَ، عرفوهم في الدُّنيا بأعيانِهم، ويَعرِفونَهم في النَّارِ بعَلاماتِ أهلِها، قالوا لهم: ماذا نَفَعَكم ما كُنتُم تَجْمَعونَه في الدُّنيا، وماذا أفادَكم استِكْبارُكم فيها، أهَؤلاءِ الضُّعفاءُ الَّذينَ أدخَلَهمُ اللهُ الجنَّةَ هُمُ الَّذينَ أقسَمتُم أنَّ اللهَ لَن يَنالَهم برَحمةٍ؟! ويُقالُ لِهؤلاءِ الواقِفينَ عَلى السُّورِ الحاجزِ بينَ الجنَّةِ والنَّارِ: ادخُلوا الجنَّةَ، لا خَوْفٌ علَيكُم مِمَّا هو آتٍ، ولا أنتُم تَحزَنونَ على ما فاتَ.

تفسير الآيات:

 

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا شرَح اللهُ تعالى وَعيدَ الكُفَّارِ، وثَوابَ أهلِ الإيمانِ والطَّاعاتِ، أتبعَه بذِكْرِ المناظَراتِ الَّتي تَدور بينَ الفَريقينِ

، فقال تعالى:

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ

أي: ونادى أهلُ الجنَّةِ أهلَ النَّارِ بعدَ استِقْرارِ كُلٍّ مِنهم في مَنازِلِهم .

أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ

أي: فقال أهلُ الجنَّةِ لهم: يا أهلَ النَّارِ، قد وَجَدْنا ما وعَدَنا ربُّنا على ألسِنَةِ رُسلِه مِنَ الثَّوابِ على الإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ حقًّا، فهَل وجَدتُّم ما وعَدَكم ربُّكم مِنَ العَذابِ على الكُفرِ والمَعاصي حقًّا؟ فقالوا: نعَم، قد وجَدْناه حقًّا .

فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ

أيْ: فنادى مُنادٍ ، وأعْلَمَ بصوتٍ عالٍ بينَ أهلِ النَّارِ وأهلِ الجنَّةِ قائلًا: لَعنةُ اللهِ مُستقِرَّةٌ على الكفَرةِ الَّذين كانوا يضَعونَ العِبادَةَ في غَيرِ مَوضعِها .

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

أيِ: الَّذين كانوا في الدُّنيا يُعرِضون عَنِ الإسلامِ، ويَمنَعون النَّاسَ مِن اتِّباعِه .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 3] .

وقال سُبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [سبأ: 33] .

وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا

أيْ: ويَطْلُبون ويُحاوِلون إظهارَ دينِ الإسلامِ أعوَجَ غيرَ مُستقيمٍ؛ حتَّى لا يَتَّبعَه أحَدٌ؛ كأَنْ يَختَلِقوا له نَقائصَ يُموِّهون بها على النَّاسِ تَنفيرًا عنه، أو بإلقاءِ الشُّكوكِ والشُّبهاتِ حَولَه .

كما قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سبأ: 43] .

وقال سُبحانه: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 18 - 25] .

وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ

أيْ: وهُم بيَومِ القيامةِ جاحِدونَ مُكَذِّبون .

كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأنبياء: 38] .

وقال سُبحانه: وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ [السجدة: 10] .

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ

أيْ: وبينَ الجنَّةِ والنَّارِ حاجزٌ يمنَع مِن وُصولِ أهلِ النَّارِ إلى الجنَّةِ .

كما قال تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد: 13] .

وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ

أيْ: وعَلى هذا السُّورِ المرتَفعِ رِجالٌ قد استَوَتْ حسَناتُهم معَ سيِّئاتِهم .

يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ

أيِ: الرِّجالُ الَّذينَ على الأَعرافِ يَعرِفون أهلَ الجنَّةِ بعَلامتِهم الَّتي يتَميَّزون بها، وهي بَياضُ وحُسنُ وُجوهِهم، ويَعرِفون أهْلَ النَّارِ بسَوادِ وقُبحِ وُجوهِهم .

كما قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] .

وقال سُبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس: 38-41] .

وقال عزَّ وجلَّ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 26-27] .

وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ

أيْ: ونادَى الرِّجالُ الَّذينَ عَلى الأعرافِ أهلَ الجنَّةِ بالتَّحيَّةِ قائلينَ لهم: سَلامٌ عَليكُم؛ أيْ: سَلِمتُم مِن كلِّ الآفاتِ، وصِرْتُم في مأمَنٍ مِن جَميعِ المؤذِياتِ .

لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ

أيْ: إنَّ أهلَ الأعرافِ لَم يَدْخُلوا الجنَّةَ بَعدُ، لكنَّهم يَطمَعونَ في دُخولِها برَحمةِ اللهِ تعالى .

وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(47)

أيْ: وإذا صَرَف اللهُ عُيونَ أصحابِ الأعرافِ إلى جِهةِ أصحابِ النَّارِ، فأبصَروا ما هم فيه مِن العَذابِ، دعَوُا اللهَ قائِلينَ: يا ربَّنا لا تَجعَلْنا معَ الكُفَّارِ في النَّارِ .

وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)

وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ

أيْ: ونادى أُولئك الرِّجالُ الَّذين على الأعرافِ رِجالًا مِن رُؤَساءِ الكُفَّارِ والمُشرِكِينَ مِن أهلِ النَّارِ عرَفوهم في الدُّنيا بأعيانِهم، ويَعرِفونَهم في النَّارِ بعَلاماتِ أهلِها .

قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ

أي: قال أصحابُ الأعرافِ لعُظماءِ المُشرِكينَ: ماذا نفَعَكم ما كُنتُم تَجمَعونَه في الدُّنيا مِنَ الأَمْوالِ والأولادِ والجُنودِ والأَتْباعِ، واستِكْبارُكم في الدُّنيا عَلى الخَلْقِ، وتَكبُّرُكم عَنِ اتِّباعِ الحَقِّ؟! .

كما قال تعالى: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 11] .

وقال سُبحانه: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205-207] .

وقال عزَّ وجلَّ: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الجاثية: 10] .

وقال سُبحانه حاكِيًا قولَ مَن يَدخُلُ النَّارَ مِنَ الأغنياءِ المُستَكبِرين: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة: 28-29] .

أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ

أيْ: يَقولُ أهلُ الأَعْرافِ لأُولئكَ الكُفَّارِ: أهَؤلاءِ الضُّعَفاءُ الَّذين أدخَلَهمُ اللهُ الجنَّةَ همُ الَّذين أقسَمْتُم في الدُّنيا على أنَّ اللهَ لَن يَعْبِأَ بهِم فيُدخِلَهُم جَنَّتَه ؟!

كما قال تعالى: وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ [ص: 62-63] .

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ

أيْ: يُقالُ لأهلِ الأعرافِ: ادخُلوا الجنَّةَ، لا خَوفٌ عَليكُم مِن آتٍ، ولا أنتُم تَحْزَنون على ما فاتَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قال الله تَعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إنَّما أُضيفَت كلمةُ (السبيلِ) إلى اللهِ؛ لأنَّه هو الذي شَرَّعَهَا، وَبَيَّنَ مَعَالَمَهَا، ولأنَّها السَّبيلُ الَّتي أمَر بسُلوكِها، ووعَد بالثَّوابِ مَن سَلَكها، ونَهى عن عدَمِ سُلوكِها، ووعَد بالعِقابِ مَن لَم يَسلُكْها

.

قولُ اللهِ تعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ، عبَّرَ بالطَّمَعِ؛ لأنَّه لا سبَبَ للعِبادِ إلى اللهِ مِن أنفُسِهم، وإن كانَت لهم أَعْمالٌ، فَضلًا عَن هؤلاءِ المَذْكورينَ الَّذين لا أعمالَ لهم تُبلِّغُهم .

قال اللهُ تعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ، ظاهرُ القُرآنِ أنَّهم كُلَّهم ذُكورٌ؛ لأنَّه قال: رِجَالٌ، ولَم يَقُلْ: (نِسَاءٌ). والمقرَّرُ في الأُصولِ: أنَّ لَفْظةَ (الرِّجالِ) لا يَدْخُلُ فيها النِّساءُ. وقال بعضُ العُلماءِ: إذا ذُكِرَ الرِّجالُ فلا مانِعَ مِن دُخولِ النِّساءِ بحُكْمِ التَّبَعِ. واستَأنَسوا لِهَذا بأنَّ العرَبَ تُسمِّي المرأةَ (رَجُلةً)، وتَسمِيةُ المرأةِ (رَجُلةً) لُغةٌ صحيحةٌ مَعروفةٌ في كلامِ العرَبِ .

قال تَعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ، بيَّنَ اللهُ أنَّ أصحابَ الأعرافِ ربَّما نظَروا تارةً إلى الجنَّةِ، ورُبَّما أُجبِروا على النَّظرِ إلى أهلِ النَّارِ؛ لأنَّ منظَرَ النَّارِ فظيعٌ جدًّا، لا يَنظُرُ إليه أحَدٌ باختِيارِه ؛ لذا قال صُرِفَتْ فبَناه للمَفْعولِ، إشارةً إلى أنَّهم لا يَنظُرون إلى أهلِ النَّارِ إلَّا نَظرًا شَبيهًا بفِعْلِ مَن يَحمِلُه على الفِعْلِ حاملٌ، وليسَ عَن إرادةٍ مِنهم .

دلَّ صريحُ قَولِه تعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ على أنَّ أهلَ الأعرافِ مِن بني آدَمَ؛ ولَيسُوا مِنَ الملائكةِ .

في قَولِه تعالى: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ دلالةٌ على أنَّ أصحابَ الأعرافِ بمكانٍ مرتَفِعٍ بين الجنَّةِ والنَّارِ .

قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، لَفظةُ (رَبَّنَا) مُشعِرةٌ بوَصفِه تَعالى بأنَّه مُصلِحُهم وسيِّدُهم، وهُم عَبيدُه، فبالدُّعاءِ به طلَبُ رحمتِه، واستِعْطافُ كرَمِه .

في قَولِه تعالى: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ نَذارةٌ ومَوعظةٌ لِجَبابرةِ المُشركينَ مِنَ العَرَبِ، الذين كانوا يَحقِرُونَ المُستَضعفينَ مِنَ المُؤمنينَ، وفيهم عَبيدٌ وفُقراءُ، فإذا سَمِعوا بِشاراتِ القُرآنِ للمُؤمنينَ بالجنَّةِ، سكتوا عمَّن كان مِن أحرارِ المُسلمينَ وسادَتِهم، وأنكروا أن يكون أولئك الضِّعافُ والعَبيدُ مِن أهْلِ الجَنَّةِ، وذلك على سبيلِ الفَرضِ، أي: لو فَرَضُوا صِدقَ وُجودِ جَنَّةٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قولُه: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ في التَّعْبيرِ عَنْهم بأصْحابِ الجنَّةِ دونَ ضميرِهم: تَوطِئةٌ لِذِكْرِ نِداءِ أصحابِ الأعرافِ، ونِداءِ أصحابِ النَّارِ؛ لِيُعبِّرَ عَنْ كلِّ فَرِيقٍ بعُنوانِه، ولِيكونَ مِنْه مُحسِّنُ الطِّباقِ في مُقابَلَتِه بِقولِه: أَصْحَابَ النَّارِ، وهذا النِّداءُ خِطابٌ مِنْ أصْحابِ الجنَّةِ، عبَّرَ عنه بالنِّداءِ كِنايَةً عَن بُلُوغِه إلَى أَسْماعِ أَصْحابِ النَّارِ مِن مَسَافَةٍ سَحِيقَةِ البُعْدِ؛ فإنَّ سَعَةَ الجنَّةِ وسَعةَ النَّارِ تقتَضِيانِ ذلك لا سيَّما قولُه: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ

.

وفي قولِه: وَنَادَى عَبَّرَ بالماضِي عَنِ المُسْتقبَلِ؛ لجَعْلِ المُستقبَلِ في تَحقُّقِ وُقوعِه كالَّذي وقَع بالفِعْلِ، وفي هذا النِّداءِ تَقريعٌ وتَوْبيخٌ، وتَوْقيفٌ على مآلِ الفريقَيْنِ، وزيادَةٌ في كَرْبِ أهلِ النَّارِ بأن شُرِّفوا علَيهم .

قولُه: أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ

في قوله: مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا خاطَبَهم الله بهذا الوَعْدِ، وكَوْنُهم مُخاطَبينَ مِن قِبَلِ اللهِ تَعالى بهذا الوَعدِ يُوجِبُ مَزيدَ التَّشريفِ، ومَزيدُ التَّشريفِ لائقٌ بحالِ المؤمنينَ .

وقوله: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فِيه إِيجَازٌ بِحَذفِ المَفْعولِ مِنَ الفِعل الثَّاني مَا وَعَدَ حيث لم يقُل: (وعَدَكم)؛ إِسْقاطًا لَهمْ عَنْ رُتْبَةِ التَّشرِيفِ بِالخِطَابِ عِنْدَ الوَعْدِ، وقيل: لأنَّ ما ساءَهم مِن الموعودِ لم يَكُن بأَسْرِه مخصوصًا بهم وعدًا، كالبَعثِ والحِسابِ ونَعيمِ أهلِ الجَنَّةِ؛ فإنَّهم قد وَجَدوا جَميعَ ذلك حقًّا، وإنْ لم يَكُنْ وعْدُه مخصوصًا بهم .

قولُه: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا هذا الاستِفْهامُ مُستَعْمَلٌ في تَوقِيفِ المخاطَبِينَ على غَلَطِهِم، وإِثارَةِ نَدامَتِهم وغَمِّهِم على مَا فَرَطَ مِنْهُم، والشَّماتَةِ بِهِم في عَوَاقِبِ عِنادِهم؛ لأَنَّ أَصْحابَ الجَنَّةِ يَعلَمونَ أنَّ أَصْحابَ النَّارِ وَجَدوا وَعْدَه حَقًّا ، فهو سؤالُ توبيخٍ وتقريعٍ وشَماتةٍ .

وفي التَّعبيرِ بالوَعْدِ دونَ الوَعيدِ معَ أهلِ النَّارِ تَهكُّمٌ بِهم .

قولُه: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ عبَّرَ في الفِعلينِ يَصُدُّونَ ويَبْغونَهَا بالمُضارِعِ الَّذي مِن شأنِه الدَّلالةُ عَلى حدَثٍ حاصلٍ في زمَنِ الحالِ، مع أنَّهُم في زمَنِ التَّأذينِ لم يَكونوا مُتَّصِفينَ بالصَّدِّ عَن سَبيلِ اللهِ، ولا بِبَغْيِ عِوَجِ السَّبيلِ؛ ذَلك لِقَصدِ ما يُفيدُه المُضارِعُ مِن تَكرُّرِ حُصولِ الفِعْلِ تَبعًا لِمَعنى التَّجدُّدِ، والمعنى وَصفُهم بتَكرُّرِ ذلك مِنهُم في الزَّمنِ الماضي .

والإِخْبَارُ بالمَصْدَرِ في قَولِه: عِوَجًا لِلمُبَالَغَةِ .

وقولُه: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ بِالْآخِرَةِ على مُتعلَّقِه كَافِرُونَ؛ لِلاهتِمامِ به؛ فإنَّ أصْلَ كُفرِهم قد عُلِم مِمَّا قَبلَه، وهذا النَّوعُ مِن الكُفرِ له تأثيرٌ خاصٌّ في إصْرارِهم على ما أُسنِدَ إليهِم .

ووصَفَهم باسْمِ الفاعِلِ كَافِرُونَ؛ لِلدَّلالةِ على ثَباتِ الكُفرِ فيهِم، وتَمكُّنِه مِنهم .

وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ حيث قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ، وقالَ في سُورة هودٍ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [هود: 19] ؛ فزِيدَ في هذه الآيةِ ضميرُ الفَصلِ، ولم يُزَدْ في سورة الأعرافِ؛ وذلك لمناسبةٍ حسنةٍ، وهي أنَّ ابتداءَ الإخبارِ في سورةِ الأعرافِ بحالِ هؤلاء الملعونينَ في الآيتينِ هو قولُه تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وابتداءَ الإخبارِ عنهم في سُورةِ هود قولُه تعالى: أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18] ؛ ففي هذا إطنابٌ، وورودُ الظاهرِ في موضِع المضمَرِ من قولِه: عَلَى الظَّالِمِينَ، ولم يقُل: (عليهم)، ناسَب ذلك زِيادةُ ضَميرِ الفَصلِ (هم)، وفي آية الأعراف إيجازٌ ناسَبَه سقوطُه . وقيل: لم يذكرْ ضمير الفصلِ في الأعرافِ، وذكره في هود؛ لأنَّ ما في الأعرافِ جاءَ على أصْلِه غيرَ مزيدٍ فيه ما يَجري مجرَى التوكيدِ، والذي في سُورة هودٍ جاء بعدَ قوله: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ [هود: 18] ؛  فأشير إليهم، ثمَّ قال: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ؛  فأَظْهَر ذِكرَ الظَّالِمين في موضعِ الإضمارِ، فلمَّا عبَّر عنهم بالظالمين، الْتَبَس أنَّهم هم الذين كَذَبوا على ربِّهم أم غيرهم، فقال: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كاَفِرُونَ؛ ليُعلمَ أنَّهم هم المذكورون لا غيرُهم، فلمَّا لم يَصرِفِ الخبرَ الثاني في سورة الأعراف مَصرفَ ما ليس هو بالأوَّل، لم يُحْتَجْ إلى توكيدِه، ولَمَّا عدَل في سُورة هود عن إعادةِ الضَّميرِ إلى الأوَّل، ووضَع مكانه ظاهرًا يحتملُ أنْ يكونَ غيرَ الأوَّل، وعَنَى (هم) أنَّهم هم، كان الموضعُ موضِعَ توكيدٍ؛ لتحقيقِ الخبرِ عنهم بالكُفر .

قَولُه: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ فِيهِ: تَقْدِيمُ  الجارِّ والمجرورِ وَبَيْنَهُمَا، وهو خَبَرٌ على المُبْتَدَأِ؛ للاهْتِمامِ بالمَكانِ المُتوَسِّطِ بَينَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وما ذَكَرَ مِن شَأْنِه، وبهذا التَّقْديمِ صَحَّ تَصْحيحُ الابْتِداءِ بالنَّكِرةِ، والتَّنْكيرُ في قَوْله: حِجَابٌ؛ للتَّعظِيمِ .

قولُه: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ جُملَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ للبَيانِ؛ لأنَّ قولَه: وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ يُثيرُ سُؤالًا يَبحَثُ عن كَوْنِهم صَائرينَ إلى الجَنَّةِ أو إلى غَيرِها .

قولُه: وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ

قولُه: وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا فِيه: تَكْريرُ ذِكرِهم مَع كِفايَةِ الإِضْمارِ؛ لزِيادَة التَّقرِيرِ؛ فالتَّعبِيرُ عَنهم هُنا بأصْحابِ الأعْرافِ إِظْهارٌ في مَقامِ الإِضْمارِ؛ إذْ كان مُقْتَضَى الظَّاهرِ أن يُقالَ: (ونادَوْا رِجَالًا)، إلَّا أنَّه لَمَّا تَعدَّدَ في الآيَةِ السَّابِقَةِ ما يَصلُحُ لعَودِ الضَّمائرِ إليه وَقَعَ الإِظْهارُ في مَقامِ الإِضْمارِ؛ دَفعًا للالْتِباسِ .

قولُه: قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ مَا الأُولى في قولِه: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ إمَّا اسْتِفهامِيَّةٌ؛ للتَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ، أَو نَافِيةٌ، والخَبَرُ مُستَعمَلٌ في الشَّماتَةِ والتَّوقِيفِ على الخَطَأ .

ومَا الثَّانيةُ في قولِه: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ مَصْدَرِيَّةٌ؛ أي: واسْتِكبارُكم الَّذي مَضَى في الدُّنيا، ووَجْهُ صَوغِه بصِيغَةِ الفِعْلِ دونَ المَصْدرِ- إِذْ لَم يَقُل: اسْتِكْبارُكم-؛ لِيتَوسَّلَ بالفِعلِ إلى كَونِه مُضارِعًا؛ فيُفيدُ أنَّ الاستِكْبارَ كان دَأْبَهم، لا يَفْتُرونَ عَنْه .

قوله: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ

قولُه: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ الاسْتِفْهامُ فِيه مُسْتَعمَلٌ في التَّقرِيرِ .

قولُه: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فيه تَلْوينٌ لِلخِطابِ، وتَوْجِيهٌ له إلى أُولئكَ المَذكُورِينَ؛ أيِ: ادخُلُوا الجَنَّةَ على رَغْمِ أُنُوفِهم

===============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (50-53)

ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات:

 

أَفِيضُوا: يُقال: فاضَ الماءُ: إِذا سالَ مُنصَبًّا، وأفاضَ إِناءَه: إِذا مَلَأه حتَّى أسالَه، والإفاضَةُ التَّوسِعَةُ، وأصْلُ (فيض): يَدُلُّ على جَرَيانِ الشَّيءِ بِسُهُولَةٍ

.

يَجْحَدُونَ: أي: يُنكِرونُها بألْسِنَتِهم وهم لها مُسْتَيْقِنونَ، والجُحودُ: نَفْيُ ما في القَلْبِ إِثْباتُه، وإِثْباتُ ما في القلبِ نَفْيُه، وأصلُ (جحد): يَدُلُّ على قِلَّةِ الخَيرِ .

تَأْوِيلَهُ: أي: تصديقَ مَا وُعِدوا به، والتَّأْويلُ: هو المصيرُ والمرجعُ والعاقبةُ، مِنَ الأَوْلِ؛ أي: الرُّجوعِ إلى الأصلِ .

شُفَعَاءَ: جَمْعُ شَفيعٍ، وهو: النَّاصِرُ والمعينُ، والشَّفاعَةُ: الانْضِمامُ إلى آخَرَ نُصْرةً له، وسؤالًا عنه، وشَفَعَ لِفُلانٍ إذا جاءَ مُلْتَمِسًا مَطْلَبَه، ومُعينًا له؛ فأصلُ الشَّفْعِ: ضَمُّ الشَّيءِ إلى مِثلِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

ونَادى أَهلُ النَّارِ أَهلَ الجَنَّةِ طالِبينَ مِنهم أن يَسْقوهم مَاءً، أَو يُعطوهُم مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّعامِ، فأجابوهُم أَنَّ اللهَ حَرَّمَ ماءَ الجَنَّةِ وطَعَامَهَا على الكافِرِينَ، الَّذينَ اتَّخذُوا دِينَهمُ الَّذي دُعُوا لاتِّباعِهِ سُخرِيةً ولَعِبًا، وخَدَعَتْهمُ الحياةُ الدُّنيا، فأعْرَضوا عَنِ الآخِرَةِ، ويَقولُ اللَّهُ يومَ القِيامَةِ: إنَّه في هذا اليَومِ  يَنْسَاهُم كَما نَسُوا لِقَاءِ يَومِهم هذا، ولأَنَّهم كانوا يَجْحَدونَ بآياتِه.

ويُخبِرُ تَعالَى مُقْسِمًا أَنَّه أَتَى هَؤلاءِ الكُفَّارَ بالقُرآنِ الَّذي بَيَّنَ فِيه جَميعَ ما يَحتاجُ النَّاسُ إلى بَيانِه، وهو سُبحانَه عالِمٌ بِما بيَّنَ فيه مِنَ الحَقِّ، فقد بَيَّنَهُ تَعالَى لأجْلِ أَنْ يَهتَدِيَ بِه المُؤمِنونَ ويَرْحَمَهم بسَبَبِ إيمانِهِم به في الدُّنيا والآخِرَةِ.

ثمَّ بيَّن الله تعالى عاقبةَ هؤلاءِ المكذِّبينَ بالقرآنِ قائلًا: هَلْ يَنْظُرُ الكُفَّارُ إلَّا حُصولَ ما أخْبَر بِه القرآنُ مِن وُقوعِ البَعْثِ وقِيامِ الحِسَابِ، وحُلولِ العَذابِ بهم، ودُخولِ أهلِ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأَهْلِ النَّارِ النَّارَ، يَومَ يَقَعُ ذَلِك يَقولُ الَّذينَ تَرَكُوا العَمَلَ بالقُرْآنِ مُتَنَدِّمِينَ: قَد ظَهَرَ لنا الآنَ أَنَّ رُسُلَ رَبِّنَا قَدْ جَاءَتْ بالحَقِّ، ونَحنُ كذَّبْنَاهُم، فهل لنا مِنْ شُفَعَاء فيَشْفَعوا لنا عِنْدَ رَبِّنا، أو نَرجِعُ للدُّنيَا فنَعْمَلَ صَالِحًا غَيْرَ الَّذي كُنَّا نَعْمَلُه مِنَ الكُفْرِ والمَعَاصِي؟! قَد خَسِرَ هؤلاءِ الكُفَّارُ أَنفُسَهُم، وغَابَ عنهم ما كانوا يَزْعُمونه كَذِبًا في الدُّنيا أَنَّهم شُرَكاءُ لِلَّهِ، أو لَهم آلِهَةٌ مِن دُونِ اللَّهِ تعالَى، فلم يَنْفعوهم بشيءٍ.

تفسير الآيات:

 

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)

مناسَبَةُ الآيَةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بَيَّن اللَّهُ تَعالَى ما يَقولُه أصْحابُ الأعْرافِ لأهلِ النَّارِ؛ أَتْبَعَه بذِكْرِ ما يَقولُه أَهلُ النَّارِ لِأَهْلِ الجَنَّةِ

، فقال تعالى:

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ

أي: ونادَى أَهلُ النَّارِ أَهْلَ الجَنَّةِ، مُستَغِيثين بِهم مِمَّا أَصَابَهم مِن شِدَّةِ الجُوعِ وَالْعَطَشِ، فَقالوا: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ صُبُّوا علَينا مِنَ الْمَاءِ أَو مِمَّا رَزَقَكمُ اللَّهُ مِن مَآكِلِ الجَنَّةِ .

قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ

أي: قال أَهلُ الجَنَّةِ لِأَهْلِ النَّارِ: إنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِمَنْعِ مَاءِ الجَنَّةِ وطَعَامِها من الكَافِرِينَ .

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا

أي: يَقُولُ أَهْلُ الجَنَّةِ لِأَهْلِ النَّارِ: إنَّ اللهَ مَنَعَ ماءَ الجَنَّةِ وطَعامَها من الكافِرينَ الَّذينَ اتَّخذُوا دِينَهمُ الَّذِي دُعُوا إِلَيهِ، وأُمِروا بِه سُخْرِيَةً ولَعِبًا فاسْتَهْزَؤوا به وبكَلامِ اللهِ وبنَبِيِّه وبالمُؤمِنينَ .

كما قال تَعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [المائدة: 57-58] .

وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا

أي: وخَدَعَتْهُمُ الحياةُ الدُّنيا بزِينَتِها، فَرَضوا واطْمَأَنُّوا بِها، وأعْرَضوا عَنِ الآخِرَةِ .

كما قال تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7-8] .

فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا

أي: يَقولُ اللَّهُ تعالى يَومَ القِيامَةِ: في هذا اليَومِ نَتْرُكُ الكُفَّارَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ عِطَاشًا جِيَاعًا، كَما تَرَكُوا الإِيمانَ والعَمَلَ الصَّالِحَ في الدُّنيا استِعدَادًا لِلِقَاءِ اللَّهِ يَومَ القِيَامَةِ .

كمَا قَالَ تعالَى: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة: 14] .

وعَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم قال: ((يَلقى اللهُ العَبدَ فيَقولُ: أي فُلُ ، ألَمْ أُكرِمْكَ، وأُسَوِّدْكَ، وأُزَوِّجْكَ، وأُسَخِّرْ لَكَ الخَيْلَ والإِبِلَ، وأَذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ ؟ فيَقولُ: بَلَى، فيَقولُ: أَفَظَنَنْتَ أنَّك مُلَاقِيَّ؟ فيَقولُ: لَا، فيَقولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كمَا نَسِيتَنِي، ثمَّ يَلْقَى الثَّانيَ فيَقولُ: أَي فُلُ، أَلَمْ أُكرِمْكَ، وأُسَوِّدْكَ، وأُزَوِّجْكَ، وأُسَخِّرْ لَكَ الخَيْلَ والإِبِلَ، وأَذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ؟ فيَقولُ: بَلَى أَي ربِّ، فيقولُ: أَفَظَنَنْتَ أنَّك مُلَاقِيَّ؟ فيَقولُ: لَا، فيَقولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كمَا نَسِيتَنِي )) .

وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ

أي: وَنَتْرُكُهم فِي النَّارِ لِكَونِهِم أَيضًا جَحَدُوا بِآيَاتِنَا فلَمْ يُصدِّقُوها .

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

مُناسَبةُ الآيَةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ اللَّهَ تَعالَى لَمَّا شَرَحَ أَحوالَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وأَهْلِ النَّارِ، وأَهْلِ الأَعْرَافِ، ثمَّ شَرَحَ الكَلِمَاتِ الدَّائرَةَ بَين هَؤلاءِ الفِرَقِ الثَّلاثِ على وَجْهٍ يَصِيرُ سَماعُ تِلكَ المَناظَراتِ حَامِلًا للمُكَلَّفِ على الحَذَرِ والاحْتِرازِ، وداعِيًا له إلى النَّظَرِ والاسْتِدْلالِ- بَيَّنَ شَرَفَ هذا الكِتابِ الكِرِيمِ، ونِهايَةِ مَنفَعَتِه فقال :

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ

أي: وأُقسِمُ لَقَدْ أَتَيْنا هَؤلاءِ الكفَّارَ بالقُرآنِ الَّذي بَيَّنَّا فِيه جَمِيعَ ما يَحتاجُ النَّاسُ إلَى بَيانِه، ونَحنُ عالِمِينَ بِما بَيَّنَّا فِيه مِنَ الحَقِّ الَّذِي يُصلِحُ الخَلْقَ في كلِّ زَمَانٍ ومَكانٍ، وفِي أُمورِ دُنياهم وأُخْراهُم .

كمَا قَالَ تعالَى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] .

وقَالَ سُبحانَه: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] .

وقَالَ تَبارَك وتَعالَى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .

هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

أي: فَصَّلنَا القُرآنَ لِأَجْلِ أَن يَهتَدِيَ بِه المؤمِنونَ، ويَرْحَمَهُم اللَّهُ تَعالَى في الدُّنيا والآخِرَةِ بِسَببِ إِيمانِهم بِه، واتِّباعِهِم لَه .

كما قال تَعالَى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16].

وقالَ سُبحَانَه: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: 155].

وقَالَ عزَّ وجلَّ: وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل: 77] .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)

مُناسَبَةُ الآيَةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بَيَّن اللَّهُ تعالَى أنَّ هذا القُرآنَ الْعَظِيمَ هُو الَّذي أَنْزَلَه، وهو الَّذي فَصَّلَه، وبَيَّن حَلالَه وحَرامَه وعَقائدَه ومواعِظَه وأمثالَه وآدابَه ومَكارِمَه، وأنَّه بَيَّنَ هذا بعِلْمِه المحيطِ بكلِّ شَيءٍ- هَدَّدَ الكُفَّارَ الَّذينَ لَمْ يَعمَلوا به، فقال :

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ

أي: هَل يَنْتَظِرُ الكُفَّارُ إلَّا وُقوعَ مَا أَخبَرَ به القُرآنُ؛ مِن وُقوعِ البَعْثِ، وقِيامِ الحِسابِ، وحُلولِ العَذابِ بهم، ودُخولِ أَهْلِ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، ودُخولِ أهلِ النَّارِ النَّارَ ؟

كما قال تعالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس: 39] .

وقالَ عزَّ وجلَّ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [الأنعام: 158] .

يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ

أي: حينَ يَجِيءُ يَومُ القِيَامَةِ، الَّذي تَتَحَقَّقُ فِيه مَواعيدُ القُرْآنِ؛ مِنَ الحسابِ والثَّوابِ والعِقابِ، يَقولُ الَّذين تَرَكوا العَمَلَ بِالقُرْآنِ في الدُّنْيا مُتَنَدِّمينَ: قَد تبيَّن لَنا الآنَ أَنَّ رُسُلَ رَبِّنا صادِقونَ في دَعْواهم، وقَد جاؤونا بالحَقِّ فكَذَّبْناهم .

فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ

أي: يَقُولُ الكُفَّارُ يَومَ القِيامَةِ: فهَل لَنا مِن شُفَعاءَ فيَشْفَعوا لَنا عِندَ رَبِّنَا، فيُنقِذونا مِمَّا نَحن فِيهِ؟ أو هل لَنا أَن نَرجِعَ إلَى الدُّنيا فنَعْمَلَ فيها صَالِحًا غَيرَ الَّذي كُنَّا نَعْمَلُه مِنَ الكُفْرِ والمعاصي ؟

كمَا قَالَ تَعالَى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام: 27-28] .

قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ

أي: قَد أَضاعَ الكُفَّارُ حَظَّ أَنْفُسِهم مِنَ الثَّوابِ، وَأَهلَكُوها بِالعَذَابِ .

كما قال تَعالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام: 31] .

وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ

أي: وغابَ عَنهم الَّذين كانوا يَزْعُمونَ في الدُّنيا كَذِبًا أَنَّهم شُرَكاءُ لِلَّهِ أَو آلِهَةٌ لهم مِن دُونِ اللَّهِ، ظنُّوا أنَّهم سَيَشْفَعونَ لَهم يَومَ القِيامَةِ، فلَم يَنْفَعُوهم بِشَيءٍ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

في قَولِه تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أَعْلَمَ اللهُ تعالى أنَّ ابنَ آدَمَ غَيرُ مُستغْنٍ عَنِ الطَّعامِ والشَّرَابِ وإن كانَ مُعَذَّبًا

.

قولُ اللهِ تعالَى: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ إنَّما طَلَبوا الماءَ خَاصَّةً؛ لِشِدَّةِ ما في بَوَاطِنِهم مِنَ الاحْتِرَاقِ واللَّهِيبِ بسَبَبِ شِدَّةِ حَرِّ جَهَنَّمَ ، فقَدَّموا طلَبَ الماءِ؛ لأنَّ مَن كانَ في سَمُومٍ وحَمِيمٍ يكونُ شُعورُه بالحاجَةِ إلَى الماءِ البَارِدِ أَشَدَّ مِن شُعورِه بالحَاجِةِ إلَى الطَّعامِ الطَّيِّبِ .

قولُ اللهِ تعالَى: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ لَفظُ (أَفِيضُوا) أَمْكَنُ مِن (اسقُونا)؛ لأنَّها تَقتَضِي التَّوسِعَةَ، كمَا يُقالُ: أفَاضَ اللهُ علَيهِ نِعَمَهُ؛ أي: وَسَّعَها .

استُدِلَّ بِقولِ اللهِ تعالَى: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أنَّ سَقيَ الماءِ مِن أَفضَلِ الأعمالِ .

قولُ الله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا، تَعلِيقُ الظَّرفِ بفِعلِ (نَنْساهُم) لِإِظهَارِ أنَّ حِرْمانَهم مِنَ الرَّحْمَةِ كان في أَشَدِّ أَوقاتِ احتِياجِهم إليها، فكانَ لِذِكْرِ (اليَومِ) أَثَرٌ في إثارَةِ تَحَسُّرِهم ونَدَامَتِهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

قولُه: قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ استِئنافٌ مَبنِيٌّ على السُّؤالِ؛ كَأنَّه قِيل: فماذا قَالُوا؟ فقِيلَ: قَالوا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ

.

قولُه: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا:

دَلَّ مَعنى كافِ التَّشبيهِ في قولِه: كَمَا نَسُوا على أنَّ حِرْمانَهم مِن رَحْمَةِ اللهِ كانَ مُماثِلًا لإهْمالِهمُ التَّصديقَ باللِّقاءِ، وهي مُماثَلَةُ جَزاءِ العَمَلِ للعَمَلِ، وهي مُماثَلَةٌ اعتِبارِيَّةٌ، وإنَّما التَّعلِيلُ مَعنًى يَتَوَلَّدُ مِنِ استِعمالِ الكافِ في التَّشبِيهِ الاعتِبارِيِّ، ولَيس هذا التَّشبِيهُ بِمَجازٍ، ولكِنَّه حَقِيقةٌ خَفِيَّةٌ لِخَفاءِ وَجْهَ الشَّبَهِ .

قولُه: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

قولُه: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فيه تَأكِيدُ هذا الفِعلِ بـ(لَامِ القَسَمِ) و(قَد)؛ إمَّا باعتِبارِ صِفَةِ (كِتابٍ)، وهي جُملَةُ: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً، فيكونُ التَّأكيدُ جارِيًا على مُقتَضَى الظَّاهِرِ؛ لأنَّ المُشرِكينَ يُنكِرونَ أن يَكون القُرآنُ مَوْصوفًا بتِلك الأوصافِ، وإمَّا تَأكيدٌ لفِعْلِ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ، وهو بُلوغُ الكِتابِ إلَيهم، فيكونُ التَّأكيدُ خارجًا على خِلافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ .

وتَنكِيرُ كِتَابٍ قُصِدَ بِه تَعظِيمُ الكِتابِ، أو قُصِدَ بِه النَّوعِيَّةُ؛ أي: ما هو إلَّا كِتابٌ كالكُتُبِ الَّتي أُنزِلَتْ مِن قَبْلُ .

قولُه: فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ تَنكِيرُ عِلْمٍ للتَّعظِيمِ؛ أي: عالِمِينَ أَعْظَمَ العِلْمِ، والعَظَمَةُ هُنا رَاجِعةٌ إلَى كمَالِ الجِنْسِ في حقيقَتِه، وأَعْظَمُ العِلْمِ هو العِلْمُ الَّذي لَا يَحتمِلُ الخَطَأَ .

قولُه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ الجُملةُ مُستَأْنَفةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا؛ لأنَّ قولَه: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يُثيرُ سؤالَ مَن يَسأَلُ: فماذا يُؤخِّرُهم عَنِ التَّصديقِ بِهذا الكِتابِ المَوصُوفِ بتلك الصِّفاتِ؟ وهَلْ أَعظَمُ مِنه آيَةً على صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم؟ فكانَ قولُه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ كالجَوابِ عَن هذا السُّؤالِ .

والاسْتِفهامُ في قولِه: هَلْ يَنْظُرُونَ إنْكارِيٌّ، أي: ما يَنظُرون إلَّا تأويلَه؛ ولِذلك جاءَ بعدَه الاسْتِثْناءُ، والاسْتِثْناءُ على حَقيقَتِه، وليس مِن تَأكيدِ الشَّيءِ بِما يُشبِهُ ضِدَّه، والقَصْرُ في (ما يَنظُرون إلَّا تأويلَه) إضافِيٌّ؛ أي: بالنِّسْبَةِ إلَى غَيرِ ذَلك مِن أَغراضِ نِسْيانِهم وجُحودِهم بالآياتِ .

قولُه: قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ خَبَرٌ مُسْتَعمَلٌ في الإقْرارِ بخَطَئهِم في تَكذيبِ الرُّسُلِ، وإنْشاءٌ للحَسْرَةِ على ذلك .

قولُه: فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا الاسْتِفهامُ في قوله: فَهَلْ يَجوزُ أن يَكونَ حَقيقيًّا يَقولُه بعضُهم لِبَعضٍ، ويَجوزُ أن يكونَ الاستفهامُ مُستَعمَلًا في التَّمَنِّي، ويَجوزُ أن يكونَ مُسْتَعمَلًا في النَّفيِ؛ على مَعنى التَّحَسُّرِ والتَّنَدُّمِ .

ومِنْ في قولِه: مِنْ شُفَعَاءَ صلةٌ للتَّوكِيدِ على جَميعِ التَّقادِيرِ؛ فتُفِيدُ تَوكيدَ العُمومِ في المُسْتَفهَمِ عَنه؛ ليُفيدَ أنَّهم لا يَسألونَ عَمَّن تَوَهَّموهم شُفَعاءَ مِن أصنامِهم؛ إذ قَد يَئِسوا مِنهم؛ فإنَّهم يَتساءلُونَ عَن أيِّ شَفيعٍ يَشْفَعُ لَهم، ولو يَكون الرَّسولُ علَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الَّذي نَاصَبُوه العَداءَ في الحَياةِ الدُّنيا .

قولُه: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئنافًا ابتِدَائيًّا، تَذيِيلًا وخلاصَةً لِقصَّتِهم؛ أي: فكانَ حاصِلُ أَمرِهم أنَّهم خَسِرُوا أَنْفُسَهم مِنَ الآن، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ .

.

==============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (54-56)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ

غريب الكلمات:

 

اسْتَوَى: أي: علَا واستقرَّ وارتَفَع، وأَصلُ (سوي): يدلُّ على استقامةٍ واعتدالٍ بينَ شيئينٍ

.

الْعَرْشِ: هو أعظَمُ المَخلوقاتِ، وسَقفُها، والعَرْشُ في الأصلِ: شَيءٌ مُسقَّفٌ، ومنه سَقْفُ البَيتِ، ويُطلَقُ العرشُ أيضًا على سَريرِ المَلِك، وعلى غير ذلك، وأصل (عرش): يدلُّ على ارتفاعٍ في شَيءٍ مبنيٍّ .

يُغْشِي: أي: يُغَطِّي، والغِشاوةُ: الغِطاءُ، وأصلُ (غشي): يدلُّ على تَغطِيةِ شيءٍ بشيءٍ .

حَثِيثًا: سَريعًا، والحثُّ: السُّرعةُ، وأصل (حثث): الحَضُّ على الشَّيءِ .

مُسَخَّرَاتٍ: أي: مُذلَّلاتٍ تَجري في فَلَكِها؛ لتَهْتدوا بها، والتَّسْخِيرُ: سياقةٌ إلى الغَرَضِ المختصِّ قَهرًا، وأصل (سخر): يدلُّ على احتقارٍ واستذلالٍ .

تَبَارَكَ: أي: تعاظَم وتعالى، وكثُرَ خيرُه، وعمَّ إحسانُه، أو ارتفَعَ وتقدَّسَ، مِنَ البرَكَة: وهي الزِّيَادَةُ والنَّماءُ، والكَثرةُ والاتِّساعُ .

الْعَالَمِينَ: هم أَصنافُ الخلائِقِ أجمعينَ، جمْعُ (عالَم)، و(العالَم) جمعٌ لا واحدَ له مِن لَفْظِه، وهو اسْمٌ لأَصنافِ الأُمَمِ وسائرُ أجناسِ الخَلْق، وكلُّ صِنفٍ منها عالَم، وأهلُ كلِّ قَرنٍ مِن كلِّ صِنفٍ وجِنسٍ منها عالَمُ ذلك القرْنِ وذلك الزَّمانِ .

تَضَرُّعًا: أي: تذلُّلًا، واستكانةً لِطاعَتِه، يقال: ضَرَع الرجلُ ضَرَاعَةً: ضَعُفَ وذَلَّ، وتَضَرَّع: أظهَر الضَّراعَةَ، وأصلُ (ضرع): يَدُلُّ عَلَى لِينٍ فِي الشَّيْءِ .

وَخُفْيَةً: أي: سِرًّا، وليس جِهارًا، يقال: خَفِيَ الشيءُ خُفْيَةً: استَتر، وأصلُ (خفي): السَّتْر

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ

حَثِيثًا: نَعتٌ لِمَصدرٍ مَحذوفٍ، أي: طلَبًا حثيثًا، ويجوزُ أن يكونَ حالًا مِن فاعِلِ يَطْلُبُهُ، وهو الضَّميرُ المستَتِرُ فيه، أي: حاثًّا، أو مِن مَفعولِه (الهاء)، أي: مَحْثوثًا. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ عَطْفٌ على السَّمَواتِ

مُسَخَّراتٍ حالٌ مَنصوبةٌ مِنَ الألفاظِ الثَّلاثةِ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ، وعلامةُ النَّصبِ الكَسرةُ؛ لأنَّها جمعُ مُؤَنَّثٍ سالمٌ.

وقُرِئَ (والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) برَفْعِ (الشَّمسُ) على الابتداءِ، ورفْعِ (مُسخَّراتٌ) على أنَّها الخَبَرُ

.

قولُه تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

قَرِيبٌ: إنَّما لم يُؤَنِّثْها وإن كانَتْ خبرًا عن المؤنَّثِ رَحْمَت؛ لوجوهٍ؛ منها: أنَّها في مَعنى الغُفرانِ، فحُمِلَت عليه. ومنها: أنَّه أتى قَريبٌ بغيرِ هاءٍ؛ ليُفرَّقَ بين قُرْبِ النَّسَبِ وقُربِ المَكانِ؛ يُقال: فلانةٌ قريبةٌ منِّي، أي: في النَّسَبِ، وبعيدةٌ مني، أي: في النَّسَبِ، أمَّا إذا أُريدَ القُربُ في المكانِ، فإنَّه يجوزُ الوَجهانِ؛ فيُقالُ: فلانةٌ قريبةٌ وقريبٌ، وبعيدةٌ وبعيدٌ؛  قال الله تعالى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 83] ، وَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63] . وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

إنَّ ربَّكم- أيُّها النَّاسُ- هو اللهُ الذي خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ في سِتَّةِ أيَّامٍ، ثمَّ علا على العَرشِ، يُغَطِّي سبحانَه بظُلمةِ اللَّيلِ ضَوءَ النَّهارِ، ويغطِّي بضَوءِ النَّهارِ ظُلمةَ اللَّيلِ، وكلٌّ منهما يطلُبُ الآخَرَ طلبًا سريعًا، لا يتأخَّرُ عنه، وخلَقَ الشَّمسَ والقَمَرَ والنُّجومَ مُذَلَّلاتٍ بأمرِه وتدبيرِه لمنافِعِ الخَلقِ، ألَا له وَحدَه- عَزَّ وجَلَّ- الخَلقُ والأمرُ، عظُمَ سبحانَه وتقَدَّسَ، هو ربُّ العالَمينَ.

ثمَّ أمَرَ اللهُ النَّاسَ أن يدعوه أذِلَّةً خاشعينَ له، مُخْفِينَ دُعاءَهم فيما بينهم وبينَه؛ إنَّه سُبحانه لا يُحِبُّ المعتَدينَ.

ثم نهى سبحانَه النَّاسَ عن الإفسادِ في الأرضِ بعد إصلاحِها، وأمرهم أنْ يَدعُوه خائفينَ مِن غَضَبِه وعِقابِه، وطامعينَ في رِضاه وثَوابِه؛ إنَّ رَحمةَ اللهِ قَريبٌ مِنَ المُحسنينَ.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

أي: إنَّ سيِّدَكم وخالِقَكم، ومالِكَكم ومُدَبِّرَ شُؤونِكم- أيُّها النَّاسُ- هو اللهُ المُستحِقُّ للعبادةِ، الذي خلق السَّمواتِ والأرضَ وما فيهما وما بينهما، في سِتَّةِ أيَّامٍ

.

كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [يونس: 3] .

وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة: 4-5] .

ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ

أي: ثمَّ علا اللهُ على العَرشِ علوًّا يليقُ بجلالِه، بلا تكييفٍ، ولا تشبيهٍ، ولا تعطيلٍ .

يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا

أي: يُغطِّي اللهُ تعالى بظُلمةِ اللَّيلِ ضَوءَ النَّهارِ، ويُغَطِّي بضَوءِ النَّهارِ ظُلمةَ اللَّيلِ، وكلٌّ منهما يطلُبُ الآخَرَ طَلبًا سريعًا، لا يتأخَّرُ عنه .

كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:37- 40] .

وقال سبحانه: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [النور: 44] .

وقال عزَّ وجلَّ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [فاطر: 13] .

وقال تبارك وتعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: 5] .

وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ

أي: وخلَقَ اللهُ عزَّ وجلَّ الشَّمسَ والقَمرَ والنُّجومَ مُذَلَّلاتٍ بأمرِ اللهِ، وتدبيرِه لمنافِعِ الخَلقِ .

كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 12] .

أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ

أي: ألَا لله تعالى وحْدَه صِفَةُ الخَلقِ؛ فهو الذي أوجَدَ جَميعَ المخلوقاتِ، وهو الذي يملِكُها ويتصَرَّفُ فيها، وله وَحدَه الأمرُ كلُّه، فيأمُرُ خَلقَه بما يشاءُ مِن أوامِرَ كونيَّةٍ وشرعيَّةٍ .

كما قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] .

وقال سبحانه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [يونس: 31] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص: 68] .

وقال تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران: 154] .

وقال جلَّ وعلا: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد: 41] .

تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ

أي: عظُمَ المعبودُ سبحانه وتعالى، وتقدَّسَ وتنزَّه عن كلِّ نَقصٍ وعَيبٍ، وكَثُرَت برَكاتُه وخَيراتُه، هو خالِقُ كُلِّ شَيءٍ ومالِكُه، ومُدَبِّرُ شؤونِ جَميعِ خَلقِه .

كما قال تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 78].

وقال سبحانه: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجاثية: 36-37] .

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً

أي: ادْعُوا- أيُّها النَّاسُ - خالِقَكم وسَيِّدَكم، ومُدَبِّرَ شُؤُونِكم، ادْعُوه وَحْدَه، أذلَّاءَ خاشِعينَ له وخاضعينَ، مُخفِيَن دُعاءَكم فيما بينكم وبينه، سواءٌ كان دُعاءَ مسألةٍ وطَلَبٍ، أو دُعاءَ عبادةٍ؛ كالصَّلاةِ وغَيرِها .

كما قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205] .

وقال سُبحانَه عن نَبِيِّه زكريَّا عليه السَّلامُ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3] .

وعن أبي مُوسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: كُنَّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فجعل النَّاسُ يجهَرونَ بالتَّكبيرِ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّها النَّاسُ، ارْبَعُوا على أنفُسِكم ؛ إنَّكم ليس تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غائبًا، إنَّكم تَدْعونَ سَميعًا قريبًا، وهو معكم )) .

إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان دُعاءُ التَّضَرُّعِ والخُفيَةِ يقابِلُ الاعتداءَ بعَدَمِ التضَرُّعِ والخُفيةِ؛ عقَّبَ ذلك بقَولِه تعالى :

إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

أي: إنَّ ربَّكم لا يُحِبُّ المُتجاوِزينَ للحُدودِ التي حدَّها لعبادِه، في الدُّعاءِ وغَيرِه مِنَ الأمورِ .

كما قال تعالى: وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190] .

وعن أبي نعامة، ((أنَّ عبدَ اللهِ بنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابنًا له يقولُ: اللهمَّ إنِّي أسألُكَ القَصرَ الأبيضَ مِنَ الجنَّةِ إذا دخَلْتُها عن يميني، فقال له: يا بُنَيَّ، سلِ اللهَ الجنَّةَ، وتعوَّذْه مِنَ النَّارِ؛ فإنِّي سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: سيكونُ بَعدِي قومٌ مِن هذه الأمَّةِ يَعتَدونَ في الدُّعاءِ والطُّهورِ )) .

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أنبَأَ الكلامُ السَّابِقُ في قَولِه تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ عَن عِنايةِ اللهِ بالمُسلمينَ وتَقريبِه إيَّاهم؛ إذ أمَرَهم بأن يَدْعُوه، وشَرَّفَهم بذلك العُنوانِ العَظيمِ في قَولِه: رَبَّكُمْ، وعَرَّضَ لهم بمَحَبَّتِه إيَّاهم دُونَ أعدائِهم المُعتَدينَ- أعقَبَه بما يحولُ بَينَهم وبينَ الإدلالِ على اللهِ؛ بالاسترسالِ فيما تُمليِه عليهم شَهَواتُهم مِن ثَوَرانِ القُوَّتَينِ الشَّهْويَّةِ والغَضَبيَّة؛ فإنَّهما تَجنيانِ فَسادًا في الغَالِبِ، فذَكَّرَهم بتَرْكِ الإفسادِ؛ ليكونَ صَلاحُهم مُنَزَّهًا عن أن يُخالِطَه فَسادٌ ، فقال:

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا

أي: ولا تُفسِدوا- أيُّها النَّاسُ- في الأرضِ بالشِّركِ والمعاصي، وغيرِ ذلك مِن أنواعِ الفَسادِ، بعد أن أصلَحَ اللهُ تعالى الأرضَ؛ بإرسالِ الرُّسُلِ، وتقريرِ التَّوحيدِ، وبيانِ الشَّريعةِ، وعَمَلِ الطَّاعاتِ .

كما قال تعالى: وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77] .

وقال سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 11-12] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة: 205] .

وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا

أي: وادعُوا اللهَ عزَّ وجلَّ واعبُدُوه، مخلصينَ له في دُعائِكم وعِبادَتِكم، وأنتم في حالِ خَوفٍ مِن غَضَبِ اللهِ وعِقابِه، وطَمَعٍ في رضا اللهِ وثَوابِه .

إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان قولُه: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا مُشتمِلًا على جميعِ مَقاماتِ الإيمانِ والإحسانِ، وهي الحُبُّ والخَوفُ والرَّجاءُ- عَقَّبَها ببيانِ أنَّ مَن دعاه خوفًا وطمَعًا، فهو المُحسِنُ، والرَّحمةُ قَريبٌ منه؛ لأنَّ مَدارَ الإحسانِ على هذه الأصولِ الثَّلاثةِ، فقال سبحانه :

إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

أي: إنَّ رحمةَ اللهِ في الدُّنيا والآخِرةِ مرجُوَّةُ الحُصُولِ للمُحسِنينَ في عبادةِ اللهِ، المُحسِنينَ إلى عِبادِ اللهِ .

كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 156] .

وقال سُبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يقولُ اللهُ عَزَّ وجلَّ: أنا عندَ ظَنِّ عَبدِي، وأنا معه حين يَذكُرُني، فإنْ ذَكَرَني في نفسِه ذَكَرْتُه في نفسِي، وإنْ ذَكَرَني في ملأٍ ذَكَرْتُه في ملأٍ خَيرٍ منه، وإنِ اقتَرَب إليَّ شِبرًا، تقرَّبْتُ إليه ذِراعًا، وإن اقتَرَب إليَّ ذِراعًا، اقتربتُ إليه باعًا، وإنْ أتاني يمشي أتيتُه هَرولةً ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ لَمَّا نسَبَ تعالى نفسَه إلينا، سَمَّى نَفسَه في هذه الحالةِ بالرَّبِّ، وهو مُشعِرٌ بالتَّربيةِ وكثرةِ الفَضلِ والإحسانِ، فكأنَّه يقولُ: مَن كان له مُرَبٍّ مع كَثرةِ هذه الرَّحمةِ والفَضلِ، فكيف يليقُ به أن يشتغِلَ بعبادةِ غَيرِه

؟!

2- في قولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إنْ قِيل: وما الحكمةُ في خلقِها في ستةِ أيَّامٍ، وكان قادرًا على خلقِها في طرفةِ عينٍ؟ قِيل: لأنَّ خلقَها على التأنِّي أدلُّ على حكمتِه، ولُطفِ تدبيرِه، وفيه أيضًا تعليمُ النَّاس، وتنبيهُ العبادِ على التأنِّي في الأُمورِ، وأنَّ لكلِّ شيءٍ عندَه أجلًا .

3- في قوله تعالى: تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تنبيهٌ على ما في هذا العالَمِ مِنَ الخَيراتِ والنِّعَمِ، التي تُوجِبُ لله تعالى الشُّكرَ والعبادةَ على عبادِه، دون ما عَبَدُوه معه، وليس لهم مِنَ الخَلقِ ولا مِنَ الأمْرِ شَيءٌ .

4- في قَولِ الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الحثُّ على الدُّعاءِ .

5- قولُه تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فيه أن الدُّعاءَ الخفِيَّ أفضَلُ وأعظَمُ مِنَ الدُّعاءِ الذي هو جَهرٌ وعلانِيَةٌ؛ وذلك لأنَّ إخفاءَ الدُّعاءِ أبعَدُ مِنَ الرِّياءِ، ولأنَّه يدلُّ على ثِقَةِ العَبدِ بأنَّ رَبَّه عالِمٌ بما خَفِيَ وما ظَهَرَ، لا يخفى عليه شيءٌ .

6- قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المقصودُ مِنَ الدُّعاءِ أن يصيرَ العَبدُ مُشاهِدًا لحاجةِ نَفسِه، ولِعجزِ نَفسِه، ومُشاهِدًا لِكَونِ مَولاه مَوصوفًا بكمالِ العِلمِ والقُدرةِ والرَّحمةِ، فكلُّ هذه المعاني دخَلَتْ تحت قولِه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا ثم إذا حَصَلَت هذه الأحوالُ على سبيل الخُلوصِ، فلا بُدَّ مِن صَونِها عنِ الرِّياءِ المبطِلِ لحقيقةِ الإخلاصِ، وهو المرادُ مِن قَولِه تعالى: وَخُفْيَةً والمقصودُ مِن ذِكرِ التَّضَرُّعِ تحقيقُ الحالةِ الأصليَّةِ المطلوبةِ مِنَ الدُّعاءِ، والمقصودُ مِن ذِكرِ الإخفاءِ صَونُ ذلك الإخلاصِ عن شَوائِبِ الرِّياءِ، وإذا عرَفْتَ هذا المعنى ظهَرَ لك أنَّ قولَه سبحانه: تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً مُشتمِلٌ على كلِّ ما يُرادُ تَحقيقُه وتحصيلُه في شرائِطِ الدُّعاءِ، وأنَّه لا يزيدُ عليه ألبتَّةَ بوجهٍ مِنَ الوُجوهِ .

7- قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ مِنَ الاعتداءِ في الدُّعاءِ ما هو خاصٌّ باللَّفظِ، كالتكَلُّفِ والسَّجعِ، والمبالغةِ في رَفعِ الصَّوتِ؛ فقد صَحَّ النَّهيُ عن ذلك، ومنها ما هو خاصٌّ بالمعنى، وهو طلَبُ غيرِ المَشروعِ مِن وَسائِلِ المعاصي ومَقاصِدِها- كضرَرِ العِبادِ، وأسبابِ الفَسادِ- وطلَبُ المُحالِ الشَّرعيِّ أو العَقليِّ، كطلَبِ إبطالِ سُنَنِ اللهِ في الخَلقِ، وتبديلِها أو تَحويلِها، ومنه طلَبُ النَّصرِ على الأعداءِ مَع تَركِ وسائِلِه- كأنواعِ السِّلاحِ والنِّظامِ- والغِنى بدونِ كَسْبٍ، والمغفرةِ مع الإصرارِ على الذَّنبِ. واللهُ تعالى يقولُ: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43] .

8- دلَّ قولُه تعالى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ عَقيبَ قَولِه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً على أنَّ مَن لم يَدْعُه تضرُّعًا وخُفيةً فهو مِنَ المُعتدينَ الذين لا يُحِبُّهم سبحانه، فقَسَّمَتِ الآيةُ النَّاسَ إلى قِسمينِ: داعٍ للهِ تَضَرُّعًا وخُفيةً؛ ومُعتدٍ بتَرْكِ ذلك .

9- قال اللهُ تعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا هذا نهيٌ عن إيقاعِ الفَسادِ في الأرضِ، وإدخالِ ماهِيَّتِه في الوجودِ، فيتعَلَّقُ بجميعِ أنواعِه؛ مِن إفسادِ النُّفوسِ والأنسابِ، والأموالِ والعُقولِ والأديانِ .

10- قال الله تعالى: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا لَمَّا كان الدُّعاءُ مِنَ اللهِ بمكانٍ؛ كرَّرَه، فقال أوَّلًا: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وهاتان الحالتانِ مِنَ الأوصافِ الظَّاهرةِ؛ لأنَّ الخُشوعَ والاستكانةَ وإخفاءَ الصَّوتِ، ليسَتْ مِنَ الأفعالِ القَلبيَّةِ، ثمَّ قال ثانيًا: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا أي: وَجِلِينَ مُشفِقينَ، وراجِينَ مُؤَمِّلينَ؛ فبدأ أوَّلًا بأفعالِ الجَوارِحِ، ثمَّ ثانيًا بأفعالِ القُلوبِ، وعطْفُ خَوْفًا على طَمَعًا يقتضي أن يكونَ الخَوفُ والرَّجاءُ مُتَساوِيَينِ؛ ليكونا للإنسانِ كالجَناحينِ للطَّائِرِ، يحمِلانِه في طريقِ استقامةٍ، فإنِ انفَرَدَ أحدُهما هلَكَ الإنسانُ .

11- اشتمَلَ قولُه تعالى: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا على جميعِ مقاماتِ الإيمانِ والإحسانِ، وهي: الحبُّ والخَوفُ والرَّجاءُ؛ ولذلك أعقَبَها بقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، أي: إنما تَنالُ مَن دعاه خوفًا وطَمَعًا، الذي هو المحسنُ، والرَّحمةُ قريبٌ منه؛ لأنَّ مدارَ الإحسانِ على هذه الأصولِ الثَّلاثةِ .

12- اشتمَلَ قولُه عزَّ وجلَّ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ على آدابِ نَوعَيِ الدُّعاءِ- دُعاءِ العبادةِ، ودُعاءِ المسألةِ؛ فإنَّ الدُّعاءَ في القُرآنِ يُرادُ به هذا تارةً، وهذا تارةً، ويُرادُ به مجموعُهما، وهما مُتلازمانِ، فدعاءُ المسألةِ هو طلَبُ ما ينفَعُ الداعيَ، وطلبُ كَشْفِ ما يضرُّه أو دَفْعِه، وكلُّ مَن يملكُ الضُّرَّ والنَّفعَ، فهو المعبودُ حقًّا، فهو يُدعَى للنَّفعِ والضُّرِّ دُعاءَ المسألةِ، ويُدعى خوفًا ورجاءً دُعاءَ العِبادةِ، فعُلِمَ أنَّ النَّوعينِ مُتلازمانِ؛ فكلُّ دعاءِ عبادةٍ، مُستلزِمٌ لِدُعاءِ المسألةِ، وكُلُّ دعاءِ مَسألةٍ مُتضَمِّنٌ لدُعاءِ العبادةِ .

13- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ تحريضٌ على الإحسانِ وترغيبٌ فيه، ووجهُ ذلك: أنَّ قُرْبَه تبارك وتعالى مِنَ المحسنينَ وقُرْبَ رَحمَتِه منهم؛ مُتلازمانِ، وقُرْبُ اللهِ تعالى من عبده هو غايةُ الأماني ونهايةُ الآمالِ؛ فإذا كانت رحمتُه قريبةً منهم، فهو أيضًا قريبٌ منهم- سبحانَه؛ بسبَبِ إحسانِهم، وكُلَّما كان العبدُ أكثَرَ إحسانًا، كان أقرَبَ إلى رحمةِ رَبِّه تعالى،  وكان ربُّه قريبًا منه برَحمَتِه .

14- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ تنبيهٌ ظاهرٌ على أنَّ فِعْلَ هذا المأمورِ به هو الإحسانُ المطلوبُ منكم؛ وأنَّ مَطلوبَكم أنتم مِن اللهِ هو رحمَتُه؛ وأنَّ رحمتَه قريبٌ مِنَ المُحسنينَ، الذين فَعَلوا ما أُمِرُوا به مِن دعائِه خَوفًا وطمعًا؛ فقُرْبُ مطلوبِكم منكم- وهو الرَّحمةُ- يكون بحَسَبِ أدائِكم لِمَطلوبِه منكم- وهو الإحسانُ- الذي هو في الحقيقةِ إحسانٌ إلى أنفسِكم؛ فإنَّ اللهَ تعالى هو الغنيُّ الحميدُ، قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الإسراء: 7] .

15- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ دلالةٌ على أنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ، فكما أحسَنُوا بأعمالِهم، أَحسنَ اللهُ إليهم برَحْمَتِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ دلالةٌ على بُطلانِ تأويلِ الاستواءِ بمعنى المُلْكِ؛ لأنَّه سبحانه أَخبَرَ أنَّه خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ في سِتَّةِ أيَّامٍ، ثم استوى على العَرشِ؛ وقد أَخبرَ أنَّ العَرشَ كان موجودًا قبل خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ- كما دلَّ على ذلك الكِتابُ والسنَّةُ - وحينئذٍ فهو مِن حِينِ خلَقَ العرشَ مالكٌ له مُسْتَولٍ عليه؛ فكيف يكونُ الاستواءُ عليه مؤخَّرًا عن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ؟! وأيضا فاللهُ مالكٌ لكُلِّ شَيءٍ، مُستَولٍ عليه؛ فكيف يُخصُّ العرشُ بالاستواءِ

؟!

قولُه سبحانَه: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فيه التمييزُ بين إرادةِ الله لما يخلقُه في عبادِه، وإرادتِه لما يأمرُ به عبادَه، وكثيرٌ مِن الناسِ تشتبهُ عليهم الحقائِقُ الأمريَّةُ الدِّينيَّةُ الإيمانيَّةُ بالحقائقِ الخلقِيَّةِ القدريَّةِ الكونِيَّةِ، فالله سبحانه خالقُ كلِّ شيءٍ ورَبُّه ومَليكُه، لا خالِقَ غَيْرُه، ولا رَبَّ سواه، فكلُّ ما في الوجودِ مِن حركَةٍ وسُكونٍ فبقضائِه وقَدَرِه، ومَشيئَتِه وقُدْرَتِه وخَلْقِه، وكلُّ ما خلقَه فبإرادتِه خلَقَه، فما شاء الله كان، وما لم يشأْ لم يكُنْ، فما لم يكُنْ لم يُرِدْ أن يخلقَه، وما كان فقد أراد أن يخلقَه، وهو لا يريدُ أن يخلقَ إلا ما سبَق علمُه بأنَّه سيخلقُه، فإنَّ العلمَ يطابقُ المعلومَ، وهو سبحانَه أمَر بطاعتِه وطاعةِ رسلِه، ونَهَى عن معصِيَتِه ومعصيَةِ رُسُلِه، فأمَر العبادَ بالحسناتِ التي تنفعُهم، ونهاهم عن السيئاتِ التي تضرُّهم، والحسناتُ محبوبةٌ لله مرضيةٌ، والسيئاتُ مكروههٌ له يسخطُها، ويسخطُ على أهلِها، وإن كان الجميعُ مخلوقًا له .

قَولُ اللهِ تعالى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فيه ردٌّ على القائلينَ بخَلقِ القُرآنِ؛ لأنَّه فرَّقَ بين المَخلوقاتِ وبَيْنَ الأمرِ؛ لأنَّ أمْرَه- عزَّ وجَلَّ- بكلامِه، فكَلامُه غيرُ داخلٍ في خَلقِه .

قَولُ الله تعالى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ افتُتِحَتِ الجُملةُ بحَرفِ التَّنبيهِ (ألَا)؛ لتَعِيَ نفوسُ السَّامعينَ هذا الكلامَ الجامِعَ .

قَولُ اللهِ تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً فيه أنَّ الإخفاءَ مُعتبَرٌ في الدُّعاءِ؛ فاللهُ تعالى أمَرَ بالدُّعاءِ مقرونًا بالإخفاءِ، وظاهِرُ الأمرِ للوُجوبِ، فإن لم يحصُلِ الوُجوبُ، فلا أقَلَّ مِن كَونِه نَدبًا .

في قَولِه تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً دلالةٌ على جوازِ أنْ يشتكيَ المسلمُ إلى اللهِ ما نَزَلَ به مِن الضُّرِّ، وقد أجمَعَ المُسلمونَ على جوازِه .

في قَولِه تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وقَولِه: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا دلالةٌ على أنَّه سبحانه يُحبُّ أنْ يُسألَ، ويُرغَبَ إليه، ويُطلَبَ منه .

قال الله تعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا فاللهُ أصلَحَ الأرضَ بِرَسولِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودِينِه، وبالأمرِ بالتَّوحيدِ، ونهى عن فسادِها بالشِّركِ به، ومُخالَفةِ رَسُولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومَن تدَبَّرَ أحوالَ العالَمِ وَجَدَ كلَّ صَلاحٍ في الأرضِ، فسَبَبُه توحيدُ اللهِ، وعبادَتُه، وطاعةُ رَسُولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُلَّ شَرٍّ في العالَمِ، وفِتنةٍ وبَلاءٍ، وقَحطٍ وتَسليطِ عَدُوٍّ، وغير ذلك؛ فسَبَبُه مُخالفةُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، والدَّعوةُ إلى غَيرِ اللهِ .

قولُ الله تعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ الأصلَ في المَضَارِّ الحُرمةُ، والمَنعُ على الإطلاقِ .

قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا التَّصريحُ بالبَعْديَّةِ هنا، تسجيلٌ لِفَظاعةِ الإفسادِ بأنَّه إفسادٌ لِمَا هو حَسَنٌ ونافِعٌ، فلا مَعذِرةَ لِفاعِلِه، ولا مَساغَ لِفِعلِه عند أهلِ الأرْضِ .

قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا قَولُ اللهِ تعالى: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا أعاد الأمرَ بالدُّعاءِ بعد أنْ وَسَّطَ بينهما النَّهيَ عن الإفسادِ؛ للإيذانِ بأنَّ مَن لا يعرِفُ نفسَه بالحاجةِ والافتقارِ إلى رَحمةِ رَبِّه الغنيِّ القَديرِ، وفَضلِه وإحسانِه، ولا يدعوه تضَرُّعًا وخُفيةً، ولا خَوفًا مِن عِقابِه، وطَمَعًا في غُفرانِه، أنَّه يكونُ أقرَبُ إلى الإفسادِ منه إلى الإصلاحِ .

المناسبةُ في ذِكْرِ الطَّمعِ- الذي هو الرَّجاءُ- في آيةِ الدُّعاءِ: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا أنَّ الدُّعاءَ مبنيٌّ عليه، فإنَّ الدَّاعيَ ما لم يَطْمَعْ في سُؤَالِهِ ومَطلوبِه، لم تتحَرَّكْ نفسُه لطَلَبِه؛ إذ طَلَبُ ما لا طَمَعَ فيه، مُمتنِعٌ .

قَولُه تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ له دلالةٌ بِمَنطوقِه، ودَلالةٌ بإيمائِه وتعليلِه، ودَلالةٌ بمَفهومِه؛ فَدَلالَتُه بِمَنطوقِه: على قُربِ الرَّحمةِ مِن أهلِ الإحسانِ. ودَلالَتُه بإيمائِه وتَعليلِه: على أنَّ هذا القُربَ مُستَحَقٌّ بالإحسانِ، وهو السَّبَبُ في قُربِ الرَّحمةِ مِنهم. ودَلالَتُه بمَفهومِه: على بُعدِه مِن غيرِ المُحسنينَ؛ فهذه ثلاثُ دَلالاتٍ لِهذه الجُملةِ .

في قَولِه تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أنَّه إذا كانت الرَّحمةُ الإلهيَّةُ قَريبةً مِنَ المحسنينِ، فالموصوفُ تبارك وتعالى أَوْلى بالقُربِ منهم، بل قُربُ رَحمَتِه تبَعٌ لِقُربِه هو- تبارك وتعالى- مِنَ المُحسنينَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ... استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ عادَ به التَّذكيرُ إلى صَدْرِ السُّورةِ في قوله: وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أولِيَاءَ

، وفيه التأكيدُ بحرْف إِنَّ .

قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ فيه مِن بديعِ الإيجازِ، ورَشاقةِ التركيبِ: جَعْلُ اللَّيلِ والنَّهار مفعولَينِ لفِعلِ فاعلِ الإغشاءِ؛ فهما مفعولانِ، كِلاهما صالحٌ لأنْ يكونَ فاعل الغَشي؛ ولهذا استغنى بقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ عن ذِكر عَكسِه، ولم يقُل: (والنَّهارَ اللَّيلَ)، وقد شَبَّه ظهورَ ظلامِ اللَّيل في الأُفق ممتدًّا مِن المشرِق إلى المغربِ عندَ الغُروبِ، واختفاءَ نُورِ النَّهار في الأفقِ ساقطًا من المشرِقِ إلى المغربِ؛ حتَّى يعمَّ الظلامُ الأفقَ بطَلبِ اللَّيلِ النَّهار، على طريقةِ التَّمثيل، وكذلك يُفهَمُ تشبيهُ امتدادِ ضَوءِ الفجرِ في الأُفقِ من المشرِقِ إلى المغربِ، واختفاءِ ظلامِ اللَّيل في الأُفقِ ساقطًا في المغربِ؛ حتَّى يَعُمَّ الضياءُ الأُفقَ: بطلبِ النَّهارِ اللَّيلَ على وجْهِ التَّمثيل .

قوله: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ مُستأنفةٌ استئنافَ التَّذييلِ للكلامِ السَّابق من قوله: الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ لإفادةِ تَعميمِ الخَلْقِ .

التَّعريفُ في الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ تعريفُ الجِنسِ؛ فتُفيدُ الجملةُ قَصْرَ جِنسِ الخَلْقِ وجِنسِ الأمْرِ على الكونِ في مِلكِ اللهِ تعالى؛ فليس لغيرِه شيءٌ مِن هذا الجِنسِ، وهو قصرٌ إضافيٌّ معناه: ليس لآلهتِهم شيءٌ مِن الخَلْقِ ولا مِن الأَمْرِ .

وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لَهُ هنا؛ لتخصيصِه تَعالَى بالخَلْقِ والأَمْر .

قوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ استئنافٌ جاءَ مُعترِضًا بين ذِكرِ دَلائلِ وَحدانيَّةِ اللهِ تعالى بذِكرِ عظيمِ قُدرتِه على تكوينِ أشياءَ لا يُشارِكُه غيرُه في تَكوينِها؛ فالجملةُ مُعترِضةٌ بينَ جُملة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ وجُملةِ: وَهُو الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ، جرَى هذا الاعتراضُ على عادةِ القُرآنِ في انتهازِ فُرَصِ تهيُّؤِ القُلوبِ للذِّكْرَى .

وقَولُه: ادْعُوا رَبَّكُمْ فيه تعريفُ الربِّ بطريقِ الإضافةِ دون ضميرِ الغائبِ، مع وجودِ مُعادٍ قريبٍ في قوله: تَبَارَكَ اللَّهُ، ودون ضَميرِ المُتكلِّم؛ لأنَّ في لَفْظِ الربِّ إشعارًا بتقريبِ المؤمنِين بصِلةِ المربوبيَّة، وليُتوسَّلَ بإضافةِ الربِّ إلى ضميرِ المخاطَبِينَ إلى تَشريفِ المؤمنِينَ، وعنايةِ الرَّبِّ بهم .

وجُملةُ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ واقعةٌ موقِعَ التَّعليلِ للأمْرِ بالدُّعاءِ؛ إشارةً إلى أنَّه أمْرُ تَكريمٍ للمُسلِمينَ يَتضمَّنُ رِضا اللهِ عنهم، ولكن سَلَك في التَّعليلِ طَريقَ إثباتِ الشَّيءِ بإبطالِ ضِدِّه؛ تَنبيهًا على قَصْدِ الأَمْرَينِ، وإيجازًا في الكلامِ .

وبين قَولِه تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا وقولِه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً [الأعراف: 205] مُناسَبةٌ حَسنةٌ:

حيثُ ذُكِرَ التضرُّعُ فيهما معًا، وهو التذلُّلُ والتَّمَسكُنُ والانكسارُ، وهو رُوحُ الذِّكرِ والدُّعاءِ، وخُصَّ الدُّعاءُ بالخُفيةِ؛ لِما لإخفاءِ الدُّعاءِ مِن حِكَمٍ وفوائدَ كثيرةٍ.

وخُصَّ الذِّكرُ بالخِيفةِ؛ لحاجةِ الذَّاكرِ إلى الخوفِ، فإنَّ الذِّكرَ يستلزِمُ المحبَّةَ ويُثمِّرُها ولا بدَّ، والمحبَّةُ ما لم تُقرَن بالخوفِ، فإنَّها لا تنفَعُ صاحِبَها، بل قد تضُرُّه، فتأمَّلْ أسرارَ القُرآنِ وحِكمتَه في اقترانِ الخِيفةِ بالذِّكرِ، والخُفيةِ بالدُّعاءِ، مع دلالَتِه على اقترانِ الخيفةِ بالدُّعاءِ، والخُفيةِ بالذِّكرِ أيضًا؛ فإنه قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ فلم يحتَجْ بعدها أن يقولَ: (خُفيَة)، وقال في الدُّعاءِ: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا فلم يحتَجْ أن يقولَ في الأولى (ادعوا ربَّكم تضرُّعًا وخيفَةً) فانتظمت كلُّ واحدةٍ مِن الآيتَينِ، للخُفيةِ والخِيفةِ والتَّضرُّعِ، أحسَنَ انتظامٍ، ودلَّت على ذلك أكملَ دَلالةٍ.

وذُكِرَ الطَّمعُ الذي هو الرَّجاءُ في آيةِ الدُّعاءِ؛ لأنَّ الدُّعاءَ مَبنيٌّ عليه، فإنَّ الداعيَ ما لم يطمَعْ في سؤالِه ومَطلوبِه لم تتحَرَّكْ نفسُه لِطَلَبِه؛ إذ طلَبُ ما لا طمَعَ فيه ممتنِعٌ، وذُكِرَ الخَوفُ في آيةِ الذِّكرِ؛ لشدَّةِ حاجةِ الخائِفِ إليه، فذُكِرَ في كلِّ آيةٍ ما هو اللَّائقُ بها والأَولى بها، مِن الخوفِ والطَّمعِ، فتبارَكَ مَن أنزَلَ كلامَه؛ شِفاءً لِمَا في الصُّدور، وهُدًى ورَحمةً للمُؤمنينَ .

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ:

قولُه: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ في إيقاعِ هذا النَّهيِ عقِبَ قولِه: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ تعريضٌ بأنَّ المُعتدِين مُفسِدون في الأرضِ، وإرْباءٌ للمُسلِمينَ عن مُشابهتِهم، أي: لا يَليقُ بكم- وأنتم المقرَّبون مِن ربِّكم، المأذونُ لكم بدُعائِه- أنْ تكونوا مِثلَ المُبعَدِين منه المُبْغَضين .

وقولُه: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا فيه إيجازٌ بالحَذْفِ، والتَّقديرُ: وادْعُوه خوفًا وطمعًا وأحْسِنوا؛ بقرينةِ تَعقيبِه بقولِه: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .

وقولُه: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فيه التَّأكيدُ بقولِه: إِنَّ، وهي لمُجرَّدِ الاهتمامِ بالخبرِ، وقد سكَتَ عن ضدِّ المحسنين رِفقًا بالمؤمنِين، وتعريضًا بأنَّهم لا يُظَنُّ بهم أنْ يُسِيئوا فتَبْعُد الرَّحمةُ عنهم .

في قَولِه تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إشارةٌ إلى قُرْبِ اللهِ تعالى مِن المُحسنينَ، وأيضًا قُرْبِ رَحمتِه منهم، ووجهُ ذلك: هو الإخبارُ عن الرَّحمةِ- وهي مؤنَّثةٌ بالتاءِ- بِقَولِه (قريبٌ) وهو مذكرٌ، وهذا مِن باب الاستغناءِ بأحَدِ المذكُورَينِ عن الآخَرِ؛ لكونه تبَعًا له ومعنًى مِن معانيه، فاستغنى بخَبَرِ المحذوفِ عن خبَرِ الموجودِ، وَسَوَّغَ ذلك ظهورُ المعنى؛ ففي حذف التاء هاهنا تنبيهٌ على هذه الفائدةِ العَظيمةِ الجليلةِ، ولو قال: إنَّ رحمةَ اللهِ قريبةٌ مِنَ المحسنينَ؛ لم يدُلَّ على قُربِه تعالى منهم؛ لأنَّ قُربَه تعالى أخَصُّ مِن قُربِ رَحمَتِه، والأعَمُّ لا يستلزِمُ الأخَصَّ، بخلافِ قُربِه؛ فإنَّه لَمَّا كان أخَصَّ استلزَمَ الأعَمَّ، وهو قُربُ رَحمَتِه

==========

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيتان (57-58)

ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ

غريب الكلمات:

 

بُشْرًا: أي: مُبَشِّراتٍ بالغَيثِ، والبُشرى تُطلَقُ على  الإِخْبار بِمَا يَسُرُّ، وما يُعطَى للمُبشَّرِ، وأصلُ (بشر): ظهورُ الشَّيءِ مع حُسْنٍ وجَمالٍ

.

أَقَلَّتْ: أي: حمَلَتْ؛ يُقال: أقلَّ فلَانٌ الشَّيْءَ واستقلَّ به: إذا أطاقَه وحمَلَه، وأقْلَلْت كذا: وجدتَه قليلَ المحمَلِ أي: خفيفًا، وأصلُ (قلل): يدلُّ على نَزارةِ الشَّيءِ، وعلى الانزعاجِ الذي هو خِلافُ الاستقرارِ .

خَبُثَ: أي: رَدُؤَت تُرْبَتُه، وَمَلُحَتْ مَشَارِبُه، والخُبْثُ والخَبِيثُ: ما يُكرَهُ رداءةً وخَساسةً، مَحسوسًا كان أو معقولًا، وأصْل (خبث): يَدُلُّ على خِلافِ الطَّيِّبِ، وعلى الرَّدِيءِ .

نَكِدًا: قَلِيلًا عَسِرًا، أو عديمَ النَّفْعِ، والنَكِدُ: كُلُّ شيءٍ خَرَجَ إلى طالبِه بتعسُّرٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه هو الذي يُرسِلُ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بنُزُولِ المَطَرِ، الذي يرحَمُ به خَلقَه، حتَّى إذا حمَلَت تلك الرِّياحُ سحابًا مُثقَلًا بالماءِ، ساقَه اللهُ لبَلَدٍ مَيِّتٍ، فأخرجَ به مِن جَميعِ الثَّمراتِ، فكَما يُحيِي هذا البَلَدَ المَيِّتَ بما يُنْزِلُ فيها مِنَ الماءِ، فيُخرِجُ به مِنَ الثَّمراتِ، بعد مَوتِه وجُدُوبَتِه وقُحُوطِ أهلِه، كذلك يُخرِجُ المَوتى مِن قُبورِهم أحياءً بعد فَنائِهم؛ لعَلَّكم- أيُّها النَّاسُ- تَعتَبِرونَ.

ثم أخبَرَ تعالى أنَّ الأرضَ الطَّيِّبةَ يخرُجُ نباتُها- بإذنِ اللهِ- سريعًا حَسَنًا طَيِّبًا، والأرضُ الرَّديئةُ لا يخرُجُ نَباتُها إلَّا خُروجًا عَسِرًا بطيئًا، مسلوبَ النَّفعِ والخَيرِ والبَرَكةِ، كذلك يُبَيِّنُ اللهُ الآياتِ لِقَومٍ يَشكرونَ.

تفسير الآيتين:

 

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(57)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لِتعَلُّقِ الآيةِ بما قَبلَها عِدَّةُ أوجُهٍ:

الأول: لما ذكَر اللهُ تعالى دلائلَ الإلهيَّة، وكمالَ العلمِ والقُدرة مِن العالمِ العُلوي، وهو السمواتُ والشَّمس والقمرُ والنُّجوم- أتبَعه بذكرِ الدَّلائلِ مِن بعضِ أحوالِ العالمِ السُّفلي

.

الثاني: لَمَّا أقامَ اللهُ تعالى الدَّلالةَ في الآيةِ الأولى- والتي هي قَولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- على وُجُودِ الإلهِ القادِرِ العالِمِ، الحكيمِ الرَّحيمِ؛ أقام الدَّلالةَ في هذه الآيةِ على صِحَّةِ القَولِ بالحَشرِ والنَّشرِ والبَعثِ والقِيامةِ؛ ليحصُلَ بِمَعرفةِ هاتينِ الآيتينِ كُلُّ ما يُحتاجُ إليه في مَعرفةِ المَبدأِ والمَعَادِ .

الثالث: لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى رَحمَتَه، وأنَّها قَريبٌ مِنَ المُحسنينَ، ذَكَّرَنا بما نغفلُ عنه كثيرًا مِنَ التفَكُّرِ والتأمُّلِ في أظهَرِ أنواعِ رَحْمَتِه: وهو إرسالُ الرِّياحِ، وما فيها مِن مَنافِعِ الخَلقِ، وإنزالِ المَطَرِ، الذي هو مَصدَرُ الرِّزقِ، وسَبَبُ حياةِ كُلِّ حَيٍّ في هذه الأرضِ، وما فيه مِنَ الدَّلالةِ على قُدرَتِه تعالى على البَعِث، وما يستحِقُّه عليه مِنَ الحَمدِ والشُّكرِ، فقال :

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: بُشْرًا قراءاتٌ؛ منها:

بُشْرًا جمعُ بَشيرٍ، مِنَ البِشارةِ، فالرِّيحُ تُبَشِّرُ بالمطَرِ .

نُشُرًا جمع: ناشِرٍ، من النَّشْرِ، ضِد الطَّيِّ، وقيل: مِنَ النُّشُورِ بمعنى الإِحياءِ، فجَعَلَ الرِّيحَ ناشِرةً للأرضِ، أي مُحْيِيةً لها؛ إذ تأتي بالمَطَرِ الذي يكونُ النَّباتُ به. وقيل (نُشُرًا) جمعُ: نشُورٍ، بمعنى: مَنشورٍ، أي: إنَّ الله تعالى أحيا الرِّيحَ؛ إذ بعَثَها لتأتِيَ بين يَدَيْ رَحْمَتِه، فهي ريحٌ منشورةٌ، أي مُحْياةٌ .

نَشْرًا قيل: النَّشْرُ صِنْفٌ مِنَ الرِّيَاحِ الطّيبَةِ اللَّينةِ الَّتِي تُنشئُ السَّحَابَ، وقيل: مصدَرُ: نَشَرَت الرِّيحُ السَّحَابَ: نَشْرًا، فالمعنى: هو الذي يُرسِلُ الرِّياحَ ناشِرةً للسَّحابِ .

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ

أي: واللهُ الذي يُرسِلُ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بنُزُولِ المَطَرِ، الذي يرحَمُ اللهُ به خَلْقَه .

كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الروم: 46] .

وقال سبحانه: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم: 50] .

حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ

أي: حتَّى إذا حمَلَتْ هذه الرِّياحُ سَحابًا ثقيلةً، مِن كَثرةِ ما فيها مِنَ الماءِ؛ سُقْنا السَّحابَ إلى بَلَدٍ ذِي أرضٍ مَيِّتةٍ مُجدِبةٍ، لا نباتَ فيها، فأنزَلْنا فيها الماءَ يتقاطَرُ مِن ثُقُوبِ ذلك السَّحابِ، فأخرَجْنا بسبَبِه مِن كُلِّ أنواعِ الثَّمَراتِ .

كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ [النور: 43] .

وقال سبحانه: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر: 9] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [يس: 33 - 35] .

وقال تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [السجدة: 27] .

كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

أي: كما أحيَيْنا البلَدَ المَيِّتَ بالماءِ، فأخرَجْنا به مِن كُلِّ الثَّمَراتِ؛ كذلك نُخرِجُ المَوتى مِن قُبورِهم أحياءً؛ لعلَّكم بما بَيَّنَّاه لكم تعتبرونَ، فتَستَدِلُّونَ به على قدرةِ اللهِ على البَعثِ، فإحياءُ الأمواتِ كإحياءِ الأرضِ بالنَّباتِ .

كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39] .

وقال سبحانه: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف: 11] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 9-11] .

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذه الآيةَ تضَمَّنَت تفصيلًا لمضمونِ جُملةِ: فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ؛ إذ قد بيَّنَ فيها اختلافَ حالِ البَلَدِ الذي يُصيبُه ماءُ السَّحابِ، ودعا إلى هذا التَّفصيلِ أنَّه لَمَّا مَثَّلَ إخراجَ ثَمَراتِ الأرضِ بإخراجِ الموتى منها يومَ البَعثِ؛ تذكيرًا بذلك للمُؤمنينَ، وإبطالًا لإحالةِ البَعثِ عند المُشركينَ- مَثَّلَ هنا باختلافِ حالِ إخراجِ النَّباتِ مِنَ الأرضِ، اختلافَ حالِ النَّاسِ الأحياءِ في الانتفاعِ برحمةِ هُدى اللهِ ، فقال تعالى:

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ

أي: والأرضُ الطَّيِّبةُ تُربَتُها، يَخرُجُ نَباتُها- إذا أنزَلَ اللهُ المطَرَ- سريعًا حَسنًا طَيِّبًا، بإرادةِ اللهِ ومَشيئَتِه .

وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا

أي: والأرضُ الرَّديئةُ تُربَتُها، لا يخرُجُ نَباتُها- إذا أنزَلَ اللهُ المَطَرَ- إلَّا خُروجًا عَسِرًا بَطيئًا، مسلوبًا منه النَّفعُ والخَيرُ، لا بَرَكةَ فيه .

وعن أبي مُوسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: ((إنَّ مَثَلَ ما بعثَني اللهُ به عزَّ وجلَّ مِنَ الهُدى والعِلمِ؛ كَمَثلِ غَيثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفةٌ طيِّبةٌ، قَبِلَتِ الماءَ، فأنبَتَتِ الكَلَأَ والعُشبَ الكثيرَ، وكان منها أجادِبُ أمسَكَتِ الماءَ، فنَفَعَ اللهُ بها النَّاسَ، فشَرِبوا منها وسَقَوْا ورَعَوْا، وأصابَ طائفةً منها أخرى، إنَّما هي قِيعانٌ ؛ لا تُمسِكُ ماءً، ولا تُنبِتُ كَلأً، فذلك مَثَلُ مَن فَقُه في دِينِ اللهِ، ونَفَعَه بما بعَثَني اللهُ به، فعَلِمَ وعلَّم، ومَثَلُ مَن لم يَرفَعْ بذلك رأسًا، ولم يقبَلْ هُدى اللهِ الذي أُرسِلْتُ به )) .

كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ

أي: ومِثلَما نوَّعْنا الآياتِ الدَّالَّةَ على إبطالِ الشِّركِ، وإثباتِ رُبوبيَّةِ اللهِ تعالى وألوهِيَّتِه، وعظيمِ قُدرَتِه على البَعثِ والنُّشورِ، وغير ذلك، ننوِّعُ أيضًا الآياتِ في كُلِّ ما يَحتاجُ إليه النَّاسُ، فنأتي بآيةٍ بعد آيةٍ، في أساليبَ مُختلفةٍ، لقومٍ يَشكرونَ اللهَ تعالى على نِعَمِه، معترفينَ بها ومُقِرِّينَ، ولله تعالى طائعينَ، فهم الذين ينتفعونَ بتلك الآياتِ، ويتَّعظونَ بالحُجَجِ والدَّلالاتِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

الحِرصُ على التذكُّرِ والتفَكُّرِ في آلاءِ اللهِ، والنَّظَرُ إليها بِعَينِ الاعتبارِ والاستدلالِ، لا بِعَينِ الغَفلةِ والإهمالِ؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قَولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذِلَكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

.

قال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ هذا مِثالٌ لِلقُلوبِ حينَ يَنزِلُ عليها الوَحيُ الذي هو مادَّةُ الحياةِ، كما أنَّ الغَيثَ مادَّةُ الحياةِ؛ فإنَّ القُلوبَ الطَّيبةَ حين يَجِيئُها الوَحيُ، تَقبَلُه وتَعلَمُه، وتُنْبِتُ بحَسَبِ طِيبِ أَصلِها، وحُسنِ عُنصُرِها، وأمَّا القُلوبُ الخَبيثةُ التي لا خَيرَ فيها، فإذا جاءَها الوحيُ لم يجِدْ مَحَلًّا قابلًا، بل يجِدُها غافلةً مُعرضةً، أو مُعارِضةً، فيكون كالمَطَرِ الذي يمُـرُّ على السِّباخِ والرِّمالِ والصُّخورِ، فلا يؤثِّرُ فيها شيئًا، وهذا كَقَولِه تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا... الآيات .

في قَولِه تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ليس المقصودُ مُجَرَّدَ تفصيلِ أحوالِ الأرضِ بعد نُزولِ المَطَرِ؛ لأنَّ الغَرَضَ المسوقَ له الكلامُ يجمَعُ أمرينِ: العبرةَ بصُنعِ الله، والموعظةَ بما يماثِلُ أحوالَه، فكذلك يُخرِجُ اللهُ الموتى، وكذلك يَنتفِعُ برحمةِ الهُدى مَن خُلِقَت فِطرَتُه طيِّبةً قابلةً للهُدى، كالبلَدِ الطَّيِّبِ ينتَفِعُ بالمَطَرِ، ويُحرَمُ مِنَ الانتفاعِ بالهُدى مَن خُلِقَت فِطرَتُه خبيثةً، كالأرضِ الخبيثةِ لا تنتفِعُ بالمطرِ، فلا تُنبِتُ نباتًا نافعًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قال اللهُ تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ إجراءُ الرِّيحِ وانتشارُها من هاهنا وهاهنا أمامَ المَطَرِ مُبَشِّرةً به؛ مِن غرائِبِ صُنعِه عَزَّ وجَلَّ وعجائِبِه، ومن عظائِمِ نِعَمِه على خَلقِه، والمرادُ بالرَّحمةِ هنا: المطَرُ؛ لأنَّ المطَرَ رحمةُ اللهِ يرحَمُ بها عبادَه في الدُّنيا، فيكونونَ في جَدْبٍ وفي فَقرٍ، ومواشيهم على وشْكِ الهَلاكِ، فيُغيثُهم اللهُ بالمَطَر، فتَنْبُتُ زُرُوعُهم وثِمارُهم، وتَنعَمُ مواشِيهم؛ فتكثُرُ عندهم اللُّحومُ والأسمانُ والأزبادُ، وتتوفَّرُ عندهم الأشعارُ والأصوافُ والأوبارُ، يَنسِجونَ منها اللِّباسَ وغيرَه مِنَ الفُرُشِ والخِيامِ

.

قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ ريحُ المَطَرِ تكون لَيِّنةً؛ تجيءُ مرَّةً مِنَ الجَنوبِ، ومرَّةً مِنَ الشَّمالِ، وتتَفَرَّقُ في الجِهاتِ؛ حتى ينشَأَ بها السَّحابُ، ويتعَدَّدُ سحاباتٍ مبثوثةً؛ ومِن أجلِ ذلك عَبَّرَ عنها بصيغةِ الجَمعِ لتعَدُّدِ مَهابِّها .

الإرسالُ المذكورُ في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ هو إرسالٌ كونيٌّ، ويقابلُه: الإرسالُ الدِّينيُّ، كما في قَولِه تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الفتح: 8] .

في قَولِه تعالى: بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ جاءت تَسمِيَةُ المَطَرِ بـالرَّحمةِ، على اعتبارِ أنَّ الرحمةَ أُضِيفَتْ إلى اللهِ تعالى هاهنا إضافةَ المفعولِ إلى فاعِلِه، لا إضافةَ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، فهذه رحمةٌ مخلوقةٌ مضافةٌ إليه إضافةَ المخلوقِ بالرَّحمةِ إلى الخالِقِ تعالى، وعليه فلا يمتنعُ الدعاءُ المشهورُ بين النَّاسِ قديمًا وحديثًا، وهو قولُ الدَّاعي: «اللَّهُمَّ اجمَعْنا في مُستَقَرِّ رَحْمَتِكَ» والمقصودُ به الجنَّة .

قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ لَمَّا دَلَّ على العَظَمةِ بالجَمعِ في كلمةِ سَحَابًا وحَقَّقَ الأمرَ بالوَصفِ في قوله ثِقَالًا- أفرَدَ اللَّفظَ، فقال سُقْنَاهُ-ولم يقل: سُقْنَاها- وذلك دَلالةً على غايةِ العَظَمةِ بِسَوقِه مُجتَمِعًا؛ كأنَّه قِطعةٌ واحدةٌ، لا يفتَرِقُ جُزءٌ منه عن سائِرِه؛ إذ لو تفرَّقَ لاختَلَّ أمرُه .

في قَولِه تعالى: أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ دلالةٌ على إثباتِ الأسبابِ والطَّبائعِ؛ حيث أَخبرَ سُبحانَه أنَّ الرِّياحَ تَحمِلُ السَّحابَ؛ فجعل هذا الجمادَ فاعلًا بطَبعِه .

قَولُ اللهِ تعالى: سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ نِسبةُ السَّوقِ إليه تعالى بنُونِ العَظَمةِ؛ التفاتًا لِمَا في المطَرِ مِن عَظيمِ المِنَّةِ؛ إذ هو مِن أجَلِّ النِّعَمِ وأحسَنِها أثَرًا .

اللَّامُ في قَولِ اللهِ تعالى: سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ لامُ العِلَّةِ؛ أي: لأجلِ بَلَدٍ مَيِّتٍ، وفي هذه اللَّامِ دَلالةٌ على العِنايةِ الرَّبانِيَّةِ بذلك البَلَدِ؛ فلذلك عُدِلَ عَن تعدِيَةِ سُقْنَاهُ بِحَرفِ (إلى) ، وهذا على أحدِ القولينِ في (اللامِ).

لَمَّا كانَ ذلك موضِعَ قُربِ رَحمةِ اللهِ، وإظهارِ إحسانِه، ذكَرَ أخَصَّ الأرض وهو البَلَدُ؛ حيث مُجتَمَعُ النَّاسِ، ومكانُ استِقرارِهم، فقال: سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ .

قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ الاستغراقُ في قَولِه كُلِّ الثَّمَرَاتِ استغراقٌ حقيقيٌّ؛ لأنَّ البَلَدَ المَيِّتَ ليس مُعَيَّنًا، بل يشمَلُ كُلَّ بلدٍ مَيِّتٍ يَنزِلُ عليه المَطَرُ، فيحصُلُ مِن جميعِ أفرادِ البلَدِ المَيِّتِ جميعُ الثَّمَراتِ، قد أخرَجَها اللهُ بواسطةِ الماءِ .

في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  بيانُ أنَّ إخراجَ النَّباتِ بالماءِ هو ممَّا يُتذكَّرُ به إخراجُ الموتى من قُبُورِهم .

قَولُ اللهِ تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي: بِمَشِيئَتِه وتَيسيرِه، وخُصَّ خروجُ نَباتِ الطَّيِّبِ بذلك، وإن كان كِلَا النَّباتَينِ يَخرُجُ بإذنِه تعالى؛ مدحًا وتشريفًا لنَباتِ الطَّيِّبِ، وتنبيهًا على كَثرَتِه وحُسْنِه وغزارةِ نَفعِه، وكذلك لنِسبَةِ الإسنادِ الشَّريفةِ الطَّيِّبةِ إليه تعالى .

قوله تعالى: وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا فيه إشارةٌ إلى أنَّ مَنِ استقَرَّ فيه وصْفُ الخَبيثِ يَبعُدُ عنه النُّزُوعُ إلى الخَيرِ .

قَولُ اللهِ تعالى: كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ خَصَّ كَونَها آياتٍ بالقَومِ الشَّاكرينَ؛ لأنَّهم هم المُنتَفِعونَ بسَماعِ القُرآنِ .

قال اللهُ تعالى: كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، ثمَّ قال في الآيةِ التي تليها: كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ، فعَبَّرَ بالشُّكرِ في الآيةِ التي مَوضوعُها الاهتداءُ بالعِلمِ والعَمَلِ والإرشادِ، وعَبَّرَ بالتَّذكيرِ في الآيةِ التي موضوعُها الاعتبارُ والاستدلالُ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

قوله: وَهُو الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ جملةٌ عُطِفتْ على جملةِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ، وقد حصَلتِ المناسبةُ بينَ آخِرِ الجُمَلِ المعترَضةِ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وبينَ الجملةِ المُعترَضِ بينها وبين ما عُطِفتْ عليه، بأنَّه لَمَّا ذَكَر قُرْبَ رحمتِه من المحسنِين ذَكَر بعضًا من رحمتِه العامَّة، وهو المطرُ

.

وفيه: تعريضٌ ببشارةِ المؤمنينَ بإغداقِ الغَيثِ عليهم، ونذارةِ المشرِكينَ بالقَحطِ والجُوعِ .

وقولُه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ قُصِدَ منه تَقريعُ المشركينَ، وتفنيدُ إشراكِهم، ويَتْبعُه تذكيرُ المؤمنين، وإثارةُ اعتبارِهم؛ لأنَّ الموصولَ الَّذِي دلَّ على أنَّ الصِّلةَ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ معلومةُ الانتسابِ للموصولِ؛ لأنَّ المشركين يَعلمون أنَّ للرِّياحِ مُصرِّفًا، وأنَّ للمطرِ مُنزِلًا، غير أنَّهم يَذْهَلون أو يَتَذاهلون عن تَعيينِ ذلك الفاعِل؛ ولذلك يَجِيئون في الكلامِ بأفعالِ نُزولِ المطرِ مَبنيَّةً إلى المجهولِ غالبًا، فيقولون: مُطِرْنا بنَوءِ كذا، فأخبر الله تعالى بأنَّ فاعِلَ تلك الأفعالِ هو اللهُ، وذلك بإسنادِ هذا الموصولِ إلى ضَميرِ الجلالةِ في قوله: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ؛ فالخبرُ مسوقٌ لتعيينِ صاحبِ هذه الصِّلة، فهو بمنزلةِ الجوابِ عن استفهامٍ مقصودٍ منه طلبُ التَّعيينِ .

وفي قولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هُنا في سُورةِ الأعراف: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ على لفْظِ المُستقْبَلِ (المضارِع)، وكذلك في سُورة الروم قال: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ [الروم: 48] ،  بَينما قال في سُورةِ الفرقان: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الفرقان: 48] ، على لَفْظِ الماضِي، وكذلِك في سُورةِ فاطرٍ، حيث قال: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ [فاطر: 9] ؛ وذلك لأنَّ الآية التي هنا في سورةِ الأعرافِ جاءَ فيها يُرْسِلُ بلفظِ المُستقْبَلِ (المضارِع)؛ لأنَّ قَبْلَها: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف: 55- 56] ؛ فكان في ذلك بَعْثٌ على الدُّعاءِ والتضرُّع، وتعليقُ الخوفِ والطمعِ بما يكونُ منه مِن الرحمةِ وصنوفِ ما رَزَقَ اللهُ الخَلْقَ مِن النِّعم؛ فكان لفظُ المستقبَل أشْبهَ بموضِعِ الخوفِ والطَّمْعِ للدَّاعين، وأدْعى لهم إلى الدُّعاءِ .

وقيل: المناسبةُ أنَّ آيةَ الأعرافِ لَمَّا تَقدَّمها قولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] ، فذَكَر سُبحانَه ما تَقرَّر وتَحصَّل مِن خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ ممَّا لا تَكرُّرَ فيه، فلمَّا ذَكَر تعالى مِن هذه الأفعالِ العَظيمةِ ما ذَكَر مِمَّا لا يَتكرَّر، أعْقَب سبحانه بما يَتكرَّرُ ويَتوالَى مِن إنعامِه على الخليقةِ، ممَّا به قِوامُ أحوالِهم ومصالِحِ عَيشِهم؛ فقال سُبحانَه: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ، وأَمَرَ عِبادَه بالدُّعاءِ والتضرُّعِ إليه، وحذَّرَهم وذَكَّرهم باستصحابِ الخوفِ، ثم رجَّاهم بقُربِ رحمتِه ممَّن أحْسَن، ثم عادَ الكلامُ إلى التذكيرِ بجليلِ المتوالي مِن إنعامِه وعظيمِ ألْطافِه، فقال: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؛ فانتظَمَ آخِرُ الكلامِ بأوَّلِه، وارتبَطَ عَودُه ببَدْئِه، وتناسَب أوضحَ تَناسُبٍ بما يُفْهِمُه الفِعلُ المضارعُ مِن التَّكرُّرِ مِن حيثُ لا يمنع ذلك. وعلى هذا النحوِ جرَى الواردُ في سُورةِ الرُّوم في قوله: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ [الروم: 48] ؛ فإنّه جاءَ قَبْلَه قولُه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ [الروم: 46] ، ثمَّ اعترَض بقولِه تأنيسًا لرسولِه ووعدًا بنَصْرِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] ، ثمَّ عادَ الكلامُ إلى إتمامِ ما تَقدَّم ممَّا يُرسِلُ سبحانه به ولأجْلِه الرِّياحَ، فقال بصورةِ الاستئنافِ لأجْلِ آيةِ الاعتراضِ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ [الروم: 48] ، وأَوْردَ مِن النِّعمِ بها ما ذُكِر قبلُ، وجاءَ بلفظِ الاستقبالِ؛ لأنَّه مِن تَتْميم ما تَقدَّم وليناسبَه، ولو جاءَ بلفظ الماضِي لَمَا ناسَبَ .

أمَّا في سورةِ الفُرقانِ، فمجيءُ هذا اللَّفظِ فيها بلفظِ الماضي؛ فلأنَّ قبلَ الآيةِ قَوْلَه: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان: 45 - 47] ثم قال: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الفرقان: 48] ؛ فلمَّا عدَّدَ أنواعَ ما أَنْعَم به، كان إرسالُ الرِّياحِ مِن جُملةِ عَدِّه مع ما تَقدَّمه، وأخبر منه عمَّا فَعَلَه وأَوْجَدَه؛ فكان الماضِي أليقَ به . وأمَّا في سُورة فاطر، واختيارُ لفظِ الماضي فيها على المستقبَلِ؛ فلأنَّ أوَّلَها: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] ، بمعنى: فَطَر وجَعَل، وهُما بمعنى الماضِي لا غيرُ، ولم يقعْ بعدَ هذا ذِكرٌ مقصودٌ به الاعتبارُ مِن مخلوقاتِه سبحانَه، ممَّا نَصَبَه دالًّا عليه إلَّا قوله: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ [فاطر: 9] ؛ فأَتْبَعَه ما كان مِن جِنسِه ممَّا فعل، فكان اختيارُ لفظ الماضي هاهنا لموافقةِ اسمِ الفاعلِ معنًى ومُناسبتِه، ولا يُناسِبُه المستقبلُ .

ومِن المُناسَبةِ الحَسَنةِ كذلِك أنَّه قال تعالى هنا في سورةِ الأعراف: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؛ فوصَف الرِّياحَ وأتْبعَها بقولِه: بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، وكذلك وقَعَ في سورةِ الفُرقان: قال: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الفرقان: 48] ، ولم يَرِدْ ذلك في سُورتَيِ الروم وفاطر؛ وذلك لمناسبةٍ حَسَنةٍ؛ فآيةُ الأعراف قد تقدَّمها قولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ...، ثمَّ قال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وقال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ثم قال: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وفي هذا كلِّه استلطافٌ، ونحوُه قولُه سبحانَه في سورة الفرقان: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا [الفرقان: 45] ، ثمَّ قال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان: 47] ؛  فهذا أعظمُ استلطافٍ؛ فناسَب الواردَ في السُّورتَينِ مِن هذا قولُه تعالى عقِبَ إرسالِ الرِّياح: بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه، ولَمَّا لم يَرِدْ في سورةِ الرُّوم ولا في سُورةِ فاطِر مثلُ هذا الاستلطافِ ولا بَعضُه، لم يُتْبَعْ ذِكرُ إرسالِ الرِّياحِ بما أُتْبِع في آيتَي الأعراف والفرقان؛ إذ لم يكُنْ ذلك ليُناسِب، فجاءَ كلٌّ على ما يُناسِب .

قولُه: كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ مُعترِضةٌ؛ استطرادًا للمَوعظةِ والاستدلالِ على تَقريبِ البَعثِ الذي يَستبْعِدونَه .

قولُه: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا

قولُه: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا المقصودُ مِن هذه الآيةِ التَّمثيلُ، وليس المقصودُ مُجرَّدَ تَفصيلِ أحوالِ الأرضِ بعدَ نُزولِ المطرِ، أي: كذلِكَ نُخرِجُ الموتَى، وكذلك يَنتفِعُ برَحمةِ الهُدَى مَن خُلقت فِطرتُه طيِّبةً قابلةً للهُدَى، كالبلدِ الطيِّبِ يَنتفِعُ بالمطرِ، ويُحرَم مِن الانتفاعِ بالهُدَى مَن خُلِقت فِطرتُه خَبيثةً، كالأرضِ الخبيثةِ لا تَنتفِعُ بالمطرِ؛ فلا تُنبِتُ نَباتًا نافعًا .

وفي هذِه الآيةِ احتِباكٌ؛ إذ لم يُذْكَرْ وصْفُ الطيِّبِ بعدَ نباتِ البَلدِ الطيِّب، ولم تُذكَرِ الأرضُ الخَبيثةُ قبلَ ذِكرِ النَّباتِ الخبيثِ؛ لدَلالةِ كِلَا الضِّدَّينِ على الآخَر، والتقديرُ: والبلدُ الطيِّبُ يخرُج نباتُه طيِّبًا بإذنِ ربِّه، والنباتُ الذي خَبُثُ يَخرُج نَكِدًا مِن البَلدِ الخَبيثِ، وهذا صُنعٌ دَقيقٌ في الكلامِ البَليغِ .

قولُه: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ (الطيِّبُ) وصفٌ على وزن (فَيْعِل)، وهي صيغةٌ تَدلُّ على قُوَّةِ الوصفِ في الموصوفِ .

قولُه: وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا فيه حَصْرُ خُروجِ نَباتِ الذي خَبُثَ على حالةِ النكدِ؛ وهو مبالغةٌ شديدةٌ في كونِه لا يكونُ إلَّا هكذا، ولا يُمكِنُ أنْ يُوجَدَ إلَّا نَكِدًا

================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (59-64)

ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ

غريب الكلمات:

 

الْمَلَأُ: أي: أشرافُ النَّاسِ ووجُوهُهم؛ أو الجماعةُ يَجتمعونَ على رأيٍ، فيملؤون العيونَ منظرًا، والنُّفوسَ بهاءً وجلالًا، ويقالُ: فلانٌ ملءُ العيونِ، أي: معظمٌ عندَ مَن رآه، وأصلُ (ملأ) يدلُّ على المساواةِ، والكمالِ في الشَّيءِ

.

عَمِينَ: أي: عَمِيَتْ قلوبُهم عَن مَعرفةِ اللهِ تعالى، والعَمُون جمعُ العَمِيِّ، وهو مَن قَلْبُه أعمَى، لا يعرِفُ الحقَّ، والعَمَى يُقالُ في افتِقادِ البَصَرِ والبَصيرةِ، وأصلُ (عمي): يدلُّ على السَّترِ والتَّغطِيةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه أرسَلَ نُوحًا إلى قَومِه؛ ليدعُوَهم إلى عبادةِ اللهِ وَحدَه، وتَرْكِ عبادةِ ما سِواه، فقال لهم: اعبُدُوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم مَعبودٌ يستحِقُّ العبادةَ غَيرُه، إنِّي أخافُ عليكم عذابَ يومِ القِيامةِ، فقالَ الرُّؤَساءُ المُتَكَبِّرونَ مِن قَومِه: إنَّا لَنَراكَ- يا نوحُ- في ضلالٍ واضِحٍ بَيِّنٍ.

قال: يا قومِ لسْتُ ضالًّا حين دَعَوتُكم إلى التَّوحيدِ، ونَهَيتُكم عن الشِّركِ، ولكنِّي مُرسَلٌ إليكم مِن رَبِّ العالَمينَ، أبَلِّغُكم ما أرسَلَني ربِّي به، وأنصَحُ لكم، وأعلَمُ بما أوحى إليَّ رَبِّي ما لا تعلمونَه أنتم، وهل عَجِبْتُم مُستبعِدِينَ أنْ يأتِيَكم تذكيرٌ مِن رَبِّكم على رَجُلٍ مِنكم؛ لأجْلِ أنْ يُخَوِّفَكم مِن عُقوبةِ رَبِّكم على كُفْرِكم، ولكي تَتَّقُوا، ولعلَّكم تُرحَمونَ إن أطَعْتُم اللهَ ورسولَه.

ثم أخبَرَ الله تعالى أنَّهم كَذَّبوا نُوحًا، فأنجاه، وأنجى كلَّ الذين حمَلَهم معه على السَّفينةِ، وأغرَقَ الَّذينَ كَذَّبوا بآياتِه؛ إنَّهم كانوا قومًا قد عَمُوا عن رؤيةِ الحَقِّ، ولم يُبصِرُوه بقُلوبِهم.

تفسير الآيات:

 

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى في تقريرِ المَبدَأِ والمَعادِ دلائِلَ ظاهرةً، وبَيِّناتٍ قاهرةً، وبراهينَ باهرةً- أتبَعَها بذِكرِ قَصَصِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وفيه فوائِدُ:

أحَدُها: التَّنبيهُ على أنَّ إعراضَ النَّاسِ عَن قَبُولِ هذه الدَّلائِلِ والبَيِّناتِ، ليس مِن خَواصِّ قَومِ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، بل هذه العادةُ المَذمومةُ كانت حاصِلةً في جميعِ الأُمَمِ السَّالفةِ، والمُصيبةُ إذا عَمَّتْ خَفَّتْ، فكان ذِكْرُ قَصَصِهم، وحِكايةُ إصرارِهم على الجَهلِ والعِناد؛ يفيدُ تَسليةَ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتخفيفَ ذلك على قَلْبِه.

ثانيها: أنَّه تعالى يَحكِي في هذا القَصَصِ أنَّ عاقِبَةَ أمرِ أولئك المُنكِرينَ كان إلى الكُفْرِ واللَّعنِ في الدُّنيا، والخَسَارةِ في الآخِرَةِ؛ وعاقِبةَ أمْرِ المُحِقِّينَ إلى الدَّولةِ في الدُّنيا، والسَّعادةِ في الآخِرَةِ، وذلك يُقَوِّي قُلوبَ المُحِقِّينَ، ويَكسِرُ قُلوبَ المُبطِلِينَ.

ثالثها: التَّنبيهُ على أنَّه تعالى وإن كان يُمهِلُ هؤلاءِ المُبطِلِينَ، ولكِنَّه لا يُهمِلُهم، بل ينتَقِمُ منهم على أكمَلِ الوُجوهِ.

رابعها: بيانُ أنَّ هذه القصَصَ دالَّةٌ على نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان أمِّيًّا، وما طالَعَ كِتابًا ولا تتلمذَ على أستاذٍ، فإذا ذَكَرَ هذه القصصَ على هذا الوَجهِ مِن غير تحريفٍ ولا خَطَأٍ؛ دلَّ ذلك على أنَّه إنَّما عَرَفَها بالوَحيِ مِنَ اللهِ، وذلك يدُلُّ على صِحَّةِ نُبُوَّتِه

.

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ

أي: أُقسِمُ على أنَّنا بَعَثْنا نوحًا عليه السَّلامُ إلى قَومِه المُشركينَ؛ ليدعُوَهم إلى عبادةِ اللهِ وَحدَه، وينهاهم عن عبادةِ غَيرِه، فقال لهم: يا قومِ اعبُدُوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم معبودٌ يَستحِقُّ العبادةَ غَيرُه، فلا تُشرِكوا به شيئًا .

إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

أي: إنِّي أخافُ عليكم- إنْ لم تُوَحِّدُوا اللهَ وأشرَكْتُم في عِبادَتِه غَيرَه، ومُتُّمْ على ذلك- عذابَ يومِ القِيامةِ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: 25-26] .

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)

أي: قال الأشرافُ والرُّؤساءُ المُتَكِّبرونَ عَنِ الحَقِّ مِنْ قَومِ نُوحٍ، حين دَعاهم إلى إفرادِ اللهِ بالعِبادةِ: إنَّا لَنَعتقِدُ أنَّك- يا نوحُ- في خطأٍ، وذَهابٍ عَنِ الحَقِّ بيِّنٍ وواضحٍ؛ حيث تدعُونا إلى عبادةِ اللهِ وَحدَه، وتَرْكِ ما كان يعبُدُ آباؤُنا .

قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)

أي: قال نوحٌ لِقَومِه: يا قومِ لستُ في حَيدةٍ عَن طَريقِ الحَقِّ حين دَعَوتُكم إلى توحيدِ اللهِ، ونَهَيتُكم عَنِ الشِّركِ به، ولكنِّي مُرسَلٌ إليكم مِنَ الذي خلَقَ كُلَّ شَيءٍ، وهو مالِكُه ومُدَبِّرُ شُؤونِه .

أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا نَفى نُوحٌ عليه السَّلامُ عَن نَفسِه العَيبَ الذي وَصَفوه به، ووصَفَ نَفسَه بأشرَفِ الصِّفاتِ وأجَلِّها، وهو كَونُه رسولًا إلى الخَلقِ مِن ربِّ العالَمينَ- ذَكَرَ ما هو المقصودُ مِنَ الرِّسالةِ، وهو أمرانِ: الأول: تبليغُ الرِّسالةِ، والثاني: تقريرُ النَّصيحةِ ، فقال:

أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ

أي: وَظيفَتي أن أُوصِلَ إليكم الرِّسالةَ التي أرسَلَني اللهُ بها، وهي أمْرُكم بتوحيدِه، ونَهيُكم عن الشِّركِ به، ودَعْوَتُكم لِطاعَتِه، وأنا أبغي لكم بذلك الخَيرَ في الدُّنيا والآخِرةِ .

كما قال تعالى عن نُوحٍ عليه السَّلامُ: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [نوح: 2 - 4] .

وقال سبحانه حاكيًا قَولَ نُوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10- 12] .

وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

أي: وأعلَمُ- بما أَوْحى اللهُ إليَّ؛ مِن أسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، كمَغفِرَتِه للتَّائبينَ، وشِدَّةِ بأسِه على المُشركينَ، وعَدَمِ تأخيرِ عذابِه عنهم إذا جاءَ، وغيرِ ذلك- ما لا تعلَمُونَه .

كما قال تعالى عن نوحٍ عليه السَّلامُ: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح: 2-4] .

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ

أي: هل تعَجَّبتُم مُستبعِدينَ أن يَجِيئَكم تذكيرٌ مِنَ اللهِ، أنزَلَه على رَجُلٍ مِنَ البَشَرِ، تعرفونَ نَسَبَه وصِدقَه؟ أي: فكيفَ تَعجَبونَ مِمَّا لا ينبغي العَجَبُ منه؟! فليس بعَجَبٍ أن يُوحِيَ اللهُ إلى رجُلٍ منكم؛ رحمةً بكم، وإحسانًا إليكم .

كما قال الله تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون: 24- 25] .

لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

أي: لأجْلِ أن يُخَوِّفَكم عِقابَ اللهِ على كُفرِكم به، ولكي تَجعَلوا بينكم وبينَ عِقابِه وقايةً؛ بتوحيدِه، وامتثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نَواهِيه، ولكي يرحَمَكم ربُّكم إن أطَعتُم اللهَ ورَسُولَه .

كما قال تعالى عن نوحٍ عليه السَّلامُ: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [نوح: 2 - 4] .

وقال سبحانه: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132] .

فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)

فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ

أي: فتمادى قومُ نُوحٍ في تكذيبِ رَسُولهِم نوحٍ عليه السَّلامُ، فأنجيناه والَّذينَ حَمَلَهم معه في السَّفينةِ مِنَ المُؤمنينَ، ومِن كُلِّ ذَكَرٍ وأنثى مِن أصنافِ الحَيَواناتِ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ* فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت: 14-15] .

وقال سبحانه: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] .

وقال عزَّ وجَلَّ: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: 119-122] .

وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا

أي: وأغرَقْنا بالطُّوفانِ جَميعَ الكُفَّارِ، الذين كذَّبوا بآياتِنا .

كما قال تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا [نُوحٍ: 25].

إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ

أي: إنَّ الكُفَّارَ الذين كذَّبُوا نُوحًا، قد عَمُوا عَنِ الحَقِّ، فلم يُبصِرُوه بقُلوبِهم، ولم يَهْتدوا له

 

.

كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] .

وقال سُبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179] .

الفوائد التربوية:

 

التَّوحيدُ أوَّلُ دَعوةِ الرُّسُلِ، وأوَّلُ مَنازِلِ الطَّريقِ، وأوَّلُ مَقامٍ يقومُ فيه السَّالِكُ إلى اللهِ تعالى؛ قال الله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وقال هودٌ لِقَومِه: اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وقال صالحٌ لِقَومِه: اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وقال شُعَيبٌ لِقَومِه: اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ

[النحل: 36] .

يُستفادُ مِن قوله تعالى: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أنَّه ليس لهم إلهٌ ما يستحِقُّ أن يُوَجَّهَ إليه نَوعٌ ما مِن أنواعِ العبادةِ، لا لِرجاءِ النَّفعِ، أو دَفعِ الضَّررِ منه لِذاتِه، ولا لأجلِ تَوَسُّطِه وشفاعَتِه عند اللهِ تعالى، بل الإلهُ الحَقُّ الذي يستحِقُّ أن تتوجَّهَ القلوبُ إليه بالدُّعاءِ وغَيرِه، هو اللهُ وَحدَه- سُبحانَه وبِحَمدِه .

قَولُ اللهِ تعالى: وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فائدةُ حَرفِ التَّرجِّي التَّنبيهُ على أنَّ الرَّحمةَ مِنَ اللهِ تعالى مَحضُ تَفضلٍ، وأنَّ المُتَّقي ينبغي ألَّا يَعتمِدَ على تقواه، ولا يأمَنَ مِن عذابِ اللهِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ اللهِ تعالى: فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ يُفيدُ أنَّ أوَّلَ الواجِباتِ التَّوحيدُ، وما عدا هذا مِن الأقوالِ، فخَطَأٌ، كقَولِ مَن يَقولُ: أوَّلُ الفُروضِ النَّظَرُ، أو القَصْدُ إلى النَّظَرِ، أو المعرفةُ، أو الشَّكُّ الذي يُوجِبُ النَّظَرَ. فكُلَّ هذه الأقوالِ خَطأٌ

.

قَولُ اللهِ تعالى: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ذكَرَ أوَّلًا قولَه: اعْبُدُوا اللهَ، وثانيًا قَولَه: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وذلك لمناسَبةٍ حَسنةٍ؛ فالثَّاني كالعِلَّةِ للأوَّلِ؛ لأنَّه إذا لم يكُنْ لهم إلهٌ غَيرُه، كان كلُّ ما حصَلَ عندهم مِن وُجوهِ النَّفعِ والإحسانِ، والبِرِّ واللُّطفِ؛ حاصلًا مِنَ اللهِ، ونهايةُ الإنعامِ تُوجِبُ نهايةَ التَّعظيمِ .

قَولُ الله تعالى: فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وكذلك قولُه: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ، ناداهم بــ يَا قَوْمِ مُضافةً إليه؛ لتذكيرِهم بآصِرَةِ القَرابةِ، ليتحَقَّقوا أنَّه ناصِحٌ، ومُريدٌ خَيرَهم، ومُشفِقٌ عليهم، وأنَّه لا يُريدُ بهم ولا لهم إلَّا الخَيرَ . وقيل: عبَّرَ بذلك؛ لأنَّه لم يكنْ لهم اسْمٌ خاصٌّ مِن أسماءِ الأُمَمِ يُعرفونَ به، فالتَّعريفُ بالإضافةِ هنا؛ لأنَّها أخصَرُ طريقٍ في الدَّلالةِ على هذا المقصِدِ .

في قَولِه تعالى: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إنذارٌ مُستأنَفٌ عُلِّلَ به الأمرُ بعبادةِ اللهِ تعالى وَحدَه، المُستَلزِمُ لِتَرْكِ أدنى شوائِبِ الشِّرك بها، وبيانٌ لعقيدةِ البَعثِ والجزاءِ، وهي الرُّكنُ الثَّاني مِن أركانِ الإيمانِ بعد التَّسليمِ بالرِّسالةِ .

قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ حَكَموا بضَلالِ نُوحٍ- حاشاه ذلك عليه السَّلامُ- وأكَّدوه بالتَّعبيرِ بالرُّؤيةِ؛ كأنَّ كُلَّ واحدٍ منهم يعتقِدُ ذلك اعتقادًا، هو في الثِّقَةِ به كالرُّؤيةِ .

قَولُ اللهِ تعالى: وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فيه التَّنبيهُ بِقَولِه رَبِّ الْعَالَمِينَ على أنَّه تعالى هو المالِكُ لأمُورِهم، النَّاظِرُ لهم بالمَصلحةِ؛ فلأجْلِ ذلك وَجَّهَ إليهم رَسولًا يَدعُوهم إلى إفرادِه بالعِبادةِ .

قَولُ اللهِ تعالى: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، قال أوَّلًا: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وهذا مبدأُ أمرِه معهم، وهو التَّبليغُ، ثمَّ قال: وَأَنْصَحُ لَكُمْ أي أُخلِصُ لكم في تَبيينِ الرُّشدِ، والسَّلامةِ في العاقِبةِ، إذا عَبَدتُم اللهَ وَحدَه، ثمَّ قال: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِن بَطشِه بكم، وهو مآلُ أَمرِكم إذا لم تُفرِدُوه بالعِبادة؛ ففي هذا التَّرتيبِ أحسَنُ سياقٍ؛ إذ نبَّه على مبدأِ أمرِه ومُنتَهاه معهم .

قَولُ اللهِ تعالى: جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ قولُه: مِنْكُمْ أي: تَعرِفونَ نَسَبَه، فهو منكم نَسَبًا، وذلك لأنَّ كَونَه منهم يُزيلُ التَّعجُّبَ؛ لأنَّ المَرءَ بمَن هو مِن جِنسِه أعرَفُ، وبطهارةِ أحوالِه أعلَمُ، وبما يقتضي السُّكونَ إليه أبصَرُ .

قَولُ اللهِ تعالى: لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بَيَّنَ تعالى ما لأجلِه يُبعَثُ الرَّسولُ، فقال: لِيُنْذِرَكُمْ، وما لأجلِه يُنذِرُ، فقال: وَلِتَتَّقُوا، وما لأجلِه يتَّقونَ، فقال: وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، وهذا الترتيبُ في غايةِ الحُسنِ؛ فإنَّ المَقصودَ مِنَ البَعثةِ الإنذارُ، والمقصودَ مِنَ الإنذارِ التَّقوى عن كلِّ ما لا ينبغي، والمقصودَ مِنَ التَّقوى الفوزُ بالرَّحمةِ في دارِ الآخِرةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

فيه ابتداءُ هذه القِصَّةَ بالقَسَمِ؛ لتأكيدِ خبَرِها لأوَّلِ مَن وُجِّهَ إليهم الخطابُ بها، وهم أهلُ مَكَّةَ ومَن وراءَهم مِنَ العَرَبِ؛ إذ كانوا يُنكِرونَ الرِّسالةَ والوَحيَ، على كونِهم أُمِّيِّينَ ليس عندهم مِن علومِ الأُمَم وقَصَصِ الرُّسُلِ شيءٌ، والقَسَمُ مَحذوفٌ دَلَّ عليه لامُه في بَدءِ الجُملةِ

.

وعطَفَ جُملةَ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ على جُملةِ أَرْسَلْنَا بالفاءِ؛ إشعارًا بأنَّ ذلك القولَ صدَر منه بفورِ إرسالِه ، ولم يَعطِفِ الجُملةَ المنفيَّةَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ بفاءٍ ولا غيرها؛ لأنَّها مَبنيَّةٌ ومُثبتةٌ على اختصاصِ اللهِ تعالى بالعبادةِ، ورَفْضِ ما سِواه؛ فكانتْ في غايةِ الاتِّصالِ بقولِه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ .

قوله: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ استئنافٌ مسوقٌ لتعليلِ العبادةِ المذكورةِ ، وقولُه: مِنْ إِلَهٍ يُفيدُ تأكيدَ النَّفيِ وعُمومَه .

قوله: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مستأنفةٌ ثانيةٌ بعدَ جُملة اعْبُدُوا اللَّهَ؛ لقَصدِ التخويفِ والإنذارِ .

وفي هذه الآيةِ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ قال هنا في الأعرافِ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا بغير واو، بَينما قال في سُورة هود والمؤمنون: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا [هود: 25، المؤمنون: 23] بواوٍ؛ وذلِك لأنَّ ما هنا مستأنفٌ لم يَتقدَّمه ذكرُ نبيٍّ، فلم يَكُن فيها ذِكرُ بَعثةِ نَبيٍّ، ومخالفةِ مَن كان له مِن عَدُوٍّ؛ فصارَ الكلامُ هنا كالأجنبيِّ مِن الأوَّل، فلم يُعطَفْ عليه، واستُؤنِفَ ابتداءُ الكلامِ؛ ليدلَّ على أنَّه في حُكمِ المنقطِعِ مِن الأوَّلِ. وأمَّا في سُورة هُود فقد تَقدَّمه ذِكرُ الأنبياء مرَّةً بعدَ أخرى؛ لأنَّ أوَّلها افتُتح إلى أنْ انتَهَى إلى قِصَّةِ نُوح بما هو احتجاجٌ على الكُفَّارِ بآياتِ اللهِ، التي أَظْهَرَها على أَيدي أنبيائِه وأَلْسِنتِهم، صلواتُ اللهِ عليهم، وتَوعُّدٌ لهم على كُفرِهم، وذِكْرُ قِصَّة مِن قَصَصِ مَن تَقدَّمهم مِنَ الأنبياءِ الذين جَحَد بآياتِهم أُممُهم؛ فعُطِفتْ هذِه الآيةُ على ما قَبْلَها إذْ كانت مِثلَها. وما في سورة المؤمنون تَقدَّمه قولُه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] ، ثم قولُه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ [المؤمنون: 17] ، ثمَّ انقطعتِ الآيُ إلى قولِه: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 22] ، وكلُّها بالواو؛ فناسَبَ ذِكرها فِيهما؛ فدَخلتْ واوُ العطفِ في قِصَّةِ نُوحٍ عليه السَّلام في سورةِ المؤمنون للفْظَينِ المُتقدِّمَينِ، وهُما: وَلَقَدْ في رُؤوسِ الآيتَينِ، وللمَعْنى المقتضى مِن ذِكر الفُلك الذي نَجَّى اللهُ عليه مَن جَعَله أصلَ الخَلْقِ، وبَذْرَ هذا النَّسلِ .

وأيضًا مِن المُناسَبةِ الحَسنةِ أنَّه قال هنا في سُورةِ الأعراف: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، بَينما قالَ في سُورة هود: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: 26] ، وفي سورة المؤمنون: فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ [المؤمنون: 23] ؛ فاختلفتِ المَحكيَّاتُ والقِصَّةُ قِصَّةٌ واحدةٌ، وهذا الاختلافُ لا إشكالَ فيه؛ لأنَّه وقَعَ بحَسَبِ اختلافِ الأوقاتِ، وما يُناسِبُ كلَّ وقتٍ، وما يَجْري فيه ويُشاهَدُ مِن أقوالِ المَدْعوِّينَ وأحوالِهم؛ فإنَّ للأنبياءِ- صلواتُ اللهِ عليهم- مقاماتٍ مع أُممهم، يُكرَّر فيها الإعذارُ والإنذارُ، ولا يكونُ دُعاؤُهم إلى الإيمانِ باللهِ في موقفٍ واحدٍ بلفظٍ واحدٍ لا يَتغيَّرُ عن حالِه، كذلك الجوابُ يَرِدُ مِن أقوامٍ يَكثُرُ عددُهم، ويَختلفُ كلامُهم ومقصدهم ، ومع هذا فإنَّ لهذا الاختلافِ مُناسبةً حسنةً؛ فإنَّه لَمَّا تَقدَّمَ ذِكرُ اليومِ الآخِرِ في غيرِ ما آيةٍ مِن أوَّل سورةِ الأعرافِ إلى ابتداءِ قِصَّة نوحٍ عليه السلام، وقد تَضمَّن ما ذُكِر مِن ذلك مِن أهوالِ ذلك اليومِ ما يَعظُم أَمْرُه كقولِه: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ... [الأعراف: 8] الآية، وقوله: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ... [الأعراف: 38] إلى قوله: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف: 39] ، ومَا جرَى مجرَى ذلك إلى قولِه: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ... [الأعراف: 50] الآية؛ فلمَّا تَقدَّم مِن أهوالِ هذا اليومِ ما لم يَتقدَّمْ في السُّورتَينِ الأُخريين؛ ناسَبه مِن مقالاتِ نُوحٍ لقومِه هنا في سورة الأعراف: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

وأمَّا في سورة هود؛ فقولُه: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: 26] مُناسبٌ لقولِه تعالى على لِسان نبيِّنا عليه السلام لقومِه ممَّن خاطبَه وشافَهَه: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 3] ، وقولِه: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ [هود: 8] ، وقولِه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17] ؛ فتَكرارُ ذِكرِ العذابِ يُناسِبُه ما خُتِمتْ به آيةُ دُعاءِ نُوحٍ عليه السلام مِن قوله: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ .

قوله: قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

قولهم: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ استئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ مِن حكايةِ قولِه عليه السَّلامُ، كأنَّه قِيل: فماذا قالوا له عليه السَّلامُ في مُقابلةِ نُصْحه؟ فقيل: قال الرُّؤساءُ مِن قومِه والأشرافُ: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ .

وقدِ اقترَن جوابُهم إِنَّا لَنَرَاكَ بحَرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ واللَّام)؛ للدَّلالةِ على أنَّهم حقَّقوا وأكَّدوا اعتقادَهم أنَّ نُوحًا مُنغِمسٌ في الضَّلالةِ -حاشَاه ذلِك عليه السَّلامُ .

وظَرفيَّةُ فِي ضَلَالٍ فيها تعبيرٌ عن تَمكُّنِ وصْفِ الضَّلالِ مِن نُوحٍ- حاشاهَ ذلك عليه السَّلامُ- حتى كأنَّه مُحيطٌ به مِن جوانبِه إحاطةَ الظَّرفِ بالمظروفِ .

وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال هنا في سُورةِ الأعرافِ في قِصَّة نوح وهود: قَالَ الْمَلَأُ بلا فاءٍ، بَينما قاله في سورة هود والمؤمنون: فَقَالَ الْمَلَأُ [هود: 27، المؤمنون: 24] بالفاءِ؛ وذلِك لأنَّه في سُورةِ الأعرافِ خرَجَ مَخْرَجَ الابتداءِ، وإنْ تَضمَّن الجوابَ؛ لأنَّهم في جوابِهم صاروا كالمُبتدِئين له بالخِطابِ، غير سالِكينَ طَريقَ الجواب؛ لأنَّهم قالوا: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، فكان كلامُهم له كالكلامِ الذي يَبتدِئُ به الإنسانُ صاحبَه؛ فلذلك جاءَ بغيرِ فاءٍ مُخالِفًا طريقةَ ما الكلامُ بَعْدَه مبنيٌّ بِناءَ الجوابِ، كما في قوله تعالى: قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا بعدَ قوله: قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا [العنكبوت: 32] . وأمَّا في سُورة هود والمؤمنون فوقَعَ جوابًا لِمَا قبله؛ فناسبتْه الفاءُ؛ فالموضعانِ اللَّذانِ دَخلتْهما الفاءُ ما بَعدَهما ممَّا اقتضاه كلامُ النبيِّ ممَّا رآه الكفَّارُ جوابًا له؛ فكان بناءُ الجوابِ على الابتداءِ يُوجِبُ دُخولَ الفاءِ .

وأيضًا في قوله: قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ مناسبةٌ حسنَةٌ، حيث  عدَلَ عن وصْفِ الملأِ بالكُفرِ هنا في سورة الأعراف، بَينما في سُورتي هود والمؤمنون قال: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا [هود: 27، المؤمنون: 24]، فوَصَف الملأَ بالكُفرِ في السُّورتين؛ وذلك لأنَّ اللهَ تعالى أمَرَ رُسلَه عليهم السلام بالرِّفقِ في دُعاءِ الخلقِ، وحَضَّهم على التلطُّفِ بهم، والصَّبرِ على أذاهم، وعلى هذا جَرَى دُعاءُ الرُّسلِ أُممَهم في إخبارِ اللهِ تعالى عنهم، ثمَّ اختلفَ جوابُ الأممِ؛ فمِن مُسرعٍ في الإجابةِ بهدايةِ الله تعالى، ومِن مُبطئ، ومِن مُصمِّم على ضلالِه، ثم لكلِّ نبيٍّ مقاماتٌ ومقالاتٌ بحسَب اختلافِ الموطنِ والمجتمعاتِ، ولكلِّ مقامٍ مقالٌ يُناسُبه؛ فجرَى اختلافُ ما ورَدَ جوابًا بنِسبةِ ما وقَعَ الجوابُ عليه؛ فقومُ نوحٍ ذُكِر في سُورتي هود والمؤمنون إساءةٌ في جوابِهم لنبيِّهم، وإطالةٌ في المرتكَبِ حِين قالوا في سُورة هود: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود: 27] ، فجَمَعوا في هذِه الإطالةِ تَوهُّمَهم مُساواتَه عليه السَّلام فيما رآه البادِي مِن البَشريةِ والصُّورةِ الإنسانيةِ إلى استرذالِ أتْباعِه، ومثلُ هذا قولُهم في آيةِ المؤمنون: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إلى قولِهم: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون:24- 25] ؛ فلإساءتِهم فيما ذُكِر مِن الواردِ عنهم في الموضعينِ وُصِفوا بالكفرِ، فقال تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [هود: 27، المؤمنون: 24]، وأمَّا آيةُ الأعراف فقولهم فيها: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ليس كجوابِهم في السُّورتَينِ الأُخريين لا مِن جِهةِ الطولِ، ولا مِن جِهةِ المعنى؛ فلمَّا لم يَكُنْ في الواردِ في سورةِ الأعرافِ مِن الإطالةِ في العِبارةِ والإبلاغِ فيما قَصَدوه مِن المعنى مِثلُ ما في السُّورتَينِ، ناسبَه الإيجازُ .

قوله: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ

قوله: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ النِّداءُ في جوابِه إيَّاهم؛ للاهتمامِ بالخبرِ .

ولم يَرِدِ النَّفيُ مِن نوحٍ عليه السَّلامُ على لَفْظِ ما قالَه قومُه قبل ذلك: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، فلم يأتِ التركيبُ: (لستُ في ضَلالٍ مِبين)، بل جاءَ في غايةِ الحُسنِ مِن نفي أن يَلتبسَ به ويختلطَ ضلالةٌ ما واحدةٌ، وإذا انتفَى عنه فرْدٌ واحدٌ مِن أفرادِ الضَّلالةِ فانتفاءُ غيرِه أنْفَى وأنْفَى، أي: ليس بي نوعٌ مِن أنواعِ الضَّلالةِ البتَّةَ؛ فكان هذا أبلغَ في عُمومِ السَّلبِ، فـ(الضَّلالة) في قوله: لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ أخصُّ من الضَّلالِ؛ فكانتْ أبلغَ في نفْي الضَّلالِ عن نفْسِه؛ كأنَّه قال: ليس بي شيءٌ مِن الضلالِ. وقيل: الضلالة أَدْنَى مِن الضَّلالِ وأقلُّ؛ لأنَّها لا تُطلَقُ إلَّا على الفَعلةِ الواحدةِ منه، وأمَّا الضلالُ فيُطلَقُ على القليلِ والكثيرِ مِن جِنسِه، ونَفْيُ الأدْنَى أبلغُ مِن نفْيِ الأعْلَى، لا مِن حيثُ كونُه أخصَّ، وهو مِن بابِ التنبيهِ بالأدْنَى على الأعْلَى . وقيل: (الضَّلالة) مصدرٌ مِثلُ (الضلال)، وتأنيثُه لفظيٌّ محضٌ، والتَّخالُفُ بَينهما تفنُّنٌ في العِبارة؛ فلمَّا تَقدَّم لفظ (ضَلال) اسْتُحسِنَ أنْ يُعادَ بلفْظٍ يُغايرُه في السورةِ؛ دفعًا لثِقل الإعادةِ .

وأفادَ تَنكيرُ ضَلَالَةٌ في سِياقِ النَّفيِ: المبالغةَ في النَّفيِ .

والباءُ في قَولِه: بِي للمُصاحَبةِ أو المُلابسةِ، وهي تُناقِضُ معنى الظَّرفيَّةِ مِن قَولِهم في نُوحٍ عليه السَّلامُ: إنَّه فِي ضَلَالٍ، فنَفَى أن يكونَ للضَّلالِ مُتَلبَّسٌ به ، وفي تَقديمِ هذا الظرفِ بِي تعريضٌ بضلالِهم .

قوله: وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وقَع استدراكًا للانتفاءِ عن الضَّلالةِ؛ فكونُه رسولًا مِن الله، مُبلِّغًا رِسالاتِه، ناصحًا، في معنى كونِه على الصِّراطِ المستقيمِ؛ فصحَّ لذلك أنْ يكونَ استدراكًا للانتفاءِ عن الضلالةِ ، وهو استدراكٌ ممَّا قَبْلَه باعتِبارِ ما يَستلزِمه مِن كونِه في أقْصَى مَراتبِ الهداية؛ فإنَّ رَسالةَ ربِّ العالَمِين مستلزِمةٌ لهذا لا مَحالةَ، كأنَّه قيل: ليس بي شَيءٌ مِن الضَّلالِ، ولكنِّي في الغايةِ القُصْوى من الهِدايةِ ، وهذا لرفْعِ مَا تَوهَّموه مِن أنَّه في ضلالٍ حيثُ خالَفَ دِينَهم، أي: هو في حالِ رِسالةٍ عن اللهِ تعالى، مع ما تَقْتضِي الرِّسالةُ من التبليغِ والنُّصحِ والإخبارِ بما لا يَعلمونه، وذلك ما حَسِبوه ضلالًا .

واختيارُ طريقِ الإضافةِ في تعريفِ المُرسَل بقوله: رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ؛ لِمَا تُؤذِنُ به مِن تَفخيمِ المضافِ، ومِن وجوبِ طاعتِه على جميعِ النَّاسِ؛ تعريضًا بقومِه إذ عَصَوْه ، ومِن في قولِه: رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ لابتداءِ الغايةِ مُتعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقَع صِفةً لـ رسولٌ، وهي مُؤكِّدةٌ لِمَا يُفيدُه التنوينُ مِن الفخامةِ الذَّاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ، أيْ: رسولٌ وأيُّ رَسولٍ كائنٌ مِن ربِّ العالَمِين .

قوله: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

قوله: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ استئنافٌ على سَبيلِ البَيانِ لكونِه رسولًا، وهو مَسوقٌ لتَقريرِ رِسالتِه، وتفصيلِ أَحكامِها وأحوالِها، ويجوزُ أن تكونَ هذه الجملةُ في موضِع الصِّفة لـرَسُول ، والمقصودُ منها إفادةُ التجدُّد، وأنَّه غيرُ تاركٍ التبليغَ مِن أجْلِ تَكذيبِهم؛ تَأْييسًا لهم مِن متابعتِه إيَّاهم، ولولا هذا المقصدُ لكان معنى هذِه الجملةِ حاصلًا مِن معنى قوله: وَلَكِنِّي رَسُولٌ .

وقَولُه: أُبَلِّغُكُمْ مِنَ التَّبليغِ، وهي بالتَّشديدِ؛ لإفادةِ مَعنى التَّدريجِ والتَّكرارِ، وذلك يناسِبُ قَولَه: رِسَالَاتِ بالجَمعِ؛ باعتبارِ مُتعَلقِها وموضوعِها .

قوله: رِسَالَاتِ رَبِّي: جَمَع رِسَالَات؛ لاختِلافِ أوقاتِها، أو لتنوُّعِ مَعانِيها مِن الأوامرِ والنَّواهِي، والمواعظِ والزَّواجِر، والبَشائِر والنَّذائر، أو لأنَّ كلَّ تَبليغٍ يَتضمَّنُ رسالةً بما بلَّغَه .

قولُه: رَبِّي فيه تَخصيصُ رُبوبيَّتِه تعالى بِه عليه الصَّلاةِ والسَّلام بعدَ بَيانِ عمومِها للعَالَمين بقوله: مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ للإشعارِ لعِلَّة الحُكمِ الذي هو تَبليغُ رِسالتِه تعالى إليهم؛ فإنَّ رُبوبيَّتَه تعالى له عليه الصَّلاة والسلامُ مِن موجباتِ امتثالِه بأمْره تعالى بتبليغِ رسالتِه تعالى إليهم .

ووَجهُ العُدولِ عَنِ الإضمارِ إلى الإظهارِ- حيثُ قال: رِسَالَاتِ رَبِّي، ولم يَقُل: (رِسَالاتِه)- هو ما تُؤذِنُ به إضافةُ الرَّبِّ إلى ضَميرِ المُتكَلِّمِ مِن لُزومِ طاعَتِه، وأنَّه لا يَسَعُه إلَّا تبليغُ ما أمَرَه بتبليغِه، وإن كَرِهَ قَومَه .

قولُه: وَأَنْصَحُ لَكُمْ في الإتيانِ بالمضارعِ دَلالةٌ على تَجديدِ النُّصحِ لهم، وأنَّه غيرُ تاركِه مِن أجْلِ كراهيتِهم أو بَذاءتِهم .

الأصلُ في معنى (يَنصَحُ) أنْ يَتعَدَّى إلى المفعولِ بنَفْسِه، وفي زِيادة اللَّامِ هنا- حيثُ قال: وَأَنْصَحُ لَكُمْ ولم يقُلْ: (وأَنْصَحُكم)- مبالغةٌ ودلالةٌ على إمحاضِ النَّصيحةِ، وأنَّها وقعَتْ خالصةً للمنصوحِ له، مقصودًا بها جانبُه لا غيرُ .

قَولُه تعالى: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ جاءَ بعدَ قولِه تعالى: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ؛ جمعًا لِمَعانٍ كثيرةٍ ممَّا تتضَمَّنُه الرِّسالةُ، وتأييدًا لِثَباتِه على دَوامِ التَّبليغِ والنُّصحِ لهم، والاستخفافِ بكراهِيَتِهم وأذاهم؛ لأنَّه يعلَمُ ما لا يَعلمونَه مِمَّا يَحمِلُه على الاستِرسالِ في عَمَلِه ذلك؛ فجاءَ بهذا الكلامِ الجامِع، ويَتضمَّنُ هذا الإجمالُ البديع أيضًا تهديدًا للمُخالِفين من قومِه بحلولِ عَذابٍ بهم في العاجِل والآجِل، وتَنبيهًا للتأمُّلِ فيما أَتاهم به، وفتحًا لبصائرِهم أن تتطلَّبَ العلمَ بما لم يكونوا يَعلمونه، وكلُّ ذلك شأنُه أنْ يَبعثَهم على تصديقِه، وقَبولِ ما جاءَهم به .

قَولُه تعالى: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ  عبَّر بالاستفهامِ دُونَ أن يقولَ: (لا عَجَبَ)؛ إشارةً إلى أنَّ احتمالَ وُقوعِ ذلك منهم ممَّا يتردَّدُ فيه ظَنُّ العاقِلِ بالعُقلاءِ، فقَولُه: أَوَعَجِبْتُمْ بمنزلةِ المَنعِ لقضيَّةِ قَولِهم: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ؛ لأنَّ قَولَهم ذلك بمنزلةِ مُقَدِّمةِ دليلٍ على بُطلانِ ما يدعوهم إليه .

قوله: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ

قوله: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فيه تَقديمُ الإخبارِ بالإنجاءِ على الإخبارِ بالإغراقِ، مع أنَّ مُقتضى مقامِ العِبرةِ تَقديمُ الإخبارِ بإغراقِ المُنكرينَ؛ وذلك للمسارعةِ إلى الإخبارِ به، والإيذانِ بسَبْقِ الرحمةِ، وللاهتمامِ بإنجاءِ المُؤمنينَ، وتعجيلًا لِمَسرَّةِ السَّامعينَ مِنَ المُؤمنينَ، بأنَّ عادةَ اللهِ إذا أهلَكَ المشركينَ أن يُنَجِّيَ الرسولَ والمُؤمنينَ؛ فذلك التقديمُ يفيدُ التَّعريضَ بالنَّذَارة، وإلَّا فإنَّ الإغراقَ وقَعَ قبل الإنجاءِ؛ إذ لا يظهَرُ تحقُّقُ إنجاءِ نُوحٍ ومَن معه إلَّا بعد حُصولِ العَذابِ لِمَن لم يؤمِنوا به .

وقوله: فِي الْفُلْكِ مُتعلق بمعنى قولِه: مَعَهُ؛ لأنَّ تَقديرَه: استقرُّوا معه في الفُلك، بهذا التعليقِ عُلِم أنَّ اللهَ تعالى أمَرَه أنْ يَحمِلَ في الفُلكِ مَعشرًا، وأنَّهم كانوا مُصدِّقين له؛ فكان هذا التعليقُ إيجازًا بديعًا .

والإتيانُ بالموصولِ (الَّذين) في قَولِه: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا دونَ أن يقولَ: (وأَغْرَقْنا سائرَهم)، أو (بقِيَّتَهم)؛ لِمَا تُؤذِن به الصِّلةُ من وجهِ تَعليلِ الخبرِ في قوله: وَأَغْرَقْنَا، أي: أَغرقْناهم لأجْلِ تَكذيبِهم .

وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ، وفي سُورة يونس قال: فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ [يونس: 73] ؛ فاختلف نقْلُ الفِعل بالهمزةِ في الأُولى، وفي الثانية بالتَّضعيف، وفي الأولى قال: وَالَّذِينَ مَعَهُ، وفي الثانية: وَمَنْ مَعَهُ، فاختَلَف الموصولُ أيضًا؛ لأنَّ قولَه: أَنْجَيْنا أَصلٌ في هذا البابِ؛ لأنْ (أفعلت) في باب النَّقل أصلٌ لـ(فعلت) وهو أكثرُ؛ فآية الأعراف جاءتْ على الأصلِ الأكثرِ، وقوله: وَالَّذِينَ مَعَهُ هو الأصلُ، و(مَنْ) تجيء بمعناها، وتكونانِ مشتركتَينِ في مَعانٍ، و(الذين) خالصةٌ للخبر، مخصوصةٌ بالصِّلة؛ فاستُعمِلَ الأصلُ في اللَّفظين، وهما: (أَنجينا) و(الذين)، ولَمَّا كُرِّرَ هذا الذِّكرُ كان العدولُ إلى اللَّفظين الآخَرين اللَّذين هما معناهما، وهما: (نَجَّينا) و(مَن) أشبهَ بطريقةِ الفصحاءِ وعادةِ البلغاءِ . وقيل: لأنَّ (أَنْجينا) و(نجَّينا) للتعدِّي، لكنَّ التَّشديدَ يدلُّ على الكثرةِ والمبالَغة؛ فكان في يُونُس وَمَنْ مَعَهُ ولَفْظُ (مَن) يقعُ على كثرةِ ما يَقعُ عليه (الذين)؛ لأنَّ (مَن) يَصلُح للواحدِ والتثنيةِ والجمعِ، والمُذكَّر والمؤنَّث، بخِلاف (الذين) فإنَّه لجمْع المذكَّر فحسبُ؛ فكان التَّشديدُ مع (مَن) أَليقَ .

قوله: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ حرفُ (إنَّ) هنا لا يُقصَدُ به ردُّ الشكِّ والتردُّد؛ إذ لا شكَّ فيه، وإنَّما المقصودُ مِن الحرفِ الدَّلالةُ على الاهتمامِ بالخبرِ، ومِن شأن (إنَّ) إذا جاءت للاهتمامِ أنْ تَقومَ مقامَ فاء التَّفريعِ .

وعبَّر عنهم بالصِّفةِ المُشَبَّهةِ عَمِينَ؛ لِدَلالَتِها على ثُبوتِ الصِّفةِ، وتمكُّنِها بأن تكون سَجِيَّةً

=======

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (65-72)

ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ

غريب الكلمات:

 

خُلَفَاءَ: جَمعُ خَليفةٍ، والخِلافةُ هي النِّيابةُ عَنِ الغَيرِ؛ يُقال: خَلَف فلانٌ فلانًا: قام بالأمرِ عنه، إمَّا معه وإمَّا بَعدَه، وأصل (خلف): مجيءُ شَيءٍ بعدَ شيءٍ يقومُ مَقامَه

.

بَسْطَةً: أي: سَعَةً، مِن بسطْتُ الشَّيءَ: إذا كان مجموعًا، ففَتَحْتَه ووسَّعْتَه، والبَسطةُ في كلِّ شيءٍ السَّعةُ؛ يقال: هو بسيطُ الجِسمِ والباعِ والعِلمِ، وأصل (بسط): امتدادُ الشَّيء .

آلَاءَ: أي: نِعَم، واحِدُها أَلًى وإِلًى .

وَنَذَرَ: أي: نترُكَ ونَدَعَ، مِن وَذِرَ يَذَرُ؛ يُقال: فلانٌ يَذَرُ الشَّيءَ، أي: يَقذِفُه لقلَّةِ اعتدادِه به .

وَقَعَ: أي: وجَبَ، من الوُقوعِ وهو ثبوتُ الشَّيءِ وسُقوطُه، وأكثرُ ما جاءَ في القُرآن مِن لفظ (وقع) جاء في العذابِ الشَّديدِ .

رِجْسٌ: أي: عَذَابٌ وسَخَطٌ، ويُطلَقُ الرِّجسُ على كلِّ ما استُقذِرَ مِنَ العمَلِ، وعلى العمَلِ الْمُؤَدِّي إلى العَذابِ والعِقابِ والغضَبِ، وأصل (رجس): النَّتن، ويَدُلُّ أيضًا على اختلاطٍ، ومنه القَذَرُ؛ لأنه لَطْخٌ وخَلْطٌ .

وَقَطَعْنَا دَابِرَ: أي: أهلَكْناهم عَن آخِرِهم، وقطْعُ دابرِ الإنسانِ: هو إفناءُ نَوعِه، ، ودابرُ القومِ آخرُهم، وأصل (قطع): الفَصلُ، وَأصل (دبر): آخِرُ الشَّيْءِ وَخَلْفُهُ، خِلَافُ قُبُلِهِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه أرسَلَ إلى قبيلةِ عادٍ أخاهم في النَّسَبِ هُودًا؛ لِيدعُوَهم إلى عِبادةِ اللهِ وَحدَه، وتَرْكِ عبادةِ ما سواه، فقال لهم: اعبُدُوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم معبودٌ يستحِقُّ العبادةَ غَيرُه، أفلَا تتَّقونَ رَبَّكم، وتَخافونَ عَذابَه وسَخَطَه عليكم؟ فقال الرُّؤساءُ المُتَكبِّرونَ مِن قَومِه: إنَّا لَنَراك في حُمقٍ وخِفَّةِ عَقلٍ، وإنَّا لنَظُنُّك مِنَ الكاذبينَ.

فقال لهم هودٌ: يا قومِ، ليس بي حُمقٌ ولا خِفَّةُ عَقلٍ، ولكِنِّي مُرسَلٌ مِن رَبِّ العالَمينَ، أُبَلِّغُكم ما أرسَلَني ربِّي به، وأنا لكم ناصِحٌ أمينٌ، وهل عَجِبْتُم مُستبعِدينَ أن يأتِيَكم تذكيرٌ مِن رَبِّكم على رَجُلٍ منكم؛ لأجْلِ أن يُخَوِّفَكم مِن عُقوبةِ رَبِّكم على كُفرِكم؟ واذكروا نِعمةَ اللهِ عليكم؛ إذ جَعَلَكم تخلُفونَ قومَ نُوحٍ بعد أن أهلَكَهم، وزادَكم في الطُّولِ وقُوَّةِ الأبدانِ، فاذكُروا نِعَمَ اللهِ عليكم؛ لعَلَّكم تَفوزونَ وتَسعَدونَ.

قالوا: أجِئتَنا لنَعبُدَ اللهَ وَحدَه، ونترُكَ ما كان يعبُدُه آباؤُنا؛ فأْتِنا يا هودُ بما تَعِدُنا مِنَ العذابِ إن كُنتَ صادِقًا. فقال لهم هُودٌ: قد وقَعَ عليكم مِن ربِّكم عذابٌ وغَضَبٌ لا محالةَ، أتُخاصِمُونَني في أصنامٍ سَمَّيتُموها أنتم وآباؤُكم، ما جعَلَ اللهُ لكم مِن حُجَّةٍ على عِبادَتِكم لها؟ فانتظِروا ما هو واقِعٌ بكم مِنَ العذابِ، وأنا معكم مُنتَظِرٌ.

ثم أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه أنجاه ومَن مَعه مِنَ المؤمنينَ برحمةٍ منه عَزَّ وجَلَّ، وأهلَكَ بالعذابِ الشَّديدِ الذين كذَّبوا بآياتِه، ولم يكونوا مُؤمنينَ.

تفسير الآيات:

 

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ

أي: ولقَدْ أرسَلْنا إلى قبيلةِ عادٍ أخاهم في النَّسَبِ هُودًا عليه السَّلامُ؛ لِيَدعُوَهم إلى عبادةِ اللهِ وَحدَه، وينهاهُم عن عبادةِ غَيرِه، فقال لهم: يا قومِ، اعبُدُوا اللهَ وَحدَه ليس لكم معبودٌ يستحِقُّ العبادةَ غيرُه، فلا تُشرِكوا به شيئًا

.

أَفَلَا تَتَّقُونَ

أي: أفلا تتَّقونَ رَبَّكم، فتحذَرونه وتخافون سَخَطَه وعقابَه، إن أقمتم على ما أنتم عليه مِن عبادةِ غَيرِه .

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ

أي: قال الأشرافُ والرُّؤساءُ، الكَفَرةُ المُتكَبِّرونَ عَنِ الحَقِّ مِن قَومِ هُودٍ حين دعاهم إلى إفرادِ اللهِ بالعبادةِ: إنَّا لنعتقِدُ أنَّك- يا هودُ- في ضلالٍ وحُمقٍ وخِفَّةِ عَقلٍ؛ حيث تدعُونا إلى عبادةِ اللهِ وَحدَه، وتركِ ما كان يعبُدُ آباؤُنا .

وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ

أي: وإنَّا لنظُنُّ أنَّك- يا هودُ- مِنَ الكاذبينَ في ادِّعائِك النُّبوَّةَ، ودَعوَتِك لنا إلى عبادةِ اللهِ وَحدَه .

قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)

أي: قال هودٌ لِقَومِه: يا قومِ، ليس بي حُمقٌ ولا خِفَّةُ عَقلٍ، حين دعوتُكم إلى توحيدِ اللهِ، ونَهَيتُكم عن الشِّركِ به، ولكِنِّي مُرسَلٌ إليكم مِنَ الذي خلَقَ كُلَّ شَيءٍ، وهو مالِكُه ومُدَبِّرُ شُؤونِه .

أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)

أي: وظيفتي أنْ أُوصِلَ إليكم الرِّسالةَ التي أرسَلَني اللهُ بها، وهي أمْرُكم بتوحيدِه، ونَهيُكم عنِ الشِّركِ به، ودَعْوَتُكم لطاعَتِه، وأنا أبغِي لكم بذلك الخيرَ في الدُّنيا والآخرةِ، فلا أغُشُّكم ولا أخدَعُكم، أمينٌ على ما ائتَمَنَني اللهُ عليه مِنَ الرِّسالةِ، فأبلِّغُها لكم كما أُمِرْتُ .

كما قال تعالى حاكيًا قولَ هُودٍ عليه السَّلامُ: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود: 51-52] .

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ

أي: هل تعجَّبتم مستبعدينَ أن يَجِيئَكم تذكيرٌ مِنَ اللهِ، أنزَلَه على رجُلٍ مِنَ البَشَرِ، تَعرفونَ نَسَبَه وصِدقَه؛ لأجلِ أن يُخَوِّفَكم عقابَ اللهِ على كُفرِكم به؟ أي: فكيفَ تعجَبونَ مِمَّا لا ينبغي العَجَبُ منه؟! فليس بعجَبٍ أن يُوحِيَ اللهُ إلى رجلٍ منكم؛ رحمةً بكم، وإحسانًا إليكم .

كما قال سبحانه: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] .

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ

أي: واذكروا نعمةَ اللهِ عليكم، بأنْ جَعَلَكم تخلُفُونَ قَومَ نُوحٍ في الأرضِ مِن بعدِ هَلاكِهم؛ حيث أبدَلَكم بِهِم .

وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً

أي: واذكروا نعمةَ اللهِ عليكم بما خَصَّكم به على النَّاسِ؛ مِن زيادةٍ في الطُّولِ، وقُوَّةٍ في الأبدانِ .

كما أخبر الله تعالى أنَّه لم يَخلقْ مثلَ قبيلةِ عادٍ في قوَّتِهم وشدَّتِهم وجبروتِهم بقَولِه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [الفجر: 8] .

فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

أي: فاذكُرُوا نِعَمَ اللهِ الكثيرةَ عليكم، واشكُرُوه عليها؛ بِطاعَتِه وعبادَتِه وَحْدَه؛ كي تَفوزُوا وتَسعَدُوا، وتنالوا الخُلودَ في الجَنَّةِ .

كما قال تعالى حاكيًا قولَ هُودٍ عليه السَّلامُ: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشعراء: 132 - 134] .

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا

أي: قالتْ عادٌ قَومُ هُودٍ: أجِئتَنا- يا هودُ- كي نعبُدَ اللهَ وَحدَه، ونترُكَ ما كان يعبُدُ آباؤُنا مِن الأصنامِ، ونتبَرَّأَ منها ؟

فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ

أي: لن نُوَحِّدَ اللهَ، ولن نترُكَ عبادةَ الأصنامِ، فهاتِ- يا هودُ- ما تعِدُنا به مِنَ العَذابِ على عبادةِ غَيرِ اللهِ، وتَرْكِنا توحيدَه، إن كنتَ مِن أهلِ الصِّدقِ فيما تقولُ مِن أنَّ العَذابَ واقِعٌ علينا .

كما حكى تعالى عنهم بِقَولِه: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأحقاف: 22] .

قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)

قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ

أي: قال هودٌ لِقَومِه: قد حلَّ بكم- لا محالةَ- عَذابٌ وغَضَبٌ مِن رَبِّكم .

أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ

أي: كيف تُخاصِمُونَني وتُحاجِجونَني في هذه الأصنامِ التي سَمَّيتُموها أنتم وآباؤُكم آلهةً، زاعِمينَ أنَّها تُعبَدُ مع اللهِ، وهي مُجَرَّدُ أسماءٍ باطلةٍ اختَلَقْتُموها، ولا حقيقةَ لها، ولم يجعَلِ اللهُ لكم مُطلقًا حُجَّةً على عِبادَتِها ؟

كما قال تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 66-70] .

فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ

أي: فانتَظِروا مُتَرَقِّبينَ وقوعَ عذابِ اللهِ، الذي وعَدْتُكم به، إنِّي أنتظِرُ وأترَقَّبُ معكم نُزُولَه بكم .

فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ(72)

فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا

أي: فأنجَينا هُودًا والَّذين معه مِنَ المؤمنينَ بِسَبَبِ رَحْمَتِنا العظيمةِ لهم .

كما قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [هود: 58] .

وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا

أي: وأهلَكْنا واستَأصَلْنا بالعَذابِ الشَّديدِ جميعَ الكُفَّارِ المُكَذِّبينَ بآياتِنا مِن قَومِ هُودٍ، فلم نُبْقِ منهم أحدًا .

كما قال تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة: 6-8] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 41-42].

وقال سُبحانه: كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 18-20].

وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ

أي: وما كان قَومُ هُودٍ مُؤمنينَ باللهِ، ولا بما جاءَهم به رسولُه هودٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ

 

.

كما قال تعالى: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود: 53] .

وقال سبحانه: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ [هود: 59-60] .

وقال عَزَّ وجَلَّ: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت: 15] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال اللهُ تعالى حكايةً عَنِ المَلَأِ: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ... في إجابةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ مَن نَسَبَهم إلى الضَّلالةِ والسَّفاهةِ بما أجابُوهم؛ مِنَ الكلامِ الصَّادِرِ عنِ الحِلمِ والإغضاءِ، وتَرْكِ المُقابلةِ بما قالوا لهم، مع عِلْمِهم بأنَّ خُصُومَهم أضَلُّ النَّاسِ، وأسْفَهُهم- أدبٌ حَسَنٌ، وخُلُقٌ عظيمٌ، وحكايةُ اللهِ عَزَّ وجلَّ عنهم ذلك؛ تعليمٌ لِعبادِه كيف يُخاطِبونَ السُّفَهاءَ، وكيف يُغْضُونَ عنهم، ويُسْبِلونَ أذيالَهم على ما يكونُ منهم

.

2- في قولِ هُودٍ عليه السَّلامُ لِقَومه: يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ دليلٌ على أنَّ تَرْكَ الانتقامِ أَوْلى؛ فإنَّهم لَمَّا قالوا له: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ لم يُقابِلْ سَفاهَتَهم بالسَّفاهةِ، بل قابَلَها بالحِلمِ والإغضاءِ .

3- قال اللهُ تعالى: فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إنَّما أمَرَهم بالذُّكْرِ؛ لأنَّ النَّفسَ تنسى النِّعَمَ فتكفُرُ المُنعِمَ، فإذا تذكَّرَتِ النِّعمةَ رأَتْ حَقًّا عليها أن تَشكُرَ المُنعِمَ؛ ولذلك كانت مسألةُ شُكرِ المُنعِمِ مِن أهَمِّ مَسائِلِ التَّكليفِ .

4- ذكرُ آلاءِ الله تبارك وتعالى ونِعَمِه على عبدِه سببُ الفلاحِ والسَّعادة؛ لأنَّ ذلك لا يزيدُه الا محبةً لله وحمدًا وشكرًا وطاعةً وشهودَ تقصيرِه، بل تفريطِه في القليلِ مما يجبُ لله عليه، قال تعالى: فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

5- إنْ قِيلَ: العبدُ في بعضِ الأحيانِ قد لا يكونُ عنده مَحَبَّةٌ تَبعَثُه على طلَبِ مَحبُوبِه، فأيُّ شَيءٍ يُحَرِّكُ القُلوبَ؟ قُلنا: يُحَرِّكُها شيئانِ: أحدُهما كثرةُ الذِّكرِ للمَحبوبِ؛ لأنَّ كَثرةَ ذِكرِه تُعَلِّقُ القلوبَ به؛ ولهذا أمَرَ اللهُ عزَّ وجَلَّ بالذِّكرِ الكَثيرِ، فقال تعالى: يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا الآية. والثاني: مُطالعةُ آلائِه ونَعمائِه؛ قال الله تعالى: فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وقال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ وقال تعالى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وقال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا فإذا ذكَرَ العبدُ ما أنعَمَ اللهُ به عليه: مِن تسخيرِ السَّماءِ والأرضِ، وما فيها مِنَ الأشجارِ والحَيَوانِ، وما أسبَغَ عليه مِنَ النِّعَمِ الباطنةِ من الإيمانِ وغَيرِه؛ فلا بُدَّ أن يُثيرَ ذلك عنده باعثًا، وكذلك الخوفُ تُحَرِّكُه مُطالعةُ آياتِ الوَعيدِ والزَّجرِ، والعَرْضِ والحِسابِ ونحوِه، وكذلك الرَّجاءُ يُحَرِّكه مُطالعةُ الكَرَمِ والحِلمِ والعَفوِ، وما ورد في الرَّجاءِ .

6- في قَولِه تعالى: أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ أنَّ كُلَّ ما يتَعَلَّقُ بِعِبادَتِه لا يجوزُ أنْ يُؤخَذَ إلَّا مِمَّا أنزَلَه على رُسُلِه؛ إذ لا يَعلَمُ ما يُرضِيه ويصِحُّ عنده مِن عِبادَتِه إلَّا المُبَلِّغونَ عنه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ الله تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا أي: في النَّسَبِ؛ لأنَّهم عنه أفهَمُ، وبحالِه في الثِّقةِ والأمانةِ أعرَفُ

.

قَولُ الله تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا لَمَّا عَطَفَ ذِكرَ هُودٍ على نوحٍ- عليهما السلام- بَيَّنَه بِقَولِه: أَخَاهُمْ هُودًا، ولم يُوصَفْ نُوحٌ بأنَّه أخٌ لِقَومِه؛ لأنَّ النَّاسَ في زَمَنِ نوحٍ لم يكونوا قد انقَسَموا شُعوبًا وقبائِلَ .

قولُ اللهِ تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا دليلٌ على جوازِ تَسميةِ القَريبِ الكافِرِ (أخًا) .

قال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قد شابَهَت دعوةُ هُودٍ قَومَه، دعوةَ نُوحٍ قَومَه في المُهِمِّ مِن كلامِها؛ لأنَّ الرُّسُلَ مُرسَلونَ مِنَ اللهِ، والحكمةُ مِنَ الإرسالِ واحدةٌ، فلا جَرَمَ أنْ تتشابَهَ دَعَواتهُم، وفي الحديثِ: ((الأنبياءُ أبناءُ عَلَّاتٍ )) ، وقال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى .

الغايةُ التي بُعِثَ مِن أجلِها الرُّسُلُ: إفرادُ اللهِ تعالى بالعبادةِ، والنَّهيُ عن جميعِ المُوبِقاتِ، مِن الكُفرِ والفُسوقِ والعِصيانِ؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قولُه تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ .

قال اللهُ تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ قد تشابَهَتْ أقوالُ قَومِ هُودٍ، وأقوالُ قَومِ نُوحٍ في تكذيبِ الرَّسولِ؛ لأنَّ ضَلالةَ المُكَذِّبينَ مُتَّحدةٌ، وشُبُهاتِهم مُتَّحِدة، كما قال تعالى: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة: 118] فكأنهَّم لَقَّنَ بَعضُهم بعضًا كما قال تعالى: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ .

يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّ الرِّسالةَ لا يُختارُ لها إلَّا أهلُ الحَصافةِ برُجحانِ العَقلِ، وسَعَةِ الحِلمِ، وكَمالِ الصِّدقِ، وإلَّا لفات ما يُقصَدُ بها مِنَ الحكمةِ، ولم تَقُمْ بها لله الحُجَّةُ .

قَولُ اللهِ تعالى: وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فيه مَدحٌ للنَّفسِ بأعظَمِ صِفاتِ المَدحِ؛ ومَدحُ الذَّاتِ الأصلُ فيه أنَّه غيرُ لائقٍ بالعُقلاءِ، لكن إنَّما فَعَلَ هُودٌ ذلك؛ لأنَّه كان يجِبُ عليه إعلامُ القَومِ بذلك، وذلك يدلُّ على أنَّ مَدْحَ الإنسانِ نَفسَه إذا كان في مَوضِعِ الضَّرورةِ؛ جائِزٌ .

قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ لَمَّا كانوا قد رَمَوْه- عليه السَّلامُ- بالسَّفَهِ الذي هو مِن غَرائِزِ النَّفسِ؛ لأنَّه ضِدُّ الحِلمِ والرَّزانة- عَبَّرَ عن مضمونِ الجُملةِ النَّافية له بما يقتضي الثَّباتَ، فقال: وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أي: لم يزَلِ النُّصحُ من صفتي، ثابتٌ فيَّ ومتمَكِّنٌ منِّي .

قَولُ الله تعالى: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أسنَدُوا الفِعلَ إلى ضَميرِه؛ تعريضًا بأنَّ ما تَوَعَّدَهم به هو شيءٌ مِن مُختَلَقاتِه، وليس مِن قِبَلِ اللهِ تعالى .

قَولُ اللهِ تعالى: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ عَقَّبوا كلامَهم بالشَّرطِ فقالوا: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ؛ استقصاءً لمقدِرَتِه، قصدًا منهم لإظهارِ عَجْزِه عن الإتيانِ بالعذابِ، وجوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ دَلَّ عليه ما قبلَه، تقديره: أتيتَ به، وإلَّا فَلَسْتَ بصادقٍ .

في قوله تعالى: قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ عَطفُ الغَضَبِ على الرِّجسِ لِبَيانِ أنَّ الرِّجسَ قد أُريدَ به الانتقامُ الحَتمُ، فلا يُمكِنُ رَفعُه .

قَولُ اللهِ تعالى: أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، قوله نَزَّلَ هذا التفعيلُ يأتي بمعنى الفِعلِ المُجَدَّد، وبمعنى الفعل بالتَّدريجِ، فقَصَد النفيَ بكلِّ اعتبارٍ: سواءٌ كان تجديدًا أو تدريجًا، وإشارة إلى أنَّه لو نَزَلَ عليهم في الأمرِ بعبادَتِها شيءٌ واحِدٌ، لتوَقَّفوا فيه؛ لعَدَمِ فَهْمِهم لمعناه حتى يُكَرِّرَ عليهم الأمرَ فيه مَرَّةً بعدَ أخرى، فدلَّ ذلك قطعًا على أنَّ الأمرَ لهم بعبادةِ الأصنامِ إنَّما هو ظَلامُ الهوى؛ لأنَّه عَمًى محضٌ، مِن شأنِ الإنسانِ رُكوبُه بلا دليلٍ أصلًا .

في قَولِه تعالى: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَرْقٌ بين الانتظارَينِ؛ انتظارِ مَن يخَشَى وُقوعَ العِقابِ، ومَن يَرجُو مِنَ اللهِ النَّصرَ والثَّوابَ؛ ولهذا فتَحَ اللهُ بين الفَريقينِ، فقال:فَأَنْجَيْنَاهُ أي: هودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا فإنَّه الذي هداهم للإيمانِ، وجعَلَ إيمانَهم سببًا ينالونَ به رَحمَتَه، فأنجاهم بِرَحمته، وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أي: استَأصَلْناهم بالعَذابِ الشَّديدِ، الذي لم يُبقِ منهم أحدًا .

قولُ الله تعالى: وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الدَّابِرُ هو آخِرُ واحدٍ في الرَّكْبِ يتبَعُ أدبارَ القَومِ، ففي الآيةِ إعلامٌ منه تعالى أنَّ أخْذَه لهم كان على غيرِ أخْذِ المُلوكِ الَّذينَ يَعجِزونَ عن الاستقصاءِ في الطَّلَبِ، فتَفُوتُهم أواخِرُ العَساكرِ، والمتفرقين مِن الجُنودِ والأتباعِ .

قولُ اللهِ تعالى: وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَصْفُهم بالتَّكذيبِ بالفِعلِ الماضي لا يُفهِم دوامَهم على تكذيبِهم، بل لنَفْيِ احتمالِ أنَّهم آمَنُوا بعد التَّكذيبِ، وأنَّ أخْذَهم إنَّما كان لمُطلَقِ صُدورِ التَّكذيبِ منهم، وأنَّهم لم يبادِروا إلى الإيمانِ قَبلَ التَّكذيبِ .

قول الله تعالى: وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ فائدة نَفْي الإيمانِ عنهم في قولِه: وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ مع إثباتِ التَّكذيبِ بآياتِ اللهِ، هو الإشارةُ إلى مَن آمَن منهم، ومَن نَجا مع هُودٍ عليه السَّلامُ، والتَّنبيهُ على أنَّ الفارقَ بَينَ مَن نَجَا وبَينَ مَن هلَك هو الإيمانُ، كأنَّه قال: وقَطَعْنا دابرَ الذين كذَّبوا منهم ولم يَكونوا مِثلَ مَن آمَنَ منهم؛ ليُؤذِنَ أنَّ الهلاك خَصَّ المُكذِّبين، ونَجَّى اللهُ المؤمنِين

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ

قوله: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هودًا فيه تقديمُ المجرورِ وَإِلَى على المفعولِ الأصليِّ هُودًا؛ ليتأتَّى الإيجازُ بالإضمارِ؛ حيثُ أُريد وصْفُ هودٍ بأنَّه مِن إخوةِ عادٍ ومِن صميمِهم، مِن غير احتياجٍ إلى إعادةِ لفظ (عاد)، ومع تجنُّبِ عودِ الضَّميرِ على متأخر لفظًا ورُتبةً

.

وقولُه: قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ مِن حِكايةِ إرسالِه عليه السلام إليهم كأنَّه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل: قال قوله: قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ .

وفُصِلتْ جملةُ: قَالَ يَا قَوْمِ ولم تُعطَفْ بالفاءِ- كما عُطِف نظيرُها المتقدِّمُ في قِصَّة نوح في قوله: فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، فعُطِفتْ بالفاءِ-؛ لأنَّ الحالَ اقتضَى هنا أنْ تكونَ مُستأنفةً استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ قِصَّةَ هُودٍ لَمَّا ورَدَتْ عقِبَ قِصَّة نوحٍ المذكورِ فيها دَعوتُه قَومَه، صار السامعُ مُترقِّبًا معرفةَ ما خاطَبَ به هودٌ قومَه، حيثُ بعَثَه اللهُ إليهم، فكان ذلك مثارَ سؤالٍ في نفْسِ السَّامعِ أن يقول: فماذا دعا هودٌ قومَه؟ وبماذا أجابوا؟ فيقع الجوابُ بأنَّه قال: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ...؛ فقدْ فُصِلتْ الجُملةُ هنا وفيما يأتِي مِن سائرِ القصص، والفَرقُ المقتضي لذلك أنَّ العطف هُنالك في قِصَّة نوحٍ جاءَ على أصْلِه: وهو كونُ التبليغِ جاءَ عقِبَ الإرسالِ؛ لأنَّ التأخيرَ غيرُ جائزٍ، ولَمَّا صارَ هذا معلومًا كان مِن المناسبِ فيما بَعْدَه مِن القصصِ أنْ يجيءَ بأُسلوبِ الاستئنافِ .

وجملةُ أَفَلَا تَتَّقُونَ استفهاميَّةٌ إنكاريةٌ معطوفةٌ بفاءِ التَّفريع على جُملةِ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، والمرادُ بالتَّقوَى الحذرُ مِن عِقابِ اللهِ تعالى على إشراكِهم غيرَه في العِبادةِ، واعتقادِ الإلهيَّةِ، وفيه تعريضٌ بوعيدِهم إنِ استمرُّوا على ذلك .

وإنَّما ابتدأَ بالإنكارِ عليهم؛ إغلاظًا في الدَّعوةِ، وتهويلًا لفظاعةِ الشِّرْك- إنْ كان قال ذلك في ابتداءِ دَعوتِه .

قَولُه تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ فيه تنكيرُ سَفَاهَةٍ؛ لبيانِ نَوعِها، أو المبالغة بعِظَمِها، أي: قالوا: إنَّا لنراكَ في سَفاهةٍ غريبةٍ، أو تامَّةٍ راسخةٍ تُحيط بك مِن كلِّ جانبٍ، بأنَّك لم تَثبُتْ على دِينِ آبائِك وأجدادِك، بل قُمتَ تَدْعُو إلى دِينٍ جديدٍ .

قَولُه تعالى: وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ لَكُمْ على عاملِه؛ للإيذانِ باهتمامِه بما يَنفعُهم .

قوله: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ

قوله: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ الهَمزةُ في قوله: أَوَعَجِبْتُمْ للإنكارِ والتَّوبيخِ، أي: هذا ممَّا لا يُعجَبُ منه؛ إذ له تعالى التصرُّفُ التامُّ بإرسالِ مَن يشاءُ لِمَن يشاءُ .

قوله: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ في هذا التذكيرِ تَصريحٌ بالنِّعمةِ، وتعريضٌ بالنَّذارةِ والوعيدِ بأنَّ قومَ نوح إنَّما استأصلَهم وأبادَهم عذابٌ مِن اللهِ على شِركِهم؛ فمَن اتَّبعهم في صُنعِهم يُوشِكُ أنْ يَحُلَّ به عذابٌ أيضًا .

قوله: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أعادوا تَكذيبَه بطريقِ الاستفهامِ الإنكاريِّ على دَعوتِه للتوحيدِ، وقَصَدوا ممَّا دلَّ عليه فِعلُ المجيءِ زِيادةَ الإنكارِ عليه، وتَسفيهَه على اهتمامِه بأمْرٍ مِثلِ ما دعاهم إليه، وهذا الجوابُ أقلُّ جفوةً وغِلظةً من جوابِهم الأوَّل؛ إذ قالوا: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، كأنَّهم قَصَدوا استنزالَ نَفْسِ هودٍ، ومحاولةَ إرجاعِه عمَّا دعاهم إليه؛ فلذلك اقْتَصروا على الإنكارِ، وذكَّروه بأنَّ الأمْرَ الذي أَنكرَه هو دِينُ آباءِ الجميعِ؛ تعريضًا بأنَّه سَفَّه آباءَه، وهذا المقصدُ هو الذي اقْتَضى التعبيرَ عن دِينِهم بطريقِ الموصوليَّة في قولهم: مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؛ إيماءً إلى وجْه الإنكارِ عليه، وإلى أنَّه حقيقٌ بمتابعةِ دِين آبائِه .

واجتلابُ (كان) في قولهم: وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا لتدلَّ على أنَّ عبادَتَهم أمرٌ قديمٌ مَضَتْ عليه العُصورُ .

والتعبير بالفِعل وكونه مُضارِعًا في قوله: يَعْبُدُ؛ ليدلَّ على أنَّ ذلك مُتكرِّرٌ مِن آبائهم ومُتجِّددٌ، وأنَّهم لا يَفتُرون عنه .

وفي قولهم: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا أَسْنَدوا الفِعلَ إلى ضَميرِه؛ تعريضًا بأنَّ ما تَوعَّدهم به هو شيءٌ مِن مُختَلَقاتِه، وليس مِن قِبَلِ اللهِ تعالى .

قوله: قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ

قوله: قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ فيه تقديمُ الظرفِ الأوَّل عَلَيْكُمْ على الثاني مِنْ رَبِّكُمْ، مع أنَّ مَبْدأَ الشيءِ متقدِّمٌ على مُنتهاه؛ للمُسارعةِ إلى بيانِ إصابةِ المكروهِ لهم، وتقديمهما على الفاعِل رِجْسٌ؛ للاهتمامِ بتَعجيلِ ذِكرِ المغضوبِ والغاضِب، إيقاظًا لبصائرِهم؛ لعلَّهم يُبادِرونَ بالتوبةِ، ولأنَّ المَجرورَينِ مُتعلِّقانِ بالفِعلِ؛ فناسَب إيلاؤُهما إيَّاه، ولو ذُكِرَا بعدَ الفاعِلِ؛ لتُوهِّم أنَّهما صِفتانِ له، وقُدِّم المجرورُ الذي هو ضميرُهم، على الذي هو وصْفُ ربِّهم؛ لأنَّهم المقصودُ الأوَّلُ بالفِعلِ .

قوله: قَدْ وَقَعَ فيه استعمالُ صِيغة المُضيِّ في مَعْنى الاستقبالِ؛ إشعارًا بتَحقيقِ وقوعِه، واقترانُ الفِعل وَقَعَ بـقَدْ؛ للدَّلالةِ على تَقريبِ زَمنِ الماضي مِن الحال، مِثلُ: قد قامَتِ الصَّلاةُ .

قوله: أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الاستفهامُ في قوله: أَتُجَادِلُونَنِي للإنكارِ؛ فهو إنكارٌ مِنه لِمُخاصمتِهم له فيما لا يَنبغي فيه الخِصامُ .

قوله: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ صِيغةُ الأمْر فَانْتَظِرُوا للتَّهديدِ، والجُملةُ استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ تَهديدَه إيَّاهم يُثيرُ سؤالًا في نُفوسِهم أنْ يقولوا: إذا كُنَّا ننتظرُ العذابَ؛ فماذا يكونُ حالُك؟ فبَيَّن أنَّه يَنتظِرُ معهم، وهذا مقامُ أَدبٍ معَ اللهِ تعالى .

والفاءُ في قولِه: فَانْتَظِرُوا لتَفريعِ هذا الإنذارِ والتَّهديدِ السَّابق؛ لأنَّ وُقوعَ الغَضبِ والرِّجسِ عليهم، ومُكابرتَهم واحتجاجَهم لِمَا لا حُجَّةَ له؛ ينشأُ عن ذلك التَّهديدُ بانتظارِ العذابِ .

قوله: فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ كانَ مُقتضَى الظاهِرِ أنْ يَكونَ النَّظمُ هكذا: (فقطَعْنا دابرَ الذين كذَّبوا... وأنْجَينا هودًا...)، ولكن جَرَى النَّظمُ على خِلافِ مُقتضَى الظاهِرِ؛ للاهتمامِ بتَعجيلِ الإخبارِ بنَجاةِ هُودٍ ومَن آمَن مَعه .

قوله: بِرَحْمَةٍ مِنَّا تَنكيرُ الرَّحمةِ للتَّعظيمِ، ووصفُها بأنَّها مِن اللهِ؛ للدَّلالةِ على كمالِها وأنَّها غيرُ مُنقطعةٍ عنهم ، وقولُه: مِنَّا، أي: مِن جِهتنا، مُتعلِّق بمحذوف هو نعتٌ لـ رَحْمَةٍ مُؤكِّدٌ لفخامتِها الذاتيَّةِ المنفهمةِ مِن تنكيرِها بالفَخامةِ الإضافيَّةِ .

قوله تعالى: وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ عَطفٌ على كَذَّبُوا في قولِه تعالى: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا؛ فهو مِن الصِّلةِ، وفائدةُ عَطْفِه الإشارةُ إلى أنَّ كِلتَا الصِّلتينِ مُوجِبٌ لقَطعِ دابرِهم، وهما: التَّكذيبُ، والإشراك؛ تَعريضًا بمُشركِي قُرَيشٍ، ولموعظتِهم ذُكرتْ هذه القَصصُ

===============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (73-79)

ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ

غريب الكلمات:

 

بَيِّنَةٌ: أَيْ: بصيرةٌ ودَلالةٌ، ويقينٌ، وحُجَّةٌ وبُرهانٌ، وأصلُ (بين): الانْكِشاف

.

آيَةً: الآيةُ تُطلَقُ على العلامةِ- يُقال: آيةُ كذا؛ أي: علامَتُه- وعلى العَجيبةِ، وتُطلق أيضًا على الجماعةِ، وسُمِّيت الآيةُ مِن القرآنِ بذلك: إمَّا مِن العلامةِ؛ لأنَّها علامةٌ على صدقِ مَن جاء بها، أو مِن الجماعةِ؛ لأنَّها جماعةٌ مِن كلماتِ القرآنِ مشتملةٌ على بعضِ ما اشتَمل عليه القرآنُ مِن الإعجازِ، والحلالِ والحرامِ، والعقائدِ .

وَلَا تَمَسُّوهَا: ولا تُصيبُوها ولا تَقتُلوها ولا تَنالوها بعَقْرٍ، والمسُّ يُقال في كلِّ ما يُصيبُ مِن أذًى، وأصل (مسس): جَسُّ الشَّيءِ باليَدِ .

وَبَوَّأَكُمْ: أي: وأنزَلَكم، وجَعَل لكم مَساكِنَ وأزواجًا، وأصل (بوأ): يَدُلُّ على الرُّجوعِ إلى الشَّيءِ، وعلى تساوِي الشَّيئينِ .

سُهُولِهَا: السهْلُ هو المكانُ المنخفضُ المستوي، الذي لا وَعْرَ فيه، وأصل (سهل): اللِّينُ، وهو عَكسُ الحُزونةِ والصُّعوبةِ .

وَتَنْحِتُونَ: أي: تَنقبُونَ، وأصل (نحت): يدلُّ على نَجْرِ شَيءٍ، وَتَسوِيَتِهِ بِحَديدةٍ .

وَلَا تَعْثَوْا: لَا تَطْغَوْا، وَلَا تَسْعَوْا بالمعاصِي، من عَثِيَ أو عَثَا، وفيه لغةٌ أخرى: أنَّه من عَاثَ يَعيثُ، والعَيثُ أشَدُّ الفَسادِ والإفساد. وأصلُ (عيث): الفَسادُ، والعَيثُ والعِثِيُّ مُتقاربانِ، إلَّا أنَّ العَيثَ أكثَرُ ما يُقالُ في الفَسادِ الذي يُدرَكُ حِسًّا، والعِثِيَّ فيما يُدْرَكُ حُكمًا .

فَعَقَرُوا: أي: فنَحَروا، أو فقَتَلوا، وأصل (عقر): يدلُّ على جُرحٍ أو ما يُشبِهُ الجُرحَ .

وَعَتَوْا: أي: تكبَّروا وَتجبَّرُوا، والعُتُوُّ: النبوُّ عن الطَّاعةِ، وأصله: يدلُّ على الاستكبارِ .

الرَّجْفَةُ: أي: الصَّيحةُ التي زَعزَعَتْهم وحرَّكَتْهم للهلاكِ، والرَّجفةُ: حَرَكَةُ الأَرْضِ، أو الزَّلزلةُ الشَّدِيدَةُ، والرَّجْفُ: الاضطرابُ الشَّديدُ، وأصلُ (رجف): يَدُلُّ على اضطرابٍ .

جَاثِمِينَ: أي: جامِدينَ مَيِّتينَ، واقعينَ بعضُهم على بعضٍ، أو: بارِكينَ على الرُّكَبِ أَيضًا؛ مِن قَولِهم: جَثَمَ الطَّائرُ إذا قعَد ولَصِق بالأرضِ، وأصلُ (جثم) يَدُلُّ على تجمُّعِ الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه أرسَلَ إلى قَبيلةِ ثَمودَ أخاهم في النَّسَبِ صالحًا؛ لِيَدعُوَهم إلى عبادةِ اللهِ وَحْدَه، وتَرْكِ عبادةِ ما سِواه، فقال لهم: اعبُدُوا اللهَ وَحْدَه؛ ليس لكم معبودٌ يستحِقُّ العبادةَ غَيرُه، قد أتَتْكم حُجَّةٌ واضحةٌ مِن رَبِّكم على صِدقِ ما جِئْتُ به، وهي هذه النَّاقةُ؛ جَعَلَها اللهُ بُرهانًا مُقنعًا لِتُطيعوني، فاتْرُكوها تأكُلْ في أرضِ اللهِ، ولا تتعَرَّضوا لها بسُوءٍ، فيأخُذَكم عذابٌ مُوجِعٌ، واذكروا نعمةَ اللهِ عليكم؛ إذ جعَلَكم تخلُفُون عادًا بعد أنْ أهْلَكَهم، وأسكَنَكم الحِجْرَ بين الحجازِ والشَّامِ، فتَبنُونَ قُصورًا في الأماكِنِ المُستَوِيةِ، وتَنحِتونَ الجبالَ؛ لتكونَ لكم فيها مساكِنُ أخرى، فاذكروا نِعَمَ اللهِ الكثيرةَ عليكم، ولا تَسْعَوا في الأرضِ بالفَسَادِ.

قال الرُّؤساءُ المُتَكَبِّرونَ مِن قَومِه، للمستضعفين مِمَّن آمَنَ به: أتَعلمونَ مُستيقِنينَ أنَّ صالحًا رسولٌ مِنَ اللهِ، وأنَّه غيرُ كاذبٍ فيما يقولُ؟ قال المؤمنونَ مِنَ المُستضعفينَ: إنَّا بما أُرسِلَ به مُؤمِنونَ، فقال المُستَكْبِرونَ: إنَّا بما آمَنْتُم به كافِرونَ، فقَتَلوا النَّاقةَ، واستكبَرُوا عن أمْرِ ربِّهم، وقالوا يا صالِحُ: ائْتِنا بِما تَعِدُنا مِنَ العَذابِ، إنْ كنتَ حقًّا مِنَ المُرسَلينَ، فأتاهم العَذابُ، وأخَذَتْهم الصَّيحةُ التي زلزَلَتِ الأرضَ مِن شِدَّتِها، فصاروا في بَلدَتِهم صَرعى، مُنكَبِّينَ على وُجوهِهم، لاصقينَ بالأرضِ على رُكَبِهم، خامدينَ لا حياةَ فيهم.

فانصرَفَ عنهم صالحٌ عليه السَّلامُ، وقال موَبِّخًا لهم ومُعاتِبًا: يا قومِ، لقد أبلَغْتُكم ما أُرسِلْتُ به مِن رَبِّي، ونَصَحْتُ لكم، ولكِنَّكُم لا تُحبُّونَ النَّاصحينَ.

تفسير الآيات:

 

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ

أي: ولقد أرسَلْنا إلى قبيلةِ ثَمودَ أخاهم في النَّسَبِ صالحًا عليه السَّلامُ؛ لِيدعُوَهم إلى عبادةِ اللهِ وَحدَه، ويَنهاهم عن عبادةِ غَيرِه، فقال لهم: يا قَومِ اعبُدُوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم معبودٌ يَستحِقُّ العبادةَ غَيرُه، فلا تُشرِكوا به شيئًا

.

قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً

أي: قال صالِحٌ عليه السَّلامُ لِقَومِه: قد جاءَتْكم حجَّةٌ واضِحَةٌ مِن خالِقِكم ومالِكِكم، ومُدَبِّرِ شُؤُونِكم، على صِدْقِ ما جِئْتُكم به مِن إفرادِ اللهِ بالعبادةِ، وهذه الحُجَّةُ هي هذه النَّاقةُ الشَّريفةُ، التي جعَلَها اللهُ تعالى آيةً عظيمةً، مُقنِعةً لكم؛ لِتُطيعوني .

فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

أي: فاتْرُكوا النَّاقةَ تَرعَى في أرضِ اللهِ؛ فليس عليكم رِزْقُها، ولا تتعَرَّضوا لها بشَيءٍ مِنَ الأذى؛ فإنَّكم إنْ آذَيْتُموها بشَيءٍ، جاءكم عذابٌ مُؤلِمٌ .

كما قال تعالى حاكيًا قَولَ صالحٍ لِقَومِه: قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 155-156] .

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)

مُناسَبَةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أَمَرَهم ونهاهم، ذَكَّرَهم بِنِعَمِ اللهِ تعالى ترغيبًا مُشيرًا إلى ترهيبٍ ، فقال:

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ

أي: واذكُرُوا نِعمةَ اللهِ عليكم؛ بأن جَعَلَكم تخلُفونَ عادًا- قومَ هودٍ- في الأرضِ مِن بَعدِ هلاكِهم، حيث أبدَلكم بهم .

وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا

أي: وأنزَلَكم وأسكَنَكم في الأرضِ- وهي الحِجْرُ بين الحِجازِ والشَّامِ- منازلَ متنوِّعةً، فتَبنُونَ القُصُورَ العاليةَ في الأماكِنِ المُستَوِيةِ المُنخَفِضةِ وغَيرِ الوَعْرةِ، وتأخُذونَ مِن آجُرِّها وطِينِها، وتُؤَسِّسُونَها بالحِجارةِ، وتَنْقُبونَ صُخورَ الجبالِ، فتكونُ لكم فيها مساكِنُ أخرى .

كما حَكَى اللهُ تعالى قولَ صالحٍ لهم، فقال: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ [الشعراء: 149] .

فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ

أي: فاذْكُروا نِعَمَ اللهِ الكثيرةَ عليكم، واشكُرُوا اللهَ عليها؛ بطاعَتِه وعِبادَتِه وَحدَه .

وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ

أي: ولا تُفسِدُوا في الأرضِ، ساعِينَ فيها بالشِّركِ والمعاصِي .

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ

أي: قال الأشرافُ والرُّؤَساءُ الكَفَرةُ، المُتَكَبِّرونَ عَنِ الحَقِّ مِن قَومِ صالحٍ، للمُستَضعَفينَ المُحتقَرينَ المَساكينِ، مِنَ المؤمنينَ به: أتعْلَمونَ يَقينًا أنَّ صالحًا رَسولٌ مِنَ اللهِ إلينا، وأنَّه غَيرُ كاذبٍ على اللهِ ؟

قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ

أي: قال الَّذينَ آمَنُوا بصالحٍ مِنَ المُستَضعفينَ: إنَّا بِما أَرسَلَ اللهُ به صالحًا مِنَ الحَقِّ، مُؤمنونَ، ونُوقِنُ أنَّه مِن عِندِ اللهِ، لا نَشُكُّ في ذلك .

قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)

أي: قال المُتَكَبِّرونَ مِن قَومِ صالحٍ للمُستضعفينَ مِن المُؤمنينَ: إنَّا بالذي آمَنْتُم به مِنَ الحَقِّ، وأنَّ صالحًا رَسولٌ مِنَ اللهِ إلينا، جاحِدونَ، لا نُصَدِّقُ بذلك .

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(77)

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ

أي: فقَتَلَتْ ثمودُ النَّاقةَ التي جعَلَها اللهُ لهم آيةً، والتي تَوَعَّدَهم- إنْ مَسُّوها بِسُوءٍ- أن يُصِيبَهم عذابٌ أليمٌ .

وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ

أي: واستَكْبَروا وتَمَرَّدوا عن امتثالِ أمرِ رَبِّهم، وغَلَوْا في باطِلِهم .

وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ

أي: وقال الكُفَّارُ المُتَكَبِّرون مِن قَومِ صالحٍ: يا صالِحُ، ها نحنُ قد قتَلْنا ناقةَ اللهِ التي أتَتْنا، فعجِّلْ لنا بما تَعِدُنا مِن عَذابِ اللهِ، إن كُنتَ حقًّا مِن رُسُلِ الله؛ فإنَّ اللهَ ينصُرُ رُسُلَه على أعدائِهم .

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ

أي: فأخَذَتْ أولئك الكُفَّارَ الصَّيحةُ، التي تزلزَلَتِ الأرضُ مِن شِدَّتِها .

فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ

أي: فصاروا في بَلدَتِهم لاصقينَ بالأرضِ على رُكَبِهم، ومُنكَبِّينَ على وُجُوهِهم، صَرْعَى، خامدينَ لا حياةَ فيهم، قد هَلَكوا مِن شِدَّةِ الصَّيحةِ .

كما قال تعالى حاكيًا قَولَ صالحٍ لِقَومِه: وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود: 64 - 67] .

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي

أي: فانصَرَفَ صالحٌ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- عَن قَومِه بعدَ حُلُولِ العَذابِ بهم، وقال مُخاطِبًا لهم؛ توبيخًا وعتابًا: لقد أدَّيْتُ إليكم- يا قَومِي- جميعَ ما أمَرَني اللهُ تعالى بأدائِه إليكم .

وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ

أي: وأَرَدْتُ لكم الخيرَ في الدُّنيا والآخِرَةِ، واجتَهَدْتُ في هِدايَتِكم، ولكِنَّكم تَكرَهونَ النَّاصحينَ، فلا تُطيعونَهم؛ فلذا لم تنتَفِعوا بنُصحي

 

.

كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [فصلت: 17-18] .

الفوائد التربوية:

 

1- ينبغي تذكُّرُ نِعمةِ اللهِ، وشُكرُه عليها، والحَذَرُ مِنِ استبدالِ الكُفرِ بالشُّكرِ؛ نستفيدُ ذلك مِن قَولِ اللهِ تعالى: فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي: فتتَصَرَّفوا في هذه النِّعَمِ تَصَرُّفَ عَثَيانٍ وكُفرٍ، بمخالفةِ ما يُرضِي اللهَ فيها

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ عَطَفَ نَهيَهم عَنِ الفَسادِ في الأرضِ، على الأمرِ بذِكرِ آلاءِ اللهِ؛ لِيُرشِدَ إلى أنَّ تذَكُّرَ الآلاءِ يَبعَثُ على الشُّكرِ والطَّاعةِ، وتَركِ الفَسادِ .

3- قال اللهُ تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ هذه الآيةُ مِن أعظَمِ ما يحتَجُّ به مَن قال: إنَّ الفَقرَ خَيرٌ مِنَ الغِنى؛ وذلك لأنَّ الاستكبارَ إنَّما يتولَّدُ مِن كَثرةِ المالِ والجاهِ، والاستضعافَ إنَّما يحصُلُ مِن قِلَّتِهما، فبَيَّنَ تعالى أنَّ كَثرةَ المالِ والجاهِ؛ حَمَلَهم على التَّمَرُّدِ والإباءِ، والإنكارِ والكُفرِ، وقِلَّةَ المالِ والجاهِ؛ حَمَلَهم على الإيمانِ والتَّصديقِ والانقيادِ، وذلك يدلُّ على أنَّ الفَقرَ خَيرٌ مِنَ الغِنى

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ في التَّذكيرِ بالقَرابةِ استعطافٌ لهم

.

2- قَولُ الله تعالى: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، قولُه: مِنْ رَبِّكُمْ للإعلامِ بأنَّها لَيسَتْ مِن فِعلِ صالحٍ عليه السَّلامُ، ولا ممَّا ينالُها كَسْبُه، وكذلك سائِرُ ما يؤيِّدُ اللهُ تعالى به الرُّسُلَ مِن خَوارِقِ العاداتِ؛ ففي ذلك تنبيهٌ للجاهِلينَ الذين يظنُّونَ أنَّ الخوارِقَ مِمَّا يدخُلُ في كسْبِ الصَّالحينَ الَّذين هم دُونَ الأنبياءِ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ أُضيفَتْ إلى اللهِ تعالى؛ تعظيمًا لها، وتفخيمًا لِشَأنِها؛ نحو: بيتُ اللهِ، ورُوحُ اللهِ، ولأنَّها جاءَتْ مِن عِندِ الله تعالى بلا وسائِطَ وأسبابٍ مَعهودةٍ، فقد خَلَقَها تعالى بغَيرِ واسطةِ ذَكَرٍ وأنثى، ولأنَّه لا مالِكَ لها غيرُه، ولأنَّها حُجَّةٌ على القَومِ، ولِمَا أُودِعَ فيها مِنَ الآياتِ .

4- في قوله تعالى: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ لمَّا أضاف الناقةَ إلى اللهِ أضافَ محلَّ رعيِها إلى اللهِ؛ إذ الأرضُ أرضُ اللهِ، والنَّاقَةُ ناقةُ اللهِ، فَذَرُوها تأكُلْ في أرضِ رَبِّها؛ فليسَتِ الأرضُ لكم، ولا ما فيها مِنَ النَّباتِ مِن إنْباتِكم .

5- قَولُ اللهِ تعالى: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، قولُه: لَكُمْ خُصُّوا بذلك؛ لأنَّهم هم السَّائِلُوها، أو المنتفعونَ بها مِن بينِ سائِرِ النَّاسِ لو أطاعوا .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، تنكيرُ (سُوءٍ) في سِياقِ النَّهيِ يُفيدُ أنَّ الوعيدَ مُرَتَّبٌ على أيِّ أنواعِ الإيذاءِ لها، سَواءٌ في نَفْسِها، أو أكْلِها، أو شُربِها .

7- استُدِلَّ بقَولِ اللهِ تعالى: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا على جَوازِ البِناءِ الرَّفيعِ، كالقُصورِ ونَحْوِها ؛ إذْ محالٌ أن يذكِّرَهم آلاءَ الله في شيءٍ بنيانُه معصيةٌ، وقد قال: فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، ولو كان بناءُ القصورِ منكرًا لكان داخلًا في الفسادِ، لا في الآلاءِ .

8- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا .. الآية، وَصَفَ أولئكَ الكُفَّارَ بكَوْنِهم مُستَكبرينَ- وهو فِعلٌ استوجَبُوا به الذَّمَّ، وكونُ المُؤمنينَ مُستَضعفينَ معناه: أنَّ غَيرَهم يَستضعِفُهم ويَستحقِرُهم، وهذا ليس فعلًا صادرًا عنهم، بل عن غيرِهم، فهو لا يكونُ صِفَةَ ذَمٍّ في حَقِّهم، بل الذَّمُّ عائدٌ إلى الَّذين يستحقِرونَهم ويَستضعِفونَهم .

9- قَولُ الله تعالى: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ الذي آمَنْتُم به: هو بمعنى بما أُرسِلَ به، لكنَّه مِن حيثُ اللَّفظُ أعَمُّ؛ قَصَدوا بذلك الرَّدَّ لِمَا جعله المؤمنونَ مَعلومًا، وأخَذُوه مُسَلَّمًا .

10- قَولُ الله تعالى: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ لم يَقُولوا: (إنَّا بما أُرسِلَ به كافرونَ) لأنَّه يتضَمَّنُ إثباتَ أصلِ الرِّسالةِ لصالحٍ عليه السَّلامُ، ولو قالوه لكان شهادةً منهم على أنفُسِهم بأنَّهم جاحدونَ للحَقِّ على عِلمٍ؛ لِمَحْضِ الاستكبارِ .

11- قَولُه تعالى: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فيه أنَّ الكِبْرَ يَحمِلُ صاحِبَه على عَدَمِ الانقيادِ للحَقِّ .

12- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ الفاءُ للتَّعقيبِ لحكايةِ قَولِ الَّذين استكبَرُوا: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ أي: قالوا ذلك فعَقَروا، والتَّعقيبُ في كلِّ شَيءٍ بِحَسَبِه، وذلك أنَّهم حين قالوا ذلك كانوا قد صَدَعوا بالتَّكذيبِ، وصَمَّموا عليه، وعَجَزوا عن المُحاجَّةِ والاستدلالِ، فعَزَموا على المصيرِ إلى النِّكايةِ، والإغاظةِ لصالحٍ عليه السَّلامُ، ومَن آمَنَ به، ورَسَموا لابتداءِ عَمَلِهم أن يعتَدُوا على النَّاقةِ .

13- قَولُ الله تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أكثَرُ ما يُستعمَلُ (العَقْرُ) في الفَسادِ، وأمَّا (النَّحْرُ) فيُستعمَلُ غالبًا في الانتفاعِ بالمنحورِ؛ لحمًا وجِلدًا وغَيرَهما، فلعَلَّ التعبيرَ به دون (النَّحرِ) إشارةٌ أيضًا إلى أنَّهم لم يقصِدُوا بِنَحْرِها إلَّا إهلاكَها؛ عُتُوًّا على اللهِ، وعِنادًا وفِعلًا للسُّوءِ، ومخالَفةً لنهيِ صالحٍ عليه السَّلامُ .

14- قَولُ الله تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نُسِبَ (العَقْرُ) إلى الجميعِ، وإن كان صادرًا عن بعضِهم؛ وذلك لَمَّا كان عَقْرُها عن تمالُؤٍ واتِّفاقٍ منهم جميعًا، وعن رضاهم كلِّهم .

15- قَولُ الله تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أَمْر رَبِّهم: هو ما أمَرَهم به على لسانِ صالحٍ عليه السَّلامُ، مِن قَولِه: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ، فعبَّرَ عن النَّهيِ بالأمرِ؛ لأنَّ النَّهيَ عن الشَّيءِ مَقصودٌ منه الأمرُ بفِعلِ ضِدِّه؛ ولذلك يقولُ عُلَماءُ الأصولِ: إنَّ النَّهيَ عن الشَّيءِ يَستلزِمُ الأمرَ بِضِدِّه، الذي يحصُلُ به تحقُّقُ الكَفِّ عن المنهيِّ عنه .

16- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَرَضوا كَونَه مِنَ المُرسلينَ بِحَرف (إنْ) الدَّالِّ على الشَّكِّ في حُصولِ الشَّرطِ، أي: إنْ كُنتَ مِنَ الرُّسُلِ عَن اللهِ؛ فالمرادُ بالمُرسلينَ: مَن صَدَقَ عليهم هذا اللَّقَبُ .

17- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، جملةُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ معترضةٌ بين جملةِ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وبين جملةِ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ -على القولِ بأنَّ خطابَه لهم في حياتِهم قبلَ حلولِ العذابِ- أُريد باعتراضِها التعجيلُ بالخبرِ عن نفاذِ الوعيدِ فيهم بعقبِ عتوِّهم، فالتعقيبُ عرفيٌّ، أي لم يكنْ بين العقرِ وبينَ الرجفةِ زمنٌ طويلٌ، كان بينهما ثلاثةُ أيَّام، كما ورد في آيةِ سورة هودٍ: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ .

18- قَولُ الله تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي لفظةُ (التَّولِّي) تقتضي اليأسَ مِن خَيرِهم، واليَقينَ في هَلاكِهم

 

، وذلك على القولِ بأنَّ خطابَه لهم كان في حياتِهم قبلَ حلولِ العذابِ.

بلاغة الآيات:

 

قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً

قوله: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ البيِّنةِ، وإضافةُ الناقةِ إلى الاسمِ الجليلِ؛ لتَعظيمِها ولمجيئِها مِن جِهتِه تعالى بلا أسبابٍ معهودةٍ، ووسائطَ مُعتادةٍ

.

وعَبَّر باسمِ الإشارةِ هَذِهِ مُشيرًا إليها بعدَ تَكوينِها؛ تحقيقًا لها، وتعظيمًا لشَأنِها وشَأنِه؛ في عَظيمِ خَلْقِها، وسُرعةِ تَكوينِها لأجْلِه .

وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لَكُمْ؛ للاهتمامِ بأنَّها كافيةٌ لهم على ما فيهم من عناد .

وتَنكيرُ (الآية)؛ للتَّعظيمِ والتَّفخيم، أي: آية عَظيمة القَدْر، ظاهِرة الدَّلالة على ما جِئتُكم به مِن الحقِّ .

قوله: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فيه النَّهي عن المسِّ الذي هو مُقدِّمةُ الإصابةِ بالسُّوءِ الجامعِ لأنواعِ الأذَى؛ مُبالغةً في الأمْرِ، وإزاحةً للعُذر .

وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تَعالى هنا في سُورةِ الأعراف: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وفي سُورةِ هُود قالَ: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ [هود: 64] ، وفي سورة الشعراء وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 156] ؛ فاختَلفَ الوصفُ المختومُ به في الآياتِ الثَّلاثِ؛ وهذا لأنَّه في آيةِ الأعرافِ بالَغَ في الوعظِ فبالَغ في الوعيدِ؛ فكان التحذيرُ للقومِ على طريق العمومِ، وأمَّا قوله تعالى في الآية الثانية: فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ [هود 64]؛ فإنَّه اختصَّ هذا المكانَ بـ(قَرِيب)؛ لِمَا بَعدَه من قوله: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] ، فقَدَّرَ المدَّةَ التي بَينَهم وبينَ هلاكِهم، وقُرْبَ ما تَوعَّدهم به مِن عذابِ الله لهم. وأمَّا الآية الثالثة واختصاصُها بقولِه: فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 165] ؛ فلأنَّ قَبْلَها ذِكرَ اليومينِ المقسومينِ بينَ الناقةِ وبينهم، كأنَّه قال لهم: إنْ مَنعتُموها يومَها بعَقرٍ ولم تَتركوه لها، أَخذَكم عذابُ يومٍ عظيم؛ فيومٌ تُؤلِمُونَها فيه فيكون به يومٌ يُؤلِمُكم اللهُ فيه بعَذابِ الاستئصالِ، وهو يومٌ عظيمٌ عليكم، وكل ذلك بمعنًى واحدٍ- وهو أنَّهم إنْ عَقَروها عُوقِبوا- والألفاظُ المختلفةُ دائرةٌ على هذا المعنى، واختلافُها لاختلافِ مواضعِها المقتضيةِ تغييرَ الألفاظِ فيها .

قولُه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ

قولُه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ فيه توجيهُ الأمرِ بالذِّكرِ إلى الوَقْتِ دون ما وقَعَ فيه مِن الحوادثِ مع أنَّها المقصودةُ بالذَّاتِ؛ للمبالغةِ في إيجابِ ذِكرِها؛ لأنَّ إيجابَ ذِكرِ الوقتِ إيجابٌ لذِكرِ ما فيه بالطَّريقِ البُرهانيِّ .

وقوله: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا استئنافٌ مُبيِّنٌ لكيفيَّةِ التبوئةِ، أي: تَبْنُونَ في سُهولِها قُصورًا رفيعةً، أو تَبْنون من سُهولةِ الأرضِ بَما تَعلَمون منها مِن اللَّبِن والآجُرِّ .

وقوله: وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال الله تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا، وفي سورة الحِجر والشُّعراء قال: يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [الحجر: 82، الشعراء: 149]، بـ(من) قبل (الجبال)؛ وذلك لأنَّ في الأعرافِ تَقدَّمه قولُه: مِنْ سُهُولِها قُصُورًا فاكْتَفَى بذلك .

قوله: فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فيه تكريرٌ للتَّذكيرِ؛ لزيادةِ التقريرِ، وتَعميمٌ إثرَ تَخصيصٍ ؛ فتفريعُ الأمرِ بذِكرِ آلاءِ اللهِ على قوله: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ تفريعُ الأعمِّ على الأخصِّ؛ لأنَّه أَمَرَهم بذِكرِ نِعمتَينِ، ثمَّ أمَرَهم بذِكرِ جَميعِ النِّعمِ التي لا يُحصونَها؛ فكان هذا بمنزلةِ التَّذييلِ .

وقوله: مُفْسِدِينَ حالٌ مُؤَكِّدةٌ لِمَعنى تَعْثَوْا، وهو وإنْ كانَ أعَمَّ مِن المؤَكَّد، فإنَّ التَّأكيدَ يحصُلُ ببعضِ مَعنى المؤَكِّد .

قوله: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ وصْفُهم بالذين استَكْبَروا هنا؛ لتَفْظيعِ كِبْرِهم وتَعاظُمِهم على عامَّة قومِهم، واستذلالهم إيَّاهم، وللتَّنبيهِ على أنَّ الذين آمنوا بما جاءَهم به صالح عليه السلام هم ضعفاء قومه، واختِيارُ طريقِ الموصوليَّةِ في وصْفِ المستكبِرينَ، ووصْفِ الآخَرين بالَّذين استُضعفوا؛ لِمَا تُومِئ إليه الصِّلةُ من وجهِ صُدورِ هذا الكلامِ منهم، أي: إنَّ استكبارَهم هو صارفُهم عن طاعةِ نَبيِّهم، وأنَّ احتقارَهم المؤمنين هو الذي لم يُسِغْ عندهم سَبْقَهم إيَّاهم إلى الخيرِ والهُدَى .

وبِناءُ الفِعلِ اسْتُضْعِفُوا للمفعولِ فيه دَليلٌ على أنَّهم في غايةِ الضَّعفِ بحيثُ يَستضعفُهم كلُّ أحدٍ .

قوله: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ الاستفهامُ في قولِه: أَتَعْلَمُونَ للتَّشكيكِ والإنكارِ، أي: ما نَظنُّكم آمنتُم بصالحٍ عليه السَّلامُ عن عِلمٍ بصِدقِه، ولكنَّكم اتَّبعتُموه عن عَمًى وضلالٍ غيرَ مُوقنِين، وقدْ بَدَؤُوهم بالإنكارِ صدًّا لهم عن الإيمانِ، أو الاستفهامُ على جِهةِ الاستهزاءِ والاستخفاف .

قوله: قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، جيء هنا في جَوابِ الذين استُضْعِفوا بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الإيمانَ مُتمكِّنٌ منهم بمزيدِ الثَّباتِ؛ فلم يَترُكوا للذين استكبروا مَطْمَعًا في تَشكيكِهم، بَلْهَ صَرْفِهم عن الإيمانِ برَسولِهم، وفيها تأكيدُ الخبرِ بحرْف (إنَّ)؛ لإزالةِ ما تَوهَّموه من شكِّ الذين استَكْبروا في صِحَّةِ إيمانِهم .

وكان مُقتضَى مُطابقةِ الجوابِ للسُّؤالِ أنْ يقولوا: (نَعَمْ)، أو: (نَعلَمُ أنَّه مُرسَلٌ من ربِّه)، أو (إنَّا برِسالته عالمون)، ولكنَّهم أجابوا بما يَستلزِمُ هذا المعنى ويَزيد عليه: فقالوا: إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ؛ فهُم آمنوا به، أي: علِموا بذلك علمًا يقينيًّا إذعانيًّا، له السُّلطان على عُقولِهم وقلوبِهم ، والعدولُ في حِكايةِ جوابِ الذين استُضعِفوا عن أنْ يكونَ بـ(نعم) إلى أنْ يكون بالموصولِ وصِلتِه إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ؛ لأنَّ الصِّلةَ تتضمَّنُ إدماجًا بتَصديقِهم بما جاء به صالحٌ مِن نحو التوحيدِ وإثباتِ البَعثِ، والدَّلالةَ على تمكُّنِهم من الإيمانِ بذلك كلِّه بما تُفيدُه الجملةُ الاسميَّةُ مِن الثباتِ والدَّوام .

وأيضًا عُدولُهم عن قولِهم: (هو مُرْسَلٌ) إلى قولهم: إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ في غايةِ الحُسنِ؛ فبِناءُ فِعل أُرْسِلَ للمَفعولِ يُشيرُ إلى تَعميمِ التَّصديقِ، وإلى أنَّ كونَه مِن عند اللهِ أمرٌ مقطوعٌ به، معلومٌ واضحٌ لا يَدْخُلُه رَيبٌ؛ فلا يحتاجُ إلى تَعيينِ رِسالتِه .

قوله: قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فيه تَقديمُ المجرورَينِ في قولِه: بِمَا أُرْسِلَ بِهِ وبِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ على عاملَيهِما؛ للاهتمامِ بمدلولِ الموصولَينِ .

ومُراجعةُ الَّذينَ استكبَرُوا بِقَولِهم: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ تدلُّ على تصَلُّبِهم في كُفرِهم، وثَباتِهم فيه؛ إذ صِيغَ كَلامُهم بالجُملةِ الاسميَّةِ المُؤَكَّدةِ .

قَولُه تعالى: وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ المرادُ بقَولهِم: بِمَا تَعِدُنَا العذابُ الذي توعَّدَهم به مُجملًا، وجيءَ بالموصولِ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم لا يَخشَونَ شَيئًا ممَّا يُريدُه مِنَ الوَعيدِ المُجمَلِ ، وأنزَلُوا الوعيدَ منزلةَ الوَعدِ والبِشارةِ؛ استخفافًا منهم، ومبالغةً في التَّكذيبِ، وتَهَكُّمًا منهم بصالحٍ عليه السَّلامُ، وإشارةً منهم إلى عدمِ قُدْرَتِه على ذلك .

قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال الله تعالى هنا في سُورةِ الأعراف في قِصَّة صالحٍ: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، وكذا في قِصَّة شُعيبٍ في السُّورةِ فيما بعدُ، وفي سُورة هود قال في قِصَّة صالحٍ: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ... [هود: 65] ، وقال في قِصَّةِ شُعَيبٍ في سورةِ هود أيضًا: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود: 67] ؛ فورَد في هذِه الآيةِ الأخيرةِ تَسميةُ عَذابِهم (بالصَّيحةِ)، وجمْع اسْم الدَّار، وفي الأخرى سَمَّى عَذابَهم (بالرَّجْفة) وأفْرد اسمَ الدَّار؛ فأَفْرَدَ الدَّارَ في مَوضعٍ، وجَمَعها في موضعٍ، واختصاصُ مَوضعٍ بالإفرادِ، ومَوضعٍ بالجمعِ لمناسبةٍ حسنةٍ؛ وبيانُ ذلك أنَّ اسمَ (الدَّار) لفْظٌ يقَعُ على المنزلِ الواحدِ والمسكنِ المفردِ، ويَقَعُ على مَساكِنِ القبيلةِ والطائفةِ الكبيرةِ، وإنِ اتَّسعَتْ وافترقَتْ، وتعدَّدتْ مَساكِنُها ودِيارُها، إذا ضَمَّها إقليمٌ واحدٌ، واجتمعتْ في حُكمٍ أو مَذهبٍ؛ فأفْرَد (الدَّار) في كلِّ مكانٍ ذُكِر في ابتدائِه وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [الأعراف: 73، هود: 61]، وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [الأعراف: 85، هود: 84، العنكبوت: 37] ولم يَذكُر إخراجَ النبيِّ ومَن آمَن معه مِن بينهم، فجَعَلهم بَنِي أبٍ واحد، وجعَلَهم لذلك أهلَ دارٍ واحدةٍ، ورجاءَ أيضًا أن يَصيروا بالإيمانِ فِرقةً واحدةً. وجَمَع (الدَّار) في كلِّ موضِعٍ أخْبَر عن تفرُّقِه بينهم، وإخراجِ النبيِّ ومَن آمَن منهم معَه، أخْبَر عنهم الإخبارَ الدالَّ على تفرُّقِ شملِهم، وتشتُّتِ أمرهم، وذَهابِ المعنى الذي كان يَجمُعُهم لأبٍ واحدٍ ودارٍ واحدةٍ، وأن يَصيروا مع المؤمنِينَ فِرقةً واحدةً، فقال: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا... الآيةَ إلى قوله: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود:66-67] ؛ فالجَمْعُ حيثُ ذَكَر إخراجَه منهم مع المؤمنِينَ معه. وقيل: إنَّه حيثُ ذَكَر الرَّجفة- وهي الزَّلْزَلة- وحَّد الدَّار، وحيثُ ذَكَر الصَّيحة جَمَع؛ لأنَّ الزَّلْزلَةَ تَختصُّ بجزءٍ من الأرضِ، فناسَبَها الإفرادُ، ولأنَّ الصَّيحةَ كانتْ مِن السَّماءِ، وهي زائدةٌ على الرَّجْفةِ؛ فبُلوغُها أكثرُ وأبلغُ مِن الزلزلةِ؛ فناسَبَها الجَمعُ؛ فوجهُ اختيارِ لَفْظِ الجمعِ في الآيةِ من سُورة هود مناسبةُ ما اقْتَرنَ به مِن لفظ الصَّيحة، وهي عبارةٌ هنا عن العَذابِ مُطلقًا دون تقييدٍ بصفةٍ، وهو مِن الألفاظِ الكُليَّةِ؛ فإنْ لم يَكُن عامًّا فانتشارُ مواقعِه مِن حيثُ الكُليَّةِ حاصلةٌ، وأمَّا الرَّجفة (الزلزلة) فلهذا اللَّفْظِ خُصوصٌ وهو جُزئيٌّ؛ فاتَّصَل كلُّ واحدٍ بما هو لائقٌ به. ووجهُ تَخصيصِ سُورة هود بذِكرِ الصَّيحة وجمْع الدِّيار: ما وقَعَ فيها حيثُ ذُكِر قَبْلَها مِن مُرْتَكَباتِ قومِ شُعيبٍ وسُوءِ ردِّهم على نبيِّهم عليه السلام ما لم يَرِدْ مِثلُه في آيةِ سُورة الأعرافِ، كقولِهم له: قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود: 91] ، ففي ردِّهم هذا استهزاءٌ وإساءةٌ وشنيعُ مُقابلةٍ لجليلِ وعْظِه عليه السَّلامُ لهم، ورأفتِه في دُعائِهم إيَّاهم بقوله: إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [هود: 84]   وغيرِ ذلك مِن الآياتِ؛ مِمَّا يُوضِّحُ عظيمَ تلطُّفِ هذا النبي الكريمِ في دُعائِه إيَّاهم، وما أشْنعَ ردَّهم عليه! فلهذا عَبَّر عن عذابِهم وأخْذهم بأعمَّ مِمَّا ورَد في غير هذِه الآيةِ، ولَمَّا لم يَرِدْ في غيرِها مثلُ هذا في الدُّعاءِ والجوابِ، ناسَبَه اللَّفظُ الأخصُّ (الرَّجفة - الدَّار). أو يكونُ المرادُ أخْذُ قوم شُعَيبٍ بضُروبٍ مِن العذابِ؛ لقَبيحِ مُرتكبِهم وسُوءِ ردِّهم على نبيِّهم؛ وممَّا يُبيِّن ذلك قولُه تعالى في سورة الشُّعراء: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [الشعراء: 189] ، والظُّلةُ غيرُ الرَّجفةِ؛ لأنَّها زلزلة؛ فعلى هذا يكونونُ قد أُخِذوا بعذابِ الزَّلزلةِ وعذابِ الصَّيحةِ وعذابِ الظُّلةِ؛ فورَدَ ذلك على التَّدريجِ والتناسُبِ بحسَبِ ما ذُكِر قَبْلَ كلٍّ مِن هذا مِن مُرْتَكَباتِهم .

وقيل: وحَّدَ الدَّارَ في قوله: فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ؛ لأنَّه أرادَ بالدَّار البَلدَ، وجمع في آية أخرى فقال: فِي دِيَارِهِمْ [هود: 94] ؛ لأنَّه أرادَ بالدَّارِ ما لكُلِّ واحدٍ منهم مِن منزلِه الخاصِّ به .

قوله: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ يَحتمِل أنْ يكونَ المرادُ بالتولِّي أنَّه فارَقَ دِيارَ قَومِه حِينَ عَلِم أنَّ العذابَ نازلٌ بهم، ويَحتمِل أنْ يكونَ يُرادُ به أنَّه أعْرَضَ عن النَّظرِ إلى القَريةِ بعدَ إصابتِها بالصَّاعقةِ، أو أعْرَضَ عن الحُزنِ عليهم، واشْتَغَل بالمؤمنِينَ، فعلَى الوجه الأوَّل يكونُ قوله: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ... مُستعملًا في التوبيخِ لهم والتَّسجيلِ عليهم، وعلى الوجه الثاني- وهو أنَّ التولِّي كان بعدَ هلاكِهم ومُشاهدَةِ ما جرَى عليهم- يكونُ الخِطابُ والنِّداءُ مُستعملًا في التَّفجُّع عَليهم والتحسُّر، أو في التَّبرِّي منهم؛ فيكونُ النِّداءُ تَحسُّرًا؛ فلا يَقتضي كونَ أصحابِ الاسمِ المنادَى ممَّن يَعقِلُ النِّداءَ حينئذٍ .

وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: رِسَالَةَ بالإفرادِ، وقاله في قِصَّة شُعيب بالجَمْع رِسَالَاتِ؛ قيل: لأنَّ ما أمَر به شُعَيبٌ قومَه من التَّوحيدِ، وإيفاءِ الكيلِ، والنَّهيِ عن الصِّدِّ، والأَمْرِ بإقامةِ الوزنِ بالقِسطِ، أكثرُ ممَّا أمرَ به صالحٌ قومَه، والعربُ تُراعي في أجوبتِها ما نيَّتُها عليه مِن سُؤالٍ أو غيرِه، إنْ إطالةً فإطالةٌ، أو إيجازًا فإيجازٌ؛ فأجوبتُهم مُراعًى فيها المعنى، ملحوظٌ فيما وردتْ جوابًا له، ولَمَّا ورد في دُعاء شُعَيبٍ عليه السَّلام تفصيلٌ في الأمرِ والنهي والتَّحذيرِ، وورَد أيضًا في الكلامِ تعريفٌ بقَبيحِ ردِّهم، وشنيع مُرتَكبِهم في مُجاوبتِهم على أعظمِ اجترامٍ؛ فحَصَل في هذا مِن خِطابِه إيَّاهم وما رَدُّوا به وجاوَبوه عليه السَّلامُ إطنابٌ في العبارةِ وإمعانٌ فيما تَحتَها مِن المعاني في كِلا الضَّربينِ؛ فناسَب ذلك الجَمْع في قولِه: أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي، وأمَّا قِصَّةُ صالح عليه السلامُ فلمْ يقَعْ فيها بعدَ أمْرِهم بالعبادةِ غيرُ تَعريفِهم بأمْرِ النَّاقةِ وأمْرِهم برَعْيِها، وتَذكيرهم بقومِ هُودٍ ولم تُفصَّل مكالمتُه إيَّاهم كتفصيلِ كلام شُعيب لقومه؛ فنَاسبَه الإفرادُ الواردُ في قولِه: أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي .

قولُه: لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ جاءَ على صِيغةِ المُضارِعِ؛ فإنْ كان في حالِ سَماعِهم قولَه؛ فهو للدَّلالةِ على التَّجديدِ والتَّكريرِ، أي: لم يَزَلْ هذا دَأبَكم، فيكون ذلك آخِرَ علاجٍ لإقلاعِهم إنْ كانتْ فيهم بقيَّةٌ للإقلاعِ عمَّا هم فيه. وإنْ كان بَعدَ انقضاءِ سَماعِهم فالمضارِعُ لحِكايةِ الحالِ الماضيةِ، أي: شأنُكم الاستمرارُ على بُغضِ النَّاصِحينَ وعَداوتُهم .

وجاءَ لفظُ الناصحين عامًّا، أي: أيُّ شَخصٍ نَصَح لكم لم تَقْبَلوا في أيِّ شيءٍ نَصَح لكم؛ وذلك مبالغةٌ في ذَمِّهم

======================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (80-84)

ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ

غريب الكلمات:

 

الْفَاحِشَةَ: أي: إِتْيَانَ الذُّكُورِ دُونَ الإناثِ، والفاحِشَةُ: هي الفِعلَةُ المُتناهِيَةُ في القُبحِ والشَّناعةِ؛ فأصلُ (فحش): يدُلُّ على قُبْحٍ في شيءٍ وشَناعَةٍ

.

يَتَطَهَّرُونَ: أي: يَتنزَّهونَ عن إتيانِ الرِّجالِ في الأدبارِ، والتَّطَهُّرُ هو التنَزُّه عَنِ الذَّمِّ وكُلِّ قَبيحٍ، وأصل (طهر): يدلُّ على نقاءٍ وزَوَالِ دَنَسٍ، ومن ذلك الطُّهْرُ، خلافُ الدَّنَسِ .

الْغَابِرِينَ: أي: الباقينَ قَبلَ الهَلاكِ، أو الباقينَ في عَذابِ اللهِ، أو الهَالِكينَ، وأصلُ (غبر): يدلُّ على البَقاءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

واذكُرْ- يا مُحَمَّدُ- نَبِيَّ اللهِ لوطًا عليه السَّلامُ، حين قال لِقَومِه: أتَفْعلونَ الخَصلةَ التي بلَغَتْ في القُبحِ والشَّناعةِ أقصاها، ما سَبَقَكم بفِعْلِها أحَدٌ مِنَ البَشَرِ؟! إنَّكم تَأتونَ الرِّجالَ في أدبارِهم؛ رغبةً منكم في  ذلك، وتَتْرُكون النِّساءَ اللَّاتي خَلَقَهُنَّ اللهُ لكم، بل أنتم قَومٌ مُسرِفونَ.

فما كان رَدَّ قَومِه إلَّا أنْ قال بعضُهم لبَعضٍ: أخْرِجُوا لُوطًا وأهْلَه مِن قَريَتِكم؛ لأنَّهم أُناسٌ يتنَزَّهونَ عمَّا تَفعلونَه.

فأنجاهُ اللهُ وأهْلَه إلَّا امرأَتَه الكافِرَةَ؛ كانت مِنَ الهالِكينَ البَاقِينَ في العَذابِ، وأمطَرَ اللهُ تعالى على الكُفَّارِ مِن قَومِ لُوطٍ مَطَرًا مِن حِجارةٍ، مِن طِينٍ شديدِ الحرارةِ، فانظُرْ- يا مُحمَّدُ- كيف هي نهايةُ المُجرمينَ؟!

تفسير الآيات:

 

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ

أي: واذكرْ- يا مُحمَّدُ- لوطًا عليه السَّلامُ، حين قال لِقَومِه: أتَفْعلونَ الفِعلةَ الشَّنيعةَ المُتَناهِيَةَ في القُبحِ، وهي إتيانُ الذُّكورِ في الأدبارِ

.

مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ

أي: لم يأتِ هذه الفِعلَةَ الشَّنيعةَ أحدٌ مِنَ البَشَرِ قَبلَكُم .

إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أبهَمَ اللهُ تعالى الفاحِشةَ في الآيةِ السَّابقةِ؛ ليحصُلَ التشوُّفُ إلى مَعرِفَتِها؛ عيَّنَها في قوله تعالى:

إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ قراءتانِ:

قراءة إِنَّكُمْ على الخَبَرِ، تفسيرًا للفاحِشَةِ المذكورةِ .

قراءة أَإِنَّكُمْ بالاستفهامِ؛ لتأكيدِ التَّوبيخِ لهم والتَّقريرِ .

إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ

أي: إنَّكم- أيُّها القومُ- تأتُونَ الرِّجالَ في أدبارِهم؛ رغبةً منكم في ذلك، وتَتْركونَ إتيانَ النِّساءِ اللَّاتي خَلَقَهنَّ اللهُ لكم .

كما قال تعالى حاكيًا قَولَ لُوطٍ لِقَومِه: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [الشعراء: 165-166] .

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ

أي: بل أنتم أناسٌ تجاوَزْتُم الحلالَ إلى الحرامِ، وتجَرَّأتُم على مَحارِمِ الله؛ فجَعَلْتُم شَهوَتَكم في غيرِ مَحَلِّها ومَوضِعِها الصَّحيحِ .

كما قال تعالى حاكيًا قَولَ لُوطٍ لِقَومِه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء: 166] .

وقال سُبحانه حاكيًا أيضًا قَولَ لُوطٍ لِقَومِه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] .

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أُفحِمُوا عن المجادلةِ في شَأنِ فاحِشَتِهم، ابتَدَرُوا بالتآمُرِ على إخراجِ لُوطٍ عليه السَّلامُ وأهْلِه مِنَ القَريةِ، فقال تعالى :

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ

أي: وما كان رَدَّ قَومِ لُوطٍ على لُوطٍ عليه السَّلامُ، حين نهاهم عن هذه الفاحِشَةِ الشَّنيعةِ؛ سِوَى أنْ قال بعضُهم لِبعضٍ: أخرِجُوا لوطًا وأهْلَه مِن قَريَتِكم .

إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ

أي: أَخرِجُوهم؛ لأنَّهم يتنزَّهونَ عَمَّا نفعَلُه مِن إتيانِ الذُّكورِ في أدْبارِهِم .

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)

أي: فأنجَينا لُوطًا عليه السَّلامُ وأهْلَه المؤمنينَ به، إلَّا زوجَتَه الكافرةَ؛ كانت مِنَ الهالِكينَ البَاقينَ في العذابِ .

كما قال سبحانه: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 35-36].

وقال تعالى: وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ [الصافات: 133-135] .

وقال عزَّ وجلَّ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10] .

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا

أي: وأمطَرْنا على الكُفَّارِ مِن قَومِ لُوطٍ مَطرًا مِن حجارةٍ، مِن طينٍ شديدِ الحرارةِ، فعَذَّبْناهم بها .

كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 82-83] .

وقال سبحانه: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [الذاريات: 32 - 34].

وقال عَزَّ وجَلَّ: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [العنكبوت: 34] .

فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ

أي: فانظُرْ- يا مُحمَّدُ- إلى آخِرِ أمْرِ أولئكَ المُجرمينَ الَّذين كَفَروا باللهِ ورُسُلِه، كانت نهايِتُهم أنْ أخْزَاهم اللهُ تعالى، وأهْلَكَهم بعذابٍ مُستأصِلٍ لهم

 

.

كما قال تعالى: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 74-77] .

الفوائد التربوية:

 

قال اللهُ تعالى: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً في التَّقييدِ بالشَّهوةِ وَصْفُهم بالبهيميَّةِ الصِّرفةِ، وفيها أيضًا تنبيهٌ على أنَّ العاقِلَ ينبغي أن يكونَ الدَّاعِي له إلى المُباشَرةِ طَلَبَ الوَلَدِ وبقاءَ النَّوعِ، لا قضاءَ الوَطَرِ فحَسْبُ

، فقَصدُ الشَّهوةِ لِذَاتِها يُفضِي إلى وَضْعِها في غَيرِ مَوضِعها، وإنَّما مَوضِعُها الزَّوجةُ الشَّرعيةُ المُتَّخذةُ للنَّسلِ، وفي الحياةِ الزَّوجيَّةِ الشَّرعيةِ إحصانُ كُلٍّ مِنَ الزَّوجينِ الآخَرَ بقَصْرِ لَذَّةِ الاستمتاعِ عليه، وجَعْلِه وسيلةً للحياةِ الوالِدِيَّة التي تَنمو بها الأمَّةُ، ويُحفَظُ النَّوعُ البَشَريُّ مِنَ الزَّوالِ .

إنَّ الإسرافَ والاسْتِرسالَ في الشَّهَواتِ قد يصِلُ بالمرءِ إلى أنْ لا يَشفِيَ شَهْوَتَه شيءٌ، لذلك وصَفَ اللهُ قَوْمَ لُوطٍ بالإسرافِ، فقال: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فالقَومُ لَمَّا تَمَكَّنَ منهم الإسرافُ في الشَّهَواتِ؛ اشتَهَوْا شهوةً غَريبةً، لَمَّا سَئِمُوا الشَّهَواتِ المعتادةَ .

مَن رضِي عملَ قومٍ حُشر معهم، كما حُشرت امرأةُ لوطٍ معهم، ولم تكنْ تعملُ فاحشةَ اللواطِ؛ فإنَّ ذلك لا يقعُ مِن المرأةِ، لكنَّها لما رضِيتْ فعلَهم عمَّها العذابُ معهم، قال تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ .

الحَثُّ على الاعتبارِ بمآلِ مَن أجرَمَ مِن قَوْمِ نُوحٍ وهُودٍ، وصَالحٍ ولُوطٍ، وغَيرِهم مِنَ الأُمَمِ؛ لِمَا في ذلك مِن إيقاظٍ وازدجارٍ عَن سُلُوكِ مَسْلَكِهم؛ نستفيدُ ذلك مِن قَولِ اللهِ تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى في قِصَّةِ نُوحٍ عليه السَّلامُ السَّابقةِ: أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، ومِن بَعْدِه قال: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا، وعَدَلَ عن هذا الأُسلوبِ في قِصَّةِ لُوطٍ، فقال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ولم يَقُلْ: (إِلَى أهْلِ سَدُوم أخاهُم لوطًا) أو نحوَ ذلك؛ لأنَّ مِن أعظَمِ المقاصِدِ بسياقِ هذه القِصَص تسليةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، في مُخالفةِ قَوْمِه له، وعَدَمِ استِجابَتِهم وشِدَّةِ أذاهم، وإنذارَ قومِه أن يَحُلَّ بهم ما حَلَّ بهذه الأُمَمِ مِنَ العَذاب، وقَصَصُ مَن عدا قَوْمَ لوطٍ مُشابِهةٌ لقِصَّةِ قُريشٍ؛ في الشِّركِ باللهِ، والأذى لعبادِه المُؤمنينَ، وأمَّا قِصَّةُ قَومِ لُوطٍ، فزائدةٌ عن ذلك بأمرٍ فظيعٍ عَظيمِ الشَّناعةِ، شَديدِ العارِ والفُحْشِ؛ فعدَلَ عن ذلك النَّسَقِ؛ تنبيهًا عليه، تَهويلًا للأمر وتبشيعًا له، ليكونَ في التَّسليةِ أشَدَّ، وفي استدعاءِ الحَمدِ والشُّكرِ أتَمَّ

، وقيل: ابتُدِئَتْ بذِكْرِ (لُوطًا) كما ابتُدِئَتْ قِصَّةُ نُوحٍ بذِكْرِ نُوحٍ؛ لأنَّه لم يكُنْ لِقَومِ لُوطٍ اسْمٌ يُعرَفونَ به، كما لم يكُنْ لِقَومِ نُوحٍ اسْمٌ يُعرَفونَ به ، وقيل: إن قَومَ لُوطٍ كانوا خَليطًا مِنَ الكَنْعانِيِّينَ، ومِمَّنْ نَزَلَ حولهم؛ ولذلك لم يُوصَفْ بأنَّه أخُوهم؛ إذ لم يكُنْ مِن قَبائِلِهم، وإنَّما نزَلَ فيهم، واستوطَنَ دِيارَهم، وكان لوطٌ عليه السَّلامُ قد نزلَ ببلادِ (سَدُوم) ولم يكُنْ بينهم وبينه قَرابةٌ .

2- قال اللهُ تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ذَكَرَها اللهُ باسْمِ الفاحشَةِ؛ لِيُبَيِّنَ أنَّها زنا، كما قال اللهُ تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً ، وقيل: فيه دليلٌ على أنَّه يجري مَجرَى الزِّنا: يُرجَمُ مَن أُحصِنَ، ويُجلَدُ مَن لم يُحصَنْ وفَعَلَه .

3- قَولُ اللهِ تعالى حكايةً لِقَولِ لُوطٍ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ لَمَّا كان قَوْلُه: مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ربَّما أوهَمَ إقامةَ عُذْرٍ لهم في عَدَمِ وِجدانِ النِّساءِ، أو عَدَمِ كِفَايَتِهنَّ لهم، أضرَبَ عنه بقَولِه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ .

4- في قَولِه تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ تسميةُ هذا الفِعلِ الشَّنيعِ فاحشةً وإسرافًا؛ لأنَّه يشتمِلُ على مفاسِدَ كثيرةٍ: منها استعمالُ الشهوةِ الحيوانيَّةِ المغروزةِ في غيرِ ما غُرِزَت عليه؛ لأنَّ اللهَ خلَقَ في الإنسانِ الشَّهوةَ الحيوانيَّةَ؛ لإرادةِ بَقاءِ النَّوعِ بقانونِ التَّناسُلِ، حتى يكونَ الدَّاعي إليه قهريًّا ينساقُ إليه الإنسانُ بِطَبعِه، فقضاءُ تلك الشَّهوةِ في غير الغَرَضِ الذي وَضَعَها اللهُ لأجله؛ اعتداءٌ على الفطرةِ وعلى النَّوع،ِ ولأنَّه يُغَيِّر خُصُوصيَّةَ الرُّجْلةِ بالنِّسبة إلى المفعولِ به؛ إذ يصيرُ في غيرِ المنزلةِ التي وَضَعه اللهُ فيها بخِلْقَتِه، ولأنَّ فيه امتهانًا مَحضًا للمفعولِ به؛ إذ يُجعَل آلةً لقضاءِ شَهوةِ غَيرِه، على خلافِ ما وَضَعَ اللهُ في نظامِ الذُّكورة والأنوثةِ؛ مِن قَضاءِ الشَّهوتينِ معًا، ولأنَّه مُفضٍ إلى قَطعِ النَّسلِ أو تقليلِه، ولأنَّ ذلك الفِعلَ يجلِبُ أضرارًا للفاعِلِ والمفعولِ؛ بسبَبِ استعمالِ مَحَلَّينِ في غيرِ ما خُلِقَا له .

5- في قَولِه تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ مع قَولِه تعالى:بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ في سورةِ الشُّعراء، وقوله تعالى:بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ في سورة النمل، مجموعُ الآياتِ يدلُّ على أنَّهم كانوا مُرزَئين بفسادِ العَقلِ والنَّفس، بجَمْعِهم بين الإسرافِ والعُدوان والجَهلِ؛ فلا هم يعقلونَ ضَرَرَ هذه الفاحشةِ في الجنايةِ على النَّسلِ، وعلى الصِّحَّة، وعلى الفَضيلةِ والآدابِ العامَّة، ولا غيرها مِن مُنكَراتِهم؛ فيَجْتَنِبوها أو يجتَنِبوا الإسرافَ فيها، ولا هم على شيءٍ مِنَ الحياءِ وحُسنِ الخُلُقِ يصرِفُهم عن ذلك، والعِلمُ بالضَّرَرِ وَحدَه لا يصرِفُ عَن السُّوءِ والفسادِ، إذا حُرِمَ صاحِبُه الفضائِلَ ومكارِمَ الأخلاق، بل الفضائِلُ الموهوبةُ بِسلامةِ الفطرةِ؛ عُرضةٌ للفسادِ بِسُوءِ القُدوةِ، إلَّا إذا رَسَخَت بالفضائِلِ المكسوبةِ بتربيةِ الدِّينِ .

6- قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ابتَدَرُوا بالتَّآمُرِ على إخراجِ لُوطٍ عليه السَّلامُ وأهْلِه مِنَ القَريةِ؛ لأنَّ لُوطًا عليه السَّلامُ كان غَريبًا بينهم، وقد أرادوا الاستراحةَ مِن إنكارِه عليهم، شأنُ مَن يَشْعُرونَ بفَسادِ حالِهِم، المَمْنُوعينَ بِشَهَواتِهم عن الإقلاعِ عَن سَيِّئاتِهم، المُصَمِّمينَ على مُداوَمةِ ذُنُوبِهم؛ فإنَّ صُدُورَهم تَضِيقُ عَن تحمُّلِ المَوعِظةِ، وأسماعَهم تَصَمُّ لِقَبُولِها، ولم يَزَلْ مِن شَأنِ المُنغَمِسينَ في الهَوى تَجَهُّمُ حُلُولِ مَن لا يُشارِكُهم بينهم .

7- قال تعالى: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ القَومُ لَمَّا تَمَرَّدوا على الفُسوقِ، كانوا يَعُدُّونَ الكمالَ مُنافِرًا لطِباعِهم، فلا يُطيقونَ مُعاشَرةَ أهلِ الكَمالِ، ويَذُمُّونَ ما لهم مِنَ الكَمالاتِ فيُسَمُّونها ثِقلًا؛ ولذا وَصَفُوا تنَزُّهَ لُوطٍ- عليه السَّلامُ- وآلِه تَطَهُّرًا، بصيغةِ التَّكَلُّفِ والتصَنُّعِ، ويجوز أن يكونَ حِكايةً لِمَا في كَلامِهم مِنَ التَّهَكُّم بلوطٍ- عليه السَّلامُ- وآلِه، وهذا مِن قَلْبِ الحقائِقِ؛ لأجْلِ مُشايَعةِ العَوائِدِ الذَّميمةِ، وأهلُ المُجُونِ والانخلاعِ يُسَمُّون المُتَعَفِّفَ عن سِيرَتِهم، بالتَّائِبِ أو نحوِ ذلك، فقَوْلُهم: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ قصَدُوا به ذَمَّهم .

8- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ استُدِلَّ به على تَحريمِ أدبارِ النِّساءِ، فعن مجاهد في قوله: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ قال: أي: عن أدبارِ الرِّجال وأدبارِ النِّساء .

9- قَولُ اللهِ تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، (فَأَنْجَيناه) مُقَدَّمٌ مِن تأخيرٍ، والتَّقديرُ: (فأمطَرْنا عليهم مَطرًا وأنجيناه وأهْلَه) فقدَّمَ الخبرَ بإنجاءِ لُوطٍ عليه السَّلامُ على الخَبَرِ بإمطارِهم مطَرَ العَذابِ؛ لقَصدِ إظهارِ الاهتمامِ بأمرِ إنجاءِ لُوطٍ عليه السَّلامُ، ولتعجيلِ المَسَرَّةِ للسَّامعينَ مِنَ المُؤمنينَ، فتطمَئِنَّ قُلوبُهم لحُسنِ عَواقِبِ أسلافِهم مِن مُؤمِني الأُمَمِ الماضِيةِ، فيعلَمُوا أنَّ تلك سُنَّةُ اللهِ في عبادِه .

10- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا، ضمَّن (أمطَرْنا) معنى أرْسَلْنا، فلذلك عَدَّاه بـ (على) .

11- في قَولِه تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ العقابُ إمَّا أن يكونَ أثرًا طَبيعيًّا للذَّنبِ؛ كالتَّرَف والسَّرَف في الفِسقِ؛ يُفسِدُ أخلاقَ الأمَّةِ ويَذهَبُ بِبَأسِها، أو يجعَلُه بينها شديدًا بتفَرُّقِ كَلِمَتِها واختلافِ أحزابِها وتعادِيهم، فيترَتَّبُ على ذلك تسَلُّطُ أمَّةٍ أخرى عليها؛ تستَذِلُّها بسَلْبِ استقلالِها، وتسخيرِها في منافِعِها، حتى تكونَ حَرَضًا، أو تكونَ مِنَ الهالكينَ بِذَهابِ مُقَوِّماتِها ومُشَخصاتِها، أو اندِغامِها في الأمَّة الغالِبَةِ، أو انقراضِها، وإمَّا أن يكونَ بما يحدُثُ بسُنَنِ الله تعالى في الأرضِ مِنَ الجوائِحِ الطبيعيَّةِ؛ كالزَّلازلِ والخَسْفِ، وإمطارِ النَّارِ، والموادِّ المُصطَهرةِ التي تقذِفُها البراكينُ مِنَ الأرضِ، والأوبِئَةِ- أو الانقلابات الاجتماعيَّة، كالحُرُوبِ والثَّوْرات والفِتَن

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ

قوله: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ الاستفهامُ للإنكارِ والتَّعظيمِ، والتوبيخِ والتَّشنيعِ، والتَّوقيفِ على هذا الفِعل القبيحِ

.

وقولُه: أَتَأْتُونَ أي: أتعملونَ الفاحشةَ؟ وقد كُنِّي بالإتيانِ على العَملِ المَخْصوصِ، وهي كنايةٌ مَشهورةٌ .

والألِف واللَّام في الْفَاحِشَةَ للتعريفِ؛ وذلك لكونِ هذا الفِعل معهودًا قُبحُه ومَركوزًا في العُقولِ فُحشُه؛ فأتى مُعرَّفًا بالألفِ واللَّامِ. أو تكونُ (أل) فيه للجِنسِ على سَبيلِ المبالغةِ؛ كأنَّه لشِدَّة قُبحِه جُعِلَ جَميعَ الفَواحِشِ، وذلك بخِلافِ الزِّنا؛ فإنَّه قال فيه: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء: 32] ، فأَتَى به مُنكَّرًا، أي: فاحشةً مِن الفواحِش، وبهذا يتبيَّنَ تفاوُتُ ما بَينهما، وأنَّه سُبحانَه نَكَّرَ الفاحشةَ في الزِّنا، أي: هو فاحِشَةٌ مِنَ الفَواحِشِ، وعَرَّفَها في اللُّواطِ، وذلك يُفيدُ أنَّه جامِعٌ لمعاني اسمِ الفاحشةِ، كما تقولُ: زَيدٌ الرَّجلُ، ونِعمَ الرَّجُلُ زَيدٌ، أي: أتأتونَ الخَصلةَ التي استقَرَّ فُحْشُها عند كُلِّ أحدٍ؛ فهي لِظُهورِ فُحشِها وكمالِه غَنِيَّةٌ عن ذِكْرِها، بحيثُ لا ينصَرِفُ الاسمُ إلى غَيرِها .

قوله: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ الجملةُ مستأنفةٌ، مسوقةٌ لتأكيدِ النَّكيرِ، وتَشديدِ التوبيخِ والتقريعِ؛ فإنَّ مباشرةَ القبيحِ واختراعَه أقبحُ، ولقدْ أنكر الله تعالى عليهم أولًا إتيانَ الفاحشةِ بقوله: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ، ثُمَّ وبَّخهم بأنَّهم أوَّلُ مَن عمِلها فقال: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ؛ والمرادُ أنَّهم سابِقون لكلِّ مَنْ عداهم مِن العالَمين أي: أنتُم أَوَّلُ مَن عمِلها؛ إذ إنَّ الجملةَ المنفيَّةَ تدلُّ على أنَّهم هم أوَّلُ مَن فَعَل هذه الفَعلةَ القَبيحةَ وأنَّهم مُبتكِروها. أو تكونُ الجملةُ مسوقةً جوابًا عن سُؤالٍ مقدَّرٍ، كأنَّه قيل مِن جِهتهم: لم لا نأتيها؟ فقيل بَيانًا للعِلَّةِ، وإظهارًا للزاجر: ما سَبَقكم بها أحدٌ لعِظَمِ قُبْحِها، وسُوءِ سَبيلها؛ فكيف تفعلونها ؟!

قولُه: مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ فيه مبالغةٌ؛ فـ(مِنْ) صلةٌ لَتوكيدِ نَفْي الجِنسِ، وإفادةِ معنى الاستغراقِ لكلِّ البَشرِ، على الظاهرِ المتبادَر، وفيه مبالغةٌ أيضًا في الإتيانِ بعُمومِ العالَمِينَ جمْعًا .

وفيه مناسَبةٌ حَسنةٌ حيث قال هنا في سورة الأعراف: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، وقال في سُورةِ النمل: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54] ؛ وذلك لأنَّ ذِكْر قِصَّةِ لُوطٍ وقومِه في سُورة الأعراف اشتملَتْ على تَبكيتِهم على الفاحشةِ، بالإخبارِ عن سَبْقِهم إلى هذه الفَعلةِ، وأمَّا في سُورة النَّمل فالمذكورُ فيها صِفةٌ تَرجِع إلى الفَعلةِ نفْسِها وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؛ فإنَّهم لم يكونوا يَتكاتمون بها في مجالِسهم، ولَمَّا كان وصفُهم بأنَّهم لم يُسبَقوا إليها حقُّه أن يجيءَ بعدَ توفيةِ الفاحشةِ حقَّ وصْفِها في نفْسِها، أخَّرَ ذِكرَه إلى حِكايةِ القِصَّةِ في سورة الأعراف؛ إذ هي بعدَ سُورةِ النَّملِ في التَّرتيبِ نُزولًا .

وأيضًا فإنَّ قولَه هنا في سُورةِ الأعراف: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ، وكذلك في سُورةِ النَّملِ: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ، الهمزةُ للاستفهامِ المقصودِ به الإنكارُ، والتعظيمُ في تَوبيخِهم على الفاحِشةِ الشَّنعاء، وجاءَ في سُورة العنكبوت: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [العنكبوت: 28] بالإخبارِ؛ وذلك لمناسَبةٍ حَسنةٍ؛ أنَّه لَمَّا تَقدَّم في الأعرافِ ذِكرُ الأممِ المكذِّبين، ومُرتَكَباتِهم السيِّئةِ، مِن مُعاندِتهم للرُّسُلِ وتَكذيبهم؛ ممَّا اسْتَوْجَبوا به العذابَ، وأَخْذَ كلِّ طائفةٍ بذَنبِها، ناسَب ذِكرَ الأُممِ المكذِّبين قَبْلَهم تقريعُ هؤلاء بكونِهم أوَّلَ مَن فَعَل تلك الشَّناعة، وأنَّهم لم يَسْبِقْهم بها أحدٌ من الأُمم السابقةِ لهم، فقِيل لهم: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ بالاستفهامِ، أمَّا في سورة العنكبوت فإنَّه لَمَّا تقدَّم في سورتَي الأعرافِ والنَّملِ تقريرُهم تقريعًا وتوبيخًا، وعُرِفوا بذلك مَرَّةً بعد مَرَّةٍ، وردتْ قصَّتُهم في العنكبوت مُؤكَّدةً بـ(إنَّ) واللام؛ لثُبوتها، فوردتْ موردَ ما يَجيءُ بعدَ القَسَم؛ إذ قد تَقدَّم تقريرُهم التَّوبيخي مرَّتينِ فجاءَ الإخبارُ بعدُ بِما به يُخبَر عن المتقرِّرِ الثابت، ولم يَكُن ليناسبَ العكس، وهذا على مُقتضَى الترتيبِ في السُّورِ والآي؛ فجاءَ كلٌّ على ما يجِبُ .

قوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ استئنافٌ بيانيٌّ لتِلك الفاحشةِ، وفي زيادةِ (إنَّ) واللام في قوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ مَزيدُ توبيخٍ وتقريعٍ؛ كأنَّ ذلك أمرٌ لا يُتحقَّقُ صُدورُه عن أحدٍ، فيُؤكَّد تأكيدًا قويًّا، وفي إيرادِ لفْظ الرِّجال دُون الغِلمان والمردان ونحوهما مبالغةٌ في التوبيخِ كذلِك .

وقوله: مِنْ دُونِ النِّسَاءِ فيه زيادةٌ في التَّفظيعِ، وقطعٌ للعُذرِ في فِعلِ هذه الفاحشةِ .

وقوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ إضرابٌ عن الإنكارِ إلى الإخبارِ عن حالِهم التي أدَّتْ بهم إلى ارتكابِ أمثالها، وهي اعتيادُ الإسراف في كلِّ شيء، أو إضرابٌ عن الإنكارِ عليها إلى الذمِّ على جميعِ مَعايبِهم، أو عن مَحذوفٍ، والتقديرُ: لا عُذْرَ لكم فيه، بل أنتم قومٌ عادتُكم الإسرافُ .

ومُسْرِفُونَ اسمُ فاعلٍ، وهو يدُلُّ على الثُّبوتِ؛ فلا يَزالُ صاحبُ هذا الفِعلِ يُعاوِدُه حتَّى يَكونَ مَلَكةً راسخةً له؛ فتكرارُ العملِ يُكوِّن المَلكةَ، والمَلَكةُ تَدْعو إلى تَكرارِ العَملِ والإصرارِ عليه، وهذا وجهُ إضرابِ الانتقالِ مِن إسنادِ إتيانِ الفاحشةِ إليهم بفِعلِ المضارعِ المفيدِ للتَّكرارِ والاستمرارِ إلى إسنادِ صِفةِ الإسرافِ إليهم بقوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، أي: لستُم تأتون هذه الفاحشةَ المرَّةَ بعدَ المرَّةِ بعدَ نَدمٍ وتوبةٍ عقِبَ كلِّ مرَّةٍ، بل أنتُم مُسرِفون فيها وفي سائرِ أعمالِكم، لا تَقِفون عندَ حدِّ الاعتدالِ في عَمَلٍ مِن الأعمالِ .

وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ عبَّر هنا بلفظ السَّرفِ والاسمِ، وفي سورة النَّمل قال: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] ، بلفظِ الجهلِ والفِعل؛ ووجه ذلك أنَّه يجوزُ أنْ يكونَ لوطٌ عليه السَّلامُ لَمَّا كانتْ له مع قومِه مَقاماتٌ قال في بعضِها هذا اللفظ، وفي بعضِها اللفظَ الآخَر؛ تكثيرًا للفائدةِ في التَّعبيرِ عن المرادِ بلفظيْن مُتساوييْن معنًى؛ إذْ كلُّ سَرَفٍ جهلٌ، وبالعكسِ؛ والمسرِفُ مُجهَّل بإسرافِه، والجاهِل مُسرِفٌ بأفعالِه؛ إذ الإسرافُ مجاوزةُ الحدِّ الواجبِ إلى الفسادِ. وأمَّا اختصاصُ مُسْرِفِينَ بسُورةِ الأعراف، فلأنَّ الآياتِ التي قَبْلها فواصلُها أسماءٌ جُمِعت هذا الجمع وهي: (مفسدين- مؤمنون- كافرون- العالمين- المرسلين- النَّاصحين... إلى آخَرِها)، وهكذا إلى أنِ انْتَهى إلى هذه الآيةِ، فكانَ الاسمُ أحقَّ بالوضعِ في هذا المكانِ؛ لتَتساوَى الفواصلُ. وأمَّا في سورة النَّملِ فتقدَّم الآيةَ التي فاصلتُها: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] أفعالٌ، وهي: (يعلمون- يتقون- يبصرون)؛ فلمَّا تناسقتْ هذه الأفعالُ في هذه الفواصِلِ كان بناءُ قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] على ما قَبْلَها بلفظِ الفِعلِ أَوْلى بها، فجاءَ تَجْهَلُونَ في هذا الموضِع، ومُسْرِفُونَ في الأوَّلِ لهذا من القَصْدِ .

وقيل: بلْ قَصَد بما ذَكَر في سُورةِ الأعراف الإشارةَ إلى التعريفِ بانهِماكهم في الجرائمِ، وقَبيحِ المُرتَكباتِ؛ فنَصَّ على أَفحشِها، وحصَل الإيماءُ إلى ما وراءَ ذلك بما ذُكِر مِن إسرافِهم: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، ولَمَّا قِيل في سورة النَّمل: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54] ، كان أهمُّ شيءٍ أنْ تُنفَى عنهم فائدةُ الأبصارِ؛ إذ لم تُغْنِ عنهم شيئًا، فأَعْقَب بقولِه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] ،  أي: إنَّ مُرْتَكَبَكم مع عِلمكم بشنيعِ ما فيه مِن أقبحِ ما يَرتكِبُه الجُهَّالُ، ولم يَذكُرْ هنا إسرافَهم؛ إذ قدْ حصَل فيما ذُكِر في الأعراف .

وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ أُخرَى حيثُ عَدَل في سُورةِ العنكبوتِ عن قوله: شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ الذي هنا في الأعرافِ إلى قولِه: وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: 29] ؛ لقصدِ تَفصيلِ ما أُشير إليه في الأعرافِ مِن شَنيعِ ما ارْتَكبوه مِن إسرافِهم، فقيل: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: 29] ؛ فورَد أوَّلًا- بحسَبِ التَّرتيبِ المتقرِّر عليه السورُ والآيات- في الأعرافِ ذِكرُ أفحشِ مُرتَكَباتِهم، ثم أَجْملَ القولَ في سائرِ جرائمِهم، ثم أتْبع في السُّورةِ الثانيةِ (سورة النمل) بشَنيعِ حالهم في تِلك الفَعلةِ المنصوصِ عليها مِن حيثُ بيانُ فُحشِها للأبصارِ والبصائرِ، ثمَّ أَتْبَع ذلك في السورة الثالثةِ (سورة العنكبوت) بتَفصيلِ بعضِ قبائِحِ أفعالِهم والتنصيصِ عليها، وجاءَ كلُّه على ما يَجِبُ، ولا يُمكن العكسُ فيما ورَدَ .

قوله: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلَّا أَنْ قَالُوا أخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ

فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قاله هنا في الأعراف بالواوِ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ، وقال فيما أَشْبَهه مِن سُورتَي النمل والعنكبوت: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ [النمل: 56، العنكبوت:29] بالفاءِ؛ وذلِك لأنَّ ما هُنا في الأعراف تَقدَّمه اسمٌ هو: مُسْرِفُونَ، والاسمُ لا يُناسبه التعقيبُ، وما في النَّمل تَقدَّمه فِعلٌ هو: تَجْهَلُونَ [النمل: 55] ، وفي العنكبوت تَقدَّمه فِعلٌ أيضًا: تَقْطَعُونَ وتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: 29] ، والفعلُ يُناسِبُه التعقيبُ، فناسبَ ذكرُ الفاءِ الدَّالة عليه .

وأيضًا قال الله تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، وفي سورة النَّمل قال: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ [النمل: 56] ، وفي سُورة العنكبوت قال: قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [العنكبوت: 29] ؛ وذلك لمناسَبةٍ حَسنةٍ؛ وهي أنَّه لَمَّا زِيد في تَعنيفِهم في النَّمل بقولِه: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل: 57] ، وتعريفِهم بإتيانِهم الفاحشةَ على عِلمٍ بها أو مع مُشاهَدةِ بعضِهم بعضًا، وعدمِ استخفائِهم بها، وذلك أقبحُ في المُرتَكَب؛ زِيدَ في الإخراجِ التنصيصُ على الآلِ؛ لأنَّ قوله: آلَ لُوطٍ  أنصُّ في إخراجِ جميعِ مَن للوطٍ عليه السلام مِن ذَويه وأهلِه مِن قوله: أَخْرِجُوهُمْ، فكانتْ زيادةُ التنصيصِ الأعمِّ بإزاءِ الأزيدِ في التقريعِ. ولَمَّا عدَّد مِن قبائحِ مُرتَكباتهم في سورةِ العنكبوت ما عدَّد بقوله: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: 29] ، فكان تَعدادُ مُرتكباتِهم أشدَّ توبيخًا في تقريعِهم وأَنْكأَ، كان مَظِنَّةَ تَهيجٍ، واشتعالٍ لسَيِّئ أخلاقِهم، وقبيحِ جوابِهم، فجاوبوا جوابَ مَن استحكَم حنْقُه، وطُبِع على قلبِه فقالوا: ائْتِنَا بِعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت: 29] ؛ تحكيمًا وتحقيقًا لتَكذيبِهم، وشاهدًا بتَصميمِهم على المعاندةِ والكُفرِ .

وفي قولِه: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ جِيء بالخبرِ جُملةً فِعليَّةً مُضارعيَّةً يَتَطَهَّرُونَ؛ لدَلالتِها على أنَّ التَّطهُّرَ مُتكرِّرٌ منهم ومُتجدِّد، وذلك أَدْعَى لمُنافرتِهم طِباعَهم والغضبِ عليهم، وتَجهُّم إنكارِ لوطٍ عليه السَّلام عليهم؛ فهم قدْ عَلِموا هذا التطهُّرَ مِن خُلُقِ لُوطٍ عليه السلام وأهلِه؛ لأنَّهم عاشَرُوهم، ورَأَوْا سِيرتَهم .

قوله: إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ قال: مِنَ الْغَابِرِينَ ولم يقُل: (مِن الغابرات) مِن باب تَغليبِ الذُّكورِ إذا اجْتَمَعوا مع الإناثِ، ولبيانِ استِحقاقِها لِمَا يَستحقُّه المباشِرون للفاحشةِ. وجملةُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ استئنافٌ وقَعَ جوابًا عن سُؤالٍ نَشأَ عن استثنائِها مِن حُكمِ الإنجاءِ، كأنَّه قيل: فماذا كان حالُها؟ فقيل: كانتْ مِن الغابرينَ .

وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا في سُورةِ الأعراف: إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، وقال في سورة النمل: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [النمل: 57] ، وفي سُورة الحِجر قال: قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [الحجر: 60] ، ووجْهُ ذلك أنَّ اختصاصَ كَانَتْ بآيةِ الأعراف؛ مُناسِبٌ إيجازًا لقولِه: أَخْرِجُوهُمْ، وقولَه في النَّمل: قَدَّرْنَاهَا مُناسِبٌ لقولِه: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ، وقولَه في الحِجر: قَدَّرْنَا إِنَّهَا يَجري مع ما وُكِد قبلُ بـ(إنَّ) ويُناسِبه، كقوله: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 58-59] ، فقيل مُناسبًا لذلك: قَدَّرْنَا إِنَّهَا [الحجر: 60] .

وقِيل: إنَّ القِصَّةَ التي في سُورة النَّمل نازلةٌ قبلَ القِصَّة التي في سُورةِ الأعراف، بدليلِ الإضمارِ والإظهارِ؛ فلمَّا ذَكَر في الآيةِ المنزلةِ أوَّلًا قولَه: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [النمل: 57] ، أحال في الثانية على الأُولى في البيانِ، فقال: كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، أي: في تَقديرِ الله الذي قَدَّرَه لها، وأَخْبَر فيما قبلُ عن حُكمِه عليها .

قوله: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ

تَنكيرُ مَطَرًا للتَّعظيمِ والتعجُّب، أي: مَطرًا عجيبًا مِن شأنِه أن يُهلِكَ القُرَى .

وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال هنا في سُورةِ الأعراف: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ، وفي سُورةِ النَّملِ قال: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [النمل: 58] ، فاختَلفَ التعقيبُ في الآيتَينِ؛ لأنَّه لَمَّا تَقدَّم في الأعرافِ قوله: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ حصَل منه أنَّ ارتكابَهم ما لم يَسْبِقْ إليه غَيرُهم قد جَمَعَ إلى قَبيحِ الفُحشِ الاجترامَ، مِن حيثُ لم يَفعلْ تلك الفَعلةَ الشَّنعاءَ مَن تَقدَّمهم؛ فلمَّا أُجْمِع إلى الفُحشِ الاجترام أُعْقِب بقولِه: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ولَمَّا تقدَّم في سورة النَّمل قوله: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل: 54] حصَل منه تَعنيفٌ وإنذارٌ لم يقَعْ مِثلُه في الأعرافِ؛ إذ ليس موقعُ قولِه: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 80] في الإنذارِ والتعنيفِ كموقعِ تعريفِهم بعِلمهم بها، وشناعةِ مُعاينةِ بعضِهم بعضًا مِن ارتكابِها؛ فناسَب إنذارَهم بهذا ما أَعْقَب به مِن قولِه: فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [النمل: 58] ، ولو أُعْقِبتْ آيةُ الأعراف بهذا أو آيةُ النمل بما أُعقبتْ به آيةُ الأعراف لم يَكُن مُتناسِبًا .

.=============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (85-87)

ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ

غريب الكلمات:

 

وَلَا تَبْخَسُوا: أي: لا تَنْقُصُوا، ولَا تَظلِموا، والبَخْسُ: نَقصُ الشَّيءِ على سَبيلِ الظُّلمِ، وأصلُ (بخس): يدلُّ على النَّقْصِ

.

تُوعِدُونَ: أي: تَتوعَّدون وتُخوِّفونَ، والوَعدُ يكونُ في الخَيرِ والشَّرِّ، والوعيدُ في الشَّرِّ فقط، وأصلُ (وعد): يدلُّ على تَرجِيَةٍ بقولٍ .

عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ: أي: آخرُ أمرِهم، والعاقِبةُ تختصُّ بالثَّوابِ إذا أُطلِقَتْ، وقد تُستعمَلُ في العُقوبةِ أو ما يؤدِّي إليه السَّبَبُ المتقدِّمُ إذا أُضيفَتْ، وأصل (عقب): تأخيرُ شيءٍ، وإتيانُه بعدَ غيرِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه أرسَلَ إلى قبيلةِ مَدْينَ أخاهم في النَّسَبِ شُعَيبًا؛ لِيدعُوَهم إلى عبادَةِ اللهِ وَحدَه، وتَرْكِ عبادةِ ما سِواه، فقال لهم: اعبُدُوا اللهَ وَحدَه؛ ليس لكم معبودٌ يستحِقُّ العبادةَ غَيرُه، قد أتَتْكُم حُجَّةٌ واضحةٌ مِن رَبِّكم، على صِدقِ ما جِئْتُ به، فأوفُوا الكَيلَ والميزانَ، ولا تنقُصُوا النَّاسَ حُقوقَهم، ولا تُفسِدُوا في الأرضِ بعد إصلاحِها، هذا الذي أُمِرْتُم به مِن إخلاصِ العِبادةِ لله، وإيفاءِ حُقوقِ النَّاسِ، وتَرْكِ الفَسادِ في الأرضِ؛ خَيرٌ لكم إن كنتم مُؤمنينَ، ولا تَجلِسُوا بكلِّ طَريقٍ تَتوَعَّدونَ النَّاسَ بالقَتلِ أو العَذابِ، وتَمنعونَ عن طاعةِ اللهِ مَن آمَنَ به، وتَصْرِفونَه عن اتِّباعِ نَبِيِّه، وتطلبونَ لِسَبيلِ اللهِ أنْ تكونَ مائلةً، واذكروا حين كُنتُم قليلًا في العَدَدِ فكَثَّرَكم اللهُ تعالى، وانظُرُوا كيف كان عاقبةُ المُفسدينَ، وإن كانت طائفةٌ منكم آمَنُوا بالذي أرسَلَني اللهُ به، وطائفةٌ لم يُؤمِنُوا؛ فاصبِرُوا حتى يحكُمَ اللهُ بيننا، وهو خَيرُ الحاكمينَ.

تفسير الآيات:

 

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ

أي: وأَرْسَلْنا إلى قبيلةِ مَدْينَ أخاهم في النَّسَبِ شُعيبًا عليه السَّلامُ؛ لِيَدعُوَهم إلى عبادةِ اللهِ وَحْدَه، وينهاهم عَن عِبادَةِ غَيْرِه، وينهاهم عَنِ الفَسادِ في الأرضِ، فقال لهم: يا قَومِ، اعبُدُوا اللهَ وَحْدَه؛ ليس لكم معبودٌ يستحِقُّ العبادةَ غَيرُه، فلا تُشْرِكوا به شيئًا

.

قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ

أي: قال شُعَيبٌ لِقَومِه: قد جاءَتْكم حُجَّةٌ واضِحةٌ مِن خالِقِكم ومالِكِكم ومُدَبِّرِ شُؤونِكم، على صِدْقِ ما جِئْتُكم به مِن إفرادِ اللهِ بالعبادةِ، وتَرْكِ الفَسادِ في الأرضِ .

كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] .

وقال تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة: 70] .

وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما مِنَ الأنبياءِ مِن نبيٍّ إلَّا قد أُعطِيَ مِنَ الآياتِ ما مِثْلُه آمَنَ عليه البَشَرُ، وإنَّما كان الذي أُوتِيتُ وَحيًا أوحَى اللهُ إليَّ، فأرجُو أن أكونَ أكثَرَهم تابعًا يومَ القِيامةِ )) .

فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ

أي: فأتِمُّوا للنَّاسِ حُقُوقَهم؛ بإتمامِ كَيلِ المِكيالِ، ووَزنِ المِيزانِ .

كما قال تعالى حاكيًا قَوْلَ شُعَيبٍ لِقَومِه: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الشعراء: 181-182] .

وقال سُبحانَه حاكيًا أيضًا قَولَ شُعَيبٍ لِقَومِه: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ [هود: 84-85] .

وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ

أي: ولا تَنقُصُوا النَّاسَ حُقُوقَهم .

قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين: 1- 6] .

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا

أي: ولا تُفسِدُوا في الأرضِ بالشِّركِ والمعاصي وظُلْمِ النَّاسِ، بعد أنْ أصلَحَ اللهُ تعالى الأرضَ ببَعْثِ الرُّسُلِ، والأمرِ بالعَدْلِ .

ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا تقَدَّمَ إليهم بالأمرِ والنَّهيِ؛ أشارَ إلى عَظَمةِ ما تضَمَّنَه ذلك؛ حثًّا لهم على امْتِثالِه، فقال :

ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

أي: هذا الذي أمَرْتُكم به؛ مِن إخلاصِ العِبادةِ للهِ، وإيفاءِ حُقُوقِ النَّاسِ، وتَرْكِ الفَسادِ في الأرضِ- أنفَعُ لكم في دُنياكم وآخِرَتِكم، إنْ كُنتُم حقًّا مُؤمنينَ باللهِ وبرَسولِه وباليَومِ الآخِرِ .

كما قال تعالى حاكيًا قَولَ شُعَيبٍ لِقَومِه: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [هود:86] .

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

مُناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا كان للتَّعميمِ بعدَ التَّخصيصِ، والتَّفصيلِ بعد الإجمالِ؛ مِنَ الموقِعِ في النُّفوسِ ما لا يخفَى، وكان النَّهيُ عن الإفسادِ بالصَّدِّ عَن سَبيلِ اللهِ؛ هو المقصودَ بالذَّاتِ؛ لأنَّه يَنهى عن كُلِّ فسادٍ- خَصَّه بالذِّكْرِ؛ إشارةً إلى أنَّه زُبدةُ المرادِ بعد التَّعميمِ، فقال :

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ

أي: ولا تَجلِسُوا بكُلِّ طَريقٍ تُهَدِّدونَ النَّاسَ بالقَتلِ أو العذابِ، إن لم يُعطُوكم أموالَهم ، أو إن أرادُوا الإيمانَ باللهِ، واتِّباعَ نَبِيِّه شُعَيبٍ عليه السَّلامُ .

وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ

أي: وتَمنعونَ عن طاعةِ اللهِ مَن آمَنَ باللهِ، وتَصرِفُونَهم عنِ اتِّباعِ نَبِيِّ اللهِ .

وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا

أي: تودُّونَ أن تكونَ سبيلُ اللهِ معوجَّةً، وتلتمسون لها الزيغَ؛ بإلقاءِ الشُبَهِ أو بِوَصْفِها للنَّاسِ بالبطلان والضلال، وتُميلُونها اتِّباعًا لأهوائِكم .

وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ

أي: واذكُرُوا حينَ كُنتُم قليلًا عَدَدُكم، فكثَّركم اللهُ، فصِرْتُم أعِزَّةً أقوياءَ، فاشكُرُوه وأخْلِصُوا له العبادةَ .

وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ

مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا رَغَّبَهم اللهُ تعالى بالتَّذكيرِ بالنِّعمةِ؛ حَذَّرَهم بالتَّذكيرِ بأهْلِ النِّقمةِ، فقال :

وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ

أي: وانظُرُوا إلى آخِرِ أمْرِ المُفسدينَ، الذين أفسَدُوا في الأرضِ بالشِّركِ والمعاصي، مِنَ الأُمَمِ قَبلَكم؛ فقد حَلَّ بهم العذابُ والخِزيُ والنَّكالُ .

كما قال تعالى حاكيًا قَوْلَ شُعَيبٍ لِقَومِه: وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89] .

وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)

وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا

أي: وإن كانَتْ جماعةٌ منكم آمَنُوا بما أرسَلَني اللهُ به؛ مِن إفرادِه بالعبادةِ، وتَرْكِ الفَسادِ في الأرضِ، وجماعةٌ أخرى لم يُؤمِنُوا بذلك- فانتَظِروا حُكمَ اللهِ وقَضاءَه بيننا .

كما قال تعالى حاكيًا قَولَ شُعَيبٍ لِقَومِه: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ [هود: 93] .

وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ

أي: واللهُ خَيرُ مَن يَحكُمُ بين عِبادِه المُخْتلفِينَ، فيُنجِّي المؤمنينَ، ويُهلِكُ الكافرينَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال اللهُ تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ قَالَ يَا قَوْمِ دالٌّ على النَّصيحةِ والشَّفَقةِ مَع مَن يَدعُوهم، وذلك مِن خِلالِ تَذْكيرِهم بالقَرابةِ

.

في قوله تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ فبدأ شعيبٌ عليه السَّلامُ بِدَعوَتِهم إلى توحيدِ العبادةِ، وثنَّى بالأوامِرِ والنَّواهِي .

عادةُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ أنَّهم إذا رَأَوْا قَوْمَهم مُقْبِلينَ على نوعٍ مِن أنواعِ المفاسِدِ إقبالًا أكثَرَ مِن إقبالِهم على سائِرِ أنواعِ المفاسِدِ؛ بَدَؤُوا بمَنْعِهم عن ذلك النَّوعِ، وكان قَومُ شُعَيبٍ مَشغوفينَ بالبَخْسِ والتَّطفيفِ؛ فلهذا السَّبَبِ بدأ بذِكرِ هذه الواقعةِ، فقال: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ ، وعلى الدُّعاةِ أن يهتمُّوا بذلك، فقدوتُهم في ذلك الأنبياءُ، قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] .

تَرْكُ المعاصي- امتثالًا لأمرِ اللهِ تعالى، وتقَرُّبًا إليه- خيرٌ وأنفَعُ للعَبدِ مِن ارتكابِها المُوجِبِ لسَخَطِ الجَبَّارِ، وعذابِ النَّارِ؛ قال تعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

قال تعالى: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الإشارةُ بـ ذلكم إلى كُلِّ ما تقَدَّمَ مِن أمرٍ ونَهيٍ، أي: هو خيرٌ لهم في دِينِهم ودُنياهم، لا تكليفُ إعناتٍ، فاللهُ لا يأمُرُ إلَّا بما هو نافِعٌ، ولا ينهى إلَّا عما هو ضارٌّ، وهو على كلِّ حالٍ غَنِيٌّ عن العالَمِينَ، ولو شاء لأعنَتَهم، ولكِنَّه رحيمٌ لا يفعَلُ ذلك .

في قَولِه تعالى: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دلالةٌ على أنَّ التَّوحيدَ واجتنابَ نَزَعاتِ الشِّركِ ترفَعُ قَدْرَ الإنسانِ، وتُطَهِّرُ عَقلَه ونَفْسَه مِنَ الخُرافاتِ والأوهامِ، وتَعتِقُ إرادَتَه من العبوديَّة والذِّلَّةِ لمخلوقٍ مِثلِه مُساوٍ له؛ في كَونِه مَخلوقًا مُسَخَّرًا لإرادةِ الخالِقِ وسُنَنِه، وإن فاقَه في عَظَمةِ الخَلقِ أو عِظَمِ المنفعةِ كالشَّمسِ، أو بعضِ الصِّفاتِ أو الخصائِصِ؛ كالأنبياءِ والملائكةِ، وغَيرِ ذلك مِمَّا عُبِدَ مِن دُونِ الله، أو في المُلكِ والسُّلطان، فالتَّوحيدُ في العبادةِ هو لمصلحةِ النَّاسِ وتَكريمِهم وإعلاءِ شَأنِهم، وكذلك سائِرُ العباداتِ وأحكامُ الحَظرِ والإباحةِ، كما أنَّه قد ثبت بالدَّلائلِ العقليَّةِ والنَّقليَّةِ والتجارِبِ الَّدقيقة أنَّ مَلَكاتِ الفَضائِلِ لا تنطبِعُ في الأنفُسِ إلَّا بالتربيةِ الدِّينيةِ؛ ولذلك تَقِلُّ السَّرقةُ والخيانةُ في البلادِ التي يغلِبُ على أهلِها التَّدَيُّنُ الصَّحيحُ .

المؤمِنُ يُثابُ على فِعلِه؛ لِبنائِه له على أساسِ الإيمانِ، والكافِرُ أعمالُه فاسدةٌ، فلا يكونُ فِعْلُه خيرًا له مِن جِهَةِ إسعادِه في الآخرةِ؛ لأنَّه لا ثوابَ له؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُه تعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا دلالةٌ على أنَّ الواجِبَ هو الاحترامُ والتعظيمُ للسَّبيلِ التي نصَبَها اللهُ لعباده؛ لِيَسلُكُوها إلى مَرضاتِه ودارِ كَرامَتِه، ورَحِمَهم بها أعظَمَ رحمةٍ، مع القيامِ بنُصْرَتِها والدَّعوةِ إليها والذَّبِّ عنها .

تَذَكُّرُ كَثرةِ إنعامِ اللهِ تعالى، يحمِلُ على الطَّاعةِ، والبُعْدِ عَنِ المَعصيةِ؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قَولُه تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ .

تذكُّرُ عاقبةِ المُفسدينَ وما لَحِقَهم مِنَ الخِزيِ والنَّكالِ؛ زاجِرٌ عَنِ العِصيانِ والفَسادِ؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ .

في قَولِه تعالى: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ حُسْنُ التلَطُّفِ في المحاوَرةِ مع المُخالِفِ؛ فهذا الكلامُ مِن أحسَنِ ما تُلُطِّفَ به في المحاورةِ؛ إذ برَزَ المتَحَقِّقُ في صورةِ المشكوكِ فيه، وذلك أنَّه قد آمَنَ به طائفةٌ بدليلِ قَوْلِ المُستكبرينَ عن الإيمانِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ .

حُكمُ اللهِ بَينَ عِبادِه نوعان: حُكمٌ شَرعيٌّ يُوحِيه إلى رُسُلِه، وحُكمٌ فِعليٌّ يَفصِلُ فيه بين الخَلقِ بمُقتَضى عَدْلِه وسُنَنِه، وهذا الثَّاني كما في قَولِه تعالى: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) وإنمَّا حَكَم تعالى بين الأُمَمِ بنَصرِ أقْرَبِها إلى العَدلِ والإصلاحِ في الأرضِ، وحُكْمُه هو الحَقُّ، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه، فلْيَعتَبِرِ المسلمونَ بهذا قبلَ كُلِّ أحدٍ، ولْيَعرِضوا حالَهم وحالَ دُوَلِهم على القُرآنِ وعلى أحكامِ اللهِ لهم وعليهم؛ لعَلَّهم يَثُوبونَ إلى رُشْدِهم، ويَتُوبونَ إلى ربِّهم، فيُعيدَ إليهم ما سُلِبَ منهم، ويَرفَعَ مَقْتَه وغَضَبَه عنهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا غايةُ ما يُفيدُه القرآنُ: أنَّ اللهَ بعَثَ نَبِيَّه شُعيبًا إلى أهلِ مَدينَ، وذكَرَ اللهُ في سُوَرٍ أُخرَى أنَّ شُعَيبًا أُرسِلَ أيضًا إلى أصحابِ الأيْكةِ، كما في قَوْلِه تعالى: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 176] والعُلَماءُ مُختلِفونَ: هل أصحابُ الأيْكةِ هم مَدينُ أنفُسُهم، فيكون شُعَيبٌ أُرسِلَ إلى أمَّةٍ واحدةٍ، أو مَدينُ أمَّةٌ، وأصحابُ الأيكةِ أُمَّةٌ أخرى، فيكونُ شُعَيبٌ قد أُرسِلَ إلى أُمَّتَينِ؟ هذا خلافٌ مَعروفٌ بينَ العُلَماءِ، وأكثَرُ أهلِ العِلمِ على أنَّهم أمَّةٌ واحدةٌ، كانوا يَعبُدُونَ أيكةً، أي: شَجرًا مُلتفًّا، وأنَّ اللهَ سَمَّاهم مرَّةً بِنَسَبِهم (مَدْيَن) ومَرَّةً أضافَهم إلى الأيكةِ التي يعبُدونَها.

والذين قالوا: إنَّهما أمَّتانِ قالوا: في (مدين) قال إنَّه أخوهم؛ حيث قال: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا أمَّا أصحابُ الأيكةِ، فلم يقُلْ إنَّه أخوهم، بل قال: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ [الشعراء: 176-177] ولم يقُلْ: أخوهم شعيبٌ.

وأُجيبَ عن هذا بأنَّه لَمَّا ذَكَرَ مَدينَ ذَكَرَ الجَدَّ الذي يشمَلُ القبيلةَ، ومِن جُملَتِها شُعيبٌ- ذَكَرَ أنَّه أخوهم مِنَ النَّسَبِ، أمَّا قَولُه: أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ فمعناه: أنَّهم يَعْبُدونَها، ولَمَّا ذكَرَهم في مقامِ الشِّركِ وعبادةِ غَيرِ اللهِ، لم يُدخِلْ معهم شُعَيبًا في ذلك، وهم أمَّةٌ واحدةٌ. والله أعلم

.

2- في قَولِه تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ جاء تجريدُ الفِعلِ في: قَالَ يَا قَوْمِ مِنَ الفاء هنا، فقيل: ذلك للدَّلالةِ على أنَّ كَلامَه هذا، ليس هو الذي فاتَحَهم به في ابتداءِ رِسالَتِه، بل هو مِمَّا خاطَبَهم به بعد أنْ دعاهم مِرارًا، وبعد أنْ آمَنَ به مَن آمَنَ منهم .

ما جاءَ في هذا التَّشريعِ في قَولِه تعالى: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ هو أصلٌ مِن أُصولِ رَواجِ المعاملةِ بَينَ الأمَّةِ؛ لأنَّ المُعامَلاتِ تعتَمِدُ الثِّقةَ المتبادَلةَ بين الأمَّةِ، وإنَّما تحصُلُ بِشُيوعِ الأمانةِ فيها، فإذا حصَلَ ذلك نَشِطَ النَّاسُ للتَّعامُلِ؛ فالمُنتِج يزدادُ إنتاجًا وعَرْضًا في الأسواقِ، والطَّالِبُ من تاجرٍ أو مُستهلِكٍ يُقبلُ على الأسواقِ آمنًا، لا يخشى غَبنًا ولا خديعةً ولا خِلابةً، فتتوفَّرُ السِّلَعُ في الأمَّةِ، وتستغني عن اجتلابِ أقواتِها وحاجِيَّاتِها وتَحسينيَّاتِها، فيقومُ نَماءُ المدينةِ والحضارةِ على أساسٍ مَتينٍ، ويعيشُ النَّاسُ في رخاءٍ وتحابُبٍ وتآخٍ، وبضِدِّ ذلك يختَلُّ حالُ الأمَّةِ بمقدارِ تَفَشِّي ضِدِّ ذلك .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ في إضافةِ الأشياءِ إلى النَّاسِ دليلٌ على مِلْكِهم إيَّاها .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَمَّا كان طريقُ الدِّينِ أهَمَّ؛ خَصَّه بالذِّكرِ، فقال: وَتَصُدُّونَ، أي: تُوقِعونَ الصَّدَّ- على سبيلِ الاستمرارِ- عَنْ سَبيلِ اللَّهِ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ أخَّرَ النَّهيَ عن الصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ، بعد جُملةِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ولم يجعَلْه في نَسَقِ الأوامِرِ والنَّواهِي الماضيةِ، ثم يُعقِبْه بِقَولِه: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ؛ لأنَّه رَتَّبَ الكلامَ على الابتداءِ بالدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ، ثمَّ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ؛ لِمُناسَبةِ أنَّ الجَميعَ فيه صلاحُ المُخاطبينَ، فأعقَبَها ببيانِ أنَّها خَيرٌ لهم، إن كانوا مُؤمنينَ، فأعاد تَنبيهَهم إلى الإيمانِ، وإلى أنَّه شَرْطٌ في صلاحِ الأعمالِ، وبمُناسبةِ ذِكرِ الإيمانِ عاد إلى النَّهيِ عن صَدِّ الرَّاغبينَ فيه .

جاء النَّهيُ الواردُ في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا من قِبَل شُعَيبٍ عليه السَّلامُ عَقِبَ النَّهيِ عَن قَطعِهم الطُّرقَ على مَن يَغشى مَجلِسَه عليه السَّلامُ، ويَسمَعُ دَعوَتَه (على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ)، فقيل: ذلك لا لأنَّ اقتِرافَه دون اقترافِ التَّطفيفِ في الكَيلِ والميزانِ، وبَخْسِ الحُقوقِ؛ بل لأنَّه مُتأخِّرٌ عنها في الزَّمَنِ، فالدَّعوةُ قد وُجِّهَتْ أوَّلًا إلى أقرَبِ النَّاسِ إليه في بَلَدِه، ثمَّ إلى الأقرَبِ فالأقرَبِ منهم، وممَّن يزورُ أرضَهم، وقد كان الأقرَبونَ دارًا هم الأبعَدينَ استجابةً له في الأكثَرِ، وتلك سُنَّةُ اللهِ في الخَلقِ، فلمَّا رَأَوْا غَيرَهم يَقبَلُ دَعوَتَه ويَعقِلُها ويَهتَدِي بها؛ شَرَعُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عنه .

حاصِلُ ما أمَرَ به شُعَيبٌ عليه السَّلامُ قَومَه، بعد الأمرِ بالتَّوحيدِ؛ ينحَصِرُ في ثلاثةِ أُصُولٍ: هي حِفظُ حُقوقِ المعاملةِ المالِيَّةِ، وحِفظُ نظامِ الأمَّةِ ومَصالِحِها، وحِفظُ حُقوقِ حُرِّيَّةِ الاستهداءِ.

فالأصلُ الأوَّلُ يُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، فإيفاءُ الكَيلِ والميزانِ يَرجِعُ إلى حِفظِ حُقوقِ المُشتَرِينَ، وأمَّا النَّهيُ عن بَخْسِ النَّاسِ أشياءَهم فيرجِعُ إلى حِفظِ حُقوقِ البائِعِ.

والأصلُ الثَّاني يُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا

والأصلُ الثَّالثُ يُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ... .

6- قولُ اللهِ تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ لَمَّا كانت أفعالُهم نَقْصَ النَّاسِ؛ إمَّا في الأموالِ بالبَخسِ، وإمَّا في الإيمانِ والنُّصرةِ بالصَّدِّ- ذَكَّرَهم أنَّ اللهَ تعالى فعَلَ معهم ضِدَّ ذلك مِنَ التَّكثيرِ بعد القِلَّةِ، فقال: فكَثَّرَكُم أي: كثَّرَ عَدَدَكم وأموالَكم، وكُلَّ شَيءٍ يُنسَبُ إليكم، فلا تُقابِلوا النِّعمةَ بِضِدِّها .

7- في قَولِه تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ مِن حِكَمِ تَذكيرِهم بهذه النِّعمةِ أنْ يُقابِلُوها باعتبارِ نِقمَتِه تعالى مِنَ الَّذينَ غَضِبَ عليهم؛ إذ استأصَلَهم بعد أن كانوا كثيرًا، فذلك مِن تَمايُزِ الأشياءِ بأضدادِها؛ فلذلك أعقَبَه بِقَولِه: وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ .

قَولُ اللهِ تعالى: آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ بَنَى أُرْسِلْتُ للمَفعولِ؛ إشارةً إلى أنَّ الفاعِلَ معروفٌ بما تقَدَّمَ مِنَ السِّياقِ، وأنَّه صار بحيث لا يتطَرَّقُ إليه شَكٌّ؛ لِمَا نَصَبَ مِنَ الدَّلالاتِ .

8- قَولُ اللهِ تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ إنَّما قال: خَيْرُ الْحَاكِمِينَ لأنَّه قد يُسمَّى بعضُ الأشخاصِ حاكِمًا، ولكن الحاكِم في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى

 

.

بلاغة الآيات:

 

قوله:  قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

قوله:  قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ استِئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نَشأَ عن حِكايةِ إرسالِه إليهم، كأنَّه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل: قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ

.

قوله: مِنْ رَبِّكُمْ مُتعلِّق بـجَاءَتْكُمْ، أو بمحذوفٍ هو صفةٌ لفاعِله، مُؤكِّدةٌ لفخامتِه الذاتيَّةِ المستفادَةِ مِن تنكيرِه بفخامتِه الإضافيةِ، أي: بيِّنةٌ عظيمةٌ ظاهرةٌ، كائنةٌ من ربِّكم ومالكِ أُمورِكم .

قولُه: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ إنَّما خصَّ هذَينِ التَّحيُّلينِ بالأمْرِ والنَّهي المذكورين؛ لأنَّهما كانا شائعَينِ عند مَدْيَن، ولأنَّ التحيُّلاتِ في المعاملةِ الماليةِ تَنحصِرُ فيهما، وعلى هذا فالنَّهيُ في قوله: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ أفادَ معنًى غيرَ الذي أفادَه الأمرُ في قولِه: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ، وليس ذلك النهيُ جاريًا مجرَى العِلَّةِ للأمرِ، أو التأكيدِ لمضمونِه- كما فَسَّر به بعضُ المفسِّرين .

والتَّنكيرُ في قولِه: خَيْرٌ للتعظيمِ والكمالِ؛ لأنَّه جامعٌ خَيرَيِ الدُّنيا والآخِرة .

قوله: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ

قوله: تُوعِدُونَ فيه حَذْفُ المُوعَدِ به؛ لتذهَبَ النَّفْسُ فيه كُلَّ مَذْهَبٍ مِنَ الشَّرِّ .

و(كُل) في قوله: بِكُلِّ صِرَاطٍ للعُمومِ، وهو عمومٌ عُرْفي، أي: كلِّ صِراطٍ مُبلِّغٍ إلى القريةِ، أو إلى منزلِ شُعَيبٍ عليه السَّلامُ .

وقوله: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ فيه التعبيرُ عن الإيمانِ بالفِعلِ الماضي في قَولِه: مَنْ آمَنَ بِهِ عِوضًا عَنِ المُضارعِ- حيث المرادُ بمَن آمَنَ: قاصِدُ الإيمانِ-؛ لتَحقيقِ عَزمِ القاصِدِ على الإيمانِ، فهو لولا أنَّهم يَصُدُّونَه، لكان قد آمَنَ .

قوله: وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ فيه تهديدٌ لهم، وتذكيرٌ بعاقِبَةِ مَن أَفْسدَ قَبْلَهم، وتمثيلٌ لهم بمَنْ حلَّ به العذابُ مِن قومِ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ، وكانوا قَريبي عهدٍ بما أجاب المُؤتَفِكةَ .

قوله: فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ

قوله: فَاصْبِرُوا أَمرٌ فيه قوةُ التَّهديدِ والوعيدِ للكافِرين بانتقامِ الله تَعالَى منهم .

وقوله: وَهُو خَيْرُ الْحَاكِمِينَ تذييلٌ بالثَّناءِ على اللهِ تعالى بأنَّ حُكمَه عَدْلٌ محضٌ، لا يَحتمِل الظُّلمَ عمدًا ولا خطأً

=================

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (88-93)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ

غريب الكلمات :

 

مِلَّتِنَا: أي: دِينِنا، وطريقتِنا، والمِلَّةُ مُشتقَّةٌ من (أَمْلَلْتُ)؛ لأنَّها تُبنَى على مَسموعٍ ومَتْلُوٍّ، وإذا أُريدَ الدِّينُ باعتبارِ الدُّعاء إليه قيل: (مِلَّة)، وإذا أُريدَ باعتبارِ الطَّاعةِ والانقيادِ له قيل: (دِين)

.

افْتَرَيْنَا: أي: اخْتَلَقْنَا، وكَذَبْنا؛ والافتراءُ الاختلاقُ، ومنه قِيل: افتَرَى فلانٌ على فلانٍ، إذا قذَفَه بما ليسَ فيه، وأصلُ (فري) قَطْعُ الشَّيءِ؛ فالفَرْيُ: قطعُه لإصلاحِه، والإفراءُ: قطعُه للإفسادِ، والافتِراءُ فيهما، وفي الإفسادِ أكثرُ .

تَوَكَّلْنَا: التوكُّل هو تَفويضُ الأمرِ إلى مَن يُتوكَّلُ عليه، والاعتمادُ عليه، والثِّقةُ بِه، وأَصْلُ (وكل): يدُلُّ على اعتمادِ غَيرِكَ في أمْرِكَ .

افْتَحْ: أي: اقْضِ، أو احْكُمْ بَيْننا، وأَصْلُ الفَتْحِ: إزالةُ الإغلاقِ والإشكالِ .

لَمْ يَغْنَوْا: أي: لَمْ يَعيشوا، أو لَمْ يَنزِلوا، وغَنِيَ القومُ في دارِهِمْ: أقاموا، كأنَّهم استغنَوْا بها، وأَصْلُ (غني): يدُلُّ على الكِفايةِ، والاسْتغناءِ عن الغَيرِ .

آسَى: أي: أحْزَنُ، يُقَالُ: أسِيتُ على الشَّيءِ آسَى أسًى، أي: حَزِنْتُ عليه، وأصْلُ (أسي): الحزنُ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

قال الرُّؤساءُ المُتكبِّرونُ من قوم شُعَيْبٍ: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ، ومَنْ آمَنَ معك من قريتِنا، أو لَتَرْجِعُنَّ إلى دِينِنا، قال لهم شعيبٌ مُنْكِرًا عليهم: أَتُعيدوننا إلى دِينِكم حتَّى لو كُنَّا كارهينَ له؟! قدِ افْتَرَيْنا على اللهِ كَذِبًا إنْ رجَعْنا إلى دِينِكم بعَدْ أنْ نجَّانا اللهُ منه، وما يكون لنا الرُّجوعُ إليه إلَّا أنْ يشاءَ ربُّنا، وَسِعَ ربُّنا كُلَّ شيءٍ عِلْمًا، على الله اعتمَدْنَا في جميعِ أُمورِنا، ثم دعا ربَّه قائلًا: ربَّنا احْكُمْ بَيْننا وبين قومِنَا بحُكْمِكَ، وانصُرْنا عليهم، وأنتَ خَيْرُ الحاكمينَ.

وقال الرُّؤَساءُ الَّذين كَفَروا من قومِ شعيبٍ لِمَنْ هم دونَهم: لئِنِ اتَّبعتُم شعيبًا إنَّكم إذًا لخاسِرونَ.

فأخَذَتِ الكفَّارَ من قوم شعيبٍ زلزلةٌ شديدةٌ، فصاروا في بَلْدَتِهم صَرْعَى مُنكبِّينَ على وُجوهِهم، لاصقينَ بالأرضِ على رُكَبِهِمْ، خامدينَ لا حياةَ فيهم.

الَّذين كذَّبوا شعيبًا قد هَلَكوا، وكأنَّهم لم يُقيموا قَطُّ في بلدِهم، ولم يَتمتَّعوا فيها، الَّذين كذَّبوا شعيبًا كانوا هُمُ الخاسرينَ.

فانصَرَفَ عنهم شعيبٌ، وقال: يا قومِ لقدْ أَبلغْتُكم ما أُرْسِلْتُ به من ربِّي، ونصَحْتُ لكم؛ فكيف يَشتدُّ حُزْني على قومٍ كافرينَ؟!

تفسير الآيات :

 

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ(88)

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا

أي: قال الأشرافُ والرُّؤساءُ الذين تكبَّروا عن الإيمانِ بشعيبٍ عليه السلامُ واتِّباعِه من قومِه: واللهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شعيبُ ومَنْ آمَنَ معك من مدينتِنا، أو لَتَرْجِعَنَّ أنتَ وهُمْ إلى دِينِنا

.

كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [إبراهيم: 13] .

قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ

أي: قال شعيبٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقومِهِ مُنْكِرًا عليهم: أَتُجبروننا على العَوْدةِ إلى مِلَّتِكم قَهْرًا، وإنْ كنَّا كارهينَ لها؛ لعِلْمِنا ببُطْلانِها ؟!

قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)

قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا

أي: قال شعيبٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقومِهِ الكافرينَ: قدِ اخْتَلَقْنا على اللهِ كَذِبًا إنْ نحن رجَعْنا إلى دِينِكم، الَّذي هو الكفرُ والشِّركُ، بعْدَ أنْ أنقَذَنا اللهُ منه، فَصِرْنا مؤمنينَ باللهِ، لا نُشرِكُ به شيئًا .

وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا

أي: وما يصِحُّ لنا ولا ينبغي أبدًا أنْ نَرجِعَ إلى مِلَّتِكُمُ الباطلةِ، ونترُكَ دِينَ الحقِّ الَّذي هَدانا اللهُ إليه، إلَّا أنْ يكونَ قدْ سبَقَ في عِلْمِ اللهِ تعالى أنَّا نَعودُ إليها، فتمْضِي فِينَا حِينَئِذٍ مشيئةُ اللَّهِ، التابعةُ لعلمِه وحكمتِه؛ إذْ لا مَفَرَّ عمَّا شاءَ وقدَّرَ .

كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الإنسان: 30-31] .

وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا

أي: وَسِعَ عِلْمُ اللهِ كُلَّ شيءٍ، فلا يَخْفى عليه ما كان، ولا ما سيَكونُ .

كما قال تعالى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر: 7 ].

عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا

أي: على اللهِ وَحْدَهُ نَعتمِدُ في جميعِ أُمورِنا .

كما قال تعالى حاكيًا قَوْلَ شعيبٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88].

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ

أي: يا ربَّنا، احْكُمْ بَيْننا وبَيْنَ قومِنا الكفَّارِ بحُكْمِكَ الحقِّ، وانصُرْنا عليهم .

وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ

أي: وأنتَ- يا أللهُ- خيرُ الحاكمينَ؛ فحُكْمُكَ بين عبادِكَ عَدْلٌ، لا ظُلْمَ فيه أبدًا .

كما قال تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف: 76] .

وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا يَئِسَ الملأُ مِن قومِ شعيبٍ- عليه السَّلامُ- مِن عَوْدتِهِ في مِلَّتِهم، وعَلِموا أنَّه ثابتٌ على مُقارَعَتِهم، خافوا أنْ يَكْثُرَ المُهتَدونَ به من قومِهم، فحذَّروهم ذلك بما حَكاهُ اللهُ تعالى عنهم في قولِهِ :

وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)

أي: قال الأشرافُ والرُّؤَساءُ الكَفَرَةُ من قومِ شعيبٍ عليه السَّلامُ؛ تحذيرًا لِمَنْ دونَهم مِنَ النَّاسِ مِنِ اتِّباعِهِ : واللهِ لَئِنِ اتَّبعْتُم شعيبًا؛ فتركْتُم دِينَكم وآمَنْتُم بما يَدعوكُم إليه، لَهَلَكْتُم وَشَقيتُم، وخَسِرْتُم مصالِحَكُمُ الدُّنيويَّةَ .

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ

أي: فأَخَذَتْ أولئكَ الكفَّارَ الزلزلةُ الشَّديدةُ .

كما قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود: 94] .

وقال سُبحانَه: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 189] .

فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ

أي: فصارَ الكفَّارُ في بَلَدِهم لاصقينَ بالأرضِ على رُكَبِهم، ومُنكبِّينَ على وُجوهِهم صَرْعى، خامِدينَ لا حياةَ فيهم .

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا

أي: الَّذين كذَّبوا شعيبًا عليه السَّلامُ قد هَلَكوا، وكأنَّهم لم يُقيموا قَطُّ في بَلَدِهم، ولم يَتمتَّعوا فيها .

كما قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود: 94-95] .

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ

أي: لم يكُنِ الخاسِرُ مَنِ اتَّبَعَ شعيبًا عليه السَّلامُ، بل الَّذين كذَّبوه كانوا هُمُ الخاسرينَ الهالِكينَ؛ لأنَّهم خَسِروا دِينَهم وأَنْفُسَهم وأَهْليهم يومَ القيامةِ .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15] .

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي

أي: فانْصَرَفَ شعيبٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن قومِهِ بعْدَ حُلولِ العذابِ بهم ، وقال مُخاطِبًا لهم توبيخًا وعِتابًا : لقدْ أَدَّيْتُ إليكم- يا قومي- جميعَ ما أَمَرني اللهُ تعالى بأدائِه إليكم .

وَنَصَحْتُ لَكُمْ

أي: وأردْتُ لَكُمُ الْخَيْرَ في الدُّنيا والآخِرةِ، واجتهدْتُ في هِدايتِكم؛ فأَمَرْتُكم بما فيه خيرٌ لكم، ونَهَيْتُكُمْ عمَّا فيه شَرٌّ لكم، فلم تَقبَلوا نُصْحي، ولا انْقَدْتُم لإرشادي، بل طَغَيْتُم وتمَرَّدْتُم حتَّى أهْلَكَكمُ اللهُ .

فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ

أي: فكيف يَشتدُّ حُزني على قومٍ كَفَروا باللهِ عزَّ وجلَّ، وكذَّبوا رسولَهُ؟! فَهُمْ لا خيرَ فيهم

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- أمْرُ الدِّينِ هو الأعظمُ عِند المؤمنِ، والمُؤثِّرُ في أمْرِ الدُّنيا؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ؛ فشعيبٌ عليه السَّلامُ لم يُؤْثِرْ هو ومَنْ آمَنَ معه التَّمَتُّعَ بالإقامةِ في وطَنِهم، ومُجاراةَ أَهْليهم في كُفرِهم ورَذائلِهم على مَرْضاةِ اللهِ تعالى

.

2- لم تَزَلِ الأنبياءُ والأكابرُ يخافونَ العاقبةَ، وانقلابَ الأمْرِ، فلو بلَغَ العبْدُ مِنَ الطَّاعةِ ما بلَغَ فلا ينبغي له أنْ يُفارِقَه هذا الحَذَرُ؛ يُرشِدُ إلى ذلك قولُ اللهِ تعالى: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا .

3- قال تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ، هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ قومَ الرَّجلِ إذا كانوا أعداءً للهِ، فأهلَكَهم اللهُ بذُنوبِهم، فلا ينبغي له أنْ يحزَنَ عليهم؛ لأنَّهم ليسوا أهلًا للحُزْنِ عليهم؛ لِعَداوتِهم للهِ ورسلِهِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

قولُ اللهِ تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا التعبيرُ بصِيغةِ (استفعل) التي تدلُّ على الطَّلبِ اسْتَكْبَرُوا؛ للدَّلالةِ على أنَّهم أَوْجَدوا الكِبْرَ إيجادَ مَنْ هو طالبٌ له بغايةِ الرَّغبةِ

.

قولُ اللهِ تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ، خِطابُهم شعيبًا عليه السَّلامُ بالنِّداءِ- من غيرِ استعطافٍ ولا إجلالٍ- جارٍ على طريقةِ خِطابِ الغَضَبِ .

قولُ اللهِ تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، فيه ما يدُلُّ على صُعوبةِ مُفارَقةِ الوَطَنِ؛ إذْ قَرَنوا ذلك بالعَوْدِ إلى الكُفْرِ .

قولُ اللهِ تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، عُدِّيَ (عاد) بـ (في) الظَّرفيَّةِ، كأنَّ المِلَّةَ لهم بمنزلةِ الوِعاءِ المُحيطِ بهم .

قولُ اللهِ تعالى: وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، فيه ما يُبطِلُ تأويلَ القَدَريَّةِ (المشيئةَ) في مِثْلِ ذلك بمعنى (الأَمْرِ)، ومعلومٌ أنَّه مِنَ المُمتنِعِ على اللهِ أنْ يأمُرَ بالدُّخولِ في مِلَّةِ الكُفْرِ والشِّرْكِ به، ولكنِ اسْتثنَوْا بمشيئتِهِ الَّتي يُضِلُّ بها مَنْ يشاءُ، ويَهدي مَنْ يَشاءُ، فالله تعالى له في خلقِه علمٌ محيطٌ، ومشيئتُه نافذةٌ وراءَ ما يعلمُه الخلائقُ، فامتناعُهم مِن العودِ فيها هو مبلغُ علومِهم ومشيئتِهم، ولله علمٌ آخرُ، ومشيئةٌ أُخرى وراءَ علومِهم ومشيئتِهم .

قولُ اللهِ تعالى: وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، قولُه: وَسِعَ فِعْلٌ ماضٍ يدُلُّ على أنَّه تعالى كان عالِمًا في الأَزَلِ بجميعِ الأشياءِ مِنَ الكُلِّيَّاتِ والجزئيَّاتِ

 

.

بلاغة الآيات :

 

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا استِئنافٌ مَبْنِيٌّ على سؤالٍ يَنساقُ إليه المَقالُ، كأنَّه قيل: فماذا قالوا بعدَما سمِعوا هذه المواعظَ من شعيبٍ عليه السَّلامُ؟، فقيل: قَالَ المَلَأُ...

.

وفي قولِهِ: لَتَعُودُنَّ تغليبُ الجَمعِ على الواحدِ؛ إذْ منهم شعيبٌ، ولم يكُنْ في مِلَّتِهم حتَّى يعودَ إليها، وكذا قولُ شعيبٍ: إنْ عُدْنا في مِلَّتِكُمْ بعدَ إذْ نجَّانَا اللَّهُ منهَا، وهو يُريدُ عَوْدَ قومِهِ، إلَّا أنَّه نَظَمَ نفسَهُ في جُملتِهم، وإنْ كان بريئًا من ذلك؛ إجراءً لكلامِهِ على حُكْمِ التَّغليبِ ، هذا على أحدِ أوجهِ تأويلِ الآيةِ.

وقولُه: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا فيه تَوْسيطُ النِّداءِ باسمِهِ العَلَميِّ بينَ المعطوفَيْنِ؛ لزيادةِ التَّقريرِ، والتَّهديدِ النَّاشِئ عن غايةِ الوَقاحةِ والطُّغيانِ مِن قومِه .

قولُه: قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ استئنافٌ، وفُصِلَتْ جُمْلَةُ قَالَ...،: أي لم تُعطَفْ بالواوِ على الجُملةِ قبلها؛ لِوُقوعِها فِي سِيَاقِ الـمُحاوَرَةِ .

والهمزةُ في أَوَلَوْ للاستفهامِ، وهو مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ؛ لإنكارِ الوُقوعِ، ونَفْيِه .

قولُه: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا

قولُه: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا يَحتمِلُ أنْ يكونَ كلامًا مُستأنَفًا، فيه معنى التَّعجُّبِ، كأنَّهم قالوا: ما أَكْذَبَنا على اللهِ إنْ عُدْنَا في الكفرِ بعدَ الإسلامِ! ويَحتمِلُ أنْ يكونَ قَسَمًا على تَقديرِ حذْفِ اللَّامِ، بمعنى: واللهِ لقدِ افْترَيْنا على اللهِ كَذِبًا .

وانتصابُ كَذِبًا على المفعوليَّةِ المُطْلَقَةِ؛ تأكيدًا لـ افْتَرَيْنَا بما هو مُساوٍ له، أو أَعَمُّ منه .

قوله: إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ شَرْطٌ، وجوابُه محذوفٌ دَلَّ عليه قولُه: قَدِ افْتَرَيْنَا، وهو بمعنى المستقبَلِ؛ لأنَّه لم يقَعْ، لكنَّهُ جُعِلَ كالواقعِ؛ للمُبالَغَةِ، وأُدْخِلَ عليه (قَدْ)؛ لتقريبِهِ مِنَ الحالِ .

وقولُه: بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا فيه إيجازُ حذْفٍ، أو كِنايةٌ؛ إذ المعنى: بعدَ إذْ هَدانا اللهُ للدِّينِ الحقِّ الَّذي اتَّبَعْناهُ بالوحيِ، فنجَّانا مِنَ الكفرِ، وذَكَر الإنجاءَ؛ لدَلالتِهِ على الإهداءِ، والإعلانِ بأنَّ مُفارَقةَ الكُفْرِ نَجاةٌ .

قوله: وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ

قولُه: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا تقييدٌ مقصودٌ منه التَّأدُّبُ، وتفويضُ العِلْمِ بالمستقبلِ إلى اللهِ، والكِنايةُ عن سُؤالِ الدَّوامِ على الإيمانِ مِنَ اللهِ تعالى .

وفي الإتيانِ بوَصْفِ الرَّبِّ وإضافتُه إلى ضميرِ المتكلِّمِ المشارِكِ رَبُّنَا: تَعريضٌ بأنَّ اللهَ مَوْلى الَّذين آمَنوا .

وقولُه: وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا فيه إعادةُ وَصْفِ الرُّبوبيَّةِ، وهو مِن الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ لزيادةِ إظهارِ وَصْفِهِ بالرُّبوبيَّةِ المُلْتَمَسِ بذِكْرِها فِعْلُ ما يَفعَلُ المُرَبِّي الشَّفيقِ، وتأكيدِ التَّعريضِ المتقدِّمِ؛ حتَّى يَصيرَ كالتَّصريحِ .

وفي قولِه: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفِعْلِ؛ لإفادةِ الاختِصاصِ، أي: عليه تَوكَّلْنا لا على غَيرِهِ؛ تحقيقًا لمعنى التَّوحيدِ، ونَبْذِ غيرِ اللهِ تعالَى .

وإظهارُ الاسمِ الجليلِ اللَّه في موقِعِ الإضمارِ، يُفيدُ المبالَغَةَ في التَّضرُّعِ والجُؤَارِ إلى اللهِ تعالى .

وقولُه: وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ تذييلٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبْلَهُ .

قولُه: وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ: ذِكْرُ الملأِ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لِطولِ الفَصْلِ بينَ المُتعاطِفَينِ، وإنَّما وَصَفَ الملأَ بالموصولِ وصِلَتِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا دونَ أنْ يقول: (الكافِرون) فيَكتفيَ بحَرفِ التَّعريفِ المُقتضي أنَّ الملأَ الثَّانيَ هو الملأُ المذكورُ قَبْلَه؛ لِقَصْدِ زيادةِ ذَمِّ الملأِ بوَصْفِ الكُفْرِ، كما ذُمَّ فيما سبَق بوَصْفِ الاستكبارِ .

و(إذًا) في قولِه: إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ تفيدُ التَّوكيدَ .

قولُه: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا في دَارِهِمْ جَاثِمينَ فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قالَ هنا فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا في دَارِهِمْ جَاثِمينَ، وقال في سورَةِ هُودٍ: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود: 94] وقال تعالى إخبارًا عنهم في سورَةِ الشُّعَراءِ: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشُّعراء: 189] ؛ فالله تعالى أخبَر في هذه السُّورةِ هنا أنَّهم أخَذَتْهم الرَّجْفَةُ، كما أرجَفوا شُعَيْبًا وأصْحابَه، وتَوَعَّدوهم بالجَلاءِ، والمناسَبَةُ في ذِكرِ الصيحة في سورة هود أَنَّهم لَمَّا تَهَكَّمُوا بنَبِيِّ اللَّهِ شُعَيْبٍ في قَوْلِهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] فجاءت الصَّيْحَةُ فأسْكَتَتْهم. وأما في سورَةِ الشُّعَراءِ فقال: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشُّعراء: 189] وما ذاك إلَّا لأنَّهم قالوا له في سِياقِ القِصَّةِ: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشُّعراء: 187] فأخْبَر أَنَّه أصابَهم عذابُ يومِ الظُّلَّةِ، وقد اجْتَمَع عليهم ذلك كلُّه .

وقوله: فَأَصْبَحُوا في دَارِهِمْ جَاثِمينَ فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قالَ هنا دَارِهِمْ بالإفرادِ مرَّتَيْنِ، وكذلك قال في العَنكبوتِ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [العنكبوت: 37] مرَّةً واحدةً، بَينما قال في سورة هود: فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود: 67-94] مرَّتَيْنِ بالجَمْعِ؛ لأنَّ ما في المواضعِ الأُوَلِ تَقدَّمَهُ ذِكْرُ الرَّجفةِ، أي: الزَّلزلةِ، وهي تَختصُّ بجُزءٍ مِنَ الأرضِ، فناسَبَها الإفرادُ، وما في الأخيرَيْنِ تقدَّمَهُ ذِكْرُ الصَّيْحةِ، وكانتْ مِنَ السَّماءِ، وهي زائدةٌ على الرَّجفةِ، فناسَبَها الجَمْعُ .

قولُه: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ

قوله: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا استئنافٌ؛ لبيانِ ابتلائِهم بشُؤْمِ قَوْلِهم فيما سبَق .

والتَّعْريفُ بالموصوليَّةِ في قولِه: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا؛ للإيماءِ إلى وَجْهِ بِناءِ الخَبَرِ، وهو أنَّ اضمِحلالَهم وانقِطاعَ دابِرِهم كان جزاءً لهم على تكذيبِهم شعيبًا

وقولُه: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا فيه تشبيهُ حالِ اسْتِئصالِهم، وعَفاءِ آثارِهِمْ بحالِ مَنْ لم تَسبِقْ لهم حياةٌ، ولم يُقيموا في هذا المكانِ .

وقولُه: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ استئنافٌ آخَرُ؛ لبيانِ ابتلائِهم بعُقوبةِ قَوْلِهم الأخيرِ، وإعادةُ الموصولِ والصِّلَةِ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كما هي؛ لزِيادةِ التَّقريرِ، والإيذانِ بأنَّ ما ذُكِرَ في حَيِّزِ الصِّلَةِ هو الَّذي استوجَبَ العقوبتَيْنِ . وفي هذا الاستئنافِ والابتداءِ وهذا التَّكريرِ: مبالَغَةٌ في رَدِّ مَقالةِ الملأِ لأشياعِهم، وتَسْفيهٌ لرأيِهم، واستهزاءٌ بنُصْحِهم لقومِهم، واستعظامٌ لِمَا جَرى عليهم، وإيقاظُ السَّامِعينَ- وهُمْ مُشرِكو العربِ-؛ ليتقُّوا عاقبةَ أمثالِهم في الشِّرْكِ والتَّكذيبِ على طريقةِ التَّعريضِ، ولتعظيمِ المَذَلَّةِ لهم، وتفظيعِ ما يَستحِقُّونَ مِنَ الجزاءِ على جَهْلِهم؛ فالعربُ تُكَرِّرُ مِثْلَ هذا في التَّفخيمِ والتَّعظيمِ .

وضميرُ الفَصْلِ (هُم) في قولِهِ: كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ يُفيدُ القَصْرَ، وهو قَصْرٌ إضافيٌّ،، أي: هُمُ المخصوصونَ بالخُسْرانِ العظيمِ دونَ أَتْباعِ شُعيبٍ عليه السَّلامُ؛ وذلك لإظهارِ سَفَهِ قولِ الملأِ للعامَّةِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُون؛ توقيفًا للمُعتبِرينَ بهم على تهافُتِ أقوالِهم، وسفاهةِ رأيِهم، وتحذيرًا لأمثالِهم مِنَ الوُقوعِ في ذلك الضَّلالِ .

قولُه: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ

قوله: يَا قَوْمِ نِداءٌ، الغرضُ منه التَّحَسُّرُ، والتَّبرُّؤُ مِن عَمَلِهم .

قولُه: فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ استفهامٌ إنكاريٌّ وخاطَبَ به نَفْسَه؛ إذْ خَطَرَ له خاطِرُ الحُزنِ عليهم، فدَفَعَهُ عن نفسِهِ بأنَّهم لا يَستحِقُّونَ أنْ يُؤْسَفَ عليهم؛ لأنَّهُمُ اخْتاروا ذلك لأنْفُسِهم، ولأنَّه لم يترُكْ من تحذيرِهم ما لو أَلْقاهُ إليهم لَأَقْلَعوا عمَّا هم فيه، فلم يَبْقَ ما يُوجِبُ أَسَفَهُ ونَدامتَهُ. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ الاستفهامُ الإنكاريُّ موجَّهًا إلى نفسِهِ في الظَّاهِرِ، والمقصودُ نَهْيُ مَنْ معه مِنَ المؤمنينَ عَنِ الأَسَى على قومِهِمُ الهالكينَ؛ إذْ يجوزُ أنْ يحصُلَ في نُفوسِهم حُزنٌ على هَلْكَى قومِهم، وإنْ كانوا قدِ اسْتحقُّوا الهلاكَ .

وقوله: عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيْثُ لم يَقُلْ: (عليهم)-؛ لِيَتَأَتَّى وَصْفُهم بالكُفرِ زِيادةً في تعزيةِ شعيبٍ عليه السَّلامُ نَفْسَه، وتَرْكِ الحُزنِ عليهم .

.===============

 

سُورةُ الأعرافِ

الآيات (94-100)

ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ

غريب الكلمات :

 

بِالْبَأْسَاءِ: البأساءُ اسمٌ للبُؤسِ، وهو المكروهُ والضَّرَرُ والشِّدَّةُ وسُوءُ الحالِ، وقيل: البأساءُ الفَقْرُ والفاقةُ، وهو مِن البُؤسِ، وأصل (بأس): الشِّدَّةُ وما ضاهاها. وقيل: البأساءُ ضرَّاءُ مَعها خوفٌ، وأصلُها مِن البأسِ، وهو الخَوفُ؛ يُقال: لا بَأسَ عليكَ، أي: لا خوفَ عليك

.

وَالضَّرَّاءِ: أي: المرَضِ والضُّرِّ، والضَّرَّاءُ كذلك: سوءُ الحالِ، والفَقْرُ والقَحْطُ، والضُّرُّ: خِلافُ النَّفْعِ .

عَفَوْا: أي: كَثُروا، وزَادوا، وأَصْلُ العَفْوِ: تَرْكُ الشَّيءِ .

مَسَّ: أي: أصابَ، والمسُّ يُقالُ في كلِّ ما يَنالُ الإنسانَ مِن أَذًى، وأَصْلُ (مسس): جَسُّ الشيءِ باليَدِ .

وَالسَّرَّاءُ: أي: السُّرورُ والفرَحُ ورخاءُ العَيْشِ، والسَّراءُ أيضًا لذَّةٌ في القلبِ عِند حُصولِ نفْعٍ أو توقُّعِه، أو عِند رؤيةِ أمْرٍ يُعجِبُ .

بَغْتَةً: أي: فجأةً، وكلُّ ما جاءَ فجأةً فقد بَغَتَ، يقال: قد بَغَتَه الأمرُ يَبْغَتُه بغْتًا وبَغتةً، إذَا أتاه فجأةً، والبغتُ: مفاجأةُ الشَّيءِ من حيثُ لا يُحتَسَب .

أَهْلَ الْقُرَى: أي: سُكَّانَها؛ وأهلُ الرَّجُلِ في الأَصلِ: مَنْ يَجمعُه وإيَّاهم مَسْكَنٌ واحدٌ، والقَرْيَةُ: اسْمٌ للمَوْضِعِ الَّذي يَجتمِعُ فيه النَّاسُ، ويُقالُ للمَدينَةِ: قَرْيَةٌ؛ لاجْتِماعِ النَّاسِ فيها، مِنْ: قَرَيْتُ الماءَ، إذا جَمَعْتَه .

بَأْسُنَا: أي: عذابُنا، وأَصْلُ (بأس): يدلُّ على الشِّدَّةِ وما شابهها .

بَيَاتًا: أي: ليلًا، أو وَقْتَ بَياتٍ، واشتِغالٍ بالنَّوْمِ، وأَصْلُ البَيْتِ: مَأْوى الإنسانِ باللَّيلِ؛ لأنَّه يُقالُ: باتَ، أي: أقامَ باللَّيلِ .

ضُحًى: الضُّحَى: أوَّلُ اليومِ، أو انبِساطُ الشَّمسِ وامتِدادُ النَّهارِ، وسُمِّيَ الوقْتُ به، وَأَصْلُهُ يدُلُّ على بُروزِ الشَّيءِ .

أَصَبْنَاهُمْ: أي: أَهْلَكْناهم وأخَذْناهم .

وَنَطْبَعُ: أي: ونَختِمُ، والطَّبْعُ: تصويرُ الشَّيءِ بصورةٍ ما، وهو مَثَلٌ على نِهايةٍ يَنتهي إليها الشَّيءُ، حتَّى يُخْتَمَ عِندَها

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه ما أرسَلَ في قريةٍ من نبيٍّ من أنبيائِهِ، فكذَّبَهُ المُرْسَلُ إليهم، إلَّا أخَذَهم بالفَقْرِ والأمراضِ؛ كي يتضرَّعوا إليه، ويَدْعوه أنْ يَكشِفَ عنهم، فلمَّا لم يُفِدْ ذلك معهم باستمرارِهم في الطُّغيانِ، بدَّلَ اللهُ حالَهم السَّيِّئَ إلى حالٍ حَسَنٍ، فعافى أبدانَهم، وأَجْرى عليهم الأرزاقَ، حتَّى كَثُروا وكَثُرَتْ أموالُهم وأولادُهم، وقالوا: قدْ أصابَ آباءَنا الضَّرَّاءُ والسَّرَّاءُ. فأخَذَهم اللهُ فجأَةً، وَهُمْ لا يَشعُرونَ.

ثمَّ يُبيِّنُ تعالى أنَّ أهْلَ القُرى لو آمَنوا واتَّقَوْا لَفَتَحَ عليهم بركاتٍ مِن السَّماءِ والأرضِ، ولكنَّهم لم يَفعَلوا ذلك، بل كذَّبوا، فعاقَبَهم تعالى بما كسَبوا مِن كُفْرٍ، واقتَرَفوا من موبِقاتٍ؛ أَبَعْدَ ذلك يَأْمَنُ أهلُ القُرى أنْ يَحِلَّ عليهم عذابُ اللهِ الشَّديدُ ليلًا، وهُمْ نائمون؟! أو هل يأمَنونَ أنْ يأتيَهم العذابُ أوَّلَ النَّهارِ، وهم يَلعبَونَ؟! أفأمِنوا مَكْرَ اللهِ؟! فلا يأمَنُ مَكْرَهُ تعالى إلا القومُ الخاسِرونَ.

أوَلم يتبيَّنْ للَّذينَ يُستخلَفونَ في الأرضِ من بعْدِ هلاكِ أَهْلِها أنَّ اللهَ يَقْدِرُ إذا شاءَ أنْ يُهلِكَهم بسَبَبِ ذُنوبِهم، ويَخْتِمَ على قلوبِهم؛ فهم لا يَسمَعونَ؟!

تفسير الآيات :

 

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)

مناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لمَّا عرَّفَنا اللهُ تعالى أحوالَ هؤلاءِ الأنبياءِ، وأحوالَ ما جَرى على أُمَمِهم، كان مِنَ الجائزِ أنْ يُظَنَّ أنَّه تعالى ما أنزَلَ عذابَ الاستِئصالِ إلَّا في زَمَنِ هؤلاءِ الأنبياءِ فقط، فبيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ هذا الجِنْسَ مِنَ الهلاكِ قد فَعَلَه بغَيْرِهم، وبيَّنَ العِلَّةَ الَّتي بها يَفعَلُ ذلك

، فقال تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ

أي: إذا أرسَلْنا إلى أهلِ مدينةٍ نبيًّا، يَدعوهم إلى توحيدِ اللهِ، فكذَّبوه؛ عاقَبْناهم بشِدَّةِ الفَقْرِ والأمراضِ .

لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ

أي: ابْتَلَيْناهم بالبأساءِ في أموالِهم، والضَّرَّاءِ في أَبْدانِهم؛ كيْ يَدْعوا ربَّهم أنْ يَكشِفَ ما حلَّ بهم مِنَ العذابِ، ويَخشَعوا له، ويُنِيبوا إليه بتَرْكِ الكفرِ به، وتَكذيبِ أنبيائِهِ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42-43] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76] .

ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)

ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا

أي: فلمَّا لم يُجْدِ معهم ذلك، واستمرَّ طُغيانُهم، حوَّلنا حالَهم مِنَ الشِّدَّةِ إلى الرَّخاءِ، فعافَيْنا أَبْدانَهم وأَجْرَيْنا عليهم الأرزاقَ، حتَّى كَثُروا، وكَثُرَتْ أموالُهم وأولادُهم .

كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35] .

وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ

أي: لم يتضرَّعْ أهْلُ تلك القُرى إلى اللهِ تعالى حِينَ الشِّدَّةِ، ولم يَشْكروا اللهَ حِينَ النِّعمةِ، وقالوا: هذه أحوالٌ اعتياديَّةٌ قد جَرَتْ على آبائِنا مِنْ قَبْلِنا؛ فنالَهم أحيانًا ما يَسوءُهم مِنَ الشَّدائدِ والأمراضِ، وأصابَهم في أحيانٍ أُخْرى ما يَسرُّهم مِنَ الرَّخاءِ والنِّعَمِ، فنحنُ مِثْلُهم، وليس لهذا الأمْرِ تعلُّقٌ بالموعظةِ والتَّذكيرِ والابتلاءِ، ونَحْوِ ذلك .

فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

أي: فأَخَذْنا أهلَ تلك القُرى بالهلاكِ فجأَةً، وهُمْ لا يَعلمونَ بمجيءِ العذابِ، ولم يَخْطُرْ ببالِهم .

كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] .

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ السَّابقةِ أنَّ الَّذينَ عَصَوْا وتَمَرَّدوا أخَذَهم اللهُ بَغْتَةً؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّهم لو أطاعوا لَفَتَحَ اللهُ عليهم أبوابَ الخيراتِ ، فقال:

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

أي: ولو حَصَلَ أنَّ أهلَ القُرى المُهلَكاتِ صَدَّقوا بما جاءَتْهم به الرُّسلُ مِنَ الوحيِ والدَّلالاتِ، واتَّقَوُا اللهَ بفِعْلِ الطَّاعاتِ، وتَرْكِ المُحرَّماتِ، لَفَتَحَ اللهُ عليهم مِنَ السَّماءِ والأرضِ البركاتِ؛ فأنزَلَ عليهم الأمطارَ، وأَنْبَتَ لهم الأرضُ أنواعَ الثِّمارِ والنَّباتاتِ .

كما قال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16] .

وقال سُبحانَه حاكيًا قَوْلَ نُوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقومِهِ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10- 12] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] .

وقال تَبارَكَ وتعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2-3] .

وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

أي: ولكنَّهم لم يُؤمِنوا ويتَّقوا، بل كذَّبوا رُسُلَهم وما جاؤوهم به مِنَ البراهينِ القاطِعاتِ؛ فعاقَبَهم اللهُ تعالى بأنواعِ العقوباتِ، ونَزْعِ البركاتِ؛ بسَبَبِ كُفْرِهم، واقترافِهم السَّيِّئاتِ .

كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم: 41] .

وقال سُبحانَه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] .

أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)

أي: أَبَعْدَ ذلك يَظُنُّ أهلُ القُرى الكافرةِ أنَّهم آمِنونَ مِن حُلولِ عذابِنا الشَّديدِ عليهم ليلًا وهم نِيامٌ ؟!

أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)

أي: أَوَيَظُنُّ أهلُ القُرى الكافرةِ أنَّهم في مَأْمَنٍ من أنْ يأتيَهم عذابُنا عليهم في أوَّلِ النَّهارِ وهم في لَهْوِهم وغَفْلتِهم ؟!

أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)

أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ

أي: فهل أَمِنَ أهلُ القُرى الكافرةِ أنْ يَستدرِجَهم اللهُ بنِعَمِه، كما استدرَجَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهم، ثمَّ يأخُذَهم بعذابِهِ بَغْتَةً في حالِ سَهْوِهم وغَفْلتِهم ؟!

كما قال سُبحانَه: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] .

فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ

أي: فَلا يأمَنُ أحدٌ مكْرَ اللهِ تعالى له باستِدراجِه بنِعَمِه، مع إقامتِه على الكُفْرِ، وإصرارِهِ على المعاصي، إلَّا القومُ الهالكونَ، الَّذينَ أضاعوا عقولَهم، وأَعْرَضوا عَنِ التَّفكُّرِ بها، ففَقَدوا ما ينفَعُهم، وجَلَبوا إلى أنفسِهم ما يَضُرُّها .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 182-183] .

وقال سُبحانَه: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178] .

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى فيما تقدَّمَ مِنَ الآياتِ حالَ الكفَّارِ الَّذينَ أَهْلَكَهم اللهُ بالاستِئْصالِ مُجمَلًا ومُفصَّلًا- أَتْبَعَهُ ببيانِ أنَّ الغَرَضَ من ذِكْرِ هذه القَصصِ هو حُصولُ العِبْرَةِ لجميعِ المُكلَّفينَ؛ في مصالحِ أَدْيانِهم وطاعاتِهم .

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ

أي: أَوَلَمْ يَتبيَّنْ ويَظهَرْ للَّذينَ يُستخلَفونَ في الأرضِ من بعْدِ هلاكِ أهلِها أنَّا نَقدِرُ- إذا شِئْنا- على إهلاكِهم؛ بسَبَبِ كُفرِهم ومعاصيهم، كما عاقَبْنا الَّذينَ من قبْلِهم ممَّنْ سار سيرَتَهم، وفعَلَ مِثْلَ صَنيعِهم ؟!

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [السجدة: 26] .

وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ [إبراهيم: 44-45] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام: 6] .

وقال تبارَكَ وتعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ [المرسلات: 16- 18] .

وقال جلَّ جلالُهُ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61] .

وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ

أي: ونحن نَختِمُ على قلوبِهم، فيُؤدِّي ذلك بهم إلى عَدَمِ قَبولِ الهُدى، وعدمِ الاستجابةِ للحَقِّ

 

.

كما قال سُبحانَه: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] .

وقال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة: 13] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .

وقال جلَّ جلالُهُ: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7] .

وقال تبارَكَ وتعالى: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف: 101] .

وقال سُبحانَه وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .

الفوائد التربوية :

 

1- قال اللهُ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ، ممَّا ثبَتَ بالتَّجارِبِ وتَقرَّرَ عِندَ علماءِ النَّفْسِ والأخلاقِ أنَّ الشَّدائِدَ ومَضايقَ الأُمورِ ممَّا يُربِّي النَّاسَ، ويُصْلِحُ من فسادِهم؛ فالمؤمنُ قد يَشْغَلُه الرَّخاءُ وهَناءُ العَيْشِ؛ فَيُنْسيهِ ضَعْفَه وحاجتَه إلى ربِّه، والشَّدائدُ تُذَكِّرُه به، والكافرُ بالنِّعَمِ قد يَعرِفُ قيمتَها بفَقْدِها، فينقَلِبُ شاكرًا بعْدَ عَوْدِها، بل الكافرُ باللهِ عزَّ وجلَّ قد تُنَبِّه الشَّدائدُ والأهوالُ مَرْكَزَ الشُّعورِ بوُجودِ الرَّبِّ الخالقِ المُدبِّرِ لأُمورِ الخَلْقِ في دِماغِهِ، وتُذكِّرُه بما أُودِعَ في فِطْرتِهِ من وُجودِ مَصْدَرٍ لنظامِ الكَوْنِ وأَقْدارِهِ، كما وقع كثيرًا، والآياتُ في هذا كثيرةٌ

.

2- المعاصي تَمْحَقُ بَركةَ الدِّينِ والدُّنيا، وما مُحِقَتِ البَركةُ مِنَ الأرضِ إلَّا بمعاصي الخَلْقِ، يُبيِّنُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ .

3- إذا آمَن النَّاسُ واتَّقَوْا وأطاعُوا اللهَ تعالَى، أَغْدَقَ عليهم رِزْقَه؛ قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ .

4- لا ينبغي للعَبْدِ أنْ يكونَ آمِنًا على ما عِندَه مِنَ الإيمانِ، بل لا يَزالُ خائفًا وَجِلًا أنْ يُبْتَلى ببَلِيَّةٍ تَسلُبُ ما عِندَه مِنَ الإيمانِ؛ قال تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ؛ فالمؤمنُ يعمَلُ بالطَّاعاتِ وهو مُشْفِقٌ وَجِلٌ خائفٌ، والفاجِرُ يعمَلُ بالمعاصي وهو آمِنٌ، كما قال بَعضُ السَّلَف ، فهذه الآيةُ الكريمةُ فيها من التخويفِ البليغ، على أنَّ العبدَ لا ينبغي له أن يكونَ آمِنًا على ما معه من الإيمانِ، بل لا يزالُ خائفًا وَجِلًا؛ أن يُبتلَى ببليَّةٍ تسلُبُ ما معه من الإيمانِ، وأنْ لا يزالُ داعيًا بِقَولِه: (يا مُقلِّبَ القلوبِ، ثَبِّتْ قلبي على دينِك) وأن يعمَلَ ويسعى في كلِّ سببٍ يخلِّصُه من الشَّرِّ، عند وقوعِ الفِتَن؛ فإنَّ العبدَ- ولو بلغَتْ به الحالُ ما بلغَتْ- فليس على يقينٍ من السَّلامةِ .

5- مَنْ أَوْضَحَ اللهُ له سُبُلَ الهُدى، وذَكَرَ له أمثالًا ممَّنْ أَهْلَكَهم تعالى بذُنوبِهم، وهو مع ذلك دائمٌ على غَيِّهِ لا يَرْعَوي، يَطْبَعِ اللهُ على قلبِهِ؛ فَيَنْبو سَمْعُه عن سَماعِ الحَقِّ؛ قال اللهُ تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ تَخصيصُ القُرى بإرسالِ الرُّسلِ فيها دونَ البَوادي- كما أشارَتْ إليه هذه الآيةُ وغيرُها من آيِ القرآنِ، وشَهِدَ به تاريخُ الأديانِ- يُنْبِئُ أنَّ مُرادَ اللهِ تعالى من إرسالِ الرُّسلِ هو بَثُّ الصَّلاحِ لأصحابِ الحضارةِ الَّتي يَتَطَرَّقُ إليها الخَلَلُ بسَبَبِ اجتماعِ الأصنافِ المختلِفةِ

.

قَوْلُ اللهِ تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ، في لَفْظِ مَكَانَ إشعارٌ بتَمَكُّنِ البأساءِ منهم، كأنَّه صارَ للشِّدَّةِ عِندهم مكانٌ .

قولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا، إنَّما جُعِلَ ذلك سَيِّئَةً؛ لأنَّه ممَّا يَسوءُ النَّاسَ، ولا تَسوءُهم الحَسَنَةُ، وهي الرَّخاءُ والنِّعمةُ، والسَّعةُ في المعيشةِ .

قولُ اللهِ تَعالى: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ، الحَسَنةُ اسْمٌ اعْتُبِرَ مؤنَّثًا؛ لتأويلِهِ بالحالةِ والحادثةِ، وكذلك السَّيِّئةُ، فَهُمَا في الأصْلِ صفتانِ لموصوفٍ محذوفٍ، ثمَّ كَثُرَ حَذْفُ الموصوفِ؛ لِقِلَّةِ جَدْوى ذِكْرِهِ، فصارَتِ الصِّفتانِ كالاسمَيْنِ؛ ولذلك عُبِّرَ عَنِ الحسنةِ في بعضِ الآياتِ بما يتلمَّحُ منه معنى وَصْفِيَّتِها .

قولُ اللهِ تعالى: وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ نَصٌّ في أنَّ كَذِبَهم وكُفْرَهم هو كَسْبُهم الَّذي حَرَمَهم البركاتِ، وعليه توعَّدَهم بالعقوباتِ؛ ففيه رَدٌّ على الجَبْريةِ .

قولُ الله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا، أهلُ القُرى يُرادُ به الجِنْسُ، أي: الأُمَمُ، ويحتمِلُ أنْ يكونَ المرادُ به مَنْ ذُكِرَ حالُهم فيما تقدَّمَ؛ وضعًا للمُظْهَرِ فيه مَوْضِعَ المُضْمَرِ؛ ليدُلَّ على أنَّ مضمونَها ليس خاصًّا بأقوامٍ بأعيانِهم، بل هو قواعدُ عامَّةٌ في أحوالِ الأُمَمِ، فَيُرادُ بالاسمِ المُظْهَرِ العُنوانُ العامُّ لها، لا آحادُ ما ذُكِرَ منها .

قولُ اللهِ تعالى: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ فيه تَقريعٌ لهم بنِسْبَتِهم إلى أنَّهم صِبيانُ العُقولِ، لا التِفاتَ لهم إلى غيرِ اللَّعِبِ .

قولُ اللهِ تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ فيه ذَكَرَ الله تعالى مكْرَه وَحْدَه، ولم يذْكُرْ مكْرَ عبْدِه، كما قال في موضعٍ آخرَ: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] ، فذَكَرَ مكرَهم ومكرَهُ، وهنا ذَكَرَ مكرَه وحدَه؛ فقال: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ، والمكرُ صفةٌ أطلَقَها اللهُ على نفسِهِ، ولا يجوزُ إطلاقُها على اللهِ إلَّا في الموضِعِ الَّذي يُطلِقُها هو على نفسِهِ أو رسولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد أَجْمَعَ جميعُ العلماءِ أنَّه لا يجوزُ أنْ يُشْتَقَّ له منها اسْمٌ، فلا تَقُلْ: من أسمائِهِ الماكِرُ؛ لأنَّ ذلك لا يَجوزُ إجماعًا .

قولُ اللهِ تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ اسْتُدِلَّ به على أنَّ الأمْنَ من مَكرِ اللهِ مِنَ الكبائرِ

 

.

بلاغة الآيات :

 

قولُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ، مِنْ صِلةٌ؛ للتَّنْصيصِ على العُمومِ المُستَفادِ من وُقوعِ النَّكِرَةِ في سِيَاقِ النَّفْيِ

.

قولُهُ: فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فيه تأكيدُ مَعنَى البَغتةِ بقولِه: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ؛ فهي حالٌ مُؤكِّدةٌ لمعنَى بَغْتَةً؛ إذ مدلولُ بَغْتَةً يَقتضِي عَدمَ الشُّعورِ بأخْذِه إيَّاهم حِينَ يَقَعُ .

قولُهُ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا، التَّعريفُ في القُرى تعريفُ العَهْدِ؛ فإضافةُ أَهْل إليه تُفيدُ عُمومَه بقَدْرِ ما أُضيفَ هو إليه ، وهو تعريضٌ بإنذارِ الَّذينَ كذَّبوا مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أهلِ مكَّةَ، وتعريضٌ ببِشارَةِ أهلِ القُرى الَّذينَ يُؤمنونَ، كأهلِ المدينةِ .

قولُهُ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ

في قوله: أَفَأَمِنَ وقوله: أَوَأَمِنَ دَخَلَتْ الهَمْزةُ على (أَمِنَ)؛ للاستفهامِ على جِهَةِ التَّعجُّبِ، ومَحَلُّ التَّعجُّبِ هو تَواطُؤُهم على هذا الغُرورِ، أي: يَتَرَتَّبُ على حِكايَةِ تَكْذيبِهم وَأَخْذِهم اسْتِفْهامُ التَّعجُّبِ مِنْ غُرورِهم، وأَمْنِهم غَضَبَ القَادِرِ العَليمِ .

وجِيءَ بقَوْلِه: يَأْتِيَهُمْ بصِيغَةِ المُضارِعِ؛ لأَنَّ المُرادَ حِكايَةُ أَمْنِهم الَّذي مَضَى مِنْ إِتْيانِ بَأْسِ اللهِ في مُسْتَقْبَلِ ذلك الوَقْتِ .

وتكرَّرَ لَفْظُ: أَهْلُ الْقُرَى ؛ لِمَا في ذلك مِنَ التَّسميعِ والإبلاغِ والتَّهديدِ والوَعيدِ بالسَّامِعِ ما لا يكون في الضَّميرِ لو جاء: (أَوَأمِنوا)؛ فإنَّه متى قُصِدَ التَّفخيمُ والتَّعظيمُ والتَّهويلُ جِيءَ بالاسمِ الظَّاهرِ ، وفيه إنكارٌ بَعْدَ إنكارٍ؛ للمبالَغَةِ في التَّوبيخِ الشَّديدِ .

قولُه: وَهُمْ نَائِمُونَ وقوله: وَهُمْ يَلْعَبُونَ جاءَ نَائِمُونَ باسْمِ الفاعِلِ؛ لأنَّها حالةُ ثُبوتٍ واستِقرارٍ للبائِتينَ، وجاءَ يَلْعَبُونَ بالمُضارِعِ؛ لأنَّهم مُشتغِلونَ بأفعالٍ مُتَجَدِّدَةٍ شيئًا فشيئًا في ذلك الوَقْتِ .

وفي قولِه: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ جاءَ تَقييدُ التَّعجُّبِ من أَمْنِهم مَجيءَ البأْسِ بوَقْتَيِ البَياتِ والضُّحَى مِن بَيْنِ سائرِ الأوقاتِ، وبِحَالَيِ النَّومِ واللَّعِبِ من بَيْنِ سائِرِ الأحوالِ؛ لأنَّ الوَقْتَيْنِ أَجْدَرُ بأنْ يُحْذَرَ حُلولُ العذابِ فيهما؛ لأنَّهما وقتانِ للدَّعَةِ، فالبَياتُ للنَّومِ بعْدَ الفراغِ مِنَ الشُّغْلِ، والضُّحى لِلَّعِبِ قبِلَ استقبالِ الشُّغْلِ، فكان شأْنُ أُولي النُّهى المُعرضينَ عن دعوةِ رُسُلِ اللهِ ألَّا يَأْمَنوا عذابَه، بخاصَّةٍ في هذَيْنِ الوقتَيْنِ والحالَيْنِ، وفي هذا التَّعجُّبِ تَعريضٌ بالمشركينَ المكذِّبينَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يَحِلَّ بهم ما حَلَّ بالأُمَمِ الماضيةِ؛ فكان ذِكْرُ وقتِ البَياتِ ووقتِ اللَّعِبِ أَشَدَّ مُناسَبَةً بالمعنى التَّعريضيِّ؛ تَهديدًا لهم بأنْ يُصيبَهم العذابُ بأَفْظَعِ أحوالِهِ؛ إذ يكون حُلولُهُ بهم في ساعةِ دَعَتِهم، وساعةِ لَهْوِهِمْ؛ نِكايةً بهم .

قولُه: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ، فيه تَكْرَار المكرِ مُضافًا إلى اللهِ؛ تحقيقًا لِوُقوعِ جزاءِ المَكْرِ بهم .

قولُه: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، الاستفهامُ في قولِهِ: أَوَلَمْ يَهْدِ مُستعمَلٌ في التَّعْجبِ .

وعبَّرَ عَنِ الإصابةِ بالماضي أَصَبْنَاهُمْ؛ إشارةً إلى سرعةِ الإهلاكِ، وعَنِ الطَّبْعِ بالمضارِعِ وَنَطْبَعُ؛ إيماءً إلى التَّجدُّدِ، بحيثُ لا يمُرُّ زَمَنٌ إلَّا كانوا فيه في طَبْعٍ جديدٍ ؛ فالتَّقديرُ: وطَبَعْنا على قلوبِهم، ولكنَّهُ صِيغَ بصِيغةِ المُضارِعِ؛ للدَّلالةِ على استِمرارِ هذا الطَّبْعِ، وازديادِه آنًا فَآنًا، وإمَّا أنْ تكونَ (الواو) للاستئنافِ، والجُملة مُستأنَفةً، أي: ونَحنُ نَطْبَعُ على قُلوبِهم في المستقبَلِ كما طَبَعْنا عليها في الماضِي==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...