الجمعة، 19 يناير 2024

17.سورة الاسراء {111 آية مكية}

 17.سورة الاسراء {111 آية مكية}

17.سورة الاسراء {111 آية مكية} 

 سورةُ الإسراءِ

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

تُسَمَّى هذه السُّورةُ سُورةَ (بني إسرائيلَ)

، ومما يدلُّ على ذلك:

1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَنامُ على فِراشِه، حتى يقرأَ كُلَّ لَيلةٍ بـ «بني إسرائيلَ» و«الزُّمَر» )) .

2- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: (سُورةُ «بني إسرائيلَ» و«الكَهفِ» و«مَريمَ» و«طه» و«الأنبياءِ»: هُنَّ مِن العِتاقِ الأُوَلِ ، وهُنَّ مِن تِلادي .

وتُسَمَّى أيضًا سورةَ (الإسراء) كما في كثيرٍ مِن المصاحِفِ

فضائل السورة وخصائصها:

 

1- كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقرؤُها كُلَّ لَيلةٍ:

فقد كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَنامُ على فِراشِه، حتى يقرأَها كُلَّ لَيلةٍ، كما في حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها المتقدِّمِ قريبًا.

2- أنَّها مِن السُّوَرِ العَتيقةِ، ومِن قَديمِ ما حُفِظَ عند الصَّحابةِ:

كما في أثر عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه المتقدم قريبًا.

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ الإسراءِ مَكِّيَّةٌ

، وحُكِي الإجماعُ على ذلك

 

.

مقاصد السورة :

 

1- تَرسيخُ أصولِ العَقيدةِ الإسلاميَّةِ، وتَنقيتُها مِن كُلِّ ما يَشوبُها

.

2- الحديثُ عن الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وبيانُ مَوقِف المُشرِكينَ منه .

3- بيانُ بعضِ التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ المتضَمِّنةِ لقواعِدِ السُّلوكِ الفَرديِّ والجَماعيِّ

 

.

موضوعات السورة:

 

مِن أهَمِّ مَوضوعاتِ هذه السُّورةِ:

1- ذِكرُ الإسراءِ، وبَيانُ حِكمَتِه، والإشارةُ إلى المِعراجِ.

2- ذكرُ الكتابِ الذي آتاه الله تعالى لموسَى عليه السلامُ؛ ليكونَ هدايةً لقومِه، وإخبارُ بني إسرائيلَ أنَّهم سيُفسدونَ في الأرضِ مَرَّتَينِ.

3- بيانُ فضلِ القُرآن، وأنه يهدي لِلَّتي هي أقومُ، ويبشِّرُ المؤمنينَ بالأجرِ الكبيرِ.

4- إثباتُ دلائِلِ تفَرُّدِ اللهِ بالإلهيَّةِ، والاستِدلالُ بآيةِ اللَّيلِ والنَّهارِ وما فيهما مِنَ المِنَن على إثباتِ الوَحدانيَّةِ، وأنَّ كُلَّ إنسانٍ يكونُ معه كِتابُه قد سُجِّلَت فيه حَسَناتُه وسَيِّئاتُه.

5- تقرير قاعِدة التَّبِعةِ الفَرديَّةِ في الهُدى والضَّلالِ، وقاعِدةِ التَّبِعةِ الجماعيَّةِ في التصَرُّفاتِ والسُّلوكِ.

6- بيانُ سُنَّةِ الله سبحانَه في القُرونِ الماضيةِ الذين أهلَكَهم، وأنَّ عاقبةَ الترفِ والفسقِ الدمارُ والهلاكُ.

7- بيانُ أنَّ سعادةَ الآخرةِ منوطةٌ بإرادتِها، وبأنْ يسعَى الإنسانُ لها وهو مؤمنٌ.

8- الأمرُ بعِبادةِ الله سُبحانَه، وذِكرُ مُقَوِّماتِ الحَياةِ الاجتِماعيَّةِ مِن الإحسانِ للوالِدَينِ، وذَوي القُربى، والتوسُّطِ في إنفاقِ المالِ، والنَّهيُ عن قَتلِ الأولادِ، والنَّهيُ عن قَتلِ النَّفسِ وعن الزِّنا، والنَّهيُ عن التصَرُّفِ في مالِ اليَتيمِ إلَّا بالتي هي أحسَنُ حتى يَبلُغَ أشُدَّه، والأمرُ بالوَفاءِ بالعَهدِ، والوَفاءِ بالكَيلِ والميزانِ، والنهيُ عن أن يَقفُوَ الإنسانُ ما لا عِلْمَ له به.

9- النهيُ عن اتخاذِ آلهةٍ معَ الله، وبيانُ الدليلِ على بطلانِ ادعائِهم أنَّ مع الله آلِهةً أخرى، والتنديدُ بعاداتِ أهلِ الجاهليَّةِ في كراهِيَتِهم للبَناتِ.

10- بيانُ تَصريفِ الله سُبحانَه في القُرآنِ؛ ليتَذَكَّرَ النَّاسُ، إلَّا أنَّه لم يزِدْهم إلَّا نفورًا.

11- ذِكرُ تَسبيحِ كُلِّ ما في الوجودِ لله سبحانَه.

12- ذكرُ جانبٍ مِن أقوالِ المشركينَ فيما يتعلَّق بالبعثِ، ودحضُها، وأمرُ المؤمنينَ بقولِ الكلمةِ التي هي أحسنُ.

13- ذكرُ قِصَّةِ الخَلقِ والتَّكوينِ، وتكريمِ آدَمَ بالأمرِ بالسُّجودِ له، ومَوقِفِ إبليسَ مِن ذلك، وإعلانِه مَوقِفَه مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وبيانُ أنَّ الشَّيطانَ ليس له سُلطانٌ على عِبادِ اللهِ المُؤمِنينَ.

14- بَيانُ أنواعٍ مِن نِعَمِ اللهِ في البَرِّ والبَحرِ، وأنه يَكشفُ الضُّر عَمَّن يَستَغيثونَ به، فإذا كشَفَ الضُّرَّ عنهم أعرَضوا.

15- ذكرُ تكريمِ الله لبني آدَمَ، وبعضِ مَشاهِدِ يَومِ القيامةِ.

16- بيانُ تثبيتِ الله لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمرُه بالمداومةِ على الصلاةِ، وعلى قراءةِ القرآنِ، وأن يَدعو اللهَ أن يُحسِنَ مُدْخَلَه ومُخْرَجَه، ويُعلِنَ مَجيءَ الحَقِّ وزُهوقَ الباطِلِ.

17- الثناءُ على القرآنِ وبيانُ إعجازِه، وذكرُ المطالبِ المتعنتةِ التي طالب بها المشركونَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ورَدُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على هذا بأنَّه خارِجٌ عن وظيفةِ الرَّسولِ وطَبيعةِ الرِّسالةِ.

18- حكايةُ جانبٍ مِن قصةِ موسَى -عليه السلامُ- معَ فرعونَ.

19- بيانُ أنَّ هذا القرآنَ أنزَله الله تعالى بالحقِّ، وبالحقِّ نزَل، وأنَّه فصَّله وبيَّنه وأحكَمه ليقرأَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الناسِ على تؤدةٍ وترتيلٍ، وأنَّه نزَّله مفرقًا، وأنَّ أهلَ الكِتابِ والعُلَماءَ الذين عَرَفوا الوَحيَ والنبُوَّةَ إذا يُتلَى القُرآنُ عليهم يَخِرُّونَ للأذقانِ سُجَّدًا خاشِعينَ لله.

20- خَتمُ السُّورةِ بالأمرِ بحمدِ الله الذي لم يتَّخذْ ولدًا، ولم يكنْ له شريكٌ في الملكِ، ولم يكنْ له وليٌّ مِن الذلِّ، والأمرِ بتكبيرِه.

===========

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (1-3)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

 

بَارَكْنَا حَوْلَهُ: أي: جَعَلْنا حولَه البركةَ، والبركةُ هي: ثبوتُ الخيرِ الإلهيِّ في الشيءِ، وأصلُ (برك): الزِّيادةُ والنماءُ، والكثرةُ والاتساعُ

.

وَكِيلًا: أي: مانعًا وحافظًا وكفيلًا، ووكيلُ الرجلِ في مالِه هو الذي كفَله له، وقام به، وأصلُ (وكل): يدلُّ على اعتمادِ غيرِك في أمرِك .

ذُرِّيَّةَ: الذُّرِّيَّةُ: الأولادُ، وأولادُ الأولادِ، فهي اسمٌ يَجمعُ نَسلَ الإنسانِ مِن ذَكَرٍ وأُنثَى. قيل: أصلُها مِن ذرَأ، أي: خلَق؛ لأنَّها خلقُ الله، وحُذِفت الهمزةُ منها. وقيل: أصلُها مِن الذَّرِّ، بمعنَى التَّفريقِ؛ لأنَّ اللَّه تعالى ذَرَّهم في الأرضِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ

قولُه: أَلَّا تَتَّخِذُوا: (أنْ) مصدريَّةٌ ناصِبةٌ، و(لا) نافيةٌ. والمصدرُ المؤوَّلُ مَنصوبٌ على نزعِ الخافِضِ، أي: لئلَّا تتَّخذوا، أو بألَّا تتَّخذوا. وقيل: (أنْ) مفسِّرةٌ لِما تضمَّنَه الكتابُ في قوله: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن الأمرِ والنَّهيِ، و(لا) ناهيةٌ جازمةٌ، وانصَرف الكلامُ من الغَيبةِ إلى الخِطابِ، وجملةُ (لا تتَّخِذوا) تفسيريةٌ لا محلَّ لها.

قَولُه: ذُرِّيَّةَ: منصوبةٌ على النِّداءِ، أي: يا ذريَّةَ مَن حمَلْنا. أو منصوبةٌ على الاختصاصِ. وقيل: منصوبةٌ على المفعولِ الأوَّلِ المؤخَّرِ لـ (تتَّخذوا)، والثاني هو (وَكِيلًا) فقُدِّمَ، والمعنى: لا تتَّخذوا ذريَّةَ مَن حمَلْنا مع نوحٍ مِن دوني وكيلًا. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

افتتح اللهُ تعالى السورة بتنزيهِ نَفسِه عن كُلِّ ما لا يليقُ به سُبحانَه؛ فقال: سبحانَ الذي سيَّر عَبدَه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جزءًا من اللَّيلِ، مِن المَسجِدِ الحرامِ بـ «مكَّةَ» إلى المسجدِ الأقصى بـ «بيتِ المَقدِس» الذي بارك اللهُ حَولَه بالزُّروعِ والثِّمارِ والأنهارِ وغَيرِ ذلك، وجعَلَه موضعًا لكثيرٍ مِن الأنبياءِ؛ ثمَّ بيَّن الحكمةَ مِن الإسراءِ به، وهي أنَّه أسرَى به لِيُشاهِدَ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن عَجائِبِ قُدرةِ اللهِ، إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى هو السَّميعُ البَصيرُ.

وبعدَ أن بيَّن الله سبحانَه جانبًا مِن مظاهرِ تكريمِه لنبيِّه محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أتبَع ذلك بالحديثِ عما أكرَم به نبيَّه موسَى عليه السلام، فأخبر أنه أعطى موسى عليه السَّلامُ التَّوراةَ، وجعَلَها هاديًا لبني إسرائيلَ؛ لئلا يتَّخِذوا غَيرَ اللهِ تعالى وليًّا أو مَعبودًا يفَوِّضونَ إليه أمورَهم، ثم قال تعالى: يا سُلالةَ الذين أنجيناهم وحَمَلْناهم مع نوحٍ في السَّفينةِ، لا تُشرِكوا باللهِ في عبادتِه، وكونوا كأبيكم نوحٍ، واشكُروني على نِعَمي.

تفسير الآيات:

 

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)  .

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا.

أي: تَنزيهًا لله

عن كُلِّ ما لا يَليقُ به، الذي سيَّرَ عَبدَه مُحَمَّدًا في جُزءٍ مِنَ اللَّيلِ .

عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُتيتُ بالبُراقِ -وهو دابَّةٌ أبيضُ طويلٌ، فَوقَ الحِمارِ ودونَ البَغلِ، يَضَعُ حافِرَه عند مُنتهى طَرْفِه - قال: فرَكِبْتُه حتى أتيتُ بيتَ المَقدِس، قال: فرَبَطْتُه بالحَلْقةِ التي يَربِطُ به الأنبياءُ، قال: ثمَّ دخلتُ المَسجِدَ، فصَلَّيتُ فيه ركعتَينِ، ثمَّ خَرَجتُ فجاءني جبريلُ عليه السَّلامُ بإناءٍ مِن خَمرٍ، وإناءٍ مِن لَبَنٍ، فاختَرْتُ اللَّبَنَ، فقال جبريلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اختَرْتَ الفِطرةَ. ثمَّ عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ، فاستفتَحَ جبريلُ، فقيل: من أنت؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا، فإذا أنا بآدَمَ، فرَحَّبَ بي، ودعا لي بخيرٍ، ثم عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ الثَّانيةِ، فاستفتَحَ جِبريلُ عليه السَّلامُ، فقيل: من أنت؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا، فإذا أنا بابنَيِ الخالةِ: عيسى ابنِ مَريمَ، ويحيى بنِ زكريَّاءَ، صَلَواتُ اللهِ عليهما، فرحَّبا، ودَعَوَا لي بخير، ثمَّ عَرَجَ بي إلى السَّماءِ الثَّالثةِ، فاستفتحَ جبريلُ، فقيل: مَن أنت؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا، فإذا أنا بيوسُفَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذا هو قد أُعطِيَ شَطْرَ الحُسنِ، فرَحَّبَ ودعا لي بخيرٍ، ثم عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ الرَّابعةِ، فاستفتَحَ جِبريلُ عليه السَّلامُ، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قال: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا فإذا أنا بإدريسَ، فرَحَّبَ ودعا لي بخيرٍ، قال الله عزَّ وجَلَّ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم: 57] ، ثم عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ الخامسةِ، فاستفتَحَ جِبريلُ، قيل: مَن هذا؟ فقال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا فإذا أنا بهارونَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَحَّب ودعا لي بخيرٍ، ثم عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ السَّادسةِ، فاستفتحَ جِبريلُ عليه السَّلامُ، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا، فإذا أنا بموسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرحَّبَ ودعا لي بخيرٍ، ثمَّ عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ السَّابعةِ، فاستفتَحَ جِبريلُ، فقيل: من هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِحَ لنا فإذا أنا بإبراهيمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُسنِدًا ظَهْرَه إلى البيتِ المَعمورِ، وإذا هو يَدخُلُه كُلَّ يَومٍ سَبعونَ ألفَ مَلَكٍ لا يَعودونَ إليه، ثمَّ ذهَبَ بي إلى السِّدرةِ المُنتهى، وإذا ورَقُها كآذانِ الفِيَلةِ، وإذا ثَمَرُها كالقِلالِ، قال: فلمَّا غَشِيَها مِن أمرِ اللهِ ما غشِيَ تغَيَّرَت، فما أحدٌ مِن خَلقِ الله يستطيعُ أن يَنعَتَها مِن حُسنِها! فأوحى اللهُ إليَّ ما أوحى، ففَرَض عليَّ خمسينَ صلاةً في كُلِّ يومٍ وليلةٍ، فنزَلْتُ إلى موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ما فَرَضَ ربُّك على أمَّتِك؟ قلتُ: خَمسينَ صَلاةً، قال: ارجِعْ إلى ربِّك فاسألْه التَّخفيفَ؛ فإنَّ أُمَّتَك لا يُطيقونَ ذلك، فإنِّي قد بلَوتُ بني إسرائيلَ وخَبَرْتُهم، قال: فرَجَعْتُ إلى ربِّي، فقلتُ: يا رَبِّ، خَفِّفْ على أمَّتي، فحَطَّ عني خَمسًا، فرجَعْتُ إلى موسى، فقُلتُ: حَطَّ عني خمسًا، قال: إنَّ أمَّتَك لا يُطيقونَ ذلك، فارجِعْ إلى رَبِّك فاسأَلْه التَّخفيفَ. قال: فلَمْ أزَلْ أرجِعُ بين ربِّي تبارك وتعالى، وبينَ موسى عليه السَّلامُ، حتى قال: يا مُحَمَّدُ، إنهنَّ خَمسُ صَلواتٍ كُلَّ يَومٍ وليلةٍ، لكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ، فذلك خمسونَ صَلاةً، ومَن همَّ بحَسَنةٍ فلم يعمَلْها كُتِبَت له حَسَنةً، فإنْ عَمِلَها كُتِبَت له عَشرًا، ومَن همَّ بسَيِّئةٍ فلم يَعمَلْها لم تُكتَبْ شَيئًا، فإنْ عَمِلَها كُتِبَت سَيِّئةً واحِدةً.قال: فنَزَلْتُ حتى انتهَيتُ إلى موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرْتُه، فقال: ارجِعْ إلى رَبِّك فاسألْه التَّخفيفَ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فقُلتُ: قد رَجعْتُ إلى ربِّي حتى استَحْيَيتُ منه )) .

مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ.

أي: مِن مَسجِدِ مكَّةَ -وهو البَيتُ العَتيقُ- إلى المسجِدِ الأقصى -وهو بيتُ المَقدِسِ- الذي بارَكْنا حَولَه بالأنهارِ والأشجارِ والثِّمارِ، وجعَلْناه مَوضِعًا لكثيرٍ مِن الأنبياءِ والأصْفياءِ .

كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف: 137] .

وقال سُبحانَه: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 71] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء: 81] .

وقال جلَّ جلالُه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً [سبأ: 18] .

وعن جابِرِ بنِ عبد اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَمَّا كَذَّبَني قُرَيشٌ قُمتُ في الحِجرِ، فجلَّى اللهُ لي بيتَ المقدِسِ، فطَفِقْتُ أُخبِرُهم عن آياتِه، وأنا أنظُرُ إليه )) .

لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا.

أي: أَسْرَينا بعَبْدِنا مُحَمَّدٍ مِن المَسجِدِ الحرامِ إلى المَسجِدِ الأقصى؛ كي نُرِيَه بعضًا مِن عجائِبِ قُدرتِنا الكُبرى، وأدِلَّتِنا العُظمَى .

كما قال تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم: 11 - 18] .

إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

أي: إنَّ اللهَ هو السَّميعُ لجَميعِ المَسموعاتِ، البَصيرُ بكُلِّ المَرئيَّاتِ، ومِن ذلك سَمْعُه لأقوالِ عبادِه؛ مُؤمِنِهم وكافِرِهم، مُصَدِّقِهم ومُكَذِّبِهم، وهو البَصيرُ بهم، فيُجازي كُلًّا بما يستَحِقُّه في الدُّنيا والآخرةِ .

وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِيوَكِيلًا (2).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى تشريفَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإسراءِ وإراءتِه الآياتِ؛ ذكَرَ تشريفَ موسَى بإيتائِه التَّوراةَ .

وأيضًا لَمَّا ثبت بهذه الخارقةِ ما أخبَرَ الله به عن نفسِه المقَدَّسة من عظيمِ القُدرةِ على كُلِّ ما يريدُ، وما حباه صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم به من الآياتِ البيِّناتِ في هذا الوقتِ اليسير؛ أتبَعَه ما مَنَحَ في المسيرِ مِن مصرَ إلى الأرضِ المقدَّسةِ مِن الآياتِ في مُددٍ طِوالٍ جدًّا موسى عليه السَّلامُ الذي كان أعظَمَ الأنبياءِ بركةً على هذه الأمَّةِ ليلةَ الإسراءِ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى أنَّه أسرى بعَبدِه مُحَمَّدٍ صلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه، عطَفَ بذِكرِ موسى عَبدِه وكَليمِه عليه السَّلامُ؛ فإنَّه تعالى كثيرًا ما يَقرِنُ بين ذِكرِ موسى ومُحَمَّدٍ عليهما السَّلامُ، وبين ذِكرِ التَّوراةِ والقُرآنِ .

وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ.

أي: وآتَينا موسى التَّوراةَ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 43] .

وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ.

أي: وجَعَلْنا كِتابَ موسى هاديًا لبني إسرائيلَ إلى الحَقِّ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [السجدة: 23] .

أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِيوَكِيلًا.

أي: ألَّا تتَّخِذوا -يا بني إسرائيلَ- مِن دوني مَعبودًا تعتَمِدونَ عليه، وتَكِلونَ أمورَكم إليه .

كما قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء: 81] .

وقال سُبحانه: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] .

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3).

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ.

أي: يا سُلالةَ مَن حملْنا مع نوحٍ في السَّفينةِ، فنجَّيناهم مِن الغَرَقِ .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات: 77] .

إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا.

أي: إنَّ نوحًا كان عبدًا للهِ شكورًا لنِعَمِه؛ فتشبَّهوا بأبيكم، واشكُروني على نِعَمي عليكم، ولا تُشرِكوا بي شيئًا

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذكَرَ اللهُ تعالى تشريفَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإسراءِ، ثمَّ ذكَرَ عَقيبَه تَشريفَ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بإنزالِ التَّوراةِ عليه، ثمَّ وصَفَ التوراةَ بكَونِها هُدًى، ثمَّ بَيَّنَ أنَّ التوراةَ إنَّما كان هُدًى لاشتمالِه على النَّهيِ عن اتِّخاذِ غَيرِ الله وكيلًا -على أحدِ أوجهِ التأويلِ في أَلَّا- وذلك هو التَّوحيدُ، فرجَعَ حاصِلُ الكلامِ بعد رعايةِ هذه المَراتِبِ إلى أنَّه لا مِعراجَ أعلى، ولا درَجَةَ أشْرَفُ، ولا مَنقَبةَ أعظَمُ مِن التَّوحيدِ، وألَّا يُعَوِّلَ المرءُ في أمرٍ مِن الأمورِ إلَّا على اللهِ، فإنْ نطَقَ نطَقَ بذِكرِ الله، وإن تفكَّرَ تفَكَّرَ في دلائِلِ تَنزيهِ اللهِ تعالى، وإن طلَبَ طلَبَ مِن اللهِ، فيكونُ كُلُّه لله وباللهِ

.

2- قَولُ الله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا فيه التَّنويهُ بالثَّناءِ على نوحٍ عليه السَّلامُ، بقيامِه بشُكرِ اللهِ، واتِّصافِه بذلك، والحَثُّ لذُرِّيَّتِه أن يَقتَدوا به في شُكرِه، ويُتابِعوه عليه، وأن يتذَكَّروا نِعمةَ اللهِ عليهم؛ إذ أبقاهم واستخلفَهم في الأرضِ، وأغرَقَ غَيرَهم ، ففي تَخصيصِ نوحٍ وخِطابِ العبادِ بأنَّهم ذُرِّيَّتُه إشارةٌ إلى الاقتداءِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّه أبوهم الثَّاني، فإنَّ اللهَ تعالى لم يجعَلْ للخَلْقِ بعد الغَرَقِ نَسلًا إلَّا مِن ذُرِّيَّتِه، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ

 

[الصافات: 77] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- تَنزيهُ اللهِ تعالى بقَولِه: (سُبْحَانَ الله)، يتضَمَّنُ مع نفيِ صِفاتِ النَّقصِ عنه إثباتَ ما يلزَمُ ذلك مِن عَظَمتِه، فكان التَّسبيحُ تعظيمًا له مع تَبرئَتِه تعالى مِن السُّوءِ؛ ولهذا جاء التَّسبيحُ عند العجائِبِ الدَّالَّةِ على عظَمَتِه؛ كقولِه تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] ، وأمثال ذلك

.

2- قَولُ الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ التَّعبيرُ بلَفظِ العَبدِ في هذا المقامِ العَظيمِ يدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّ مَقامَ العُبوديَّةِ هو أشرَفُ صِفاتِ المخلوقينَ وأعظَمُها وأجَلُّها؛ إذ لو كان هناك وَصفٌ أعظَمُ منه لعبَّرَ به في هذا المقامِ العظيمِ الذي اختَرَق العبدُ فيه السَّبعَ الطِّباقَ، ورأى مِن آياتِ رَبِّه الكُبرى ، لكنه قال: بِعَبْدِهِ ولم يقُلْ: برَسولِه، ولا نبيِّه؛ إشارةً إلى أنَّه قام هذا المقامَ الأعظَمَ بكَمالِ عُبوديَّتِه لرَبِّه، ولذا ذَكَر الله سُبحانَه نبيَّه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باسمِ عُبوديَّتِه في أشرَفِ مَقاماتِه؛ في مقامِ الإسراءِ كما هنا، وفي مَقامِ الدَّعوةِ، ومَقامِ التَّحدِّي، فقال في مقامِ الدَّعوةِ: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن: 19] ، وقال في مقامِ التَّحدِّي: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] .

3- قَولُ اللهِ تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا صَريحٌ في أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُسرِيَ بجَسَدِه يَقَظةً .

4- قَولُ الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ظاهِرُه أنَّ الإسراءَ كان في أوَّلِ اللَّيلِ، وأنَّه مِن نَفسِ المَسجِدِ الحرامِ، لكِنْ على روايةِ أنَّه أُسرِيَ به مِن بَيتِ أمِّ هانئٍ تكونُ الفَضيلةُ في المسجِدِ الحرامِ لِسائِرِ الحَرَمِ؛ فكُلُّه تُضاعَفُ فيه العبادةُ، كتَضاعُفِها في نَفسِ المَسجِدِ .

5- قال تعالى: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وأصلُ الحرامِ: الأمرُ الممنوعُ، فوصْفُ الشَّيءِ بالحرامِ يكونُ بمَعنى أنَّه ممنوعٌ استعمالُه استعمالًا يُناسِبُه، نحوُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] ، أي: أكْلُ الميتةِ، ويكونُ بمعنى الممنوعِ مِن أنْ يُعْمَلَ فيه عمَلٌ ما، ويُبيَّنُ بذكْرِ المُتعلِّقِ الَّذي يتعلَّقُ به، وقد لا يُذْكَرُ مُتعلِّقُه إذا دَلَّ عليه العُرْفُ، ومنه قولُهم: الشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة: 217] ، أي: الحرامِ فيه القتالُ في عُرْفِهم. وقد يُحْذَفُ المُتعلَّقُ لقصْدِ التَّكثيرِ، فهو من الحذْفِ للتَّعميمِ، فيرجِعُ إلى العُمومِ العُرفيِّ، ففي نحوِ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة: 2] يُرادُ الممنوعُ مِنْ عدوانِ المعتدينَ، وغزوِ الملوكِ والفاتحينَ، وعملِ الظُّلمِ والسُّوءِ فِيهِ .

6- دلَّ القُرآنُ العَظيمُ على بَرَكةِ الشَّامِ في خَمسِ آياتٍ: قَولُه تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف: 137] واللهُ تعالى إنَّما أورَثَ بني إسرائيلَ أرضَ الشَّامِ، وقولُه تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ، وقولُه تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء: 71] ، وقولُه تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء: 81] ، وقولُه تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً [سبأ: 18] الآية. فهذه خمسُ آياتٍ نُصوصٌ، والبَرَكةُ تتناوَلُ البَرَكةَ في الدِّينِ، والبَرَكةَ في الدُّنيا، وكِلاهما معلومٌ لا ريبَ فيه .

7- إنَّما أُسرِيَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ المَسجِدِ الحرامِ إلى المَسجِدِ الأقصى؛ ليُرِيَه اللهُ مِن آياتِه بالمِعراجِ؛ لهذا كان قَولُه تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا دَليلًا في المِعراجِ الذي كان بعدَ المَسْرَى إلى المسجِدِ الأقصى، فلم يكُنِ المقصودُ مُجَرَّدَ رؤيةِ الأقصى؛ فإنَّه قد رآه المُسلِمُ والكافِرُ، والبَرُّ والفاجِرُ، ولكِنَّه سُبحانَه أخبَرَ بذلك؛ ليكونَ هذا آيةً للرَّسولِ، فإنَّهم قد رأوا المسجِدَ الأقصى، فإذا أخبَرَهم أنَّه رآه ووصَفَه لهم -كما جاء في الحديثِ الصَّحيحِ - كان ذلك حُجَّةً له على أنَّه رآه، ولم يُمكِنْهم تكذيبُه في ذلك، بخلافِ ما لو أخبَرَ بالعُروجِ إلى السَّماءِ ابتداءً، فإنَّهم كانوا إذا كَذَّبوا بذلك لم يكُنْ هناك ما رأَوه حتى يَصِفَه لهم. وهو سُبحانَه قد أخبَرَ بعُروجِه إلى السَّماءِ في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم: 13- 18] وهو سُبحانَه ذكَر هذا بعدَ أن ذكَرَ رُؤيةَ جبريلَ النَّزلةَ الأخرى في الأرضِ؛ فإنَّه رآه على صُورتِه مَرَّتينِ، كما جاءت بذلك الأحاديثُ الصَّحيحةُ ، وقال في سورة (التكويرِ): إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، فهذا جبريلُ، ثمَّ قال: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ .

8- في قَولِه تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا دَلالةٌ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَرَ ربَّه ليلةَ أُسرِيَ به؛ إذ لو كان -سُبحانَه- قد أراه نفسَه بعَيْنِه، لكان ذِكْرُ ذلك أَولى .

9- قَولُ الله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ وَجهُ الاقتصارِ على وَصفِ المَسجدِ الأقصى في هذه الآيةِ بذِكرِ هذا التَّبريكِ: أنَّ شُهرةَ المَسجِدِ الحَرامِ بالبَرَكةِ، وبِكَونِه مَقامَ إبراهيمَ، مَعلومةٌ للعَرَبِ، وأمَّا المَسجِدُ الأقصى فقد تناسى النَّاسُ ذلك كُلَّه؛ فالعَرَبُ لا عِلمَ لهم به، والنَّصارى عَفَوا أثَرَه مِن كراهِيَتِهم لليَهودِ، واليهودُ قد ابتَعَدوا عنه وأَيِسوا مِن عَودِه إليهم، فاحْتِيجَ إلى الإعلامِ ببَرَكتِه .

10- قَولُ الله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ في هذا الوصْفِ الْأَقْصَى بصِيغَةِ التَّفضيلِ -باعتبارِ أصْلِ وضْعِها- مُعجزةٌ خفيَّةٌ من مُعجزاتِ القُرآنِ؛ إيماءً إلى أنَّه سيكونُ بين المَسجدَينِ: مَسجدٌ عظيمٌ، هو مسجِدُ طَيْبةَ، الَّذي هو قَصِيٌّ عن المسجِدِ الحرامِ، فيكونُ مسجِدُ بيتِ المقدسِ أقْصَى منه حينئذٍ؛ فتكونُ الآيةُ مُشيرةً إلى جميعِ المساجِدِ الثَّلاثةِ المُفضَّلةِ في الإسلامِ على جميعِ المساجِدِ الإسلاميَّةِ، والَّتي بيَّنَها قولُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لَا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجِدَ: المسجِدِ الحرامِ، ومسجدِ الرَّسُولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومسجِدِ الأقصَى )) .

11- فائدةُ ذِكْرِ مبدأِ الإسراءِ ونِهايتِه بقولِه: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أمرانِ؛ أحدُهما: التَّنصيصُ على قطْعِ المسافةِ العظيمةِ في جُزءِ ليلةٍ؛ لأنَّ كلًّا من الظَّرفِ -وهو لَيْلًا- ومن المَجْرورَينِ -مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى- قد تعلَّقَ بفعْلِ أَسْرَى، فهو تعلُّقٌ يَقْتضي المُقارنةَ؛ ليُعْلَمَ أنَّه من قَبِيلِ المُعجزاتِ. وثانيهما: الإيماءُ إلى أنَّ اللهَ تَعالى يجعَلُ هذا الإسراءَ رمْزًا إلى أنَّ الإسلامَ جمَعَ ما جاءت به شرائعُ التَّوحيدِ والحنيفيَّةِ من عهْدِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، الصَّادر من المسجِدِ الحرامِ إلى ما تفرَّعَ عنه من الشَّرائعِ الَّتي كان مَقرُّها بيتَ المقدسِ، ثمَّ إلى خاتمتِها الَّتي ظهَرَتْ من مكَّةَ أيضًا، فقد صدَرَتِ الحنيفيَّةُ من المسجِدِ الحرامِ، وتفرَّعَتْ في المسجِدِ الأقصى، ثمَّ عادت إلى المسجِدِ الحرامِ كما عاد الإسراءُ إلى مكَّةَ؛ لأنَّ كلَّ سُرًى يعقُبُه تَأويبٌ؛ وبذلك حصَلَ رَدُّ العجُزِ على الصَّدرِ. ومن هنا يظهَرُ مُناسبةُ نُزولِ التَّشريعِ الاجتماعيِّ في هذه السُّورةِ في الآياتِ المُفتتَحَةِ بقولِه تَعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23]، ففيها: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء: 33] ، وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 34] ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء: 35] ؛ إيماءً إلى أنَّ هذا الدِّينَ سيكونُ دِينًا يحكُمُ في النَّاسِ وتُنَفَّذُ أحكامُه .

12- قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ذكَرَ السَّميعَ هاهنا؛ لينَبِّهَ على أنَّه المجيبُ لدُعائِه، وذَكَر البصيرَ؛ لينَبِّهَ على أنَّه كان الحافِظَ له في ظُلمةِ اللَّيلِ .

13- قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ... كَثيرًا ما يَقرِنُ الباري بين نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونُبُوَّةِ مُوسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَينَ كِتابَيهما وشَريعَتَيهما؛ لأنَّ كِتابَيهما أفضَلُ الكُتُبِ، وشَريعَتَيهما أكمَلُ الشَّرائِعِ، ونُبُوَّتَيهما أعلى النُّبُواتِ، وأتباعَهما أكثَرُ المُؤمنِينَ .

14- قَولُ اللهِ تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ فيه أنَّ ذرِّيَّةَ نُوحٍ كانوا شِقَّينِ: شِقٌّ بارٌّ مُطيعٌ، وهم الذين حمَلَهم معه في السَّفينةِ؛ وشِقٌّ متكَبِّرٌ كافِرٌ، وهو ولَدُه الذي غَرِق، فكان نوحٌ عليه السَّلامُ مثلًا لأبي فريقَينِ، وكان بنو إسرائيلَ مِن ذريَّةِ الفَريقِ البارِّ، فإن اقتَدَوا به نجَوا، وإن حادوا فقد نزَعوا إلى الفريقِ الآخَرِ، فيُوشِكُ أن يَهلِكوا. وهذا التماثُلُ هو نُكتةُ اختيارِ ذِكرِ نُوحٍ مِن بينِ أجدادِهم الآخَرينَ، مِثل: إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ -عليهم السلامُ- لفواتِ هذا المعنى في أولئك .

15- لا خِلافَ بينَ أهلِ اللُّغَةِ أنَّ الذُّرِّيَّةَ تُقالُ على الأولادِ الصِّغارِ وعلى الكِبارِ أيضًا؛ قال الله تعالى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

- قولُه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا، في قولِه: سُبْحَانَ ما لا يَخْفَى من الدَّلالةِ على التَّنزيهِ البليغِ من حيثُ الاشتقاقُ من السَّبْحِ، الَّذي هو الذَّهابُ والإبعادُ في الأرضِ

.

- والافتتاحُ بكلمةِ التَّسبيحِ من دونِ سبْقِ كلامٍ مُتضمِّنٍ ما يجِبُ تَنزيهُ اللهِ عنه؛ يُؤذِنُ بأنَّ خبرًا عجيبًا يستقبِلُه السَّامعونَ، دالًّا على عظيمِ القُدرةِ من المُتكلِّمِ، ورَفيعِ مَنزلةِ المُتحدَّثِ عنه .

- والتَّعبيرُ عن الذَّاتِ العَلِيَّةِ بطريقِ الموصولِ الَّذِي أَسْرَى دونَ الاسمِ العَلَمِ (اللَّه)؛ للتَّنبيهِ على ما تُفيدُه صِلَةُ الموصولِ من الإيماءِ إلى وجْهِ هذا التَّعجُّبِ والتَّنويهِ وسبَبِه، ويُفيدُ أنَّ حديثَ الإسراءِ أمْرٌ فَشا بين القومِ؛ فقد آمَنَ به المُسلمونَ، وأكبَرَه المُشركونَ .

- وفي التَّعبيرِ بقولِه: أَسْرَى بِعَبْدِهِ دونَ: (بعَثَ بعبْدِه) و(أرسَلَ به) ما يُفيدُ مُصاحبتَه له في مَسْراهُ؛ فإنَّ الباءَ هنا للمُصاحَبةِ، كالباءِ في قولِه: هاجَرَ بأهْلِه، وسافَرَ بغُلامِه، وليست للتَّعديةِ؛ فإنَّ (أسْرى) يتعدَّى بنفْسِه يُقال: أسْرى به وأسراهُ، وهذا لأنَّ ذلك السُّرى كان أعظَمَ أسفارِه، والسَّفرُ يعتمِدُ الصَّاحِبَ؛ ولهذا كان المُسافِرُ يقولُ: ((اللَّهُمَّ أنت الصَّاحِبُ في السَّ فرِ)) . وفائدةُ الجمعِ بين الهمزةِ والباءِ: أنَّ الثُّلاثيَّ المُتعدِّيَ بالباءِ يُفْهَمُ منه شيئانِ؛ أحدُهما: صُدورُ الفعلِ من فاعِلِه. الثَّاني: مُصاحبتُه لِمَا دخَلَت عليه الباءُ؛ فإذا قلْتَ: سريتُ بزيدٍ وسافرْتُ به، كان قد وُجِدَ منك السُّرى والسَّفرُ مُصاحبًا لزيدٍ فيه، وأمَّا المُتعدِّي بالهمزةِ، فيَقْتضي إيقاعَ الفعلِ بالمفعولِ فقطْ؛ كقولِه تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النحل: 78] ، فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشعراء: 57] ونظائرِه، فإذا قُرِنَ هذا المُتعدِّي بالهمزةِ أفاد إيقاعَ الفعلِ على المفعولِ مع المُصاحبةِ المفهومةِ من الباءِ، ولو أتى فيه بالثُّلاثيِّ فُهِمَ منه معنى المُشاركةِ في مَصْدرِه وهو مُمْتنِعٌ .

- وذُكِرَ هنا الإسراءُ فقطْ، ولم يُذْكَرِ العُروجُ بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى السَّماءِ وما كان فيه، ممَّا لا يُكْتَنَهُ كُنْهُه حسبَما نطَقَتْ به سُورةُ (النَّجمِ)؛ تَقريبًا للإسراءِ إلى قَبولِ السَّامعينَ .

- قولُه: بِعَبْدِهِ هذه إضافةُ تَشريفٍ واختصاصٍ ، لا إضافةُ تعريفٍ؛ لأنَّ وَصفَ العُبوديَّةِ لله متحَقِّقٌ لسائِرِ المَخلوقاتِ، فلا تُفيدُ إضافتُه تَعريفًا ، وقال: بِعَبْدِهِ دونَ (نَبيِّه) أو (حبيبِه)؛ لئلَّا تضِلَّ به أُمَّتُه، كما ضَلَّت أُمَّةُ المسيحِ، حيث دعَتْه إلهًا، أو لأنَّ وصْفَه بالعُبوديَّةِ المُضافةِ إلى اللهِ تعالى أشرَفُ المقاماتِ .

- وفي قولِه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ذكَرَ اللَّيلَ مع أنَّ الإسراءَ لا يكونُ إلَّا باللَّيلِ؛ لأنَّه أراد بقولِه: لَيْلًا بلفظِ التَّنكيرِ تَقليلَ مُدَّةِ الإسراءِ وقِصَرِ زمَنِ الإسراءِ -مع أنَّ بين مكَّةَ وبيتِ المَقدسِ مَسيرةَ أربعينَ ليلةً-؛ وذلك أنَّ التَّنكيرَ فيه قد دَلَّ على معنى البعضيَّةِ؛ فذِكْرُ اللَّيلِ مع أنَّ السُّرى لا يكونُ إلَّا باللَّيلِ يحتمِلُ أمرينِ؛ أوَّلَهما: أنَّ الإسراءَ لمَّا دَلَّ على أمرينِ -أحدُهما: السَّيرُ، والآخَرُ: كونُه ليلًا-، أريدَ إفرادُ أحدِهما بالذِّكرِ؛ تَثبيتًا في نفْسِ المُخاطَبِ، وتَنبيهًا على أنَّه مقصودٌ بالذِّكرِ. وثانيهما: الإشارةُ بتَنكيرِ اللَّيلِ إلى تَقليلِ مُدَّتِه؛ لأنَّ التَّنكيرَ فيه قد دَلَّ على معنى البعضيَّةِ، وهذا بخلافِ ما لو قيلَ: (أسْرى بعبْدِه اللَّيلَ)؛ فإنَّ التَّركيبَ مع التَّعريفِ يُفيدُ استغراقَ السَّيرِ لجميعِ أجزاءِ اللَّيلِ ؛ فلمَّا كان الإسراءُ هو السَّيرَ في اللَّيلِ، وكان الشَّيءُ قد يُطْلَقُ على جُزءِ معناه بدلالةِ التَّضمُّنِ؛ نَفى هذا بقولِه: لَيْلًا، وليدُلَّ بتنوينِ التَّحقيرِ على أنَّ هذا الأمْرَ الجليلَ كان في جُزءٍ يَسيرٍ من اللَّيلِ، وعلى أنَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يحتَجْ في الإسراءِ والعُروجِ إلى سِدْرةِ المُنْتهى وسماعِ الكلامِ من العلِيِّ الأعلى إلى رياضةٍ؛ بصيامٍ ولا غيرِه، بلْ كان مُهيَّئًا لذلك مُتأهِّلًا له، فأقامه تعالى من الفرشِ إلى العرشِ . وقيل: إنَّه ذُكِرَ على سبيلِ التَّوكيدِ. وقيل: يعني في جوفِ اللَّيلِ؛ فلم يكُنْ إدْلاجًا ولا ادِّلاجًا . وقيل: تَنكيرُ لَيْلًا للتَّعظيمِ، بقرينةِ الاعتناءِ بذِكْرِه مع علْمِه من فِعْلِ أَسْرَى، وبقرينةِ عدَمِ تَعريفِه، أي: هو ليلٌ عظيمٌ باعتبارِ جعْلِه زمنًا لذلك السُّرى العظيمِ، فقام التَّنكيرُ هنا مقامَ ما يدُلُّ على التَّعظيمِ. ألَا تَرى كيف احتيجَ إلى الدِّلالةِ على التَّعظيمِ بصِيغَةٍ خاصَّةٍ في قولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر: 1، 2]، إذ وقَعَتْ ليلةُ القدْرِ غيرَ مُنكَّرةٍ ؟!

- قولُه: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، أي: الأبعدِ، والمُرادُ: بُعْدُه عن مكَّةَ، بقرينةِ جعْلِه نِهايةَ الإسراءِ من المسجِدِ الحرامِ، وهو وصْفٌ كاشفٌ اقتضاهُ هنا زِيادةُ التَّنبيهِ على مُعجزةِ هذا الإسراءِ، وكونه خارِقًا للعادةِ؛ لكونِه قطَعَ مسافةً طويلةً في بعضِ ليلةٍ .

- قولُه: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ صِفةٌ للمسجِدِ الأقصى، وجِيءَ في الصِّفةِ بالموصوليَّةِ؛ لقصْدِ تَشهيرِ الموصوفِ بمَضمونِ الصِّلةِ، حتَّى كأنَّ الموصوفَ مُشتهَرٌ بالصِّلةِ عند السَّامعينَ، والمقصودُ: إفادةُ أنَّه مُبارَكٌ حولَه .

- قولُه: بَارَكْنَا حَوْلَهُ صِيغَةُ المُفاعلةِ هنا بَارَكْنَا؛ للمُبالغةِ في تَكثيرِ الفعلِ، وكونُ البركةِ حولَه كِنايةٌ عن حُصولِ البركةِ فيه بالأَولى؛ لأنَّها إذا حصَلَت حولَه فقد تجاوَزَت ما فيه؛ ففيه لَطيفةُ التَّلازُمِ، ولَطيفةُ فَحْوى الخِطابِ ، ولَطيفةُ المُبالغةِ بالتَّكثيرِ. ولكلمةِ حَوْلَهُ في هذه الآيةِ من حُسْنِ الموقعِ ما ليس لكلمةِ (في)؛ لأنَّ (في) لا تُفيدُ انتشارَها وتجاوُزَها منه إلى ما حولَه .

- قولُه: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا تَعليلُ الإسراءِ بإرادةِ إراءةِ الآياتِ الرَّبَّانيَّةِ، تَعليلٌ ببعضِ الحِكَمِ الَّتي لأجْلِها منَحَ اللهُ نَبِيَّه مِنحةَ الإسراءِ، ولامُ التَّعليلِ في لِنُرِيَهُ لا تُفيدُ حصْرَ الغرضِ من مُتعلِّقِها في مَدخولِها، وإنَّما اقتُصِرَ في التَّعليلِ على إراءةِ الآياتِ؛ لأنَّ تلك العِلَّةَ أعلَقُ بتكريمِ المُسْرى به، والعنايةِ بشأنِه؛ لأنَّ إراءةَ الآياتِ تَزيدُ يقينَ الرَّائي بوُجودِها الحاصلِ من قبْلِ الرُّؤيةِ .

- والالتفاتُ من الغَيبةِ الَّتي في اسمِ الموصولِ وضميرَيْه في قولِه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ إلى التَّكلُّمِ في: بَارَكْنَا [الإسراء: 1] ، ولِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا؛ لتعظيمِ ما ذُكِر؛ لأنَّ فعلَ العظيمِ يكونُ عظيمًا، لا سيَّما إذا عبَّر عنه بصيغةِ التعظيمِ، والنكتةُ العامةُ تنشيطُ السامعينَ . وقيل غير ذلك .

- قولُه: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فيه الْتِفاتٌ إلى الغَيبةِ؛ لتربيةِ المَهابةِ ، وهو وعيدٌ من اللهِ للكُفَّارِ على تَكذيبِهم محمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أمْرِ الإسراءِ؛ فهي إشارةٌ لطيفةٌ بليغةٌ إلى ذلك، أي: هو السَّميعُ لِمَا تَقولون، البصيرُ بأفعالِكم .

- ومَوقعُ (إنَّ) في قولِه: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ التَّوكيدُ والتَّعليلُ، كما يُؤْذِنُ به فصْلُ الجُملةِ عمَّا قبلَها-أي: عدَمُ عطْفِها عليها-، وهذه الجُملةُ مُشتمِلةٌ على صِيغَةِ قَصْرٍ بتعريفِ المُسنَدِ باللَّامِ السَّمِيعُ، وبضَميرِ الفصْلِ هُوَ قصْرًا مُؤكدًا، وهو قصْرُ موصوفٍ على صِفَةٍ قصرًا إضافيًّا للقلْبِ .

2- قَولُه تعالى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا

- قولُه: وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فيه الإخبارُ عن التَّوراةِ بأنَّه هُدًى مُبالغةً؛ لأنَّ الهُدى بسبَبِ العملِ بما فيه، فجُعِلَ كأنَّه نفْسُ الهدى، كقولِه تعالى في القُرآنِ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] .

- وخصَّ بني إسرائيلَ؛ لأنَّهم المخاطبونَ بشريعةِ التوراةِ دونَ غيرِهم .

3- قَولُه تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا

- قولُه: ذُرِّيَّةَ انتصَبَ على الاختصاصِ-على أحدِ الأقوالِ-؛ لزيادةِ بَيانِ بني إسرائيلَ بيانًا مقصودًا به التَّعريضُ بهم؛ إذ لم يَشْكروا النِّعمةَ. وفي اختيارِ وصْفِهم بأنَّهم ذُرِّيَّةُ مَن حُمِلَ مع نوحٍ عليه السَّلامُ معانٍ عظيمةٌ من التَّذكيرِ والتَّحريضِ والتَّعريضِ؛ لأنَّ بني إسرائيلَ من ذُرِّيَّةِ سامِ بنِ نوحٍ، وكان سامٌ ممَّن ركِبَ السَّفينةَ، وإنَّما لم يقُلْ: (ذُرِّيَّةَ نوحٍ) مع أنَّهم كذلك؛ قصدًا لإدماجِ التَّذكيرِ بنِعمةِ إنجاءِ أُصولِهم من الغرَقِ .

- في قولِه: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا أُكِّدَ كونُ نوحٍ كان عبدًا شكورًا بحرفِ (إنَّ) تَنزيلًا لهم منزلةَ مَن يجهَلُ ذلك؛ إمَّا لتوثيقِ حمْلِهم على الاقتداءِ به إنْ كانتِ الجُملةُ خِطابًا لبني إسرائيلَ مِن تمامِ الجُملةِ التَّفسيريَّةِ، وإمَّا لتَنزيلِهم منزلةَ مَن جهِلَ ذلك حتَّى تورَّطوا في الفسادِ، فاسْتَأْهلوا الاستئصالَ، وذَهابَ مُلكِهم؛ لينتقِلَ منه إلى التَّعريضِ بالمُشركينَ من العربِ بأنَّهم غيرُ مُقتدينَ بنوحٍ؛ لأنَّ مثَلَهم ومثَلَ بني إسرائيلَ في هذا السِّياقِ واحدٌ في جميعِ أحوالِهم، فيكونُ التَّأكيدُ منظورًا فيه إلى المعنى التَّعريضيِّ .

- وجُملةُ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا مُفيدةٌ تَعليلَ النَّهيِ عن أنْ يتَّخِذوا من دونِ اللهِ وكيلًا؛ لأنَّ أجدادَهم حُمِلُوا مع نوحٍ بنعمةٍ من اللهِ عليهم لنجاتِهم من الغرَقِ، وكان نوحٌ عبدًا شكورًا، والَّذين حُمِلُوا معه كانوا شاكرينَ مثْلَه، أي: فاقْتَدوا بهم ولا تَكْفروا نِعَمَ اللهِ .

=====================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (4-8)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ

غريب الكلمات :

 

وَقَضَيْنَا: أي: أخبَرْنا وأعلَمْنا، فهذا قضاءٌ بالإعلامِ والفصلِ في الحكمِ، والقضاءُ: فَصْلُ الأمْرِ؛ قولًا كان ذلِك أو فِعلًا، وأصلُ (قضي): يَدُلُّ على إحكامِ أمرٍ وإتقانِه، وإنفاذِه لجِهتِه

.

فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ: أي: طافُوا بينَ الدِّيارِ يَطلُبونَكم ويَقتُلونَكم ذاهِبينَ وجائِينَ، ومنه: الجَوسُ: وهو التَّردُّد خِلالَ الدُّورِ والبُيوتِ بالفَسادِ في الغارةِ ونحوِها، وأصلُ (جوس): يَدُلُّ على تَخَلُّلِ الشَّيءِ، وأصلُ الخلالِ: مِن الخَلَلِ: وهو الفُرجةُ بينَ الشيئينِ .

الْكَرَّةَ: الرَّجْعةَ والدَّوْلةَ، وأصلُ (كرر): يدُلُّ على العَطفِ والرُّجوعِ .

نَفِيرًا: أي: عَددًا، وأصلُه مَن يَنفِرُ مع الرَّجُلِ مِنْ عَشيرتِه وأهلِ بَيتِه، وأصلُ (نفر): يدُلُّ على الانزِعاجِ والفَزَعِ إلى الشَّيءِ .

لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ: أي: ليَجعَلوا آثارَ المَساءةِ مِن غَمٍّ وحُزنٍ باديةً على وجوهِكم، يقال: ساءه يَسوؤُه، أي: غَمَّه وأحزَنَه .

وَلِيُتَبِّرُوا: أي: لِيُدَمِّروا ويُخَرِّبوا، وأصلُ (تبر): يدُلُّ على هَلاكٍ .

مَا عَلَوْا: أي: ما غَلَبوا عليه مِن الأقطارِ، ومَلَكوه مِن البِلادِ، وأصلُ العُلُوِّ هنا: يدُلُّ على الاستِيلاءِ والغَلَبِ .

حَصِيرًا: أي: محبِسًا وسِجنًا ، مِن حَصَرْتُه، أي: حبسْتُه. أو: بساطًا ومهادًا، مِن الحصيرِ، أي: البِساطِ الصَّغيرِ، وأصلُ (حصر): يدلُّ على حَبسٍ ومَنعٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: وأعْلَمْنا بني إسرائيلَ في التَّوراةِ أنَّهم سيُفسِدون مَرَّتينِ في الأرضِ وسيستكبرونَ بغيرِ حقٍّ استكبارًا شديدًا. فإذا حان وَقتُ عُقوبتِكم على إفسادِكم الأوَّلِ سَلَّطْنا عليكم عِبادًا لنا ذَوي شَجاعةٍ وقُوَّةٍ شَديدةٍ، فطافوا بينَ دِيارِكم يقتُلونَكم ويُشَرِّدونَكم، وكان ذلك وَعدًا لا بدَّ مِن وُقوعِه، ثمَّ رَدَدْنا لكم -يا بني إسرائيلَ- الغَلَبةَ والظُّهورَ على أعدائِكم الذينَ سُلِّطوا عليكم، وأعطيناكم الأموالَ والأولادَ بكثرةٍ، وقَوَّيناكم وجَعَلْناكم أكثَرَ جُندًا مِن عَدوِّكم. ثم قال تعالى: إنْ أحسَنْتُم -يا بني إسرائيلَ- فقد أحسَنتُم لأنفُسِكم؛ لأنَّ ثَوابَ ذلك عائِدٌ إليكم، وإن أسأْتُم فضرَرُ ذلك عائِدٌ عليكم.

فإذا حان مَوعِدُ العُقوبةِ على إفسادِكم الثَّاني، سَلَّطْنا عليكم أعداءَكم مَرَّةً أخرى؛ لِيُذِلُّوكم ويَقهَروكم، فتبدوَ آثارُ الكآبةِ والإهانةِ والمَذلَّةِ على وُجوهِكم، ولِيَدخُلوا مسجِدَ بيتِ المَقدِسِ، كما دخَلوه أوَّلَ مَرَّةٍ، ولِيُدَمِّروا كُلَّ ما ظهَروا عليه تَدميرًا كامِلًا.

ثم قال تعالى: عسَى رَبُّكم -يا بني إسرائيلَ- أن يَرحَمَكم بعدَ انتِقامِه إنْ تُبتُم وأصلَحْتُم، وإن عُدتُم إلى الإفسادِ والظُّلمِ عُدْنا إلى عِقابِكم ومَذَلَّتِكم. وجعَلْنا جَهنَّمَ للكافرينَ سِجنًا لا يخرجون منها أبدًا.

تفسير الآيات:

 

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

هذه الآيةُ عَطفٌ على جُملةِ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ، أي: آتَينا موسى الكِتابَ هُدًى، وبيَّنَّا لبني إسرائيلَ في الكتابِ ما يحُلُّ بهم مِن جَرَّاءِ مُخالفةِ هَديِ التَّوراةِ؛ إعلامًا لهذه الأمَّةِ بأنَّ اللهَ لم يدَّخِرْ أولئك إرشادًا ونُصحًا؛ فالمناسَبةُ ظاهِرةٌ

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى إنعامَه على بني إسرائيلَ بإنزالِ التَّوراةِ عليهم، وبأنَّه جعَلَ التَّوراةَ هُدًى لهم؛ بيَّن أنَّهم ما اهتَدَوا بهُداه، بل وقَعُوا في الفَسادِ؛ فقال تعالى :

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ.

أي: وأعلَمْنا بني إسرائيلَ في التَّوراةِ -بما سبَقَ في عِلْمِنا- أنَّهم سيُفسِدونَ في الأرضِ مَرَّتَينِ؛ بالكُفرِ والمعاصي، ومُخالَفةِ أحكامِ التَّوراةِ .

وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا .

أي: وأعلمناهم أيضًا أنَّهم سَيَستَكبِرونَ على اللهِ بمُخالفةِ أمرِه، والتَّجَبُّرِ على عبادِه، استكبارًا وطُغيانًا شَديدًا .

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5).

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ.

أي: فإذا حان وَقتُ عُقوبتِكم -يا بَني إسرائيلَ- على أُولى المَرَّتَينِ اللَّتَينِ تُفسِدونَ فيهما في الأرضِ؛ سَلَّطنا عليكم جُنْدًا مِن خَلْقِنا، أصحابَ بَطشٍ وقُوَّةٍ شَديدةٍ .

فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ.

أي: فطاف الجُنودُ الذين سَلَّطَهم اللهُ على بني إسرائيلَ بينَ دُورِهم يتَرَدَّدونَ بينها جَيْئةً وذَهابًا لِقَتلِهم .

وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا.

أي: وكان تَسليطُ اللهِ أولئك الجُنودَ على بني إسرائيلَ قَضاءً كائِنًا لا بُدَّ مِن وُقوعِه .

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ سُبحانَه أنَّه قادِرٌ على إذلالِ العَزيزِ بعد ضَخامةِ عِزِّه؛ بيَّنَ أنَّه مُقتَدِرٌ على إدالتِه على مَن قَهَرَه بعدَ طولِ ذُلِّه إذا نَقَّاه مِن دَرَنِه، وهَذَّبَه مِن ذُنوبِه، فقال الله تعالى :

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ.

أي: ثمَّ أرْجَعْنا لكم -يا بني إسرائيلَ- الغَلَبةَ والنَّصرَ على أعدائِكم الذينَ غَلَبوكم وقَهَروكم، لَمَّا تُبتُم مِن الفسَادِ والطُّغيانِ والاستِكْبارِ، وأطعتُم .

وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ.

أي: وأعْطَيناكم -يا بني إسرائيلَ- الأموالَ والبَنينَ بزِيادةٍ وكَثرةٍ .

وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا.

أي: وصيَّرناكم أكثَرَ جُندًا مِن عَدُوِّكم .

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى حكَى عن بني إسرائيلَ أنَّهم لَمَّا عَصَوا سَلَّطَ عليهم أقوامًا قَصَدوهم بالقَتلِ والنَّهبِ والسَّبْيِ، ولَمَّا تابوا أزال عنهم تلك الِمحنةَ، وأعاد عليهم الدَّولةَ، فعند ذلك ظهَرَ أنَّهم إن أطاعوا فقد أحسَنوا إلى أنفُسِهم، وإن أصَرُّوا على المعصيةِ فقد أساؤوا إلى أنفُسِهم .

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ.

أي: إنْ أطَعْتُم اللهَ -يا بني إسرائيلَ- فإحسانُكم هذا عائِدٌ إليكم، وبه تَنفَعونَ أنفُسَكم، فيَزيدُكم اللهُ مِن الرِّزقِ والقُوَّةِ، ويُدافِعُ عنكم، ويُدخِلُكم الجَنَّةَ .

كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 65- 66].

وقال سُبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3] .

وقال سُبحانَه: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12] .

وقال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16] .

وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.

أي: وإنْ عَصَيتُم اللهَ فعلى أنفُسِكم ضَرَرُ إساءتِكم، فيُسَلِّطُ اللهُ عليكم في الدُّنيا أعداءَكم، ويُعَذِّبُكم في الآخرةِ .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [يونس: 23] .

وقال سُبحانَه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124] .

وقال عزَّ وجلَّ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] .

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ.

أي: فإذا حانَ وَقتُ عُقوبتِكم -يا بني إسرائيلَ- جرَّاءَ إفسادِكم في المَرَّةِ الثَّانيةِ، سَلَّطْنا عليكم عبادًا لنا؛ ليَجعَلُوا آثارَ الحُزنِ والكآبةِ بادِيةً في وُجوهِكم، وذلك بقَتلِكم وسَبْيِكم وقَهْرِكم وإذلالِكم .

وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

أي: وَلِيَدخُلوا مَسجِدَ بَيتِ المَقدِسِ فيُخَرِّبوه قَهرًا وغَلَبةً وإذلالًا لكم، كما دخَلوه في المَرَّةِ الأولى حينَ عاقَبْناكم على إفسادِكم الأوَّلِ، فدَخَلوا المسجِدَ بالغَلَبةِ وخرَّبوه، وجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ يَقتُلونَكم .

وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا.

أي: ولِيُدَمِّرُوا كُلَّ ما غَلَبوا وظَهَروا عليه مِن بِلادِكم تَدميرًا، فيُخَرِّبوا بَيتَ المَقدِسِ وبُيوتَكم ومَزارِعَكم .

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)  .

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ.

أي: لعلَّ اللهَ -يا بني إسرائيلَ- يَرحَمُكم بعدَ انتقامِه منكم، فيُنقِذُكم، ويُعِزُّكم بعدَ ذُلِّكم، ويَجعَلُ لكم قُوَّةً، ويردُّ الدولةَ إليكم .

وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا.

أي: وإن رجَعْتُم إلى الإفسادِ في الأرضِ بمَعصيتي بعد رَحمتي لكم، رجَعْتُ إلى انتِقامي منكم، فسلَّطتُ عليكم مرَّةً أخرَى مَن يقتُلُكم ويُذِلُّكم

كما قال سُبحانَه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف: 167].

وقال عزَّ وجلَّ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب: 26-27] .

وقال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِي الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم قال: ((تُقاتِلُكم اليَهودُ، فتُسَلَّطونَ عليهم، حتى يقولَ الحَجَرُ: يا مُسلِمُ، هذا يَهوديٌّ ورائي فاقتُلْه )) .

وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا.

أي: وجَعَلْنا جَهنَّمَ للكافرينَ سِجنًا ومحبِسًا، لا يَستَطيعونَ الخُروجَ منها أبدًا

 

.

كما قال تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان: 13] .

وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الأحزاب: 64- 65] .

الفوائد التربوية:

 

قَولُ الله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا فيه التَّحذيرُ لهذه الأمَّةِ مِن العَمَلِ بالمعاصي؛ لِئَلَّا يُصيبَهم ما أصابَ بني إسرائيلَ؛ فسُنَّةُ اللهِ واحِدةٌ لا تُبَدَّلُ ولا تُغَيَّرُ، ومَن نظَرَ إلى تَسليطِ الكَفَرةِ والظَّلَمةِ على المُسلِمينَ، عَرَف أنَّ ذلك مِن أجْلِ ذُنوبِهم عُقوبةً لهم، وأنَّهم إذا أقاموا كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ رَسولِه، مكَّنَ لهم في الأرضِ ونصَرَهم على أعدائِهم

، فلَمَّا كان أهلُ المَشرِقِ قائِمينَ بالإسلامِ، كانوا مَنصورينَ على الكُفَّارِ المُشرِكينَ مِن التُّركِ والِهندِ والصِّينِ وغَيرِهم، فلمَّا ظهَرَ منهم ما ظهَرَ مِن البِدَعِ والإلحادِ والفُجورِ، سَلَّط عليهم الكُفَّارَ، فهذا هولاكو مَلِكُ التُّركِ التَّتار الذي قهَرَ الخَليفةَ بالعِراقِ، وقَتَل ببغدادَ مَقتلةً عَظيمةً جِدًّا، يقال: قتَلَ منهم ألفَ ألفٍ، وكذلك قتَلَ بحَلَب دارِ المُلْك حينئذٍ، كان بعضُ المشايخِ يَقولُ فيه: هو للمُسلِمينَ بمَنزلةِ بُختنَصَّر لبني إسرائيلَ، وكان مِن أسبابِ دُخولِ هؤلاء دِيارَ المُسلِمينَ ظُهورُ الإلحادِ والنِّفاقِ والبِدَعِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- البَعثُ في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ هو بعثٌ كَونيٌّ، ويُقابِلُه البَعثُ الدِّينيُّ، كما في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

[الجمعة: 2] .

2- كُلُّ ما تَراه في الوُجودِ مِن شَرٍّ وألَمٍ، وعُقوبةٍ وجَدْبٍ، ونَقصٍ في نَفسِك وفي غَيرِك؛ فهو مِن قِيامِ الرَّبِّ تبارَكَ تعالى بالقِسطِ، وهو عَدْلُ اللهِ وقِسطُه، وإنْ أجراه على يَدِ ظالِمٍ؛ فالمُسَلِّطُ له أعدَلُ العادلينَ، كما قال تعالى لِمَن أفسَدَ في الأرضِ: بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ .

3- في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا دَلالةٌ على أنَّ قُبورَ الصَّالحينَ أو الأنبياءِ التي في المَدائِنِ والقُرى، لا تَدفعُ البلاءَ عن أهْلِها؛ لأنَّه مِن المَعلومِ أنَّ في بيتِ المَقدِسِ وما حولَه مِن قُبورِ الأنبياءِ ما هو أكثرُ مِن غَيرِه مِن هذه القُبورِ، ومع ذلك لَمَّا غَلَوا وأفسَدوا عاقبَهم اللهُ بذُنوبِهم، وسَلَّطَ عليهم العَدُوَّ الذي جَاسَ خِلالَ الدِّيارِ، ودخلَ المَسجِدَ وقَتلَ فيهم مَن لا يُحصي عَدَدَه إلَّا اللهُ، فلم يَمنَعْهم أحدٌ مِن قُبورِ الأنبياءِ التي كانت هناك! فاللهُ تعالى هو الذي يَرزُقُهم ويَنصُرُهم، لا رازِقَ غيرُه ولا ناصِرَ إلَّا هو .

4- قَولُ اللهِ تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ رَحمةَ الله تعالى غالبةٌ على غَضَبِه، بدليلِ أنَّه لَمَّا حكى عنهم الإحسانَ أعاده مرَّتينِ، فقال: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، ولَمَّا حكى عنهم الإساءةَ اقتصَرَ على ذِكرِها مرَّةً واحِدةً، فقال: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا، ولولا أنَّ جانِبَ الرَّحمةِ غالِبٌ لَما كان كذلك

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا

- قولُه: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ يجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ بـ (الكِتاب) كِتابَ التَّوراةِ، والتَّعريفُ للعهدِ الذِّكري، حيثُ ذُكِرَ قَبْلَه في قولِه: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فيكونُ فيه عُدولٌ عن الإضمارِ إلى إظهارِ لفظِ (الكتابِ) لمُجرَّدِ الاهتمامِ. ويجوزُ أنْ يكونَ (الكتابُ) بعضَ كُتبِهم الدِّينيَّةِ؛ فيكونُ تَعريفُ (الكتابِ) تَعريفَ الجِنسِ، وليس تَعريفَ العهدِ الذِّكريِّ؛ إذ ليس هو الكتابَ المذكورَ آنفًا في قولِه: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ؛ لأنَّه لمَّا أظهَرَ اسمَ الكتابِ أشعَرَ بأنَّه كتابٌ آخَرُ من كُتبِهم

.

- وجُملةُ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ إلى قولِه: حَصِيرًا مُبيِّنةٌ لجُملةِ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ .

- وقولُه: لَتُفْسِدُنَّ جوابُ قسَمٍ محذوفٍ، إن كان قَضَيْنَا بمعنَى (أعْلَمْنا). ويجوزُ أنْ يُجْرى القضاءُ المحتومُ مَجْرى القسَمِ، فيكونُ لَتُفْسِدُنَّ جوابًا له، كأنَّه قال: وأقْسَمنا لتُفسِدُنَّ، وذلك إذا كان قَضَيْنَا مِن القضاءِ والقدرِ .

- وإسنادُ الإفسادِ إلى ضَميرِ بني إسرائيلَ مُفيدٌ أنَّه إفسادٌ من جُمهورِهم، بحيث تُعَدُّ الأُمَّةُ كلُّها مُفسدةً وإنْ كانت لا تَخْلو من صالحِينَ .

2- قَولُه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا

- قولُه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ إضافةُ وَعْدُ إلى أُولَاهُمَا بَيانيَّةٌ، أي: الموعودُ الَّذي هو أُولى المرَّتَينِ من الإفسادِ والعُلُوِّ .

3- قَولُه تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا

- قولُه: رَدَدْنَا جعَلَ رَدَدْنَا مَوضِعَ (نرُدُّ)؛ إذ وقْتُ إخبارِهم لم يقَعِ الأمْرُ بعدُ، لكنَّه لمَّا كان وعْدُ اللهِ في غايةِ الثِّقةِ أنَّه يقَعُ، عُبِّرَ عن مُستقبلِه بالماضي .

4- قَولُه تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا

- قولُه: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فيه ذِكْرُ الإساءةِ باللَّامِ في قولِه: فَلَهَا؛ ازْدواجًا، أي: قابَلَ قولَه: لِأَنْفُسِكُمْ بقولِه: فَلَهَا؛ فاللامُ على بابِها؛ لأنَّها للاختِصاصِ، والعامِلُ مُختَصٌّ بجَزاءِ عَملِه حَسَنِه وسيِّئِه. وقيل: اللَّامُ بمعنى (إلى)، أي: فإليها ترجِعُ الإساءةُ. وقيل: اللَّامُ بمعنى (على)، أي: فعَلَيها .

- قولُه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا تَفريعٌ على قولِه: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا؛ إذ تَقديرُ الكلامِ: فإذا أسأتُمْ، وجاء وعْدُ المرَّةِ الآخرةِ. وقد حصَلَ بهذا التَّفريعِ إيجازٌ بَديعٌ قضاءً لحقِّ التَّقسيمِ الأوَّلِ في قولِه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا، ولحَقِّ إفادةِ تَرتُّبِ مَجيءِ وعْدِ الآخرةِ على الإساءةِ، ولو عُطِفَ بالواوِ -كما هو مُقْتضى ظاهرِ التَّقسيمِ إلى مَرَّتينِ- فاتت إفادةُ التَّرتُّبِ والتَّفرُّعِ .

- قولُه: لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ، أي: بعَثْناهم ليَسُوؤا وُجوهَكم؛ فحُذِفَ (بعَثْناهم)؛ لدلالةِ ذكْرِه أوَّلًا عليه . وخُصَّتِ المَساءةُ بالوُجوهِ -والمُرادُ: أصحابُ الوجوهِ-؛ لِما يَبْدو عليها من أثَرِ الحُزنِ والكآبةِ ، فآثارُ الأعراضِ النَّفسانيَّةِ الحاصِلة في القَلبِ إنَّما تَظهَرُ على الوَجهِ، فإنْ حَصَل الفَرَحُ في القَلبِ، ظَهَرَت النَّضْرةُ والإشراقُ والإسفارُ في الوَجهِ، وإن حصل الحُزنُ والخَوفُ في القَلبِ، ظهَرَ الكُلوحُ والغَبْرةُ والسَّوادُ في الوَجهِ؛ فلهذا السَّبَبِ عُزِيَت الإساءةُ إلى الوُجوهِ في هذه الآيةِ .

- وقَولُه تعالى: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ قيل: هذا تعريضٌ بالتَّهديدِ لقُرَيشٍ بأنَّهم إن لم يَرجِعوا أبدَلَ أمْنَهم في الحَرمِ خَوفًا وعِزَّهم ذلًّا، فأدخَلَ عليهم جنودًا لا قِبَلَ لهم بها، وقد فعَلَ ذلك عامَ الفَتحِ، لكِنَّه فِعلُ إكرامٍ لا إهانةٍ، ببرَكةِ هذا النبيِّ الكريمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

5- قَولُه تعالى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا

- قَولُه: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ، حيث عُدِلَ عن أنْ يُقالَ: (وجعَلْنا جهنَّمَ لكم)؛ تَسجيلًا على كُفْرِهم بالعَودِ، وذَمًّا لهم بذلك، وإشعارًا بعلَّةِ الحُكمِ .

================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (9-11)

ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ

المعنى الإجمالي:

 

يُبينُ الله تعالى أنَّ هذا القُرآنَ يُرشِدُ إلى أحسَنِ الطُّرُقِ وأعدلِها، وهي مِلَّةُ الإسلامِ، ويُبَشِّرُ المُؤمِنينَ الذين يمتَثِلون الأمرَ ويَجتنِبون النَّهيَ، بأنَّ لهم ثوابًا عَظيمًا، وأنَّ الذينَ لا يُؤمنونَ بالدَّارِ الآخرةِ وما فيها مِنَ الجَزاءِ، أعدَدْنا لهم عَذابًا مُوجِعًا في النَّارِ.

ويدعو الإنسانُ عند غَضَبِه على نَفسِه أو ولَدِه أو مالِه بالشَّرِّ، مِثلَ ما يدعو بالخيرِ، وهذا مِن جَهلِ الإنسانِ وعَجَلتِه، وكان الإنسانُ بطَبعِه عَجولًا.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذه الآيةَ جاءت تنفيسًا على المؤمنين مِن أثَرِ القِصَصِ المهولةِ التي قُصَّت عن بني إسرائيلَ وما حَلَّ بهم مِن البلاءِ، مِمَّا يثيرُ في نفوسِ المُسلِمين الخَشيةَ مِن أن يُصيبَهم مِثلُ ما أصاب أولئك، فأُخبِروا بأنَّ في القرآنِ ما يَعصِمُهم عن الوقوعِ فيما وقعَ فيه بنو إسرائيل؛ إذ هو يهدي للطَّريقِ التي هي أقومُ؛ ولذلك ذكَرَ مع الهدايةِ بِشارةَ المؤمنينَ الذين يَعمَلون الصَّالحاتِ، ونِذارةَ الذين لا يُؤمِنون بالآخرةِ

.

وأيضًا لَمَّا شرَحَ اللهُ تعالى ما فعَلَه في حَقِّ عِبادِه المُخلَصينَ، وهو: الإسراءُ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإيتاءُ الكِتابِ لِموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما فعَلَه في حَقِّ العُصاةِ والمتمَرِّدينَ وهو: تَسليطُ أنواعِ البَلاءِ عليهم؛ كان ذلك تَنبيهًا على أنَّ طاعةَ اللهِ تُوجِبُ كُلَّ خَيرٍ وكَرامةٍ، ومَعصيَتَه تُوجِبُ كُلَّ بَليَّةٍ وغَرامةٍ، لا جرَمَ أثنى هنا على القُرآنِ، فقال تعالى :

إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.

أي: إنَّ هذا القُرآنَ يُرشِدُ المتَّبِعينَ له إلى الطَّريقةِ التي هي أعدَلُ وأفضَلُ وأصوَبُ في كلِّ شأنٍ؛ من العقائِدِ والأعمالِ والأخلاقِ، وهي ملةُ الإسلامِ .

وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا.

أي: ويُبَشِّرُ هذا القرآنُ المُؤمِنينَ -الذين يُصَدِّقونَ إيمانَهم بأنَّهم يَعمَلونَ الأعمالَ الصَّالحةَ- بأنَّ لهم ثوابًا عظيمًا في الآخِرةِ .

وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10).

أي: ويُبَشِّرُ القُرآنُ المُؤمِنينَ أيضًا بأنَّ الله أعدَّ وهيَّأَ لأعدائِهم الكافِرينَ الذين لا يُؤمنونَ بالبَعثِ يومَ القيامةِ، عَذابًا مُوجِعًا في الآخِرةِ .

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11).

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ.

أي: ويدعُو الإنسانُ في حالِ غَضَبِه على نَفسِه وأهْلِه ووَلَدِه بالموتِ أو بغَيرِه مِمَّا يَسوءُ، كما يدعو ربَّه بالخَيرِ، فلو استُجِيبَ له في دُعائِه بالشَّرِّ كما يُستَجابُ له في الخَيرِ، لهلَك .

عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((سِرْنا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوةِ بطنِ بُواطٍ، وهو يَطلُبُ المَجْديَّ بنَ عَمرٍو الجُهنيَّ، وكان النَّاضِحُ يَعقُبُه مِنَّا الخَمسةُ والسِّتَّةُ والسَّبعةُ، فدارت عُقبةُ رجُلٍ مِن الأنصارِ على ناضِحٍ له، فأناخه فركِبَه، ثمَّ بعَثَه فتَلَدَّنَ عليه بعضَ التلَدُّنِ، فقال له: شأْ ، لعَنَك اللهُ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن هذا اللَّاعِنُ بَعيرَه؟! قال: أنا يا رسولَ اللهِ، قال: انزِلْ عنه، فلا تصْحَبْنا بمَلعونٍ، لا تدْعُوا على أنفُسِكم، ولا تَدعُوا على أولادِكم، ولا تَدْعوا على أموالِكم، لا تُوافِقوا مِنَ اللهِ ساعةً يُسألُ فيها عَطاءً، فيَستجيبَ لكم )) .

وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا.

أي: إنَّما يَفعَلُ الإنسانُ ذلك فيَدعو عندَ غَضَبِه بما يَكرَهُ أن يُستَجابَ له فيه؛ لأنَّ مِن طَبْعِه العَجَلةَ، فيتعَجَّلُ طَلَبَ كُلِّ ما يقَعُ في قَلبِه ويَخطُرُ ببالِه، مِن غيرِ أن يتأنَّى فيه ويتفَكَّرَ، ويتدبَّرَ عواقِبَه

 

.

كما قال تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا في هذه الآيةِ يُخبِرُ تعالى عن شَرَفِ القُرآنِ وجَلالتِه، وأنَّه يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي: أعدَلُ وأعلى، مِن العقائِدِ والأعْمالِ والأخلاقِ، فمَن اهتدى بما يدعو إليه القُرآنُ كان أكمَلَ النَّاسِ وأقوَمَهم وأهداهم في جميعِ أمورِه

.

2- قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا في هذه الآيةِ أنَّ القُرآنَ مُشتَمِلٌ على البِشارةِ والنِّذارةِ، وفيها ذِكرُ الأسبابِ التي تُنالُ بها البِشارةُ، وهي الإيمانُ والعَمَلُ الصَّالحُ، والتي تُستَحَقُّ بها النِّذارةُ، وهي ضِدُّ ذلك .

3- ذَمَّ اللهُ تعالى الإنسانَ بالعَجَلةِ، بقَولِه تعالى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا، وقال: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء: 37] ، فالعجَلَةُ مِن مقتضياتِ الشهوةِ؛ فلذلك ذُمَّت فى جميعِ القرآنِ حتَّى قِيل: (العجلةُ مِن الشيطانِ)

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، فيه إيماءٌ إلى ضمانِ سلامةِ أُمةِ القرآنِ مِن الحيدةِ عن الطريقِ الأقومِ؛ لأنَّ القرآنَ جاء بأسلوبٍ مِن الإرشادِ قويمٍ، لا يحولُ دونَه ودونَ الولوجِ إلى العقولِ حائلٌ، ولا يغادرُ مسلكًا إلى ناحيةٍ من نواحي الأخلاقِ والطبائع إلا سلكه إليها تحريضًا أو تحذيرًا، بحيث لا يعدمُ المتدبرُ في معانيه اجتناءَ ثمارِ أفنانِه، وبتلك الأساليبِ التي لم تبلُغْها الكتبُ السابقةُ كانت الطريقةُ التي يهدي إلى سلوكِها أقومَ مِن الطرائقِ الأُخرَى، وإن كانت الغايةُ المقصودُ الوصول إليها واحدةً

، فما يَهدِي إليه القُرآنُ أقومُ مِمَّا يهدي إليه الكِتابُ الذي قَبلَه، وإن كان ذلك يَهدِي إلى الصِّراطِ المُستقيمِ، لكِنَّ القُرآنَ يَهدي للتي هي أقوَمُ؛ ولهذا ذُكِرَ هذا بعدَ قَولِه تعالى: وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، ثمَّ قال: إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا فيه سُؤالٌ: كيف يَليقُ لَفظُ البِشارةِ بالعَذابِ؟

الجَوابُ: أنَّه مَذكورٌ على سَبيلِ التَّهَكُّمِ. أو يقال: إنه مِن بابِ إطلاقِ اسمِ الضِّدَّينِ على الآخرِ، كقوله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] .

3- لا بُشرى لِذَوي الهِمَمِ أعلى ولا أسَرُّ مِن الانتِقامِ مِن مُخالِفيهم؛ قال الله تعالى: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا فمِمَّا بَشَّرَهم به أنَّه أعَدَّ لِمُخالفِيهم عذابًا أليمًا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا

- قولُه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ استئنافٌ ابتدائيٌّ، عاد به الكلامُ إلى الغرَضِ الأهمِّ من هذه السُّورةِ، وهو تَأييدُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالآياتِ والمُعجزاتِ

.

- وتَأكيدُ الجُملةِ بـ(إنَّ) مُراعًى فيه حالُ بعضِ المُخاطبينَ، وهم الَّذين لم يُذْعِنوا إليه، وحالُ المُؤمنينَ من الاهتمامِ بهذا الخبرِ؛ فالتَّوكيدُ مُستعملٌ في مَعنيَيْه: دفْعِ الإنكارِ، والاهتمامِ، ولا تعارُضَ بين الاعتبارينِ .

- قولُه: هَذَا الْقُرْآنَ إشارةٌ إلى الحاضرِ في أذهانِ النَّاسِ من المِقدارِ المُنزَّلِ من القُرآنِ قبْلَ هذه الآيةِ، وبُيِّنَتِ الإشارةُ بالاسمِ الواقعِ بعدها؛ تَنويهًا بشأنِ القُرآنِ .

- قولُه: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ صِفةٌ لمحذوفٍ دَلَّ عليه يَهْدِي، أي: للطَّريقِ الَّتي هي أقومُ؛ لأنَّ الهِدايةَ من مُلازماتِ السَّيرِ والطَّريقِ، أو للمِلَّةِ الأقومِ، وفي حذْفِ الموصوفِ -من الإيجازِ من جهةٍ، ومن التَّفخيمِ من جهةٍ أُخرى- ما رجَّحَ الحذفَ على الذِّكرِ ؛ ففي الحذفِ من ذَوقِ البلاغةِ ما لا يُوجَدُ مع الإثباتِ . وقيل: لِلَّتِي أي: (للطريقةِ التي)، وترْكُ ذِكْرِها ليس لقصدِ التَّعميمِ لها وللحالةِ وللخصلةِ ونحوِها ممَّا يُعَبَّرُ به عن المقصدِ المذكورِ، بلْ للإيذانِ بالغِنَى عن التَّصريحِ بها لغايةِ ظُهورِها، لا سيَّما بعدَ ذكْرِ الهدايةِ الَّتي هي من رَوادفِها .

- قولُه: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الأقومُ: تَفضيلُ القويمِ -وذلك على أحدِ القولينِ-؛ ففيه إيماءٌ إلى ضمانِ سلامةِ أُمَّةِ القُرآنِ من الحَيدةِ عن الطَّريقِ الأقومِ .

- قولُه: أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قال ذلك هنا بلفظِ كَبِيرًا، وقاله في (الكهفِ) بلفظِ حَسَنًا في قولِه: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [الكهف: 2] ؛ مُوافقةً للفواصلِ قبلَهما وبعدهما؛ وهي: حَصِيرًا، أَلِيمًا، عَجُولًا، وجُلُّها وقَعَ قبلَ آخرِها مَدَّةٌ، وكذلك في سُورةِ (الكهفِ) جاء على ما تَقْتضيه الآياتُ قبلَها وبعدَها؛ وهي: عِوَجًا، أَبَدًا، وَلَدًا، وجُلُّها قبلَ آخرِها مُتحرِّكٌ .

2- قَولُه تعالى: وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

- جُملةُ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا مَعطوفةٌ على قولِه: أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا، أي: بُشِّروا بفَوزِهم بالجنَّةِ، وبكَينونةِ العذابِ الأليمِ لأعدائِهم الكُفَّارِ؛ فالتَّبشيرُ هنا بمعناه، والمُرادُ تَبشيرُ المُؤمنينَ ببِشارتينِ: بأجرٍ كَبيرٍ، وبتعذيبِ أعدائهم؛ ففي عِلْمِ المُؤمنينَ بذلك وتَبْشيرِهم به مَسرَّةٌ لهم؛ فمُصيبةُ العدوِّ سُرورٌ يُبشَّرُ به. أو تكونُ جملةُ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ... داخِلةً مع قولِه: أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا تحتَ التَّبشيرِ المُرادِ به مُطلقُ الإخبارِ الشاملِ للإخبارِ بما فيه سرورٌ وللإخبارِ بما ليسَ كذلك؛ فيكونُ ذلك بَيانًا لهدايةِ القُرآنِ بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ. وقيل: إنَّ جُملةَ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ... مَعطوفةٌ على جُملةِ يُبَشِّرُ أو يَهْدِي بإضمارِ (يُخْبِرُ)؛ فيَكونُ مِن عَطْفِ الجُملَةِ على الجُملةِ .

- وفي وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ تَخصيصُ الآخرةِ بالذِّكرِ من بين سائرِ ما كَفَروا به؛ لكونِها مُعظمَ ما أُمِروا بالإيمانِ به، ولمُراعاةِ التَّناسُبِ بين أعمالِهم وجزائِها الَّذي أنبَأَ عنه قولُه عَزَّ وجَلَّ: أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، وهو عذابُ جهنَّمَ، أي: أعتَدْنا لهم فيما كَفَروا به وأنْكَروا وُجودَه من الآخرةِ عذابًا أليمًا، وهو أبلغُ في الزَّجرِ؛ لأنَّ إتيانَ العذابِ مِن حيثُ لا يُحْتَسَبُ أفظَعُ وأفجَعُ .

- هذه الآيةُ جاءت عقِبَ ذكْرِ أحوالِ اليهودِ، وانْدَرجوا فيمَن لا يُؤمِنُ بالآخرةِ؛ لأنَّ أكثرَهم لا يقولُ بالثَّوابِ والعقابِ الجُسمانيِّ، وبعضُهم قال: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة: 80] ؛ فلم يُؤمنوا بالآخرةِ حَقيقةَ الإيمانِ بها .

3- قَولُه تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا

- قولُه: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ، أي: مثْلَ دُعائِه بالخيرِ المذكورِ فَرضًا لا تَحقيقًا؛ فإنَّه بمَعزلٍ من الدُّعاءِ به، وفيهِ رمْزٌ إلى أنَّه اللَّائقُ بحالِه . وقولُه: دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ مَصدرٌ يفيدُ تَشبيهًا، أي: يستعجِلُ الشَّرَّ كاستعجالِه الخيرَ .

- الباءُ في قولِه: بِالشَّرِّ وبِالْخَيْرِ لتأكيدِ لُصوقِ العامِلِ بمَعمولِه، كالَّتي في قولِه تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] ، أو لتَضمينِ مادَّةِ الدُّعاءِ معنى الاستعجالِ؛ فيكونُ كقولِه تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا [الشورى: 18] .

- قولُه: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا تَذييلٌ؛ فالإنسانُ هنا مُرادٌ به الجنسُ؛ لأنَّه المُناسِبُ للتَّذييلِ، و (كان) تدُلُّ على أنَّ اسْمَها مُتَّصِفٌ بخبَرِها اتِّصافًا مُتمكِّنًا

================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (12-15)

ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات :

 

مَنْشُورًا: أي: مفتوحًا، والنشرُ: البسطُ، وأصلُ (نشر): يدلُّ على فتحِ شيءٍ وتَشَعُّبِه

.

طَائِرَهُ: أي: عَمَلَه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وما قُدِّرَ عليه، تقولُ العربُ: جرَى طائرُه بكذا مِن الخيرِ، وجرَى له الطائرُ بكذا مِن الشَّرِّ، فخُوطبوا بما يَستعمِلونَ، والطائرُ: الحظُّ .

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ: أي: ولا تحمِلُ آثِمةٌ إِثْمَ أُخرى غيرِها، والوِزْرُ هو الإثمُ والذَّنْبُ، والثِّقْلُ والحِمْلُ أيضًا. وقيل: الوِزْرُ: هو الحِمْلُ الثَّقيلُ مِن الإثمِ، وهو الإثمُ العَظيمُ، وأصلُ (وزر): يدلُّ على مَا حمَلَه الإنسانُ، وعلى الثِّقل في الشَّيء؛ ومنه سُمِّي الإثمُ وزرًا؛ لأنَّه يُثقِلُ ظهرَ مَن يَحمِلُه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: وجعَلْنا اللَّيلَ والنَّهارَ علامَتَينِ دالَّتَينِ على وَحدانيَّتِنا وقُدرتِنا، فطَمَسْنا القَمرَ؛ لِيَكونَ اللَّيلُ مُظلِمًا، وجعَلْنا الشَّمسَ مُضيئةً لكم في النَّهارِ؛ لتطلُبوا -أيُّها النَّاسُ- فيه ما تحتاجونَه مِن أمورِ معاشِكم، ولتَعلَموا -مِن مَحوِ آيةِ اللَّيلِ- عدَدَ السِّنينَ وحِسابَ الأشهُرِ والأيَّامِ، وكُلَّ شَيءٍ بَيَّناه تَبيينًا كافيًا شافيًا.

وكُلَّ إنسانٍ ألزَمْناه عملَه الذي قدَّرناه عليه، وسبَق به قضاؤُنا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، فيُجازَى عليه وحدَه، فلا يُحاسَبُ بعَمَلِ غَيرِه، ولا يُحاسَبُ غَيرُه بعَمَلِه، ونُخرِجُ له يومَ القيامةِ كِتابًا يراه مَفتوحًا جامعًا لِما عمِلَه، يُقالُ له: اقرأْ كِتابَ أعمالِك، تَكفيك نَفسُك اليومَ شاهِدةً عليك.

ثمَّ ذكَر سبحانَه أنَّ كلَّ إنسانٍ يتحمَّلُ نتيجةَ عملِه، فقال: مَن اهتَدى فاتَّبَع طَريقَ الحَقِّ فإنَّما ثوابُ هدايتِه لنَفسِه، ومَن ضلَّ واتَّبَع طريقَ الباطِلِ فضرَرُ ضَلالِه على نفسِه، ولا تَحمِلُ نَفسٌ مُذنِبةٌ إثمَ نَفسٍ أُخرى، ولا نعذِّبُ أحدًا إلَّا بعد إقامةِ الحُجَّةِ عليه بإرسالِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ.

تفسير الآيات:

 

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ في الآيةِ المتقَدِّمةِ ما أوصَلَ إلى الخَلقِ مِن نِعَمِ الدِّينِ -وهو القُرآنُ- أتبَعَه ببَيانِ ما أوصَلَ إليهم مِن نِعَمِ الدُّنيا

.

وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ في الآيةِ المتقَدِّمةِ أنَّ هذا القُرآنَ يَهدي للَّتي هي أقوَمُ، وذلك الأقوَمُ ليس إلَّا ذِكرَ الدَّلائِلِ الدَّالَّةِ على التَّوحيدِ والنبُوَّةِ؛ لا جَرَمَ أردَفَه بذِكرِ دلائِلِ التَّوحيدِ، وهو عجائِبُ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ .

وأيضًا لما ذكَر عجلةَ الإنسانِ وانتقالَه مِن حالٍ إلى حالٍ؛ ذكَر أنَّ كلَّ هذا العالمِ كذلك في الانتقالِ لا يثبتُ على حالٍ، فنورٌ عقِبَ ظلمةٍ، وبالعكسِ، وازديادُ نورٍ وانتقاصٌ .

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ.

أي: وجعَلْنا بعَظَمتِنا الباهرةِ اللَّيلَ والنَّهارَ علامَتَينِ دالَّتَينِ على وُجودِ اللهِ ووحدانيَّتِه، وكمالِ قُدرتِه ورَحمتِه بعبادِه، وأنَّه المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له .

كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 37 - 40] .

وقال سُبحانَه: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فصلت: 37] .

فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً.

أي: فطَمَسْنا القَمَرَ؛ لِيَكونَ اللَّيلُ مُظلِمًا، وجعَلْنا الشَّمسَ مُضيئةً لكم في النَّهارِ .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5] .

لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.

أي: جَعَلْنا آيةَ النَّهارِ مُبصِرةً؛ لتتَوصَّلوا بضِياءِ النَّهارِ إلى طَلَبِ الرِّزقِ الذي يُيَسِّرُه لكم رَبُّكم مِنْ فَضلِه الواسِعِ .

كما قال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 73] .

وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.

أي: ومَحَوْنا آيةَ اللَّيلِ؛ لِتَعلَموا عدَدَ السَّنَواتِ، وتَعلَموا حِسابَ اللَّيالي والشُّهورِ، فتَنتَفِعوا بذلك في أمورِ دِينِكم ودُنياكم .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] .

وقال سُبحانَه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] .

وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا.

أي: وكلَّ شَيءٍ تَحتاجونَ -أيُّها النَّاسُ- إلى بيانِه مِن مَصالحِ دِينِكم ودُنياكم بيَّنَّاه لكم في القُرآنِ بَيانًا واضِحًا شافيًا لا لَبْسَ فيه ولا نَقْصَ بوجهٍ مِنَ الوُجوهِ .

كما قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قال الله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء: 12] كان معناه: أنَّ كلَّ ما يُحتاجُ إليه مِن شَرحِ دلائِلِ التوحيدِ والنبُوَّةِ والمعادِ، فقد صار مذكورًا، وكُلَّ ما يُحتاجُ إليه من شرحِ أحوالِ الوَعدِ والوعيدِ والتَّرغيبِ والترهيب، فقد صار مذكورًا، وإذا كان الأمرُ كذلك فقد أزيحت الأعذارُ، وأزيلت العِلَلُ؛ فلا جرم كُلُّ مَن ورد عَرصةَ القيامةِ فقد ألزَمْناه طائِرَه في عنُقِه، ونقولُ له: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان سياقُ الكلامِ جاريًا في طريقِ التَّرغيبِ في العَمَلِ الصَّالحِ، والتَّحذيرِ مِن الكُفرِ والسَّيِّئاتِ، ابتداءً مِن قَولِه تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ إلى قَولِه تعالى: عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء: 9- 10] وما عقَّبه ممَّا يتعلَّقُ بالبِشارةِ والنِّذارة، وما أُدمِجَ في خلالِ ذلك مِن التذكيرِ، ثمَّ بما دلَّ على أنَّ عِلمَ اللهِ مُحيطٌ بكُلِّ شَيءٍ تفصيلًا، وكان أهمُّ الأشياءِ في هذا المقامِ إحاطةَ عِلمِه بالأعمالِ كُلِّها- فأعقب ذِكرَ ما فصَّله اللهُ مِن الأشياء بالتَّنبيهِ على تفصيلِ أعمالِ النَّاسِ تَفصيلًا لا يقبَلُ الشَّكَّ ولا الإخفاءَ، وهو التَّفصيلُ المشابِهُ للتَّقييدِ بالكتابةِ، فعطفَ قَولَه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ على قَولِه: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء: 12] عَطْفَ خاصٍّ على عامٍّ؛ للاهتمامِ بهذا الخاصِّ .

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.

أي: وكلَّ إنسانٍ منكم ألزَمْناه عملَه الذي قدَّرْناه عليه؛ وسبَق به قضاؤُنا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، الصادرَ منه باختيارِه، فيُجازَى عليه وَحْدَه، فلا يُحاسَبُ بعَمَلِ غَيرِه، ولا يُحاسَبُ غَيرُه بعَمَلِه .

كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] .

وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا.

أي: ونُظهِرُ لكُلِّ إنسانٍ يومَ القيامةِ كِتابَ أعمالِه، يَجِدُه مَفتوحًا، حاويًا لكلِّ ما عَمِلَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ .

كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف: 49] .

وقال سُبحانَه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق: 7-12] .

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14).

أي: يُقالُ لكلِّ إنسانٍ يومَ القيامةِ: اقرأْ كِتابَ أعمالِك التي كَتَبَها الحَفَظةُ فيه، ويَكفي لإحصاءِ أعمالِك نَفسُك؛ فهي الشَّاهِدةُ بأنَّك لم تُظلَمْ، ولم يُكتَبْ عليك سِوى ما عَمِلْتَ .

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال في الآيةِ الأولى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] ومعناه: أنَّ كُلَّ أحَدٍ مُختَصٌّ بعَمَلِ نَفسِه، عبَّرَ عن هذا المعنى بعبارةٍ أخرى أقرَبَ إلى الأفهامِ، وأبعَدَ عن الغَلَطِ .

فهذه الجُملةُ بَيانٌ أو بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ مع توابِعِها، وفيه تَبيينُ اختِلافِ الطَّائِرِ بين نافعٍ وضارٍّ؛ فطائِرُ الهدايةِ نَفْعٌ لصاحبِه، وطائِرُ الضَّلالِ ضُرٌّ لصاحِبِه .

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ.

أي: مَن اهتَدى فاتَّبَعَ الحقَّ فإنَّما ينفَعُ نَفْسَه بالجزاءِ الحَسَنِ، والعاقبةِ الحَميدةِ في الدُّنيا والآخرةِ .

كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

وقال سُبحانَه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] .

وقال عزَّ وجلَّ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [الروم: 44، 45].

وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.

أي: ومَن ضلَّ عن الحَقِّ فإنَّما يجني على نَفسِه، فيَقَعُ ضَرَرُ ذلك عليه في الدُّنيا والآخرةِ .

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.

أي: ولا تَحمِلُ نَفسٌ آثِمةٌ إثمَ نَفسٍ أُخرى، ولا يَحمِلُ أحدٌ ذَنْبَ غَيرِه .

كما قال تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر: 18].

وقال سُبحانَه: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] .

وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.

أي: وما كُنَّا مُعَذِّبينَ قَومًا إلَّا بعدَ إقامةِ الحُجَّةِ عليهم بإرسالِ رَسولٍ إليهم، فإذا رَدُّوا الحَقَّ عذَّبْناهم بما يَستَحِقُّونَ

 

.

كما قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] .

وقال سُبحانَه: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ [الشعراء: 208، 209].

وقال عزَّ وجلَّ: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37].

وقال تبارك وتعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 71- 72] .

وقال جلَّ جلاله: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 8 - 11] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال تعالى: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ والابتِغاءُ: هو طلَبُ الشَّيءِ بسَعيٍ إليه ومحبَّةٍ فيه، ويُسمِّي تعالى طلَبَ أسبابِ الحياةِ ابتغاءً؛ تَنبيهًا على هذا السَّعيِ وهذه المحبَّةِ، فهُما الشَّرطانِ اللَّازمانِ للفوزِ بالمطلوبِ، كما يسمِّي تعالى المطلوبَ بالابتغاءِ فَضلًا مِن الرَّبِّ، وفَضلُه من رحمتِه، ورحمتُه واسِعةٌ لا تَضبِطُها حدودٌ، ولا تَحصُرُها الأعدادُ؛ تنبيهًا على سَعةِ هذا الفَضلِ لِيَذهَبَ الخَلقُ في جميعِ نواحيه، ويأخذوا بجَميعِ أسبابِه ممَّا أذِنَ لهم فيه، وليكونوا إذا ضاق بهم مذهَبٌ آخذين بمذهبٍ آخَرَ مِن مَسالكِ هذا الفَضلِ الربَّاني الواسِعِ غيرِ المحصورِ، وتنبيهًا أيضًا على قوَّةِ الرجاءِ في الحُصولِ على البُغيةِ؛ لأنَّ طلَبَهم طلَبٌ لِفَضلِ رَبٍّ كريمٍ، ويقولُ تعالى: مِنْ رَبِّكُمْ والربُّ: المالِكُ المدَبِّرُ لمملوكِه بالحِكمةِ، فيُعطيه في كلِّ حالٍ مِن أحوالِه ما يليقُ به؛ ليَكونَ الخَلقُ بعد قيامِهم بالعمَلِ راضين بما ييسِّرُه الله من أسبابٍ، وما يقسِمُه لهم مِن رزقٍ؛ ثِقةً بعَدلِه وحِكمتِه، فلا يبغي أحدٌ على أحدٍ بتعَدٍّ أو حسَدٍ، فجَمَعت هذه الآيةُ جَميعَ أصولِ السَّعادةِ في هذه الحَياةِ:

- بالعَمَلِ مع الجِدِّ فيه، والمحبَّةِ له والرَّجاءِ في ثَمَرتِه، الذي به قِوامُ العُمرانِ.

- وبالرِّضا والتَّسليم للمَولى، الذي به طُمأنينةُ القَلبِ وراحةُ الضَّميرِ.

- وبالكَفِّ للقَلبِ واليَدِ عن النَّاسِ، الذي به الأمنُ والسَّلامُ

.

2- قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا فكُلُّ ما يحتاجُ إليه العِبادُ لتَحصيلِ السَّعادتينِ من عقائِدِ الحَقِّ، وأخلاقِ الصِّدقِ، وأحكامِ العَدلِ، ووجوهِ الإحسانِ، كُلُّ هذا فُصِّل في القُرآنِ تَفصيلًا، وهذا دُعاءٌ وترغيبٌ للخَلقِ أن يَطلُبوا ذلك كُلَّه مِن القرآنِ الذي يهدي للتي هي أقومُ في العِلمِ والعَمَلِ، ويأخُذوا منه ويهتَدوا به؛ فهو الغايةُ التي ما وراءها غايةٌ في الهُدى والبيانِ .

3- قال الله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا إذا عرف الإنسانُ هذا وعنده مُسكةٌ مِن عَقلٍ، يَجِبُ عليه في دارِ الدُّنيا -وقتَ إمكانِ الفُرصةِ- ألَّا يُخزيَ نَفسَه ويُخجِلَها على رؤوسِ الأشهادِ خِزيًا وخَجَلًا يجُرُّه إلى النَّارِ؛ فالرَّحيلُ قَريبٌ والمحاسَبةُ حَقٌّ، وكُلُّ ما فعله الإنسانُ مُسَجَّلٌ عليه، وسيُقرأُ على رؤوسِ الأشهادِ، وسيَجِدُه في كتابٍ مَنشورٍ؛ فعلينا ألَّا نفضَحَ أنفُسَنا يومَ القيامةِ، ففَضيحةُ الآخرةِ وخِزيُها ليست كفَضيحةِ الدُّنيا؛ وألَّا نُفوِّتَ الفُرصةَ وأن ننتَهِزَها قبل أن يَضيعَ الوَقتُ ويُجرَّ الإنسانُ إلى القبرِ ليس عنده حَسَناتٌ؛ وألَّا نُفرِّطَ لئلَّا نندَمَ حيث لا ينفَعُ النَّدمُ

 

!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ أصلٌ في عِلمِ المَواقيتِ والهَيئةِ والتَّاريخِ

.

2- في قوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ حجةٌ على المعتزلةِ والقَدَرِيَّةِ في إلزامِ الطائرِ، والطائرُ: ما قُضِي عليهم مِن الشقاوةِ والسعادةِ ، وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ.

3- قَولُ الله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا -على أحدِ القولينِ في تفسيرِ الآيةِ- مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ على أنَّ كُلَّ ما قدَّرَه اللهُ تعالى للإنسانِ وحَكَمَ عليه به في سابِقِ عِلْمِه، فهو واجِبُ الوُقوعِ، مُمتَنِعُ العَدَمِ، وتَقريرُه مِن وَجهَينِ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ تقديرَ الآيةِ: وكُلَّ إنسانٍ ألزَمْناه عَمَلَه في عُنُقِه، فبيَّن تعالى أنَّ ذلك العَمَلَ لازِمٌ له، وما كانَ لازِمًا للشَّيءِ كانَ مُمتَنِعَ الزَّوالِ عنه، واجِبَ الحُصولِ له، وهو المقصودُ.

الوجهُ الثَّاني: أنَّه تعالى أضاف ذلك الإلزامَ إلى نَفْسِه؛ لأنَّ قَولَه: أَلْزَمْنَاهُ تصريحٌ بأنَّ ذلك الإلزامَ إنَّما صدَرَ منه، ونظيرُه قَولُه تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى [الفتح: 26] وهذه الآيةُ دالَّةٌ على أنَّه لا يَظهَرُ في الأبَدِ إلَّا ما حَكَمَ اللهُ به في الأزَلِ .

4- قَولُ الله تعالى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا لا ينافي قولَه تعالى: وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] ؛ لأنَّ في يَومِ القيامةِ مَواقِفَ مُختَلِفةً؛ ففي موقِفٍ يَكِلُ اللهُ حِسابَهم إلى أنفُسِهم، وعِلمُه مُحيطٌ بهم، وفي مَوقِفٍ يُحاسِبُهم هو تعالى. وقيل: إنَّ اللهَ تعالى هو الذي يُحاسِبُهم لا غيرُ، وقَولُه: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا أي: يكفيك أنَّك شاهِدٌ على نَفسِك بذُنوبِها، فهو توبيخٌ وتَقريعٌ، لا تَفويضُ حِسابِ العَبدِ إلى نَفسِه. وقيل غيرُ ذلك .

5- قَولُ الله تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ ثَوابَ العَمَلِ الصَّالحِ مُختَصٌّ بفاعِلِه، وعِقابَ الذَّنبِ مُختَصٌّ بفاعِلِه، لا يتعَدَّى منه إلى غَيرِه؛ كقَولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [النجم: 39-40] .

6- قال اللهُ تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى أي: لا يَحمِلُ أحَدٌ ذَنْبَ أحَدٍ، ولا يَجني جانٍ إلَّا على نَفسِه، كما قال تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ [فاطر: 18] . ولا مُنافاةَ بين هذا وبينَ قَولِه تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 13] ، وقَولِه تعالى وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] ؛ فإنَّ الدُّعاةَ عليهم إثمُ ضَلالِهم في أنفُسِهم، وإثمٌ آخَرُ بسَبَبِ ما أضَلُّوا مَن أضَلُّوا مِن غَيرِ أن يَنقُصَ مِن أوزارِ أولئك، ولا يَحمِلوا عنهم شيئًا، وهذا مِن عَدلِ اللهِ ورَحمتِه بعِبادِه .

7- قَولُه تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا حكَمَ سُبحانَه لعبادِه بأربعةِ أحكامٍ هي غايةُ العَدلِ والحِكمةِ:

أحدُها: أنَّ هُدى العبدِ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ لِنَفسِه لا لِغَيرِه.

الثاني: أنَّ ضَلالَه بفَواتِ ذلك وتخَلُّفِه عنه على نَفسِه لا على غَيرِه.

الثالث: أنَّ أحدًا لا يُؤاخَذُ بجَريرةِ غَيرِه.

الرابع: أنَّه لا يُعَذِّبُ أحدًا إلَّا بعدَ إقامةِ الحُجَّةِ عليه برسُلِه. فتأمَّلْ ما في ضِمْنِ هذه الأحكامِ الأربعةِ مِن حِكمَتِه تعالى وعَدْلِه وفَضْلِه .

8- العُقوبةُ قبلَ الحُجَّةِ ليسَت مَشروعةً؛ قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا؛ ولهذا قال الفُقَهاءُ في البُغاةِ: إنَّ الإمامَ يُراسِلُهم، فإنْ ذَكَروا شُبهةً بَيَّنَها، وإن ذَكَروا مَظلِمةً أزالَها، كما أرسَلَ عليٌّ ابنَ عَبَّاسٍ إلى الخوارِجِ، فناظَرَهم حتى رجَعَ منهم أربعةُ آلافٍ، وكما طلَبَ عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ دُعاةَ القَدَريَّةِ والخوارِجِ، فناظَرَهم حتى ظهَرَ لهم الحَقُّ وأقَرُّوا به .

9- في قَولِه تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا دَلالةٌ على أنَّ الحَدَّ لا يَجِبُ إلَّا على مَن بَلَغَه التَّحريمُ .

10- قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فالله تعالى أعدَلُ العادلينَ لا يعَذِّبُ أحدًا حتى تقومَ عليه الحُجَّةُ بالرِّسالةِ ثمَّ يعانِدَ الحُجَّةَ، وأمَّا من انقاد للحُجَّةِ أو لم تبلُغْه حُجَّةُ الله تعالى، فإنَّ اللهَ تعالى لا يعَذِّبُه. واستُدِلَّ بهذه الآيةِ على أنَّ أهلَ الفَتراتِ وأطفالَ المُشرِكين لا يعَذِّبُهم اللهُ حتى يبعَثَ إليهم رسولًا؛ لأنَّه مُنزَّهٌ عن الظُّلمِ .

11- قولُه تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا استدلَّ أهلُ السنةِ به على أنَّ التكليفَ لا يلزمُ العبادَ إلَّا مِن الشرعِ، لا مِن مجردِ العقلِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا

- قولُه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً فيه فَنُّ الجمْعِ مع التَّفريقِ، وهو أنْ يجمَعَ المُتكلِّمُ بين شَيئينِ في حكْمٍ واحدٍ، ثمَّ يُفرِّقُ بينهما في ذلك الحُكْمِ

.

- وفيه تَقديمُ اللَّيلِ؛ لمُراعاةِ التَّرتيبِ الوُجوديِّ؛ إذ منه ينسلِخُ النَّهارُ، وفيه تَظهَرُ غُرَرُ الشُّهورِ، ولتَرتيبِ غايةِ آيةِ النَّهارِ عليها بلا واسطةٍ .

- قولُه: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ، أي: جعَلْناها لا تُبْصَرُ المرئيَّاتُ فيها، كما لا يُبْصَرُ ما مُحِيَ من الكتابِ، وهذا من البلاغةِ الحَسنةِ جِدًّا .

- قولُه: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً نسَبَ الإبصارَ إلى آيةِ النَّهارِ، كما يُقالُ: ليلٌ قائمٌ ونائمٌ، أي: يُقام فيه ويُنامُ فيه؛ فهو من إسنادِ الفعلِ إلى زمانِه. وقيل: معنى مُبْصِرَةً مُضيئةٌ؛ لأنَّ النَّهارَ لا يُبصِرُ . وقيل أيضًا: لما كانت في غايةِ الضياءِ يُبصِرُ بها كلُّ مَن له بصرٌ، أسندَ الإبصارَ إليها مبالغةً، فقال: مُبْصِرَةً .

- وفي قولِه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث ثَنَّى الآيةَ هنا، وأفرَدَها في سُورةِ (الأنبياءِ) في قولِه: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً [الأنبياء: 91] ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّه لتَبايُنِ اللَّيلِ والنَّهارِ من كلِّ وجْهٍ، ولتَكرُّرِهما؛ فناسَبَهما التَّثنيةُ، بخلافِ عيسى مع أُمِّه عليهما السَّلامُ، فإنَّه جُزءٌ منها، ولا تَكرُّرَ فيهما؛ فناسَبَهما الإفرادُ .

- قَولُه: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ جاء التَّعليلُ لحِكمةِ آيةِ النَّهارِ خاصَّةً دون ما يقابِلُها مِن حِكمةِ اللَّيلِ، فلم يذكُرِ السُّكونَ فيه؛ لأنَّ المنَّةَ بها أوضَحُ، ولأنَّ من التنَبُّهِ إليها يحصُلُ التنبُّهُ إلى ضِدِّها، وهو حِكمةُ السُّكونِ في اللَّيلِ، فاكتفى بما ذُكِرَ في النَّهارِ .

- قولُه: عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ فيه تَقديمُ العددِ على الحسابِ، مع أنَّ التَّرتيبَ بين مُتعلِّقَيهما وُجودًا وعدمًا على العكسِ؛ للتَّنبيهِ من أوَّلِ الأمْرِ على أنَّ مُتعلِّقَ الحسابِ ما في تَضاعيفِ السِّنينَ من الأوقاتِ، أو لأنَّ العلْمَ المُتعلِّقَ بعدَدِ السِّنينَ علْمٌ إجماليٌّ بما تعلَّقَ به الحسابُ تَفصيلًا، أو لأنَّ العددَ من حيث إنَّه لم يُعْتَبَرْ فيه تَحصُّلُ شَيءٍ آخرَ منه حسْبما ذُكِرَ نازلٌ من الحسابِ المُعتبَرِ فيه ذلك منزلةَ البسيطِ من المُركَّبِ، أو لأنَّ العلْمَ المُتعلِّقَ بالأوَّلِ أقْصى المراتِبِ، فكان جَديرًا بالتَّقديمِ في مقامِ الامتنانِ .

والحسابُ يشملُ حسابَ الأيامِ والشهورِ والفصولِ، فعطفُه على عددِ السنينَ مِن عطفِ العامِّ على الخاصِّ للتعميمِ بعدَ ذكرِ الخاصِّ؛ اهتمامًا به .

- قولُه: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ذُكِرَ المصدَرُ، وهو قَولُه: تَفْصِيلًا؛ لأجلِ تأكيدِ الكلامِ وتقريرِه، كأنَّه قال: وفصَّلْناه حقًّا، وفصَّلْناه على الوَجهِ الذي لا مَزيدَ عليه .

2- قوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا

- قولُه: أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أخبَرَهم اللهُ تَعالى في أوجَزِ لَفظٍ وأبلَغِ إشارةٍ أنَّ جميعَ ما يَلْقى الإنسانُ من خيرٍ وشَرٍّ، فقد سبَقَ به القضاءُ، وأُلْزِمَ حظُّه وعمَلُه ومكسَبُه في عُنقِه-على أحدِ القولينِ في تفسيرِ الآيةِ-، فعُبِّرَ عن الحظِّ والعمَلِ -إذ هما مُتلازِمانِ- بالطَّائرِ. وهو تَعبيرٌ مَسوقٌ على عادةِ العربِ، حيث كانوا لا يُباشِرون عملًا من الأعمالِ الهامَّةِ إلَّا إذا اعْتَبروا أحوالَ الطَّيرِ؛ ليَتَبيَّنوا إذا كانت مَغبَّةُ العملِ خيرًا أمْ شَرًّا، فإذا طارتِ الطَّيرُ بنفْسِها أو بإزعاجٍ من أحدٍ مُتيامنةً، تَفاءلوا وأقْدَموا على عمَلِهم، وإذا طارت مُتياسرةً، تَشاءموا وأحْجَموا عن عمَلِهم، ولمَّا كثُرَ منهم ذلك سَمَّوا نفْسَ الخيرِ والشَّرِّ بالطَّائرِ؛ تَسميةً للشَّيءِ باسمِ لازِمِه .

- قوله: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ العُنقُ هو موضعُ السِّماتِ، وموضعُ القلائِدِ والأطوقَةِ، وغير ذلك مِمَّا يزينُ أو يَشينُ؛ فجرَى كلامُ العربِ بنسبةِ الأشياءِ اللَّازمةِ بني آدَمَ وغَيْرَهم مِنْ ذلك إِلى أعناقِهم، وكَثُرَ اسْتِعْمالُهم ذلك حَتَّى أضافُوا الأشياءَ اللَّازمةَ سائرَ الأبدانِ إلى الأعناقِ، كما أضافوا جناياتِ أعضاءِ الأبدانِ إلى اليدِ، فقالوا: ذلك بما كسَبتْ يَداه . أو: خُصَّ العُنُقُ مِن بينِ سائِرِ الأعضاءِ بهذا المعنى؛ لأنَّ الذي يكونُ عليه إمَّا أن يكونَ خَيرًا يَزينُه أو شَرًّا يَشينُه، وما يَزينُ يكونُ كالطَّوقِ والحَلْيِ، والذي يَشينُ فهو كالغُلِّ، فهاهنا عَمَلُه إن كان مِن الخيراتِ كان زينةً له، وإن كان مِنَ المعاصي كان كالغُلِّ على رَقَبتِه . ويجوزُ أنْ يكونَ قولُه: فِي عُنُقِهِ كِنايةً عن المُلازمةِ والقُربِ، أي: عمَلُه لازمٌ له لُزومَ القِلادةِ ، ومنه قولُ العرَبِ: تَقَلَّدَها طوقَ الحمامةِ؛ فلذلك خُصَّت بالعُنقِ؛ لأنَّ القِلادةَ تُوضَعُ في عُنقِ المرأةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ فِي عُنُقِهِ تَمثيلًا بالبعيرِ الَّذي يُوسَمُ في عُنقِه بسِمةٍ؛ كيْلَا يختلِطَ بغيرِه، أو الَّذي يُوضَعُ في عُنقِه جُلْجُلٌ ؛ لكيْلا يضِلَّ عن صاحبِه .

3- قوله تعالى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا

- جُملةُ اقْرَأْ كِتَابَكَ مقولُ قولٍ مَحذوفٍ دَلَّ عليه السِّياقُ، أي: يُقال له: اقْرَأْ... .

- والأمْرُ في اقْرَأْ مُستعملٌ في التَّسخيرِ، ومُكَنًّى به عن الإعذارِ لهم والاحتجاجِ عليهم، كما دَلَّ عليه قولُه: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا؛ ولذلك كان معرفةُ تلك الأعمالِ من ذلك الكتابِ حاصِلةً للقارِئِ .

- قولُه: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا حَسِيبٌ بمعنى حاسِبٍ، ويجوزُ أنْ يكونَ بمعنى الكافي؛ وُضِعَ موضِعَ الشَّهيدِ، فعُدِّيَ بـ(على)؛ لأنَّ الشَّاهدَ يَكْفي المُدَّعِيَ ما أهَمَّه، وذكَرَ حَسِيبًا؛ لأنَّه بمنزلةِ الشَّهيدِ والقاضي والأميرِ؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّ هذه الأمورَ يتولَّاها الرِّجالُ، فكأنَّه قيل: كَفى بنفْسِك رجُلًا حسيبًا، ويجوزُ أنْ يُتَأوَّلَ النَّفسُ بالشَّخصِ، كما يُقال: ثلاثةُ أنفُسٍ .

- والباءُ في قولِه: بِنَفْسِكَ مَزيدةٌ للتَّأكيدِ، داخِلةٌ على فاعلِ (كفى) .

4- قوله تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا

- قولُه: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فَذلكةٌ لِما تقدَّمَ من بَيانِ كونِ القُرآنِ هاديًا لأقومِ الطَّرائقِ ولُزومِ الأعمالِ لأصحابِها، أي: مَن اهْتَدى بهدايتِه، وعمِلَ بما في تَضاعيفِه من الأحكامِ، وانْتَهى عمَّا نَهاه عنه؛ فإنَّما تَعودُ منفعةُ اهتدائِه إلى نفْسِه، لا تَتخطَّاه إلى غيرِه ممَّن لم يَهتدِ .

- قولُه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى واقعةٌ موقعَ التَّعليلِ لمَضمونِ جُملةِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا؛ لِما في هذه من عُمومِ الحكمِ؛ فإنَّ عمَلَ أحدٍ لا يلحَقُ نفْعُه ولا ضَرُّه بغيرِه . وقيل: إنَّ قولَه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى تأكيدٌ للجُملةِ الثَّانيةِ: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، أي: لا تحمِلُ نفْسٌ حاملةٌ للوِزْرِ وِزْرَ نفْسٍ أُخرى حتَّى يمكِنَ تخلُّصُ النَّفسِ الثَّانيةِ عن وِزْرِها، ويختَلَّ ما بين العامِلِ وعمَلِه من التَّلازُمِ، بل إنَّما تحمِلُ كلٌّ منها وِزْرَها، وهذا تَحقيقٌ لمعنى قولِه عَزَّ وجَلَّ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ...، وإنَّما خَصَّ التَّأكيدَ بالجُملةِ الثَّانيةِ؛ قطعًا للأطماعِ الفارغةِ، حيث كانوا يَزْعمون أنَّهم إنْ لم يَكونوا على الحقِّ، فالتَّبِعةُ على أسلافِهم الَّذين قَلَّدوهم .

- قولُه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى الوِزْرُ: الإثمُ، شُبِّهَ بالحِمْلِ الثَّقيلِ؛ لِما يجُرُّه من التَّعبِ لصاحبِه في الآخرةِ

======================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (16-21)

ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

 

مُتْرَفِيهَا: أي: المُنَعَّمِينَ فيها، الذين قد أبطَرَتْهم النِّعمةُ وسَعَةُ العَيشِ، وأصلُ (ترف): يدُلُّ على التَّوسُّعِ في النِّعمةِ

.

الْقُرُونِ: جمعُ قَرْنٍ، والقرنُ: القومُ أو الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ المقترنونَ في زمنٍ واحدٍ، غَيْر مُقَدَّرٍ بمدةٍ مُعَيَّنةٍ، وقيل: مدَّة القرنِ مئةُ سنةٍ، وقيل: ثمانونَ، وقيل: ثلاثون، وقيل غيرُ ذلك، وهو مأخوذٌ مِن الاقترانِ، وهو اجتماعُ شيئينِ، أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصلُ (قرن): يدلُّ على جمعِ شيءٍ إلى شيءٍ .

مَدْحُورًا: أي: مَطرودًا مُبْعَدًا، وأصلُ (دحر): يدلُّ على الطَّردِ والإبعادِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ

قَولُه: كُلًّا مَنصوبٌ على المَفعوليَّةِ المقَدَّمةِ بـ نُمِدُّ، والتَّنوينُ فيه تَنوينُ عِوَضٍ عن المُضافِ إليه، أي: كُلَّ الفَريقَينِ. هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بدَلٌ مِن قَولِه: كُلًّا بدَلُ مُفَصَّلٍ مِن مُجمَلٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: وإذا قدَّرْنا إهلاكَ أهلِ قَريةٍ لِظُلمِهم، أمَرْنا المُتنَعِّمينَ فيها بطاعةِ اللهِ وتَوحيدِه، على لسانِ الرسولِ المرسَلِ إليهم، فعَصَوا أمرَ رَبِّهم، وكذَّبوا المُرسَلين، فوجب عليهم عذابُنا، فأهلَكْنا قريتَهم واستأصَلْنا شأفتَهم، وكثيرًا أهلَكْنا مِن الأُمَمِ المُكَذِّبةِ رُسُلَها مِن بعدِ نُوحٍ، وحَسبُك ربُّك -يا مُحمَّدُ- إحاطةً وعِلمًا واطِّلاعًا بما يعمَلُه العبادُ.

ثمَّ ذكَر تعالى مصيرَ الذين يُؤثِرونَ الدُّنيا على الآخرةِ، فقال: مَن كان همُّه الدُّنيا وسَعيُه لها وحْدَها، ولم يعمَلْ للآخرةِ؛ عجَّل اللهُ له فيها ما يَشاء تعجيلَه له مِن زينتِها ومُتَعِها؛ لِمن يريدُ اللهُ، ثمَّ يجعَلُ اللهُ له في الآخرةِ جَهنَّمَ يدخُلُها مَذمومًا مطرودًا مِن رَحمة اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ومَن قصَدَ بقَولِه وعَمَلِه ثَوابَ الدَّارِ الآخرةِ، وسعَى لها على ما يحِبُّ اللهُ ويرضى، وهو مُؤمِنٌ؛ فأولئك كان عَمَلُهم مَقبولًا، يُضاعِفُ الله لهم ثوابَه، ويُحسِنُ لهم جزاءَه.

ثم قال تعالى: كلًّا من الفَريقينِ المتقدِّمَينِ نَزيدُ مِن فَضلِنا ورِزقِنا، فنَرزُقُ المُؤمِنينَ والكافرينَ في الدُّنيا، وما كان عَطاءُ رَبِّك مَمنوعًا عن المؤمِنِ ولا عن الكافِرِ، انظُرْ -يا مُحمَّدُ- كيف فضَّل اللهُ بَعضَ النَّاسِ على بَعضٍ في الدُّنيا، ولَلآخِرةُ أكبَرُ تفاضُلًا وتفاوتًا في الدَّرَجاتِ والمنازلِ مِمَّا كانوا عليه في الدُّنيا.

تفسير الآيات:

 

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّه لَمَّا أشار اللهُ تعالى إلى عذابِ المُخالِفينَ؛ قَرَّرَ أسبابَه، وعرَّفَ أنَّها بقَدَرِه، فقال تعالى

:

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا .

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ آمَرْنَا بمَدِّ الهمزةِ، قيل: المعنى: أكثَرْنا مُتْرَفِيها عددًا، أو أكثَرْنَا حُروثَهم وأموالَهم، وقيل غير ذلك .

2- قراءةُ أَمَرْنَا مِن غَيرِ مَدٍّ، مِنَ الأمرِ الذي هو خِلافُ النَّهيِ، والمعنى: أمَرْناهم بالطَّاعةِ ففَسَقوا بمَعصيتِهم اللهَ، وقيل غيرُ ذلك .

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا.

أي: وإذا أرَدْنا أن نُهلِكَ أهلَ قَريةٍ بعَذابٍ في الدُّنيا، أمَرْنا مُتنَعِّميها وجَبابِرَتَها بطاعتي، على لسانِ الرسولِ المبعوثِ إليهم، فخَرَجوا عن أوامِري وعَصَوني .

فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا.

أي: فوَجَبَ على أهلِ القَريةِ العَذابُ الذي حُذِّروا منه، فخرَّبْنا القَريةَ تخريبًا، وأهلَكْنا أهلَها فاستأصَلْناهم .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى ضَرَب مِثالًا لإهلاكِ القُرى الذي وصَفَ سَبَبَه وكيفيَّتَه في الآيةِ السَّابقةِ، فعَقَّبَ ذلك بتَمثيلِه؛ لأنَّه أشَدُّ في الكَشفِ، وأدخَلُ في التَّحذيرِ المَقصودِ، وفي ذلك تحقيقٌ لِكَونِ حُلولِ العَذابِ بالقُرى مُقَدَّمًا بإرسالِ الرَّسولِ إلى أهلِ القَريةِ، ثمَّ بتَوجيهِ الأوامِرِ إلى المُتْرَفينَ، ثمَّ فِسقِهم عنها .

وأيضًا لَمَّا قَرَّرَ أنَّ ما سبَقَ هو شأنُه إذا أراد أن يُهلِكَ؛ أخبَرَ أنَّه فعل ذلك بمَن لا يُحصِيهم العَدُّ مِن القُرونِ، ولا يُحيطُ بهم الحَدُّ مِن الأُمَمِ؛ لأنَّ الاعتبارَ بالمُشاهَدِ أوقَعُ في القَلبِ وأهوَلُ عند النَّفسِ .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ.

أي: وكثيرٌ مِن أهلِ القُرونِ الماضيةِ عذَّبْناهم في الدُّنيا؛ لكُفرِهم وتَكذيبِهم رُسُلَهم، وذلك مِن بعدِ أوَّلِ الرُّسُلِ نُوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فأنتم -يا كُفَّارَ قُرَيشٍ- لَستُم أكرَمَ على اللهِ منهم، وقد كذَّبتُم أشرَفَ الرُّسُلِ؛ فعُقوبتُكم أَولى وأحْرَى إن لم تَنتَهوا عن كُفرِكم وتَكذيبِكم .

كما قال تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا [الفرقان: 37 - 39] .

وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا.

أي: وحسبُك ربُّك -يا محمَّدُ- خَبيرًا بَصيرًا بذُنوبِ عِبادِه، يَعلَمُ بَواطِنَها وظَواهِرَها، لا يخفى عليه شَيءٌ منها، وسيُجازيهم عليها .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تَقَرَّرَ أنَّ اللهَ سُبحانَه خَبيرٌ بذُنوبِهم بعد تَزهيدِه في الدُّنيا بما ذَكَرَ مِن مَصارعِ الأوَّلينَ؛ أتبَعَه الإخبارَ بأنَّه يُعامِلُهم على حَسَبِ عِلْمِه على وَجهٍ مُعَرِّفٍ بعِلمِه بجميعِ طَويَّاتِهم مِن خَيرٍ وشَرٍّ، مُرَغِّبٍ في الآخرةِ، مُرَهِّبٍ من الدُّنيا؛ لأنَّها المانِعةُ مِن اتِّباعِ الرُّسُلِ والتقَيُّد بطاعتِهم، خوفًا مِن نَقصِ الحَظِّ مِن الدُّنيا بزَوالِ ما هو فيه مِنَ الرِّئاسةِ والمالِ، والانهماكِ في اللَّذَّةِ، جهلًا بأنَّ ما قُدِّرَ لا يكونُ غَيرُه، سواءٌ كان صاحِبُه في طاعةٍ أو مَعصيةٍ .

وأيضًا فإنَّ هذا بيانٌ لجُملةِ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [الإسراء: 15] ، وهو راجِعٌ أيضًا إلى جُملةِ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] ؛ تدريجًا في التِّبيانِ للنَّاسِ بأنَّ أعمالَهم مِن كَسبِهم واختيارِهم، فابتُدِئُوا بأنَّ اللهَ قد ألزمَهم تَبِعةَ أعمالِهم، بقَولِه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ ثمَّ وكَلَ أمرَهم إليهم؛ وأنَّ المسيءَ لا يضُرُّ بإساءتِه غَيرَه ولا يَحمِلُها عنه غيرُه، فقال: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [الإسراء: 15] ، ثمَّ أعذرَ إليهم بأنَّه لا يأخُذُهم على غِرَّةٍ، ولا يأخُذُهم إلَّا بسُوءِ أعمالِهم، بقَولِه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ إلى قَولِه: خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 15- 17] ، ثمَّ كشفَ لهم مقاصِدَهم من أعمالِهم، وأنَّهم قِسمانِ، فقال :

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ.

أي: مَن كانت نيَّتُه الدَّارَ العاجِلةَ وهي الدُّنيا، ولها وحدَها يَعملُ، ولا يَعملُ لآخِرتِه؛ عَجَّلْنا له في الدُّنيا ما نَشاءُ مِن مَتاعِها وأرزاقِها، لِمَن نريدُ إعطاءَه مِن ذلك .

ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا.

أي: ثمَّ جعَلْنا له في الآخِرةِ عَذابَ جَهنَّمَ، فيَدخُلُها ويَحتَرِقُ بنارِها مذمومًا مِنَ اللهِ ومِن عِبادِه، على فَسادِ نيَّتِه، وسُوءِ صَنيعِه، مُبعَدًا مِن رَحمةِ رَبِّه، مُقْصًى ذَليلًا .

كما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15- 16] .

وقال سُبحانَه: وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] .

وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19).

وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ.

أي: ومَن نوى ثَوابَ الدَّارِ الآخرةِ، وعَمِلَ للجَنَّةِ الأعمالَ الصَّالِحةَ، بإخلاصٍ لله ومُتابَعةٍ لرَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهو مُؤمِنٌ باللهِ ومَلائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، ومُصَدِّقٌ بالثَّوابِ والجَزاءِ .

فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا.

أي: فأولئك الذين فعَلوا ذلك كان عملُهم بطاعةِ اللَّه مَقبولًا غيرَ مردودٍ، يُضاعِفُ الله لهم ثوابَه، ويُحسِنُ لهم جزاءَه، معَ تجاوزِه عن سيئاتِهم .

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أخبَرَ عن نَفسِه بما يشيرُ إلى التَّوسِعةِ على مَن يُريدُ مِن أهلِ الباطِلِ؛ أخبَرَ بأنَّه قضَى بذلك في الأزَلِ تفَضُّلًا .

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ.

أي: كلَّ واحدٍ مِن الفَريقينِ: الكافرينَ الذين يُريدُونَ الدُّنيا، والمُؤمِنينَ الذين يُريدونَ الآخرةَ، نَزيدُ -يا مُحمَّدُ- مِن فَضلِ رَبِّك ورزقِه .

وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا.

أي: وما كان فَضلُ رَبِّك -يا مُحمَّدُ- مَمنوعًا عن أحدٍ مِن خَلْقِه؛ فلكُلِّ أحدٍ نَصيبٌ منه .

كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود: 6].

وقال سُبحانَه: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت: 60] .

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

لَمَّا كان العَطاءُ المبذولُ للفَريقَينِ هو عَطاءَ الدُّنيا، وكان النَّاسُ مُفَضَّلينَ فيه على وجهٍ يُدرِكونَ حِكمَتَه؛ لَفَت اللهُ لذلك نظَرَ نَبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَفْتَ اعتبارٍ وتدَبُّرٍ، ثمَّ ذَكَّرَه بأنَّ عطاءَ الآخرةِ أعظَمُ عَطاءٍ، وقد فَضَّلَ اللهُ به المُؤمِنينَ .

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.

أي: انظُرْ -يا مُحمَّدُ- كيف فضَّلْنا بعضَ النَّاسِ على بَعضٍ في عطاءِ الدُّنيا، كالرِّزقِ، والعِلمِ، والعَقلِ، والجَمالِ، والصحةِ إلى غيرِ ذلك .

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الروم: 37].

وقال سُبحانَه: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف: 32] .

وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.

أي: ولَتفاوتُهم في الدارِ الآخرةِ أكبرُ مِن الدُّنيا، فتفاضلُ درجاتِ العاملين في الآخرةِ أكبرُ، وأهلُ الآخرةِ يتفاضلون فيها أكثرَ ممَّا يتفاضلُ الناسُ في الدُّنيا .

كما قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام: 132] .

وقال سُبحانه: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى [طه: 75] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: 7 - 11] .

وقال تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ في الجنَّةِ مِئَةَ دَرَجةٍ أعدَّها اللهُ للمُجاهِدينَ في سَبيلِه، كلُّ درجتَينِ ما بينهما كما بينَ السَّماءِ والأرضِ، فإذا سألتُم اللهَ فسَلُوه الفِردَوسَ؛ فإنَّهُ أوسَطُ الجنَّةِ، وأعلى الجَنَّةِ، وفَوقَه عَرشُ الرَّحمنِ، ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- نَبَّه اللهُ تعالى بقَولِه: وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا على أنَّ الذُّنوبَ هي أسبابُ الهَلَكةِ لا غَيرُ، وأنَّه عالِمٌ بها ومُعاقِبٌ عليها

؛ وذلك لأنَّه لَمَّا عقَّبَ إهلاكَهم بعِلمِه بالذُّنوبِ عِلمًا أتمَّ، دلَّ على أنَّه جازاهم بها .

2- قَولُه تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا فيه أعظَمُ زَجرٍ عن ارتِكابِ ما لا يُرضِي اللهَ تعالى .

3- قال اللهُ تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا فَمِن الجُهَّالِ مَن إذا ساعَدَتْه الدُّنيا اغتَرَّ بها وظَنَّ أنَّ ذلك لأجْلِ كَرامتِه على اللهِ تعالى، وأنَّه تعالى بَيَّنَ أنَّ مُساعدةَ الدُّنيا لا ينبغي أن يُستَدَلَّ بها على رِضا اللهِ تعالى؛ لأنَّ الدُّنيا قد تَحصُلُ مع أنَّ عاقِبَتَها هي المصيرُ إلى عذابِ اللهِ وإهانتِه .

4- الذي ينبغي للإنسانِ العاقِلِ أنَّه كُلَّما رأى مِن نَفسِه طُموحًا إلى الدُّنيا، وانشِغالًا واغتِرارًا بها، تذَكَّرَ الموتَ، وتَذَكَّرَ حالَ الآخِرةِ؛ لأنَّ هذا هو المآلُ المُتيقَّنُ؛ وأنَّ ما يُؤَمِّلُه الإنسانُ في الدُّنيا قد يحصُلُ وقد لا يحصُلُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لا ما يَشاء هو، بل ما يشاءُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا .

5- الإنسانُ ينبغي له أن يجعلَ الدُّنيا وسيلةً إلى الآخرةِ؛ ولا يكون كلُّ هَمِّه وقَصْدِه الدُّنيا؛ فالإنسانُ إذا أراد الدُّنيا فقط، فإنَّه قد يُضَيِّعُ الدُّنيا والآخرةَ؛ لِقَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا فيه وجوبُ الإخلاصِ والنيَّةِ في العباداتِ .

7- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا أي: سَعْيَها الذي هو لها، وهو ما كانت جَديرةً به مِن العَمَلِ بما يُرضي اللهَ بما شَرَعَه في كتابِه وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم، لا أيَّ سَعيٍ كان بما لم يَشهَدْ له ظاهِرُ الكِتابِ والسُّنَّةِ .

8- قولُه تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ شَرَط فيه شُروطًا ثلاثةً:

الشرط الأول: أنْ يُريدَ بعَمَلِه الآخِرةَ، أي: ثوابَ الآخرةِ؛ فإنَّه إن لم تَحصُلْ هذه الإرادةُ، وهذه النِّيَّةُ، لم يَنتَفِعْ بذلك العَمَلِ؛ لقَولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39] .

الشَّرطُ الثاني: قَولُه تعالى: وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا بأن يكونَ العَمَلُ الذي يُتَوَصَّلُ به إلى الفَوزِ بثَوابِ الآخرةِ، مِن الأعمالِ التي بها يُنالُ ثَوابُ الآخرةِ، ولا يكونُ كذلك إلَّا إذا كان مِن بابِ القُرَبِ والطَّاعاتِ، فكثيرٌ مِن النَّاسِ يتَقَرَّبونَ إلى اللهِ تعالى بأعمالٍ باطلةٍ!

الشَّرطُ الثَّالِثُ: قَولُه تعالى: وَهُوَ مُؤْمِنٌ وهذا الشَّرطُ مُعتبَرٌ؛ لأنَّ الشَّرطَ في كَونِ أعمالِ البِرِّ مُوجِبةً للثَّوابِ تَقَدُّمُ الإيمانِ، فإذا لم يُوجَدِ الشَّرطُ لم يَحصُلِ المَشروطُ. ثمَّ إنَّه تعالى أخبَرَ أنَّ عند حُصولِ هذه الشَّرائِطِ يَصيرُ السَّعيُ مَشكورًا، والعَمَلُ مَبرورًا، فقال: فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا .

9- قال تعالى: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا فإذا كانت الآخرةُ كذلك فإنَّه ينبغي التَّسابُقُ إلى دَرَجاتِها العاليةِ، وحَياتِها الباقيةِ؛ فذلك خَيرٌ وأحسَنُ تأويلًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا دَلالةٌ على أنَّ القُرى إنَّما تَهلِكُ بعد فِسْقِ مُترَفيها

.

2- قَولُ الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ جُعِل زمنُ نوحٍ مَبدأً لقَصصِ الأُممِ؛ لأنَّه أوَّلُ رسولٍ، واعتُبِر القَصصُ مِن بَعدِه؛ لأنَّ زمنَ نوحٍ صار كالمُنقَطِعِ بسَبَبِ تجديدِ عُمرانِ الأرضِ بعدَ الطُّوفانِ، ولأنَّ العَذابَ الذي حَلَّ بقَومِه عذابٌ مَهولٌ، وهو الغَرَقُ الذي أحاط بالعالَمِ .

3- قوله تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا فيه إشارةٌ إلى أنَّ البعثَ في قولِه: حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا والأمْرَ في قولِه: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا وما يَتْلوهما من فسْقِهم ليس لتَحصيلِ العلْمِ بما صدَرَ عنْهم منَ الذُّنوبِ؛ فإنَّ ذلك حاصلٌ قبلَ ذلك، وإنَّما هو لقطعِ الأعذارِ، وإلزامِ الحُجَّةِ من كلِّ وجْهٍ .

4- قَولُ الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، إن قيل: إنَّ قضيَّتَه أنَّ مَن لم يترُكِ الدُّنيا يكونُ مِن أهلِ النَّارِ، وليس كذلك؟

فالجواب: أنَّ المرادَ مَن لم يُرِدْ بإسلامِه وعبادتِه إلَّا الدنيا، وهذا لا يكونُ إلَّا كافرًا، أو منافِقًا .

5- قَولُه تعالى: لِمَنْ نُرِيدُ يدُلُّ على أنَّه لا يَحصُلُ الفَوزُ بالدُّنيا لكُلِّ أحَدٍ، بل كثيرٌ مِن الكُفَّارِ والضُّلَّالِ يُعرِضونَ عن الدِّينِ في طَلَبِ الدُّنيا، ثمَّ يَبقَونَ مَحرومينَ مِن الدُّنيا ومِن الدِّينِ، وهذا أيضًا فيه زَجرٌ عَظيمٌ لهؤلاءِ الكُفَّارِ الضُّلَّالِ الذين يَترُكونَ الدِّينَ لِطَلَبِ الدُّنيا؛ فإنَّه رُبَّما فاتَتْهم الدُّنيا، فهم الأخسَرونَ أعمالًا؛ الذين ضَلَّ سَعيُهم في الحَياةِ الدُّنيا وهم يَحسَبونَ أنَّهم يُحسِنونَ صُنعًا .

6- في قَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ والقَدَرِيَّةِ؛ لأنَّه سُبحانَه أخبَرَ عن العاجِلةِ -التي استحَقُّوا بها النَّارَ- أنَّه هو الذي عجَّلَها لهم، بل أخبَرَ مع التَّعجيلِ لهم بأنَّه أرادَه منهم بقَولِه: لِمَنْ نُرِيدُ، بل وأَكَّدَه بما بَعدَه؛ حيثُ قال سُبحانَه: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا فقد أَخْبَرَ سُبحانَه عن إمدادِه إيَّاهم بعَطائِه وعن تَفضيلِ بَعضِهم على بعضٍ، وسببُ التَّفضيلِ عَطاؤُه، لا انفرادُهم باكتِسابِ الخَيرِ والشَّرِّ .

7- قال اللهُ تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا فمَن لم يُرِدِ الدَّارَ الآخرةَ قولًا وعَمَلًا، وإيثارًا ومَحبَّةً، ورَغبةً وإنابةً؛ فلا خَلاقَ له في الآخِرةِ، ولا فائِدةَ له في الدَّارِ الدُّنيا، بل هو كافِرٌ مَلعونٌ، مُشَتَّتٌ مُعَذَّبٌ .

8- قولُه تعالى: مَذْمُومًا فيه إشارةٌ إلى الإهانةِ، وقوله: مَدْحُورًا فيه إشارةٌ إلى البُعدِ والطَّردِ .

9- الكافِرُ يُجازى على عَمَلِه الحَسَنِ في الدُّنيا لا في الآخِرةِ، والمُؤمِنُ قد يُؤخَّرُ له الثَّوابُ في الآخرةِ، وقد يُجازَى به في الدُّنيا وفي الآخرةِ؛ قال اللهُ تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] ، وقال عزَّ وجلَّ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا إذَنْ، فالتَّوفيةُ تكونُ في الدُّنيا دونَ الآخرةِ للكافِرِ، أمَّا المُؤمِنُ فتَكونُ في الدُّنيا والآخرةِ جَميعًا، أو في الآخرةِ فقط .

10- قال اللهُ تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا لم يَثْبُتِ المَدحُ إلَّا على إيمانٍ معه العَمَلُ، لا على إيمانٍ خالٍ عن عَمَلٍ . وفي الآيةِ دَليلٌ على أنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ لا تَنفَعُ إلَّا مع الإيمانِ باللهِ؛ لأنَّ الكُفرَ سَيِّئةٌ لا تنفَعُ معها حَسَنةٌ؛ لأنَّه شَرطٌ في ذلك .

11- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا إن قيلَ: كيف قال ذلك مع أنَّا نُشاهِدُ الواحِدَ لا يملكُ شيئًا مِن المالِ، وآخَرَ معه الألوفُ؟

فالجوابُ: أنَّ المُرادَ بالعَطاءِ هنا الرِّزقُ، واللهُ سَوَّى في ضَمانِه بين المُطيعِ والعاصي مِنَ العِبادِ، فلا تَفاوُتَ بينهم في أصلِ الرِّزقِ، وإنَّما التَّفاوُتُ بينهم في مَقاديرِ الأملاكِ .

12- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا إنَّما لم يمنَعِ الكُفَّارَ الرِّزقَ، كما منَعَهم الهدايةَ؛ لأنَّ في مَنعِه له هلاكَهم وقيامَ الحُجَّةِ لهم بأن يقولوا: لو أمهَلْتَنا ورزَقْتَنا لبَقِينا أحياءً فآمَنَّا، ولأنَّهم لو منَعَهم الرِّزقَ لكان قد عاجلَهم بالعُقوبةِ، ولكان ذلك مِن صِفاتِ البُخلاءِ، واللهُ تعالى منَزَّهٌ عن ذلك؛ لأنَّه حليمٌ كريمٌ، ولأنَّ إعطاءَ الرِّزقِ لجَميعِ العبادِ عَدلٌ، وعَدلُ الله عامٌّ؛ وهِبةَ الهدايةِ فَضلٌ، والفَضلُ بيدِ اللهِ يؤتيه من يشاءُ .

13- النَّاسُ في الجنَّةِ على دَرَجاتٍ مُتفاوِتةٍ؛ كما قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا .

14- قولُه تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ المرادُ التفضيلُ في عطاءِ الدنيا؛ لأنَّه الذي يدركُه التأملُ والنظرُ، وبقرينةِ مقابلتِه بقولِه: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ. والمقصودُ مِن هذا التنظيرِ: التنبيهُ إلى أنَّ عطاءَ الدنيا غيرُ منوطٍ بصلاحِ الأعمالِ؛ ألا ترَى إلى ما فيه مِن تفاضلٍ بينَ أهلِ العملِ المتَّحدِ، وقد يفضلُ المسلمُ فيه الكافرَ، ويفضلُ الكافرُ المسلمَ، ويفضلُ بعضُ المسلمينَ بعضًا، وبعضُ الكفرةِ بعضًا، وكفاك بذلك هاديًا إلى أنَّ مناطَ عطاءِ الدنيا أسبابٌ ليست مِن وادي العملِ الصالحِ، ولا ممَّا يُساقُ إلى النفوسِ الخيرةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا تَفصيلٌ للحُكمِ المُتقدِّمِ، قُصِدَ به تَهديدُ قادةِ المُشركينَ، وتَحميلُهم تبِعَةَ ضَلالِ الَّذين أضَلُّوهم، وهو تَفريعٌ لتَبيينِ أسبابِ حُلولِ التَّعذيبِ بعدَ بَعثةِ الرَّسولِ، أُدْمِجَ فيه تَهديدُ المُضلِّينَ؛ فكان مُقْتَضى الظَّاهرِ أنْ يُعْطَفَ بالفاءِ على قولِه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، ولكنَّه عُطِفَ بالواوِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّه خبرٌ مَقصودٌ لذاتِه باعتبارِ ما يتضمَّنُه من التَّحذيرِ من الوُقوعِ في مثْلِ الحالةِ الموصوفةِ، ويظهَرُ معنى التَّفريعِ من طبيعةِ الكلامِ، فالعطفُ بالواوِ هنا تَخريجٌ على خِلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ في الفصْلِ والوصْلِ

.

- قولُه: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فيه تَخصيصُ المُتْرفينَ بالذِّكرِ مع تَوجُّهِ الأمْرِ إلى الكلِّ؛ لأنَّهم الأصولُ في الخطابِ، والباقي أتباعٌ لهم، ولأنَّ توجُّهَ الأمْرِ إليهم آكَدُ ، فقُيِّدُ الأمْرُ بالمُتْرفينَ، وإنْ كان الأمرُ لا يختَصُّ بهم؛ لأنَّ صلاحَهم أو فسادَهم مُستلزِمٌ لصلاحِ غيرِهم أو فسادِه ، ولأنَّهم أحَقُّ النَّاسِ بالشُّكرِ، وأولَى بالانتِقامِ عندَ الكُفرِ ، وكذلك لأنَّهم أسرَعُ إلى الحَماقةِ، وأقدَرُ على الفُجورِ .

- قولُه: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا قيل: لم يَقُلْ بماذا أمَرَهم؛ إيجازًا في القَولِ، واعتِمادًا على بَديهةِ السَّامعِ؛ لأنَّ قولَه: فَفَسَقُوا فِيهَا يدُلُّ عليه .

2- قَولُه تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا

- قولُه: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ في هذا التَّخصيصِ إيجازٌ، كأنَّه قيل: من قومِ نوحٍ فمَن بعدهم .

- قولُه: وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا فيه تَقديمُ خَبِيرًا؛ لتقدُّمِ مُتعلَّقِه من الاعتقاداتِ والنِّيَّاتِ الَّتي هي مَبادِئُ الأعمالِ الظَّاهرةِ، أو لعُمومِه؛ حيث يتعلَّقُ بغيرِ المُبصَراتِ أيضًا .

3- قَولُه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا

- قولُه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا بَيانٌ لجُملةِ: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي، وهو راجعٌ أيضًا إلى قولِه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ؛ فمَعْنى كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ أنَّه لا يريدُ إلَّا العاجلةَ، أي: دونَ الدُّنيا، بقَرينةِ مُقابَلَتهِ بقولِه: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ؛ لأنَّ هذه المُقابَلةَ تقومُ مقامَ الحصرِ الإضافيِّ؛ إذ ليس الحصرُ الإضافيُّ سِوى جُملتينِ: إثباتٍ لشَيءٍ، ونَفيٍ لخلافِه .

- قولُه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ، أي: من غيرِ أنْ يريدَ معها الآخرةَ، كما يُنْبِئُ عنه الاستمرارُ المُستفادُ من زيادةِ (كان) هاهنا، مع الاقتصارِ على مُطلَقِ الإرادةِ في قَسيمِه .

- قولُه: عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ فيه ذكْرُ شَريطةِ المشيئةِ مرَّتينِ، وإنَّما عدَلَ إلى هذا الأُسلوبِ الَّذي جاءت به الآيةُ؛ لإدماجِ التَّعريضِ بتَهديدِ أهْلِ مكَّةَ بأنَّهم مُعرَّضونَ لمثْلِ هذا ممَّا حَلَّ بأهْلِ القُرى الَّتي كذَّبَت رُسلَ اللهِ . وقيل: إنَّ تَقييدَ المُعجَّلِ والمُعجَّلِ له بما ذُكِرَ من المشيئةِ والإرادةِ؛ لأنَّ الحِكمةَ الَّتي عليها يدورُ فلَكُ التَّكوينِ لا تَقْتضي وُصولَ كلِّ طالبٍ إلى مَرامِه، ولا استيفاءَ كلِّ واصَلٍ لِما يطلُبُه بتَمامِه .

- وقولُه: لِمَنْ نُرِيدُ بدَلٌ من قولِه: لَهُ بدلَ بعضٍ من كُلٍّ؛ بإعادةِ حرفِ الجرِّ العاملِ في المُبْدَلِ منه؛ لتأكيدِ معنى التَّبعيَّةِ، وللاستغناءِ عن الرَّبطِ بضَميرِ المُبْدلِ منهم بأنْ يُقالَ: مَن نُريدُ منهم .

- وعطْفُ جُملةِ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ بحرفِ (ثمَّ)؛ لإفادةِ التَّراخي الرُّتبيِّ، ولَهُ ظرفٌ مُستقَرٌّ هو المفعولُ الثَّاني لـ جَعَلْنَا، قُدِّمَ على المفعولِ الأوَّلِ للاهتمامِ .

4- قَولُه تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا

- في قولِه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ... وقولِه: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ... مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث خُولِفَ بين الجُملتَينِ بجَعْلِ الفعلِ مُضارعًا في الأُولى، وماضيًا في الثَّانيةِ؛ للإيماءِ إلى أنَّ إرادةَ النَّاسِ العاجلةَ مُتكرِّرةٌ مُتجدِّدةٌ. وفيه تَنبيهٌ على أنَّ أُمورَ العاجلةِ مُتَقضِّيةٌ زائلةٌ. وجعْلُ فعْلِ إرادةِ الآخرةِ ماضيًا لدلالةِ المُضيِّ على الرُّسوخِ؛ تَنبيهًا على أنَّ خيرَ الآخرةِ أَولى بالإرادةِ؛ ولذلك جُرِّدَتِ الجُملةُ مِن (كان) ومن المُضارعِ، وما شرَطَ في ذلك إلَّا أنْ يَسْعى للآخرةِ سَعْيَها، وأنْ يكونَ مُؤمِنًا .

- في قولِه: وَسَعَى لَهَا اللَّامُ تفيدُ اعتبارَ النِّيَّةِ والإخلاصِ .

- وفيه إيرادُ الإيمانِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بالجُملةِ الحاليَّةِ؛ للدَّلالةِ على اشتراطِ مُقارنتِه لِما ذُكِرَ في حيِّزِ الصِّلةِ ، وجِيءَ بها كذلك اسميَّةً؛ لدلالتِها على الثَّباتِ والدَّوامِ، أي: وقد كان راسِخَ الإيمانِ .

- قولُه: فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا الإتيانُ باسمِ الإشارةِ فَأُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المُشارَ إليهم جَديرونَ بما سيُخْبَرُ به عنهم؛ لأجْلِ ما وُصِفوا به قبلَ ذكْرِ اسمِ الإشارةِ .

- والتَّعبيرُ بـ (كان)؛ للدَّلالةِ على أنَّ الوصفَ تَحقَّقَ فيه مِن قبلُ، أي: من الدُّنيا؛ لأنَّ الطَّاعةَ تَقْتضي ترتُّبَ الشُّكرِ عاجِلًا، والثَّوابِ آجِلًا .

- وفي تَعليقِ المَشكوريَّةِ في قولِه: كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا بالسَّعْيِ دونَ قرينَيْهِ (إرادةِ الآخرةِ، والإيمانِ): إشعارٌ بأنَّه العُمدةُ فيها .

5- قَولُه تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا

- قولُه: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا تَذييلٌ لآيةِ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ... .

- قولُه: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فيه لَفٌّ ونشرٌ مُرتَّبٌ؛ فـ هَؤُلَاءِ الأُولى للفريقِ الأوَّلِ، أي: مُريدِ الدُّنيا، وهَؤُلَاءِ الثَّانيةُ للفريقِ الثَّاني، أي: مُريدِ الآخرةِ .

- وقولُه: هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بدَلٌ من قولِه: كُلًّا بدلَ مُفصَّلٍ من مُجمَلٍ، والمقصودُ من الإبدالِ التَّعجُّبُ من سَعَةِ رحمةِ اللهِ تَعالى .

- قولُه: وَهَؤُلَاءِ عُطِفَ عليه؛ ففيه تَذكيرٌ لِما به الإمدادُ، وتَعيينٌ للمُضافِ إليه المحذوفِ دَفعًا لتَوهُّمِ كونِه أفرادَ الفريقِ الأخيرِ؛ وتأكيدٌ للقصرِ المُستفادِ من تَقديمِ المفعولِ .

- قولُه: مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا فيه التَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ في الموضعَينِ؛ للإشعارِ بمَبدئيَّتِها لِمَا ذُكِرَ من الإمدادِ، وعدَمِ الحظْرِ .

- قولُه: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا اعتراضٌ أو تَذييلٌ .

- واعتبارُ عدَمِ المَحظوريَّةِ بالنِّسبةِ إلى الفريقِ الأوَّلِ تَحقيقًا لشُمولِ الإمدادِ له: يَقْتضي كونَ القصرِ لدفْعِ توهُّمِ اختصاصِ الإمدادِ الدُّنيويِّ بالفريقِ الثَّاني، مع أنَّه لم يَسبِقْ في الكلامِ ما يُوهِمُ ثُبوتَه له، فَضلًا عن إيهامِ اختصاصِه .

6- قَولُه تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا

- قولُه: كَيْفَ اسمُ استفهامٍ مُستعمَلٌ في التَّنبيهِ

============

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (22-25)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ

غريب الكلمات :

 

مَخْذُولًا: أي: غيرَ منصورٍ، والخِذلانُ: تركُ مَن كان يؤمِّلُ منه النَّصرَ نُصرتَه ومعونتَه، وأصلُ (خذل): يدلُّ على تركِ الشَّيءِ، والقعودِ عنه

.

وَقَضَى: أي: أَمَر، والقضاءُ: فصلُ الأمرِ قولًا كان ذلك أو فعلًا .

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ: تَذلَّلْ لهما، وتواضَعْ، وألِنْ جانِبَك، والخفضُ هو التَّواضُع، والجناحُ: الجانبُ، ويُطلقُ على يدِ الإنسانِ وعضُدِه وإبْطِه، وجَناحُ الذلِّ: تركُ الاستعلاءِ، وأصلُ: (جنح): يدُلُّ على المَيلِ، وأصلُ: (ذل): يدُلُّ على الخُضوعِ، والاستكانةِ، واللِّينِ .

أُفٍّ: اسمُ فِعلٍ يُنبئُ عن التضَجُّرِ والاستِثقالِ، وما يكونُ فيه أدنَى تبَرُّمٍ، أو صوتٌ يُنبئُ عن ذلك، وأصلُ (أفف): يَدلُّ على تَكَرُّهِ الشَّيءِ .

تَنْهَرْهُمَا: أي: تَزجُرْهما، وأصلُ (نهر): يدلُّ على زَجرٍ بمُغالَظةٍ .

لِلْأَوَّابِينَ: أي: للرَّجَّاعينَ التَّوَّابينَ، وأصلُ (أوب): يَدلُّ على رُجوعٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمرادُ بالخطابِ غَيرُه، قائِلًا: لا تَجعَلْ -يا مُحمَّدُ- مع اللهِ شَريكًا له في عبادتِه، فتقعُدَ جامِعًا على نفسِك الذَّمَّ والخِذلانَ، وأمَرَ ربُّك وأوجَبَ أن تعبُدوه وَحْدَه لا شريكَ له، وأن تُحسِنوا إلى الوالِدَينِ إحسانًا، وإن يبلُغْ عندك الكِبرَ أحدُ والِدَيك أو كِلاهما، فبَرَّهما، ولا تُسمِعْهما قَولًا سَيِّئًا، حتى ولو كان التَّأفُّفَ، ولا تَزجُرْهما، وقُلْ لهما قولًا كريمًا حَسَنًا، وكُنْ لهما ذليلًا مُتَواضِعًا؛ رحمةً بهما، وادْعُ اللهَ أن يَرحَمَهما أحياءً وأمواتًا، كما صَبَرَا على تَربيَتِك حالَ صِغَرِك وضَعفِك.

ربُّكم -أيُّها النَّاسُ- أعلَمُ بما في ضمائرِكم مِن خيرٍ أو شَرٍّ، ومِن إرادةِ البِرِّ بالوالِدَينِ أو عُقوقِهما، إن تكونوا قاصِدينَ الصَّلاحَ والبِرَّ بالوالِدَينِ، والرُّجوعَ عمَّا فرط منكم في حقِّهما؛ فاللهُ تعالى للرجَّاعين إليه بالتَّوبةِ غَفورٌ رَحيمٌ.

تفسير الآيات:

 

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ أنَّ النَّاسَ فَريقانِ؛ منهم مَن يريدُ بعَمَلِه الدُّنيا فقط، وهم أهلُ العِقابِ والعَذابِ، ومنهم مَن يريدُ به طاعةَ اللهِ، وهم أهلُ الثَّوابِ، ثمَّ شَرَط ذلك بشَرائِطَ ثلاثةٍ: أوَّلُها: إرادةُ الآخرةِ، وثانيها: أن يعمَلَ عَملًا ويَسعى سعيًا مُوافِقًا لطَلَبِ الآخرةِ، وثالثُها: أن يكونَ مُؤمِنًا- لا جَرَم فصَّلَ في هذه الآيةِ تلك المُجمَلاتِ، فبدأ أوَّلًا بشَرحِ حَقيقةِ الإيمانِ، وأشرَفُ أجزاءِ الإيمانِ هو التَّوحيدُ، ونَفيُ الشُّرَكاءِ والأضدادِ

.

وأيضًا لَمَّا أجْمَلَ سُبْحانَه أعمالَ البِرِّ في قولِه: وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ أخذَ في تَفْصيلِ ذلك مُبْتَدِئًا بأشرفِها الَّذي هو التَّوحيدُ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا تقَرَّر بما مضى أنَّ لله سُبحانَه الأمرَ كُلَّه، وأنَّه مُتَّصِفٌ بجَميعِ الكَمالِ، مُنَزَّهٌ عن شَوائِبِ النَّقصِ- أنتَجَ أنَّه لا إلهَ غَيرُه، فقال تعالى :

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22).

أي: لا تجعَلْ مع اللهِ مَعبودًا غيرَه، فتبقَى -إن أشرَكْتَ باللهِ- مَذمومًا لا حامِدَ لك، مخذولًا لا ناصِرَ لك .

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ في الآيةِ الأولى ما هو الرُّكنُ الأعظَمُ في الإيمانِ، أتبَعَه بذِكرِ ما هو مِن شعائِرِ الإيمانِ وشَرائِطِه .

وأيضًا لمَّا أجْمَل سبحانَه أعمالَ البرِّ في قولِه: وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ أَخَذ في تفصيلِ ذلك مُبْتَدِئًا بأشرفِها الَّذي هو التَّوحيدُ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى النَّهيَ المحَتِّمَ لِتَوحيدِه في قَولِه تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؛ أتبَعَه الإخبارَ بالأمرِ بذلك؛ جَمعًا في ذلك بين صَريحَي الأمرِ والنَّهيِ، تصريحًا بعد التَّنزيهِ له عن الشَّريكِ بالإفرادِ له في العِبادةِ، في أُسلوبِ الخبَرِ، إعلامًا بعِظَمِ المقامِ، فقال تعالى :

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.

أي: وأمَرَ ربُّك -يا مُحمَّدُ- ووصَّى، وأوجَبَ ألَّا تَعبُدوا -أنت وجميعُ الخَلقِ- إلَّا اللهَ وَحدَه .

وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ بمَعرفةِ الحَقِّ للمُحسِنِ المُطلَقِ مُنبِّهًا على وجوبِ ذلك باسمِ الرَّبِّ؛ أتبَعَه الأمرَ بمَعرفةِ الحَقِّ لأوَّلِ المُرَبِّينَ مِن الخَلقِ، فقال تعالى :

وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.

أي: وأمَرَكم اللهُ بأن تُحسِنوا إلى الوالِدَينِ بجَميعِ أوجُهِ الإحسانِ مِن الأقوالِ والأفعالِ .

كما قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36] .

وقال سُبحانَه: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151] .

وعن نُفَيعِ بنِ الحارِثِ الثَّقَفيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كُنَّا عندَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم، فقال: ألَا أنبِّئُكم بأكبَرِ الكبائرِ -ثلاثًا-: الإشراكُ باللَّهِ، وعُقوقُ الوالِدَينِ، وشَهادَةُ الزُّورِ -أو: قَولُ الزُّورِ-... )) الحديث .

وعَن المِقدامِ بنِ مَعدِيكَرِبَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ يُوصيكم بأمَّهاتِكم -ثلاثًا- إنَّ اللهَ يُوصيكم بآبائِكم، إنَّ اللهَ يُوصيكم بالأقرَبِ فالأقرَبِ )) .

إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان سُبحانَه عليمًا بما في الطِّباعِ مِن مَلالِ الوَلَدِ لهما عند أخْذِهما في السِّنِّ، قال تعالى :

إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ.

أي: إنْ عاشَ والِداك عِندَك، وقد كَبِرَت سِنُّهما وضَعُفَت قُواهما؛ أحدُهما أو كِلاهما، فلا تتأفَّفْ؛ إظهارًا لضَجَرِك مِمَّا يُؤذيك منهما، ولا تؤْذِهما بأيِّ نَوعٍ مِن الأذى .

وَلَا تَنْهَرْهُمَا.

أي: ولا تَزجُرْ والدَيك، وتُغلِظْ لهما القَولَ .

وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا منعَ الله تعالى الإنسانَ بالآيةِ المتقدِّمَةِ عن ذكرِ القولِ المؤذِي الموحِشِ، والنَّهيُ عن القولِ المُؤْذِي لا يكونُ أمْرًا بالقولِ الطَّيِّبِ؛ لا جرمَ أرْدَفَه بأَنْ أمرَه بالقولِ الحسنِ والكلامِ الطَّيِّبِ .

وأيضًا لَمَّا نهاه عن عُقوقِهما تقديمًا لِما تُدرَأُ به المَفسَدةُ، أمَرَه ببِرِّهما جَلْبًا للمَصلحةِ، فقال تعالى :

وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا.

أي: وقُلْ لهما قَولًا حَسَنًا لَيِّنًا رَقيقًا جَميلًا يُفرِحُهما، فيه تأدُّبٌ معهما، وتلَطُّفٌ لهما .

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24).

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.

أي: وكنْ لوالِدَيك ذليلًا مُتواضِعًا؛ رَحمةً منك بهما، ولا تُخالِفْهما فيما يأمُرانِك به ويَنهيانِك عنه مِمَّا ليس فيه مَعصيةٌ لله تعالى .

كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 14- 15] .

وعن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: أوصَاني رسولُ الله صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: ((لا تُشرِكْ باللهِ شيئًا وإن قُطِّعْتَ أو حُرِّقْتَ... وأطِعْ والِدَيك، وإنْ أمراك أن تَخرُجَ مِن دُنياك فاخرُجْ لهما)) .

وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.

أي: وقُلْ: رَبِّ ارحَمْ والِديَّ في حَياتِهما وبعدَ مَوتِهما ؛ جزاءً لهما على تَربيتِهما لي في صِغَري، وحالِ ضَعفي وعَجزي وافتِقاري .

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا دَلَّت الآيةُ السَّابِقةُ على وُجوبِ تَعظيمِ الوالِدَينِ مِن كُلِّ الوُجوهِ، ثمَّ إنَّ الولَدَ قد يَظهَرُ منه نادِرةٌ مُخِلَّةٌ بتَعظيمِهما؛ بيَّن سُبحانَه أنَّه عالمٌ بأحوالِ قُلوبِكم، فإن كانت تلك الهَفوةُ ليست لأجلِ العُقوقِ، بل ظهَرت بمقتضى الجبِلَّةِ البَشريَّةِ، كانت في محَلِّ الغُفرانِ .

وأيضًا فإنَّه تعالى لَمَّا نهى عن عِبادةِ غَيرِه وأمَرَ بالإحسانِ إلى الوالِدَينِ، ولا سيَّما عند الكِبَر، وكان الإنسانُ ربَّما تظاهَرَ بعِبادةٍ وإحسانٍ إلى والِدَيه دونَ عَقدِ ضَميرٍ على ذلك، رياءً وسُمعةً؛ أخبَرَ تعالى أنَّه أعلَمُ بما انطَوَت عليه الضَّمائِرُ مِن دُونِ قَصدِ عِبادةِ اللهِ، والبِرِّ بالوالِدَينِ .

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ.

أي: ربُّكم -أيُّها النَّاسُ- أعلَمُ بما في قُلوبِكم مِن تَعظيمِ حَقِّ الوالِدَينِ والرَّحمةِ بهما، أو الاستخفافِ به، ومِن إرادةِ البِرِّ بهما، أو الإساءةِ إليهما وعُقوقِهما، لا يخفى عليه شَيءٌ مِن ذلك، وهو مُجازيكم عليه، فاحذَروا أن تُضمِروا لهما سُوءًا .

كما قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة: 235] .

وقال سُبحانَه: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [التغابن: 4] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلى صُوَرِكم وأموالِكم، ولكِنْ يَنظُرُ إلى قُلوبِكم وأعمالِكم ) ) .

إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا.

أي: إنْ أنتم أصلَحْتُم نِيَّاتِكم -أيُّها النَّاسُ- فكُنتُم صادِقينَ في نيَّةِ البِرِّ بالوالِدَينِ، مُمتَثِلينَ أمْرَ اللهِ بالإحسانِ إليهما والبرِّ بهما والقيامِ بحُقوقِهما؛ فإنَّ اللهَ للتَّائبينَ إليه مِنَ الزَّلَّاتِ والهَفَواتِ في حَقِّ الوالِدَينِ، الرَّجَّاعِينَ إلى اللهِ وإلى مَرضاتِه مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ- غَفورٌ، يَغفِرُ إساءاتِهم فيَستُرُها عليهم، ويتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ابتُدِئ التشريعُ بالنهيِ عن عبادةِ غيرِ الله؛ لأنَّ ذلك هو أصلُ الإصلاحِ

.

2- قال تعالى في الآيةِ المُتقَدِّمةِ: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19] ، ثمَّ إنَّه تعالى أردَفَه بقوله: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا * وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا المُشتَمِلِ على الأعمالِ التي بواسِطتِها يحصُلُ الفَوزُ بسَعادةِ الآخرةِ، فذكَرَ مِن جُملتِها البِرَّ بالوالِدَينِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ هذه الطَّاعةَ مِن أُصولِ الطَّاعاتِ التي تُفيدُ سَعادةَ الآخِرةِ، وكذلك فقد بدأ بذِكرِ الأمرِ بالتَّوحيدِ، وثَنَّى بطاعةِ اللهِ تعالى، وثَلَّثَ بالبِرِّ بالوالِدَينِ، وهذه دَرَجةٌ عاليةٌ، ومُبالغةٌ عَظيمةٌ في تعظيمِ هذه الطَّاعةِ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا كان إحسانُهما إليك قد بلَغَ الغايةَ العَظيمةَ، وجَبَ أن يكونَ إحسانُك إليهما كذلك عَظيمًا كاملًا، ثمَّ على جميعِ التَّقديراتِ فلا تحصُلُ المكافأةُ؛ لأنَّ إنعامَهما عليك كان على سبيلِ الابتداءِ، وفي الأمثالِ المَشهورةِ: أنَّ الباديَ بالبِرِّ لا يُكافأُ .

3- قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا؛ لأنَّهما سببُ وجودِ العبدِ، ولهما مِن المحبةِ للولدِ والإحسانِ إليه والقربِ ما يقتضي تأكُّدَ الحقِّ، ووجوبَ البرِّ؛ لذا أمَر بالإحسانِ إليهما بجميعِ وجوهِ الإحسانِ القوليِّ والفعليِّ .

4- في قَولِه تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ إشارةٌ إلى أنَّهما إذا بلغَا الكِبَرَ صارا عِبْئًا على ولَدِهما؛ فلا يتضَجَّرْ مِنَ الحالِ، ولا يَنهَرْهما في المَقالِ إذا أساءَا في الفِعلِ أو القَولِ ؛ فحالةُ الكِبَرِ يحتاجانِ فيها إلى بِرِّه؛ لتغَيُّرِ الحالِ عليهما بالضَّعفِ والكِبَر، فأُلزِمَ في هذه الحالةِ مِن مُراعاةِ أحوالِهما أكثَرَ مِمَّا أُلزِمَه مِن قَبلُ؛ لأنَّهما في هذه الحالةِ قد صارا كَلًّا عليه، فيَحتاجانِ أن يليَ منهما في الكِبَرِ ما كان يَحتاجُ في صِغَرِه أن يَلِيا منه؛ فلذلك خَصَّ هذه الحالةَ بالذِّكرِ، وأيضًا فطُولُ المُكثِ للمَرءِ يُوجِبُ الاستثقالَ للمَرءِ عادةً، ويَحصُلُ المَلَلُ ويَكثُرُ الضَّجَرُ، فيُظهِرُ غَضَبَه على أبوَيه، وتنتَفِخُ لهما أوداجُه، ويَستطيلُ عليهما بدالَّةِ البُنُوَّةِ وقِلَّةِ الدِّيانةِ، وأقلُّ المَكروهِ ما يُظهِرُه بتنَفُّسِه المُتردِّدِ مِن الضَّجَر، وقد أُمِرَ أن يُقابِلَهما بالقَولِ الموصوفِ بالكرامةِ، وهو السَّالمُ عن كلِّ عَيبٍ .

5- قال الله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ينبغي بحُكمِ هذه الآيةِ أن يجعَلَ الإنسانُ نَفسَه مع أبويه في خيرِ ذِلَّةٍ، في أقوالِه وسَكَناتِه ونظَرِه، وألَّا يُحِدَّ إليهما بَصَرَه؛ فإنَّ تلك هي نَظرةُ الغاضِبِ .

6- قَولُ الله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا يُفهَمُ منه أنَّه كُلَّما ازدادَت التَّربيةُ ازداد الحَقُّ، وكذلك مَن تولَّى تربيةَ الإنسانِ في دينِه ودُنياه تَربيةً صالِحةً غيرُ الأبوَينِ؛ فإنَّ له على مَن رَبَّاه حَقَّ التَّربيةِ .

7- قال الله تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا * وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا... بالَغ سُبحانَه في التَّوصيةِ بالوالِدَينِ مُبالغةً تَقشَعِرُّ لها جلودُ أهلِ العُقوقِ، وتَقِفُّ عندَها شُعورُهم؛ حيثُ افتَتَحَها بالأمرِ بتَوحيدِه وعبادتِه، ثمَّ شَفَعَه بالإحسانِ إليهما، ثمَّ ضَيَّقَ الأمرَ في مُراعاتِهما حتى لم يُرَخِّصْ في أدنى كَلِمةٍ تنفَلِتُ مِن التضَجُّرِ، مع مُوجِباتِ الضَّجَرِ، ومع أحوالٍ لا يكادُ يَصبِرُ الإنسانُ معها، وأن يَذِلَّ ويَخضَعَ لهما، ثمَّ خَتَمَها بالأمرِ بالدُّعاءِ لهما والترَحُّمِ عليهما، وهذه خَمسةُ أشياءَ كُلِّفَ الإنسانُ بها في حَقِّ الوالِدَين .

8- الأوَّابُ هو الذي مِن عادتِه ودَيدنِه الرُّجوعُ إلى أمرِ اللهِ تعالى، والالتِجاءُ إلى فَضلِه، ولا يَلتَجئُ إلى شَفاعةِ شَفيعٍ، كما يَفعَلُه المُشرِكونَ الذين يَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ جَمادًا يَزعُمونَ أنَّه يَشفَعُ لهم، وسُنَّةُ اللهِ وحُكْمه في الأوَّابينَ أنَّه غَفورٌ لهم، يُكَفِّرُ عنهم سَيِّئاتِهم؛ قال الله تعالى: إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا .

9- قال الله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا فوعَدَ بالغُفرانِ مع شَرطِ الصَّلاحِ والأوْبةِ ، والصَّالِحُ عندما تقَعُ منه الذُّنوبُ مُطالَبٌ -كغيرِه- بالأوبةِ لتحصيلِ المَغفرةِ؛ لأنَّ فَرضَ الأوبةِ إلى الله مِن المعاصي عامٌّ على الجميعِ، وقد اشتمَلَت الآيةُ مِن فِعلِ الشَّرطِ، وهو إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ، وجوابِ الشَّرطِ، وهو فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا- على الحالتَينِ اللازمَتينِ للإنسانِ لتكميلِ نَفسِه، وهما الصَّلاحُ المستفادُ مِن الأوَّلِ، والإصلاحُ بالأوبةِ المستفادُ مِن الثَّاني، وما دام الإنسانُ مُجاهِدًا في تزكيةِ نَفسِه بهذينِ الأصلينِ، فإنَّه بالِغٌ أملًا ورجاءً -بإذن الله- درجةَ الكَمالِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا أي: مذمومًا لا حامِدَ لك، مَخذولًا لا ناصِرَ لك؛ إذ قد يكونُ بَعضُ النَّاسِ مَقهورًا مَحمودًا، كالذي قُهِرَ بباطلٍ، وقد يكونُ مَذمومًا مَنصورًا، كالذي قَهَر وتسَلَّط  بباطلٍ، وقد يكونُ مَحمودًا مَنصورًا، كالذي تمكَّن وملَكَ بحَقٍّ، والمُشرِكُ المتعَلِّقُ بغيرِ اللهِ قِسمُه أردأُ الأقسامِ الأربعةِ؛ لا مَحمودٌ ولا منصورٌ

.

2- قال تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا لَمَّا كان الذمُّ قد يحتَمِلُه بَعضُ النَّاسِ مع بلوغِ الأمَلِ، بيَّنَ أنَّه مع الخيبةِ، فقال تعالى: مَخْذُولًا أي: غيرَ منصورٍ فيما أراده من غيرِ أن يُغنيَ عنه أحدٌ بشَفاعةٍ أو غيرِها .

3- قال تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فالمخلوقُ ليس بإِلَهٍ في نفْسِه؛ لكنَّ عابدَه اتَّخَذَه إلهًا، وجَعَله إلهًا، وسمَّاه إلهًا، وذلك كلُّه باطلٌ لا ينفعُ صاحبَه؛ بل يَضُرُّه، كما أنَّ الجاهلَ إذا اتُّخِذَ إمامًا ومُفْتِيًا وقاضيًا؛ كان ذلك باطلًا، فإنه لا يَصلحُ أنْ يَؤُمَّ ولا يُفْتي ولا يقضي، وغيرُ اللهِ لا يَصْلُحُ أنْ يُتَّخَذَ إلهًا يُعْبَدُ ويُدعَى؛ فإنه لا يَخلُقُ ولا يَرزقُ إلَّا هو سُبحانَه، لا مانعَ لما أعطَى، ولا مُعطيَ لما منَع، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منه الجدُّ .

4- في قَولِه تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا رَدٌّ على أصحابِ وَحْدةِ الوُجودِ، الذين يجعَلونَ وُجودَ الخالقِ عينَ وُجودِ المخلوقاتِ؛ وذلك لأنَّ نهيَه سُبحانَه وتعالى أنْ يُجعَلَ معه أو يُدْعَى معه إلهٌ آخرُ، دليلٌ على أنَّ ذلك مُمكِنٌ، كما فعَلَه المُشرِكونَ الذين دَعَوا مع اللهِ آلِهةً أخرى، فلو كانت تلك الآلهةُ هي إيَّاه، ولا شيءَ معه أصْلًا؛ امتنعَ أنْ يُدعَى معه إِلَهٌ آخَرُ، فهذا يدلُّ على أنَّ معه أشياءَ ليسَتْ بآلهةٍ؛ ولا يجوزُ أنْ تُجعَلَ آلهةً، ولا تُدْعَى آلهةً .

5- قال الله تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا فإنَّ المُشرِكَ يرجو بشِرْكِه النَّصرَ تارةً، والحمدَ والثَّناءَ تارةً، فأخبَرَ سُبحانَه أنَّ مَقصودَه ينعَكِسُ عليه، فيحصُلُ له الذَّمُّ والخِذلانُ .

6- القضاءُ في قَولِه تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا هو القَضاءُ الدِّينيُّ -بمعنى: أَمَرَ- ويُقابِلُه القَضاءُ الكَونيُّ -بمعنى: خَلَقَ- كما في قَولِه تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 12] .

7- في قَولِه تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا بعدَ قَولِه سُبحانَه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ دَليلٌ على أنَّ حقَّ الوالِدَينِ بعدَ حقِّ اللهِ عزَّ وجلَّ.

فإن قيل: فأينَ حَقُّ الرَّسولِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم؟

أُجيبَ: بأنَّ حَقَّ اللهِ مُتضَمِّنٌ لحَقِّ الرَّسولِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ اللهَ لا يُعبَدُ إلَّا بما شَرَع الرَّسولُ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم .

8- قال الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الخِطابُ في الآيةِ للنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم، لكِنْ قال: أَلَّا تَعْبُدُوا ولم يقُلْ: «ألَّا تَعبُد»، ونظيرُ ذلك في القُرآنِ قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق: 1] فالخِطابُ الأوَّلُ في رَبُّكَ للرَّسولِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم، والثَّاني عامٌّ، فما الفائِدةُ مِن تَغييرِ الأسلوبِ؟

أجيبَ: أنَّ الفائِدةَ مِن ذلك ما يأتي:

الأوَّلُ: التَّنبيهُ؛ إذ تَنبيهُ المُخاطَبِ أمرٌ مَطلوبٌ للمُتكَلِّم، وهذا حاصِلٌ هنا بتَغييرِ الأُسلوبِ.

الثَّاني: أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم زَعيمُ أمَّتِه، والخِطابُ المُوجَّهُ إليه مُوجَّهٌ لجَميعِ الأُمَّة.

الثَّالثُ: الإشارةُ إلى أنَّ ما خُوطِبَ به الرَّسولُ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم فهو له ولأُمَّتِه، إلَّا ما دلَّ الدَّليلُ على أنَّه مُختَصٌّ به.

الرَّابعُ: الإشارةُ إلى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم مَربوبٌ لا رَبٌّ، عابِدٌ لا معبودٌ؛ فهو داخِلٌ في قَولِه: تَعْبُدُوا وكفى به شَرفًا أن يكونَ عَبدًا للهِ عَزَّ وجَلَّ .

9- قَولُ الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا مُناسَبةُ اقتِرانِ بِرِّ الوالِدَينِ بإفرادِ اللهِ بالعبادةِ؛ مِن حَيثُ إنَّه تعالى هو المُوجِدُ حَقيقةً، والوالِدانِ وَساطةٌ في إنشائِه، وهو تعالى المُنعِمُ بإيجادِه ورِزقِه، وهما ساعيانِ في مصالِحِه .

10- قَولُ الله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا فائِدةُ ذِكرِ عِنْدَكَ أنَّهما يَكبَرانِ في بَيتِه وكَنَفِه، ويكونانِ كَلًّا عليه، لا كافِلَ لهما غيرُه، وربَّما نالَه منهما من المشاقِّ ما كان ينالُهما منه في حالِ الصِّغَرِ .

11- قال الله تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا، ودُخولُ ما هو أعظمُ مِن التأفيفِ مِن أنواعِ الأذى في النهيِ بِطَريقِ الأَولى، ويُسمَّى ذلك مَفهومَ المُوافَقةِ ؛ لأنَّه إذا كان قد نهَى أن يستقْبِلَهما بهذه اللَّفظةِ الدَّالَّةِ على الضَّجرِ والتَّبرُّمِ بهما، فالنَّهيُ عمَّا هو أشدُّ كالشَّتمِ والضَّربِ هو بجهةِ الأولَى، فالمسكوتُ عنه -الذي هو الضربُ والشتمُ- أولَى بالحكمِ -الذي هو التحريمُ- مِن هذا المنطوقِ به الذي هو التأفيفُ .

12- قَولُ الله تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ استَدَلَّ به مَن لم يُجِزْ تَحليفَ الوالِدِ إذا خاصَمَه وَلَدُه، ولا حَبْسَه في دَينِه، ولا قَتلَه به، ولا حَدَّه بقَذفِه .

13- قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ جَناحُ الإنسانِ: جانِبُه، كما أنَّ جَناحَ الطَّيرِ جانِبُه، والولَدُ مأمورٌ بأن يَخفِضَ جانِبَه لأبويه، ويكونَ ذلك على وَجهِ الذُّلِّ لهما لا على وَجهِ الخَفضِ الذي لا ذُلَّ معه، وقد قال للنبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يَقُل: جناحَ الذُّلِّ، فالرَّسولُ أُمرَ بخَفضِ جناحِه، وهو جانِبُه، والولَدُ أُمِرَ بخَفضِ جناحِه ذُلًّا، فلا بُدَّ مع خَفضِ جناحِه أن يَذِلَّ لأبويه، بخِلافِ الرَّسولِ؛ فإنَّه لم يُؤمَرْ بالذُّلِّ؛ فاقترانُ ألفاظِ القُرآنِ تدُلُّ على اقترانِ معانيه وإعطاءِ كُلِّ معنًى حَقَّه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا

- قولُه: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تبَعٌ لخِطابِ قولِه: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، والمقصودُ إسماعُ الخِطابِ غَيرَه؛ بقَرينةِ تحقُّقِ أنَّ النَّبيَّ قائمٌ بنبْذِ الشِّركِ، ومُنحٍ على الَّذين يَعْبدون مع اللهِ إلهًا آخَرَ

؛ فالخِطابُ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمُرادُ به أُمَّتُه، وهو من بابِ التَّهييجِ والإلهابِ. وخاطَبَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ الرَّأسَ؛ لأنَّ ذلك أوقعُ في أنفُسِ الأتْباعِ، وإشارةً إلى أنَّه لا يُوحِّدُه حَقَّ توحيدِه سِواهُ. ويجوزُ أنْ يَكونَ خِطابًا عامًّا لكلِّ مَن يَصِحُّ أنْ يُخاطَبَ به أو لكُلِّ أحدٍ ممَّن يَصلُحُ للخِطابِ .

- قولُه: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا تَذييلٌ هو فذلكةٌ لاختلافِ أحوالِ المُسلمينَ والمُشركينَ؛ فإنَّ خُلاصةَ أسبابِ الفوزِ ترْكُ الشِّركِ؛ لأنَّ ذلك هو مبدَأُ الإقبالِ على العملِ الصَّالحِ، فهو أوَّلُ خُطواتِ السَّعيِ لمُريدِ الآخرةِ؛ لأنَّ الشِّركَ قاعدةُ اختلالِ التَّفكيرِ وتَضليلِ العُقولِ، قال اللهُ تَعالى في ذكْرِ آلهةِ المُشركينَ: وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] .

- وقال هنا: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا، ثمَّ قال: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، ثمَّ قال: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ولا تَكرارَ فيها؛ لأنَّ الأُولى في الدُّنيا، والثَّالثةَ في الآخرةِ. والخِطابُ فيهما للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمُرادُ به غيرُه، كما في آيةِ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا. وأمَّا الثَّانيةُ فخطابٌ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيضًا، وهو المُرادُ به .

2- قولُه تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا عطْفٌ على الكلامِ السَّابقِ عطْفَ غرَضٍ على غرَضٍ؛ تخلُّصًا إلى أعمدةٍ من شَريعةِ الإسلامِ، بمُناسبةِ الفذلكةِ المُتقدِّمةِ؛ تَنبيهًا على أنَّ إصلاحَ الأعمالِ مُتفرِّعٌ على نبْذِ الشِّركِ .

- قولُه: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ جِيءَ بخطابِ الجماعةِ؛ لأنَّ النَّهيَ يتعلَّقُ بجميعِ النَّاسِ، وهو تَعريضٌ بالمُشركينَ .

- وقدَّم ذكرَهما، فقال: وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا، ولم يقُلْ: (وإحسانًا بالوالِدَينِ) ليدُلَّ على شِدَّةِ الاهتمامِ، والاعتناءِ بهما، فقولُه: وَبِالْوَالِدَيْنِ مُتعلِّقٌ بقولِه: إِحْسَانًا، لكنه قدَّمه على مُتعلِّقِه .

- قولُه: إِحْسَانًا بلَفظِ التَّنكيرِ، والتَّنكيرُ يدُلُّ على التَّعظيمِ، أي: إحسانًا عَظيمًا كاملًا .

- قولُه: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا عطْفُ الأمْرِ بالإحسانِ إلى الوالِدَينِ على ما هو في معنى الأمْرِ بعبادةِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ هو الخالِقُ، فاستحَقَّ العِبادةَ؛ لأنَّه أوجَدَ النَّاسَ، ولمَّا جعَلَ اللهُ الأبوينِ مظهَرَ إيجادِ النَّاسِ أمَرَ بالإحسانِ إليهما؛ فالخالِقُ مُستحقُّ العبادةِ لغِناهُ عن الإحسانِ، ولأنَّها أعظَمُ الشُّكرِ على أعظَمِ مِنَّةٍ، وسبَبُ الوُجودِ دونَ ذلك، فهو يستحِقُّ الإحسانَ لا العِبادةَ؛ لأنَّه محتاجٌ إلى الإحسانِ دون العِبادةِ، ولأنَّه ليس بمُوجِدٍ حَقيقيٍّ، ولأنَّ اللهَ جبَلَ الوالِدَينِ على الشَّفقةِ على ولَدِهما، فأمَرَ الولدَ بمُجازاةِ ذلك بالإحسانِ إلى أبويْه .

- وجُملةُ إِمَّا يَبْلُغَنَّ بيانٌ لجُملةِ إِحْسَانًا، والخِطابُ لغيرِ مُعيَّنٍ؛ فيعُمُّ كلَّ مُخاطَبٍ، بقرينةِ العطفِ على أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وذلك على أحدِ القولَينِ في المخاطَبِ. وإيثارُ ضميرِ المُفردِ -رَبُّكَ- هنا دونَ ضميرِ الجمْعِ؛ لأنَّه خطابٌ يختَصُّ بمَن له أبوانِ من بين الجماعةِ المُخاطبينَ بقولِه: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ؛ فكان الإفرادُ أنسَبَ به، وإنْ كان الإفرادُ والجمْعُ سواءً في المقصودِ؛ لأنَّ خطابَ غيرِ المُعيَّنِ يُساوي خطابَ الجمْعِ، وخَصَّ هذه الحالةَ بالبيانِ؛ لأنَّها مَظِنَّةُ انتفاءِ الإحسانِ بما يَلْقى الولدُ من أبيه وأُمِّه من مَشقَّةِ القيامِ بشُؤونِهما، ومِن سُوءِ الخُلُقِ منهما .

- ووجْهُ تَعدُّدِ فاعلِ يَبْلُغَنَّ مُظهَرًا دونَ جعْلِه بضميرِ التَّثنيةِ بأنْ يُقال: إمَّا يَبْلغانِّ عندك الكبرَ: الاهتمامُ بتخصيصِ كلِّ حالةٍ من أحوالِ الوالِدَينِ بالذِّكرِ، ولم يَستغْنِ بإحدى الحالتينِ عن الأُخرى؛ لأنَّ لكلِّ حالةٍ بواعثَ على التَّفريطِ في واجِبِ الإحسانِ إليهما، فقد تكونُ حالةُ اجتماعِهما عند الابنِ تَستوجِبُ الاحتمالَ منهما لأجْلِ مُراعاةِ أحدِهما الَّذي الابنُ أشَدُّ حُبًّا له، دونَ ما لو كان أحدُهما مُنفرِدًا عندَه بدونِ الآخرِ الَّذي ميْلُه إليه أشدُّ؛ فالاحتياجُ إلى ذكْرِ أحدِهما في هذه الصُّورةِ؛ للتَّنبيهِ على وُجوبِ المُحافظةِ على الإحسانِ له. وقد تكون حالةُ انفرادِ أحدِ الأبوينِ عندَ الابنِ أخَفَّ كُلفةً عليه من حالةِ اجتماعِهما، فالاحتياجُ إلى أَوْ كِلَاهُمَا في هذه الصُّورةِ للتَّحذيرِ من اعتذارِ الابنِ لنفْسِه عن التَّقصيرِ بأنَّ حالةَ اجتماعِ الأبوينِ أحرَجُ عليه، فلأجْلِ ذلك ذُكِرَت الحالتانِ، وأُجْرِيَ الحكمُ عليهما على السَّواءِ، فكانت جُملةُ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ بتَمامِها جوابًا لـ إِمَّا .

- قولُه: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا... أُكِّدَ فعْلُ الشَّرطِ بنونِ التَّوكيدِ؛ لتَحقيقِ الرَّبطِ بينَ مضمونِ الجوابِ، ومضمونِ الشَّرطِ في الوُجودِ .

- قولُه: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ليس المقصودُ مِن النَّهيِ عن أنْ يقولَ لهما: أُفٍّ خاصَّةً، وإنَّما المقصودُ النَّهيُ عن الأذَى الَّذي أقلُّه الأذَى باللِّسانِ بأوجزِ كلمةٍ، ثمَّ عطَفَ عليه النَّهيَ عن نَهْرِهما؛ لئلَّا يحسِبَ أنَّ ذلك تأديبٌ لصلاحِهما، وليس بالأذى. ثمَّ ارْتَقى في الوصايةِ بالوالِدَينِ إلى أمْرِ الولدِ بالتَّواضُعِ لهما تواضُعًا يبلُغُ حَدَّ الذُّلِّ لهما؛ لإزالةِ وَحشةِ نُفوسِهما إنْ صارا في حاجةٍ إلى مَعونةِ الولدِ؛ لأنَّ الأبوينِ يَبْغيانِ أنْ يكونا هما النَّافعينِ لولدِهما، والقصدُ مِن ذلك التَّخلُّقُ بشُكرِه على إنعامِهما السَّابقِ عليه .

- قولُه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا... فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ فهذه الآياتُ أوَّلُ تَفصيلٍ للشَّريعةِ للمُسلمينَ وقَعَ بمكَّةَ، وأنَّ ما ذُكِرَ في هذه الآياتِ مقصودٌ به تَعليمُ المُسلمينَ؛ ولذلك اختَلَفَ أسلوبُه عن أسلوبِ نَظيرِه في سُورةِ (الأنعامِ) -في قولِه: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا... الآياتِ [الأنعام: 151- 153] - الَّذي وُجِّهَ فيه الخطابُ إلى المُشركينَ لتوقيفِهم على قواعدِ ضَلالتِهم؛ فمِن الاختلافِ بين الأسلوبينِ: أنَّ هذه الآيةَ افتُتِحَتْ بفعْلِ القضاءِ المُقْتضي الإلزامَ، وهو مُناسِبٌ لخطابِ أُمَّةٍ تَمتثِلُ أمْرَ ربِّها، وافتُتِحَ خطابُ سُورةِ (الأنعامِ) بـ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. ومنها: أنَّ هذه الآيةَ جعَلَتِ المَقْضيَّ هو تَوحيدُ اللهِ بالعِبادةِ؛ لأنَّه المُناسبُ لحالِ المُسلمينَ، فحذَّرَهم من عِبادةِ غيرِ اللهِ، وآيةُ (الأنعامِ) جعَلَتِ المُحرَّمَ فيها هو الإشراكَ باللهِ في الإلهيَّةِ المُناسِبَ لِما كانوا عليه من الشِّركِ؛ إذ لا عِبادةَ لهم .

3- قَولُه تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا

- قولُه: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ خفْضُ الجَناحِ كِنايةٌ عن حُسنِ التَّدبيرِ؛ لأنَّ الطَّائرَ إذا ضَمَّ فرْخَه إليه للتَّربيةِ خفَضَ له جَناحَه، وكأنَّه قيل للولدِ: اكفُلْ والديْكَ بأنْ تَضُمَّهما إلى نفْسِك، كما فعَلَا ذلك بك حالَ صِغَرِك. أو يكونُ خفْضُ الجَناحِ كِنايةً عن فعْلِ التَّواضُعِ؛ لأنَّ الطَّائرَ إذا أراد الطَّيرانَ والارتفاعَ نشَرَ جَناحَه، وإذا أراد ترْكَ الطَّيرانِ وترْكَ الارتفاعِ خفَضَ جَناحَه .

- وبُولِغَ بذكْرِ الذُّلِّ هنا، ولم يُذكَرْ في قولِه: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] ؛ وذلك بسبَبِ عِظَمِ حَقِّ الوالِدَينِ .

- قولُه: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ فيه إضافةُ الجَناحِ إلى الذُّلِّ -أو إلى الذِّلِّ- للبيانِ والمُبالغةِ، كما أُضيفَ حاتمٌ إلى الجودِ على معنى: واخفِضْ لهما جَناحَك الذَّليلَ، أو الذَّلولَ، وفيه مُبالغةٌ؛ لأنَّه وُصِفَ بالمصدرِ، فكأنَّه جعَلَ الجَناحَ عينَ الذُّلِّ. أو يجْعَلَ لذُلِّه -أو لذِلِّه- جَناحًا خفيضًا؛ مُبالغةً في التَّذلُّلِ والتَّواضُعِ لهما. وسِرُّ ذكْرِ الجَناحِ وخفْضِه، تَصويرُ الذُّلِّ كأنَّه مُشاهَدٌ مَحسوسٌ .

- قولُه: مِنَ الرَّحْمَةِ التَّعريفُ في الرَّحْمَةِ عوَضٌ عن المُضافِ إليه، أي: من رَحمتِك إيَّاهما، و(مِن) ابتدائيَّةٌ، أي: الذُّلِّ النَّاشئِ عن الرَّحمةِ لا عن الخوفِ أو عن المُداهنةِ، والمُقصودُ: اعتيادُ النَّفسِ على التَّخلُّقِ بالرَّحمةِ باستحضارِ وُجوبِ مُعاملتِه إيَّاهما بها حتَّى يصيرَ له خُلقًا، كما قيل:

إنَّ التَّخلُّقَ يأتي دونَه الخُلقُ

- قولُه: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا الكافُ في قولِه: كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا للتَّشبيهِ، وهو ما يُعبَّرُ عنه بمعنى التَّعليلِ في الكَافِ، والمقصودُ من التشبيهِ تَمثيلُ حالةٍ خاصَّةٍ فيها الإشارةُ إلى تَربيةٍ مُكيَّفةٍ برَحمةٍ كاملةٍ؛ فإنَّ الأبُوَّةَ تَقْتضي رَحمةَ الولدِ، وصِغَرَ الولدِ يَقْتضي الرَّحمةَ به، ولو لم يكُنْ ولدًا؛ فصار قولُه: كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا قائمًا مقامَ قولِه: كما ربَّياني ورَحِماني بتربيتِهما؛ فالتربيةُ تَكمِلةٌ للوُجودِ، وهي وحْدَها تَقتضِي الشُّكرَ عليها. والرحمةُ حِفظٌ للوجودِ مِن اجتنابِ انتهاكِه، وهو مُقتضَى الشُّكرِ؛ فجَمَع الشُّكرَ على ذلك كلِّه بالدُّعاءِ لهما بالرَّحمةِ . وقيل: «ما» في كَمَا: مَصدريَّةٌ، والوَقتُ فيه مُقدَّرٌ، أي: ارحَمْهما في وَقتٍ أحوجَ ما يَكونانِ إلى الرَّحمةِ مِن جَميعِ الأوقاتِ، كَوقتِ رَحمتِهما عليَّ وأنا في حالةِ الصِّغرِ. وليسَ ذلك إلَّا في القِيامةِ، والرحمةُ هي الجَنَّةُ. وقيل: إنَّ الكافَ في كَمَا رَبَّيَانِي؛ لتأكيدِ الوُجودِ، أي: لتاكيدِ وُجودِ الرحمةِ، أي: أَوْجِدْ رَحمتَهما إيجادًا مُؤكَّدًا مُحقَّقًا، كما أَوجَدَ الوالدانِ التربيةَ إيجادًا مُحقَّقًا في الزَّمانِ الماضِي .

- وخصَّ التربيةَ بالذكرِ؛ ليتذكرَ العبدُ شفقةَ الأبوينِ وتعبَهما في التربيةِ، فيزيدَه ذلك إشفاقًا لهما، وحنانًا عليهما .

4- قولُه تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا تَذييلٌ لآيةِ الأمْرِ بالإحسانِ بالوالِدَينِ وما فصلَ به، وما يَقْتضيه الأمْرُ من اختلافِ أحوالِ المأمورينَ بهذا الأمْرِ قبْلَ وُرودِه بينَ مُوافقٍ لمُقتضاهُ ومُفرِّطٍ فيه .

- قولُه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ كأنَّه تَهديدٌ على أنْ يُضْمِرَ لوالديْه كراهةً واستثقالًا .

- قولُه: فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا تَذييلٌ بوصفِ الأوَّابينَ المُفيدِ بعُمومِه معنى الرُّجوعِ إلى اللهِ تعالى وإلى ما يُرْضيه -لأنَّ الصَّلاحَ في قولِه: إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ شمَلَ الصَّلاحَ الكاملَ والصَّلاحَ المشوبَ بالتَّقصيرِ-؛ ففُهِمَ من الكلامِ معنى احتباكٍ بطريقِ المُقابلةِ، والتَّقديرُ: إنْ تَكونوا صالحينَ أوَّابينَ إلى اللهِ، فإنَّه كان للصَّالحينَ مُحْسِنًا، وللأوَّابينَ غفورًا، وهذا يعُمُّ المُخاطبينَ وغيرَهم، وبهذا العُمومِ كان تَذييلًا .

- وقيل: كان مقتضَى الظاهرِ في تركيبِ الآيةِ أن يُقالَ: (إنْ تكونوا صالحينَ فإنَّه كان لكم غفورًا)؛ لأنَّ المقامَ للإضمارِ، لكنَّه عدَل عن الضميرِ إلى الظاهرِ، فقيل: فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا لينصَّ على شرطِ المغفرةِ، وهو الأوبةُ والرجوعُ

=====================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (26-31)

ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غريب الكلمات :

 

تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا: التَّبذيرُ: الإسرافُ في النفقةِ، وتفريقُها في غيرِ ما أحلَّ الله عزَّ وجلَّ، ويُقالُ لكلِّ مضيِّعٍ مالَه، والتَّبذيرُ: التَّفريقُ، يُقالُ: بَذرتُ الأرض، أي: فرَّقْت البذرَ فيها، أي: الحبَّ، وأصلُ (بذر): هو نَثْرُ الشَّيءِ وتفريقُه

.

مَغْلُولَةً: أي: مُمْسَكةً مَقبوضةً، كأنَّها بالمنعِ مَشدودةٌ بالغُلِّ: وهو القَيدُ يُجعَلُ في العُنُقِ .

مَحْسُورًا: أي: مُنقَطِعًا عن النَّفَقةِ والتصَرُّفِ، لِذَهابِ ما يَقوى به، وانحِسارِه عنه، ومنه البَعيرُ الحَسيرُ: الذي قد حَسَره السَّفَرُ، أي: ذهَبَ بلَحمِه وقُوَّتِه، فلا انبِعاثَ به، وأصلُ (حسر): يدُلُّ على كَشفِ الشَّيءِ وذَهابِه .

وَيَقْدِرُ: أي: يُضَيِّقُ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلغِ الشَّيءِ ونِهايتِه، كأنَّما جُعِلَ رِزقُه بقَدْرٍ يَسيرٍ .

إِمْلَاقٍ: أي: فَقرٍ، وتجَرُّدٍ عن المالِ، وأصلُ (ملق): يدلُّ على تَجَرُّدٍ ومَلاسةٍ، كأنَّه بإنفاقِه لم يَبقَ له إلَّا المَلَقاتُ، وهي الحِجارةُ العِظامُ المُلْسُ التي لا يتعَلَّقُ بها شَيءٌ .

خِطْئًا: أي: إثمًا وخَطيئةً، يُقالُ: خَطِئ يَخطَأُ خِطْئًا مِثلُ أثِمَ يأثَمُ إثمًا: إذا تعَمَّد الخَطأَ، وأخطأَ: إذا لم يتعَمَّدْ، فالخِطْءُ: ما تُعمِّدَ، والخَطَأ: ما لم يُتعَمَّدْ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: وأحسِنْ إلى أقربائِك، وأعطِهم حُقوقَهم مِن البِرِّ والصِّلةِ والإحسانِ، وأعْطِ المِسكينَ حقَّه مِن الصدقةِ، والمُسافِرَ المُنقَطِعَ عن أهلِه ومالِه حقَّه مِن الضيافةِ، ولا تُفَرِّقْ أموالَك بإنفاقِها في غَيرِ حَقِّها؛ إنَّ المُنفِقينَ أموالَهم في غيرِ ما شرع اللهُ، هم إخوانُ الشَّياطينِ؛ لاتِّباعِهم إيَّاهم، وكان الشَّيطانُ شديدَ الجُحودِ لنِعَمِ رَبِّه.

ثم يقولُ تعالى: وإن أعرَضْتَ عن إعطاءِ هؤلاء الذين أُمِرْتَ بإعطائِهم؛ لِعَدَمِ وُجودِ ما تُعطيهم منه، راجيًا الرِّزقَ مِن عندِ رَبِّك- فقُلْ لهم قَولًا حَسَنًا جميلًا، كالوعْدِ الجَميلِ بإعطائِهم، والدُّعاءِ لهم بالغِنى وسَعةِ الرِّزقِ.

ثمَّ يرشدُ الله عبادَه إلى كيفيةِ إنفاقِ أموالِهم، والتصرفِ فيها، وأفضلِ الطرقِ في ذلك، فيقولُ: ولا تُمسِكْ يَدَك عن الإنفاقِ في سَبيلِ الخَيرِ بُخلًا، ولا تُسرِفْ في الإنفاقِ، فتُعطيَ فوقَ طاقتِك، فتَقعُدَ مَلومًا، مُنقَطِعًا عن النَّفَقةِ؛ بسَبَبِ ضَياعِ مالِك.

ثمَّ يبيِّنُ سبحانَه أنَّ مرجعَ الأمورِ كلِّها إليه، فهو المعطي، وهو المانعُ، فيقول: إنَّ رَبَّك يُوسِّعُ الرِّزقَ على من يشاءُ، ويُضَيِّقُه على من يشاءُ، وَفْقَ عِلمِه وحِكمَتِه سُبحانَه وتعالى؛ إنَّه خبيرٌ بعبادِه، بصيرٌ بهم.

ثمَّ يقولُ تعالى: ولا تَقتُلوا -أيُّها الآباءُ- أولادَكم خَوفًا مِن الفَقرِ؛ فإنَّه سُبحانَه يَرزُقُ الأبناءَ كما يَرزُقُ الآباءَ، إنَّ قَتْلَ الأولادِ خَطيئةٌ وذَنبٌ عَظيمٌ.

تفسير الآيات:

 

وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا حَثَّ اللهُ تعالى على الإحسانِ إلى الوالِدَينِ بالخُصوصِ؛ عمَّ بالأمرِ به لكُلِّ ذي رَحِمٍ وغيرِه

؛ فإنَّ القَرابةَ كُلَّها لما كانت مُتَشَعِّبةً عن الأبُوَّةِ؛ فلا جَرَم انتَقَل مِنَ الكَلامِ على حُقوقِ الأبَوَينِ إلى الكَلامِ على حُقوقِ القَرابةِ .

وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.

أي: وأعْطِ القَريبَ -يا مُحمَّدُ - حقَّه من الصِّلةِ والعَطفِ والمُواساةِ، والمِسكينَ حَقَّه مِن الصَّدَقةِ، والمُسافِرَ المُنقَطِعَ المُجتازَ بك حَقَّه مِنَ الضِّيافةِ، والإعانةِ على وُصولِه إلى مَقصِدِه .

وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا رغَّبَ في البَذلِ، وكانت النَّفسُ قَلَّما يكونُ فِعلُها قَوامًا بينَ الإفراطِ والتَّفريطِ؛ أتبَعَ ذلك قَولَه تعالى :

وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا.

أي: ولا تُفَرِّقْ أموالَك بإنفاقِها في غَيرِ حَقِّها ومَواضِعِها التي تستَحِقُّ الإنفاقَ فيها، وذلك كالإنفاقِ في مَعصيةِ اللهِ تعالى .

كما قال تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [النساء: 5] .

وقال سُبحانَه: وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141] .

وعن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حرَّمَ عليكم عُقوقَ الأمَّهاتِ، ووأْدَ البَناتِ، ومنعًا وهاتِ، وكَرِهَ لكم ثلاثًا: قيلَ وقال، وكثرةَ السُّؤال، وإضاعةَ المال) ) .

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27).

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ.

أي: إنَّ المُفَرِّقينَ أموالَهم في غَيرِ حَقِّها ووجْهِها المَشروعِ كانوا إخوانَ الشَّياطينِ؛ لاتِّباعِهم إيَّاهم في التَّبذيرِ والسَّفَهِ ومَعصيةِ اللهِ .

وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا.

أي: وكان الشَّيطانُ لرَبِّه جَحودًا لنِعَمِه لا يَشكُرُها، فيَترُكُ طاعةَ اللهِ، ويُقبِلُ على مَعصيتِه .

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28).

أي: وإنْ تُعرِضْ -يا محمَّدُ- عن إعطاءِ الأقارِبِ والمَساكينِ وأبناءِ السَّبيلِ حُقوقَهم؛ لقِلَّةِ مالِك، وأنتَ تنتَظِرُ رِزقًا مِن عندِ ربِّك؛ تَرْجو أن يُيسِّرَه لك، فلا تُؤيِّسْهم مِن عَطائِك، ولا تُغلِظْ لهم القَولَ، وإنَّما قلْ لهم قولًا ليِّنًا لَطيفًا طيِّبًا تقبَلُه نُفوسُهم، كالاعتِذارِ الحَسَنِ، والوعْدِ الجَميلِ بإعطائِهم، والدُّعاءِ لهم بالرِّزقِ .

كما قال تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة: 263] .

وقال سُبحانَه: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى: 10] .

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ رَسولَه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم بالإنفاقِ في الآيةِ المتقَدِّمةِ، عَلَّمَه في هذه الآيةِ أدَبَ الإنفاقِ .

وأيضًا فإنَّ هذا عَودٌ إلى بَيانِ التَّبذيرِ والشُّحِّ، فالجُملةُ عَطفٌ على جُملةِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء: 26] .

وأيضا فإنَّ الله تعالى لَمَّا أمَرَ بالجُودِ الذي هو لازِمُ الكَرَمِ؛ نهى عن البُخلِ الذي هو لازِمُ اللؤمِ، في سياقٍ يُنَفِّرُ منه ومِنَ الإسرافِ، فقال تعالى :

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ.

أي: ولا تُمسِكْ يَدَك بُخلًا عن النَّفَقةِ في الخَيرِ كُلَّ الإمساكِ وكأنَّها مُقَيَّدةٌ إلى عُنُقِك، فلا تستطيعُ أن تَمُدَّها لتُعطيَ أحدًا شيئًا من الخَيرِ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ الله صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((مَثَلُ البَخيلِ والمُنفِقِ كمَثَلِ رَجُلَينِ عليهما جُبَّتانِ مِن حَديدٍ مِن ثُدِيِّهما إلى تَراقِيهما ؛ فأمَّا المُنفِقُ فلا يُنفِقُ إلَّا سَبَغَت أو وَفَرَت على جِلْدِه، حتى تُخفِيَ بَنانَه وتَعفوَ أثَرَه ، وأمَّا البَخيلُ فلا يُريدُ أن يُنفِقَ شَيئًا إلَّا لَزِقَت كُلُّ حَلْقةٍ مَكانَها، فهو يُوَسِّعُها ولا تَتَّسِعُ )) .

وعن أسماءَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((انفَحي أو انضِحي أو أنْفِقي، ولا تُحصي فيُحصِيَ اللهُ عليك، ولا تُوعِي فيُوعِيَ اللهُ عليك )) .

وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ.

أي: ولا تَبسُطْ يدَك بالعَطاءِ والإنفاقِ كُلَّ البَسطِ، فتُنفِقَ فَوقَ طاقتِك، وتبقَى بلا مالٍ لَدَيك .

فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا.

أي: فتَبقى ملومًا عندَ الله تعالى، وعندَ النَّاسِ، وعندَ نَفسِك، مُنقَطِعًا، لا شيءَ لديك لتُنفِقَه، عاجزًا عن إقامةِ شُؤونِك .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67].

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان سَبَبُ البُخلِ خَوفَ الفَقرِ، وسَبَبُ البَسطِ مَحبَّةَ إغناءِ المُعطي؛ قال مُسَلِّيًا لرَسولِه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم عَمَّا كان يُرهِقُه من الإضاقةِ عن التَّوسعةِ على مَن يسألُه، بأنَّ ذلك إنَّما هو لِتَربيةِ العِبادِ بما يُصلِحُهم، لا لِهَوانٍ بالمُضَيَّقِ عليه، ولا لإكرامٍ للمُوَسَّعِ عليه .

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ.

أي: إنَّ ربَّك -يا محمَّدُ- يُوسِّعُ رِزقَه على مَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ويُضَيِّقُه على مَن يشاءُ منهم، بحَسَبِ حِكمَتِه سُبحانَه .

إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا.

أي: لأنَّه خَبيرٌ ببواطِنِ عِبادِه وأحوالِهم وأخبارِهم، بَصيرٌ بظَواهِرِهم وكيفيَّةِ تَدبيرِهم في أرزاقِهم وغَيرِها؛ فهو أعلَمُ بمصالِحِ عبادِه وما يَليقُ بكُلٍّ منهم، فيَعلَمُ مَن يَصلُحُ له الغِنى، ويَعلَمُ مَن يَصلُحُ له الفَقرُ .

كما قال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [العنكبوت: 62] .

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أتَمَّ سُبحانَه ما أراد مِن الوَصيَّةِ بالأُصولِ وما تَبِعَ ذلك، وختَمَه بما قَرَّرَ مِن أنَّ قَبضَ الرِّزقِ وبَسْطَه، منه مِن غَيرِ أن يَنفَعَ في ذلك حِيلةٌ؛ أوصاهم بالفُروعِ؛ لِكَونِهم في غايةِ الضَّعفِ .

وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ الأُولَى أنَّه هو المُتكَفِّلُ بأرزاقِ العِبادِ، حيثُ قال: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الإسراء: 30] ؛ أتبَعَه بِقَولِه :

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ.

أي: ولا تَقتُلوا -أيُّها الآباءُ- أولادَكم؛ خَوفًا مِن أن يُصيبَكم الفَقرُ بالإنفاقِ عليهم .

نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ.

أي: نحن نُعطي أولادَكم -أيُّها الآباءُ- رِزقَهم، ولَستُم الرَّازِقينَ لهم، ونُعطيكم رِزقَكم أيضًا؛ فلا تَخشَوُا الفَقرَ بسَبَبِهم .

إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا.

أي: إنَّ قتلَ الآباءِ لأولادِهم ذَنبٌ عَظيمٌ .

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ؟ قال: أن تَجعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَك، قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: أن تَقتُلَ ولَدَك؛ مِن أجْلِ أن يطعَمَ مَعَك، قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: أن تُزانيَ حَليلةَ جارِك ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا فيه الأمرُ بصِلةِ الأرحامِ، وإكرامِ المَساكينِ، والغُرَباءِ

.

2- قال الله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا مَنعُ ذي القُربى والمِسكينِ وابنِ السَّبيلِ حَقَّهم، انحرافٌ في جانِبِ الإمساكِ،  والتَّبذيرُ انحرافٌ في جانِبِ البَذلِ،  ورِضا اللهِ فيما بينهما، وقد اتَّفَق شَرْعُ الرَّبِّ تعالى وقَدَرُه على أنَّ خِيارَ الأُمورِ أوساطُها .

3- قال الله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ، والمرادُ بالأخوةِ المماثلةُ التامةُ، وتجنبُ مماثلةِ الشيطانِ ولو في خصلةٍ واحدةٍ مِن خصالِه واجبٌ، فكيف فيما هو أعمُّ مِن ذلك، كما يدلُّ عليه إطلاقُ المماثلةِ، والإسرافُ في الإنفاقِ من عملِ الشيطانِ، فإذا فعَله أحدٌ مِن بني آدمَ فقد أطاع الشيطانَ، واقتدَى به ، فليحذرِ المرءُ مِن عملٍ هو مِن شأنِ إخوانِ الشياطينِ، وليحذرْ أن ينقلبَ مِن إخوانِ الشياطينِ .

4- أنَّ الإنسانَ ليس له أنْ يَصْرِفَ المالَ إلَّا فيما ينفَعُه في دينِه أو دُنياه، وما سِوى ذلك سَفَهٌ وتبذيرٌ نهى اللهُ عنه بقَولِه: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، وقال بعضُ السلفِ: (لو أنفقتَ درهمًا في معصيةِ الله كنتَ مبذِّرًا، ولو أنفقتَ ملءَ الأرضِ في طاعةِ الله لم تكنْ مبذِّرًا) .

5- ينبغي على وليِّ الأمْرِ إذا سألَه النَّاسُ ما لا يَصلُحُ بَذْلُه مِن الوِلاياتِ والأموالِ، والمَنافعِ والأجورِ، والشَّفاعةِ في الحُدودِ وغيرِ ذلك، أنْ يُعَوِّضَهم مِن جهةٍ أخرى إنْ أمكَنَ، أو يَرُدَّهم بمَيسورٍ مِن القَولِ -ما لم يُحتَجْ إلى الإغلاظِ-؛ فإنَّ ردَّ السائلِ يُؤلِمُه؛ خُصوصًا مَن يحتاجُ إلى تأليفِه، وقد قال الله تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى: 10] ، وقال أيضًا: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إلى قَولِه: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ، أي: لطيفًا، برفقٍ ووعدٍ بالجميلِ عندَ سنوحِ الفرصةِ، واعتذارٍ بعدمِ الإمكانِ في الوقتِ الحاضرِ؛ لينقلبوا مطمئنةً خواطرُهم، كما قال تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة: 263] .

6- قال الله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا هذا مِن لُطفِ اللهِ تعالى بالعِبادِ؛ أمَرَهم بانتِظارِ الرَّحمةِ والرِّزقِ منه؛ لأنَّ انتظارَ ذلك عِبادةٌ، وكذلك وَعْدُهم بالصَّدقةِ والمَعروفِ عند التيسُّرِ عِبادةٌ حاضِرةٌ؛ لأنَّ الهَمَّ بفِعلِ الحَسَنةِ حَسَنةٌ؛ ولهذا ينبغي للإنسانِ أن يَفعَلَ ما يَقدِرُ عليه مِن الخَيرِ، ويَنويَ فِعلَ ما لم يَقدِرْ عليه؛ لِيُثابَ على ذلك، ولعَلَّ اللهَ يُيَسِّرُ له بسَبَبِ رَجائِه .

7- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا فيه الأمرُ بالقَولِ اللَّيِّنِ عندَ عَدَمِ وُجودِ ما يُعطى منه ، فالآيةُ تأديبٌ مِنَ اللَّهِ سبحانَه لعبادِه إذا سَأَلهم سائلٌ ما ليسَ عندَهم كيفَ يقولونَ، وبِمَ يَرُدُّونَ، ولقد أحسنَ مَنْ قال:

إِنْ لَا يَكُنْ وَرِقٌ يَوْمًا أجودُ بها

للسَّائِلينَ فإنـِّي لَيـِّنُ العُودِ

لا يَعْدَمُ السائلونَ الخيرَ مِن خُلُقي

إمَّا نَوالي وإمَّا حسنُ مردودي

 

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قد جمعَت هذه الآيةُ ثلاثَ وصايا مِمَّا أوصى اللهُ به، بقَولِه: وَقَضَى رَبُّكَ... الآيات:

فأمَّا إيتاءُ ذي القُربى فالمقصِدُ منه مُقارِبٌ للمَقصِدِ مِن الإحسانِ للوالدينِ؛ رَعيًا لاتِّحادِ المنبَتِ القَريبِ، وشَدًّا لآصرةِ العشيرةِ التي تتكوَّنُ منها القبيلةُ، وفي ذلك صلاحٌ عَظيمٌ لنِظامِ القبيلةِ وأمنِها وذبِّها عن حَوزتِها.

وأمَّا إيتاءُ المسكينِ فلِمَقصِدِ انتظامِ المجتمعِ بألَّا يكونَ مِن أفرادِه مَن هو في بؤسٍ وشَقاءٍ، على أنَّ ذلك المسكينَ لا يعدو أن يكونَ مِن القبيلةِ في الغالِبِ أقعَدَه العَجزُ عن العَمَلِ، والفَقرُ عن الكفايةِ.

وأمَّا إيتاءُ ابنِ السَّبيلِ فلإكمالِ نظامِ المجتَمَعِ؛ لأنَّ المارَّ به مِن غيرِ بنيه بحاجةٍ عَظيمةٍ إلى الإيواءِ ليلًا ليقيَه من عوادي الوحوشِ واللُّصوصِ، وإلى الطَّعامِ والدِّفءِ أو التظَلُّلِ؛ وقايةً مِن إضرارِ الجوعِ والقُرِّ أو الحَرِّ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ احتُجَّ بهذه الآيةِ على الحجرِ على المبذرِ، فيجبُ على الإمامِ منعُه منه بالحجرِ والحيلولةِ بينه وبينَ مالِه إلَّا بمقدارِ نفقةِ مثلِه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا الرَّحمةُ هنا هي الرِّزقُ الذي يتأتَّى منه العَطاءُ بقَرينةِ السِّياقِ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الرِّزقَ سَبَبٌ للرَّحمةِ؛ لأنَّه إذا أعطاه مُستَحِقَّه أثيبَ عليه .

4- قَولُه تعالى: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ فيه إخبارٌ بأنَّ رِزقَ الجَميعِ على اللهِ تعالى، واللهُ سيُسَبِّبُ لهم ما يُنفِقونَ على الأولادِ وعلى أنفُسِهم. وفيه بَيانُ أنَّ اللهَ تعالى سيرزُقُ كُلَّ حيوانٍ خَلَقَه ما دامَت حياتُه باقيةً، وأنَّه إنَّما يَقطَعُ رِزقَه بالمَوتِ، وبَيَّنَ اللهُ تعالى ذلك؛ لئلَّا يتعَدَّى بَعضُهم على بَعضٍ، ولا يَتناوَل مالَ غَيرِه؛ إذ كان اللهُ قد سبَّبَ له مِنَ الرِّزقِ ما يُغنيه عن مالِ غَيرِه .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا هذه الآيةُ الكريمةُ دالَّةٌ على أنَّ اللهَ تعالى أرحَمُ بعِبادِه مِنَ الوالِدِ بوَلَدِه؛ لأنَّه ينهى تعالى عن قَتلِ الأولادِ، كما أوصَى بالأولادِ في الميراثِ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا فيه النَّهيُ عن قَتلِ الأولادِ مَخافةَ الفَقرِ .

7- في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ حُجَّةٌ في وجوبِ نَفَقةِ الآباءِ على الأبناءِ؛ إذ لو كانتِ النَّفَقةُ غيرَ واجِبةٍ لهم عليهم، لكان في النَّاسِ مَن تَسمَحُ نَفسُه بتَركِ الإنفاقِ، وكان مع عَدَمِ الإجبارِ عليه آمنًا مِن الإملاقِ، والآيةُ عامَّةُ المَخرَجِ على جَميعِ الآباءِ، فلا تَدُلُّ إلَّا على الوُجوبِ، بل على الإجبارِ مع المَنعِ .

8- في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ عِظَةٌ للمُغتمِّينَ بكَثرةِ الأولادِ خَشيةَ العَجْزِ عن القِيامِ بنَفَقاتهم ومُؤْناتهم؛ ففي ضَمانِه -تبارك وتعالى- لنَفَقتِهم أمانٌ للمَضمونِ له ما يتَّقيه مِنَ العَجزِ، ويَحذَرُه مِن دُخولِ الفَقرِ عليه بسبَبِ أولادِه، وبِشارةٌ يَسكُنُ إليها المُؤمِنُ، ويَزولُ اضطرابُ قَلبِه بما لا يُخلِفُ ضامِنُه مِن وَعدِه، وإذا كان في حياتِه مَضمونًا له رِزقُ أولادِه وهو قَيِّمُهم، فبعدَ وفاتِه أحْرَى أن تَحسُنَ خِلافةُ ضامِنِه عليهم! وفي ذلك تطييبُ أنفُسِ مَن يتركُ بعده صِغارًا، وسكونُ قلوبِهم إلى من لا يُخلِفُ ميعادًا، ولا يُضَيِّعُ لهالكٍ أولادًا .

9- في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ دَلالةٌ على أنَّ تحديدَ النَّسْلِ خَوفًا مِن ضِيقِ الرِّزْقِ؛ سُوءُ ظَنٍّ باللهِ تعالى! فاللهُ سُبحانَه وتعالى إذا خَلَقَ خَلْقًا، فلا بُدَّ أنْ يرزُقَه .

10- في قوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ دلالةٌ على أنَّه كلما كَثُرَ الأولادُ انفتحتْ أبوابُ الرزقِ، إلَّا أنَّ كثرةَ الرزقِ بكثرة الأولادِ لها شرطٌ مهمٌّ؛ وهو تقوى اللهِ وصحةُ التوكلِ عليه؛ لقوله سُبحانَه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ

 

[الطلاق: 2، 3].

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا

- قَولُه: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ابتدأ بحَقِّ القريبِ تأكيدًا لحَقِّه، ولأنَّه هو مقتضى طبيعةِ التَّرتيبِ، ولأنَّه إذا سَخَت النفوسُ بإيتاءِ حَقِّ القريبِ ومَرَنت عليه، اعتادت الإيتاءَ وصار مِن مَلَكاتِها، فسهُلَ عليها إيتاءُ كُلِّ حَقٍّ ولو كان لأبعدِ النَّاسِ، إلى غير ذلك

.

- قولُه: وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا فيه ذِكْرُ المفعولِ المُطلَقِ تَبْذِيرًا بعدَ قولِه: وَلَا تُبَذِّرْ؛ لتأكيدِ النَّهيِ، كأنَّه قيلَ: لا تُبذِّرْ، لا تُبذِّرْ، مع ما في المصدرِ من استحضارِ جِنْسِ المَنْهيِّ عنه استحضارًا لِما تُتَصَوَّرُ عليه تلك الحقيقةُ بما فيها من المفاسِدِ .

2- قَولُه تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا

- قولُه: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ تَعليلٌ؛ للمُبالغةِ في النَّهيِ عن التَّبذيرِ ببيانِ أنَّه يجعَلُ صاحِبَه مَلْزوزًا في قَرَنِ الشَّياطينِ ، وقد زِيدَ تأكيدُ ذلك بلفْظِ كَانُوا المُفيدِ أنَّ تلك الأُخوَّةَ صِفَةٌ راسخةٌ فيهم، وكَفى بحقيقةِ الشَّيطانِ كراهةً في النُّفوسِ واستقباحًا .

- وفي الكلامِ إيجازُ حذْفٍ، تقديرُه: ولا تُبذِّرْ تَبذيرًا، فتصيرَ من المُبذِّرينَ؛ إنَّ المُبذِّرينَ كانوا إخوانَ الشَّياطينِ، ثمَّ أكَّدَ التَّحذيرَ بجُملةِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا .

- قولُه: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا فيه التَّعرُّضُ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ؛ للإشعارِ بكمالِ عُتُوِّه؛ فإنَّ كُفرانَ نعمةِ الرَّبِّ -مع كونِ الرُّبوبيَّةِ مِن أقوَى الدَّواعي إلى شُكْرِها- غايةُ الكُفْرانِ، ونِهايةُ الضَّلالِ والطُّغيانِ .

3- قَولُه تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا

- قولُه: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا علَّلَ الإعراضَ بطلَبِ الرَّحمةِ، وهي كِنايةٌ عن الرِّزقِ والتَّوسعةِ، وطلَبُ ذلك ناشِئٌ عن فُقدانِ ما يجودُ به ويُؤْتيه مَن سأَلَه، وسمَّى الرِّزقَ رحمةً، فرَدَّهم ردًّا جميلًا، فوضَعَ الابتغاءَ موضِعَ الفقدِ؛ لأنَّ فاقِدَ الرِّزقِ مُبتَغٍ له، فكان الفقدُ سبَبَ الابتغاءِ، والابتغاءُ مُسبَّبًا عنه؛ فوضَعَ المُسبَّبَ مَوضعَ السَّببِ، وكأنَّ المعنى: وإنْ تُعْرِضْ عنهم لإعسارِك، فوضَعَ المُسبَّبَ -وهو ابتغاءُ الرَّحمةِ- موضِعَ السَّببِ، وهو الإعسارُ .

- قولُه: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ الإعراضُ هنا كِنايةٌ عن عدَمِ الإيتاءِ؛ لأنَّ الإمساكَ يُلازِمُه الإعراضُ .

- قولُه: ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ الرَّحمةُ هنا هي الرِّزقُ الَّذي يتأتَّى منه العطاءُ بقرينةِ السِّياقِ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الرِّزقَ سبَبٌ للرَّحمةِ؛ لأنَّه إذا أعطاهُ مُستحِقَّه أُثيبَ عليه، وهذا إدماجٌ .

4- قولُه تعالى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا أتَتْ هذه الآيةُ تَعليمًا بمعرفةِ حقيقةٍ من الحقائقِ الدَّقيقةِ؛ فكانت من الحكمةِ، وجاء نظْمُها على سبيلِ التَّمثيلِ، فصِيغَتِ الحِكمةُ في قالبِ البلاغةِ، وأمَّا البلاغةُ فبتَمْثيلِ الشُّحِّ والإمساكِ بغلِّ اليدِ إلى العُنقِ، وهو تَمثيلٌ لمنْعِ الشَّحيحِ وإعطاءِ المُسرِفِ، وهو مَبنيٌّ على تخيُّلِ اليدِ مصدرًا للبذْلِ والعطاءِ، وتخيُّلِ بسْطِها كذلك، وغلُّها شُحًّا، ومِن ثمَّ قالوا: له يدٌ على فُلانٍ، أي: نعمةٌ وفضْلٌ؛ فجاء التَّمثيلُ في الآيةِ مَبنيًّا على التَّصرُّفِ في ذلك المعنى بتَمثيلِ الَّذي يشُحُّ بالمالِ بالَّذي غُلَّتْ يدُه إلى عُنقِه، أي: شُدَّتْ بالغُلِّ، وهو القيدُ من السَّيرِ يُشَدُّ به يدُ الأسيرِ .

5- قَولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا

- مَوقعُ هذه الجُملةِ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ موقعُ اعتراضٍ بالتَّعليلِ لِمَا تقدَّمَ من الأمْرِ بإيتاءِ ذي القُربى والمساكينِ، والنَّهيِ عن التَّبذيرِ، وعن الإمساكِ المُفيدِ الأمْرَ بالقصدِ، بأنَّ هذا واجبُ النَّاسِ في أموالِهم وواجِبُهم نحوَ قَرابتِهم وضُعفاءِ عشائرِهم، فعليهم أنْ يَمْتثلوا ما أمَرَهم اللهُ من ذلك. وليس الشُّحُّ بمُبْقٍ مالَ الشَّحيحِ لنفْسِه، ولا التَّبذيرُ بمُغْنٍ مَن يُبذِّرُ فيهم المالَ؛ فإنَّ اللهَ قدَّرَ لكلِّ نفْسٍ رزْقَها .

- قولُه: إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا تَعليلٌ لِما سبَقَ، وهو جُملةُ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، أي: هو يفعَلُ ذلك؛ لأنَّه عليمٌ بأحوالِ عِبادِه وما يَليقُ بكلٍّ منهم بحسَبِ ما جُبِلَت عليه نُفوسُهم؛ فلأنَّه يعلَمُ سِرَّهم وعلَنَهم، يعلَمُ مِن مصالِحهم ما يَخْفَى عليهم .

6- قَولُه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا

- قولُه: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيث قال في سورةِ (الأنعام): وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام: 151] ؛ فاختَلفَ ترتيبُ ذِكْرِ الآباءِ والأبناء في الآية هنا مع ترتيبها في سورةِ (الأنعام)، ووجهُ ذلك: أنَّ هذا التعبيرَ مبنيٌّ على اختلافِ الحالين، ففي آيةِ سورةِ (الأنعامِ) يقول اللهُ تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ -أي: مِن فقرٍ- يعني: إذا كنتم فقراءَ؛ فلا تقتلوا أولادَكم، ثم قال: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فبَدأَ بالآباء لأنهم فقراءُ؛ وجَعَلَ رزقَهم قبلَ ذِكْرِ رِزْقِ الأولادِ المقتولين، أمَّا في آيةِ سورةِ (الإسراءِ): وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خشية إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهم وَإِيَّاكمْ فلِأنَّ الآباءَ القاتلين هنا ليسوا فقراءَ -بل هم أغنياءُ- لكنهم يخشون الفقرَ! فكان الأنسبُ أنْ يُبْدَأَ بذِكْرِ رِزْقِ الأولادِ قبلَ ذِكْرِ رِزْقِ الآباءِ؛ لأنَّ الآباءَ رزقُهم موجودٌ، فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ، وقيل: تَقديمُ ضميرِ الأولادِ على المُخاطبينَ على عكْسِ ما وقَعَ في سُورةِ (الأنعامِ)؛ للإشعارِ بأصالتِهم في إفاضةِ الرِّزقِ، أو لأنَّ الباعثَ على القتْلِ هناك الإملاقُ النَّاجِزُ؛ ولذلك قيل هناك: مِنْ إِمْلَاقٍ [الأنعام: 151] وهاهنا الإملاقُ المُتوقَّعُ؛ ولذلك قيل هنا: خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ؛ فكأنَّه قيل: نرزُقُهم -من غيرِ أنْ يَنتقِصَ من رزْقِكم شَيءٌ، فيَعْتريكم ما تَخْشونَه- وإيَّاكم أيضًا رِزقًا إلى رزقِكم .

- قولُه: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ تَعليلٌ للنَّهيِ المذكورِ بإبطالِ مُوجِبِه في زعْمِهم .

- قولُه: إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا تأكيدٌ للنَّهيِ، وتحذيرٌ من الوُقوعِ في المَنهيِّ. وفعْلُ كَانَ تأكيدٌ للجُملةِ

=====================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (32-35)

ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات:

 

فَاحِشَةً: أي: فِعلةً مُتناهِيةً في القُبحِ، وأصلُ (فحش): يدلُّ على قُبحٍ في شَيءٍ وشَناعةٍ

.

لِوَلِيِّهِ: أي: مَن يَلي أمرَه مِنْ وَرَثَتِه إنْ كانُوا مَوْجودينَ، أو مِمَّنْ له سلطانٌ إنْ لم يَكُونوا مَوجودينَ، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه، وأصْلُ (ولي): يدلُّ على القُرْب، سواء من حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّينُ، أو الصَّداقةُ، أو النُّصرةُ، أو الاعتقادُ .

سُلْطَانًا: أي: تَسَلُّطًا على القاتِل، أو حُجَّةً، وأصْلُ السُّلطانِ: القوَّةُ والقَهرُ، مِنَ التَّسلُّطِ؛ ولذلك سُمِّيَ السُّلطانُ سُلطانًا .

يَبْلُغَ أَشُدَّهُ: أي: يتناهَى في الثَّبَاتِ إلى حدِّ الرِّجالِ، أو يبلُغ مُنْتَهى شَبابِه وقُوَّتِه، والأَشُدُّ قيل: جمعٌ لا واحدَ له، وقيل: مفردُه شَدٌّ، وأَصْلُ (شدد): يدلُّ على قوَّةٍ في الشَّيءِ .

بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ: أي: المِيزانِ العَدلِ السَّوِيِّ، وأصلُ (قسط) هنا: يدلُّ على العَدلِ .

تَأْوِيلًا: أي: عاقِبةً، والعاقِبةُ تُسَمَّى تأويلًا؛ لأنَّها مآلٌ، مِن آلَ يَؤولُ أَوْلًا: إذا رجَعَ، وأصلُ (أول): ابتداءُ الأمرِ وانتهاؤُه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يذكرُ الله تعالى بعضَ النواهي، فيقولُ: ولا تَقربوا -أيُّها النَّاسُ- الزِّنا، وابتَعِدوا عن مُقَدِّماتِه ودواعِيه؛ كي لا تَقَعوا فيه؛ إنَّه كان فِعلًا شديدَ القُبحِ، وبِئسَ الطَّريقُ طَريقُه، ولا تَقتُلوا النَّفسَ التي حَرَّم اللهُ قَتْلَها إلَّا بحَقِّها، كالقِصاصِ أو رَجمِ الزَّاني المُحصَنِ، أو قَتلِ المُرتَدِّ. ومن قُتِل ظُلمًا بغيرِ حَقٍّ، فقد جعَلْنا لوليِّه سلطةً في طلَبِ قَتْلِ قاتِلِه، أو الدِّيةِ، أو العَفوِ، وليسَ لوليِّ المَقتولِ أن يتجاوزَ حَدَّ اللهِ في القِصاصِ، كأن يقتُلَ بالواحِدِ اثنينِ أو أكثَرَ، أو يُمَثِّلَ بالقاتِلِ، أو يقتُلَ غيرَ القاتِلِ؛ إنَّ اللهَ مُعِينٌ وليَّ المَقتولِ على القاتِلِ حتى يأخُذَ منه حَقَّه.

ثمَّ يقولُ تعالى: ولا تقرَبوا أموالَ اليتامى إلَّا بالطَّريقةِ التي هي أحسَنُ لهم، بالمحافظةِ عليها وتثميرِها وتنميتِها، حتى يبلُغَ اليَتيمُ سِنَّ البُلوغِ والرشدِ، ويتمكَّنَ مِن التصَرُّفِ في المالِ، فيُدفَعَ إليه مالُه.

ثم يأمرُ الله تعالى بالوفاءِ بالعهدِ، فيقول: وأتِمُّوا الوفاءَ بالعُهودِ التي التَزَمتُم بها؛ لأنَّ العُهودَ مسؤولٌ عنها يومَ القيامةِ. وأتِمُّوا الكيلَ ولا تَنقُصوه إذا كِلْتم لِغَيرِكم، وزِنوا للنَّاسِ بالمِيزانِ السَّويِّ الذي لا غِشَّ فيه، إنَّ العَدلَ في الكَيلِ والميزانِ خَيرٌ لكم، وأحسَنُ عاقِبةً في الدُّنيا والآخِرةِ.

تفسير الآيات:

 

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا نهى اللهُ تعالى عن قَتلِ الأولادِ، نهى عن التسَبُّبِ في إيجادِه مِن الطَّريقِ غَيرِ المَشروعةِ، فنهى عن قِربانِ الزِّنا، واستلزَمَ ذلك النَّهيَ عن الزِّنا

.

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا.

أي: ولا تَدنُوا -أيُّها النَّاسُ- مِن فِعلِ الزِّنا، وابتَعِدوا عن مُقَدِّماتِه ودواعيه .

إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا.

أي: إنَّه كان ذنبًا عَظيمًا غايةً في القُبحِ؛ في الشَّرعِ، والعَقلِ، والفِطرةِ، وبِئسَ طريقًا طَريقُ الزِّنا؛ لأنَّه يُؤدِّي إلى أنواعٍ مِن المفاسدِ في الدُّنيا ، وإلى العذابِ والخِزيِ في الآخرةِ، فما أسوأَه مِن طَريقٍ !

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا نهى اللهُ تعالى عن قَتلِ الأولادِ، وعن إيجادِهم مِن الطَّريقِ غَيرِ المَشروعةِ، نهى عن قَتلِ النَّفسِ، فانتقَلَ مِن الخاصِّ إلى العامِّ .

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.

أي: ولا تَقتُلوا النَّفسَ التي حرَّم اللهُ قتلَها إلَّا إذا استَحقَّتِ القَتلَ شَرعًا .

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: ((لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مُسلمٍ يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي رَسولُ اللهِ، إلَّا بإحدى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، والنَّفسُ بالنَّفسِ، والتَّارِكُ لدِينِه المُفارِقُ للجَماعةِ )) .

وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا.

أي: ومَن قُتِل ظُلمًا بغيرِ حَقٍّ، فقد جعَلْنا لوليِّ المَقتولِ سُلطةً وتسَلُّطًا على القاتِلِ؛ فهو بالخِيارِ: إن شاء قتَلَه قِصاصًا، وإن شاء أخَذَ الدِّيةَ، وإن شاء عَفا عنه .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم قال: ((ومَن قُتِلَ له قَتيلٌ، فهو بخَيرِ النَّظَرينِ؛ إما أن يُفدَى، وإمَّا أن يُقِيدَ ) .

فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا.

أي: فلا يَتَجاوَزْ وَلِيُّ المَقتولِ ما حُدَّ له، فيتعدَّى بقَتلِ غَيرِ القاتِلِ، أو يَقتُل بالواحِدِ اثنَينِ أو أكثَرَ، أو يُمَثِّل بالقاتِلِ؛ إنَّ وَلِيَّ المَقتولِ كان مُعانًا على القاتِلِ بتَسليطِه عليه بالقِصاصِ، أو بأخْذِ الدِّيةِ، أو بالعَفوِ .

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى النَّهيَ عن إتلافِ النُّفوسِ؛ أتبَعَه بالنَّهيِ عن إتلافِ الأموالِ؛ لأنَّ أعَزَّ الأشياءِ بعدَ النُّفوسِ الأموالُ، وأحَقُّ النَّاسِ بالنَّهيِ عن إتلافِ أموالِهم هو اليَتيمُ؛ لأنَّه لِصِغَرِه وضَعفِه وكَمالِ عَجزِه يَعظُمُ ضَررُه بإتلافِ مالِه؛ فلهذا السَّبَبِ خَصَّهم اللهُ تعالى بالنَّهيِ عن إتلافِ أموالِهم .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا نهى عن الإغارةِ على الأرواحِ، والأبضاعِ التي هي سَبَبُها؛ أتبَعَه النَّهيَ عن نَهبِ ما هو عَديلُها؛ لأنَّ به قِوامَها -وهو الأموالُ- وبدأ بأحَقِّ ذلك بالنَّهيِ؛ لشِدَّةِ الطَّمعِ فيه، لضَعفِ مالِكِه، فقال تعالى :

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

أي: ولا تَقْربوا مالَ اليتيمِ إلَّا بالطَّريقةِ التي هي أحسَنُ وأفضَلُ؛ وذلك بإصلاحِه والمُحافظةِ عليه، وتَثميرِه وتَنميتِه .

كما قال تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء: 2].

وقال سُبحانَه: وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] .

وعن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسول الله صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم قال: ((يا أبا ذرٍّ، إنِّي أراك ضعيفًا، وإنِّي أُحِبُّ لك ما أُحبُّ لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنينِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يتي مٍ ) .

حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.

أي: لا تَقرَبوا مالَ اليتيمِ إلا بالتي هي أحسنُ حتَّى يبلُغَ الحُلُمَ والرُّشدَ، بحيث يَكمُلُ عَقلُه ويتمَكَّنُ مِن تَدبيرِ مالِه، فإذا بلغَ ذلك زالتْ عنه الوِلايةُ، وصار وليَّ نَفسِه، ودُفِعَ إليه مالُه .

كما قال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء: 6] .

وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ.

أي: وأوفُوا -أيُّها النَّاسُ- بالعُهودِ التي عاهَدْتُم اللهَ عليها، وبالعُقودِ التي بينكم .

كما قال سُبحانَه: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام: 152] .

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] .

إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا .

أي: أوفُوا بالعهودِ؛ لأنَّ اللهَ سيَسألُكم عنها يومَ القيامةِ، ويُجازيكم على الوَفاءِ بها وعَدَمِه؛ فلا تَنقُضوها .

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان التَّقديرُ بالكَيلِ أو الوَزنِ مِن جُملةِ الأماناتِ الخَفيَّةِ، كالتصَرُّفِ لليَتيمِ، وكان الائتِمانُ عليه كالمَعهودِ فيه؛ أتبَعَه بقَولِه :

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ.

أي: وأوفُوا النَّاسَ الكَيلَ إذا كِلْتُم لهم، وأوفُوهم حُقوقَهم -بالعَدلِ- تامَّةً مِن غَيرِ نَقصٍ .

كما قال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام: 152] .

وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ.

أي: وزِنوا للنَّاسِ بالمِيزانِ السَّويِّ الذي لا انحِرافَ فيه ولا اعوِجاجَ، ولا غِشَّ ولا خديعةَ .

كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن: 9].

ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.

أي: ذلك الوَفاءُ في الكَيلِ والمِيزانِ خَيرٌ لكم -أيُّها النَّاسُ- مِن التَّطفيفِ، وأحسَنُ عاقِبةً لكم في دُنياكم: بالبَرَكة وانشِراحِ النَّفسِ وغيرِ ذلك، وفي أُخراكم: بالثَّوابِ مِنَ اللهِ تعالى

 

.

كما قال تعالى حاكيًا قَولَ شُعَيبٍ عليه السَّلامُ: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [هود: 85- 86] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ في إسنادِ التَّحريمِ إلى اللهِ بَعثٌ للنُّفوسِ على الخَشيةِ مِن الإقدامِ على المُخالَفةِ، وتنبيهٌ لها على ما يَكُفُّها عن الإقدامِ، وهو استِشعارُ عَظَمةِ اللهِ تعالى

. .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا هذا أمرٌ بالعَدلِ، وإيفاءِ المكايِيلِ والموازينِ بالقِسطِ مِن غَيرِ بَخسٍ ولا نَقصٍ. ويُؤخَذُ مِن عُمومِ المعنى النَّهيُ عن كُلِّ غِشٍّ في ثَمَنٍ أو مُثْمَنٍ أو مَعقودٍ عليه، والأمرُ بالنُّصحِ والصِّدقِ في المُعاملةِ .

3-  وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فإيفاءُ الكَيلِ والوَزنِ خَيْرٌ من التطفيفِ فيهما، تفضيلًا لخيرِ الآخرةِ الحاصِلِ مِن ثوابِ الامتِثالِ، على خيرِ الدُّنيا الحاصِلِ مِن الاستِفضالِ الذي يطفِّفُه المطَفِّفُ، وهو أيضًا أفضَلُ منه في الدُّنيا؛ لأنَّ انشراحَ النَّفسِ الحاصِلَ للمَرءِ مِن الإنصافِ في الحَقِّ أفضَلُ مِن الارتباحِ الحاصِلِ له باستِفضالِ شَيءٍ مِن المال، وهو أَحْسَنُ تَأْوِيلًا؛ فالتَّطفيفُ يعودُ على المطَفِّفِ باقتناءِ جزءٍ قليلٍ مِن المالِ، ويُكسِبُه الكراهيةَ والذَّمَّ عند النَّاسِ، وغَضَبَ اللهِ والسُّحتَ في مالِه، مع احتِقارِ نَفسِه في نفسِه؛ والإيفاءُ بعَكسِ ذلك يُكسِبُه مَيلَ النَّاسِ إليه ورِضا اللهِ عنه ورضاه عن نَفسِه والبركةَ في مالِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّما أتى تعالى بالقِربانِ تَعظيمًا له؛ لِما فيه مِن المفاسِدِ الجارَّةِ إلى الفِتَنِ؛ بالقَتلِ، وتَضييعِ النَّسَبِ، والتسَبُّبِ في إيجادِ نَفسٍ بالباطِلِ

، وأيضًا فالنَّهيُ عن قِربانِه أبلَغُ مِن النَّهيِ عن مُجَرَّدِ فِعلِه؛ لأنَّ ذلك يَشمَلُ النَّهيَ عن جَميعِ مُقَدِّماتِه ودواعيه؛ فإنَّ مَن حامَ حولَ الحِمى يُوشِكُ أن يقَعَ فيه، خصوصًا هذا الأمرَ الذي في كثيرٍ من النُّفوسِ أقوى داعٍ إليه . فالنَّهيُ عن قِربانِ الزِّنا نَهيٌ عن جَميعِ الأسبابِ المُوصلةِ إليه، كاللَّمْسِ والنَّظَرِ، فلا يَحِلُّ للمُؤمِنِ أنْ يتمَتَّعَ تمتُّعًا نَفسيًّا أو جِنسيًّا، يعني: سواءٌ كان تَمَتُّعُه بالنَّظَرِ ونَحوِه مُجَرَّدَ راحةٍ نفسيَّةٍ، أو لأجلِ التمَتُّعِ الجنسيِّ والشَّهوةِ، فكلُّ ذلك حَرامٌ، ولا يجوزُ في غيرِ الزَّوجةِ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا التَّعبيرُ عن الزِّنا بالسَّبيلِ يدُلُّ على كَثرةِ مُتعاطيه بالدَّلالةِ على سَعةِ مَنهَجِه، فالسبيلُ هي الطريقُ الواسعةُ .

3- في قَولِه تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ردٌّ على الخوارجِ فيما يَزعُمونَ أنَّ الذُّنوبَ كُلَّها كفرٌ؛ فالله سُبحانَه وتعالى حين أمَرَ بالقَتلِ في انتهاكِ مَحارِمِه جعَلَه حَدًّا لا كُفرًا، فحَرَّمَ القَتلَ بقَولِه: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ثمَّ قال: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ فجَعَلَ السُّلطانَ للوَليِّ لا لِنَفسِه -جلَّ جلالُه- ولو كان كَفَرَ بالقَتلِ؛ لأمَرَ بالقَتلِ، وإنْ لم يُرِدِ الوليُّ قَتْلَه .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ يدُلُّ على أنَّه لا يَتجاوَزُ الحَدَّ المَشروعَ له: فلا يَقتُلْ غَيرَ قاتِلِه، ولا يُمَثِّل به حيثُ لمْ يُمَثِّلْ، ولا يَقتُلْه بأسوأَ مِمَّا قَتَل، حتى لو قَتَل بالتَّغريقِ في ماءٍ عَذبٍ لم يُغرِقْه في ماءٍ ملحٍ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا فيه دَليلٌ على أنَّ الحَقَّ في القَتلِ للوَليِّ، فلا يُقتَصُّ إلَّا بإذنِه، وإنْ عفا سقَطَ القِصاصُ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا فيه دَليلٌ على أنَّ وَلِيَّ المَقتولِ يُعينُه اللهُ على القاتِلِ ومَن أعانَه، حتَّى يتمَكَّنَ مِن قَتلِه .

7- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا مِن نُكَتِ القرآنِ وبلاغتِه وإعجازِه الخَفيِّ الإتيانُ بلَفظِ (سلطان) هنا، والظَّاهِرُ أنه في معنى المصدَرِ، أي: السُّلطةُ والحَقُّ والصَّالحُ لإرادةِ إقامةِ السُّلطانِ، وهو الإمامُ الذي يأخُذُ الحقوقَ مِن المُعتَدين إلى المعتدى عليهم حين تنتَظِمُ جامعةُ المسلمين بعد الهِجرةِ، ففيه إيماءٌ إلى أنَّ الله سيجعَلُ للمُسلِمين دولةً دائِمةً، ولم يكن للمُسلِمين يومَ نُزولِ الآيةِ سُلطانٌ .

8- قَولُه تعالى: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا إشارةٌ إلى إبطالِ تولِّي وليِّ المقتولِ قَتلَ القاتِلِ دونَ حُكمٍ مِن السلطانِ؛ لأنَّ ذلك مَظِنَّةٌ للخطأِ في تحقيقِ القاتِلِ، وذريعةٌ لحدوثِ قَتلٍ آخَرَ بالتدافُعِ بين أولياءِ المقتولِ وأهلِ القاتِلِ، ويجرُّ إلى الإسرافِ في القَتلِ الذي ما حدَثَ في زمانِ الجاهليَّةِ إلَّا بمِثلِ هذه الذَّريعةِ .

9- قال الله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ قَولُه: وَلَا تَقْرَبُوا أي: فَضْلًا عن أنْ تأكُلوا مالَ اليَتيمِ، فعَبَّرَ بالقِربانِ الذي هو قبلَ الأخذِ؛ تَعظيمًا للمقامِ .

10- في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ دَليلٌ على جوازِ تَصَرُّفِ الوليِّ في مالِ اليَتيمِ بما عادَ صلاحُه على اليَتيمِ .

11- قال اللهُ تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هذا حِمايةٌ لأموالِ اليتامى وألَّا تُقْرَبَ إلَّا بالخَصلةِ التي هي أحسَنُ؛ فلا تُقْرَبُ بأيِّ تَصَرُّفٍ إلَّا بما يُرى أنَّه أحسَنُ، فإذا لاحَ للوليِّ تصَرُّفانِ أحدُهما أكثَرُ رِبحًا، فالواجِبُ عليه أنْ يَأخُذَ بما هو أكثَرُ رِبحًا؛ لأنَّه أحسَنُ، والحُسنُ هنا يَشمَلُ: الحُسنَ الدُّنيويَّ، والحُسنَ الدِّينيَّ؛ فإذا لاح تصَرُّفانِ أحدُهما أكثَرُ رِبحًا وفيه رِبًا، والآخرُ أقَلُّ رِبحًا وهو أسلَمُ مِن الرِّبَا؛ فلا بُدَّ مِن تقديمِ الأخيرِ؛ لأنَّ الحُسْنَ الشَّرعيَّ مُقَدَّمٌ على الحُسْنِ الدُّنيويِّ المادِّيِّ .

12- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا مُقتَضاه أنَّ كُلَّ عَقدٍ وعَهدٍ جرَى بينَ إنسانَينِ؛ فإنَّه يجِبُ عليهما الوَفاءُ بمقتضى ذلك العَقدِ والعَهدِ، إلَّا إذا دلَّ دَليلٌ مُنفَصِلٌ على أنَّه لا يجِبُ الوفاءُ به، فمُقتضاه الحُكمُ بصِحَّةِ كُلِّ بَيعٍ وقعَ التَّراضي به، وبصِحَّةِ كلِّ شَرِكةٍ وقع التَّراضي بها، إلَّا إذا دلَّ الدليلُ على خلافِ ذلك، ويُؤكَّدُ هذا النَّصُّ بسائِرِ الآياتِ الدالَّةِ على الوَفاءِ بالعُهودِ والعُقودِ، كقَولِه تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة: 177] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ، وقَولِه: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8] ، وقَولِه: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة: 275] ، وقَولِه: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29] ، إلى غيرِ ذلك، وبهذا الطريقِ تصيرُ أبوابُ المعاملاتِ على طولِها وإطنابِها مضبوطةً معلومةً بهذه الآيةِ الواحدةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا

- عُطفَ هذا النَّهيُ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا على النَّهيِ عن وأدِ البناتِ؛ إيماءً إلى أنَّهم كانوا يَعُدُّونَ مِن أعذارِهم في وأدِ البناتِ الخَشيةَ مِن العارِ الذي قد يلحَقُ مِن جرَّاءِ إهمالِ البناتِ الناشئِ عن الفَقرِ الرَّامي بهنَّ في مَهاوي العُهرِ، ولأنَّ في الزِّنا إضاعةَ نَسَبِ النَّسلِ، بحيثُ لا يُعرَفُ للنَّسلِ مَرجِعٌ يأوي إليه، وهو يشبِهُ الوأدَ في الإضاعةِ

.

- وقيل: تَوسيطُ النَّهيِ عن الزنا بينَ النَّهيِ عن قتْلِ الأولادِ، والنَّهيِ عن قتْلِ النَّفسِ المُحرَّمةِ على الإطلاقِ باعتبارِ أنَّه قتْلٌ للأولادِ؛ لِما أنَّه تَضييعٌ للأنسابِ؛ فإنَّ مَن لم يثبُتْ نسَبُه ميِّتٌ حُكمًا، وهذا من التَّرتيبِ الحسَنِ .

- قولُه: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا القُربُ المَنهيُّ عنه كِنايةٌ عن شِدَّةِ النَّهيِ عن مُلابَسةِ الزِّنا، وقريبٌ من هذا المعنى قولُهم: ما كاد يفعَلُ ، وإنَّما نهَى عن قِربانِه على خلافِ ما سبَقَ ولحِقَ من القتْلِ؛ للمُبالغةِ في النَّهيِ عن نفْسِه، ولأنَّ قِربانَه داعٍ إلى مُباشرتِه .

- وجُملةُ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً تَعليلٌ للنَّهيِ عن مُلابَستِه تَعليلًا مُبالَغًا فيه من جِهاتٍ؛ بوَصْفِه بالفاحشةِ الدَّالِّ على فِعلةٍ بالغةِ الحدِّ الأقصَى في القُبحِ، وبتَأكيدِ ذلك بحرفِ التَّوكيدِ، وأُتْبِعَ ذلك بفعْلِ الذَّمِّ، وهو سَاءَ سَبِيلًا .

2- قَولُه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا

- جُملةُ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا معطوفةٌ على جُملةِ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ عطْفَ قِصَّةٍ على قِصَّةٍ؛ اهتمامًا بهذا الحُكمِ بحيث جُعِلَ مُستقِلًّا؛ فعُطِفَ على حُكمٍ آخرَ، وإلَّا فمُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ تكونَ مفصولةً؛ إمَّا استئنافًا لبيانِ حُكمِ حالةٍ تكثُرُ، وإمَّا بدلَ بَعضٍ من جُملةِ إِلَّا بِالْحَقِّ .

- قولُه: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ هو في المعنى مُقدِّمةٌ للخبَرِ بتَعجيلِ ما يُطَمْئِنُ نفْسَ وَليِّ المقتولِ، والمقصودُ من الخبرِ التَّفريعُ بقولِه تَعالى: فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ؛ فكان تَقديمُ قولِه تَعالى: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا تَمهيدًا لقَبولِ النَّهيِ عن السَّرَفِ في القتْلِ؛ لأنَّه إذا كان قد جُعِلَ له سُلطانٌ، فقد صار الحُكْمُ بيدِه، وكفَاهُ ذلك شِفاءً لغَليلِه .

- قولُه: إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا استئنافٌ، وقد أُكِّدَ ذلك بحرفِ التَّوكيدِ، وبإقحامِ (كان) الدَّالِّ على أنَّ الخبرَ مُستقِرُّ الثُّبوتِ .

- قولُه: إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا تَعليلٌ للنَّهيِ، ووجْهُ التَّعليلِ ظاهِرٌ .

3- قَولُه تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا

- قولُه: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ نَهيٌ عن قِربانِه؛ للمُبالَغةِ في النَّهيِ .

- وخَصَّ اليتيمَ بالذِّكْرِ؛ لأنَّه إلى ذلك أحوَجُ،  والطَّمعَ في مالِه أكثَرُ .

- قولُه: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا فيه إظهارُ العهدِ في مقامِ الإضمارِ؛ إظهارًا لكَمالِ العِنايةِ بشأْنِه، أو لأنَّ المُرادَ مُطلَقُ العهدِ المُنتظِمِ للعهدِ المعهودِ ، وللاهتمامِ به، ولتكونَ هذه الجُملةُ مُستقلَّةً، فتَسْرى مَسْرى المثَلِ .

- وجُملةُ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا تَعليلٌ للأمرِ، أي: للإيجابِ الَّذي اقتضاهُ، وحُذِفَ مُتعلِّقُ مَسْئُولًا لظُهورِه، أي: مَسؤولًا عنه، أي: يسأَلُكم اللهُ عنه يومَ القيامةِ .

4- قَولُه تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا

- قولُه: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ، أي: وقتَ كيْلِكم على سبيلِ التَّأكيدِ .

- قولُه: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث زِيدَ الظَّرفُ في هذه الآيةِ -وهو إِذَا كِلْتُمْ- دونَ ذكْرِ نَظيرِه في آيةِ (الأنعامِ) في قوله: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ [الأنعام: 152] ؛ لِما في (إذا) مِن مَعنى الشَّرطيَّةِ، فتَقْتضي تجدُّدَ ما تضمَّنَه الأمْرُ في جميعِ أزمنةِ حُصولِ مَضمونِ شَرطِ (إذا) الظَّرفيَّةِ الشَّرطيَّةِ؛ للتَّنبيهِ على عدَمِ التَّسامُحِ في شَيءٍ من نقْصِ الكيلِ عند كلِّ مُباشَرةٍ له؛ ذلك أنَّ هذا خِطابٌ للمُسلمينَ بخلافِ آيةِ (الأنعامِ)؛ فإنَّ مَضمونَها تَعريضٌ بالمُشركينَ في سُوءِ شَرائعِهم، وكانت هنا أجدَرَ بالمُبالَغةِ في التَّشريعِ .

- قولُه: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ القِسطاسُ: المعتدلُ مِن الموازينِ، وهو بناءُ مُبالغةٍ مِن القِسْطِ .

- وفي قولِه: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ فإنَّ القِسطاسَ اسمٌ للميزانِ -أي: آلةِ الوزنِ- واسمٌ للعدْلِ، ومعنى العدْلِ والميزانِ صالحانِ هنا، لكنَّ الَّتي في سُورةِ (الأنعامِ): وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ [الأنعام: 152] ، جاء فيها بالقِسْطِ؛ فهو العدْلُ؛ لأنَّها سِيقَتْ مساقَ التَّذكيرِ للمُشركينَ بما همْ عليه من المفاسِدِ؛ فناسَبَ أنْ يُذَكَّروا بالعدْلِ؛ ليَعْلموا أنَّ ما يَفْعلونه ظُلمٌ. والباءُ هنالِك للمُلابَسةِ، وهذه الآيةُ جاءت خِطابًا للمُسلمينَ؛ فكانت أجدَرَ باللَّفظِ الصَّالحِ لمعنى آلةِ الوزنِ؛ لأنَّ شأْنَ التَّشريعِ بيانُ تَحديدِ العمَلِ مع كونِه يُومئُ إلى معنى العدْلِ على استعمالِ المُشترَكِ في مَعنيَيه؛ فالباءُ هنا ظاهِرةٌ في معنى الاستعانةِ والآلةِ، ومُفيدةٌ للمُلابَسةِ أيضًا .

- وقولُه أيضًا: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ لعلَّ الاكتفاءَ باستقامةِ القِسطاسِ عن الأمْرِ بإيفاءِ الوزنِ؛ لِما أنَّ عند استقامتِه لا يُتَصوَّرُ الجَوْرُ غالبًا، بخلافِ الكيلِ؛ فإنَّه كثيرًا ما يقَعُ التَّطفيفُ مع استقامةِ الآلةِ، كما أنَّ الاكتفاءَ بإيفاءِ الكيلِ عن الأمْرِ بتعديلِه؛ لِما أنَّ إيفاءَه لا يُتصوَّرُ بدونِ تَعديلِ المكيالِ

==================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (36-39)

ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ

غريب الكلمات:

 

تَقْفُ: أي: تَتْبَعْ، وأصلُ (قفو): يدُلُّ على إتباعِ شَيءٍ لِشَيءٍ

.

مَرَحًا: أي: مُختالًا مُستَكبِرًا، وأصلُ (مرح): يدلُّ على مَسَرَّةٍ لا يكادُ يستَقِرُّ معها المرءُ طَرَبًا .

تَخْرِقَ الْأَرْضَ: أي: تَنقُبَها، وتثقبَها إلى الجانبِ الآخرِ. وقيل: تَقْطَعَها وتَبلُغَ أطرافَها، وأصلُ (خرق): يدُلُّ على مَزْقِ الشَّيءِ وقَطعِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: ولا تَتْبَعْ ما لا علمَ لك به بمجَرَّدِ الظَّنِّ، بل تأكَّدْ وتثبَّتْ؛ إنَّ السَّمْعَ والبصَرَ والفُؤادَ مسؤولٌ عنها الإنسانُ يومَ القيامةِ فيما استعمَلَها.

ثم ينهَى الله عن التفاخرِ والتكبرِ والإعجابِ بالنفسِ، فيقولُ: ولا تمشِ في الأرضِ مُختالًا مُتكبِّرًا؛ فإنَّك لن تُؤَثِّرَ في الأرضِ فتَخرِقَها بشِدَّةِ وطءِ قدَميك عليها، ولن تَبلُغَ الجِبالَ طُولًا باختيالِك وتكَبُّرِك.

ثمَّ ختَم الله تعالى تلك النَّواهي بقولِه: جميعُ ما تقدَّم ذِكْرُه مِن أوامِرَ ونواهٍ كان سيِّئُه مُبغَضًا عند الله، لا يَرضاه لعِبادِه، ذلك الذي تضمَّنَته الآياتُ السَّابِقةُ مِن الأحكامِ؛ مِمَّا أوحاه الله إليك -يا مُحَمَّدُ- مِنَ الحِكمةِ، ولا تجعَلْ مع اللهِ تعالى شَريكًا له في عبادتِه، فتُرمى في نارِ جهنَّمَ مَلُومًا مَطرودًا مُبعَدًا مِن كُلِّ خَيرٍ.

تفسير الآيات:

 

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36).

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.

أي: ولا تَقُلْ أو تفعَلْ شيئًا بمُجَرَّدِ الظَّنِّ، فتَتْبَعْ ما لا عِلمَ لك به، ولا دليلَ على صِحَّته، ومِن ذلك: رَميُ النَّاسِ وقَذفُهم بالباطِلِ، والشَّهادةُ عليهم بغَيرِ الحَقِّ

.

كما قال تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [النحل: 116] .

وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28] .

إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا.

أي: إنَّ سَمْعَ الإنسانِ وبَصَرَه وقَلْبَه، كُلُّ هذه الأعضاءِ العَظيمةِ، العاليةِ المنافِعِ، البَديعةِ التَّكوينِ، سيَسألُ اللهُ الإنسانَ عنها يومَ القيامةِ فيما استعمَلَها، وتُسأَلُ هي عمَّا عَمِلَ فيها صاحِبُها، فتَشهَدُ عليه بما قال وفَعَل مِن خَيرٍ وشَرٍّ .

كما قال تعالى: وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 93] .

وقال سُبحانَه: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت: 20] .

وعن شَكَلِ بن حُمَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، عَلِّمْني دُعاءً، قال: قل: اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن شَرِّ سَمعي، ومِن شَرِّ بَصَري، ومِن شَرِّ لِساني، ومِن شَرِّ قَلبي، ومِن شَرِّ مَنِيِّي )) .

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37).

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا.

أي: ولا تَمْشِ في الأرضِ مُختالًا مُتبَختِرًا مُتمايلًا مُتَكبِّرًا، كمِشيةِ الجبَّارينَ .

إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا.

أي: إنَّك -أيُّها المُتكَبِّرُ المُتعاظِمُ في مَشْيِه- لن تَثقُبَ الأرضَ بشِدَّة وطْءِ قَدَميك عند اختيالِك في مَشْيِك، ولن يَبلُغَ طُولُك -بتطاوُلِ بَدَنِك للأعلى في مِشيَتِك- طُولَ الجِبالِ؛ فما الذي يُغريك بهذه المِشيةِ، وقُدرتُك لا تَبلُغُ بك هذا المَبلغَ؟! فتواضَعْ ولا تتكَبَّرْ، واعرِفْ قَدْرَ ضَعْفِك وعَجْزِك؛ فأنت مَحصورٌ بين جمادَينِ لا تَقدِرُ على التَّأثيرِ فيهما؛ الأرضِ التي تحتَك، والجِبالِ الشَّامِخةِ مِن فَوقِك !

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((بينما رجُلٌ يَتبختَرُ ، يَمشي في بُرْدَيه ، قد أعجَبَتْه نَفسُه، فخَسَفَ اللهُ بهِ الأرضَ، فهو يتجلجَلُ فيها إلى يومِ القيامةِ )) .

كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38).

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: سَيِّئُهُ قِراءتانِ:

1- قِراءةُ سَيِّئُهُ على أنَّ الضَّميرَ يعودُ إلى جميعِ ما سَبَق ذِكرُه مِن المأموراتِ والمَنهيَّاتِ التي تقَدَّمَ ذِكرُها في الآياتِ السَّابقةِ، والسَّيئُ منه: هو المنهيَّاتُ فقط .

2- قِراءةُ سَيِّئَةً على أنَّ المرادَ جَميعُ ما نهى اللهُ عنه مِمَّا تقَدَّمَ ذِكرُه في الآياتِ السَّابِقةِ .

كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38).

أي: جميعُ ما ذُكِرَ في الآياتِ السَّابقةِ مِن الأوامِرِ والنَّواهي، كان سَيِّئُه -وهو ما نهَى اللهُ عنه- قَبيحًا مُبغَضًا عندَ رَبِّك الذي أحسَنَ إليك إحسانًا لا ينبغي أن يُقابَل عليه إلَّا بالشُّكرِ -يا مُحَمَّدُ .

ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ في هذا التَّذييلِ تَنبيهًا على أنَّ ما اشتَمَلَت عليه الآياتُ السَّابِقةُ، هو مِن الحِكمةِ؛ تحريضًا على اتِّباعِ ما فيها، وأنَّه خَيرٌ كَثيرٌ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا تَمَّت هذه الأوامِرُ والزَّواجِرُ على هذا الوجهِ الأحكَمِ، والنِّظامِ الأقوَمِ؛ أشار إلى عَظيمِ شأنِه، ومُحكَمِ إتقانِه، بقَولِه تعالى :

ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ.

أي: هذه الأحكامُ والأوامِرُ والنَّواهي التي تَضَمَّنَتْها الآياتُ السَّابقةُ، مِمَّا أوحَى إليك ربُّك -يا مُحَمَّدُ- مِنَ الحِكمةِ ؛ لِتَعمَلَ بها، وتدعُوَ النَّاسَ إليها .

كما قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269].

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخلاقِ )) .

وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا.

أي: ولا تجعَلْ مع اللهِ مَعبودًا غَيرَه، فتُرمَى في جهنَّمَ مَلومًا؛ تلومُك نَفسُك، ويَلومُك الخَلقُ، مُبعَدًا مَطرودًا مِن رَحمتِه سُبحانَه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا فيه أدَبٌ خُلُقيٌّ عَظيمٌ، وهو أيضًا إصلاحٌ عَقليٌّ جَليلٌ يُعَلِّمُ الأمَّةَ التَّفرِقةَ بين مراتِبِ الخواطِرِ العَقليَّةِ، بحيث لا يختَلِطُ عِندَها المَعلومُ والمَظنونُ والمَوهومُ، ثمَّ هو أيضًا إصلاحٌ اجتماعيٌّ جَليلٌ يُجَنِّبُ الأُمَّةَ مِن الوُقوعِ والإيقاعِ في الأضرارِ والمهالِكِ؛ مِن جَرَّاءِ الاستِنادِ إلى أدِلَّةٍ مَوهومةٍ

.

2- قَولُ الله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا فيه زَجرٌ عن النَّظَرِ إلى ما لا يَحِلُّ، والاستِماعِ إلى ما يَحرُمُ، وإرادةِ ما لا يَجوزُ .

3- قَولُه تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا حُجَّةٌ في تَرْكِ قَبُولِ الطَّعْنِ في المُسلمينَ بِغَيرِ ثَبَتٍ، ولا ثَبَتَ إلَّا بيقينِ المُعايَنةِ، أو السَّمعِ مِن المَطعونِ عليه لا مِنَ الطَّاعِنِ، أو قيامِ بيِّنَةٍ عادِلةٍ .

4- في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا نهيٌ عن التكَلُّمِ بلا عِلْمٍ، وهو عامٌّ في جميعِ أنواعِ الأخبارِ، وقد يتناوَلُ ما أخبَرَ به الإنسانُ، وما قد يعتَقِدُه بغَيرِ الأخبارِ مِن الدَّلائِلِ والآياتِ والعلاماتِ؛ فليس له أنْ يتكَلَّمَ بلا عِلْمٍ، فلا ينفي شيئًا إلَّا بعِلْمٍ، ولا يُثْبِتُه إلَّا بعِلْمٍ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا المرادُ مِن الآيةِ النَّهيُ عن أن يمشيَ الإنسانُ مَشيًا يدُلُّ على الكِبرياءِ والعَظَمةِ .

6- بدأ اللهُ تعالى هذه التَّكاليفَ المذكورةَ في هذه الآياتِ بالأمرِ بالتَّوحيدِ، والنَّهيِ عن الشِّركِ، فقال: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الإسراء: 22] ، وختَمَها بعَينِ هذا المعنى؛ حيث قال: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ والمقصودُ مِن ذلك التَّنبيهُ على أنَّ أوَّلَ كُلِّ عَمَلٍ وقَولٍ، وفِكرٍ وذِكرٍ، يجِبُ أن يكونَ ذِكْرَ التَّوحيدِ، وآخِرَه يجِبُ أن يكونَ ذِكْرَ التوحيدِ؛ تنبيهًا على أنَّ المقصودَ مِن جَميعِ التَّكاليفِ هو مَعرِفةُ التَّوحيدِ، والاستغراقُ فيه، فهذا التَّكريرُ حَسَنٌ مَوقِعُه؛ لهذه الفائِدةِ العَظيمةِ . فالتوحيدُ هو رأسُ كلِّ حكمةٍ وملاكُها، ومَن عدِمه لم تنفَعْه حِكَمُه وعلومُه .

7- قَولُه تعالى: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الحِكمةُ هي الأمرُ بمحاسِنِ الأعمالِ ومكارمِ الأخلاقِ، والنَّهيُ عن أراذِلِ الأخلاقِ وأسْوَأ الأعمالِ، وهذه الأعمالُ المذكورةُ في هذه الآياتِ مِن الحِكمةِ العاليةِ التي أوحاها ربُّ العالَمينَ لسَيِّدِ المرسَلينَ في أشرَفِ الكتُبِ؛ ليأمُرَ بها أفضَلَ الأُمَمِ، فهي من الحِكمةِ التي مَن أوتيَها فقد أوتِيَ خيرًا كثيرًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُه تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا حُجَّةٌ في تَحريمِ الحُكْمِ والفَتوى بغَيرِ عِلْمٍ

.

2- اللهُ سُبحانَه قد ذَمَّ في كتابِه الكلامَ الباطِلَ، والكلامَ بغَيرِ عِلمٍ، والأوَّلُ كَثيرٌ، وأمَّا الثَّاني فقد قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] ، وقال تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران: 66] ، وقال: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] وهذانِ النَّوعانِ مَذمومانِ في القَضاءِ والفُتيا والتَّفسيرِ .

3- قَولُه تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا حُجَّةٌ في التَّحَفُّظِ في الشَّهادةِ على الحُقوقِ .

4- في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا دَلالةٌ على أنَّ اللهَ تبارك وتعالى يَسألُ عن الإضماراتِ والطَّواياتِ المذمومةِ، وإنْ لم تساعِدْها الجوارِحُ بالحَركاتِ؛ لأنَّ الأفئدةَ محَلُّ الضَّمائرِ والنيَّاتِ، وبها تصِحُّ جَميعُ أعمالِ الجوارِحِ والحَركاتِ، وليس في قَولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إخبارًا عن ربِّه تبارك وتعالى: ((أنَّه يقولُ لملائكتِه: إذا هَمَّ عَبدِي بسيِّئةٍ فلا تكتُبوها حتى يعمَلَها )) ما يدفَعُ ذلك؛ لأنَّ ذلك هو في الاهتمامِ بسَيِّئةٍ لا تُعمَلُ إلَّا بالجوارِحِ، مثلُ: القَتلِ والزِّنا وأشباهِه مِمَّا لا يُستطاعُ فِعلُها إلَّا بالجوارِحِ، فتجاوَزَ اللهُ رِفقًا بعبادِه ورَحمةً لهم عن الاهتِمامِ بها دونَ الفِعلِ؛ إذ الاهتِمامُ يُضاهي الخاطِرَ والشَّهوةَ، وهما غيرُ مملوكَينِ، فأمَّا ما كان سُلطانُه فيه للقَلبِ مِن الطويَّةِ على الكُفرِ، وحِفظِ المُنكَرِ وأباطيلِ السِّحرِ وأشباهِه، فالإضمارُ عليه والقَبولُ له عَمَلٌ يكتُبُه الحافِظُ، ويَسألُ عنه الربُّ جَلَّ وتعالى .

5- قال الله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ استِدلالُ بَعضِ الظَّاهريَّةِ كابنِ حَزمٍ ومَن تَبِعَه بهذه الآيةِ وأمثالِها مِن الآياتِ على مَنعِ الاجتِهادِ في الشَّرعِ مُطلَقًا، وتَضليلِ القائِلِ به، ومَنْعِ التَّقليدِ مِن أصلِه- هو مِن وَضعِ القُرآنِ في غَيرِ مَوضِعِه، وتفسيرِه بغيرِ مَعناه، كما هو كثيرٌ في الظَّاهريَّةِ؛ لأنَّ مَشروعيَّةَ سُؤالِ الجاهِلِ للعالِمِ وعَمَلَه بفُتياه أمرٌ مَعلومٌ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، ومعلومٌ أنَّه كان العامِّيُّ يَسألُ بَعضَ أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيُفتِيه فيَعمَلُ بفُتياه، ولم يُنكِرْ ذلك أحَدٌ مِن المُسلِمينَ، كما أنَّه مِن المعلومِ أنَّ المسألةَ إنْ لم يُوجَدْ فيها نَصٌّ مِن كِتابِ اللهِ أو سُنَّةِ نَبيِّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاجتِهادُ العالمِ حِينئذٍ بقَدْرِ طاقَتِه في تَفَهُّمِ كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبيِّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِيَعرِفَ حُكمَ المَسكوتِ عنه مِن المَنطوقِ به- لا وَجْهَ لِمَنعِه، وكان جاريًا بين أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يُنكِرْه أحَدٌ مِن المُسلِمينَ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا فيه دَليلٌ على أنَّ العُلومَ مُستَفادةٌ مِن الحواسِّ ومِنَ العُقولِ، وجاء هذا على التَّرتيبِ القُرآنيِّ في البُداءةِ: بالسَّمعِ، ثمَّ يليه البَصَرُ، ثمَّ يليه الفُؤادُ .

7- قال الله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا لَمَّا كانت هذه الأعضاءُ الثَّلاثةُ هي أشرَفَ الأعضاءِ ومُلوكَها، والمُتصَرِّفةَ فيها، والحاكِمةَ عليها؛ خَصَّها سُبحانَه وتعالى بالذِّكرِ في السُّؤالِ عنها، فقال: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا؛ فسَعادةُ الإنسانِ بصِحَّةِ هذه الأعضاءِ الثَّلاثةِ، وشَقاوتُه بفَسادِها. قال ابنُ عبَّاسٍ: (يَسألُ اللهُ العِبادَ فيما استَعمَلوا هذه الثَّلاثةَ: السَّمعَ، والبَصَرَ، والفُؤادَ)، واللهُ تعالى أعطَى العبدَ السَّمعَ لِيَسمَعَ به أوامِرَ رَبِّه ونواهيَه وعُهودَه، والقَلبَ لِيَعقِلَها ويَفقَهَها، والبَصَرَ لِيَرى آياتِه فيَستَدِلَّ بها على وحدانيَّتِه ورُبوبيَّتِه؛ فالمقصودُ بإعطائِه هذه الآلاتِ العِلمُ وثَمَرتُه ومُقتَضاه .

8- قال الله تعالى: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا في الآيةِ هنا إثباتُ أنَّ اللهَ عَزَّ وجلَّ يَكرَهُ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قَولُه تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا

- صِيغَتْ جُملةُ: كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا على هذا النَّظمِ بتَقديمِ كُلُّ الدَّالَّةِ على الإحاطةِ من أوَّلِ الأمْرِ، وأُتِيَ باسمِ الإشارةِ دونَ الضَّميرِ، بأنْ يُقالَ: كلُّها كان عنه مَسؤولًا؛ لِما في الإشارةِ من زيادةِ التَّمييزِ. وجاءَ بفعْلِ (كان)؛ لدَلالتِه على رُسوخِ الخبَرِ

.

- قولُه: كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا عُبِّرَ عن السَّمعِ والبصرِ والفُؤادِ بـ أُولَئِكَ؛ لأنَّها حواسُّ لها إدراكٌ، وجعَلَها في هذه الآيةِ مَسؤولةً، فهي حالةُ مَن يعقِلُ، ولذلك عُبِّرَ عنها بـ أُولَئِكَ ؛ فاسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ يعودُ إلى السَّمعِ والبصرِ والفُؤادِ، وهو من استعمالِ اسمِ الإشارةِ الغالبِ استعمالُه للعاقِلِ في غيرِ العاقِلِ، تَنزيلًا لتلك الحواسِّ مَنزلةَ العُقلاءِ؛ لأنَّها جَديرةٌ بذلك؛ إذ هي طريقُ العقلِ، والعقْلُ نفْسُه، على أنَّ استعمالَ (أولئك) لغيرِ العُقلاءِ استعمالٌ مَشهورٌ .

2- قَولُه تعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا

- قولُه: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا فيه التَّقييدُ بـ فِي الْأَرْضِ؛ لزيادةِ التَّقريرِ، والإشعارِ بأنَّ المشيَ عليها ممَّا لا يَليقُ بالمَرحِ .

- قولُه: وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، أي: بتطاوُلِك، وهو تهكُّمٌ بالمُختالِ، وتَعليلٌ للنَّهيِ بأنَّ الاختيالَ حَماقةٌ مُجرَّدةٌ، لا تعودُ بجَدْوى .

- قولُه: طُولًا فيه تَعريضٌ بما عليه المُختالُ من رفْعِ رأْسِه، ومشْيِه على صُدورِ قدمَيْه .

3- قَولُه تعالى: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا

- قولُه: عِنْدَ رَبِّكَ مُتعلِّقٌ بـ مَكْرُوهًا، وتَقديمُ هذا الظَّرفِ على مُتعلَّقِه للاهتمامِ بالظَّرفِ؛ إذ هو مُضافٌ لاسمِ الجلالةِ، فزِيادةُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا لتَشنيعِ الحالةِ، أي: مَكروهًا فعْلُه من فاعِلِه. وفيه تَعريضٌ بأنَّ فاعِلَه مَكروهٌ عند اللهِ. وإضافةُ (سَيِّئ) إلى ضَميرِه إضافةً بَيانيَّةً تفيدُ قُوَّةَ صِفَةِ السَّيِّئِ، حتَّى كأنَّه شيئانِ يُضافُ أحدُهما إلى الآخرِ. وهذه نُكتةُ الإضافةِ البَيانيَّةِ كلَّما وقعَتْ .

- في قولِه: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا تَتِمَّةٌ لتَعليلِ الأُمورِ المَنهيِّ عنها جميعًا، ووصْفُ ذلك بمُطلَقِ الكراهةِ مع أنَّ البعضَ من الكبائرِ؛ للإيذانِ بأنَّ مُجرَّدَ الكراهةِ عنده تَعالى كافيةٌ في وُجوبِ الانتهاءِ عن ذلك. وتَوجيهُ الإشارةِ إلى الكلِّ، ثمَّ تعيينُ البعضِ دونَ تَوجيهِها إليه ابتداءً؛ لِما أنَّ البعضَ المذكورَ ليس بمَذكورٍ جُملةً، بل على وجْهِ الاختلاطِ .

4- قَولُه تعالى: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا

- قولُه: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ذَلِكَ إشارةٌ إلى ما تقدَّمَ من قولِه: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ إلى هذه الغايةِ .

- قولُه: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا عَطْفٌ على جُمَلِ النَّهيِ المُتقدِّمةِ، وهذا تأكيدٌ لمَضمونِ جُملةِ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] .

- قولُه: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا كُرِّرَ للتَّنبيهِ على أنَّ التَّوحيدَ مبدَأُ الأمْرِ ومُنْتهاهُ، وقد رُتِّبَ عليه ما هو عائِدَةُ الإشراكِ أوَّلًا، حيث قيل: فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا، ورُتِّبَ عليه هاهنا نَتيجتُه في العُقبى، فقيل: فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا .

- وكرَّرَ تَعالى النَّهيَ عن الشِّركِ؛ ففي النَّهيِ الأوَّلِ: فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا مَدْحُورًا، وفي الثَّاني: فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا، والفرْقُ بين مَذمومٍ ومَلومٍ: أنَّ كونَه مَذمومًا: أنْ يذكُرَ أنَّ الفعلَ الَّذي أقدَمَ عليه قَبيحٌ مُنكَرٌ، وكونَه مَلومًا: أنْ يُقالَ له بعدَ الفعلِ وذَمِّه: لِمَ فعلْتَ كذا؟ وما حمَلَك عليه؟ وما استفدْتَ منه إلَّا إلحاقَ الضَّررِ بنفْسِك؛ فأوَّلُ الأمْرِ الذَّمُّ، وآخِرُه اللَّومُ. والفرقُ بين مَخذولٍ ومَدْحورٍ: أنَّ المَخذولَ هو المَتروكُ إعانتُه ونصْرُه، والمُفوَّضُ إلى نفْسِه، والمَدْحورَ: المَطرودُ المُبْعَدُ على سبيلِ الإهانةِ له والاستخفافِ به؛ فأوَّلُ الأمْرِ الخِذلانُ، وآخِرُه الطَّردُ مُهانًا. وكأنَّ وصْفَ الذَّمِّ والخِذلانِ يكونُ في الدُّنيا، ووصْفَ اللَّومِ والدُّحورِ يكونُ في الآخرةِ؛ ولذلك جاء فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ .

- ومن المُناسبةِ الحَسنةِ: أنَّه لمَّا أمَرَ تَعالى بثلاثةِ أشياءَ: الإيفاءِ بالعَهدِ، والإيفاءِ بالكيلِ، والوزنِ بالقِسطاسِ المُستقيمِ، أتبَعَ ذلك بثلاثةِ نَواهٍ: ولا تقْفُ، ولا تمْشِ، ولا تجعَلْ

=======================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (40-44)

ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ

غريب الكلمات:

 

أَفَأَصْفَاكُمْ: أي: أَخْتَصَّكم، وأصلُ (صفو): يدُلُّ على خُلوصٍ، وتَناوُلِ صَفْوِ الشَّيءِ

.

صَرَّفْنَا: أَيْ: بَيَّنَّا، والصَّرْفُ: ردُّ الشيءِ مِن حالةٍ إلى حالةٍ، أو إبدالُه بغيرِه .

تَفْقَهُونَ: أي: تَفْهمون، ويُقالُ: فَقِهْتُ الكلامَ؛ إذا فهمتَه حقَّ فهمِه، والفقهُ: هو التوصلُ إلى علمٍ غائبٍ بعلمٍ شاهدٍ، وأصلُ (فقه): يدلُّ على إدراكِ الشيءِ، والعلمِ به

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يبيِّنُ الله تعالى بعضَ الأدلةِ على استحالةِ أن يكونَ له شريكٌ أو ولدٌ، فيقول: أفخَصَّكم ربُّكم -أيُّها المُشرِكونَ- بإعطائِكم البَنينَ، واتَّخَذ لنَفسِه الملائِكةَ بَناتٍ؟! إنَّكم لتقولونَ قولًا مُنكَرًا عظيمًا. ولقد وضَّحْنا ونوَّعْنا في هذا القُرآنِ الأحكامَ والمواعِظَ والأمثالَ ليتَّعِظوا ويتَذكَّروا، وما يزيدُهم هذا إلَّا نُفورًا عن الحَقِّ، وغَفْلةً عن النَّظَرِ والاعتِبارِ.

قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: لو أنَّ مع اللهِ آلهةً أُخرى إذَنْ لطَلبَتْ تلك الآلِهةُ المزعومةُ طَريقًا إلى اللهِ بعِبادتِه والتقَرُّبِ وابتغاءِ الوَسيلةِ إليه، تنزَّه اللهُ وتقدَّسَ عَمَّا يقولُه المُشرِكونَ وتعالى عُلُوًّا كَبيرًا. تُسَبِّحُ له -سُبحانَه- السَّمَواتُ السَّبعُ والأَرَضونَ ومَن فيهنَّ مِن جَميعِ المَخلوقاتِ، وكُلُّ شَيءٍ من المخلوقات يُسَبِّحُ اللهَ تعالى تسبيحًا مَقرونًا بالثَّناءِ والحَمدِ له سُبحانَه، ولكِنْ لا تعلَمونَ -أيُّها النَّاسُ- تَسبيحَهم؛ إنَّه سُبحانَه كان حَليمًا بعِبادِه، لا يُعاجِلُ مَن عصاه بالعُقوبةِ، غَفورًا لِمَن تابَ منهم.

تفسير الآيات:

 

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ نِسبةَ البناتِ إلى اللهِ تعالى ادِّعاءُ آلهةٍ تَنتَسِبُ إلى الله بالبُنوَّةِ؛ إذ عَبَد فريقٌ مِن العَرَبِ الملائكةَ كما عبدوا الأصنامَ، واعتلُّوا لعبادتِهم بأنَّ الملائكةَ بناتُ الله تعالى، فلمَّا نُهوا عن أن يجعَلوا مع اللهِ إلهًا آخَرَ خَصَّصَ بالتحذيرِ عبادةَ الملائكةِ؛ لئلَّا يتوهَّموا أنَّ عبادةَ الملائكةِ ليست كعبادةِ الأصنامِ؛ لأنَّ الملائكةَ بناتُ اللهِ، ليتوهَّموا أنَّ الله يرضى بأن يعبُدوا أبناءَه، وقد جاء إبطالُ عبادةِ الملائكةِ بإبطالِ أصلِها في معتَقَدِهم، وهو أنَّهم بناتُ الله، فإذا تبيَّن بطلانُ ذلك عَلِموا أنَّ جَعْلَهم الملائكةَ آلهةً يُساوي جَعْلَهم الأصنامَ آلهةً

.

وأيضًا لَمَّا نَبَّه اللهُ تعالى على فَسادِ طَريقةِ مَن أثبَتَ لله شَريكًا ونَظيرًا؛ نَبَّهَ على طريقةِ مَن أثبَتَ له الوَلَدَ -سُبحانَه-، وعلى كَمالِ جَهلِ هذه الفِرقةِ .

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا.

أي: أفخَصَّكم ربُّكم -أيُّها المُشرِكونَ- بالذُّكورِ مِن الأولادِ، فلم يجعَلْ لِنَفسِه نَصيبًا منهم، وجعَلَ الملائِكةَ بَناتٍ له كما تَزعُمونَ، والحالُ أنَّكم لا تَرضَونَ البناتِ لأنفُسِكم؟! فهذا خِلافُ المَعقولِ والمَعهودِ المُتعارَفِ عليه؛ فإنَّ السَّادةَ لا يُؤثِرونَ عَبيدَهم بأفضَلِ الأشياءِ، ويتَّخِذونَ لأنفُسِهم أدْوَنَها !

كما قال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الصافات: 149-155] .

وقال سُبحانَه: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطور: 39].

وقال عزَّ وجلَّ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم: 21، 22].

إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا.

أي: إنَّكم -أيُّها المُشرِكونَ- لَتَقولونَ على اللهِ قَولًا عَظيمًا، بافتِرائِكم أنَّ المَلائِكةَ بَناتُه .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى فظاعةَ قَولِ الكافِرينَ بأنَّ الملائِكةَ بَناتُ اللهِ؛ أعقَبَ ذلك بأنَّ في القُرآنِ هَدْيًا كافيًا، ولكِنَّهم يَزدادونَ نُفورًا مِن تدَبُّرِه .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41).

أي: ولقد بَيَّنَّا ونوَّعْنا وأكثَرْنا في هذا القُرآنِ العِبَرَ والمواعِظَ، والحِكَمَ والأمثالَ، والحُجَجَ والأدِلَّةَ؛ ليتَذَكَّروا ويتَّعِظوا، وما يزيدُ الظَّالِمينَ هذا التَّصريفُ والتَّذكيرُ بآياتِ القُرآنِ إلَّا ذَهابًا وهربًا من الحَقِّ، وتَباعُدًا عن الإيمانِ، وغفلةً عنِ النَّظَرِ والاعتبارِ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89].

وقال سُبحانَه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: 113] .

وقال جلَّ جلالُه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82] .

قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه عَودٌ إلى إبطالِ تعدُّدِ الآلهةِ؛ زيادةً في استِئصالِ عَقائِدِ المُشرِكينَ مِن عُروقِها .

قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42).

أي: قل -يا مُحمَّدُ- لو كان مع اللهِ مَعبوداتٌ سِواه -كما يَزعُمُ المُشرِكونَ-، إذَنْ لَطَلبَتْ تلك المَعبوداتُ المَزعومةُ التقرُّبَ إلى اللهِ، ونَيْلَ رِضاه بعبادتِه؛ لاعتِرافِهم بفَضلِه، وعِلْمِهم بقُدرتِه وعَجزِهم، فكيف تَعبُدونَهم مِن دُونِه والحالةُ هذه ؟!

كما قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء: 57] .

وقال سُبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ [الفرقان: 17، 18].

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أقامَ اللهُ تعالى الدَّليلَ القاطِعَ على كَونِه مُنَزَّهًا عن الشُّرَكاءِ، وعلى أنَّ القَولَ بإثباتِ الآلِهةِ قولٌ باطِلٌ؛ أردَفَه بما يدُلُّ على تَنزيهِه عن هذا القَولِ الباطِلِ، فقال :

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43).

أي: تَنزيهًا للهِ عمَّا لا يَليقُ بعَظَمتِه، وتعالى عُلُوًّا كبيرًا عمَّا يقولُ المُشرِكونَ مِن الكَذِبِ عليه، كنِسبةِ الوَلَدِ والشَّريكِ إليه .

كما قال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180].

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44).

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.

أي: تُسَبِّحُ لله السَّمَواتُ السَّبعُ والأرضُ، ومَن فيهنَّ مِنَ المَلائِكةِ والإنسِ والجِنِّ وجميعِ المَخلوقاتِ، فتُنزِّهُه عمَّا لا يليقُ به .

كما قال تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 90 - 95] .

وقال سُبحانَه: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] .

وقال جلَّ جلالُه: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن: 1] .

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.

أي: وما مِن شَيءٍ من المَخلوقاتِ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِ الله تعالى، فيُنَزِّهُه تنزيهًا مَقرونًا بوَصفِه بصِفاتِ الكَمالِ مع محَبَّتِه وتَعظيمِه عزَّ وجَلَّ .

كما قال تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد: 13] .

وقال سُبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور: 41] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 79] .

وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: 74] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((قَرَصَت نملةٌ نبيًّا مِنَ الأنبياءِ، فأمَرَ بقَريةِ النَّملِ فأُحرِقَتْ، فأوحى اللهُ إليه: أنْ قَرَصَتْك نَملةٌ أحرَقْتَ أمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسبِّحُ؟ !)) .

وعن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فقَلَّ الماءُ، فقال: اطلُبوا فَضْلةً مِن ماءٍ، فجاؤوا بإناءٍ فيه ماءٌ قَليلٌ، فأدخَلَ يَدَه في الإناءِ، ثمَّ قال: حَيَّ على الطَّهورِ المُبارَكِ، والبَرَكةُ مِنَ اللهِ. فلقد رأيتُ الماءَ يَنبُعُ مِن بَينِ أصابعِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولقد كُنَّا نَسمَعُ تَسبيحَ الطَّعامِ وهو يُؤكَلُ!)) .

وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.

أي: ولكن لا تَعلَمونَ -أيُّها النَّاسُ- تَسبيحَ المَخلوقاتِ؛ لأنَّها على غيرِ لُغَتِكم .

إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا.

أي: إنَّ اللهَ كان حَليمًا، فلا يُعاجِلُ بالعُقوبةِ مَن يكفُرُ به ويَعصِيه، غفورًا لِمَن تابَ مِن عِبادِه، فيَستُرُ ذُنوبَهم، ويتَجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها .

كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45] .

وعن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُملي للظَّالمِ حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه، ثمَّ قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. فالَّذي ينبغي لنا أنْ نَسْتَفيدَه مِنْ ذلك أنْ نذكُرَ في قُلوبِنا عندَ رؤيةِ كُلِّ شيءٍ مِنْ صُنعِ اللهِ، وسماعِ كلِّ صوتٍ مِنْ مخلوقاتِ اللهِ، أنَّه يُسَبِّحُ بحمدِ اللهِ بدَلالتِه على تنزيهِه عمَّا لا يليقُ به، وعلى قدرتِه وحكمتِه ومشيئَتِه ورحمتِه، وأنَّ لها تسبيحًا آخرَ غيبيًّا لا نفقهُه بكَسْبِنا؛ لأنَّنا لا نُدرِكُ حياتَها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- أنَّ المَخلوقاتِ -وإنْ كانت جَمادًا- تُحِسُّ بعَظَمةِ الخالِقِ؛ قال الله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

.

2- في قَولِه تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ دَليلٌ على أنَّ ذا الرُّوحِ وغيرَه ممَّا لا حياةَ فيه ولا حَرَكةَ ظاهرةً، مِثْلَ الحَجَرِ والمَدَر والخَشَبِ- أنَّها تُسَبِّحُ، لا أنَّه مَخصوصٌ به الرُّوحانيُّونَ دُونَ غَيرِهم .

3- في قَولِه تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ دَلالةٌ على أنَّ تَرْكَ قَتْلِ الدَّوَابِّ والحَشَراتِ التي سَكَتَ الشَّرعُ عنها -كالصَّراصيرِ والجِعْلانِ، والخُنْفُساءِ وما أشبَهَها- أَولى؛ فإنَّه وإنْ كان قَتْلُها مُباحًا، فتَرْكُها تُسَبِّحُ اللهَ عزَّ وجلَّ أَولى مِن قَتْلِها .

4- قال الله تعالى: إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا لَمَّا كان الغالِبُ على أحوالِ البَشَرِ أنَّ حَليمَهم إذا غَضِبَ لا يَغفِرُ، وإنْ عفا كان عَفوُه مُكَدَّرًا؛ قال تعالى: حَلِيمًا غَفُورًا مُشيرًا بصِيغةِ المُبالغةِ إلى أنَّه على غيرِ ذلك؛ ترغيبًا في التَّوبةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا

- قولُه: أَفَأَصْفَاكُمْ استفهامٌ معناه الإنكارُ والتَّوبيخُ

. وقيل: الاستفهامُ إنكارٌ وتهكُّمٌ .

- قولُه: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ قصَدَ هاهنا بالتَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ تَشديدَ النَّكيرِ وتأكيدَه .

- وجُملةُ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا مُتفرِّعةٌ على جُملةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ تَفريعًا على النَّهيِ باعتبارِ أنَّ المنهيَّ عنه مُشتمِلٌ عمومُه على هذا النَّوعِ الخاصِّ الجديرِ بتَخصيصِه بالإنكارِ .

- قولُه: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا فيه تأكيدُ فعْلِ (تقولون) بمَصدرِه قَوْلًا؛ تأكيدًا لمعنى الإنكارِ. وجعَلَه مُجرَّدَ قولٍ؛ لأنَّه لا يَعْدو أنْ يكونَ كلامًا صدَرَ عن غيرِ رَويَّةٍ؛ لأنَّه لو تأمَّلَه قائلُه أدنى تأمُّلٍ، لوجَدَه غيرَ داخلٍ تحت قضايا المقبولِ عقلًا. والعظيمُ: القويُّ، والمُرادُ هنا أنَّه عظيمٌ في الفسادِ والبُطلانِ؛ بقَرينةِ سياقِ الإنكارِ، ولا أبلَغَ في تَقبيحِ قولِهم مِن وصْفِه بالعظيمِ .

2- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا

- قولُه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا التَّصريفُ كِنايةٌ عن التَّبيينِ بمُختلِفِ البيانِ ومُتَنوِّعِه. وضَميرُ لِيَذَّكَّرُوا عائدٌ إلى معلومٍ من المقامِ دَلَّ عليه قولُه: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ، أي: ليذَّكَّرَ الَّذين خُوطِبوا بالتَّوبيخِ في قولِه: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ؛ فهو التِفاتٌ من الخطابِ إلى الغَيبةِ، أو من خطابِ المُشركينَ إلى خطابِ المُؤمنينَ .

- وجُملةُ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا في مَوضعِ الحالِ، وهو حالٌ مقصودٌ منه التَّعجُّبُ من حالِ ضَلالتِهم؛ إذ كانوا يَزْدادون نُفورًا من كلامٍ فُصِّلَ وبُيِّنَ لتَذكيرِهم، وشأْنُ التَّفصيلِ أنْ يُفيدَ الطُّمأنينةَ للمقصودِ .

- وقال عَزَّ وجَلَّ هنا: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا، وقال بعدُ في هذه السُّورةِ أيضًا: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] ، وقال في سُورةِ (الكهفِ): وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] ، وإنَّما لم يُذكرْ فى أَوَّل سورةِ (الإسراء) للنَّاسِ؛ لتقدُّمِ ذكرِهم فى السُّورةِ، وذكَرهم فى سورةِ (الكهفِ) إِذ لم يَجْرِ ذكرُهم، وذكَر (النَّاس) فى آخرِ سورة (الإسراءِ)، وإنْ جرَى ذكرُهم؛ لأَنَّ ذكرَ الإِنْسِ والجنِّ جرَى معًا، فذكَر لِلنَّاسِ؛ كراهةَ الالتباسِ، وقدَّمه على فِي هَذَا الْقُرْآنِ كما قدَّمه فى قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ثمَّ قال: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وأَمَّا فى سورةِ (الكهفِ) فقدِّم فِي هَذَا الْقُرْآنِ؛ لأَنَّ ذكرَه أجلُّ الغرضِ؛ وذلك أَنَّ اليهودَ سألتْه عن قصَّةِ أَصحابِ الكهفِ، وقصَّةِ ذى القَرْنينِ، فأَوحَى الله إليه فى القرآنِ؛ وكان تقديمُه فى هذا الموضعِ أَجدرَ، والعنايةُ بذكرِه أَحرَى وأَخلقَ .

- وقُدِّمَ لِلنَّاسِ على فِي هَذَا الْقُرْآنِ هنا في الآيةِ الثَّانيةِ؛ اهتمامًا بالتَّمييزِ المذكورِ، وبالنَّاسِ لأنَّهم الأصلُ في التَّكليفِ؛ ولهذا اقتصَرَ عليهم في غالبِ الآياتِ؛ كقولِه: مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ [البقرة: 159] ، وقولِه: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة: 185] ، وعكَسَ في (الكهفِ) لمُناسبةِ قولِه قبْلُ: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً [الكهف: 49] .

- ومن المناسبةِ الحَسنةِ كذلك: خِتامُ آيةِ (الإسراءِ) الأُولَى بقولِه: وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا؛ لأنَّ الضميرَ للمَذكورينَ ممَّن خُصَّ بمقصودِ الخِطاب المُكْنَى عنهم بقولِه: لِيَذَّكَّرُوا، وختامُ الآيةِ الثانية بقولِه: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] ؛ لتُعطِيَ إعادةَ الظاهرِ من التعنيفِ والتقريعِ ما لا يُعطيه المُضمَرُ، ولأنَّ أوَّلَ الخِطابِ وصَدْرَ الآيةِ لَمَّا قُدِّمَ فيه ذِكرُ النَّاس لشرفِ الجِنسِ الإنسانيِّ على الجِنِّ، ثمَّ لم يَكُن ممَّن لم يُؤمِنْ إلَّا العِنادُ، قيل: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ؛ ليُعطيَ بفحواه أنَّه كأنَّه قيل: فأبَى أكثرُ النَّاسِ على تَشريفِهم وتَفضيلِنا إيَّاهم إلَّا الكُفرَ؛ فأحرزَ الظاهرُ ما لم يكُنْ ليحرِزَه إضمارُهم. وختَم آية (الكهفِ) بقولِه: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] ؛ تَمهيدًا لِمَا سيأتي بعدَه من قوله تعالى: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الكهف: 56] ، فلمَّا بُنِيَ هذا على الآيةِ، واتَّصلَ الكلامُ والْتَحَم، نُوسِب بينهما، وليس في الآيتَينِ في سُورةِ (الإسراءِ) قبلُ ولا فيما تقدَّم كلَّ واحدةٍ منهما وفيما بُني عليهما ما يَستدعي ذِكرَ الجدلِ ولا الوصفَ به؛ فلذلك خُتِمتْ كلُّ واحدةٍ منهما بما تَقدَّم؛ فأُعقِبَتِ الأُولى بقولِه تعالى: وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا [الإسراء: 41] ، وأُعقِبَتِ الثانيةُ بقولِه: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، وأُعقِبتْ آيةُ (الكهفِ) بما يُناسِبُ ما ورَد عليه بَعدَه، وجاء كلٌّ على ما يُناسبُ .

- قولُه: لِيَذَّكَّرُوا فيه الْتِفاتٌ إلى الغَيبةِ؛ للإيذانِ باقتضاءِ الحالِ أنْ يُعْرِضَ عنهم، ويَحْكي للسَّامعينَ هَنَاتِهم .

3- قَولُه تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا

- جُملةُ كَمَا يَقُولُونَ مُعترِضةٌ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ تعدُّدَ الآلهةِ لا تحقُّقَ له، وإنَّما هو مُجرَّدُ قولٍ عارٍ عن المُطابقةِ لِمَا في نفْسِ الأمرِ. وإِذًا دالَّةٌ على الجوابِ والجزاءِ؛ فهي مُؤكِّدةٌ لمعنى الجوابِ الَّذي تدُلُّ عليه اللَّامُ المُقترِنةُ بجوابِ (لو) الامتناعيَّةِ الدَّالةِ على امتناعِ حُصولٍ .

- قولُه: إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فيه استحضارُ الذَّاتِ العلِيَّةِ بوصْفِ ذِي الْعَرْشِ دونَ اسمِه العَلَمِ (الله)؛ لِمَا تتضمَّنَه الإضافةُ إلى العرشِ من الشَّأنِ الجليلِ ، ولأنَّ في التصريحِ بالعرشِ تَصويرًا لعَظَمتِه سبحانَه .

4- قَولُه تعالى: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا

- قولُه: عُلُوًّا كَبِيرًا فيه وصْفُ العُلوِّ بالكِبَرِ؛ مُبالغةً في معنى البراءةِ والبُعدِ ممَّا وَصَفوه به .

5- قَولُه تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا

- قولُه: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فيه ما يُعْرَفُ بالتَّنكيتِ، وهو قصْدُ المُتكلِّمِ إلى شَيءٍ بالذِّكرِ دونَ غيرِه ممَّا يسُدُّ مَسدَّه لنُكتةٍ في المذكورِ تُرجِّحُ مَجيئَه على سِواه؛ فقد خصَّ سُبحانَه هنا تَفْقَهُونَ دونَ (تعلمون)؛ لِمَا في الفقهِ من الزِّيادةِ على العلْمِ؛ لأنَّه التَّصرُّفُ في المعلومِ بعدَ عِلْمِه، واستنباطِ الأحكامِ منه، والمُرادُ الَّذي يَقْتضيه معنى الكلامِ التَّفقُّهُ في معرفةِ التَّسبيحِ من الحيوانِ البهيمِ والنَّباتِ والجَمادِ، وكلِّ ما يَدخُلُ تحتَ لفظةِ (شَيءٍ) ممَّا لا يعقِلُ ولا ينطِقُ؛ إذ تَسبيحُ ذلك بمُجرَّدِ وُجودِه الدَّالِّ على قُدرةِ مُوجِدِه وحِكمتِه ، وذلك على أحدِ القولينِ في المرادِ بالتسبيحِ.

- قولُه: إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا فيه الختْمُ بالحِلْمِ والمغفرةِ عقِبَ تَسابيحِ الأشياءِ، وهو غيرُ ظاهرٍ في بادي الرَّأيِ؛ ووجْهُ ذلك الخِتامِ وحِكمتُه: أنَّه لمَّا كانتِ الأشياءُ كلُّها تُسبِّحُ ولا عِصيانَ في حقِّها وأنتم تَعْصون، ختَمَ بالحلمِ والغُفرانِ؛ مُراعاةً للمُقدَّرِ في الآيةِ وهو العِصيانُ. وقيل: التَّقديرُ: حليمًا عن تَفريطِ المُسبِّحينَ، غفورًا لذُنوبِهم. وقيل: حليمًا عن المُخاطبينَ الَّذين لا يَفْقهون التَّسبيحَ بإهمالِهم النَّظرَ في الآياتِ والعِبَرِ؛ ليَعْرِفوا حقَّه بالتَّأمُّلِ فيما أودَعَ في مَخلوقاتِه ممَّا يُوجِبُ تَنزيهَه

===============

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (45-48)

ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ

غريب الكلمات :

 

حِجَابًا: أي: سِتْرًا، أو طَبْعًا، وأصلُ (حجب): يدُلُّ على المَنعِ

.

أَكِنَّةً: أي: أَغطِيةً، وأصلُ (كنن): يدُلُّ على سَترٍ وصَونٍ .

وَقْرًا: أي: ثِقَلًا وصَمَمًا، وأصلُ (وقر): يدُلُّ على ثِقَلٍ في الشَّيءِ .

نَجْوَى: أي: مُتناجُونَ، يُسَارُّ بَعضُهم بَعضًا، وأصلُ (نجو): يدُلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ .

الْأَمْثَالَ: أي: الأشباهَ، وأصلُ (مثل): يدُلُّ على مُناظرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى مبيِّنًا بعضَ أحوالِ المشركينَ عندَ سماعِهم للقرآنِ: وإذا قَرَأتَ القُرآنَ -يا مُحمَّدُ- فسَمِعه هؤلاء المُشرِكونَ، الذينَ لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ، جَعَلْنا بينَك وبينَهم حِجابًا مَستورًا عن الأعينِ، يحجُبُهم عن فَهْمِ القُرآنِ والانتفاعِ به؛ عِقابًا لهم على كُفرِهم وإنكارِهم، وجعَلْنا على قُلوبِ المُشرِكينَ أغطِيةً لئلَّا يَفهَموا القُرآنَ، وجَعَلْنا في آذانِهم صَمَمًا لئلَّا يَسمَعوه سَماعَ قَبولٍ وانتِفاعٍ، وإذا ذَكَرْتَ ربَّك في القُرآنِ داعيًا لتَوحيدِه ناهيًا عن الشِّركِ به، أعرَضوا عنك نافرينَ مِن قَولِك؛ استِكبارًا واستِعظامًا.

ثمَّ ذكَر سبحانَه ما يدلُّ على كمالِ علمِه، وأنَّه سيُجازيهم بما يستحقُّونَ، فقال: نحن أعلَمُ -يا مُحمَّدُ- باستِهزاءِ المُشرِكينَ واستِخفافِهم بالقُرآن وَقتَ استِماعِهم إلى تلاوَتِك له؛ إذ يَستَمِعونَ إليك يُسَارُّ بَعضُهم بَعضًا قائلينَ: ما تَتَّبِعونَ إلَّا رجُلًا أصابَه السِّحرُ فاختَلَط عَقلُه!

ثمَّ قال تعالى مسليًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: تفكَّرْ -يا مُحمَّدُ- مُتعَجِّبًا مِن ضَربِهم الأمثالَ الباطِلةَ في حَقِّك حين قالوا: ساحِرٌ، شاعِرٌ، مَجنونٌ!! فجارُوا وانحرَفوا بضَربِ الأمثالِ الباطِلةِ، ولم يَهتَدوا إلى طريقِ الحَقِّ والصَّوابِ.

تفسير الآيات:

 

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا تكَلَّم اللهُ تعالى في الآيةِ المتقَدِّمةِ في المسائِلِ الإلهيَّةِ؛ تكَلَّمَ في هذه الآيةِ فيما يتعَلَّقُ بتقريرِ النبُوَّةِ

، وذكرِ شيءٍ مِن أحوالِ الكفرةِ في إنكارِها، وإنكارِ المعادِ .

وأيضًا لَمَّا نوَّه بالقُرآنِ في قَولِه تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] ، ثمَّ أعقَبَ بما اقتَضاه السِّياقُ مِن الإشارةِ إلى ما جاء به القُرآنُ مِن أُصولِ العَقيدةِ، وجوامِعِ الأعمالِ، وما تخَلَّلَ ذلك مِنَ المواعِظِ والعِبَرِ؛ عاد هنا إلى التَّنبيهِ على عدَمِ انتِفاعِ المُشرِكينَ بهَدْيِ القُرآنِ؛ لِمُناسبةِ الإخبارِ عن عدَمِ فِقْهِهم تسبيحَ الكائناتِ بحمدِ الله .

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45).

أي: وإذا شَرَعْتَ -يا محمَّدُ- في قراءةِ القُرآنِ ، فسَمِعَه مُشرِكو قَومِك، الذين لا يُصَدِّقونَ بالبَعثِ، ولا يُقِرُّون بالثَّوابِ والعِقابِ؛ جَعَلْنا بينك وبينَهم حجابًا مَستورًا عن الأعينِ، لا يُرَى، يَمنَعُهم مِن فَهمِ القُرآنِ وتدَبُّرِه والانتفاعِ به، ويحولُ بينَهم وبينَ الإيمانِ به .

كما قال سُبحانَه: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت: 5] .

وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46).

وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ.

أي: وجَعَلْنا على قُلوبِ هؤلاءِ الذينَ لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ أغشِيةً وأغطِيةً تَحجُبُها؛ كراهةَ أنْ يَفهَموا معانيَ القُرآنِ فَهمًا ينتَفِعونَ به .

كما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .

وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا.

أي: وجَعَلْنا في آذانِ المُشرِكينَ صَمَمًا وثِقَلًا يَمنَعُهم مِن سَماعِ القُرآنِ سَماعَ قَبولٍ له، وانتِفاعٍ به .

كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] .

وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا.

أي: وإذا وحَّدْتَ ربَّك -يا مُحمَّدُ- في تِلاوَتِك للقُرآنِ، فقُلتَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنت تَتلوه؛ أعرَضَ المُشرِكونَ عنك، نافرينَ مُستَكبرينَ عن توحيدِ اللهِ؛ مِن شِدَّةِ كَراهِيَتِهم لهذا الحَقِّ، ومَحَبَّتِهم لِما هم عليه مِنَ الباطِلِ .

كما قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر: 45] .

وقال سُبحانَه: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: 12] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات: 35] .

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كانوا رُبَّما ادَّعَوا السَّمعَ والفَهمَ، فشَكَّكوا بعضَ مَن لم يَرسَخْ إيمانُه؛ أتبَعَه اللهُ تعالى ما يؤكِّدُ ما مضَى، ويُثَبِّتُ السَّامِعينَ فيه، فقال تعالى :

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ.

أي: نحن أعلَمُ -يا مُحمَّدُ- باستِهزاءِ المُشرِكينَ واستِخفافِهم بالقُرآنِ، وتَكذيبِهم به وَقتَ استِماعِهم إليك وأنت تَتلُوه .

كما قال تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 2-3] .

وَإِذْ هُمْ نَجْوَى.

أي: ونحنُ أعلَمُ -يا مُحمَّدُ- بما يتناجَى به مُشرِكو قَومِك في أمْرِك، ويُسَارُّ بَعضُهم بَعضًا بشأنِك .

كما قال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 3 - 5] .

إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا.

أي: حينَ يقولُ المُشرِكونَ وهم يَتناجَونَ فيما بينَهم: ما تتَّبِعونَ -إنِ اتَّبَعتُم مُحَمَّدًا- إلَّا رَجُلًا مَغلوبًا على عَقلِه بالسِّحرِ، يَهذِي بكَلامٍ، ولا يَدري ما يَقولُ !!

كما قال تعالى: وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان: 8] .

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48).

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ.

أي: انظُرْ -يا مُحَمَّدُ- مُتعَجِّبًا كيف مثَّلَ لك المُشرِكونَ الأمثالَ الباطِلةَ، وشبَّهوا لك الأشباهَ، فشَبَّهوك بالمسحورِ، وقالوا عنك: شاعِرٌ، مَجنونٌ، ساحِرٌ، كذَّابٌ !

كما قال تعالى: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5] .

وقال تبارك وتعالى: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: 36] .

وقال عزَّ مِن قائلٍ: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان: 14] .

وقال سُبحانَه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 4- 5] .

وقال جلَّ جَلالُه: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] .

فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا.

أي: فَضَلَّ المُشرِكونَ عن طريقِ الحقِّ بضَربِ الأمثالِ الباطِلةِ المُتناقِضةِ لك -يا مُحَمَّدُ- وتَحيَّروا فلم يَقدِروا أن يَسلُكوا طَريقًا يُخرِجُهم مِن هذا الضَّلالِ، ويُوصِلُهم إلى الحَقِّ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ فيه الحَثُّ على فِقهِ القُرآنِ، وأنَّه ينبغي للإنسانِ أن يقرأَ القُرآنَ ويتعَلَّمَ معناه

؛ فقَولُه تعالى: أَنْ يَفْقَهُوهُ يعودُ إلى القُرآنِ كُلِّه، فعُلِمَ أنَّ اللهَ يحِبُّ أن يُفقَهَ؛ ولهذا قال الحسَنُ البصريُّ: (ما أنزل اللهُ آيةً إلَّا وهو يحِبُّ أن يُعلَمَ في ماذا أُنزِلَت وماذا عنى بها)، وما استثنى من ذلك لا مُتشابِهًا ولا غيرَه .

2- في قَولِه تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى دَليلٌ على الإنصاتِ للمَوعِظةِ والإقبالِ على الواعِظِ، وأنَّ الكلامَ عندَ الموعظةِ، أو مُحادثةَ بَعضِهم بَعضًا في مَجْمَعٍ يَعِظُ فيه واعِظٌ؛ تَهاوُنٌ بالمَوعِظةِ، ولَهوٌ عنها، وفي ذلك زَوالُ مَنفَعتِها، وفَهْمِ ما أُودِعَ فيها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- مِمَّا يَدخُلُ في غَيرةِ اللهِ قَولُه تعالى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا؛ قال السَّرِيُّ لأصحابِه: (أتَدْرُونَ ما هذا الحِجابُ؟ حِجابُ الغَيرةِ، ولا أحَدَ أغيَرُ مِن اللهِ؛ إنَّ الله تعالى لم يجعَلِ الكُفَّارَ أهلًا لفَهمِ كَلامِه، ولا أهلًا لمَعرِفتِه وتوحيدِه ومَحَبَّتِه، فجعَلَ بينهم وبين رَسولِه وكلامِه وتوحيدِه حجابًا مَستورًا عن العُيونِ؛ غيرةً عليه أن ينالَه مَن ليس أهلًا له)

.

2- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا في هذه الآيةِ الكريمةِ الرَّدُّ الواضِحُ على القَدَريَّةِ في قَولِهم: إنَّ الشَّرَّ لا يَقَعُ بمَشيئةِ الله، بل بمَشيئةِ العَبدِ- سُبحانَ اللهِ وتعالى عُلُوًّا كبيرًا عن أنْ يقَعَ في مُلكِه شَيءٌ ليس بمَشيئَتِه! وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الأنعام: 107] ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة: 13] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام: 35] ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ .

3- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا أخبَرَ سُبحانَه أنَّه مَنَعَهم فِقهَ كَلامِه، وهو الإدراكُ الذي ينتَفِعُ به مَن فَقِهَه، ولم يَكُنْ ذلك مانِعًا لهم مِنَ الإدراكِ الذي تقومُ به الحُجَّةُ عليهم؛ فإنَّهم لو لم يَفهَموه جُملةً ما وَلَّوا على أدبارِهم نُفُورًا عند ذِكرِ تَوحيدِ اللهِ، فلمَّا وَلَّوا عند ذِكرِ التَّوحيدِ دَلَّ على أنَّهم كانوا يَفهَمونَ الخِطابَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا

- في قولِه: وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أُوثِرَ الموصولُ الَّذِينَ على الضَّميرِ (بينهم)؛ ذَمًّا لهم بما في حَيِّزِ الصِّلةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وإنَّما خَصَّ بالذِّكرِ كُفْرَهم بالآخرةِ مِن بينِ سائرِ ما كَفَروا به مِن التَّوحيدِ ونحوِه؛ دَلالةً على أنَّها مُعظمُ ما أُمِرُوا بالإيمانِ به في القُرآنِ، وتَمهيدًا لِما سيُنْقَلُ عنهم من إنكارِ البعثِ واستعجالِه، ونحوِ ذلك

. وقيل: لمَّا كان إنكارُهم البعثَ هو الأصْلَ الَّذي استَبْعَدوا به دَعوةَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى زَعَموا أنَّه يقولُ مُحالًا؛ إذ يُخْبِرُ بإعادةِ الخلْقِ بعدَ الموتِ- استُحْضِروا في هذا الكلامِ بطريقِ الموصوليَّةِ؛ لِمَا في الصِّلةِ من الإيماءِ إلى عِلَّةِ جعْلِ ذلك الحِجابِ بينَه وبينَهم؛ فلذلك قال: وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ .

- قولُه: حِجَابًا مَسْتُورًا فيه وصْفُ الحِجابِ بالمستورِ؛ مُبالغةً في حقيقةِ جِنْسِه، أي: حِجابًا بالغًا الغايةَ في حجْبِ ما يحجُبُه هو حتَّى كأنَّه مَستورٌ بساترٍ آخرَ، فذلك في قُوَّةِ أنْ يُقالَ: جعَلْنا حِجابًا فوقَ حِجابٍ. وفي الجمْعِ بين حِجَابًا ومَسْتُورًا من البديعِ: الطِّباقُ .

2- قوله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا

- قولُه: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ فيه تَخصيصُ الذِّكرِ بالكونِ في القُرآنِ؛ لمُناسبتِه الكلامَ على أحوالِ المُشركينَ في استماعِ القُرآنِ، أو لأنَّ القُرآنَ مَقصودٌ منه التَّعليمُ والدَّعوةُ إلى الدِّينِ؛ فخُلوُّ آياتِه عن ذكْرِ آلهتِهم مع ذكْرِ اسمِ اللهِ يُفْهَمُ منه التَّعريضُ بأنَّها ليست بآلهةٍ، فمِن ثَمَّ يَغْضبون كلَّما ورَدَ ذكْرُ اللهِ، ولم تُذْكَرْ آلهتُهم؛ فكونُه في القُرآنِ هو القَرينةَ على أنَّه أراد إنكارَ آلهتِهم .

3- قولُه تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا هذه الآيةُ مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ الإخبارَ عنهم بأنَّهم جُعِلَت في قُلوبِهم أكِنَّةٌ أنْ يَفْقهوه، وفي آذانِهم وقْرٌ، وأنَّهم يُولُّون على أدبارِهم نُفورًا إذا ذُكِرَ اللهُ وحدَه: يُثِيرُ في نفْسِ السَّامعِ سُؤالًا عن سبَبِ تجمُّعِهم لاستماعِ قِراءةِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فكانت هذه الآيةُ جوابًا عن ذلك السُّؤالِ .

- قولُه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ فيه افتتاحُ الجُملةِ بضميرِ الجَلالةِ نَحْنُ؛ لإظهارِ العنايةِ بمَضمونِها .

- قولُه: يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ لم يقُلْ: يَسْتمِعونه ولا يَستمِعونك؛ لمَّا كان الغرَضُ ليس الإخبارَ عن الاستماعِ فقطْ، وكان مُضمَّنًا أنَّ الاستماعَ كان على طريقِ الهُزْءِ بأنْ يقولوا: مجنونٌ أو مَسحورٌ، جاء الاستماعُ بـ(الباءِ) و(إلى)؛ ليُعْلَمَ أنَّ الاستماعَ ليس المُرادُ به تفهُّمَ المسموعِ دونَ هذا المَقصدِ؛ لأنَّ المعنى: نحن أعلَمُ بالَّذي يَستمِعون به إليك وإلى قراءتِك وكلامِك، إنَّما يَستمِعون لسقَطِك وتتبُّعِ عيبِك، والتِماسِ ما يَطعُنون به عليك .

- قولُه: وَإِذْ هُمْ نَجْوَى فيه الإخبارُ عنهم بالمصدرِ نَجْوَى؛ للمُبالغةِ في كثرةِ تَناجيهم عند استماعِ القُرآنِ تَشاغُلًا عنه .

- قولُه: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ، حيث لم يقُلْ: (إذ يقولون)؛ للدَّلالةِ على أنَّ باعِثَ قولِهم ذلك هو الظُّلمُ، أي: الشِّركُ؛ فإنَّ الشِّركَ ظُلمٌ .

- وتَخصيصُ هذا القولِ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا بالذِّكرِ؛ لأنَّه أشدُّ غَرابةً من بقيَّةِ آفاكِهم؛ للبونِ الواضحِ بين حالِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبين حالِ المسحورِ .

4- قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا

- قولُه: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فيه الاستفهامُ بـ (كيف)؛ للتَّعجُّبِ من حالةِ تَمثيلِهم للنَّبيِّ صَلَّى الله عليه وسلَّمَ بالمسحورِ ونحوِه .

- قولُه: فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فرَّع ضلالَهم على ضَربِ أمثالِهم؛ لأنَّ ما ضرَبوه من الأمثالِ كُلُّه باطِلٌ وضَلالٌ وقوَّةٌ في الكُفرِ، فالمرادُ تفريعُ ضَلالِهم الخاصِّ ببُطلانِ تلك الأمثالِ، أي: فظهَرَ ضلالُهم في ذلك. ويجوزُ أن يرادَ بالضَّلالِ هنا أصلُ معناه، وهو الحَيرةُ في الطريقِ وعَدَمُ الاهتداءِ، أي: ضَرَبوا لك أشباهًا كَثيرةً؛ لأنَّهم تحيَّروا فيما يَعتَذِرون به عن شأنِك العَظيمِ. وتفريعُ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا على فَضَلُّوا تفريعٌ لتوغُّلِهم في الحَيرةِ على ضلالِهم في ضَربِ تلك الأمثالِ

============

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (49-52)

ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

 

وَرُفَاتًا: أي: تُرابًا وفُتاتًا، وأصلُ (رفت): يدُلُّ على فَتٍّ

.

يَكْبُرُ: أي: يَعْظُمُ، يقال: كَبُر الأمرُ والشيءُ: إذا عظُم، وأصلُ (كبر): يدلُّ على خلافِ الصغرِ .

فَسَيُنْغِضُونَ: أي: يُحَرِّكونَ رُؤوسَهم تكذيبًا واستِهزاءً، والإنغاضُ: تحريكُ الرَّأسِ نحوَ الغيرِ كالمتعجِّبِ منه، وأصلُ (نغض): يدُلُّ على هَزٍّ وتَحريكٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يحكي الله تعالى بعضَ أقوالَ المشركينَ المنكرينَ للبعثِ والحسابِ يومَ القيامةِ، ثم يردُّ عليها، ومِن ذلك قولُهم: أئِذا بَلِيَت أجسادُنا، وصِرْنا عِظامًا وتُرابًا نُبعَثُ مِن جديدٍ؟! قُلْ لهم -يا مُحمَّدُ- على جِهةِ التَّعجيزِ: كونوا حِجارةً أو حديدًا، فإنَّ اللهَ يَبعثُكم أيضًا، أو كونوا خَلقًا يَعظُمُ ويُستَبعَدُ في عُقولِكم قَبولُه للبَعثِ، فاللهُ تعالى يبعَثُكم، فسيَقولونَ مُنكِرينَ: مَن يرُدُّنا إلى الحياةِ بعد الموتِ؟ قل لهم: يُعيدُكم ويَرجِعُكم اللهُ الذي خلقَكم من العَدَمِ أوَّلَ مَرَّةٍ. وعند سَماعِهم هذا الرَّدَّ فسيُحرِّكون رُؤوسَهم ساخِرينَ، ويَقولونَ مُستبعدينَ: متى يقَعُ هذا البَعثُ؟ قل: هو قَريبٌ، سيأتيكم -لا مَحالةَ- يومَ يُناديكم ربُّكم للخُروجِ مِن قُبورِكم للحِسابِ، فتَستَجيبونَ، وتَنقادونَ لِدَعوتِه بحَمدِه، وتظنُّونَ أنَّكم لم تمكثوا في الدنيا إلَّا زَمَنًا قليلًا.

تفسير الآيات:

 

وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما استأصَل الله تعالى ضلالتَهم بادِّعاءِ آلهةٍ معَ الله بالحجةِ القاطعةِ بقولِه: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ... الآية [الإسراء: 42] ؛ قصَد استئصالَ ضلالةٍ أُخرَى من ضلالاتِهم بالحجةِ الدامغةِ، وعلى ذلك تكونُ جملةُ: وَقَالُوا أَإِذَا... معطوفةً على جملةِ: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ باعتبارِ ما تشتملُ عليه مِن قولِه: كَمَا يَقُولُونَ، ويكونُ ما بينَ الآيتين بمنزلةِ الاعتراضِ. ويجوزُ أن تكونَ هذه الآيةُ عطفًا على جملةِ: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الإسراء: 47] ، فيكون هذا القولُ مما تناجَوا به بينَهم، ثم يجهرون بإعلانِه ويعُدُّونَه حجَّتَهم على التكذيبِ

، فالقَومُ وَصَفوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكَونِه مَسحورًا فاسِدَ العَقلِ، فذَكَروا مِن جُملةِ ما يستدلُّون به على ذلك أنَّه يدَّعي أنَّ الإنسانَ بعد ما يصيرُ عِظامًا ورُفاتًا، فإنَّه يعودُ حَيًّا كما كان .

وأيضًا لَمَّا جَرَت عادةُ القُرآنِ بإثباتِ التَّوحيدِ والنبُوَّةِ والمعادِ، وقدَّمَ الدَّلالةَ على الأوَّلَينِ، وختَمَ بإثباتِ جَهلِهم في النبُوَّةِ مع ظُهورِها؛ أتبَعَ ذلك أمرًا جَليًّا في ضَلالِهم عن السَّبيلِ في أمرِ المَعادِ، وقَرَّرَه غايةَ التَّقريرِ، وحَرَّره أتمَّ تحريرٍ، فقال تعالى مُعَجِّبًا منهم :

وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49).

أي: وقال هؤلاءِ المُشرِكونَ الذين لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ إنكارًا للبَعثِ يومَ القيامةِ: أئِذا صِرْنا عِظامًا وتُرابًا، وقد بَلِيَت أجسادُنا في قُبورِنا، فهل يَبعَثُنا اللهُ أحياءً مِن جديدٍ كما كنَّا قبل مَوتِنا؟! هذا أمرٌ مُحالٌ لا يُمكِنُ وُقوعُه .

كما قال تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً [النازعات: 10، 11].

وقال سُبحانَه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 78- 79].

قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50).

أي: قلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاء المُنكِرينَ للبَعثِ بعد المَوتِ: إنْ كُنتُم تَعجَبونَ مِن قُدرةِ اللهِ على إحيائِكم، فكُونوا -إن استطعتُم- حِجارةً أو حديدًا؛ فسيَبعَثُكم أيضًا .

أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51).

أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ.

أي: أو كُونوا -أيُّها المُنكِرونَ للبَعثِ- خَلْقًا مِمَّا يَعظُمُ في نُفوسِكم -إنِ استَطعتُم- مِمَّا تَستبعِدونَ معه قُدرةَ اللهِ على إحيائِكم؛ فاعلَمُوا أنَّه لا بُدَّ مِن بَعثِكم على أيِّ خِلقةٍ كنتُم، مهما بلَغَت مِنَ القوَّةِ والشدَّةِ .

فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا عَلِمَ القَومُ صِحَّةَ هذا البُرهانِ وأنَّه ضروريٌّ، انتَقَلوا إلى المُطالَبةِ بمَن يُعيدُهم، فقالوا :

فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا.

أي: فسيَقولُ المُنكِرونَ للبَعثِ: مَن يَبعَثُنا بعدَ مَوتِنا إنْ كُنَّا حِجارةً أو حديدًا أو خَلقًا مِمَّا يَكبُرُ في صُدورِنا ؟!

قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

أي: قُلْ لهم- يا مُحمَّدُ: سيُعيدُكم اللهُ الذي ابتدأَ خَلقَكم أوَّلَ مرَّةٍ مِن العَدَمِ على غيرِ مِثالٍ سبَقَ؛ فالذي قدَرَ على البُداءةِ قادِرٌ على الإعادةِ .

كما قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] .

وقال سُبحانَه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] .

فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ.

أي: فإذا أجبتَهم بذلك -يا مُحمَّدُ- فسيُحَرِّكونَ إليك رُؤوسَهم برَفعٍ وخَفضٍ؛ استهزاءً منهم .

كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] .

وقال سُبحانَه: فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 2، 3].

وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا عَلِمَ القَومُ أنَّ هذا جوابٌ قاطِعٌ، انتَقَلوا إلى بابٍ آخَرَ مِن التعَنُّتِ :

وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ.

أي: ويقولُ هؤلاء المُنكِرونَ للبَعثِ تعنُّتًا واستِبعادًا منهم لوُقوعِه: متى يقَعُ هذا البَعثُ الذي تَزعُمُه ؟

كما قال سُبحانَه: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الملك: 23 - 26].

قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.

أي: قل لهم-يا مُحمَّدُ-: هو قريبٌ، سيأتيكم لا مَحالةَ؛ فاحذَروا ذلك .

كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [الشورى: 17- 18] .

وقال سُبحانَه: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63] .

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52).

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ.

أي: وذلك البَعثُ الذي تُنكِرونَه -أيُّها المُشرِكونَ- واقِعٌ يومَ يَدعوكم ربُّكم للحِسابِ والجَزاءِ يومَ القيامةِ، فتَستَجيبونَ كُلُّكم لله بالخُروجِ فَورًا مِن قُبورِكم أحياءً، وتَنقادونَ لِدَعوتِه بحَمدِه .

كما قال تعالى: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم: 25] .

وقال سُبحانَه: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق: 41 - 44] .

وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا.

أي: وتَظُنُّونَ -أيُّها النَّاسُ- حين تُبعَثونَ يومَ القيامةِ أنَّكم لم تَمكُثوا في الدنيا إلَّا وَقتًا يَسيرًا

 

.

كما قال تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 112 - 114].

وقال سُبحانَه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [طه: 102 - 104] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الروم: 55- 56] .

وقال جلَّ جلالُه: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات: 46] .

الفوائد التربوية:

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قولِه: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا جعَلَ سُؤالَهم هنا عن المُعيدِ لا عن أصْلِ الإعادةِ؛ لأنَّ البحثَ عن المُعيدِ أدخَلُ في الاستحالةِ من البحثِ عن أصْلِ الإعادةِ، فهو بمنزلةِ الجوابِ بالتَّسليمِ الجدليِّ بعدَ الجوابِ بالمنْعِ؛ فإنَّهم نَفَوا إمكانَ إحياءِ الموتى، ثمَّ انتَقلوا إلى التَّسليمِ الجدليِّ؛ لأنَّ التَّسليمَ الجدليَّ أقوى في مُعارضةِ الدَّعوى من المنْعِ

.

2- قول الله تعالى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا، فيه سؤالٌ: إن قالوا: كيف يكونُ قريبًا وقد انقرضَ زمنٌ طويلٌ، ولم يظهرْ؟

الجواب: إذا كان ما مضَى أكثرَ مما بقِي، كان الباقي قريبًا قليلًا ، وأيضًا فإنَّ كلَّ ما هو آتٍ فهو قريبٌ .

3- في قَولِه تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا دَليلٌ على أنَّ الميِّتَ بعدَ المُساءَلةِ -وما يُصيبُه معها- لا يَشعُرُ بطولِ مُكْثِه في البَرزَخِ حتى يبعَثَه اللهُ يومَ القيامةِ، فلو كانوا يَشعُرونَ لعَلِموا أنَّهم أقاموا طويلًا، ليس قليلًا

 

، وذلك على أحدِ أوجُهِ تأويلِ الآيةِ.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا

- قولُه: وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا استفهامُ تَعجُّبٍ وإنكارٍ مُفيدٌ لكَمالِ الاستبعادِ والاستنكارِ للبعثِ بعدما آلَ الحالُ إلى هذا المآلِ؛ لِمَا بين غَضاضةِ الحيِّ ويُبوسةِ الرَّميمِ من التَّنافي، كأنَّ استحالةَ الأمْرِ من الظُّهورِ بحيث لا يقدِرُ المُخاطَبُ على التَّكلُّمِ به

.

- قولُه: أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا فيه تَقديمُ الظَّرفِ أَإِذَا للاهتمامِ به؛ لأنَّ مضمونَه هو دليلُ الاستحالةِ في ظَنِّهم؛ فالإنكارُ مُتسلِّطٌ على جُملةِ أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. وقُوَّةُ إنكارِ ذلك مُقيَّدٌ بحالةِ الكونِ عِظامًا ورُفاتًا، وتَقديرُ الجُملةِ: أإنا لمَبْعوثونَ إذا كنَّا عِظامًا ورُفاتًا؟! وليس المقصودُ من الظَّرفِ التَّقييدَ؛ لأنَّ الكونَ عِظامًا ورُفاتًا ثابتٌ لكلِّ من يَموت فيُبعَثُ .

- قولُه: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا كُرِّرتِ الهمزةُ في قولِهم: أَإِنَّا؛ لتأكيدِ النَّكيرِ. وتَحليةُ الجُملةِ بـ (إنَّ) واللَّامِ؛ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التَّأكيدِ .

- قولُه: خَلْقًا جَدِيدًا حالٌ من ضَميرِ (مَبْعوثون)، وذُكِرَ الحالُ لتَصويرِ استحالةِ البعثِ بعدَ الفَناءِ؛ لأنَّ البعثَ هو الإحياءُ، فإحياءُ العِظامِ والرُّفاتِ مُحالٌ عندهم، وكونُهم خلقًا جديدًا أدخَلُ في الاستحالةِ .

- قولُه: وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث أعاد هذه الجُملةَ بعينِها من غيرِ زيادةٍ ولا نُقصانٍ آخرَ السُّورةِ في قولِه: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء: 98] ، وليس هذا تَكرارًا؛ لأنَّ الأُولى من كلامِهم في الدُّنيا حين جادلوا الرَّسولَ، وأنْكَروا البعثَ، والثَّانيةَ من كلامِ اللهِ تَعالى حين جازاهم على كُفْرِهم وقولِهم وإنكارِهم البعثَ، فقال: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: 97] .

2- قَولُه تعالى: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا

- قولُه: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا فيه حُسنُ تَرتيبٍ؛ حيث بدَأَ أوَّلًا بالصُّلبِ، ثمَّ ذكَرَ على سبيلِ التَّرقي الأصلَبَ منه، ثمَّ الأصلَبَ من الحديدِ .

- قولُه: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فيه ما يُعْرَفُ بالتَّخييرِ، وهو أنْ يُؤْتَى بقطعةٍ من الكلامِ جُملةً، وقد عُطِفَ بعضُها على بعضٍ بأداةِ التَّخييرِ، وأنْ يتضمَّنَ صِحَّةَ التَّقسيمِ؛ فيَستوعِبَ كلامُه أقسامَ المعنى الَّذي أخَذَ المُتكلِّمُ فيه؛ فاشتملَتْ هاتانِ الآيتانِ على التخييرِ، وصِحَّةِ التَّقسيمِ، وحُسْنِ التَّرتيبِ في الانتقالِ -على طريقِ البلاغةِ- من الأدنَى إلى الأعلَى، حتَّى بلَغَ سُبحانَه النِّهايةَ في أوجَزِ إشارةٍ، وأعذَبِ عِبارةٍ، حيث قال بعدَ الانتقالِ من الحجارةِ: أَوْ حَدِيدًا؛ فانتقَلَ من الحجارةِ إلى ما هو أصلَبُ منها وأقوى، ثمَّ قال بعدَ ذلك: أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ غيرَ حاصرٍ لهم في صِنْفٍ من الأصنافِ ، فلم يُعيِّنْه؛ بل ترَك ذلك إلى أفكارِهم وجولانِها فيما هو أصلبُ مِن الحديدِ .

3- قَولُه تعالى: أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا

- قولُه: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا الاستفهامُ في مَنْ يُعِيدُنَا تَهكميٌّ. ولمَّا كان قولُهم: مَنْ يُعِيدُنَا مُحقَّقَ الوُقوعِ في المُستقبلِ أمَرَ النَّبيَّ بأنْ يُجيبَهم عندما يقولونَه -جوابَ تَعيينٍ لمَن يُعيدُهم؛ إبطالًا للازمِ التَّهكُّمِ، وهو الاستحالةُ في نظَرِهم- بقولِه: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ إجراءً لظاهرِ استفهامِهم على أصْلِه، بحمْلِه على خِلافِ مُرادِهم؛ لأنَّ ذلك أجدَرُ على طريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ لزيادةِ المُحاجَّةِ .

- قولُه: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ جِيءَ بالمُسنَدِ إليه موصولًا الَّذِي فَطَرَكُمْ؛ لقصْدِ ما في الصِّلةِ من الإيماءِ إلى تَعليلِ الحُكْمِ بأنَّ الَّذي فطَرَهم أوَّلَ مرَّةٍ قادرٌ على إعادةِ خلْقِهم .

- وارتباطُ رَدِّ مقالتِهم بقولِه: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا... غامِضٌ؛ لأنَّهم إنَّما استَبْعَدوا أو أحالوا إرجاعَ الحياةِ إلى أجسامٍ تفرَّقَت أجزاؤها، وانخرَمَ هيكَلُها، ولم يُعلِّلوا الإحالةَ بأنَّها صارت أجسامًا ضعيفةً، فيُرَدُّ عليهم بأنَّها لو كانت مِن أقوَى الأجسامِ لأُعِيدَت لها الحياةُ، وفي بيانِ وجْهِ هذا الارتباطِ في ذلك ثلاثةُ وُجوهٍ:

أحدُها: أنْ تكونَ صِيغَةُ الأمرِ في قولِه: كُونُوا مُستعملةً في معنى التَّسويةِ، ويكون دليلًا على جوابٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: إنَّكم مَبْعوثون، سَواء كنتُم عِظامًا ورُفاتًا، أو كنتُم حِجارةً أو حديدًا؛ تَنبيهًا على أنَّ قُدرةَ اللهِ تعالى لا يَتعاصى عليها شَيءٌ. وذلك إدماجٌ يجعَلُ الجُملةَ في معنى التَّذييلِ.

الوجْهُ الثَّاني: أنْ تكونَ صِيغَةُ الأمْرِ في قولِه: كُونُوا مُستعملةً في الفرضِ، أي: لو فُرِضَ أنْ يكونَ الأجسادُ من الأجسامِ الصُّلبةِ، وقيل لكم: إنَّكم مَبْعوثون بعدَ الموتِ لأحَلْتُم ذلك واستبْعَدْتم إعادةَ الحياةِ فيها. وعلى كِلا الوجهينِ يكونُ قولُه: مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ نِهايةَ الكلامِ، ويكونُ قولُه: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا مُفرَّعًا على جُملةِ وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا... تَفريعًا على الاستئنافِ.

الوجْهُ الثَّالثُ: أنْ يكونَ قولُه: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً كلامًا مُستأنفًا ليس جوابًا على قولِهم: أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا...، وتكون صِيغَةُ الأمْرِ مُستعملةً في التَّسويةِ. وفي هذا الوجْهِ يكونُ قولُه: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا مُتَّصلًا بقولِه: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا...، ومُفرَّعًا على كلامٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه قولُه: كُونُوا حِجَارَةً .

=========

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (53-57)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ

غريب الكلمات:

 

يَنْزَغُ: أي: يُفسِدُ ويُهيِّجُ، وأصلُ (نزغ): يدلُّ على إفسادٍ بينَ اثنينِ

.

الْوَسِيلَةَ: أي: المَنزِلةَ والقُربةَ بالأعمالِ الصَّالحةِ، وأصلُ (وسل): يدُلُّ على التَّوصُّلِ إلى الشَّيءِ برَغبةٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ

قَولُه: أُولَئِكَ مُبتدأٌ في محَلِّ رَفعٍ، والَّذِينَ بدَلٌ منه، ويَدْعُونَ صلةُ المَوصولِ لا محلَّ لها مِن الإعرابِ، ويَبْتَغُونَ خبَرُ المُبتدأِ في محَلِّ رَفعٍ. أَيُّهُمْ فيها وجهانِ: أحدُهما: أنَّها اسمُ مَوصولٍ مَبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ رَفعٍ بدَلُ بَعضٍ مِن كُلٍّ مِن الواوِ في يَبْتَغُونَ، أَقْرَبُ خبَرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ تَقديرُه (هو)، وجملةُ: (هو أقرَبُ) لا محلَّ لها صِلةُ الموصولِ (أيُّ)، والمعنى: أولئك المَعبودونَ يبتغي مَن هو أقرَبُ منهم الوَسيلةَ إلى اللهِ تعالى بطاعتِه، فكيف بالأبعَدِ؟! والثاني: أَيُّهُمْ استِفهاميَّةٌ مرفوعةٌ على الابتداءِ، وأَقْرَبُ خَبَرُها، والجملةُ الاسميَّةُ في محَلِّ نَصبٍ على إسقاطِ الخافِضِ بـ يَبْتَغُونَ المُضَمَّنِ معنى (يَحرِصونَ)، فكأنَّه قيل: يَحرِصونَ أيُّهم يكونُ أقرَبَ إلى اللهِ تعالى، وذلك بالطَّاعةِ وازديادِ الخَيرِ والصَّلاحِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: وقُلْ -يا مُحمَّدُ- لعِبادي المُؤمِنينَ يقولُوا في تَحاوُرِهم وتَخاطُبِهم الكلامَ الأحسنَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ يفسِدُ بينهم، ويُهيِّجُ العَداوةَ والخِصامَ بينهم؛ إنَّ الشَّيطانَ كان للإنسانِ عدُوًّا مُظهِرًا لشدَّةِ عَداوتِه. ربُّكم أعلَمُ بكم، إنْ يَشَأْ يَرحَمْكم بتوفيقِكم لأسبابِ الرَّحمةِ، أو إن يَشأْ يعذِّبْكم بخِذلانِكم عن أسبابِ الرَّحمةِ، وما أرسَلْناك -يا مُحمَّدُ- عليهم وكيلًا تُجازيهم على أفعالِهم، ورَبُّك أعلَمُ بمَن في السَّمَواتِ والأرضِ، ولقد فَضَّلْنا بعضَ النبيِّينَ على بَعضٍ، كتفضيلِهم بالمُعجِزاتِ، والكُتُبِ، وكَثرةِ الأتباعِ، وغَيرِ ذلك، وأعطَينا داودَ الزَّبورَ.

ثمَّ يأمرُ الله تعالى نبيَّه أن يقولَ لِلمُشركين: ادعُوا الذين زعَمتُموهم آلِهةً مِن دُونِ اللهِ لكَشْفِ الضُّرِّ عنكم؛ فإنَّهم لا يستطيعون ذلك، ولا أن يُحوِّلوا الضرَّ عنكم إلى غَيرِكم، ولا أن يُغيِّروا صفتَه أو قدرَه؛ فالقادِرُ على ذلك اللهُ وَحدَه. أولئك الذين يَزعمونَ أنَّهم آلهةٌ مِن دونِ الله، مِن الأنبياءِ والملائكةِ والصَّالحينَ، يُسارِعون في القُربِ مِن رَبِّهم بما يستطيعونَه مِن طاعةِ اللهِ، ويرجونَ رَحمتَه ويخافونَ عَذابَه؛ إنَّ عذابَ ربِّك كان مَخُوفًا ينبغي الحذَرُ منه؛ فكيف يَعبُدُهم المُشرِكونَ، وتلك هي حالُهم؟!

تفسير الآيات:

 

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

بعد أن أقام سُبحانَه الحُجَجَ على إبطالِ الشِّركِ، فقال: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء: 42] وذكَرَ الأدِلَّةَ على صِحَّةِ البَعثِ والجزاءِ، فقال: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء: 51] ؛ أمرَ رَسولَه أن يأمُرَ عِبادَه المؤمنين بأن يحاجُّوا مُخالِفيهم، ويجادِلوهم باللِّينِ، ولا يُغلِظوا لهم في القَولِ، ولا يَشتُموهم ولا يسبُّوهم؛ فإنَّ الكَلِمةَ الطيِّبةَ تجذِبُ النفوسَ، وتَميلُ بها إلى الاقتِناعِ

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا أعقَبَ ما أُمرَ النبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بتبليغِه إلى المُشرِكين من أقوالٍ تَعِظُهم وتزجُرُهم، مِن قَولِه تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ [الإسراء: 42] ، وقَولِه: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً [الإسراء: 50] ، وقَولِه: قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء: 51] - ثَنَى العِنانَ إلى الأمرِ بإبلاغِ المؤمنين تأديبًا ينفَعُهم في هذا المقامِ، على عادةِ القُرآنِ في تلوينِ الأغراضِ، وتعقيبِ بَعضِها ببعضِ أضدادِها؛ استِقصاءً لأصنافِ الهُدى ومختَلِفِ أساليبِه، ونَفْع مُختَلفِ النَّاسِ، ولَمَّا كان ما سبَقَ مِن حكايةِ أقوالِ المُشرِكين ينبئُ عن ضلالِ اعتقادٍ، نقلَ الكلامَ إلى أمرِ المُؤمِنين بأن يقولوا أقوالًا تُعرِبُ عن حُسنِ النيَّةِ، وعن نُفوسٍ زكيَّةٍ، وأوتوا في ذلك كَلِمةً جامِعةً، وهي: يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .

وأيضًا لَمَّا أمَرَ اللهُ سُبحانَه نَبيَّه بإبلاغِ الكافِرينَ هذا الكَلامَ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا...، وفيه من التهَكُّمِ بهم والتَّبكيتِ لهم والاستِخفافِ بعُقولِهم ما لا يعلَمُ مِقدارَه إلَّا مِثلُهم مِنَ البُلَغاءِ والعَرَبِ العَرْباءِ، وكان -لكَونِه كلامَ العَليمِ بالعواقِبِ، الخَبيرِ بما تَجُنُّ الضَّمائِرُ- رُبَّما استَنَّ به المُؤمِنونَ فخاطبوهم بنَحوِه مِن عندِ أنفُسِهم؛ نهاهم عن ذلك لئلَّا يقولوا ما يُهَيِّجُ شَرًّا أو يُثيرُ ضُرًّا، فقال تعالى :

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

أي: وقُلْ -يا مُحمَّدُ- آمِرًا عبادي المُؤمِنينَ بأن يَقولَ بَعضُهم لِبَعضٍ في مُحاوراتِهم ومُخاطباتِهم الكَلامَ الأحسَنَ؛ مِن الكَلِماتِ الطَّيِّبةِ اللَّيِّنةِ اللَّطيفةِ، التي هي أحسَنُ مِمَّا سِواها .

قال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34- 35] .

وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الكَلِمةُ الطَّيِّبةُ صَدَقةٌ )) .

إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ.

أي: قُلْ لهم يَقولوا التي هي أحسَنُ؛ لأنَّ الشَّيطانَ البَعيدَ مِن الرَّحمةِ وكُلِّ خَيرٍ يقومُ بالإفسادِ بينهم، وتَهييجِ العَداواتِ والشُّرورِ، مِن المُخاصَمةِ والمُقاتَلةِ وغَيرِ ذلك .

عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ الشَّيطانَ قد أَيِسَ أن يَعبُدَه المصَلُّونَ في جزيرةِ العَرَبِ، ولكِنْ في التَّحريشِ بينهم )) .

إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا.

أي: إنَّ الشَّيطانَ يَنزَغُ بينهم؛ لأنَّه كان لآدَمَ وذُرِّيَّتِه عَدُوًّا مُظهِرًا لشدَّةِ عَداوتِه، مِن حينِ امتِناعِه مِن السُّجودِ لآدَمَ وحَسَدِه له حتى أخرَجَه مِن الجنَّةِ .

كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف: 50] .

وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ إبليسَ يَضَعُ عَرشَه على الماءِ، ثمَّ يَبعَثُ سَراياه، فأدْناهم منه مَنزِلةً أعظَمُهم فِتنةً، يجيءُ أحَدُهم فيَقولُ: فعَلْتُ كذا وكذا، فيقولُ: ما صنعْتَ شَيئًا! قال: ثم يجيءُ أحَدُهم فيقولُ: ما تركْتُه حتى فَرَّقتُ بينه وبين امرأتِه، قال: فيُدنيه منه ويَقولُ: نِعْمَ أنتَ! ! )) .

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا الكَلامَ مُتَّصِلٌ بقَولِه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إلى قَولِه: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الإسراء: 47-48] ؛ فإنَّ ذلك يَنطوي على ما هو شَأنُ نَجواهم من التَّصميمِ على العِنادِ، والإصرارِ على الكُفرِ، وذلك يَسُوءُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويَحزُنُه أن لا يَهتَدوا، فوَجَّه هذا الكلامَ إليه تسليةً له، ويدُلُّ لذلك تَعقيبُه بقَولِه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا .

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ.

أي: ربُّكم أعلَمُ بمَن يَستَحِقُّ منكم الرَّحمةَ والهِدايةَ، ومَن لا يَستَحِقُّها، إنْ يَشَأْ رَحْمَتَكم بأنْ يُوَفِّقَكم لأسبابِها، تَهْتَدوا، أو إنْ يَشَأْ تَعذيبَكم بأنْ يَخذُلَكم عن أسبابِ الرَّحمةِ، تَضِلُّوا .

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا.

أي: وما أرسلناك -يا محمدُ- على مَن أرسلناك إليه؛ حافظًا وكفيلًا، فما وُكِل إليك إيمانُهم ولا مجازاتُهم، إنَّما أرْسَلناك إليهم؛ لتُبلِّغَهم رسالاتِنا، واللهُ تعالى إن شاء هداهم ورحِمهم، وإن شاء خَذَلهم وعذَّبهم .

كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] .

وقال سُبحانَه: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] .

وقال عزَّ وجَلَّ: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 21- 22] .

وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بأن يَنسُبوا الأعلميَّةَ بهم إليه سُبحانَه، أخبَرَ بما هو أعَمُّ مِن ذلك، فقال تعالى عاطِفًا على رَبُّكُمْ إعلامًا بأنَّ عِلمَه ليس مَقصورًا عليهم بل هو مُحيطٌ، قاصِرًا الخِطابَ على أعلَمِ الخَلقِ به سُبحانَه؛ إشارةً إلى أنَّه لا يعلَمُ هذا حَقَّ عِلمِه غَيرُه ، فقال تعالى:

وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

أي: وربُّك -يا مُحَمَّدُ- أعلَمُ بمَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ مِن خَلْقِه، فيَعلَمُ نِيَّاتِهم، وأحوالَهم وأعمالَهم، وآجالَهم، وما يُصلِحُهم، ويَعلَمُ مَن يَستَحِقُّ الرَّحمةَ منهم فيَهديه، ومَن يَستَحِقُّ منهم العَذابَ فيُضِلُّه ويُشقِيه، وذلك بحسَبِ ما تَقتَضيه حِكمَتُه سُبحانَه .

قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الأنعام: 117] .

وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ.

أي: ولقد فضَّلْنا بعضَ الأنبياءِ على بَعضٍ، كتَفضيلِهم بالعِلمِ والكُتُبِ، والشَّرائِعِ والمُعجِزاتِ والخَصائِصِ .

كما قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة: 253] .

وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا.

أي: وأعطَيْنا نَبِيَّنا داوُدَ كِتابَ الزَّبورِ وفضَّلْناه به؛ فليس للمُكَذِّبينَ بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُنكِروا تَفضِيلَنا له بالنبُوَّةِ والقُرآنِ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ: 10].

وقال سُبحانَه: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص: 17-20] .

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا جَرى ذِكْرُ الأفضَلِينَ من الأنبياءِ في أثناءِ آيةِ الرَّدِّ على المُشركينَ مقالتَهم في اصطفاءِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للرِّسالةِ، واصطفاءِ أتباعِه لولايتِه ودِينِه، وهي آيةُ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ... إلى آخرِها [الإسراء: 55] - جاءتِ المُناسَبةُ لرَدِّ مقالةٍ أُخرى من مقالاتِهم الباطلةِ، وهي اعتذارُهم عن عِبادةِ الأصنامِ بأنَّهم ما يَعْبدونَهم إلَّا ليُقرِّبوهم إلى اللهِ زُلْفى، فجَعلوهم عِبادًا مُقَرَّبينَ ووسائِلَ لهم إلى اللهِ، فلمَّا جَرى ذِكرُ المُقرَّبينَ حقًّا؛ انتُهِزَت مُناسَبةُ ذِكرِهم؛ لِتَكونَ مَخلَصًا إلى إبطالِ ما ادَّعَوه من وسيلةِ أصنامِهم، فهذه الآيةُ متَّصِلةُ المعنى بآيةِ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء: 42] فبعد أن أبطلَ أن يكونَ مع اللهِ آلهةٌ ببُرهانِ العَقلِ، عاد إلى إبطالِ إلهيَّتِهم المزعومةِ ببُرهانِ الحِسِّ، وهو مُشاهَدةُ أنَّها لا تُغني عنهم كَشفَ الضُّرِّ؛ فأصلُ ارتباطِ الكلامِ هكذا: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [الإسراء: 55] أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ... [الإسراء: 57] الآية. فبمُناسبةِ الثَّناءِ عليهم بابتهالِهم إلى ربِّهم ذكَرَ ضِدَّ ذلك مِن دُعاءِ المُشرِكين آلهتَهم، وقَدَّم ذلك على الكلامِ الذي أثارَ المُناسَبةَ؛ اهتمامًا بإبطالِ فِعلِهم؛ ليكونَ إبطالُه كالغَرَضِ المقصودِ، ويكونَ ذِكرُ مُقابِلِه كالاستدلالِ على ذلك الغَرَضِ .

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56).

أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ- للمُشرِكينَ: ادعُوا الذينَ زَعَمتُم أنَّهم آلهةٌ مِن دُونِ اللهِ عندَ حُلولِ الشَّدائِدِ بكم، فانظُروا هل يَقدِرونَ على أن يُزيلُوا الضُّرَّ عنكم بالكُلِّيَّةِ، أو يُحَوِّلوه مِن حالٍ إلى حالٍ، فيُغيِّروا صفتَه أو قدرَه، أو يُحَوِّلوه إلى غَيرِكم ؛ فإنَّهم لا يَقدِرونَ على ذلك، وإنَّما يَقدِرُ عليه اللهُ وَحدَه، فإذا كانوا بهذه الصِّفةِ فلأيِّ شَيءٍ تَدعونَهم مِن دُونِ اللهِ ؟!

كما قال تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر: 38] .

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57).

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ.

أي: أولئك الذين يَزعُمُ المُشرِكونَ أنَّهم آلِهةٌ مِن دُونِ اللهِ، مِن المَلائِكةِ والأنبياءِ، والصَّالحينَ مِن الإنسِ والجِنِّ، هم أنفُسُهم يَطلُبُونَ التقَرُّبَ إلى اللهِ بطاعَتِه مِن الواجِباتِ والمُستَحَبَّاتِ، ويَدْعونَه ويَستَعيذونَ به وَحْدَه؛ فلماذا يَعبُدُهم المُشرِكونَ مِن دُونِ اللهِ ؟!

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّه قال في قَولِه عزَّ وجلَّ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ قال: (كان نَفَرٌ مِنَ الجنِّ أسلَمُوا، وكانوا يُعبَدونَ، فبَقِيَ الذين كانوا يَعْبُدونَ على عِبادتِهم، وقد أسلَمَ النَّفَرُ مِن الجِنِّ) .

أَيُّهُمْ أَقْرَبُ.

أي: يَتنافَسونَ في عبادةِ اللهِ والاجتهادِ في طاعتِه مُنافَسةَ مَن يَطلُبُ أن يكونَ إليه أقرَبَ مِن الآخَرينَ .

وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ.

أي: ويَرجُونَ بعِبادتِهم اللهَ رَحمَتَه، فيَبذُلونَ ما يَقدِرونَ عليه مِن الأعمالِ الصَّالحةِ المُقَرِّبةِ إلى اللهِ تعالى وإلى رَحمتِه، ويخافونَ عَذابَه، فيَجتَنِبونَ كُلَّ ما يُوصِلُ إلى عذابِه، فكيف يَعبُدُهم المُشرِكونَ، وتلك هي حالُهم ؟!

كما قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 49 - 50] .

وقال سُبحانَه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90] .

ثم علَّل خوفَهم بأمرٍ عامٍّ، فقال تعالى :

إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا.

أي: إنَّ عذابَ ربِّك -يا مُحمَّدُ- كان مُتَّقًى مَخُوفًا، لا أمانَ لأحدٍ منه؛ فمُلازَمةُ الحَذَرِ مِن الوُقوعِ في أسبابِه تنبغي لكُلِّ أحَدٍ مِن مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ونَبيٍّ مُرسَلٍ، فضلًا عن غَيرِهم

 

.

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج: 27-28] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فيه الأمرُ بحُسنِ العِشرةِ بين المُؤمِنينَ، وخَفضِ الجَناحِ ولِينِ الجانِبِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هذا أمرٌ بكُلِّ كَلامٍ يُقَرِّبُ إلى اللهِ؛ مِن قراءةٍ وذِكرٍ وعِلمٍ، وأمرٍ بمَعروفٍ ونَهيٍ عن مُنكَرٍ، وكلامٍ حَسَنٍ لطيفٍ مع الخَلقِ على اختلافِ مراتِبِهم ومَنازِلِهم .

3- إذا دار الأمرُ بينَ أمرَينِ حَسَنينِ؛ فإنَّه يُؤمَرُ بإيثارِ أحسَنِهما إن لم يُمكِنِ الجَمعُ بينهما؛ نستفيدُ ذلك مِن قَولِ الله تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هذا تأديبٌ عَظيمٌ في مُراقَبةِ اللِّسانِ وما يَصدُرُ منه .

5- قال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ فالشَّيطانُ يَنزَغُ بينهم إذا كَلَّمَ بَعضُهم بعضًا بغيرِ التي هي أحسَنُ، فرُبَّ حَربٍ وَقُودُها جُثَثٌ وهامٌ ، أهاجَها القَبيحُ مِن الكلامِ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا لَمَّا كان ضَميرُ بَيْنَهُمْ عائِدًا إلى عِبَادِي، كان المعنى فيه التَّحذيرَ مِن إلقاءِ الشَّيطانِ العَداوةَ بين المُؤمِنينَ؛ تحقيقًا لمَقصِدِ الشَّريعةِ مِن بَثِّ الأُخُوَّةِ الإسلاميَّةِ .

7- قَولُه تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ذِكرُ الحُجَّةِ ينبغي ألَّا يكونَ مَخلوطًا بالشَّتمِ والسَّبِّ، ونظيرُ هذه الآيةِ قَولُه تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ، وقَولُه: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] ؛ وذلك لأنَّ ذِكرَ الحُجَّةِ لو اختلَطَ به شَيءٌ مِن السَّبِّ والشَّتمِ، لحصَلَت المقابلةُ بمِثلِه، كما قال: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108] ويزدادُ الغَضَبُ وتتكامَلُ النُّفرةُ ويمتَنِعُ حُصولُ المقصود، أمَّا إذا وقع الاقتصارُ على ذِكرِ الحُجَّةِ بالطَّريقِ الأحسَنِ الخالي عن الشَّتمِ والإيذاءِ، أثَّرَ في القلبِ تأثيرًا شديدًا .

8- قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وعلامةُ المحبَّةِ ما ذكَرَه اللهُ: أن يجتَهِدَ العَبدُ في كُلِّ عَملٍ يقَرِّبُه إلى الله، ويُنافِسَ في قُربِه بإخلاصِ الأعمالِ كُلِّها لله، والنُّصحِ فيها وإيقاعِها على أكمَلِ الوجوهِ المقدورِ عليها، فمَن زعَمَ أنَّه يحِبُّ اللهَ بغيرِ ذلك فهو كاذِبٌ .

9- الحُبُّ والخَوفُ والرَّجاءُ: هذه الثَّلاثةُ هي التي تَبعَثُ على عِمَارةِ الوَقتِ بما هو الأَوْلى لصاحِبِه والأنفَعُ له، وهي أساسُ السُّلوكِ والسَّيرِ إلى اللهِ، وقد جَمَعَ اللهُ سُبحانَه الثَّلاثةَ في قَولِه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا فابتغاءُ الوَسيلةِ هو مَحَبَّتُه الدَّاعيةُ إلى التقَرُّبِ إليه، ثمَّ ذكَرَ بَعدَها الرَّجاءَ والخَوفَ، وهذه الثَّلاثةُ هي قُطبُ رَحَى العُبوديَّةِ، وعليها دارَتْ رَحَى الأعمالِ، وهي الأصلُ والمادةُ في كلِّ خيرٍ، فمَن تمَّت له تمَّت له أمورُه، وإذا خلا القلبُ منها ترحَّلت عنه الخيراتُ، وأحاطَتْ به الشرورُ، قال بَعضُ السَّلَفِ: (مَن عَبَدَ اللهَ تعالى بالحُبِّ وَحْدَه فهو زِنديقٌ، ومَن عَبَدَه بالخَوفِ وَحْدَه فهو حَرُوريٌّ، ومَن عبَدَه بالرَّجاءِ وَحْدَه فهو مُرْجئٌ، ومَن عبَدَه بالحُبِّ والخَوفِ والرَّجاءِ فهو مُؤمِنٌ) .

10- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ لا تَتِمُّ العِبادةُ إلَّا بالخَوفِ والرَّجاءِ؛ فبالخَوفِ يَنكَفُّ عن المناهي، وبالرَّجاءِ يَنبَعِثُ على الطَّاعاتِ .

11- قال الله تعالى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، قال سَهلُ بنُ عبدِ اللهِ: (الرَّجاءُ والخَوفُ مِيزانانِ على الإنسانِ، فإذا استوَيَا استقامَت أحوالُه، وإن رجَحَ أحَدُهما بطَلَ الآخَرُ)

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ عَلَّقَ سُبحانَه وتعالى الرَّحمةَ بالمَشيئةِ كما عَلَّقَ التَّعذيبَ، وما تعلَّقَ بالمشيئةِ مِمَّا يتَّصِفُ به الرَّبُّ فهو مِن «الصِّفاتِ الاختياريَّةِ»

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا فيه سؤالٌ: ما السَّبَبُ في تخصيصِ داودَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في هذا المقامِ بالذِّكرِ؟

الجوابُ مِن وجوهٍ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ الله تعالى ذكَرَ أنَّه فضَّلَ بعضَ النبيِّينَ على بعضٍ، ثمَّ قال: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا، يعني: أنَّ داود كان مَلِكًا عَظيمًا، ثمَّ إنَّه تعالى لم يذكُرْ ما آتاه مِن المُلكِ وذكَرَ ما آتاه مِن الكِتابِ؛ تنبيهًا على أنَّ التَّفضيلَ الذي ذكَرَه قبل ذلك المرادُ منه التَّفضيلُ بالعِلمِ والدِّينِ لا بالمالِ.

الوجه الثاني: أنَّ السَّبَبَ في تخصيصِه بالذِّكرِ أنَّه تعالى كتَبَ في الزَّبورِ أنَّ مُحمَّدًا خاتَمُ النبيِّين، وأنَّ أمَّتَه خَيرُ الأمَمِ؛ قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] ، وهم مُحمَّد وأمَّتُه.

الوجه الثالث: أنَّ السَّببَ فيه أنَّ كُفَّارَ قُرَيشٍ ما كانوا أهلَ نظَرٍ وجَدَلٍ، بل كانوا يرجِعون إلى اليهودِ في استِخراجِ الشُّبُهاتِ، واليهودُ كانوا يقولون: إنَّه لا نبيَّ بعد موسى ولا كِتابَ بعد التَّوراةِ، فنقَضَ اللهُ تعالى عليهم كلامَهم بإنزالِ الزَّبورِ على داودَ .

الوجه الرابع: أنَّه اجتمَعَ له ما لم يجتَمِعْ لِغَيرِه من الأنبياءِ، وهو الرِّسالةُ والكتابةُ والخَطابةُ، والخِلافةُ والمُلك والقَضاءُ، في زمَنٍ واحدٍ؛ قال تعالى: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص: 20] ، وقال: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: 26] .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا فيه سؤالٌ: لمَ نَكَّر الزَّبورَ هنا، وعَرَّفه في قَولِه: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ [الأنبياء: 105] ؟

الجوابُ مِن وجوهٍ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ التنكيرَ هاهنا يدُلُّ على تعظيمِ حالِه؛ لأنَّ الزَّبورَ عِبارةٌ عن المزبورِ، فكان معناه الكِتابَ، فكان معنى التنكيرِ أنَّه كامِلٌ في كونِه كِتابًا .

الوجه الثاني: أنَّه يجوزُ أن يكونَ الزَّبورُ مِن الأعلامِ التي يُستعمَلُ بـ «أل» وبدونِها، كـ (العبَّاس)، و(الفضل).

الوجه الثالث: يجوزُ أن يكونَ نكَّرَه في موضِعِ تنكيرِه، بمعنى: آتيناه بعضَ الزُّبُرِ وهي الكُتُبُ، أو أراد به ما فيه ذِكرُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الزَّبورِ، فسمَّى بعضَ الزَّبورِ زَبورًا، كما سَمَّى بعضَ القُرآنِ قُرآنًا في قَولِه تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ [الإسراء: 106] .

4- وقال: مِنْ دُونِهِ في قولِه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ مع أنَّ المُشركينَ ما زَعَموا غيرَ اللهِ إلهًا دونَ اللهِ، بلْ مع اللهِ على وجْهِ الشَّركةِ؛ لأنَّ في الكلامِ تَقديمًا وتأخيرًا، تَقديرُه: (قُلِ ادْعوا الَّذين من دونِ اللهِ زَعْمتم أنَّهم شُركاءُ) .

5- قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا فذِكْرُ المقاماتِ الثَّلاثةِ: الحُبُّ -وهو ابتِغاءُ القُربِ إليه، والتوسُّلُ إليه بالأعمالِ الصَّالحةِ-، والرَّجاءُ والخَوفُ؛ يدُلُّ على أنَّ ابتغاءَ الوَسيلةِ أمرٌ زائِدٌ على رجاءِ الرَّحمةِ وخَوفِ العَذابِ، ومِن المعلومِ قَطعًا أنَّك لا تتنافَسُ إلَّا في قُربِ من تحِبُّ قُربَه، وحُبُّ قُربِه تَبَعٌ لمحبَّةِ ذاتِه، بل محبَّةُ ذاتِه أوجبت محبَّةَ القُربِ منه. وعند الجهميَّةِ والمُعطِّلة: ما من ذلك كُلِّه شَيءٌ! فإنَّه عندهم لا تَقرُبُ ذاتُه مِن شَيءٍ، ولا يَقرُبُ مِن ذاتِه شيءٌ، ولا يُحَبُّ لِذاتِه، ولا يحِبُّ! فأنكروا حياةَ القلوبِ، ونعيمَ الأرواحِ، وبَهجةَ النُّفوسِ، وقُرَّةَ العيونِ، وأعلى نعيمِ الدُّنيا والآخرةِ؛ ولذلك ضُرِبَت قلوبُهم بالقَسوةِ، وضُرِبَت دونَهم ودونَ الله حُجُبٌ على معرفتِه ومحبَّتِه، فلا يَعرِفونَه ولا يحبُّونَه، ولا يذكرونَه إلَّا عند تعطيلِ أسمائِه وصفاتِه

 

!

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا

- قولُه: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ تَعليلٌ للأمْرِ بقولِ الَّتي هي أحسَنُ، والمقصودُ من التَّعليلِ: ألَّا يَستَخِفُّوا بفاسدِ الأقوالِ؛ فإنَّها تُثِيرُ مفاسدَ من عمَلِ الشَّيطانِ

.

- وجُملةُ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا تَعليلٌ لجُملةِ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ، وعِلَّةُ العلَّةِ علَّةٌ .

2- قَولُه تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا

- قولُه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ أُتِيَ بالمُسنَدِ إليه بلفْظِ الرَّبِّ رَبُّكُمْ مُضافًا إلى ضَميرِ المُؤمنينَ الشَّاملِ للرَّسولِ؛ تَذكيرًا بأنَّ الاصطفاءَ للخيرِ شأْنٌ مِن معنى الرُّبوبيَّةِ الَّتي هي تَدبيرُ شُؤونِ المرْبوبينَ بما يَليقُ بحالِهم؛ ليكونَ لإيقاعِ المُسنَدِ على المُسنَدِ إليه بعدَ ذلك بقولِه: أَعْلَمُ بِكُمْ وقْعٌ بَديعٌ؛ لأنَّ الَّذي هو الرَّبُّ هو الَّذي يكونُ أعلَمَ بدَخائلِ النُّفوسِ وقابليَّتِها للاصطفاءِ .

- وجُملةُ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ مُبيِّنةٌ للمقصودِ من جُملةِ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ، والرَّحمةُ والتَّعذيبُ مُكنًّى بهما عن الاهتداءِ والضَّلالِ؛ بقرينةِ مُقارنتِه لقولِه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ الَّذي هو كالمُقدِّمةِ، وسلَكَ سبيلَ الكِنايةِ بهما لإفادةِ فائدتينِ: صَريحِهما وكِنايتِهما، ولإظهارِ أنَّه لا يُسْأَلُ عمَّا يفعَلُ؛ لأنَّه أعلَمُ بما يَليقُ بأحوالِ مَخلوقاتِه .

- وفائدةُ ذِكْرِ شرْطِ المشيئةِ هنا إِنْ يَشَأْ: التَّعليمُ بأنَّه تَعالى لا مُكرِهَ له، فجمَعَتِ الآيةُ الإشارةَ إلى صِفَةِ العلمِ والحكمةِ، وإلى صِفَةِ الإرادةِ والاختيارِ. وإعادةُ شرْطِ المشيئةِ في الجُملةِ المعطوفةِ -أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ-؛ لتأكيدِ تَسلُّطِ المشيئةِ على الحالتينِ .

- وفي قولِه: أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ جِيءَ بالعطفِ بحرْفِ (أو) الدَّالَّةِ على أحَدِ الشَّيئينِ؛ لأنَّ الرَّحمةَ والتَّعذيبَ لا يَجتمعانِ؛ فـ(أو) للتَّقسيمِ .

- قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا زِيادةٌ لبيانِ أنَّ الهِدايةَ والضَّلالَ من جعْلِ اللهِ تَعالى، وأنَّ النَّبيَّ غيرُ مَسؤولٍ عن استمرارِ مَن استمَرَّ في الضَّلالةِ؛ إزالةً للحرَجِ عنه فيما يجِدُه من عدَمِ اهتداءِ مَن يَدْعوهم، أي: ما أرسَلْناك لتُجْبِرَهم على الإيمانِ، وإنَّما أرسلناك داعيًا، والمعنى: أرسَلْناك نَذيرًا وداعيًا لهم، وما أرسلناك عليهم وكيلًا، فيُفيدُ معنى القصْرِ؛ لأنَّ كونَه داعيًا ونذيرًا معلومٌ بالمُشاهَدةِ، فإذا نُفِيَ عنه أنْ يكونَ وكيلًا ومُلْجِئًا آلَ إلى معنى: ما أنت إلَّا نَذيرٌ .

- قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا عَلَيْهِمْ مُتعلِّقٌ بـ وَكِيلًا، وقُدِّمَ على مُتعلَّقِه؛ للاهتمامِ، وللرِّعايةِ على الفاصلةِ .

3- قَولُه تعالى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا هذا انتقالٌ من الخُصوصِ إلى العُمومِ؛ بعدما ذكَرَ تعالى أنَّه أعلَمُ بمَن خاطَبَهم بقولِه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ، فقال مُخاطِبًا لرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ...؛ ليُبيِّنَ أنَّ علْمَه غيرُ مقصورٍ عليكم، بلْ علْمُه مُتعلِّقٌ بجميعِ مَن في السَّمواتِ والأرضِ؛ بأحوالِهم ومقاديرِهم، وما يستأهِلُ كلَّ واحدٍ منهم . وقولُه: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كالمُقدِّمةِ لقوِله: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ الآيةَ؛ أعاد تَذكيرَهم بأنَّ اللهَ أعلَمُ منهم بالمُستأهِلِ للرِّسالةِ بحسَبِ ما أعدَّه اللهُ فيه مِن الصِّفاتِ القابلةِ لذلك. وكان الحكمُ في هذه المُقدِّمةِ على عُمومِ الموجوداتِ؛ لتكونَ بمنزلةِ الكُليَّةِ الَّتي يُؤْخَذُ منها كلُّ حُكمٍ لجُزئيَّاتِها؛ لأنَّ المقصودَ بالإبطالِ مِن أقوالِ المُشركينَ جامعٌ لصُورٍ كثيرةٍ من أحوالِ الموجوداتِ مِن البشرِ والملائكةِ وأحوالِهم؛ لأنَّ بعضَ المُشركينَ أحالوا إرسالَ رسولٍ من البشَرِ، وبعضَهم أحالوا إرسالَ رسولٍ ليس من عُظمائِهم، وبعضَهم أحالوا إرسالَ مَن لا يأتي بمثْلِ ما جاء به مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذلك يثيرُ أحوالًا جمَّةً من العُصورِ والرِّجالِ والأُمَمِ أحياءً وأمواتًا؛ فلا جرَمَ كان للتَّعميمِ موقعٌ عظيمٌ في قولِه: بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وهو أيضًا كالمُقدِّمةِ لجُملةِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ، مُشيرًا إلى أنَّ تفاضُلَ الأنبياءِ ناشئٌ على ما أودَعَه اللهُ فيهم من مُوجِباتِ التَّفاضُلِ، وهذا إيجازٌ تضمَّنَ إثباتَ النُّبوَّةِ وتَقرُّرَها فيما مَضى ممَّا لا قِبَلَ لهم بإنكارِه .

- وفي تَغييرِ أُسلوبِ الخطابِ أيضًا في قولِه: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بعدَ قولِه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ: إيماءٌ إلى أنَّ الغرضَ من هذه الجُملةِ عائدٌ إلى شأْنٍ من شُؤونِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّتي لها مَزيدُ اختصاصٍ به، تَقفيةً على إبطالِ أقوالِ المُشركينَ في شُؤونِ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ، بإبطالِ أقوالِهم في أحوالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

4- قَولُه تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا

- قولُه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قال هنا: مِنْ دُونِهِ، وقال في سُورةِ (سبَأٍ): قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سبأ: 22] ؛ فورَدَ اسمُ الجَلالةِ مُضمرًا في قولِه: مِنْ دُونِهِ في سُورةِ (الإسراءِ)، ومُظهَرًا في قولِه: مِنْ دُونِ اللَّهِ في السُّورةِ الأُخرى؛ ووجْهُ ذلك: أنَّه لمَّا قرُبَ مرجِعُه هنا في سُورةِ (الإسراءِ)، وهو الرَّبُّ في قولِه المُتقدِّمِ ذِكْرُه في الآيةِ الأُولى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ؛ عُبِّرَ عنه مُضمَرًا مُناسبةً، ولم يكُنْ ليُناسِبَ الظَّاهِرُ هنا، ولمَّا بَعُدَ مرجِعُ الضَّميرِ في سُورةِ (سبَأٍ) لو أُتِيَ به، أُتِيَ بالاسمِ الظَّاهرِ؛ فآيةُ سبَأٍ تقدَّمَ قبلَها قولُه تَعالى مُخبِرًا عن الكافرينَ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ [سبأ: 20] ، ثمَّ قال بعدَ آيةٍ من تَمامِ الآيةِ الَّتي قبلَها: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سبأ: 22] ؛ فجِيءَ بالاسمِ الظَّاهرِ؛ ليكونَ أبعَدَ على إيهامِ عودةِ الضَّميرِ ورُجوعِه إلى المُتَّبَعِ لهم في الآيةِ المُتقدِّمةِ، فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ .

- ومن المُناسبةِ الحَسنةِ أيضًا: وُرودُ قولِه: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ قبلَ قولِه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ، بينما ورَدَ قبلَ آيةِ (سبأٍ) قولُه تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20] ؛ فخُصَّت آيةُ (سبَأٍ) بعودةِ الاسمِ ظاهرًا دونَ آيةِ (الإسراءِ)؛ ووجْهُ ذلك: أنَّه ورَدَ ذِكْرُه في (الإسراءِ) مُحذَّرًا منه موصوفًا بنَزغِه وعداوتِه، مع أنَّ الآيةَ خِطابٌ بأمْرِ المُؤمنين بقولِه: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 53] ، والإضافةُ في قولِه: وَقُلْ لِعِبَادِي إضافةُ تَخصيصٍ، والأمْرُ أمْرٌ بما هو أوْلى، وليس يُواجَهُ ولا يُخاطَبُ بها إلَّا المُؤمنون، ثمَّ إنَّها أُتْبِعَت بما يُلائِمُ الآيةَ المُتكلَّمَ فيها أجَلَّ مُلاءمةٍ. وأمَّا وُرودُ ذكْرِ إبليسَ في سُورةِ (سبَأٍ) فمُتَّصلٌ بالآيةِ، وإبليسُ فيها موصوفٌ بأنَّه اتُّبِعَ، وأنَّه صدَّقَ ظنَّه على المذكورينَ، والآيةُ إخبارٌ عن الكُفَّارِ، والكلامُ كلُّه إعلامٌ بحالِهم إلى قولِه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [سبأ: 22] ، فهذا الاعتراضُ غيرُ لازمٍ، ووُرودُ كلٍّ من الآيتينِ على أعلى تناسُبٍ وأجَلِّ مُلاءمةٍ، ولو قُدِّرَ عكْسُ الواردِ لَمَا صَحَّ على الجاري المُطَّردِ في نظْمِ الكتابِ العزيزِ .

5- قَولُه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا

- قولُه: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ذُكِرَ خوفُ العذابِ بعدَ رجاءِ الرَّحمةِ؛ للإشارةِ إلى أنَّهم في موقفِ الأدبِ مع ربِّهم، فلا يَزيدُهم القُربُ من رِضاهُ إلَّا إجلالًا له، وخوفًا من غضَبِه. وهو تَعريضٌ بالمُشركين الَّذين رَكِبوا رُؤوسَهم، وتوغَّلوا في الغُرورِ، فزَعموا أنَّ شُركاءَهم شُفعاؤُهم عند اللهِ .

- وجُملةُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا تَذييلٌ

==================

ورةُ الإسراءِ

الآيات (58-60)

ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات:

 

مَسْطُورًا: أي: مَكتوبًا مَحفوظًا، وأصْلُ (سطر): يدُلُّ على اصطِفافِ الشَّيءِ

.

فِتْنَةً: أي: اختِبارًا وابتِلاءً، مِن الفَتنِ: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودتُه مِن رداءتِه .

طُغْيَانًا: أي: تماديًا وغَيًّا، والطُّغيانُ: مُجاوزةُ الحَدِّ في العِصيانِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يتوعَّدُ اللهُ الكفَّارَ بأنَّه ما من قريةٍ كافرةٍ مُكَذِّبةٍ للرُّسُلِ إلَّا وسيُنزِلُ بها عقابَه بالهلاكِ في الدُّنيا قبلَ يومِ القيامةِ، أو بالعذابِ الشَّديدِ لأهلِها، كتابٌ كتَبَه اللهُ وقَضاءٌ أبرَمَه لا بُدَّ مِن وقوعِه، وهو مَسطورٌ في اللَّوحِ المحفوظِ.

ثم يُبيِّنُ الله تعالى بعضَ مظاهرِ فضلِه على هذه الأُمةِ، فيقولُ: وما منعَنا مِن إنزالِ المُعجِزاتِ التي سألها المُشرِكون إلَّا تكذيبُ مَن سبَقَهم من الأُمَم، فقد أجابهم اللهُ إلى ما طَلَبوا فكذَّبوا وهَلَكوا.

ثمَّ ذكَر الله تعالى مثالًا على ذلك؛ قومَ صالحٍ، فقال: وأعطَينا ثمودَ -وهم قَومُ صالحٍ- النَّاقةَ مُعجِزةً واضِحةً لهم، فكَفَروا بها فأهلَكْناهم. وما نرسِلُ بالآياتِ إلَّا تخويفًا للعبادِ؛ لِيَعتَبِروا ويتذَكَّروا.

ثمَّ ذكَر تعالى ما يزيدُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثباتًا، ويقينًا، فقال: واذكُرْ -يا محمَّدُ- حين قُلْنا لك: إنَّ رَبَّك أحاط بالنَّاسِ عِلمًا وقُدرةً، وما جعَلْنا الرُّؤيا التي أريناكها عِيانًا ليلةَ الإسراءِ والمعراجِ إلَّا اختِبارًا وبلاءً للنَّاسِ؛ ليتمَيَّزَ كافِرُهم مِن مُؤمِنِهم، وما جعَلْنا شَجَرةَ الزقُّومِ الملعونةَ التي ذُكِرَت في القرآنِ إلَّا ابتلاءً للنَّاسِ، ونخوِّفُ المُشرِكين بأنواعِ العذابِ والآياتِ، ولا يزيدُهم التَّخويفُ إلَّا تماديًا في الكُفرِ والضَّلالِ.

تفسير الآيات:

 

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قال الله تعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57] ، بيَّن أنَّ كُلَّ قريةٍ من قرى الكفارِ مع أهلِها فلا بدَّ أن يرجِعَ حالُها إلى أحَدِ أمرَينِ: إمَّا الإهلاكِ، وإمَّا التَّعذيبِ

.

وأيضًا لما عَرَّض بالتَّهديدِ للمشركينَ في قولِه: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57] ، وتحدَّاهم بقولِه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ [الإسراء: 56] جاء بصريحِ التَّهديدِ على مَسْمَعٍ منهم ، فقال:

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا.

أي: وما مِن قَريةٍ مِن القُرَى إلَّا سنُهلِكُ أهلَها بعذابِ الاستِئصالِ قبلَ وُقوعِ يومِ القيامةِ، أو نعَذِّبُهم عذابًا شَديدًا بتَسليطِ عَدُوٍّ عليهم، أو بإصابتِهم بالجُوعِ أو بالخَوفِ أو بالأمراضِ وغَيرِها؛ وذلك بسَببِ كُفرِهم أو عِصيانِهم .

كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 11 - 15].

وقال سُبحانَه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق: 8، 9].

كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا.

أي: إنَّ هَلاكَ كُلِّ قَريةٍ أو تعذيبَها بعذابٍ شَديدٍ قبلَ يومِ القيامةِ أمرٌ مَكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ، لا بُدَّ مِن وُقوعِه لا محالةَ .

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ الدَّليلَ على فسادِ قَولِ المُشرِكين، وأتبَعَه بالوَعيدِ؛ أتبَعَه بذِكرِ مَسألةِ النبُوَّةِ .

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.

سبَبُ النُّزولِ:

عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((سأل أهلُ مكَّةَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أن يَجعلَ لهم الصَّفا ذهبًا، وأن يُنَحِّيَ الجبالَ عنهم فيَزدَرِعوا، فقيل له: إنْ شِئتَ أن تَستأنِيَ بهم، وإن شِئتَ أن تُؤتيَهم الذي سألوا، فإن كفَروا أُهلِكوا كما أهلكْتُ مَن قبلَهم، قال: لا، بل أستأني بهم، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ هذه الآيةَ: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً )) .

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.

أي: وما منَعَنا أن نأتيَ بالآياتِ التي يقتَرِحُها كُفَّارُ قَومِك -يا مُحمَّدُ- إلَّا تكذيبُ الأوَّلينَ بها بعدَ أن سألوها، فكَذَّبوا فعَجَّلْنا بهلاكِهم، فإذا كذَّبَ بها قَومُك -يا محمَّدُ- استحَقُّوا ما استحَقَّه أولئك مِن الهلاكِ والعذابِ؛ فليس لهم مَصلحةٌ في الإرسالِ بها، بل حِكمتُه سُبحانَه تأبى ذلك .

وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا.

مناسبتُها لما قبلَها:

لَمَّا أخبَرَ الله تعالى بأنَّ الأوَّلينَ كذَّبوا بالآياتِ المُقترَحةِ؛ عيَّنَ منها ناقةَ صالحٍ؛ لأنَّ آثارَ ديارِهم الهالكةِ باقيةٌ في بلادِ العربِ، قَريبةٌ من حُدودِهم، يُبْصِرُها صادِرُهم ووارِدُهم .

وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا.

أي: وآتَينا ثمودَ النَّاقةَ آيةً وحُجَّةً واضِحةً مُوجِبةً للتبصُّرِ واليقينِ، ودالَّةً على وحدانيَّةِ الله تعالى وقُدرتِه، وصِدقِ رَسولِه صالحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فكَفَروا باللهِ، ووقَعوا في الظُّلمِ بقَتلِها، فلمَّا لم يُؤمِنوا كان في إجابتِهم إلى ما سألوا من الآياتِ هلاكُهم واستِئصالُهم !

كما قال تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف: 77، 78].

وقال سُبحانَه: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [الشمس: 13، 14].

وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا.

أي: وما نُرسِلُ بالآياتِ الموجبةِ للعِبَرِ والعِظاتِ إلَّا تَخويفًا للعبادِ؛ ليُؤمِنوا، ويرتَدِعوا عمَّا هم عليه .

عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((خَسَفَت الشَّمسُ فقام النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَزِعًا، يخشَى أن تكونَ السَّاعةُ! فأتَى المسجِدَ فصَلَّى بأطوَلِ قيامٍ ورُكوعٍ وسُجودٍ رأيتُه قطُّ يفعَلُه، وقال: هذه الآياتُ التي يُرسِلُ اللهُ لا تكونُ لِموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، ولكِنْ يخَوِّفُ اللهُ به عِبادَه، فإذا رأيتُم شيئًا مِن ذلك فافزَعوا إلى ذِكرِه، ودُعائِه، واستِغفارِه )) .

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا طالبوا الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالآياتِ المقترحةِ، وأخبَر الله بالمصلحةِ في عدمِ المجيءِ بها طعَن الكفارُ فيه، وقالوا: لو كان رسولًا حقًّا لأتَى بالآياتِ المقترحةِ؛ فبيَّن الله أنَّه ينصرُه ويؤيِّدُه، وأنَّه أحاطَ بالناسِ ، فقال تعالى:

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ.

أي: وإذْ قُلْنا لك - يا محمَّدُ: إنَّ رَبَّك مُحيطٌ بالنَّاسِ بقُدرتِه وعِلمِه؛ فهم في قَبضتِه، وتحتَ مَشيئتِه، واللهُ يعصِمُك منهم حتى تبَلِّغَ رِسالتَه؛ فلا تَخشَ منهم أحدًا، وامضِ لِما أمَرْناك به مِن تبليغِ رِسالتِنا .

كما قال تعالى: يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] .

وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ.

أي: وما جعَلْنا رُؤيا عَينيك -يا محمَّدُ- التي أريناكَ ليلةَ الإسراءِ والمعراجِ مِن الغَرائبِ والعَجائِبِ إلَّا اختِبارًا وبلاءً للنَّاسِ؛ ليتبيَّنَ مَن يُصَدِّقُك ومَن يُكَذِّبُك .

كما قال تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم: 11 - 18] .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما في قَولِه تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال: (هي رُؤيا عينٍ، أُريَها رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةَ أُسرِيَ به إلى بيتِ المقدِسِ) .

وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ.

أي: وما جعَلْنا الشَّجَرةَ الملعونةَ في القُرآنِ -وهي شَجرةُ الزقُّومِ النابتةُ في الجَحيمِ- إلَّا فِتنةً للنَّاسِ أيضًا؛ ليتبيَّنَ مَن يُصَدِّقُ بها، ومَن يكَذِّبُ ويَستهزِئُ بها؛ إذ قال المُشرِكون: يخبِرُنا مُحمَّدٌ أنَّ في النَّارِ شَجرةً نابتةً، والنَّارُ تأكُلُ الشَّجَرَ، فكيف تَنبُتُ فيها ؟!

كما قال تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [الصافات: 62 - 67] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43 - 46] .

وقال عزَّ وجلَّ: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة: 51 - 56] .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قال: (هي شَجرةُ الزقُّومِ) .

وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا.

أي: ونُخوِّفُ المُشرِكين بما نتوعَّدُهم به مِن العَذابِ، فما يَزيدُهم تخويفُنا لهم إلَّا تماديًا في الكُفرِ والضَّلالِ

 

!

كما قال تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا [المائدة: 64] .

الفوائد التربوية:

 

قَولُ الله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا، أي: ما مِن قَريةٍ مِن القُرى المكَذِّبةِ للرُّسُلِ إلَّا لا بُدَّ أن يُصيبَهم هلاكٌ قَبلَ يَومِ القيامةِ، أو عَذابٌ شَديدٌ، كِتابٌ كَتَبه اللهُ وقَضاءٌ أبرَمَه لا بدَّ مِن وُقوعِه؛ فلْيُبادِرِ المكَذِّبون بالإنابةِ إلى اللهِ، وتَصديقِ رُسُلِه قبل أن تَتِمَّ عليهم كَلِمةُ العَذابِ، ويحِقَّ عليهم القَولُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ دَليلٌ على تشريفِ هذه الأمَّةِ، وتفضيلِ رسولِها على سائرِ الرُّسُلِ -صلواتُ الله عليه وعليهم-؛ وذلك أنَّه جلَّ جلالُه كان مِن حُكْمِه في الأممِ السالفةِ أنْ نَزَّلَ العذابَ بكلِّ مَن كَفَر بآياتِه، فصرفَه عن هذه الأُمَّةِ بتركِ إرسالِ الآياتِ المُوجِبةِ للعذابِ على مَن كَفَر بها

.

2- قوله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ إن قال قَائِلٌ: كَيفَ يجوزُ ألا يُرْسِلَ الله الآياتِ لأنَّ الأوَّلينَ كذَّبوا بها؟ وما وَجهُ الامتناعِ عن إرسالِ الآياتِ بتكذيبِ الأوَّلينَ؟

والجوابُ مِن وَجهينِ:

أحدهما: -وهو المعروفُ- وما منعَنا أن نرسلَ بالآياتِ التي اقترَحها الكفَّارُ.

والجوابُ الثَّاني: أنَّ «إِلَّا» محذوفٌ، ومَعْناهُ: وما منعَنا من إرسالِ الآياتِ، وإن كذَّب بها الأولونَ، يعني: أنَّ تكذيبَ الأوَّلينَ لا يمنعُنا مِن إرسالِ الآياتِ .

3- قَولُ الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا فيه سُؤالٌ: المقصودُ الأعظَمُ مِن إظهارِ الآياتِ أن يُستَدَلَّ بها على صِدقِ المدَّعي، فكيف حصَرَ المقصودَ مِن إظهارِها في التَّخويفِ؟

الجوابُ: المقصودُ أنَّ مُدَّعي النبُوَّةِ إذا أظهر الآيةَ فإذا سَمِع الخَلقُ أنَّه أظهَرَ آيةً فهم لا يَعلَمون أنَّ تلك الآيةَ مُعجِزةٌ أو مَخُوفةٌ، إلَّا أنَّهم يجوِّزون كَونَها معجزةً، وبتقديرِ أن تكونَ مُعجِزةً فلو لم يتفَكَّروا فيها، ولم يستَدِلُّوا بها على الصِّدقِ، لاستحَقُّوا العِقابَ الشَّديدَ، فهذا هو الخَوفُ الذي يحمِلُهم على التفَكُّرِ والتأمُّلِ في تلك المُعجِزاتِ .

4- قولُه: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إنْ قيل: ليس في القُرآنِ لعْنُ شجرةٍ؟

قيل: فيه إضمارٌ تَقديرُه: والشَّجرةَ الملعونةَ المذكورةَ في القُرآنِ، أو معناه: المَلْعونُ آكِلُوها وهم الكفَرةُ. أو الْمَلْعُونَةَ بمعنى المذمومةِ، وهي مَذمومةٌ في القُرآنِ بقولِه تعالى: إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 43، 44]، وبقولِه تعالى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات: 65]. أو الْمَلْعُونَةَ بمعنى المُبْعَدةِ؛ لأنَّ اللَّعنَ لُغَةً: الطَّردُ والإبعادُ، وهذه الشَّجرةُ مُبعَدةٌ عن مكانِ رحمةِ اللهِ تَعالى وهو الجنَّةُ؛ لأنَّها في قَعْرِ جهنَّمَ، وهذا الإبعادُ مذكورٌ في القُرآنِ بقولِه تَعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات: 64] .

5- قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ والمعنى: إذا كان هذان الأمران قد صارا فتنةً للناسِ حتى استلجَّ الكفارُ بكفرِهم، وازداد شرُّهم، وبعضُ مَن كان إيمانُه ضعيفًا رجَع عنه بسببِ أنَّ ما أخبرهم به مِن الأمورِ التي كانت ليلةَ الإسراءِ ومِن الإسراءِ مِن المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصَى كان خارقًا للعادةِ، والإخبارُ بوجودِ شجرةٍ تنبتُ في أصلِ الجحيمِ أيضًا مِن الخوارقِ، فهذا الذي أوجَب لهم التكذيبَ، فكيفَ لو شاهدوا الآياتِ العظيمةَ، والخوارقَ الجسيمةَ، أليس ذلك أولَى أن يزدادَ بسببِه شرُّهم؟! فلذلك رحِمهم الله وصرَفها عنهم، ومِن هنا تعلمُ أنَّ عدمَ التصريحِ في الكتابِ والسنةِ بذكرِ الأمورِ العظيمةِ التي حدثَتْ في الأزمنةِ المتأخرةِ أولَى وأحسنُ؛ لأنَّ الأمورَ التي لم يشاهدِ الناسُ لها نظيرًا ربما لا تقبلُها عقولُهم، لو أُخبِروا بها قبلَ وقوعِها، فيكونُ ذلك ريبًا في قلوبِ بعضِ المؤمنينَ، ومانعًا يمنعُ مَن لم يدخُلِ الإسلامَ ومنفرًا عنه، بل ذكَر الله ألفاظًا عامةً تتناولُ جميعَ ما يكونُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا

- قولُه: مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فيه التَّقييدُ بكونِه قبلَ يومِ القيامةِ؛ زيادةً في الإنذارِ والوعيدِ

.

2- قوله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا

- قوله: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً خُصَّت ثمودُ مِن ذلك الهُدى والبصيرةِ بمزيدٍ؛ ولهذا لَمَّا قرَنَهم بقومِ عادٍ قال: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، ثمَّ قال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى؛ ولهذا أمكن عادًا المكابرةُ وأن يقولوا لنبيِّهم: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ولم يمكِنْ ذلك ثمودَ، وقد رأوا البيِّنةَ عِيانًا، وصارت لهم بمنزلةِ رُؤيةِ الشَّمسِ والقَمَرِ، فردُّوا الهدى بعدَ تيقُّنِه والبصيرةِ التَّامَّةِ، فكان في تخصيصِهم بالذِّكرِ تحذيرٌ لكُلِّ من عرف الحَقَّ ولم يتَّبِعْه، وهذا داءُ أكثَرِ الهالكين، وهو أعَمُّ الأدواءِ وأغلَبُها على أهلِ الأرضِ، والله أعلمُ .

وأيضًا: خَصَّ آيةَ ثمودَ بالذِّكرِ؛ تحذيرًا بسبَبِ أنَّهم عربٌ اقتَرَحوا ما كان سَببًا لاستِئصالِهم، ولشُهرةِ أمرِهم بين العَرَبِ؛ لأنَّ لهم مِن عِلمِها وعِلمِ مَساكنِهم بقُربها إليهم وكَونِها في بلادِهم ما ليس لهم مِن عِلمِ غَيرِها .

- في قولِه: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا فيه قصْرُ الإرسالِ بالآياتِ على علَّةِ التَّخويفِ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ، أي: لا مُباراةً بين الرُّسلِ وأقوامِهم، أو لا طمعًا في إيمانِ الأقوامِ؛ فقد علِمْنا أنَّهم لا يُؤمِنون .

3- قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا

- في قولِه: إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ أَحَاطَ بمعنى يُحيطُ، عُبِّرَ عن المُستقبلِ بالماضي؛ لأنَّه واقعٌ لا مَحالةَ .

- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ فيه مجِيءُ المُسنَدِ إليه بلفظِ الرَّبِّ مُضافًا إلى ضميرِ الرَّسولِ؛ إشارةً إلى أنَّ هذا القولَ مَسوقٌ مَساقَ التَّكرِمَةِ للنَّبيِّ وتَصبيرِه، وأنَّه بمَحَلِّ عِنايةِ اللهِ به؛ إذ هو ربُّه وهو ناصرُه .

- قولُه: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ لعلَّه إنَّما سمَّاه رؤيا -وهي للمنامِ- على وجهِ التشبيهِ، لما فيه مِن الخوارقِ التي هي بالمنامِ أليقُ في مجاري العاداتِ .

- وفي قولِه: وَنُخَوِّفُهُمْ أُوثِرَ صِيغَةُ المُضارعةِ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والاستمرارِ . وفي قولِه: يَزِيدُهُمْ أنَّه كلَّما تجدَّدَ التَّخويفُ تجدَّدَ طُغيانُهم وعظُمَ

====================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (61-65)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات :

 

أَرَأَيْتَكَ: أي: أخبِرْني، وهي كَلِمةٌ تُقالُ عندَ الاستِخبارِ

.

لَأَحْتَنِكَنَّ: أي: لَأستَولِيَنَّ عليهم بالإغواءِ، ولَأستأصِلَنَّهم؛ مَأْخوذٌ منِ قولِهم: احتَنَكَ الجرادُ الأرضَ: إذا أتى على نَبْتِها، وجرَد ما عليها أكلًا. وقيل: هو مِن قَولِهم: حَنَك الدَّابَّةَ يَحنُكُها: إذا ربطَ حَبلًا في حَنَكِها الأسفَلِ، يَقودُها به حيثُ يشاءُ، وأصلُ الحَنَكِ: حَنَكُ الإنسانِ، أقصَى فَمِه .

مَوْفُورًا: أي: متمَّمًا، أو تامًّا وافيًا، وأصلُ (وفر): يدُلُّ على كَثرةٍ وتمامٍ .

وَاسْتَفْزِزْ: أي: أزعِجْ واستَخِفَّ، وأصلُ (فزز): يدُلُّ على خِفَّةٍ وما قارَبَها .

وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ: أي: اجْمَعْ عليهم ما قَدَرْتَ عليه، وأصلُ (جلب): يدُلُّ على سَوقِ الشَّيءِ .

بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ: أي: بأعوانِك مِن راكبٍ وماشٍ، والرَّجِلُ والراجِلُ: الماشي، مشتقَّةٌ مِن الرِّجْلِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يذكرُ الله تعالى جانبًا مِن قصةِ آدمَ وإبليسَ، مسلِّيًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم فيقولُ: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حين قُلْنا للمَلائِكةِ: اسجُدوا لآدَمَ، فسَجَدوا جميعًا إلَّا إبليسَ، عصى وامتنَعَ عن السُّجودِ قائِلًا باستِكبارٍ: أأسجُدُ له وهو مخلوقٌ مِن طينٍ؟ وقال جُرأةً وكُفرًا: أخبِرْني عن هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ، لِمَ كَرَّمْتَه عَليَّ، وقد خلقْتَني من نارٍ وخلَقْتَه من طينٍ؟! لئِنْ أخَّرْتني حَيًّا إلى يومِ القيامةِ لأستولِيَنَّ على ذُرِّيَّتِه بالإضلالِ والإغواءِ إلَّا المُخلَصِينَ منهم.

قال اللهُ تعالى لإبليسَ: اذهَبْ، فمَن أطاعك مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فإنَّ جهنَّمَ جزاؤُكم جميعًا جزاءً مُتمَّمًا لا نَقصَ فيه، واستَخْفِفْ مَن تَستطيعُ استِخفافَه منهم بدَعوتِه إلى مَعصِيتي، واجمَعْ عليهم جُنودَك مِن كُلِّ راكبٍ وماشٍ، ولْيكُنْ لك نَصيبٌ معهم في كُلِّ مالٍ أو ولَدٍ تعَلَّقَت به مَعصيةُ اللهِ عزَّ وجلَّ، وعِدْهم بالوُعودِ الكاذِبةِ، وما تَعِدُهم إلَّا وعودًا باطِلةً.

إنَّ عِباديَ المُخلَصِينَ الصَّالحينَ ليس لك تسلُّطٌ عليهم ولا قُدرةٌ على إغوائِهم، وكفى برَبِّك -يا مُحمَّدُ- حافِظًا وعاصِمًا للمُؤمِنينَ مِن كيدِ الشَّيطانِ ومَكْرِه.

تفسير الآيات:

 

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان في مِحنةٍ عَظيمةٍ مِن قَومِه وأهلِ زَمانِه؛ بيَّنَ أنَّ حالَ الأنبياءِ مع أهلِ زَمانِهم كذلك؛ وأوَّلُهم هو آدَمُ، ثمَّ إنَّه كان في مِحنةٍ شديدةٍ مِن إبليسَ

.

وأيضًا فإنَّ القَومَ إنَّما نازَعوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعانَدوه، واقتَرَحوا عليه الاقتِراحاتِ الباطِلةَ لأمرَينِ: الكِبْرِ والحَسَدِ؛ أمَّا الكِبْرُ فلِأنَّ تكَبُّرَهم كان يَمنَعُهم مِن الانقيادِ، وأمَّا الحسَدُ فلِأنَّهم كانوا يَحسُدونَه على ما آتاه اللهُ مِن النبُوَّةِ والدَّرَجةِ العاليةِ، فبيَّنَ تعالى أنَّ هذا الكِبرَ والحَسَدَ هما اللَّذانِ حَمَلا إبليسَ على الخُروجِ مِن الإيمانِ، والدُّخولِ في الكُفرِ، فهذه بَلِيَّةٌ قَديمةٌ، ومِحنةٌ عَظيمةٌ للخَلقِ .

وأيضًا فإنَّ الله تعالى لَمَّا وصف الكافرينَ بقَولِه: فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء: 60] ؛ بيَّن ما هو السَّبَبُ لحُصولِ هذا الطُّغيانِ، وهو قَولُ إبليسَ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 62] ، فلأجلِ هذا المقصودِ ذكَرَ اللهُ تعالى قِصَّةَ إبليسَ وآدمَ .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ.

أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حين قُلْنا للمَلائِكةِ: اسجُدوا لآدَمَ، فسجَدَ الملائِكةُ كُلُّهم له إلَّا إبليسَ، عصَى أمْرَ اللهِ فلم يَسجُدْ؛ حَسَدًا له وكِبْرًا، مع رُؤيتِه لآياتِ اللهِ وعَظَمتِه وقُدرتِه، فلم يَنفَعْه ما عَلِمَه ورآه .

كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34] .

قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا.

أي: قال إبليسُ مُخاطِبًا ربَّه باستِنكارٍ: أتأمُرُني أن أسجُدَ لِمَن خَلقْتَه مِن طِينٍ ؟!

قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62).

قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ.

أي: قال إبليسُ مُخاطِبًا ربَّه بكُلِّ جُرأةٍ: أخبِرْني أهذا هو الذي فضَّلْتَه عليَّ؟ فلِمَ تأمُرُني بالسُّجودِ له وأنا خَيرٌ منه ؟!

كما قال تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] .

لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا.

أي: قال إبليسُ: أُقسِمُ بك لَئِنْ أخَّرْتَ إهلاكي إلى يومِ القيامةِ لأَستولِينَّ على ذرِّيَّةِ آدَمَ، فأُضِلَّنَّهم عن طريقِ الحَقِّ، وأقودَنَّهم إلى حيثُ أشاءُ مِن طُرُقِ الباطلِ، إلَّا قليلًا منهم .

كما قال تعالى: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء: 118- 119] .

وقال سُبحانَه: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 14 - 17] .

وقال عزَّ وجلَّ: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 36 - 40] .

وقال جلَّ جلالُه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 79 - 83] .

قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63).

أي: قال اللهُ لإبليسَ: اذهَبْ فقد أخَّرتُ إهلاكَك، فمن أطاعَك مِنْ ذُرِّيةِ آدَمَ فإنَّ جهنَّمَ جزاؤُكم على أعمالِكم جزاءً مُتمَّمًا، مُكمَّلًا، لا نَقْصَ فيه .

كما قال تعالى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84- 85] .

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64).

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ.

أي: قال اللهُ تعالى لإبليسَ آمِرًا له على سَبيلِ التَّهديدِ بعاقِبتِه الوَخيمةِ : واستَخِفَّ وأزعِجْ -يا إبليسُ- مَن استطَعْتَ أن تَستخِفَّه مِن بني آدَمَ بدُعائِك لهم إلى مَعصيةِ اللهِ .

وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ.

أي: واجمَعْ -يا إبليسُ- على بني آدَمَ جُنودَك -الركبانَ منهم والمشاةَ- الذين يَدعُونَهم إلى مَعصيةِ اللهِ، فيَحمِلوا عليهم بكُلِّ ما يَقدِرونَ عليه مِن وَسائِلِ الفِتنةِ والكَيدِ لإضلالِهم .

كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] .

وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ إبليسَ يَضَعُ عَرشَه على الماءِ، ثمَّ يَبعَثُ سَراياه، فأدْناهم منه مَنزِلةً أعظَمُهم فِتنةً، يجيءُ أحَدُهم فيَقولُ: فعَلْتُ كذا وكذا، فيقولُ: ما صنعْتَ شَيئًا! قال: ثم يجيءُ أحَدُهم فيقولُ: ما تركْتُه حتى فَرَّقتُ بينَه وبينَ امرأتِه، قال: فيُدنيه منه، ويَقولُ: نِعْمَ أنتَ !!)) .

وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ.

أي: ولْيكُنْ لك نَصيبٌ معهم في كُلِّ مالٍ أو ولَدٍ تعَلَّقَت به مَعصيةُ اللهِ عزَّ وجلَّ .

كما قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام: 136 - 140] .

وقال سُبحانَه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس: 59] .

وعن عِياضِ بنِ حِمارٍ المُجاشِعيِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ألَا إنَّ رَبِّي أمَرَني أن أعَلِّمَكم ما جَهِلتُم مِمَّا عَلَّمَني يومي هذا: كُلُّ مالٍ نَحَلْتُه عبدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلَقتُ عبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّهم أتَتْهم الشَّياطينُ فاجتالَتْهم عن دِينِهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلطانًا ) ) .

وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لو أنَّ أحَدَكم إذا أتى أهْلَه قال: جَنِّبْني الشَّيطانَ وجَنِّبِ الشَّيطانَ ما رزَقْتَني؛ فإنْ كان بينهما ولَدٌ لم يَضُرَّه الشَّيطانُ، ولم يُسلَّطْ عليه )) .

وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما، أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إذا دخَلَ الرَّجُلُ بَيتَه فذكَرَ اللهَ عند دُخولِه وعندَ طعامِه، قال الشَّيطانُ: لا مَبيتَ لكم ولا عَشاءَ، وإذا دخَلَ فلم يَذكُرِ اللهَ عند دُخولِه، قال الشَّيطانُ: أدرَكْتُم المَبيتَ، وإذا لم يَذكُرِ اللهَ عند طَعامِه، قال: أدرَكْتُم المَبيتَ والعَشاءَ )) .

وعن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كنَّا إذا حَضَرْنا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طعامًا، لم نضَعْ أيديَنا حتى يبدأَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَضَعَ يَدَه، وإنَّا حَضَرْنا معه مرَّةً طعامًا، فجاءَتْ جاريةٌ كأنَّها تُدفَعُ، فذهَبَت لِتَضَعَ يَدَها في الطَّعامِ، فأخَذ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدِها، ثمَّ جاء أعرابيٌّ كأنَّما يُدفَعُ، فأخَذَ بِيَدِه، فقال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ الشَّيطانَ يَستَحِلُّ الطَّعامَ أنْ لا يُذكَرَ اسمُ اللهِ عليه، وإنَّه جاء بهذه الجاريةِ لِيَستَحِلَّ بها، فأخَذْتُ بيَدِها، فجاء بهذا الأعرابيِّ ليَستَحِلَّ به فأخذْتُ بيَدِه، والذي نفسي بيَدِه إنَّ يَدَه في يَدِي مع يَدِها )) .

وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا.

أي: وعِدْهم -يا إبليسُ- بالوُعودِ الكاذِبةِ، وما يَعِدُهم الشَّيطانُ البَعيدُ عن الرَّحمةِ وكُلِّ خيرٍ إلَّا أمانيَّ باطلةً في الحَقيقةِ .

كما قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 120] .

وقال سُبحانَه: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22] .

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عَمَّا يريدُ الشَّيطانُ أن يَفعَلَ بالعبادِ، ذكَرَ ما يُعتَصَمُ به مِن فِتنَتِه، وهو عُبوديَّةُ اللهِ، والقيامُ بالإيمانِ، والتوكُّلُ ، فقال تعالى:

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.

أي: إنَّ عبادي الصَّالحينَ الذين يَعبُدونَني وَحدي مُخلِصينَ لي الدِّينَ، ليس لك عليهم -يا إبليسُ- تَسَلُّطٌ ولا حُجَّةٌ، ولا تَستطيعُ إغواءَهم أو إضلالَهم؛ فاللهُ يَحفَظُهم ويَحرُسُهم ويُؤَيِّدُهم .

كما قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42] .

وقال سُبحانَه: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99- 100] .

وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا.

أي: وكفى برَبِّك -يا مُحمَّدُ- حافِظًا مِن كيدِ الشَّياطينِ ومَكْرِهم، وناصِرًا ومُؤَيِّدًا للمُتوَكِّلينَ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال تعالى للشَّيطانِ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ فالصَّوتُ الشَّيطانيُّ يَستفِزُّ بني آدَمَ، وصَوتُ الشَّيطانِ كُلُّ صَوتٍ في غيرِ طاعة الله؛ فصَوتُ الغناءِ، وصَوتُ النَّوحِ، وصَوتُ المعازِفِ: كُلُّها من أصواتِ الشَّيطانِ، التي يَستفِزُّ بها بني آدمَ فيَستخِفُّهم ويُزعِجُهم؛ ولهذا قال السَّلَفُ في هذه الآية: (إنَّه الغِناءُ). ولا ريبَ أنَّه مِن أعظَمِ أصواتِ الشَّيطانِ التي يَستفِزُّ بها النُّفوسَ ويُزعِجُها ويُقلِقُها، وهو ضدُّ القرآنِ الذي تطمَئِنُّ به القلوبُ وتَسكُنُ وتُخبِتُ إلى رَبِّها؛ فصَوتُ القرآنِ يُسكِّنُ النفوسَ ويُطَمئِنُها ويُوقرُها، وصوتُ الغناءِ يَستفِزُّها ويُزعِجُها ويُهيِّجُها، وكذلك صوتُه الذي يَستفِزُّ به النفوسَ عند المصيبةِ، وهو النَّوحُ، فيستفزُّها بهذا الصَّوتِ إلى الحُزنِ والأسَفِ والسَّخَطِ بما قضى الله، ويستفزُّها بذلك الصَّوتِ إلى الشَّهوةِ والإرادةِ والرَّغبةِ فيما يُبغِضُه الله، فينهاها بصَوتِ النَّوحِ عَمَّا أمرَها الله به، ويأمُرُها بصَوتِ الغِناءِ بما نهاها اللهُ عنه، وهذا الصَّوتُ هو أحدُ الأسبابِ الخَمسةِ التي أقسم الشَّيطانُ أن يَحتنِكَ بها ذريةَ آدمَ ويستأصِلَهم إلَّا قليلًا، وهي استِفزازُهم بصَوتِه

؛ فصوتُ الشيطانِ يَستفِزُّ الناسَ، أي: يُحرِّكهم ويُزعِجُهم ويُثِيرُهم، وهذا أثرُ الصَّوتِ، وهو التَّحريكُ، كما أنَّه صادِرٌ عن الحَركةِ، فسبَبُه الحركةُ، وغايتُه الحَركةُ .

2- قال تعالى: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الإسراء: 64] فكُلُّ راكبٍ في مَعصيةِ اللهِ فهو خَيَّالةُ الشَّيطانِ، وكُلُّ ماشٍ في معصيةِ اللهِ فمِن رَجَّالتِه، وكلُّ مالٍ أُخِذ من غيرِ حِلِّه وأُخرِجَ في غيرِ حَقِّه، فهو شَريكُ صاحِبِه فيه، وكُلُّ ولدٍ مِن نطفةِ زِنًا، فهو شريكُ أبيه فيه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا هذه الآيةُ تَدُلُّ على أنَّ المعصومَ مَن عَصَمَه اللهُ تعالى، وأنَّ الإنسانَ لا يُمكِنُه أن يَحتَرِزَ بنَفسِه عن مواقِعِ الضَّلالةِ؛ لأنَّه لو كان الإقدامُ على الحَقِّ والإحجامُ عن الباطِلِ إنَّما يَحصُلُ للإنسانِ مِن نَفسِه، لوجَبَ أن يُقالَ: وكفى الإنسانَ نَفسُه في الاحترازِ عن الشَّيطانِ، فلمَّا لم يَقُلْ ذلك بل قال: وَكَفَى بِرَبِّكَ، عَلِمْنا أنَّ الكُلَّ مِنَ الله؛ ولهذا قال المُحَقِّقونَ: لا حَولَ عن مَعصيةِ اللهِ إلَّا بعِصمةِ اللهِ، ولا قُوَّةَ على طاعةِ اللهِ إلَّا بتَوفيقِ اللهِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قَولُه تعالى: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ، وبَراءةٌ لإبليسَ اللَّعينِ ممَّا يَنسُبونَه إليه مِن القُدرةِ على تَضليلِ الخَلقِ؛ ألَا تَراه كيف ألقى اللهُ الاستِثناءَ على لِسانِه حتى استَثنى القليلَ؟! عِلْمًا منه بأنَّ المعصومَ ومَن سبَقَ له الخَيرُ مِن رَبِّه لا سبيلَ له عليه، إنَّما سبيلُه على مَن حَقَّت عليه كَلِمةُ رَبِّه، فتَبِعَه وتوَلَّاه، وسبَقَ القَضاءُ عليه أن يكونَ معه في دارِ الهوانِ؛ قال اللهُ تبارك وتعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ وهذا السُّلطانُ منه على مُتَولِّيه المُشرِكينَ برَبِّهم، سُلطانُ تَسليطٍ لا اقتدارٍ بقُوَّتِه، ألا ترى أنَّ مِن الكُفَّارِ مَن قد سبَقَ له في عِلمِ اللهِ إيمانٌ، وانتِقالٌ مِن الكُفرِ إليه، فيَذهَبُ سُلطانُه حينَئذٍ عنه؟! فلو كان سُلطانًا بغَيرِ تَسليطٍ، لدام له عليه، أو كان على الجَميعِ، ولا يُستثنى القَليلُ، فهذا واضِحٌ لا بُعْدَ فيه، ومِمَّا يُؤَيَّدُ به أنَّه يُسَلَّطُ: قَولُه تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وليس يخلو قَولُه: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ مِن أنْ يكونَ واقِعًا على الجَميعِ مُؤمِنِهم وكافِرِهم، أو على المؤمِنِ دُونَ الكافِرِ؛ فإنْ كان واقِعًا على مُؤمِنِهم خاصَّةً فهم المُستَثنَونَ بالقَليلِ، وسُلطانُه زائِلٌ عنهم بكُلِّ حالٍ، وإن كان واقِعًا على جَميعِهم فقد صَحَّ أنَّ سُلطانَه على الكافِرِ سُلطانُ تَسليطٍ، وعِدَتَه عِدَةُ غُرورٍ

.

2- إنَّ المولودَ مِن حينِ يخرُجُ إلى الدُّنيا يبتَدِرُه الشَّيطانُ، ويضمُّه إليه ويحرِصُ على أن يَجعَلَه في قَبضتِه وتحت أسْرِه، ومن جُملةِ أوليائِه وحِزبِه؛ فهو أحرصُ شَيءٍ على هذا، وأكثَرُ المولودينَ مِن أقطاعِه وجُندِه، كما قال تعالى: وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَقَالَ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: 20] فكان المولودُ بصَدَدِ هذا الارتِهانِ، فشرعَ اللهُ سُبحانَه للوالدينِ أن يفكَّا رِهانَه بذِبْحٍ يكونُ فِداه، فإذا لم يُذبَحْ عنه بقِيَ مُرتَهَنًا به؛ فلهذا قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مع الغلامِ عَقيقةٌ، فأهريقُوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى)) ، فأمرَ بإراقةِ الدَّمِ عنه، الذي يخلُصُ به مِن الارتهانِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا

- قولُه: إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا استفهامُ إنكارٍ وتعجُّبٍ

. وبينَ قولِه: أَأَسْجُدُ وما قبلَه كلامٌ محذوفٌ، وكأنَّ تَقديرَه: قال: لِمَ لمْ تسجُدْ لآدمَ؟

- وجُملةُ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ استثناءَ إبليسَ مِن حُكْمِ السُّجودِ لم يُفِدْ أكثَرَ من عدَمِ السُّجودِ، وهذا يُثيرُ في نفْسِ السَّامعِ أنْ يسأَلَ عن سبَبِ التَّخلُّفِ عن هذا الحُكمِ منه. وقولُه: طِينًا إنَّما جعَلَ جنْسَ الطِّينِ حالًا منه؛ للإشارةِ إلى غَلبةِ العُنصرِ التُّرابيِّ عليه؛ لأنَّ ذلك أشدُّ في تَحقيرِه في نظَرِ إبليسَ .

- قولُه: لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا فيه التَّعبيرُ عن آدمَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالموصولِ (مَن)؛ لتَعليلِ إنكارِه بما في حيِّزِ الصِّلةِ .

2- قَولُه تعالى: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا أُعيدَ إنكارُ التَّفضيلِ بقولِه: أَرَأَيْتَكَ المُفيدِ الإنكارَ، وعلَّلَ الإنكارَ بإضمارِ المكْرِ لذُرِّيَّتِه؛ ولذلك فُصِلَت جُملةُ قَالَ أَرَأَيْتَكَ عن جُملةِ قَالَ أَأَسْجُدُ .

- قولُه: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ في الكلامِ حذْفٌ، والمعنى: أخبِرني عن هذا الَّذي كرَّمْتَه عليَّ، لِمَ كرَّمْتَه عليَّ، وقد خلَقْتَني من نارٍ وخلقْتَه من طينٍ؟ وحُذِفَ هذا؛ لِمَا في الكلامِ من الدَّليلِ عليه .

- اسمُ الإشارةِ هَذَا مُستعملٌ في التَّحقيرِ .

- قولُه: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا فيه الاقتصارُ على إغواءِ ذُرِّيَّةِ آدمَ، ولم يذكُرْ إغواءَ آدمَ وهو أوْلى بالذِّكرِ -إذ آدمُ هو أصْلُ عَداوةِ الشَّيطانِ النَّاشئةِ عن الحسَدِ من تَفضيلِه عليه-؛ لأنَّ هذا الكلامَ قاله بعدَ أنْ أَغوى آدمَ، وأُخْرِجَ من الجنَّةِ، فقد شَفى غليلَه منه، وبقِيَت العداوةُ مُسْترِسلةً في ذُرِّيَّةِ آدمَ .

- قولُه: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ... الكافُ في أَرَأَيْتَكَ لتأكيدِ الخِطابِ، ومُبالغةً في التَّنبيهِ ، وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قاله هنا بتَكريرِ الخطابِ، كنظيرِه في أَرَأَيْتَكُمْ في (الأنعامِ)؛ لدَلالتِه على أنَّ المُخاطَبَ به أمْرٌ عظيمٌ، وهو هنا كذلك؛ لأنَّ إبليسَ -لعنَهُ اللهُ- ضمِنَ بقولِه: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا إغواءَ أكثرِهم .

3- قَولُه تعالى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا

- قولُه: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا من حَقِّ الضَّميرِ في الجزاءِ جَزَاؤُكُمْ أنْ يكونَ على لفْظِ الغَيبةِ (جزاؤهم)؛ ليرجِعَ إلى مَنْ تَبِعَكَ، ولكنَّ التَّقديرَ: فإنَّ جهنَّمَ جزاؤُهم وجزاؤُك، ثمَّ غُلِّبَ المُخاطَبُ على الغائبِ، فقيل: جَزَاؤُكُمْ، فجُعِلَ الغائِبُ تَبَعًا للمخاطبِ، كما كان تَبَعًا له في المَعصيةِ والعُقوبةِ؛ فحَسُنَ أنْ يُجعَلَ تَبَعًا له في اللَّفظِ، وهذا مِن حُسْنِ ارتباطِ اللَّفظِ بالمَعنى واتِّصالِه به. ويجوزُ أنْ يكونَ للتَّابعينَ على طريقِ الالتِفاتِ .

- وفي قولِه: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا أُعيدَ جَزَاءً للتَّأكيدِ؛ اهتمامًا وفصاحةً، ولأنَّه أحسنُ في جريانِ وصْفِ الموفورِ على موصوفٍ مُتَّصلٍ به دونَ فصْلٍ .

4- قَولُه تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا

- قولُه: وَاسْتَفْزِزْ السِّينُ والتَّاءُ فيه للجَعلِ النَّاشئِ عن شِدَّةِ الطَّلبِ والحَثِّ . والأمْرُ في قولِه: وَاسْتَفْزِزْ، وقولِه: وَأَجْلِبْ، وقولِه: وَشَارِكْهُمْ، وقولِه: وَعِدْهُمْ؛ كلُّها بمعنى التَّهديدِ، كقولِه: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] .

- وفي قولِه: وَعِدْهُمْ حُذِفَ المفعولُ؛ للتَّعميمِ في الموعودِ به، والمقامُ دالٌّ على أنَّ المقصودَ أنْ يعِدَهم بما يَرْغبون؛ لأنَّ العِدَةَ هي التزامُ إعطاءِ المرغوبِ. وسمَّاهُ وعْدًا؛ لأنَّه يُوهِمُهم حُصولَه فيما يُسْتقبَلُ، فلا يَزالون يَنْتظِرونَه، كشأْنِ الكذَّابِ أنْ يَحتزِرَ عن الإخبارِ بالعاجلِ لقُربِ افتضاحِه، فيجعَلَ مواعيدَه كلَّها للمُستقبَلِ؛ ولذلك اعترَضَ بجُملةِ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا .

- قولُه: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا اعتراضٌ لبَيانِ شأْنِ مواعيدِه الباطلةِ ، وفيه التِفاتٌ إلى الغَيبةِ؛ لتَقويةِ معنى الاعتراضِ، مع ما فيه من صرْفِ الكلامِ عن خطابِه، وبيانِ شأْنِه للنَّاسِ، ومن الإشعارِ بعِلِّيَّةِ شَيطنتِه للغُرورِ، وهو تَزيينُ الخطأِ بما يُوهِمُ أنَّه صوابٌ . وكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (وما تَعِدُهم إلَّا غُرورًا)، ولكنَّه عُدِلَ عن ذلك؛ تَهوينًا لأمْرِه واستصغارًا لأمْرِ الغُرورِ الَّذي يعِدُهم به من جِهَةٍ، وليتولَّى الكلام على طريقِ الغَيبةِ، مُتحدِّثًا إلى النَّاسِ جميعًا؛ ليعلَمَ الجاهلُ، ويخلُدَ المُبْطِلُ إلى الصَّوابِ .

- قولُه: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا فيه إظهارُ اسمِ الشَّيطانِ دونُ أنْ يُؤْتَى بضَميرِه المُستتِرِ؛ لأنَّ هذا الاعتراضَ جُملةٌ مُستقِلَّةٌ؛ فلو كان فيها ضَميرٌ عائدٌ إلى ما في جُملةٍ أُخرى، لكان في النَّثرِ شِبْهُ عيبِ التَّضمينِ في الشِّعرِ، ولأنَّ هذه الجُملةَ جاريةٌ مَجْرى المثَلِ، فلا يحسُنُ اشتمالُها على ضَميرٍ ليس من أجزائِها .

5- قَولُه تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا

- قولُه: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا ناشئًا عن قولِه: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ، وقولِه: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ؛ فإنَّ مفهومَ فَمَنْ تَبِعَكَ ومَنِ اسْتَطَعْتَ ذُرِّيةٌ، من قَبيلِ مفهومِ الصِّفةِ، فيُفيدُ أنَّ فريقًا من ذُرِّيَّةِ آدمَ لا يتبَعُ إبليسَ، فلا يَحْتنِكُه. وهذا المفهومُ يُفيدُ أنَّ اللهَ قد عصَمَ أو حفِظَ هذا الفريقَ من الشَّيطانِ، وذلك يثيرُ سُؤالًا في خاطرِ إبليسَ؛ ليعلَمَ الحائلَ بينَه وبينَ ذلك الفريقِ بعدَ أنْ علِمَ في نفْسِه عِلْمًا إجماليًّا أنَّ فريقًا لا يحتنِكُه؛ لقولِه: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا، فوقعَتِ الإشارةُ إلى تَعيينِ هذا الفريقِ بالوصفِ وبالسَّببِ؛ فأمَّا الوصفُ ففي قولِه: عِبَادِي، وأمَّا السَّببُ ففي قولِه: وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا .

- والإضافةُ إليه تَعالى في قولِه: إِنَّ عِبَادِي إضافةُ تَشريفٍ .

- وجُملةُ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يجوزُ أنْ تكونَ تَكمِلةً لتَوبيخِ الشَّيطانِ؛ فيكونُ كافُ الخطابِ ضَميرَ الشَّيطانِ تَسجيلًا عليه بأنَّه عبدُ اللهِ، ويجوزُ أنْ تكونَ مُعترِضةً في آخرِ الكلامِ؛ فتكونُ كافُ الخطابِ ضَميرَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَقريبًا للنَّبيِّ بالإضافةِ إلى ضَميرِ اللهِ

=================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (66-69)

ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ

غريب الكلمات:

 

يُزْجِي: أي: يَسوقُ ويُسَيِّرُ، وأصلُ (زجي): يدُلُّ على تَسييرِ الشَّيءِ مِن غَيرِ حَبسٍ

.

حَاصِبًا: أي: حِجارةً، أو ريحًا عاصِفًا تَرمي بالحَصْباءِ، وهي الحَصَى الصِّغارُ، وأصلُ (حصب): يدُلُّ على الرَّميِ .

قَاصِفًا: ريحًا شَديدةً، تَكسِرُ كُلَّ شَيءٍ، وتُحَطِّمُه، وأصلُ (قصف): يدُلُّ على كَسرٍ لِشَيءٍ .

تَبِيعًا: تابعًا مُطالِبًا بالثَّأرِ لكم، وأصلُ (تبع): يدلُّ على التُّلُوِّ والقَفْوِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

بعدَ أن بيَّن الله تعالى لبنى آدمَ عداوةَ إبليسَ لهم، أتبَع ذلك ببيانِ جانبٍ مِن نِعَمِه تعالى عليهم، فقال: رَبُّكم -أيُّها النَّاسُ- هو الذي يُسَيِّرُ لكم السُّفُنَ في البَحرِ؛ لِتَطلُبوا رِزقَ اللهِ بالتِّجارةِ؛ إنَّه رَحيمٌ بعِبادِه، وإذا أصابَتْكم شِدَّةٌ في البَحرِ فخَشيتُم الغَرقَ والهَلاكَ، غاب عن عُقولِكم ما تَعبُدونَه مِن الآلهةِ، سوى اللهِ -عزَّ وجَلَّ- ودعوتُموه وَحدَه ليكشِفَ عنكم ما نزلَ بكم من سوءٍ، فلمَّا نجَّاكم إلى البَرِّ أعرَضْتُم عن شُكرِه والإخلاصِ له والتَّوحيدِ، وكان الإنسانُ جَحودًا نِعَمَ ربِّه عزَّ وجَلَّ.

ثمَّ بيَّن سبحانَه أنَّ قدرتَه لا يُعجِزُها شيءٌ، لا في البحرِ ولا في البرِّ ولا في غيرِ ذلك، فقال: أفأَمِنتُم أن تَنهارَ بكم الأرضُ في جانبِ البرِّ، أو يُرسِلَ اللهُ عليكم حِجارةً مِن السَّماءِ فتُهلِكَكم، ثمَّ لا تَجِدوا ناصرًا يُنقِذُكم مِن عَذابِه؟ أم أمِنتُم أن يُعيدَكم في البَحرِ مَرَّةً أخرى، فيُرسِلَ عليكم ريحًا شَديدةً، فيُغرِقَكم بسبَبِ كُفرِكم، ثمَّ لا تَجِدوا لكم علينا مَن يَتبَعُنا بثأرِكم؛ بسبَبِ إهلاكِنا لكم؟

تفسير الآيات:

 

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى وَصْفَ المُشرِكينَ في اعتِقادِهم في آلهَتِهم، وأنَّها تضُرُّ وتنفَعُ، وأتبَعَ ذلك بقِصَّةِ إبليسَ مع آدَمَ، وتَمكينِه مِن وَسْوسةِ ذُرِّيَّتِه، وتَسويلِه؛ ذكَر سبحانَه ما يدُلُّ مِن أفعالِه على وحدانيَّتِه، وأنَّه هو النَّافِعُ الضَّارُّ المتصَرِّفُ في خَلقِه بما يشاءُ، فذكَرَ إحسانَه إليهم بحرًا وبَرًّا، وأنَّه تعالى مُتمَكِّنٌ بقُدرتِه مِمَّا يُريدُه

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه الوكيلُ الذي لا كافيَ غَيرُه في حِفظِه؛ لاختِصاصِه بشُمولِ عِلمِه وتَمامِ قُدرتِه؛ أتبَعَه بعضَ أفعالِه الدَّالَّةِ على ذلك، فقال تعالى عَوْدًا إلى دلائِلِ التَّوحيدِ الذي هو المقصودُ الأعظَمُ بأحوالِ البَحرِ الذي يُخلِصونَ فيه، في أُسلوبِ الخِطابِ؛ استِعطافًا لهم إلى المتابِ :

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.

أي: ربُّكم هو وَحْدَه الذي يَسوقُ لكم السُّفُنَ في البَحرِ؛ لِتَطلُبوا برُكوبِها الرِّزقَ مِن اللهِ بالتِّجارةِ، وطَلَبِ المَعاشِ .

كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الجاثية: 12] .

إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا.

أي: سهَّل اللهُ لكم سَيرَ السُّفُنِ في البِحارِ لِنَفْعِكم؛ لأنَّه رَحيمٌ بكم .

وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعد أن ألزَمَ اللهُ الكافِرينَ الحُجَّةَ على حَقِّ إلهيَّةِ اللهِ تعالى بما هو مِن خَصائِصِ صُنعِه باعتِرافِهم؛ أعقَبَه بدَليلٍ آخَرَ مِن أحوالِهم المتضَمِّنةِ إقرارَهم بانفِرادِه بالتصَرُّفِ، ثمَّ بالتَّعجيبِ مِن مُناقَضةِ أنفُسِهم عند زَوالِ اضطِرارِهم .

وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ.

أي: وإذا أصابَتْكم الشِّدَّةُ في البَحرِ -كما لو أمسَكَت السَّفينةُ عن الجَريِ، أو اشتَدَّت عليكم الرِّيحُ، وهاجَت بكم الأمواجُ واضطَرَبت، وخَشِيتُم الغَرَقَ- غاب عن قُلوبِكم كلُّ مَن تَدعونَهم مِن دُونِ اللهِ، ولم تَستغيثوا إلَّا باللهِ وَحدَه؛ لعِلْمِكم بأنَّه لا يُنَجِّيكم أحدٌ سِواه .

فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ.

أي: فلمَّا نجَّاكم اللهُ مِن الغَرَقِ، وأوصَلَكم إلى البَرِّ؛ أعرَضْتُم عن شُكرِه وتَوحيدِه، والإخلاصِ له سُبحانَه !

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس: 22- 23] .

وقال سُبحانَه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] .

وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا.

أي: وكان الإنسانُ مَطبوعًا على الجُحودِ لنِعَمِ اللهِ عليه؛ فهذه سَجِيَّتُه إلَّا مَن عَصَمَه اللهُ تعالى .

كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: 9، 10].

وقال سبحانه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6].

أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68).

أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ.

أي: أفأمِنْتُم أن يجعَلَ اللهُ الأرضَ تَنهارُ بكم في جانِبِ البَرِّ إنْ خَرَجتُم مِن البَحرِ سالِمينَ؟ فهو قادِرٌ على إهلاكِكم سواءٌ في البَحرِ أو في البَرِّ .

كما قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك: 16] .

أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا.

أي: أوْ أمِنْتُم أن يُرسِلَ اللهُ عليكم حِجارةً مِن السَّماءِ فيُمطِرَكم بها، فيُهلِكَكم ؟

كما قال تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك: 17] .

ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا.

أي: ثمَّ لا تَجِدوا لكم ناصِرًا يَدفَعُ عنكم العَذابَ، ويُنقِذُكم منه .

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)  .

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى.

أي: أم أمِنْتُم -يا مَن أعرَضْتُم عن توحيدِ اللهِ، وإخلاصِ الدِّينِ له، بَعدَما اعترَفْتُم بذلك في البَحرِ فأنقَذَكم- أن يَرجِعَكم اللهُ في البَحرِ مرَّةً أخرى ؟

فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ.

أي: فيُرسِلَ اللهُ عليكم في البَحرِ رِيحًا شَديدةً تَكسِرُ سُفُنَكم، فيُغرِقَكم بسبَبِ كُفرِكم باللهِ، وإعراضِكم عنه ؟

ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا.

أي: ثمَّ لا تَجِدوا لكم تابِعًا يثأرُ لكم، ويُطالِبُنا بما فعَلْنا بكم

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ فيه إشارةٌ إلى إمكانِ حُصولِ الخَوفِ لهم بمُجَرَّدِ حُلولِهم بالبَرِّ، بحيثُ يُخسَفُ بهم ذلك الشَّاطِئُ، أي: أنَّ البَرَّ والبَحرَ في قُدرةِ الله تعالى سِيَّان؛ فعلى العاقِلِ أن يَستَويَ خَوفُه مِن اللهِ في البَرِّ والبَحرِ

.

2- في قَولِه تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا إلى قَولِه: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا دَليلٌ على أنَّ الفَزَعَ إلى اللهِ في الشِّدَّةِ -دونَ الرَّخاءِ- خُلُقٌ مِن أخلاقِ الكافِرينَ، وأنَّ المؤمِنَ مَندوبٌ إلى مُراعاةِ حقِّ اللهِ عليه، والتَّعَرُّفِ إليه في الرَّخاءِ؛ لِيُجَابَ عندَ الشِّدَّةِ، فإذا أُجيبَ ازدادَ ذِكْرًا وخَشيةً واقتِرابًا وتَفويضًا؛ ليكونَ عَبدًا مُؤتمِرًا، لا وَجِلًا خائِفًا، مُتبَرِّئًا مِن الحَولِ والقُوَّةِ، مُستَمِدًّا المَعونةَ مِن ربِّه في كلا حالَيه مِن الرَّخاءِ والشِّدَّةِ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ لم يَقُلْ: (أمَسَّكم) بالإسنادِ إلى نَفسِه تعالى؛ تأديبًا لنا في مُخاطَبتِه بنِسبةِ الخَيرِ دُونَ الشَّرِّ إليه، مع اعتِقادِ أنَّ الكُلَّ فِعْلُه، وتنبيهًا على أنَّ الشَّرَّ مِمَّا ينبغي التبَرُّؤُ منه، والبُعدُ عنه .

4- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ فيه تنبيهٌ على أنَّ السَّلامةَ في البَرِّ نِعمةٌ عَظيمةٌ تَنسَونَها، فلو حدَث لكم خَسفٌ لهَلَكتُم هَلاكًا لا نجاةَ لكم منه، بخِلافِ هَولِ البَحرِ، ولكِنْ لَمَّا كانت السَّلامةُ في البَرِّ غيرَ مُدرَكٍ قَدْرُها، قَلَّ أنْ تَشعُرَ النُّفوسُ بنِعمَتِها وتَشعُرَ بخَطَرِ هَولِ البَحرِ؛ فينبغي التدَرُّبُ على تَذكُّرِ نِعمةِ السَّلامةِ مِن الضُّرِّ، ثمَّ إنَّ محَلَّ السَّلامةِ مُعرَّضٌ إلى الأخطارِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ صَريحٌ في إباحةِ رُكوبِ البَحرِ للتِّجارةِ

.

2- مَن دعا اللهَ سُبحانَه مُوقِنًا أنَّه يُجيبُ دَعوةَ الدَّاعي إذا دعاه، أجابَه، وقد يكونُ مُشرِكًا وفاسقًا؛ فإنَّه سُبحانَه هو القائِلُ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] ، وهو القائِلُ سُبحانَه: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا، وهو القائِلُ سُبحانَه: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 40 - 41] ، ولكِنَّ هؤلاء الذين يُستجابُ لهم لإقرارِهم برُبوبيَّتِه، وأنَّه يُجيبُ دُعاءَ المُضطَرِّ، إذا لم يَكونوا مُخلِصينَ له الدِّينَ في عِبادتِه، ولا مُطيعينَ له ولِرَسولِه؛ كان ما يُعطيهم بدُعائهم مَتاعًا في الحياةِ الدُّنيا، وما لهم في الآخِرةِ مِن خَلاقٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا

- قولُه: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فيه افتتاحُ الجُملةِ بالمُسنَدِ إليه مُعرَّفًا بالإضافةِ ومُستحضرًا بصِفَةِ الرُّبوبيَّةِ رَبُّكُمُ؛ لاستدعاءِ إقبالِ السَّامعينَ على الخبرِ المُؤذِنِ بأهميَّتِه؛ حيث افتُتِحَ بما يُتَرَقَّبُ منه خبرٌ عظيمٌ؛ لكونِه من شُؤونِ الإلهِ الحقِّ، وخالقِ الخلْقِ، ومُدبِّرِ شُؤونِهم، تَدبيرَ اللَّطيفِ الرَّحيمِ، فيُوجِبُ إقبالَ السَّامعِ بشَراشِرِه

؛ إنْ مُؤمنًا مُتذكِّرًا، أو مُشركًا ناظِرًا مُتدبِّرًا. وجِيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ لدَلالتِها على الدَّوامِ والثَّباتِ. وبتَعريفِ طرفيْها رَبُّكُمُ الَّذِي؛ للدَّلالةِ على الانحصارِ، أي: ربُّكم هو الَّذي يُزْجي لكم الفُلكَ لا غيرُه ممَّن تَعْبدونه باطلًا، وهو الَّذي لا يَزال يفعَلُ ذلك لكم. وجِيءَ بالصِّلةِ فعلًا مُضارعًا يُزْجِي؛ للدَّلالةِ على تَكرُّرِ ذلك وتجدُّدِه .

- وفي قولِه: يُزْجِي شَبَّهَ تَسخيرَ الفُلْكِ للسَّيرِ في الماءِ بإزجاءِ الدَّابَّةِ المُثقلَةِ بالحِمْلِ .

- قولُه: إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا تَعليلٌ وتَنبيهٌ لموقعِ الامتنانِ؛ ليَرْفُضوا عِبادةَ غيرِه ممَّا لا أثرَ له في هذه المِنَّةِ ، وهو تَذييلٌ فيه تعليلٌ لِما سبَقَ من الإزجاءِ لابتغاءِ الفضْلِ، وصِيغَةُ (الرَّحيمِ) للدَّلالةِ على أنَّ المُرادَ بالرَّحمةِ الرَّحمةُ الدُّنيويَّةُ، والنِّعمةُ العاجلةُ المُنقسِمةُ إلى الجليلةِ والحقيرةِ .

2- قَولُه تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا

- جُملةُ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ خبرٌ مُستعمَلٌ في التَّقريرِ وإلزامِ الحُجَّةِ. وجُملةُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ خبرٌ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ والتَّوبيخِ. والعُدولُ إلى الموصوليَّةِ -مَنْ تَدْعُونَ- لِما تُؤذِنُ به الصِّلةُ مِن عمَلِ اللِّسانِ؛ ليتأتَّى الإيجازُ، أي: مَن يتكرَّرُ دُعاؤكم إيَّاهم، كما يدُلُّ عليه المُضارعُ، فالمعنى: غاب وانصرَفَ ذِكْرُ الَّذين عادتُكم دُعاؤهم عن ألسنتِكم فلا تَدْعونهم، وذلك بقَرينةِ ذكْرِ الدُّعاءِ هنا الَّذي مُتعلِّقُه اللِّسانُ؛ فتعيَّنَ أنَّ ضلالَهم هو ضَلالُ ذكْرِ أسمائِهم، وهذا إيجازٌ بَديعٌ .

- قولُه: وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا تعليلٌ لِما سبَقَ من الإعراضِ ، وجاءت صِفَةُ كَفُورًا دَلالةً على المُبالغةِ، ثمَّ لم يُخاطِبْهم بذلك، بل أسنَدَ ذلك إلى الإنسانِ؛ لُطفًا بهم، وإحالةً على الجنسِ؛ إذ كلُّ أحدٍ لا يكادُ يُؤدِّي شُكرَ نِعَمِ اللهِ ، وأيضًا هذه الجُملةُ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا اعتراضٌ وتَذييلٌ؛ لزيادةِ التَّعجُّبِ منهم ومن أمثالِهم. والتَّعريفُ في الإنسانِ تعريفُ الجنسِ، وهو مُفيدٌ للاستغراقِ؛ فهذا الاستغراقُ يجوزُ أنْ يكونَ استغراقًا عُرفيًّا بحمْلِه على غالبِ نوعِ الإنسانِ، وهم أهلُ الإشراكِ، وهم أكثرُ النَّاسِ يومئذٍ، فتكونُ صِيغَةُ المُبالَغةِ من قولِه: كَفُورًا راجعةً إلى قُوَّةِ صِفَةِ الكُفرانِ أو عدَمِ الشُّكرِ؛ فإنَّ أعلاه إشراكُ غيرِ المُنعِمِ مع المُنعِمِ في نِعمةٍ لا حظَّ له فيها. ويجوزُ أنْ يكونَ الاستغراقُ حقيقيًّا، أي: كان نوعُ الإنسانِ كَفورًا، أي: غيرَ خالٍ من الكُفرانِ، فتكونُ صِيغَةُ المُبالَغةِ راجعةً إلى كثرةِ أحوالِ الكُفرانِ مع تَفاوُتِها .

- وذِكْرُ فعْلِ (كان) إشارةٌ إلى أنَّ الكُفرانَ مُستقِرٌّ في جِبلَّةِ هذا الإنسانِ؛ لأنَّ الإنسانَ قلَّما يشعُرُ بما وراء عالمِ الحسِّ؛ فإنَّ الحواسَّ تَشغَلُه بمُدركاتِها عنِ التَّفكُّرِ فيما عدا ذلك من المعاني المُستقرَّةِ في الحافظةِ، والمُستنبَطةِ بالفكرِ .

3- قَولُه تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا

- قولُه: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ... الاستفهامُ أَفَأَمِنْتُمْ إنكاريٌّ وتَوبيخٌ ، وأَفَأَمِنْتُمْ تَفريعٌ على جُملةِ أَعْرَضْتُمْ، وما بينهما اعتِراضٌ، وفُرِّعَ الاستفهامُ التَّوبيخيُّ على إعراضِهم عنِ الشُّكرِ، وعَوْدِهم إلى الكُفرِ .

4- قَولُه تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا

- قولُه: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ فيه إيثارُ كلمةِ (في) على كلمةِ (إلى) المُنبئةِ عن مُجرَّدِ الانتهاءِ؛ للدَّلالةِ على استقرارِهم فيه .

- قولُه: أَنْ يُعِيدَكُمْ فيه إسنادُ الإعادةِ إليه تعالى، مع أنَّ العودَ إليه باختيارِهم باعتبارِ خلْقِ الدَّواعي المُلجئةِ لهم إلى ذلك، وفيه إيماءٌ إلى كَمالِ شِدَّةِ هولِ ما لاقَوه في التارةِ الأُولى، بحيث لولا الإعادةُ لَمَا عادوا .

- قولُه: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (ثمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ كشأنِها في عطْفِها الجُمَلَ، وهو ارتقاءٌ في التَّهديدِ بعدَمِ وُجودِ مُنقذٍ لهم، بعدَ تهديدِهم بالغرقِ؛ لأنَّ الغريقَ قد يجِدُ مُنقِذًا .

- ووصْفُ (تَبِيع) يُناسِبُ حالَ الضُّرِّ الَّذي يلحَقُهم في البحرِ؛ لأنَّ البحرَ لا يصِلُ إليه رجالُ قَبيلةِ القومِ وأولياؤهم، فلو راموا الثَّأرَ لهم لرَكِبوا البحرَ ليُتابِعوا آثارَ مَن ألحَقَ بهم ضرًّا؛ فلذلك قيل هنا: تَبِيعًا، وقيل في الَّتي قبلَها: وَكِيلًا .

- وعلى قِراءةِ نَخْسِفَ ونُرْسِلَ ونُعِيدَكُمْ وفَنُرْسِلَ وفَنُغْرِقَكُمْ خمْسَتُها بنونِ العظمةِ ؛ فيكونُ فيها التِفاتٌ من ضميرِ الغَيبةِ الَّذي في قولِه: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ إلى ضميرِ التَّكلُّمِ

==========

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (70-72)

ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ

غريب الكلمات:

 

فَتِيلًا: الفَتيلُ: الخيطُ الذي في بَطنِ النَّواةِ، ويُضرَبُ مَثَلًا للشَّيءِ الحَقيرِ التَّافِهِ، وأصلُ (فتل): يدُلُّ على لَيِّ شَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

ذكَر الله سبحانَه تكريمَه لبنى آدمَ، وتفضيلَهم على كثيرٍ مِن المخلوقاتِ، فقال: ولقد كَرَّمْنا بني آدَمَ بما أنعَمْنا عليهم مِنَ النِّعَمِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ، وسَخَّرْنا لهم ما يحمِلُهم من الدوابِّ في البَرِّ، والسُّفُنِ في البَحرِ، ورَزَقْناهم مِن طَيِّباتِ المطاعِمِ والمَشارِبِ وسَائِرِ مَا يستلِذُّونَه وينتَفِعونَ به، وفضَّلْناهم على كَثيرٍ مِن المَخلوقاتِ تَفضيلًا عَظيمًا.

ثمَّ ذكَر شيئًا مِن أحوالِهم في الآخرةِ فقال: اذكُرْ -يا مُحمَّدُ- يومَ القيامةِ حينَ يَدعو اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- كُلَّ جَماعةٍ مِن النَّاسِ مع إمامِهم الذي كانوا يأتمُّونَ به في الدُّنيا، فمَن أُعطِيَ كِتابَ أعمالِه بيَمينِه، فهؤلاء يَقرَؤونَ كِتابَهم فَرِحينَ مُستَبشِرينَ، ولا يُنْقَصونَ مِن ثَوابِ أعمالِهم الصَّالحةِ شَيئًا، وإن كان يسيرًا كالخَيطِ الذي يكونُ في شَقِّ النَّواةِ، ومَن كان في هذه الدُّنيا أعمى القَلبِ عن طريقِ الحَقِّ، فهو في الآخرة أشدُّ عَمًى، وأضَلُّ طَريقًا.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى ما امتَنَّ به عليهم مِن إزجاءِ الفُلكِ في البَحرِ، ومِن تَنجِيَتِهم مِن الغَرَقِ؛ تَمَّمَ ذِكرَ المِنَّةِ بذِكرِ تَكرِمتِهم ورِزقِهم وتَفضيلِهم

.

وأيضًا لَمَّا هَدَّدَهم اللهُ تعالى بما هَدَّدَ مِن الخَسفِ والغَرَقِ، وأنَّهم كافِرو نِعمَتِه؛ ذكَرَ ما أنعَمَ به عليهم ليتَذَكَّروا فيَشكُروا نِعَمَه، ويُقلِعوا عمَّا كانوا فيه مِن الكُفرِ، ويُطيعوه تعالى، وفي ذِكرِ النِّعَمِ وتَعدادِها هَزٌّ لِشُكرِها .

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ.

أي: ولقد شَرَّفْنا بني آدَمَ قاطِبةً برَّهم وفاجِرَهم بأنواعِ الشَّرَفِ والمحاسِنِ الكَثيرةِ، بما أنعَمَ اللهُ تعالى عليهم مِن النِّعَمِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ التي لا يُمكِنُ لهم حَصرُها؛ ومنها تَمييزُهم بالعَقلِ، وتَسخيرُ المخلوقاتِ لهم .

وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.

أي: وحَمَلْنا بني آدَمَ في البَرِّ على ظُهورِ الدوابِّ وغَيرِها مِن المَراكِبِ، وفي البَحرِ على ظُهورِ السُّفُنِ والقَوارِبِ .

كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر: 79-80] .

وقال سُبحانَه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [الزخرف: 12-14] .

وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.

أي: ورَزَقْنا بني آدَمَ مِن سَائِرِ مَا يستلِذُّونَه وينتَفِعونَ به، كأنواعِ المآكلِ والمشارِبِ .

كما قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] .

وقال سُبحانَه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأنعام: 141، 142].

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 66-69].

وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.

أي: وفضَّلْنا بني آدَمَ على كثيرٍ مِن المخلوقاتِ تَفضيلًا عَظيمًا؛ وذلك بما منَحَهم اللهُ مِن النِّعَمِ والخَصائِصِ التي لم يُعطِها لِغَيرِهم مِن مَخلوقاتِه .

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنواعَ كَراماتِ الإنسانِ في الدُّنيا؛ ذكَرَ أحوالَ دَرَجاتِه في الآخِرةِ في هذه الآيةِ .

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ.

أي: اذكُرْ يومَ القيامةِ حين نُنادي كُلَّ قَومٍ بإمامِهم في الدُّنيا .

فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا.

أي: فمَن أُعطِيَ كتابَ أعمالِه بيَدِه اليمنى، فأولئك يَقرؤونَ كِتابَهم هذا بفَرَحٍ وسُرورٍ؛ لِما يَرَونَ فيه مِن أعمالِهم الصَّالحةِ التي عَمِلوها في الدُّنيا، ولا يَنقُصُهم اللهُ مِن جَزاءِ أعمالِهم الصَّالحةِ شَيئًا، ولو كان يَسيرًا في غايةِ القِلَّةِ والحَقارةِ، كالخَيطِ الذي في شَقِّ نَواةِ التَّمرةِ .

كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ *وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة: 19 - 26] .

وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) .

أي: ومَن كان في هذه الدُّنيا أعمى القَلبِ لا يُبصِرُ الحَقَّ ؛ فهو في الدَّارِ الآخرةِ أعمى وأضَلُّ طريقًا

 

.

قال تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء: 97، 98].

وقال سُبحانَه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 124- 127].

الفوائد التربوية :

 

في قَولِه تعالى: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا التَّأكيدُ بقَولِه: تَفْضِيلًا يدُلُّ على عِظَمِ هذا التَّفضيلِ، وأنَّه بمكانٍ مَكِينٍ؛ فعلى بني آدَمَ أن يتلَقَّوه بالشُّكرِ، ويَحذَروا مِن كُفرانِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ استدَلَّ به الشَّافعيُّ على عدَمِ نجَاسةِ الآدميِّ بالمَوتِ

.

2- لا شكَّ أنَّ ذكرَ لفظِ كَثِيرٍ في قولِه تعالى: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا مُرادٌ منه التَّقييدُ والاحترازُ والتَّعليمُ الَّذي لا غُرورَ فيه، فيُعلَمُ منه أنَّ ثَمَّ مَخلوقاتٍ غيرَ مُفضَّلٍ عليها بنو آدمَ تكونُ مُساويةً، أو أفضَلَ إجمالًا أو تفصيلًا .

3- قَولُ الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ قال بعضُ السَّلَف: (هذا أكبَرُ شَرَفٍ لأصحابِ الحَديثِ؛ لأنَّ إمامَهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم) . وهذا المعنى على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.

4- قَولُ الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فيه دَليلٌ على أنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تُدعى إلى دِينِها وكِتابِها -وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-، هل عَمِلَت به أم لا؟ وأنَّهم لا يُؤاخَذونَ بشَرعِ نَبيٍّ لم يُؤمَروا باتِّباعِه، وأنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ أحدًا إلَّا بعد قيامِ الحُجَّةِ عليه ومُخالفَتِه لها .

5- قولُه: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فائدةُ نِدائِهم بمَتْبوعيهم -على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ- التَّعجيلُ بالمَسرَّةِ لأتْباعِ الهُداةِ، وبالمَساءةِ لأتْباعِ الغُواةِ؛ لأنَّهم إذا دُعُوا بذلك رأَوا مَتبوعيهم في المقاماتِ المُناسبةِ لهم، فعَلِموا مصيرَهم .

6- قال تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وجْهُ كونِ ضَلالِه في الآخرةِ أشدَّ: أنَّ ضلالَه في الدُّنيا كان في مُكْنَتِه أنْ ينجُوَ منه بطلَبِ ما يُرشِدُه إلى السَّبيلِ المُوصِلِ من هَدْي الرَّسولِ والقُرآنِ، مع كونِه خليًّا عن لَحاقِ الألمِ به، وأمَّا ضَلالُه في الآخرةِ فهو ضلالٌ لا خَلاصَ منه، وهو مُقارِنٌ للعذابِ الدَّائمِ؛ فلا جرَمَ كان ضلالُه في الآخرةِ أدخَلَ في حقيقةِ الضَّلالِ وماهيَّتِه . وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.

7- إنَّ المَعادَ يعودُ على العَبدِ فيه ما كان حاصِلًا له في الدُّنيا؛ ولهذا يُسمَّى يومَ الجَزاءِ، قال تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وذلك على أحدِ القولينِ في الآيةِ، وقال سُبحانَه: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] .

8- الثَّوابُ والعِقابُ يَكونانِ مِن جِنسِ العَمَلِ في قَدَرِ اللهِ وفي شَرعِه؛ فإنَّ هذا مِن العَدلِ الذي تَقومُ به السَّماءُ والأرضُ، كما في قَولِه تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا

 

، وذلك على أحدِ القولينِ في الآيةِ.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا

- قولُه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ... اعتراضٌ جاء بمُناسبةِ العِبْرةِ والمِنَّةِ على المُشركين، فاعترَضَ بذكْرِ نِعَمِه على جميعِ النَّاسِ، فأشبَهَ التَّذييلَ؛ لأنَّه ذكَرَ به ما يشمَلُ ما تقدَّمَ

.

- والإتيانُ بالمفعولِ المُطلَقِ تَفْضِيلًا؛ لإفادةِ ما في التَّنكيرِ من التَّعظيمِ، أي: تَفضيلًا كبيرًا .

2- قَولُه تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا هذا انتقالٌ من غرَضِ التَّهديدِ بعاجلِ العذابِ في الدُّنيا الَّذي في قولِه: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إلى قولِه: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا، إلى ذكْرِ حالِ النَّاسِ في الآخرةِ تَبشيرًا وإنذارًا؛ فالكلامُ استئنافٌ ابتدائيٌّ .

- قولُه: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ الفاءُ في قولِه: فَمَنْ أُوتِيَ للتَّفريعِ؛ لأنَّ فعْلَ (اذْكُر) المُقدَّر يَقْتضي أمرًا عظيمًا مُجملًا، فوقَعَ تفصيلُه بذكْرِ الفاءِ وما بعدها؛ فإنَّ التَّفصيلَ يتفرَّعُ على الإجمالِ .

- قولُه: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ خَصَّ أصحابَ اليَمينِ بقِراءةِ كتابِهم، كأنَّ أصحابَ الشِّمالِ لا يَقرؤون كِتابَهم؛ يَحتمِلُ لأنَّ أصحابَ الشِّمالِ إذا اطَّلعوا على ما في كتابِهم، أخَذَهم ما يأخُذُ المُطالبَ بالنِّداءِ على جناياتِه، والاعترافِ بمَساويه أمامَ التَّنكيلِ به، والانتقامِ منه، من الحياءِ والخجَلِ والانخزالِ، وحبْسةِ اللِّسانِ، والتَّتعتُعِ، والعجْزِ عن إقامةِ حُروفِ الكلامِ، والذَّهابِ عن تَسويةِ القولِ؛ فغشِيَهم من الخجَلِ والحيرةِ ما يحبِسُ ألسنتَهم عن القراءةِ، فكأنَّ قِراءتَهم كَلَا قِراءةٍ. وأمَّا أصحابُ اليَمينِ فأمْرُهم على عكْسِ ذلك، لا جرَمَ أنَّهم يَقْرؤونَ كِتابَهم أحسَنَ قراءةٍ وأبينَها، ولا يَقْنعون بقِراءتِهم وحْدَهم حتَّى يقولَ القارئُ لأهلِ المحشرِ: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة: 19] .

- قولُه: وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا عائدٌ إلى كلِّ النَّاسِ لا إلى أصحابِ اليمينِ خاصَّةً، وإنَّما خصَّهم بذلك؛ لأنَّهم يَعْلمون أنَّهم لا يُظْلمون، ويعتقِدون ذلك، بخلافِ أصحابِ الشِّمالِ؛ فإنَّهم يعتقِدون أو يظنُّون أنَّهم يُظْلمون .

- قولُه: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ فيه الإتيانُ باسمِ الإشارةِ (أولئك) بعدَ فاءِ جوابِ (أمَّا)؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم دون غيرِهم يَقْرؤون كِتابَهم؛ لأنَّ في اطِّلاعِهم على ما فيه من فعْلِ الخيرِ والجزاءِ عليه مَسرَّةً لهم ونَعيمًا، بتذكُّرِ ومعرفةِ ثَوابِه .

3- قَولُه تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا

- قولُه: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا لمَّا كان وجْهُ الشَّبهِ في أحوالِ الكافرِ في الآخرةِ أقوى منه في حالِه في الدُّنيا، أُشيرَ إلى شِدَّةِ تلك الحالةِ بقولِه: وَأَضَلُّ سَبِيلًا القائمِ مقامَ صِيغَةِ التَّفضيلِ في العَمى، وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ. وعدَلَ عن لفظِ (أشَدَّ) ونحوِه؛ ليتأتَّى ذكْرُ السَّبيلِ؛ لِمَا في الضَّلالِ عن السَّبيلِ من تَمثيلِ حال العَمى وإيضاحِه؛ لأنَّ ضلالَ فاقدِ البصَرِ عن الطَّريقِ في حالِ السَّيرِ أشدُّ وقْعًا في الإضرارِ منه وهو قابعٌ بمكانِه، فعدَلَ عن اللَّفظِ الوجيزِ إلى التَّركيبِ المُطنِبِ؛ لِما في الإطنابِ من تمثيلِ الحالِ وإيضاحِه وإفظاعِه، وهو إطنابٌ بديعٌ .

- قولُه: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا هذا بعينِه هو الَّذي أُوتِيَ كتابَه بشِمالِه؛ بدلالةِ حالِ ما سبَقَ من الفريقِ المُقابِلِ له، ولعلَّ العُدولَ عن ذكْرِه بذلك العُنوانِ، مع أنَّه الَّذي يَسْتدعيه حُسنُ المُقابلةِ حسْبما هو الواقعُ في سُورةِ (الحاقَّةِ) وسُورةِ (الانشقاقِ)؛ للإيذانِ بالعلَّةِ المُوجبةِ له، وللرَّمزِ إلى علَّةِ حالِ الفريقِ الأوَّلِ، وقد ذكَرَ في أحدِ الجانبينِ المُسبَّبَ وفي الآخرِ السَّببَ، ودَلَّ بالمذكورِ في كلٍّ منهما على المتروكِ في الآخرِ؛ تَعويلًا على شَهادةِ العقْلِ، كما في قولِه عَزَّ وعَلا: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس: 107

================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (73-77)

ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ

غريب الكلمات:

 

تَرْكَنُ: أي: تطمئنُّ، وتسكنُ، وركْنُ الشيءِ: جانبُه الذي يسكنُ إليه، وأصلُ (ركن): يدلُّ على قوةٍ

.

لَيَسْتَفِزُّونَكَ: أي: يَحمِلونَك على أن تَخرُجَ مِن مَكَّةَ، والاستِفزازُ: الحَملُ على التَّرَحُّلِ، وهو استِفعالٌ مِن فَزَّ، بمعنى: بارحَ المكانَ، وأصلُ (فزز): يدُلُّ على خِفَّةٍ وما قارَبَها

 

.

مشكل الإعراب :

 

قوله تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا

قولُه: سُنَّةَ: في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّدِ بفِعلٍ مَحذوفٍ، أي: سَنَّ اللهُ ذلك سُنَّةَ، أو: سَنَنَّا ذلك سُنَّةَ. الثاني: أن ينتصبَ على المفعولِ به بفعلٍ محذوفٍ، أي: اتَّبِعْ سُنَّةَ. الثالثُ: أنَّه على إسقاطِ الخافِضِ، أي: يُعذَّبون كسُنَّةِ اللهِ فيمن قَبلَهم

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يحكي الله تعالى جانبًا مِن مسالكِ المشركينَ لزحزحةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن طريقِ دعوتِه فيقول: ولقد قارَبَ المُشرِكونَ أن يَصرِفوك -يا مُحمَّدُ- عن القُرآنِ الذي أنزَلَه اللهُ إليك؛ لتَختَلِقَ علينا غيرَه، ولو فعَلْتَ ما أرادوه لاتَّخَذوك صَفِيًّا وليًّا، ولولا أنْ ثبَّتْناك على الحَقِّ، وعَصَمْناك عن مُوافَقتِهم، لَقارَبْتَ أن تَميلَ إليهم مَيلًا قَليلًا؛ حِرصًا على إسلامِهم، ولو رَكَنْتَ إلى هؤلاء المُشرِكينَ رُكونًا قليلًا فيما سألوك، إذَن لأذَقْناك عَذابًا مُضاعَفًا في الدُّنيا وفي الآخرةِ، ثمَّ لا تَجِدُ أحَدًا يَنصُرُك ويَمنَعُك مِن عذابِنا.

ولقد قاربَ الكُفَّارُ أن يَحمِلوك على الخروجِ مِن «مكَّةَ» بإزعاجِهم إيَّاك، وإيذائِهم لك، ولو أخرَجوك منها لم يَمكُثوا فيها بَعدَك إلَّا زمنًا قليلًا، ثمَّ يُهلِكُهم اللهُ. سَنَّ اللهُ ما قصَّه عليك سُنَّةً، وهي أنَّنا نُهلِكُ الأمَّةَ التي تُخرِجُ رَسولَها مِن أرضِه، كما هي عادتُنا في أسلافِهم، ولا تجِدُ -يا مُحمَّدُ- لِسُنَّتِنا تَغييرًا ولا تبديلًا.

تفسير الآيات:

 

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا عَدَّدَ اللهُ تعالى في الآياتِ المُتقَدِّمةِ أقسامَ نِعَمِه على خَلْقِه، وأتبَعَها بذِكرِ دَرَجاتِ الخَلقِ في الآخرةِ، وشرَحَ أحوالَ السُّعَداءِ؛ أردَفَه بما يَجري مَجرى تَحذيرِ السُّعَداءِ مِن الاغترارِ بوَساوِسِ أربابِ الضَّلالِ، والانخداعِ بكَلامِهم المُشتَمِلِ على المَكرِ والتَّلبيسِ، فقال

:

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ.

أي: وقد قارَبَ كُفَّارُ قَومِك -يا مُحمَّدُ- أن يُزيغُوك بحِيَلِهم عن القُرآنِ الذي أوحَيناه إليك؛ كي تختَلِقَ علينا غَيرَه، فتَجيءَ بما يُوافِقُ أهواءَهم، وتدَعَ القُرآنَ .

وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا.

أي: ولو فعَلْتَ -يا مُحَمَّدُ- ما دعاك إليه قَومُك من مخالفةِ القُرآنِ، واتِّباعِ أهوائِهم؛ لجَعَلوك حَبيبًا ووَلِيًّا وصَفِيًّا لهم .

وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَّرَ اللهُ سُبحانَه نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما كان في ذلك مِن رُشدِه؛ أتبَعَه ببَيانِ أنَّه إنَّما كان بعِصمةِ اللهِ له؛ لِيَزدادَ شُكرًا، فقال تعالى :

وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74).

أي: ولولا أن ثبَّتْناك -يا مُحَمَّدُ- على الحَقِّ، وعَصَمْناك مِنَ الانخداعِ بحِيَلِ قَومِك الكُفَّارِ؛ لقارَبْتَ أن تَميلَ إليهم شَيئًا قَليلًا، فتفعَلَ بعضَ الذي سألوك فِعْلَه .

إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75).

إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ.

أي: لو رَكَنْتَ قليلًا إلى المُشرِكينَ -يا مُحَمَّدُ- ففَعَلْتَ بعضَ ما سألوك، لأذقْناك عَذابًا مُضاعَفًا في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخِرةِ .

كما قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: 44 - 47] .

ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا.

أي: ثمَّ لا تَجِدُ لك -يا مُحَمَّدُ- ناصِرًا يَنصُرُك ويَمنَعُك مِن عذابِنا .

وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ استمالوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالرِّفقِ، حتى كادوا -لولا العِصمةُ- أن يُميلُوه؛ دَلَّ على أنَّهم أخافوه بعدَ ذلك حتى كادوا أن يُخرِجوه مِن وَطَنِه قبلَ الإذْنِ الخاصِّ بالهِجرةِ .

وأيضًا فإنَّها عَطفٌ على جُملةِ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: 73] ؛ تَعدادًا لسَيِّئاتِ أعمالِهم .

وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا.

أي: ولقد قارَبَ هؤلاء المُشرِكونَ أن يُزعِجوك ويَستَخِفُّوك مِن مَكَّةَ -يا مُحَمَّدُ- بكَثرةِ إيقاعِ الأذَى بك؛ لِيُخرِجوك منها .

كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] .

وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا.

أي: ولو أخرَجَك قَومُك -يا مُحَمَّدُ- مِن مَكَّةَ، فلن يَبْقوا فيها بَعدَك إلَّا قَليلًا حتى يُهلِكَهم اللهُ بعَذابٍ عاجِلٍ .

سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77).

سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا.

أي: لو أخرجَك الكُفَّارُ -يا مُحَمَّدُ- مِن مَكَّةَ، فلن يلبثُوا فيها إلَّا قليلًا حتَّى نُهلِكَهم بعذابِنا، كما هي عادَتُنا في إهلاكِ الأُمَمِ الكافرةِ التي أرسَلْنا إليهم رُسُلًا مِن قَبلِك، فآذَوْهم، وأخرَجوهم مِن بلادِهم .

وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا.

أي: ولا تَجِدُ -يا مُحَمَّدُ- تغييرًا عمَّا جَرَت به عادتُنا، ولا يَقدِرُ أحَدٌ على تَغييرِها

 

.

كما قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر: 42 - 44] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا فيه أنَّه لا عِصْمةَ عنِ المعاصي إلَّا بتَوفيقِ اللهِ تعالى؛ فإنَّه تعالى بَيَّنَ أنَّه لولا تَثبيتُ اللهِ تعالى له لَمالَ إلى طريقةِ الكُفَّارِ، ولا شَكَّ أنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أقوَى مِن غَيرِه في قُوَّةِ الدِّينِ، وصَفاءِ اليَقينِ، فلمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ بقاءَه مَعصومًا عن الكُفرِ والضَّلالِ لم يَحصُلْ إلَّا بإعانةِ اللهِ تعالى وإغاثتِه؛ كان حُصولُ هذا المعنى في حَقِّ غَيرِه أَولى

.

2- قَولُ الله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا تضمَّنَ تحذيرَ الأمَّةِ مِن الرُّكونِ إلى الكَفَرةِ؛ لِما نِيطَ به من الوعيدِ الشَّديدِ لِمن هو أقرَبُ إلى اللهِ وَسيلةً، على تقديرِ وُجودِ ذلك منه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا فيه دَليلٌ على شِدَّةِ افتِقارِ العَبدِ إلى تَثبيتِ اللهِ إيَّاه، وأنَّه ينبغي له ألَّا يَزالَ مُتمَلِّقًا لرَبِّه أن يُثَبِّتَه على الإيمانِ، ساعيًا في كلِّ سَبَبٍ مُوصِلٍ إلى ذلك؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو أكمَلُ الخَلقِ قال اللهُ له: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا فكيف بِغَيرِه ؟ فالعَبدُ لا يَستَغني عن تَثبيتِ اللهِ له طَرفةَ عينٍ، فإنْ لم يُثَبِّتْه وإلَّا زالَت سَماءُ إيمانِه وأرضُه عن مَكانِهما .

4- قَولُ الله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا فيه تَذكيرُ اللهِ لِرَسولِه مِنَّتَه عليه، وعِصمَتَه مِنَ الشَّرِّ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ اللهَ يُحِبُّ مِن عِبادِه أن يتفَطَّنوا لإنعامِه عليهم -عند وجودِ أسبابِ الشَّرِّ- بالعِصمةِ منه، والثَّباتِ على الإيمانِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا فيه دَليلٌ على أنَّ أدنَى مُداهَنةٍ للغُواةِ مُضادَّةٌ للهِ، وخُروجٌ عن وَلايتِه، وسَبَبٌ مُوجِبٌ لغَضَبِه ونَكالِه؛ فعلى المؤمنِ إذا تلا هذه الآيةَ أن يَجثُوَ عندها، ويتدَبَّرَها؛ فهي جديرةٌ بالتدَبُّرِ، وبأنْ يستشعِرَ النَّاظِرُ فيها الخَشيةَ، وازديادَ التصَلُّبِ في دينِ اللهِ .

6- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا في هذه الآيةِ بَيانٌ لِكَونِ الجاهِلِ لا يزالُ يَنصُبُ للعالِـمِ الحبائِلَ، ويَطلُبُ له الغَوائِلَ، فيَعودُ ذلك عليه بالوَبالِ، في الحالِ والمآلِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا في ذِكرِ الكَيدودةِ وتَقليلِها -مع إتْباعِها الوَعيدَ الشَّديدَ بالعذابِ المُضاعَفِ في الدَّارَينِ- دَليلٌ بَيِّنٌ على أنَّ القَبيحَ يَعظُمُ قُبحُه بمِقدارِ عِظَمِ شَأنِ فاعِلِه، وارتِفاعِ مَنزِلتِه

، فبحَسَبِ عُلُوِّ مَرتبةِ العَبدِ، وتواتُرِ النِّعَمِ عليه مِنَ اللهِ، يَعظُمُ إثمُه، ويتَضاعَفُ جُرمُه إذا فَعَل ما يُلامُ عليه؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذكَّرَ رَسولَه لو فعل -وحاشاه مِن ذلك- بقَولِه: إِذًا لَأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ، فكلَّما كانت الدَّرَجةُ أعلى كان العذابُ عند المُخالفةِ أعظَمَ؛ قال الله تعالى: يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] . فالسيِّئاتُ قد تُضاعَفُ بشَرفِ فاعِلِها، وقوَّةِ مَعرفتِه باللهِ، وقُربِه منه؛ فإنَّ مَن عصى السُّلطانَ على بساطِه أعظَمُ جُرمًا مِمَّن عصاه على بُعدٍ؛ ولهذا توعَّدَ الله خاصَّةَ عبادِه على المعصيةِ بمضاعَفةِ الجزاءِ، وإن كان قد عصَمَهم منها؛ ليبيِّنَ لهم فَضلَه عليهم بعِصمتِهم من ذلك .

2- قَولُ الله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا هذه الآيةُ مِن الأدلَّةِ الواضِحةِ على ما خُصَّ به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم مِن الفضائِلِ في شَرفِ جَوهرِه، وزكاءِ عُنصرِه، ورُجحانِ عَقلِه، وطِيبِ أصلِه؛ لأنَّها دلَّت على أنَّه صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم لو وُكِلَ إلى نفسِه وما خلَقَ اللهُ في طَبعِه وجبِلَّتِه من الغرائِزِ الكاملةِ والأوصافِ الفاضلةِ، ولم يتدارَكْه بما منحَه من التثبيتِ زيادةً على ذلك حالَ النبوَّةِ؛ لم يركَنْ إليهم -وهم أشَدُّ النَّاسِ أفكارًا، وأصفاهم أفهامًا، وأعلَمُهم بالخِداعِ، مع كثرةِ عدَدِهم، وعِظَمِ صَبرِهم وجَلَدِهم- ركونًا ما أصلًا، وإنما كان قُصاراهم أن يقارِبَ الركونَ شَيئًا قليلًا .

3- في قَولِ الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إنْ قيل: النَّبيُّ كان معصومًا من الشِّركِ والكبائرِ، فكيف يجوزُ أن يقرَبَ ممَّا طلَبوه منه، والذي طلبوه منه كُفرٌ؟

الجواب من وجهين:

أحدُهما: أنَّا نعتقِدُ أنَّ الرَّسولَ مَعصومٌ مِن الشِّركِ والكبائِرِ، ونحمِلُ على أنَّ ما وُجِدَ منه كان همًّا من غيرِ عزمٍ، وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إِنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ لأُمَّتي عمَّا وسْوَسَتْ، أو حدَّثَتْ به أنفسَها ما لم تعمَلْ به، أو تَكلَّمْ) ) . وفي الجملةِ: اللهُ أعلمُ برَسولِه من غيره.

والجوابُ الثاني: وهو أنَّه قال: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ، وقد ثبَّته ولم يركَنْ، وهذا مِثلُ قَولِه تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ إلى أن قال: إِلَّا قَلِيلًا، وقد تفضَّل اللهُ ورَحِمَ، ولم يتَّبِعوا الشَّيطانَ .

4- إن قيلَ: قال اللهُ تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: 13] يعني: مَكَّةَ، والمرادُ أهلُها، فذَكَرَ أنَّهم أخرجوه، وقال في هذه الآيةِ: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا [الإسراء: 76] فكيف يُمكِنُ الجَمعُ بينهما؟

فالجوابُ: أنَّهم هَمُّوا وقصَدوا إخراجَه، كما قال الله عزَّ وجَلَّ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوك [الأنفال: 30] ، ثمَّ قبلَ أن يُتِمُّوا ذلك أمرَ الله تعالى نبيَّه -عليه السَّلامُ- بالخروجِ، فخرج منها بأمرِ اللهِ خائِفًا منهم ومِن مَكرِهم، وكان خروجُه بأمرِ الله سببًا لسلامتِه مِمَّا كانوا يدبِّرونَه فيما بينهم، وجاز إضافةُ الإخراجِ إليهم في قَولِه: أَخْرَجَتْكَ؛ لأنَّهم همُّوا بذلك، وأُمرَ بالخروجِ منها لقَصدِهم إخراجَه، فلما كانوا سببًا في خروجِه أُضيف ذلك إليهم ؛ لأنَّهم في الحقيقةِ اضطرُّوه وألجؤُوه -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه- إلى الخُروجِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا فيه إيماءٌ إلى أنَّ الرَّسولَ سيَخرُجُ مِن مكَّةَ وأنَّ مُخرِجيه -أي: المُتسَبِّبينَ في خُروجِه- لا يَلبَثونَ بَعدَه بمكَّةَ إلَّا قَليلًا .

6- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا فيه أنَّ الله إذا أراد إهلاكَ أُمَّةٍ، تَضاعَفَ جُرمُها، وعَظُمَ، فيَحِقُّ عليها القَولُ مِنَ اللهِ، فيُوقِعُ بها العِقابَ، كما هي سُنَّتُه في الأُمَمِ إذا أخرَجوا رَسولَهم .

7- قال تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا، وإنَّما سَنَّ اللهُ هذه السُّنَّةَ لرُسلِه؛ لأنَّ تآمُرَ الأقوامِ على إخراجِهم يَسْتدعي حكمةَ اللهِ تعالى لأنْ تتعلَّقَ إرادتُه بأمْرِه إيَّاهم بالهجرةِ؛ لئلَّا يَبْقوا مَرموقينَ بعَينِ الغضاضةِ بين قومِهم وأجوارِهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا

- جُملةُ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عطْفٌ على جُملةِ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى، وهو انتقالٌ من وصْفِ حالِهم، وإبطالِ مَقالِهم في تكذيبِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى ذكْرِ حالِ طمَعِهم في أنْ يستنْزِلوا النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأنْ يقولَ قولًا فيه حُسْنُ ذكْرٍ لآلهتِهم؛ ليَتنازلوا إلى مُصالحتِه ومُوافقَتِه إذا وافقَهم في بعضِ ما سأَلوه

.

- وفي قولِه: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ غيَّرَ الأسلوبَ من خطابِهم في آياتِ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إلى الإقبالِ على خطابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لتغيُّرِ المقامِ من مقامِ استدلالٍ إلى مقامِ امتنانٍ .

- والموصولُ في قولِه: الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ للعهدِ؛ لِمَا هو معلومٌ عند النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحسَبِ ما سأَله المُشركون من مُخالفتِه؛ فهذه الآيةُ مَسوقةٌ مَساقَ المَنِّ على النَّبيِّ بعصمةِ اللهِ إيَّاه من الخطَأِ في الاجتهادِ، ومَساقَ إظهارِ مَلَلِ المُشركينَ من أمْرِ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ وتخوُّفِهم من عواقبِها، وفي ذلك تثبيتٌ للنَّبيِّ وللمُؤمنينَ، وتأييسٌ للمُشركين بأنَّ ذلك لن يكونَ .

- وجُملةُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا عطْفٌ على جُملةِ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ، و(إِذًا) حرفُ جَزاءٍ؛ فتكونُ جزاءً لفعلِ لَيَفْتِنُونَكَ بما معه مِن المُتعلِّقاتِ مُقحمًا بين المُتعاطفينِ، لتصيرَ واوُ العطفِ مع (إِذًا) مُفيدةً معنى فاءِ التَّفريعِ، ووجْهُ عطْفِها بالواوِ دونَ الاقتصارِ على حرفِ الجزاءِ؛ لأنَّه باعتبارِ كونِه من أحوالِهم الَّتي حاوروا النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيها، وألحُّوا عليه؛ فناسبَ أنْ يُعطَفَ على جُملةِ أحوالِهم. والتَّقديرُ: فلو صَرَفوك عن بعضِ ما أوحينا إليك لاتَّخذوكَ خليلًا .

2- قوله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا

-  لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا لم يقتصِرْ على قَلِيلًا؛ لأنَّ تَنكيرَ شَيْئًا مُفيدٌ التَّقليلَ؛ فكان في ذكْرِه تهيئةٌ لتوكيدِ معنى التَّقليلِ، فإنَّ كلمةَ (شَيءٍ) لتوغُّلِها في إبهامِ جنسِ ما تُضافُ إليه أو جنسِ الموجودِ مُطلقًا، مُفيدةٌ للتَّقليلِ غالبًا .

- وفي هذه الآيةِ نَفى رُكونَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهم، وبيَّنَ أنَّه غيرُ واقعٍ ولا مُقاربٌ الوقوعَ بأربعةِ أُمورٍ، وهي: (لولا) الامتناعيَّةُ، وفعْلُ المُقارَبةِ (كاد) المُقتضي أنَّه ما كان يقَعُ الرُّكونُ ولكنْ يقَعُ الاقترابُ منه، والتَّحقيرُ المُستفادُ من شَيْئًا، والتَّقليلُ المُستفادُ من قَلِيلًا .

3- قوله تعالى: إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا

- وجُملةُ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا معطوفةٌ على جُملةِ لَأَذَقْنَاكَ، وموقعُها تَحقيقُ عدَمِ الخلاصِ من تلك الإذاقةِ، و(ثمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ؛ لأنَّ عدَمَ الخلاصِ من العذابِ أهمُّ من إذاقتِه، فرُتْبَتُه في الأهميَّةِ أرقَى .

4- قوله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا

- التَّعريفُ في الْأَرْضِ تعريفُ العهدِ، أي: من أرضِك، وهي مكَّةُ. وقولُه: لِيُخْرِجُوكَ تَعليلٌ للاستفزازِ، أي: استفزازًا لقصْدِ الإخراجِ، والمُرادُ بالإخراجِ: مُفارقةُ المكانِ دونَ رُجوعٍ، وبهذا الاعتبارِ جُعِلَ علَّةً للاستفزازِ؛ لأنَّ الاستفزازَ أعمُّ من الإخراجِ .

5- قوله تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا

- جُملةُ: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لبيانِ سبَبِ كونِ لُبْثِهم بعدَه قليلًا .

- قولُه: وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا اعتراضٌ لتَكملةِ البيانِ، والتَّعبيرُ بـ لَا تَجِدُ مُبالغةٌ في الانتفاءِ

=====================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (78-81)

ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ

غريب الكلمات :

 

لِدُلُوكِ: أي: غُرُوبِ وزَوالِ، وأصلُ (دلك): يدلُّ على مَيلٍ وزَوالٍ

.

غَسَقِ: أي: ظَلامِ، وأصلُ (غسق): يدُلُّ على ظُلمةٍ .

فَتَهَجَّدْ: أي: اسهَرْ، وألقِ الهُجودَ، وهو النَّومُ، فمادَّةُ التفَعُّلِ فيه للإزالةِ، مثل التحَرُّجِ والتأثُّمِ، وأصلُ (هجد): يدُلُّ على رُكودٍ، كأنَّه بصَلاتِه تَرَك الهُجودَ عنه .

نَافِلَةً: أي: زيادةً؛ مِن النَّفلِ: وهو الزِّيادةُ على الواجِبِ، وأصلُ (نفل): يدُلُّ على عَطاءٍ وإعطاءٍ .

مُدْخَلَ: المدخَلُ: الإدخالُ، مِن أدخَل، والدُّخولُ: نقيضُ الخروجِ .

مُخْرَجَ: المخرَجُ: الإخراجُ، وخرَج خُروجًا: برَز مِن مقرِّه أو حالِه، وأصلُ (خرج): النَّفاذُ عَنِ الشَّيءِ .

وَزَهَقَ: أي: بطَلَ وهلَكَ، وأصلُ (زهق): يدُلُّ على ذَهابِ الشَّيءِ، وقِلَّةِ مُكثِه ولُبثِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: أقِمْ -يا مُحَمَّدُ- الصَّلاةَ تامَّةً مِن وَقتِ زَوالِ الشَّمسِ إلى وَقتِ ظُلمةِ اللَّيلِ -فيَدخُلُ في هذا صلاةُ الظُّهرِ والعَصرِ، والمَغرِبِ والعِشاءِ- وأقمْ صَلاةَ الفَجرِ؛ إنَّ صلاةَ الفَجرِ تَحضُرُها مَلائِكةُ اللَّيلِ ومَلائِكةُ النَّهارِ. وقُمْ -يا مُحَمَّدُ- مِن نَومِك بعضَ اللَّيلِ، فصَلِّ بالقرآنِ زيادةً لك؛ عسى أن يبعَثَك اللهُ شافعًا للنَّاسِ يومَ القيامةِ، وتقومَ مَقامًا يَحمَدُك فيه الأوَّلونَ والآخِرونَ.

ثمَّ أمَر الله تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يدعوَه فقال: وقُلْ -يا مُحَمَّدُ- ربِّ أدخِلْنى إدخالًا حسنًا مَرضِيًّا في كُلِّ ما أدخُلُ فيه، وأخرِجْنى إخراجًا حسنًا مَرضِيًّا مِن كُلِّ ما أخرجُ منه، واجعَلْ لي مِن عندِك حُجَّةً بيِّنةً، وسُلطةً وغلبةً تنصُرُني بها على مَن خالفَني، وقُوَّةً تُعينُني بها على إقامةِ دينِك، وقُلْ -يا مُحمَّدُ: جاء الحَقُّ مِن عندِ اللهِ وظهَرَ على كلِّ ما يخالِفُه من شِركٍ وكُفرٍ، وذهَبَ الباطِلُ واضمَحَلَّ وزالت دولتُه، إنَّ الباطِلَ لا بقاءَ له ولا ثَباتَ.

تفسير الآيات:

 

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَرَ كَيدَ الكافرينَ للرَّسولِ، وما كانوا يَرومونَ به؛ أمَرَه تعالى أن يُقبِلَ على شأنِه مِن عبادةِ رَبِّه، وألَّا يَشغَلَ قَلْبَه بهم، وكان قد تقَدَّمَ القَولُ في الإلهيَّاتِ والمعادِ والنبُوَّاتِ؛ فأردَفَ ذلك بالأمرِ بأشرَفِ العِباداتِ والطَّاعاتِ بعدَ الإيمانِ، وهي الصَّلاةُ

.

وأيضًا فإنَّ اللهَ لمَّا امتَنَّ على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالعصمةِ وبالنَّصرِ؛ ذكَّرَه بشُكرِ النِّعمةِ بأنْ أمَرَه بأعظمِ عِبادةٍ يعبُدُه بها، وبالزِّيادةِ منها؛ طلبًا لازديادِ النِّعمةِ عليه، كما دَلَّ عليه قولُه في آخرِ الآيةِ: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء: 79] .

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ.

أي: أدِّ -يا مُحَمَّدُ- الصَّلَواتِ المَكتوباتِ على وَجهِ التَّمامِ بجَميعِ أركانِها وشُروطِها، في أوقاتِها؛ مِن مَيلِ الشَّمسِ للزَّوالِ -فيَدخُلُ في ذلك صَلاتا الظُّهرِ والعَصرِ- إلى إقبالِ الظَّلامِ واجتِماعِه، ويدخُلُ في ذلك صلاتا المَغرِبِ والعِشاءِ .

كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [هود: 114] .

وقال سُبحانَه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم: 17، 18].

وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ.

أي: وأقِمْ -يا مُحَمَّدُ- صَلاةَ الفَجرِ .

عن أبي بَرزةَ الأسلميِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كان رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقرأُ في الفَجرِ ما بين السِّتينَ إلى المائةِ آيةٍ) ) .

وعن جابِرِ بنِ سَمُرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقرأُ في الفَجرِ بـ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1]، وكان صلاتُه بعدُ تخفيفًا )) .

وعنه أيضًا: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقرأُ في الظُّهرِ بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] ، وفي الصُّبحِ بأطوَلَ مِن ذلك )) .

وعنه أيضًا، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقرأُ في الفَجرِ «الواقِعةَ» ونَحوَها مِن السُّوَرِ) ) .

إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا.

أي: إنَّ صَلاةَ الفَجرِ مَحضورةٌ؛ تَشهَدُها مَلائِكةُ اللَّيلِ، ومَلائِكةُ النَّهارِ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فَضلُ صَلاةِ الجَميعِ على صلاةِ الواحِدِ خَمسٌ وعِشرونَ دَرجةً، وتجتَمِعُ ملائِكةُ اللَّيلِ وملائِكةُ النَّهارِ في صلاةِ الصُّبحِ، يقولُ أبو هريرة: اقرَؤوا إن شِئتُم: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)) .

وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بالصَّلَواتِ الخَمسِ على سَبيلِ الرَّمزِ والإشارةِ؛ أردَفَه بالحَثِّ على صلاةِ اللَّيلِ .

وأيضًا لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإقامةِ الصَّلاةِ للوَقتِ المَذكورِ، ولم يَدُلَّ أمرُه تعالى إيَّاه على اختِصاصِه بذلك دونَ أمَّتِه؛ ذكَرَ ما اختَصَّه به تعالى وأوجَبَه عليه مِن قِيامِ اللَّيلِ، وهو في أمَّتِه تطَوُّعٌ .

وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ.

أي: ومِن بَعضِ اللَّيلِ قُمْ -يا مُحَمَّدُ- مِن نَومِك فصَلِّ بالقُرآنِ؛ زيادةً لك .كما قال تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 2 - 4] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ: أيُّ الصَّلاةِ أفضَلُ بعدَ المَكتوبةِ؟ فقال: أفضَلُ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ المكتوبةِ الصَّلاةُ في جَوفِ اللَّيلِ) ) .

وعن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها: ((أنَّ نبيَّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقومُ مِن اللَّيلِ حتى تتفَطَّرَ قَدَماه )) .

عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا.

أي: افعَلْ هذا الذي أمَرْتُك به -يا مُحَمَّدُ- فيَبعَثَك ربُّك يومَ القيامةِ شَفيعًا في أهلِ المَوقِفِ، فيَحمَدَك الأوَّلونَ والآخِرونَ .

عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الشَّمسَ تدنو يومَ القيامةِ، حتى يبلُغَ العَرَقُ نِصفَ الأُذُنِ، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدَمَ، ثمَّ بموسى، ثُمَّ بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَشفَعُ ليُقضَى بين الخَلقِ، فيمشي حتى يأخُذَ بحَلقةِ البابِ، فيَومَئذٍ يَبعَثُه اللهُ مَقامًا مَحمودًا، يَحمَدُه أهلُ الجَمعِ كُلُّهم )) .

وعن أنس رَضِيَ اللهُ عنه، في حديثِ الشفاعةِ الطويلِ، وسؤالِ الناسِ يومَ القيامةِ الأنبياءَ الشفاعةَ: آدمَ ونوحًا وإبراهيمَ وموسَى وعيسَى عليهم السلامُ إلى أن يأتوا محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم ويأذنَ الله له بالشفاعةِ، ويقولَ له بعدَ أن يقعَ له ساجدًا: ((ارفعْ مُحَمَّدُ، وقلْ يُسمَعْ، واشفعْ تشفَّعْ، وسلْ تُعْطَ. قال: فأرفع رأسي، فأُثني على ربي بثناءٍ وتحميدٍ يعلِّمُنيه، ثم أشفعُ فيحدُّ لي حدًّا، فأخرجُ فأُخرجُهم مِن النارِ، وأُدخلُهم الجنة)) إلى أن يقولَ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((حتى ما يبقَى في النارِ إلَّا مَن حبَسه القرآنُ)) أي: وجَب عليه الخلودُ، قال: ثم تلا هذه الآيةَ: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا قال: ((وهذا المقامُ المحمودُ الذي وُعِده نبيُّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) .

وعن جابِرِ بنِ عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن قال حينَ يَسمَعُ النِّداءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هذه الدَّعوةِ التَّامَّةِ، والصَّلاةِ القائمةِ؛ آتِ مُحَمَّدًا الوَسيلةَ والفَضيلةَ، وابعَثْه مَقامًا محمودًا الذي وعَدْتَه؛ حَلَّت له شفاعتي يومَ القيامةِ )) .

وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((إنَّ النَّاسَ يَصيرونَ يومَ القيامةِ جُثًا ، كُلُّ أمَّةٍ تَتبَعُ نَبيَّها، يقولونَ: يا فُلانُ اشفَعْ، يا فُلانُ اشفَعْ، حتى تنتهيَ الشَّفاعةُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذلك يومَ يَبعَثُه اللهُ المقامَ المحمودَ )) .

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإقامةِ الصَّلاةِ والتهَجُّدِ، ووعَدَه بَعْثَه مقامًا محمودًا، وذلك في الآخرةِ؛ أمَرَه بأن يَدعُوَه بما يَشمَلُ أمورَه الدُّنيويَّةَ والأُخرَويَّةَ .

وأيضًا لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالشُّكرِ الفِعليِّ، عطَفَ عليه الأمرَ بالشُّكرِ اللِّسانيِّ بأن يبتَهِلَ إلى اللهِ بسُؤالِ التَّوفيقِ في الخُروجِ مِن مَكانٍ والدُّخولِ إلى مكانٍ؛ كيلا يضُرَّه أن يَستَفِزَّه أعداؤه مِن الأرضِ لِيُخرِجوه منها، مع ما فيه مِن المناسبةِ لِقَولِه: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، فلمَّا وَعَدَه بأن يُقيمَه مقامًا مَحمودًا، ناسَبَ أن يَسألَ أن يكونَ ذلك حالَه في كُلِّ مَقامٍ يَقومُه .

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ.

أي: وقُلْ -يا مُحَمَّدُ- رَبِّ اجعَلْ دُخولي المدينةَ وكُلَّ ما أدخُلُ فيه، مُدخَلًا حَسَنًا، وفِّقْني فيه لِمَرضاتِك، واجعَلْ خُروجي مِن مَكَّةَ وكُلِّ ما أخرُجُ منه، مُخرَجًا حَسَنًا مَرضِيًّا تُوَفِّقُني فيه لطاعَتِك .

وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا.

أي: واجعَلْ لي -يا رَبِّ- مِن عِندِك حُجَّةً بَيِّنةً، ومُلكًا وسُلطةً وغلبةً تُظهِرُ بها ديني، وتَنصُرُني بها على مَن عاداني .

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لما سأل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الله النصرةَ؛ بيَّن الله له أنَّه أجاب دعاءَه، فقال :

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ

أي: وقُلْ -يا مُحَمَّدُ: جاء الحَقُّ مِن عندِ اللهِ وثَبَت، وذهَبَ الباطِلُ المُخالِفُ لِشَرعِ اللهِ واضمَحَلَّ .

كما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء: 18] .

وقال سُبحانَه: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ: 48-49] .

وقال عزَّ وجلَّ: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: 17] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((دخَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مكَّةَ يومَ الفَتحِ، وحَولَ البَيتِ سِتُّونَ وثَلاثُمئةِ نُصُبٍ ، فجَعَلَ يَطعُنُها بعُودٍ في يَدِه، ويقولُ: جاء الحَقُّ وزهَقَ الباطِلُ، جاء الحَقُّ وما يُبدِئُ الباطِلُ وما يُعيدُ )) .

إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا.

أي: إنَّ الباطِلَ ذاهبٌ، لا بقاءَ له عند مجيءِ الحَقِّ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قِيامُ اللَّيلِ يُوجِبُ عُلُوَّ الدَّرَجاتِ في الجنَّةِ؛ قال اللهُ تعالى لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، فجعَلَ جَزاءَه على التهَجُّدِ بالقُرآنِ باللَّيلِ أن يَبعَثَه المقامَ المحمودَ، وهو أعلى درَجاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

.

2- مُدخَلُ الصِّدقِ ومُخرَجُ الصِّدقِ: هو المُدخَلُ والمُخرَج الذي يكون صاحِبُه فيه ضامنًا على الله، وهو دخولٌ وخُروجٌ باللهِ ولله، وهذه الدَّعوةُ مِن أنفعِ الدُّعاءِ للعبدِ؛ فإنَّه لا يزالُ داخِلًا في أمرٍ وخارجًا من أمرٍ، فمتى كان دخولُه لله وبالله، وخروجُه كذلك؛ كان قد أُدخِلَ مُدخَلَ صِدقٍ وأُخرِجَ مُخرَجَ صِدقٍ .

3- قَولُ الله تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا هذا وَصفُ الباطِلِ، ولكِنَّه قد يكونُ له صَولةٌ ورَوجانٌ إذا لم يُقابِلْه الحَقُّ، فعندَ مَجيءِ الحَقِّ يَضمَحِلُّ الباطِلُ، فلا يبقى له حِراكٌ؛ ولهذا لا يَرُوجُ الباطِلُ إلَّا في الأزمانِ والأمكِنةِ الخاليةِ مِن العِلمِ بآياتِ اللهِ وبَيِّناتِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا يَشهَدُه مَلائِكةُ اللَّيلِ ومَلائِكةُ النَّهارِ، يَنزِلُ هؤلاء، ويَصعَدُ هؤلاء؛ فهو في آخِرِ دِيوانِ اللَّيلِ، وأوَّلِ دِيوانِ النَّهارِ. وفي هذه الآيةِ دَليلٌ واضِحٌ على تعَلُّقِ وُجوبِ الصَّلاةِ بأوَّلِ الوَقتِ، واستحبابِ التَّغليسِ

بصَلاةِ الفَجرِ ، ولأنَّ طولَ القراءةِ في هذه الصلاةِ مطلوبٌ، ولن يتمَّ هذا المطلوبُ إلَّا إذا شرَع في أدائِه في أوَّلِ الوقتِ .

2- قَولُ الله تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا فيه أنَّ القِراءةَ في الصلاةِ رُكنٌ؛ لأنَّ العبادةَ إذا سُمِّيَت ببَعضِ أجزائِها، دَلَّ على فَرضيَّةِ ذلك .

3- قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا فيه مشروعيةُ إطالةِ قراءةِ القرآنِ في صلاةِ الفجرِ؛ لأنَّه خصَّ الفجرَ بإضافةِ القراءةِ إليه، والتَّخصيصُ بالذِّكرِ يدُلُّ على كَونِه أكمَلَ مِن غَيرِه، وأيضًا لفضلِ القراءةِ فيها؛ حيثُ تشهدُها ملائكةُ الليلِ وملائكةُ والنهارِ؛ لذا بَيَّنَ الفُقَهاءُ أنَّ السُّنَّةَ أن تكونَ القِراءةُ في صلاةِ الفجرِ أطوَلَ مِن القِراءةِ في سائِرِ الصَّلَواتِ .

4- قَولُ الله تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا فيه: فَضيلةُ صَلاةِ الفَجرِ .

5- قَولُ الله تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا فيه أنَّ الصَّلواتِ المُوقَعةَ في هذه الأوقاتِ فرائِضُ؛ لِتَخصيصِها بالأمرِ .

6- قَولُ الله تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا فيه دلالةٌ على مواقيتِ الصلواتِ الخمسِ، ذكَر ذلك غيرُ واحدٍ مِن الأئمةِ؛ كمالكٍ والشافعيِّ، ورُوِي معناه عن طائفةٍ مِن السلفِ .

7- قَولُ الله تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا فيه أنَّ الوَقتَ شَرطٌ لصِحَّةِ الصلاةِ، وأنَّه سَبَبٌ لوُجوبِها؛ لأنَّ اللهَ أمَرَ بإقامَتِها لهذه الأوقاتِ .

8- قال الله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا يأمُرُ تعالى نَبيَّه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإقامةِ الصَّلاةِ تامَّةً، ظاهِرًا وباطِنًا، في أوقاتِها. لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي: مَيلانِها إلى الأُفُقِ الغَربيِّ بعدَ الزَّوالِ، فيَدخُلُ في ذلك صَلاةُ الظُّهرِ وصَلاةُ العَصرِ. إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ أي: ظُلمَتِه، فدخَلَ في ذلك صَلاةُ المَغرِبِ وصَلاةُ العِشاءِ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أي: صلاةَ الفَجرِ، ونستفيدُ مِن ذلك أنَّ الظُّهرَ والعَصرَ يُجمَعانِ، والمَغرِبَ والعِشاءَ كذلك؛ للعُذرِ، لأنَّ اللهَ جمَعَ وَقتَهما جميعًا .

9- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا اللامُ في لَكَ متعلِّقةٌ بـ نَافِلَةً وهي لامُ العلَّةِ، أي: نافلةً لأجلِك، وفي هذا دَليلٌ على أنَّ الأمرَ بالتهَجُّدِ خاصٌّ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فالأمرُ للوجوبِ، وبذلك انتظمَ في عدادِ الصَّلواتِ الواجبةِ؛ فبَعضُها واجِبٌ عليه وعلى الأمَّةِ، وبعضُها واجِبٌ عليه خاصَّةً، ويُعلَمُ منه أنَّه مرغَّبٌ فيه، كما صرَّحَت به آيةُ سورةِ (المزمِّل): إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل: 20] إلى قَولِه: مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، وفي هذا الإيجابِ عليه زيادةُ تَشريفٍ له؛ ولهذا أُعقِبَ بوَعدِ أن يبعَثَه اللهُ مَقامًا محمودًا .

10-  قَولُ الله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا عَبَّرَ بـ (عسى) دونَ ما يُفيدُ القَطعَ؛ لأنَّ ذلك أقعَدُ في كَلامِ المُلوكِ؛ لأنَّه أدَلُّ على العَظَمةِ .

11- ما ذُكر مُضافًا إلى الصِّدقِ، كـ (مُدخَلِ الصِّدقِ)، و(مُخرَجِ الصِّدقِ) في قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، وكـ (قدَم الصِّدقِ)، في سورة (يونسَ) [الآية: 2]، و(لسانِ الصِّدقِ)، في سورة (الشُّعَراء) [الآية: 84]، و(مَقعَدِ الصِّدقِ)، في سورة (القمر) [الآية: 55]، فحقيقةُ الصِّدقِ في هذه الأشياءِ: هو الحقُّ الثَّابِتُ، المتَّصِلُ باللهِ، المُوصِلُ إلى اللهِ، وهو ما كان به وله، مِن الأقوالِ والأعمالِ، وجزاءُ ذلك في الدُّنيا والآخرةِ .

12- قَولُ الله تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا فيه استِحبابُ هذا القَولِ عندَ إزالةِ المُنكَرِ ، وقد دَخَل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مَكَّةَ وحولَ البيتِ سِتُّونَ وثلاثُمِئَةِ نُصُبٍ، فجَعَل يطعُنُها بعُودٍ في يدِه ويقولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ: 49] .

13- قال تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا لمَّا كانت دعوةُ الرَّسولِ هي لإقامةِ الحقِّ، وإبطالِ الباطلِ؛ كان الوعدُ بظُهورِ الحقِّ وعدًا بظُهورِ أمْرِ الرَّسولِ، وفوزِه على أعدائِه، واستحفَظَه اللهُ هذه الكلمةَ الجليلةَ إلى أنْ ألقاها يومَ فتْحِ مكَّةَ على مسامِعِ مَن كانوا أعداءَه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا الجُملةُ استئنافٌ ابتدائيٌّ

.

- قولُه: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ فيه الاكتفاءُ ببَيانِ المبدَأِ والمُنْتهى في أوقاتِ الصَّلواتِ من غيرِ فصْلٍ بينها؛ ولعلَّ ذلك لِمَا أنَّ الإنسانَ فيما بين هذه الأوقاتِ على اليقظةِ؛ فبعضُها مُتَّصلٌ ببعضٍ، بخلافِ أوَّلِ وقْتِ العشاءِ والفجْرِ، فإنَّه باشتغالِه فيما بينهما بالنَّومِ ينقطِعُ أحدُهما عن الآخرِ؛ ولذلك فصَلَ وقْتَ الفجرِ عن سائرِ الأوقاتِ .

- قولُه: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا جُملةُ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا استئنافٌ بيانيٌّ لوجْهِ تَخصيصِ صلاةِ الصُّبحِ باسمِ القُرآنِ بأنَّ صلاةَ الفجرِ مشهودةٌ، أي: مَحضورةٌ، أي: تَحضرُها ملائكةُ اللَّيلِ ومَلائكةُ النَّهارِ، وذلك زِيادةٌ في فَضلِها وبَركتِها. وأيضًا فهي يَحضرُها أكثرُ المُصلِّينَ؛ لأنَّ وقتَها وقتُ النَّشاطِ وبَعدَها يَنتظرُ النَّاسُ طُلوعَ الشَّمسِ؛ ليَخرجوا إلى أعمالِهم فيَكثُرَ سَماعُ القرآنِ حِينئذٍ . وقيل: خَصَّ ذِكْرَ القُرآنِ بصَلاةِ الفجرِ دونَ غيرِها؛ لأنَّها يُجْهَرُ بالقُرآنِ في جَميعِ رَكَعاتِها، ولأنَّ سُنَّتَها أنْ يُقْرَأَ بسُورٍ من طوالِ المُفصَّلِ .

- وقولُه: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ، حيث لم يقُلْ: (إنَّه)؛ إبانةً لمزيدِ الاهتمامِ والتَّنويهِ بقُرآنِ الفَجرِ وتَعظيمِه ، وللاحتِرازِ لئلَّا يُفهمَ أو يُتوهَّمَ أنَّ الضَّميرَ يعودُ على الْفَجْرِ؛ فإنَّه لو قال: (إنه) لأَوهمَ عَوْدَ الضَّميرِ إلى الْفَجْرِ .

2- قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا

- قولُه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ فيه تَقديمُ المجرورِ وَمِنَ اللَّيْلِ المُتعلِّقِ بـ تَهَجَّدْ على مُتعلَّقِه؛ اهتمامًا به وتَحريضًا عليه. وقولُه: وَمِنَ اللَّيْلِ في معنى الإغراءِ؛ بناءً على أنَّ نصْبَ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ على الإغراءِ؛ فيكونُ فَتَهَجَّدْ تَفريعًا على الإغراءِ تَفريعَ مُفصَّلٍ على مُجْمَلٍ .

- قولُه: نَافِلَةً لَكَ، أي: فَريضةً زائِدةً على الصَّلَواتِ الخَمسِ المفروضةِ، خاصَّةً بك دونَ الأُمَّةِ، ولعَلَّه هو الوَجهُ في تَأخيرِ ذِكرِها عن ذِكرِ صَلاةِ الفَجرِ مع تقدُّمِ وَقتِها على وَقتِها .

- وجُملةُ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ تَعليلٌ لتَخصيصِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإيجابِ التَّهجُّدِ عليه .

- والتنكيرُ في قولِه تعالى: مَقَامًا مَحْمُودًا يدلُّ على أنَّه يحصلُ للنبيِّ -عليه السلامُ- في ذلك المقامِ حمدٌ بالغٌ، عظيمٌ كاملٌ .

3- قولُه تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا

- قولُه: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ اخْتِيرَ هنا الاسمُ المُشتقُّ -مُدْخَلَ مُخْرَجَ- من الفعلِ المُتعدِّي؛ للإشارةِ إلى أنَّ المطلوبَ دُخولٌ وخُروجٌ مُيسَّرانِ من اللهِ تعالى وواقعانِ بإذْنِه، وذلك دُعاءٌ بكلِّ دُخولٍ وخُروجٍ مباركَينِ؛ لتتِمَّ المُناسبةُ بين المسؤولِ وبين الموعودِ به، وهو المقامُ المحمودُ .

- وقولُه: نَصِيرًا مُبالغةٌ في ناصرٍ .

4- قولُه تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا

- أعقَبَ تلقينَه الدُّعاءَ بسَدادِ أعمالِه، وتأييدِه فيها، بأنْ لقَّنَه هذا الإعلانَ المُنْبِئَ بحُصولِ إجابةِ الدَّعوةِ المُلْهَمةِ، بإبرازِ وعْدِه بظُهورِ أمْرِه في صُورةِ الخبَرِ عن شَيءٍ مضَى .

- قولُه: إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا تَذييلٌ للجُملةِ الَّتي قبله، خرَجَ مخرَجَ المثَلِ السَّائرِ؛ لِمَا فيه من عُمومٍ يشمَلُ كلَّ باطلٍ في كلِّ زمانٍ، وإذا كان هذا شأنَ الباطلِ، كان الثَّباتُ والانتصارُ شأْنَ الحقِّ؛ لأنَّه ضِدُّ الباطلِ، فإذا انتفَى الباطِلُ ثبَتَ الحقُّ، ودَلَّ فعْلُ (كان) على أنَّ الزُّهوقَ شِنْشنةُ الباطلِ، وشأْنُه في كلِّ زمانٍ أنَّه يظهَرُ ثمَّ يضْمحِلُّ .

- قوله: زَهُوقًا صِفَةُ مُبالغةٍ في اضمحلالِه وعدَمِ ثُبوتِه في وقتٍ ما

==================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (82-84)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ

غريب الكلمات:

 

وَنَأَى: أي: تباعَد، وأصلُ النأيِ: البعدُ، وهو ضدُّ القربِ

.

بِجَانِبِهِ: أي: بنفسِه أو بناحيتِه وقربِه، وأصلُ (جنب): ناحيةٌ .

شَاكِلَتِهِ: أي: ناحِيَتِه وطريقَتِه، وقيل: خَليقَتِه وطبيعتِه. والشَّاكِلةُ مِن الأُمورِ: ما وافَقَ فاعِلَه، وأصلُ (شكل): يدُلُّ على المُماثَلةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: ونُنَزِّلُ مِن آياتِ القُرآنِ العَظيمِ ما يَشفِي قُلوبَ المؤمنين مِن الشَّهَواتِ والشُّبُهاتِ، وما يَشفي الأبدانَ مِن الأمراضِ، ورَحمةً لهم في الدُّنيا والآخرةِ، ولا يزيدُ هذا القُرآنُ الكُفَّارَ عند سَماعِه إلَّا تكذيبًا وكُفرًا وضَلالًا.

ثمَّ بيَّن الله تعالى أحوالَ الإنسانِ في حالتي اليسرِ والعسرِ، والرخاءِ والشِّدَّةِ، فقال: وإذا أنعَمْنا على الإنسانِ بنِعمةٍ مِا، أعرَضَ عن شُكرِ ربِّه، وتولَّى عن طاعتِه، وإذا أصابَتْه شِدَّةٌ مِن فَقرٍ أو مَرَضٍ، كان قَنُوطًا يائِسًا مِن رَحمةِ رَبِّه. قُلْ -يا مُحمَّدُ- للنَّاسِ: كُلُّ إنسانٍ منكم يعمَلُ على ما يَليقُ به ويُناسِبُ أخلاقَه ومَذهَبَه؛ فرَبُّكم أعلَمُ بمَن هو أهدى طريقًا إلى الحَقِّ.

تفسير الآيات:

 

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى الإلهيَّاتِ والنبُوَّاتِ، والحَشرَ والنَّشرَ والبَعثَ، وإثباتَ القَضاءِ والقَدَر، ثمَّ أتبَعَه بالأمرِ بالصَّلاةِ، ونبَّه على ما فيها من الأسرارِ، وكان القُرآنُ هو الجامِعَ لجَميعِ ذلك- أتبَعَه ببيانِ كَونِه شِفاءً ورَحمةً

.

وأيضًا فإنَّ الآيةَ عَطفٌ على جُملةِ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء: 81] على ما في تلك الجُملةِ والجُمَلِ التي سبقَتْها من معنى التأييدِ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومن الإغاظةِ للمُشرِكين، ابتداءً مِن قَولِه: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء: 73] . فإنَّه بعد أن امتنَّ عليه بأن أيَّده بالعِصمةِ مِن الركونِ إليهم وتبشيرِه بالنُّصرةِ عليهم وبالخَلاصِ مِن كيدِهم، وبعد أن هدَّدهم بأنَّهم صائرون قريبًا إلى هلاكٍ، وأنَّ دينَهم صائرٌ إلى الاضمِحلالِ- أعلن له ولهم في هذه الآيةِ: أنَّ ما منه غيظُهم وحنَقُهم، وهو القرآنُ الذي طَمِعوا أن يسألوا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُبدِّلَه بقرآنٍ ليس فيه ذِكرُ أصنامِهم بسُوءٍ؛ أنَّه لا يزالُ متجَدِّدًا مستمِرًّا، فيه شفاءٌ للرَّسولِ وأتباعِه، وخَسارةٌ لأعدائِه الظالِمين، ولأنَّ القرآنَ مصدرُ الحَقِّ ومَدحَضُ الباطِلِ، أعقَبَ قَولَه: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ بقَولِه :

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.

أي: ونُنَزِّلُ مِن القُرآنِ ما هو شِفاءٌ لِما في قُلوبِ المُؤمِنينَ مِن الشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ، وشِفاءٌ لِما في أبدانِهم مِن الأمراضِ، ورحمةٌ للمؤمنينَ العاملينَ بما فيه، يكونُ سببَ نجاتِهم مِن العذابِ، ودخولِهم الجنةَ، ونيلِ السعادةِ الأبديةِ .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] .

وقال سُبحانَه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت: 44] .

وقال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: 155] .

وقال سُبحانَه: قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 203-204] .

وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ ناسًا مِن أصحابِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا في سَفَرٍ، فمرُّوا بحَيٍّ من أحياءِ العَرَبِ، فاستَضافوهم فلمْ يُضَيِّفوهم، فقالوا لهم: هل فيكم راقٍ؛ فإنَّ سَيِّدَ الحَيِّ لَديغٌ أو مُصابٌ؟ فقال رَجُلٌ منهم: نَعَم، فأتاه فَرَقاه بفاتحةِ الكِتابِ، فبَرَأ الرَّجُلُ، فأُعطِيَ قَطيعًا مِن غَنَمٍ، فأبى أن يَقبَلَها، وقال: حتَّى أذكُرَ ذلك للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَرَ ذلك له، فقال: يا رَسولَ اللهِ، واللهِ ما رَقَيْتُ إلَّا بفاتحةِ الكِتابِ، فتَبَسَّمَ وقال: وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! ثمَّ قال: خُذُوا منهم، واضرِبوا لي بسَهمٍ معك م)) .

وعن عائشةَ رَضِيَ الله عنها: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا اشتَكى يقرأُ على نَفسِه بالمُعَوِّذاتِ، ويَنفُثُ، فلمَّا اشتَدَّ وَجعُه كنت أقرأُ عليه، وأمسَحُ عنه بيَدِه؛ رجاءَ بَرَكتِه ا)) .

وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا مَرِضَ أحَدٌ مِن أهْلِه نَفَث عليه بالمُعَوِّذاتِ )) .

وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا.

أي: ولا يَزيدُ القُرآنُ الظَّالِمينَ أنفُسَهم بالكُفرِ إلَّا هَلاكًا؛ فلا يَزيدُهم سَماعُ القُرآنِ إلَّا بُعدًا عن الحَقِّ، وتكذيبًا وكُفرًا؛ وذلك بسَبَبِ تَكذيبِهم بالقُرآنِ، وتَرْكِهم العَمَلَ به؛ فلا يَنتَفِعونَ به؛ لإعراضِهم عنه .

كما قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 124- 125] .

وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] .

وقال عزَّ وجلَّ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة: 26] .

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى تَنويعَ ما أنزَلَ مِن القُرآنِ شِفاءً ورَحمةً للمُؤمنِ، وبزيادةِ خَسارٍ للظَّالِمِ؛ عرَّضَ بما أنعَمَ به وما حَواه مِن لَطائِفِ الشَّرائِعِ على الإنسانِ، ومع ذلك أعرَضَ عنه، وبَعُدَ بجانِبِه؛ اشمِئزازًا له وتكَبُّرًا عن قُربِ سَماعِه، وتبديلًا مكانَ شُكرِ الإنعامِ كُفْرَه .

وأيضًا لَمَّا كان القُرآنُ نِعمةً عَظيمةً للنَّاسِ، وكان إعراضُ المُشرِكينَ عنه حِرمانًا عَظيمًا لهم مِن خَيراتٍ كَثيرةٍ، ولم يكُنْ مِن شَأنِ أهلِ العُقولِ السَّليمةِ أن يَرضَوا بالحِرمانِ مِن الخَيرِ؛ كان الإخبارُ عن زِيادتِه الظَّالِمينَ خَسارًا- مُستَغربًا، مِن شَأنِه أن يُثيرَ في نُفوسِ السَّامِعينَ التَّساؤُلَ عن سَبَبِ ذلك؛ فأعقَبَ ذلك ببيانِ السَّبَبِ النَّفسانيِّ الذي يُوقِعُ العُقَلاءَ في مَهواةِ هذا الحِرمانِ، وذلك بعد الاشتِغالِ بما هو فيه مِن نِعمةٍ هَوِيَها وأُولِعَ بها، وهي نِعمةٌ تتَقاصَرُ عن أوْجِ تلك النِّعَمِ التي حُرِمَ منها لولا الهَوى الذي عَلِقَ بها والغُرورُ الذي أراه إيَّاها قُصارى المَطلوبِ، وما هي إلَّا إلى زوالٍ قَريبٍ .

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ.

أي: وإذا أنعَمْنا على الإنسانِ بنِعمةٍ -كرِزقٍ أو نَصرٍ، أو صِحَّةٍ أو فَرَجٍ- أعرَضَ عن عبادةِ اللهِ وشُكرِه، وذِكرِه وتَدَبُّرِ آياتِه، وابتعَدَ عن طاعةِ رَبِّه، فلم يمتَثِلْ أمْرَه، ولم يجتَنِبْ نَهْيَه !

كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس: 12] .

وقال سُبحانَه: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] .

وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا.

أي: وإذا أصاب الإنسانَ الضُّرُّ -كفَقرٍ أو مرضٍ أو بُؤسٍ- كان قانِطًا مِن الفَرَجِ بعدَ الشِّدَّةِ، يائِسًا مِن رَحمةِ رَبِّه سُبحانَه .

كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ [هود: 9] .

وقال سُبحانَه: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36].

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84).

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ.

أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ- مُخبِرًا للنَّاسِ: كُلُّ إنسانٍ يعمَلُ على وَفقِ نِيَّتِه، وبحَسَب طريقَتِه التي تَليقُ به، وتُناسِبُ أخلاقَه وطَبيعَتَه، ومَذهَبَه وعادَتَه التي ألِفَها؛ فالكافِرُ يعمَلُ بما يُشبِهُ طَريقَتَه مِن مُقابَلةِ النِّعَمِ بالمعاصي، والإعراضِ عن المُنعِمِ، والمؤمِنُ يعمَلُ بما يُشاكِلُه مِن شُكرِ النِّعَمِ، ومَحبَّةِ المُنعِمِ بها، والثَّناءِ عليه، والتوَدُّدِ إليه، والحياءِ منه، والمُراقبةِ له، وتَعظيمِه وإجلالِه عزَّ وجلَّ .

كما قال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود: 121- 122] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 135] .

وقال سُبحانَه: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [الزمر: 39 -40] .

فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا.

أي: فرَبُّكم -أيُّها النَّاسُ- أعلَمُ بالمُؤمِنِ والكافِرِ منكم، ومَن هو أهدى طريقًا إلى الحَقِّ مِن غَيرِه، وسيُجازي كلَّ عامِلٍ بعَمَلِه

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125] .

الفوائد التربوية:

 

- قَولُ الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا فيه أنَّ القُرآنَ مُشتَمِلٌ على الشِّفاءِ والرَّحمةِ، وليس ذلك لكُلِّ أحَدٍ، وإنَّما ذلك للمُؤمِنينَ به، المُصَدِّقينَ بآياتِه، العامِلينَ به، وأمَّا الظَّالِمونَ بعَدَمِ التَّصديقِ به، أو عَدَمِ العَمَلِ به، فلا تَزيدُهم آياتُه إلَّا خَسارًا؛ إذ به تقومُ عليهم الحُجَّةُ. فالشِّفاءُ الذي تضَمَّنَه القُرآنُ عامٌّ لِشِفاءِ القُلوبِ؛ مِنَ الشُّبَه، والجَهالة، والآراءِ الفاسدةِ، والانحرافِ السَّيِّئ، والقُصُودِ السَّيِّئةِ؛ فإنَّه مُشتَمِلٌ على العِلمِ اليَقينيِّ الذي تَزولُ به كُلُّ شُبهةٍ وجَهالةٍ، والوَعظِ والتَّذكيرِ الذي يزولُ به كُلُّ شَهوةٍ تُخالِفُ أمْرَ اللهِ، ولشِفاءِ الأبدانِ مِن آلامِها وأسقامِها. وأمَّا الرَّحمةُ، فإنَّ ما فيه من الأسبابِ والوَسائِلِ التي يُحَثُّ عليها، متى فعَلَها العبدُ فاز بالرَّحمةِ والسَّعادةِ الأبَديَّةِ، والثَّوابِ العاجِلِ والآجِلِ

 

.

 

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُه تعالى: مَا هُوَ شِفَاءٌ يَعُمُّ الشِّفاءَ القَلبيَّ والبدنيَّ، أي: يَعُمُّ الشِّفاءَ مِن الأمراضِ القَلبيَّةِ -كالشَّكِّ والشِّركِ، والعَداوةِ للمُؤمِنينَ والبَغضاءِ لهم، وما أشبَهَ ذلك- وكذلك مِن الأمراضِ الجَسَديَّةِ -كالصُّداعِ والألمِ وما أشبَهَ ذلك، فالقُرآنُ كلُّه خَيرٌ، كلُّه شِفاءٌ

.

2- قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ هاهنا أمرٌ يَنبغي التفَطُّنُ له، وهو أنَّ الأذكارَ والآياتِ والأدعيةَ التي يُستَشفى بها ويُرقَى بها، هي في نَفسِها نافِعةٌ شافِيةٌ، ولكِنْ تَستَدعي قَبولَ المحَلِّ، وقُوَّةَ هِمَّةِ الفاعِلِ وتأثيرِه، فمتى تخَلَّفَ الشِّفاءُ كان لِضَعفِ تأثيرِ الفاعِلِ، أو لعَدَمِ قَبولِ المُنفَعِل، أو لِمانعٍ قَويٍّ فيه يمنَعُ أن يَنجَعَ فيه الدَّواءُ، كما يكونُ ذلك في الأدويةِ والأدواءِ الحِسِّيَّةِ؛ فإنَّ عَدَمَ تأثيرِها قد يكون لعَدَمِ قَبولِ الطَّبيعةِ لذلك الدَّواءِ، وقد يكونُ لمانعٍ قَويٍّ يمنَعُ مِن اقتِضائِه أثَرَه، فإنَّ الطبيعةَ إذا أخَذَت الدَّواءَ بقَبولٍ تامٍّ كان انتفاعُ البَدَنِ به بحَسَبِ ذلك القَبولِ، فكذلك القَلبُ إذا أخذَ الرُّقَى والتعاويذَ بقَبولٍ تامٍّ، وكان للرَّاقي نَفسٌ فعَّالةٌ، وهِمَّةٌ مُؤَثِّرةٌ في إزالةِ الدَّاءِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا

- قولُه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ فيه اختيارُ المُضارعِ المُشتقِّ من فعلِ المُضاعفِ (نُنزِّل) للإخبارِ عن التَّنزيلِ؛ للدَّلالةِ على التَّجديدِ والتَّكريرِ والتَّكثيرِ

.

- قولُه: مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه تقديمُ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لتحصيلِ غرَضِ الاهتمامِ بذكْرِ القُرآنِ مع غرَضِ الثَّناءِ عليه بطريقِ الموصوليَّةِ بقولِه: مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ...؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ ذلك الوصفِ منه بحيثُ يُعْرَفُ به .

2- قوله تعالى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا

- قولُه: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ التَّعريفُ في الْإِنْسَانِ تعريفُ الجنسِ، وهو يفيدُ الاستغراقَ، وهو استغراقٌ عُرفيٌّ، أي: أكثرِ أفرادِ الإنسانِ؛ لأنَّ أكثرَ النَّاسِ يومئذٍ كُفَّارٌ، وأكثرَ العربِ مُشرِكون .

- قولُه: أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ فيه حذْفُ مُتعلَّقِ أَعْرَضَ ونَأَى؛ لدَلالةِ المقامِ عليه من قولِه: أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ، أي: أعرَضَ عنَّا وأجفَلَ منَّا، أي: من عِبادتِنا وأمْرِنا ونَهيِنا .

- قولُه: وَنَأَى بِجَانِبِهِ تأكيدٌ للإعراضِ؛ لأنَّ الإعراضَ عن الشَّيءِ أنْ يُولِّيَه عُرْضَ وجْهِه. والنَّأيُ بالجانبِ: أنْ يَلْويَ عنه عِطْفَه، ويُولِّيَه ظهْرَه، وأراد الاستكبارَ؛ لأنَّ ذلك من عادةِ المُستكبِرينَ .

- وجُملةُ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا احتراسٌ من أنْ يتوهَّمَ السَّامعُ من التَّقييدِ بقولِه: وَإِذَا أَنْعَمْنَا، أنَّه إذا زالت عنه النِّعمةُ صلَحَ حالُه، فبيَّنَ أنَّ حالَه مُلازِمٌ لنُكرانِ الجميلِ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، فإذا زالتِ النِّعمةُ عنه لم يُقْلِعْ عن الشِّركِ والكُفرِ، ويتُبْ إلى اللهِ، ولكنَّه ييئَسُ من الخيرِ، ويَبْقى حَنِقًا ضيِّقَ الصَّدرِ، لا يعرِفُ كيف يتدارَكُ أمْرَه. ودَلَّ قولُه: كَانَ يَئُوسًا على قُوَّةِ يأْسِه؛ إذ صِيغَ له مثالُ المُبالَغةِ، وذُكِر معه فعْلُ (كان) الدَّالُّ على رُسوخِ الفعْلِ؛ تَعجيبًا من حالِه في وقْتِ مَسِّ الضَّرِّ إيَّاه؛ لأنَّ حالةَ الضَّرِّ أدعى إلى الفكرةِ في وسائلِ دفْعِه، بخلافِ حالةِ الإعراضِ في وقْتِ النِّعمةِ، فإنَّها حالةٌ لا يُستغرَبُ فيها الازدهاءُ؛ لِمَا هو فيه من النِّعمةِ .

وأتَى هنا بـ إِذَا المشعِرةِ بتحقيقِ الوقوعِ المستلزِمِ لليأسِ؛ فإنَّ اليأسَ إنَّما حصل عند تحقُّقِ مسِّ الشَّرِّ له، فكان الإتيانُ بـ إِذَا هاهنا أدَلَّ على المعنى المقصودِ مِن (إنْ)، بخلاف قَولِه: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ فإنَّه بقلَّةِ صَبرِه وضَعفِ احتِمالِه متى توقَّع الشَّرَّ أعرض وأطال في الدُّعاءِ، فإذا تحقَّق وقوعَه كان يؤوسًا .

3- قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا

- جُملةُ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ تذييلٌ؛ لِمَا في كلمةِ (كل) من العُمومِ، وهذا التَّذييلُ تَنهيةٌ للغرَضِ الَّذي ابتُدِئَ من قولِه: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الرَّاجعِ إلى التَّذكيرِ بنِعَمِ اللهِ تعالى على النَّاسِ، وإلى التَّحذيرِ من عواقبِ كُفرانِ النِّعمِ، وهي تَجْري مَجْرى المثَلِ، وفرَّعَ عليها قولَه: فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا، وهو كلامٌ جامعٌ لتعليمِ النَّاسِ بعُمومِ علْمِ اللهِ، والتَّرغيبِ للمُؤمنين، والإنذارِ للمُشركين مع تَشكيكِهم في حقِّيَّةِ دِينِهم لعلَّهم يَنظُرون، كقولِه: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى الآيةَ [سبأ: 24]

===================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (85-87)

ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ

المعنى الإجمالي:

 

ذكر الله تعالى بعضَ الأسئلةِ التي كانت تُوجَّهُ إلى الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: ويَسألُك الكُفَّارُ عن حقيقةِ الرُّوحِ، قلْ لهم: الرُّوحُ مِمَّا استأثَرَ اللهُ بعِلمِه، وما أُعطِيتُم مِن العِلمِ إلَّا شَيئًا قليلًا.

ثمَّ بيَّن سبحانه مظهرًا مِن مظاهرِ قدرتِه، فقال: ولَئِنْ شِئْنا مَحْوَ القُرآنِ مِن قَلبِك لمحَوناه، ثمَّ لا تَجِدُ لنَفسِك ناصِرًا يمنَعُنا مِن فِعْلِ ذلك، أو يَرُدُّ عليك القُرآنَ بعدَ ذَهابِه عنك. لكنْ أثبَتْناه في قَلبِك رحمةً مِنَّا وتفضُّلًا؛ إنَّ فَضْلَه كان عليك عَظيمًا في الدُّنيا والآخِرةِ.

تفسير الآيات:

 

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85).

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ.

مُناسبةُ الآيةِ لما قبلَها:

لمَّا انجرَّ الكلامُ إلى ذِكرِ الإنسانِ وما جُبِل عليه، ذكَرَ سُبحانَه سؤالَ السَّائلين لرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الرُّوحِ

.

سَبَبُ النُّزولِ:

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بينما أنا أمشي مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَرثٍ ، وهو مُتَّكِئٌ على عَسيبٍ ، إذ مَرَّ بنَفَرٍ مِن اليَهودِ، فقال بَعضُهم لبَعضٍ: سَلُوه عن الرُّوحِ، فقالوا: ما رابَكم إليه، لا يَستَقبِلُكم بشَيءٍ تَكرهونَه، فقالوا: سَلُوه، فقام إليه بَعضُهم فسألَه عن الرُّوحِ، قال: فأَسكَتَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يَرُدَّ عليه شيئًا، فعَلِمتُ أنَّه يُوحَى إليه، قال: فقُمتُ مكاني، فلمَّا نَزَل الوَحيُ قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)) .

وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (قالت قُرَيشٌ لليَهودِ: أعطُونا شيئًا نسألُ عنه هذا الرَّجُلَ، فقالوا: سَلُوه عن الرُّوحِ، فسألوه، فنَزَلت: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ.

أي: ويسألُك الكُفَّارُ -يا مُحمَّدُ- عن ماهِيَّةِ الرُّوحِ التي بها الحياةُ؛ ما حَقيقتُها ؟

قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي.

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهم: الرُّوحُ مِن شَأنِ رَبِّي، استأثَرَ بعِلمِها؛ فهو الذي خَلَقها، ولا يعلَمُ حَقيقَتَها أحدٌ غيرُ الله .

وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.

أي: وما آتاكم اللهُ -أيُّها النَّاسُ - مِن العِلمِ إلَّا شَيئًا قَليلًا ممَّا يَعلَمُه سُبحانَه .

عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في قِصَّةِ الخَضِرِ وموسى عليهما السَّلامُ: ((... فلمَّا رَكِبَا في السَّفينةِ جاء عُصفورٌ، فوقعَ على حَرفِ السَّفينةِ فنقرَ في البَحرِ نَقرةً أو نَقرتَينِ، قال لهُ الخَضِرُ: يا موسى، ما نَقَصَ عِلمي وعِلمُكَ مِن علمِ اللهِ إلَّا مِثلَ ما نقَصَ هذا العُصفورُ بمِنقارِه مِن البَحرِ )) .

وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ الأولى أنَّه ما آتاهم مِن العِلمِ إلَّا قَليلًا؛ بَيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّه لو شاء أن يأخُذَ منهم ذلك القَليلَ أيضًا لقَدَر عليه، وذلك بأنْ يَمحُوَ حِفظَه من القُلوبِ وكِتابَتَه مِن الكُتُبِ، وهذا وإن كان أمرًا مُخالِفًا للعادةِ إلَّا أنَّه تعالى قادِرٌ عليه .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما أنعَمَ به من تنزيلِ القُرآنِ على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شِفاءً ورَحمةً وقُدرتَه على ذلك؛ ذكَرَ قُدرَتَه على أنَّه لو شاء لذَهَب بما أوحى، ولكِنَّه تعالى لم يشأْ ذلك، والمعنى أنَّا كما نحن قادِرونَ على إنزالِه، فنحن قادِرونَ على إذهابِه .

وأيضًا فالآيةُ مُتَّصلةٌ بقولِه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ...، أفضَتْ إليها المُناسبةُ؛ فإنَّه لمَّا تضمَّنَ قولُه: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي تلقينَ كلمةِ علْمٍ جامعةٍ، وتضمَّنَ أنَّ الأُمَّةَ أُوتِيتَ علْمًا ومُنِعَت علْمًا، وأنَّ علْمَ النُّبوَّةِ من أعظَمِ ما أُوتِيَتْه، أعقَبَ ذلك بالتَّنبيهِ إلى الشُّكرِ على نِعْمةِ العلْمِ؛ دفعًا لغُرورِ النَّفسِ؛ لأنَّ العلمَ بالأشياءِ يُكسِبُها إعجابًا بتميُّزِها عمَّن دونها فيه، فأُوقِظَت إلى أنَّ الَّذي منَحَ العلمَ قادرٌ على سلْبِه .

وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ.

أي: وأُقسِمُ -يا مُحمَّدُ- لَئِنْ أرَدْنا لنُزيلَنَّ القُرآنَ الذي أوحَيناه إليك مِن قَلْبِك، فلا يبقَى منه شَيءٌ مَحفوظٌ في الصُّدورِ ولا مَكتوبٌ في السُّطورِ؛ فكما قَدَرْنا على إنزالِه نَقدِرُ على إذهابِه .

عن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَدرُسُ الإسلامُ كما يَدرُسُ وَشْيُ الثَّوبِ ، حتى لا يُدرَى ما صِيامٌ، ولا صَلاةٌ، ولا نُسُكٌ، ولا صَدَقةٌ، ولَيُسرَى على كتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في ليلةٍ، فلا يبقى في الأرضِ منه آيةٌ، وتبقى طوائِفُ مِن النَّاسِ: الشَّيخُ الكَبيرُ والعَجوزُ، يقولون: أدرَكْنا آباءَنا على هذه الكَلِمةِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فنحن نَقولُها!) ) .

ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا.

أي: ثمَّ لا تَجِدُ لك -يا مُحمَّدُ- ناصِرًا يَنصُرُك فيَمنَعُنا مِن إزالةِ القُرآنِ مِن صَدرِك، أو يَقومُ برَدِّه إليك بعدَ ذَهابِه عنك .

إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87).

إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.

أي: لكِنَّ رَبَّك -يا مُحمَّدُ- لا يشاءُ أن يُذهِبَ القُرآنَ مِن صَدرِك رَحمةً منه بك وبِعبادِه .

إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا.

أي: لا يَذهَبُ اللهُ بالقُرآنِ -يا مُحمَّدُ- لأنَّ فَضلَ اللهِ عليك كان فَضلًا عَظيمًا في الدُّنيا والآخرةِ؛ بالرِّسالةِ، وإنزالِ القُرآنِ، والمَقامِ المَحمودِ يومَ القيامةِ، وغَيرِ ذلك مِن نِعَمِه عليك، فلا يَحرِمُك الفَضلَ الذي أوحاه إليك

 

.

كما قال تعالى: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا مُتضَمِّنٌ لرَدعِ مَن يسألُ المسائِلَ التي لا يَقصِدُ بها إلَّا التعَنُّتَ والتَّعجيزَ، ويدَعُ السُّؤالَ عن المُهِمِّ، فيسألونَ عن الرُّوحِ التي هي مِن الأمورِ الخَفيَّةِ، التي لا يُتقِنُ وَصفَها وكيفيَّتَها كُلُّ أحدٍ، وهم قاصِرونَ في العِلمِ الذي يَحتاجُ إليه العِبادُ

!

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فيه دليلٌ على أنَّ المسؤولَ إذا سُئِلَ عن أمرٍ الأَولى بالسَّائِلِ غَيرُه، أن يُعرِضَ عن جوابِه، ويَدُلَّه على ما يَحتاجُ إليه، ويُرشِدَه إلى ما ينفَعُه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا في هذه الآيةِ ما يَزجُرُ الخائِضينَ في شأنِ الرُّوحِ، المُتكَلِّفينَ لبَيانِ ماهيتِه وإيضاحِ حقيقتِه- أبلَغَ زَجرٍ، ويَردَعُهم أعظَمَ رَدعٍ، وقد أطالوا المقالَ في هذا البَحثِ بما لا يَتِمُّ له المقامُ، وغالِبُه بل كُلُّه من الفُضولِ الذي لا يأتي بنَفعٍ في دينٍ ولا دنيا. وقد حكى بعضُ المُحقِّقينَ أنَّ أقوالَ المُختَلِفينَ في الرُّوحِ بَلَغَت إلى ثمانيةَ عَشرَ ومئةِ قَولٍ، فانظُرْ إلى هذا الفُضولِ الفارِغِ، والتعَبِ العاطِلِ عن النَّفعِ! بعد أن عَلِموا أنَّ اللهَ سُبحانَه قد استأثَرَ بعِلمِه، ولم يُطلِعْ عليه أنبياءَه، ولا أذِنَ لهم بالسُّؤالِ عنه، ولا البَحثِ عن حقيقتِه، فضلًا عن أُمَمِهم المُقتَدينَ بهم، فيا لَلَّهِ العَجَب؛ حيث تَبلُغُ أقوالُ أهلِ الفُضولِ إلى هذا الحَدِّ الذي لم تَبلُغْه ولا بَعضَه في غَيرِ هذه المسألةِ مِمَّا أذِنَ الله بالكلامِ فيه، ولم يستأثِرْ بعِلمِه

!!

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فيه دَلالةٌ على أنَّ الرُّوحَ لا يُمكِنُ الإحاطةُ بها، ولا يُمكِنُ تحديدُ ماهيَّتِها أبدًا . فالبَدَنُ مادَّتُه مَعلومةٌ: وهي التُّرابُ، أمَّا الرُّوحُ فمادَّتُها غيرُ مَعلومةٍ، وهذه -واللهُ أعلمُ- من الحِكمةِ في إضافتِها إليه: أنَّها أمرٌ لا يُمكِنُ أن يَصِلَ إليه عِلمُ البشَرِ، بل هي ممَّا استأثَرَ اللهُ بعِلمِه، كسائِرِ العُلومِ العَظيمةِ الكثيرةِ التي لم نُؤتَ منها إلَّا القَليلَ، ولا نُحيطُ بشَيءٍ مِن هذا القَليلِ إلَّا بما شاء اللهُ تبارك وتعالى . لذا تمسَّكَ بالآية مَن قال: إنَّ الرُّوحَ لا يُعلَمُ، وأمسَكَ عن الخَوضِ فيه .

3- إنَّ إبهامَ أمرِ الرُّوحِ في قَولِه تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فيه حِكمةٌ مِن جِهةِ اختبارِ الخَلقِ؛ ليُعَرِّفَهم سُبحانَه بعَجزِهم عن عِلمِ ما لا يُدرِكونَه؛ حتى يَضطرَّهم إلى رَدِّ العِلمِ إليه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا

- قولُه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ، حيث قال: قُلِ الرُّوحُ ولم يقُلْ: (قُلْ: إنَّها)؛ إظهارًا لكمالِ الاعتناءِ بشأْنِه

.

- وأضاف الروحَ إلى (الأمر) -وإن كانت مِن جملةِ خلقِه- تشريفًا لها، وإشارةً إلى أنَّه لا سببَ مِن غيرِه يتوسَّطُ بينها وبين أمرِه، بل هو يبدعُها مِن العدمِ .

- وإضافةُ ضَميرِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الرَّبِّ جَلَّ وعَلا بقولِه: مِنْ أَمْرِ رَبِّي فيها من تَشريفِ المُضافِ ما لا يَخْفى .

2- قولُه تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا خُوطِبَ بذلك النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ علْمَه أعظَمُ علْمٍ، فإذا كان وُجودُ علْمِه خاضعًا لمشيئةِ اللهِ، فما الظَّنُّ بعلْمِ غيرِه؟! تَعريضًا لبقيَّةِ العُلماءِ؛ فالكلامُ صَريحُه تحذيرٌ، وهو كِنايةٌ عن الامتنانِ، كما دَلَّ عليه قولُه بعده: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا، وتعريضٌ بتحذيرِ أهْلِ العلْمِ .

- وفي قولِه: بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ عُبِّرَ عن القُرآنِ بالموصولِ؛ تَفخيمًا لشأنِه، ووصْفًا له بما في حيِّزِ الصِّلةِ ابتداءً، وإعلامًا بحالِه مِن أوَّلِ الأمرِ، وبأنَّه ليس من قَبِيلِ كلامِ المخلوقِ .

3- قوله تعالى: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا

- قولُه: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ استدراكٌ على ما اقتضاهُ فعْلُ الشَّرطِ -وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ- مِن توقُّعِ ذلك، أي: لكن رحمةً من ربِّك نفَتْ مَشيئةَ الذَّهابِ بالَّذي أوحَيْنا إليك، فهو باقٍ غيرُ مَذهوبٍ به، وهذا إيماءٌ إلى بقاءِ القُرآنِ وحفْظِه .

- قولُه: ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (ثمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ؛ لأنَّ نفيَ الطَّمعِ في استرجاعِ المسلوبِ أشدُّ على النَّفسِ من سَلْبِه؛ فذِكْرُه أدخَلُ في التَّنبيهِ على الشُّكرِ، والتَّحذيرِ من الغُرورِ .

- قولُه: ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا عُدِّيَ بـ (على)؛ لِمَا فيه من معنى الغَلبةِ، وعُدِّيَ إلى المردودِ بالباءِ؛ لِمَا فيه من معنى التَّعهُّدِ والمُطالَبةِ، أي: مُتعهِّدًا بالَّذي أوحَيْنا إليك. ومعنى التَّعهُّدِ به: التَّعهُّدُ باسترجاعِه؛ لأنَّه في مُقابَلةِ قولِه: لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، ولأنَّ التَّعهُّدَ لا يكونُ بذاتِ شَيءٍ، بل بحالٍ من أحوالِه؛ فجَرى الكلامُ على الإيجازِ .

- قولُه: وَكِيلًا ذكَرَ هنا وَكِيلًا وفي الآيةِ قبلَها نَصِيرًا؛ لأنَّ معنى هذه على فرْضِ سَلْبِ نِعمةِ الاصطفاءِ، فالمُطالبةُ بإرجاعِ النِّعمةِ شفاعةٌ ووكالةٌ عنه، وأمَّا الآيةُ قبلَها فهي في فرْضِ إلحاقِ عُقوبةٍ به، فمُدافعةُ تلك العُقوبةِ أو الثَّأرُ بها نَصرٌ .

- ومَوقعُ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا موقعُ التَّعليلِ للاستثناءِ المُنقطِعِ، وزيادةُ فعْلِ (كان) فيه لتَوكيدِ الجُملةِ؛ زيادةً على تَوكيدِها بحرفِ التَّوكيدِ المُستعمَلِ في معنى التَّعليلِ والتَّفريعِ

====================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيتان (88-89)

ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ

غريب الكلمات:

 

ظَهِيرًا: أي: عَونًا، وسُمِّي العَونُ ظَهيرًا؛ لاستنادِ ظَهرِه إلى ظَهرِ صاحِبِه، وأصلُ (ظهر): يدلُّ على قُوَّةٍ وبُروزٍ

.

صَرَّفْنَا: أي: بَيَّنَّا، والصَّرْفُ: ردُّ الشيءِ مِن حالةٍ إلى حالةٍ، وأصلُ (صرف): يدُلُّ على رَجعِ الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

أمَر الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يتحدَّى المشركينَ بهذا القرآنِ، فقال: قُلْ -يا مُحمَّدُ: لو اتَّفَقَت الإنسُ والجِنُّ على الإتيانِ بمِثلِ هذا القُرآنِ المُعجِزِ، لَمَا استطاعوا ذلك ولو تعاوَنوا وتظاهَروا، ولقد بيَّنَّا ونَوَّعْنا للنَّاسِ في هذا القُرآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ليتَّعِظوا ويتذَكَّروا، فأبى أكثَرُ النَّاسِ إلَّا كُفرًا بالحَقِّ وجحودًا له.

تفسير الآيتين:

 

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى إنعامَه على نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنبُوَّةِ بإنزالِ وَحْيِه عليه وباهِرَ قُدرتِه بأنَّه تعالى لو شاء لذَهَب بالقُرآنِ؛ ذكَرَ ما منَحَه تعالى من الدَّليلِ على نبُوَّتِه الباقي بقاءَ الدَّهرِ، وهو القرآنُ الذي عجَزَ العالَمُ عن الإتيانِ بمِثلِه، وأنَّه مِن أكبَرِ النِّعَمِ والفَضلِ الذي أبقَى له ذِكرًا إلى آخرِ الدَّهرِ، ورَفَعَ له قَدرًا به في الدُّنيا والآخِرةِ

.

وأيضًا بعدَ قَولِ اللهِ تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا لَمَّا كان بمَعرِضِ أن يقولوا: إنْ ذهَبَ عليك مِن شَيءٍ فائْتِ بمِثلِه مِن عندِ نَفسِك، ومِمَّا اكتسَبْتَه منه مِن الأساطيرِ؛ أمَرَه أن يُجيبَهم عن هذا بقَولِه؛ دلالةً على مَضمونِ ما قَبلَه :

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ.

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ: لو اتَّفَق جميعُ الإنسِ والجِنِّ على أن يأتُوا بمِثلِ هذا القُرآنِ في بلاغَتِه وحُسنِ نَظْمِه وكَمالِ مَعانيه؛ لَما أطاقوا ذلك وما استَطاعوه .

وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.

أي: لا يَأتونَ بمِثلِه ولو تعاوَنَ الإنسُ والجِنُّ، وتناصَروا على ذلك، فكيف بهم إذا حاولوا ذلك مُتفَرِّقينَ ؟!

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى عَجزَ الإنسِ والجِنِّ عن أن يأتُوا بمِثلِ هذا القُرآنِ؛ نَبَّه على فَضلِه تعالى بما ردَّدَ فيه، وضَرَبَ مِن الأمثالِ والعِبَرِ التي تدُلُّ على تَوحيدِه تعالى، ومع كَثرةِ ما رَدَّدَ مِن الأمثلةِ، وأسبَغَ مِن النِّعَمِ، لم يكونوا إلَّا كافرينَ به وبنِعَمِه .

وأيضًا لَمَّا تحَدَّى اللهُ بُلَغاءَ المُشرِكينَ بالإعجازِ؛ تطاولَ عليهم بذِكرِ فضائلِ القُرآنِ على ما سِواه من الكلامِ، مُدمِجًا في ذلك النَّعيَ عليهم؛ إذ حَرَموا أنفُسَهم الانتِفاعَ بما في القُرآنِ مِن كلِّ مَثَلٍ. وذُكِرَتْ هنا ناحيةٌ مِن نواحي إعجازِه، وهي ما اشتمَلَ عليه مِن أنواعِ الأمثالِ .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ.

أي: ولقد بيَّنَّا ونوَّعْنا للنَّاسِ في هذا القُرآنِ الحُجَجَ والبَراهينَ، والمواعِظَ والأمثالَ، والقَصَص والعِبَرَ؛ ليتذَكَّروا ويَتَّقوا .

فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا.

أي: فلم يَرْضَ أكثَرُ النَّاسِ إلَّا الكُفرَ بالحَقِّ، والجُحودَ لهذه النِّعمةِ العُظمَى، فجحَدوا بما في القُرآنِ، ورَدُّوا الهُدى، واقتَرَحوا مِن الآياتِ ما ليس لهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وإخبارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذه الآيةِ فيه آياتٌ لنُبُوَّتِه؛ منها إقدامُه على هذا الخبَرِ العَظيمِ عن جميعِ الإنسِ والجِنِّ إلى يومِ القيامةِ بأنَّهم لا يَفعلونَ هذا، بل يَعجِزونَ عنه، وهذا لا يُقدِمُ عليه مَن يَطلُبُ النَّاسَ أن يُصَدِّقوه إلَّا وهو واثِقٌ بأنَّ الأمرَ كذلك؛ إذ لو كان عنده شَكٌّ في ذلك لجازَ أن يَظهَرَ كَذِبُه في هذا الخبَرِ، فيُفسِدَ عليه ما قَصَده. ثمَّ جَعْلُه هذا في القُرآنِ المَتلوِّ المحفوظِ إلى يومِ القيامةِ، الذي يُقرَأُ به في الصَّلَواتِ، ويَسمَعُه العامُّ والخاصُّ، والوليُّ والعَدُوُّ؛ دليلٌ على كمالِ ثِقتِه بصِدقِ هذا الخبَرِ، وإلَّا لو كان شاكًّا في ذلك لخاف أن يَظهَرَ كَذِبُه؛ فمَن يَقصِدُ أن يُصَدِّقَه النَّاسُ لا يقولُ مِثْلَ هذا، ويُظهِرُه هذا الإظهارَ، ويُشيعُه هذه الإشاعةَ، إلَّا وهو جازِمٌ عند نَفسِه بصِدقِه، ولا يُتصَوَّرُ أنَّ بشَرًا يجزِمُ بهذا الخبَرِ إلَّا أن يعلَمَ أنَّ هذا مِمَّا يَعجِزُ عنه الخَلقُ؛ إذ عِلْمُ العالِمِ بعَجزِ جَميعِ الإنسِ والجِنِّ إلى يومِ القيامةِ، هو مِن أعظَمِ دلائِلِ كَونِه مُعجِزًا، وكونِه آيةً على نبُوَّتِه، فهذا مِن دلائِلِ نبُوَّتِه في أوَّلِ الأمرِ عند مَن سَمِعَ هذا الكلامَ، وعَلِمَ أنَّه مِن القُرآنِ الذي أُمِرَ ببلاغِه إلى جميعِ الخَلقِ، وهو وَحدَه كافٍ في العِلمِ بأنَّ القُرآنَ مُعجِزٌ

.

2- في قَولِه تعالى: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا دَلالةٌ على أنَّ الكُفَّارَ هم أكثَرُ أهلِ الأرضِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا

- قولُه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ... استئنافٌ للزِّيادةِ في الامتنانِ، وهو استئنافٌ بيانيٌّ لمضمونِ جُملةِ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا [الإسراء: 87] ، وافتتاحُه بـ (قُل) للاهتمامِ به، وهذا تَنويهٌ بشَرفِ القُرآنِ؛ فكان هذا التَّنويهُ امتنانًا على الَّذين آمنوا به، وهم الَّذين كان لهم شِفاءً ورحمةً، وتحدِّيًا بالعجزِ على الإتيانِ بمثْلِه للَّذين أعْرَضوا عنه، وهم الَّذين لا يَزيدُهم إلَّا خَسارًا

.

- وفي قولِه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ذكْرُ الجنِّ مع الإنسِ؛ لقصْدِ التَّعميمِ، كما يُقال: لو اجتمَعَ أهلُ السَّمواتِ والأرضِ، وأيضًا لأنَّ المُتحدَّينَ بإعجازِ القُرآنِ كانوا يَزْعمون أنَّ الجنَّ يقدِرونَ على الأعمالِ العظيمةِ .

- وفائدةُ هذه الجُملةِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا التَّأكيدُ لمعنى الاجتماعِ المَدلولِ بقولِه: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ أنَّه اجتماعُ تظافُرٍ على عمَلٍ واحدٍ، ومقصَدٍ واحدٍ .

- قولُه: عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ فيه تَكرُّرُ لفْظِ (مِثْل) في قولِه: لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ على سبيلِ التَّأكيدِ والتَّوضيحِ، وأنَّ المُرادَ منهم أنْ يأتوا بمثْلِه؛ إذ قد يُرادُ بمثْلِ الشَّيءِ في مَوضعٍ الشَّيءُ نفْسُه؛ فبيَّنَ بتَكرارِ بِمِثْلِهِ، ولم يكُنِ التَّركيبُ: لا يأْتون به؛ رفعًا لهذا الاحتمالِ، وأنَّ المطلوبَ منهم أنْ يأتوا بالمثْلِ لا أنْ يأتوا بالقُرآنِ .

2- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا

- جُملةُ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ معطوفةٌ على جُملةِ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ؛ زيادةً في الامتنانِ والتَّعجيزِ، وتأكيدُها بلامِ القسَمِ وحرْفِ التَّحقيقِ (قد)؛ لرَدِّ أفكارِ المُشركينَ أنَّه من عندِ اللهِ، فمَوردُ التَّأكيدِ هو فعْلُ صَرَّفْنَا الدَّالُّ على أنَّه مِن عندِ اللهِ .

- وزِيدَ في هذه الآيةِ قيدُ لِلنَّاسِ في قولِه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ دونَ الآيةِ السَّابقةِ في السُّورةِ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا [الإسراء: 41] ؛ لأنَّ هذه الآيةَ واردةٌ في مقامِ التَّحدي والإعجازِ؛ فكان النَّاسُ مقصودينَ به قصْدًا أصليًّا مُؤمنُهم وكافِرُهم، بخلافِ الآيةِ المُتقدِّمةِ؛ فإنَّها في مقامِ توبيخِ المُشركينَ خاصَّةً، فكانوا مَعْلومين .

- ووجْهُ تَقديمِ أحدِ المُتعلِّقَينِ -وهو لِلنَّاسِ- بفعْلِ صَرَّفْنَا على الآخرِ في قولِه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ: أنَّ ذِكْرَ النَّاسِ أهمُّ في هذا المقامِ؛ لأجْلِ كونِ الكلامِ مَسوقًا لتحدِّيهم والحُجَّةِ عليهم، وإنْ كان ذكْرُ القُرآنِ أهمَّ بالأصالةِ، إلَّا أنَّ الاعتباراتِ الطَّارئةَ تُقَدَّمُ في الكلامِ البليغِ على الاعتباراتِ الأصليَّةِ؛ لأنَّ الاعتباراتِ الأصليَّةَ لتَقرُّرِها في النُّفوسِ تَصيرُ مُتعارَفةً، فتكونُ الاعتباراتُ الطَّارئةُ أعَزَّ مَنالًا. ومن هذا بابُ تَخريجِ الكلامِ على خلافِ مُقْتضَى الظَّاهرِ .

- وذكَرَ في هذه الآيةِ مُتعلِّقَ التَّصريفِ بقولِه: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ بخلافِ الآيةِ السَّابقةِ في السُّورةِ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا [الإسراء: 41] ؛ لأنَّ ذِكْرَ ذلك أدْخَلُ في الإعجازِ؛ فإنَّ كثرةَ أغراضِ الكلامِ أشدُّ تعجيزًا لمَن يَرومُ مُعارضتَه عن أنْ يأتِيَ بمثْلِه؛ إذ قد يقدِرُ بليغٌ من البُلغاءِ على غرَضٍ من الأغراضِ، ولا يقدِرُ على غرَضٍ آخرَ، فعجْزُهم عن مُعارضةِ سُورةٍ من القُرآنِ مع كثرةِ أغراضِه عجْزٌ بيِّنٌ من جهتَينِ: لأنَّهم عَجَزوا عن الإتيانِ بمثْلِه، ولو في بعضِ الأغراضِ، كما أشار إليه قولُه تعالى في سُورةِ (البقرةِ): فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] ، فإنَّ (مِن) للتَّبعيضِ. وتَنوينُ مَثَلٍ للتَّعظيمِ والتَّشريفِ، أي: من كلِّ مَثَلٍ شَريفٍ، والمُرادُ: شرَفُه في المقصودِ من التَّمثيلِ. ومِنْ في قولِه: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ للتَّبعيضِ، وكُلِّ تُفيدُ العُمومَ؛ فالقُرآنُ مُشتمِلٌ على أبعاضٍ مِن جميعِ أنواعِ المثَلِ .

- وحُذِفَ مفعولُ فَأَبَى للقرينةِ، أي: أبَى العمَلَ به .

- وفي قولِه: أَكْثَرُ النَّاسِ أُوثِرَ الإظهارُ على الإضمارِ حيث لم يقُلْ: (أكثرُهم)؛ تأكيدًا وتوضيحًا .

- قولُه: إِلَّا كُفُورًا فيه من المُبالغةِ ما ليس في (أبَوُا الإيمانَ)؛ لأنَّ فيه دلالةً على أنَّهم لم يَرْضَوا بخَصلةٍ سِوى الكُفورِ من الإيمانِ، والتَّوقُّفِ في الأمْرِ ونحوِ ذلك، وأنَّهم بالغوا في عدَمِ الرِّضا حتَّى بَلَغوا مرتبةَ الإباءِ .

- وفي قولِه: إِلَّا كُفُورًا تأكيدُ الشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّه، أي: تأكيدٌ في صُورةِ النَّقصِ؛ لِمَا فيه من الإطماعِ بأنَّ إبايتَهم غيرُ مُطَّردةٍ، ثمَّ يأتي المُسْتثنى مُؤكِّدًا لمعنى المُسْتثنى منه؛ إذ (الكُفورُ) أخَصُّ من المفعولِ الَّذي حُذِفَ للقرينةِ، وهو استثناءٌ مُفرَّغٌ؛ لِما في فعْلِ فَأَبَى مِن معنَى النَّفيِ الَّذي هو شرْطُ الاستثناءِ المُفرَّغِ؛ لأنَّ المدارَ على معنى النَّفيِ، مِثْلُ الاستثناءِ مِن الاستفهامِ المُستعمَلِ في النَّفيِ، كقولِه: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 93]

=================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (90-96)

ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ

غريب الكلمات:

 

يَنْبُوعًا: أي: عَينًا تَنبُعُ منها الماءُ؛ مِن نَبَعَ الماءُ: إذا ظَهَر

.

كِسَفًا: أي: قِطَعًا، جَمعُ كِسْفةٍ: وهي القِطعةُ مِن الشَّيءِ، وأصلُ (كسف): يَدُلُّ على قَطعِ شَيءٍ مِن شَيءٍ .

قَبِيلًا: أي: مُقابَلةً عِيانًا، وأصلُ (قبل): يدُلُّ على مُواجَهةِ الشَّيءِ للشَّيءِ .

زُخْرُفٍ: أي: ذَهَبٍ، وأصلُ الزُّخرُفِ والزَّخْرفةِ: الزِّينةُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

ذكر الله تعالى بعضَ ما طلَبه المشركونَ مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن مطالبَ مُتعنِّتةٍ، فقال: وقال مُشرِكو قُرَيشٍ: لن نُصَدِّقَك -يا مُحمَّدُ- حتى تُفَجِّرَ لنا مِن أرضِ «مكَّةَ» عَينًا جاريةً غزيرةَ الماءِ، أو تكونَ لك حَديقةٌ مِنَ النَّخيلِ والأعنابِ، وتجعَلَ الأنهارَ تَجري في وسَطِها بغَزارةٍ، أو تُسقِطَ السَّماءَ علينا قِطَعًا كما زَعَمْتَ، أو تأتيَ لنا باللهِ ومَلائكَتِه فنُشاهِدَهم عِيانًا، أو يكونَ لك بَيتٌ مِن ذَهَبٍ، أو تصعَدَ في دَرَجٍ إلى السَّماءِ، ولن نُصَدِّقَك في صُعودِك حتى تنَزِّلَ علينا كِتابًا مِن اللهِ نَقرأُ فيه أنَّك رَسولٌ من عند اللهِ!

ثمَّ أمرَ الله نبيَّه أن يردَّ عليهم قائلًا له: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: سُبحانَ رَبِّي! هل أنا إلَّا بَشَرٌ مِثلُكم مُرسَلٌ مِن عندِ الله؟! فكيف أقدِرُ على فِعْلِ ما تَطلُبونَ؟

ثمَّ ذكَر الله تعالى شبهةً أُخرَى مِن شبهاتِهم، فقال: وما منَعَ الكُفَّارَ مِن الإيمانِ باللهِ حين جاءَهم الهُدى مِن عندِ اللهِ إلَّا قَولُهم جَهلًا: أبعَثَ اللهُ رَسولًا بشرًا مِثلَنا؟!

قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ: لو كان في الأرضِ مَلائِكةٌ يَمشُونَ عليها مُستَقرِّين كالبشَرِ، لأرسَلْنا إليهم رَسولًا ملَكًا مِن جِنسِهم؛ ليتمَكَّنوا مِن مخالطتِه والتلقِّي عنه، قُلْ لهم: كفى باللهِ شَهيدًا بيني وبينَكم يعلَمُ صِدْقي وحَقيقةَ نبُوَّتي؛ إنَّه سُبحانَه خَبيرٌ بأحوالِ عِبادِه، بصيرٌ بأعمالِهم، وسيُجازيهم عليها.

تفسير الآيات:

 

وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا تحَدَّى اللهُ تعالى الكافِرينَ بأن يأتُوا بمِثلِ هذا القُرآنِ، فتَبَيَّنَ عَجزُهم عن ذلك وإعجازُه، وانضَمَّت إليه مُعجِزاتٌ أُخَرُ، وبَيِّناتٌ واضِحةٌ، فلَزِمَتهم الحُجَّةُ وغُلِبوا- أخَذوا يتعَلَّلونَ باقتِراحِ آياتٍ، فِعلَ الحائِرِ المَبهوتِ المَحجوجِ، فقالوا ما حكاه اللهُ عنهم

.

وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90).

أي: وقال مُشرِكو قُرَيشٍ: لن نُصَدِّقَك -يا مُحمَّدُ- فيما تقولُ حتى تَفجُرَ لنا مِن أرضِ مَكَّةَ المُجدِبةِ عَينًا تَنبُعُ بمِياهٍ جاريةٍ غَزيرةٍ .

أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91).

أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ.

أي: أو يكونَ لك في مَكَّةَ -يا مُحمَّدُ- بُستانٌ مِن أشجارِ النَّخيلِ والعِنَبِ .

فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا.

أي: فتُجري الأنهارَ وسْطَ ذلك البستانِ بقوةٍ .

أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا انتِقالٌ مِن تحَدِّي النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخوارِقَ فيها منافِعُ لهم إلى تَحدِّيه بخوارِقَ فيها مَضَرَّتُهم، يريدون بذلك التَّوسيعَ عليه، أي: فلْيأتِهم بآيةٍ على ذلك ولو في مَضَرَّتِهم .

أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا.

أي: أو تُسقِطَ السَّماءَ علينا قِطَعًا كما وعَدْتَنا، فعَجِّلْ لنا هذا العذابَ حتَّى نُصدِّقَك !

قال تعالى حاكيًا قولَ قَومِ شُعَيبٍ له: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 185 - 189] .

أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا.

أي: أو تأتيَ -يا مُحمَّدُ- باللهِ والمَلائكةِ، فنُقابِلَهم ونَراهم عِيانًا !

كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21] .

أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93).

أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ.

أي: أو يَكونَ لك بَيتٌ مِن ذهَبٍ، كاملُ الحُسنِ والزِّينةِ .

أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ.

أي: أو تَصعَدَ في السَّماءِ درجةً درجةً، ونحن ننظرُ إليك .

وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ.

أي: ولن نُؤمِنَ -يا مُحمَّدُ- بأنَّك رَسولُ الله؛ بمجَرَّدِ صُعودِك في السَّماءِ حتى تُنَزِّلَ علينا كِتابًا مِن عندِ اللهِ نَقرأُ فيه أمْرَنا باتِّباعِك والإيمانِ بك !

قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ قَالَ بلَفظِ الماضي على الحِكايةِ عن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

2- قراءةُ قُلْ بلَفظِ الأمرِ، أي: إنَّ اللهَ أمَرَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ: سُبحانَ رَبِّي .

قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا.

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: أُنزِّهُ ربِّي عن كُلِّ ما لا يَليقُ به مِن النَّقصِ والعَجزِ، ومِن ذلك تَنزيهُه عن العَجزِ عن فِعلِ ما اقتَرَحتُم؛ فهو قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ، وتَنزيهُه عن أن تكونَ آياتُه تابعةً لأهوائِكم، وأن يتقَدَّمَ أحَدٌ بين يديه في أمرٍ مِن أمورِ سُلطانِه ومَلَكوتِه، بل هو الفعَّالُ لِما يشاءُ، إن شاء أجابَكم إلى ما سألتُم، وإن شاءَ لم يُجبْكم، فما أنا إلَّا بَشَرٌ مِثلُكم، ليس في قُدرتِي الإتيانُ بتلك الآياتِ التي تَطلُبونَها، فلا يأتي بها إلَّا اللهُ وحْدَه، وما أنا إلَّا رَسولٌ منه إليكم، وقد بلَّغتُكم رسالتَه .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف: 110] .

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا حكَى اللهُ تعالى أشكالَ عنادِ الكافرينَ، ومظاهرَ تكذيبِهم، وشُبهتَهم في اقتراحِ المُعجِزاتِ الزَّائدةِ، حكَى عنهم شُبهةً أُخرَى، وهي العلةُ الأصليةُ التي تبعثُ على الجحودِ في جميعِ الأممِ، وهي أنَّ القَومَ استَبعَدوا أن يَبعَثَ اللهُ إلى الخَلقِ رَسولًا مِن البَشَرِ، بل اعتَقَدوا أنَّ اللهَ تعالى لو أرسل رَسولًا إلى الخَلقِ، لوجب أن يكونَ ذلك الرَّسولُ مِن الملائكةِ، فأجاب اللهُ تعالى عن هذه الشُّبهةِ .

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94).

أي: وما مَنعَ الكُفَّارَ أن يُؤمِنوا بالحَقِّ حين جاءَهم الهُدى مِن عِندِ اللهِ إلَّا قَولُهم -جَهْلًا منهم على وجهِ التعَجُّبِ والاستِغرابِ-: أأَرسَلَ اللهُ إلينا بما له مِن العَظَمةِ والجَلالِ بَشَرًا مِثْلَنا؟! فهلَّا بعَث إلينا ملَكًا رَسولًا !

كما قال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [يونس: 2] .

وقال سُبحانَه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا [التغابن: 5، 6].

قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95).

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاء الكافرينَ الذين امتَنَعوا عن الإيمانِ بك؛ استِنكارًا منهم لِأَنْ يَبعَثَ اللهُ بَشرًا رَسولًا: لو كان في الأرضِ مَلائِكةٌ يَمشُونَ عليها كالآدَميِّينَ، ويَسكُنونَها وادِعينَ فيها ومُستَقِرِّينَ؛ لأرسَلْنا إليهم مِنَ السَّماءِ مَلَكًا مِن جِنسِهم ليُمكِنَهم مُخالطتُه ورُؤيتُه، ويتيسَّرَ لهم مُعاشَرتُه والتلقِّي عنه، وفَهمُ حَديثِه، كما تَقتَضيه الحِكمةُ .

كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام: 8-9].

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء: 7] .

قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا دعا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الكافرينَ إلى الإيمانِ، وتحَدَّى على صِدقِ نُبُوَّتِه بالمُعجِزِ المُوافِقِ لدَعْواه؛ أمَرَه تعالى أن يُعْلِمَهم بأنَّه تعالى هو الشَّهيدُ بينه وبينهم على تَبليغِه وما قام به مِن أعباءِ الرِّسالةِ، وعَدَمِ قَبولِهم، وكُفرِهم، وما اقتَرَحوا عليه مِن الآياتِ على سَبيلِ العِنادِ، وأردَفَ ذلك بما فيه تَهديدٌ، وهو قولُه: إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا .

وأيضًا فبعدَ أنْ خَصَّ اللهُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتَلقينِ الحُجَّةِ القاطِعةِ للضَّلالةِ؛ أردَفَ ذلك بتَلقينِه أيضًا ما لقَّنَه الرُّسُلَ السَّابِقينَ مِن تفويضِ الأمرِ إلى الله تعالى، وتحكيمِه في أعدائِه .

قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.

أي: قُلْ لهم- يا مُحمَّدُ: يكفيني اللهُ شاهِدًا عليَّ وعليكم، وهو يعلَمُ صِدقي ويُؤَيِّدُني بالمُعجِزاتِ، ويُنَزِّلُ عليَّ الآياتِ، ويَنصُرُني على مَن عاداني، ولو كُنتُ كاذِبًا عليه لانتَقَمَ مني .

كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 79] .

وقال سُبحانَه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الرعد: 43] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: 44 - 47] .

إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا.

أي: ويكفي اللهُ شاهِدًا على ذلك؛ لأنَّه خَبيرٌ بأحوالِ عِبادِه وأعمالِهم ونيَّاتِهم، يَعلَمُ المُهتديَ منهم والضَّالَّ، ومَن يَستَحِقُّ منهم الهِدايةَ، ومَن يَستَحِقُّ الإضلالَ، بصيرٌ بهم، وبتَدبيرِهم كيف يشاءُ، وسيُجازيهم جميعًا على أعمالِهم خَيرِها وشَرِّها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- الرُّسُلُ صلواتُ الله وسلامُه عليهم لا يَملِكونَ أن يأتُوا بالآياتِ أو بالوحيِ؛ فهم يتلقَّونَ مِنَ اللهِ، حتى الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا طُلِبَ منه الآياتُ لا يستطيعُ أن يأتيَ بها؛ ولهذا لَمَّا اقتَرَح المُكَذِّبونَ عِدَّةَ آياتٍ، قال تعالى له: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هُلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا، وقال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [العنكبوت: 50] ، أي: فلا أملِكُ أن آتِيَ بالآياتِ

.

2- اقتضت حكمةُ الله ألَّا يُرسِلَ بالآياتِ التي اقترَحها الكفارُ، وإلَّا فلو جاءَتْهم ولم يُؤمِنوا أتاهم عذابُ الاستِئصالِ، وأيضًا فهي ممَّا لا يصلُحُ الإتيانُ بها؛ فإنَّ قولَهم: حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا يقتضي تفجيرَ اليَنبوعِ بأرضِ مكَّةَ فيصيرُ واديًا ذا زرعٍ، واللهُ مِن حِكمتِه جَعلُ بيتِه بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ؛ لئلَّا يكونَ عنده ما ترغَبُ النفوسُ فيه من الدُّنيا فيكونَ حَجُّهم للدُّنيا لا لله، وإذا كان له جَنَّةٌ مِن نخيلٍ وأعنابٍ يُفجِّرُ الأنهارَ خلالَها تفجيرًا، كان في هذا من التوسُّعِ في الدُّنيا ما يقتضي نَقصَ دَرجتِه وانخفاضَ منزلتِه، وكذلك إذا كان له بيتٌ مِن زُخرفٍ. وأمَّا إسقاطُ السَّماءِ كِسَفًا فهذا لا يكونُ إلا يومَ القيامةِ، وهو لم يخبِرْهم أنَّ هذا لا يكونُ إلَّا يومَ القيامةِ، فقَولُهم كَمَا زَعَمْتَ كَذِبٌ عليه إلَّا أن يريدوا التَّمثيلَ فيكونَ القياسُ فاسِدًا .

3- التعَنُّتُ والعنادُ العظيمُ الذي ذكَرَه جلَّ وعلا عن الكُفَّارِ هنا بيَّنَه في مواضِعَ أُخرَ، وبيَّن أنَّهم لو فعل الله ما اقتَرَحوا ما آمَنوا؛ لأنَّ مَن سبق عليه الشَّقاءُ لا يؤمِنُ، كقَولِه تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: 7] ، وقَولِه تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الأنعام: 111] ، وقَولِه تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر: 14، 15] ، وقوله: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 109]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96، 97]، والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ .

4- في قَولِه تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا دَلالةٌ على أنَّ الإقرارَ بالرَّبِّ وملائكتِه مَعروفٌ عند عامَّةِ الأُمَمِ .

5- ممَّا استشكلوه قولُه تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا مع قَولِه تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا [الكهف: 55]؛ فإنَّه يدُلُّ على حَصرِ المانعِ مِن الإيمانِ في أحَدِ هذين الشَّيئينِ، فظاهرُهما التعارُضُ.

وأجيبَ عن ذلك: بأنَّ معنى آية سورة (الكهف): «وما منع النَّاسَ أن يؤمنوا إلَّا إرادةُ أن تأتيَهم سنَّةُ الأوَّلين مِن الخسفِ أو غيرِه، أو يأتيَهم العذابُ قُبلًا في الآخرةِ» فأخبر أنَّه أراد أن يصيبَهم أحدُ الأمرين، ولا شَكَّ أنَّ إرادة الله مانعةٌ مِن وقوع ما ينافي المرادَ، فهذا حصرٌ في السبَبِ الحقيقيِّ؛ لأنَّ الله هو المانِعُ في الحقيقةِ، ومعنى آيةِ سورة (الإسراء): «وما منع الناسَ أن يؤمنوا إلَّا استغرابُ بَعثِه بشَرًا رَسولًا»؛ لأنَّ قولَهم ليس مانِعًا مِن الإيمانِ؛ لأنَّه لا يصلُحُ لذلك، وهو يدُلُّ على الاستغرابِ بالالتزامِ، وهو المناسِبُ للمانعيَّةِ، واستغرابُهم ليس مانعًا حقيقيًّا، بل عاديٌّ؛ لجوازِ وجودِ الإيمانِ معه بخلافِ إرادة الله تعالى، فالحَصرُ في آية (الإسراء) حصرٌ في المانِعِ العادي، والحصرُ في آية (الكهف) في المانِعِ الحقيقيِّ، فلا تنافيَ ، فالمانِعُ المذكور هنا في سورة (الإسراءِ) عاديٌّ؛ لأنَّه جرت عادةُ جميعِ الأُمَمِ باستغرابِهم بَعْثَ الله رسُلًا من البشَرِ، كقَولِه: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا الآية [إبراهيم: 10] ، وقولِه: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا الآية [المؤمنون: 47] ، وقَولِه: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [القمر: 24]، وقولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [التغابن: 6] ، وقَولِه: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون: 34] إلى غير ذلك مِن الآياتِ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا فيه إعلامٌ مِنَ اللَّهِ سبحانَه بأنَّ الرُّسلَ ينبغي أن تكونَ مِنْ جنسِ المرسَلِ إليهم، فكأنَّه سبحانَه اعْتَبَر في تنزيلِ الرَّسولِ مِنْ جنسِ الملائكةِ أمرينِ:

الأوَّلُ: كونُ سُكَّانِ الأرضِ ملائكةً.

والثَّاني: كونُهم ماشينَ على الأقدامِ غيرَ قادرينَ على الطَّيرانِ بأجْنِحَتِهم إلى السَّماءِ، إذْ لو كانوا قادرينَ على ذلك لَطاروا إليها، وسَمِعوا من أهلِها ما يَجِبُ مَعْرِفَتُه وسماعُه، فلا يكونُ في بعثةِ الملائِكَةِ إليهم فائدَةٌ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا عطْفٌ على جُملةِ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، أي: كَفَروا بالقُرآنِ، وطالَبوا بمُعجزاتٍ أُخرى. وضَميرُ الجمْعِ عائدٌ إلى أكثرِ النَّاسِ الَّذين أبَوا إلَّا كُفورًا، باعتبارِ صُدورِ هذا القولِ بينهم وهم راضونَ به، ومُتمالِئون عليه متى عَلِموه، فلا يلزَمُ أنْ يكونَ كلُّ واحدٍ منهم قال هذا القولَ كلَّه، بل يكونُ بعضُهم قائلًا جميعَه، أو بعضُهم قائلًا بعضَه. ولمَّا اشتمَلَ قولُهم على ضمائرِ الخطابِ تعيَّنَ أنَّ بعضَهم خاطَبَ به النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُباشرةً؛ إمَّا في مقامٍ واحدٍ، وإمَّا في مقاماتٍ

.

- قولُه: حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا تعريفُ الْأَرْضِ للعهدِ؛ إذ المُرادُ بها أرضُ مكَّةَ، ووجْهُ تَخصيصِها: أنَّ أرضَها قليلةُ المياهِ، بعيدةٌ عن الجنَّاتِ .

- قولُه: حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قال: تَفْجُرَ بالتَّخفيفِ، وقال في الآيةِ الَّتي بعدها: فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا [الإسراء: 91] ، وكذلك قال في سُورةِ (الكهفِ): وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا [الكهف: 33] بالتَّشديدِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ التَّفجيرَ مصدَرُ (فجَّرَ) بالتَّشديدِ؛ مُبالغةً في الفَجْرِ، وهو الشَّقُّ باتِّساعٍ؛ فالتَّفجيرُ أشدُّ من مُطلَقِ الفَجْرِ، وهو تَشقيقٌ شديدٌ باعتبارِ اتِّساعِه؛ ولذلك ناسب اليَنبوعُ هنا، والنَّهرُ في قولِه تعالى: وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا [الكهف: 33] ، وقولِه: فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ .

2- قَولُه تعالى: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا

- قولُه: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ خَصُّوا هذه الجنَّةَ بأنْ تكونَ له؛ لأنَّ شأْنَ الجنَّةِ أنْ تكونَ خاصَّةً لملِكٍ واحدٍ مُعيَّنٍ، فأرَوه أنَّهم لا يَبْتغون من هذا الاقتراحِ نفْعَ أنفُسِهم، ولكنَّهم يَبْتغون حُصولَه ولو كان لفائدةِ المُقترَحِ عليه. والمُقترَحُ هو تَفجيرُ الماءِ في الأرضِ القاحلةِ، وإنَّما ذَكَروا وُجودَ الجنَّةِ؛ تَمهيدًا لتفجيرِ أنهارٍ خِلالَها، فكأنَّهم قالوا: حتَّى تفجُرَ لنا يَنبوعًا يَسْقي النَّاسَ كلَّهم، أو تُفجِّرَ أنهارًا تَسْقي جنَّةً واحدةً، تكونُ تلك الجنَّةُ وأنهارُها لك، فنحن مُقتنِعون بحُصولِ ذلك لا بُغيةَ الانتفاعِ منه .

- وفي قولِه: فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ذكَرَ المفعولَ المُطلَقَ بقولِه: تَفْجِيرًا للدَّلالةِ على التَّكثيرِ؛ لأنَّ تُفَجِّرَ قد كَفى في الدَّلالةِ على المُبالغةِ في الفَجْرِ، فتعيَّنَ أنْ يكونَ الإتيانُ بمفعولِه المُطلَقِ للمُبالغةِ في العدَدِ، كقولِه تعالى: وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] ، وهو المُناسِبُ لقولِه: خِلَالَهَا؛ لأنَّ الجنَّةَ تتخلَّلُها شُعَبُ النَّهرِ لسَقْيِ الأشجارِ، فجمَعَ الْأَنْهَارَ باعتبارِ تشعُّبِ ماءِ النَّهرِ إلى شُعَبٍ عديدةٍ .

3- قولُه تعالى: أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أي: فليأْتِهم بآيةٍ على ذلك ولو في مَضرَّتِهم. ولعلَّهم أرادوا به الإغراقَ في التَّعجيبِ من ذلك، فجَمَعوا بين جعْلِ الإسقاطِ لنفْسِ السَّماءِ، وعزَّزوا تَعجيبَهم بالجُملةِ المُعترِضةِ، وهي كَمَا زَعَمْتَ؛ إنباءً بأنَّ ذلك لا يُصدِّقُ به أحدٌ .

4- قَولُه تعالى: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا

- قولُه: تَرْقَى فِي السَّمَاءِ إنَّما عُدِّيَ الفعلُ بحرفِ (في) الظَّرفيَّةِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ الرُّقِيَّ تدرُّجٌ في السَّمواتِ كمَن يصعَدُ في المِرقاةِ والسُّلَّمِ .

- قولُه: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا لمَّا كان اقتراحُهم اقتراحَ مُلاجَّةٍ وعِنادٍ، أمَرَه اللهُ بأنْ يُجيبَهم بما يدُلُّ على التَّعجُّبِ من كلامِهم بكلمةِ سُبْحَانَ رَبِّي الَّتي تُستعمَلُ في التَّعجُّبِ، ثمَّ بالاستفهامِ الإنكاريِّ، وصِيغَةِ الحصرِ (هل... إلَّا) المُقتضيةِ قصْرَ نفْسِه على البشريةِ والرِّسالةِ قصرًا إضافيًّا، أي: لستُ ربًّا مُتصرِّفًا أخلُقُ ما يُطلَبُ منِّي؛ فكيف آتي باللهِ والملائكةِ، وكيف أخلُقُ في الأرضِ ما لم يُخْلَقْ فيها ؟!

5- قَولُه تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا

- قولُه: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا الهمزةُ في أَبَعَثَ اللَّهُ للإنكارِ . ووُرودُ هذا الكلامِ بصِيغَةِ الحصْرِ (ما... إلَّا)، وأداةِ العُمومِ، جعَلَه تذييلًا لِما مَضى من حكايةِ تفنُّنِهم في أساليبِ التَّكذيبِ والتَّهكُّمِ؛ فالظَّاهرُ حمْلُ التَّعريفِ في النَّاسَ على الاستغراقِ، أي: ما منَعَ جميعَ النَّاسِ أنْ يؤمنوا إلَّا ذلك التَّوهُّمُ الباطِلُ ، وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ.

- وقد حصَرَ المانعَ من الإيمانِ فيما ذُكِرَ مع أنَّ لهم موانعَ شَتَّى؛ لأنَّه مُعظَمُها، أو لأنَّه هو المانعُ بحسَبِ الحالِ، أي: عند سماعِ الجوابِ بقولِه تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا؛ إذ هو الَّذي يتشبَّثونَ به حينئذٍ من غيرِ أنْ يخطُرَ ببالِهم شُبهةٌ أُخرى من شُبَهِهم الواهيةِ. وفيه إيذانٌ بكَمالِ عِنادِهم، حيث يشيرُ إلى أنَّ الجوابَ المذكورَ مع كونِه حاسمًا لموادِّ شُبَهِهم، مُلجِئًا إلى الإيمانِ، يعكِسونَ الأمْرَ، ويَجْعلونه مانِعًا منه .

- قولُه: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا، وقال في سُورةِ (الكهفِ): وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [الكهف: 55] ؛ فورَدَ في الثَّانيةِ: وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ولم يَرِدْ في الأُولى؛ وفي ذلك مُناسبةٌ حَسنةٌ، وهي أنَّ المعنى هنا: ما منَعَهم عن الإيمانِ بمُحمَّدٍ إلَّا قولُهم: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا هلَّا بَعَثَ مَلَكًا! وجَهِلوا أنَّ التَّجانسَ يُورِثُ التَّوانسَ، والتَّغايُرَ يُورثُ التَّنافُرَ، والمعنى في (الكَهفِ): ما منَعَهم عن الإِيمانِ والاستِغفارِ إلَّا إتيانُ سُنَّةِ الأوَّلينَ؛ فزاد فيها وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ [الكهف: 55] ؛ لاتِّصالِه بقولِه: سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ وهم قومُ نوحٍ، وهودٍ، وصالحٍ، وشُعيبٍ، حيثُ أُمِروا بالاستغفارِ ، وقيل غيرُ ذلك .

6- قَولُه تعالى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا

- الباءُ الدَّاخلةُ على اسمِ الجلالةِ في قولِه: بِاللَّهِ لتأكيدِ لُصوقِ فعْلِ كَفَى بفاعلِه، وأصْلُه: كفى اللهُ شهيدًا .

- وقولُه: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وإنَّما لم يقُلْ: (بيننا)؛ تحقيقًا للمُفارقةِ، وإبانةً للمُباينةِ .

- قولُه: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا أُريدَ بالشَّهيدِ هنا الشَّهيدُ للمُحقِّ على المُبطِلِ؛ فهو كِنايةٌ عن النَّصيرِ والحاكمِ؛ لأنَّ الشَّهادةَ سبَبُ الحكمِ، والقرينةُ قولُه: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ؛ لأنَّ ظرفَ (بين) يُناسِبُ معنى الحُكمِ. وهذا بمعنى قولِه تعالى: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [الأعراف: 87] ، وقولِه: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: 3] .

- وجُملةُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا تَعليلٌ للاكتفاءِ به تعالى ، وفيه تَسليةٌ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتهديدٌ للكُفَّارِ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قال هنا: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بتقديمِ شَهِيدًا على بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وقال في سُورةِ (العنكبوتِ): قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا [العنكبوت: 52] بالعكسِ؛ لأنَّ ما هنا جاء على الأصْلِ من تَقديمِ المفعولِ، وما في العنكبوتِ جاء على خلافِ الأصْلِ؛ ليتَّصِلَ وصْفُ الشَّهيدِ به، وهو قولُه تعالى: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [العنكبوت: 52] ؛ لأنَّه لمَّا وصَفَه بقولِه: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طال، فلم يَجُزِ الفصْلُ به

====================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (97-100)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ

غريب الكلمات:

 

وَبُكْمًا: أي: لا يَنطِقونَ، جمعُ أبكَمَ، وهو الذي يُولَدُ أخرَسَ، فكُلُّ أبكَمَ أخرَسُ، وليس كلُّ أخرَسَ أبكَمَ، وأصلُ (بكم): يدُلُّ على الخَرَسِ

.

وَصُمًّا: أي: لا يسمعونَ، والصُّمُّ جمْعُ أصَمَّ، والصَّمَم فُقدانُ حاسَّة السَّمْع، وأصْلُه: الصَّلابةُ، وقيل: السَّدُّ، أو: تَضامُّ الشِّيءِ، وزوالُ الخَرقِ والسَّمِّ (الثقب) .

خَبَتْ: أي: سَكَنَ لَهَبُها، وصار عليها خِباءٌ مِن رَمادٍ، أي: غِشاءٌ .

وَرُفَاتًا: أي: فُتاتًا، وما تناثَر وبَلِي مِن كلِّ شيءٍ، وأصلُ (رفت): يدلُّ على فتٍّ ولَيٍّ .

قَتُورًا: أي: بخيلًا مُمسِكًا، والقَتْرُ: تقليلُ النَّفَقةِ، وهو بإزاءِ الإسرافِ، وأصلُ (قتر): يدُلُّ على تجميعٍ وتضييقٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: ومَن يَهْدِه اللهُ فهو المُهتَدي إلى الحَقِّ، ومَن يُضلِلْه فيَخذُلْه ويَكِلْه إلى نَفسِه فلن تجدَ لهم -يا محمدُ- ناصرينَ ينصرونَهم، ويهدونَهم إلى طريقِ الحقِّ مِن دُونِ اللهِ، ونَحشُرُ هؤلاء الضَّالين على وُجوهِهم عُمْيًا لا يَرَونَ، وبُكْمًا لا يَنطِقونَ، وَصُمًّا لا يَسمَعونَ، مَصيرُهم جهنَّمُ، كُلَّما سَكَن لَهيبُها في أجسادِهم زِدْناهم نارًا مُلتَهِبةً مُتأجِّجةً، ذلك العذابُ بسَبَبِ كُفرِهم بآياتِنا وحُجَجِنا، وقَولِهم إنكارًا للبَعثِ: أئِذا مِتْنا وصِرْنا عِظامًا باليةً نُبعَثُ بعد ذلك خَلْقًا جديدًا؟! أَولَم يَعلَمْ هؤلاء المُشرِكونَ أنَّ اللهَ الذي خلقَ السَّمَواتِ والأرضَ على غيرِ مِثالٍ سابقٍ، قادِرٌ على أن يُعيدَ خَلقَهم بعد فَنائِهم؟ وقد جعل اللهُ لهؤلاء المُشرِكينَ وَقتًا مُحَدَّدًا لِمَوتِهم وبَعثِهم لا شَكَّ في مَجيئِه، فأبى الكافِرونَ إلَّا جُحودًا وإنكارًا لبَعْثِهم!

قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ: لو كُنتُم تَملِكونَ خزائِنَ الرِّزقِ، إذَن لبَخِلتُم بها، فلم تُعطُوا أحدًا شيئًا؛ خَوفًا مِن أن تنفَدَ فتُصبِحوا فُقَراءَ، وكان الإنسانُ مفطورًا على البُخلِ!

تفسير الآيات:

 

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أجاب اللهُ تعالى عن شُبُهاتِ القَومِ الكافرينَ في إنكارِ النبُوَّةِ، وأردَفَها بالوَعيدِ الإجماليِّ، وهو قَولُه: إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 96] ؛ ذكَرَ بَعْدَه الوعيدَ الشَّديدَ على سبيلِ التَّفصيلِ

.

وأيضًا لمَّا تقدَّمَ دعوةُ الرَّسولِ إلى الإيمانِ، وتحدَّى بالمُعجِزِ الَّذي آتاهُ اللهُ، ولجُّوا في كُفْرِهم وعِنادِهم، ولم يُجْدِ فيهم ما جاء به من الهُدى؛ أخبَرَ بأنَّ ذلك كلَّه راجعٌ إلى مَشيئتِه تعالى، وأنَّه هو الهادي وهو المُفضِّلُ، فسلَّاه الله بذلك، وأخبَرَ تعالى على سَبيلِ التَّهديدِ لهم، والوعيدِ الصِّدْقِ لحالِهم وقْتَ حشْرِهم يومَ القيامةِ .

وأيضًا لَمَّا تقَدَّمَ أنَّ الله تعالى أعلَمُ بالمُهتَدي والضَّالِّ، وكان خَتمُ الآيةِ الماضيةِ مُرشِدًا إلى أنَّ المعنى: فمَن عَلِمَ منه بجوابِه قابليَّةً للخَيرِ، وفَّقَه للعَمَلِ على تلك المُشاكَلةِ، ومَن عَلِمَ منه قابليَّةً للشَّرِّ أضَلَّه- عطَفَ عليه قَولَه تعالى :

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ.

أي: ومَن يَهْدِه اللهُ فيُوفِّقْه للإيمانِ به وبِرَسولِه وبما جاء به، فهو المُهتَدي حَقًّا .

وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ.

أي: ومَن يُضلِلْه اللهُ عن الحَقِّ، فيَخذُلْه عن الإيمانِ باللهِ ورَسولِه، فلن تَجِدَ لهم -يا مُحمَّدُ- ناصِرينَ مِن دونِ اللهِ يُنقِذونَهم مِن عذابِه، ويَهدونَهم إلى الحَقِّ .

كما قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [الرعد: 33، 34].

وقال سُبحانَه: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف: 17].

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ [الشورى: 44] .

وقال جلَّ جَلالُه: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 46] .

وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا.

أي: ونجمَعُ الضَّالِّينَ يومَ القيامةِ وهم يَمشُونَ على وُجوهِهم عُمْيًا لا يُبصِرونَ، وبُكْمًا لا يتكَلَّمونَ، وصُمًّا لا يَسمَعونَ .

كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22- 23] .

وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ رَجُلًا قال: يا رَسولَ اللهِ، كيف يُحشَرُ الكافِرُ على وَجْهِه يومَ القيامةِ؟! قال: أليسَ الذي أمشَاه على رِجْلَيه في الدُّنيا قادِرًا على أن يُمشِيَه على وَجْهِه يومَ القيامةِ ؟!)) قال قتادةُ: بلى وعِزَّةِ رَبِّنا .

مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ.

أي: مَقَرُّ الضَّالِّينَ ومَنزِلُهم جَهنَّمُ .

كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا.

أي: كُلَّما سكَنَ لَهيبُ نارِ جَهنَّمَ في أجسامِ الكافرينَ، وتهَيَّأَت للانطِفاءِ، زِدْناهم نارًا تتلَهَّبُ وتتأجَّجُ في أجسامِهم .

كما قال تعالى: وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: 55- 56] .

وقال سُبحانَه: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ: 30] .

وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: 74- 75] .

وقال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر: 36] .

ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما ذكَر اللهُ ما للكافرينَ مِن العذابِ؛ بَيَّنَ بهذه الآيةِ عِلَّةَ تَعذيبِهم؛ لِيَرجِعَ منهم مَن قضَى بسَعادتِه، فقال تعالى :

ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا.

أي: جزاءُ المُشرِكينَ بحَشرِهم على وُجوهِهم عُمْيًا وبُكمًا وصُمًّا، وإدخالِهم جهنَّمَ وزيادتِهم مِن عذابِها، هو بسَبَبِ كُفرِهم في الدُّنيا بحُجَجِنا وأدِلَّتِنا، ولم يَظلِمْهم اللهُ سُبحانَه، بل جازاهم بما يستَحِقُّونَ .

وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا.

أي: وبسَبَبِ قَولِهم إنكارًا لوُقوعِ بَعْثِهم يومَ القيامةِ: أئِذا صِرْنا في قُبورِنا عِظامًا باليةً وتُرابًا، هل سيَبعَثُنا اللهُ بعدَ مَوتِنا خلقًا جديدًا ؟!

كما قال تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الرعد: 5] .

وقال سُبحانَه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أجابَ اللهُ تعالى عن شُبُهاتِ مُنكِري النبُوَّةِ، عاد إلى حِكايةِ شُبهةِ مُنكِري الحَشرِ والنَّشرِ؛ ليُجيبَ عنها، وتلك الشُّبهةُ هي أنَّ الإنسانَ بعدَ أن يَصيرَ رُفاتًا ورَميمًا يَبعُدُ أن يَعودَ هو بعَينِه، وأجاب اللهُ عن ذلك ، فقال تعالى:

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ.

أي: أولَمْ يَنظُرْ هؤلاء المُنكِرونَ للبَعثِ فيَعلَموا أنَّ اللهَ الذي خلقَ السَّمَواتِ والأرضَ، وابتَدَعَها من العَدَمِ بقُدرتِه، على غيرِ مِثالٍ سابقٍ -وهي أعظَمُ منهم- قادِرٌ أيضًا على إعادةِ خَلقِهم بعدَ فَناءِ أجسادِهم؟! فالقادِرُ على خَلْقِ ما هو أكبَرُ وأعظَمُ منكم أقدَرُ على خَلْقِكم بلا شَكٍّ .

كما قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81] .

وقال سُبحانَه: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33] .

وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ.

أي: وجعَلَ اللهُ لِمَوتِ المُشرِكينَ وبَعْثِهم يومَ القيامةِ وَقتًا مُحَدَّدًا لا شَكَّ في مَجيئِه .

كما قال تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود: 103، 104].

فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا.

أي: فأبى المُشرِكونَ إلَّا جُحودًا وتَكذيبًا بوُقوعِ بَعثِهم يومَ القيامةِ، وجُحودًا لنِعمَتِه عليهم، وتَمادِيًا في عبادةِ غَيرِه؛ ظلمًا منهم، بعدَ قيامِ الحجَّةِ عليهم .

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الكُفَّارَ لَمَّا قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا طَلَبوا إجراءَ الأنهارِ والعُيونِ في بلدَتِهم؛ لِتَكثُرَ أموالُهم، وتتَّسِعَ عليهم مَعيشَتُهم، فبَيَّنَ اللهُ تعالى لهم أنَّهم لو مَلَكوا خزائِنَ رَحمةِ اللهِ لَبَقُوا على بُخلِهم وشُحِّهم، ولَمَا أقدَموا على إيصالِ النَّفعِ إلى أحَدٍ، وعلى هذا التَّقديرِ فلا فائدةَ في إسعافِهم بهذا المطلوبِ الذي التمَسوه .

وأيضًا فإنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد منحه اللهُ ما لم يمنَحْه لأحدٍ مِن النبُوَّةِ والرِّسالةِ إلى الإنسِ والجِنِّ، فهو أحرَصُ النَّاسِ على إيصالِ الخيرِ وإنقاذِهم مِن الضَّلالِ، وهؤلاء أقرباؤه لا يكادُ يُجيبُ منهم أحَدٌ إلَّا الواحِدُ بعد الواحِدِ، قد لجُّوا في عنادِه وبَغضائِه، فلا يَصِلُ منهم إليه إلَّا الأذى! فنبَّه تعالى بهذه الآيةِ على سماحتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وبَذلِه ما آتاه الله، وعلى امتِناعِ هؤلاء أن يصِلَ منهم شيءٌ مِن الخيرِ إليه، فقال: لو مَلَكوا التصَرُّفَ في خزائنِ رَحمةِ الله الَّتي هي وَسِعَت كلَّ شَيءٍ كانوا أبخَلَ مِن كلِّ أحدٍ بما أُوتوه من ذلك، بحيث لا يصِلُ منهم لأحدٍ شَيءٌ مِن النَّفعِ؛ إذ طبيعتُهم الإقتارُ، وهو الإمساكُ عن التوسُّعِ في النَّفَقةِ، هذا مع ما أُوتوه مِن الخزائِنِ، فهذه الآيةُ جاءت مُبيِّنةً تبيِّنُ ما بينهم وبينه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن حِرصِه على نَفعِهم، وعدَمِ إيصالِ شَيءٍ مِن الخيرِ منهم إليه .

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ.

أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ: لو أنَّكم تَملِكونَ ما يَملِكُه اللهُ مِن خزائِنِ الرِّزقِ، إذَنْ لأمسَكْتُم عن أن تُعطُوا منها لأحَدٍ شَيئًا؛ خَشيةً مِن الإنفاقِ لشِدَّةِ بُخلِكم، وخَوفِكم مِن الفَقرِ لنَفادِ الخَزائِنِ، مع أنَّها لا تَنفَدُ أبدًا !

كما قال تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [النساء: 53].

وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا.

أي: وكان الإنسانُ بخيلًا مُمسِكًا مُضيِّقًا، قد طُبِع على البخلِ والشُّحِّ

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج: 19 - 22] .

الفوائد التربوية:

 

يجِبُ على الإنسانِ أن يعتَمِدَ على اللهِ سُبحانَه وتعالى في أدَبِ أولادِه وهِدايتِهم؛ فإنَّ اللهَ تعالى هو الهادي سُبحانَه وبِحَمدِه وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وعلى هذا فالذي يُنَظِّمُ نَسْلَه أو يُحَدِّدُه خَوفًا مِن عَدَمِ القُدرةِ على تأديبِهم، هو أيضًا مُسيءُ الظَّنِّ بِرَبِّه تبارك وتعالى، وإلَّا فاللهُ سُبحانَه وتعالى بيَدِه الأمورُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ فيه أنَّ المُنفَرِدَ بالهِدايةِ والإضلالِ هو اللهُ وَحْدَه؛ فمَن يَهْدِه فيُيَسِّرْه لليُسرى ويُجَنِّبْه العُسرى، فهو المُهتَدي على الحقيقةِ، ومن يُضلِلْه فيَخْذُلْه ويَكِلْه إلى نَفْسِه، فلا هادِيَ له مِن دُونِ اللهِ، وليس له وليٌّ يَنصُرُه مِن عذابِ اللهِ

.

2- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ .

3- قولُه تعالَى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا هذه الآيَةُ الكريمةُ يَدُلُّ ظاهِرُها علَى أَنَّ الكُفَّارَ يُبْعَثونَ يومَ القيامةِ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا.

وقدْ جاءتْ آياتٌ أُخَرُ تدلُّ علَى خلافِ ذلك، كقولِه تعالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم: 38] ، وكقولِه: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [الكهف: 53] ، وكقولهِ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا [السجدة: 12] .

والجوابُ عن هذا مِنْ أوجُهٍ:

الوجهُ الأوَّلُ: كونُ المرادِ مِمَّا ذُكِر حقيقتَه، ويكونُ ذلك في مبدَأِ الأمرِ، ثُمَّ يَرُدُّ اللَّهُ تعالَى إليهم أبصارَهم ونُطْقَهم وسَمْعَهم، فيرونَ النَّارَ، ويسمعونَ زَفيرَها، وينطِقُونَ بما حَكَى اللَّهُ تعالَى عنهم في غيرِ موضِعٍ.

الوجهُ الثَّاني: أَنَّهم لا يرونَ شيئًا يَسُرُّهم، ولا يسمعونَ كذلك، ولا يَنْطِقونَ بِحُجَّةٍ، كما أَنَّهم كانوا في الدُّنْيا لا يَسْتَبْصِرونَ، ولا يَنْطِقونَ بالحقِّ، ولا يَسْمَعونَه، فنُزِّلَ ما يَقولونَه ويَسْمَعونَه ويُبْصِرونَه منزلَةَ العَدَمِ؛ لعَدَم الانتفاعِ به.

الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ اللَّهَ إذا قال لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] ، وَقَع بهم ذاك العمَى والصُّمُّ والبَكَمُ مِنْ شِدَّةِ الكربِ واليأْسِ مِنَ الفرجِ، قال تعالَى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ [النمل: 85] وعلى هذا القولِ تكونُ الأحوالُ الثَّلاثةُ مُقَدَّرَةً .

4- قال الله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا المقصودُ مِن ذلك الجَمعُ بينَ التَّشويهِ والتَّعذيبِ؛ لأنَّ الوَجهَ أرَقُّ تحمُّلًا لصَلابةِ الأرضِ مِن الرِّجلِ، وهذا جزاءٌ مُناسِبٌ للجُرمِ؛ لأنَّهم رَوَّجوا الضَّلالةَ في صُورةِ الحَقِّ، ووَسَموا الحَقَّ بسِماتِ الضَّلالِ، فكان جزاؤُهم أنْ حُوِّلَت وُجوهُهم أعضاءَ مَشيٍ عِوَضًا عن الأرجُلِ، ثمَّ كانوا عُميًا جزاءَ تَعاميهم عن رؤيةِ الحقِّ، وبُكمًا جزاءَ أقوالِهم الباطلةِ على الرَّسولِ وعلى القُرآنِ، وصُمًّا جزاءَ امتِناعِهم مِن سَماعِ الحَقِّ .

5- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا أخبَرَ تعالى أنَّ الضَّالِّينَ في الدُّنيا يُحشَرونَ يومَ القيامةِ عُميًا وبُكمًا وصُمًّا؛ فإنَّ الجزاءَ أبدًا مِن جِنسِ العَمَلِ .

6- إنْ قيلَ: كيف نجمَعُ بينَ قَولِ اللهِ تعالى: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا، وقولِه: فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [البقرة: 86] ؟

فالجوابُ من وجوهٍ:

الوجه الأول: أنَّ كُلَّمَا خَبَتْ يقتضي سكونَ لهَبِ النَّارِ، ولا يدُلُّ هذا على أنَّه يخِفُّ العذابُ في ذلك الوقتِ .

الوجه الثاني: أنَّ الكَفَرةَ وَقودٌ للنَّارِ، كما قال تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة: 24] فإذا أحرقَتْهم النَّارُ زال اللهَبُ الذي كان متصاعِدًا من أجسامِهم، فلا يلبَثون أن يُعادوا كما كانوا، فيعود الالتِهابُ لهم، فالخَبْوُ وازديادُ الاشتِعالِ بالنِّسبةِ إلى أجسادِهم لا في أصلِ نارِ جهنَّمَ .

الوجه الثالث: أنَّ معنى الآيةِ جارٍ على طريقِ التهَكُّمِ وبادئِ الإطماعِ المُسفِرِ عن خيبةٍ؛ لأنَّه جعل ازديادَ السَّعيرِ مُقترِنًا بكلِّ زمانٍ مِن أزمنةِ الخَبْوِ، كما تفيدُه كَلِمةُ (كلَّما) التي هي بمعنى: كلَّ زمان، وهذا في ظاهرِه إطماعٌ بحُصولِ خَبوٍ لورودِ لَفظِ الخَبوِ في الظَّاهِرِ، ولكنَّه يؤولُ إلى يأسٍ منه؛ إذ يدُلُّ على دوامِ سعيرِها في كُلِّ الأزمانِ؛ لاقترانِ ازديادِ سَعيرِها بكلِّ أزمانِ خَبْوِها .

الوجه الرابع: أنَّ المعنى: إذا أرادتْ أن تخبوَ، كقولِه: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ .

7- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا يدُلُّ على أنَّ العَمَلَ عِلَّةُ الجَزاءِ .

8- في قَولِه تعالى: أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ دَليلٌ على أنَّ الشَّاهِدَ يُستدَلُّ به على الغائِبِ، ويكونُ حَقًّا .

9- في قَولِه تعالى: أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ حُجَّةٌ في الاستِشهادِ ببَعضِ الحَقِّ على بَعضٍ .

10- في قَولِه تعالى: أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ دَليلٌ على أنَّ أحَدًا لا يَلزمُه حُجَّةٌ فيما يُخاطَبُ إلَّا مِن حيثُ يَعقِلُها ويَفهَمُها .

11- طريقةُ القُرآنِ في خِطابِ الإنسانِ مِن حَيثُ هو إنسانٌ تَتَناوَلُ الذَّمَّ له مِن حَيثُ هو إنسانٌ، كقَولِه: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا [الإسراء: 11] ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا، إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72] ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ [الحج: 66] ، ونظائِرُه كثيرةٌ؛ فالإنسانُ مِن حَيثُ هو، عارٍ عن كُلِّ خَيرٍ مِن العِلمِ النَّافِعِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، وإنَّما اللهُ سُبحانَه هو الذي يُكَمِّلُه بذلك، ويُعطيه إيَّاه، وليس له ذلك مِن نَفْسِه، بل ليس له مِن نَفْسِه إلَّا الجَهلُ المُضادُّ للعِلمِ، والظُّلمُ المُضادُّ للعَدلِ، وكُلُّ عِلمٍ وعَدلٍ وخَيرٍ فيه، فمِنْ رَبِّه سُبحانَه لا مِن نَفْسِه . فالله تعالى في قوله: وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا يَصِفُ الإنسانَ مِن حيثُ هو، إلَّا مَن وَفَّقَه اللهُ وهداه؛ فإنَّ البُخلَ والجَزَع والهَلَع صِفةٌ له .

12- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا يدُلُّ هذا على كَرَمِه وجُودِه وإحسانِه، وقد جاء في الصَّحيحَينِ : ((يدُ اللهِ مَلأى لا يَغيضُها نفَقةٌ، سَحَّاءُ اللَّيلَ والنَّهارَ، أرأيتُم ما أنفَقَ مُنذُ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ؛ فإنَّه لم يَغِضْ ما في يَمينِه) )

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا يجوزُ أن تكون الجُملةُ معطوفةً على جُملة وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى؛ جمعًا بين المانعِ الظاهرِ المعتادِ مِن الهُدَى، وبينَ المانِعِ الحقيقيِّ، وهو حِرمانُ التوفيقِ مِن اللهِ تعالى؛ فمَن أصَرَّ على الكُفرِ مع وُضوحِ الدَّليل لذوي العقولِ؛ فذلك لأنَّ اللهَ تعالى لم يُوفِّقْه. ويجوزُ أن تكون الجُملةُ معطوفةً على جُملة قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ؛ ارتقاءً في التَّسليةِ، أي: لا يَحزُنك عدمُ اهتدائهم؛ فإنَّ اللهَ حرَمَهم الاهتداءَ لَمَّا أخَذوا بالعِنادِ قبلَ التدبُّر في حقيقةِ الرِّسالةِ

.

- قولُه: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ إخبارٌ من اللهِ تَعالى، وليس مُندرِجًا تحت قُلْ؛ لقولِه وَنَحْشُرُهُمْ، ويحتمِلُ أنْ يكونَ مُندرِجًا؛ لمجِيءِ وَمَنْ بالواوِ، ويكونُ وَنَحْشُرُهُمْ إخبارًا من اللهِ تَعالى. وعلى القولِ الأوَّلِ يكونُ التِفاتًا؛ إذ خرَجَ من الغَيبةِ للتَّكلُّمِ .

- قولُه: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ التَّعريفُ في الْمُهْتَدِ تعريفُ العهْدِ الذِّهنيِّ؛ فالمُعرَّفُ مُساوٍ للنَّكرةِ، فكأنَّه قيل: فهو مُهتدٍ، وفائدةُ الإخبارِ عنه بأنَّه مُهتدٍ: التَّوطئةُ إلى ذكْرِ مُقابِلِه، وهو وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ، كما يُقال: مَن عرَفَني فقد عرَفَني، ومَن لم يعْرِفني فأنا فلانٌ. ويجوزُ أنْ تجعَلَ التَّعريفَ في قولِه: الْمُهْتَدِ تعريفَ الجنْسِ؛ فيُفيدُ قصْرَ الهدايةِ على الَّذي هَداهُ اللهُ قصْرًا إضافيًّا، أي: دونَ مَن تريدُ أنت هداهُ، وأضَلَّه اللهُ. ولا يحتملُ أنْ يكونَ المعنى على القصْرِ الادِّعائيِّ الَّذي هو بمعنى الكَمالِ؛ لأنَّ الهُدى المُرادُ هنا هُدًى واحدٌ، وهو الهُدى إلى الإيمانِ .

- وفي قولِه: فَهُوَ الْمُهْتَدِ حُمِلَ على لفظِ (مَن) فأُفْرِدَ؛ مُلاحظةً لسَبيلِ الهُدى وهي واحدةٌ، فناسبَ التَّوحيدُ التَّوحيدَ، وحُمِلَ على المعنى في قولِه: فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ لا على اللَّفظِ فجُمِعَ؛ مُلاحظةً لسَبيلِ الضَّلالِ؛ فإنَّها مُتشعِّبةٌ مُتعدِّدةٌ، فناسبَ التَّشعيبُ والتَّعديدُ الجمْعَ .

- وقولُه: وَنَحْشُرُهُمْ التِفاتٌ من الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ؛ إيذانًا بكَمالِ الاعتناءِ بأمْرِ الحشرِ .

- وقَولُه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا لَمَّا كان المَقامُ للانتِقالِ مِن مَقامٍ إلى آخَرَ، قدَّمَ البصَرَ؛ لأنَّه العُمدةُ في ذلك، وثنَّى بالنُّطقِ؛ لأنَّه يُمكِّنُ الأعمى الاستِرشادَ، وخَتَم بالسَّمعِ؛ لأنَّه يُمكِنُ معه وَحْدَه نَوعُ رَشادٍ. وعَطْفُها بالواوِ إن كان لِتَشريكِ الكُلِّ في كُلٍّ مِن الأوصافِ، فللتَّهويلِ؛ لأنَّ المُتكَلِّمَ إذا نطَقَ بالعاطفِ ظَنَّ السَّامِعُ الانتقالَ إلى شَيءٍ آخَرَ، فإذا أتى بالوَصفِ كان أروَعَ؛ للعِلمِ بأنَّ صاحِبَه عَريقٌ فيه، وإن كان للتَّنويعِ، فلتَصويرِهم بأقبَحِ صُورةٍ مِن حيثُ إنَّه لا ينتَفِعُ فَريقٌ منهم بالآخَرِ كبيرَ نَفعٍ .

- قولُه: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا السَّعيرُ: لهَبُ النَّارِ، وهو مُشتقٌّ مِن سَعْرِ النَّارِ؛ إذا هُيِّجَ وَقودُها، وقد جَرى الوصفُ فيه على التَّذكيرِ تَبعًا لتذكيرِ اللَّهبِ، والمعنى: زِدْناهم لَهبًا فيها . والخبْوُ وازديادُ الاشتعالِ بالنِّسبةِ إلى أجسادِهم لا في أصْلِ نارِ جهنَّمَ، ولهذه النُّكتةِ سُلِّطَ فعْلُ زِدْنَاهُمْ على ضَميرِ المُشركينَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ ازديادَ السَّعيرِ كان فيهم، فكأنَّه قيل: كلَّما خبَتْ فيهم زِدْناهم سعيرًا، ولم يقُلْ: زِدْناها سعيرًا .

2- قولُه تعالى: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ العقابَ الفظيعَ المَحكيَّ يُثيرُ في نُفوسِ السَّامعينَ السُّؤالَ عن سبَبِ تركُّبِ هذه الهيئةِ من تلك الصُّورةِ المُفظعةِ، فالجوابُ بأنَّ ذلك بسبَبِ الكُفرِ بالآياتِ، وإنكارِ المعادِ .

- والاستفهامُ في حكايةِ قولِهم: أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وقولِه: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ إنكاريٌّ ، ونَصَّ على إنكارِ البعثِ؛ إذ هو طعنٌ في القُدرةِ الإلهيَّةِ، وهذا مع اعترافِهم بأنَّه تعالى مُنشِئُ العالمِ ومُخترعُه، ثمَّ إنَّهم يُنكرونَ الإعادةَ، فصار ذلك تَعجيزًا لقُدرتِه .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قال عَزَّ وجَلَّ هنا: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا، وقال في سُورةِ (الكهفِ): ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا [الكهف: 106] ؛ ففي هذه الآيةِ (جهنَّم)، ولم تَرِدْ في الأُولى مع وَحدةِ المعنى؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ قولَه في الأُولى: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ إلى ما اتَّصلَ به من قولِه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، ثمَّ قال: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ، والإشارةُ إلى ضُروبِ عِقابِهم ومأْواهم، واسمُ الإشارةِ مُتَّصلٌ بما أُشيرَ بعدُ إليه، لم يُفْصَلْ بينهما إلَّا بوصفِ جهنَّمَ الَّتي هي مأواهم؛ فجاء على ما يُناسِبُ. أمَّا قولُه في الثَّانيةِ: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ؛ فالإشارةُ إلى جهنَّمَ المُتقدِّمِ ذكْرُها في قولِه: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ [الكهف: 100] ، وقولِه: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ [الكهف: 102] ، لَمَّا بعُدَ ما بين اسمِ الإشارةِ والمُشارِ إليه بما فُصِلَ به بينهما؛ فلبُعدِ اسمِ الإشارةِ عمَّا أُشيرَ به إليه أُعيدَ مُظهَرًا فقيلَ: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ [الكهف: 106] . وقيل: اكْتفى هنا في سُورةِ (الإسراءِ) بالإشارةِ، ولتقدُّمِ ذكْرِ جهنَّمَ، وهي -وإنْ تقدَّمَت في (الكهفِ)- لم يكتَفِ بالإشارةِ، بل جمَعَ بينها وبين العبارةِ؛ لاقترانِ الوعيدِ بالوعدِ بالجنَّاتِ في قولِه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف: 107] ؛ ليكونَ الوعدُ والوعيدُ ظاهريْنِ للمُستمعينَ .

3- قَولُه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا

- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا... استفهامُ إنكارٍ وتوبيخٍ لهم على ما كانوا يَسْتبعِدونه من الإعادةِ، واحتجاجٌ عليهم بأنَّهم قد رأَوْا قُدرةَ اللهِ على خلْقِ هذه الأجرامِ العظيمةِ الَّتي بعضُ ما تَحويه البشَرُ؛ فكيف يُقِرُّون بخلْقِ هذا المخلوقِ العظيمِ، ثمَّ يُنكِرون إعادةَ بعضٍ ممَّا خُلِقَ؟! وذلك ممَّا لا يُحيلُه العقْلُ، بلْ هو ممَّا يُجوِّزُه . وهذا الاستفهامُ إنكاريٌّ مَشوبٌ بتعجيبٍ من انتفاءِ علْمِهم؛ لأنَّهم لمَّا جَرَت عقائدُهم على استبعادِ البعثِ، كانوا بحالِ مَن لم تظهَرْ له دلائلُ قُدرةِ اللهِ تَعالى، فيَؤُولُ الكلامُ إلى إثباتِ أنَّهم عَلِموا ذلك في نفْسِ الأمرِ .

- وجُملةُ أَوَلَمْ يَرَوْا عطْفٌ على جُملةِ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ [الإسراء: 98] باعتبارِ ما تضمَّنَتْه الجُملةُ المعطوفُ عليها من الرَّدعِ عن قولِهم: أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا [الإسراء: 98] ؛ فبعْدَ زَجْرِهم عن إنكارِهم البعثَ بأُسلوبِ التَّهديدِ، عُطِفَ عليه إبطالُ اعتقادِهم بطريقِ الاستدلالِ بقياسِ التَّمثيلِ في الإمكانِ، وهو كافٍ في إقناعِهم هنا؛ لأنَّهم إنَّما أنْكَروا البعثَ باعتقادِ استحالتِه، كما أفصَحَ عنه حكايةُ كلامِهم بالاستفهامِ الإنكاريِّ، وإحالتُهم ذلك مُستنِدةٌ إلى أنَّهم صاروا عِظامًا ورُفاتًا، أي: بتعذُّرِ إعادةِ خلْقِ أمثالِ تلك الأجزاءِ، ولم يَستدِلُّوا بدليلٍ آخرَ، فكان تَمثيلُ خلْقِ أجسامٍ من أجزاءٍ باليةٍ بخلْقِ أشياءَ أعظَمَ منها من عدَمٍ أوغَلَ في الفناءِ: دليلًا يقطَعُ دَعواهم .

- قولُه: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وصْفُ اسمِ الجلالةِ بالموصولِ؛ للإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخبَرِ، وهو الإنكارُ عليهم؛ لأنَّ خَلْقَ السَّمواتِ والأرضِ أمرٌ مُشاهَدٌ معلومٌ، وكونُه مِن فِعْلِ اللهِ لا يُنازِعونَ فيه .

- وعُطِفَ قولُه: وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا على قولِه: أَوَلَمْ يَرَوْا؛ لأنَّ المعنى: قد عَلِموا بدليلِ العقلِ أنَّ مَن قدَرَ على خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، فهو قادرٌ على خلْقِ أمثالِهم مِن الإنسِ؛ لأنَّهم ليسوا بأشدَّ خلْقًا منهنَّ، كما قال: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ [النازعات: 27] ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ وهو الموتُ أو القيامةُ، فأبَوا مع وُضوحِ الدَّليلِ إلَّا جُحودًا .

- قولُه: وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا وجْهُ كونِ هذا الجَعلِ لهم: أنَّهم داخِلونَ في ذلك الأجَلِ؛ لأنَّهم من جُملةِ مَن يُبْعَثُ حينئذٍ؛ فتَخصيصُهم بالذِّكرِ لأنَّهم الَّذين أنْكَروا البعثَ . وتضمَّنَ قولُه: وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا تعريضًا بالمِنَّة بنِعْمةِ الإمهالِ، وتَعريضًا بالتَّذكيرِ بإفاضةِ الأرزاقِ عليهم في مُدَّةِ الأجلِ؛ لأنَّ في ذكْرِ خلْقِ السَّماءِ والأرضِ تذكيرًا بما تَحْتويه السَّمواتُ والأرضُ من الأرزاقِ وأسبابِها .

- وجُملةُ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا تَفريعٌ على الجُملتينِ باعتبارِ ما تضمَّنتاهُ من الإنكارِ والتَّعجيبِ، أي: عَلِموا أنَّ الَّذي خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ قادرٌ على إعادةِ الأجسامِ، ومع علْمِهم أبَوا إلَّا كُفورًا؛ فالتَّفريعُ من تَمامِ الإنكارِ عليهم، والتَّعجيبِ من حالِهم .

- واستثناءُ الكُفورِ من الإبايةِ تأكيدٌ للشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّه .

- وفي قولِه: فَأَبَى الظَّالِمُونَ وُضِعَ الظَّاهرُ موضعَ الضَّميرِ، حيث لم يقُلْ: فأبَوا؛ تَسجيلًا عليهم بالظُّلمِ، وتجاوُزِ الحدِّ بالمرَّةِ .

4- قَولُه تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا

- قولُه: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أَنْتُمْ مَرفوعٌ بفعلٍ يُفسِّرُه ما بعدَه؛ لأنَّ (لو) لا يَليها إلَّا الفعلُ ظاهرًا أو مُضمرًا، والأصلُ: لو تَملِكون، فحُذِفَ الفعلُ؛ لدلالةِ ما بعدَه عليه، فانفصَلَ الضَّميرُ، وهو الواوُ؛ إذ لا يُمكِنُ بقاؤُه مُتَّصِلًا بعدَ حَذْفِ رافِعِه، وفائدةُ هذا الحذفِ والتَّفسيرِ: المُبالغةُ مع الإيجازِ، والدَّلالةُ على الاختصاصِ .

- واختيرَ الفعلُ المُضارعُ تَمْلِكُونَ؛ لأنَّ المقصودَ فرْضُ أنْ يَمْلِكوا ذلك في المُستقبلِ .

- وجُملةُ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا اعتراضٌ ناشئٌ عن بعْضِ مُقترحاتِهم الَّتي تَوهَّموا عدَمَ حُصولِها دليلًا على انتفاءِ إرسالِ بَشيرٍ؛ فالكلامُ استئنافٌ لتَكملةِ رَدِّ شُبهاتِهم. وهذا رَدٌّ لِما تضمَّنَه قولُهم: حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا إلى قولِه: تَفْجِيرًا [الإسراء: 90- 91] ، وقولِهم: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ [الإسراء: 93] مِن تعذُّرِ حُصولِ ذلك لعظيمِ قِيمَتِه، وأُدْمِجَ في هذا الرَّدِّ بيانُ ما فيهم من البُخلِ عن الإنفاقِ في سبيلِ الخيرِ، وأُدْمِجَ في ذلك أيضًا تذكيرُهم بأنَّ اللهَ أعطاهم من خَزائنِ رحمَتِه، فكَفروا نِعْمتَه، وشَكروا الأصنامَ الَّتي لا نِعمةَ لها

=========

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (101-104)

ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ

غريب الكلمات:

 

بَصَائِرَ:أي: حُجَجًا، وبَراهِينَ واضِحةً تقودُ إلى العِلمِ والحَقِّ، وأصلُ (بصر): يدُلُّ على وُضوحِ الشَّيءِ، وظهورِه، وبيانِه

.

مَثْبُورًا: أي: مُهلَكًا، وأصلُ (ثبر): يدُلُّ على هَلاكٍ .

يَسْتَفِزَّهُمْ: أي: يُزعجَهم، أو يستخفَّهم حتى يَخْرجوا، وأصلُ (فزز): يدلُّ على خِفَّةٍ وما قاربَها .

لَفِيفًا: أي: جَميعًا، وأصلُ (لفف): يَدُلُّ على تَلَوِّي شَيءٍ على شَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يذكرُ الله تعالى أنَّه قد أعطَى موسَى عليه السلامُ مِن المعجزاتِ ما يشهدُ بصدقِه، ولكنَّ فرعونَ وأتباعَه لم تزِدْهم تلك المعجزاتُ إلا كفرًا وعنادًا، فيقولُ تعالى: ولقد آتَينا موسى تِسعَ مُعجِزاتٍ واضِحاتٍ تُبيِّنُ صِدْقَ نُبُوَّتِه، فاسألْ -يا مُحَمَّدُ- اليَهودَ حين جاءهم مُوسى بمُعجِزاتِه الواضِحاتِ، فقال له فِرعونُ: إنِّي لأظُنُّك -يا موسى- قد سُحِرتَ وغُلِبتَ على عَقلِك، فأنت تهذي بكَلامٍ مختَلٍّ.

فقال له موسى: لقد تيقَّنتَ -يا فِرعونُ- أنَّه ما أنزَلَ تلك المُعجِزاتِ التِّسعَ إلَّا رَبُّ السَّمَواتِ والأرضِ؛ لِتَكونَ حُجَجًا واضِحةً على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى وقُدرتِه، وإنِّي لأظُنُّك -يا فِرعونُ- هالِكًا مَغلوبًا، فأراد فِرعونُ أن يُخرِجَ بني إسرائيلَ مِن الأرض، فأغرَقْناه وجنودَه أجمعينَ، وقُلْنا لبني إسرائيلَ مِن بَعدِ هلاكِ فِرعونَ وجُندِه: اسكُنوا الأرضَ، فإذا جاء يومُ القيامةِ جِئْنا بكم جَميعًا مِن قُبورِكم إلى مَوقِفِ القيامةِ.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

وجهُ اتِّصالِ هذه الآيةِ بما قبلَها أنَّ المعجزاتِ المذكورةَ كأنَّها مساوِيَةٌ لتلك الأمورِ الَّتي اقْتَرَحها كفَّارُ قُريشٍ، بلْ أقوَى منها، فليسَ عدمُ الاستجابَةِ لما طَلَبوه مِنَ الآياتِ إلَّا لعدمِ المصلحةِ في استئصالِهم إنْ لم يُؤْمِنوا بها

.

وأيضًا لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن قُرَيشٍ ما حكى مِن تعَنُّتِهم في اقتراحِهم وعِنادِهم للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، سلَّاه تعالى بما جرى لِموسى مع فِرعَونَ ومع قَومِه، وسَكَّنَ قَلْبَه، ونَبَّه على أنَّ عاقِبَتَهم الدَّمارُ والهلاكُ، كما جرى لفِرعونَ إذ أهلَكَه اللهُ ومَن معه .

وأيضًا فإنَّه قد بَقِيَ قَولُ الكافرينَ: أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا [الإسراء: 92] غيرَ مَردودٍ عليهم؛ لأنَّ له مُخالفةً لبَقيَّةِ ما اقتَرَحوه بأنَّه اقتِراحُ آيةِ عَذابٍ ورُعبٍ، فهو مِن قَبيلِ آياتِ مُوسى -عليه السَّلامُ- التِّسعِ، فكان ذِكرُ ما آتاه اللهُ موسى مِن الآياتِ، وعَدَمِ إجداءِ ذلك في فِرعَونَ وقَومِه تَنظيرًا لِما سألَه المُشرِكونَ، ففي هذا مَثَلٌ للمُعانِدينَ وتسليةٌ للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم .

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.

أي: ولقد آتَينا موسَى تِسعَ مُعجِزاتٍ واضِحاتٍ، ودلائِلَ قاطِعاتٍ، تُبَيِّنُ صِدْقَه، وصِحَّةَ نُبُوَّتِه؛ فلم يُؤمِنْ فرعونُ ولا قومُه برسالةِ موسى، معَ كثرةِ هذه المعجزاتِ التي أُوتِيَها، ووضُوحِها، فكذلك لو أجَبْنا هؤلاء الذين سألوك -يا مُحَمَّدُ- تلك الآياتِ المقترحةَ لما استجابوا ولا آمنوا إلَّا أن يشاءَ الله، فلَسْتَ بأوَّلِ رَسولٍ كذَّبَه النَّاسُ، رغمَ تأييدِه بالمعجزاتِ !

كما قال تعالى: وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [النمل: 10 - 13] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 130] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف: 133] .

فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ.

أي: فاسألْ -يا مُحمَّدُ- اليَهودَ المُعاصِرينَ لك حينَ جاءهم مُوسَى بالهُدى والآياتِ البَيِّناتِ .

فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا.

أي: فقال فرعَونُ لِمُوسى عليه السَّلامُ عِنادًا ومُكابَرةً: إنِّي لأظُنُّك -يا موسى- قد سُحِرتَ فتأثَّرَ عقلُك وفَسَدَ، وصِرْتَ تَهذِي، وتأتي بكَلامٍ مُختَلٍّ .

كما قال تعالى: قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] .

قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102).

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: عَلِمْتَ قِراءتانِ:

1- قِراءةُ عَلِمْتُ بضَمِّ التاءِ: على معنى إخبارِ موسى عن نَفسِه بأنَّه عالِمٌ بذلك .

2- قِراءةُ عَلِمْتَ بفَتحِ التَّاءِ: على معنى إخبارِ موسى عن فِرعَونَ بأنَّه عالِمٌ بذلك .

قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ.

أي: قال موسى لفِرعَونَ: لقد استيقنْتَ -يا فِرعَونُ- أنَّ هذه الآياتِ التِّسْعَ ما أنزَلَها إلَّا اللهُ ربُّ السَّمَواتِ والأرضِ، الذي لا يَقدِرُ على الإتيانِ بها أحَدٌ سِواه؛ أنزَلَها حُجَجًا واضِحةً تدلُّ النَّاسَ على قُدرةِ اللهِ ووحدانيَّتِه، وصِدْقِ رِسالتي .

كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 12- 14] .

وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا.

أي: وإنِّي لأظُنُّك -يا فِرعَونُ- هالِكًا .

فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103).

فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ.

أي: فأراد فِرعَونُ أن يُخرِجَ بني إسرائيلَ مِن الأرضِ بالقَتلِ، أو بالطَّردِ والإبعادِ منها .

فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا.

أي: فأغرَقْنا فِرعَونَ في البَحرِ ومَن مَعَه مِن الجُنودِ أجمَعينَ .

وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104).

وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ.

أي: وقُلْنا -لبني إسرائيلَ- مِن بَعدِ هَلاكِ فِرعَونَ : اسكُنوا الأرضَ .

كما قال تعالى: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 136، 137].

وقال سُبحانَه: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 57 - 59].

وقال عزَّ وجلَّ: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ [الأعراف: 168] .

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا.

أي: فإذا جاء وَقتُ قِيامِ السَّاعةِ، جِئْنا بكم -يا بني إسرائيلَ- وبِعَدُوِّكم مِن قُبورِكم إلى مَوقِفِ القيامةِ جَماعاتٍ مُختَلِطةً مِن جِهاتٍ وأصنافٍ شتَّى، فنُمَيِّزُ سُعَداءَكم مِن أشقيائِكم، ونُجازي كُلًّا بعَمَلِه

 

.

كما قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف: 98، 99].

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- ذَكَر الله في القرآنِ ستَّ عشْرةَ مُعجزةً لِموسى عليه السَّلامُ، وقال في هذه الآية: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وتخصيصُ التِّسعةِ بالذِّكرِ لا يقدَحُ فيه ثبوتُ الزائدِ عليه؛ لأنَّ تخصيصَ العدَدِ بالذِّكرِ لا يدُلُّ على نفيِ الزائدِ، كما هو ثابتٌ في أصولِ الفِقهِ، وهذه الآيةُ دَليلٌ على هذه المسألةِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا في الأمرِ بسُؤالِ اليَهودِ تَنبيهٌ على ضَلالِهم، ولعَلَّ منه اقتِباسَ الأئمَّةِ في المُناظَرةِ مُطالبةَ اليَهودِ والنَّصارى ونحوِهم بإثباتِ نُبُوَّةِ أنبيائِهم؛ فكُلُّ طريقٍ يَسلُكونَ يُسلَكُ مِثلُه في تقريرِ نُبُوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم، وكُلُّ اعتِراضٍ يُورِدونَه يُورَدُ عليهم مِثلُه، وما كان جَوابًا لهم فهو جوابٌ لنا .

3- قولُه تعالى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ... فيه بيانُ أنَّ فِرعَونَ عالِمٌ بأنَّ الآياتِ المذكورةَ ما أنزلَها إلَّا ربُّ السَّمواتِ والأرضِ بَصَائِرَ، أي: حُجَجًا واضِحةً، وذلك يدُلُّ على أنَّ قَولَ فِرعَونَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه: 49] ، وقَولَه: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23] كلُّ ذلك منه تجاهُلُ عارفٍ .

4- كان أولًا موسى عليه السلام يتوقَّعُ مِن فرعونَ أذًى، كما قال: إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه: 45] ؛ فأُمِر أن يقولَ له قولًا لينًا، فلما قال له الله: لا تخفْ؛ وثِقَ بحمايةِ الله، فصال على فرعونَ صولةَ المحميِّ، وقابَله مِن الكلامِ بما لم يكنْ ليقابلَه به قبلَ ذلك، فقال: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا .

5- قال الله تعالى: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا هذه الآيةُ وما بَعدَها تَسليةٌ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ قَصَّ عليه -في إِثْرِ ما ذَكَرَ مِن تكذيبِ قَومِه وهَمِّهم بإخراجِه- قِصَّةَ فِرعَونَ، وما هَمَّ به مِن استِفزازِ موسى وبني إسرائيلَ مِن أرضِ مِصرَ، حتى أهلَكَه اللهُ تعالى، وأورَثَهم أرْضَهم ودِيارَهم وأموالَهم؛ لذلك أظهَرَ نَبيَّه مُحمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المُشرِكينَ، ورَدَّه إلى مكَّةَ ظاهِرًا عليهم، فأنجَزَ وَعْدَه، ونصَرَ عَبْدَه .

6- قال الله تعالى: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا اقتَضَبَت هذه الآيةُ قَصَصَ موسى معَ فِرعَونَ، وإنَّما ذَكَرَت عُظْمَ الأمرِ وخَطيرَه، وذلك طَرَفاه: أراد فِرعَونُ غلَبَتَهم وقَتْلَهم، وهذا كان بَدءَ الأمرِ، فأغرَقَه اللهُ وأغرَقَ جُنودَه، وهذا كان نهايةَ الأمرِ .

7- قال الله تعالى: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ في هذا بِشارةٌ لمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بفَتحِ مَكَّةَ، مع أنَّ السُّورةَ نَزَلَت قبل الهِجرةِ، وكذلك وقَعَ؛ فإنَّ أهلَ مَكَّةَ هَمُّوا بإخراجِ الرَّسولِ منها، كما قال تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا [الإسراء: 76- 77] ؛ ولهذا أورَثَ اللهُ رَسولَه مَكَّةَ، فدخَلَها عَنوةً على أشهَرِ القَولَينِ، وقَهَرَ أهْلَها، ثمَّ أطلَقَهم حِلمًا وكَرَمًا، كما أورَثَ اللهُ القَومَ الذين كانوا يُستَضعَفونَ مِن بني إسرائيلَ مَشارِقَ الأرضِ ومَغارِبَها، وأورَثَهم بِلادَ فِرعونَ وأموالَهم وزُروعَهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا هذا مثَلٌ للمُعاندينَ وتَسليةٌ للرَّسولِ، ثمَّ انتقَلَ من ذلك بطريقةِ التَّفريعِ إلى التَّسجيلِ ببني إسرائيلَ؛ استشهادًا بهم على المُشركين، وإدماجًا للتَّعريضِ بهم بأنَّهم ساوَوُا المُشركينَ في إنكارِ نُبوةِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُظاهرتِهم المُشركينَ بالدَّسِّ، وتلْقينِ الشُّبَهِ، تذكيرًا لهم بحالِ فرعونَ وقومِه مع موسى؛ إذ قال له فرعونُ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا

.

- وخصَّ بالذكرِ هاهنا تِسْعَ آيَاتٍ معَ أنَّ مُوسَى عليه السَّلامُ قد أُوتيَ آياتٍ أخرَ كَثِيرَةً؛ لأنَّها الآياتُ التي شاهَدَها فِرعَونُ وقَومُه مِن أهلِ مِصرَ، وكانت حُجَّةً عليهم، فخالفوها وعانَدوها كُفرًا وجُحودًا .

- قولُه: فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اعتراضٌ في الكلامِ، والتَّقديرُ: ولقد آتينا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بيِّناتٍ، إذ جاء بني إسرائيلَ، فسَلْهم، وليس المطلوبُ من سُؤالِ بني إسرائيلَ أنْ يستفيدَ هذا العلْمَ منهم، بلِ المقصودُ أنْ يظهَرَ لعامَّةِ اليهودِ صِدْقُ ما ذكَرَه الرَّسولُ عليه السَّلامُ، فيكونُ هذا السُّؤالُ سُؤالَ استشهادٍ .

2- قوله تعالى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا

- قولُه: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ... فيه تأكيدُ كلامِ مُوسى عليه السَّلامُ بلامِ القَسمِ، وحرْفِ التَّحقيقِ (قد)؛ تَحقيقًا لحُصولِ علْمِ فِرعونَ أنَّ تلك الآياتِ لا تكونُ إلَّا بتَسخيرِ اللهِ؛ إذ لا يقدِرُ عليها غيرُ اللهِ .

- قولُه: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث حَسُنَ جدًّا ما جاء به من إسنادِ إنزالِها إلى لفْظِ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ إذ هو لمَّا سأَلَه فرعونُ في أوَّلِ مُحاورتِه فقال له: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء: 23- 24] ، يُنبِّهُه على نقْصِه، وأنَّه لا تصرُّفَ له في الوُجودِ؛ فدعواه الرُّبوبيَّةَ دَعوى استحالةٍ، فبكَّتَه وأعلَمَه أنَّه يعلَمُ آياتِ اللهِ ومَن أنزَلَها، ولكنَّه مُكابِرٌ مُعاندٌ؛ فخاطَبَه بذلك على سبيلِ التَّوبيخِ، أي: أنت بحالِ مَن يعلَمُ هذا، وهي من الوُضوحِ بحيث تعلَمُها، وليس خِطابُه على جِهَةِ إخبارِه عن علْمِه . وأيضًا عبَّرَ عن اللهِ سُبحانَه بطريقِ إضافةِ وصْفِ الرَّبِّ للسَّمواتِ والأرضِ؛ تذكيرًا بأنَّ الَّذي خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ هو القادرُ على أنْ يخلُقَ مثْلَ هذه الخوارِقِ .

- قولُه: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ في ذكْرِ هذا من قِصَّةِ مُوسى إتمامٌ لتَمثيلِ حالِ مُعاندي الرِّسالةِ المُحمَّديَّةِ بحالِ مَن عانَدَ رسالةَ مُوسى عليه السَّلامُ .

- قولُه: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا، هذا نِذارةٌ وتَهديدٌ لفِرعونَ بقُرْبِ هلاكِه. وإنَّما جعَلَه مُوسى (ظنًّا)؛ تأدُّبًا مع اللهِ تعالى، أو لأنَّه علِمَ ذلك باستِقراءٍ تامٍّ أفاده هلاكُ المُعاندينَ للرُّسلِ، ولكنَّه لم يَدْرِ لعلَّ فرعونَ يُقْلِعُ عن ذلك، وكان عنده احتمالًا ضعيفًا؛ فلذلك جعَلَ توقُّعَ هلاكِ فرعونَ ظنًّا. ويجوزُ أنْ يكونَ الظَّنُّ هنا مُستعملًا بمعنى اليَقينِ والعلْمِ، وإنَّما عبَّرَ بالظَّنِّ فقال له: لَأَظُنُّكَ مع أنَّه يعلَمُ أنَّه مَثبورٌ؛ ليُقَابِلَ قَولَ فِرعونَ له: لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا، كأنَّه قال: إذا ظَنَنتني مَسحورًا، فأنا أظنُّك مَثبورًا؛ فجاء في جَوابِ مُوسى عليه السَّلامُ لفِرعونَ بمثْلِ ما شافَهَه فِرعونُ به؛ مُقارعةً له، وإظهارًا لكونِه لا يَخافُه، وأنَّه يُعامِلُه مُعاملةَ المِثْلِ .

3- قولُه تعالى: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا أكمَلَ قِصَّةَ المثَلِ بما فيه تَعريضٌ بتَمثيلِ الحالينِ؛ إنذارًا للمُشركينَ بأنَّ عاقِبةَ مكْرِهم وكيدِهم ومُحاولاتِهم صائرةٌ إلى ما صار إليه مكْرُ فِرعونَ وكيدُه، ففرَّعَ على تَمثيلِ حاليِ الرِّسالتينِ وحاليِ المُرسَلِ إليهما ذكْرَ عاقِبةِ الحالةِ المُمثَّلِ بها؛ نِذارةً للمُمثَّلينَ بذلك المصيرِ، والاستفزازُ: الاستخفافُ، وهو كِنايةٌ عن الإبعادِ

=====================

 

سورةُ الإسراءِ

الآيات (105-111)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات :

 

مُكْثٍ: أي: تُؤَدَةٍ وتَرَسُّلٍ، وأصلُ (مكث): يدُلُّ على توَقُّفٍ وانتِظارٍ

.

يَخِرُّونَ: أي: يَسقُطونَ بِسُرعةٍ، وخَرَّ: سقَط على وَجهِه سُقوطًا يُسمَعُ منه صوتٌ (ويسمَّى خَريرًا)، والخُرورُ والخَرُّ: السُّقوطُ مِنْ عُلوٍّ إِلَى الأرضِ، وأصلُ (خرر): يدُلُّ على اضطِرابٍ، وسُقوطٍ مع صَوتٍ .

لِلْأَذْقَانِ: الأذقانُ جمعُ الذَّقَنِ، وهو مجمعُ اللَّحْيينِ .

تُخَافِتْ: أي: تُخْفِها وتُسِرَّها، وأصلُ (خفت): يَدُلُّ على إسرارٍ وكِتمانٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُنوِّهُ الله تعالى بشأنِ القرآنِ فيقولُ تعالى: وبالحَقِّ أنزَلْنا هذا القُرآنَ، وبالصِّدقِ والعَدلِ، والحِفظِ مِن الزيادةِ والنُّقصانِ والتَّبديلِ والتَّغييرِ نَزَل، وما أرسَلْناك -يا مُحَمَّدُ- إلَّا مُبَشِّرًا الطَّائِعينَ بالجَنَّةِ، ومُخَوِّفًا العاصِينَ بالنَّارِ. وقُرآنًا بيَّناه وأحْكَمْناه وفَصَّلْناه فارِقًا بينَ الحقِّ والباطِلِ والهُدى والضَّلالِ؛ لِتَقرَأَه على النَّاسِ في تُؤَدَةٍ وتَمَهُّلٍ، ونَزَّلْناه مُفَرَّقًا شَيئًا بعد شَيءٍ.

ثمَّ أمر الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يخاطبَ المشركينَ بما يدلُّ على عدمِ المبالاةِ بهم، فقال: قُلْ -يا مُحَمَّدُ- لهؤلاء المُكَذِّبينَ: آمِنوا بالقُرآنِ أو لا تُؤمِنوا؛ فإنَّ الذينَ أُوتُوا العِلمَ مِن قَبلِ نُزولِ القُرآنِ؛ مِن مُؤمِني أهلِ الكِتابِ، إذا قُرِئَ عليهم القُرآنُ يسقُطونَ على أذقانِهم ويَسجُدونَ على وُجوهِهم لله سُبحانَه وتعالى، ويقولونَ: تَنزيهًا لرَبِّنا وتَبرِئةً له مِمَّا يَصِفُه المُشرِكونَ به، إنَّ وعْدَ ربِّنا بإرسالِ نبيِّه محمَّدٍ وإنزالِ القُرآنِ عليه: كائِنٌ وواقِعٌ، ويقَعُون على أذقانِهم يَبكُونَ تأثُّرًا بمَواعِظِ القُرآنِ، ويَزيدُهم القُرآنُ خُضوعًا لأمرِ اللهِ، ورِقَّةً ولِينًا.

قُل -يا مُحَمَّدُ: ادعُوا اللهَ، أو ادعُوا الرَّحمنَ؛ فكِلاهما اسمانِ لله الواحِدِ، فبأيِّ أسمائِه دَعَوتُموه، فإنَّكم تَدْعُونَ رَبًّا واحِدًا؛ فله أحسَنُ الأسماءِ المُتضَمِّنةِ أفضَلَ الأوصافِ، ولا تجهَرْ بالقَولِ في صَلاتِك ودُعائِك، ولا تُسِرَّ به، وكُنْ وَسَطًا بين الجَهرِ والمُخافَتةِ.

ثمَّ ختَم الله هذه السورةَ بأمرِه لنبيِّه أن يحمدَه منزهًا له عن النقائصِ، فقال: وقُلْ -يا مُحَمَّدُ: الحَمدُ لله الذي له الكَمالُ والثَّناءُ، المتنزِّهِ عن الوَلَدِ والشَّريكِ في مُلكِه وسُلطانِه، ولم يكُنْ له سُبحانَه وَلِيٌّ مِن خَلْقِه؛ مِن أجلِ ذُلٍّ فيه أو عَجزٍ -تعالى وتقَدَّسَ- وعَظِّمْه تَعظيمًا تامًّا.

تفسير الآيات:

 

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

هذا عَودٌ إلى التَّنويهِ بشأْنِ القُرآنِ، فهو مُتَّصلٌ بقولِه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] ؛ فلمَّا عُطِفَ عليه وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ... [الإسراء: 90] الآياتِ إلى هنا، وسمَحَت مُناسبةُ ذكْرِ تَكذيبِ فرعونَ مُوسى عليه السَّلامُ؛ عاد الكلامُ إلى التَّنويهِ بالقُرآنِ لتلك المُناسَبةِ

.

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ.

أي: أنزَلْنا القُرآنَ وَحْيًا مِن عِندِ اللهِ تعالى لِمَصلحةِ الخَلقِ، مُتَضَمِّنًا للحَقِّ، مُشتَمِلًا على الأخبارِ الصَّادِقةِ، والأحكامِ العادلةِ، ونَزَل به جِبريلُ القَويُّ الأمينُ إلى مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلسانٍ عَربيٍّ مُبِينٍ، مَحروسًا مِنَ الشَّيطانِ، مَحفوظًا مِن الزيادةِ والنُّقصانِ، لم يَقَعْ في طريقِ إنزالِه تَبديلٌ، ولم يَحدُثْ له تغييرٌ ولا تَحويلٌ .

كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [النساء: 105] .

وقال سُبحانَه: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] .

وقال تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام: 114-115] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192- 195] .

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.

أي: وما أرسَلْناك -يا مُحَمَّدُ- إلَّا لِتُبَشِّرَ الطَّائِعينَ بالخَيرِ والثَّوابِ في الدُّنيا، والجَنَّةِ في الآخرةِ، وتُنذِرَ العاصِينَ بالعِقابِ في الدُّنيا والآخِرةِ .

كما قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [البقرة: 119] .

وقال سُبحانَه: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام: 19] .

وقال عزَّ وجلَّ: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [الأحزاب: 45-47] .

وقال تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] .

وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106).

وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ .

أي: وقُرآنًا فَصَّلْناه وبَيَّنَّاه وأحْكَمْناه، وفرَّقْنا فيه بينَ الحَقِّ والباطِلِ، والهُدى والضَّلالِ ؛ لِتَتلُوَه -يا مُحَمَّدُ- على النَّاسِ بتَمَهُّلٍ وتُؤَدةٍ وتَرتيلٍ، ولا تَعجَلْ في تِلاوتِه؛ فإنَّ ذلك أيسَرُ للحِفظِ، وأعْوَنُ على الفَهمِ؛ ليَتَدَبَّرَه النَّاسُ ويتَفَكَّروا في معانيه، ويَستَخرِجوا مِن عُلومِه وأسرارِه ومَرامِيه .

كما قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89].

وقال تبارك وتعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] .

وقال سُبحانَه: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ [النمل: 91-92] .

وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا.

أي: ونزَّلْنا عليك القُرآنَ -يا مُحَمَّدُ- مُفَرَّقًا شيئًا بعد شَيءٍ .

كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] .

قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

بعد أن أوضح لهم الدَّلائِلَ على أنَّ مِثلَ ذلك القُرآنِ لا يكونُ إلَّا مُنزَّلًا من عندِ اللهِ، مِن قَولِه تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: 88] فعجَزوا عن الإتيانِ بمِثلِه، ثمَّ ببيانِ فضائِلِ ما اشتمَلَ عليه بقَولِه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الإسراء: 89] ، ثمَّ بالتعرُّضِ إلى ما اقتَرَحوه من الإتيانِ بمعجزاتٍ أُخرَ، ثمَّ بكشفِ شُبهتِهم التي يموِّهون بها امتناعَهم من الإيمانِ برِسالةِ بَشَرٍ، وبيَّن لهم غلَطَهم أو مُغالطتَهم، ثمَّ بالأمرِ بإقامةِ الله شَهيدًا بينه وبينهم، ثمَّ بتهديدِهم بعذابِ الآخرةِ، ثمَّ بتمثيلِ حالِهم مع رسولِهم بحالِ فِرعَونَ وقَومِه مع موسى وما عجَّل لهم مِن عذابِ الدُّنيا بالاستِئصالِ، ثمَّ بكَشفِ شُبهتِهم في تنجيمِ القُرآن- أعقب ذلك بتفويضِ النظَرِ في ترجيحِ الإيمانِ بصِدقِ القُرآنِ وعدَمِ الإيمانِ، بقَولِه تعالى: آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا للتَّسويةِ بين إيمانِهم وعدَمِه عندَ الله تعالى .

قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا.

أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ- للمُكَذِّبينَ المُعرِضينَ عن القُرآنِ: آمِنوا بالقُرآنِ أو لا تُؤمِنوا به؛ فسَواءٌ آمَنتُم به أم كَفَرتُم، فهو حقٌّ في نَفسِه، ولن تَنفَعوا اللهَ إن آمَنْتُم، ولن تَضُرُّوه إن كَفَرْتُم، وإنَّما ضَرَرُ ذلك واقِعٌ عليكم .

إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا.

أي: وإنْ تَكفُروا بالقُرآنِ، فإنَّ الذينَ أُوتُوا العِلمَ مِن قَبلِ نُزولهِ، مِن مُؤمِني أهلِ الكِتابِ إذا يُتلَى عليهم هذا القُرآنُ يَسقُطونَ سَريعًا على أذقانِهم ساجِدينَ لله تعالى .

كما قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم: 58] .

وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108).

وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا.

أي: ويقولونَ: تَنزيهًا لربِّنا مِمَّا يُضيفُه إليه المُشرِكونَ، وعَمَّا يَقولُه الجاهِلونَ مِمَّا لا يَليقُ بجَلالِه، وتَعظيمًا وتوقيرًا له على قُدرَتِه التَّامَّةِ، وأنَّه لا يُخلِفُ ما وعَدَ وبَشَّرَ به في الكُتُبِ السَّابقةِ مِن بَعثةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنزالِ القُرآنِ عليه .

إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا.

أي: إنَّ وعْدَ ربِّنا بإرسالِ نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنزالِ القُرآنِ عليه كائِنٌ وواقِعٌ .

وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109).

وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ.

أي: ويَسقُطونَ على أذقانِهم يَبكُونَ خاضِعينَ لِلَّهِ عند سَماعِهم القُرآنَ .

وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا.

أي: ويَزيدُهم القُرآنُ خُضوعًا لله، واستِكانةً له، ورِقَّةً ولِينًا في قُلوبِهم .

قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران: 199] .

وقال عزَّ وجلَّ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23] .

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا طالت الكَلِماتُ في المُناظَرةِ مع المشركين ومُنكِري النبوَّاتِ والجوابِ عن شُبُهاتِهم؛ أتبَعَها ببيانِ كيف يَدعُون الله ويُطيعونَه، وكيف يَذكُرونَه في وقتِ الاشتغالِ بأداء العبوديَّةِ، فقال تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم :

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ.

أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ : إنْ شِئْتُم فقُولوا في دُعائِكم: يا اللهُ، وإنْ شِئْتُم فقُولوا: يا رَحمنُ؛ فكِلاهما اسمٌ لله الواحِدِ الذي لا شَريكَ له .

كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] .

أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.

أي: بأيِّ اسمٍ مِن أسماءِ اللَّهِ دَعَوتُم، فإنَّما تَدعُونَ اللهَ الواحِدَ سُبحانَه؛ فله أحسَنُ الأسماءِ المُتضَمِّنةِ أفضَلَ الأوصافِ، فليس له اسمٌ غَيرُ حَسَنٍ حتى يُنهَى عن دُعائِه به .

كما قال تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه: 8] .

وقال سُبحانَه: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 22-24] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ لله تِسعةً وتِسعينَ اسمًا؛ مِئةً إلَّا واحِدًا، مَن أحصاها دخَلَ الجَنَّةَ )) .

وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا.

سَبَبُ النُّزولِ:

عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قَولِه عَزَّ وجَلَّ: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا قال: ((نَزَلَت ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتوارٍ بِمكَّةَ، فكان إذا صلَّى بأصحابِه رَفَعَ صَوتَه بالقُرآنِ، فإذا سَمِعَ ذلك المُشرِكونَ سَبُّوا القُرآنَ ومَن أنزَلَه، ومَن جاء به، فقال اللهُ تعالى لِنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ فيَسمَعَ المُشرِكونَ قِراءَتَك، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا عن أصحابِك، أسْمِعْهم القُرآنَ ولا تَجهَرْ ذلك الجَهرَ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، يقولُ: بينَ الجَهرِ والمُخافَتةِ )) .

وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: (نَزَلَت هذه الآيةُ: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا في الدُّعاءِ) .

وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا.

أي: ولا تَرفَعْ صَوتَك -يا مُحَمَّدُ- بقِراءةِ القُرآنِ في صَلاتِك، ودُعائِك وذِكْرِك لله فيها، ولا تُسِرَّ بذلك .

وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا.

أي: واسلُكْ -يا مُحَمَّدُ- طَريقًا وَسَطًا بينَ الجَهرِ والمُخافَتةِ .

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى ألَّا يُذكَرَ ولا يُنادى إلَّا بأسمائِه الحُسنى؛ عَلَّمَه كيفيَّةَ التَّحميدِ .

وأيضًا لَمَّا كان النَّهيُ عن الجَهرِ بالدُّعاءِ أو قراءةِ الصَّلاةِ سَدًّا لِذَريعةِ زِيادةِ تَصميمِ الكافِرينَ على الكُفرِ؛ أعقَبَ ذلك بأمْرِه بإعلانِ التَّوحيدِ؛ لِقَطعِ دابِرِ توَهُّمِ مَن توَهَّموا أنَّ (الرَّحمنَ) اسمٌ لِمُسمًّى غَيرِ مُسمَّى اسمِ اللهِ؛ فبَعضُهم توَهَّمَه إلهًا شَريكًا، وبَعضُهم توَهَّمَه مُعِينًا وناصِرًا، فأُمِرَ النَّبيُّ بأن يقولَ ما يَقلَعُ ذلك كُلَّه، وأن يُعَظِّمَه بأنواعٍ مِن التَّعظيمِ .

وأيضًا لَمَّا أثْبَتَ تعالى لنفسِه الكريمةِ الأسماءَ الحسنَى؛ نَزَّهَ نفسَه عن النَّقائصِ، فقال :

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا.

أي: وقُلْ -يا مُحَمَّدُ: الثَّناءُ الجَميلُ لله المتَّصِفِ بالكَمالِ، المُنَزَّهِ عن النَّقائِصِ، الذي لم يَجعَلْ له ولدًا .

كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم: 88- 92] .

وقال سُبحانَه حِكايةً عن قَولِ مُؤمِني الجِنِّ: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا [الجن: 3] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1-4] .

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ.

أي: ولا يُوجَدُ أحدٌ يُشارِكُه في مُلكِه وسُلطانِه .

كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ: 22] .

وقال سُبحانَه: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: 1] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26] .

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ.

أي: ولا يُوجَدُ لله وليٌّ يُناصِرُه ويُدافِعُ عنه، ويتعزَّزُ به، ويُعاوِنُه مِن أجْلِ ذلٍّ فيه أو عَجزٍ أو افتقارٍ -سُبحانَه وتعالى- بل هو الغَنيُّ ذو العِزَّةِ والكِبرياءِ، وكُلُّ شَيءٍ خاضِعٌ له، وتَحتَ قَهرِه وقُدرتِه، ولا يكونُ إلهًا يُطاعُ ويُعبَدُ، مَن كان ذليلًا مَهينًا مُحتاجًا إلى وَليٍّ .

كما قال تعالى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [يونس: 65] .

وقال سُبحانَه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18] .

وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا.

أي: وعَظِّمْ -يا مُحَمَّدُ- ربَّك تَعظيمًا تامًّا شَديدًا، فلا تَعبُدْ غَيرَه، وأطِعْ أمْرَه، واجتَنِبْ نَهْيَه، وأخبِرْ عنه بأوصافِه الحُسنى، وأفعالِه العَظيمةِ، ونزِّهْه عن كلِّ آفَةٍ ونَقصٍ

 

.

كما قال تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا دلَّ نَعتُ هؤلاء ومَدْحُهم بخُرورِهم باكينَ، على استِحبابِ البُكاءِ والتخَشُّعِ؛ فإنَّ كُلَّ ما حُمِدَ فيه مِن النُّعوتِ والصِّفاتِ التي وَصَفَ اللهُ تعالى بها مَن أحَبَّه مِن عبادِه، يلزَمُ الاتِّصافُ بها. كما أنَّ ما ذَمَّ منها مَن مَقَتَه منهم، يجِبُ اجتِنابُه

، فيستحبُّ البكاءُ والتَّباكي لمن لا يقدِرُ على البكاءِ؛ فإنَّ البكاءَ عندَ القراءةِ صفةُ العارفينَ، وشعارُ عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ .

2- عن عبدِ الأعلى التَّيميِّ، قال: (مَن أُوتِيَ مِن العِلمِ ما لا يُبْكيه، لَخليقٌ ألَّا يَكونَ أُوتِيَ عِلمًا يَنفَعُه؛ لأنَّ اللهَ نَعَت العُلَماءَ فقال: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ) .

3- في قَولِه تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا مَدْحٌ لِمَن أوجبَ له سَماعُ كتابِ اللهِ الخُشوعَ في قلْبِه .

4- قولُه تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا فيه كَمالُ غِنَى اللهِ عزَّ وجلَّ عن كلِّ أحدٍ، وانفرادُه بالمُلْكِ، وتَمامُ عِزَّتِهِ وسُلطانِه، فعلى العبدِ أن يُعَظِّمَ اللهَ سُبحانَه وتعالى بما يَستَحِقُّ أنْ يُعَظَّمَ به بقَدْرِ استطاعتِه. وفيه أيضًا أن الله تعالى يُحمدُ على تَنَزُّهِه عن العُيوبِ، كما يُحمَدُ على صِفاتِ الكَمالِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- سلَّى الله نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإيمانِ أهلِ العلمِ بهذا القرآنِ، وأمَرَه ألَّا يعبأَ بالجاهلينَ شيئًا، فقال تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وهذا شَرفٌ عَظيمٌ لأهلِ العِلمِ

.

2- قال تعالَى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ وعلَّلَ ذلك بقولِه: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ فهما عِلَّتانِ: أنْ يُقْرَأَ على النَّاسِ، وتلك عِلَّةٌ لجعْلِه قُرآنًا -أي في تسميتِه قرآنًا-، وأنْ يُقْرَأَ على مُكْثٍ، أي: مَهَلٍ وبُطْءٍ، وهي عِلَّةٌ لتَفريقِه .

3- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا دَليلٌ على مشروعيةِ التَّسبيحِ في السُّجودِ، وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثِرُ أن يَقولَ في رُكوعِه وسُجودِه: سُبحانَك اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمدِك، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي )) .

4- قَولُ الله تعالى: وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا استَدَلَّ به الشَّافِعيُّ على استِحبابِ هذا الذِّكرِ في سُجودِ التِّلاوةِ .

5- قَولُه: أَيًّا مَا تَدْعُوا يقتضي تعدُّدَ المدعُوِّ، وقَولُه: فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يقتضي أنَّ المدعوَّ واحِدٌ له الأسماءُ الحُسنى، وقَولُه: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ ولم يقُل: ادعوا باسمِ اللهِ أو باسمِ الرَّحمنِ، يتضمَّنُ أنَّ المدعوَّ هو الربُّ الواحِدُ بذلك الاسمِ؛ فقد جعل الاسمَ تارةً مدعوًّا، وتارة مدعوًّا به في قَولِه: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا فهو مدعوٌّ به باعتبارِ أنَّ المدعوَّ هو المسمَّى، وإنما يُدعَى باسمِه، وجُعِل الاسمُ مدعوًّا باعتبارِ أنَّ المقصودَ به هو المسمَّى وإن كان في اللَّفظِ هو المدعوَّ المنادى، كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أي: ادعُوا هذا الاسمَ أو هذا الاسمَ، والمرادُ: إذا دعَوتَه هو المسمَّى، أيَّ الاسمينِ دعوتَ ومُرادُك هو المسمَّى فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى .

6- قولُه تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فيه ردٌّ وتعليمٌ بأنَّ تَعَدُّدَ الأسماءِ لا يقتضي تَعَدُّدَ المسمَّى، وشتَّانَ بينَ ذلك وبينَ دعاءِ المشركينَ آلهةً مختلفةَ الأسماءِ والمسَمَّياتِ .

7- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا فيه استحبابُ التوسُّطِ في القراءةِ في الصَّلاةِ الجَهريَّةِ بين المبالغةِ في رَفعِ الصَّوتِ والإسرارِ .

8- قال الله تعالى: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا قولُه: بِصَلَاتِكَ أي: بقراءتِك فيها، فأُطلِقَ هنا اسمُ الكُلِّ على الجُزءِ؛ إشارةً إلى أنَّ المقصودَ الصَّلاةُ، وفي قَولِه: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء: 78] أُطلِقَ اسمُ الجزءِ على الكُلِّ؛ لأنَّ المقصودَ الأعظَمَ هناك القراءةُ في الفَجرِ .

9- قال اللهُ تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا فلم ينفِ الوليَّ نفيًا عامًّا مُطلَقًا، بل نفى أن يكونَ له وليٌّ من الذُّلِّ، وأثبت في موضعٍ آخَرَ أنَّ له أولياءَ، بقَولِه: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] ، وقَولِه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 257] ، فهذا مُوالاةُ رَحمةٍ وإحسانٍ وجَبرٍ، والموالاةُ المنفيَّةُ مُوالاةُ حاجةٍ وذُلٍّ !

10- في قَولِه تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا أَمَرَ اللهُ بحَمدِه؛ لانتفاءِ صِفاتِ النَّقصِ عنه، وهي: اتِّخاذُ الولدِ -ونَفيُه عن اللهِ يتَضَمَّنُ مع انتِفائِه كَمالَ غِناه- ونفيُ الشَّريكِ عن اللهِ يتَضَمَّنُ كَمالَ وحدانيَّتِه وقُدْرَتِه، ونَفيُ الوليِّ عنه مِن الذُّلِّ يتضَمَّنُ كَمالَ عِزِّه وقَهْرِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا

- في قولِه: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ذُكِرَ فعْلُ النُّزولِ مرَّتينِ، وذُكِرَ له في كلِّ مرَّةٍ مُتعلَّقٌ مُتماثِلُ اللَّفظِ، لكنَّه مُختلفُ المعنى؛ فعُلِّقَ إنزالُ اللهِ إيَّاه بأنَّه بالحقِّ، فكان معنى الحقِّ: الثَّابت الَّذي لا ريبَ فيه ولا كذِبَ، وهو رَدٌّ لتَكذيبِ المُشركينَ أنْ يكونَ القُرآنُ وحيًا من عندِ اللهِ. وعُلِّقَ نُزولُ القُرآنِ -أي: بُلوغُه للنَّاسِ- بأنَّه بالحقِّ، فكان معنى الحقِّ الثَّاني مُقابِلَ الباطلِ، ولولا اختلافُ معنى الباءين في الآيةِ لكان قولُه: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ مُجرَّدَ تأكيدٍ لقولِه: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ

. وقيل: إنَّ قولَه: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ توكيدٌ من حيث المعنى؛ لمَّا كان يُقال: أنزَلْتُه فنزَلَ، وأنزَلْتُه فلم ينزِلْ؛ إذا عرَضَ له مانعٌ من نُزولِه، جاء وَبِالْحَقِّ نَزَلَ؛ مُزيلًا لهذا الاحتمالِ ومُؤكِّدًا .

- وتقديمُ المجرورِ بِالْحَقِّ في الموضعينِ على عامِلِه للقصْرِ؛ رَدًّا على المُنكرين الَّذين ادَّعَوا أنَّه أساطيرُ الأوَّلينَ، أو سِحْرٌ مُبينٌ، أو نحوُ ذلك .

- قولُه: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ فيه الذِّكرُ أو التَّصريحُ بقولِه: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ، وهو إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ لنُكتةٍ بَديعةٍ؛ فإنَّه لو ترَكَ الإظهارَ، وعدَلَ عنه إلى الإضمارِ -كما يَقْتضي السِّياقُ- فقال: (وبالحقِّ أنزَلْناه وبه نَزَل)، لم يكُنْ فيه من الفخامةِ ما فيه الآنَ .

- وجُملةُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا مُعترضةٌ بين جُملةِ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وجُملةِ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ، وفيها قصْرٌ بـ(ما... إلَّا)؛ للرَّدِّ على الَّذين سأَلوه أشياءَ من تصرُّفاتِ اللهِ تعالى والَّذين ظنُّوا ألَّا يكونَ الرَّسولُ بشَرًا .

- وفي هذه الآياتِ السَّابقةِ من البلاغةِ ما يُعرَفُ بالاستطرادِ والخُروجِ من معنًى إلى معنًى؛ وهو أنْ يكونَ المُتكلِّمُ في غرَضٍ من الأغراضِ يُوهِمُ أنَّه مُستمِرٌّ فيه لم يخرُجْ منه إلى غيرِه لمُناسبةٍ بينهما، ثمَّ يرجِعُ إلى الأوَّلِ، ويقطَعُ الكلامَ. وهنا قدِ انتقَلَ سُبحانَه من كلامِه عن القُرآنِ، وأنَّ الإنسَ والجنَّ عاجزونَ عن الإتيانِ بمثْلِه في فصاحتِه وبَلاغتِه، ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظَهيرًا، انتقَلَ إلى ما في مُنطوياتِه من مُثُلٍ وعِبَرٍ وبصائرَ، وانساقَ الكلامُ إلى تعنُّتِ الكافرينَ وتَمادِيهم في اللَّجاجِ، واستِمرارِهم في الغيِّ والمُكابرةِ، وطَمْسِ الحقائقِ، وإنكارِ الوقائعِ، ثمَّ أورَدَ شاهدًا على ذلك: ما لاقاهُ مُوسى من مُكابرةِ فِرعونَ وملَئِه، وضرَبَ مثَلًا في المَغبَّةِ الَّتي نالها فِرعونُ ومَن معه، ثمَّ عاد إلى الموضوعِ الَّذي شرَعَ فيه، وهو كونُ القُرآنِ نازلًا بالحقِّ، وإليه هادفًا .

2- قوله تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا

- قولُه: وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا في التَّعبيرِ بفعْلِ نَزَّلْنَاهُ المُضاعفِ وتأكيدِه بالمفعولِ المُطلَقِ: إشارةٌ إلى تَفريقِ إنزالِه المذكورِ في قولِه: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ .

3- قوله تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا

- قولُه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا... أمْرٌ يتضمَّنُ الإعراضَ عنهم، واحتقارَهم، والازدِراءَ بهم، وعدَمَ الاكتراثِ بهم وبإيمانِهم وبامتناعِهم عنه، وأنَّهم إنْ لم يَدْخُلوا في الإيمانِ ولم يُصدِّقوا بالقُرآنِ، وهم أهلُ جاهليَّةٍ وشِرْكٍ، فإنَّ خيرًا منهم وأفضَلَ -وهم العُلماءُ الَّذين قَرؤوا الكُتبَ، وعَلِموا ما الوحيُ وما الشَّرائعُ- قد آمَنوا به وصَدَّقوه. وفيه تعريضٌ بأنَّ الَّذين أعْرَضوا عن الإيمانِ بالقُرآنِ جهلةٌ وأهلُ جاهليَّةٍ؛ فالآيةُ تَحقيرٌ للكُفَّارِ، وفي ضِمْنِه ضَرْبٌ من التَّوعُّدِ، والمعنى: أنَّكم لستُمْ بحُجَّةٍ، فسواءٌ علينا أآمنْتُم أمْ كفرْتُم، وإنَّما ضَررُ ذلك على أنفُسِكم، وإنَّما الحُجَّةُ أهلُ العلْمِ. وقيل: الآية مُخلَصةٌ للوعيدِ دُونَ التَّحقيرِ، والمعنى: فسَتَرون ما تُجازونَ به .

- وقولُه: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا تَعليلٌ، ويجوزُ أنْ يكونَ تعليلًا لقولِه: آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا، وأنْ يكونَ تعليلًا لـ قُلْ، على سبيلِ التَّسليةِ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَطييبِ نفْسِه، كأنَّه قيل: تسَلَّ عن إيمانِ الجهلةِ بإيمانِ العُلماءِ. وعلى الأوَّلِ: إنْ لم تُؤْمِنوا به لقد آمَنَ به مَن هو خيرٌ منكم .

- قولُه: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا معنى الخُرورِ للذَّقَنِ: السُّقوطُ على الوجْهِ، وإنَّما ذُكِرَ الذَّقَنُ وهو مُجتمَعُ اللَّحيَينِ؛ لأنَّ السَّاجدَ أوَّلُ ما يَلْقى به الأرضَ من وجْهِه الذَّقَنُ، وعُبِّرَ هنا باللَّامِ دونَ حرفِ الاستعلاءِ (على)، وهو ظاهرُ المعنى إذا قلْتَ: خَرَّ على وجْهِه، وعلى ذَقَنِه، فقال: لِلْأَذْقَانِ ولم يقُلْ: (على الأذقانِ)؛ لأنَّ المعنى: أنَّه جعَلَ ذَقَنَه ووجْهَه للخُرورِ، واختَصَّه به؛ فعُبِّرَ باللَّامِ لأنَّ اللَّامَ للاختصاصِ .

4- قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا

- جُملةُ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا عُطِفَت على يَخِرُّونَ؛ للإشارةِ إلى أنَّهم يَجْمعون بين الفعْلِ الدَّالِّ على الخُضوعِ، والقولِ الدَّالِّ على التَّنزيهِ والتَّعظيمِ. على أنَّ في قولِهم: سُبْحَانَ رَبِّنَا دَلالةً على التَّعجُّبِ والبهجةِ من تَحقُّقِ وعْدِ اللهِ في التَّوراةِ والإنجيلِ بمَجيءِ الرَّسولِ الخاتمِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وجُملةُ إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا مِن تَمامِ مقولِهم، وهو المقصودُ من القولِ؛ لأنَّ تَسبيحَهم قبلَه تَسبيحُ تعجُّبٍ واعتبارٍ بأنَّه الكتابُ الموعودُ به وبرسولِه في الكُتبِ السَّابقةِ .

5- قوله تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا

- قولُه: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ فيه تَكرارُ (الأذقانِ)؛ لاختلافِ الحالَينِ، وهما: خُرورُهم في حالِ كونِهم ساجدينَ، وخُرورُهم في حالِ كونِهم باكينَ. أو الأوَّلُ واقعٌ في قِراءةِ القُرآنِ أو سماعِه، والثَّاني في غيرِ ذلك . أو لاختلافِ السببِ؛ فإنَّ الأوَّلَ لتعظيمِ الله سُبحانَه وتنزيهِه، وقيل: للشُّكرِ عند إنجازِ الوعدِ، والثَّاني لِمَا أثَّرَ فيهم من مواعظِ القُرآن حالَ كونِهم باكينَ من خَشيةِ اللهِ .

- ومن البلاغةِ: أنَّه عقَّبَ الحالينِ بحالٍ ثالثةٍ، وهي زيادتُهم خُشوعًا كلَّما قَرؤوا، وكلَّما سَجدوا؛ فاستوفى بذلك سائرَ أحوالِهم، وهم الكَمَلةُ الَّذين أُوتوا العلْمَ، وقد أُتِيَ بالحالِ الأُولى سُجَّدًا اسمًا؛ للدَّلالةِ على الاستمرارِ، وإشارةً إلى دوامِ ذلِّهم بالسجودِ المشروعِ، أو بمطلقِ الخضوعِ، وقيل: لأن حالةَ السُّجودِ لمَّا كانت لا تتجدَّدُ في كلِّ وقْتٍ عُبِّرَ فيها بالاسمِ. وأُتِيَ بالحالِ الثَّانيةِ يَبْكُونَ فِعلًا؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والحُدوثِ، فكأنَّما بُكاؤهم يتجدَّدُ بتجدُّدِ الأحوالِ الطَّارئةِ والعِظاتِ المُتتاليةِ، وأيضًا لما لهم في بعضِ الأحيانِ مِن السرورِ ببعضِ ما أُبيحَ مِن الملاذِّ .

6- قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا

- قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ اختصَّ هَذَينِ الاسمَينِ بالذِّكرِ؛ لأنَّهما أصلُ بَقيَّةِ أسماءِ اللهِ تعالى ، وأيضًا فهذا التَخصيصُ يدُلُّ على أنَّهما أشرَفُ مِن سائِرِ الأسماءِ، وتَقديمُ اسمِ (الله) على اسمِ (الرحمن) يدُلُّ على أنَّ (الله) أعظَمُ الأسماءِ .

- قولُه: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (ما) صِلَةٌ لتأكيدِ ما في أَيًّا من الإبهامِ ، وأصْلُ الكلامِ: أيًّا ما تَدْعوا فهو حَسَنٌ، فوُضِعَ مَوضِعَه فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى؛ للمُبالغةِ والدَّلالةِ على ما هو الدَّليلُ عليه؛ إذ حُسْنُ جميعِ أسمائِه يَسْتدعي حُسْنَ ذَيْنك الاسمينِ . وقولُه: فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى عِلَّةُ الجوابِ، والتَّقديرُ: أيَّ اسمٍ من أسمائِه تَعالى تَدْعُون، فلا حرَجَ في دُعائه بعدَّةِ أسماءٍ؛ إذ له الأسماءُ الحُسنى، وإذ المُسمَّى واحدٌ .

7- قوله تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا

- لَمَّا ذكَرَ تعالى أنَّه واحدٌ وإنْ تعدَّدَت أسماؤُه، أمَرَ تعالى أنْ يحمَدَه على ما أنعَمَ به عليه ممَّا آتاه من شرَفِ الرِّسالةِ والاصطِفاءِ، ووصَفَ نفْسَه بأنَّه لم يتَّخِذْ ولدًا، فيُعْتَقَد فيه تَكثُّرٌ بالنَّوعِ، وكان ذلك رَدًّا على اليهودِ والنَّصارى والعربِ الَّذين عبَدوا الأصنامَ وجعَلوها شُركاءَ للهِ، والعربِ الَّذين عبَدوا الملائكةَ واعْتَقدوا أنَّهم بناتُ اللهِ. ونَفى أوَّلًا الولدَ خُصوصًا، ثمَّ نَفى الشَّريكَ في مُلْكِه، وهو أعمُّ من أنْ يُنْسَبَ إليه ولدٌ فيَشْركُه أو غيرُه، ولمَّا نَفى الولدَ ونَفى الشَّريكَ نَفى الوليَّ وهو النَّاصرُ، وهو أعمُّ من أنْ يكونَ ولدًا أو شريكًا أو غيرَ شريكٍ، ولمَّا كان اتِّخاذُ الوليِّ قد يكونُ للانتصارِ والاعتزازِ به والاحتماءِ من الذُّلِّ، وقد يكونُ للتَّفضُّلِ والرَّحمةِ لمَن والَى من صالحِي عِبادِه؛ كان النَّفيُ لمَن ينتصِرُ به من أجْلِ المَذلَّةِ؛ إذ كان مَوردُ الولايةِ يحتمِلُ هذينِ الوجهينِ، فنَفى الجهةَ الَّتي لأجْلِ النَّقصِ، بخلافِ الولدِ والشَّريكِ فإنَّهما نُفِيَا على الإطلاقِ. وجاء الوصفُ الأوَّلُ بقولِه: الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، والمعنى: أنَّه تعالى لم يُسَمِّ ولم يَعُدَّ أحدًا ولدًا، ولم يَنْفِه بجِهَةِ التَّوالُدِ؛ لاستحالةِ ذلك في بَدائِه العُقولِ، فلا يتعرَّضُ لنَفْيِه بالمنقولِ؛ ولذلك جاء: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ [المؤمنون: 91] ، مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا [الجن: 3] .

- ونَفى عنه أنْ يكونَ له ما يُشارِكُه من جنْسِه ومن غيرِ جنْسِه، اختيارًا واضطرارًا، وما يُعاوِنُه ويُقوِّيه، ورتَّبَ الحمْدَ عليه؛ للدَّلالةِ على أنَّه الَّذي يستحِقُّ جنْسَ الحمدِ؛ لأنَّه الكاملُ الذَّاتِ، المُنفرِدُ بالإيجادِ، المُنعِمُ على الإطلاقِ، وما عَداهُ ناقصٌ مملوكٌ؛ نِعمةٌ، أو مُنْعَمٌ عليه، ولذلك عُطِفَ عليه قولُه: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا .

- وجُملةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَقْتضي تخصيصَه تعالى بالحمْدِ، أي: قصْرَ جنْسِ الحمْدِ عليه تَعالى؛ لأنَّه أعظَمُ مُستحِقٍّ لأنْ يُحْمَدَ، فالتَّخصيصُ ادِّعائيٌّ؛ بادِّعاءِ أنَّ دَواعِيَ حمْدِ غيرِ اللهِ تعالى في جانبِ دَواعي حمْدِ اللهِ بمنزلةِ العدَمِ .

- في قولِه: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا وصْفٌ بنَفْيِ الولدِ والشَّريكِ والذُّلِّ بكلمةِ التَّحميدِ؛ لأنَّ مَن هذا وصْفُه هو الَّذي يقدِرُ على إيلاءِ كلِّ نِعمةٍ، فهو الَّذي يستحِقُّ جنْسَ الحمْدِ .

- وفي الأمرِ بالتكبيرِ في قولِه: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا -بعد ما تقدَّم- مؤكَّدًا بالمصدرِ المنكَّرِ، مِن غيرِ تعيينٍ لما يُعَظَّمُ به تعالى؛ فيه تَنبيهٌ على أنَّ العبدَ وإنْ بالغَ في التَّنزيهِ والتَّمجيدِ، واجتهَدَ في العبادةِ والتَّحميدِ، يَنْبغي أنْ يعترِفَ بالقُصورِ عن حَقِّه في ذلك

==================

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...