الجمعة، 19 يناير 2024

17.سورة الاسراء {111 آية مكية}

 17.سورة الاسراء {111 آية مكية}

17.سورة الاسراء {111 آية مكية} 

 سورةُ الإسراءِ

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

تُسَمَّى هذه السُّورةُ سُورةَ (بني إسرائيلَ)

، ومما يدلُّ على ذلك:

1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَنامُ على فِراشِه، حتى يقرأَ كُلَّ لَيلةٍ بـ «بني إسرائيلَ» و«الزُّمَر» )) .

2- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: (سُورةُ «بني إسرائيلَ» و«الكَهفِ» و«مَريمَ» و«طه» و«الأنبياءِ»: هُنَّ مِن العِتاقِ الأُوَلِ ، وهُنَّ مِن تِلادي .

وتُسَمَّى أيضًا سورةَ (الإسراء) كما في كثيرٍ مِن المصاحِفِ

فضائل السورة وخصائصها:

 

1- كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقرؤُها كُلَّ لَيلةٍ:

فقد كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَنامُ على فِراشِه، حتى يقرأَها كُلَّ لَيلةٍ، كما في حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها المتقدِّمِ قريبًا.

2- أنَّها مِن السُّوَرِ العَتيقةِ، ومِن قَديمِ ما حُفِظَ عند الصَّحابةِ:

كما في أثر عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه المتقدم قريبًا.

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ الإسراءِ مَكِّيَّةٌ

، وحُكِي الإجماعُ على ذلك

 

.

مقاصد السورة :

 

1- تَرسيخُ أصولِ العَقيدةِ الإسلاميَّةِ، وتَنقيتُها مِن كُلِّ ما يَشوبُها

.

2- الحديثُ عن الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وبيانُ مَوقِف المُشرِكينَ منه .

3- بيانُ بعضِ التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ المتضَمِّنةِ لقواعِدِ السُّلوكِ الفَرديِّ والجَماعيِّ

 

.

موضوعات السورة:

 

مِن أهَمِّ مَوضوعاتِ هذه السُّورةِ:

1- ذِكرُ الإسراءِ، وبَيانُ حِكمَتِه، والإشارةُ إلى المِعراجِ.

2- ذكرُ الكتابِ الذي آتاه الله تعالى لموسَى عليه السلامُ؛ ليكونَ هدايةً لقومِه، وإخبارُ بني إسرائيلَ أنَّهم سيُفسدونَ في الأرضِ مَرَّتَينِ.

3- بيانُ فضلِ القُرآن، وأنه يهدي لِلَّتي هي أقومُ، ويبشِّرُ المؤمنينَ بالأجرِ الكبيرِ.

4- إثباتُ دلائِلِ تفَرُّدِ اللهِ بالإلهيَّةِ، والاستِدلالُ بآيةِ اللَّيلِ والنَّهارِ وما فيهما مِنَ المِنَن على إثباتِ الوَحدانيَّةِ، وأنَّ كُلَّ إنسانٍ يكونُ معه كِتابُه قد سُجِّلَت فيه حَسَناتُه وسَيِّئاتُه.

5- تقرير قاعِدة التَّبِعةِ الفَرديَّةِ في الهُدى والضَّلالِ، وقاعِدةِ التَّبِعةِ الجماعيَّةِ في التصَرُّفاتِ والسُّلوكِ.

6- بيانُ سُنَّةِ الله سبحانَه في القُرونِ الماضيةِ الذين أهلَكَهم، وأنَّ عاقبةَ الترفِ والفسقِ الدمارُ والهلاكُ.

7- بيانُ أنَّ سعادةَ الآخرةِ منوطةٌ بإرادتِها، وبأنْ يسعَى الإنسانُ لها وهو مؤمنٌ.

8- الأمرُ بعِبادةِ الله سُبحانَه، وذِكرُ مُقَوِّماتِ الحَياةِ الاجتِماعيَّةِ مِن الإحسانِ للوالِدَينِ، وذَوي القُربى، والتوسُّطِ في إنفاقِ المالِ، والنَّهيُ عن قَتلِ الأولادِ، والنَّهيُ عن قَتلِ النَّفسِ وعن الزِّنا، والنَّهيُ عن التصَرُّفِ في مالِ اليَتيمِ إلَّا بالتي هي أحسَنُ حتى يَبلُغَ أشُدَّه، والأمرُ بالوَفاءِ بالعَهدِ، والوَفاءِ بالكَيلِ والميزانِ، والنهيُ عن أن يَقفُوَ الإنسانُ ما لا عِلْمَ له به.

9- النهيُ عن اتخاذِ آلهةٍ معَ الله، وبيانُ الدليلِ على بطلانِ ادعائِهم أنَّ مع الله آلِهةً أخرى، والتنديدُ بعاداتِ أهلِ الجاهليَّةِ في كراهِيَتِهم للبَناتِ.

10- بيانُ تَصريفِ الله سُبحانَه في القُرآنِ؛ ليتَذَكَّرَ النَّاسُ، إلَّا أنَّه لم يزِدْهم إلَّا نفورًا.

11- ذِكرُ تَسبيحِ كُلِّ ما في الوجودِ لله سبحانَه.

12- ذكرُ جانبٍ مِن أقوالِ المشركينَ فيما يتعلَّق بالبعثِ، ودحضُها، وأمرُ المؤمنينَ بقولِ الكلمةِ التي هي أحسنُ.

13- ذكرُ قِصَّةِ الخَلقِ والتَّكوينِ، وتكريمِ آدَمَ بالأمرِ بالسُّجودِ له، ومَوقِفِ إبليسَ مِن ذلك، وإعلانِه مَوقِفَه مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وبيانُ أنَّ الشَّيطانَ ليس له سُلطانٌ على عِبادِ اللهِ المُؤمِنينَ.

14- بَيانُ أنواعٍ مِن نِعَمِ اللهِ في البَرِّ والبَحرِ، وأنه يَكشفُ الضُّر عَمَّن يَستَغيثونَ به، فإذا كشَفَ الضُّرَّ عنهم أعرَضوا.

15- ذكرُ تكريمِ الله لبني آدَمَ، وبعضِ مَشاهِدِ يَومِ القيامةِ.

16- بيانُ تثبيتِ الله لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمرُه بالمداومةِ على الصلاةِ، وعلى قراءةِ القرآنِ، وأن يَدعو اللهَ أن يُحسِنَ مُدْخَلَه ومُخْرَجَه، ويُعلِنَ مَجيءَ الحَقِّ وزُهوقَ الباطِلِ.

17- الثناءُ على القرآنِ وبيانُ إعجازِه، وذكرُ المطالبِ المتعنتةِ التي طالب بها المشركونَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ورَدُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على هذا بأنَّه خارِجٌ عن وظيفةِ الرَّسولِ وطَبيعةِ الرِّسالةِ.

18- حكايةُ جانبٍ مِن قصةِ موسَى -عليه السلامُ- معَ فرعونَ.

19- بيانُ أنَّ هذا القرآنَ أنزَله الله تعالى بالحقِّ، وبالحقِّ نزَل، وأنَّه فصَّله وبيَّنه وأحكَمه ليقرأَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الناسِ على تؤدةٍ وترتيلٍ، وأنَّه نزَّله مفرقًا، وأنَّ أهلَ الكِتابِ والعُلَماءَ الذين عَرَفوا الوَحيَ والنبُوَّةَ إذا يُتلَى القُرآنُ عليهم يَخِرُّونَ للأذقانِ سُجَّدًا خاشِعينَ لله.

20- خَتمُ السُّورةِ بالأمرِ بحمدِ الله الذي لم يتَّخذْ ولدًا، ولم يكنْ له شريكٌ في الملكِ، ولم يكنْ له وليٌّ مِن الذلِّ، والأمرِ بتكبيرِه.

===========

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (1-3)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

 

بَارَكْنَا حَوْلَهُ: أي: جَعَلْنا حولَه البركةَ، والبركةُ هي: ثبوتُ الخيرِ الإلهيِّ في الشيءِ، وأصلُ (برك): الزِّيادةُ والنماءُ، والكثرةُ والاتساعُ

.

وَكِيلًا: أي: مانعًا وحافظًا وكفيلًا، ووكيلُ الرجلِ في مالِه هو الذي كفَله له، وقام به، وأصلُ (وكل): يدلُّ على اعتمادِ غيرِك في أمرِك .

ذُرِّيَّةَ: الذُّرِّيَّةُ: الأولادُ، وأولادُ الأولادِ، فهي اسمٌ يَجمعُ نَسلَ الإنسانِ مِن ذَكَرٍ وأُنثَى. قيل: أصلُها مِن ذرَأ، أي: خلَق؛ لأنَّها خلقُ الله، وحُذِفت الهمزةُ منها. وقيل: أصلُها مِن الذَّرِّ، بمعنَى التَّفريقِ؛ لأنَّ اللَّه تعالى ذَرَّهم في الأرضِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ

قولُه: أَلَّا تَتَّخِذُوا: (أنْ) مصدريَّةٌ ناصِبةٌ، و(لا) نافيةٌ. والمصدرُ المؤوَّلُ مَنصوبٌ على نزعِ الخافِضِ، أي: لئلَّا تتَّخذوا، أو بألَّا تتَّخذوا. وقيل: (أنْ) مفسِّرةٌ لِما تضمَّنَه الكتابُ في قوله: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن الأمرِ والنَّهيِ، و(لا) ناهيةٌ جازمةٌ، وانصَرف الكلامُ من الغَيبةِ إلى الخِطابِ، وجملةُ (لا تتَّخِذوا) تفسيريةٌ لا محلَّ لها.

قَولُه: ذُرِّيَّةَ: منصوبةٌ على النِّداءِ، أي: يا ذريَّةَ مَن حمَلْنا. أو منصوبةٌ على الاختصاصِ. وقيل: منصوبةٌ على المفعولِ الأوَّلِ المؤخَّرِ لـ (تتَّخذوا)، والثاني هو (وَكِيلًا) فقُدِّمَ، والمعنى: لا تتَّخذوا ذريَّةَ مَن حمَلْنا مع نوحٍ مِن دوني وكيلًا. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

افتتح اللهُ تعالى السورة بتنزيهِ نَفسِه عن كُلِّ ما لا يليقُ به سُبحانَه؛ فقال: سبحانَ الذي سيَّر عَبدَه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جزءًا من اللَّيلِ، مِن المَسجِدِ الحرامِ بـ «مكَّةَ» إلى المسجدِ الأقصى بـ «بيتِ المَقدِس» الذي بارك اللهُ حَولَه بالزُّروعِ والثِّمارِ والأنهارِ وغَيرِ ذلك، وجعَلَه موضعًا لكثيرٍ مِن الأنبياءِ؛ ثمَّ بيَّن الحكمةَ مِن الإسراءِ به، وهي أنَّه أسرَى به لِيُشاهِدَ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن عَجائِبِ قُدرةِ اللهِ، إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى هو السَّميعُ البَصيرُ.

وبعدَ أن بيَّن الله سبحانَه جانبًا مِن مظاهرِ تكريمِه لنبيِّه محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أتبَع ذلك بالحديثِ عما أكرَم به نبيَّه موسَى عليه السلام، فأخبر أنه أعطى موسى عليه السَّلامُ التَّوراةَ، وجعَلَها هاديًا لبني إسرائيلَ؛ لئلا يتَّخِذوا غَيرَ اللهِ تعالى وليًّا أو مَعبودًا يفَوِّضونَ إليه أمورَهم، ثم قال تعالى: يا سُلالةَ الذين أنجيناهم وحَمَلْناهم مع نوحٍ في السَّفينةِ، لا تُشرِكوا باللهِ في عبادتِه، وكونوا كأبيكم نوحٍ، واشكُروني على نِعَمي.

تفسير الآيات:

 

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)  .

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا.

أي: تَنزيهًا لله

عن كُلِّ ما لا يَليقُ به، الذي سيَّرَ عَبدَه مُحَمَّدًا في جُزءٍ مِنَ اللَّيلِ .

عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُتيتُ بالبُراقِ -وهو دابَّةٌ أبيضُ طويلٌ، فَوقَ الحِمارِ ودونَ البَغلِ، يَضَعُ حافِرَه عند مُنتهى طَرْفِه - قال: فرَكِبْتُه حتى أتيتُ بيتَ المَقدِس، قال: فرَبَطْتُه بالحَلْقةِ التي يَربِطُ به الأنبياءُ، قال: ثمَّ دخلتُ المَسجِدَ، فصَلَّيتُ فيه ركعتَينِ، ثمَّ خَرَجتُ فجاءني جبريلُ عليه السَّلامُ بإناءٍ مِن خَمرٍ، وإناءٍ مِن لَبَنٍ، فاختَرْتُ اللَّبَنَ، فقال جبريلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اختَرْتَ الفِطرةَ. ثمَّ عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ، فاستفتَحَ جبريلُ، فقيل: من أنت؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا، فإذا أنا بآدَمَ، فرَحَّبَ بي، ودعا لي بخيرٍ، ثم عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ الثَّانيةِ، فاستفتَحَ جِبريلُ عليه السَّلامُ، فقيل: من أنت؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا، فإذا أنا بابنَيِ الخالةِ: عيسى ابنِ مَريمَ، ويحيى بنِ زكريَّاءَ، صَلَواتُ اللهِ عليهما، فرحَّبا، ودَعَوَا لي بخير، ثمَّ عَرَجَ بي إلى السَّماءِ الثَّالثةِ، فاستفتحَ جبريلُ، فقيل: مَن أنت؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا، فإذا أنا بيوسُفَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذا هو قد أُعطِيَ شَطْرَ الحُسنِ، فرَحَّبَ ودعا لي بخيرٍ، ثم عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ الرَّابعةِ، فاستفتَحَ جِبريلُ عليه السَّلامُ، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قال: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا فإذا أنا بإدريسَ، فرَحَّبَ ودعا لي بخيرٍ، قال الله عزَّ وجَلَّ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم: 57] ، ثم عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ الخامسةِ، فاستفتَحَ جِبريلُ، قيل: مَن هذا؟ فقال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا فإذا أنا بهارونَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَحَّب ودعا لي بخيرٍ، ثم عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ السَّادسةِ، فاستفتحَ جِبريلُ عليه السَّلامُ، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا، فإذا أنا بموسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرحَّبَ ودعا لي بخيرٍ، ثمَّ عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ السَّابعةِ، فاستفتَحَ جِبريلُ، فقيل: من هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا فإذا أنا بإبراهيمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُسنِدًا ظَهْرَه إلى البيتِ المَعمورِ، وإذا هو يَدخُلُه كُلَّ يَومٍ سَبعونَ ألفَ مَلَكٍ لا يَعودونَ إليه، ثمَّ ذهَبَ بي إلى السِّدرةِ المُنتهى، وإذا ورَقُها كآذانِ الفِيَلةِ، وإذا ثَمَرُها كالقِلالِ، قال: فلمَّا غَشِيَها مِن أمرِ اللهِ ما غشِيَ تغَيَّرَت، فما أحدٌ مِن خَلقِ الله يستطيعُ أن يَنعَتَها مِن حُسنِها! فأوحى اللهُ إليَّ ما أوحى، ففَرَض عليَّ خمسينَ صلاةً في كُلِّ يومٍ وليلةٍ، فنزَلْتُ إلى موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ما فَرَضَ ربُّك على أمَّتِك؟ قلتُ: خَمسينَ صَلاةً، قال: ارجِعْ إلى ربِّك فاسألْه التَّخفيفَ؛ فإنَّ أُمَّتَك لا يُطيقونَ ذلك، فإنِّي قد بلَوتُ بني إسرائيلَ وخَبَرْتُهم، قال: فرَجَعْتُ إلى ربِّي، فقلتُ: يا رَبِّ، خَفِّفْ على أمَّتي، فحَطَّ عني خَمسًا، فرجَعْتُ إلى موسى، فقُلتُ: حَطَّ عني خمسًا، قال: إنَّ أمَّتَك لا يُطيقونَ ذلك، فارجِعْ إلى رَبِّك فاسأَلْه التَّخفيفَ. قال: فلَمْ أزَلْ أرجِعُ بين ربِّي تبارك وتعالى، وبينَ موسى عليه السَّلامُ، حتى قال: يا مُحَمَّدُ، إنهنَّ خَمسُ صَلواتٍ كُلَّ يَومٍ وليلةٍ، لكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ، فذلك خمسونَ صَلاةً، ومَن همَّ بحَسَنةٍ فلم يعمَلْها كُتِبَت له حَسَنةً، فإنْ عَمِلَها كُتِبَت له عَشرًا، ومَن همَّ بسَيِّئةٍ فلم يَعمَلْها لم تُكتَبْ شَيئًا، فإنْ عَمِلَها كُتِبَت سَيِّئةً واحِدةً.قال: فنَزَلْتُ حتى انتهَيتُ إلى موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرْتُه، فقال: ارجِعْ إلى رَبِّك فاسألْه التَّخفيفَ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فقُلتُ: قد رَجعْتُ إلى ربِّي حتى استَحْيَيتُ منه )) .

مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ.

أي: مِن مَسجِدِ مكَّةَ -وهو البَيتُ العَتيقُ- إلى المسجِدِ الأقصى -وهو بيتُ المَقدِسِ- الذي بارَكْنا حَولَه بالأنهارِ والأشجارِ والثِّمارِ، وجعَلْناه مَوضِعًا لكثيرٍ مِن الأنبياءِ والأصْفياءِ .

كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف: 137] .

وقال سُبحانَه: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 71] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء: 81] .

وقال جلَّ جلالُه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً [سبأ: 18] .

وعن جابِرِ بنِ عبد اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَمَّا كَذَّبَني قُرَيشٌ قُمتُ في الحِجرِ، فجلَّى اللهُ لي بيتَ المقدِسِ، فطَفِقْتُ أُخبِرُهم عن آياتِه، وأنا أنظُرُ إليه )) .

لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا.

أي: أَسْرَينا بعَبْدِنا مُحَمَّدٍ مِن المَسجِدِ الحرامِ إلى المَسجِدِ الأقصى؛ كي نُرِيَه بعضًا مِن عجائِبِ قُدرتِنا الكُبرى، وأدِلَّتِنا العُظمَى .

كما قال تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم: 11 - 18] .

إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

أي: إنَّ اللهَ هو السَّميعُ لجَميعِ المَسموعاتِ، البَصيرُ بكُلِّ المَرئيَّاتِ، ومِن ذلك سَمْعُه لأقوالِ عبادِه؛ مُؤمِنِهم وكافِرِهم، مُصَدِّقِهم ومُكَذِّبِهم، وهو البَصيرُ بهم، فيُجازي كُلًّا بما يستَحِقُّه في الدُّنيا والآخرةِ .

وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِيوَكِيلًا (2).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى تشريفَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإسراءِ وإراءتِه الآياتِ؛ ذكَرَ تشريفَ موسَى بإيتائِه التَّوراةَ .

وأيضًا لَمَّا ثبت بهذه الخارقةِ ما أخبَرَ الله به عن نفسِه المقَدَّسة من عظيمِ القُدرةِ على كُلِّ ما يريدُ، وما حباه صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم به من الآياتِ البيِّناتِ في هذا الوقتِ اليسير؛ أتبَعَه ما مَنَحَ في المسيرِ مِن مصرَ إلى الأرضِ المقدَّسةِ مِن الآياتِ في مُددٍ طِوالٍ جدًّا موسى عليه السَّلامُ الذي كان أعظَمَ الأنبياءِ بركةً على هذه الأمَّةِ ليلةَ الإسراءِ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى أنَّه أسرى بعَبدِه مُحَمَّدٍ صلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه، عطَفَ بذِكرِ موسى عَبدِه وكَليمِه عليه السَّلامُ؛ فإنَّه تعالى كثيرًا ما يَقرِنُ بين ذِكرِ موسى ومُحَمَّدٍ عليهما السَّلامُ، وبين ذِكرِ التَّوراةِ والقُرآنِ .

وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ.

أي: وآتَينا موسى التَّوراةَ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 43] .

وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ.

أي: وجَعَلْنا كِتابَ موسى هاديًا لبني إسرائيلَ إلى الحَقِّ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [السجدة: 23] .

أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِيوَكِيلًا.

أي: ألَّا تتَّخِذوا -يا بني إسرائيلَ- مِن دوني مَعبودًا تعتَمِدونَ عليه، وتَكِلونَ أمورَكم إليه .

كما قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء: 81] .

وقال سُبحانه: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] .

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3).

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ.

أي: يا سُلالةَ مَن حملْنا مع نوحٍ في السَّفينةِ، فنجَّيناهم مِن الغَرَقِ .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات: 77] .

إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا.

أي: إنَّ نوحًا كان عبدًا للهِ شكورًا لنِعَمِه؛ فتشبَّهوا بأبيكم، واشكُروني على نِعَمي عليكم، ولا تُشرِكوا بي شيئًا

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذكَرَ اللهُ تعالى تشريفَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإسراءِ، ثمَّ ذكَرَ عَقيبَه تَشريفَ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بإنزالِ التَّوراةِ عليه، ثمَّ وصَفَ التوراةَ بكَونِها هُدًى، ثمَّ بَيَّنَ أنَّ التوراةَ إنَّما كان هُدًى لاشتمالِه على النَّهيِ عن اتِّخاذِ غَيرِ الله وكيلًا -على أحدِ أوجهِ التأويلِ في أَلَّا- وذلك هو التَّوحيدُ، فرجَعَ حاصِلُ الكلامِ بعد رعايةِ هذه المَراتِبِ إلى أنَّه لا مِعراجَ أعلى، ولا درَجَةَ أشْرَفُ، ولا مَنقَبةَ أعظَمُ مِن التَّوحيدِ، وألَّا يُعَوِّلَ المرءُ في أمرٍ مِن الأمورِ إلَّا على اللهِ، فإنْ نطَقَ نطَقَ بذِكرِ الله، وإن تفكَّرَ تفَكَّرَ في دلائِلِ تَنزيهِ اللهِ تعالى، وإن طلَبَ طلَبَ مِن اللهِ، فيكونُ كُلُّه لله وباللهِ

.

2- قَولُ الله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا فيه التَّنويهُ بالثَّناءِ على نوحٍ عليه السَّلامُ، بقيامِه بشُكرِ اللهِ، واتِّصافِه بذلك، والحَثُّ لذُرِّيَّتِه أن يَقتَدوا به في شُكرِه، ويُتابِعوه عليه، وأن يتذَكَّروا نِعمةَ اللهِ عليهم؛ إذ أبقاهم واستخلفَهم في الأرضِ، وأغرَقَ غَيرَهم ، ففي تَخصيصِ نوحٍ وخِطابِ العبادِ بأنَّهم ذُرِّيَّتُه إشارةٌ إلى الاقتداءِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّه أبوهم الثَّاني، فإنَّ اللهَ تعالى لم يجعَلْ للخَلْقِ بعد الغَرَقِ نَسلًا إلَّا مِن ذُرِّيَّتِه، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ

 

[الصافات: 77] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- تَنزيهُ اللهِ تعالى بقَولِه: (سُبْحَانَ الله)، يتضَمَّنُ مع نفيِ صِفاتِ النَّقصِ عنه إثباتَ ما يلزَمُ ذلك مِن عَظَمتِه، فكان التَّسبيحُ تعظيمًا له مع تَبرئَتِه تعالى مِن السُّوءِ؛ ولهذا جاء التَّسبيحُ عند العجائِبِ الدَّالَّةِ على عظَمَتِه؛ كقولِه تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] ، وأمثال ذلك

.

2- قَولُ الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ التَّعبيرُ بلَفظِ العَبدِ في هذا المقامِ العَظيمِ يدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّ مَقامَ العُبوديَّةِ هو أشرَفُ صِفاتِ المخلوقينَ وأعظَمُها وأجَلُّها؛ إذ لو كان هناك وَصفٌ أعظَمُ منه لعبَّرَ به في هذا المقامِ العظيمِ الذي اختَرَق العبدُ فيه السَّبعَ الطِّباقَ، ورأى مِن آياتِ رَبِّه الكُبرى ، لكنه قال: بِعَبْدِهِ ولم يقُلْ: برَسولِه، ولا نبيِّه؛ إشارةً إلى أنَّه قام هذا المقامَ الأعظَمَ بكَمالِ عُبوديَّتِه لرَبِّه، ولذا ذَكَر الله سُبحانَه نبيَّه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باسمِ عُبوديَّتِه في أشرَفِ مَقاماتِه؛ في مقامِ الإسراءِ كما هنا، وفي مَقامِ الدَّعوةِ، ومَقامِ التَّحدِّي، فقال في مقامِ الدَّعوةِ: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن: 19] ، وقال في مقامِ التَّحدِّي: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] .

3- قَولُ اللهِ تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا صَريحٌ في أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُسرِيَ بجَسَدِه يَقَظةً .

4- قَولُ الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ظاهِرُه أنَّ الإسراءَ كان في أوَّلِ اللَّيلِ، وأنَّه مِن نَفسِ المَسجِدِ الحرامِ، لكِنْ على روايةِ أنَّه أُسرِيَ به مِن بَيتِ أمِّ هانئٍ تكونُ الفَضيلةُ في المسجِدِ الحرامِ لِسائِرِ الحَرَمِ؛ فكُلُّه تُضاعَفُ فيه العبادةُ، كتَضاعُفِها في نَفسِ المَسجِدِ .

5- قال تعالى: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وأصلُ الحرامِ: الأمرُ الممنوعُ، فوصْفُ الشَّيءِ بالحرامِ يكونُ بمَعنى أنَّه ممنوعٌ استعمالُه استعمالًا يُناسِبُه، نحوُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] ، أي: أكْلُ الميتةِ، ويكونُ بمعنى الممنوعِ مِن أنْ يُعْمَلَ فيه عمَلٌ ما، ويُبيَّنُ بذكْرِ المُتعلِّقِ الَّذي يتعلَّقُ به، وقد لا يُذْكَرُ مُتعلِّقُه إذا دَلَّ عليه العُرْفُ، ومنه قولُهم: الشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة: 217] ، أي: الحرامِ فيه القتالُ في عُرْفِهم. وقد يُحْذَفُ المُتعلَّقُ لقصْدِ التَّكثيرِ، فهو من الحذْفِ للتَّعميمِ، فيرجِعُ إلى العُمومِ العُرفيِّ، ففي نحوِ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة: 2] يُرادُ الممنوعُ مِنْ عدوانِ المعتدينَ، وغزوِ الملوكِ والفاتحينَ، وعملِ الظُّلمِ والسُّوءِ فِيهِ .

6- دلَّ القُرآنُ العَظيمُ على بَرَكةِ الشَّامِ في خَمسِ آياتٍ: قَولُه تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف: 137] واللهُ تعالى إنَّما أورَثَ بني إسرائيلَ أرضَ الشَّامِ، وقولُه تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ، وقولُه تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء: 71] ، وقولُه تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء: 81] ، وقولُه تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً [سبأ: 18] الآية. فهذه خمسُ آياتٍ نُصوصٌ، والبَرَكةُ تتناوَلُ البَرَكةَ في الدِّينِ، والبَرَكةَ في الدُّنيا، وكِلاهما معلومٌ لا ريبَ فيه .

7- إنَّما أُسرِيَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ المَسجِدِ الحرامِ إلى المَسجِدِ الأقصى؛ ليُرِيَه اللهُ مِن آياتِه بالمِعراجِ؛ لهذا كان قَولُه تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا دَليلًا في المِعراجِ الذي كان بعدَ المَسْرَى إلى المسجِدِ الأقصى، فلم يكُنِ المقصودُ مُجَرَّدَ رؤيةِ الأقصى؛ فإنَّه قد رآه المُسلِمُ والكافِرُ، والبَرُّ والفاجِرُ، ولكِنَّه سُبحانَه أخبَرَ بذلك؛ ليكونَ هذا آيةً للرَّسولِ، فإنَّهم قد رأوا المسجِدَ الأقصى، فإذا أخبَرَهم أنَّه رآه ووصَفَه لهم -كما جاء في الحديثِ الصَّحيحِ - كان ذلك حُجَّةً له على أنَّه رآه، ولم يُمكِنْهم تكذيبُه في ذلك، بخلافِ ما لو أخبَرَ بالعُروجِ إلى السَّماءِ ابتداءً، فإنَّهم كانوا إذا كَذَّبوا بذلك لم يكُنْ هناك ما رأَوه حتى يَصِفَه لهم. وهو سُبحانَه قد أخبَرَ بعُروجِه إلى السَّماءِ في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم: 13- 18] وهو سُبحانَه ذكَر هذا بعدَ أن ذكَرَ رُؤيةَ جبريلَ النَّزلةَ الأخرى في الأرضِ؛ فإنَّه رآه على صُورتِه مَرَّتينِ، كما جاءت بذلك الأحاديثُ الصَّحيحةُ ، وقال في سورة (التكويرِ): إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، فهذا جبريلُ، ثمَّ قال: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ .

8- في قَولِه تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا دَلالةٌ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَرَ ربَّه ليلةَ أُسرِيَ به؛ إذ لو كان -سُبحانَه- قد أراه نفسَه بعَيْنِه، لكان ذِكْرُ ذلك أَولى .

9- قَولُ الله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ وَجهُ الاقتصارِ على وَصفِ المَسجدِ الأقصى في هذه الآيةِ بذِكرِ هذا التَّبريكِ: أنَّ شُهرةَ المَسجِدِ الحَرامِ بالبَرَكةِ، وبِكَونِه مَقامَ إبراهيمَ، مَعلومةٌ للعَرَبِ، وأمَّا المَسجِدُ الأقصى فقد تناسى النَّاسُ ذلك كُلَّه؛ فالعَرَبُ لا عِلمَ لهم به، والنَّصارى عَفَوا أثَرَه مِن كراهِيَتِهم لليَهودِ، واليهودُ قد ابتَعَدوا عنه وأَيِسوا مِن عَودِه إليهم، فاحْتِيجَ إلى الإعلامِ ببَرَكتِه .

10- قَولُ الله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ في هذا الوصْفِ الْأَقْصَى بصِيغَةِ التَّفضيلِ -باعتبارِ أصْلِ وضْعِها- مُعجزةٌ خفيَّةٌ من مُعجزاتِ القُرآنِ؛ إيماءً إلى أنَّه سيكونُ بين المَسجدَينِ: مَسجدٌ عظيمٌ، هو مسجِدُ طَيْبةَ، الَّذي هو قَصِيٌّ عن المسجِدِ الحرامِ، فيكونُ مسجِدُ بيتِ المقدسِ أقْصَى منه حينئذٍ؛ فتكونُ الآيةُ مُشيرةً إلى جميعِ المساجِدِ الثَّلاثةِ المُفضَّلةِ في الإسلامِ على جميعِ المساجِدِ الإسلاميَّةِ، والَّتي بيَّنَها قولُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لَا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجِدَ: المسجِدِ الحرامِ، ومسجدِ الرَّسُولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومسجِدِ الأقصَى )) .

11- فائدةُ ذِكْرِ مبدأِ الإسراءِ ونِهايتِه بقولِه: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أمرانِ؛ أحدُهما: التَّنصيصُ على قطْعِ المسافةِ العظيمةِ في جُزءِ ليلةٍ؛ لأنَّ كلًّا من الظَّرفِ -وهو لَيْلًا- ومن المَجْرورَينِ -مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى- قد تعلَّقَ بفعْلِ أَسْرَى، فهو تعلُّقٌ يَقْتضي المُقارنةَ؛ ليُعْلَمَ أنَّه من قَبِيلِ المُعجزاتِ. وثانيهما: الإيماءُ إلى أنَّ اللهَ تَعالى يجعَلُ هذا الإسراءَ رمْزًا إلى أنَّ الإسلامَ جمَعَ ما جاءت به شرائعُ التَّوحيدِ والحنيفيَّةِ من عهْدِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، الصَّادر من المسجِدِ الحرامِ إلى ما تفرَّعَ عنه من الشَّرائعِ الَّتي كان مَقرُّها بيتَ المقدسِ، ثمَّ إلى خاتمتِها الَّتي ظهَرَتْ من مكَّةَ أيضًا، فقد صدَرَتِ الحنيفيَّةُ من المسجِدِ الحرامِ، وتفرَّعَتْ في المسجِدِ الأقصى، ثمَّ عادت إلى المسجِدِ الحرامِ كما عاد الإسراءُ إلى مكَّةَ؛ لأنَّ كلَّ سُرًى يعقُبُه تَأويبٌ؛ وبذلك حصَلَ رَدُّ العجُزِ على الصَّدرِ. ومن هنا يظهَرُ مُناسبةُ نُزولِ التَّشريعِ الاجتماعيِّ في هذه السُّورةِ في الآياتِ المُفتتَحَةِ بقولِه تَعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23]، ففيها: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء: 33] ، وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 34] ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء: 35] ؛ إيماءً إلى أنَّ هذا الدِّينَ سيكونُ دِينًا يحكُمُ في النَّاسِ وتُنَفَّذُ أحكامُه .

12- قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ذكَرَ السَّميعَ هاهنا؛ لينَبِّهَ على أنَّه المجيبُ لدُعائِه، وذَكَر البصيرَ؛ لينَبِّهَ على أنَّه كان الحافِظَ له في ظُلمةِ اللَّيلِ .

13- قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ... كَثيرًا ما يَقرِنُ الباري بين نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونُبُوَّةِ مُوسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَينَ كِتابَيهما وشَريعَتَيهما؛ لأنَّ كِتابَيهما أفضَلُ الكُتُبِ، وشَريعَتَيهما أكمَلُ الشَّرائِعِ، ونُبُوَّتَيهما أعلى النُّبُواتِ، وأتباعَهما أكثَرُ المُؤمنِينَ .

14- قَولُ اللهِ تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ فيه أنَّ ذرِّيَّةَ نُوحٍ كانوا شِقَّينِ: شِقٌّ بارٌّ مُطيعٌ، وهم الذين حمَلَهم معه في السَّفينةِ؛ وشِقٌّ متكَبِّرٌ كافِرٌ، وهو ولَدُه الذي غَرِق، فكان نوحٌ عليه السَّلامُ مثلًا لأبي فريقَينِ، وكان بنو إسرائيلَ مِن ذريَّةِ الفَريقِ البارِّ، فإن اقتَدَوا به نجَوا، وإن حادوا فقد نزَعوا إلى الفريقِ الآخَرِ، فيُوشِكُ أن يَهلِكوا. وهذا التماثُلُ هو نُكتةُ اختيارِ ذِكرِ نُوحٍ مِن بينِ أجدادِهم الآخَرينَ، مِثل: إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ -عليهم السلامُ- لفواتِ هذا المعنى في أولئك .

15- لا خِلافَ بينَ أهلِ اللُّغَةِ أنَّ الذُّرِّيَّةَ تُقالُ على الأولادِ الصِّغارِ وعلى الكِبارِ أيضًا؛ قال الله تعالى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

- قولُه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا، في قولِه: سُبْحَانَ ما لا يَخْفَى من الدَّلالةِ على التَّنزيهِ البليغِ من حيثُ الاشتقاقُ من السَّبْحِ، الَّذي هو الذَّهابُ والإبعادُ في الأرضِ

.

- والافتتاحُ بكلمةِ التَّسبيحِ من دونِ سبْقِ كلامٍ مُتضمِّنٍ ما يجِبُ تَنزيهُ اللهِ عنه؛ يُؤذِنُ بأنَّ خبرًا عجيبًا يستقبِلُه السَّامعونَ، دالًّا على عظيمِ القُدرةِ من المُتكلِّمِ، ورَفيعِ مَنزلةِ المُتحدَّثِ عنه .

- والتَّعبيرُ عن الذَّاتِ العَلِيَّةِ بطريقِ الموصولِ الَّذِي أَسْرَى دونَ الاسمِ العَلَمِ (اللَّه)؛ للتَّنبيهِ على ما تُفيدُه صِلَةُ الموصولِ من الإيماءِ إلى وجْهِ هذا التَّعجُّبِ والتَّنويهِ وسبَبِه، ويُفيدُ أنَّ حديثَ الإسراءِ أمْرٌ فَشا بين القومِ؛ فقد آمَنَ به المُسلمونَ، وأكبَرَه المُشركونَ .

- وفي التَّعبيرِ بقولِه: أَسْرَى بِعَبْدِهِ دونَ: (بعَثَ بعبْدِه) و(أرسَلَ به) ما يُفيدُ مُصاحبتَه له في مَسْراهُ؛ فإنَّ الباءَ هنا للمُصاحَبةِ، كالباءِ في قولِه: هاجَرَ بأهْلِه، وسافَرَ بغُلامِه، وليست للتَّعديةِ؛ فإنَّ (أسْرى) يتعدَّى بنفْسِه يُقال: أسْرى به وأسراهُ، وهذا لأنَّ ذلك السُّرى كان أعظَمَ أسفارِه، والسَّفرُ يعتمِدُ الصَّاحِبَ؛ ولهذا كان المُسافِرُ يقولُ: ((اللَّهُمَّ أنت الصَّاحِبُ في السَّ فرِ)) . وفائدةُ الجمعِ بين الهمزةِ والباءِ: أنَّ الثُّلاثيَّ المُتعدِّيَ بالباءِ يُفْهَمُ منه شيئانِ؛ أحدُهما: صُدورُ الفعلِ من فاعِلِه. الثَّاني: مُصاحبتُه لِمَا دخَلَت عليه الباءُ؛ فإذا قلْتَ: سريتُ بزيدٍ وسافرْتُ به، كان قد وُجِدَ منك السُّرى والسَّفرُ مُصاحبًا لزيدٍ فيه، وأمَّا المُتعدِّي بالهمزةِ، فيَقْتضي إيقاعَ الفعلِ بالمفعولِ فقطْ؛ كقولِه تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النحل: 78] ، فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشعراء: 57] ونظائرِه، فإذا قُرِنَ هذا المُتعدِّي بالهمزةِ أفاد إيقاعَ الفعلِ على المفعولِ مع المُصاحبةِ المفهومةِ من الباءِ، ولو أتى فيه بالثُّلاثيِّ فُهِمَ منه معنى المُشاركةِ في مَصْدرِه وهو مُمْتنِعٌ .

- وذُكِرَ هنا الإسراءُ فقطْ، ولم يُذْكَرِ العُروجُ بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى السَّماءِ وما كان فيه، ممَّا لا يُكْتَنَهُ كُنْهُه حسبَما نطَقَتْ به سُورةُ (النَّجمِ)؛ تَقريبًا للإسراءِ إلى قَبولِ السَّامعينَ .

- قولُه: بِعَبْدِهِ هذه إضافةُ تَشريفٍ واختصاصٍ ، لا إضافةُ تعريفٍ؛ لأنَّ وَصفَ العُبوديَّةِ لله متحَقِّقٌ لسائِرِ المَخلوقاتِ، فلا تُفيدُ إضافتُه تَعريفًا ، وقال: بِعَبْدِهِ دونَ (نَبيِّه) أو (حبيبِه)؛ لئلَّا تضِلَّ به أُمَّتُه، كما ضَلَّت أُمَّةُ المسيحِ، حيث دعَتْه إلهًا، أو لأنَّ وصْفَه بالعُبوديَّةِ المُضافةِ إلى اللهِ تعالى أشرَفُ المقاماتِ .

- وفي قولِه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ذكَرَ اللَّيلَ مع أنَّ الإسراءَ لا يكونُ إلَّا باللَّيلِ؛ لأنَّه أراد بقولِه: لَيْلًا بلفظِ التَّنكيرِ تَقليلَ مُدَّةِ الإسراءِ وقِصَرِ زمَنِ الإسراءِ -مع أنَّ بين مكَّةَ وبيتِ المَقدسِ مَسيرةَ أربعينَ ليلةً-؛ وذلك أنَّ التَّنكيرَ فيه قد دَلَّ على معنى البعضيَّةِ؛ فذِكْرُ اللَّيلِ مع أنَّ السُّرى لا يكونُ إلَّا باللَّيلِ يحتمِلُ أمرينِ؛ أوَّلَهما: أنَّ الإسراءَ لمَّا دَلَّ على أمرينِ -أحدُهما: السَّيرُ، والآخَرُ: كونُه ليلًا-، أريدَ إفرادُ أحدِهما بالذِّكرِ؛ تَثبيتًا في نفْسِ المُخاطَبِ، وتَنبيهًا على أنَّه مقصودٌ بالذِّكرِ. وثانيهما: الإشارةُ بتَنكيرِ اللَّيلِ إلى تَقليلِ مُدَّتِه؛ لأنَّ التَّنكيرَ فيه قد دَلَّ على معنى البعضيَّةِ، وهذا بخلافِ ما لو قيلَ: (أسْرى بعبْدِه اللَّيلَ)؛ فإنَّ التَّركيبَ مع التَّعريفِ يُفيدُ استغراقَ السَّيرِ لجميعِ أجزاءِ اللَّيلِ ؛ فلمَّا كان الإسراءُ هو السَّيرَ في اللَّيلِ، وكان الشَّيءُ قد يُطْلَقُ على جُزءِ معناه بدلالةِ التَّضمُّنِ؛ نَفى هذا بقولِه: لَيْلًا، وليدُلَّ بتنوينِ التَّحقيرِ على أنَّ هذا الأمْرَ الجليلَ كان في جُزءٍ يَسيرٍ من اللَّيلِ، وعلى أنَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يحتَجْ في الإسراءِ والعُروجِ إلى سِدْرةِ المُنْتهى وسماعِ الكلامِ من العلِيِّ الأعلى إلى رياضةٍ؛ بصيامٍ ولا غيرِه، بلْ كان مُهيَّئًا لذلك مُتأهِّلًا له، فأقامه تعالى من الفرشِ إلى العرشِ . وقيل: إنَّه ذُكِرَ على سبيلِ التَّوكيدِ. وقيل: يعني في جوفِ اللَّيلِ؛ فلم يكُنْ إدْلاجًا ولا ادِّلاجًا . وقيل: تَنكيرُ لَيْلًا للتَّعظيمِ، بقرينةِ الاعتناءِ بذِكْرِه مع علْمِه من فِعْلِ أَسْرَى، وبقرينةِ عدَمِ تَعريفِه، أي: هو ليلٌ عظيمٌ باعتبارِ جعْلِه زمنًا لذلك السُّرى العظيمِ، فقام التَّنكيرُ هنا مقامَ ما يدُلُّ على التَّعظيمِ. ألَا تَرى كيف احتيجَ إلى الدِّلالةِ على التَّعظيمِ بصِيغَةٍ خاصَّةٍ في قولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر: 1، 2]، إذ وقَعَتْ ليلةُ القدْرِ غيرَ مُنكَّرةٍ ؟!

- قولُه: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، أي: الأبعدِ، والمُرادُ: بُعْدُه عن مكَّةَ، بقرينةِ جعْلِه نِهايةَ الإسراءِ من المسجِدِ الحرامِ، وهو وصْفٌ كاشفٌ اقتضاهُ هنا زِيادةُ التَّنبيهِ على مُعجزةِ هذا الإسراءِ، وكونه خارِقًا للعادةِ؛ لكونِه قطَعَ مسافةً طويلةً في بعضِ ليلةٍ .

- قولُه: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ صِفةٌ للمسجِدِ الأقصى، وجِيءَ في الصِّفةِ بالموصوليَّةِ؛ لقصْدِ تَشهيرِ الموصوفِ بمَضمونِ الصِّلةِ، حتَّى كأنَّ الموصوفَ مُشتهَرٌ بالصِّلةِ عند السَّامعينَ، والمقصودُ: إفادةُ أنَّه مُبارَكٌ حولَه .

- قولُه: بَارَكْنَا حَوْلَهُ صِيغَةُ المُفاعلةِ هنا بَارَكْنَا؛ للمُبالغةِ في تَكثيرِ الفعلِ، وكونُ البركةِ حولَه كِنايةٌ عن حُصولِ البركةِ فيه بالأَولى؛ لأنَّها إذا حصَلَت حولَه فقد تجاوَزَت ما فيه؛ ففيه لَطيفةُ التَّلازُمِ، ولَطيفةُ فَحْوى الخِطابِ ، ولَطيفةُ المُبالغةِ بالتَّكثيرِ. ولكلمةِ حَوْلَهُ في هذه الآيةِ من حُسْنِ الموقعِ ما ليس لكلمةِ (في)؛ لأنَّ (في) لا تُفيدُ انتشارَها وتجاوُزَها منه إلى ما حولَه .

- قولُه: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا تَعليلُ الإسراءِ بإرادةِ إراءةِ الآياتِ الرَّبَّانيَّةِ، تَعليلٌ ببعضِ الحِكَمِ الَّتي لأجْلِها منَحَ اللهُ نَبِيَّه مِنحةَ الإسراءِ، ولامُ التَّعليلِ في لِنُرِيَهُ لا تُفيدُ حصْرَ الغرضِ من مُتعلِّقِها في مَدخولِها، وإنَّما اقتُصِرَ في التَّعليلِ على إراءةِ الآياتِ؛ لأنَّ تلك العِلَّةَ أعلَقُ بتكريمِ المُسْرى به، والعنايةِ بشأنِه؛ لأنَّ إراءةَ الآياتِ تَزيدُ يقينَ الرَّائي بوُجودِها الحاصلِ من قبْلِ الرُّؤيةِ .

- والالتفاتُ من الغَيبةِ الَّتي في اسمِ الموصولِ وضميرَيْه في قولِه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ إلى التَّكلُّمِ في: بَارَكْنَا [الإسراء: 1] ، ولِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا؛ لتعظيمِ ما ذُكِر؛ لأنَّ فعلَ العظيمِ يكونُ عظيمًا، لا سيَّما إذا عبَّر عنه بصيغةِ التعظيمِ، والنكتةُ العامةُ تنشيطُ السامعينَ . وقيل غير ذلك .

- قولُه: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فيه الْتِفاتٌ إلى الغَيبةِ؛ لتربيةِ المَهابةِ ، وهو وعيدٌ من اللهِ للكُفَّارِ على تَكذيبِهم محمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أمْرِ الإسراءِ؛ فهي إشارةٌ لطيفةٌ بليغةٌ إلى ذلك، أي: هو السَّميعُ لِمَا تَقولون، البصيرُ بأفعالِكم .

- ومَوقعُ (إنَّ) في قولِه: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ التَّوكيدُ والتَّعليلُ، كما يُؤْذِنُ به فصْلُ الجُملةِ عمَّا قبلَها-أي: عدَمُ عطْفِها عليها-، وهذه الجُملةُ مُشتمِلةٌ على صِيغَةِ قَصْرٍ بتعريفِ المُسنَدِ باللَّامِ السَّمِيعُ، وبضَميرِ الفصْلِ هُوَ قصْرًا مُؤكدًا، وهو قصْرُ موصوفٍ على صِفَةٍ قصرًا إضافيًّا للقلْبِ .

2- قَولُه تعالى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا

- قولُه: وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فيه الإخبارُ عن التَّوراةِ بأنَّه هُدًى مُبالغةً؛ لأنَّ الهُدى بسبَبِ العملِ بما فيه، فجُعِلَ كأنَّه نفْسُ الهدى، كقولِه تعالى في القُرآنِ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] .

- وخصَّ بني إسرائيلَ؛ لأنَّهم المخاطبونَ بشريعةِ التوراةِ دونَ غيرِهم .

3- قَولُه تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا

- قولُه: ذُرِّيَّةَ انتصَبَ على الاختصاصِ-على أحدِ الأقوالِ-؛ لزيادةِ بَيانِ بني إسرائيلَ بيانًا مقصودًا به التَّعريضُ بهم؛ إذ لم يَشْكروا النِّعمةَ. وفي اختيارِ وصْفِهم بأنَّهم ذُرِّيَّةُ مَن حُمِلَ مع نوحٍ عليه السَّلامُ معانٍ عظيمةٌ من التَّذكيرِ والتَّحريضِ والتَّعريضِ؛ لأنَّ بني إسرائيلَ من ذُرِّيَّةِ سامِ بنِ نوحٍ، وكان سامٌ ممَّن ركِبَ السَّفينةَ، وإنَّما لم يقُلْ: (ذُرِّيَّةَ نوحٍ) مع أنَّهم كذلك؛ قصدًا لإدماجِ التَّذكيرِ بنِعمةِ إنجاءِ أُصولِهم من الغرَقِ .

- في قولِه: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا أُكِّدَ كونُ نوحٍ كان عبدًا شكورًا بحرفِ (إنَّ) تَنزيلًا لهم منزلةَ مَن يجهَلُ ذلك؛ إمَّا لتوثيقِ حمْلِهم على الاقتداءِ به إنْ كانتِ الجُملةُ خِطابًا لبني إسرائيلَ مِن تمامِ الجُملةِ التَّفسيريَّةِ، وإمَّا لتَنزيلِهم منزلةَ مَن جهِلَ ذلك حتَّى تورَّطوا في الفسادِ، فاسْتَأْهلوا الاستئصالَ، وذَهابَ مُلكِهم؛ لينتقِلَ منه إلى التَّعريضِ بالمُشركينَ من العربِ بأنَّهم غيرُ مُقتدينَ بنوحٍ؛ لأنَّ مثَلَهم ومثَلَ بني إسرائيلَ في هذا السِّياقِ واحدٌ في جميعِ أحوالِهم، فيكونُ التَّأكيدُ منظورًا فيه إلى المعنى التَّعريضيِّ .

- وجُملةُ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا مُفيدةٌ تَعليلَ النَّهيِ عن أنْ يتَّخِذوا من دونِ اللهِ وكيلًا؛ لأنَّ أجدادَهم حُمِلُوا مع نوحٍ بنعمةٍ من اللهِ عليهم لنجاتِهم من الغرَقِ، وكان نوحٌ عبدًا شكورًا، والَّذين حُمِلُوا معه كانوا شاكرينَ مثْلَه، أي: فاقْتَدوا بهم ولا تَكْفروا نِعَمَ اللهِ .

=====================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (4-8)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ

غريب الكلمات :

 

وَقَضَيْنَا: أي: أخبَرْنا وأعلَمْنا، فهذا قضاءٌ بالإعلامِ والفصلِ في الحكمِ، والقضاءُ: فَصْلُ الأمْرِ؛ قولًا كان ذلِك أو فِعلًا، وأصلُ (قضي): يَدُلُّ على إحكامِ أمرٍ وإتقانِه، وإنفاذِه لجِهتِه

.

فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ: أي: طافُوا بينَ الدِّيارِ يَطلُبونَكم ويَقتُلونَكم ذاهِبينَ وجائِينَ، ومنه: الجَوسُ: وهو التَّردُّد خِلالَ الدُّورِ والبُيوتِ بالفَسادِ في الغارةِ ونحوِها، وأصلُ (جوس): يَدُلُّ على تَخَلُّلِ الشَّيءِ، وأصلُ الخلالِ: مِن الخَلَلِ: وهو الفُرجةُ بينَ الشيئينِ .

الْكَرَّةَ: الرَّجْعةَ والدَّوْلةَ، وأصلُ (كرر): يدُلُّ على العَطفِ والرُّجوعِ .

نَفِيرًا: أي: عَددًا، وأصلُه مَن يَنفِرُ مع الرَّجُلِ مِنْ عَشيرتِه وأهلِ بَيتِه، وأصلُ (نفر): يدُلُّ على الانزِعاجِ والفَزَعِ إلى الشَّيءِ .

لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ: أي: ليَجعَلوا آثارَ المَساءةِ مِن غَمٍّ وحُزنٍ باديةً على وجوهِكم، يقال: ساءه يَسوؤُه، أي: غَمَّه وأحزَنَه .

وَلِيُتَبِّرُوا: أي: لِيُدَمِّروا ويُخَرِّبوا، وأصلُ (تبر): يدُلُّ على هَلاكٍ .

مَا عَلَوْا: أي: ما غَلَبوا عليه مِن الأقطارِ، ومَلَكوه مِن البِلادِ، وأصلُ العُلُوِّ هنا: يدُلُّ على الاستِيلاءِ والغَلَبِ .

حَصِيرًا: أي: محبِسًا وسِجنًا ، مِن حَصَرْتُه، أي: حبسْتُه. أو: بساطًا ومهادًا، مِن الحصيرِ، أي: البِساطِ الصَّغيرِ، وأصلُ (حصر): يدلُّ على حَبسٍ ومَنعٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: وأعْلَمْنا بني إسرائيلَ في التَّوراةِ أنَّهم سيُفسِدون مَرَّتينِ في الأرضِ وسيستكبرونَ بغيرِ حقٍّ استكبارًا شديدًا. فإذا حان وَقتُ عُقوبتِكم على إفسادِكم الأوَّلِ سَلَّطْنا عليكم عِبادًا لنا ذَوي شَجاعةٍ وقُوَّةٍ شَديدةٍ، فطافوا بينَ دِيارِكم يقتُلونَكم ويُشَرِّدونَكم، وكان ذلك وَعدًا لا بدَّ مِن وُقوعِه، ثمَّ رَدَدْنا لكم -يا بني إسرائيلَ- الغَلَبةَ والظُّهورَ على أعدائِكم الذينَ سُلِّطوا عليكم، وأعطيناكم الأموالَ والأولادَ بكثرةٍ، وقَوَّيناكم وجَعَلْناكم أكثَرَ جُندًا مِن عَدوِّكم. ثم قال تعالى: إنْ أحسَنْتُم -يا بني إسرائيلَ- فقد أحسَنتُم لأنفُسِكم؛ لأنَّ ثَوابَ ذلك عائِدٌ إليكم، وإن أسأْتُم فضرَرُ ذلك عائِدٌ عليكم.

فإذا حان مَوعِدُ العُقوبةِ على إفسادِكم الثَّاني، سَلَّطْنا عليكم أعداءَكم مَرَّةً أخرى؛ لِيُذِلُّوكم ويَقهَروكم، فتبدوَ آثارُ الكآبةِ والإهانةِ والمَذلَّةِ على وُجوهِكم، ولِيَدخُلوا مسجِدَ بيتِ المَقدِسِ، كما دخَلوه أوَّلَ مَرَّةٍ، ولِيُدَمِّروا كُلَّ ما ظهَروا عليه تَدميرًا كامِلًا.

ثم قال تعالى: عسَى رَبُّكم -يا بني إسرائيلَ- أن يَرحَمَكم بعدَ انتِقامِه إنْ تُبتُم وأصلَحْتُم، وإن عُدتُم إلى الإفسادِ والظُّلمِ عُدْنا إلى عِقابِكم ومَذَلَّتِكم. وجعَلْنا جَهنَّمَ للكافرينَ سِجنًا لا يخرجون منها أبدًا.

تفسير الآيات:

 

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

هذه الآيةُ عَطفٌ على جُملةِ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ، أي: آتَينا موسى الكِتابَ هُدًى، وبيَّنَّا لبني إسرائيلَ في الكتابِ ما يحُلُّ بهم مِن جَرَّاءِ مُخالفةِ هَديِ التَّوراةِ؛ إعلامًا لهذه الأمَّةِ بأنَّ اللهَ لم يدَّخِرْ أولئك إرشادًا ونُصحًا؛ فالمناسَبةُ ظاهِرةٌ

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى إنعامَه على بني إسرائيلَ بإنزالِ التَّوراةِ عليهم، وبأنَّه جعَلَ التَّوراةَ هُدًى لهم؛ بيَّن أنَّهم ما اهتَدَوا بهُداه، بل وقَعُوا في الفَسادِ؛ فقال تعالى :

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ.

أي: وأعلَمْنا بني إسرائيلَ في التَّوراةِ -بما سبَقَ في عِلْمِنا- أنَّهم سيُفسِدونَ في الأرضِ مَرَّتَينِ؛ بالكُفرِ والمعاصي، ومُخالَفةِ أحكامِ التَّوراةِ .

وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا .

أي: وأعلمناهم أيضًا أنَّهم سَيَستَكبِرونَ على اللهِ بمُخالفةِ أمرِه، والتَّجَبُّرِ على عبادِه، استكبارًا وطُغيانًا شَديدًا .

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5).

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ.

أي: فإذا حان وَقتُ عُقوبتِكم -يا بَني إسرائيلَ- على أُولى المَرَّتَينِ اللَّتَينِ تُفسِدونَ فيهما في الأرضِ؛ سَلَّطنا عليكم جُنْدًا مِن خَلْقِنا، أصحابَ بَطشٍ وقُوَّةٍ شَديدةٍ .

فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ.

أي: فطاف الجُنودُ الذين سَلَّطَهم اللهُ على بني إسرائيلَ بينَ دُورِهم يتَرَدَّدونَ بينها جَيْئةً وذَهابًا لِقَتلِهم .

وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا.

أي: وكان تَسليطُ اللهِ أولئك الجُنودَ على بني إسرائيلَ قَضاءً كائِنًا لا بُدَّ مِن وُقوعِه .

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ سُبحانَه أنَّه قادِرٌ على إذلالِ العَزيزِ بعد ضَخامةِ عِزِّه؛ بيَّنَ أنَّه مُقتَدِرٌ على إدالتِه على مَن قَهَرَه بعدَ طولِ ذُلِّه إذا نَقَّاه مِن دَرَنِه، وهَذَّبَه مِن ذُنوبِه، فقال الله تعالى :

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ.

أي: ثمَّ أرْجَعْنا لكم -يا بني إسرائيلَ- الغَلَبةَ والنَّصرَ على أعدائِكم الذينَ غَلَبوكم وقَهَروكم، لَمَّا تُبتُم مِن الفسَادِ والطُّغيانِ والاستِكْبارِ، وأطعتُم .

وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ.

أي: وأعْطَيناكم -يا بني إسرائيلَ- الأموالَ والبَنينَ بزِيادةٍ وكَثرةٍ .

وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا.

أي: وصيَّرناكم أكثَرَ جُندًا مِن عَدُوِّكم .

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى حكَى عن بني إسرائيلَ أنَّهم لَمَّا عَصَوا سَلَّطَ عليهم أقوامًا قَصَدوهم بالقَتلِ والنَّهبِ والسَّبْيِ، ولَمَّا تابوا أزال عنهم تلك الِمحنةَ، وأعاد عليهم الدَّولةَ، فعند ذلك ظهَرَ أنَّهم إن أطاعوا فقد أحسَنوا إلى أنفُسِهم، وإن أصَرُّوا على المعصيةِ فقد أساؤوا إلى أنفُسِهم .

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ.

أي: إنْ أطَعْتُم اللهَ -يا بني إسرائيلَ- فإحسانُكم هذا عائِدٌ إليكم، وبه تَنفَعونَ أنفُسَكم، فيَزيدُكم اللهُ مِن الرِّزقِ والقُوَّةِ، ويُدافِعُ عنكم، ويُدخِلُكم الجَنَّةَ .

كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 65- 66].

وقال سُبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3] .

وقال سُبحانَه: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12] .

وقال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16] .

وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.

أي: وإنْ عَصَيتُم اللهَ فعلى أنفُسِكم ضَرَرُ إساءتِكم، فيُسَلِّطُ اللهُ عليكم في الدُّنيا أعداءَكم، ويُعَذِّبُكم في الآخرةِ .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [يونس: 23] .

وقال سُبحانَه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124] .

وقال عزَّ وجلَّ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] .

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ.

أي: فإذا حانَ وَقتُ عُقوبتِكم -يا بني إسرائيلَ- جرَّاءَ إفسادِكم في المَرَّةِ الثَّانيةِ، سَلَّطْنا عليكم عبادًا لنا؛ ليَجعَلُوا آثارَ الحُزنِ والكآبةِ بادِيةً في وُجوهِكم، وذلك بقَتلِكم وسَبْيِكم وقَهْرِكم وإذلالِكم .

وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

أي: وَلِيَدخُلوا مَسجِدَ بَيتِ المَقدِسِ فيُخَرِّبوه قَهرًا وغَلَبةً وإذلالًا لكم، كما دخَلوه في المَرَّةِ الأولى حينَ عاقَبْناكم على إفسادِكم الأوَّلِ، فدَخَلوا المسجِدَ بالغَلَبةِ وخرَّبوه، وجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ يَقتُلونَكم .

وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا.

أي: ولِيُدَمِّرُوا كُلَّ ما غَلَبوا وظَهَروا عليه مِن بِلادِكم تَدميرًا، فيُخَرِّبوا بَيتَ المَقدِسِ وبُيوتَكم ومَزارِعَكم .

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)  .

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ.

أي: لعلَّ اللهَ -يا بني إسرائيلَ- يَرحَمُكم بعدَ انتقامِه منكم، فيُنقِذُكم، ويُعِزُّكم بعدَ ذُلِّكم، ويَجعَلُ لكم قُوَّةً، ويردُّ الدولةَ إليكم .

وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا.

أي: وإن رجَعْتُم إلى الإفسادِ في الأرضِ بمَعصيتي بعد رَحمتي لكم، رجَعْتُ إلى انتِقامي منكم، فسلَّطتُ عليكم مرَّةً أخرَى مَن يقتُلُكم ويُذِلُّكم

كما قال سُبحانَه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف: 167].

وقال عزَّ وجلَّ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب: 26-27] .

وقال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِي الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم قال: ((تُقاتِلُكم اليَهودُ، فتُسَلَّطونَ عليهم، حتى يقولَ الحَجَرُ: يا مُسلِمُ، هذا يَهوديٌّ ورائي فاقتُلْه )) .

وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا.

أي: وجَعَلْنا جَهنَّمَ للكافرينَ سِجنًا ومحبِسًا، لا يَستَطيعونَ الخُروجَ منها أبدًا

 

.

كما قال تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان: 13] .

وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الأحزاب: 64- 65] .

الفوائد التربوية:

 

قَولُ الله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا فيه التَّحذيرُ لهذه الأمَّةِ مِن العَمَلِ بالمعاصي؛ لِئَلَّا يُصيبَهم ما أصابَ بني إسرائيلَ؛ فسُنَّةُ اللهِ واحِدةٌ لا تُبَدَّلُ ولا تُغَيَّرُ، ومَن نظَرَ إلى تَسليطِ الكَفَرةِ والظَّلَمةِ على المُسلِمينَ، عَرَف أنَّ ذلك مِن أجْلِ ذُنوبِهم عُقوبةً لهم، وأنَّهم إذا أقاموا كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ رَسولِه، مكَّنَ لهم في الأرضِ ونصَرَهم على أعدائِهم

، فلَمَّا كان أهلُ المَشرِقِ قائِمينَ بالإسلامِ، كانوا مَنصورينَ على الكُفَّارِ المُشرِكينَ مِن التُّركِ والِهندِ والصِّينِ وغَيرِهم، فلمَّا ظهَرَ منهم ما ظهَرَ مِن البِدَعِ والإلحادِ والفُجورِ، سَلَّط عليهم الكُفَّارَ، فهذا هولاكو مَلِكُ التُّركِ التَّتار الذي قهَرَ الخَليفةَ بالعِراقِ، وقَتَل ببغدادَ مَقتلةً عَظيمةً جِدًّا، يقال: قتَلَ منهم ألفَ ألفٍ، وكذلك قتَلَ بحَلَب دارِ المُلْك حينئذٍ، كان بعضُ المشايخِ يَقولُ فيه: هو للمُسلِمينَ بمَنزلةِ بُختنَصَّر لبني إسرائيلَ، وكان مِن أسبابِ دُخولِ هؤلاء دِيارَ المُسلِمينَ ظُهورُ الإلحادِ والنِّفاقِ والبِدَعِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- البَعثُ في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ هو بعثٌ كَونيٌّ، ويُقابِلُه البَعثُ الدِّينيُّ، كما في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

[الجمعة: 2] .

2- كُلُّ ما تَراه في الوُجودِ مِن شَرٍّ وألَمٍ، وعُقوبةٍ وجَدْبٍ، ونَقصٍ في نَفسِك وفي غَيرِك؛ فهو مِن قِيامِ الرَّبِّ تبارَكَ تعالى بالقِسطِ، وهو عَدْلُ اللهِ وقِسطُه، وإنْ أجراه على يَدِ ظالِمٍ؛ فالمُسَلِّطُ له أعدَلُ العادلينَ، كما قال تعالى لِمَن أفسَدَ في الأرضِ: بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ .

3- في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا دَلالةٌ على أنَّ قُبورَ الصَّالحينَ أو الأنبياءِ التي في المَدائِنِ والقُرى، لا تَدفعُ البلاءَ عن أهْلِها؛ لأنَّه مِن المَعلومِ أنَّ في بيتِ المَقدِسِ وما حولَه مِن قُبورِ الأنبياءِ ما هو أكثرُ مِن غَيرِه مِن هذه القُبورِ، ومع ذلك لَمَّا غَلَوا وأفسَدوا عاقبَهم اللهُ بذُنوبِهم، وسَلَّطَ عليهم العَدُوَّ الذي جَاسَ خِلالَ الدِّيارِ، ودخلَ المَسجِدَ وقَتلَ فيهم مَن لا يُحصي عَدَدَه إلَّا اللهُ، فلم يَمنَعْهم أحدٌ مِن قُبورِ الأنبياءِ التي كانت هناك! فاللهُ تعالى هو الذي يَرزُقُهم ويَنصُرُهم، لا رازِقَ غيرُه ولا ناصِرَ إلَّا هو .

4- قَولُ اللهِ تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ رَحمةَ الله تعالى غالبةٌ على غَضَبِه، بدليلِ أنَّه لَمَّا حكى عنهم الإحسانَ أعاده مرَّتينِ، فقال: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، ولَمَّا حكى عنهم الإساءةَ اقتصَرَ على ذِكرِها مرَّةً واحِدةً، فقال: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا، ولولا أنَّ جانِبَ الرَّحمةِ غالِبٌ لَما كان كذلك

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا

- قولُه: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ يجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ بـ (الكِتاب) كِتابَ التَّوراةِ، والتَّعريفُ للعهدِ الذِّكري، حيثُ ذُكِرَ قَبْلَه في قولِه: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فيكونُ فيه عُدولٌ عن الإضمارِ إلى إظهارِ لفظِ (الكتابِ) لمُجرَّدِ الاهتمامِ. ويجوزُ أنْ يكونَ (الكتابُ) بعضَ كُتبِهم الدِّينيَّةِ؛ فيكونُ تَعريفُ (الكتابِ) تَعريفَ الجِنسِ، وليس تَعريفَ العهدِ الذِّكريِّ؛ إذ ليس هو الكتابَ المذكورَ آنفًا في قولِه: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ؛ لأنَّه لمَّا أظهَرَ اسمَ الكتابِ أشعَرَ بأنَّه كتابٌ آخَرُ من كُتبِهم

.

- وجُملةُ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ إلى قولِه: حَصِيرًا مُبيِّنةٌ لجُملةِ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ .

- وقولُه: لَتُفْسِدُنَّ جوابُ قسَمٍ محذوفٍ، إن كان قَضَيْنَا بمعنَى (أعْلَمْنا). ويجوزُ أنْ يُجْرى القضاءُ المحتومُ مَجْرى القسَمِ، فيكونُ لَتُفْسِدُنَّ جوابًا له، كأنَّه قال: وأقْسَمنا لتُفسِدُنَّ، وذلك إذا كان قَضَيْنَا مِن القضاءِ والقدرِ .

- وإسنادُ الإفسادِ إلى ضَميرِ بني إسرائيلَ مُفيدٌ أنَّه إفسادٌ من جُمهورِهم، بحيث تُعَدُّ الأُمَّةُ كلُّها مُفسدةً وإنْ كانت لا تَخْلو من صالحِينَ .

2- قَولُه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا

- قولُه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ إضافةُ وَعْدُ إلى أُولَاهُمَا بَيانيَّةٌ، أي: الموعودُ الَّذي هو أُولى المرَّتَينِ من الإفسادِ والعُلُوِّ .

3- قَولُه تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا

- قولُه: رَدَدْنَا جعَلَ رَدَدْنَا مَوضِعَ (نرُدُّ)؛ إذ وقْتُ إخبارِهم لم يقَعِ الأمْرُ بعدُ، لكنَّه لمَّا كان وعْدُ اللهِ في غايةِ الثِّقةِ أنَّه يقَعُ، عُبِّرَ عن مُستقبلِه بالماضي .

4- قَولُه تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا

- قولُه: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فيه ذِكْرُ الإساءةِ باللَّامِ في قولِه: فَلَهَا؛ ازْدواجًا، أي: قابَلَ قولَه: لِأَنْفُسِكُمْ بقولِه: فَلَهَا؛ فاللامُ على بابِها؛ لأنَّها للاختِصاصِ، والعامِلُ مُختَصٌّ بجَزاءِ عَملِه حَسَنِه وسيِّئِه. وقيل: اللَّامُ بمعنى (إلى)، أي: فإليها ترجِعُ الإساءةُ. وقيل: اللَّامُ بمعنى (على)، أي: فعَلَيها .

- قولُه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا تَفريعٌ على قولِه: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا؛ إذ تَقديرُ الكلامِ: فإذا أسأتُمْ، وجاء وعْدُ المرَّةِ الآخرةِ. وقد حصَلَ بهذا التَّفريعِ إيجازٌ بَديعٌ قضاءً لحقِّ التَّقسيمِ الأوَّلِ في قولِه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا، ولحَقِّ إفادةِ تَرتُّبِ مَجيءِ وعْدِ الآخرةِ على الإساءةِ، ولو عُطِفَ بالواوِ -كما هو مُقْتضى ظاهرِ التَّقسيمِ إلى مَرَّتينِ- فاتت إفادةُ التَّرتُّبِ والتَّفرُّعِ .

- قولُه: لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ، أي: بعَثْناهم ليَسُوؤا وُجوهَكم؛ فحُذِفَ (بعَثْناهم)؛ لدلالةِ ذكْرِه أوَّلًا عليه . وخُصَّتِ المَساءةُ بالوُجوهِ -والمُرادُ: أصحابُ الوجوهِ-؛ لِما يَبْدو عليها من أثَرِ الحُزنِ والكآبةِ ، فآثارُ الأعراضِ النَّفسانيَّةِ الحاصِلة في القَلبِ إنَّما تَظهَرُ على الوَجهِ، فإنْ حَصَل الفَرَحُ في القَلبِ، ظَهَرَت النَّضْرةُ والإشراقُ والإسفارُ في الوَجهِ، وإن حصل الحُزنُ والخَوفُ في القَلبِ، ظهَرَ الكُلوحُ والغَبْرةُ والسَّوادُ في الوَجهِ؛ فلهذا السَّبَبِ عُزِيَت الإساءةُ إلى الوُجوهِ في هذه الآيةِ .

- وقَولُه تعالى: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ قيل: هذا تعريضٌ بالتَّهديدِ لقُرَيشٍ بأنَّهم إن لم يَرجِعوا أبدَلَ أمْنَهم في الحَرمِ خَوفًا وعِزَّهم ذلًّا، فأدخَلَ عليهم جنودًا لا قِبَلَ لهم بها، وقد فعَلَ ذلك عامَ الفَتحِ، لكِنَّه فِعلُ إكرامٍ لا إهانةٍ، ببرَكةِ هذا النبيِّ الكريمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

5- قَولُه تعالى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا

- قَولُه: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ، حيث عُدِلَ عن أنْ يُقالَ: (وجعَلْنا جهنَّمَ لكم)؛ تَسجيلًا على كُفْرِهم بالعَودِ، وذَمًّا لهم بذلك، وإشعارًا بعلَّةِ الحُكمِ .

================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (9-11)

ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ

المعنى الإجمالي:

 

يُبينُ الله تعالى أنَّ هذا القُرآنَ يُرشِدُ إلى أحسَنِ الطُّرُقِ وأعدلِها، وهي مِلَّةُ الإسلامِ، ويُبَشِّرُ المُؤمِنينَ الذين يمتَثِلون الأمرَ ويَجتنِبون النَّهيَ، بأنَّ لهم ثوابًا عَظيمًا، وأنَّ الذينَ لا يُؤمنونَ بالدَّارِ الآخرةِ وما فيها مِنَ الجَزاءِ، أعدَدْنا لهم عَذابًا مُوجِعًا في النَّارِ.

ويدعو الإنسانُ عند غَضَبِه على نَفسِه أو ولَدِه أو مالِه بالشَّرِّ، مِثلَ ما يدعو بالخيرِ، وهذا مِن جَهلِ الإنسانِ وعَجَلتِه، وكان الإنسانُ بطَبعِه عَجولًا.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذه الآيةَ جاءت تنفيسًا على المؤمنين مِن أثَرِ القِصَصِ المهولةِ التي قُصَّت عن بني إسرائيلَ وما حَلَّ بهم مِن البلاءِ، مِمَّا يثيرُ في نفوسِ المُسلِمين الخَشيةَ مِن أن يُصيبَهم مِثلُ ما أصاب أولئك، فأُخبِروا بأنَّ في القرآنِ ما يَعصِمُهم عن الوقوعِ فيما وقعَ فيه بنو إسرائيل؛ إذ هو يهدي للطَّريقِ التي هي أقومُ؛ ولذلك ذكَرَ مع الهدايةِ بِشارةَ المؤمنينَ الذين يَعمَلون الصَّالحاتِ، ونِذارةَ الذين لا يُؤمِنون بالآخرةِ

.

وأيضًا لَمَّا شرَحَ اللهُ تعالى ما فعَلَه في حَقِّ عِبادِه المُخلَصينَ، وهو: الإسراءُ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإيتاءُ الكِتابِ لِموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما فعَلَه في حَقِّ العُصاةِ والمتمَرِّدينَ وهو: تَسليطُ أنواعِ البَلاءِ عليهم؛ كان ذلك تَنبيهًا على أنَّ طاعةَ اللهِ تُوجِبُ كُلَّ خَيرٍ وكَرامةٍ، ومَعصيَتَه تُوجِبُ كُلَّ بَليَّةٍ وغَرامةٍ، لا جرَمَ أثنى هنا على القُرآنِ، فقال تعالى :

إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.

أي: إنَّ هذا القُرآنَ يُرشِدُ المتَّبِعينَ له إلى الطَّريقةِ التي هي أعدَلُ وأفضَلُ وأصوَبُ في كلِّ شأنٍ؛ من العقائِدِ والأعمالِ والأخلاقِ، وهي ملةُ الإسلامِ .

وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا.

أي: ويُبَشِّرُ هذا القرآنُ المُؤمِنينَ -الذين يُصَدِّقونَ إيمانَهم بأنَّهم يَعمَلونَ الأعمالَ الصَّالحةَ- بأنَّ لهم ثوابًا عظيمًا في الآخِرةِ .

وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10).

أي: ويُبَشِّرُ القُرآنُ المُؤمِنينَ أيضًا بأنَّ الله أعدَّ وهيَّأَ لأعدائِهم الكافِرينَ الذين لا يُؤمنونَ بالبَعثِ يومَ القيامةِ، عَذابًا مُوجِعًا في الآخِرةِ .

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11).

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ.

أي: ويدعُو الإنسانُ في حالِ غَضَبِه على نَفسِه وأهْلِه ووَلَدِه بالموتِ أو بغَيرِه مِمَّا يَسوءُ، كما يدعو ربَّه بالخَيرِ، فلو استُجِيبَ له في دُعائِه بالشَّرِّ كما يُستَجابُ له في الخَيرِ، لهلَك .

عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((سِرْنا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوةِ بطنِ بُواطٍ، وهو يَطلُبُ المَجْديَّ بنَ عَمرٍو الجُهنيَّ، وكان النَّاضِحُ يَعقُبُه مِنَّا الخَمسةُ والسِّتَّةُ والسَّبعةُ، فدارت عُقبةُ رجُلٍ مِن الأنصارِ على ناضِحٍ له، فأناخه فركِبَه، ثمَّ بعَثَه فتَلَدَّنَ عليه بعضَ التلَدُّنِ، فقال له: شأْ ، لعَنَك اللهُ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن هذا اللَّاعِنُ بَعيرَه؟! قال: أنا يا رسولَ اللهِ، قال: انزِلْ عنه، فلا تصْحَبْنا بمَلعونٍ، لا تدْعُوا على أنفُسِكم، ولا تَدعُوا على أولادِكم، ولا تَدْعوا على أموالِكم، لا تُوافِقوا مِنَ اللهِ ساعةً يُسألُ فيها عَطاءً، فيَستجيبَ لكم )) .

وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا.

أي: إنَّما يَفعَلُ الإنسانُ ذلك فيَدعو عندَ غَضَبِه بما يَكرَهُ أن يُستَجابَ له فيه؛ لأنَّ مِن طَبْعِه العَجَلةَ، فيتعَجَّلُ طَلَبَ كُلِّ ما يقَعُ في قَلبِه ويَخطُرُ ببالِه، مِن غيرِ أن يتأنَّى فيه ويتفَكَّرَ، ويتدبَّرَ عواقِبَه

 

.

كما قال تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا في هذه الآيةِ يُخبِرُ تعالى عن شَرَفِ القُرآنِ وجَلالتِه، وأنَّه يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي: أعدَلُ وأعلى، مِن العقائِدِ والأعْمالِ والأخلاقِ، فمَن اهتدى بما يدعو إليه القُرآنُ كان أكمَلَ النَّاسِ وأقوَمَهم وأهداهم في جميعِ أمورِه

.

2- قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا في هذه الآيةِ أنَّ القُرآنَ مُشتَمِلٌ على البِشارةِ والنِّذارةِ، وفيها ذِكرُ الأسبابِ التي تُنالُ بها البِشارةُ، وهي الإيمانُ والعَمَلُ الصَّالحُ، والتي تُستَحَقُّ بها النِّذارةُ، وهي ضِدُّ ذلك .

3- ذَمَّ اللهُ تعالى الإنسانَ بالعَجَلةِ، بقَولِه تعالى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا، وقال: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء: 37] ، فالعجَلَةُ مِن مقتضياتِ الشهوةِ؛ فلذلك ذُمَّت فى جميعِ القرآنِ حتَّى قِيل: (العجلةُ مِن الشيطانِ)

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، فيه إيماءٌ إلى ضمانِ سلامةِ أُمةِ القرآنِ مِن الحيدةِ عن الطريقِ الأقومِ؛ لأنَّ القرآنَ جاء بأسلوبٍ مِن الإرشادِ قويمٍ، لا يحولُ دونَه ودونَ الولوجِ إلى العقولِ حائلٌ، ولا يغادرُ مسلكًا إلى ناحيةٍ من نواحي الأخلاقِ والطبائع إلا سلكه إليها تحريضًا أو تحذيرًا، بحيث لا يعدمُ المتدبرُ في معانيه اجتناءَ ثمارِ أفنانِه، وبتلك الأساليبِ التي لم تبلُغْها الكتبُ السابقةُ كانت الطريقةُ التي يهدي إلى سلوكِها أقومَ مِن الطرائقِ الأُخرَى، وإن كانت الغايةُ المقصودُ الوصول إليها واحدةً

، فما يَهدِي إليه القُرآنُ أقومُ مِمَّا يهدي إليه الكِتابُ الذي قَبلَه، وإن كان ذلك يَهدِي إلى الصِّراطِ المُستقيمِ، لكِنَّ القُرآنَ يَهدي للتي هي أقوَمُ؛ ولهذا ذُكِرَ هذا بعدَ قَولِه تعالى: وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، ثمَّ قال: إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا فيه سُؤالٌ: كيف يَليقُ لَفظُ البِشارةِ بالعَذابِ؟

الجَوابُ: أنَّه مَذكورٌ على سَبيلِ التَّهَكُّمِ. أو يقال: إنه مِن بابِ إطلاقِ اسمِ الضِّدَّينِ على الآخرِ، كقوله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] .

3- لا بُشرى لِذَوي الهِمَمِ أعلى ولا أسَرُّ مِن الانتِقامِ مِن مُخالِفيهم؛ قال الله تعالى: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا فمِمَّا بَشَّرَهم به أنَّه أعَدَّ لِمُخالفِيهم عذابًا أليمًا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا

- قولُه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ استئنافٌ ابتدائيٌّ، عاد به الكلامُ إلى الغرَضِ الأهمِّ من هذه السُّورةِ، وهو تَأييدُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالآياتِ والمُعجزاتِ

.

- وتَأكيدُ الجُملةِ بـ(إنَّ) مُراعًى فيه حالُ بعضِ المُخاطبينَ، وهم الَّذين لم يُذْعِنوا إليه، وحالُ المُؤمنينَ من الاهتمامِ بهذا الخبرِ؛ فالتَّوكيدُ مُستعملٌ في مَعنيَيْه: دفْعِ الإنكارِ، والاهتمامِ، ولا تعارُضَ بين الاعتبارينِ .

- قولُه: هَذَا الْقُرْآنَ إشارةٌ إلى الحاضرِ في أذهانِ النَّاسِ من المِقدارِ المُنزَّلِ من القُرآنِ قبْلَ هذه الآيةِ، وبُيِّنَتِ الإشارةُ بالاسمِ الواقعِ بعدها؛ تَنويهًا بشأنِ القُرآنِ .

- قولُه: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ صِفةٌ لمحذوفٍ دَلَّ عليه يَهْدِي، أي: للطَّريقِ الَّتي هي أقومُ؛ لأنَّ الهِدايةَ من مُلازماتِ السَّيرِ والطَّريقِ، أو للمِلَّةِ الأقومِ، وفي حذْفِ الموصوفِ -من الإيجازِ من جهةٍ، ومن التَّفخيمِ من جهةٍ أُخرى- ما رجَّحَ الحذفَ على الذِّكرِ ؛ ففي الحذفِ من ذَوقِ البلاغةِ ما لا يُوجَدُ مع الإثباتِ . وقيل: لِلَّتِي أي: (للطريقةِ التي)، وترْكُ ذِكْرِها ليس لقصدِ التَّعميمِ لها وللحالةِ وللخصلةِ ونحوِها ممَّا يُعَبَّرُ به عن المقصدِ المذكورِ، بلْ للإيذانِ بالغِنَى عن التَّصريحِ بها لغايةِ ظُهورِها، لا سيَّما بعدَ ذكْرِ الهدايةِ الَّتي هي من رَوادفِها .

- قولُه: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الأقومُ: تَفضيلُ القويمِ -وذلك على أحدِ القولينِ-؛ ففيه إيماءٌ إلى ضمانِ سلامةِ أُمَّةِ القُرآنِ من الحَيدةِ عن الطَّريقِ الأقومِ .

- قولُه: أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قال ذلك هنا بلفظِ كَبِيرًا، وقاله في (الكهفِ) بلفظِ حَسَنًا في قولِه: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [الكهف: 2] ؛ مُوافقةً للفواصلِ قبلَهما وبعدهما؛ وهي: حَصِيرًا، أَلِيمًا، عَجُولًا، وجُلُّها وقَعَ قبلَ آخرِها مَدَّةٌ، وكذلك في سُورةِ (الكهفِ) جاء على ما تَقْتضيه الآياتُ قبلَها وبعدَها؛ وهي: عِوَجًا، أَبَدًا، وَلَدًا، وجُلُّها قبلَ آخرِها مُتحرِّكٌ .

2- قَولُه تعالى: وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

- جُملةُ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا مَعطوفةٌ على قولِه: أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا، أي: بُشِّروا بفَوزِهم بالجنَّةِ، وبكَينونةِ العذابِ الأليمِ لأعدائِهم الكُفَّارِ؛ فالتَّبشيرُ هنا بمعناه، والمُرادُ تَبشيرُ المُؤمنينَ ببِشارتينِ: بأجرٍ كَبيرٍ، وبتعذيبِ أعدائهم؛ ففي عِلْمِ المُؤمنينَ بذلك وتَبْشيرِهم به مَسرَّةٌ لهم؛ فمُصيبةُ العدوِّ سُرورٌ يُبشَّرُ به. أو تكونُ جملةُ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ... داخِلةً مع قولِه: أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا تحتَ التَّبشيرِ المُرادِ به مُطلقُ الإخبارِ الشاملِ للإخبارِ بما فيه سرورٌ وللإخبارِ بما ليسَ كذلك؛ فيكونُ ذلك بَيانًا لهدايةِ القُرآنِ بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ. وقيل: إنَّ جُملةَ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ... مَعطوفةٌ على جُملةِ يُبَشِّرُ أو يَهْدِي بإضمارِ (يُخْبِرُ)؛ فيَكونُ مِن عَطْفِ الجُملَةِ على الجُملةِ .

- وفي وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ تَخصيصُ الآخرةِ بالذِّكرِ من بين سائرِ ما كَفَروا به؛ لكونِها مُعظمَ ما أُمِروا بالإيمانِ به، ولمُراعاةِ التَّناسُبِ بين أعمالِهم وجزائِها الَّذي أنبَأَ عنه قولُه عَزَّ وجَلَّ: أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، وهو عذابُ جهنَّمَ، أي: أعتَدْنا لهم فيما كَفَروا به وأنْكَروا وُجودَه من الآخرةِ عذابًا أليمًا، وهو أبلغُ في الزَّجرِ؛ لأنَّ إتيانَ العذابِ مِن حيثُ لا يُحْتَسَبُ أفظَعُ وأفجَعُ .

- هذه الآيةُ جاءت عقِبَ ذكْرِ أحوالِ اليهودِ، وانْدَرجوا فيمَن لا يُؤمِنُ بالآخرةِ؛ لأنَّ أكثرَهم لا يقولُ بالثَّوابِ والعقابِ الجُسمانيِّ، وبعضُهم قال: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة: 80] ؛ فلم يُؤمنوا بالآخرةِ حَقيقةَ الإيمانِ بها .

3- قَولُه تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا

- قولُه: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ، أي: مثْلَ دُعائِه بالخيرِ المذكورِ فَرضًا لا تَحقيقًا؛ فإنَّه بمَعزلٍ من الدُّعاءِ به، وفيهِ رمْزٌ إلى أنَّه اللَّائقُ بحالِه . وقولُه: دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ مَصدرٌ يفيدُ تَشبيهًا، أي: يستعجِلُ الشَّرَّ كاستعجالِه الخيرَ .

- الباءُ في قولِه: بِالشَّرِّ وبِالْخَيْرِ لتأكيدِ لُصوقِ العامِلِ بمَعمولِه، كالَّتي في قولِه تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] ، أو لتَضمينِ مادَّةِ الدُّعاءِ معنى الاستعجالِ؛ فيكونُ كقولِه تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا [الشورى: 18] .

- قولُه: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا تَذييلٌ؛ فالإنسانُ هنا مُرادٌ به الجنسُ؛ لأنَّه المُناسِبُ للتَّذييلِ، و (كان) تدُلُّ على أنَّ اسْمَها مُتَّصِفٌ بخبَرِها اتِّصافًا مُتمكِّنًا

================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (12-15)

ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات :

 

مَنْشُورًا: أي: مفتوحًا، والنشرُ: البسطُ، وأصلُ (نشر): يدلُّ على فتحِ شيءٍ وتَشَعُّبِه

.

طَائِرَهُ: أي: عَمَلَه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وما قُدِّرَ عليه، تقولُ العربُ: جرَى طائرُه بكذا مِن الخيرِ، وجرَى له الطائرُ بكذا مِن الشَّرِّ، فخُوطبوا بما يَستعمِلونَ، والطائرُ: الحظُّ .

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ: أي: ولا تحمِلُ آثِمةٌ إِثْمَ أُخرى غيرِها، والوِزْرُ هو الإثمُ والذَّنْبُ، والثِّقْلُ والحِمْلُ أيضًا. وقيل: الوِزْرُ: هو الحِمْلُ الثَّقيلُ مِن الإثمِ، وهو الإثمُ العَظيمُ، وأصلُ (وزر): يدلُّ على مَا حمَلَه الإنسانُ، وعلى الثِّقل في الشَّيء؛ ومنه سُمِّي الإثمُ وزرًا؛ لأنَّه يُثقِلُ ظهرَ مَن يَحمِلُه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: وجعَلْنا اللَّيلَ والنَّهارَ علامَتَينِ دالَّتَينِ على وَحدانيَّتِنا وقُدرتِنا، فطَمَسْنا القَمرَ؛ لِيَكونَ اللَّيلُ مُظلِمًا، وجعَلْنا الشَّمسَ مُضيئةً لكم في النَّهارِ؛ لتطلُبوا -أيُّها النَّاسُ- فيه ما تحتاجونَه مِن أمورِ معاشِكم، ولتَعلَموا -مِن مَحوِ آيةِ اللَّيلِ- عدَدَ السِّنينَ وحِسابَ الأشهُرِ والأيَّامِ، وكُلَّ شَيءٍ بَيَّناه تَبيينًا كافيًا شافيًا.

وكُلَّ إنسانٍ ألزَمْناه عملَه الذي قدَّرناه عليه، وسبَق به قضاؤُنا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، فيُجازَى عليه وحدَه، فلا يُحاسَبُ بعَمَلِ غَيرِه، ولا يُحاسَبُ غَيرُه بعَمَلِه، ونُخرِجُ له يومَ القيامةِ كِتابًا يراه مَفتوحًا جامعًا لِما عمِلَه، يُقالُ له: اقرأْ كِتابَ أعمالِك، تَكفيك نَفسُك اليومَ شاهِدةً عليك.

ثمَّ ذكَر سبحانَه أنَّ كلَّ إنسانٍ يتحمَّلُ نتيجةَ عملِه، فقال: مَن اهتَدى فاتَّبَع طَريقَ الحَقِّ فإنَّما ثوابُ هدايتِه لنَفسِه، ومَن ضلَّ واتَّبَع طريقَ الباطِلِ فضرَرُ ضَلالِه على نفسِه، ولا تَحمِلُ نَفسٌ مُذنِبةٌ إثمَ نَفسٍ أُخرى، ولا نعذِّبُ أحدًا إلَّا بعد إقامةِ الحُجَّةِ عليه بإرسالِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ.

تفسير الآيات:

 

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ في الآيةِ المتقَدِّمةِ ما أوصَلَ إلى الخَلقِ مِن نِعَمِ الدِّينِ -وهو القُرآنُ- أتبَعَه ببَيانِ ما أوصَلَ إليهم مِن نِعَمِ الدُّنيا

.

وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ في الآيةِ المتقَدِّمةِ أنَّ هذا القُرآنَ يَهدي للَّتي هي أقوَمُ، وذلك الأقوَمُ ليس إلَّا ذِكرَ الدَّلائِلِ الدَّالَّةِ على التَّوحيدِ والنبُوَّةِ؛ لا جَرَمَ أردَفَه بذِكرِ دلائِلِ التَّوحيدِ، وهو عجائِبُ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ .

وأيضًا لما ذكَر عجلةَ الإنسانِ وانتقالَه مِن حالٍ إلى حالٍ؛ ذكَر أنَّ كلَّ هذا العالمِ كذلك في الانتقالِ لا يثبتُ على حالٍ، فنورٌ عقِبَ ظلمةٍ، وبالعكسِ، وازديادُ نورٍ وانتقاصٌ .

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ.

أي: وجعَلْنا بعَظَمتِنا الباهرةِ اللَّيلَ والنَّهارَ علامَتَينِ دالَّتَينِ على وُجودِ اللهِ ووحدانيَّتِه، وكمالِ قُدرتِه ورَحمتِه بعبادِه، وأنَّه المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له .

كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 37 - 40] .

وقال سُبحانَه: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فصلت: 37] .

فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً.

أي: فطَمَسْنا القَمَرَ؛ لِيَكونَ اللَّيلُ مُظلِمًا، وجعَلْنا الشَّمسَ مُضيئةً لكم في النَّهارِ .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5] .

لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.

أي: جَعَلْنا آيةَ النَّهارِ مُبصِرةً؛ لتتَوصَّلوا بضِياءِ النَّهارِ إلى طَلَبِ الرِّزقِ الذي يُيَسِّرُه لكم رَبُّكم مِنْ فَضلِه الواسِعِ .

كما قال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 73] .

وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.

أي: ومَحَوْنا آيةَ اللَّيلِ؛ لِتَعلَموا عدَدَ السَّنَواتِ، وتَعلَموا حِسابَ اللَّيالي والشُّهورِ، فتَنتَفِعوا بذلك في أمورِ دِينِكم ودُنياكم .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] .

وقال سُبحانَه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] .

وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا.

أي: وكلَّ شَيءٍ تَحتاجونَ -أيُّها النَّاسُ- إلى بيانِه مِن مَصالحِ دِينِكم ودُنياكم بيَّنَّاه لكم في القُرآنِ بَيانًا واضِحًا شافيًا لا لَبْسَ فيه ولا نَقْصَ بوجهٍ مِنَ الوُجوهِ .

كما قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قال الله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء: 12] كان معناه: أنَّ كلَّ ما يُحتاجُ إليه مِن شَرحِ دلائِلِ التوحيدِ والنبُوَّةِ والمعادِ، فقد صار مذكورًا، وكُلَّ ما يُحتاجُ إليه من شرحِ أحوالِ الوَعدِ والوعيدِ والتَّرغيبِ والترهيب، فقد صار مذكورًا، وإذا كان الأمرُ كذلك فقد أزيحت الأعذارُ، وأزيلت العِلَلُ؛ فلا جرم كُلُّ مَن ورد عَرصةَ القيامةِ فقد ألزَمْناه طائِرَه في عنُقِه، ونقولُ له: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان سياقُ الكلامِ جاريًا في طريقِ التَّرغيبِ في العَمَلِ الصَّالحِ، والتَّحذيرِ مِن الكُفرِ والسَّيِّئاتِ، ابتداءً مِن قَولِه تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ إلى قَولِه تعالى: عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء: 9- 10] وما عقَّبه ممَّا يتعلَّقُ بالبِشارةِ والنِّذارة، وما أُدمِجَ في خلالِ ذلك مِن التذكيرِ، ثمَّ بما دلَّ على أنَّ عِلمَ اللهِ مُحيطٌ بكُلِّ شَيءٍ تفصيلًا، وكان أهمُّ الأشياءِ في هذا المقامِ إحاطةَ عِلمِه بالأعمالِ كُلِّها- فأعقب ذِكرَ ما فصَّله اللهُ مِن الأشياء بالتَّنبيهِ على تفصيلِ أعمالِ النَّاسِ تَفصيلًا لا يقبَلُ الشَّكَّ ولا الإخفاءَ، وهو التَّفصيلُ المشابِهُ للتَّقييدِ بالكتابةِ، فعطفَ قَولَه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ على قَولِه: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء: 12] عَطْفَ خاصٍّ على عامٍّ؛ للاهتمامِ بهذا الخاصِّ .

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.

أي: وكلَّ إنسانٍ منكم ألزَمْناه عملَه الذي قدَّرْناه عليه؛ وسبَق به قضاؤُنا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، الصادرَ منه باختيارِه، فيُجازَى عليه وَحْدَه، فلا يُحاسَبُ بعَمَلِ غَيرِه، ولا يُحاسَبُ غَيرُه بعَمَلِه .

كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] .

وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا.

أي: ونُظهِرُ لكُلِّ إنسانٍ يومَ القيامةِ كِتابَ أعمالِه، يَجِدُه مَفتوحًا، حاويًا لكلِّ ما عَمِلَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ .

كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف: 49] .

وقال سُبحانَه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق: 7-12] .

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14).

أي: يُقالُ لكلِّ إنسانٍ يومَ القيامةِ: اقرأْ كِتابَ أعمالِك التي كَتَبَها الحَفَظةُ فيه، ويَكفي لإحصاءِ أعمالِك نَفسُك؛ فهي الشَّاهِدةُ بأنَّك لم تُظلَمْ، ولم يُكتَبْ عليك سِوى ما عَمِلْتَ .

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال في الآيةِ الأولى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] ومعناه: أنَّ كُلَّ أحَدٍ مُختَصٌّ بعَمَلِ نَفسِه، عبَّرَ عن هذا المعنى بعبارةٍ أخرى أقرَبَ إلى الأفهامِ، وأبعَدَ عن الغَلَطِ .

فهذه الجُملةُ بَيانٌ أو بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ مع توابِعِها، وفيه تَبيينُ اختِلافِ الطَّائِرِ بين نافعٍ وضارٍّ؛ فطائِرُ الهدايةِ نَفْعٌ لصاحبِه، وطائِرُ الضَّلالِ ضُرٌّ لصاحِبِه .

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ.

أي: مَن اهتَدى فاتَّبَعَ الحقَّ فإنَّما ينفَعُ نَفْسَه بالجزاءِ الحَسَنِ، والعاقبةِ الحَميدةِ في الدُّنيا والآخرةِ .

كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

وقال سُبحانَه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] .

وقال عزَّ وجلَّ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [الروم: 44، 45].

وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.

أي: ومَن ضلَّ عن الحَقِّ فإنَّما يجني على نَفسِه، فيَقَعُ ضَرَرُ ذلك عليه في الدُّنيا والآخرةِ .

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.

أي: ولا تَحمِلُ نَفسٌ آثِمةٌ إثمَ نَفسٍ أُخرى، ولا يَحمِلُ أحدٌ ذَنْبَ غَيرِه .

كما قال تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر: 18].

وقال سُبحانَه: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] .

وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.

أي: وما كُنَّا مُعَذِّبينَ قَومًا إلَّا بعدَ إقامةِ الحُجَّةِ عليهم بإرسالِ رَسولٍ إليهم، فإذا رَدُّوا الحَقَّ عذَّبْناهم بما يَستَحِقُّونَ

 

.

كما قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] .

وقال سُبحانَه: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ [الشعراء: 208، 209].

وقال عزَّ وجلَّ: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37].

وقال تبارك وتعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 71- 72] .

وقال جلَّ جلاله: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 8 - 11] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال تعالى: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ والابتِغاءُ: هو طلَبُ الشَّيءِ بسَعيٍ إليه ومحبَّةٍ فيه، ويُسمِّي تعالى طلَبَ أسبابِ الحياةِ ابتغاءً؛ تَنبيهًا على هذا السَّعيِ وهذه المحبَّةِ، فهُما الشَّرطانِ اللَّازمانِ للفوزِ بالمطلوبِ، كما يسمِّي تعالى المطلوبَ بالابتغاءِ فَضلًا مِن الرَّبِّ، وفَضلُه من رحمتِه، ورحمتُه واسِعةٌ لا تَضبِطُها حدودٌ، ولا تَحصُرُها الأعدادُ؛ تنبيهًا على سَعةِ هذا الفَضلِ لِيَذهَبَ الخَلقُ في جميعِ نواحيه، ويأخذوا بجَميعِ أسبابِه ممَّا أذِنَ لهم فيه، وليكونوا إذا ضاق بهم مذهَبٌ آخذين بمذهبٍ آخَرَ مِن مَسالكِ هذا الفَضلِ الربَّاني الواسِعِ غيرِ المحصورِ، وتنبيهًا أيضًا على قوَّةِ الرجاءِ في الحُصولِ على البُغيةِ؛ لأنَّ طلَبَهم طلَبٌ لِفَضلِ رَبٍّ كريمٍ، ويقولُ تعالى: مِنْ رَبِّكُمْ والربُّ: المالِكُ المدَبِّرُ لمملوكِه بالحِكمةِ، فيُعطيه في كلِّ حالٍ مِن أحوالِه ما يليقُ به؛ ليَكونَ الخَلقُ بعد قيامِهم بالعمَلِ راضين بما ييسِّرُه الله من أسبابٍ، وما يقسِمُه لهم مِن رزقٍ؛ ثِقةً بعَدلِه وحِكمتِه، فلا يبغي أحدٌ على أحدٍ بتعَدٍّ أو حسَدٍ، فجَمَعت هذه الآيةُ جَميعَ أصولِ السَّعادةِ في هذه الحَياةِ:

- بالعَمَلِ مع الجِدِّ فيه، والمحبَّةِ له والرَّجاءِ في ثَمَرتِه، الذي به قِوامُ العُمرانِ.

- وبالرِّضا والتَّسليم للمَولى، الذي به طُمأنينةُ القَلبِ وراحةُ الضَّميرِ.

- وبالكَفِّ للقَلبِ واليَدِ عن النَّاسِ، الذي به الأمنُ والسَّلامُ

.

2- قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا فكُلُّ ما يحتاجُ إليه العِبادُ لتَحصيلِ السَّعادتينِ من عقائِدِ الحَقِّ، وأخلاقِ الصِّدقِ، وأحكامِ العَدلِ، ووجوهِ الإحسانِ، كُلُّ هذا فُصِّل في القُرآنِ تَفصيلًا، وهذا دُعاءٌ وترغيبٌ للخَلقِ أن يَطلُبوا ذلك كُلَّه مِن القرآنِ الذي يهدي للتي هي أقومُ في العِلمِ والعَمَلِ، ويأخُذوا منه ويهتَدوا به؛ فهو الغايةُ التي ما وراءها غايةٌ في الهُدى والبيانِ .

3- قال الله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا إذا عرف الإنسانُ هذا وعنده مُسكةٌ مِن عَقلٍ، يَجِبُ عليه في دارِ الدُّنيا -وقتَ إمكانِ الفُرصةِ- ألَّا يُخزيَ نَفسَه ويُخجِلَها على رؤوسِ الأشهادِ خِزيًا وخَجَلًا يجُرُّه إلى النَّارِ؛ فالرَّحيلُ قَريبٌ والمحاسَبةُ حَقٌّ، وكُلُّ ما فعله الإنسانُ مُسَجَّلٌ عليه، وسيُقرأُ على رؤوسِ الأشهادِ، وسيَجِدُه في كتابٍ مَنشورٍ؛ فعلينا ألَّا نفضَحَ أنفُسَنا يومَ القيامةِ، ففَضيحةُ الآخرةِ وخِزيُها ليست كفَضيحةِ الدُّنيا؛ وألَّا نُفوِّتَ الفُرصةَ وأن ننتَهِزَها قبل أن يَضيعَ الوَقتُ ويُجرَّ الإنسانُ إلى القبرِ ليس عنده حَسَناتٌ؛ وألَّا نُفرِّطَ لئلَّا نندَمَ حيث لا ينفَعُ النَّدمُ

 

!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ أصلٌ في عِلمِ المَواقيتِ والهَيئةِ والتَّاريخِ

.

2- في قوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ حجةٌ على المعتزلةِ والقَدَرِيَّةِ في إلزامِ الطائرِ، والطائرُ: ما قُضِي عليهم مِن الشقاوةِ والسعادةِ ، وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ.

3- قَولُ الله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا -على أحدِ القولينِ في تفسيرِ الآيةِ- مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ على أنَّ كُلَّ ما قدَّرَه اللهُ تعالى للإنسانِ وحَكَمَ عليه به في سابِقِ عِلْمِه، فهو واجِبُ الوُقوعِ، مُمتَنِعُ العَدَمِ، وتَقريرُه مِن وَجهَينِ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ تقديرَ الآيةِ: وكُلَّ إنسانٍ ألزَمْناه عَمَلَه في عُنُقِه، فبيَّن تعالى أنَّ ذلك العَمَلَ لازِمٌ له، وما كانَ لازِمًا للشَّيءِ كانَ مُمتَنِعَ الزَّوالِ عنه، واجِبَ الحُصولِ له، وهو المقصودُ.

الوجهُ الثَّاني: أنَّه تعالى أضاف ذلك الإلزامَ إلى نَفْسِه؛ لأنَّ قَولَه: أَلْزَمْنَاهُ تصريحٌ بأنَّ ذلك الإلزامَ إنَّما صدَرَ منه، ونظيرُه قَولُه تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى [الفتح: 26] وهذه الآيةُ دالَّةٌ على أنَّه لا يَظهَرُ في الأبَدِ إلَّا ما حَكَمَ اللهُ به في الأزَلِ .

4- قَولُ الله تعالى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا لا ينافي قولَه تعالى: وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] ؛ لأنَّ في يَومِ القيامةِ مَواقِفَ مُختَلِفةً؛ ففي موقِفٍ يَكِلُ اللهُ حِسابَهم إلى أنفُسِهم، وعِلمُه مُحيطٌ بهم، وفي مَوقِفٍ يُحاسِبُهم هو تعالى. وقيل: إنَّ اللهَ تعالى هو الذي يُحاسِبُهم لا غيرُ، وقَولُه: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا أي: يكفيك أنَّك شاهِدٌ على نَفسِك بذُنوبِها، فهو توبيخٌ وتَقريعٌ، لا تَفويضُ حِسابِ العَبدِ إلى نَفسِه. وقيل غيرُ ذلك .

5- قَولُ الله تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ ثَوابَ العَمَلِ الصَّالحِ مُختَصٌّ بفاعِلِه، وعِقابَ الذَّنبِ مُختَصٌّ بفاعِلِه، لا يتعَدَّى منه إلى غَيرِه؛ كقَولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [النجم: 39-40] .

6- قال اللهُ تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى أي: لا يَحمِلُ أحَدٌ ذَنْبَ أحَدٍ، ولا يَجني جانٍ إلَّا على نَفسِه، كما قال تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ [فاطر: 18] . ولا مُنافاةَ بين هذا وبينَ قَولِه تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 13] ، وقَولِه تعالى وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] ؛ فإنَّ الدُّعاةَ عليهم إثمُ ضَلالِهم في أنفُسِهم، وإثمٌ آخَرُ بسَبَبِ ما أضَلُّوا مَن أضَلُّوا مِن غَيرِ أن يَنقُصَ مِن أوزارِ أولئك، ولا يَحمِلوا عنهم شيئًا، وهذا مِن عَدلِ اللهِ ورَحمتِه بعِبادِه .

7- قَولُه تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا حكَمَ سُبحانَه لعبادِه بأربعةِ أحكامٍ هي غايةُ العَدلِ والحِكمةِ:

أحدُها: أنَّ هُدى العبدِ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ لِنَفسِه لا لِغَيرِه.

الثاني: أنَّ ضَلالَه بفَواتِ ذلك وتخَلُّفِه عنه على نَفسِه لا على غَيرِه.

الثالث: أنَّ أحدًا لا يُؤاخَذُ بجَريرةِ غَيرِه.

الرابع: أنَّه لا يُعَذِّبُ أحدًا إلَّا بعدَ إقامةِ الحُجَّةِ عليه برسُلِه. فتأمَّلْ ما في ضِمْنِ هذه الأحكامِ الأربعةِ مِن حِكمَتِه تعالى وعَدْلِه وفَضْلِه .

8- العُقوبةُ قبلَ الحُجَّةِ ليسَت مَشروعةً؛ قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا؛ ولهذا قال الفُقَهاءُ في البُغاةِ: إنَّ الإمامَ يُراسِلُهم، فإنْ ذَكَروا شُبهةً بَيَّنَها، وإن ذَكَروا مَظلِمةً أزالَها، كما أرسَلَ عليٌّ ابنَ عَبَّاسٍ إلى الخوارِجِ، فناظَرَهم حتى رجَعَ منهم أربعةُ آلافٍ، وكما طلَبَ عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ دُعاةَ القَدَريَّةِ والخوارِجِ، فناظَرَهم حتى ظهَرَ لهم الحَقُّ وأقَرُّوا به .

9- في قَولِه تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا دَلالةٌ على أنَّ الحَدَّ لا يَجِبُ إلَّا على مَن بَلَغَه التَّحريمُ .

10- قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فالله تعالى أعدَلُ العادلينَ لا يعَذِّبُ أحدًا حتى تقومَ عليه الحُجَّةُ بالرِّسالةِ ثمَّ يعانِدَ الحُجَّةَ، وأمَّا من انقاد للحُجَّةِ أو لم تبلُغْه حُجَّةُ الله تعالى، فإنَّ اللهَ تعالى لا يعَذِّبُه. واستُدِلَّ بهذه الآيةِ على أنَّ أهلَ الفَتراتِ وأطفالَ المُشرِكين لا يعَذِّبُهم اللهُ حتى يبعَثَ إليهم رسولًا؛ لأنَّه مُنزَّهٌ عن الظُّلمِ .

11- قولُه تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا استدلَّ أهلُ السنةِ به على أنَّ التكليفَ لا يلزمُ العبادَ إلَّا مِن الشرعِ، لا مِن مجردِ العقلِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا

- قولُه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً فيه فَنُّ الجمْعِ مع التَّفريقِ، وهو أنْ يجمَعَ المُتكلِّمُ بين شَيئينِ في حكْمٍ واحدٍ، ثمَّ يُفرِّقُ بينهما في ذلك الحُكْمِ

.

- وفيه تَقديمُ اللَّيلِ؛ لمُراعاةِ التَّرتيبِ الوُجوديِّ؛ إذ منه ينسلِخُ النَّهارُ، وفيه تَظهَرُ غُرَرُ الشُّهورِ، ولتَرتيبِ غايةِ آيةِ النَّهارِ عليها بلا واسطةٍ .

- قولُه: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ، أي: جعَلْناها لا تُبْصَرُ المرئيَّاتُ فيها، كما لا يُبْصَرُ ما مُحِيَ من الكتابِ، وهذا من البلاغةِ الحَسنةِ جِدًّا .

- قولُه: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً نسَبَ الإبصارَ إلى آيةِ النَّهارِ، كما يُقالُ: ليلٌ قائمٌ ونائمٌ، أي: يُقام فيه ويُنامُ فيه؛ فهو من إسنادِ الفعلِ إلى زمانِه. وقيل: معنى مُبْصِرَةً مُضيئةٌ؛ لأنَّ النَّهارَ لا يُبصِرُ . وقيل أيضًا: لما كانت في غايةِ الضياءِ يُبصِرُ بها كلُّ مَن له بصرٌ، أسندَ الإبصارَ إليها مبالغةً، فقال: مُبْصِرَةً .

- وفي قولِه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث ثَنَّى الآيةَ هنا، وأفرَدَها في سُورةِ (الأنبياءِ) في قولِه: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً [الأنبياء: 91] ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّه لتَبايُنِ اللَّيلِ والنَّهارِ من كلِّ وجْهٍ، ولتَكرُّرِهما؛ فناسَبَهما التَّثنيةُ، بخلافِ عيسى مع أُمِّه عليهما السَّلامُ، فإنَّه جُزءٌ منها، ولا تَكرُّرَ فيهما؛ فناسَبَهما الإفرادُ .

- قَولُه: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ جاء التَّعليلُ لحِكمةِ آيةِ النَّهارِ خاصَّةً دون ما يقابِلُها مِن حِكمةِ اللَّيلِ، فلم يذكُرِ السُّكونَ فيه؛ لأنَّ المنَّةَ بها أوضَحُ، ولأنَّ من التنَبُّهِ إليها يحصُلُ التنبُّهُ إلى ضِدِّها، وهو حِكمةُ السُّكونِ في اللَّيلِ، فاكتفى بما ذُكِرَ في النَّهارِ .

- قولُه: عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ فيه تَقديمُ العددِ على الحسابِ، مع أنَّ التَّرتيبَ بين مُتعلِّقَيهما وُجودًا وعدمًا على العكسِ؛ للتَّنبيهِ من أوَّلِ الأمْرِ على أنَّ مُتعلِّقَ الحسابِ ما في تَضاعيفِ السِّنينَ من الأوقاتِ، أو لأنَّ العلْمَ المُتعلِّقَ بعدَدِ السِّنينَ علْمٌ إجماليٌّ بما تعلَّقَ به الحسابُ تَفصيلًا، أو لأنَّ العددَ من حيث إنَّه لم يُعْتَبَرْ فيه تَحصُّلُ شَيءٍ آخرَ منه حسْبما ذُكِرَ نازلٌ من الحسابِ المُعتبَرِ فيه ذلك منزلةَ البسيطِ من المُركَّبِ، أو لأنَّ العلْمَ المُتعلِّقَ بالأوَّلِ أقْصى المراتِبِ، فكان جَديرًا بالتَّقديمِ في مقامِ الامتنانِ .

والحسابُ يشملُ حسابَ الأيامِ والشهورِ والفصولِ، فعطفُه على عددِ السنينَ مِن عطفِ العامِّ على الخاصِّ للتعميمِ بعدَ ذكرِ الخاصِّ؛ اهتمامًا به .

- قولُه: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ذُكِرَ المصدَرُ، وهو قَولُه: تَفْصِيلًا؛ لأجلِ تأكيدِ الكلامِ وتقريرِه، كأنَّه قال: وفصَّلْناه حقًّا، وفصَّلْناه على الوَجهِ الذي لا مَزيدَ عليه .

2- قوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا

- قولُه: أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أخبَرَهم اللهُ تَعالى في أوجَزِ لَفظٍ وأبلَغِ إشارةٍ أنَّ جميعَ ما يَلْقى الإنسانُ من خيرٍ وشَرٍّ، فقد سبَقَ به القضاءُ، وأُلْزِمَ حظُّه وعمَلُه ومكسَبُه في عُنقِه-على أحدِ القولينِ في تفسيرِ الآيةِ-، فعُبِّرَ عن الحظِّ والعمَلِ -إذ هما مُتلازِمانِ- بالطَّائرِ. وهو تَعبيرٌ مَسوقٌ على عادةِ العربِ، حيث كانوا لا يُباشِرون عملًا من الأعمالِ الهامَّةِ إلَّا إذا اعْتَبروا أحوالَ الطَّيرِ؛ ليَتَبيَّنوا إذا كانت مَغبَّةُ العملِ خيرًا أمْ شَرًّا، فإذا طارتِ الطَّيرُ بنفْسِها أو بإزعاجٍ من أحدٍ مُتيامنةً، تَفاءلوا وأقْدَموا على عمَلِهم، وإذا طارت مُتياسرةً، تَشاءموا وأحْجَموا عن عمَلِهم، ولمَّا كثُرَ منهم ذلك سَمَّوا نفْسَ الخيرِ والشَّرِّ بالطَّائرِ؛ تَسميةً للشَّيءِ باسمِ لازِمِه .

- قوله: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ العُنقُ هو موضعُ السِّماتِ، وموضعُ القلائِدِ والأطوقَةِ، وغير ذلك مِمَّا يزينُ أو يَشينُ؛ فجرَى كلامُ العربِ بنسبةِ الأشياءِ اللَّازمةِ بني آدَمَ وغَيْرَهم مِنْ ذلك إِلى أعناقِهم، وكَثُرَ اسْتِعْمالُهم ذلك حَتَّى أضافُوا الأشياءَ اللَّازمةَ سائرَ الأبدانِ إلى الأعناقِ، كما أضافوا جناياتِ أعضاءِ الأبدانِ إلى اليدِ، فقالوا: ذلك بما كسَبتْ يَداه . أو: خُصَّ العُنُقُ مِن بينِ سائِرِ الأعضاءِ بهذا المعنى؛ لأنَّ الذي يكونُ عليه إمَّا أن يكونَ خَيرًا يَزينُه أو شَرًّا يَشينُه، وما يَزينُ يكونُ كالطَّوقِ والحَلْيِ، والذي يَشينُ فهو كالغُلِّ، فهاهنا عَمَلُه إن كان مِن الخيراتِ كان زينةً له، وإن كان مِنَ المعاصي كان كالغُلِّ على رَقَبتِه . ويجوزُ أنْ يكونَ قولُه: فِي عُنُقِهِ كِنايةً عن المُلازمةِ والقُربِ، أي: عمَلُه لازمٌ له لُزومَ القِلادةِ ، ومنه قولُ العرَبِ: تَقَلَّدَها طوقَ الحمامةِ؛ فلذلك خُصَّت بالعُنقِ؛ لأنَّ القِلادةَ تُوضَعُ في عُنقِ المرأةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ فِي عُنُقِهِ تَمثيلًا بالبعيرِ الَّذي يُوسَمُ في عُنقِه بسِمةٍ؛ كيْلَا يختلِطَ بغيرِه، أو الَّذي يُوضَعُ في عُنقِه جُلْجُلٌ ؛ لكيْلا يضِلَّ عن صاحبِه .

3- قوله تعالى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا

- جُملةُ اقْرَأْ كِتَابَكَ مقولُ قولٍ مَحذوفٍ دَلَّ عليه السِّياقُ، أي: يُقال له: اقْرَأْ... .

- والأمْرُ في اقْرَأْ مُستعملٌ في التَّسخيرِ، ومُكَنًّى به عن الإعذارِ لهم والاحتجاجِ عليهم، كما دَلَّ عليه قولُه: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا؛ ولذلك كان معرفةُ تلك الأعمالِ من ذلك الكتابِ حاصِلةً للقارِئِ .

- قولُه: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا حَسِيبٌ بمعنى حاسِبٍ، ويجوزُ أنْ يكونَ بمعنى الكافي؛ وُضِعَ موضِعَ الشَّهيدِ، فعُدِّيَ بـ(على)؛ لأنَّ الشَّاهدَ يَكْفي المُدَّعِيَ ما أهَمَّه، وذكَرَ حَسِيبًا؛ لأنَّه بمنزلةِ الشَّهيدِ والقاضي والأميرِ؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّ هذه الأمورَ يتولَّاها الرِّجالُ، فكأنَّه قيل: كَفى بنفْسِك رجُلًا حسيبًا، ويجوزُ أنْ يُتَأوَّلَ النَّفسُ بالشَّخصِ، كما يُقال: ثلاثةُ أنفُسٍ .

- والباءُ في قولِه: بِنَفْسِكَ مَزيدةٌ للتَّأكيدِ، داخِلةٌ على فاعلِ (كفى) .

4- قوله تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا

- قولُه: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فَذلكةٌ لِما تقدَّمَ من بَيانِ كونِ القُرآنِ هاديًا لأقومِ الطَّرائقِ ولُزومِ الأعمالِ لأصحابِها، أي: مَن اهْتَدى بهدايتِه، وعمِلَ بما في تَضاعيفِه من الأحكامِ، وانْتَهى عمَّا نَهاه عنه؛ فإنَّما تَعودُ منفعةُ اهتدائِه إلى نفْسِه، لا تَتخطَّاه إلى غيرِه ممَّن لم يَهتدِ .

- قولُه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى واقعةٌ موقعَ التَّعليلِ لمَضمونِ جُملةِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا؛ لِما في هذه من عُمومِ الحكمِ؛ فإنَّ عمَلَ أحدٍ لا يلحَقُ نفْعُه ولا ضَرُّه بغيرِه . وقيل: إنَّ قولَه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى تأكيدٌ للجُملةِ الثَّانيةِ: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، أي: لا تحمِلُ نفْسٌ حاملةٌ للوِزْرِ وِزْرَ نفْسٍ أُخرى حتَّى يمكِنَ تخلُّصُ النَّفسِ الثَّانيةِ عن وِزْرِها، ويختَلَّ ما بين العامِلِ وعمَلِه من التَّلازُمِ، بل إنَّما تحمِلُ كلٌّ منها وِزْرَها، وهذا تَحقيقٌ لمعنى قولِه عَزَّ وجَلَّ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ...، وإنَّما خَصَّ التَّأكيدَ بالجُملةِ الثَّانيةِ؛ قطعًا للأطماعِ الفارغةِ، حيث كانوا يَزْعمون أنَّهم إنْ لم يَكونوا على الحقِّ، فالتَّبِعةُ على أسلافِهم الَّذين قَلَّدوهم .

- قولُه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى الوِزْرُ: الإثمُ، شُبِّهَ بالحِمْلِ الثَّقيلِ؛ لِما يجُرُّه من التَّعبِ لصاحبِه في الآخرةِ

======================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (16-21)

ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

 

مُتْرَفِيهَا: أي: المُنَعَّمِينَ فيها، الذين قد أبطَرَتْهم النِّعمةُ وسَعَةُ العَيشِ، وأصلُ (ترف): يدُلُّ على التَّوسُّعِ في النِّعمةِ

.

الْقُرُونِ: جمعُ قَرْنٍ، والقرنُ: القومُ أو الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ المقترنونَ في زمنٍ واحدٍ، غَيْر مُقَدَّرٍ بمدةٍ مُعَيَّنةٍ، وقيل: مدَّة القرنِ مئةُ سنةٍ، وقيل: ثمانونَ، وقيل: ثلاثون، وقيل غيرُ ذلك، وهو مأخوذٌ مِن الاقترانِ، وهو اجتماعُ شيئينِ، أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصلُ (قرن): يدلُّ على جمعِ شيءٍ إلى شيءٍ .

مَدْحُورًا: أي: مَطرودًا مُبْعَدًا، وأصلُ (دحر): يدلُّ على الطَّردِ والإبعادِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ

قَولُه: كُلًّا مَنصوبٌ على المَفعوليَّةِ المقَدَّمةِ بـ نُمِدُّ، والتَّنوينُ فيه تَنوينُ عِوَضٍ عن المُضافِ إليه، أي: كُلَّ الفَريقَينِ. هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بدَلٌ مِن قَولِه: كُلًّا بدَلُ مُفَصَّلٍ مِن مُجمَلٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: وإذا قدَّرْنا إهلاكَ أهلِ قَريةٍ لِظُلمِهم، أمَرْنا المُتنَعِّمينَ فيها بطاعةِ اللهِ وتَوحيدِه، على لسانِ الرسولِ المرسَلِ إليهم، فعَصَوا أمرَ رَبِّهم، وكذَّبوا المُرسَلين، فوجب عليهم عذابُنا، فأهلَكْنا قريتَهم واستأصَلْنا شأفتَهم، وكثيرًا أهلَكْنا مِن الأُمَمِ المُكَذِّبةِ رُسُلَها مِن بعدِ نُوحٍ، وحَسبُك ربُّك -يا مُحمَّدُ- إحاطةً وعِلمًا واطِّلاعًا بما يعمَلُه العبادُ.

ثمَّ ذكَر تعالى مصيرَ الذين يُؤثِرونَ الدُّنيا على الآخرةِ، فقال: مَن كان همُّه الدُّنيا وسَعيُه لها وحْدَها، ولم يعمَلْ للآخرةِ؛ عجَّل اللهُ له فيها ما يَشاء تعجيلَه له مِن زينتِها ومُتَعِها؛ لِمن يريدُ اللهُ، ثمَّ يجعَلُ اللهُ له في الآخرةِ جَهنَّمَ يدخُلُها مَذمومًا مطرودًا مِن رَحمة اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ومَن قصَدَ بقَولِه وعَمَلِه ثَوابَ الدَّارِ الآخرةِ، وسعَى لها على ما يحِبُّ اللهُ ويرضى، وهو مُؤمِنٌ؛ فأولئك كان عَمَلُهم مَقبولًا، يُضاعِفُ الله لهم ثوابَه، ويُحسِنُ لهم جزاءَه.

ثم قال تعالى: كلًّا من الفَريقينِ المتقدِّمَينِ نَزيدُ مِن فَضلِنا ورِزقِنا، فنَرزُقُ المُؤمِنينَ والكافرينَ في الدُّنيا، وما كان عَطاءُ رَبِّك مَمنوعًا عن المؤمِنِ ولا عن الكافِرِ، انظُرْ -يا مُحمَّدُ- كيف فضَّل اللهُ بَعضَ النَّاسِ على بَعضٍ في الدُّنيا، ولَلآخِرةُ أكبَرُ تفاضُلًا وتفاوتًا في الدَّرَجاتِ والمنازلِ مِمَّا كانوا عليه في الدُّنيا.

تفسير الآيات:

 

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّه لَمَّا أشار اللهُ تعالى إلى عذابِ المُخالِفينَ؛ قَرَّرَ أسبابَه، وعرَّفَ أنَّها بقَدَرِه، فقال تعالى

:

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا .

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ آمَرْنَا بمَدِّ الهمزةِ، قيل: المعنى: أكثَرْنا مُتْرَفِيها عددًا، أو أكثَرْنَا حُروثَهم وأموالَهم، وقيل غير ذلك .

2- قراءةُ أَمَرْنَا مِن غَيرِ مَدٍّ، مِنَ الأمرِ الذي هو خِلافُ النَّهيِ، والمعنى: أمَرْناهم بالطَّاعةِ ففَسَقوا بمَعصيتِهم اللهَ، وقيل غيرُ ذلك .

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا.

أي: وإذا أرَدْنا أن نُهلِكَ أهلَ قَريةٍ بعَذابٍ في الدُّنيا، أمَرْنا مُتنَعِّميها وجَبابِرَتَها بطاعتي، على لسانِ الرسولِ المبعوثِ إليهم، فخَرَجوا عن أوامِري وعَصَوني .

فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا.

أي: فوَجَبَ على أهلِ القَريةِ العَذابُ الذي حُذِّروا منه، فخرَّبْنا القَريةَ تخريبًا، وأهلَكْنا أهلَها فاستأصَلْناهم .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى ضَرَب مِثالًا لإهلاكِ القُرى الذي وصَفَ سَبَبَه وكيفيَّتَه في الآيةِ السَّابقةِ، فعَقَّبَ ذلك بتَمثيلِه؛ لأنَّه أشَدُّ في الكَشفِ، وأدخَلُ في التَّحذيرِ المَقصودِ، وفي ذلك تحقيقٌ لِكَونِ حُلولِ العَذابِ بالقُرى مُقَدَّمًا بإرسالِ الرَّسولِ إلى أهلِ القَريةِ، ثمَّ بتَوجيهِ الأوامِرِ إلى المُتْرَفينَ، ثمَّ فِسقِهم عنها .

وأيضًا لَمَّا قَرَّرَ أنَّ ما سبَقَ هو شأنُه إذا أراد أن يُهلِكَ؛ أخبَرَ أنَّه فعل ذلك بمَن لا يُحصِيهم العَدُّ مِن القُرونِ، ولا يُحيطُ بهم الحَدُّ مِن الأُمَمِ؛ لأنَّ الاعتبارَ بالمُشاهَدِ أوقَعُ في القَلبِ وأهوَلُ عند النَّفسِ .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ.

أي: وكثيرٌ مِن أهلِ القُرونِ الماضيةِ عذَّبْناهم في الدُّنيا؛ لكُفرِهم وتَكذيبِهم رُسُلَهم، وذلك مِن بعدِ أوَّلِ الرُّسُلِ نُوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فأنتم -يا كُفَّارَ قُرَيشٍ- لَستُم أكرَمَ على اللهِ منهم، وقد كذَّبتُم أشرَفَ الرُّسُلِ؛ فعُقوبتُكم أَولى وأحْرَى إن لم تَنتَهوا عن كُفرِكم وتَكذيبِكم .

كما قال تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا [الفرقان: 37 - 39] .

وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا.

أي: وحسبُك ربُّك -يا محمَّدُ- خَبيرًا بَصيرًا بذُنوبِ عِبادِه، يَعلَمُ بَواطِنَها وظَواهِرَها، لا يخفى عليه شَيءٌ منها، وسيُجازيهم عليها .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تَقَرَّرَ أنَّ اللهَ سُبحانَه خَبيرٌ بذُنوبِهم بعد تَزهيدِه في الدُّنيا بما ذَكَرَ مِن مَصارعِ الأوَّلينَ؛ أتبَعَه الإخبارَ بأنَّه يُعامِلُهم على حَسَبِ عِلْمِه على وَجهٍ مُعَرِّفٍ بعِلمِه بجميعِ طَويَّاتِهم مِن خَيرٍ وشَرٍّ، مُرَغِّبٍ في الآخرةِ، مُرَهِّبٍ من الدُّنيا؛ لأنَّها المانِعةُ مِن اتِّباعِ الرُّسُلِ والتقَيُّد بطاعتِهم، خوفًا مِن نَقصِ الحَظِّ مِن الدُّنيا بزَوالِ ما هو فيه مِنَ الرِّئاسةِ والمالِ، والانهماكِ في اللَّذَّةِ، جهلًا بأنَّ ما قُدِّرَ لا يكونُ غَيرُه، سواءٌ كان صاحِبُه في طاعةٍ أو مَعصيةٍ .

وأيضًا فإنَّ هذا بيانٌ لجُملةِ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [الإسراء: 15] ، وهو راجِعٌ أيضًا إلى جُملةِ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] ؛ تدريجًا في التِّبيانِ للنَّاسِ بأنَّ أعمالَهم مِن كَسبِهم واختيارِهم، فابتُدِئُوا بأنَّ اللهَ قد ألزمَهم تَبِعةَ أعمالِهم، بقَولِه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ ثمَّ وكَلَ أمرَهم إليهم؛ وأنَّ المسيءَ لا يضُرُّ بإساءتِه غَيرَه ولا يَحمِلُها عنه غيرُه، فقال: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [الإسراء: 15] ، ثمَّ أعذرَ إليهم بأنَّه لا يأخُذُهم على غِرَّةٍ، ولا يأخُذُهم إلَّا بسُوءِ أعمالِهم، بقَولِه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ إلى قَولِه: خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 15- 17] ، ثمَّ كشفَ لهم مقاصِدَهم من أعمالِهم، وأنَّهم قِسمانِ، فقال :

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ.

أي: مَن كانت نيَّتُه الدَّارَ العاجِلةَ وهي الدُّنيا، ولها وحدَها يَعملُ، ولا يَعملُ لآخِرتِه؛ عَجَّلْنا له في الدُّنيا ما نَشاءُ مِن مَتاعِها وأرزاقِها، لِمَن نريدُ إعطاءَه مِن ذلك .

ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا.

أي: ثمَّ جعَلْنا له في الآخِرةِ عَذابَ جَهنَّمَ، فيَدخُلُها ويَحتَرِقُ بنارِها مذمومًا مِنَ اللهِ ومِن عِبادِه، على فَسادِ نيَّتِه، وسُوءِ صَنيعِه، مُبعَدًا مِن رَحمةِ رَبِّه، مُقْصًى ذَليلًا .

كما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15- 16] .

وقال سُبحانَه: وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] .

وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19).

وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ.

أي: ومَن نوى ثَوابَ الدَّارِ الآخرةِ، وعَمِلَ للجَنَّةِ الأعمالَ الصَّالِحةَ، بإخلاصٍ لله ومُتابَعةٍ لرَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهو مُؤمِنٌ باللهِ ومَلائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، ومُصَدِّقٌ بالثَّوابِ والجَزاءِ .

فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا.

أي: فأولئك الذين فعَلوا ذلك كان عملُهم بطاعةِ اللَّه مَقبولًا غيرَ مردودٍ، يُضاعِفُ الله لهم ثوابَه، ويُحسِنُ لهم جزاءَه، معَ تجاوزِه عن سيئاتِهم .

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أخبَرَ عن نَفسِه بما يشيرُ إلى التَّوسِعةِ على مَن يُريدُ مِن أهلِ الباطِلِ؛ أخبَرَ بأنَّه قضَى بذلك في الأزَلِ تفَضُّلًا .

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ.

أي: كلَّ واحدٍ مِن الفَريقينِ: الكافرينَ الذين يُريدُونَ الدُّنيا، والمُؤمِنينَ الذين يُريدونَ الآخرةَ، نَزيدُ -يا مُحمَّدُ- مِن فَضلِ رَبِّك ورزقِه .

وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا.

أي: وما كان فَضلُ رَبِّك -يا مُحمَّدُ- مَمنوعًا عن أحدٍ مِن خَلْقِه؛ فلكُلِّ أحدٍ نَصيبٌ منه .

كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود: 6].

وقال سُبحانَه: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت: 60] .

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا كان العَطاءُ المبذولُ للفَريقَينِ هو عَطاءَ الدُّنيا، وكان النَّاسُ مُفَضَّلينَ فيه على وجهٍ يُدرِكونَ حِكمَتَه؛ لَفَت اللهُ لذلك نظَرَ نَبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَفْتَ اعتبارٍ وتدَبُّرٍ، ثمَّ ذَكَّرَه بأنَّ عطاءَ الآخرةِ أعظَمُ عَطاءٍ، وقد فَضَّلَ اللهُ به المُؤمِنينَ .

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.

أي: انظُرْ -يا مُحمَّدُ- كيف فضَّلْنا بعضَ النَّاسِ على بَعضٍ في عطاءِ الدُّنيا، كالرِّزقِ، والعِلمِ، والعَقلِ، والجَمالِ، والصحةِ إلى غيرِ ذلك .

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الروم: 37].

وقال سُبحانَه: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف: 32] .

وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.

أي: ولَتفاوتُهم في الدارِ الآخرةِ أكبرُ مِن الدُّنيا، فتفاضلُ درجاتِ العاملين في الآخرةِ أكبرُ، وأهلُ الآخرةِ يتفاضلون فيها أكثرَ ممَّا يتفاضلُ الناسُ في الدُّنيا .

كما قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام: 132] .

وقال سُبحانه: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى [طه: 75] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: 7 - 11] .

وقال تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ في الجنَّةِ مِئَةَ دَرَجةٍ أعدَّها اللهُ للمُجاهِدينَ في سَبيلِه، كلُّ درجتَينِ ما بينهما كما بينَ السَّماءِ والأرضِ، فإذا سألتُم اللهَ فسَلُوه الفِردَوسَ؛ فإنَّهُ أوسَطُ الجنَّةِ، وأعلى الجَنَّةِ، وفَوقَه عَرشُ الرَّحمنِ، ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- نَبَّه اللهُ تعالى بقَولِه: وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا على أنَّ الذُّنوبَ هي أسبابُ الهَلَكةِ لا غَيرُ، وأنَّه عالِمٌ بها ومُعاقِبٌ عليها

؛ وذلك لأنَّه لَمَّا عقَّبَ إهلاكَهم بعِلمِه بالذُّنوبِ عِلمًا أتمَّ، دلَّ على أنَّه جازاهم بها .

2- قَولُه تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا فيه أعظَمُ زَجرٍ عن ارتِكابِ ما لا يُرضِي اللهَ تعالى .

3- قال اللهُ تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا فَمِن الجُهَّالِ مَن إذا ساعَدَتْه الدُّنيا اغتَرَّ بها وظَنَّ أنَّ ذلك لأجْلِ كَرامتِه على اللهِ تعالى، وأنَّه تعالى بَيَّنَ أنَّ مُساعدةَ الدُّنيا لا ينبغي أن يُستَدَلَّ بها على رِضا اللهِ تعالى؛ لأنَّ الدُّنيا قد تَحصُلُ مع أنَّ عاقِبَتَها هي المصيرُ إلى عذابِ اللهِ وإهانتِه .

4- الذي ينبغي للإنسانِ العاقِلِ أنَّه كُلَّما رأى مِن نَفسِه طُموحًا إلى الدُّنيا، وانشِغالًا واغتِرارًا بها، تذَكَّرَ الموتَ، وتَذَكَّرَ حالَ الآخِرةِ؛ لأنَّ هذا هو المآلُ المُتيقَّنُ؛ وأنَّ ما يُؤَمِّلُه الإنسانُ في الدُّنيا قد يحصُلُ وقد لا يحصُلُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لا ما يَشاء هو، بل ما يشاءُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا .

5- الإنسانُ ينبغي له أن يجعلَ الدُّنيا وسيلةً إلى الآخرةِ؛ ولا يكون كلُّ هَمِّه وقَصْدِه الدُّنيا؛ فالإنسانُ إذا أراد الدُّنيا فقط، فإنَّه قد يُضَيِّعُ الدُّنيا والآخرةَ؛ لِقَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا فيه وجوبُ الإخلاصِ والنيَّةِ في العباداتِ .

7- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا أي: سَعْيَها الذي هو لها، وهو ما كانت جَديرةً به مِن العَمَلِ بما يُرضي اللهَ بما شَرَعَه في كتابِه وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم، لا أيَّ سَعيٍ كان بما لم يَشهَدْ له ظاهِرُ الكِتابِ والسُّنَّةِ .

8- قولُه تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ شَرَط فيه شُروطًا ثلاثةً:

الشرط الأول: أنْ يُريدَ بعَمَلِه الآخِرةَ، أي: ثوابَ الآخرةِ؛ فإنَّه إن لم تَحصُلْ هذه الإرادةُ، وهذه النِّيَّةُ، لم يَنتَفِعْ بذلك العَمَلِ؛ لقَولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39] .

الشَّرطُ الثاني: قَولُه تعالى: وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا بأن يكونَ العَمَلُ الذي يُتَوَصَّلُ به إلى الفَوزِ بثَوابِ الآخرةِ، مِن الأعمالِ التي بها يُنالُ ثَوابُ الآخرةِ، ولا يكونُ كذلك إلَّا إذا كان مِن بابِ القُرَبِ والطَّاعاتِ، فكثيرٌ مِن النَّاسِ يتَقَرَّبونَ إلى اللهِ تعالى بأعمالٍ باطلةٍ!

الشَّرطُ الثَّالِثُ: قَولُه تعالى: وَهُوَ مُؤْمِنٌ وهذا الشَّرطُ مُعتبَرٌ؛ لأنَّ الشَّرطَ في كَونِ أعمالِ البِرِّ مُوجِبةً للثَّوابِ تَقَدُّمُ الإيمانِ، فإذا لم يُوجَدِ الشَّرطُ لم يَحصُلِ المَشروطُ. ثمَّ إنَّه تعالى أخبَرَ أنَّ عند حُصولِ هذه الشَّرائِطِ يَصيرُ السَّعيُ مَشكورًا، والعَمَلُ مَبرورًا، فقال: فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا .

9- قال تعالى: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا فإذا كانت الآخرةُ كذلك فإنَّه ينبغي التَّسابُقُ إلى دَرَجاتِها العاليةِ، وحَياتِها الباقيةِ؛ فذلك خَيرٌ وأحسَنُ تأويلًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا دَلالةٌ على أنَّ القُرى إنَّما تَهلِكُ بعد فِسْقِ مُترَفيها

.

2- قَولُ الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ جُعِل زمنُ نوحٍ مَبدأً لقَصصِ الأُممِ؛ لأنَّه أوَّلُ رسولٍ، واعتُبِر القَصصُ مِن بَعدِه؛ لأنَّ زمنَ نوحٍ صار كالمُنقَطِعِ بسَبَبِ تجديدِ عُمرانِ الأرضِ بعدَ الطُّوفانِ، ولأنَّ العَذابَ الذي حَلَّ بقَومِه عذابٌ مَهولٌ، وهو الغَرَقُ الذي أحاط بالعالَمِ .

3- قوله تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا فيه إشارةٌ إلى أنَّ البعثَ في قولِه: حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا والأمْرَ في قولِه: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا وما يَتْلوهما من فسْقِهم ليس لتَحصيلِ العلْمِ بما صدَرَ عنْهم منَ الذُّنوبِ؛ فإنَّ ذلك حاصلٌ قبلَ ذلك، وإنَّما هو لقطعِ الأعذارِ، وإلزامِ الحُجَّةِ من كلِّ وجْهٍ .

4- قَولُ الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، إن قيل: إنَّ قضيَّتَه أنَّ مَن لم يترُكِ الدُّنيا يكونُ مِن أهلِ النَّارِ، وليس كذلك؟

فالجواب: أنَّ المرادَ مَن لم يُرِدْ بإسلامِه وعبادتِه إلَّا الدنيا، وهذا لا يكونُ إلَّا كافرًا، أو منافِقًا .

5- قَولُه تعالى: لِمَنْ نُرِيدُ يدُلُّ على أنَّه لا يَحصُلُ الفَوزُ بالدُّنيا لكُلِّ أحَدٍ، بل كثيرٌ مِن الكُفَّارِ والضُّلَّالِ يُعرِضونَ عن الدِّينِ في طَلَبِ الدُّنيا، ثمَّ يَبقَونَ مَحرومينَ مِن الدُّنيا ومِن الدِّينِ، وهذا أيضًا فيه زَجرٌ عَظيمٌ لهؤلاءِ الكُفَّارِ الضُّلَّالِ الذين يَترُكونَ الدِّينَ لِطَلَبِ الدُّنيا؛ فإنَّه رُبَّما فاتَتْهم الدُّنيا، فهم الأخسَرونَ أعمالًا؛ الذين ضَلَّ سَعيُهم في الحَياةِ الدُّنيا وهم يَحسَبونَ أنَّهم يُحسِنونَ صُنعًا .

6- في قَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ والقَدَرِيَّةِ؛ لأنَّه سُبحانَه أخبَرَ عن العاجِلةِ -التي استحَقُّوا بها النَّارَ- أنَّه هو الذي عجَّلَها لهم، بل أخبَرَ مع التَّعجيلِ لهم بأنَّه أرادَه منهم بقَولِه: لِمَنْ نُرِيدُ، بل وأَكَّدَه بما بَعدَه؛ حيثُ قال سُبحانَه: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا فقد أَخْبَرَ سُبحانَه عن إمدادِه إيَّاهم بعَطائِه وعن تَفضيلِ بَعضِهم على بعضٍ، وسببُ التَّفضيلِ عَطاؤُه، لا انفرادُهم باكتِسابِ الخَيرِ والشَّرِّ .

7- قال اللهُ تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا فمَن لم يُرِدِ الدَّارَ الآخرةَ قولًا وعَمَلًا، وإيثارًا ومَحبَّةً، ورَغبةً وإنابةً؛ فلا خَلاقَ له في الآخِرةِ، ولا فائِدةَ له في الدَّارِ الدُّنيا، بل هو كافِرٌ مَلعونٌ، مُشَتَّتٌ مُعَذَّبٌ .

8- قولُه تعالى: مَذْمُومًا فيه إشارةٌ إلى الإهانةِ، وقوله: مَدْحُورًا فيه إشارةٌ إلى البُعدِ والطَّردِ .

9- الكافِرُ يُجازى على عَمَلِه الحَسَنِ في الدُّنيا لا في الآخِرةِ، والمُؤمِنُ قد يُؤخَّرُ له الثَّوابُ في الآخرةِ، وقد يُجازَى به في الدُّنيا وفي الآخرةِ؛ قال اللهُ تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] ، وقال عزَّ وجلَّ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا إذَنْ، فالتَّوفيةُ تكونُ في الدُّنيا دونَ الآخرةِ للكافِرِ، أمَّا المُؤمِنُ فتَكونُ في الدُّنيا والآخرةِ جَميعًا، أو في الآخرةِ فقط .

10- قال اللهُ تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا لم يَثْبُتِ المَدحُ إلَّا على إيمانٍ معه العَمَلُ، لا على إيمانٍ خالٍ عن عَمَلٍ . وفي الآيةِ دَليلٌ على أنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ لا تَنفَعُ إلَّا مع الإيمانِ باللهِ؛ لأنَّ الكُفرَ سَيِّئةٌ لا تنفَعُ معها حَسَنةٌ؛ لأنَّه شَرطٌ في ذلك .

11- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا إن قيلَ: كيف قال ذلك مع أنَّا نُشاهِدُ الواحِدَ لا يملكُ شيئًا مِن المالِ، وآخَرَ معه الألوفُ؟

فالجوابُ: أنَّ المُرادَ بالعَطاءِ هنا الرِّزقُ، واللهُ سَوَّى في ضَمانِه بين المُطيعِ والعاصي مِنَ العِبادِ، فلا تَفاوُتَ بينهم في أصلِ الرِّزقِ، وإنَّما التَّفاوُتُ بينهم في مَقاديرِ الأملاكِ .

12- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا إنَّما لم يمنَعِ الكُفَّارَ الرِّزقَ، كما منَعَهم الهدايةَ؛ لأنَّ في مَنعِه له هلاكَهم وقيامَ الحُجَّةِ لهم بأن يقولوا: لو أمهَلْتَنا ورزَقْتَنا لبَقِينا أحياءً فآمَنَّا، ولأنَّهم لو منَعَهم الرِّزقَ لكان قد عاجلَهم بالعُقوبةِ، ولكان ذلك مِن صِفاتِ البُخلاءِ، واللهُ تعالى منَزَّهٌ عن ذلك؛ لأنَّه حليمٌ كريمٌ، ولأنَّ إعطاءَ الرِّزقِ لجَميعِ العبادِ عَدلٌ، وعَدلُ الله عامٌّ؛ وهِبةَ الهدايةِ فَضلٌ، والفَضلُ بيدِ اللهِ يؤتيه من يشاءُ .

13- النَّاسُ في الجنَّةِ على دَرَجاتٍ مُتفاوِتةٍ؛ كما قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا .

14- قولُه تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ المرادُ التفضيلُ في عطاءِ الدنيا؛ لأنَّه الذي يدركُه التأملُ والنظرُ، وبقرينةِ مقابلتِه بقولِه: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ. والمقصودُ مِن هذا التنظيرِ: التنبيهُ إلى أنَّ عطاءَ الدنيا غيرُ منوطٍ بصلاحِ الأعمالِ؛ ألا ترَى إلى ما فيه مِن تفاضلٍ بينَ أهلِ العملِ المتَّحدِ، وقد يفضلُ المسلمُ فيه الكافرَ، ويفضلُ الكافرُ المسلمَ، ويفضلُ بعضُ المسلمينَ بعضًا، وبعضُ الكفرةِ بعضًا، وكفاك بذلك هاديًا إلى أنَّ مناطَ عطاءِ الدنيا أسبابٌ ليست مِن وادي العملِ الصالحِ، ولا ممَّا يُساقُ إلى النفوسِ الخيرةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا تَفصيلٌ للحُكمِ المُتقدِّمِ، قُصِدَ به تَهديدُ قادةِ المُشركينَ، وتَحميلُهم تبِعَةَ ضَلالِ الَّذين أضَلُّوهم، وهو تَفريعٌ لتَبيينِ أسبابِ حُلولِ التَّعذيبِ بعدَ بَعثةِ الرَّسولِ، أُدْمِجَ فيه تَهديدُ المُضلِّينَ؛ فكان مُقْتَضى الظَّاهرِ أنْ يُعْطَفَ بالفاءِ على قولِه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، ولكنَّه عُطِفَ بالواوِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّه خبرٌ مَقصودٌ لذاتِه باعتبارِ ما يتضمَّنُه من التَّحذيرِ من الوُقوعِ في مثْلِ الحالةِ الموصوفةِ، ويظهَرُ معنى التَّفريعِ من طبيعةِ الكلامِ، فالعطفُ بالواوِ هنا تَخريجٌ على خِلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ في الفصْلِ والوصْلِ

.

- قولُه: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فيه تَخصيصُ المُتْرفينَ بالذِّكرِ مع تَوجُّهِ الأمْرِ إلى الكلِّ؛ لأنَّهم الأصولُ في الخطابِ، والباقي أتباعٌ لهم، ولأنَّ توجُّهَ الأمْرِ إليهم آكَدُ ، فقُيِّدُ الأمْرُ بالمُتْرفينَ، وإنْ كان الأمرُ لا يختَصُّ بهم؛ لأنَّ صلاحَهم أو فسادَهم مُستلزِمٌ لصلاحِ غيرِهم أو فسادِه ، ولأنَّهم أحَقُّ النَّاسِ بالشُّكرِ، وأولَى بالانتِقامِ عندَ الكُفرِ ، وكذلك لأنَّهم أسرَعُ إلى الحَماقةِ، وأقدَرُ على الفُجورِ .

- قولُه: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا قيل: لم يَقُلْ بماذا أمَرَهم؛ إيجازًا في القَولِ، واعتِمادًا على بَديهةِ السَّامعِ؛ لأنَّ قولَه: فَفَسَقُوا فِيهَا يدُلُّ عليه .

2- قَولُه تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا

- قولُه: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ في هذا التَّخصيصِ إيجازٌ، كأنَّه قيل: من قومِ نوحٍ فمَن بعدهم .

- قولُه: وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا فيه تَقديمُ خَبِيرًا؛ لتقدُّمِ مُتعلَّقِه من الاعتقاداتِ والنِّيَّاتِ الَّتي هي مَبادِئُ الأعمالِ الظَّاهرةِ، أو لعُمومِه؛ حيث يتعلَّقُ بغيرِ المُبصَراتِ أيضًا .

3- قَولُه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا

- قولُه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا بَيانٌ لجُملةِ: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي، وهو راجعٌ أيضًا إلى قولِه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ؛ فمَعْنى كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ أنَّه لا يريدُ إلَّا العاجلةَ، أي: دونَ الدُّنيا، بقَرينةِ مُقابَلَتهِ بقولِه: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ؛ لأنَّ هذه المُقابَلةَ تقومُ مقامَ الحصرِ الإضافيِّ؛ إذ ليس الحصرُ الإضافيُّ سِوى جُملتينِ: إثباتٍ لشَيءٍ، ونَفيٍ لخلافِه .

- قولُه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ، أي: من غيرِ أنْ يريدَ معها الآخرةَ، كما يُنْبِئُ عنه الاستمرارُ المُستفادُ من زيادةِ (كان) هاهنا، مع الاقتصارِ على مُطلَقِ الإرادةِ في قَسيمِه .

- قولُه: عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ فيه ذكْرُ شَريطةِ المشيئةِ مرَّتينِ، وإنَّما عدَلَ إلى هذا الأُسلوبِ الَّذي جاءت به الآيةُ؛ لإدماجِ التَّعريضِ بتَهديدِ أهْلِ مكَّةَ بأنَّهم مُعرَّضونَ لمثْلِ هذا ممَّا حَلَّ بأهْلِ القُرى الَّتي كذَّبَت رُسلَ اللهِ . وقيل: إنَّ تَقييدَ المُعجَّلِ والمُعجَّلِ له بما ذُكِرَ من المشيئةِ والإرادةِ؛ لأنَّ الحِكمةَ الَّتي عليها يدورُ فلَكُ التَّكوينِ لا تَقْتضي وُصولَ كلِّ طالبٍ إلى مَرامِه، ولا استيفاءَ كلِّ واصَلٍ لِما يطلُبُه بتَمامِه .

- وقولُه: لِمَنْ نُرِيدُ بدَلٌ من قولِه: لَهُ بدلَ بعضٍ من كُلٍّ؛ بإعادةِ حرفِ الجرِّ العاملِ في المُبْدَلِ منه؛ لتأكيدِ معنى التَّبعيَّةِ، وللاستغناءِ عن الرَّبطِ بضَميرِ المُبْدلِ منهم بأنْ يُقالَ: مَن نُريدُ منهم .

- وعطْفُ جُملةِ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ بحرفِ (ثمَّ)؛ لإفادةِ التَّراخي الرُّتبيِّ، ولَهُ ظرفٌ مُستقَرٌّ هو المفعولُ الثَّاني لـ جَعَلْنَا، قُدِّمَ على المفعولِ الأوَّلِ للاهتمامِ .

4- قَولُه تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا

- في قولِه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ... وقولِه: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ... مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث خُولِفَ بين الجُملتَينِ بجَعْلِ الفعلِ مُضارعًا في الأُولى، وماضيًا في الثَّانيةِ؛ للإيماءِ إلى أنَّ إرادةَ النَّاسِ العاجلةَ مُتكرِّرةٌ مُتجدِّدةٌ. وفيه تَنبيهٌ على أنَّ أُمورَ العاجلةِ مُتَقضِّيةٌ زائلةٌ. وجعْلُ فعْلِ إرادةِ الآخرةِ ماضيًا لدلالةِ المُضيِّ على الرُّسوخِ؛ تَنبيهًا على أنَّ خيرَ الآخرةِ أَولى بالإرادةِ؛ ولذلك جُرِّدَتِ الجُملةُ مِن (كان) ومن المُضارعِ، وما شرَطَ في ذلك إلَّا أنْ يَسْعى للآخرةِ سَعْيَها، وأنْ يكونَ مُؤمِنًا .

- في قولِه: وَسَعَى لَهَا اللَّامُ تفيدُ اعتبارَ النِّيَّةِ والإخلاصِ .

- وفيه إيرادُ الإيمانِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بالجُملةِ الحاليَّةِ؛ للدَّلالةِ على اشتراطِ مُقارنتِه لِما ذُكِرَ في حيِّزِ الصِّلةِ ، وجِيءَ بها كذلك اسميَّةً؛ لدلالتِها على الثَّباتِ والدَّوامِ، أي: وقد كان راسِخَ الإيمانِ .

- قولُه: فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا الإتيانُ باسمِ الإشارةِ فَأُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المُشارَ إليهم جَديرونَ بما سيُخْبَرُ به عنهم؛ لأجْلِ ما وُصِفوا به قبلَ ذكْرِ اسمِ الإشارةِ .

- والتَّعبيرُ بـ (كان)؛ للدَّلالةِ على أنَّ الوصفَ تَحقَّقَ فيه مِن قبلُ، أي: من الدُّنيا؛ لأنَّ الطَّاعةَ تَقْتضي ترتُّبَ الشُّكرِ عاجِلًا، والثَّوابِ آجِلًا .

- وفي تَعليقِ المَشكوريَّةِ في قولِه: كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا بالسَّعْيِ دونَ قرينَيْهِ (إرادةِ الآخرةِ، والإيمانِ): إشعارٌ بأنَّه العُمدةُ فيها .

5- قَولُه تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا

- قولُه: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا تَذييلٌ لآيةِ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ... .

- قولُه: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فيه لَفٌّ ونشرٌ مُرتَّبٌ؛ فـ هَؤُلَاءِ الأُولى للفريقِ الأوَّلِ، أي: مُريدِ الدُّنيا، وهَؤُلَاءِ الثَّانيةُ للفريقِ الثَّاني، أي: مُريدِ الآخرةِ .

- وقولُه: هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بدَلٌ من قولِه: كُلًّا بدلَ مُفصَّلٍ من مُجمَلٍ، والمقصودُ من الإبدالِ التَّعجُّبُ من سَعَةِ رحمةِ اللهِ تَعالى .

- قولُه: وَهَؤُلَاءِ عُطِفَ عليه؛ ففيه تَذكيرٌ لِما به الإمدادُ، وتَعيينٌ للمُضافِ إليه المحذوفِ دَفعًا لتَوهُّمِ كونِه أفرادَ الفريقِ الأخيرِ؛ وتأكيدٌ للقصرِ المُستفادِ من تَقديمِ المفعولِ .

- قولُه: مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا فيه التَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ في الموضعَينِ؛ للإشعارِ بمَبدئيَّتِها لِمَا ذُكِرَ من الإمدادِ، وعدَمِ الحظْرِ .

- قولُه: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا اعتراضٌ أو تَذييلٌ .

- واعتبارُ عدَمِ المَحظوريَّةِ بالنِّسبةِ إلى الفريقِ الأوَّلِ تَحقيقًا لشُمولِ الإمدادِ له: يَقْتضي كونَ القصرِ لدفْعِ توهُّمِ اختصاصِ الإمدادِ الدُّنيويِّ بالفريقِ الثَّاني، مع أنَّه لم يَسبِقْ في الكلامِ ما يُوهِمُ ثُبوتَه له، فَضلًا عن إيهامِ اختصاصِه .

6- قَولُه تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا

- قولُه: كَيْفَ اسمُ استفهامٍ مُستعمَلٌ في التَّنبيهِ

============

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (22-25)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ

غريب الكلمات :

 

مَخْذُولًا: أي: غيرَ منصورٍ، والخِذلانُ: تركُ مَن كان يؤمِّلُ منه النَّصرَ نُصرتَه ومعونتَه، وأصلُ (خذل): يدلُّ على تركِ الشَّيءِ، والقعودِ عنه

.

وَقَضَى: أي: أَمَر، والقضاءُ: فصلُ الأمرِ قولًا كان ذلك أو فعلًا .

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ: تَذلَّلْ لهما، وتواضَعْ، وألِنْ جانِبَك، والخفضُ هو التَّواضُع، والجناحُ: الجانبُ، ويُطلقُ على يدِ الإنسانِ وعضُدِه وإبْطِه، وجَناحُ الذلِّ: تركُ الاستعلاءِ، وأصلُ: (جنح): يدُلُّ على المَيلِ، وأصلُ: (ذل): يدُلُّ على الخُضوعِ، والاستكانةِ، واللِّينِ .

أُفٍّ: اسمُ فِعلٍ يُنبئُ عن التضَجُّرِ والاستِثقالِ، وما يكونُ فيه أدنَى تبَرُّمٍ، أو صوتٌ يُنبئُ عن ذلك، وأصلُ (أفف): يَدلُّ على تَكَرُّهِ الشَّيءِ .

تَنْهَرْهُمَا: أي: تَزجُرْهما، وأصلُ (نهر): يدلُّ على زَجرٍ بمُغالَظةٍ .

لِلْأَوَّابِينَ: أي: للرَّجَّاعينَ التَّوَّابينَ، وأصلُ (أوب): يَدلُّ على رُجوعٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمرادُ بالخطابِ غَيرُه، قائِلًا: لا تَجعَلْ -يا مُحمَّدُ- مع اللهِ شَريكًا له في عبادتِه، فتقعُدَ جامِعًا على نفسِك الذَّمَّ والخِذلانَ، وأمَرَ ربُّك وأوجَبَ أن تعبُدوه وَحْدَه لا شريكَ له، وأن تُحسِنوا إلى الوالِدَينِ إحسانًا، وإن يبلُغْ عندك الكِبرَ أحدُ والِدَيك أو كِلاهما، فبَرَّهما، ولا تُسمِعْهما قَولًا سَيِّئًا، حتى ولو كان التَّأفُّفَ، ولا تَزجُرْهما، وقُلْ لهما قولًا كريمًا حَسَنًا، وكُنْ لهما ذليلًا مُتَواضِعًا؛ رحمةً بهما، وادْعُ اللهَ أن يَرحَمَهما أحياءً وأمواتًا، كما صَبَرَا على تَربيَتِك حالَ صِغَرِك وضَعفِك.

ربُّكم -أيُّها النَّاسُ- أعلَمُ بما في ضمائرِكم مِن خيرٍ أو شَرٍّ، ومِن إرادةِ البِرِّ بالوالِدَينِ أو عُقوقِهما، إن تكونوا قاصِدينَ الصَّلاحَ والبِرَّ بالوالِدَينِ، والرُّجوعَ عمَّا فرط منكم في حقِّهما؛ فاللهُ تعالى للرجَّاعين إليه بالتَّوبةِ غَفورٌ رَحيمٌ.

تفسير الآيات:

 

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ أنَّ النَّاسَ فَريقانِ؛ منهم مَن يريدُ بعَمَلِه الدُّنيا فقط، وهم أهلُ العِقابِ والعَذابِ، ومنهم مَن يريدُ به طاعةَ اللهِ، وهم أهلُ الثَّوابِ، ثمَّ شَرَط ذلك بشَرائِطَ ثلاثةٍ: أوَّلُها: إرادةُ الآخرةِ، وثانيها: أن يعمَلَ عَملًا ويَسعى سعيًا مُوافِقًا لطَلَبِ الآخرةِ، وثالثُها: أن يكونَ مُؤمِنًا- لا جَرَم فصَّلَ في هذه الآيةِ تلك المُجمَلاتِ، فبدأ أوَّلًا بشَرحِ حَقيقةِ الإيمانِ، وأشرَفُ أجزاءِ الإيمانِ هو التَّوحيدُ، ونَفيُ الشُّرَكاءِ والأضدادِ

.

وأيضًا لَمَّا أجْمَلَ سُبْحانَه أعمالَ البِرِّ في قولِه: وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ أخذَ في تَفْصيلِ ذلك مُبْتَدِئًا بأشرفِها الَّذي هو التَّوحيدُ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا تقَرَّر بما مضى أنَّ لله سُبحانَه الأمرَ كُلَّه، وأنَّه مُتَّصِفٌ بجَميعِ الكَمالِ، مُنَزَّهٌ عن شَوائِبِ النَّقصِ- أنتَجَ أنَّه لا إلهَ غَيرُه، فقال تعالى :

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22).

أي: لا تجعَلْ مع اللهِ مَعبودًا غيرَه، فتبقَى -إن أشرَكْتَ باللهِ- مَذمومًا لا حامِدَ لك، مخذولًا لا ناصِرَ لك .

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ في الآيةِ الأولى ما هو الرُّكنُ الأعظَمُ في الإيمانِ، أتبَعَه بذِكرِ ما هو مِن شعائِرِ الإيمانِ وشَرائِطِه .

وأيضًا لمَّا أجْمَل سبحانَه أعمالَ البرِّ في قولِه: وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ أَخَذ في تفصيلِ ذلك مُبْتَدِئًا بأشرفِها الَّذي هو التَّوحيدُ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى النَّهيَ المحَتِّمَ لِتَوحيدِه في قَولِه تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؛ أتبَعَه الإخبارَ بالأمرِ بذلك؛ جَمعًا في ذلك بين صَريحَي الأمرِ والنَّهيِ، تصريحًا بعد التَّنزيهِ له عن الشَّريكِ بالإفرادِ له في العِبادةِ، في أُسلوبِ الخبَرِ، إعلامًا بعِظَمِ المقامِ، فقال تعالى :

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.

أي: وأمَرَ ربُّك -يا مُحمَّدُ- ووصَّى، وأوجَبَ ألَّا تَعبُدوا -أنت وجميعُ الخَلقِ- إلَّا اللهَ وَحدَه .

وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ بمَعرفةِ الحَقِّ للمُحسِنِ المُطلَقِ مُنبِّهًا على وجوبِ ذلك باسمِ الرَّبِّ؛ أتبَعَه الأمرَ بمَعرفةِ الحَقِّ لأوَّلِ المُرَبِّينَ مِن الخَلقِ، فقال تعالى :

وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.

أي: وأمَرَكم اللهُ بأن تُحسِنوا إلى الوالِدَينِ بجَميعِ أوجُهِ الإحسانِ مِن الأقوالِ والأفعالِ .

كما قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36] .

وقال سُبحانَه: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151] .

وعن نُفَيعِ بنِ الحارِثِ الثَّقَفيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كُنَّا عندَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم، فقال: ألَا أنبِّئُكم بأكبَرِ الكبائرِ -ثلاثًا-: الإشراكُ باللَّهِ، وعُقوقُ الوالِدَينِ، وشَهادَةُ الزُّورِ -أو: قَولُ الزُّورِ-... )) الحديث .

وعَن المِقدامِ بنِ مَعدِيكَرِبَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ يُوصيكم بأمَّهاتِكم -ثلاثًا- إنَّ اللهَ يُوصيكم بآبائِكم، إنَّ اللهَ يُوصيكم بالأقرَبِ فالأقرَبِ )) .

إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان سُبحانَه عليمًا بما في الطِّباعِ مِن مَلالِ الوَلَدِ لهما عند أخْذِهما في السِّنِّ، قال تعالى :

إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ.

أي: إنْ عاشَ والِداك عِندَك، وقد كَبِرَت سِنُّهما وضَعُفَت قُواهما؛ أحدُهما أو كِلاهما، فلا تتأفَّفْ؛ إظهارًا لضَجَرِك مِمَّا يُؤذيك منهما، ولا تؤْذِهما بأيِّ نَوعٍ مِن الأذى .

وَلَا تَنْهَرْهُمَا.

أي: ولا تَزجُرْ والدَيك، وتُغلِظْ لهما القَولَ .

وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا منعَ الله تعالى الإنسانَ بالآيةِ المتقدِّمَةِ عن ذكرِ القولِ المؤذِي الموحِشِ، والنَّهيُ عن القولِ المُؤْذِي لا يكونُ أمْرًا بالقولِ الطَّيِّبِ؛ لا جرمَ أرْدَفَه بأَنْ أمرَه بالقولِ الحسنِ والكلامِ الطَّيِّبِ .

وأيضًا لَمَّا نهاه عن عُقوقِهما تقديمًا لِما تُدرَأُ به المَفسَدةُ، أمَرَه ببِرِّهما جَلْبًا للمَصلحةِ، فقال تعالى :

وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا.

أي: وقُلْ لهما قَولًا حَسَنًا لَيِّنًا رَقيقًا جَميلًا يُفرِحُهما، فيه تأدُّبٌ معهما، وتلَطُّفٌ لهما .

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24).

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.

أي: وكنْ لوالِدَيك ذليلًا مُتواضِعًا؛ رَحمةً منك بهما، ولا تُخالِفْهما فيما يأمُرانِك به ويَنهيانِك عنه مِمَّا ليس فيه مَعصيةٌ لله تعالى .

كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 14- 15] .

وعن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: أوصَاني رسولُ الله صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: ((لا تُشرِكْ باللهِ شيئًا وإن قُطِّعْتَ أو حُرِّقْتَ... وأطِعْ والِدَيك، وإنْ أمراك أن تَخرُجَ مِن دُنياك فاخرُجْ لهما)) .

وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.

أي: وقُلْ: رَبِّ ارحَمْ والِديَّ في حَياتِهما وبعدَ مَوتِهما ؛ جزاءً لهما على تَربيتِهما لي في صِغَري، وحالِ ضَعفي وعَجزي وافتِقاري .

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا دَلَّت الآيةُ السَّابِقةُ على وُجوبِ تَعظيمِ الوالِدَينِ مِن كُلِّ الوُجوهِ، ثمَّ إنَّ الولَدَ قد يَظهَرُ منه نادِرةٌ مُخِلَّةٌ بتَعظيمِهما؛ بيَّن سُبحانَه أنَّه عالمٌ بأحوالِ قُلوبِكم، فإن كانت تلك الهَفوةُ ليست لأجلِ العُقوقِ، بل ظهَرت بمقتضى الجبِلَّةِ البَشريَّةِ، كانت في محَلِّ الغُفرانِ .

وأيضًا فإنَّه تعالى لَمَّا نهى عن عِبادةِ غَيرِه وأمَرَ بالإحسانِ إلى الوالِدَينِ، ولا سيَّما عند الكِبَر، وكان الإنسانُ ربَّما تظاهَرَ بعِبادةٍ وإحسانٍ إلى والِدَيه دونَ عَقدِ ضَميرٍ على ذلك، رياءً وسُمعةً؛ أخبَرَ تعالى أنَّه أعلَمُ بما انطَوَت عليه الضَّمائِرُ مِن دُونِ قَصدِ عِبادةِ اللهِ، والبِرِّ بالوالِدَينِ .

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ.

أي: ربُّكم -أيُّها النَّاسُ- أعلَمُ بما في قُلوبِكم مِن تَعظيمِ حَقِّ الوالِدَينِ والرَّحمةِ بهما، أو الاستخفافِ به، ومِن إرادةِ البِرِّ بهما، أو الإساءةِ إليهما وعُقوقِهما، لا يخفى عليه شَيءٌ مِن ذلك، وهو مُجازيكم عليه، فاحذَروا أن تُضمِروا لهما سُوءًا .

كما قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة: 235] .

وقال سُبحانَه: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [التغابن: 4] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلى صُوَرِكم وأموالِكم، ولكِنْ يَنظُرُ إلى قُلوبِكم وأعمالِكم ) ) .

إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا.

أي: إنْ أنتم أصلَحْتُم نِيَّاتِكم -أيُّها النَّاسُ- فكُنتُم صادِقينَ في نيَّةِ البِرِّ بالوالِدَينِ، مُمتَثِلينَ أمْرَ اللهِ بالإحسانِ إليهما والبرِّ بهما والقيامِ بحُقوقِهما؛ فإنَّ اللهَ للتَّائبينَ إليه مِنَ الزَّلَّاتِ والهَفَواتِ في حَقِّ الوالِدَينِ، الرَّجَّاعِينَ إلى اللهِ وإلى مَرضاتِه مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ- غَفورٌ، يَغفِرُ إساءاتِهم فيَستُرُها عليهم، ويتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ابتُدِئ التشريعُ بالنهيِ عن عبادةِ غيرِ الله؛ لأنَّ ذلك هو أصلُ الإصلاحِ

.

2- قال تعالى في الآيةِ المُتقَدِّمةِ: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19] ، ثمَّ إنَّه تعالى أردَفَه بقوله: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا * وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا المُشتَمِلِ على الأعمالِ التي بواسِطتِها يحصُلُ الفَوزُ بسَعادةِ الآخرةِ، فذكَرَ مِن جُملتِها البِرَّ بالوالِدَينِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ هذه الطَّاعةَ مِن أُصولِ الطَّاعاتِ التي تُفيدُ سَعادةَ الآخِرةِ، وكذلك فقد بدأ بذِكرِ الأمرِ بالتَّوحيدِ، وثَنَّى بطاعةِ اللهِ تعالى، وثَلَّثَ بالبِرِّ بالوالِدَينِ، وهذه دَرَجةٌ عاليةٌ، ومُبالغةٌ عَظيمةٌ في تعظيمِ هذه الطَّاعةِ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا كان إحسانُهما إليك قد بلَغَ الغايةَ العَظيمةَ، وجَبَ أن يكونَ إحسانُك إليهما كذلك عَظيمًا كاملًا، ثمَّ على جميعِ التَّقديراتِ فلا تحصُلُ المكافأةُ؛ لأنَّ إنعامَهما عليك كان على سبيلِ الابتداءِ، وفي الأمثالِ المَشهورةِ: أنَّ الباديَ بالبِرِّ لا يُكافأُ .

3- قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا؛ لأنَّهما سببُ وجودِ العبدِ، ولهما مِن المحبةِ للولدِ والإحسانِ إليه والقربِ ما يقتضي تأكُّدَ الحقِّ، ووجوبَ البرِّ؛ لذا أمَر بالإحسانِ إليهما بجميعِ وجوهِ الإحسانِ القوليِّ والفعليِّ .

4- في قَولِه تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ إشارةٌ إلى أنَّهما إذا بلغَا الكِبَرَ صارا عِبْئًا على ولَدِهما؛ فلا يتضَجَّرْ مِنَ الحالِ، ولا يَنهَرْهما في المَقالِ إذا أساءَا في الفِعلِ أو القَولِ ؛ فحالةُ الكِبَرِ يحتاجانِ فيها إلى بِرِّه؛ لتغَيُّرِ الحالِ عليهما بالضَّعفِ والكِبَر، فأُلزِمَ في هذه الحالةِ مِن مُراعاةِ أحوالِهما أكثَرَ مِمَّا أُلزِمَه مِن قَبلُ؛ لأنَّهما في هذه الحالةِ قد صارا كَلًّا عليه، فيَحتاجانِ أن يليَ منهما في الكِبَرِ ما كان يَحتاجُ في صِغَرِه أن يَلِيا منه؛ فلذلك خَصَّ هذه الحالةَ بالذِّكرِ، وأيضًا فطُولُ المُكثِ للمَرءِ يُوجِبُ الاستثقالَ للمَرءِ عادةً، ويَحصُلُ المَلَلُ ويَكثُرُ الضَّجَرُ، فيُظهِرُ غَضَبَه على أبوَيه، وتنتَفِخُ لهما أوداجُه، ويَستطيلُ عليهما بدالَّةِ البُنُوَّةِ وقِلَّةِ الدِّيانةِ، وأقلُّ المَكروهِ ما يُظهِرُه بتنَفُّسِه المُتردِّدِ مِن الضَّجَر، وقد أُمِرَ أن يُقابِلَهما بالقَولِ الموصوفِ بالكرامةِ، وهو السَّالمُ عن كلِّ عَيبٍ .

5- قال الله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ينبغي بحُكمِ هذه الآيةِ أن يجعَلَ الإنسانُ نَفسَه مع أبويه في خيرِ ذِلَّةٍ، في أقوالِه وسَكَناتِه ونظَرِه، وألَّا يُحِدَّ إليهما بَصَرَه؛ فإنَّ تلك هي نَظرةُ الغاضِبِ .

6- قَولُ الله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا يُفهَمُ منه أنَّه كُلَّما ازدادَت التَّربيةُ ازداد الحَقُّ، وكذلك مَن تولَّى تربيةَ الإنسانِ في دينِه ودُنياه تَربيةً صالِحةً غيرُ الأبوَينِ؛ فإنَّ له على مَن رَبَّاه حَقَّ التَّربيةِ .

7- قال الله تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا * وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا... بالَغ سُبحانَه في التَّوصيةِ بالوالِدَينِ مُبالغةً تَقشَعِرُّ لها جلودُ أهلِ العُقوقِ، وتَقِفُّ عندَها شُعورُهم؛ حيثُ افتَتَحَها بالأمرِ بتَوحيدِه وعبادتِه، ثمَّ شَفَعَه بالإحسانِ إليهما، ثمَّ ضَيَّقَ الأمرَ في مُراعاتِهما حتى لم يُرَخِّصْ في أدنى كَلِمةٍ تنفَلِتُ مِن التضَجُّرِ، مع مُوجِباتِ الضَّجَرِ، ومع أحوالٍ لا يكادُ يَصبِرُ الإنسانُ معها، وأن يَذِلَّ ويَخضَعَ لهما، ثمَّ خَتَمَها بالأمرِ بالدُّعاءِ لهما والترَحُّمِ عليهما، وهذه خَمسةُ أشياءَ كُلِّفَ الإنسانُ بها في حَقِّ الوالِدَين .

8- الأوَّابُ هو الذي مِن عادتِه ودَيدنِه الرُّجوعُ إلى أمرِ اللهِ تعالى، والالتِجاءُ إلى فَضلِه، ولا يَلتَجئُ إلى شَفاعةِ شَفيعٍ، كما يَفعَلُه المُشرِكونَ الذين يَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ جَمادًا يَزعُمونَ أنَّه يَشفَعُ لهم، وسُنَّةُ اللهِ وحُكْمه في الأوَّابينَ أنَّه غَفورٌ لهم، يُكَفِّرُ عنهم سَيِّئاتِهم؛ قال الله تعالى: إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا .

9- قال الله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا فوعَدَ بالغُفرانِ مع شَرطِ الصَّلاحِ والأوْبةِ ، والصَّالِحُ عندما تقَعُ منه الذُّنوبُ مُطالَبٌ -كغيرِه- بالأوبةِ لتحصيلِ المَغفرةِ؛ لأنَّ فَرضَ الأوبةِ إلى الله مِن المعاصي عامٌّ على الجميعِ، وقد اشتمَلَت الآيةُ مِن فِعلِ الشَّرطِ، وهو إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ، وجوابِ الشَّرطِ، وهو فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا- على الحالتَينِ اللازمَتينِ للإنسانِ لتكميلِ نَفسِه، وهما الصَّلاحُ المستفادُ مِن الأوَّلِ، والإصلاحُ بالأوبةِ المستفادُ مِن الثَّاني، وما دام الإنسانُ مُجاهِدًا في تزكيةِ نَفسِه بهذينِ الأصلينِ، فإنَّه بالِغٌ أملًا ورجاءً -بإذن الله- درجةَ الكَمالِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا أي: مذمومًا لا حامِدَ لك، مَخذولًا لا ناصِرَ لك؛ إذ قد يكونُ بَعضُ النَّاسِ مَقهورًا مَحمودًا، كالذي قُهِرَ بباطلٍ، وقد يكونُ مَذمومًا مَنصورًا، كالذي قَهَر وتسَلَّط  بباطلٍ، وقد يكونُ مَحمودًا مَنصورًا، كالذي تمكَّن وملَكَ بحَقٍّ، والمُشرِكُ المتعَلِّقُ بغيرِ اللهِ قِسمُه أردأُ الأقسامِ الأربعةِ؛ لا مَحمودٌ ولا منصورٌ

.

2- قال تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا لَمَّا كان الذمُّ قد يحتَمِلُه بَعضُ النَّاسِ مع بلوغِ الأمَلِ، بيَّنَ أنَّه مع الخيبةِ، فقال تعالى: مَخْذُولًا أي: غيرَ منصورٍ فيما أراده من غيرِ أن يُغنيَ عنه أحدٌ بشَفاعةٍ أو غيرِها .

3- قال تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فالمخلوقُ ليس بإِلَهٍ في نفْسِه؛ لكنَّ عابدَه اتَّخَذَه إلهًا، وجَعَله إلهًا، وسمَّاه إلهًا، وذلك كلُّه باطلٌ لا ينفعُ صاحبَه؛ بل يَضُرُّه، كما أنَّ الجاهلَ إذا اتُّخِذَ إمامًا ومُفْتِيًا وقاضيًا؛ كان ذلك باطلًا، فإنه لا يَصلحُ أنْ يَؤُمَّ ولا يُفْتي ولا يقضي، وغيرُ اللهِ لا يَصْلُحُ أنْ يُتَّخَذَ إلهًا يُعْبَدُ ويُدعَى؛ فإنه لا يَخلُقُ ولا يَرزقُ إلَّا هو سُبحانَه، لا مانعَ لما أعطَى، ولا مُعطيَ لما منَع، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منه الجدُّ .

4- في قَولِه تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا رَدٌّ على أصحابِ وَحْدةِ الوُجودِ، الذين يجعَلونَ وُجودَ الخالقِ عينَ وُجودِ المخلوقاتِ؛ وذلك لأنَّ نهيَه سُبحانَه وتعالى أنْ يُجعَلَ معه أو يُدْعَى معه إلهٌ آخرُ، دليلٌ على أنَّ ذلك مُمكِنٌ، كما فعَلَه المُشرِكونَ الذين دَعَوا مع اللهِ آلِهةً أخرى، فلو كانت تلك الآلهةُ هي إيَّاه، ولا شيءَ معه أصْلًا؛ امتنعَ أنْ يُدعَى معه إِلَهٌ آخَرُ، فهذا يدلُّ على أنَّ معه أشياءَ ليسَتْ بآلهةٍ؛ ولا يجوزُ أنْ تُجعَلَ آلهةً، ولا تُدْعَى آلهةً .

5- قال الله تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا فإنَّ المُشرِكَ يرجو بشِرْكِه النَّصرَ تارةً، والحمدَ والثَّناءَ تارةً، فأخبَرَ سُبحانَه أنَّ مَقصودَه ينعَكِسُ عليه، فيحصُلُ له الذَّمُّ والخِذلانُ .

6- القضاءُ في قَولِه تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا هو القَضاءُ الدِّينيُّ -بمعنى: أَمَرَ- ويُقابِلُه القَضاءُ الكَونيُّ -بمعنى: خَلَقَ- كما في قَولِه تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 12] .

7- في قَولِه تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا بعدَ قَولِه سُبحانَه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ دَليلٌ على أنَّ حقَّ الوالِدَينِ بعدَ حقِّ اللهِ عزَّ وجلَّ.

فإن قيل: فأينَ حَقُّ الرَّسولِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم؟

أُجيبَ: بأنَّ حَقَّ اللهِ مُتضَمِّنٌ لحَقِّ الرَّسولِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ اللهَ لا يُعبَدُ إلَّا بما شَرَع الرَّسولُ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم .

8- قال الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الخِطابُ في الآيةِ للنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم، لكِنْ قال: أَلَّا تَعْبُدُوا ولم يقُلْ: «ألَّا تَعبُد»، ونظيرُ ذلك في القُرآنِ قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق: 1] فالخِطابُ الأوَّلُ في رَبُّكَ للرَّسولِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم، والثَّاني عامٌّ، فما الفائِدةُ مِن تَغييرِ الأسلوبِ؟

أجيبَ: أنَّ الفائِدةَ مِن ذلك ما يأتي:

الأوَّلُ: التَّنبيهُ؛ إذ تَنبيهُ المُخاطَبِ أمرٌ مَطلوبٌ للمُتكَلِّم، وهذا حاصِلٌ هنا بتَغييرِ الأُسلوبِ.

الثَّاني: أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم زَعيمُ أمَّتِه، والخِطابُ المُوجَّهُ إليه مُوجَّهٌ لجَميعِ الأُمَّة.

الثَّالثُ: الإشارةُ إلى أنَّ ما خُوطِبَ به الرَّسولُ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم فهو له ولأُمَّتِه، إلَّا ما دلَّ الدَّليلُ على أنَّه مُختَصٌّ به.

الرَّابعُ: الإشارةُ إلى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم مَربوبٌ لا رَبٌّ، عابِدٌ لا معبودٌ؛ فهو داخِلٌ في قَولِه: تَعْبُدُوا وكفى به شَرفًا أن يكونَ عَبدًا للهِ عَزَّ وجَلَّ .

9- قَولُ الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا مُناسَبةُ اقتِرانِ بِرِّ الوالِدَينِ بإفرادِ اللهِ بالعبادةِ؛ مِن حَيثُ إنَّه تعالى هو المُوجِدُ حَقيقةً، والوالِدانِ وَساطةٌ في إنشائِه، وهو تعالى المُنعِمُ بإيجادِه ورِزقِه، وهما ساعيانِ في مصالِحِه .

10- قَولُ الله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا فائِدةُ ذِكرِ عِنْدَكَ أنَّهما يَكبَرانِ في بَيتِه وكَنَفِه، ويكونانِ كَلًّا عليه، لا كافِلَ لهما غيرُه، وربَّما نالَه منهما من المشاقِّ ما كان ينالُهما منه في حالِ الصِّغَرِ .

11- قال الله تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا، ودُخولُ ما هو أعظمُ مِن التأفيفِ مِن أنواعِ الأذى في النهيِ بِطَريقِ الأَولى، ويُسمَّى ذلك مَفهومَ المُوافَقةِ ؛ لأنَّه إذا كان قد نهَى أن يستقْبِلَهما بهذه اللَّفظةِ الدَّالَّةِ على الضَّجرِ والتَّبرُّمِ بهما، فالنَّهيُ عمَّا هو أشدُّ كالشَّتمِ والضَّربِ هو بجهةِ الأولَى، فالمسكوتُ عنه -الذي هو الضربُ والشتمُ- أولَى بالحكمِ -الذي هو التحريمُ- مِن هذا المنطوقِ به الذي هو التأفيفُ .

12- قَولُ الله تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ استَدَلَّ به مَن لم يُجِزْ تَحليفَ الوالِدِ إذا خاصَمَه وَلَدُه، ولا حَبْسَه في دَينِه، ولا قَتلَه به، ولا حَدَّه بقَذفِه .

13- قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ جَناحُ الإنسانِ: جانِبُه، كما أنَّ جَناحَ الطَّيرِ جانِبُه، والولَدُ مأمورٌ بأن يَخفِضَ جانِبَه لأبويه، ويكونَ ذلك على وَجهِ الذُّلِّ لهما لا على وَجهِ الخَفضِ الذي لا ذُلَّ معه، وقد قال للنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يَقُل: جناحَ الذُّلِّ، فالرَّسولُ أُمرَ بخَفضِ جناحِه، وهو جانِبُه، والولَدُ أُمِرَ بخَفضِ جناحِه ذُلًّا، فلا بُدَّ مع خَفضِ جناحِه أن يَذِلَّ لأبويه، بخِلافِ الرَّسولِ؛ فإنَّه لم يُؤمَرْ بالذُّلِّ؛ فاقترانُ ألفاظِ القُرآنِ تدُلُّ على اقترانِ معانيه وإعطاءِ كُلِّ معنًى حَقَّه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا

- قولُه: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تبَعٌ لخِطابِ قولِه: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، والمقصودُ إسماعُ الخِطابِ غَيرَه؛ بقَرينةِ تحقُّقِ أنَّ النَّبيَّ قائمٌ بنبْذِ الشِّركِ، ومُنحٍ على الَّذين يَعْبدون مع اللهِ إلهًا آخَرَ

؛ فالخِطابُ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمُرادُ به أُمَّتُه، وهو من بابِ التَّهييجِ والإلهابِ. وخاطَبَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ الرَّأسَ؛ لأنَّ ذلك أوقعُ في أنفُسِ الأتْباعِ، وإشارةً إلى أنَّه لا يُوحِّدُه حَقَّ توحيدِه سِواهُ. ويجوزُ أنْ يَكونَ خِطابًا عامًّا لكلِّ مَن يَصِحُّ أنْ يُخاطَبَ به أو لكُلِّ أحدٍ ممَّن يَصلُحُ للخِطابِ .

- قولُه: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا تَذييلٌ هو فذلكةٌ لاختلافِ أحوالِ المُسلمينَ والمُشركينَ؛ فإنَّ خُلاصةَ أسبابِ الفوزِ ترْكُ الشِّركِ؛ لأنَّ ذلك هو مبدَأُ الإقبالِ على العملِ الصَّالحِ، فهو أوَّلُ خُطواتِ السَّعيِ لمُريدِ الآخرةِ؛ لأنَّ الشِّركَ قاعدةُ اختلالِ التَّفكيرِ وتَضليلِ العُقولِ، قال اللهُ تَعالى في ذكْرِ آلهةِ المُشركينَ: وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] .

- وقال هنا: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا، ثمَّ قال: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، ثمَّ قال: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ولا تَكرارَ فيها؛ لأنَّ الأُولى في الدُّنيا، والثَّالثةَ في الآخرةِ. والخِطابُ فيهما للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمُرادُ به غيرُه، كما في آيةِ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا. وأمَّا الثَّانيةُ فخطابٌ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيضًا، وهو المُرادُ به .

2- قولُه تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا عطْفٌ على الكلامِ السَّابقِ عطْفَ غرَضٍ على غرَضٍ؛ تخلُّصًا إلى أعمدةٍ من شَريعةِ الإسلامِ، بمُناسبةِ الفذلكةِ المُتقدِّمةِ؛ تَنبيهًا على أنَّ إصلاحَ الأعمالِ مُتفرِّعٌ على نبْذِ الشِّركِ .

- قولُه: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ جِيءَ بخطابِ الجماعةِ؛ لأنَّ النَّهيَ يتعلَّقُ بجميعِ النَّاسِ، وهو تَعريضٌ بالمُشركينَ .

- وقدَّم ذكرَهما، فقال: وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا، ولم يقُلْ: (وإحسانًا بالوالِدَينِ) ليدُلَّ على شِدَّةِ الاهتمامِ، والاعتناءِ بهما، فقولُه: وَبِالْوَالِدَيْنِ مُتعلِّقٌ بقولِه: إِحْسَانًا، لكنه قدَّمه على مُتعلِّقِه .

- قولُه: إِحْسَانًا بلَفظِ التَّنكيرِ، والتَّنكيرُ يدُلُّ على التَّعظيمِ، أي: إحسانًا عَظيمًا كاملًا .

- قولُه: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا عطْفُ الأمْرِ بالإحسانِ إلى الوالِدَينِ على ما هو في معنى الأمْرِ بعبادةِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ هو الخالِقُ، فاستحَقَّ العِبادةَ؛ لأنَّه أوجَدَ النَّاسَ، ولمَّا جعَلَ اللهُ الأبوينِ مظهَرَ إيجادِ النَّاسِ أمَرَ بالإحسانِ إليهما؛ فالخالِقُ مُستحقُّ العبادةِ لغِناهُ عن الإحسانِ، ولأنَّها أعظَمُ الشُّكرِ على أعظَمِ مِنَّةٍ، وسبَبُ الوُجودِ دونَ ذلك، فهو يستحِقُّ الإحسانَ لا العِبادةَ؛ لأنَّه محتاجٌ إلى الإحسانِ دون العِبادةِ، ولأنَّه ليس بمُوجِدٍ حَقيقيٍّ، ولأنَّ اللهَ جبَلَ الوالِدَينِ على الشَّفقةِ على ولَدِهما، فأمَرَ الولدَ بمُجازاةِ ذلك بالإحسانِ إلى أبويْه .

- وجُملةُ إِمَّا يَبْلُغَنَّ بيانٌ لجُملةِ إِحْسَانًا، والخِطابُ لغيرِ مُعيَّنٍ؛ فيعُمُّ كلَّ مُخاطَبٍ، بقرينةِ العطفِ على أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وذلك على أحدِ القولَينِ في المخاطَبِ. وإيثارُ ضميرِ المُفردِ -رَبُّكَ- هنا دونَ ضميرِ الجمْعِ؛ لأنَّه خطابٌ يختَصُّ بمَن له أبوانِ من بين الجماعةِ المُخاطبينَ بقولِه: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ؛ فكان الإفرادُ أنسَبَ به، وإنْ كان الإفرادُ والجمْعُ سواءً في المقصودِ؛ لأنَّ خطابَ غيرِ المُعيَّنِ يُساوي خطابَ الجمْعِ، وخَصَّ هذه الحالةَ بالبيانِ؛ لأنَّها مَظِنَّةُ انتفاءِ الإحسانِ بما يَلْقى الولدُ من أبيه وأُمِّه من مَشقَّةِ القيامِ بشُؤونِهما، ومِن سُوءِ الخُلُقِ منهما .

- ووجْهُ تَعدُّدِ فاعلِ يَبْلُغَنَّ مُظهَرًا دونَ جعْلِه بضميرِ التَّثنيةِ بأنْ يُقال: إمَّا يَبْلغانِّ عندك الكبرَ: الاهتمامُ بتخصيصِ كلِّ حالةٍ من أحوالِ الوالِدَينِ بالذِّكرِ، ولم يَستغْنِ بإحدى الحالتينِ عن الأُخرى؛ لأنَّ لكلِّ حالةٍ بواعثَ على التَّفريطِ في واجِبِ الإحسانِ إليهما، فقد تكونُ حالةُ اجتماعِهما عند الابنِ تَستوجِبُ الاحتمالَ منهما لأجْلِ مُراعاةِ أحدِهما الَّذي الابنُ أشَدُّ حُبًّا له، دونَ ما لو كان أحدُهما مُنفرِدًا عندَه بدونِ الآخرِ الَّذي ميْلُه إليه أشدُّ؛ فالاحتياجُ إلى ذكْرِ أحدِهما في هذه الصُّورةِ؛ للتَّنبيهِ على وُجوبِ المُحافظةِ على الإحسانِ له. وقد تكون حالةُ انفرادِ أحدِ الأبوينِ عندَ الابنِ أخَفَّ كُلفةً عليه من حالةِ اجتماعِهما، فالاحتياجُ إلى أَوْ كِلَاهُمَا في هذه الصُّورةِ للتَّحذيرِ من اعتذارِ الابنِ لنفْسِه عن التَّقصيرِ بأنَّ حالةَ اجتماعِ الأبوينِ أحرَجُ عليه، فلأجْلِ ذلك ذُكِرَت الحالتانِ، وأُجْرِيَ الحكمُ عليهما على السَّواءِ، فكانت جُملةُ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ بتَمامِها جوابًا لـ إِمَّا .

- قولُه: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا... أُكِّدَ فعْلُ الشَّرطِ بنونِ التَّوكيدِ؛ لتَحقيقِ الرَّبطِ بينَ مضمونِ الجوابِ، ومضمونِ الشَّرطِ في الوُجودِ .

- قولُه: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ليس المقصودُ مِن النَّهيِ عن أنْ يقولَ لهما: أُفٍّ خاصَّةً، وإنَّما المقصودُ النَّهيُ عن الأذَى الَّذي أقلُّه الأذَى باللِّسانِ بأوجزِ كلمةٍ، ثمَّ عطَفَ عليه النَّهيَ عن نَهْرِهما؛ لئلَّا يحسِبَ أنَّ ذلك تأديبٌ لصلاحِهما، وليس بالأذى. ثمَّ ارْتَقى في الوصايةِ بالوالِدَينِ إلى أمْرِ الولدِ بالتَّواضُعِ لهما تواضُعًا يبلُغُ حَدَّ الذُّلِّ لهما؛ لإزالةِ وَحشةِ نُفوسِهما إنْ صارا في حاجةٍ إلى مَعونةِ الولدِ؛ لأنَّ الأبوينِ يَبْغيانِ أنْ يكونا هما النَّافعينِ لولدِهما، والقصدُ مِن ذلك التَّخلُّقُ بشُكرِه على إنعامِهما السَّابقِ عليه .

- قولُه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا... فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ فهذه الآياتُ أوَّلُ تَفصيلٍ للشَّريعةِ للمُسلمينَ وقَعَ بمكَّةَ، وأنَّ ما ذُكِرَ في هذه الآياتِ مقصودٌ به تَعليمُ المُسلمينَ؛ ولذلك اختَلَفَ أسلوبُه عن أسلوبِ نَظيرِه في سُورةِ (الأنعامِ) -في قولِه: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا... الآياتِ [الأنعام: 151- 153] - الَّذي وُجِّهَ فيه الخطابُ إلى المُشركينَ لتوقيفِهم على قواعدِ ضَلالتِهم؛ فمِن الاختلافِ بين الأسلوبينِ: أنَّ هذه الآيةَ افتُتِحَتْ بفعْلِ القضاءِ المُقْتضي الإلزامَ، وهو مُناسِبٌ لخطابِ أُمَّةٍ تَمتثِلُ أمْرَ ربِّها، وافتُتِحَ خطابُ سُورةِ (الأنعامِ) بـ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. ومنها: أنَّ هذه الآيةَ جعَلَتِ المَقْضيَّ هو تَوحيدُ اللهِ بالعِبادةِ؛ لأنَّه المُناسبُ لحالِ المُسلمينَ، فحذَّرَهم من عِبادةِ غيرِ اللهِ، وآيةُ (الأنعامِ) جعَلَتِ المُحرَّمَ فيها هو الإشراكَ باللهِ في الإلهيَّةِ المُناسِبَ لِما كانوا عليه من الشِّركِ؛ إذ لا عِبادةَ لهم .

3- قَولُه تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا

- قولُه: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ خفْضُ الجَناحِ كِنايةٌ عن حُسنِ التَّدبيرِ؛ لأنَّ الطَّائرَ إذا ضَمَّ فرْخَه إليه للتَّربيةِ خفَضَ له جَناحَه، وكأنَّه قيل للولدِ: اكفُلْ والديْكَ بأنْ تَضُمَّهما إلى نفْسِك، كما فعَلَا ذلك بك حالَ صِغَرِك. أو يكونُ خفْضُ الجَناحِ كِنايةً عن فعْلِ التَّواضُعِ؛ لأنَّ الطَّائرَ إذا أراد الطَّيرانَ والارتفاعَ نشَرَ جَناحَه، وإذا أراد ترْكَ الطَّيرانِ وترْكَ الارتفاعِ خفَضَ جَناحَه .

- وبُولِغَ بذكْرِ الذُّلِّ هنا، ولم يُذكَرْ في قولِه: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] ؛ وذلك بسبَبِ عِظَمِ حَقِّ الوالِدَينِ .

- قولُه: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ فيه إضافةُ الجَناحِ إلى الذُّلِّ -أو إلى الذِّلِّ- للبيانِ والمُبالغةِ، كما أُضيفَ حاتمٌ إلى الجودِ على معنى: واخفِضْ لهما جَناحَك الذَّليلَ، أو الذَّلولَ، وفيه مُبالغةٌ؛ لأنَّه وُصِفَ بالمصدرِ، فكأنَّه جعَلَ الجَناحَ عينَ الذُّلِّ. أو يجْعَلَ لذُلِّه -أو لذِلِّه- جَناحًا خفيضًا؛ مُبالغةً في التَّذلُّلِ والتَّواضُعِ لهما. وسِرُّ ذكْرِ الجَناحِ وخفْضِه، تَصويرُ الذُّلِّ كأنَّه مُشاهَدٌ مَحسوسٌ .

- قولُه: مِنَ الرَّحْمَةِ التَّعريفُ في الرَّحْمَةِ عوَضٌ عن المُضافِ إليه، أي: من رَحمتِك إيَّاهما، و(مِن) ابتدائيَّةٌ، أي: الذُّلِّ النَّاشئِ عن الرَّحمةِ لا عن الخوفِ أو عن المُداهنةِ، والمُقصودُ: اعتيادُ النَّفسِ على التَّخلُّقِ بالرَّحمةِ باستحضارِ وُجوبِ مُعاملتِه إيَّاهما بها حتَّى يصيرَ له خُلقًا، كما قيل:

إنَّ التَّخلُّقَ يأتي دونَه الخُلقُ

- قولُه: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا الكافُ في قولِه: كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا للتَّشبيهِ، وهو ما يُعبَّرُ عنه بمعنى التَّعليلِ في الكَافِ، والمقصودُ من التشبيهِ تَمثيلُ حالةٍ خاصَّةٍ فيها الإشارةُ إلى تَربيةٍ مُكيَّفةٍ برَحمةٍ كاملةٍ؛ فإنَّ الأبُوَّةَ تَقْتضي رَحمةَ الولدِ، وصِغَرَ الولدِ يَقْتضي الرَّحمةَ به، ولو لم يكُنْ ولدًا؛ فصار قولُه: كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا قائمًا مقامَ قولِه: كما ربَّياني ورَحِماني بتربيتِهما؛ فالتربيةُ تَكمِلةٌ للوُجودِ، وهي وحْدَها تَقتضِي الشُّكرَ عليها. والرحمةُ حِفظٌ للوجودِ مِن اجتنابِ انتهاكِه، وهو مُقتضَى الشُّكرِ؛ فجَمَع الشُّكرَ على ذلك كلِّه بالدُّعاءِ لهما بالرَّحمةِ . وقيل: «ما» في كَمَا: مَصدريَّةٌ، والوَقتُ فيه مُقدَّرٌ، أي: ارحَمْهما في وَقتٍ أحوجَ ما يَكونانِ إلى الرَّحمةِ مِن جَميعِ الأوقاتِ، كَوقتِ رَحمتِهما عليَّ وأنا في حالةِ الصِّغرِ. وليسَ ذلك إلَّا في القِيامةِ، والرحمةُ هي الجَنَّةُ. وقيل: إنَّ الكافَ في كَمَا رَبَّيَانِي؛ لتأكيدِ الوُجودِ، أي: لتاكيدِ وُجودِ الرحمةِ، أي: أَوْجِدْ رَحمتَهما إيجادًا مُؤكَّدًا مُحقَّقًا، كما أَوجَدَ الوالدانِ التربيةَ إيجادًا مُحقَّقًا في الزَّمانِ الماضِي .

- وخصَّ التربيةَ بالذكرِ؛ ليتذكرَ العبدُ شفقةَ الأبوينِ وتعبَهما في التربيةِ، فيزيدَه ذلك إشفاقًا لهما، وحنانًا عليهما .

4- قولُه تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا تَذييلٌ لآيةِ الأمْرِ بالإحسانِ بالوالِدَينِ وما فصلَ به، وما يَقْتضيه الأمْرُ من اختلافِ أحوالِ المأمورينَ بهذا الأمْرِ قبْلَ وُرودِه بينَ مُوافقٍ لمُقتضاهُ ومُفرِّطٍ فيه .

- قولُه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ كأنَّه تَهديدٌ على أنْ يُضْمِرَ لوالديْه كراهةً واستثقالًا .

- قولُه: فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا تَذييلٌ بوصفِ الأوَّابينَ المُفيدِ بعُمومِه معنى الرُّجوعِ إلى اللهِ تعالى وإلى ما يُرْضيه -لأنَّ الصَّلاحَ في قولِه: إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ شمَلَ الصَّلاحَ الكاملَ والصَّلاحَ المشوبَ بالتَّقصيرِ-؛ ففُهِمَ من الكلامِ معنى احتباكٍ بطريقِ المُقابلةِ، والتَّقديرُ: إنْ تَكونوا صالحينَ أوَّابينَ إلى اللهِ، فإنَّه كان للصَّالحينَ مُحْسِنًا، وللأوَّابينَ غفورًا، وهذا يعُمُّ المُخاطبينَ وغيرَهم، وبهذا العُمومِ كان تَذييلًا .

- وقيل: كان مقتضَى الظاهرِ في تركيبِ الآيةِ أن يُقالَ: (إنْ تكونوا صالحينَ فإنَّه كان لكم غفورًا)؛ لأنَّ المقامَ للإضمارِ، لكنَّه عدَل عن الضميرِ إلى الظاهرِ، فقيل: فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا لينصَّ على شرطِ المغفرةِ، وهو الأوبةُ والرجوعُ

=====================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (26-31)

ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غريب الكلمات :

 

تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا: التَّبذيرُ: الإسرافُ في النفقةِ، وتفريقُها في غيرِ ما أحلَّ الله عزَّ وجلَّ، ويُقالُ لكلِّ مضيِّعٍ مالَه، والتَّبذيرُ: التَّفريقُ، يُقالُ: بَذرتُ الأرض، أي: فرَّقْت البذرَ فيها، أي: الحبَّ، وأصلُ (بذر): هو نَثْرُ الشَّيءِ وتفريقُه

.

مَغْلُولَةً: أي: مُمْسَكةً مَقبوضةً، كأنَّها بالمنعِ مَشدودةٌ بالغُلِّ: وهو القَيدُ يُجعَلُ في العُنُقِ .

مَحْسُورًا: أي: مُنقَطِعًا عن النَّفَقةِ والتصَرُّفِ، لِذَهابِ ما يَقوى به، وانحِسارِه عنه، ومنه البَعيرُ الحَسيرُ: الذي قد حَسَره السَّفَرُ، أي: ذهَبَ بلَحمِه وقُوَّتِه، فلا انبِعاثَ به، وأصلُ (حسر): يدُلُّ على كَشفِ الشَّيءِ وذَهابِه .

وَيَقْدِرُ: أي: يُضَيِّقُ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلغِ الشَّيءِ ونِهايتِه، كأنَّما جُعِلَ رِزقُه بقَدْرٍ يَسيرٍ .

إِمْلَاقٍ: أي: فَقرٍ، وتجَرُّدٍ عن المالِ، وأصلُ (ملق): يدلُّ على تَجَرُّدٍ ومَلاسةٍ، كأنَّه بإنفاقِه لم يَبقَ له إلَّا المَلَقاتُ، وهي الحِجارةُ العِظامُ المُلْسُ التي لا يتعَلَّقُ بها شَيءٌ .

خِطْئًا: أي: إثمًا وخَطيئةً، يُقالُ: خَطِئ يَخطَأُ خِطْئًا مِثلُ أثِمَ يأثَمُ إثمًا: إذا تعَمَّد الخَطأَ، وأخطأَ: إذا لم يتعَمَّدْ، فالخِطْءُ: ما تُعمِّدَ، والخَطَأ: ما لم يُتعَمَّدْ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: وأحسِنْ إلى أقربائِك، وأعطِهم حُقوقَهم مِن البِرِّ والصِّلةِ والإحسانِ، وأعْطِ المِسكينَ حقَّه مِن الصدقةِ، والمُسافِرَ المُنقَطِعَ عن أهلِه ومالِه حقَّه مِن الضيافةِ، ولا تُفَرِّقْ أموالَك بإنفاقِها في غَيرِ حَقِّها؛ إنَّ المُنفِقينَ أموالَهم في غيرِ ما شرع اللهُ، هم إخوانُ الشَّياطينِ؛ لاتِّباعِهم إيَّاهم، وكان الشَّيطانُ شديدَ الجُحودِ لنِعَمِ رَبِّه.

ثم يقولُ تعالى: وإن أعرَضْتَ عن إعطاءِ هؤلاء الذين أُمِرْتَ بإعطائِهم؛ لِعَدَمِ وُجودِ ما تُعطيهم منه، راجيًا الرِّزقَ مِن عندِ رَبِّك- فقُلْ لهم قَولًا حَسَنًا جميلًا، كالوعْدِ الجَميلِ بإعطائِهم، والدُّعاءِ لهم بالغِنى وسَعةِ الرِّزقِ.

ثمَّ يرشدُ الله عبادَه إلى كيفيةِ إنفاقِ أموالِهم، والتصرفِ فيها، وأفضلِ الطرقِ في ذلك، فيقولُ: ولا تُمسِكْ يَدَك عن الإنفاقِ في سَبيلِ الخَيرِ بُخلًا، ولا تُسرِفْ في الإنفاقِ، فتُعطيَ فوقَ طاقتِك، فتَقعُدَ مَلومًا، مُنقَطِعًا عن النَّفَقةِ؛ بسَبَبِ ضَياعِ مالِك.

ثمَّ يبيِّنُ سبحانَه أنَّ مرجعَ الأمورِ كلِّها إليه، فهو المعطي، وهو المانعُ، فيقول: إنَّ رَبَّك يُوسِّعُ الرِّزقَ على من يشاءُ، ويُضَيِّقُه على من يشاءُ، وَفْقَ عِلمِه وحِكمَتِه سُبحانَه وتعالى؛ إنَّه خبيرٌ بعبادِه، بصيرٌ بهم.

ثمَّ يقولُ تعالى: ولا تَقتُلوا -أيُّها الآباءُ- أولادَكم خَوفًا مِن الفَقرِ؛ فإنَّه سُبحانَه يَرزُقُ الأبناءَ كما يَرزُقُ الآباءَ، إنَّ قَتْلَ الأولادِ خَطيئةٌ وذَنبٌ عَظيمٌ.

تفسير الآيات:

 

وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا حَثَّ اللهُ تعالى على الإحسانِ إلى الوالِدَينِ بالخُصوصِ؛ عمَّ بالأمرِ به لكُلِّ ذي رَحِمٍ وغيرِه

؛ فإنَّ القَرابةَ كُلَّها لما كانت مُتَشَعِّبةً عن الأبُوَّةِ؛ فلا جَرَم انتَقَل مِنَ الكَلامِ على حُقوقِ الأبَوَينِ إلى الكَلامِ على حُقوقِ القَرابةِ .

وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.

أي: وأعْطِ القَريبَ -يا مُحمَّدُ - حقَّه من الصِّلةِ والعَطفِ والمُواساةِ، والمِسكينَ حَقَّه مِن الصَّدَقةِ، والمُسافِرَ المُنقَطِعَ المُجتازَ بك حَقَّه مِنَ الضِّيافةِ، والإعانةِ على وُصولِه إلى مَقصِدِه .

وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا رغَّبَ في البَذلِ، وكانت النَّفسُ قَلَّما يكونُ فِعلُها قَوامًا بينَ الإفراطِ والتَّفريطِ؛ أتبَعَ ذلك قَولَه تعالى :

وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا.

أي: ولا تُفَرِّقْ أموالَك بإنفاقِها في غَيرِ حَقِّها ومَواضِعِها التي تستَحِقُّ الإنفاقَ فيها، وذلك كالإنفاقِ في مَعصيةِ اللهِ تعالى .

كما قال تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [النساء: 5] .

وقال سُبحانَه: وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141] .

وعن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حرَّمَ عليكم عُقوقَ الأمَّهاتِ، ووأْدَ البَناتِ، ومنعًا وهاتِ، وكَرِهَ لكم ثلاثًا: قيلَ وقال، وكثرةَ السُّؤال، وإضاعةَ المال) ) .

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27).

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ.

أي: إنَّ المُفَرِّقينَ أموالَهم في غَيرِ حَقِّها ووجْهِها المَشروعِ كانوا إخوانَ الشَّياطينِ؛ لاتِّباعِهم إيَّاهم في التَّبذيرِ والسَّفَهِ ومَعصيةِ اللهِ .

وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا.

أي: وكان الشَّيطانُ لرَبِّه جَحودًا لنِعَمِه لا يَشكُرُها، فيَترُكُ طاعةَ اللهِ، ويُقبِلُ على مَعصيتِه .

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28).

أي: وإنْ تُعرِضْ -يا محمَّدُ- عن إعطاءِ الأقارِبِ والمَساكينِ وأبناءِ السَّبيلِ حُقوقَهم؛ لقِلَّةِ مالِك، وأنتَ تنتَظِرُ رِزقًا مِن عندِ ربِّك؛ تَرْجو أن يُيسِّرَه لك، فلا تُؤيِّسْهم مِن عَطائِك، ولا تُغلِظْ لهم القَولَ، وإنَّما قلْ لهم قولًا ليِّنًا لَطيفًا طيِّبًا تقبَلُه نُفوسُهم، كالاعتِذارِ الحَسَنِ، والوعْدِ الجَميلِ بإعطائِهم، والدُّعاءِ لهم بالرِّزقِ .

كما قال تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة: 263] .

وقال سُبحانَه: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى: 10] .

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ رَسولَه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم بالإنفاقِ في الآيةِ المتقَدِّمةِ، عَلَّمَه في هذه الآيةِ أدَبَ الإنفاقِ .

وأيضًا فإنَّ هذا عَودٌ إلى بَيانِ التَّبذيرِ والشُّحِّ، فالجُملةُ عَطفٌ على جُملةِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء: 26] .

وأيضا فإنَّ الله تعالى لَمَّا أمَرَ بالجُودِ الذي هو لازِمُ الكَرَمِ؛ نهى عن البُخلِ الذي هو لازِمُ اللؤمِ، في سياقٍ يُنَفِّرُ منه ومِنَ الإسرافِ، فقال تعالى :

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ.

أي: ولا تُمسِكْ يَدَك بُخلًا عن النَّفَقةِ في الخَيرِ كُلَّ الإمساكِ وكأنَّها مُقَيَّدةٌ إلى عُنُقِك، فلا تستطيعُ أن تَمُدَّها لتُعطيَ أحدًا شيئًا من الخَيرِ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ الله صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((مَثَلُ البَخيلِ والمُنفِقِ كمَثَلِ رَجُلَينِ عليهما جُبَّتانِ مِن حَديدٍ مِن ثُدِيِّهما إلى تَراقِيهما ؛ فأمَّا المُنفِقُ فلا يُنفِقُ إلَّا سَبَغَت أو وَفَرَت على جِلْدِه، حتى تُخفِيَ بَنانَه وتَعفوَ أثَرَه ، وأمَّا البَخيلُ فلا يُريدُ أن يُنفِقَ شَيئًا إلَّا لَزِقَت كُلُّ حَلْقةٍ مَكانَها، فهو يُوَسِّعُها ولا تَتَّسِعُ )) .

وعن أسماءَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((انفَحي أو انضِحي أو أنْفِقي، ولا تُحصي فيُحصِيَ اللهُ عليك، ولا تُوعِي فيُوعِيَ اللهُ عليك )) .

وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ.

أي: ولا تَبسُطْ يدَك بالعَطاءِ والإنفاقِ كُلَّ البَسطِ، فتُنفِقَ فَوقَ طاقتِك، وتبقَى بلا مالٍ لَدَيك .

فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا.

أي: فتَبقى ملومًا عندَ الله تعالى، وعندَ النَّاسِ، وعندَ نَفسِك، مُنقَطِعًا، لا شيءَ لديك لتُنفِقَه، عاجزًا عن إقامةِ شُؤونِك .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67].

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان سَبَبُ البُخلِ خَوفَ الفَقرِ، وسَبَبُ البَسطِ مَحبَّةَ إغناءِ المُعطي؛ قال مُسَلِّيًا لرَسولِه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم عَمَّا كان يُرهِقُه من الإضاقةِ عن التَّوسعةِ على مَن يسألُه، بأنَّ ذلك إنَّما هو لِتَربيةِ العِبادِ بما يُصلِحُهم، لا لِهَوانٍ بالمُضَيَّقِ عليه، ولا لإكرامٍ للمُوَسَّعِ عليه .

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ.

أي: إنَّ ربَّك -يا محمَّدُ- يُوسِّعُ رِزقَه على مَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ويُضَيِّقُه على مَن يشاءُ منهم، بحَسَبِ حِكمَتِه سُبحانَه .

إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا.

أي: لأنَّه خَبيرٌ ببواطِنِ عِبادِه وأحوالِهم وأخبارِهم، بَصيرٌ بظَواهِرِهم وكيفيَّةِ تَدبيرِهم في أرزاقِهم وغَيرِها؛ فهو أعلَمُ بمصالِحِ عبادِه وما يَليقُ بكُلٍّ منهم، فيَعلَمُ مَن يَصلُحُ له الغِنى، ويَعلَمُ مَن يَصلُحُ له الفَقرُ .

كما قال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [العنكبوت: 62] .

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أتَمَّ سُبحانَه ما أراد مِن الوَصيَّةِ بالأُصولِ وما تَبِعَ ذلك، وختَمَه بما قَرَّرَ مِن أنَّ قَبضَ الرِّزقِ وبَسْطَه، منه مِن غَيرِ أن يَنفَعَ في ذلك حِيلةٌ؛ أوصاهم بالفُروعِ؛ لِكَونِهم في غايةِ الضَّعفِ .

وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ الأُولَى أنَّه هو المُتكَفِّلُ بأرزاقِ العِبادِ، حيثُ قال: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الإسراء: 30] ؛ أتبَعَه بِقَولِه :

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ.

أي: ولا تَقتُلوا -أيُّها الآباءُ- أولادَكم؛ خَوفًا مِن أن يُصيبَكم الفَقرُ بالإنفاقِ عليهم .

نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ.

أي: نحن نُعطي أولادَكم -أيُّها الآباءُ- رِزقَهم، ولَستُم الرَّازِقينَ لهم، ونُعطيكم رِزقَكم أيضًا؛ فلا تَخشَوُا الفَقرَ بسَبَبِهم .

إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا.

أي: إنَّ قتلَ الآباءِ لأولادِهم ذَنبٌ عَظيمٌ .

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ؟ قال: أن تَجعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَك، قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: أن تَقتُلَ ولَدَك؛ مِن أجْلِ أن يطعَمَ مَعَك، قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: أن تُزانيَ حَليلةَ جارِك ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا فيه الأمرُ بصِلةِ الأرحامِ، وإكرامِ المَساكينِ، والغُرَباءِ

.

2- قال الله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا مَنعُ ذي القُربى والمِسكينِ وابنِ السَّبيلِ حَقَّهم، انحرافٌ في جانِبِ الإمساكِ،  والتَّبذيرُ انحرافٌ في جانِبِ البَذلِ،  ورِضا اللهِ فيما بينهما، وقد اتَّفَق شَرْعُ الرَّبِّ تعالى وقَدَرُه على أنَّ خِيارَ الأُمورِ أوساطُها .

3- قال الله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ، والمرادُ بالأخوةِ المماثلةُ التامةُ، وتجنبُ مماثلةِ الشيطانِ ولو في خصلةٍ واحدةٍ مِن خصالِه واجبٌ، فكيف فيما هو أعمُّ مِن ذلك، كما يدلُّ عليه إطلاقُ المماثلةِ، والإسرافُ في الإنفاقِ من عملِ الشيطانِ، فإذا فعَله أحدٌ مِن بني آدمَ فقد أطاع الشيطانَ، واقتدَى به ، فليحذرِ المرءُ مِن عملٍ هو مِن شأنِ إخوانِ الشياطينِ، وليحذرْ أن ينقلبَ مِن إخوانِ الشياطينِ .

4- أنَّ الإنسانَ ليس له أنْ يَصْرِفَ المالَ إلَّا فيما ينفَعُه في دينِه أو دُنياه، وما سِوى ذلك سَفَهٌ وتبذيرٌ نهى اللهُ عنه بقَولِه: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، وقال بعضُ السلفِ: (لو أنفقتَ درهمًا في معصيةِ الله كنتَ مبذِّرًا، ولو أنفقتَ ملءَ الأرضِ في طاعةِ الله لم تكنْ مبذِّرًا) .

5- ينبغي على وليِّ الأمْرِ إذا سألَه النَّاسُ ما لا يَصلُحُ بَذْلُه مِن الوِلاياتِ والأموالِ، والمَنافعِ والأجورِ، والشَّفاعةِ في الحُدودِ وغيرِ ذلك، أنْ يُعَوِّضَهم مِن جهةٍ أخرى إنْ أمكَنَ، أو يَرُدَّهم بمَيسورٍ مِن القَولِ -ما لم يُحتَجْ إلى الإغلاظِ-؛ فإنَّ ردَّ السائلِ يُؤلِمُه؛ خُصوصًا مَن يحتاجُ إلى تأليفِه، وقد قال الله تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى: 10] ، وقال أيضًا: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إلى قَولِه: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ، أي: لطيفًا، برفقٍ ووعدٍ بالجميلِ عندَ سنوحِ الفرصةِ، واعتذارٍ بعدمِ الإمكانِ في الوقتِ الحاضرِ؛ لينقلبوا مطمئنةً خواطرُهم، كما قال تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة: 263] .

6- قال الله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا هذا مِن لُطفِ اللهِ تعالى بالعِبادِ؛ أمَرَهم بانتِظارِ الرَّحمةِ والرِّزقِ منه؛ لأنَّ انتظارَ ذلك عِبادةٌ، وكذلك وَعْدُهم بالصَّدقةِ والمَعروفِ عند التيسُّرِ عِبادةٌ حاضِرةٌ؛ لأنَّ الهَمَّ بفِعلِ الحَسَنةِ حَسَنةٌ؛ ولهذا ينبغي للإنسانِ أن يَفعَلَ ما يَقدِرُ عليه مِن الخَيرِ، ويَنويَ فِعلَ ما لم يَقدِرْ عليه؛ لِيُثابَ على ذلك، ولعَلَّ اللهَ يُيَسِّرُ له بسَبَبِ رَجائِه .

7- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا فيه الأمرُ بالقَولِ اللَّيِّنِ عندَ عَدَمِ وُجودِ ما يُعطى منه ، فالآيةُ تأديبٌ مِنَ اللَّهِ سبحانَه لعبادِه إذا سَأَلهم سائلٌ ما ليسَ عندَهم كيفَ يقولونَ، وبِمَ يَرُدُّونَ، ولقد أحسنَ مَنْ قال:

إِنْ لَا يَكُنْ وَرِقٌ يَوْمًا أجودُ بها

للسَّائِلينَ فإنـِّي لَيـِّنُ العُودِ

لا يَعْدَمُ السائلونَ الخيرَ مِن خُلُقي

إمَّا نَوالي وإمَّا حسنُ مردودي

 

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قد جمعَت هذه الآيةُ ثلاثَ وصايا مِمَّا أوصى اللهُ به، بقَولِه: وَقَضَى رَبُّكَ... الآيات:

فأمَّا إيتاءُ ذي القُربى فالمقصِدُ منه مُقارِبٌ للمَقصِدِ مِن الإحسانِ للوالدينِ؛ رَعيًا لاتِّحادِ المنبَتِ القَريبِ، وشَدًّا لآصرةِ العشيرةِ التي تتكوَّنُ منها القبيلةُ، وفي ذلك صلاحٌ عَظيمٌ لنِظامِ القبيلةِ وأمنِها وذبِّها عن حَوزتِها.

وأمَّا إيتاءُ المسكينِ فلِمَقصِدِ انتظامِ المجتمعِ بألَّا يكونَ مِن أفرادِه مَن هو في بؤسٍ وشَقاءٍ، على أنَّ ذلك المسكينَ لا يعدو أن يكونَ مِن القبيلةِ في الغالِبِ أقعَدَه العَجزُ عن العَمَلِ، والفَقرُ عن الكفايةِ.

وأمَّا إيتاءُ ابنِ السَّبيلِ فلإكمالِ نظامِ المجتَمَعِ؛ لأنَّ المارَّ به مِن غيرِ بنيه بحاجةٍ عَظيمةٍ إلى الإيواءِ ليلًا ليقيَه من عوادي الوحوشِ واللُّصوصِ، وإلى الطَّعامِ والدِّفءِ أو التظَلُّلِ؛ وقايةً مِن إضرارِ الجوعِ والقُرِّ أو الحَرِّ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ احتُجَّ بهذه الآيةِ على الحجرِ على المبذرِ، فيجبُ على الإمامِ منعُه منه بالحجرِ والحيلولةِ بينه وبينَ مالِه إلَّا بمقدارِ نفقةِ مثلِه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا الرَّحمةُ هنا هي الرِّزقُ الذي يتأتَّى منه العَطاءُ بقَرينةِ السِّياقِ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الرِّزقَ سَبَبٌ للرَّحمةِ؛ لأنَّه إذا أعطاه مُستَحِقَّه أثيبَ عليه .

4- قَولُه تعالى: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ فيه إخبارٌ بأنَّ رِزقَ الجَميعِ على اللهِ تعالى، واللهُ سيُسَبِّبُ لهم ما يُنفِقونَ على الأولادِ وعلى أنفُسِهم. وفيه بَيانُ أنَّ اللهَ تعالى سيرزُقُ كُلَّ حيوانٍ خَلَقَه ما دامَت حياتُه باقيةً، وأنَّه إنَّما يَقطَعُ رِزقَه بالمَوتِ، وبَيَّنَ اللهُ تعالى ذلك؛ لئلَّا يتعَدَّى بَعضُهم على بَعضٍ، ولا يَتناوَل مالَ غَيرِه؛ إذ كان اللهُ قد سبَّبَ له مِنَ الرِّزقِ ما يُغنيه عن مالِ غَيرِه .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا هذه الآيةُ الكريمةُ دالَّةٌ على أنَّ اللهَ تعالى أرحَمُ بعِبادِه مِنَ الوالِدِ بوَلَدِه؛ لأنَّه ينهى تعالى عن قَتلِ الأولادِ، كما أوصَى بالأولادِ في الميراثِ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا فيه النَّهيُ عن قَتلِ الأولادِ مَخافةَ الفَقرِ .

7- في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ حُجَّةٌ في وجوبِ نَفَقةِ الآباءِ على الأبناءِ؛ إذ لو كانتِ النَّفَقةُ غيرَ واجِبةٍ لهم عليهم، لكان في النَّاسِ مَن تَسمَحُ نَفسُه بتَركِ الإنفاقِ، وكان مع عَدَمِ الإجبارِ عليه آمنًا مِن الإملاقِ، والآيةُ عامَّةُ المَخرَجِ على جَميعِ الآباءِ، فلا تَدُلُّ إلَّا على الوُجوبِ، بل على الإجبارِ مع المَنعِ .

8- في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ عِظَةٌ للمُغتمِّينَ بكَثرةِ الأولادِ خَشيةَ العَجْزِ عن القِيامِ بنَفَقاتهم ومُؤْناتهم؛ ففي ضَمانِه -تبارك وتعالى- لنَفَقتِهم أمانٌ للمَضمونِ له ما يتَّقيه مِنَ العَجزِ، ويَحذَرُه مِن دُخولِ الفَقرِ عليه بسبَبِ أولادِه، وبِشارةٌ يَسكُنُ إليها المُؤمِنُ، ويَزولُ اضطرابُ قَلبِه بما لا يُخلِفُ ضامِنُه مِن وَعدِه، وإذا كان في حياتِه مَضمونًا له رِزقُ أولادِه وهو قَيِّمُهم، فبعدَ وفاتِه أحْرَى أن تَحسُنَ خِلافةُ ضامِنِه عليهم! وفي ذلك تطييبُ أنفُسِ مَن يتركُ بعده صِغارًا، وسكونُ قلوبِهم إلى من لا يُخلِفُ ميعادًا، ولا يُضَيِّعُ لهالكٍ أولادًا .

9- في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ دَلالةٌ على أنَّ تحديدَ النَّسْلِ خَوفًا مِن ضِيقِ الرِّزْقِ؛ سُوءُ ظَنٍّ باللهِ تعالى! فاللهُ سُبحانَه وتعالى إذا خَلَقَ خَلْقًا، فلا بُدَّ أنْ يرزُقَه .

10- في قوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ دلالةٌ على أنَّه كلما كَثُرَ الأولادُ انفتحتْ أبوابُ الرزقِ، إلَّا أنَّ كثرةَ الرزقِ بكثرة الأولادِ لها شرطٌ مهمٌّ؛ وهو تقوى اللهِ وصحةُ التوكلِ عليه؛ لقوله سُبحانَه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ

 

[الطلاق: 2، 3].

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا

- قَولُه: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ابتدأ بحَقِّ القريبِ تأكيدًا لحَقِّه، ولأنَّه هو مقتضى طبيعةِ التَّرتيبِ، ولأنَّه إذا سَخَت النفوسُ بإيتاءِ حَقِّ القريبِ ومَرَنت عليه، اعتادت الإيتاءَ وصار مِن مَلَكاتِها، فسهُلَ عليها إيتاءُ كُلِّ حَقٍّ ولو كان لأبعدِ النَّاسِ، إلى غير ذلك

.

- قولُه: وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا فيه ذِكْرُ المفعولِ المُطلَقِ تَبْذِيرًا بعدَ قولِه: وَلَا تُبَذِّرْ؛ لتأكيدِ النَّهيِ، كأنَّه قيلَ: لا تُبذِّرْ، لا تُبذِّرْ، مع ما في المصدرِ من استحضارِ جِنْسِ المَنْهيِّ عنه استحضارًا لِما تُتَصَوَّرُ عليه تلك الحقيقةُ بما فيها من المفاسِدِ .

2- قَولُه تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا

- قولُه: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ تَعليلٌ؛ للمُبالغةِ في النَّهيِ عن التَّبذيرِ ببيانِ أنَّه يجعَلُ صاحِبَه مَلْزوزًا في قَرَنِ الشَّياطينِ ، وقد زِيدَ تأكيدُ ذلك بلفْظِ كَانُوا المُفيدِ أنَّ تلك الأُخوَّةَ صِفَةٌ راسخةٌ فيهم، وكَفى بحقيقةِ الشَّيطانِ كراهةً في النُّفوسِ واستقباحًا .

- وفي الكلامِ إيجازُ حذْفٍ، تقديرُه: ولا تُبذِّرْ تَبذيرًا، فتصيرَ من المُبذِّرينَ؛ إنَّ المُبذِّرينَ كانوا إخوانَ الشَّياطينِ، ثمَّ أكَّدَ التَّحذيرَ بجُملةِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا .

- قولُه: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا فيه التَّعرُّضُ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ؛ للإشعارِ بكمالِ عُتُوِّه؛ فإنَّ كُفرانَ نعمةِ الرَّبِّ -مع كونِ الرُّبوبيَّةِ مِن أقوَى الدَّواعي إلى شُكْرِها- غايةُ الكُفْرانِ، ونِهايةُ الضَّلالِ والطُّغيانِ .

3- قَولُه تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا

- قولُه: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا علَّلَ الإعراضَ بطلَبِ الرَّحمةِ، وهي كِنايةٌ عن الرِّزقِ والتَّوسعةِ، وطلَبُ ذلك ناشِئٌ عن فُقدانِ ما يجودُ به ويُؤْتيه مَن سأَلَه، وسمَّى الرِّزقَ رحمةً، فرَدَّهم ردًّا جميلًا، فوضَعَ الابتغاءَ موضِعَ الفقدِ؛ لأنَّ فاقِدَ الرِّزقِ مُبتَغٍ له، فكان الفقدُ سبَبَ الابتغاءِ، والابتغاءُ مُسبَّبًا عنه؛ فوضَعَ المُسبَّبَ مَوضعَ السَّببِ، وكأنَّ المعنى: وإنْ تُعْرِضْ عنهم لإعسارِك، فوضَعَ المُسبَّبَ -وهو ابتغاءُ الرَّحمةِ- موضِعَ السَّببِ، وهو الإعسارُ .

- قولُه: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ الإعراضُ هنا كِنايةٌ عن عدَمِ الإيتاءِ؛ لأنَّ الإمساكَ يُلازِمُه الإعراضُ .

- قولُه: ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ الرَّحمةُ هنا هي الرِّزقُ الَّذي يتأتَّى منه العطاءُ بقرينةِ السِّياقِ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الرِّزقَ سبَبٌ للرَّحمةِ؛ لأنَّه إذا أعطاهُ مُستحِقَّه أُثيبَ عليه، وهذا إدماجٌ .

4- قولُه تعالى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا أتَتْ هذه الآيةُ تَعليمًا بمعرفةِ حقيقةٍ من الحقائقِ الدَّقيقةِ؛ فكانت من الحكمةِ، وجاء نظْمُها على سبيلِ التَّمثيلِ، فصِيغَتِ الحِكمةُ في قالبِ البلاغةِ، وأمَّا البلاغةُ فبتَمْثيلِ الشُّحِّ والإمساكِ بغلِّ اليدِ إلى العُنقِ، وهو تَمثيلٌ لمنْعِ الشَّحيحِ وإعطاءِ المُسرِفِ، وهو مَبنيٌّ على تخيُّلِ اليدِ مصدرًا للبذْلِ والعطاءِ، وتخيُّلِ بسْطِها كذلك، وغلُّها شُحًّا، ومِن ثمَّ قالوا: له يدٌ على فُلانٍ، أي: نعمةٌ وفضْلٌ؛ فجاء التَّمثيلُ في الآيةِ مَبنيًّا على التَّصرُّفِ في ذلك المعنى بتَمثيلِ الَّذي يشُحُّ بالمالِ بالَّذي غُلَّتْ يدُه إلى عُنقِه، أي: شُدَّتْ بالغُلِّ، وهو القيدُ من السَّيرِ يُشَدُّ به يدُ الأسيرِ .

5- قَولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا

- مَوقعُ هذه الجُملةِ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ موقعُ اعتراضٍ بالتَّعليلِ لِمَا تقدَّمَ من الأمْرِ بإيتاءِ ذي القُربى والمساكينِ، والنَّهيِ عن التَّبذيرِ، وعن الإمساكِ المُفيدِ الأمْرَ بالقصدِ، بأنَّ هذا واجبُ النَّاسِ في أموالِهم وواجِبُهم نحوَ قَرابتِهم وضُعفاءِ عشائرِهم، فعليهم أنْ يَمْتثلوا ما أمَرَهم اللهُ من ذلك. وليس الشُّحُّ بمُبْقٍ مالَ الشَّحيحِ لنفْسِه، ولا التَّبذيرُ بمُغْنٍ مَن يُبذِّرُ فيهم المالَ؛ فإنَّ اللهَ قدَّرَ لكلِّ نفْسٍ رزْقَها .

- قولُه: إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا تَعليلٌ لِما سبَقَ، وهو جُملةُ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، أي: هو يفعَلُ ذلك؛ لأنَّه عليمٌ بأحوالِ عِبادِه وما يَليقُ بكلٍّ منهم بحسَبِ ما جُبِلَت عليه نُفوسُهم؛ فلأنَّه يعلَمُ سِرَّهم وعلَنَهم، يعلَمُ مِن مصالِحهم ما يَخْفَى عليهم .

6- قَولُه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا

- قولُه: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيث قال في سورةِ (الأنعام): وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام: 151] ؛ فاختَلفَ ترتيبُ ذِكْرِ الآباءِ والأبناء في الآية هنا مع ترتيبها في سورةِ (الأنعام)، ووجهُ ذلك: أنَّ هذا التعبيرَ مبنيٌّ على اختلافِ الحالين، ففي آيةِ سورةِ (الأنعامِ) يقول اللهُ تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ -أي: مِن فقرٍ- يعني: إذا كنتم فقراءَ؛ فلا تقتلوا أولادَكم، ثم قال: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فبَدأَ بالآباء لأنهم فقراءُ؛ وجَعَلَ رزقَهم قبلَ ذِكْرِ رِزْقِ الأولادِ المقتولين، أمَّا في آيةِ سورةِ (الإسراءِ): وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خشية إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهم وَإِيَّاكمْ فلِأنَّ الآباءَ القاتلين هنا ليسوا فقراءَ -بل هم أغنياءُ- لكنهم يخشون الفقرَ! فكان الأنسبُ أنْ يُبْدَأَ بذِكْرِ رِزْقِ الأولادِ قبلَ ذِكْرِ رِزْقِ الآباءِ؛ لأنَّ الآباءَ رزقُهم موجودٌ، فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ، وقيل: تَقديمُ ضميرِ الأولادِ على المُخاطبينَ على عكْسِ ما وقَعَ في سُورةِ (الأنعامِ)؛ للإشعارِ بأصالتِهم في إفاضةِ الرِّزقِ، أو لأنَّ الباعثَ على القتْلِ هناك الإملاقُ النَّاجِزُ؛ ولذلك قيل هناك: مِنْ إِمْلَاقٍ [الأنعام: 151] وهاهنا الإملاقُ المُتوقَّعُ؛ ولذلك قيل هنا: خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ؛ فكأنَّه قيل: نرزُقُهم -من غيرِ أنْ يَنتقِصَ من رزْقِكم شَيءٌ، فيَعْتريكم ما تَخْشونَه- وإيَّاكم أيضًا رِزقًا إلى رزقِكم .

- قولُه: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ تَعليلٌ للنَّهيِ المذكورِ بإبطالِ مُوجِبِه في زعْمِهم .

- قولُه: إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا تأكيدٌ للنَّهيِ، وتحذيرٌ من الوُقوعِ في المَنهيِّ. وفعْلُ كَانَ تأكيدٌ للجُملةِ

=====================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (32-35)

ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات:

 

فَاحِشَةً: أي: فِعلةً مُتناهِيةً في القُبحِ، وأصلُ (فحش): يدلُّ على قُبحٍ في شَيءٍ وشَناعةٍ

.

لِوَلِيِّهِ: أي: مَن يَلي أمرَه مِنْ وَرَثَتِه إنْ كانُوا مَوْجودينَ، أو مِمَّنْ له سلطانٌ إنْ لم يَكُونوا مَوجودينَ، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه، وأصْلُ (ولي): يدلُّ على القُرْب، سواء من حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّينُ، أو الصَّداقةُ، أو النُّصرةُ، أو الاعتقادُ .

سُلْطَانًا: أي: تَسَلُّطًا على القاتِل، أو حُجَّةً، وأصْلُ السُّلطانِ: القوَّةُ والقَهرُ، مِنَ التَّسلُّطِ؛ ولذلك سُمِّيَ السُّلطانُ سُلطانًا .

يَبْلُغَ أَشُدَّهُ: أي: يتناهَى في الثَّبَاتِ إلى حدِّ الرِّجالِ، أو يبلُغ مُنْتَهى شَبابِه وقُوَّتِه، والأَشُدُّ قيل: جمعٌ لا واحدَ له، وقيل: مفردُه شَدٌّ، وأَصْلُ (شدد): يدلُّ على قوَّةٍ في الشَّيءِ .

بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ: أي: المِيزانِ العَدلِ السَّوِيِّ، وأصلُ (قسط) هنا: يدلُّ على العَدلِ .

تَأْوِيلًا: أي: عاقِبةً، والعاقِبةُ تُسَمَّى تأويلًا؛ لأنَّها مآلٌ، مِن آلَ يَؤولُ أَوْلًا: إذا رجَعَ، وأصلُ (أول): ابتداءُ الأمرِ وانتهاؤُه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يذكرُ الله تعالى بعضَ النواهي، فيقولُ: ولا تَقربوا -أيُّها النَّاسُ- الزِّنا، وابتَعِدوا عن مُقَدِّماتِه ودواعِيه؛ كي لا تَقَعوا فيه؛ إنَّه كان فِعلًا شديدَ القُبحِ، وبِئسَ الطَّريقُ طَريقُه، ولا تَقتُلوا النَّفسَ التي حَرَّم اللهُ قَتْلَها إلَّا بحَقِّها، كالقِصاصِ أو رَجمِ الزَّاني المُحصَنِ، أو قَتلِ المُرتَدِّ. ومن قُتِل ظُلمًا بغيرِ حَقٍّ، فقد جعَلْنا لوليِّه سلطةً في طلَبِ قَتْلِ قاتِلِه، أو الدِّيةِ، أو العَفوِ، وليسَ لوليِّ المَقتولِ أن يتجاوزَ حَدَّ اللهِ في القِصاصِ، كأن يقتُلَ بالواحِدِ اثنينِ أو أكثَرَ، أو يُمَثِّلَ بالقاتِلِ، أو يقتُلَ غيرَ القاتِلِ؛ إنَّ اللهَ مُعِينٌ وليَّ المَقتولِ على القاتِلِ حتى يأخُذَ منه حَقَّه.

ثمَّ يقولُ تعالى: ولا تقرَبوا أموالَ اليتامى إلَّا بالطَّريقةِ التي هي أحسَنُ لهم، بالمحافظةِ عليها وتثميرِها وتنميتِها، حتى يبلُغَ اليَتيمُ سِنَّ البُلوغِ والرشدِ، ويتمكَّنَ مِن التصَرُّفِ في المالِ، فيُدفَعَ إليه مالُه.

ثم يأمرُ الله تعالى بالوفاءِ بالعهدِ، فيقول: وأتِمُّوا الوفاءَ بالعُهودِ التي التَزَمتُم بها؛ لأنَّ العُهودَ مسؤولٌ عنها يومَ القيامةِ. وأتِمُّوا الكيلَ ولا تَنقُصوه إذا كِلْتم لِغَيرِكم، وزِنوا للنَّاسِ بالمِيزانِ السَّويِّ الذي لا غِشَّ فيه، إنَّ العَدلَ في الكَيلِ والميزانِ خَيرٌ لكم، وأحسَنُ عاقِبةً في الدُّنيا والآخِرةِ.

تفسير الآيات:

 

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا نهى اللهُ تعالى عن قَتلِ الأولادِ، نهى عن التسَبُّبِ في إيجادِه مِن الطَّريقِ غَيرِ المَشروعةِ، فنهى عن قِربانِ الزِّنا، واستلزَمَ ذلك النَّهيَ عن الزِّنا

.

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا.

أي: ولا تَدنُوا -أيُّها النَّاسُ- مِن فِعلِ الزِّنا، وابتَعِدوا عن مُقَدِّماتِه ودواعيه .

إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا.

أي: إنَّه كان ذنبًا عَظيمًا غايةً في القُبحِ؛ في الشَّرعِ، والعَقلِ، والفِطرةِ، وبِئسَ طريقًا طَريقُ الزِّنا؛ لأنَّه يُؤدِّي إلى أنواعٍ مِن المفاسدِ في الدُّنيا ، وإلى العذابِ والخِزيِ في الآخرةِ، فما أسوأَه مِن طَريقٍ !

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا نهى اللهُ تعالى عن قَتلِ الأولادِ، وعن إيجادِهم مِن الطَّريقِ غَيرِ المَشروعةِ، نهى عن قَتلِ النَّفسِ، فانتقَلَ مِن الخاصِّ إلى العامِّ .

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.

أي: ولا تَقتُلوا النَّفسَ التي حرَّم اللهُ قتلَها إلَّا إذا استَحقَّتِ القَتلَ شَرعًا .

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: ((لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مُسلمٍ يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي رَسولُ اللهِ، إلَّا بإحدى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، والنَّفسُ بالنَّفسِ، والتَّارِكُ لدِينِه المُفارِقُ للجَماعةِ )) .

وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا.

أي: ومَن قُتِل ظُلمًا بغيرِ حَقٍّ، فقد جعَلْنا لوليِّ المَقتولِ سُلطةً وتسَلُّطًا على القاتِلِ؛ فهو بالخِيارِ: إن شاء قتَلَه قِصاصًا، وإن شاء أخَذَ الدِّيةَ، وإن شاء عَفا عنه .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم قال: ((ومَن قُتِلَ له قَتيلٌ، فهو بخَيرِ النَّظَرينِ؛ إما أن يُفدَى، وإمَّا أن يُقِيدَ ) .

فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا.

أي: فلا يَتَجاوَزْ وَلِيُّ المَقتولِ ما حُدَّ له، فيتعدَّى بقَتلِ غَيرِ القاتِلِ، أو يَقتُل بالواحِدِ اثنَينِ أو أكثَرَ، أو يُمَثِّل بالقاتِلِ؛ إنَّ وَلِيَّ المَقتولِ كان مُعانًا على القاتِلِ بتَسليطِه عليه بالقِصاصِ، أو بأخْذِ الدِّيةِ، أو بالعَفوِ .

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى النَّهيَ عن إتلافِ النُّفوسِ؛ أتبَعَه بالنَّهيِ عن إتلافِ الأموالِ؛ لأنَّ أعَزَّ الأشياءِ بعدَ النُّفوسِ الأموالُ، وأحَقُّ النَّاسِ بالنَّهيِ عن إتلافِ أموالِهم هو اليَتيمُ؛ لأنَّه لِصِغَرِه وضَعفِه وكَمالِ عَجزِه يَعظُمُ ضَررُه بإتلافِ مالِه؛ فلهذا السَّبَبِ خَصَّهم اللهُ تعالى بالنَّهيِ عن إتلافِ أموالِهم .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا نهى عن الإغارةِ على الأرواحِ، والأبضاعِ التي هي سَبَبُها؛ أتبَعَه النَّهيَ عن نَهبِ ما هو عَديلُها؛ لأنَّ به قِوامَها -وهو الأموالُ- وبدأ بأحَقِّ ذلك بالنَّهيِ؛ لشِدَّةِ الطَّمعِ فيه، لضَعفِ مالِكِه، فقال تعالى :

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

أي: ولا تَقْربوا مالَ اليتيمِ إلَّا بالطَّريقةِ التي هي أحسَنُ وأفضَلُ؛ وذلك بإصلاحِه والمُحافظةِ عليه، وتَثميرِه وتَنميتِه .

كما قال تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء: 2].

وقال سُبحانَه: وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] .

وعن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسول الله صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم قال: ((يا أبا ذرٍّ، إنِّي أراك ضعيفًا، وإنِّي أُحِبُّ لك ما أُحبُّ لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنينِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يتي مٍ ) .

حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.

أي: لا تَقرَبوا مالَ اليتيمِ إلا بالتي هي أحسنُ حتَّى يبلُغَ الحُلُمَ والرُّشدَ، بحيث يَكمُلُ عَقلُه ويتمَكَّنُ مِن تَدبيرِ مالِه، فإذا بلغَ ذلك زالتْ عنه الوِلايةُ، وصار وليَّ نَفسِه، ودُفِعَ إليه مالُه .

كما قال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء: 6] .

وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ.

أي: وأوفُوا -أيُّها النَّاسُ- بالعُهودِ التي عاهَدْتُم اللهَ عليها، وبالعُقودِ التي بينكم .

كما قال سُبحانَه: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام: 152] .

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] .

إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا .

أي: أوفُوا بالعهودِ؛ لأنَّ اللهَ سيَسألُكم عنها يومَ القيامةِ، ويُجازيكم على الوَفاءِ بها وعَدَمِه؛ فلا تَنقُضوها .

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان التَّقديرُ بالكَيلِ أو الوَزنِ مِن جُملةِ الأماناتِ الخَفيَّةِ، كالتصَرُّفِ لليَتيمِ، وكان الائتِمانُ عليه كالمَعهودِ فيه؛ أتبَعَه بقَولِه :

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ.

أي: وأوفُوا النَّاسَ الكَيلَ إذا كِلْتُم لهم، وأوفُوهم حُقوقَهم -بالعَدلِ- تامَّةً مِن غَيرِ نَقصٍ .

كما قال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام: 152] .

وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ.

أي: وزِنوا للنَّاسِ بالمِيزانِ السَّويِّ الذي لا انحِرافَ فيه ولا اعوِجاجَ، ولا غِشَّ ولا خديعةَ .

كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن: 9].

ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.

أي: ذلك الوَفاءُ في الكَيلِ والمِيزانِ خَيرٌ لكم -أيُّها النَّاسُ- مِن التَّطفيفِ، وأحسَنُ عاقِبةً لكم في دُنياكم: بالبَرَكة وانشِراحِ النَّفسِ وغيرِ ذلك، وفي أُخراكم: بالثَّوابِ مِنَ اللهِ تعالى

 

.

كما قال تعالى حاكيًا قَولَ شُعَيبٍ عليه السَّلامُ: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [هود: 85- 86] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ في إسنادِ التَّحريمِ إلى اللهِ بَعثٌ للنُّفوسِ على الخَشيةِ مِن الإقدامِ على المُخالَفةِ، وتنبيهٌ لها على ما يَكُفُّها عن الإقدامِ، وهو استِشعارُ عَظَمةِ اللهِ تعالى

. .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا هذا أمرٌ بالعَدلِ، وإيفاءِ المكايِيلِ والموازينِ بالقِسطِ مِن غَيرِ بَخسٍ ولا نَقصٍ. ويُؤخَذُ مِن عُمومِ المعنى النَّهيُ عن كُلِّ غِشٍّ في ثَمَنٍ أو مُثْمَنٍ أو مَعقودٍ عليه، والأمرُ بالنُّصحِ والصِّدقِ في المُعاملةِ .

3-  وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فإيفاءُ الكَيلِ والوَزنِ خَيْرٌ من التطفيفِ فيهما، تفضيلًا لخيرِ الآخرةِ الحاصِلِ مِن ثوابِ الامتِثالِ، على خيرِ الدُّنيا الحاصِلِ مِن الاستِفضالِ الذي يطفِّفُه المطَفِّفُ، وهو أيضًا أفضَلُ منه في الدُّنيا؛ لأنَّ انشراحَ النَّفسِ الحاصِلَ للمَرءِ مِن الإنصافِ في الحَقِّ أفضَلُ مِن الارتباحِ الحاصِلِ له باستِفضالِ شَيءٍ مِن المال، وهو أَحْسَنُ تَأْوِيلًا؛ فالتَّطفيفُ يعودُ على المطَفِّفِ باقتناءِ جزءٍ قليلٍ مِن المالِ، ويُكسِبُه الكراهيةَ والذَّمَّ عند النَّاسِ، وغَضَبَ اللهِ والسُّحتَ في مالِه، مع احتِقارِ نَفسِه في نفسِه؛ والإيفاءُ بعَكسِ ذلك يُكسِبُه مَيلَ النَّاسِ إليه ورِضا اللهِ عنه ورضاه عن نَفسِه والبركةَ في مالِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّما أتى تعالى بالقِربانِ تَعظيمًا له؛ لِما فيه مِن المفاسِدِ الجارَّةِ إلى الفِتَنِ؛ بالقَتلِ، وتَضييعِ النَّسَبِ، والتسَبُّبِ في إيجادِ نَفسٍ بالباطِلِ

، وأيضًا فالنَّهيُ عن قِربانِه أبلَغُ مِن النَّهيِ عن مُجَرَّدِ فِعلِه؛ لأنَّ ذلك يَشمَلُ النَّهيَ عن جَميعِ مُقَدِّماتِه ودواعيه؛ فإنَّ مَن حامَ حولَ الحِمى يُوشِكُ أن يقَعَ فيه، خصوصًا هذا الأمرَ الذي في كثيرٍ من النُّفوسِ أقوى داعٍ إليه . فالنَّهيُ عن قِربانِ الزِّنا نَهيٌ عن جَميعِ الأسبابِ المُوصلةِ إليه، كاللَّمْسِ والنَّظَرِ، فلا يَحِلُّ للمُؤمِنِ أنْ يتمَتَّعَ تمتُّعًا نَفسيًّا أو جِنسيًّا، يعني: سواءٌ كان تَمَتُّعُه بالنَّظَرِ ونَحوِه مُجَرَّدَ راحةٍ نفسيَّةٍ، أو لأجلِ التمَتُّعِ الجنسيِّ والشَّهوةِ، فكلُّ ذلك حَرامٌ، ولا يجوزُ في غيرِ الزَّوجةِ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا التَّعبيرُ عن الزِّنا بالسَّبيلِ يدُلُّ على كَثرةِ مُتعاطيه بالدَّلالةِ على سَعةِ مَنهَجِه، فالسبيلُ هي الطريقُ الواسعةُ .

3- في قَولِه تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ردٌّ على الخوارجِ فيما يَزعُمونَ أنَّ الذُّنوبَ كُلَّها كفرٌ؛ فالله سُبحانَه وتعالى حين أمَرَ بالقَتلِ في انتهاكِ مَحارِمِه جعَلَه حَدًّا لا كُفرًا، فحَرَّمَ القَتلَ بقَولِه: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ثمَّ قال: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ فجَعَلَ السُّلطانَ للوَليِّ لا لِنَفسِه -جلَّ جلالُه- ولو كان كَفَرَ بالقَتلِ؛ لأمَرَ بالقَتلِ، وإنْ لم يُرِدِ الوليُّ قَتْلَه .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ يدُلُّ على أنَّه لا يَتجاوَزُ الحَدَّ المَشروعَ له: فلا يَقتُلْ غَيرَ قاتِلِه، ولا يُمَثِّل به حيثُ لمْ يُمَثِّلْ، ولا يَقتُلْه بأسوأَ مِمَّا قَتَل، حتى لو قَتَل بالتَّغريقِ في ماءٍ عَذبٍ لم يُغرِقْه في ماءٍ ملحٍ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا فيه دَليلٌ على أنَّ الحَقَّ في القَتلِ للوَليِّ، فلا يُقتَصُّ إلَّا بإذنِه، وإنْ عفا سقَطَ القِصاصُ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا فيه دَليلٌ على أنَّ وَلِيَّ المَقتولِ يُعينُه اللهُ على القاتِلِ ومَن أعانَه، حتَّى يتمَكَّنَ مِن قَتلِه .