الأربعاء، 17 يناير 2024

4.سورة النساء {ح2.}


4.سورة النساء {ح2.} 
 سُورةُ النِّساءِ
الآيتان (34- 35)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
غريبُ الكَلِمات:

قَوَّامُونَ: جمْع قوَّام، وهو مِن القِيامِ على الشَّيءِ، أي: مُراعاته وحِفْظه وحِياطته بالاجتهادِ والقِيامِ بمصالحِه، والرَّجُل قيِّم على المرأةِ، أي: هو رئيسُها وكبيرُها والحاكِمُ عليها، ومؤدِّبها إذا اعوجَّتْ، وأصلُ (قوم): يدلُّ على انتِصابٍ أو عَزْمٍ
.
قَانِتَاتٌ: خاضِعاتٌ، مُداوماتٌ على طاعةِ الله، والقُنوت: دوامُ الطَّاعة ولزومُها مع الخُضوع؛ وأصل (قنت): يدلُّ على طاعةٍ وخيرٍ في دِين، ثم سُمِّي كلُّ استقامةٍ في طريقِ الدِّينِ قنوتًا .
حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ: أي: لا يفعَلْنَ في غَيبة الزَّوجِ ما يَكرَهُه الزَّوج، أو يحفَظْنَ عهدَ الأزواج عند غَيبتِهن، وأصل (حفظ): مراعاةُ الشَّيء .
نُشُوزَهُنَّ: أي: مَعصيَتَهنَّ وتعاليَهنَّ عمَّا أوجَب اللهُ عليهنَّ من طاعةِ الأزواج، وبُغْضَهنَّ لهم؛ فنُشُوزُ المرأة: بُغْضُها لزَوْجها ورفْعُ نفْسِها عن طاعتِه، ورفْعُ عَيْنِها عنه إلى غيرِه؛ يُقال: نَشَزَت المرأةُ على زوْجِها: إذا تَرَكتْه ولم تَطمِئنَّ عِندَه. وأصل النُّشوز: الارتفاع، والنَّشز: المرتفِعُ من الأرْض، ومِنه قيل للمَرأةِ المرتفعةِ على زَوْجِها، التاركةِ لأمْره، المُعْرِضةِ عنه، المبغِضة له: ناشِز .
وَاهْجُرُوهُنَّ: أي: لا تقرَبوهنَّ، والهَجرُ والهجرانُ: مفارقةُ الإنسانِ غيرَه، وأصل (هجر): يدلُّ على قطيعة وقَطْع .
فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا: أي: فلا تَطلُبوا طريقًا إلى أذاهُنَّ؛ مِن بغيتُ الضالَّةَ: إذا التمستَها، والبَغيُ يُطلَقُ على: طَلبِ الشَّيء، والظُّلم، والتَّرفُّع والعلوِّ، ومُجاوَزةِ المقدار .
شِقَاقَ: أي: تباعُد، أو خلاف، أو فِراق، والشِّقاق: المخالَفة، وأصل (شقق): انصداعٌ في الشَّيء .
حَكَمًا: أي: ثِقةً يُولَّى أمْرَ الحُكمِ بينهما ويُوكَّلُ بالنَّظرِ في أمْرِهما، والحَكَمُ: هو المتخصِّصُ بالحُكم. والحُكْم بالشَّيء: القضاءُ بأنَّه كذا، أو ليس بكذا، سواءٌ ألزمتَ ذلك غيركَ أو لم تُلْزمْه، وأصل (حَكَم): المنْع، وأوَّل ذلك الحَكْم، وهو المنعُ من الظُّلم. والإحكامُ هو الفصلُ والتمييز، والفرقُ والتحديدُ الذي به يتحقَّق الشيءُ ويَحصُل إتقانُه؛ ولهذا دخَل فيه معنى المنْعِ كما دخَل في الحدِّ، فالمنع جزءُ معناه لا جميع معناه. والحِكمة اسمٌ للعَقل، وإنَّما سُمِّي حِكمة؛ لأنَّه يمنع صاحبه من الجَهل

.
مشكل الإعراب:

قوله: حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ:
قُرِئ برفْعِ لفْظِ الجلالةِ على أنَّه فاعِلٌ، وقُرِئ بنَصبِه على أنَّه مفعولٌ به؛ فعلى قِراءة الرَّفع يكونُ في مَا ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنَّها مصدريَّة، والمعنى: حافِظاتٌ للغَيْبِ بحِفْظِ اللهِ إيَّاهنَّ. والثاني: أنْ تكون مَا موصولةً بمعنى الذي، والعائِد محذوف، والتَّقدير: بالَّذي حَفِظَه اللهُ لهنَّ مِن مُهورِ أزواجهنَّ والنَّفقة عليهنَّ. والثالث: أن تكونَ مَا نكرةً موصوفة، والعائد محذوف أيضًا كما في الموصولةِ التي بمعنى الَّذي، أي: بشَيءٍ حَفِظَه اللهُ تعالى لهنَّ.
وعلى قِراءة النَّصب (بِمَا حَفِظَ اللَّهَ): فلفظُ الجلالةِ مَفعولٌ به على تَقديرِ حَذْفِ مُضافٍ، وفي مَا أوجهٌ؛ أحدُها: أنَّها موصولةٌ بمعنى الَّذي، والثاني: أنَّ مَا نَكِرةٌ موصوفةٌ، والفاعِلُ على هَذينِ الوَجهينِ ضَميرٌ مُستتِرٌ في حَفِظَ يعودُ على مَا، والتقديرُ على الأوَّل: حِافظاتٌ للغَيبِ بالْأَمْرِ الَّذي حَفِظَ حقَّ اللَّهِ وأمانةَ اللَّهِ، وهو التعفُّفُ والتحصُّنُ والشَّفقةُ على الرِّجالِ والنَّصيحةُ لهم، أو بالَّذي حَفِظَ دِينَ اللهِ مِن البِرِّ والطَّاعةِ. والتقديرُ على الثاني: بشَيءٍ حَفِظَ دِينَ اللهِ. وقِيل غيرُ ذلك

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يُخبِرُ تعالى أنَّ للرِّجالِ القِوامةَ على النِّساء، يُلزِمونهنَّ بحقوقِ اللهِ، ويحجُزونهنَّ عن الشَّرِّ والفسادِ، ويُؤدِّبونهنَّ، وتلك القِوامةُ سببُها ما فضَّل اللهُ به الرِّجالَ من خصائصَ على النِّساءِ، وكذلك بإنفاقِ الرِّجالِ أموالَهم على نسائهم، ومن ذلك ما يدفَعونه من مهورٍ لهنَّ؛ فالنِّساءُ اللَّاتي استقام دِينُهنَّ مطِيعاتٌ للهِ سبحانه، ولأزواجِهنَّ، وهنَّ أيضًا حافظاتٌ لأنفسهنَّ عند غيابِ أزواجِهنَّ عنهنَّ في فروجهنَّ وأموالِهم وغيرها، وذلك بحفظِ الله وتوفيقِه لهنَّ، ثمَّ يخاطبُ اللهُ الأزواجَ أنَّ النِّساءَ اللَّاتي يخافون ترفُّعَهنَّ عن طاعاتهم، بُغضًا وإعراضًا عنهم، فلْيُذكِّروهنَّ بالله، ويخوِّفوهنَّ وعيدَه لمن عصَتْ زوجَها، ويرغِّبوهنَّ في الطَّاعة بذِكر ما لهنَّ عند الله من ثوابٍ على ذلك، فإن لم يُفِدِ الوعظُ فليُفارِقوهنَّ في المضجَع، ولا يُجامعوهنَّ، فإن لم يتحصَّلْ مِن الهجرِ المطلوبُ فليضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ مبرِّح؛ تأديبًا لهنَّ، فإن أطَعْنَهم فليتركوا عتابَهنَّ على ما كان، ولْيَدَعوا تتبُّعَ كلِّ عثرةٍ تحصُلُ منهنَّ وإن كانت لا تضرُّ، وليس لهم ضربُهنَّ بعد ذلك، وختَمَ الآيةَ ببيان أنَّه سبحانه هو العليُّ الكبير؛ تهديدًا للرِّجال إذا بَغَوْا على النِّساءِ من غير سببٍ.
ثمَّ يخاطبُ اللهُ الحكَّامَ: أنَّهم إنْ خافوا من بلوغ الخلافِ بين الزَّوجين إلى مرحلةِ التباعد بينهما ووقوعِ العداوة، فليُرسلوا إلى الزوجين حَكَمًا من أقارب الزَّوج وآخرَ من أقارب الزَّوجة إن يُرِدْ هذانِ الحكَمانِ الإصلاحَ بين الزَّوجين فسيوفِّقُهما اللهُ لِما قصداه، كما سيوفِّقُ سبحانه وتعالى الزَّوجينِ ليعودا إلى الاستقرارِ وحُسنِ المعاشَرة.
تفسير الآيتين:

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ
أي: الرِّجالُ هم القائمون على نسائهم؛ فهم رؤساؤُهنَّ والحاكمون عليهنَّ، بإلزامهنَّ بحقوقِ الله تعالى وأداء فرائضه، وتأديبِهنَّ، وكفِّهنَّ عن الشُّرور والمفاسد
.
ثمَّ ذكر اللهُ تعالى السَّبب الموجِبَ لقيام الرِّجال على النِّساء، فقال:
بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
أي: بسببِ تفضيلِ الرِّجال على النِّساء؛ فقد جعَل اللهُ تعالى للرِّجال خصائصَ تفُوقُ ما لدَى النِّساء؛ كقوة البَدنِ، والعقل، وغيرهما .
وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ
أي: ومن أسباب جَعلِ القِوامةِ للرِّجال على النِّساء، إنفاقُ الرِّجال أموالَهم على نسائِهم، ومِن ذلك: إعطاؤُهنَّ مهورَهنَّ .
فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ
أي: إنَّ النِّساءَ المستقيماتِ الدِّينِ، مطيعاتٌ لله تعالى، ولأزواجِهنَّ .
حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ
أي: ومن صِفاتهنَّ أيضًا: أنهنَّ حافظاتٌ لأنفسِهنَّ عند غَيبة أزواجِهنَّ عنهنَّ في فروجهنَّ وأموالهم، وغير ذلك، وذلك بحفظِ الله تعالى لهنَّ وتوفيقِه لهنَّ، لا من أنفسِهنَّ؛ فإنَّ النَّفسَ أمَّارةٌ بالسُّوء .
وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ
أي: إنَّ الزَّوجاتِ اللَّاتي تتخوَّفون- يا مَعشرَ الأزواج- من استعلائِهنَّ عليكم، بمخالفتِهنَّ لأوامركم، وتركِهنَّ طاعتَكم؛ بُغضًا منهنَّ لكم، وإعراضًا عنكم، فإذا تخوَّفتم من حدوثِ ذلك لظهور أماراته .
فَعِظُوهُنَّ
أي: فذكِّروهنَّ باللهِ عزَّ وجلَّ, وخوِّفوهنَّ وعيدَه وعقابَه على معصيةِ أزواجِهنَّ، ورغِّبوهنَّ في طاعتهم؛ بذِكرِ ما لهنَّ في ذلك من ثوابٍ عند اللهِ تعالى .
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
أي: فإنْ لم يُجْدِ الوعظُ معهنَّ، فلْتبتعدوا- أيُّها الأزواجُ- عن مكانِ اضطجاعِهنَّ، ولا تُجامِعوهنَّ .
وَاضْرِبُوهُنَّ
أي: فإنْ لم يُجْدِ معهنَّ الهِجرانُ في المضاجعِ، فاضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ مبرِّح؛ لتأديبِهنَّ .
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا
أي: فإنْ حصَل المقصودُ بواحدٍ من هذه الأمور، وأطَعْنَكم، فقد حصَل لكم ما تحبُّون؛ فاترُكوا معاتبتَهنَّ على الأمور الماضية، والتَّنقيبَ عن العيوب الَّتي يضرُّ ذِكرُها، فلا سبيلَ لكم عليهنَّ بعد ذلك، وليس لكم ضربُهنَّ .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
إذا شعَر الرَّجُل بأنَّه قائمٌ على المرأة، وذو سلطةٍ عليها، إلى حدِّ أنَّ الشَّرعَ مكَّنه من ضربِها في المرحلة الثَّالثة، فربَّما يتعالى عليها ويتكبَّر، فقال عزَّ وجلَّ :
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو العُلوِّ المطلَقِ بذاته وصِفاتِه سبحانه، فلا تتعالَوْا على نسائِكم- أيُّها الأزواج-؛ فإنَّ علوَّكم هذا يوجَدُ فوقه ما هو أعلى منه، وهو علوُّ اللهِ عزَّ وجلَّ بذاتِه وصفاتِه، وهو الكبيرُ بذاته وصفاتِه سبحانه، فلا أكبرَ منه ولا أجلَّ ولا أعظمَ، فلا تتكبَّروا عليهنَّ؛ لأنَّ فوقكم مَن هو أكبرُ، وهو الله جلَّ وعلا .
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى عند نُشوزِ المرأة أنَّ الزَّوجَ يعِظُها، ثمَّ يهجُرُها، ثمَّ يضربها، بيَّن أنَّه لم يبقَ بعد الضَّربِ إلَّا المحاكمةُ إلى مَن يُنصِفُ المظلومَ من الظَّالم، فقال :
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا
أي: وإن خِفتم- أيُّها الحكَّامُ- أنْ يَصلَ النُّفورُ والخلافُ الواقع بين الزَّوجينِ إلى حدِّ التَّباعُدِ عن بعضِهما، ووقوع العداوة بينهما .
فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا
أي: فلتُرْسلوا- أيُّها الحكَّامُ- إلى الزوجينِ حَكَمينِ؛ رجلًا من أقارب الزَّوج، وآخَرَ من أقارب الزَّوجة .
إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا
أي: إن قصَد الحَكَمانِ الإصلاحَ بين الزَّوجين، يوفِّقِ اللهُ تعالى بين الحكَمينِ، بأن يصادفا الحقَّ، فتلتقيَ أقوالهما دون حدوثِ نزاعٍ بينهما، ويوفِّق اللهُ تعالى أيضًا بين الزَّوجين، فييسِّر رجوعَهما إلى المعاشَرة الحسَنة بينهما .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا
أي: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ذو علمٍ بجميع الظَّواهرِ والبواطن، ومن ذلك: عِلمُه بنيَّةِ الحكَمَينِ، هل يقصدانِ الإصلاح أو لا، ومن ذلك أيضًا: شَرْعُهُ لهذه الأحكامِ العظيمة، والشَّرائع المُحْكَمة

.
الفوائد التربوية:

1- التَّدرُّج في التَّأديب: فعِظوهنَّ.. واهجروهنَّ.. واضربوهنَّ، فابتدأ اللهُ تعالى بالوعظ، الذي هو تليينُ القلبِ بالشَّرعِ، ثمَّ ترقَّى منه إلى الهِجرانِ في المضاجعِ، ثمَّ ترقَّى منه إلى الضَّرب، وذلك تنبيهٌ يجري مجرى التَّصريحِ في أنَّه متى حصَل الغرضُ بالطَّريق الأخفِّ وجَب الاكتفاءُ به، ولم يجُزِ الإقدامُ على الطَّريق الأشقِّ، فإذا أمكن التَّأديبُ بالخطابِ الدِّينيِّ الشَّرعيِّ، فإنَّه لا يرجعُ إلى التَّأديبِ بالفعل المحسوس
.
2- الإشارة إلى أنَّ اللهَ يزَعُ بالسُّلطانِ ما لا يزَعُ بالقرآنِ؛ حيث إنَّه ربَّما لا يُفيد الوعظُ، فينتقل إلى الهجرِ في المضاجع، أو الضَّرب؛ لأنَّه قد يكون أكثرَ نتيجةً .
3- يؤخَذ من قولِه تعالى: وَاضْرِبُوهُنَّ بُطلانُ قولِ بعضِ علماء التَّربية المعاصرين الَّذين يقولون: إنَّه لا تحصُلُ التَّربيةُ بالضَّرب، وإنَّما الضَّربُ يقسِّي القلبَ .
4- التَّغاضي عمَّا مضى، أي: إنَّ قولَه: فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا يشمَلُ الماضيَ والمستقبَلَ .
5- الإشارة إلى أنَّ الَّذي له العلوُّ المطلَقُ هو اللهُ، فلا تتعالَ على غيرِك، قال تعالى: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا .
6- قوله تعالى: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ذِكرُ هاتين الصِّفتينِ (العلوُّ والكبرياءُ لله تعالى) في هذا الموضع في غايةِ الحُسنِ، وبيانُه من وجوه:
الأوَّل: أنَّ المقصودَ منه تهديدُ الأزواج على ظُلم النِّسوانِ، والمعنى أنهنَّ إن ضعُفنَ عن دفعِ ظُلمكم، وعجَزْنَ عن الانتصافِ منكم، فاللهُ سبحانه عليٌّ قاهرٌ كبيرٌ قادرٌ، ينتصفُ لهنَّ منكم، ويستوفي حقَّهنَّ منكم، فلا ينبغي أن تغترُّوا بكونِكم أعلى يدًا منهنَّ، وأكبرُ درجةً منهنَّ.
الثَّاني: لا تبغوا عليهنَّ إذا أطَعْنكم لعلوِّ أيديكم؛ فإنَّ اللهَ أعلى منكم، وأكبرُ من كلِّ شيء، وهو متعالٍ عن أن يكلِّفَ إلَّا بالحقِّ.
الثَّالث: أنَّه تعالى مع علوِّه وكبريائه لا يكلِّفُكم إلَّا ما تُطيقون، فكذلك لا تكلِّفوهنَّ محبَّتَكم؛ فإنَّهنَّ لا يقدِرْنَ على ذلك.
الرابع: أنَّه مع علوِّه وكبريائه لا يؤاخذ العاصيَ إذا تاب، بل يغفِرُ له، فإذا تابت المرأةُ عن نشوزِها، فأنتم أَولى بأن تقبَلوا توبتَها وتتركوا معاقبتَها.
الخامس: أنَّه تعالى مع علوِّه وكبريائِه اكتفى من العبدِ بالظَّواهرِ، ولم يهتِكِ السَّرائرَ، فأنتم أَولى أن تكتفوا بظاهرِ حال المرأة، وألَّا تقَعوا في التَّفتيش عمَّا في قلبِها وضميرها من الحبِّ والبُغض .
7- الإشارةُ إلى حُسن النِّيَّةِ في الإصلاح؛ لقوله تعالى: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، وأنَّه يجبُ على الإنسان المحكَّمِ أن يكونَ رائدُه الإصلاحَ لا غيرُ، لا إرضاءَ فلان ولا فلان .
8- أنَّ النِّيَّةَ الطَّيِّبةَ سببٌ لصلاح العملِ؛ لقوله تعالى: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا .
9- أنَّ الجزاءَ من جِنس العملِ؛ وجهُه: أنَّه لَمَّا أرادا الإصلاحَ أثابهما الله عزَّ وجلَّ بالتَّوفيقِ؛ لقوله: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- فضلُ الرِّجالِ على النِّساء، ووجهُه: أنَّ اللهَ جعَل الرِّجال قوَّامينَ على النِّساء، قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
.
2- بيانُ أنَّ أحكامَ اللهِ عزَّ وجلَّ الكونيَّةَ والشَّرعيَّةَ معلَّلةٌ بعِلَلٍ، فيلزم من كونِ أفعالِ أو أحكام الله الشَّرعيةِ معلَّلةً بعِلَل: إثباتُ الحكمةِ، وأنَّ الله تعالى حكيمٌ؛ قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ .
3- يُؤخذُ من قوله: وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ أنَّ للمُنفِقِ على المُنفَقِ عليه فضلًا .
4- كراهة سؤال النَّاس؛ لقوله: وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فكونُ المنفِقِ له فضلٌ على المُنفَقِ عليه، فيكون سؤالُك إيَّاه ذلًّا؛ لأنَّك إذا سألتَه فقد أثبَتَّ له فضلًا عليك .
5- أنَّه لا ولايةَ للنِّساءِ على الرِّجال، لا في قضاءٍ، ولا إمارة، ولا أيِّ شيء؛ لقوله: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ، فمن جعَل للمرأة الولايةَ فقد خالَف سُنَّةَ الله .
6- أنَّ للزَّوجِ السُّلطةَ على زوجته، وتُؤخذ من قوله: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ .
7- قوله تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فيه تحريم نُشوزِ المرأةِ على زوجِها؛ حيث قوبِلَ هذا النُّشوزُ بالموعظة، ثمَّ الهجر، ثمَّ الضَّرب .
8- أنَّ للهِ الكبرياءَ الَّذي هو الكِبْرُ المعنويُّ؛ كما قال تعالى: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الجاثية: 37] ، وقال سبحانه: الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: 23] ، وكذلك أنَّ كلَّ شيء بالنِّسبة إلى ذاتِه ليس بشيء، وهذا المرادُ بالكبير في قوله: عَلِيًّا كَبِيرًا .
9- أنَّ المبعوثَينِ حكَمانِ، وليسا وكيلَيْنِ، كما قاله بعضُ العلماء، تؤخذ من قوله: فَابْعَثُوا حَكَمًا، والحَكَمُ مستقِلٌّ .
10- قوله تعالى: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا فيه أنَّه لا بدَّ أن يكونَ عند الحَكمينِ عِلمٌ بالشَّرع؛ لأنَّ الحَكَمَ لا يمكِنُ أن يحكُمَ إلَّا بعد العِلمِ، ولا بدَّ أن يكونَ لديهما أمانةٌ وثقةٌ دينيَّةٌ؛ لأنَّ غيرَ الثِّقةِ لا يؤمَنُ، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] ، والحاكم مخبِرٌ وملزِمٌ وفاصل؛ فهو مخبِرٌ عن حُكمِ الله، مُلزِم بما يحكُمُ به، فاصلٌ بين الخَصمينِ، فلا بدَّ أن يكونَ عَدْلًا في دِينِه .
11- جوازُ حُكم القريب لقريبِه أو عليه؛ لقوله تعالى: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا .
12- أنَّ للحَكَمينِ التَّفريقَ والتَّوفيقَ بين الزَّوجين اللَّذينِ خِيفَ الشِّقاقُ بينهما، سواءٌ بعِوَضٍ أو بدون عِوَضٍ، وأنَّ حُكمَهما مُلزِمٌ؛ لأنَّ الله سمَّاهما حَكَمينِ، والحَكَم قولُه لازمٌ وحُكمُه فصْلٌ .
13- قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا.. هذه الآيةُ أصلٌ في جوازِ التَّحكيمِ في سائر الحقوق .
14- الإشارةُ إلى أنَّه ينبغي أن يكونَ الحاكمُ عالِمًا بأحوالِ مَن يحكُمُ فيهم؛ لقوله: مِنْ أَهْلِهِ.. مِنْ أَهْلِهَا؛ لأنَّ الَّذي مِن أهلِه وأهلِها أقربُ إلى العِلم بحالهما من الرَّجلِ الأجنبيِّ، وعلى هذا فلا ينبغي أن يُولَّى قاضٍ على قومٍ لا يعرِفُ طبائعَهم، ولا يعرِفُ لسانَهم، ولا يعرف أحوالَهم؛ فإنَّ هذا يحصل به شيءٌ كثيرٌ من الغلَطِ .
15- إثبات صفتيِ العِلمِ والخبرة، من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا، والخبرة أخصُّ من العِلم؛ لأنَّها علمٌ ببواطنِ الأمور، ولا يُستفاد من قوله: كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا أنَّه الآن ليس كذلك، بل كان ولا زال، والمراد بها تحقيقُ الصِّفة؛ فهي مسلوبةُ الزَّمانِ

.
بَلاغةُ الآيتين:

1- قوله: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ: كلامٌ مستأنَفٌ مسُوقٌ لبيانِ سببِ استحقاقِ الرِّجالِ الزِّيادةَ في الميراثِ تفصيلًا، إثرَ بيانِ تفاوتِ استحقاقهم إجمالًا، وإيرادُ الجملة اسميَّةً والخبرِ قَوَّامُونَ على صِيغة المبالغة (فعَّالون)؛ للإيذانِ بعَراقتِهم في الاتِّصافِ بما أُسند إليهم، ورسوخِهم فيه، أي: شأنهم القيامُ عليهنَّ بالأمرِ والنَّهيِ قيامَ الولاةِ على الرَّعيَّة
.
2- قوله: بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ...: وضْع (البعض) موضِعَ الضَّميرينِ- حيث لم يقُلْ: (فضَّلهم الله عليهنَّ)-؛ للإشعارِ بغاية ظهور الأمْر، وعدَم الحاجة إلى التَّصريحِ بالمفضَّلِ والمفضَّلِ عليه أصلًا؛ ولِمِثل ذلك لم يصرِّحْ بما به التَّفضيلُ؛ من صفات كمال الرِّجال، الَّتي هي كمالُ العقل، وحُسن التَّدبير، ورزَانةُ الرَّأي، ومزيدُ القوَّةِ في الأعمال والطَّاعاتِ .
- وقوله: وَبِمَا أَنْفَقُوا فيه حذْف المفعولِ؛ ليدلَّ على عُمومِ النَّفقةِ .
- وفيه مِن بديعِ الإعجازِ: صَوغُ قولِه: بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ في قالَبٍ صالحٍ للمَصدريَّةِ وللمَوصوليَّة؛ فالمصدريَّةُ مُشعِرةٌ بأنَّ القِوامةَ سَببُها تَفضيلٌ مِن اللهِ، وإنفاقٌ، والموصوليَّةُ مُشعِرةٌ بأنَّ سببَها ما يَعلَمه النَّاسُ مِن فَضلِ الرِّجالِ ومِن إنفاقِهم؛ ليَصلُحَ الخِطابُ للفريقين: عالِمِهم وجاهلِهم .

==============2.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (36- 42)
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
غريبُ الكَلِمات:

وَالْجَارِ الْجُنُبِ: أي: الَّذي ليس بينه وبين جارِه قَرابة، أو مَن يقرُبُ مسكنُه مِن الجارِ، أو الغريبُ، وأصْل الجوار: الميل؛ وسُمِّي الجار جارًا لميلِه إلى جاره، والجنابة: البُعد؛ يُقال: رجلٌ جُنُب، أي: غريبٌ
.
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ: أي: الصَّاحِبِ إلى الجَنْبِ القَريبِ مِنْه، ويَدخُل فيه الرَّفيقُ في السَّفرِ وغَيرِه, والمرأةُ, والملازِمُ للمَرءِ رجاءَ نفْعِه؛ لأنَّ كلَّهم بجَنبِ الذي هو مَعَه وقريبٌ منه، وأصْل (صحب): يدلُّ على مُقارنةِ شَيءٍ ومُقاربتِه .
وَابْنِ السَّبِيلِ: المنقطِع الضَّعيف ببلدٍ يُريد بلدًا آخرَ، أو المسافِر البعيد عن منزلِه، ويُطلَق كذلك على الضَّيف، ونُسِب إلى السَّبيل؛ لممارستِه إيَّاه، والسَّبيل: الطَّريق الَّذي فيه سهولة .
مُخْتَالًا: ذا خيلاءَ، أو مُتكبِّرًا يأنَفُ ويَستنكِفُ عن قَراباتِه وجِيرانه وأصحابِه لفقرِهم، والمختالُ البَطِرُ في مِشيتِه، وهو اسمُ فاعلٍ، مِن (اختال)، وألِفُه منقلبةٌ عن ياء؛ لقولهم: الخُيلاء والمخيلة .
فَخُورًا: الَّذي يُعدِّد مناقبَه كِبْرًا وتطاولًا، والفَخرُ: المباهاةُ في الأشياءِ الخارجة عن الإنسانِ؛ كالمالِ والجاهِ، وأصل فخر يدل على عِظَم وقِدَم .
وَأَعْتَدْنَا: من العَتَادِ، وقيل: أصله: أَعدَدْنا، فأبدلَ من إحدى الدَّالين تاء، والعتاد: ادِّخارُ الشَّيءِ قبل الحاجة إليه؛ كالإعداد، والعَتيد: الشَّيء المُعدُّ، وأصل (عتد): يدلُّ على حُضور وقُرب، ويدلُّ على تهيئة الشَّيء .
رِئَاءَ النَّاسِ: أي: مراءاةً، وأصل الرِّياء: فِعلُ شيءٍ ليراه النَّاس .
قَرِينًا: أي: الشَّيطان المقرون بالإنسان لا يُفارقُه، أو مقارنًا لاصقًا، مِن: قرنت الشَّيء بالشَّيء، ويُطلق القرين كذلك على: المصاحِب، وأصل (قرن): جمعُ شيءٍ إلى شيء .
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ: أي: زِنَةَ نَملةٍ صَغيرة؛ يُقال: هذا على مثقالِ هذا، أي: على وزنِ هذا. وأصل الثِّقَل: ضدُّ الخفَّة، والذَّرَّة جمْعها: ذَرٌّ، وهي أصغرُ النَّملِ، وتُطلَق كذلك على ما لا وزنَ له، وما يَرفَعُه الرِّيح من التُّرابِ، وأجزاء الهواء في الكوَّةِ .
لَدُنْهُ: أي: عِنده، أو لديه، لكن (لَدُن) أخصُّ من (عند) .
بِشَهِيدٍ: أي: شاهِد، أو مُشاهِد للشَّيء، والشَّهادة: قولٌ صادرٌ عن عِلم حصَل بمشاهدةِ بصيرةٍ أو بصَر، وأصل شهد: حضور، وعِلم، وإعلام .
لو تُسَوَّى بِهِمُ: أي لو يُدخَلون فيها حتى تعلُوَهم، أو يكونون ترابًا، فيستوون معها حتَّى يَصيروا وهي شيئًا واحدًا، أو يَهلِكون فيها، وأصل (سوي): استقامةٌ واعتدالٌ بين شيئين

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يأمُرُ اللهُ تعالى عبادَه بعِبادته وَحْدَه، وذلك بالتَّذلُّلِ له، والخضوعِ له بالطَّاعة، مخلِصين له العبادة، غيرَ مشركين فيها معه غيرَه، كما أمرهم بالإحسانِ إلى الوالدَين، وإلى الأقارب، وأن يُحسنوا إلى اليتامى، وذَوِي الحاجاتِ الَّذين لا يجدون كفايتَهم، وإلى الجار الَّذي تربطهم به القرابة، والجار الَّذي لا قرابةَ بينهم وبينه، وأمرهم كذلك بالإحسان في صحبةِ كلِّ مصاحبٍ ومرافقٍ لهم؛ كرفيق السفر، وكالزَّوجة، وكذلك أن يُحْسِنوا إلى المسافرِ الَّذي يمرُّ بهم مجتازًا، وأن يُحسنوا إلى مَن يملِكونه مِن بَشَرٍ رقيقٍ، أو حيوانٍ، فإنَّ الله تعالى لا يحبُّ مَن كان معجَبًا بنفسه، متكِّبرًا على الخَلْق، ومَن يُثني على نفسِه ويمدَحُها فخرًا وبَطَرًا على الخَلْق، هؤلاء هم الَّذين يُمسِكون أموالَهم عن الإنفاقِ فيما أمَر الله تعالى، كما يُمسكون ما آتاهم اللهُ مِن علمٍ عن بذلِه للنَّاس، بل ويأمرون غيرَهم بالإمساكِ أيضًا، ويُخفون ما أنعَم اللهُ به عليهم من مالٍ أو عِلمٍ، وأعدَّ اللهُ لهؤلاء الكافرين الَّذين ذكَر صفاتِهم عقابًا مُخزيًا ومُذِلًّا.
وممَّا يتَّصفون به كذلك: أنَّهم يُنفِقون أموالَهم ليراهم النَّاسُ ويُثنوا عليهم، ولا يؤمِنون بالله ولا باليومِ الآخِرِ، سوَّل لهم الشَّيطانُ تلك الأفعالَ، ومَن يكُنْ للشَّيطانِ مُصاحِبًا، فيُطِعْه فيما يُمليه عليه، فبئس الصَّاحبُ هو.
وأيُّ حرجٍ ومشقَّة سيُصيبُ هؤلاء لو أنَّهم آمنوا باللهِ وباليوم الآخِرِ، وأنفَقوا ممَّا تفضَّل اللهُ به عليهم، وكان اللهُ بهم عليمًا.
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى أنَّه لا يظلِمُ أحدًا مِن خَلْقِه شيئًا ولو قلَّ، وإن تكُنْ حسنة فإنَّه تعالى يضاعفُها لفاعلها، ويُعطي مِن عنده ثوابًا عظيمًا.
فكيف تكونُ الحالُ يوم القيامة إذا جاء اللهُ بشهيد مِن كلِّ أمَّةٍ، وهم الأنبياءُ، يشهَدون على أُمَمهم، وإذا جاء اللهُ بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم شهيدًا على هذه الأمَّة، ذلك اليوم يتمنَّى مَن كفَر بالله وعصَى رسولَه لو ابتلعَتْهم الأرضُ فلا يُحاسَبون، وفي ذلك اليومِ يعترفون بكلِّ ما فعَلوه، ولا يُخفونَ عن اللهِ شيئًا.
تفسير الآيات:

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أرشَد اللهُ سبحانه وتعالى كلَّ واحدٍ من الزَّوجين إلى المعامَلةِ الحسَنة مع الآخَرِ، وإلى إزالة الخصومة، أرشَد في هذه الآيةِ إلى سائرِ الأخلاق الحسَنة فأمره بالإحسانِ إلى الوالدَيْنِ، وإلى مَن عطَفَه على الوالدَيْنِ ممَّن ذُكر في الآية، فجاءت حثًّا على الإحسانِ، واستطرادًا لمكارمِ الأخلاق، وأنَّ المؤمنَ لا يكتفي مِن التَّكاليفِ الإحسانيَّة بما يتعلَّق بزوجتِه فقط، بل عليه غيرُها من برِّ الوالدَيْنِ وغيرِهم، وافتتح التَّوصُّلَ إلى ذلك بالأمرِ بإفرادِ الله تعالى بالعبادةِ؛ إذ هي مبدأُ الخيرِ الَّذي تترتَّبُ الأعمالُ الصَّالحةُ عليه
فقال:
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
أي: تذلَّلوا لله تعالى، واخضَعوا له بطاعتِه سبحانه، وأَخلِصوا العبادةَ له وحْدَه، دون أنْ تُساووا بينه وبين غيرِه فيما له من حقوقٍ على عباده .
قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمعاذٍ: ((أتَدْري ما حقُّ اللهِ على العِباد؟ قال: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: أنْ يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، ثمَّ قال: أَتَدْري ما حقُّ العِبادِ على الله إذا فَعَلوا ذلك؟ ألَّا يُعذِّبَهم )) .
ولَمَّا أمَر اللهُ تعالى بعبادته، والقيام بحقِّه، أمَر بالقيام بحقوقِ العبادِ الأقربِ فالأقرب ، فقال:
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
أي: أحسِنوا إلى الوالدَيْنِ، بالقولِ الكريمِ، والخطاب اللَّطيفِ، وطاعةِ أمرِهما، واجتنابِ نهيهما، وبغيرِ ذلك من أنواع البِرِّ .
وَبِذِي الْقُرْبَى
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
نصَّ على الوالدَيْنِ أوَّلًا، وثنَّى بالقَرابة؛ وذلك لأنَّه لا قرابةَ إلَّا بواسطة الوالدَيْنِ ، فقال سبحانه:
وَبِذِي الْقُرْبَى
أي: وأحسِنوا إلى أقاربِكم .
وَالْيَتَامَى
أي: وأحسِنوا إلى اليتامى (وهم الَّذين فقَدوا آباءَهم ممن دون سنِّ البلوغِ) .
وَالْمَسَاكِينِ
أي: وأحسِنوا كذلك إلى ذَوي الحاجاتِ، الَّذين لا يَجِدون ما يقومُ بكِفايتِهم .
وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى
أي: وأحسِنوا إلى جارِكم الَّذي بينكم وبينه قَرابةٌ .
وَالْجَارِ الْجُنُبِ
أي: وأحسِنوا كذلك إلى جارِكم الَّذي ليس بينكم وبينه قرابةٌ .
عن عبدِ الله بن عمرَ رضِي اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما زالَ جِبريلُ يوصيني بالجَارِ، حتَّى ظنَنتُ أنَّهُ سيورِّثُهُ )) .
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ
أي: وأحسِنوا صُحبةَ مَن يصحَبُكم ويُرافِقُكم؛ كالرَّفيقِ في السَّفرِ، وكالزَّوجة .
وَابْنِ السَّبِيلِ
أي: وأحسِنوا إلى المسافرِ، الَّذي يمرُّ عليكم مجتازًا .
وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
أي: وأحسِنوا إلى ما تملِكون مِن البشر (وهم الرَّقيق) .
عن خَيْثَمَةَ قال: ((كنَّا جلوسًا مع عَبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، إذ جاءَه قَهْرَمانٌ له ، فدخَل. فقال: أعطيتَ الرَّقيقَ قُوتَهم؟ قال: لا. قال: فانطلِقْ فأعطِهم، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كفَى بالمرءِ إثمًا أن يَحبِسَ عمَّن يملِكُ قُوتَه )) .
وعن أبي هريرةَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((للمَملوكِ طعامُه وكسْوَتُه، ولا يُكَلَّفُ من العَملِ إلَّا ما يُطيقُ )) .
وعن أبي هريرةَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((إذا أتَى أَحدَكم خادِمُه بطَعامِه، فإنْ لم يُجلِسْه معَه، فليُناوِلْه لُقمةً أو لُقمتينِ، أو أُكْلةً أو أُكْلتَينِ؛ فإنَّه ولِيَ علاجَه )) .
وعن أبي ذَرٍّ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إخوانُكم خَوَلُكم، جعلَهم اللهُ تحتَ أيديِكم، فمَن كان أخوه تحتَ يدِه، فلْيُطعِمْه ممَّا يأكُلُ، وليُلْبِسه ممَّا يَلبَسُ، ولا تُكلِّفوهم ما يَغلِبُهم، فإنْ كلَّفتُموهم فأعينُوهم )) .
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَر اللهُ تعالى بالإحسانِ للأصنافِ المذكورةِ وإكرامِهم، كان في العادةِ أنْ ينشأَ عمَّن اتَّصَف بمكارمِ الأخلاقِ أنْ يَجدَ في نفسِه زهوًا وخُيلاءَ، وافتخارًا بما صدَر منه من الإحسانِ، وكثيرًا ما افتخَرتِ العربُ بذلك وتعاظَمَتْ في نثرِها ونَظْمِها به، فأراد تعالى أن ينبِّهَ على التَّحلِّي بصفةِ التَّواضُعِ، وألَّا يتكبَّرَ على مَن أحسَنَ إليه، وألَّا يفخَرَ عليه؛ كما قال تعالى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة: 264] ، فنفى تعالى محبَّتَه عن المتحلِّي بهذينِ الوصفَينِ .
وأيضًا لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى الأمرَ بعبادتِه، والإحسان إلى عبادِه، ذكَر موانعَ هذا الإحسانِ الغالبةَ على البشَرِ ، فقال جلَّ وعلا:
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا
أي: إنَّ الله تعالى لا يحبُّ مَن كان ذا خُيَلاءَ، معجَبًا بنفسِه متكبِّرًا على الخَلْق، فلا يقوم بما أوجَبه اللهُ تعالى عليه من حقوقٍ، فَخُور بقولِه، فيُثني على نفسِه، ويمدَحُها على وجهِ الفخرِ والبطَرِ على عباد اللهِ تعالى بما أعطاه من النِّعم .
عن عبد الله بن عمر رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((من جرَّ ثوبَه خُيَلاءَ، لم ينظرِ اللهُ إليه يومَ القيامةِ )) .
وعن عبد الله بن عمرَ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((بينما رَجُلٌ يَجرُّ إزارَه من الخُيلاءِ خُسِفَ به، فهو يتجَلْجَلُ في الأرضِ إلى يومِ القيامةِ )) .
وعن عِياضٍ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((وإنَّ اللهَ أَوْحى إليَّ أنْ تواضَعوا؛ حتى لا يَفخرَ أحدٌ على أحدٍ، ولا يَبغيَ أحدٌ على أحدٍ )) .
وعن أبي مالكٍ الأشعريِّ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((أربعٌ في أمَّتي مِن أمرِ الجاهليَّةِ، لا يَتركونهنَّ- وذَكَر منها-: الفَخْر في الأحسابِ )) .
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى ذمَّ المُختالِ الفَخور، شرَع في بيان صِفاتِه، فقال جلَّ وعلا :
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى لا يحبُّ المختالَ الفخورَ الَّذي يُمسِك مالَه عن الإنفاق فيما أمَره الله تعالى به؛ كالإحسانِ إلى الوالدَيْنِ، والأقاربِ واليتامى والمساكين، والجارِ ذي القربى، والجارِ الجُنُب، والصَّاحبِ بالجَنْبِ، وابنِ السَّبيل، وما ملَكتِ الأيمانُ، ولا يدفعون حقَّ الله فيها، ويأمُرون النَّاسَ بالبخلِ أيضًا بأقوالِهم وأفعالِهم، ومِن البُخلِ كذلك: البُخلُ بالعِلم .
عن جابرِ بن عبد الله رضِي اللهُ عنهما، قال: ((قال لي رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو قدْ جاء مالُ البحرينِ، لقدْ أعطيتُك هكذا وهكذا- ثلاثًا- فلم يَقدَمْ مالُ البحرينِ حتَّى قُبِض رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا قدِم على أبي بكرٍ، أمَر مناديًا فنادَى: مَن كان له عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَيْنٌ أو عِدَةٌ فليأتِني، قال جابرٌ: فجئتُ أبا بكرٍ فأخبرتُه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: لو جاءَ مالُ البحرينِ أعطيتُك هكذا وهكذا- ثلاثًا- قال: فأعطاني، قال جابرٌ: فلقيتُ أبا بكرٍ بعدَ ذلك فسألتُه فلم يُعطِني، ثمَّ أتيتُه فلم يُعطِني، ثمَّ أتيتُه الثَّالثةَ فلم يُعطِني، فقُلْتُ له: قد أتيتُك فلم تُعطِني، ثمَّ أتيتُك فلم تُعطِني، ثمَّ أتيتُك فلم تُعطِني، فإمَّا أن تُعطيَني وإمَّا أن تبخَلَ عنِّي، فقال: أقُلْتَ: تبخَلُ عني؟ وأيُّ داءٍ أَدْوَأُ من البُخلِ؟! قالها ثلاثًا، ما منعتُك من مرَّةٍ إلَّا وأنا أُريد أنْ أعطيَك! وعن عمرو، عن محمَّد بن علي: سمعتُ جابرَ بن عبد الله يقول: جئتُه، فقال لي أبو بكر: عُدَّها، فعدَدْتُها، فوجدتُها خَمسَ مئةٍ، فقال: خُذْ مِثلَها مرَّتينِ )) .
وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
أي: إنَّ البَخيلَ بالمالِ يُخفِي عن النَّاسِ ما لَدَيه من أموالٍ، فلا يُظهِر أثَرَ نِعمةِ الله تعالى عليه، ولا تَبِينُ في أكلِه ولا في ملبَسِه، ولا في غيرِهما؛ لأجل ألَّا يطلُبَ أحدٌ مالًا منهم، ولا يَلومهم أحدٌ إذا بَخِلوا، ويُخفي كذلك ما لَدَيه من عِلمٍ، فلا يُظهِرُه للنَّاس ليَسترشِدوا به، ومِن ذلك: إخفاءُ اليهودِ لصفةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وأمْرِ بَعثتِه .
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
أي: إنَّ هؤلاء الكفَّارَ الَّذين يبخَلون ويأمُرون النَّاسَ بالبُخل، ويكتمون ما آتاهم اللهُ تعالى من فضلِه، قد هيَّأ اللهُ عزَّ وجلَّ لهم ولكلِّ كافرٍ عقابًا مُذلًّا مخزيًا، جزاءً على كفرِهم واستكبارِهم على أداء حقوقِ الله تعالى وحقوقِ عباده .
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
ولَمَّا ذمَّ سبحانه وتعالى المُقْتِرين، أتبَعَه ذمَّ المسرِفين المبذِّرين فقال :
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ
أي: ومِن صفاتِهم أيضًا: أنَّهم يبذُلون أموالَهم من أجلِ أن يراهم النَّاسُ فيُثنوا عليهم، ويمدحوهم بالكرمِ والعطاءِ، لا يُريدون بذلك وجهَ الله تعالى .
وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
أي: إنَّهم لا يُؤمِنون باللهِ تعالى فيتقرَّبوا إليه، ولا يؤمِنون باليومِ الآخِرِ فيرجوا ثوابَه .
وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا
أي: إنَّما حمَلهم على صَنيعِهم القبيحِ هذا، وعدُولِهم عن فِعلِ الطَّاعة على وجهِها: الشَّيطانُ؛ فإنَّه سوَّل لهم وأمْلَى لهم، وقارنَهم فحَسَّن لهم القبائحَ، فمن يكُنِ الشَّيطانُ له خليلًا وصاحبًا يعمَلُ بطاعتِه ويتَّبعُ أمرَه فبئس الصَّاحبُ هو؛ لأنَّه يريدُ إهلاكَ مَن قارَنه، ويَسعى فيه أشدَّ السَّعي؛ إذ يأمُرُه بالمنكَرِ، ويَنهاه عن المعروفِ .
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ
أي: وأيُّ حرجٍ ومشقَّةٍ تلحَقُ هؤلاء لو سلَكوا الطَّريقَ الحميدةَ، بالإيمانِ باللهِ تعالى، والإخلاصِ له، والإيمان باليومِ الآخِرِ ورجاءِ ثوابه، وأنفَقوا ممَّا أعطاهم اللهُ تعالى فيما يحبُّه ويرضاه ؟!
وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى عليمٌ بنيَّاتهم وأحوالِهم وأعمالِهم، وهو حافظٌ لها، ومجازيهم عليها ، وعليمٌ بمن يستحقُّ التَّوفيقَ منهم، فيوفِّقُه ويُلهمُه رُشدَه، ويُقيِّضه لعملٍ صالحٍ يرضى به عنه، وبمن يستحقُّ الخِذلانَ والطَّردَ عن جَنابِه الأعظمِ ، وهو عليمٌ أيضًا بما هم عليه مِن كُفرٍ، وبما هم عليه لو آمَنوا باللهِ سبحانه وتعالى .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا قال الله تعالى: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [النساء: 39] فكأنَّه قال: فإنَّ اللهَ لا يظلمُ مَن هذه حالُه مثقالَ ذرَّةٍ، وإن تك حسنةً يضاعِفْها، فرغَّبَ بذلك في الإيمانِ والطَّاعةِ :
وأيضًا لَمَّا أمر اللهُ تعالى بعبادته تعالى، وبالإحسانِ للوالدَيْنِ ومَن ذُكِر معهم، ثمَّ أعقَب ذلك بذمِّ البُخلِ والأوصاف المذكورةِ معه، ثمَّ وبَّخ مَن لم يؤمِنْ، ولم يُنفِقْ في طاعةِ الله، كان هذا كلُّه توطئةً لذِكرِ الجزاءِ على الحسَناتِ والسَّيِّئاتِ، فأخبَر تعالى بصفةِ عدلِه، وأنَّه عزَّ وجلَّ لا يظلِمُ أدنى شيء وبيَّن أنَّه لا يظلِمُ أحَدًا من العاملين بتلك الوصايا، قليلًا أو كثيرًا، بل يُوفِّيه حقَّه بالقِسطاسِ المستقيمِ فقال:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
أي: إنَّ اللهَ تعالى لا يبخَسُ أحَدًا مِن خَلْقِه حقَّه، ولو قدْرَ وزنِ ذرَّةٍ منه، فلا ينقصُ من حسناتِ عبدِه، ولا يَزيدُ في سيِّئاتِه .
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا
أي: وإن توجَدْ حسنةٌ، فإنَّ اللهَ تعالى يضاعِفُها إلى عَشْرِ أمثالِها، إلى سَبعِمائةِ ضِعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرة .
قال اللهُ تعالى حكايةً عن لقمان: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان: 16] .
وقال اللهُ سبحانه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] .
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 6- 8] .
عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا يَدخلُ النَّارَ أحدٌ في قلبِه مثقالُ حبَّةِ خردلٍ من إيمانٍ )) .
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى يُعطيه مِن عندِه أيضًا ثوابًا عظيمًا لا يتصوَّرُه إنسانٌ (قيل: هو الجنَّة) .
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى أنَّ في الآخرةِ لا يجري على أحدٍ ظُلمٌ، وأنَّه تعالى يجازي المحسِنَ على إحسانِه، ويَزيدُه على قدرِ حقِّه، بيَّن تعالى في هذه الآية أنَّ ذلك يجري بشَهادةِ الرُّسلِ الَّذين جعَلهم اللهُ الحُجَّةَ على الخَلْقِ؛ لتكونَ الحُجَّةُ على المسيءِ أبلَغَ، والتَّبكيتُ له أعظمَ، وحسرتُه أشدَّ، ويكونَ سرورُ مَن قَبِلَ ذلك مِن الرَّسول وأظهَر الطَّاعةَ أعظمَ، ويكونَ هذا وعيدًا للكفَّارِ الَّذين قال اللهُ فيهم: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء: 40] ، ووعدًا للمُطِيعين الَّذين قال اللهُ فيهم: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء: 40] .
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
أي: فكيف تكون الحالُ يوم القيامة حين يأتي اللهُ تعالى مِن كلِّ أمَّةٍ بشَهيدٍ، وهم الأنبياءُ عليهم السَّلامُ، فيشهَدون على أُمَمِهم بأعمالِها, وتصديقِ رسلِها, أو تكذيبِهم، وتبليغِهم رسالةَ ربِّهم عزَّ وجلَّ؟ .
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا
أي: وكيف تكون الحالُ أيضًا إذا شهِد محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم على أمَّتِه بأنَّه بلَّغ رسالةَ ربِّه سبحانه ؟
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال له: ((اقْرَأْ عَلَيَّ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أقرَأُ عليكَ وعليكَ أُنزِلَ؟! قال: نعمْ، فقرأتُ سورةَ النِّساءِ، حتَّى أتيتُ إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] ، قال: حسْبُكَ الآن، فالتفتُّ إليهِ فإذا عيناه تذْرِفان )) .
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
الآيةُ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ السَّامعَ يتساءلُ عن الحالةِ المبهَمة المدلولة لقوله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: 41] ويتطلَّبُ بيانَها، فجاءت هذه الجملةُ مبيِّنةً لبعضِ تلك الحالةِ العجيبة، وهي حالُ الَّذين كفَروا حين يرَوْن بوارقَ الشَّرِّ: مِن شهادةِ شُهداءِ الأممِ على مؤمنِهم وكافرِهم، ويوقِنون بأنَّ المشهودَ عليهم بالكفرِ مأخوذون إلى العذابِ، فينالُهم مِن الخوفِ ما يوَدُّون منه لو تُسوَّى بهم الأرضُ قال الله تعالى:
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ
أي: حينها يتمنَّى مَن كفَر باللهِ تعالى وعصى رسولَه فلم يمتثِلْ أمرَه ولم يجتنِبْ نهيَه، أنْ لو تبتلِعُهم الأرضُ فيُدفَنونَ فيها ولا يَظْهَرون، ويكونون ترابًا منها، فلا يُحاسَبون .
وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا
أي: إنَّهم يَعترفون بما فعَلوه، ويُقرُّون بما عمِلوه، وتَشهَدُ عليهم جوارحُهم بما كانوا يعمَلون

.
الفوائد التربوية:

1- في قوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا تحريمُ الإساءةِ إلى الوالدَيْنِ؛ لأنَّ الأمرَ بالشَّيء نهيٌ عن ضدِّه
.
2- أنَّ مَن لم يُحسِنْ إلى والدَيْه ولم يُسِئْ لهما فهو مُقصِّرٌ؛ لأنَّ اللهَ أمَر بالإحسان، وخلافُ الإحسانِ شيئانِ: إساءةٌ، وعدمُ إساءةٍ وإحسانٍ، وهذا خلافُ ما أمَرنا اللهُ به؛ قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .
3- في الأمرِ بالإحسانِ إلى الأقاربِ في قوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى تنبيهٌ على أنَّ مِن سَفالةِ الأخلاقِ أن يستخفَّ أحدٌ بالقريبِ؛ لأنَّه قريبُه، وآمِنٌ من غوائلِه، ويصرِف بِرَّه ووُدَّه إلى الأباعدِ؛ ليستكفيَ شرَّهم، أو ليُذكَرَ في القبائل بالذِّكرِ الحسَنِ؛ فإنَّ النَّفسَ الَّتي يطوِّعُها الشَّرُّ، وتَدينُها الشِّدَّةُ، لَنَفسٌ لئيمةٌ .
4- في قوله تعالى: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ذمُّ مَن يكتُمُ ما آتاه اللهُ من فضلِه، والكتمانُ نوعانِ: كتمانٌ فِعليٌّ، وكتمانٌ قوليٌّ: فالكتمانُ الفِعليُّ: ألَّا يُرَى أثَرُ نعمةِ اللهِ على العبد، فيُعطيه اللهُ المالَ فيخرُجُ إلى النَّاسِ بلباس الفقراءِ، وبمركوبِ الفقراء، لا تعفُّفًا ولكن بُخلًا، والكتمانُ القوليُّ: أن يتحدَّثَ عند النَّاس فيقول: أنا ليس عندي مالٌ، أنا متوسِّطُ الحالِ، أو يزيد ويقول: أنا فقيرٌ، أو ما أشبَهَ ذلك .
5- أنَّ مَن عدَل عن المشروعِ ابتُلِي بالممنوع؛ وذلك أنَّ الَّذين يبخَلون بما آتاهم اللهُ مِن فضلِه ابتُلوا بإنفاقِ المالِ على وجهٍ لا خيرَ فيه، على أنَّهم يبذلونه رئاءَ النَّاس، وهذا وجهٌ لا خيرَ فيه، بل إذا وقَع تعبُّدًا كان شرًّا، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ .
6- في قوله تعالى: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا تنبيهٌ إلى تأثيرِ قُرَناءِ المرءِ في سِيرتِه، وما ينبغي من اختيارِ القَرين الصَّالحِ على قرين السُّوءِ .
7- في قول الله تعالى: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.. الآية: أنَّ الإنسانَ يجبُ أن يوازِنَ في الأمورِ بين النَّافعِ والضَّارِّ، فينظُرَ ماذا يترتَّبُ على إيمانِه أو على كُفرِه، حتَّى يختارَ خيرَ الطَّريقينِ .
8- أنَّ المُنفِقَ لا يُنفِقُ من كِيسِه، لكنَّه مُنفِقٌ ممَّا رزَقه اللهُ؛ فالفضلُ كلُّ الفضلِ لله عزَّ وجلَّ؛ قال تعالى: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ .
9- في قوله تعالى: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ بيانُ منَّةِ الله سبحانه على عبادِه بما أعطاهم، وأنَّ العطاءَ عطاؤُه، ويتفرَّعُ على هذه الفائدة: أن تعتمدَ على اللهِ في حصول الرِّزق، ولا يعني هذا ألَّا نفعَلَ الأسبابَ الَّتي نصِلُ بها إلى الرِّزق، بل لا بدَّ أن نفعلَ الأسبابَ، لكن مع الاعتمادِ على اللهِ عزَّ وجلَّ .
10- إثباتُ العِلمِ للهِ تعالى بأحوالِ عبادِه؛ لقوله: وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا، ويتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: الرَّغبةُ والرَّهبةُ؛ وذلك لأنَّك إذا علِمتَ أنَّ اللهَ عليمٌ بك خِفْتَ من مخالفتِه، ورجَوْتَ في موافقتِه؛ إذ لا يضيِعُ شيءٌ على اللهِ عزَّ وجلَّ، والإيمانُ بعِلمِ اللهِ عزَّ وجلَّ يكسِبُ الإنسانَ مراقبةَ اللهِ سبحانه تمامًا؛ لأنَّ أيَّ شيءٍ تفعَلُه فهو عليمٌ بك، فهذا يحمِلُ الإنسانَ على الرَّجاءِ في فعل ما يحبُّه اللهُ، وعلى الخوفِ مِن فعل ما يكرَهُه اللهُ عزَّ وجلَّ .
11- أنَّ الحسنةَ تجذِبُ الحسنةَ، وتُؤخَذ من قوله: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا؛ لأنَّ هذا الأجرَ قد يكونُ سببُه زيادةَ الحسناتِ بسببِ الحسنةِ الأُولى، فمِن نعمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ أنَّ الإنسانَ إذا عمِل العملَ الصَّالحَ وُفِّقَ لعمَلٍ آخَرَ .
12- وجوبُ العمل بما في السُّنَّةِ وإن لم يكُنْ في القرآنِ، وتؤخذ من قوله: وَعَصَوُا الرَّسُولَ؛ لأنَّ هناك أوامرَ صدَرَتْ من الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم تكُنْ في القرآنِ، فيجب العملُ بها

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- أنَّ الإثباتَ المحضَ لا يدلُّ على التَّوحيدِ، ويُؤخَذُ ذلك مِن أنَّه لَمَّا أمَر بالعبادة قال: وَلَا تُشْرِكُوا؛ وذلك أنَّ الإنسانَ قد يَعبُدُ اللهَ لكن يعبُدُ غيرَه، فنقول: إذا عبَد مع اللهِ غيرَه فإنَّه لم يُخلِصِ العبادةَ لله، والمطلوبُ: إخلاصُ العبادةِ له
.
2- وجوبُ الإحسانِ إلى الوالدينِ؛ لقوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، فالله تعالى قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ولم يقُلْ: وإلى الوالدين؛ لأنَّ المطلوبَ مباشَرةُ الإنسانِ بالإحسانِ إلى والدَيْه، لا إيصال الإحسانِ فقط، ولو قال: إلى الوالدينِ إحسانًا كان المطلوبُ إيصالَ الإحسانِ فقط .
3- قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا فيه أنَّ أعظمَ حقوقِ البَشر حقُّ الوالدينِ؛ لأنَّ اللهَ جعَله في المرتبةِ الثَّانية بعد حقِّه، ولا يرِدُ على هذا حقُّ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأنَّ حقَّ الرَّسولِ داخلٌ في حقِّ اللهِ، ووجهُه: أنَّ العبادةَ لا تتمُّ إلَّا بالإخلاصِ لله، والمتابعةِ لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وإذا تحقَّقَت متابعةُ الرَّسول فقد أدَّيْت حقَّه، والرَّسولُ لا يسأَلُنا أجرًا، إنَّما يسألُنا أن نتعبَّدَ للهِ بما شرَع .
4- مع أنَّ الوالدينِ من الأقاربِ، إلَّا أنَّ قَرابةَ الوِلادِ لَمَّا كانت مخصوصةً بكونِها أقربَ القراباتِ، وكانت مخصوصةً بخواصَّ لا تحصُلُ في غيرِها، لا جرمَ ميَّزها اللهُ تعالى في الذِّكرِ عن سائر الأنواعِ، فذكَر في هذه الآيةِ قَرابةَ الوِلادِ، ثمَّ أتبعَها بقرابةِ الرَّحِمِ، فقال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى .
5- في قوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى أنَّ الأقربَ فالأقربَ أَولى بالإحسان، ويؤخَذُ مِن أنَّ اللهَ قدَّم الوالدينِ، وهما أقربُ القَرابات، فقياسًا على ذلك نقول: مَن كان أقربَ مِن بقيَّةِ القَرابات فهو أحقُّ، هذا وجهٌ، والوجه الثَّاني: أنَّ المعلَّقَ على وصفٍ يقوَى بقوَّةِ ذلك الوصفِ، ويضعُفُ بضَعفِ ذلك الوصفِ، والحُكمُ هنا معلَّقٌ على القَرابة؛ فكلُّ مَن كان أقربَ كان حقُّه أوكدَ، فصارتِ الدَّلالةُ على أنَّنا نقدِّمُ الأقربَ فالأقربَ من وجهين: الوجهُ الأوَّلُ: قياسيٌّ، والثَّاني: معنويٌّ .
6- الأمرُ بالإحسانِ إلى المساكين؛ لقوله: وَالْمَسَاكِينِ، ومَن كان منهم أشدَّ مَسكنةً كانت الوصيةُ به أوكَدَ؛ لأنَّه عُلِّق على وصفٍ .
7- قدَّم اللهُ اليتيمَ على المسكينِ في قوله: وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ؛ لأنَّ المسكينَ لكِبَرِه يمكِنُه أن يعرِضَ حالَ نفسِه على الغير، فيجلِب به نفعًا، أو يدفَع به ضررًا، وأمَّا اليتيمُ فلا قُدرةَ له عليه .
8- إثباتُ المحبَّةِ للهِ، وتؤخذ من قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا، فهذا وإن كان نفيًّا إلَّا أنَّه لو كانت المحبةُ منتفيةً عن اللهِ مطلقًا ولا تجوزُ عليه، لم يكُنْ لنفيِها فائدةٌ هنا، وعلى هذا فإنَّها تدلُّ على إثباتِ المحبَّةِ لله، ومذهبُ السَّلفِ وأهلِ السُّنَّةِ إثباتُ المحبَّةِ لله حقيقةً، وأنَّه جلَّ وعلا يُحِبُّ، وأنَّ محبَّتَه تتعلَّقُ بالأعمالِ، وتتعلَّقُ بالأشخاصِ، وتتعلَّقُ بالأزمنةِ، وتتعلَّقُ بالأمكنةِ .
9- قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى .... فيه عنايةُ اللهِ سبحانه بعِبادِه؛ يُستفادُ ذلك من وجوهٍ في هذه الآية: أوَّلًا: مِن جِهة القيامِ بحقِّ الوالدينِ والقَرابات، وثانيًا: من جِهة جَبْرِ النَّقصِ الَّذي يحصلُ على بعضِ النَّاس، مثل: المساكينِ واليتامى، وثالثًا: أنَّ حُسنَ الجوارِ سببٌ للالتحامِ وللالتئامِ بين النَّاس وعدم الكراهيةِ والبَغضاءِ .
10- أنَّ اللهَ تعالى أرحمُ بالإنسانِ مِن أولاده، ويؤخَذُ مِن قوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا؛ حيث أمَر الولدَ أن يُحسِن إلى والدِه، وهذا يدلُّ على أنَّ اللهَ أرحمُ بالإنسانِ من أولادِه، كما أنَّ قولَ الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النِّساء: 11] يدلُّ على أنَّ اللهَ أرحمُ بالإنسانِ من والديه، وهذا هو الواقعُ .
11- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا، إنَّما خصَّ اللهُ تعالى هذينِ الوصفينِ بالذَّمِّ في هذا الموضعِ؛ لأنَّ مَن اتَّصَف بهاتينِ الصِّفتينِ حمَلتاه على الإخلالِ بمَن ذُكِر في الآيةِ ممَّن يكونُ لهم حاجةٌ إليه، فالمختالَ هو المتكبِّرُ، وكلُّ مَن كان متكبِّرًا فإنَّه قلَّما يقومُ برعايةِ الحقوقِ، ثمَّ أضاف إليه ذمَّ الفَخورِ؛ لئلَّا يُقدِمَ على رعايةِ هذه الحقوقِ لأجل الرِّياءِ والسُّمعةِ، بل لمحضِ أمرِ اللهِ تعالى، فالفخر هو عدُّ المناقبِ على سبيلِ التَّطاولِ بها والتَّعاظمِ على النَّاس .
12- في قوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أنَّه تعالى ذكَر في هذه الآيةِ مِن الأحوالِ المذمومة ثلاثًا: أوَّلها: كون الإنسانِ بخيلًا، وهو المراد بقوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وثانيها: كونهم آمِرين لغيرِهم بالبُخلِ، وهذا هو النِّهايةُ في حبِّ البُخلِ، وهو المراد بقوله: وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وثالثها: قوله: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فيُوهِمون الفقرَ مع الغنى، والإعسارَ مع اليَسارِ، والعَجْزَ مع الإمكانِ، ثمَّ إنَّ هذا الكتمانَ قد يقعُ على وجهٍ يُوجِبُ الكفرَ، مثل: أن يُظهِرَ الشِّكايةَ عن اللهِ تعالى، ولا يرضى بالقضاءِ والقدَرِ، وهذا ينتهي إلى حدِّ الكفرِ؛ فلذلك قال: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا .
13- انتفاءُ الظُّلم عن اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لقوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وهذا النَّفيُ يتضمَّنُ إثباتَ كمالِ العدل، وليس المرادُ به مجرَّدَ انتفاءِ الظُّلم؛ لأنَّ مجرَّدَ انتفاء الظُّلمِ لا يدلُّ على كمالٍ، وقد قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل: 60] ، أي: الوصفُ الأعلى .
14- أنَّ ما ذُكِر على سبيل المبالغةِ لا مفهومَ له؛ لقوله: مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فلا يُفهَمُ مِن قوله: مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أنَّه يظلِمُ دون ذلك، بل لا يظلِمُ مِثقالَ ذرَّةٍ ولا دونها، لكنَّ عادةَ العربِ ضربُ المثَلِ في الشَّيء الحقيرِ بمِثقالِ الذَّرَّةِ .
15- أنَّ رحمةَ اللهِ تعالى سبقَتْ غضَبَه؛ لأنَّ الحسناتِ تُضاعَفُ، والسَّيِّئاتِ لا تُزادُ؛ فقوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، هذا نفيُ زيادةِ السَّيِّئاتِ، والتَّضعيفُ في الحسَناتِ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا، وهو سبحانه يَجزي على الحسنةِ ثوابًا أكثرَ من المقابَلة، فلا يقال: الحسنةُ بعَشْرِ أمثالِها إلى سَبعِ مِئةِ ضِعفٍ فقط، بل هناك شيءٌ فوق هذا، وهو قوله: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَبِذِي الْقُرْبى فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ عبَّر هنا بقوله: وَبِذِي الْقُرْبى بزِيادة الباء، وفي سورة البقرة عبَّر بـوَذِي الْقُرْبَى بغيرِ الباء في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى [البقرة: 83] ، وإعادةُ الباءِ تدلُّ على التَّوكيدِ والمبالغةِ؛ فبُولِغ في آيةِ النساءِ؛ لأنَّها في حقِّ هذه الأمَّة، ولم يُبالغْ في آية سورةِ البقرة؛ لأنَّها في حقِّ بني إسرائيل، والاعتناءُ بهذه الأمَّةِ أكثرُ مِن الاعتناء بغيرها؛ إذ هي خيرُ أمَّة أخرجت للنَّاس
.
وقيل: فائدةُ إعادةِ حرفِ الجرِّ وَبِذِي الْقُرْبَى الإشارةُ إلى أنَّ الإحسانَ إلى القَرابةِ مُستقلٌّ، بمعنى أنَّه لو فُرِض أنَّ الرَّجُلَ ليس له والِدانِ، فحقُّ القرابةِ ثابتٌ، وليس مبنيًّا على حقِّ الوالدينِ، وتابعًا له؛ لأنَّ الوالدينِ قد يَكونانِ ميِّتينِ؛ فحقُّ القَرابةِ باقٍ .
وقيل: إنَّ إعادةَ الجارِّ لإفادة التَّنويع .
2- قوله: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فيه التَّعبيرُ بالبَعضِ عن الكلِّ؛ حيثُ قال: مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ومعلومٌ أنَّ المرادَ ما ملَكْتُم .
3- وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا: فيه وَضْعُ الظَّاهر لِلْكَافِرِينَ موضِعَ المُضمَرِ (لهم)؛ للإشعارِ بأنَّ مَن هذا شأنُه فهو كافرٌ لنِعمةِ الله، ومَن كان كافرًا لنعمةِ الله، فله عذابٌ يُهينُه، كما أهان النِّعمةَ بالبُخلِ والإخفاءِ .
- والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر لِما قبلها .
4- قوله: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ: فيه تقديمُ إنفاقِهم رِئاءَ النَّاسِ على عدمِ إيمانِهم باللهِ واليومِ الآخِر، مع كونِ المؤخَّرِ أقبَحَ من المقدَّمِ؛ لرعايةِ المناسبةِ بين إنفاقِهم ذلك وبين ما قبله مِن بُخلِهم وأمرِهم للنَّاس به .
5- قوله: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا... الآية: استفهامٌ غرَضُه التَّوبيخُ لهم على الجهلِ بمكان المنفعةِ، والاعتقادِ في الشَّيء على خلافِ ما هو عليه، والتَّحريضُ على الفكرِ لطلبِ الجواب؛ لعلَّه يؤدِّي بهم إلى العِلم بما فيه من الفوائدِ الجليلةِ، والعوائدِ الجميلة .
- وفيه تنبيهٌ على أنَّ المدعوَّ إلى أمرٍ لا ضررَ فيه ينبغي أن يُجيبَ إليه احتياطًا؛ فكيف إذا تضمَّن المنافعَ ؟!
- وتقديمُ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخِرِ على الإنفاقِ؛ لأهميَّة الإيمانِ في نفسِه، ولعدمِ الاعتدادِ بالإنفاقِ بدونه .
6- قوله: وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ: فيه تكرير لَا النَّافية، وكذلك تكريرُ الباء؛ للإشعارِ بأنَّ كلًّا منهما منتفٍ على حِدَتِه .
7- قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا...: فيه مبالغةٌ بذِكْر المثقالِ ، مع تأكيدِ الخبَرِ بـ: (إنَّ) واسميَّةِ الجملةِ.
- وفيه: التَّجوُّزُ بإطلاقِ الشَّيءِ على ما يُقارِبُه في المعنى؛ فقد أُطلِقَ الظُّلمُ على انتقاصِ الأجرِ من حيث إنَّ نقصَه عن الموعودِ به قريبٌ في المعنى من الظُّلم .
- وقوله: مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فيه: التَّنبيهُ بما هو أدْنَى على ما هو أعْلَى .
- وفيه: إبهامٌ؛ إذ لم يُبيِّنْ فيه المضاعَفةَ في الأجرِ .
8- قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ...: الاستفهامُ فيه يدلُّ على التَّفخيمِ والتَّعظيمِ .

====================
سُورةُ النِّساءِ
الآية: (43)
ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ
غريبُ الكَلِمات:

جُنُبًا: أي: إنْ أصابتكم الجَنابةُ، وسُمِّيتِ الجَنابةُ بذلك؛ لكونِها سببًا لتجنُّبِ الصَّلاة في حُكم الشَّرع، وأصل (جنب): البُعد
.
عَابِرِي سَبِيلٍ: أي: مُجتازين في المساجدِ، أو مُجتازين غيرَ مُقِيمين ولا مُطمئنِّين، أو المسافرين، وأصل (عبر): تجاوزٌ من حالٍ إلى حال .
الْغَائِطِ: الحدَث، وأصلُ الغائطِ: المطمئِنُّ مِن الأرض، وكانوا إذا أرادوا قَضاءَ الحاجة أتَوْا غائطًا من الأرضِ ففعَلوا ذلك فيه؛ فكُني عن الحدَثِ بالغائطِ، وأصل (غوط): اطمئنانٌ وغَوْر .
لَامَسْتُمُ: كِنَايَة عَن النِّكَاح والجِماع، وقيل: ملامسة من غير جماع، وأصْل (لمس): يدلُّ على تطلُّب شيءٍ ومسيسِه أيضًا .
صَعِيدًا طَيِّبًا: أي ترابًا نظيفًا، والصَّعيدُ: الغبار الَّذي يصعَدُ، ويُطلَقُ أيضًا على وجهِ الأرض، وأصلُ الطَّيِّب: خلاف الخبيث

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يَنهَى اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين عن إتيانِ المساجد وعن أداء الصَّلاة وهم في حالِ سُكرٍ حتَّى يحصُلَ لهم الصَّحوُ الكاملُ، كذلك ينهاهم عن إتيانِ المساجد وعن أداء الصَّلاة وهم على جنابةٍ، حتَّى يغتسِلوا، إلَّا مَن كان مجتازًا عبْرَ المسجد فقط دون مُكثٍ، فله إتيانُه، ثمَّ يبيِّنُ اللهُ لعباده أنَّ لهم أن يتيمَّموا بدلَ الطَّهارةِ بالماء؛ وذلك بأن يقصِدوا التُّرابَ الطَّاهر النَّظيف ويمسَحوا وجوهَهم وأكُفَّهم منه، في حالِ كانوا مَرْضَى يَتعذَّرُ استعمالُهم للماء، أو فقَدوا الماءَ وهم مسافرون، أو فقَدوه بعد أن أحدَثوا حَدَثًا أصغرَ ببولٍ أو غائطٍ، أو عقِبَ ملامستِهم للنِّساءِ، إنَّ اللهَ كان عفوًّا غفورًا.
تفسير الآية:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
- لَمَّا أمَر تعالى بعبادةِ الله والإخلاصِ فيها، وأمَر ببرِّ الوالدينِ ومكارمِ الأخلاق، وذمَّ البُخلَ، واستطرَد منه إلى شيءٍ مِن أحوال القيامة، وكان قد وقَع مِن بعضِ المسلِمين تخليطٌ في الصَّلاة الَّتي هي رأسُ العبادةِ بسبب شُربِ الخمر- ناسَب أن تُخَلَّص الصَّلاةُ من شوائبِ الكدَرِ الَّتي يوقِعُها على غيرِ وجهِها، فأمَر تعالى بإتيانِها على وجهِها دون ما يُفسِدها؛ ليجمَعَ لهم بين إخلاصِ عبادةِ الحقِّ ومكارمِ الأخلاق الَّتي بينهم وبين الخَلْق
.
- وأيضًا لَمَّا وصَف الوقوفَ بين يديه في يومِ العرضِ والأهوال، وتضمَّن وصفُه أنَّه لا ينجو فيه إلَّا مَن كان طاهرَ القلبِ والجوارحِ بالإيمانِ به والطَّاعةِ لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصَف الوقوفَ بين يديه في الدُّنيا في مقامِ الأُنسِ وحضرةِ القُدسِ المُنَجِّي من هولِ الوقوفِ في ذلك اليوم، وأمَر بالطَّهارةِ فيه عن الخبائثِ .
- وأيضًا لَمَّا أمَر اللهُ تعالى في الآياتِ السَّابقة بعبادتِه، وتَرْكِ الشِّركِ به، وبالإحسانِ للوالدَيْنِ وغيرهم، وتوعَّد الَّذين لا يقُومون بهذه الأوامر والنَّواهي- وقد عرَفْنا مِن سُوَرٍ أخرى أنَّ اللهَ تعالى يأمُرُ بالاستعانةِ بالصَّلاة على القيامِ بأمورِ الدِّين وتكاليفِه- ناسَب ذِكْر الصَّلاةِ هاهنا عقِبَ تلك الأوامرِ والنَّواهي الجامعة .
النَّاسخ والمَنسوخ:
المَنسوخ:
قول الله تعالى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء: 43] .
النَّاسخ:
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] .
الدَّليل:
عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، قال: (لَمَّا نزَل تحريمُ الخَمرِ، قال عمرُ: اللَّهمَّ بيِّنْ لنا في الخمرِ بيانًا شفاءً، فنزلت الآيةُ الَّتي في البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: 219] الآية، قال: فدُعِي عمرُ فقُرِئت عليه، قال: اللَّهمَّ بيِّنْ لنا في الخمرِ بيانًا شفاءً، فنزلت الآيةُ الَّتي في النِّساءِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء: 43] ، فكان مُنادِي رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا أقيمت الصَّلاةُ ينادي: (ألَا لا يقرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكرانُ)، فدُعِي عُمرُ فقُرِئت عليه، فقال: اللَّهمَّ بيِّنْ لنا في الخمرِ بيانًا شفاءً، فنزلت هذه الآيةُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] ، قال عُمرُ: انتَهَيْنا) .
سَببُ النُّزول:
عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضِي اللهُ عنه، قال: ((صنَع لنا عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوف رضِي اللهُ عنه طعامًا فدعانا وسقانا من الخمرِ، فأخذتِ الخمرُ منَّا، وحضرتِ الصَّلاةُ فقدَّموني، فقرأتُ: (قل يا أيَّها الكافرون لا أعبُدُ ما تعبدون ونحن نعبُدُ ما تعبدون)، فأنزَل اللهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] )) .
وفي لفظٍ آخرَ: عن عليِّ بن أبي طالبٍ، رضِي اللهُ عنه: ((أنَّ رجلًا من الأنصارِ دعاه وعبدَ الرَّحمنِ بنَ عوف فسقاهما قبل أن تحرَّمَ الخمرُ، فأَمَّهم عليٌّ في المغربِ فقرأ: قل يا أيُّها الكافرون، فخلَّط فيها، فنزلَتْ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] )) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
أي: يا أيُّها المؤمنون لا تقرَبوا المساجدَ، ولا تصلُّوا وأنتم في حالِ سُكرٍ لا تدرون معه ما تقولون في الصَّلاة، إلى أن يحصُلَ لكم الصَّحوُ التَّامُّ .
وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا
أي: ولا تُصلُّوا أيضًا، ولا تقرَبوا المساجدَ، والحالُ أنَّكم على جَنابةٍ، إلَّا لأجلِ الاجتيازِ عبْرَها فقط، دون مُكثٍ فيها، إلى أن تغتسِلوا .
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى
أي: وإنْ كنتم ذوي مَرَضٍ، بحيث يتعذَّرُ معه استعمالُ الماءِ .
أَوْ عَلَى سَفَرٍ
أي: إنْ كنتُم مُسافِرين .
أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ
أي: إنْ أحدَثَ أحدُكم حَدَثًا أصغرَ ببولٍ أو غائطٍ .
أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ
قيل: المرادُ الجِماعُ، وقيل المراد: كلُّ لَمسٍ باليدِ أو بغيرِها .
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا
سَببُ النُّزول:
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها زَوجِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت: ((خرَجْنا مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بعضِ أسفارِه حتَّى إذا كنَّا بالبَيداءِ، أو بذاتِ الجيشِ انقطَع عِقدٌ لي، فأقام رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على التماسِه، وأقام النَّاسُ معه، وليسوا على ماءٍ، فأتى النَّاسُ إلى أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضِي اللهُ عنه، فقالوا: ألَا ترى ما صنَعَتْ عائشة؟! أقامَتْ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم والنَّاسِ، وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماءٌ، فجاء أبو بكرٍ ورسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم واضعٌ رأسَه على فَخِذي قدْ نام، فقال: حبَسْتِ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم والنَّاسَ، وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماءٌ! فقالت عائشةُ: فعاتَبني أبو بكرٍ، وقال ما شاءَ اللهُ أن يقولَ، وجعَل يَطعُنُني بيدِه في خاصرتي، فلا يمنَعُني من التَّحرُّكِ إلَّا مكانُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على فخِذي، فقام رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم حين أصبَح على غيرِ ماءٍ، فأنزَل اللهُ آيةَ التَّيمُّمِ، فتيمَّموا، فقال أُسَيدُ بن الحُضَيرِ: ما هي بأوَّلِ بركتِكم يا آلَ أبي بكرٍ، قالت: فبعَثْنا البعيرَ الَّذي كنتُ عليه فأصَبْنا العِقدَ تحتَه )) .
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا
أي: إنْ حصَلَتْ إحدى الحالاتِ السَّابقِ ذِكرُها- كالسَّفرِ- ففقدتُم الماءَ، فعليكم بقَصْدِ وجهِ الأرضِ الطَّاهرِ النَّظيفِ .
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
أي: فامسَحوا مِن هذا الصَّعيدِ الطيِّبِ الوجهَ والكفَّينِ .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى يَعفو عن ذُنوبِ عِبادِه وتَقصيرِهم في طاعتِه، ويَستُرُ عليهم، ويَتجاوَزُ عن المؤاخَذةِ بها سبحانه وتعالى، ومِن عَفوِه عنهم وغَفرِه لهم: أنْ شَرَعَ التَّيمُّمَ، وأباح لهم فِعلَ الصَّلاة به إذا فقَدوا الماءَ أو تعذَّر عليهم استعمالُه؛ توسعةً عليهم، ورُخصةً لهم

.
الفوائد التربوية:

1- أهميةُ الصَّلاةِ، والعنايةُ بها؛ وجهُ ذلك: أنَّ اللهَ تعالى صدَّر الحُكمَ المتعلِّقَ بالصَّلاةِ بالنِّداءِ لاسترعاءِ الانتباهِ، وممَّا يدلُّ على العنايةِ بها أنَّ اللهَ صدَّر الخطابَ بذلك بوصفِ الإيمانِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فدلَّ هذا على أهميَّةِ الصَّلاةِ، وعلى العنايةِ بها
.
2- الحثُّ على حُضورِ القلبِ في الصَّلاة؛ لقوله: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، والقلبُ إذا غاب، فإنَّ الإنسانَ لا يعلَمُ ما يقولُ، وإنَّما يقولُ على سبيلِ العادة فقط، وإلَّا لو أنَّه رجَع إلى نفسِه لتَبيَّن له أنَّه لا يَدري ما يقولُ، أي: لا يَدري معنى ما يقولُ، وإنْ كان قد يَدري أنَّه لفظٌ .
3- في قوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، إشارةٌ إلى أنَّه يَنبغي لِمَن أراد الصَّلاةَ أنْ يَقطَعَ عنه كلَّ شاغلٍ يَشغَلُ فِكرَه؛ كمُدافَعةِ الأخبثَيْنِ، والتَّوْقِ لطعامٍ، ونحوِه

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- أنَّه لا حُكمَ لقولِ السَّكرانِ؛ لقوله: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، فإنَّه يدُلُّ على أنَّ السَّكرانَ لا يعلَمُ ما يقولُ، وإذا كان لا يعلَمُ ما يقولُ صار قولُه لغوًا لا عبرةَ به
.
2- يؤخَذُ مِن المعنى في قوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ منعُ الدُّخولِ في الصَّلاةِ في حالِ النُّعاسِ المُفرِطِ، الَّذي لا يشعُرُ صاحبُه بما يقولُ ويفعَلُ .
3- أنَّ الإنسانَ إذا غضِب غضبًا شديدًا حتَّى صار لا يعلَمُ ما يقولُ، فإنَّه لا عبرةَ بقولِه، حتَّى لو كان كفرًا، وحمَلَه على ذلك شدَّةُ الغضبِ، فإنَّه لا عبرةَ بقولِه؛ لقوله: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ؛ فدلَّ ذلك على أنَّ جهْلَ الإنسانِ بما يقولُ له أثرٌ في تغيُّرِ الحُكم، وكذلك لو طلَّق في شدَّةِ الغضبِ وهو لا يعلَمُ ما يقول .
4- قوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ اكتفى بقولِه: تَقُولُونَ عن (تفعلون)؛ لظهورِ أنَّ ذلك الحدَّ من السُّكرِ قد يُفضي إلى اختلالِ أعمال الصَّلاةِ؛ إذ العملُ يُسرِعُ إليه الاختلالُ باختلالِ العقلِ قبل اختلالِ القولِ .
5- تحريمُ مُكثِ الجُنُبِ في المسجدِ؛ لقوله: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ .
6- يُستفادُ من قوله تعالى: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ أنَّ العُبورَ ليس كالمُكثِ، وعليه: فإنَّ الإنسانَ لو مرَّ عابرًا بالمسجدِ، فإنَّه لا يَلْزَمُه أن يُصلِّيَ تحيَّةَ المسجدِ؛ لأنَّه عابر، بخِلاف ما إذا مكَث وجَلَس، فإنَّه لا يَجلِسُ حتَّى يُصليَ ركعتينِ .
7- الإشارةُ إلى القاعدةِ المعروفة المتَّفقِ عليها، وهي: أنَّ المشقَّةَ تجلِبُ التَّيسيرَ، ووجهُه: أنَّ اللهَ تعالى أجاز للمريضِ أن يتيمَّمَ، فقال: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا .
8- أنَّ المسافرَ إذا لم يجِد الماءَ فإنَّه يتيمَّمُ، ولا يَنتظرُ حتَّى يجدَ الماءَ في البلد؛ لقوله: أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا .
9- أنَّ السَّفرَ ليس له حدٌّ معيَّنٌ، ووجهُه: الإطلاقُ في قوله: أَوْ عَلَى سَفَرٍ ولم يقُلْ مسافةَ كذا، بل حدُّ السَّفرِ أنْ يَقعَ عليه اسمُ السَّفرِ؛ فإذا وقَع عليه اسمُ السَّفر ثبتَتْ له أحكامُ السَّفر، ولم يحدِّدِ اللهُ ولا رسولُه السَّفرَ بمسافة معيَّنةٍ .
10- أنَّ مجامَعةَ النِّساء حدَثٌ؛ لقوله: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ، وهو حدَثٌ أكبرُ، كما دلَّت على ذلك آيةُ المائدة، وعلى هذا فيجبُ على الإنسان إذا جامَع المرأةَ أن يغتسلَ، سواءٌ أنزَل أم لم يُنزِلْ .
11- أنَّه يُشترَطُ في جواز التَّيمُّمِ عدَمُ الماء، أو التَّضرُّرُ باستعماله، وعدمُ الماء مأخوذٌ من قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً، والتَّضرُّر باستعماله من قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى، وعلى هذا فلا يمكن أن يكونَ تيمُّمٌ إلَّا إذا تعذَّر استعمالُ الماءِ؛ لعدَمٍ، أو لضرَرٍ باستعماله .
12- جواز التَّيمُّمِ على وجهِ الأرض كلِّه؛ من رملٍ، أو حصًى، أو ترابٍ، أو سَبِخةٍ، أو جِصٍّ، أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا ولم يقيِّدْ .
13- أنَّه لا بدَّ مع المسحِ من القَصد؛ لقوله: فَتَيَمَّمُوا فَامْسَحُوا .
14- الحِكمة في التَّشريعِ، ووجه ذلك: أنَّ اللهَ فرَّق بين طهارةِ الماءِ وطهارة التَّيمُّم؛ فطهارةُ الماءِ من الجنابةِ لا بدَّ أن تعُمَّ جميعَ البدنِ، ومِن الحدَثِ الأصغرِ لا بدَّ أن تعُمَّ الأعضاءَ الأربعةَ: الوجهَ، واليدينِ، والرَّأسَ، والرِّجلينِ، أمَّا طهارةُ التَّيمُّمِ فإنَّها لا تكونُ إلَّا في عُضوينِ فقط، وهما: الوجهُ، واليدانِ، ولا فرق فيها بين الطَّهارتينِ الكبرى والصُّغرى، والحكمةُ من ذلك: أنَّ الطَّهارةَ بالماء فيها تطهيرٌ حسِّيٌّ واضحٌ، وطهارة التَّيمُّمِ فيها تطهير معنويٌّ، وهو كمالُ التَّعبُّدِ والتَّذلُّلِ لله عزَّ وجلَّ، بحيث إنَّ الإنسانَ يمسَحُ بالتُّرابِ وجهَه وكفَّيْهِ، وهذا دليلٌ على كمال التَّعبُّدِ .
15- وجوب التَّرتيبِ بين مسْح الوجهِ في التَّيمُّمِ ومسح اليدينِ، بحيث يقدَّمُ الوجهُ؛ لقوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ .
16- أنَّه لا يُشرعُ في التَّيمُّمِ مسْحُ الذِّراعِ؛ لقوله: بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وأطلَق، واليدُ عند الإطلاق هي الكفُّ؛ ودليلُ ذلك قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا [المائدة: 38] ، وقد أجمَع العلماءُ على أنَّ السَّارقَ لا تُقطَعُ يدُه إلَّا مِن مَفصِلِ الكفِّ، ولا تُقطَعُ من المِرفَقِ، وهنا أطلَق اللهُ تعالى اليدَ، كما أطلقها في القطعِ في السَّرقةِ، وإذا أُطلِقت فالمرادُ الكفُّ

.
بَلاغةُ الآية:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: فيه تصديرُ الكلامِ بحَرْفيِ النِّداءِ والتَّنبيهِ (يا أيُّها)؛ للمبالغةِ في حمْلِهم على العملِ بموجِبِ النَّهي عن قُربان المساجد حالَ السُّكرِ أو الجَنابةِ
.
2- قوله: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ: فيه إطلاقُ لفظِ الصَّلاةِ على المسجِد، من بابِ حذْفِ المضاف، أي: لا تَقرَبوا موضِعَ الصَّلاةِ؛ فقدْ أراد بالصَّلاةِ مواضعَها، وهي المساجدُ .
- وعبَّر بالقُربِ عن التَّلبُّس بالفعلِ، وإنَّما اخْتِير هذا الفِعلُ لَا تَقْرَبُوا دون (لا تُصلُّوا) ونحوه؛ للإشارةِ إلى أنَّ تلك حالةٌ منافيَةٌ للصَّلاة، وصاحبُها جديرٌ بالابتعادِ عن أفضلِ عملٍ في الإسلام .
3- قوله: وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ولا جُنُبًا: جملةُ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حاليَّة، وهي جُملةٌ اسميَّةٌ؛ فالتَّعبيرُ بها أبلغُ لتَكرارِ الضَّمير؛ فالتَّقييدُ بها أبلغُ في الانتفاءِ مِنها من التَّقييدِ بالمفرَدِ الَّذي هو: وَلَا جُنُبًا .
4- قوله: إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ: فيه تقديمُ المستثنَى عَابِرِي قبلَ تمامِ الكلام المقصودِ قصرُه بقوله: حَتَّى تَغْتَسِلُوا؛ للاهتمامِ به .
5- قوله: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ: فيه تسميةُ الشَّيءِ باسم مكانِه؛ إذ الغَائِط: هو المكانُ المطمئنُّ من الأرضِ، وكان الرَّجلُ إذا أراد قضاءَ الحاجةِ طلَب غائطًا من الأرض يحجُبُه عن أعيُنِ النَّاس، ثمَّ سُمِّي الحَدَثُ نفسُه بهذا الاسمِ ، ومجيئُه من الغائط كنايةٌ عن الحدَثِ بالغائطِ ، ففيه التَّجوُّز بإطلاقِ المحَلِّ على الحالِّ فيه .
- وفي قوله: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ: إسنادُ المجيءِ منه إلى واحدٍ من المخاطَبين دونهم كلِّهم؛ حيث لم يقُلْ: (أو جئتم) ونحوه؛ للتَّفادي عن التَّصريحِ بنسبتِهم إلى ما يُستحيا منه، أو يُستهجَنُ التَّصريحُ به .
- وفيه التفاتٌ من الخِطابِ إلى الغَيبةِ؛ لأنَّه كِنايةٌ عمَّا يُستحيَا مِن ذِكرِه، فلمْ يُخاطِبْهم به .
6- في قوله: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ: إيثارُ الكِنايةِ فيما عُطف عليه على التَّصريحِ بالجِماعِ .
7- قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً: فيه تغليبُ الخِطابِ؛ إذ قدِ اجتمَع خِطابٌ وغَيبةٌ؛ فالخِطاب في: كُنْتُمْ مَرْضَى، أَوْ عَلَى سَفَرٍ، أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ، والغَيبةُ في: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ؛ لأنَّه لَمَّا كنى عن الحاجةِ بالغائط، كرِه إسناد ذلك إلى المخاطَبين، فنزَع به إلى لفظِ الغائبِ بقولِه: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ، ولَمَّا كان المرضُ والسَّفرُ ولمسُ النِّساءِ لا يفحُشُ الخِطابُ بها جاءتْ على سَبيل الخِطابِ .
8- قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا: تعليلٌ للتَّرخيصِ والتَّيسيرِ وتقريرٌ لهما؛ فإنَّ مَنْ عادتُه المستمرَّةُ أنْ يعفوَ عن الخاطئين، ويغفرَ للمُذنبين، لا بدَّ أن يكونَ مُيسِّرًا لا مُعسِّرًا، وقيل: هو كنايةٌ عنهما؛ فإنَّ التَّرفيهَ والمسامحةَ مِن روادفِ العفوِ وتوابعِ الغُفران .

=====================3.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (44- 46)
ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
غريبُ الكَلِمات:

وَلِيًّا: الوليُّ هو الذي يَلي أُمورَ أوليائِه بالحياطةِ لهم والحراسة، وأصْل (وَلِيَ) يدلُّ على القُرْب، سواء مِن حيث: المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّين، أو الصَّداقة، أو النُّصرة، أو الاعتقاد، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه
.
غَيْرَ مُسْمَعٍ: أي: لا سمعتَ، أو مَدعوًّا عليك بصمَمٍ أو موت، أو غيرَ مُجابٍ إلى ما تدعو إليه أو كلامٍ ترْضاه .
لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ: تحريفًا بالكذب، واستهزاءً ومحاكاة؛ يقال: لَوَى لسانَه بكذا: كناية عن الكذب وتخرُّصِ الحديث، وأصلُه: إمالةٌ للشَّيء .
وَأَقْوَمَ: أي: أخلصَ، وأَسَدَّ، وأصل (قوم): مُراعاةُ الشيء وحِفظُه، وكذلك الانتصاب والعَزَم

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَكفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا:
كَفَى: فِعلٌ ماض، والبَاء في بِاللهِ صِلة، ولفظْ الجلالة (الله) مجرورٌ لفظًا وهو فاعلٌ مرفوع محلًّا بـ(كفَى) والتقديرُ: وكفَى اللهُ...، وإِنَّما زِيدت الباءُ مع الفاعِل؛ ليؤدِّيَ الكلامُ معنى الأمر؛ إذ التقدير: اكتَفُوا بِاللَّهِ؛ فدلَّت الباءُ على هذا المعنى، وقيل غير ذلك. ووَلِيًّا: مَنْصُوبٌ على التَّمْيِيزِ. وقيل: على الحَال. ومِثلُه في الإعرابِ قولُه تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يخاطِبُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم قائلًا له: ألم تعلَمْ- يا محمَّدُ- بأنَّ الَّذين آتاهم اللهُ حظًّا من الكتاب من اليهود والنَّصارى يختارون الضَّلالةَ عِوضًا عن الهدى، ويُريدون مع ضلالتِهم أن تضلُّوا أنتم معهم فتتركوا سبيلَ الهدايةِ.
واللهُ تعالى- أيُّها المؤمنون- أعلمُ مِنكم بأعدائِكم، وهو حسبُكم سبحانه، يتولَّاكم بحِفظِه ورعايتِه، كفى به نصيرًا يدافعُ عنكم، وينصُرُكم على عدوِّكم.
ثمَّ يُخبِرُ تعالى أنَّ مِن اليهود مَن يُبدِّلُ ما في التَّوراةِ لفظًا أو معنًى، أو يُبدِّلهما معًا، ويقولون لمحمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: سمِعْنا قولَك، وعصَيْنا أوامرَك، ويُسيئون أدبَهم مع النَّبيِّ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فيقولون له: اسمَعْ منَّا، لا سمِعْتَ؛ استهتارًا منهم واستهزاءً، ويقولون له: راعِنَا، يُظهرون أنَّهم يريدون: أرْعِنا سمعَك، وإنَّما يَعنُون بذلك حقيقةً الدُّعاءَ على رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يصابَ بالرُّعونةِ؛ وذلك تحريفًا منهم وطعنًا في الدِّين بالقَدْحِ في النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام، ثمَّ يخبر تعالى أنَّ هؤلاء اليهودَ لو كانوا قالوا: سمِعْنا وأطَعْنا، واسمَعْ منا قولَنا، وانتظِرْنا لنفهمَ عنك قولَك، لكان قولُهم ذلك خيرًا لهم وأصوبَ، ولكنْ أخزاهم اللهُ وطرَدَهم من رحمتِه، فلا يُؤمِنون إلَّا إيمانًا قليلًا لا يُفيدُهم.
تفسير الآيات:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر مِن أوَّلِ هذه السُّورة إلى هذا الموضعِ أنواعًا كثيرةً من التَّكاليفِ والأحكامِ الشَّرعيَّةِ، انتقَل إلى ذِكْر أحوال أعداءِ الدِّين، وأقاصيص المتقدِّمين؛ فالانتقالُ من نوعٍ من العلوم إلى نوع آخر، يُنشِّطُ الخاطرَ، ويدفَع ما يُكدِّره، ويقوِّي القريحةَ
.
وأيضًا هو استئنافُ كلامٍ راجعٌ إلى الآياتِ الَّتي سبقت من قوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء: 36] فإنَّه بعد نِذارةِ المشركين وجَّه الإنذارَ لأهلِ الكتاب، ووقعَتْ آياتُ تحريمِ الخمر وقتَ الصَّلاة، وآياتُ مشروعيَّةِ الطَّهارة لها فيما بينهما، وفيه مناسبةٌ للأمرِ بتركِ الخمر في أوقات الصَّلواتِ، والأمر بالطَّهارة؛ لأنَّ ذلك من الهُدى الَّذي لم يسبِقْ لليهود نظيرُه؛ فهم يحسُدون المسلِمين عليه؛ لأنَّهم حُرِموا مِن مِثلِه، وفرَّطوا في هدًى عظيمٍ، وأرادوا إضلالَ المسلمين عداءً منهم ، قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
أي: ألَمْ تعلَمْ- يا محمَّدُ- بأنَّ الَّذين أُعطوا حظًّا من التَّوراةِ من اليهود .
يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ
أي: إنَّهم يَختارون الضَّلالةَ عِوَضًا عن الهُدَى، بالإقامةِ على تكذيبِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم وتركِهم الإيمان؛ ليَشتروا بذلك ثمنًا قليلًا من حُطام الدُّنيا الفاني .
وهذا باعتبارِ ما يَختارونه لأنفسِهم، ولكنَّ شرَّهم ليس قاصرًا؛ ولذلك قال :
وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ
أي: وهم يودُّون أيضًا- أيُّها المؤمنون- أنْ تَنحرِفوا معهم عن طَريقِ الإيمان، واتِّباعِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فتَكفروا كما كَفروا، وتَتركوا ما أنتُم عليه من الهُدى والعِلم النَّافعِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ
أي: إنَّ اللهَ تعالى أعلمُ بعَداوةِ أولئك منكم، وما هم مُنطَوون عليه من الغِشِّ والكيدِ والحسَدِ لكم .
وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا
أي: حَسْبُكم اللهُ تعالى؛ يتولَّاكم بالحفظِ والرِّعاية، ويُيسِّر لكم ما فيه الفلاحُ والسَّعادةُ .
وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا
أي: وحَسْبُكم اللهُ تعالى نصيرًا؛ يُدافِعُ عنكم، وينصُرُكم على أعدائِكم، ويُبيِّن لكم ما ينبغي أنْ تحذَروه منهم .
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا حَكَى اللهُ تعالى عنهم أنَّهم يَشترون الضَّلالة، شرَح كيفيَّةَ تلك الضَّلالةِ، فقال :
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ
أي: إنَّ مِن اليهود مَن يُبدِّلُ ما جاء في التَّوراةِ؛ إمَّا بتغيير اللَّفظِ، أو المعنى، أو هما جميعًا .
وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا
أي: ويقولُ أولئك القومُ: سمِعْنا- يا محمَّد- قولَك، وعصَيْنا أمرَك، فتولَّوْا عن كتابِ اللهِ تعالى بعدما عقَلوه، وهذا أبلغُ في كُفرِهم وعِنادِهم .
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
أي: ويقولون لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: اسمَعْ منَّا ما نقولُ، أصمَّك اللهُ فلا سمِعْتَ، يُسيئون الأدبَ مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ استهزاءً منهم واستهتارًا به .
وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ
أي: إنَّهم يُوهِمون أنَّهم بقولهم للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "راعنا": يعنُون: أرْعِنا سمعَك، وإنَّما قصدُهم الدُّعاءُ عليه صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يُصابَ بالرُّعونةِ؛ وذلك تحريفٌ منهم لهذه اللَّفظةِ عن معناها، أرادوا بذلك الطَّعنَ في الدِّينِ بعيبِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والقدحِ فيه .
وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ
أي: ولو أنَّ هؤلاءِ اليهودَ قالوا لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: سمِعْنا قولَك، وأطَعْنا أمرَك، واسمَعْ منَّا ما نقول، وانتظِرْنا لنفهمَ عنك ما تقولُ، لو أنَّهم قالوا ذلك، لكان أصوبَ وأعدَلَ في القولِ، وفي غيرِه من أمورِ دِينِهم ودنياهم .
وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ
أي: ولكنَّ اللهَ تعالى قد أخْزَى أولئك اليَهودَ، فأقصاهم وأبعَدَهم وطرَدَهم من رحمتِه؛ وذلك بسبب كُفرِهم .
فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا
أي: فلا يُؤمنون إلَّا إيمانًا قليلًا لا ينفَعُهم

.
الفوائد التربوية:

1- في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا... الآية: أنَّ مِن النَّاس مَن يؤتى الكتابَ ويُرزَقُ العِلمَ، ولكنَّه لا ينتفعُ به، مِثل هؤلاء الَّذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، ومع ذلك لم ينتفعوا به، واشتَرَوُا الضَّلالةَ بالهدى
.
2- أنَّ مَن لم ينتفِعْ بعِلمِه فهو شَبيهٌ بهؤلاء المذكورين في قولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا... الآية، فمن آتاه اللهُ عِلمًا ولم ينتفِعْ به فهو شبيهٌ بهؤلاء؛ ولهذا قال سفيانُ بنُ عُيَينةَ رحمه الله: من فسَد من علمائِنا ففيه شَبَهٌ مِن اليهودِ، ومَن فسَد مِن عُبَّادِنا ففيه شَبَهٌ من النَّصارى .
3- الحذَرُ من هؤلاء الَّذين ذُكِروا في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا... الآية؛ فإنَّهم لا يُريدون لنا الخيرَ إطلاقًا؛ لقوله: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ .
4- الثَّناء على المسلمين بكونِهم على السَّبيل؛ لقوله: أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، ولولا أنَّهم على السَّبيلِ ما حاوَلوا أن يُضلُّوهم .
5- التَّحذيرُ مِن هؤلاء اليهود أو النَّصارى أو غيرهم؛ لأنَّه إذا حذَّرَنا اللهُ ممَّن أُوتوا نصيبًا من الكتاب، فتحذيرُنا ممَّن هم عُمْيٌ صُمٌّ بُكْمٌ، مِن باب أَولى .
6- في قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ تسليةُ المؤمنين، وتقويةُ عزائمهم؛ لكونِ اللهِ أعلمَ بأعدائنا، وأنَّه ناصرٌ لنا، ووليٌّ لنا ، وفيه إشارةٌ إلى التحذيرِ منهم، وتوبيخٌ على الركونِ إليهم، والمعنى: أنَّه تعالى قد أخبَر بعَداوتهم للمُؤمنين، فيجبُ حَذَرُهم؛ كما قال تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ .
7- أنَّ الإنسانَ يُحاسَبُ على ما أراد؛ لقوله: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ، أي: على ما في قلوبِهم؛ قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ .
8- أنَّ المنكَرَ إذا أنكَره المُنكِرُ فإنَّ الأولى أن يُرشِدَ إلى البَدَل الذي لا محذورَ فيه؛ لقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا بدل وَعَصَيْنَا، وَاسْمَعْ دون غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَانْظُرْنَا بدل رَاعِنَا؛ كما قال تعالى في خطابِ المؤمنين بهذا: لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا [البقرة: 104] .
9- في قوله تعالى: وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أنَّ مَن لُعِن وطُرِد عن رحمةِ الله فإنَّه ينقلِبُ عليه الحقُّ باطلًا والباطلُ حقًّا؛ ولهذا لم يَسلُكوا الأحسنَ والخيرَ فيما قالوا؛ لأنَّ اللهَ لعَنهم، ويتفرَّعُ على هذه القاعدةِ: أنَّ العاقلَ لا يتعرَّضُ لِما فيه لعنةُ اللهِ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا تعرَّض لِما فيه لعنةُ اللهِ لُعِن وطُرِد وخُذِل

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- أنَّه لا بدَّ للمُسلِمين من عدوٍّ، بل مِن أعداءٍ، وكلُّ مَن كان غيرَ مُسلِمٍ، فإنَّه عدوٌّ للمسلمين، قال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ
.
2- أنَّ المحرِّفينَ للكلِمِ عن مواضعِه يُشبِهون اليهودَ في طريق استعمالِ الوحيِ .
3- شدَّةُ عنادِ اليهودِ الَّذين يُحرِّفون الكلِمَ عن مواضعِه؛ لقوله: وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، فإنَّهم لو قالوا: لم نسمَعْ، أو قالوا: سمِعْنا ولم نفهَمْ، لربَّما قال قائلٌ: إنَّ هذا عُذرٌ، لكن قالوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، فلم يمنَعْهم شيءٌ عن الطَّاعةِ إلَّا مجرَّدُ عصيانٍ .
4- شدَّةُ حقدِ اليهودِ على رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حيث كانوا يُجيبون بهذه الكلمةِ السَّيِّئة: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ .
5- قوله تعالى حكاية عن اليهود: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ فيه تَعالِي هؤلاء اليهودِ، حتَّى عند الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لقولهم: اسمَعْ؛ لأنَّ كلمةَ اسمَعْ إنَّما تكونُ في الغالبِ في المخاطَباتِ من الأعْلى إلى الأدْنى .
6- أنَّ الطَّعنَ في الدِّين يكونُ بالصَّريح، ويكون باللَّازم؛ فالصَّريحُ أن يقولَ: هذا الدِّينُ يوجِبُ لأهلِه التَّأخُّرَ والتَّقهقرَ والتَّزمُّتَ، وما أشبهَ ذلك؛ هذا صريحٌ. الثَّاني: ألَّا يكونَ صريحًا، لكن مِن لازم القول، فهنا إذا نظرتَ إلى كلامِهم في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ لم تشعُرْ بالطَّعنِ على وجهٍ صريحٍ، ولكن من لازمِ القولِ .
7- قوله تعالى:وَطَعْنًا فِي الدِّينِ فيه أنَّ الطَّعنَ في الدِّين من خصالِ اليهودِ؛ فمَن طعَن في الدِّين فهو مُشبِهٌ لليهودِ، والعياذُ بالله .
8- أنَّ الكفرَ سببٌ للَّعنِ؛ لقوله: وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ .
10- الرَّدُّ على الجَبريَّةِ والقدَريَّةِ؛ فالجبريَّةُ يقولون: إنَّ الإنسانَ مجبَرٌ على عملِه، والقدَريَّةُ يقولون: الإنسانُ مستقِلٌّ بعمَلِه، وليس للهِ فيه تدبيرٌ، والآيةُ ترُدُّ عليهم جميعًا، أمَّا على الجهميَّةِ الَّذين هم الجَبريَّةُ، فلقوله: بِكُفْرِهِمْ، فأضاف العملَ إليهم، وهم يقولون: لا يُضافُ العملُ إلى العامل إلَّا على سبيل المجاز، وإلا فالحقيقة أنَّه ليس فعلَه؛ لأنَّه ليس باختيارِه، أمَّا على القدَريَّةِ: فلإثبات الأسبابِ في قوله: بِكُفْرِهِمْ، وهم يقولون: إنَّ فعلَ الإنسان مستقلٌّ، ليس لله فيه تدخُّلٌ إطلاقًا، فأنت تفعَلُ وتترُكُ، وتقومُ وتقعدُ، وتذهَبُ وتجيءُ، وليس لله تعالى فيه أيُّ تعلُّقٍ، وأهلُ السُّنَّة والجماعة يقولون: عمَلُ الإنسان باختيارِه ولا شكَّ، ولكن الَّذي جعَله باختياره هو اللهُ، فيكون ناتجًا عن مشيئةِ الله وخَلْقِ الله، وخالقُ السَّببِ التَّامِّ خالقٌ للمسبَّبِ

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ: في قوله: أَلَمْ تَرَ استفهام المرادُ به التَّعجُّبُ
.
- والتَّعبيرُ بالاشتراء يَشْتَرُونَ- الَّذي هو عبارةٌ عن استبدالِ السِّلعة بالثَّمنِ، أي: أخْذِها بدلًا منه أخذًا ناشئًا عن الرَّغبةِ فيها، والإعراض عنه-؛ للإيذانِ بكمالِ رغبتِهم في الضَّلالة الَّتي حقُّها أن يُعرَضَ عنها كلَّ الإعراضِ، وإعراضُهم عن الهداية الَّتي يتنافَس فيها المتنافِسون .
- وفيه من التَّسجيلِ على نهاية سَخافةِ عقولهم، وغاية رَكاكةِ آرائِهم ما لا يَخفَى؛ حيث صُوِّرت حالُهم بصورةِ ما لا يَكاد يتعاطاه أحدٌ ممَّن له أدْنى تمييزٍ .
- وعبَّر بصيغةِ المضارع في يَشْتَرُونَ، ووَيُرِيدُونَ؛ للدَّلالةِ على الاستمرار التَّجدُّديِّ .
2- قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ جملةٌ معترِضةٌ لتقريرِ إرادتِهم المذكورةِ .
- وفيها تَعريضٌ؛ فإنَّ إرادتَهم الضَّلالةَ للمؤمنينَ عن عَداوةٍ وحسَدٍ .
- وفيه تهديدٌ للمُشركين وتحذيرٌ لهم ؛ إذ اللهُ يَعلمُهم ويعلمُ ما يَفعلون.
3- قوله: وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا: تذييلٌ؛ لتطمئنَّ نفوسُ المؤمنين بنصرِ الله؛ لأنَّ الإخبارَ عن اليهودِ بأنَّهم يُريدونَ ضلالَ المسلمين، وأنَّهم أعداءٌ للمسلمين، مِن شأنِه أن يُلقيَ الرَّوعَ في قلوب المسلمين؛ إذ كان اليهودُ المحاورون للمسلمين ذَوي عَدَدٍ وعُدَدٍ، وبيدِهم الأموالُ، فكان قولُه: وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا [النساء: 45] مناسبًا لقوله: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ [النساء: 44] ، أي: إذا كانوا مُضمِرين لكم السُّوءَ، فاللهُ وليُّكم؛ يَهديكم ويتولَّى أمورَكم، شأنُ الوليِّ مع مولاه، وكان قوله: وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا [النساء: 45] مناسبًا لقوله: بِأَعْدَائِكُمْ [النساء: 45] ، أي: فاللهُ ينصُرُكم .
- وفعل (كَفَى) مُستعمَلٌ في تقويةِ اتِّصافِ فاعلِه بوصفٍ يدلُّ عليه التَّمييزُ المذكورُ بعده، أي: إنَّ فاعل (كَفَى) أجدرُ مَن يتَّصفُ بذلك الوصفِ، ولأجل الدَّلالة على هذا غلَب في الكلامِ إدخالُ باءٍ على فاعلِ فِعل كفى، وهي باءٌ زائدةٌ لتوكيدِ الكِفاية، بحيث يحصُلُ إبهامٌ يشوِّقُ السَّامعَ إلى معرفةِ تفصيله، فيأتون باسمٍ يميِّزُ نوعَ تلك النِّسبة؛ ليتمكَّنَ المعنى في ذهنِ السَّامع ، ولتأكيد الاتِّصالِ الإسناديِّ بالاتِّصال الإضافيِّ .
- وتكرير الفِعل وَكَفَى في الجملتين، مع إظهارِ الجلالة (الله) في مقامِ الإضمار، لا سيَّما في الثَّاني؛ لتقويةِ استقلالها المناسبِ للاعتراض، وتأكيد كفايتِه عزَّ وجلَّ في كلٍّ من الولاية والنُّصرة .
4- قوله: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ: فيه الإبهام، أو الكلام الموجَّه، أو المحتمِل للضِّدَّيْنِ؛ فهو ذو وجهين: وجه يحتمل الذَّمَّ: أي استمِعْ منَّا مدعوًّا عليك بلا سمِعْتَ، أي: أصابَك اللهُ بالصَّمَمِ والموت، ولعلَّه هو المراد هنا؛ لِما انطوَوْا عليه من خِسَّةٍ، ووجه يحتمل المدحَ، أي: اسمَعْ غيرَ مُسمَعٍ مكروهًا .
5- قوله: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ اللَّيُّ أصله الانعطافُ والانثِناءُ، وهو يَحتمِل الحقيقةَ في كلتا الكلمتين: اللَّيُّ، والألسنةُ، أي: إنَّهم يَثنون ألسنتَهم؛ ليكونَ الكلامُ مشبِهًا لُغتينِ؛ بأن يُشبِعوا حركاتٍ، أو يقصُروا مُشبَعاتٍ، أو يفخِّموا مرقَّقًا، أو يرقِّقوا مفخَّمًا، ليعطيَ اللَّفظُ في السَّمعِ صورةً تُشبِهُ صورةَ كلمةٍ أخرى، فإنَّه قد تخرُجُ كلمةٌ مِن زِنَةٍ إلى زِنَةٍ، ومن لُغةٍ إلى لُغةٍ بمثلِ هذا، ويُحتمَل أن يكون المرادُ: أنَّهم يأتون في كلامِهم بما هو غيرُ مُتمحِّضٍ لمعنى الخيرِ .

==================4

.
سُورةُ النِّساءِ
الآيتان (47- 48)
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
غريبُ الكَلِمات:

نَطْمِسَ وُجُوهًا: أي: نمحوَ تخطيطَ صُوَرِها، أو نمحوَ ما فيها من عينٍ وأنفٍ وحاجبٍ وفمٍ، والطَّمس: إزالة الأثَر، وأصل طمس: يدلُّ على محوِ الشَّيء ومسحِه
.
فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا: نجعَل وجوهَهم من قِبل أَقفيتهم، أو نجعَل أبصارَهم من ورائهم، أو نجعَل الوجه قَفًا، والقَفَا وَجْهًا، وأصل الردِّ: صرفُ الشيء بذاتِه، أو بحالةٍ من أحواله؛ يقال: رَدَّه عن وجهه: صرفَه. وأصْل الدُّبر: آخِرُ الشيء وخلفُه، ضد القُبل .
أَصْحَابَ السَّبْتِ: المقصودُ بأصحابِ السَّبت: اليهودُ الذين ذُكِرت قصَّتُهم في سورة البَقرة والأعراف .
افْتَرَى: كَذَب واختَلَق، وافترى فلانٌ على فلان: إذا قذَفه بما ليس فيه، أو قذَف أبوَيْهِ، و(الافتراء) الاختلاقُ، وهو ما عظُم مِن الكذبِ، وكذلك استُعمِل في القُرآن في الكَذِب والشِّركِ والظُّلم، وأصْلُه من الفَرْي، وهو: قطْعُ الجِلد للخرزِ والإصلاح

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يأمُرُ اللهُ أهلَ الكتابِ من اليهود والنَّصارى بالإيمان بالقُرآنِ المنزَّلِ على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنَّ فيه تصديقًا وشَهادةً على ما معهم من الكتب، أمَرهم سبحانه أن يؤمنوا قبل أن يطمِسَ وجوهَهم فيحوِّلَها إلى جهةِ ظهورهم، أو يطرُدَهم من رحمتِه سبحانه، ويُنكِّل بهم كما فعَل بأصحاب السَّبتِ الَّذين احتالوا على الاصطياد فيه بعد أن نُهُوا عن الصَّيد فيه، فمسَخهم اللهُ تعالى قِردةً، وكان أمرُ الله حاصلًا لا مردَّ له.
ثمَّ يُخبِرُ تعالى أنَّه لا يغفِرُ لأيِّ أحدٍ أشرَك معه غيرَه، ويغفِرُ ما دون الشِّركِ من الذُّنوبِ، سواءٌ الكبائرُ والصَّغائرُ، لمن يشاءُ مِن عبادِه، ومَن يُشرِكْ بالله تعالى فقد اختَلَق إثمًا عظيمًا.
تفسير الآيتين:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا حَكَى اللهُ تعالى عن اليهودِ أنواعَ مَكرِهم وإيذائِهم، ورجَّاهم سبحانه وتعالى بقوله: وَلَوْ أَنَّهمْ قَالُوا... الآية، أمَرهم بالإيمانِ، وقرَن بهذا الأمرِ الوعيدَ الشَّديدَ على التَّركِ؛ ليكونَ أدعى لهم إلى الإيمانِ والتَّصديقِ به
فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ
أي: يا أيُّها اليهود والنَّصارى الَّذين أُنزِل إليهم التَّوراةُ والإنجيلُ فأُعطُوا العِلمَ، آمِنوا بما أنزَلْنا إلى محمَّدٍ من الفُرقان، مصدقًا للَّذي معكم من التَّوراةِ والإنجيلِ؛ فإنَّ القرآنَ شاهدٌ بما جاءت به تلك الكتبُ، وإنَّه حقٌّ، كما أنَّه مهيمِنٌ على غيرِه من الكتب السَّابقةِ الَّتي قد صدَّقها، فإنَّها قد أخبَرَتْ به .
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا
أي: آمِنوا قبل أن نَطمِسَ وجوهَكم، فنحوِّلَها إلى جهةِ الأدبارِ، أي: من قِبَل ظهورِكم.
والمراد بطَمْس الوجوهِ والرَّدِّ على الأدبارِ: قيل: ألَّا يبقى للوجوهِ سمعٌ ولا بصَر ولا أثَر، ونرُدُّها مع ذلك إلى ناحيةِ الأدبارِ، وقيل المراد: نطمِس أبصارَها ونمحو آثارَها, ونجعَل أبصارَها في أقفائِهم، فيمشون القَهْقرى، وقيل غير ذلك .
أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ
أي: أو نطرُدَهم من رحمتِنا، ونوقِعَ بهم من النَّكالِ مثلما وقَع لأصحابِ السَّبتِ الَّذين اعتدَوْا في سَبتِهم بالحيلةِ على الاصطيادِ فيه، فمُسِخُوا قردةً ذليلةً .
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا
أي: إنَّه تعالى إذا أمَر بأمرٍ، فإنَّه واقعٌ لا محالةَ؛ فأمرُهُ عزَّ وجلَّ لا يُخالَف ولا يُمانَع .
قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
مناسبة الآية لما قلبها:
لَمَّا رجَّاهم سبحانه وتعالى بقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا... الآية، خاطَب مَن يُرجَى إيمانُه منهم بالأمرِ بالإيمان، وقرَن بالوعيدِ البالغِ على تركِه، ثمَّ أزال خوفَهم من سوءِ الكبائرِ السَّابقةِ معلِّلًا لتحقيقِ وعيدهم، مُعلِمًا بوقوعهم في الشِّركِ فقال:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى لا يغفِرُ لأيِّ أحدٍ من المخلوقين يَلقَى اللهَ سبحانه وقدْ جعَل معه شريكًا في ربوبيَّتِه أو ألوهيَّتِه أو أسمائِه وصفاتِه .
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
أي: ويغفِرُ اللهُ تعالى ما دون ذلك الشِّركِ من الذُّنوبِ- صغائرِها وكبائرِها- للَّذي يشاءُ مِن عبادِه مِن أهل الذُّنوبِ والآثام، إذا اقتضَتْ حكمتُه أن يغفِرَ له .
عن أبي ذرٍّ رضِي اللهُ عنه، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ:... ومن لَقِيَني بقُرابِ الأرضِ خطيئةً لا يشركُ بي شيئًا، لقِيتُهُ بمثلِها مغفرةً )) .
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا
أي: إنَّ مَن يقع في الإشراكِ باللهِ العظيمِ، فقد اختَلَق وِزْرًا عظيمًا وجُرمًا كبيرًا .
كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .
وعن عبدِ الله بنِ مَسعودٍ رضِي اللهُ عنه، قال: ((سألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أيُّ الذَّنبِ أعظمُ عِندَ اللهِ؟ قال: أنْ تجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقَك، قلتُ: إنَّ ذلك لَعظيمٌ... ))

.
الفوائد التربوية :

أنَّ ما دون الشِّركِ تحتَ المشيئةِ؛ لقوله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وليس مجزومًا بمغفرتِه، ولا مجزومًا بالمؤاخَذةِ عليه، وإنَّما هو تحت المشيئةِ، ويتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: ردُّ كلامِ المسوِّفينِ الَّذين يفعَلون ما يفعَلون من المعاصي ثمَّ يقولون: إنَّ الله يغفِرُ ما دون الشِّركِ لمن يشاء، فنقول لهم: ما الَّذي أدراك أن تكونَ أنت ممَّن شاء اللهُ أن يغفِرَ لك؟ فلو فرَضْنا أنَّ عملَك المعصيةَ يمكِنُ أن يُغفَرَ، لكنَّه ليس بمتيقَّنٍ؛ فالمعصيةُ مفسَدةٌ ظاهرةٌ حاصلةٌ، ومغفرتها مصلحةٌ؛ لكنَّها تحت المشيئةِ؛ فقد تحصُلُ وقد لا تحصُلُ

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا...، أقبَل سبحانه على خِطابِ أهل الكتاب، وكذلك شأنُ القُرآن؛ لا يُفوِّتُ فرصةً تعِنُّ مِن فُرَصِ الموعظة والهُدى إلَّا اغتَنَمَها، وكذلك شأن النَّاصحين من الحُكماءِ والخُطباء أن يتوسَّموا أحوالَ تأثُّر نفوسِ المخاطَبَين ومظانَّ ارعوائِها عن الباطلِ، وتبصُّرِها في الحق، فيُنجِدوها حينئذٍ بقوارعِ الموعظةِ والإرشادِ
.
2- إثبات علوِّ اللهِ، ووجهُه قولُه: نَزَّلْنَا؛ لأنَّ النُّزولَ إنَّما يكون من الأعلى، وعلوُّ اللهِ عزَّ وجلَّ ينقسِمُ إلى قسمينِ: قسمٍ حِسيٍّ، وقسمٍ معنويٍّ؛ فالقسمُ المعنويُّ: متَّفقٌ عليه بين أهل الملَّة، حتَّى أهلُ التَّعطيلِ يدَّعون أنَّهم يُعطِّلون تنزيهًا للهِ عن النَّقص؛ فالعلوُّ المعنويُّ لا أحدَ يُنكِرُه من أهلِ الملَّةِ؛ فكلُّ أهلِ القِبلة يُقرُّون به، والعلوُّ الحسيُّ الذَّاتيُّ: هو الَّذي أنكَره طوائف من أهل البدع .
3- في قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ أنَّ القرآنَ الكريمَ مصدِّقٌ للكتُبِ السَّابقة، يشهَدُ لها بالصِّدقِ، ومصدِّقٌ لها؛ حيث جاء مطابقًا لِما أخبَرَت به؛ فهو لا يتنافى معها ولا يتنافَرُ معها، لكنَّ الشَّرائعَ تختلفُ باختلاف الأممِ، حتَّى باختلاف الأحوال، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48] ، لكنَّ أصولَ المِلَلِ ثابتةٌ واحدة، وهذا الكتابُ العزيز مُصدِّقٌ لِما بين يديه، مُهيمِنٌ على ما سبَق، وإذا كان كذلك لزِم أن يكونَ ناسخًا لِما سبق .
4- أنَّ الإحالةَ على المعلومِ تصِحُّ ولو بلفظِ الإبهام، وتؤخَذُ من قوله: كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ؛ لأنَّه إذا قال قائل: ما هي اللَّعنةُ الَّتي حلَّتْ بأصحابِ السَّبتِ؟ ومَن هم أصحابُ السَّبتِ؟ فنقول: ذُكِروا هنا على سبيلِ الإجمال؛ لأنَّ أمرَهم معلومٌ .
5- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّةِ لله عزَّ وجلَّ، وكثيرٌ من المعطِّلة الأشاعرةِ والمعتزلة ونحوِهم يُنكِرون أنْ يقومَ باللهِ فِعلٌ متعلِّق بإرادته؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ الأفعالَ المتعلِّقة بالإرادة حادثةٌ، والحادثُ لا يقومُ إلَّا بحادثٍ، ولا شكَّ أنَّ هذا كذِبٌ في التَّصوُّرِ؛ لأنَّ الشَّيء الحادثَ يمكِنُ أن يقومَ بالأزلِ، كما أنَّ الشَّيءَ الحادث الَّذي حَدَثَ اليومَ يمكن أن يقومَ بمخلوقٍ خُلِقَ قبْلَ خمسين سنةً، فلا يلزمُ مِن حدوثِ الفعلِ أن يكونَ الفاعلُ حادثًا .
6- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ.. في هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ اليهوديَّ يسمَّى مشرِكًا في عُرفِ الشَّرع، وإلَّا كان مُغايرًا للمُشركِ، فوجَب أنْ يكونَ مغفورًا له؛ ولأنَّ اتصالَ هذه الآيةِ بما قبلها إنَّما كان لأنَّها تتضمَّنُ تهديدَ اليهود؛ فاليهوديَّةُ داخلةٌ تحت اسم الشِّركِ .
7- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فيه ردٌّ على مَن قال: إنَّ الكبائرَ لا تُغفر، وهم المعتزلةُ، وعلى مَن قال: إنَّ أصحابَ الكبائرِ مِن المسلمين لا يُعذَّبون، وهم المرجئةُ لقوله: لِمَنْ يَشَاءُ

.
بَلاغةُ الآيتين:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ اختلفتِ الصِّلةُ فيه عنِ الصِّلة في قولِه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران: 23] ؛ لأنَّ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِن الكِتَابِ جاءَ في مقامِ التَّعجبِ والتَّوبيخ، فناسبَتْه صِلةٌ مؤذِنةٌ بتهوينِ شأنِ عِلمهم بما أوتوه مِن الكِتاب، والَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ جاءَ في مقامِ التَّرغيبِ، فناسبَتْه صِلةٌ تؤذِنُ بأنَّهم شُرِّفوا بإيتاءِ التَّوراة؛ لتُثير هِممَهم للاتِّسامِ بمِيسَمِ الرَّاسخين في جرَيانِ أعمالهم على وَفْقِ ما يُناسِبُ ذلك، وليس بين الصِّلتينِ اختلافٌ في الواقعِ؛ لأنَّهم أوتوا الكتابَ كلَّه حقيقةً، باعتبار كونِه بين أيديهم، وأُوتوا نصيبًا منه باعتبارِ جرَيانِ أعمالهم على خلافِ ما جاء به كتابُهم؛ فالَّذي لم يَعمَلوا به منه كأنَّهم لم يؤتَوْه
.
- وجِيء بالصِّلتينِ في قوله: بِمَا نَزَّلْنَا وقوله: لِمَا مَعَكُمْ دون الاسمينِ العَلَمين، وهما: القرآنُ والتَّوراة؛ لِما في قوله: بِمَا نَزَّلْنَا مِن التَّذكيرِ بعِظَمِ شأنِ القرآنِ أنَّه منزَّلٌ بإنزالِ اللهِ، ولِما في قوله: لِمَا مَعَكُمْ من التَّعريضِ بهم في أنَّ التَّوراةَ كتابٌ مستصحَبٌ عندهم لا يعلَمون منه حقَّ عِلمِه، ولا يعمَلون بما فيه .
2- قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا: خبرٌ فيه تهديدٌ أو وعيدٌ، وهذا تهديدٌ بأن يحُلَّ بهم أمرٌ عظيمٌ .
- وفيه تحاشِي التَّعبيرِ بالمواجهةِ عند المؤاخذة، فهنا قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا ولم يقُلْ: (وجوهكم)، وكان مقتضى السِّياقِ أن يقول: مِن قبْلِ أنَّ نطمِسَ وجوهَكم؛ لأنَّهم هم المهدَّدون، لكن أتى بها على صيغةِ النَّكرةِ تحاشيًا للمواجهةِ بالمؤاخَذةِ .
- وفي تنكير وُجُوهًا- المفيدِ للتَّكثيرِ- تهويلٌ للخَطْبِ العظيمِ، الَّذي يُثير الخوفَ، وفي إبهامِها لُطفٌ بالمخاطَبين، وحُسنُ استدعاءٍ لهم إلى الإيمانِ .
وقد يقال: إنَّ المرادَ بالتَّنكيرِ هنا التَّعظيمُ، أي: وجوهًا معظَّمةً عندكم فتُطمَس، وهي وجوهُ زعمائِهم الَّذين صدُّوهم عن سبيلِ الله عزَّ وجلَّ .
3- قوله: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا: أَوْ نَلْعَنَهُمْ يَرجِع إلى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ على طَريقةِ الالتفاتِ- على أحدِ وجوهِ التَّأويل .
4- قوله: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا: الجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر لِما سبق .
- ووَضْع الاسمِ الجليلِ موضعَ الضَّمير بطريقِ الالتفاتِ؛ لتربيةِ المَهابةِ، وتعليلِ الحُكم، وتقويةِ ما في الاعتراضِ من الاستقلالِ .
5- قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا: كلامٌ مستأنَفٌ مسُوقٌ لتقريرِ ما قبْلَه مِن الوعيدِ، وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمر بالإيمان ببيان استحالة المغفرة بدونه .
- وجيء في قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ بحرف إِنَّ لتوكيد الخبرِ؛ لقصدِ دفْع احتمال المجازِ، أو للمبالغةِ في الوعيد، وهو إمَّا تمهيدٌ لِما بعده لتشنيعِ جُرم الشِّرك بالله؛ ليكون تمهيدًا لتشنيعِ حال الَّذين فضَّلوا الشِّركَ على الإيمان، وإظهارًا لمقدارِ التَّعجبِ مِن شأنهم الآتي في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النِّساء: 51]، أي: فكيف ترضَوْن بحالِ مَن لا يَرضَى اللهُ عنه، والمغفرةُ على هذا الوجهِ يصحُّ حملُها على معنى التَّجاوز الدُّنيويِّ، وعلى معنى التَّجاوز في الآخرة على وجه الإجمال .
- وقوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ: فيه إظهارُ الاسمِ الجليل في موضعِ الإضمار؛ لزيادة تقبيحِ الإشراك، وتفظيعِ حالِ مَن يتَّصفُ به .

=====================


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (49- 57)
ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
غريبُ الكَلِمات:

يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ: أي: يَمدحُونها ويُثنون عليها، مِن التَّزكية، وأصلُ الزَّكاة: النَّماءُ والزِّيادة
.
فَتِيلًا: الفَتِيل: القِشرةُ الَّتي في بطن النَّواة، وسُمِّي ما يكونُ في شَقِّ النَّواة فتيلًا؛ لكونِه على هيئته، وقيل: الفتيل: ما يُفتَلُ بالإصبعِ مِن الوسَخِ الَّذي يخرُجُ منه، وأصل (فتل): يدلُّ على ليِّ شيء .
يَفْتَرُونَ: يَختلِقون، ويَكذِبون؛ فـ(الافتراء) الاختِلاقُ، وهو ما عظُم مِن الكَذبِ، ومِنه قيل: افترَى فلانٌ على فلانٍ، إذا قذَفَه بما ليسَ فيه، ويُستَعمَل في القُرآنِ في الكَذِب والشِّركِ والظُّلم، وأصلُ (فري) قَطْعُ الشَّيءِ، ومِن ذلك: فَرَيت الشيءَ أفْريه فَرْيًا، وهو قطعُه لإصلاحِه، وأفريتَه: إذا أنت قطعتَه للإفسادِ، والافتِراءُ فيهما، وفي الإفسادِ أكثرُ .
بِالْجِبْتِ: الجِبْت لفظٌ يُستعمل في كُلِّ باطل، ومن ذلك: كلُّ معبودٍ سوى اللهِ جلَّ اسمُه، من صُورةٍ أو شيطان، ويُطلق أيضًا على السَّاحر، والكاهن، والشَّيطان، والكافِر المعاند الَّذي لا خيرَ فيه .
وَالطَّاغُوتِ: هو كلُّ مَعبودٍ من دونِ الله؛ من حَجَرٍ أو صورة أو شيطان، ويُطلَق على السَّاحر، والكاهن، والماردِ من الجِنِّ، والصَّارفِ عن طريق الخيرِ، والطَّاغوت من الإنس والجِنِّ شياطينُهم، يكون واحدًا وجمعًا، واشتقاقُه من الطُّغيان، وأصله: مجاوزةُ الحدِّ في العصيانِ .
نَقِيرًا: النَّقير: النَّقرة الَّتي في ظَهرِ النَّواة، ويُضرَبُ به المَثَلُ في الشَّيء الطَّفِيف، والنَّقر: قرعُ الشَّيء المفضِي إلى النَّقب .
صَدَّ عَنْهُ: أي: أعرَض وانصرَف عنه، والصَّدُّ قد يكونُ انصرافًا عن الشَّيء وامتناعًا؛ إذا كان لازمًا غيرُ مُتعدٍّ، وقد يكونُ صرفًا ومنعًا؛ إذا كان مُتعدِّيًا بمعنى صَدَّ غيرَه. وأصل (صد): إعراضٌ وعدولٌ .
نَضِجَتْ: انشوتْ فاحتَرقَتْ؛ يُقال: نَضِج اللَّحم: إذا أَدرَك شَيَّه، وأصل (نضج): بلوغ النِّهايةِ في طبخ الشَّيء .
ظِلًّا ظَلِيلًا: قيل: هو الظلُّ الدَّائم الَّذي لا تنسَخُه الشَّمس، وقيل: الَّذي لا بَرْدَ فيه ولا حرَّ ولا ريحَ ولا سَمومَ، وقيل: هو كنايةٌ عن نضارةٍ من العيشِ، وأصل (ظلل): يدلُّ على سَتْر شيءٍ لشيء

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يقولُ اللهُ لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: ألَا تتعجَّبُ- يا محمَّدُ- من الَّذين يُثنون على أنفسِهم من اليهود والنَّصارى وغيرهم، ويُبرِّئونها من الذُّنوب والعُيوب، مع أنَّ الأمرَ ليس كما زعَموا، بلِ اللهُ وحده هو الَّذي يُثني على مَن يشاءُ مِن عباده ممَّن هو أهلٌ لذلك، ولا يظلِمُ اللهُ عزَّ وجلَّ أحدًا من الخَلْقِ شيئًا مهمَا قلَّ، انظُرْ كيف يفتري هؤلاء المُثْنون على أنفسِهم الكذبَ، ويَختلِقونه على اللهِ، وكفى بهذا الصَّنيعِ منهم إثمًا ظاهرًا وذنبًا واضحًا.
ثمَّ قال اللهُ تعالى أيضًا لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: ألَا تعجَبُ مِن حالِ اليهود الَّذين آتاهم اللهُ نصيبًا مِن التَّوراةِ، ومع ذلك يؤمِنون بالجِبْتِ، وهو كلُّ ما لا فائدةَ فيه في الدِّين؛ كالسِّحرِ ونحوه، ويؤمنون كذلك بالطَّاغوت، وهو كلُّ ما تجاوَز به العبدُ حدَّه؛ من معبودٍ أو متبوعٍ أو مُطاع، ويقول هؤلاء اليهودِ للكفَّارِ: إنَّهم أقومُ وأعدلُ طريقًا من المؤمنين، أولئك اليهودُ قد طرَدهم اللهُ مِن رحمتِه، ومُن يَطرُدِ اللهُ مِن رحمتِه فلن تجِدَ له- يا محمَّدُ- أحدًا ينصُرُه ويتولَّاه.
فهل لهؤلاء اليهودِ نصيبٌ مِن المُلك حتَّى يفضِّلوا مَن شاؤوا بمجرَّدِ أهوائِهم، بل ليس لهم أيُّ نصيبٍ مِن المُلْك، فلو كان لهم لَمَا أعطَوْا أحدًا من النَّاس شيئًا أبدًا مهمَا قلَّ، أم أنَّ الدَّافعَ لهم حسَدُهم للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابِه على ما رزَقه اللهُ مِن النُّبوَّةِ؛ لكونِه مِن العربِ، وليس من بني إسرائيلَ، فلماذا يحسُدونهم وليس هذا أوَّلَ فضلٍ يتفضَّلُ اللهُ به على عبادِه؟ فقد تفضَّل اللهُ على أسلافِهم من ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ فأعطاهم النُّبوَّةَ، وأنزَل عليهم الكتبَ، والحكمةَ، وآتاهم مُلكًا واسعًا كبيرًا؛ فمِن أهلِ الكتاب مَن آمَن بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم وبما أُنزِل إليه مِن قرآنٍ، ومنهم مَن لم يؤمِنْ بذلك وصدَّ النَّاسَ عن الإيمانِ به، وحسْبُ هؤلاء الكفرةِ جهنَّمُ تُوقَدُ عليهم ويُحرَقون فيها.
ثمَّ يُخبِرُ تعالى أنَّ الكافرينَ بآياتِ الله سوف يُدخِلُهم اللهُ تعالى نارًا تُحرقُهم، كلَّما احترَقَتْ جلودُهم بتلك النَّارِ، أبدَلَهم اللهُ تعالى جلودًا غيرَها ليذوقوا ألَمَ العذابِ، إنَّ اللهَ كان عزيزًا حكيمًا.
وأمَّا مَن آمَن وعمِل صالحًا، فسيُدخلُهم اللهُ تعالى جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ، ماكثين فيها على الدَّوامِ، لا انقطاعَ لتنعُّمِهم فيها، لهم فيها زوجاتٌ مطهَّراتٌ طهارةً حِسَّيَّةً من الأدناس، ومعنويَّةً من الأخلاقِ الرَّذيلةِ والصِّفات النَّاقصة، ويُدخِلُهم اللهُ تعالى ظلًّا ممتدًّا طيِّبًا.
تفسير الآيات:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا هدَّد اللهُ سبحانه وتعالى اليهودَ بقوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] فعند هذا قالوا: لسنا من المشركين، بل نحن خواصُّ اللهِ تعالى؛ كما حكى تعالى عنهم أنَّهم قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ، وحكى عنهم أنَّهم قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة: 80] ، وحكى أيضًا أنَّهم قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، وبعضُهم كانوا يقولون: إنَّ آباءَنا كانوا أنبياءَ فيشفَعون لنا.
وبالجملةِ فالقومُ كانوا قد بالَغوا في تزكيةِ أنفسِهم، فذكَر تعالى في هذه الآيةِ أنَّه لا عبرةَ بتزكيةِ الإنسان نفسَه، وإنَّما العبرةُ بتزكيةِ اللهِ له
قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ
أي: ألَا تتعجَّبُ- يا محمَّدُ- مِن حالِ هؤلاء اليهود والنَّصارى ومَن نحا نحوَهم في تزكيةِ نفوسِهم، فيُبرِّئون أنفسَهم من الذُّنوبِ والعيوب، ويزعمون لها من الخصائص والمُمَيِّزات ما ليس لها، افتراءً وكذبًا، ومن ذلك قولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى .
بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ
أي: ليس الأمرُ كما تزعمون، وإنَّما المرجعُ في ذلك إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وحدَه؛ لأنَّه العالمُ بحقائقِ الأمورِ؛ فهو الَّذي يُزكِّي ويُثني على مَن يشاءُ مِن عبادِه ممَّن هو أهلٌ لذلك .
قال تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32] .
وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا
أي: لا يظلِمُ اللهُ عزَّ وجلَّ هؤلاء الَّذين أخبَر عنهم أنَّهم يُزكُّون أنفسَهم، ولا غيرَهم مِن خَلقِه شيئًا، فلا يترُكُ لأحدٍ مِن الأجر شيئًا، حتَّى ما يوازنُ مقدارَ الفتيل، وهو الخيطُ الَّذي في شَقِّ النَّواةِ وبطنِها، أو هو الوسَخُ الَّذي يخرُجُ مِن بينِ أُصبُعيِ الرَّجُل، أو من بين كفَّيْه إذا فتَل إحداهما على الأخرى .
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أخبَر تعالى أنَّ التَّزكيةَ إنَّما هي إليه بما له مِن العظَمةِ والعِلمِ الشَّاملِ، وكان ذلك أمرًا لا نزاعَ فيه، وشهِد عليهم بالضَّلالِ- زاد في توبيخهم فقال معجِّبًا لرسولِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم من وقَاحتِهم واجترائِهم على مَن يعلَم كذبَهم، ويقدِرُ على معالجتِهم بالعذاب، مبيِّنًا أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحضرةِ بعد بيانِ بُعدهم ، قال:
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
أي: انظُرْ- يا محمَّدُ- كيف يفتري هؤلاء الَّذين يزكُّون أنفسَهم مِن أهلِ الكتاب وغيرِهم الكذِبَ والزُّورَ مِن القولِ بتزكيتِهم أنفسَهم, فيختلِقون ذلك على الله جلَّ وعلا .
وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا
أي: وحسبُهم بهذا الصَّنيعِ ذنبًا ظاهرًا، وافتراءً واضحًا يبيِّنُ كذبَهم لسامعيه, ويوضِّحُ لهم أنَّهم أَفَكَةٌ فَجَرَةٌ، ويكون موجبًا لاستحقاقِهم العقوبةَ البليغةَ، والعذابَ الأليم .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
سَببُ النُّزول:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: ((لَمَّا قدِم كعبُ بن الأشرفِ مكَّةَ، قالت له قريش: أنت خيرُ أهلِ المدينة وسيِّدُهم، قال: نعم، قالوا: ألا ترى إلى هذا المُنبَتِرِ من قومِه، يزعُمُ أنَّه خيرٌ منَّا، ونحن أهلُ الحجيجِ وأهلُ السِّدانةِ؟ قال: أنتم خيرٌ منه، فنزلت: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، ونزلت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ... إلى قوله: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا)) .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
أي: ألَا تعجَبُ- يا محمَّدُ- مِن حال هؤلاء اليهود الَّذين آتاهم اللهُ تعالى حظًّا من التَّوراة، وقامتْ عليهم الحُجَّةُ، ومع ذلك يؤمِنون بالجِبْتِ والطَّاغوت؟ .
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا
أي: يقولُ أولئك اليهودُ عن الكفَّار بأنَّهم أقومُ وأعدَلُ طريقًا من المؤمِنين .
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
أي: قد أبعَدهم اللهُ تعالى، وطرَدهم من رحمتِه .
وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا
أي: ومَن يطرُدْه اللهُ تعالى من رحمتِه، فلن تجدَ له- يا محمَّدُ- مَن ينصُرُه في الدُّنيا ولا في الآخرةِ فيتولَّاه ويقومُ بمصالحِه، ويحفَظُه عن المكارهِ .
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كانت النَّفسُ الإنسانيَّةَ لها قوَّتانِ: القوَّةُ العالِمة، والقوَّة العاملة؛ وكمال القوَّة العالِمة: العِلم، ونقصانُها: الجهل، وكمالُ القوَّة العاملة: الأخلاقُ الحميدة، ونقصانها: الأخلاقُ الذَّميمة، وأشدُّ الأخلاقِ الذَّميمة نقصانًا: البُخل والحسَد؛ لأنَّهما مَنشآنِ لعود المضارِّ إلى عباد الله- لذا وصَف الله تعالى اليهودَ في الآية المتقدِّمةِ بالجهل الشَّديد، وهو اعتقادُهم أنَّ عبادةَ الأوثان أفضلُ من عبادة الله تعالى، ووصَفهم في هذه الآية بالبُخلِ والحسَدِ فقال:
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ
أي: أم لهم حظٌّ من مُلكِ الله تعالى حتَّى يُفضِّلوا مَن شاؤوا بمجرَّدِ أهوائهم، بحيث يمنَعون فضلَ الله سبحانه على نبيِّه وأتباعِه، ويجعلون الفضلَ لهؤلاء الكفَّار؟ والمعنى: ليس لهم حظٌّ من المُلكِ ليفعَلوا ذلك .
فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا
أي: ولو كان لهم حَظٌّ من المُلكِ، لَمَا أعطَوْا أحدًا مِن النَّاس ولو نقيرًا (أي: النُّقطة الَّتي على ظهرِ النَّواةِ) مِن شدَّة بُخلِهم .
كما قال تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَامْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء: 100] .
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
أي: أمِ الحاملُ لهم على ذلك حَسَدُهم النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابَه على ما رزَقه الله تعالى من النُّبوَّةِ العظيمة؛ لكونه من العربِ، وليس من بني إسرائيلَ ؟
فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا
أي: ليس هذا أوَّلَ فضلٍ تفضَّلْنا به على عباد الله، بل إنَّ الفضلَ قد وُجِدَ من قبلُ في أسلافِكم من ذُرِّيَّة إبراهيمَ عليه السَّلام؛ حيث أعطاهم اللهُ تعالى النُّبوَّة، وأنزَل عليهم الكتبَ، وآتاهم الحِكمةَ، وهي ما أوحاه اللهُ تعالى إليهم ممَّا سوى الكتبِ الإلهيَّة، وآتاهم الملك الواسِعَ الكبير؛ كمُلك سليمانَ عليه السَّلام .
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ
أي: فمِن أهل الكتاب مَن آمَن بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وبالقرآنِ الَّذي أُنزل إليه، ومنهم مَن أعرَض عن ذلك ولم يُؤمِنْ، وسعَى في صَرْف النَّاس عن الإيمانِ بذلك .
وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا
أي: وحسْبُهم النَّارُ تُوقَدُ عليهم، فيُحرَقون فيها؛ عُقوبةً لهم على كفرِهم .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
بعدَما ذكَر الوعيد بالطَّائفة الخاصَّة مِن أهل الكتابِ، بيَّن ما يعُمُّ الكافرين مِن الوعيد فقال :
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا
أي: إنَّ الكافرين بآياتِ الله عزَّ وجلَّ- سواءٌ الآياتُ الكونيَّةُ أو الشَّرعيَّة- سيُدخِلُهم اللهُ تعالى النَّارَ فيحترِقون فيها .
كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا
أي: كلَّما انشوَتْ جلودُهم بالنَّارِ فاحترقتْ، أبدَلهم اللهُ تعالى بجلودٍ أخرى؛ فهُم على هذه الحالِ دائِمون .
لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ
أي: ليجِدوا أَلَمَ العذابِ وكَرْبَه وشدَّتَه .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو الغالبُ القاهرُ، العزيزُ في انتقامِه؛ فلا يقدِر على الامتناعِ منه أحدٌ أراده بضُرٍّ, ولا الانتصارِ منه أحدٌ أحلَّ به عقوبةً، وهو الحكيمُ الَّذي له الحكمةُ في خَلْقِه وقدَرِه، وثوابِه وعقابِه .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى وعيدَ الكفَّار، أعقَب بوعدِ المؤمنين، فقد جرَتْ عادةُ الله تعالى في هذا الكتابِ الكريمِ بأنَّ الوعدَ والوعيدَ يتلازمانِ في الذِّكر على سبيل الأغلبِ ، قال تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أي: والَّذين آمَنوا بالله ورسوله محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم وبما أنزل اللهُ عليه، وأدَّوا ما أمرهم الله عزَّ وجلَّ به من الطَّاعات, واجتنَبوا ما حرَّم اللهُ عليهم من المنهيَّات، مخلِصين لله تعالى، ومتَّبِعين في ذلك نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم .
سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
أي: سوف يُدخِلُهم اللهُ يوم القيامة جنَّاتٍ تجري الأنهارُ في جميع فِجاجِها ومحَالِّها وأرجائِها، ومن تحتِ أشجارِها وقصورِها .
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
أي: ماكثين في تلك الجنَّاتِ على الدَّوام، بغير نهايةٍ ولا انقطاعٍ .
لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ
مناسبتها لما قبلها
لَمَّا وصَف تعالى حُسنَ الدَّارِ، ذكَر حُسنَ الجارِ ، فقال تعالى:
لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ
أي: لهم في تلك الجنَّات زوجاتٌ مطهَّرات طهارةً حِسِّيَّة من الأدناسِ؛ كالحيضِ، والغائط، والبول، والحَبَل، والبُصاق، والرَّائحة المنتِنة، وسائر ما يكون في نساء أهلِ الدُّنيا، ومطهَّراتٌ طهارةً معنويَّةً من الأخلاقِ الرَّذيلة، والصِّفات النَّاقصة .
وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا
أي: ونُدخِلُهم ظلًّا كنينًا غزيرًا طيِّبًا ممتدًّا، لا يَستحيلُ ولا ينتقل

.
كما قال تعالى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة: 30] .
الفوائد التربوية :

1- النَّهيُ عن تزكيةِ النَّفس، والإنكارُ على مَن يزكِّي نفسَه؛ وجه ذلك أنَّ قوله: أَلَمْ تَرَ استفهامٌ إنكاريٌّ، كما صرَّح به في قوله: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى
[النجم: 32] .
2- أنَّ تزكيةَ الغيرِ لا بأس بها؛ لأنَّ النَّهيَ أو الإنكارَ مُنصبٌّ على تزكيةِ النَّفس كما قال تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، أمَّا لو زكَّى غيرَه فإنَّ ذلك لا بأسَ به، ويَنبغي ألا يُزكِّي غيرَه بمجرَّدِ المَظْهرِ، بل لا بدَّ من خِبرةٍ .
3- أنَّه يجبُ على الإنسان أنْ يلجأَ في طلب التَّزكيةِ إلى الله؛ لقوله: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ، فأنت إذا علِمتَ أنَّ اللهَ هو الَّذي يزكِّي فاسألِ اللهَ .
4- تزكيةُ النَّفس تكون بالعملِ الَّذي يجعَلُها زاكيةً، أي: طاهرةً كثيرةَ الخير والبركة، فتزكيةُ النَّفس بالفعل عبارةٌ عن تنميةِ فضائلِها وخَيراتها، ولا يتمُّ ذلك إلَّا باجتنابِ الشُّرور الَّتي تُعارضُ الخيرَ وتعُوقه، وهذه التَّزكيةُ محمودةٌ، وهي المرادةُ بقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس: 9] ، أي: نفسَه، وتكون بالقول، وهو ادِّعاءُ الزَّكاءِ والكمال، ومنه تزكيةُ الشُّهود، وقد أجمَع العقلاءُ على استقباحِ تزكيةِ المرء لنفسِه بالقول، ومدحِها ولو بالحقِّ، ولَتزكيتُها بالباطل أشدُّ قُبحًا، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وهذا النَّوعُ مِن التَّزكية مصدرُه الجهلُ والغرورُ، ومِن آثاره العتوُّ والاستكبارُ عن قَبولِ الحقِّ، والانتفاعِ بالنُّصحِ .
5- التَّحذيرُ من التَّعرُّض لِلَعنة الله؛ لأنَّ الإنسانَ إذا تعرَّض لِلَعنة الله وحقَّت عليه لن يجدَ مَن يَنصُره، قال تعالى: وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا .
6- بيانُ أنَّ الله أنعَم على هؤلاء الحسَدةِ بما ذكَره في قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ... الآية؛ فلا وجهَ للحسَدِ مع ما أعطاهم اللهُ تعالى من الفَضْل، وهذا أيضًا مِن الدَّواءِ الَّذي يُداوي به الإنسانُ الحسَدَ، فيقول مثلًا: ما لي أحسُدُ فلانًا وقد أعطاني اللهُ كذا وكذا

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- الرَّدُّ على القدَريَّةِ، الَّذين يقولون باستقلالِ الإنسانِ في عملِه، ويؤخذ من قوله: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ
.
2- إثباتُ المشيئةِ لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله: مَنْ يَشَاءُ، وأنَّ الله سبحانه له مشيئةٌ، يدبِّر الأمرَ بحسَب هذه المشيئة، ولكنَّ هذه المشيئةَ ليست مشيئةً مجرَّدةً عن الحكمة، بل هي مشيئةٌ مقرونة بالحِكمة .
3- نفيُ الظُّلم عن الله؛ لقوله: وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا، وليس في صِفاتِ الله ما هو نفيٌ محضٌ؛ فكلُّ نفيٍ في صفاتِ الله فهو متضمِّنٌ لإثبات؛ فقوله: وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا، أي: لأنَّ الله كاملُ العدل، ومَن كان كاملَ العدل فإنَّه لا يَظلِمُ فتيلًا .
4- قوله تعالى: وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا، الآية تدلُّ على أنَّ الله تعالى يَجزي كلَّ عاملِ خيرٍ بعمله، وإنْ كان مشرِكًا; لأنَّ لعملِه أثرًا في نفسه يكونُ مناطَ الجزاء، فإذا لم يصِلْ تأثيرُ عملِ المشرِكِ إلى الدَّرجة الَّتي يكون بها النَّجاةُ من العذاب ألبتَّةَ، فإنَّ عمله ينفعُه بكون عذابِه أقلَّ مِن عذابِ مَن لم يعمَلْ من الخير مِثلَ عملِه .
5- قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ جعَل افتراءَهم الكذبَ لشِدَّة تحقُّقِ وقوعه، كأنَّه أمرٌ مَرئيٌّ ينظرُه النَّاسُ بأعينهم، وإنَّما هو ممَّا يُسمَعُ ويُعقَلُ .
6- دعوة الإنسانِ إلى العجَبِ فيما يُتعجَّبُ منه، وأنَّ هذا من طُرُقِ القرآن؛ لقوله: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ .
7- تعظيمُ الكذِبِ على الله؛ لأنَّه لم يؤمَرْ بالتَّعجُّبِ منه إلَّا لأنَّه شيءٌ عظيم؛ ولقوله: وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا، يعني: ما أعظَمَه وما أكثَرَه، إذا افترى على الله الكذِبَ أن يأثَمَ هذا الإثمَ !
8- بيانُ قُبحِ صَنيعِ المذكورينَ في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ.... الآية؛ حيث إنَّ اللهَ قد أعطاهم نصيبًا من الكتاب، ومع ذلك قالوا للكفَّار: إنَّهم أهدى من المؤمنين، ومعلوم أنَّ مَن حكَم بخلاف ما يعلَمُ فهو أقبحُ ممَّن حكَم بما لا يعلَمُ، والكلُّ قبيحٌ، لكن الأوَّل أشدُّ !
9- بيانُ استحقاقِ مَن آمَن بالجِبْتِ والطَّاغوت، وقال للَّذين كفروا: إنَّهم أهدى من الَّذين آمنوا سبيلًا- لِلَعنةِ الله، وبيانه أنَّ كلَّ مَن قال مِثل هذا القول فإنَّه مستحِقٌّ لِلَعنة الله؛ لقوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وأحكامُ الله سبحانه الشَّرعيَّةُ والجزائيَّةُ لا تتعلَّقُ بالأشخاص أبدًا، فإذا استحقَّ هؤلاء اللَّعنَ بإيمانِهم بالجِبْتِ والطَّاغوت، وقولِهم: لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا؛ فمَن جرى مجراهم استحقَّ ما يستحقُّون من العقاب .
10- تأثيرُ الدِّعاية بلَبْس الحقِّ بالباطل، وإلَّا فمن المعلومِ أنَّ الكافرَ فيما يرمي إليه أو فيما يذهب إليه، ليس فيه هدايةٌ إطلاقًا، ومع ذلك قالوا: إنَّهم أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. ويتفرَّعُ على هذه الفائدة: ما عليه بعضُ النَّاس اليومَ من قوله: إنَّ الكفَّار أوفى بالعهد من المؤمنين، وإنَّهم أخلصُ مِن المؤمنين، وأنصحُ من المؤمنينَ، وما أشبهَ ذلك، فمَن قال هذا في المسلمين، فإنَّ فيه شَبَهًا من اليهود، ونحن لا نُنكِر أنَّ في المسلمين مَن خالَف طريقَ الإسلامِ بعدمِ الصِّدق في القول، وعدمِ الوفاءِ بالعهدِ، وعَدَمِ الوفاء بالوعدِ، وعدم النُّصح في العمل، ولكنْ كلُّ هذه الأخلاق حذَّر منها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أشدَّ التَّحذير؛ فهي أخلاقٌ دخيلة على المُسْلمين، وسببُها ما كان عليه هؤلاء من النَّقصِ في العِلم وفي الإيمان .
11- تحريمُ تفضيلِ الكفَّار على المؤمنين؛ لأنَّ الله تعالى أنكَره بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ.. إلى آخره .
12- قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فيه أنَّ الحسَدَ لا يحصُلُ إلَّا عند الفضيلة، فكلَّما كانت فضيلةُ الإنسان أتمَّ وأكملَ كان حسَدُ الحاسدينَ عليه أعظمَ، ومعلومٌ أنَّ النُّبوَّة أعظمُ المناصبِ في الدِّين، ثمَّ إنَّه تعالى أعطاها لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وضمَّ إليها أنَّه جعَله كلَّ يومٍ أقوى دولةً وأعظَمَ شوكةً وأكثرَ أنصارًا وأعوانًا، وكلُّ ذلك ممَّا يوجِبُ الحسَدَ العظيمَ .
13- في قوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا المراد بـالْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ كمالُ العِلم، وأمَّا المُلكُ العظيمُ فهو كمالُ القُدرة، وقد ثبَتَ أنَّ الكمالاتِ الحقيقيَّةَ ليستْ إلَّا العِلمَ والقدرةَ؛ فهذا الكلامُ تنبيهٌ على أنَّه سبحانه آتاهم أقصى ما يَليقُ بالإنسانِ من الكمالاتِ، ولَمَّا لم يكُنْ ذلك مستبعَدًا فيهم لا يكونُ مستبعَدًا في حقِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
14- وتَضمَّن قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا... تسليةَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم في كونِهم يحسُدونه ولا يتَّبِعونه، فذكَر أنَّهم أيضًا مع أسلافِهم وأنبيائِهم انقسَموا إلى مؤمنٍ وكافرٍ، هذا وَهُم أسلافُهم، فكيف بنبيٍّ ليس هو منهم ؟!
15- أنَّ الإحساسَ إنَّما يكونُ في الظَّاهر؛ لقوله: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ فهي الَّتي يقعُ عليها العذابُ، والعياذُ بالله، هذا هو الظَّاهرُ .
16- إثباتُ الحكمة لله عزَّ وجلَّ في أفعالِه، وتؤخذ من قوله: لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ، وهكذا كلَّما رأيتَ لامَ التَّعليلِ بعد حُكمٍ كونيٍّ أو شرعيٍّ، فإنَّها تُفيدُ إثباتَ الحكمة لله عزَّ وجلَّ .
17- أنَّ أهلَ الجنَّة يُنعَّمون في الدُّنيا وفي الآخرة؛ لقوله: سَنُدْخِلُهُمْ؛ لأنَّ السِّينَ تدلُّ على القُربِ، وأنَّ أصحابَ الجنَّة هم في الجنَّة في الدُّنيا وفي الآخرة؛ لأنَّه لا أحدَ أطيبُ عيشًا ممَّن آمَن وعمِل صالحًا .
18- إنَّما قدَّم تعالى ذِكرَ الكفَّار ووعيدَهم، على ذِكرِ المؤمنين ووعْدِهم؛ فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا ... ثم أتبعه بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ؛ لأنَّ الكلامَ فيهم، وذِكْر المؤمنين بالعَرَض

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ في تصدير الجملةِ بـ:(بل) تصريحٌ بإبطالِ تزكيتهم، وأنَّ الَّذين زكَّوْا أنفسَهم لا حظَّ لهم في تزكيةِ الله، وأنَّهم ليسوا ممَّن يشاءُ اللهُ تزكيتَه، ولو لم يذكر (بل) فقيل: واللهُ يُزكِّي مَن يَشاء، لكان لهم مطمَعٌ أنْ يكونوا ممَّن زكَّاه الله تعالى
.
2- قوله: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ فيه تلوينُ الخِطاب في قوله: يَفْتَرُونَ؛ حيث أقام المضارعَ مقامَ الماضي؛ إعلامًا أنَّهم مستمرُّون على ذلك .
3- قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ: اسمُ الإشارة أُولَئِكَ وما فيه مِن معنى البُعد مع قُربهم في الذِّكر؛ للإشعارِ ببُعدِ منزلتِهم في الضَّلال، والجملةُ مستأنَفةٌ لبيانِ حالِهم وإظهارِ مصيرِهم ومآلِهم .
4- قال تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا:
- قوله: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ: أَمْ مُنقطعةٌ تُفَسَّرُ بـ(بل) وهمزةِ الاستفهامِ، أي: بلْ أَلَهم، والاستفهامُ فيه إنكاريٌّ، حُكمُه حُكم النَّفي، ومعناه التَّوبيخُ والتَّقريع، وإنكارُ أنْ يكونَ لهم نصيبٌ من المُلْك، وجَحْدٌ لِما زعَمَت اليهودُ مِن أنَّ المُلك سيصير إليهم، ويجوز أن يكون المعنى إنكارَ أنَّهم أوتوا نصيبًا من المُلك على الكِناية، وأنَّهم لا يؤتونَ النَّاسَ شيئًا .
- قوله: فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا: فائدة (إذًا) تأكيدُ الإنكار والتَّوبيخ؛ حيث يجعَلون ثبوتَ النَّصيبِ سببًا للمنعِ، مع كونه سببًا للإعطاء .
- وفيه: تَعريضٌ؛ حيث عرَّض بشدَّة بُخلِهم .
5- قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا:
- قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ: أَمْ مُنقطعةٌ بمعنى (بل)، وهمزةِ الاستفهامِ لإنكارِ الحسَدِ واستقباحِه .
- قوله: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ: فيه إجراءُ الكلام على سَنَنِ الكبرياءِ؛ حيث عبَّر بقوله: آتَيْنَا بطريق الالتِفاتِ؛ لإظهارِ كمالِ العنايةِ بالأمر .
- قوله: وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا: في وصْفِ المُلك بالعِظَم، وتنكيرِه التَّفخيميِّ مِن تأكيد الإلزامِ، وتشديدِ الإنكار ما لا يَخفَى .
6- قوله: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كلمة (سوف) تُذكَر للتَّهديد والوعيد، وينوبُ عنها السِّين، وقد يُذكرانِ في الوعدِ فيُفيدان التَّأكيد، أي: ندخلُهم نارًا عظيمة هائلةً .
7- قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا واقعٌ موقعَ التَّعليل لِمَا قبله؛ فالعزَّة يتأتَّى بها تمامُ القُدرة في عقوبةِ المجترئ على الله، والحكمة يتأتَّى بها تلك الكيفيَّةُ في إصلائِهم النَّارَ . مع تأكيد الخبرِ بـ: (إنَّ) واسميَّةِ الجملة.
- وإظهار الاسم الجليلِ (الله) بطَريقِ الالتفات؛ لتهويلِ الأمرِ وتربيةِ المَهابة، وتعليلِ الحُكم .
8- قوله: ظِلًّا ظَلِيلًا: (ظليلًا) صفةٌ مشتقَّة من الظِّلِّ؛ لتأكيده ، ؛ للدَّلالةِ على بلوغِه الغايةَ في جِنسِه .

======================6.


سُورةُ النِّساءِ
الآيتان (58- 59)
ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ
غريبُ الكَلِمات:

نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ: (نِعمَّا) كلمةٌ مركَّبة من (نِعم) و(مَا)، أي: نعمَ شيئًا يعِظُكم به
.
تَأْوِيلًا: أي: عاقبةً ومعنًى وترجمةً وثوابًا في الآخِرة، والتَّأويل مِن أَوَل، أي: رجَع إلى الأصل، ومنه قِيل: مَوْئِل، للموضِعِ الَّذي يُرجَع إليه، وهو ردُّ الشَّيء إلى الغاية المرادة منه

.
مشكل الإعراب:

قَوْله: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا... أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
أَنْ تُؤَدُّوا: مصدر مؤوَّل بالصَّريح- أي: (تَأْدِية)، ومثله أَنْ تَحْكُمُوا، أي: حُكْم- وهو في مَوضِع نصْب؛ إمَّا على إسقاط حرف الجرِّ (نزْع الخافض)، وأَصله: بِأَنْ تُؤَدُّوا، وَبِأَنْ تَحكُموا؛ لأنَّ حذفه يطَّرد مع (أنْ)
إذا أُمِن اللَّبس لطولهما بالصِّلة، وإمَّا لأنَّ الفعل (أَمَرَ) يَتعدَّى إلى المفعول الثاني بنفسه، نحو: (أمرتك الخير) .
أَنْ تَحْكُمُوا: معطوف على أن تُؤدُّوا، أي: يأمرُكم بتأديةِ الأمانات، وبالحُكمِ بالعَدل، فيكون فيه فصلٌ بين حرْف العطف والمعطوف بالظَّرف . وقيل: أَنْ تَحْكُمُوا المذكور مفسِّرٌ للمحذوف مِن عامل وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ حيث إنَّه قد حُذِف فعلٌ، تقديرُه: يأمرُكم أن تَحكُموا إذا حكمتم؛ فلا موضعَ لـأنْ تَحْكُمُوا؛ لأنَّه مُفسِّرٌ للمحذوف، والمحذوف مفعولُ يَأْمُرُكُمْ، ولا يجوز أن يعمل أَنْ تَحْكُمُوا في إِذَا؛ لأنَّ معمولَ المصدر لا يَتقدَّم عليه

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يأمُر الله عباده بردِّ الأمانات إلى أصحابها، وأن يحكُموا بالعدل إذا حكَموا بين النَّاس، ونِعْم ما يأمرهم اللهُ به من أداء الأمانات والحُكم بالعَدْل بين النَّاس، إنَّ الله كان سميعًا بصيرًا.
ثمَّ أمر الله تعالى عبادَه المؤمنينَ بطاعَتِه سبحانه، وطاعةِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنْ يُطيعوا من يتولَّون أمورَهم الدِّينيَّةَ والدُّنيوية، وهم العلماءُ والأمراء، يطيعونهم فيما لا يخالِفُ طاعةَ الله، وطاعةَ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، ويُرشِدُ اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين أنَّه في حال اختلفوا في شيءٍ مِن أَمْر دِينهم، فَلْيطلبوا معرفةَ حُكمِه من كتاب الله تعالى، وسنَّةِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، إن كانوا يؤمنونَ بالله واليومِ الآخِر، ذلك خيرٌ لهم، وأفضلُ، في دِينهم ودنياهم وآخِرَتِهم.
تفسير الآيتين:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا حكى عن أهلِ الكتابِ أنَّهم كتَموا الحقَّ، وذَكَر مِن أحوالِهم في تحريفِهم الكلِمَ عن مواضعه، وليِّهم ألسِنَتَهم، وافترائِهم على الله الكذبَ، وحسَدِهم بإنكارِ فضلِ الله؛ إذ آتاه الرَّسولَ والمؤمنينَ، وقولِهم للَّذين كفروا: هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا كلُّ ذلك يشتملُ على خيانةِ أمانةِ الدِّين، والعِلم، والحقِّ، والنِّعمة، وهي أماناتٌ معنويَّة- فناسَب أن يُعقِّبَ ذلك بالأمر بأداءِ الأمانة الحسِّيَّة إلى أهلِها، ويتخلَّص إلى هذا التَّشريعِ، فأمَر المؤمنينَ بأداءِ الأماناتِ في جميعِ الأمور، سواءٌ كانت تلك الأمورُ من باب المذاهبِ والدِّياناتِ، أو من باب الدُّنيا والمعاملاتِ
.
وأيضًا لَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى وعْدَ المؤمنينَ، وما لهم من الثَّوابِ العظيم، وذكَر عمَل الصالحاتِ، نبَّه على عملينِ شريفينِ مِن أَجَلِّ الأعمالِ الصالحةِ، مَن اتَّصَفَ بهما كان أحرى أن يتَّصفَ بغيرهما من الأعمال الصَّالحة؛ فأحدُهما: ما يختصُّ به الإنسانُ فيما بينه وبين غيره؛ وهو أداءُ الأمانة، والثَّاني: ما يكونُ بين اثنينِ من الفَصْل بينهما بالحُكْم العدلِ الخالي عن الهوى، وهو مِن الأعمالِ العظيمة الَّتي أمر الله بها رسلَه وأنبياءه والمؤمنينَ، ولَمَّا كان الترتيبُ الصَّحيح أن يبدأَ الإنسانُ بنفسِه في جَلْبِ المنافع ودفعِ المضارِّ، ثمَّ يشتغلَ بحال غيره، أمَر بأداءِ الأمانة أوَّلًا، ثمَّ بعده أَمَر بالحُكم بالحقِّ فقال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
أي: إنَّ مَن له الألوهيَّةُ والحُكم عزَّ وجلَّ، يأمركم بأن تردُّوا كلَّ ما اؤْتُمِنْتم عليه إلى أصحابه، سواءٌ كان من حقوقِ الله تعالى أو مِن حقوقِ عباده؛ فرُدُّوه كاملًا موفَّرًا، من غير نقصٍ ولا بخسٍ ولا مماطلةٍ .
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
أي: ويأمُرُكم اللهُ تعالى أيضًا بالحُكم بالعدل في كلِّ شيء، ومع كلِّ أحدٍ من النَّاس؛ وذلك بالحُكم بشريعةِ الله تعالى فهي العدل كُلُّه .
إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ
أي: ونِعم الشَّيءُ يعِظُكم به ربُّكم سبحانه وتعالى في أمرِه لكم- أداءُ الأماناتِ إلى أهلها، والحُكمُ بالعدل بين النَّاس .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا
أي: إنَّه سبحانه سميعٌ لأقوالكم، بصيرٌ بأفعالكم، ومن ذلك أداءُ الأمانات إلى أهلِها، وحُكمُكم بين النَّاس .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمر سبحانه الرُّعاةَ والوُلاة بالعدلِ في الرَّعيَّة، ورغَّب فيه ورهَّب مِن تَرْكِه، أمَر الرَّعيَّة بطاعة الولاةِ .
سَببُ النُّزول:
عن ابن عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما أنَّه قال في قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] ، قال: ((نزَلت في عبدِ الله بن حُذَافةَ بن قيس بن عدي؛ إذ بعَثه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في سَريَّة )) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
أي: يا أيُّها المؤمنون أطيعوا اللهَ تعالى، وأطيعوا رسوله محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم، وذلك بامتثالِ أمْرِهما، واجتنابِ نَهْيِهما .
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
أي: وأطيعوا أيضًا الوُلاةَ عليكم الَّذين يَلُون لكم أمورَ دِينكم ودنياكم، وهم الأمراء والعُلماء؛ فأطيعوهم فيما لم يكُنْ فيه مخالفةٌ لطاعة الله تعالى وطاعةِ رسوله عليه الصَّلاة والسَّلام .
عن عليِّ بن أبي طالب رضِي اللهُ عنه، قال: ((بعث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سرِيَّةً، واستعمل عليهم رجلًا من الأنصارِ، وأَمَرَهم أن يسمعوا له ويُطيعوا، فأغضبُوه في شيءٍ، فقال: اجمَعوا لي حطبًا، فجمَعوا له، ثمَّ قال: أَوقِدوا نارًا، فأوقَدوا، ثمَّ قال: ألم يأمُرْكم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخُلوها، قال: فنظر بعضُهم إلى بعضٍ، فقالوا: إنَّما فرَرْنا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من النَّارِ، فكانوا كذلك، وسَكَن غضبُه، وطُفِئَتِ النَّارُ، فلمَّا رجعوا ذكروا ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: لو دَخَلوها ما خرَجوا منها؛ إنَّما الطَّاعةُ في المعروفِ )) .
وفي رواية: ((لا طاعةَ في معصيةِ اللهِ، إنَّما الطَّاعة في المعروفِ )) .
وعن عُبادة بن الصَّامتِ رضِي اللهُ عنه، قال: ((بايَعْنا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على السَّمعِ والطَّاعة في المَنْشَطِ والمَكْرَهِ، وألَّا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، وأن نقومَ- أو: نقولَ- بالحقِّ حيثُما كنَّا لا نَخافُ في اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ )) .
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
أي: فإن اختلفتم- أيُّها المؤمنون- في شيءٍ مِن أمرِ دِينكم؛ مِن أصولِه وفروعِه، فاطلبوا معرفةَ حُكمِه من كتابِ الله تعالى وسنَّةِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم .
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
أي: افعلوا ذلك إن كنتم مؤمنين بالله تعالى حقًّا، ومؤمنين بالآخرة أيضًا .
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
أي: ردُّكم لِما اختلفتُم فيه إلى الكتاب والسُّنَّة خيرٌ لكم وأفضلُ، في دِينكم ودنياكم وآخرتِكم، وأحسنُ عاقبةً

.
الفوائد التربوية:

1- معاملة الإنسانِ إمَّا أن تكونَ مع ربِّه أو مع سائر العبادِ، أو مع نفسِه، ولا بدَّ من رعايةِ الأمانةِ في جميع هذه الأقسام الثَّلاثة، أمَّا رعايةُ الأمانةِ مع الرَّبِّ: فهي في فِعلِ المأمورات وتَرْك المنهيَّاتِ، وأمَّا القِسْم الثَّاني: وهو رعايةُ الأمانة مع سائر الخَلْقِ، فيدخُلُ فيه ردُّ الودائع، ويدخُلُ فيه تركُ التَّطفيفِ في الكَيل والوزن، ويدخل فيه ألَّا يُفشيَ على النَّاس عيوبَهم، ويدخلُ فيه عدلُ الأمراء مع رعيَّتِهم، وعدلُ العلماء مع العوامِّ بألَّا يَحْمِلوهم على التَّعصُّبات الباطلة، بل يرشدونهم إلى اعتقاداتٍ وأعمالٍ تنفَعُهم في دنياهم وأخراهم، ويدخل فيه أمانةُ الزَّوجة للزَّوج في حفظِ فرجِها، وفي ألَّا تُلحِقَ بالزَّوج ولدًا يُولَدُ من غيره، وغيرها، وأمَّا القِسْم الثَّالث: وهو أمانةُ الإنسان مع نفسِه فهو ألَّا يختارَ لنفسه إلَّا ما هو الأنفعُ والأصلحُ له في الدِّين والدُّنيا، وألَّا يُقدِمَ بسبب الشَّهوة والغضبِ على ما يضُرُّه في الآخرة، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
.
2- نستفيد من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وجوبَ أداء الشَّهادة على الشَّاهد كما تحمَّلَها؛ لأنَّ الشَّاهدَ مؤتَمَنٌ، فيجبُ عليه أن يؤدِّيَ الشَّهادةَ كما تحمَّلَها من غير زيادةٍ ولا نقص، وهل يجوز أن يؤدِّيَها بالمعنى؟ الجواب: نَعم، إذا كان عالِمًا بالمعنى، ولم يحدُثْ ما يتغيَّرُ به المعنى، فإنَّه لا بأس أن يؤدِّيَها بالمعنى .
3- قوله: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ فيه التَّعبيرُ بالعدل دون المساواة، التي شُغِف بالتعبير بها كثيرٌ من العصريِّين، ولا تكادُ تجدُ أحدًا منهم يقول: الدِّينُ الإسلاميُّ دِينُ العَدْلِ، بل يقولُ: الدِّينُ الإسلاميُّ دِينُ المساواة؛ مما جعل المرأة تقول: لا بدَّ أن أُعامَلَ كما يعامَلُ الرَّجلُ، وجعل الرَّجلُ السَّاقطُ الَّذي لا خيرَ فيه يقول: لا بدَّ أن أعامَلَ كما يعامَلُ الشَّريفُ، وهلمَّ جرًّا، لكن إذا استعملنا العَدْلَ، فمعناه أن نُنْزِلَ كلَّ إنسانِ منزلتَه .
4- الرَّدُّ إلى اللهِ ورسوله شرطٌ في الإيمانِ؛ فلهذا قال: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فدلَّ ذلك على أنَّ مَن لم يرُدَّ إليهما مسائلَ النِّزاعِ فليس بمؤمنٍ حقيقةً

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف :

1- قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ...هاتانِ الآيتانِ هما أساسُ الحُكومة الإسلاميَّةِ، ولو لم يَنزِلْ في القرآن غيرُهما لكَفَتَا المسلِمين في ذلك إذا هم بنَوْا جميعَ الأحكامِ عليهما
.
2- وفي قوله: إِلَى أَهْلِهَا دلالةٌ على أنَّها لا تُدفَع وتؤدَّى لغير المؤتَمِن، ووكيلُه بمنزلتِه؛ فلو دفعها لغير ربِّها لم يكُنْ مؤدِّيًا لها .
3- أنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ تُسمَّى موعظةً؛ لأنَّ الله تعالى قال: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ، مع أنَّه ليس فيها وعيدٌ، وليس فيها تهديدٌ، وإنَّما فيها بيانُ أحكامٍ .
4- أنَّه تعالى لَمَّا أمَر في هذه الآيات بالحُكمِ على سبيل العدلِ وبأداءِ الأمانة، قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا، أي: إذا حكمتَ بالعدلِ فهو سميعٌ لكلِّ المسموعاتِ، يسمَعُ ذلك الحُكم، وإن أدَّيْتَ الأمانةَ فهو بصيرٌ لكلِّ المُبصَراتِ، يُبصِرُ ذلك، ولا شكَّ أنَّ هذا أعظمُ أسبابِ الوعد للمُطِيع، وأعظمُ أسباب الوعيد للعاصي .
5- كلَّما كان احتياجُ العبدِ أشدَّ، كانت عنايةُ الله أكملَ، والقضاةُ والوُلاةُ قد فوَّض الله إلى أحكامِهم مصالحَ العباد، فكان الاهتمامُ بحُكمهم وقضائِهم أشدَّ؛ فهو سبحانه مُنزَّه عن الغفلةِ والسَّهو والتَّفاوت في إبصار المبصَراتِ وسماعِ المسموعات، ولكن لو فرَضْنا أنَّ هذا التَّفاوتَ كان ممكِنًا، لكان أَولى المواضعِ بالاحترازِ عن الغفلةِ والنِّسيان هو وقتَ حُكمِ الولاة والقضاة، فلمَّا كان هذا الموضعُ مخصوصًا بمزيد العنايةِ، لا جرَمَ قال في خاتمة هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا فما أحسَنَ هذه المقاطعَ الموافِقةَ لهذه المطالعِ .
6- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ إنَّما أُعِيد فِعلُ: (وأطيعوا الرَّسول) مع أنَّ حرفَ العطف يُغني عن إعادته؛ إظهارًا للاهتمامِ بتحصيل طاعةِ الرَّسول؛ لتكونَ أعلى مرتبةً من طاعةِ أُولي الأمر، ولينبِّهَ على وجوب طاعتِه فيما يأمُرُ به، ولو كان أمرُه غيرَ مقترنٍ بقرائنِ تبليغ الوحيِ؛ لئلا يتوهَّمَ السَّامعُ أنَّ طاعةَ الرَّسول المأمورَ بها ترجعُ إلى طاعةِ الله فيما يُبلِّغُه عن الله دون ما يأمُرُ به في غير التَّشريعِ؛ فإنَّ امتثالَ أمرِه كله خيرٌ ، وأيضًا ليفيد بيان الدَّلالتين؛ فالكتاب يدلُّ على أمرِ الله، ثمَّ نعلَمُ منه أمرَ الرَّسول لا محالةَ، والسُّنَّةُ تدلُّ على أمر الرَّسول، ثمَّ نعلَمُ منه أمرَ الله لا محالةَ، فثبَت بما ذكرناه أنَّ قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يدلُّ على وجوب متابعةِ الكتاب والسُّنَّة

.
بَلاغةُ الآيتين:

1- قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ: جملةٌ مستأنَفة مُقرِّرة لِما قبلها، متضمِّنةٌ لمزيدِ لُطفٍ بالمخاطَبينَ، وحُسْنِ استدعاءٍ لهم إلى الامتثالِ بالأمرِ، و(إنَّ) فيها لمجرَّدِ الاهتمامِ بالخَبَر؛ لظهورِ أنَّ مِثلَ هذا الخبرِ لا يقبَلُ الشَّكَّ حتَّى يُؤكَّدَ؛ لأنَّه إخبارٌ عن إيجاد شيءٍ لا عن وجوده، فهو والإنشاءُ سواءٌ
.
- قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ فيهِ بيانُ عظَمةِ الله عزَّ وجلَّ؛ وذلك حيث عبَّر عن نفْسِه تباركَ وتعالى بصيغةِ الغائِبِ التي تدُلُّ على التَّعظيمِ .
2- قوله: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ واقعةٌ موقعَ التَّحريضِ على امتثالِ الأمرِ، فكانت بمنزلة التَّعليلِ، وأغنَتْ (إنَّ) في صَدْرِ الجملة عن ذِكر فاءِ التَّعقيبِ، كما هو الشَّأن إذا جاءت (إنَّ) للاهتمامِ بالخبرِ دون التَّأكيدِ .
3- قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا خبرٌ فيه وعدٌ ووعيدٌ، وإظهارُ الجلالة فيه تأكيدٌ لكلٍّ من الوعدِ والوعيدِ ، مع ما في تأكيدِ الخبر بـ(إنَّ) واسميَّةِ الجُملةِ.
4- قوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ: لفظ شَيْء نكِرة متوغِّلة في الإبهام؛ فهو في حيِّز الشَّرط يُفيدُ العموم، أي في كلِّ شيءٍ، فيصْدُقُ بالتَّنازعِ في الخُصومة على الحقوق، ويصدُقُ بالتَّنازع في اختلاف الآراء عند المشاوَرةِ، أو عند مباشَرةِ عملٍ ما؛ كتنازُعِ ولاةِ الأمورِ في إجراءِ أحوالِ الأمَّةِ، ولقد حسَّن موقعَ كلمةِ (شيءٍ) هنا تعميمُ الحوادثِ وأنواعِ الاختلافِ .
5- قوله: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شرطٌ، وجوابُه محذوفٌ، أي: فردُّوه إلى اللهِ والرَّسولِ، وهو شرطٌ يُرادُ به الحضُّ على اتِّباع الحقِّ؛ لأنَّه ناداهم أولًا بـيا أيها الذين آمنوا، فصار نظير: إنْ كُنتَ ابني فأَطِعْني. وفيه إشعارٌ بوعيدِ مَن لم يَرُدَّ إلى اللهِ تعالى والرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهو تحريضٌ وتحذيرٌ معًا؛ لأنَّ الإيمانَ باللهِ واليومِ الآخِرِ وازعانِ يَزعانِ عن مُخالفةِ الشَّرعِ، والتَّعريضِ بمصالحِ الأمَّة للتَّلاشي، وعن الأخْذ بالحُظوظِ العاجلةِ مع العِلم بأنَّها لا تُرضي اللهَ وتضرُّ الأمَّة؛ فدأب المسلم الصادق الإقدام عند اتضاح المصالح، والتأمُّل عِندَ الْتِباسِ الأمرِ، وأنْ يصدُرَ بعدَ عَرْضِ المُشكِلاتِ على أصولِ الشَّريعة .

================7.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (60- 65)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ
غريبُ الكَلِمات:

يَزْعُمُونَ: يَكذِبون، والزَّعم: يُطلَق على حِكايةِ قولٍ يكونُ مَظِنَّةً للكذبِ، وعَلَى اعتقادِ الباطِل بتقوُّلٍ، والقَولِ مع الظَّنِّ، ويُطلَقُ كذلك على الكَلامِ الذي لا سَنَدَ له، وإنَّما يُحكَى على الْأَلْسُنِ على سَبيلِ البَلاغِ، وأصلُ (زعم): القولُ مِن غير صِحَّةٍ ولا يقينٍ
.
أَنْ يَتَحَاكَمُوا أي: أنْ يَجْعَلوه حَكَمًا، أي: قاضيًا، والحُكم بالشَّيء: القضاء بأنَّه كذا أو ليس بكذا، سواء ألزَمْتَ ذلك غيرَكَ أو لم تُلْزِمْه، والإحكامُ هو الفَصلُ والتَّمييزُ، والفَرْق والتحديدُ الذي به يَتحقَّقُ الشيء ويحصُل إتقانُه، وأصل (حَكَم): مَنَع منعًا لإصلاحٍ، ومِنه سُمِّيت اللِّجام: حَكَمَةَ الدابَّة .
بَلِيغًا: أي: قَويًّا يَبْلُغُ شَغَافَ قلوبِهم لبَلاغَتِه وفَصاحتِه، ومن بلاغةِ الكلامِ أنْ يكون صوابًا في موضوعِ لُغتِه، وطِبقًا للمعنى المقصودِ به، وصِدْقًا في نفْسه. وأصل (بلغ): الوُصولُ إلى الشَّيءِ .
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ: أي: فيما اختلَفوا فيه، واختلَط بينهم، والتَّشاجُر: المنازَعةُ، وأصْلُ (شجر): تداخُلُ الشَّيءِ بَعْضِه في بعضٍ .
حَرَجًا: أي: شكًّا وضِيقًا، والحَرَج: الضِّيقُ والإثْمُ، وأصْلُ الحَرَج: تجمُّع الشَّيء وضِيقُه

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: ألَا تتعجَّبُ- يا محمَّدُ- مِن حالِ أولئك الَّذين يدَّعون كَذِبًا أنَّهم يؤمنونَ بالقرآنِ وبِغيرِه من الكُتُب السَّماويَّةِ السَّابقةِ، ومع ذلك يُريدون أن يتحاكَموا إلى غيرِ ما أنزَل اللهُ، وقد أُمِروا أن يكفُروا بالحُكمِ إذا كان كذلك، ويريدُ الشَّيطانُ أن يُغويَهم عن طريقِ الهدايةِ غَوايةً شديدةً.
وإذا قيل لهم: تعالَوْا إلى ما أنزله اللهُ تعالى في كتابه وفي سنَّةِ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، رأيتَ هؤلاءِ المنافقينَ مُعرِضين عنك وعمَّا تَدْعوهم إليه، ويمنَعونَ غيرَهم كذلك عنه.
فكيف سيكونُ حالُ هؤلاء المنافِقينَ إذا حلَّت عليهم مُصيبةٌ بسبب كفرِهم وذُنُوبِهم، ومنه تحاكُمُهم إلى غيرِ ما أنزَل اللهُ تعالى، ثمَّ أتَوْا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُعتذرينَ يَحْلِفون بالله كذِبًا أنَّهم ما تَحاكَموا إلى غيرِه إلَّا بقصدِ الإحسانِ إلى المتخاصِمينَ والتَّوفيقِ بينهم، ولم يكونوا معتقدينَ صحَّةَ تلك الحكومةِ، فأخبَر تعالى أنَّه يعلَمُ ما تنطوي عليه قلوبُهم من نفاقٍ وقصدٍ سيئٍ في فِعْلِهم ذلك، وسيجازيهم على ذلك، وأَمَرَ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بالإعراضِ عنهم، وترغيبِهم في الانقيادِ للهِ ولرسولِه، وحذَّرهم من مخالفةِ ذلك، وأن ينصَحَهم سِرًّا نصيحةً مؤثِّرةً تصِلُ إلى قَرارةِ أنفسِهم.
ثمَّ يُخبِر تعالى أنَّه ما أرسَل رسولًا إلَّا والغرضُ من ذلك الإرسالِ أن يُطيعَه المرسَلُ إليهم، ويتَّبِعوه بتقدير الله وقضائه ومشيئتِه، ولو أنَّهم حين يقَعون في ظُلْم أنفسِهم بالذَّنبِ والخطيئةِ يأتون الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم -في حالِ حياتِه- مُقرِّينَ بذُنُوبِهم، طالبينَ من الله مغفرتَها، وطلَبَ الرَّسولُ مِن الله أن يغفِرَ لهم تلك الذُّنوبَ، حينها سيَجِدونَ من اللهِ الصَّفحَ عن ذنوبِهم تلك، وسيتوبُ عليهم وسيرحَمُهم.
ثمَّ أقسَم تعالى بنفسِه فقال: فلا وربِّك يا محمدُ لا يؤمن أحدٌ إيمانًا يُقبَل منه حتَّى يُحكِّمَك في جميعِ الأمور الَّتي يحدُثُ فيها التَّنازعُ، ثمَّ لا يَجِدَ في نفسِه ضِيقًا وحرَجًا من الحُكم الَّذي يصدُرُ منك، وينقادَ له، ويُسلِّمَ تسليمًا كليًّا.
تفسير الآيات:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أوجَب اللهُ تعالى في الآيةِ الأولى على جميعِ المكلَّفين أن يُطيعوا اللهَ ويُطيعوا الرَّسولَ، ذكَر في هذه الآيةِ أنَّ المنافقينَ والَّذين في قلوبهم مرضٌ لا يُطيعونَ الرَّسولَ، ولا يرضَوْن بحُكمِه، وإنَّما يريدونَ حُكمَ غيرِه متعجِّبًا من حالهم مع ادِّعائهم الإيمانَ
.
وأيضًا لَمَّا ذكَر الله تعالى أنَّ اليهودَ يؤمِنونَ بالجِبْتِ والطَّاغوت إلخ، وذكَر مِن سوء حالِهم ووعيدِهم ما ذكَر، ثمَّ أمر المؤمنين بعد ذلك بأداءِ الأماناتِ إلى أهلِها، والحُكمِ بالعَدْل، وأَمَرَهم بطاعةِ الله ورسولِه في كلِّ شيءٍ، وطاعةِ أُولي الأمر، وبِرَدِّ ما تنازَعوا فيه إلى اللهِ ورسولِه- بيَّن لنا بعْدَ هذا حالَ طائفةٍ أخرى بين الطَّائفتينِ، وهم المنافقون الَّذين يزعمون أنَّهم آمَنوا، ومن مقتضى الإيمان: امتثالُ ما أُمِر به المؤمنونَ في الآيتين السَّابقتينِ، ولكنَّهم مع هذه الدَّعوى يريدونَ أنْ يَتحاكَموا إلى الطَّاغوتِ الَّذي عليه تلك الطَّائفةُ .
سَببُ النُّزول:
عن ابن عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: كان أبو بَرْزةَ الأسلميُّ كاهنًا يَقضي بين اليهود فيما يَتنافَرون إليه، فتنافر إليه أناسٌ مِن أسلَمَ، فأنزَل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ [النساء: 60] إلى قوله: وَتَوْفِيقًا [النساء: 62] .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
أي: ألَا تتعجَّب- يا محمَّدُ- مِن حال أولئك الَّذين يزعُمون أنَّهم يؤمِنونَ بالقرآن، وبغيره من الكتب الإلهيَّة السَّابقة ؟!
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ
أي: وهم مع ذلك يودُّون التَّحاكُمَ في فصلِ الخصوماتِ إلى غير الكتابِ والسُّنَّة .
وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ
أي: والحالُ أنَّهم قد أُمروا أن يكفُروا بالحُكم بغيرِ ما أنزَل اللهُ جلَّ وعلا .
وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا
أي: إنَّ الشَّيطانَ يريد أن يجُورَ بهؤلاء المتحاكِمينَ إلى الطَّاغوت جَورًا شديدًا بَعِيدًا عن سبيل الحقِّ والهُدى .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
ولَمَّا ذكَر ضلالَهم بالإرادةِ ورغبتَهم في التَّحاكمِ إلى الطَّاغوت، ذكَر فِعلَهم فيه؛ في نُفرتِهم عن التَّحاكمِ إلى رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال :
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
أي: وإذا قيل للمنافقين: هلمُّوا وأقبِلوا على حُكمِ الله تعالى، الَّذي أنزَله في كتابِه وفي سنَّة رسوله محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام .
رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا
أي: أبصرتَ أولئك المنافقينَ مُعرِضينَ وممتنِعينَ مِن المصيرِ إليك للحُكم بينهم؛ بسبب نفاقِهم، ويمنَعون غيرَهم كذلك .
كما قال تعالى عن المشركين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [لقمان: 21] .
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
أي: فكيف يكون حالُ هؤلاء المنافقينَ إذا ساقَتْهم المقاديرُ إليك في مصائبَ حلَّتْ بهم بسبب كُفرِهم وذنوبهم، ومن ذلك تحاكُمُهم إلى غيرِ ما أنزل اللهُ تعالى .
ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا
أي: ثمَّ أتاك هؤلاء المنافقون- يا محمَّدُ- يُقسِمونَ بالله تعالى كذِبًا وزورًا وجُرأةً على الله عزَّ وجلَّ معتذرينَ بأنَّهم ما أرادوا بذَهابِهم للتَّحاكُمِ إلى غيرك إلَّا الإحسانَ إلى المتخاصمينَ، والتَّوفيقَ بينهم، ومداراةَ النَّاس ومصانَعتَهم، لا اعتقادًا منهم بصحَّةِ تلك الحكومةِ .
كما قال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة: 52] .
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ
أي: إنَّ اللهَ تعالى يعلَمُ حقيقةَ ما تُكِنُّه قلوبُهم من النِّفاقِ والقصدِ السَّيِّئ في احتكامِهم إلى الطَّاغوت, وتركِهم الاحتكامَ إليك, وإن حلَفوا باللهِ ما أرَدْنا إلَّا إحسانًا وتوفيقًا، وسيَجزيهم على ذلك، فإنَّه لا تخفى عليه خافيَةٌ سبحانه، فاكتفِ به- يا محمَّدُ- فيهم؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عالمٌ بهم .
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
أي: فدَعْهم ولا تُبالِ بهم، ولا تعاقِبْهم .
وَعِظْهُمْ
أي: ورغِّبهم في الانقيادِ لله تعالى ولرسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام، وخوِّفهم وحذِّرهم مِن تَرْكِه .
وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا
أي: انصَحْهم- يا محمَّدُ- سِرًّا فيما بينك وبينهم بكلامٍ بليغٍ مؤثِّر يصِلُ إلى قرارةِ نفوسِهم؛ ليزجُرَهم ويردَعَهم عمَّا هم عليه .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمَر اللهُ سبحانه وتعالى بطاعة الرَّسولِ في قوله: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] ، ثمَّ حكى أنَّ بعضَهم تحاكَمَ إلى الطَّاغوتِ ولم يتحاكَمْ إلى الرَّسول، وبيَّن قُبحَ طريقِه وفسادَ منهجِه- رغَّب بهذه الآية مرَّةً أخرى في طاعةِ الرَّسول؛ فقال :
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
أي: لم يبعَثِ اللهُ تعالى الرُّسلَ- ومنهم محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم- إلَّا لأجلِ أن يُطيعَهم النَّاسُ ويتَّبِعوهم، وذلك بتقديرِ الله تعالى وقضائِه ومشيئتِه .
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
أي: ولو أنَّهم حين يقَعُ منهم الخطأُ والزَّللُ أتَوا إليك- يا محمَّدُ- في حال حياتِك، معترفينَ بذنوبهم، طالبينَ مِن الله تعالى سَترَها والتَّجاوزَ عن المؤاخَذِة بها، وطلبْتَ مِن الله تعالى أن يغفِرَ لهم .
لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا
أي: لو فعَلوا ذلك، لتاب اللهُ جلَّ وعلا عليهم بمغفرتِه ظُلْمَهم، ورحِمهم بالتَّوفيقِ للتَّوبة وقَبولِها والثَّوابِ عليها، وعدمِ مؤاخَذتِهم بذُنوبهم الَّتي تابوا منها .
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
سَببُ النُّزول:
عن عبدِ الله بن الزُّبير رضِي اللهُ عنهما: ((أنَّ رجلًا من الأنصارِ خاصم الزُّبيرَ عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، في شِراجِ الحَرَّةِ الَّتي يسقون بها النَّخلَ، فقال الأنصاريُّ: سَرِّحِ الماءَ يمُرُّ، فأبى عليه، فاختصموا عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للزبيرِ: "اسْقِ يا زبيرُ، ثمَّ أَرْسِلِ الماءَ إلى جارِك"، فغضب الأنصاريُّ؛ فقال: يا رسولَ اللهِ، أنْ كان ابنَ عمَّتِك! فتلوَّنَ وجهُ نبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ قال "يا زبيرُ، اسْقِ، ثمَّ احبِسِ الماءَ حتَّى يرجعَ إلى الجَدْرِ"، فقال الزُّبيرُ: واللهِ، إنِّي لَأحسبُ هذه الآيةَ نزلت في ذلك : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا)) .
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
أقسَم تعالى بنفسه الكريمة على أنَّه لا يؤمن أحدٌ- يا محمَّدُ- الإيمانَ المطلوبَ والمقبولَ منه، حتَّى يحكِّمَك في جميع الأمورِ الَّتي يحصلُ فيها اختلافٌ .
ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
أي: ثمَّ لا يكفي هذا التَّحكيمُ الظَّاهر حتَّى يطيعوك في بواطنِهم أيضًا بأن ينتفيَ الضِّيقُ والحَرَج من قلوبهم ممَّا حكَمْتَ به- يا محمَّدُ .
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
أي: وينقادوا لِقَضائك؛ إذعانًا منهم بالطَّاعة, وإقرارًا بحُكْمِك، فيسلِّموا لذلك تسليمًا كلِّيًّا من غير ممانَعةٍ ولا مدافَعة ولا منازَعة، تسليمًا بانشراحِ صدرٍ، وطمأنينةِ نَفْسٍ، وانقيادٍ بالظَّاهرِ والباطِنِ

.
الفوائد التربوية:

1- وجوبُ الإعراضِ حيث لا ينفع الكلامُ؛ لقوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
.
2- في قوله تعالى: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا هذا دليلٌ على أنَّ مقترِفَ المعاصي وإن أُعرِض عنه فإنَّه يُنصَحُ سرًّا، ويبالَغُ في وعظِه بما يُظَنُّ حصولُ المقصودِ به .
3- أنَّه يَنبغي للإنسان إذا تَكلَّم أن يتكلَّم بكلامٍ بليغٍ يصِلُ إلى النَّفْس؛ لقوله: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فيه كمالُ الإسلام والمتمسِّكين به؛ لأنَّ الإسلامَ يأمر النَّاسَ بالإيمانِ بكلِّ ما أنزلَ اللهُ، والمتمسِّكون به كذلك يؤمنونَ بكلِّ ما أنزَل اللهُ؛ فالَّذين اعتنقوا غيرَ الإسلام -كاليهود والنَّصارى- لا يؤمنون بكلِّ ما أنزل الله، أمَّا السَّابقون منهم فإنَّما يؤمنون به إيمانًا حُكميًّا، يعني: يؤمنون بما تأخَّر عن شرائعهم إيمانًا حُكميًّا؛ لأنَّهم لم يُدْركوه، ولكنَّهم يؤمنونَ به، يعني: أنَّ المؤمنين بموسى في وقتِه والمؤمنين بعيسى في وقتِه يؤمنونَ بالقرآن؛ لأنَّهم يجدونَ الرَّسولَ مكتوبًا عندهم في التَّوراة والإنجيلِ، لكنَّه إيمانٌ حُكميٌّ، أمَّا إيمانُ المسلمينَ بالقرآن وبالشَّرائع السَّابقة فهو إيمان حقيقيٌّ؛ لأنَّ دينَ الإسلامِ هو المتأخِّر
.
2- أنَّ التَّحاكمَ إلى غيرِ الله ورسولِه تحاكمٌ إلى الطَّاغوتِ؛ لقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ .
3- أنَّ التَّحاكُمَ إلى غير الله ورسولِه كفرٌ، وتؤخَذُ من تكذيبِهم دعوى الإيمانِ في قوله: يَزْعُمُونَ؛ لأنَّهم لو كانوا مؤمنِينَ ما أرادوا التَّحاكمَ إلى غَيرِ اللهِ ورسولِه .
4- أنَّه إذا كانت إرادةُ التَّحاكم إلى الطَّاغوت مُخرِجةً من الإسلام، فالتَّحاكمُ إليه فعلًا من بابِ أَولى؛ ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النِّساء: 32].
5- أنَّنا مأمورونَ بأن نكفُرَ بالطَّاغوت؛ لقوله: وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، ولا يتمُّ إيمانُنا إلَّا بالكُفْر بالطَّاغوت؛ لقوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة: 223]، فلا بدَّ من الكُفْر بالطَّاغوتِ، وإلَّا لم يصِحَّ الإيمانُ بالله .
6- أنَّ للشَّيطانِ إرادةً، وتؤخَذُ من قوله: وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ، فله إرادةٌ، بل وله أمْرٌ، وتؤخذ من قوله أيضًا: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة: 235]؛ فهو يريدُ ويأمر، ويُمكِننا أن نرُدَّ تلك الإرادةَ والأمرَ بالاستعاذةِ بالله منه؛ لأنَّ الله سبحانه يقول: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200] فهذا هو العصمةُ منه .
7- وفي قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ إثباتُ عِصْمة الرُّسل فيما يبلِّغونَه عن الله، وفيما يأمرونَ به وينهَوْن عنه؛ لأنَّ اللهَ أمَر بطاعتِهم مُطلقًا، فلولا أنَّهم معصومونَ لا يَشْرَعون ما هو خطأٌ؛ لَمَا أمَر بذلك مطلَقًا .
8- في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ إثباتُ القضاء والقدَرِ، والحثُّ على الاستعانة بالله، وبيانُ أنَّه لا يمكنُ الإنسانَ- إن لم يُعِنْه اللهُ- أن يطيعَ الرَّسولَ .
9- ثبوتُ قيام الأفعال الاختياريَّةِ للهِ عزَّ وجلَّ، بمعنى: أنَّه تتجدَّدُ له الأفعالُ الاختياريَّة حسَب المفعولاتِ، وتؤخَذُ من قوله: أَرْسَلْنَا؛ لأنَّ إرسالَ الرُّسل يتجدَّدُ؛ فأوَّلُهم نوحٌ وآخِرُهم محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم .
10- إثباتُ تعليلِ أفعالِ الله، ويؤخَذُ من قوله: إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وهذا الَّذي عليه أهلُ السُّنَّة والجماعة، أنَّ أفعالَ الله وأحكامَ الله معلَّلةٌ، لكنَّ العلَّةَ قد تكون معلومةً لنا، وقد تكون مجهولةً لنا .
11- ثبوتُ الإذنِ لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله: إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ، والإذنُ نوعان: شرعيٌّ، وكونيٌّ، فمِن الأوَّل قولُه تبارك وتعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] ، أي: شرعًا ولا يصحُّ قدَرًا؛ لأنَّه وقع، فقد أذِن الله به قدَرًا، لكن لم يأذَنْ به شرعًا، وأمَّا الإِذْنُ الكونيُّ فكثيرٌ، مثل قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 222] .
12- الرَّاضي بحُكم الرَّسول عليه الصَّلاة والسلام قد يكون راضيًا به في الظَّاهر دون القَلْبِ، فبيَّن في قوله تعالى:ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ أنَّه لا بدَّ من حصولِ الرِّضا به في القلب، واعلم أنَّ ميلَ القلب ونفرتَه شيء خارج عن وُسع البشرِ، فليس المرادُ من الآية ذلك، بل المرادُ منه أن يحصُلَ الجزمُ واليقين في القلب بأنَّ الَّذي يحكم به الرَّسولُ هو الحقُّ والصِّدقُ

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ:
- قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ: الاستفهامُ فيه مُرادٌ به التَّعجُّب
.
- قوله: الَّذِينَ يَزْعُمُونَ جِيء باسمِ موصولِ الجماعةِ؛ لأنَّ المقام مقامُ توبيخٍ، كقولهم: ما بال أقوامٍ يقولون كذا؛ ليشملَ المقصودَ ومَن كان على شاكلتِه .
- قوله: يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ: وصَفَهم بادِّعاءِ الإيمانِ بالقُرآنِ وبما أُنزِل مِن قبلِه (التَّوراة) حيث قال: يَزْعُمُونَ؛ لتأكيدِ التَّعجيب وتشديدِ التَّوبيخِ والاستقباحِ .
2- قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ: استئنافٌ سِيق لبيان محلِّ التَّعجيب، وهذا الاسم الطَّاغُوتِ مشتَقٌّ مِن طَغَى يَطغُو إذا تعاظَم وترفَّع، وأصلُه مصدرٌ بوزن فَعلوت؛ للمُبالغة .
3- قوله: وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا: (ضلالًا) مصدر مؤكِّد، والضَّلال البعيدُ هو الكفر، ووصْفُه بالبعيدِ لشدَّة الضَّلالِ بتنزيلِه منزلةَ جنسٍ ذي مسافةٍ إذا كان هذا الفردُ منه بالغًا غايةَ المسافةِ .
4- قوله: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا صُدُودًا مفعولٌ مُطلَقٌ للتوكيدِ، ولقصْدِ التوصُّلِ بتنوينِ صُدُودًا؛ لإفادةِ أنَّه تنوينُ تعظيمٍ .
5- قوله: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ: الاستفهامُ مستعمَلٌ في التَّهويلِ .
6- قوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ إشارةٌ إلى المنافقين، وما في أُولَئِكَ من معنى البُعد؛ للتَّنبيه على بُعدِ مَنزلتِهم في الكُفْر والنِّفاق ، وفي قوله: أُولَئِكَ تنبيهٌ على أنَّ المشارَ إليهم جديرونَ بالحُكم الذي سيُذكَر لما تقدَّم من أحوالهم .
7- قوله: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا يجوزُ أن يتعلَّق قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ بقوله: بَلِيغًا، وإنَّما قدَّم المجرورَ للاهتمامِ بإصلاحِ أنفسِهم مع الرِّعاية على الفاصلةِ، وفيه أمْرٌ بتهديدِهم على وجهٍ مُبلغ صَميمَ قلوبِهم، ويجوزُ أنْ يَتعلَّق بفِعل قُلْ لَهُمْ، أي: قُلْ لهم قولًا في شأنِ أنفسِهم، وعلى هذا فقوله: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا كالشَّرحِ للوعظِ في قوله: وَعِظْهُمْ، ولذِكر أهمِّ ما يَعظُهم فيه، وهو نفوسُهم التي عَلِمَ اللَّه ما انطوتْ عليه من المذامِّ، وعلى هذا يكون المرادُ الوعظَ وما يَتعلَّق بِه .
8- قوله: وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ فيه التفاتٌ؛ حيث لم يقُلْ: (واستغفرْتَ لهم)؛ وذلِك تفخيمًا لشَأنِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم- لِمَا في هذا الاسمِ الظاهرِ مِن التَّشريفِ والتنويهِ بوصْفِ الرِّسالة- وتَعظيمًا لاستِغْفارِه، وتنبيهًا على أنَّ شَفاعةَ مَن اسمُه الرَّسولُ مِن اللَّهِ بمكانٍ، وعلى أنَّ مِن حقِّ الرسولِ أنْ يَقبَلَ اعتذارَ التَّائِبِ وإنْ عَظُم جُرمُه ويَشْفَعَ له، ومِن مَنْصِبِه أنْ يشفعَ في كبائرِ الذُّنوبِ، وعَلى أنَّ هذا الوَصْفَ الشريفَ- وهو إرسالُ اللهِ إيَّاه- موجبٌ لطاعتِه. وفي هذا النَّوعِ مِن الالتِفاتِ خصوصيَّةٌ، وهي اشتمالُه على ذِكرِ صِفةٍ مناسبةٍ (الرِّسالة) لِمَا أُضِيف إليه (الاستغفار لِمَن عَظُمتْ ذُنوبُهم)، وذلك زائدٌ على الالتِفاتِ بذِكرِ الأعلامِ ؛ فدَلَّ أيضًا على أنَّ هذا الاستغفارَ له مَزيَّةٌ، وهي كونُه صادرًا عن الرَّسولِ بوَصْفِه (رسولًا).
وقيل: إنَّ نُكتةَ وضْع الاسمِ الظاهِرِ الرَّسُولُ موضِعَ الضَّمير، هي أنَّ حقَّ الرَّسولِ عليهم في التحاكُم إليه إنَّما كان له بأنَّه رسولُ اللهِ، وأنَّه مأمورٌ بأنْ يحكُمَ بين الناسِ بما أراه اللهُ في وحْيِه، وما هداه إليه في اجتهادِه، ولو أنَّهم اعتَدَوْا في معصيتِهم على حقوقِه الشخصيَّةِ كأكْل شيءٍ من مالِه بغير حقٍّ لقال: (واستغفرتَ لهم)؛ فإنَّ التوبةَ عن المعاصي المتعلِّقةِ بحقوقِ الناس لا تكونُ مقبولةً ولا صحيحةً إلَّا بعدَ استرضاءِ صاحِب الحقِّ. وهذا أظهرُ مِن جَعْل نُكتةِ وضْع الظَّاهِر موضِعَ الضمير إجلالَ منصبِ الرِّسالةِ والإيذانَ بقَبولِ استغفارِ صاحِب هذا المنصب الشريفِ وعدم ردِّ شفاعته؛ لأنَّ المنصبَ هو هو في شَرفِه وعُلوِّه، ولكنَّ اللهَ لا يَغفِرُ للمنافقينَ إذا لم يتوبوا وإنِ استغفرَ لهم الرسولُ; لأنَّ اللهَ تعالى قال له فيهم: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] .
9- قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا:
- قوله: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ: فيه القَسَمُ بإضافةِ الرَّبِّ إلى كافِ الخِطاب؛ تعظيمًا للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو التفاتٌ راجِعٌ إلى قوله: جَاؤُوكَ .
- و(لَا) في قوله: فَلَا مزيدةٌ لتأكيدِ القسَمِ، وقَدَّم (لَا) على القسَمِ؛ اهتمامًا بالنَّفي، ثمَّ كرَّرها بعدُ توكيدًا ، وأصل الكلام: (فوربِّك لا يؤمنون)، والعرب تأتي بحرفِ النَّفيِ قبلَ القَسمِ إذا كان جوابُ القسمِ مَنفيًّا؛ للتَّعجيلِ بإفادةِ أنَّ ما بعدَ حرْفِ العطفِ قَسَمٌ على النَّفي لِمَا تضمَّنَتْه الجملةُ المعطوفُ عليها؛ فتقديمُ النَّفي للاهتمامِ بالنَّفي، ويكثُر أن يأتوا مع حرْف النَّفيِ بعدَ العاطف بحرفِ نفيٍ مِثلِه في الجواب؛ ليحصُلَ مع الاهتمامِ التَّأكيدُ .
- وفي قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا: أَطلَق اسمَ الحرَج الَّذي هو من وصْفِ الشَّجْرِ إذا تضايَق على الأمر الَّذي يشقُّ على النَّفس للمناسبة الَّتي بينهما، وهو من الضِّيق والتَّتميمِ، وهو أنْ يتبعَ الكلامَ كلمةٌ تَزيدُ المعنى تمكُّنًا وبيانًا للمعنى المراد، وهو في قوله: قولًا بليغًا، أي: يبلغ إلى قلوبهم ألَمُه، أو بالغًا في زَجْرِهم .
- وفي هذه الآيةِ مبالغاتٌ عَديدةٌ، بلَغَتْ أسْمَى مراتبِ البيانِ، والغايةُ منها: زيادةُ الوعيدِ والتَّهديدِ ممَّا ترتعدُ له الفرائصُ، وترتجِفُ منه الأفئدةُ؛ وتَفصيلُ ذلك كما يلي :
- أنَّه سُبحانَه أَقسمَ أوَّلًا بنَفْسِه مؤكِّدًا لهذا القَسَمَ بحرْفِ النَّفيِ بأنَّهم لا يُؤمنون، والإيمانُ رأسُ مالِ الصَّالِحين من عِبادِ الله حتَّى تحصُلَ لهم غايةٌ من أشرفِ الغايات، وهي اللُّجوءُ إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وتحكيمُه فيما نشَب بينهم من خِلافٍ.
- ولم يَكتفِ سبحانَه بذلِك حتَّى قال: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ [النساء: 65] ، فضمَّ إلى التَّحكيمِ أمرًا آخرَ، وهو عدَمُ وجودِ أيِّ حرجٍ في صدورهم، فلا يكون مجرَّدُ التَّحكيمِ والإذعانِ كافيًا، بل لا بدَّ أنْ يكون نابعًا من صُدورِهم، صادرًا عن رِضًا واطمئنانٍ وطِيب نفْسٍ، وهذا أجملُ تصويرٍ للعلاقةِ الَّتي يجِبُ أنَّ تترسَّخَ بين رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم والمؤمنينَ.
- ثمَّ لم يَكتفِ سبحانه بهذا كلِّه، بل ضمَّ إليه قوله: وَيُسَلِّمُوا، أي يُذعنوا إذعانًا تامًّا، وينقادوا ظاهرًا وباطنًا، لا انقيادًا أعمى، ولكنَّه انقيادُ الواثقِ المطمئنِّ إلى سلامةِ موقفِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
- وضمَّ إلى يُسَلِّمُوا المصدرَ المؤكِّد، فقال: تَسْلِيمًا، وهكذا لا يَثْبُت الإيمانُ لعبدٍ حتَّى يقَعَ منه هذا التَّحكيمُ، ولا يجدَ الحرجَ في صدره بما قضى عليه، والتَّسليمُ لحُكم الله وشرعِه تسليمًا لا يخالطه ردٌّ، ولا تشوبه شائبةٌ، فسبحان قائلِ هذا الكلامِ!.

=====================8.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (66- 70)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
غريبُ الكَلِمات:

أَشَدَّ تَثْبِيتًا: أي: أشدَّ لتَحصيل عِلمهم، وقيل: أثبَت لأعمالِهم، واجتناءِ ثمرةِ أفعالِهم، وأصل الثَّباتُ: ضدُّ الزَّوال، أو دوام الشَّيء
.
الصِّدِّيقِينَ: جمع صِّدِّيق، وهو المُصدِّقُ قولَه بفِعلِه أو صدَق بقولِه واعتقادِه وحقَّق صِدْقَه بفِعلِه ، أو مَن كَمَل في صِدْقِه وتَصديقِه ، وقيل: هو مَن كثُر منه الصِّدق، وقيل: هَو مَنْ لا يَكذِب قطُّ، أو مَن لا يَتأتَّى منه الكذبُ؛ لتعوُّده الصِّدق، وأصل (صدق): يدلُّ على قوَّة في الشيء قولًا وغيرَه .
رَفِيقًا: أي: رُفقاء, وأصل (رفق): يدلُّ على موافَقةٍ ومقاربةٍ بلا عنف

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يُخبِر تعالى أنَّه لو فَرضَ على أولئك الَّذين يزعمون أنَّهم آمَنوا بما أُنزِل إلى محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، والمحتكمين إلى الطَّاغوتِ، لو فَرضَ عليهم أن يقتُلَ بعضُهم بعضًا، وأن يفارقوا ديارَهم، فلن يفعل ذلك إلَّا القليلُ منهم، ولو أنَّهم فعَلوا ما يُذَكَّرون به مِن فِعل الأوامرِ، واجتناب ما نُهوا عنه، لكان فعلُهم هذا خيرًا وأكثرَ تثبيتًا لهم، وسيعطيهم الله تعالى كما وعد أجرًا عظيمًا من عنده، وسيُرشِدهم إلى الصِّراط المستقيمِ.
ثمَّ يخبر تعالى أنَّه مَن يُطِعِ اللهَ ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم فإنَّه في الجنَّة مع الَّذين أنعَم الله عليهم بالهدايةِ إلى الصِّراط المستقيم من الأنبياءِ، والصِّدِّيقين، والشُّهداء، والصَّالحين، وحسُن هؤلاء رفقاءَ يُجتمع بهم في جنَّاتِ النَّعيم.
تفسير الآيات:

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
أي: ولو أنَّا فرضْنا على هؤلاء الَّذين يزعمون أنَّهم آمَنوا بما أُنزل إليك، من المحتكِمين إلى الطَّاغوت أن يقتُلَ بعضُهم بعضًا, وأمرناهم بذلك
.
أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ
أو أمرْناهم بالهجرةِ من ديارِهم إلى ديارٍ أخرى .
مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ
أي: ما استجاب لتلك الأوامرِ إلَّا عددٌ قليلٌ منهم .
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ
أي: ولو أنَّ أولئك المنافقينَ فعَلوا ما يُذَكَّرون به من فِعل الأوامرِ، واجتنابِ النَّواهي، ومِن ذلك التَّحاكمُ إلى الكتاب والسُّنَّة .
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
أي: لو أنَّهم فعلوا ما يُوعَظون به، لكان أفضلَ لهم من مخالفةِ الأمرِ، وارتكابِ النَّهي في عاجلِ دُنياهم، وآجلِ معَادِهم، ولكانوا من الأخيارِ المتَّصفينَ بأوصافِهم .
وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا
أي: وأثبَتَ لهم في أمورِهم وعزائِمِهم, وأقومَ لهم عليها، وأشدَّ ثباتًا على الحقِّ؛ فالإنسانُ كلَّما ازداد طاعةً لله ازدادَ إيمانًا ويقينًا وثباتًا عند ورود الفِتَن .
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
أي: ولَأَعطيناهم كذلك جزاءً وثوابًا عظيمًا من عندِنا في العاجلِ والآجِل .
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
أي: ولأرشدْناهم ووفَّقْناهم إلى الصِّراط المستقيم .
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمَر اللهُ تعالى بطاعة الله وطاعةِ الرَّسول بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء: 59] ، ثمَّ زيَّف طريقةَ الَّذين تحاكموا إلى الطَّاغوتِ وصدُّوا عن الرَّسول، ثمَّ أعاد الأمرَ بطاعة الرَّسول مرَّة أخرى فقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64] ، ثمَّ رغَّب في تلك الطَّاعة بقوله: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 66- 68] أكَّد الأمرَ بطاعة اللهِ وطاعة الرَّسولِ في هذه الآية مرَّة أخرى .
سَببُ النُّزول:
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، قالت: ((جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: يا رسول الله، إنَّك لَأحبُّ إليَّ من نفسي، وإنَّك لأحبُّ إليَّ من ولدي، وإنِّي لأكونُ في البيت فأذكُرُك فما أصبِر حتَّى آتيَ فأنظُرَ إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتَك عرفتُ أنَّك إذا دخلْتَ الجنَّة رُفِعْتَ مع النَّبيِّين، وأنِّي إذا دخلتُ الجنَّة خَشِيتُ ألَّا أَراك، فلم يرُدَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم شيئًا حتَّى نزل عليه جبريلُ بهذه الآية: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) .
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
أي: مَن يمتثِلْ أمرَ الله تعالى ورسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام، ويجتنِبْ نهيَهما، فهو في الجنَّة مع مَن أنعَم الله تعالى بهدايتِهم إلى الصِّراطِ المستقيم .
مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ
أي: مِن الرُّسل والأنبياء الَّذين فضَّلهم الله تعالى بوحيِه، والصِّدِّيقين الَّذين كمَلَ صدقُهم وتصديقُهم، فعلِموا الحقَّ وصدَّقوه بيقينهم، وقاموا به قولًا وعملًا وحالًا، والشُّهداء الَّذين قُتِلوا في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمتِه، والصَّالحين الَّذين صلَحَتْ سرائرُهم وعلانيتُهم .
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، قالت: ((سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ما من نبيٍّ يَمرَضُ إلَّا خُيِّر بين الدُّنيا والآخِرَةِ، وكان في شَكواه الَّذي قُبِض فيه، أخَذَتْه بُحَّةٌ شديدةٌ، فسمِعتُه يقولُ: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فعلِمتُ أنَّه خُيِّر)) .
وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا
أي: وحَسُنَ هؤلاء- الَّذين وصفَهم اللهُ عزَّ وجلَّ- رُفقاءَ يُجتمَعُ بهم في جَنَّات النَّعيم، ويُؤنَس بقُربهم في جوار الرَّبِّ الرَّحيم .
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، قالت: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو صحيحٌ يقول: إنَّه لم يُقبَضْ نبيٌّ قطُّ حتَّى يرَى مَقْعَدَهُ في الجنَّةِ، ثمَّ يُحَيَّا، أو يُخَيَّرَ، فلمَّا اشتكى وحضرَهُ القبضُ، ورأْسُهُ علَى فخِذِ عائِشَةَ غُشِيَ عليهِ، فلمَّا أفاقَ شخصَ بَصرُهُ نحوَ سقفِ البيتِ، ثمَّ قال: اللَّهُمَّ في الرَّفيقِ الأعلَى فقُلْت: إذًا لا يُجاوِرُنا، فعرفتُ أنَّه حديثُهُ الَّذي كان يُحَدِّثُنا وهو صحيحٌ )) .
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ
أي: ذلك الإنعامُ الَّذي نالوه عطاءٌ وفضلٌ من اللهِ تعالى عليهم؛ فهو الَّذي برحمتِه أهَّلهم ووفَّقهم لذلك، وأعانَهم عليه، لا بأعمالِهم؛ فقد أعطاهم من الثَّوابِ ما لا تبلُغُه أعمالُهم .
وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا
أي: وحسْبُ العبادِ باللهِ عالِمًا بأعمالهم وأحوالهم، فيعلَمُ مَن يستحقُّ منهم الهدايةَ والتَّوفيقَ، والثَّوابَ الجزيل

.
الفوائد التربوية:

1- في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ: إشارةٌ إلى أنَّه ينبغي أن يلحَظَ العبدُ ضدَّ ما هو فيه من المكروهات، لتخفَّ عليه العباداتُ، ويزداد حمدًا وشكرًا لربِّه
.
2- في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ: بيان ضَعْفِ الإنسان، وأنَّه لا يستطيعُ أن يتحمَّل كلَّ ما أُمِر به إذا كان لا يلائمه، لا سيَّما مع ضَعْف الإيمان .
3- أَنَّ النَّاجيَ من العِباد قليلٌ؛ لقوله: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فهل أنت من هؤلاء القليل أو من الكثير ؟!
4- أنَّ طاعةَ الله تعالى سببٌ لكلِّ خيرٍ؛ لقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ .
5- في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا أنَّه ينبغي للعبدِ أن يَنظُرَ إلى الحالة الَّتي يَلزمُه القيامُ بها، وإلى ما وُظِّف عليه في كلِّ وقت بحَسَبه، فيَبذل همَّتَه، ويُوفِّر نفسَه للقيام به وتكميله، إلى أنْ يصلَ إلى ما قُدِّر له مِن العِلم والعمَل في أمر الدِّين والدُّنيا، وهذا بخِلافِ مَن طمَحَتْ نفسُه إلى أمرٍ لم يصِلْ إليه ولم يؤمَرْ به بعدُ، فإنَّه لا يكادُ يصلُ إلى ذلك بسبب تفريقِ الهمَّة، وحُصولِ الكسَل وعدم النَّشاط .
6- الإشارةُ إلى عَظيمِ ما يحصُلُ في المستقبلِ، وأنَّ الإنسانَ يُخشى عليه من الزَّللِ، إلَّا أنْ يُثبِّتَه الله؛ لقوله: وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا؛ لأنَّ التَّثبيتَ على غيرِ مواطنِ الزَّللِ لا يُذكَر، إنَّما يُذكَر التَّثبيتُ في حالِ مواطنِ الزَّلل، ومعلوم أنَّ الإنسانَ يرِدُ عليه في حياته شبهاتٌ، ويرِدُ عليه شهواتٌ؛ فالشُّبهاتُ تدُكُّ العِلم وتُذهِبُه، والشَّهوات تدُكُّ الإرادةَ حتَّى يصبحَ الإنسانُ لا يريد إلَّا ما يهواه فقط، وهذه آفةٌ؛ فالإنسانُ يُحيط به شيئان: شبهةٌ يزولُ بها العِلمُ، وشهوةٌ تزولُ بها الإرادةُ، فإذا لم يثبِّتْه اللهُ بالعِلم والإرادة الصَّادقة والعزيمة الجازمة فإنَّه يهلِكُ .
7- أنَّ الإيمانَ يتفاوت؛ لأنَّ قوله: خَيْرًا اسمُ تفضيل، ويَقتضي وجودَ مفضَّل ومفضَّل عليه، وهذا هو التفاوتُ، وكذلك يؤخذ من قوله: وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا .
8- في قوله تعالى: ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ الحثُّ على توجُّه الإنسانِ إلى ربِّه في سؤالِ مطلوبه، ووجهُه: أنَّه إذا كان الفضلُ من الله، فلا تسأَلِ الفضلَ إلَّا ممَّن بيدِه الفضلُ .
9- في قوله تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا تفويضُ الأمرِ إلى الله، وأنَّ الله تعالى إذا فضَّل أحدًا على أحدٍ، فاعلَمْ أنَّ ذلك عن علمٍ وليس عبثًا؛ ولهذا لَمَّا قال المكذِّبون: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام: 124] ردَّ اللهُ عليهم فقال لهم: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124] أي: وأنتم لستم أهلًا للرِّسالةِ

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- أنَّ قتلَ النَّاسِ بعضِهم بعضًا من أشقِّ ما يكون على النُّفوسِ؛ قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ
.
2- وفي قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ دليلٌ على صعوبةِ الخروج من الدِّيار؛ إذ قرَنه اللهُ تعالى بقتل الأنفس .
3- في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ إنَّما سُمِّي هذا التَّكليفُ والأمرُ وعظًا؛ لأنَّ تكاليفَ الله تعالى مقرونةٌ بالوعد والوعيد .
4- في قوله تعالى: وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا دليلٌ على بُطلان قولِ الصُّوفيَّة الَّذين يقولون: اعبُدِ اللهَ للهِ، ولا تعبُدْه لثوابِ اللهِ؛ ووجه الدَّلالة: أنَّه لولا أنَّ لذِكر الثَّواب تأثيرًا في العمل لكان ذِكرُه عبثًا ولغوًا؛ فالله عزَّ وجلَّ لم يذكُرِ الثَّواب، ويُرغِّبْ في العملِ من أجل الثَّواب إلَّا ليُبيِّن أنَّ نيةَ الثَّواب لا تُضعِف العملَ ولا تنافي الإخلاص، وقد وصَف الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم والَّذين معه بأنَّهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، فقال تعالى: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح: 29] ، وجاء في آيةٍ أخرى المدحُ للَّذين يبتغون وجهَ الله، فيكون هذا دليلًا على أنَّك إن أردتَ وجهَ الله فإنَّك مُثابٌ، وإن أردتَ ثواب الله فإنَّك مثابٌ أيضًا .
5- قوله: أَجْرًا عَظِيمًا أي: ثوابًا، وسمَّى الله تعالى الثَّواب الَّذي جعَلَه على الأعمال أجرًا، ليتبيَّن للإنسان أنَّ هذا الثَّوابَ لا بدَّ من حصوله، كما أنَّه لا بدَّ من حصولِ الأجر لمن استأجر بيتًا أو نحوه، فلا بدَّ أن يحصُلَ على الأُجرة .
6- في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا بيانُ أنَّ مَن أطاع اللهَ ورسولَه أنَّه يكونُ مع النَّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين، ليس ذلك فقط، بل ذكَر أنَّه يكون رفيقًا له، والرَّفيق هو الَّذي يُرتَفَق به في الحضَر والسَّفر، فبيَّن أنَّ هؤلاء المطيعين يرتفقونَ بهم، وإنَّما يرتفقونَ بهم إذا نالوا منهم رفقًا وخيرًا، والإنسانُ قد يكون مع غيره ولا يكون رفيقًا له، فأمَّا إذا كان عظيمَ الشَّفقة عظيمَ الاعتناءِ بشأنِه كان رفيقًا له، فبيَّن تعالى أنَّ الأنبياءَ والصِّدِّيقين والشُّهداءَ والصَّالحين يكونون له كالرُّفقاء من شدَّةِ محبَّتهم له، وسُرورهم برُؤيته

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ... كلامٌ مُستأنَّفٌ فيه توبيخٌ عظيم؛ وهو مسوقٌ لتوبيخِ الذين يَتقاعَسون عن الاستجابةِ للرَّسول وطاعتِه
.
2- قوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: جِيءَ باسمِ الإشارةِ فَأُولَئِكَ في جُملةِ جواب الشَّرط؛ للتَّنبيهِ على جَدارتِهم بمضمون الخبرِ عن اسمِ الإشارة؛ لأجْلِ مضمون الكلام الَّذي قبْل اسمِ الإشارة .
3- قوله: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فيه: تقسيمٌ بليغ ، وحُسْنُ تَرتيبٍ في التَّقديمِ والتَّأخيرِ، حيثُ قدَّم الأشرفَ بالفَضيلةِ ؛ فمرتبةُ النبوَّةِ أشرفُ وأفضلُ من مرتبةِ الصِّدِّيقيَّة، ومَرتبةُ الصِّدِّيقيَّةِ أشرفُ وأفضلُ من مرتبةِ الشَّهادةِ، ومرتبةُ الشَّهادةِ أشرفُ وأفضلُ من مرتبة الصَّلاح .
- وجاءَ قوله: وَالصِّدِّيقِينَ على صِيغة المبالغةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم مُتقدِّمون في تَصديقِهم، مُبالِغون في الصِّدق .
4- قوله: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقًا تذييلٌ مقرِّرٌ لِما قبله، مؤكِّدُ للتَّرغيبِ والتَّشويق .
- وفيه معنى التَّعجُّب، كأنَّه قيل: وما أحسَنَ أولئك رَفيقًا !
- وجاء قوله: رَفِيقًا مفردًا مع أنَّه صِفة لجمْع؛ لأنَّ الواحدَ في التمييزِ ينوبُ عن الجماعةِ، ولأنَّ الرَّفيقَ والرسولَ والبَريدَ تُعبِّر بها العربُ عن الواحدِ والجَمْع. وقيل: معنى قوله: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، أي: حسُن كلُّ واحد منهم رفيقًا، كما قال: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] .
5- قوله: ذَلِكَ الْفَضْلُ التعبيرُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ وما فيه مِن مَعنى البُعد؛ للإشعارِ بعلوِّ رُتبته، وبُعدِ منزلتِه في الشَّرف .

=================9.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (71- 76)
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
غريبُ الكَلِمات:

خُذُوا حِذْرَكُمْ: أي: تَيقَّظوا وتَحرَّزوا، وخُذُوا ما فيه الحذَرُ مِن السِّلاح وغيرِه، والحَذَر: احتراز من مُخِيف، وهو من التَّحرُّز والتَّيقُّظ
.
فَانْفِرُوا: أي: فاخرُجوا إلى الجِهاد، وانفِروا للنُّصرة، وأصل (نفر): يدلُّ على تَجافٍ وتباعُد .
ثُبَاتٍ: أي: جماعاتٍ متفرِّقةً، أو جماعةً منفردة، واحدتها ثُبَة، والثُّبَة: الجماعةُ الثَّائب بعضُهم إلى بعض في الظَّاهِرِ .
لَيُبَطِّئَنَّ: أي: يُثبِّط غيرَه، ويَتأخَّر ويُؤخِّر غيره، والمقصود مَن يتثاقلون ويَتخلَّفون عن الجِهاد، وأصله: البُطءُ في الأمْر .
كَيْدَ الشَّيْطَانِ: أي: حِيلَته، والْكَيْدُ: ضربٌ من الاحتيال، وقد يكونُ مذمومًا وممدوحًا، واستعمالُه في المذموم أكثرُ، وأصل (كيد) يدلُّ على مُعالجةٍ لشيءٍ بشدَّة

.
مشكل الإعراب:

قوله: أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِم أَهلُهَا:
الظَّالِمِ: مجرورٌ، على أنَّه نعْتٌ سببيٌّ للقريةِ، و(أل) في الظَّالِمِ موصولةٌ بمعنى (التي). وأَهْلُهَا: مرفوعٌ على أنَّه فاعلُ اسم الفاعِلِ الظَّالِمِ العامِلِ عمَلَ فِعله، والتقدير: القريةُ التي ظَلَم أهلُها؛ فالظلمُ جارٍ على القرية لفظًا، وهو لِمَا بعدَها أَهْلُهَا معنًى، ولم يُؤنَّث اسمُ الفاعل الظَّالِمِ- حيث لم يَقُل: (الظالمة)- وإنْ كان نعتًا للقريةِ في اللَّفظِ؛ لإِسنادِ الظَّالِمِ إلى الاسمِ الظَّاهِر الذي عَمِلَ فيه (أَهْل) وهو مُذكَّرٌ، كما تقولُ: مِنْ هذِه القَريةِ التي ظَلَم أهلُها؛ لأنَّ كلَّ اسمِ فاعلٍ إذا جرَى على غَيرِ مَن هو له، فتَذكيرُه وتأنيثُه على حسَبِ الاسمِ الظَّاهِر الذي عَمِل فيه

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يَأمُرُ اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنين بأخْذِ الحذَر من أعدائهم، وأنْ يَخرُجوا لجِهادِهم متفرِّقين جماعةً بعدَ جماعةٍ، أو يَخرجوا كلُّهم مجتمعينَ.
ثمَّ يخاطب اللهُ تعالى المؤمنين مبيِّنًا لهم أنَّ في أوساطِهم منافقينَ يتثاقَلون في الخروج للجهاد، ويتخلَّفون عنه عند خروجِ المؤمنين لذلك، ويثبِّطون غيرَهم عنه، فإنْ حلَّت بالمؤمنين الخارجينَ للجهاد مصيبةٌ، قال هذا المنافقُ المتخلِّفُ والَّذي يدعو غيره للتَّخلُّف: قد منَّ الله عليَّ بعدم الخروج معهم للقتالِ، وإلَّا لكان حلَّ بي ما حلَّ بهم، وإن انتصرَ المؤمنون على عدوِّهم وحصلوا منهم على غنيمةٍ فسيقول هذا المنافقُ وكأنَّه لم تكُنْ بين المؤمنين وبينه مودَّةٌ: ليتني شاركتُهم الخروجَ للجهادِ، فأُشارِكَهم في الغنائم الَّتي حصلوا عليها من عدوِّهم.
ثمَّ أمر اللهُ بالقتال في سبيله تعالى، ووجَّه الأمرَ لمن رغِبوا فيما عند الله فباعوا الحياة الدُّنيا بالآخرة، ثمَّ وعَد سبحانه مَن يقاتل في سبيله، سواءٌ قتَله الأعداء، أو لم يُقتل وإنَّما انتصر عليهم: أنَّ اللهَ سوف يعطيه أجرًا عظيمًا.
ثمَّ حثَّ المؤمنينَ على القِتال في سبيله قائلًا لهم: ما الَّذي يمنعُكم من القِتال في سبيل الله لإعلاء كلمَتِه، ومن أجْل استنقاذِ الضُّعفاء من الرِّجال والنِّساء والأطفال الَّذين يَدْعون ربَّهم أن يُخرجَهم من مكَّةَ الَّتي ظلَمهم فيها أهلُها من المشركينَ، ويَدْعون اللهَ أن يجعَلَ لهم من عنده وليًّا ونصيرًا ينصُرُهم على عدوِّهم؟!
ثمَّ يُخبر تعالى أنَّ الَّذين آمنوا، قتالُهم هو مِن أجل إعلاءِ كلمة الله تعالى، والَّذين كفروا قتالُهم في سبيل الطَّاغوتِ، فأمَر الله بقتالِ من يتولَّى الشَّيطانَ ويُطيعه، مخبرًا سبحانه أنَّ كيدَ الشَّيطانِ كيدٌ واهنٌ وضعيفٌ.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
استئنافٌ وانتقالٌ إلى التَّحريضِ على الجهاد بمناسبةٍ لطيفة، فإنَّه انتقَل من طاعة الرَّسول إلى ذِكرِ أشدِّ التَّكاليفِ، ثمَّ ذكَر الَّذين أنعَم اللهُ عليهم من النَّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداءِ والصَّالحين، وكان الحالُ أدعى إلى التَّنويهِ بشأنِ الشَّهادة دون بقيَّةِ الخِلال المذكورة معها الممكنة النَّوالِ
.
وأيضًا لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى طاعتَه وطاعةَ رسولِه، وكان من أهمِّ الطَّاعات إحياءُ دِين الله، أمَر بالقيام بإحياءِ دِينه، وإعلاء دعوتِه، بالجهاد؛ لأنَّه أشقُّ الطَّاعات، ولأنَّه أعظمُ الأمور الَّتي بها يحصلُ تقويةُ الدِّين، وأَمَرَهم ألا يقتحِموا على عدوِّهم على جَهالةٍ؛ فقال :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ
أي: يا أيُّها المؤمنون، احذَروا من عدوِّكم، وذلك بالأخْذِ بالأسبابِ الَّتي يُستعانُ بها على قِتالهم ودَفْعِهم .
فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ
أي: فاخْرُجوا لقِتالِ عَدوِّكم متفرِّقينَ، جماعةً بعد جماعةٍ .
أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا
أي: أو انفِروا كلُّكم مجتمعينَ .
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ
أي: وإنَّ في عِدادِكم- أيُّها المؤمنون- منافقينَ، يتثاقَلون ويتخلَّفون بأنفُسِهم عن جهادِ عدوِّكم إذا أنتم نفَرْتم إليهم، ويثبِّطون غيرَهم فيتخلَّفونَ عن الخروجِ في سبيل الله تعالى .
فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ
أي: فإنْ حلَّتْ بكم هزيمةٌ وقتلٌ، وظفِر الأعداءُ عليكم في بعض الأحوال لِمَا للهِ تعالى في ذلك من الحِكَمِ .
قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا
أي: فإنْ أصابَكم ذلك، قال هذا المنافِق الَّذي يَتباطَأُ ويُبطِّئُ غيرَه عن الجِهاد: قد منَّ الله عليَّ بعدمِ الخُروجِ معهم للقِتال، وإلَّا لَأصابني ما أصابَهم من القَتْلِ أو الهزيمةِ .
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ
أي: وإنْ أظفرَكم اللهُ بعدوِّكم فانتصرْتم عليهم, ونِلتم منهم غنيمةً .
لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ
أي: ليقولَنَّ هذا المنافقُ وكأنَّه ليس من أهلِ دِينكم- يا مَعشرَ المؤمنينَ- لا يرتبطُ معكم فيه بالتزامِ أحكامِه، ومنها النُّصرةُ لكم .
يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا
أي: تمنَّى هذا المنافقُ أن يكونَ مع المؤمنين في الخروج للجهاد، فيُصيبَ معهم من الغنائم الَّتي ظفِروا بها من عدوِّهم .
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذمَّ سبحانه وتعالى المبطِّئين في الجهاد عاد إلى التَّرغيب فيه ودلَّهم بهذه الآيةِ على طريقِ تطهير نفوسِهم من ذلك الذَّنبِ العظيمِ ذنبِ القعود عن القتال مبيِّنًا أنَّ قَصْدَ المجاهد الآخرةُ وإيثارُ ما عند الله فقال:
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ
أي: فليجاهدْ أعداءَ الله لإعلاءِ كلمة الله سبحانه، المؤمنون الصَّادقون الَّذين يبيعونَ الحياة الدُّنيا بالآخرة رغبةً فيما عند الله عزَّ وجلَّ .
وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ
أي: ومن يُجاهِدْ أعداءَ الله تعالى لإعلاء كلمتِه جلَّ وعلا فسواءٌ قتَله الأعداء، أو بقي حيًّا وانتصَر عليهم .
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا
أي: فهو غانمٌ على كلِّ حال؛ إذ سيُعطيه اللهُ تعالى ثوابًا جزيلًا .
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ
أي: ولمَ لا تُجاهدون- أيُّها المؤمنون- لإعلاءِ كلمة الله تعالى، وتُجاهِدون للسَّعي في استنقاذِ الرِّجال والنِّساءِ والصِّبيان الَّذين غُلِبُوا على أنفسِهم بقَهْرهم وإيذائِهم وإذلالِهم وسَومِهم العذابَ، ولا يَستطيعون حيلةً للهجرة ولا يهتدون إليها سبيلًا ؟!
عن عُبَيد اللهِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ عُتْبةَ، قال: ((سَمِعْتُ ابنَ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما يقولُ: كنتُ أنا وأمِّي مِن المستضعَفينَ، أنا من الوِلدانِ، وأمِّي من النِّساءِ )) .
وعن عَبدِ الله بن أبي مُلَيكةَ: ((أنَّ ابنَ عبَّاسٍ تَلا: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. قال: كنتُ أنا وأمِّي ممَّن عذَر اللهُ )) .
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا
أي: يَدْعون ربَّهم بأن يخرجَهم من مكَّةَ؛ للنَّجاةِ من فتنةِ استضعافِهم من قِبَل مشركِي قريشٍ .
وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا
أي: وسخِّرْ لنا من عندك مَن يتولَّى أمرنا ويُنقذُنا، وسخِّرْ لنا من عندك مَن ينصُرُنا على عدوِّنا .
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى وجوبَ الجهاد بيَّن أنَّه لا عبرةَ بصورةِ الجهادِ، بل العبرةُ بالقَصْدِ والدَّاعي، فالأمورُ بمقاصدها وغاياتها؛ فالمؤمنون يقاتِلون لغَرَضِ نُصرةِ دِين الله وإعلاءِ كلمته، والكافرون يقاتِلون في سبيل الطَّاغوتِ ولم يكتفِ ببيان كونِ القتالِ المأمور به مقيَّدًا بكونه في سبيل الله، وهي سبيلُ الحقِّ والعدلِ، وإنقاذ المستضعَفين المظلومين من الظُّلم، حتَّى أكَّده بإعادةِ ذِكره، مع مقابلتِه بضِدِّه، وهو ما يقاتِلُ الكفَّارُ لأجله فقال:
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أي: إنَّ المؤمنينَ حقًّا إنَّما يُقاتِلون من أجْلِ إعلاء كلمةِ الله تعالى .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ
أي: وأمَّا الكفَّارُ فإنَّهم إنَّما يُقاتلون لأجل الطَّاغوت كالشَّيطان .
والطَّاغوت: هو كلُّ ما تجاوَز به العبدُ حدَّه من معبودٍ أو متبوعٍ أو مُطاعٍ .
فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ
أي: فقاتِلوا- أيُّها المؤمنون- أولئك الَّذين يتولَّوْن الشَّيطانَ ويُطيعون أوامرَه .
إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا
أي: فلا تهابوا أولياءَ الشَّيطان؛ لأنَّ إمامَهم الشَّيطانَ ذو كيدٍ واهنٍ وضعيفٍ، لا يقوَى على مقاومةِ الحقِّ والتَّغلُّب عليه

.
الفوائد التربوية:

1- أنَّه يجب على الإنسانِ أنْ يكونَ كيِّسًا فطِنًا؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ
.
2- في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ دليلٌ على أنَّ التَّكاسلَ في الخير، والتَّراجعَ عنه من أسباب النِّفاق، وهو كذلك، والتَّباطؤُ عن الخير والتَّكاسل عنه ليس سببًا للنِّفاق فحسبُ، بل هو سببٌ للضَّلال والعمى، والعياذُ بالله! كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] ، وقال الله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق: 5] .
3- قوله تعالى: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فيه تنبيهٌ على أنَّ المجاهِدَ ينبغي أن يثبُتَ في المعركةِ، وأن يوطِّنَ نفسَه على أنَّه لا بدَّ من أحدِ أمرين؛ إمَّا أن يقتلَه العدوُّ، فينالَ الشَّهادة، وإمَّا أن يغلبَ العدوَّ ويقهَرَه، ويعودَ بالظَّفَر والغَلَبة، فإنَّه إذا عزم على ذلك لم يفِرَّ عن الخَصم، ولم يُحجِمْ عن المحارَبة .
4- توبيخ مَنْ توانى عن الجهادِ؛ لقوله: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
5- ذِكْر ما يشجِّعُ على القتال من النَّاحية النَّفسية؛ لقوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ؛ لأنَّ ذِكر ما يُثير الإنسانَ ويهيِّجُه أمرٌ مطلوب، ولا شكَّ أنَّ الإنسان إذا قيل له: إنَّ هناك رجالًا مستضعَفين ووِلدانًا ونِساءً لا شكَّ أنَّه سوف يزداد همَّةً وإقدامًا .
6- في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ أنَّه بحسَب إيمانِ العبد يكون جهادُه في سبيل الله، وإخلاصُه ومتابعتُه؛ فالجهادُ في سبيلِ الله من آثارِ الإيمانِ ومقتضيَاتِه ولوازِمه، كما أنَّ القِتالَ في سبيل الطَّاغوتِ مِن شُعَبِ الكفرِ ومقتضياتِه .
7- في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ أنَّ الَّذي يقاتِلُ في سبيلِ الله ينبغي له ويحسُنُ منه من الصَّبرِ والجلَدِ ما لا يقوم به غيرُه، فإذا كان أولياءُ الشَّيطانِ يَصبِرون ويُقاتِلون وهم على باطلٍ، فأهلُ الحقِّ أَولى بذلك؛ كما قال تعالى في هذا المعنى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ الآية .
8- في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ أنَّ الَّذي يقاتِلُ في سبيل الله معتمدٌ على ركنٍ وثيقٍ، وهو الحقُّ، والتَّوكُّل على الله؛ فصاحبُ القوَّة والرُّكن الوثيقِ يُطلَب منه من الصَّبر والثَّبات والنَّشاط ما لا يُطلب ممَّن يقاتِلُ عن الباطل، الَّذي لا حقيقةَ له ولا عاقِبةَ حميدةً؛ فلهذا قال تعالى: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا .
9- بيان أنَّ الإيمانَ يحمِلُ على الإخلاصِ؛ لقوله: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
10- بيانُ أنَّ مَن قاتَل في غيرِ سبيل الله، ففيه خَصلةٌ من خِصال الكفر؛ لقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ .
11- بيان ضَعفِ ما يعملُه الشَّيطان بالكيدِ أو بغير الكيد، لأنَّه إذا كان كيدُه ضعيفًا، فما يكيدُ به أضعفُ؛ لقوله: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا .
12- أنَّه لا يَنبغي للإنسانِ أنْ يَخشى أو يخافَ أولياءَ الشَّيطان؛ لأنَّ أولياءَ الشَّيطان ضُعفاءُ، كما أنَّ الشَّيطانَ الَّذي هو وليُّهم كيدُه ضعيفٌ .
13- أنَّ الشَّيطانَ يكيدُ للإنسان؛ لقوله: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ فاحذَرْ كيدَه لا يغرَّنَّك، فربَّما يوسوس لك في التَّهاونِ في العبادات المطلوبة، أو في غِشيان الأشياءِ الممنوعة، ويقول: اللهُ غفور رحيمٌ، والأمر سهلٌ، افعَلْ وتُبْ، حتَّى يكيدَ لك فتقعَ في الشِّباك، فاحذَرْ كيدَه

!
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فيه وجوبُ أخذِ الحذَر من أعدائنا، وكلُّ عدوٍّ يؤخذ منه الحذرُ فيما يخاف منه؛ فالَّذين يغزوننا بالسِّلاح نأخذ الحذرَ منهم بالسِّلاح، والَّذين يغزوننا بالأفكار نأخذ الحذر منهم بالعِلم، والَّذين يغزوننا بالأخلاق نأخذ الحذر منهم بالتَّرفُّع عن سفاسف الأخلاق، فكلُّ عدوٍّ يقابَلُ بسِلاحه
.
2- قوله تعالى: فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا فيه وجوبُ النُّفور للجهادِ في سبيل الله، سواءٌ كنَّا مجتمعين أو متفرِّقين، قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا .
3- قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ الخِطابُ لعسكرِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم المؤمنين منهم والمنافقين، لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي: ليتأخَّرَنَّ وليتثاقَلنَّ عن القتالِ، وهم المنافقون؛ كعبدِ اللهِ بن أُبيٍّ المنافقِ وأصحابِه، وإنَّما قال: (مِنْكم)؛ لاجتماعِهم مع أهلِ الإيمانِ في الجنسيَّةِ والنَّسبِ وإظهارِ الإسلام، لا في حقيقةِ الإيمان .
4- وجوبُ قِتالِ الأعداء؛ لقوله: فَلْيُقَاتِلْ، ووجوبُ إخلاص النِّيَّةِ فيه؛ لقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
5- أنَّ المقاتلَ في سبيلِ الله ناجحٌ على كلِّ حال؛ لقوله: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فهو غانمٌ ناجحٌ على كلِّ حال، سواءٌ قُتِل، أو غَلَب، فهو على أجرٍ عظيم .
6- قوله تعالى: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ، وإنَّما اقتَصَر على القتلِ والغلَبة في قوله: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ [النساء: 74] ، ولم يزِدْ: (أو يؤسَر) إبايةً مِن أن يذكرَ لهم حالةً ذميمةً لا يَرْضاها اللهُ للمؤمنينَ، وهي حالةُ الَأسْر، فسكَت عنها؛ لئلَّا يذكُرَها في معرِض التَّرغيب، وإنْ كان للمسلمِ عليها أجرٌ عظيمٌ أيضًا إذا بذَل جُهدَه في الحربِ فغُلِب؛ إذ الحربُ لا تَخلو من ذلك، وليس بمأمورٍ أنْ يُلقيَ بيدِه إلى التَّهلُكة إذا عَلِم أنَّه لا يُجدي عنه الاستبسالُ؛ فإنَّ مِن منافع الإسلامِ استبقاءَ رجالِه لدِفاع العدوِّ .
7- بيان عظَمة الرَّبِّ عزَّ وجلَّ؛ لقوله: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ، وجه ذلك: ضمير الجمعِ؛ لأنَّنا نعلَمُ أنَّ اللهَ إلهٌ واحد، فكلُّ ما أضيفَ إلى الله عزَّ وجلَّ من ضمائرِ الجمع، فالمراد بها التَّعظيمُ .
8- أنَّ للإنسانِ أنْ يطلُبَ من الله تعالى وليًّا من عنده؛ لقوله: وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، ولا يقال: إنَّه لا بدَّ أن تقول: اللَّهمَّ تولَّني، فأنت إمَّا أن تدعوَ اللهَ بأن يتولَّاك، أو أن ييسِّرَ لك وليًّا، وكذلك يقال في قوله تعالى: وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا .
9- بيان علوِّ همَّة هؤلاء؛ حيث قالوا: مِنْ لَدُنْكَ في الوليِّ، ومِنْ لَدُنْكَ في النَّصيرِ؛ لأنَّ الوليَّ إذا جاء من عند الله وكذلك النَّصيرُ، فهذا هو الَّذي ينفعُ، أمَّا الوليُّ الَّذي لا يأتي من عند الله عزَّ وجلَّ وإنَّما حملَتْه الحمِيَّةُ والعصبيَّة، فهذا قد ينفعُ، وقد لا ينفع .
10- وجوبُ الدِّفاع عن المستضعَفين عند الكفَّار؛ لأنَّ اللهَ تعالى وبَّخ على أمرين: على ترك القتالِ في سبيل الله، وعلى ترك القتالِ في سبيل هؤلاء المستضعَفين لتخليصِهم، وهذا أمرٌ واجبٌ على كلِّ مسلمٍ- مع القدرة- أن يفُكَّ أسيرَ المسلمينَ، وأن يرفَعَ الظُّلمَ عنهم، بقدر المستطاع؛ لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] .
11- قوله: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ يدلُّ على أنَّ الجهادَ واجبٌ، ومعناه أنَّه لا عذرَ لكم في ترك المقاتَلة، وقد بلغ حالُ المستضعَفينَ من الرِّجال والنِّساءِ والوِلْدان مِن المسلِمين إلى ما بلَغ في الضَّعفِ؛ فهذا حثٌّ شديدٌ على القتال، وبيانُ العلَّة الَّتي لها صار القتالُ واجبًا، وهو ما في القِتال من تَخليصِ هؤلاء المؤمنين مِن أيدي الكفَرةِ؛ لأنَّ هذا الجمعَ إلى الجهادِ يجري مجرى فَكاكِ الأسير .
12- جواز التَّوسُّلِ بالحال؛ لقوله: أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا، توسَّلوا إلى الله تعالى بذِكر حالِ أهلِ هذه القرية بأنَّهم ظالمون لهم، وذِكْر الحال أنَّ الإنسانَ مظلومٌ يوجِبُ الرِّقَّة والعَطْف .
13- جوازُ الجهرِ بالسُّوء لِمَن ظُلِم، فتقول: فلان ظلَمني، وفلان أخَذ مالي، وما أشبَهَ ذلك، ولا يُعَدُّ هذا من باب الغِيبةِ؛ لقوله: الظَّالِمِ أَهْلُهَا، وقد قال الله تبارك وتعالى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النِّساء: 148] .
14- قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ هذه الآيةُ كالدَّلالةِ على أنَّ كلَّ مَن كان غرضُه في فِعله رضَا غيرِ الله، فهو في سبيل الطَّاغوت؛ لأنَّه تعالى لَمَّا ذكَر هذه القِسمة، وهي أنَّ القتالَ إمَّا أن يكون في سبيلِ الله، أو في سبيل الطَّاغوت، وجَب أن يكون ما سوى الله طاغوتًا .
15- أنَّ الكفَّارَ المحاربين من أولياء الشَّيطان؛ لقوله: أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ، وكانوا أولياءَه؛ لأنَّهم يمتثِلون لأمرِه ولنهيِه، فإذا أمَرهم بالفحشاء امتثلوا، وإذا نهاهم عن البِرِّ امتثلوا، فبذلك صاروا له أولياءَ

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ خبرٌ إنكاريٌّ، وقد جاء التَّأكيدُ بـ: (إنَّ)، وبلام التَّأكيدِ المُزحْلَقة، ونونِ التَّوكيد الثَّقيلة، وفي استعمالِ الفعل المضعَّف- وزيادةُ الحروف زيادةٌ في المعنى- وفي مجموعِ هذه المؤكِّدات: تخويفٌ رهيبٌ لِمَن ثَبَّط نفسَه أو ثبَّط غيرَه
.
2- قوله: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراضٌ بين فِعْلِ القَولِ لَيَقُولَنَّ وَمَقولِه وهو: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء: 73] ؛ للتَّنبيه على ضَعفِ عَقيدتِهم، وأنَّ قولَهم هذا قولُ مَن لا مواصلةَ بينكم وبينه، وإنَّما يريدُ أن يكونَ معكم لمجرَّدِ المالِ .
- وقوله: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ شبَّهَ حالَهم في حينِ هذا القولِ بحالِ مَن لم تسبِقْ بينه وبين المخاطَبين مودَّةٌ حقيقيَّة أو صوريَّة؛ فاقتضى التَّشبيهُ أنَّه كان بينه وبينهم مودَّةٌ من قَبلِ هذا القول، ووجهُ هذا التَّشبيه أنَّه لَمَّا تمنَّى أنْ لو كان معهم وتحسَّر على فواتِ فوْزِه لو حضر معهم، كان حالُه في تفريطِه رُفقتَهم يُشبِهُ حالَ مَن لم يكُنْ له اتِّصالٌ بهم، بحيث لا يشهد ما أزمَعوا عليه من الخروجِ للجهاد، فهذا التَّشبيهُ مسُوقٌ مساقَ زيادة تنديمِه وتحسيرِه، أي إنَّه الَّذي أضاع على نفسِه سببَ الانتفاع بما حصَل لرفقتهِ من الخير وثواب النَّصر وفخرِه ونعمةِ الغنيمة .
- والظَّاهر أنَّه تهكُّم؛ لأنَّ المنافِقين كانوا أعْدَى عدوٍّ للمُؤمنين، وأشدَّهم حَسدًا لهم؛ فكيف يوصَفون بالمودَّةِ إلَّا على وجهِ العكس تهكُّمًا بحالهم ؟!
3- قوله: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خِطابٌ للمأمورين بالقِتالِ على طريقةِ الالتفات من الغَيبة إلى الخطابِ؛ مبالغةً في التَّحريض والحثِّ عليه، وهو المقصودُ من الاستفهامِ .
- والاستفهامُ في قوله: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ إنكاريٌّ، أي: لا شيءَ لكم في حالِ لا تُقاتِلون، والمرادُ أنَّ الَّذي هو لكم هو أنْ تُقاتلوا، فهو بمنزلةِ أمرٍ، أي: قاتِلوا في سبيلِ الله لا يَصُدَّكم شيءٌ عن القتال .
4- قوله: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيطَانِ كلامٌ مبتدَأٌ سِيقَ لترغيب المؤمنين في القِتال، وتَشجيعِهم ببيان كمالِ قوَّتِهم بإمدادِ الله تعالى ونُصرتِه، وغاية ضَعْفِ أعدائهم .
- والفاء في فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيطَانِ لبيانِ استتباعِ ما قَبْلَها لِمَا بعدَها، وذكَّرهم بهذا العنوان أَوْلِيَاءَ الشَّيطَانِ؛ للدَّلالة على أنَّ ذلك نتيجةٌ لقتالهم في سبيل الشَّيطان، والإشعارِ بأنَّ المؤمنين أولياءُ الله تعالى، لأنَّ قتالَهم في سبيله، وكلُّ ذلك لتأكيدِ رغبة المؤمنين في القتال، وتقوية عزائمِهم عليه .
5- قوله: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا أكَّد الجملةَ بمؤكِّدينِ (إنَّ) و(كَانَ) الدَّالَّة على تقرُّرِ وصْفِ الضَّعفِ لكيد الشَّيطانِ .

==============10.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (77- 79)
ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ
غريبُ الكَلِمات:

كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ: أي: اقبِضوها، فأَمسِكوها عن قِتال المشركين وحربِهم، وأصْل الكَفِّ: يدلُّ على قبْضٍ وانقباض، ومنه الكفُّ للإنسان؛ سُمِّيتْ بذلك لأنَّها تقبضُ الشَّيء
.
بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ: أي: قُصورٍ عاليةٍ، أو حُصونٍ مُطوَّلة، أو البيوتِ الَّتي فوقَ الحُصونِ، أو قصورٍ في السَّماء بأعيانها، وأصل (برج): من الظُّهور والبروزِ مِن بَرجَتِ المرأة، إذا ظهَرت وبرَزت .
يَفْقَهُونَ: يفهَمون حقَّ الفَهْم، والفِقْه: هو التَّوصُّل إلى عِلمٍ غائبٍ بعِلم شاهدٍ، وأصل (فقه): يدلُّ على إدراكِ الشَّيء والعِلمِ به

.
مشكل الإعراب:

قوله تعالى: يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
كَخَشْيَةِ اللَّهِ: الجارُّ والمجرورُ في محلِّ نَصْبٍ، نَعتٌ لمصدرٍ مَحذوفٍ، أي: خشيةً كخشيةِ اللهِ، أو في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الواو فييَخْشَوْنَ، أي: مُشْبِهينَ لأَهْلِ خَشيةِ اللهِ.
أَشَدَّ خَشْيَةً: أَشَدَّ منصوبٌ عطفًا على محلِّ كَخَشْيَةِ اللهِ، وخَشْيَةً تمييزٌ منصوبٌ، ويجوز اعتبارُ خَشْيَةً مؤخَّرةً مِن تقديمٍ، والأصلُ: يَخْشونَ النَّاسَ مِثلَ خشيةِ اللهِ أو خَشيةً أشدَّ منها؛ وعليه فهي منصوبةٌ بالعطفِ على محلِّ كَخَشْيَةِ اللهِ، وينتصِبُ أَشَدَّ على الحالِ مِن خَشْيَةً الذي كان في الأصلِ نعتًا لها، فلمَّا قُدِّم عليها صارَ حالًا منها؛ كقول القائلِ: لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ، فلو تأخَّرَ (مُوحِشًا) لكان: لِمَيَّةَ طَلَلٌ مُوحِشٌ، ولكان نعتًا للطَّللِ، ولكن لَمَّا تقدَّم أصبحَ حالًا، وعلى هذا الوجهِ فلا ينتصبُ خَشْيَةً على التَّمييزِ. وقيل غير ذلك في إعرابِ هذه الآيةِ

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يخاطِبُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم قائلًا له: ألَا تعجَبُ- يا محمَّدُ- من هؤلاء الَّذين قيل لهم: أمسِكوا عن قتال المشركين، وأقيموا الصَّلاة وآتوا الزكاة- وكان بعضٌ ممَّن مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد سألوا أن يُفرَض عليهم القتالُ- فلمَّا فرَض الله عليهم القتال إذا جماعةٌ منهم يخافونَ من النَّاس كخوفِهم مِن اللهِ أو أشدَّ من ذلك، وقالوا: ربَّنا لِمَ فرضْتَ علينا القتالَ؟! هلَّا أخَّرتَ فرضه إلى وقتٍ آخرَ غيرِ هذا الوقت، فأمر الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: إنَّ ما في الدُّنيا إنَّما هو متاعٌ قليل زائل، وما في الآخرة من نعيمٍ للمتَّقين هو خيرٌ وأفضلُ ممَّا في هذه الدُّنيا، ولا يُظلَمَون شيئًا.
ثمَّ يخبِر تعالى أنَّ الموتَ سيُدرك الجميع في أيِّ بقعةٍ كانوا، ولو كانوا محصَّنين في حصونٍ منيعةٍ وعاليةٍ، ويبيِّن تعالى أنَّ المكذِّبين لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إنْ أصابهم خيرٌ يقولون: هذا جاء من عند الله تعالى، وإنْ أصابهم سوءٌ وشرٌّ قالوا: إنَّ ما أصابهم هو بسبب ما جاء به محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأمَرَ اللهُ نبيَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أنْ يقول لهم: إنَّ جميعَ ما أصابهم مِن خيرٍ أو شرٍّ هو بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه؛ فما لِهؤلاءِ القومِ الصَّادرِ منهم هذا القولُ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يفهمون حديثًا بالكلِّيَّة ولا يقرُبون من فهمِه؟!
ثمَّ يخاطب اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم: أنَّ ما أصابه من خير هو من عند الله تعالى، وما ناله من أذًى ومكروه هو بسبب ذنبٍ صدَر منه، ويخبره تعالى أنَّه بعَثه للناس رسولًا بينه وبين الخَلق يبلِّغُهم شَرْعَه سبحانه، وكفى بالله شهيدًا.
تفسير الآيات:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
سَببُ النُّزول:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما أنَّ عبدَ الرحمن بنَ عوفٍ وأصحابًا له رضِي اللهُ عنهم أتَوُا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا: يا نبي الله، كنَّا في عزٍّ ونحن مشركونَ، فلمَّا آمنَّا صِرنا أذلَّة، قال: إنِّي أُمرتُ بالعَفْوِ، فلا تقاتلوا القَوْمَ، فلمَّا حوَّله الله إلى المدينة أمَرَه بالقتالِ، فكَفُّوا، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الآية
.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُم
أي: ألَا تعجَبُ- يا محمَّدُ- من هؤلاء الَّذين أُمِرُوا بإمساك أيديهم عن حرْبِ أعدائهم المشركين، والامتناع عن قتالهم .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
أي: وعليكم بأداء الصَّلاة بحدودِها وفروضها تامَّةً كما أمَر اللهُ عزَّ وجلَّ، وإيتاءِ الزَّكاة أهلَها المستحقِّين كما شُرِعت
كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النِّساء: 66].
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ
أي: فلمَّا فُرِض عليهم القتالُ- الَّذي كانوا قد سألوا أن يُفرَضَ عليهم- في وقتِه المناسبِ لذلك .
إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
أي: إذا جماعةٌ منهم قد خافوا من مواجهةِ النَّاس لقتالِهم، خوفًا شديدًا مِثل خوفِهم من اللهِ تعالى أو أشدَّ خوفًا .
وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ
أي: لِمَ فرَضْتَ علينا القتالَ يا أللهُ ؟
لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
أي: هلَّا أخَّرتَ فرضَ القتال مدَّةً أخرى متأخِّرةً عن الوقتِ الحاضر، قيل: يعنونَ بذلك تأخيرَه إلى أن يموتوا على فُرُشِهم وفي بيوتهم .
قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ
أي: قُلْ لهم- يا محمَّدُ- ردًّا عليهم: ما في الدُّنيا من نِعَمٍ قليلة كيفًا وكمًّا ووقتًا، فهي محدودةٌ وفانية .
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى
أي: وما في الآخِرة من نعيمٍ أعدَّه الله تعالى للمتَّقين خيرٌ وأفضلُ ممَّا في الدُّنيا كيفًا وكمًّا ووقتًا؛ فنعيمُ الآخرة عظيمٌ، وكثيرٌ لا يُعَدُّ، وباقٍ لا يزولُ .
وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا
أي: إنَّ سعيَكم للآخِرةِ ستَجِدون أجْرَه كاملًا موفَّرًا غيرَ منقوصٍ منه شيئًا .
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ
أي: في أيِّ مكانٍ كنتم، فإنَّ الموتَ آتِيكم لا مَحالةَ، لا يَنجو منه أحدٌ منكم، سواءٌ في ذلك مَن خرَج للجِهاد في سبيلِ الله تعالى، ومَن قعَدَ عنه .
وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ
أي: إنَّ الموتَ واصلٌ إليكم حتمًا، ولو تَحصَّنتم منه بالحُصونِ المنيعة العاليةِ .
وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: وإنْ ينَلِ المكذِّبين لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، رخاءٌ وخصبٌ ورزقٌ وأولادٌ وعافيةٌ وظفَرٌ وفتحٌ وغنائمُ، وغيرُ ذلك من الخيرات؛ فإنَّهم يقولون: هذا قدْ جاء من قِبَل اللهِ تعالى ومِن تَقديرِه، وليس لك علينا في ذلك فَضلٌ يا محمَّدُ .
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ
أي: وإنْ تنَلْهم شِدَّةٌ؛ كضيقٍ في الرِّزق وقحطٍ وجدبٍ ونقصٍ في الثَّمرات وموتِ أولاد وأحباب، وهزيمةٍ من عدوٍّ، وإصابةٍ بجراحٍ وآلام، وغير ذلك من شدائدَ ومِحَنٍ، فإنَّهم يقولون: إنَّما أصابَنا ما أصابنا من بلايا بسببِ ما جئتَنا به يا محمَّدُ .
كما أخبر الله عن قوم فرعونَ في قولهم مثل ذلك لموسى عليه السلام؛ حيث قال سبحانه: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: 131] .
وكما قال قومُ صالحٍ عليه السَّلام له: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النمل: 47] .
قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاء القومِ: جميعُ ما أصابكم من حَسنةٍ أو سيِّئة، فهو بقضاءِ الله تعالى وقَدَرِه .
فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا
أي: عجبًا لهؤلاء القومِ؛ ما شأنُهم لا يفهمونَ حديثًا بالكلِّيَّة ولا يَقرُبون من فَهمِه! ومن ذلك حقيقةُ أنَّ كلَّ ما أصابهم فمِن عندِ الله تعالى، بتَقديرِه ومَشيئته, لا يَقدِرُ على ذلك أحدٌ غيرُه ؟!
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ
أي: ما تُؤتاه- يا محمَّدُ- من نِعَم الدِّين والدُّنيا، فهو من فضلِ الله تعالى ورحمتِه .
وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ
أي: وما ينالُكَ من أذًى ومكروهٍ؛ فبسببِ ذنبٍ صَدَر منك .
كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] .
وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا
أي: إنَّما بعثناك- يا محمَّدُ- رسولًا بَينَنا وبين النَّاس عامَّةً، تُبلِّغهم شرائعَ الله تعالى، وما يُحبُّه ويرضاه، وما يكرَهُه ويأباه .
وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا
أي: وحَسْبُك اللهُ عزَّ وجلَّ شاهدًا على أنَّه أرسَلك، وشاهدًا على إبلاغِك رِسالتَه، وشاهدًا على مَن أُرسلتَ إليهم في قَبولهم أو رَفْضِهم رسالتَك

.
الفوائد التربوية:

1- في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ... أنَّ الإنسانَ قد يتعجَّلُ الشَّيءَ فإذا نزَل به نكَص عنه، وهؤلاء تعجَّلوا القتالَ، فلمَّا أُمِروا به نكَص بعضُهم عنه؛ ولهذا قال النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: ((لا تتمنَّوْا لقاءَ العدوِّ، واسأَلوا اللهَ العافيةَ، فإذا لقيتموهم فاصبِروا؛ فإنَّ الجنَّةَ تحت ظلال السُّيوفِ ))
.
ويتفرَّعُ من هذه الفائدةِ: أنَّه لا يَنبغي للإنسانِ أنْ يَتدخَّل في أمرٍ يَعجِزُ عن الخروجِ منه؛ لأنَّ فيه إذلالًا للنَّفْس، ووجهُه أنَّ الإنسانَ إذا شرَعَ في الشَّيء ثمَّ عجَز عنه وتأخَّر، نزَلتْ قيمتُه عند النَّاس، وقالوا: هذا رجلٌ مُتسرِّع، مُتعجِّل؛ كيف يَدخُلُ في أمرٍ وهو لا يَعرِفُ كيف يخرُجُ منه ؟!
2- أنَّ الإنسانَ إذا كان لا يستطيعُ أن يقومَ بالجِهاد، فليُحسِن الأعمالَ أو العباداتِ الخاصَّةَ؛ لأنَّه أُمِر بها؛ لقوله: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ .
3- التَّزهيد في الدُّنيا؛ لقوله: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ .
4- أنَّه يجبُ على الإنسانِ أنْ يَستعدَّ للموتِ؛ لأنَّه لا مفرَّ له منه، وإذا كان لا مفرَّ فلْنستعدَّ له، ولْنعمَلْ، قال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُّمُ الْمَوْتُ .
5- ذمُّ مَن لا فِقهَ عنده؛ لقوله: فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا، ويتفرَّعُ على ذلك: مدحُ مَن وفَّقه اللهُ للفِقه في دِين الله .
6- في قوله تعالى: فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا أنَّه يجبُ على العاقلِ الرَّشيد أن يطلُبَ فِقهَ القول دون الظَّواهر الحرفيَّة، فمن اعتاد الأخذَ بما يطفو مِن الظَّواهرِ دون ما رسب في أعماقِ الكلامِ، وما تغلغل في أنحائِه وأحنائِه، يبقى جاهلًا غبيًّا طول عمره .
7- أنَّه يجبُ على الإنسانِ إذا أصابتْه الحسنةُ أن يُولِيَها شكرًا لله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّها منه تفضُّلًا وإحسانًا، وإذا أصابته السَّيِّئة فلْينظُرْ في نفسِه حتَّى يُحاسِبَها، ويستعتبَ فترتفعَ السَّيِّئةُ، قال تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ .
8- في قوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ نفيُ الشُّؤم والتَّطيُّر وإبطالُهما؛ ليعلَمَ النَّاسُ أنَّ ما يُصيبهم من السَّيِّئات لا يصيبهم بشؤمِ أحدٍ يكونُ فيهم، وكانوا يتشاءمون ويتطيَّرون في الجاهليَّة، ولا يزال التَّطيُّر والتَّشاؤمُ فاشيًا في الجاهلين من جميع الشُّعوب، وهو مِن الخرافات الَّتي يرُدُّها العقلُ، وقد أبطلها دِينُ الفِطرة؛ قال تعالى في آلِ فرعون: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 131] ، فقد جعَل التَّطيُّر من الجهلِ، وفقدِ العِلم بالحقائق

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- الدَّعوة إلى التَّعجُّبِ لِمَا يكونُ محَلَّ تعجُّبٍ؛ لأنَّ الاستفهامَ في الآية للتَّعجيب، كما في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ...
.
2- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ... دلَّت الآيةُ على أنَّ إيجاب الصَّلاة والزَّكاة كان مقدَّمًا على إيجابِ الجهاد، وهذا التَّرتيبُ هو المُطابِق لِما في العقول؛ لأنَّ الصَّلاةَ عبارةٌ عن التَّعظيمِ لأمر اللهِ، والزَّكاةَ عبارةٌ عن الشَّفقة على خَلْقِ الله، ولا شكَّ أنَّهما متقدِّمان على الجهاد .
3- ذمُّ مَن خَشِي النَّاسَ كخشيةِ اللهِ أو أشدَّ؛ لقوله: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وعلامةُ ذلك: أنَّ الإنسانَ يترُكُ ما أوجَب اللهُ عليه خوفًا مِن النَّاس، أو يفعَلُ المحرَّم خوفًا من النَّاس، فإنَّ هذا مذمومٌ، وقد يصِلُ أحيانًا إلى الشِّركِ بالله عزَّ وجلَّ .
4- في قوله تعالى: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً قد يُتوهَّمُ مِن ظاهرِ العَطفِ بـ(أو) الشَّكُّ، وذلك محالٌ على علَّام الغيوبِ سُبحانه؛ وجوابُ ذلك مِن وجوه:
الأوَّل: أنَّ المرادَ منه الإبهامُ على المخاطَب، بمعنى أنَّهم على إحدى الصِّفتين من المساواةِ والشِّدَّة؛ وذلك لأنَّ كلَّ خوفينِ فأحدُهما بالنِّسبة إلى الآخَرَ إمَّا أن يكونَ أنقصَ أو مساويًا أو أزيدَ، فبيَّن تعالى بهذه الآيةِ أنَّ خوفَهم مِن النَّاس ليس أنقصَ مِن خوفِهم من الله، بل بقِي، إمَّا أن يكونَ مساويًا أو أزيدَ، فهذا لا يوجِبُ كونَه تعالى شاكًّا فيه، بل يوجِبُ إبقاءَ الإبهام في هذين القِسمينِ على المخاطَبِ.
الثَّاني: أنْ يكون أو بمعنى الواو، والتَّقدير: يَخشونهم كخشيةِ اللهِ وأشدَّ خشية، وليس بين هذينِ القِسمينِ منافاةٌ؛ لأنَّ مَن هو أشدُّ خشيةً فمعه من الخشيةِ مِثلُ خشيتِه من الله وزيادةٌ.
الثَّالث: أنَّ هذا نظيرُ قوله: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] ، يعني أنَّ مَن يُبصِرُهم يقولُ هذا الكلام، فكذا ها هنا، واللهُ أعلم .
5- قال تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى [النساء: 77] ، وإنَّما كانتْ الآخِرةُ خَيرًا مِن الدُّنيا لوجوهٍ:
الأوَّل: أنَّ نِعَمَ الدُّنيا قليلةٌ، ونِعَمَ الآخرة كثيرة. والثَّاني: أنَّ نِعَم الدُّنيا منقطعة، ونِعَم الآخرة مؤبَّدة. والثَّالث: أنَّ نِعَم الدُّنيا مَشُوبة بالهموم والغُموم والمكارهِ، ونِعَم الآخرة صافيةٌ عن الكدرات. والرابع: أنَّ نِعَم الدُّنيا مشكوكةٌ؛ فإنَّ أعظمَ النَّاس تنعُّمًا لا يعرِفُ أنَّه كيف يكون عاقبتُه في اليوم الثَّاني، ونِعَم الآخرة يقينيَّة، وكلُّ هذه الوجوهِ توجِبُ رجحانَ الآخرةِ على الدُّنيا، إلَّا أنَّ هذه الخيريَّةَ إنَّما تحصُلُ للمؤمنين المتَّقين؛ فلهذا المعنى ذكَر تعالى هذا الشَّرطَ، وهو قوله: لِمَنِ اتَّقَى .
6- ذمُّ مَن اعترَض على أحكامِ الله الشَّرعيَّة، كما في هذه الآية: لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ، والكونيَّةِ؛ لقوله: لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ؛ فإنَّ هذا يشمل الحُكمَ الكونيَّ والحُكم الشَّرعيَّ، فلا يجوز أن يعترضَ الإنسانُ على أحكام الله الشَّرعيَّة، ولا على أحكام اللهِ الكونيَّة، بل عليه أن يستسلمَ، أمَّا الشَّرعيَّة فمن النَّاس مَن يستسلمُ، ومنهم مَن لا يستسلمُ، وأمَّا الكونيَّةُ فالجميعُ مستسلِمون؛ كما قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [الرعد: 15] ، فهذا السُّجودُ الكونيُّ، كلُّ إنسانٍ ذليلٌ خاضعٌ لحُكم اللهِ الكونيِّ، ولا يمكِنُ أن يُدافِعَه أبدًا .
7- جوازُ التَّفضيلِ بين شَيئينِ مُتباينينِ غايةَ التَّبايُنِ؛ لقوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى؛ لأنَّه لا نسبةَ بين الدُّنيا والآخرة، لكن لَمَّا كانت الدُّنيا عاجلةً، والنَّفسُ مُولَعةٌ بحبِّ العاجلِ، صار التَّفضيلُ بينهما مستحسَنًا؛ فالآخرةُ خيرٌ لِمَن اتَّقى .
8- في قوله تعالى: يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ إسنادُ الإدراكِ إلى الموتِ، ويَتفرَّعُ عليها أنَّ الأسبابَ يصحُّ أن يُسنَدَ إليها الشَّيءُ، لكنْ بشرط أن يعتقدَ أنَّ هذه الأسبابَ لا تؤثِّرُ بنفسِها، وإنَّما هي من الله عزَّ وجلَّ .
9- جوازُ حَذْفِ ما يُعلَم، ولا يُعدُّ ذلك خلَلًا في الكلام؛ لقوله: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، أي: لأدركَكُم الموتُ، ويَتفرَّعُ مِن هذه الفائدةِ ما يكونُ في عُقودِ البيعِ والإجارةِ والرَّهنِ والوقفِ وما أشبَهَها؛ فمثلًا: إذا قال الإنسانُ: وقفتُ هذا على فلانٍ ولو كان غنيًّا، المعنى: ولو كان غنيًّا فهو وقْفٌ عليه، وعلى هذا فيكونُ الوقفُ ثابتًا لهذا الموقوفِ عليه على كلِّ تقديرٍ .
10- تَلبيسُ أعداءِ الرُّسل على العامَّة بما يقدِّر اللهُ سبحانه من البلاء والامتحان؛ كالجدبِ والفَقْر والمَرَض إذا بعَث الرُّسل، فيكون لله الحِكمةُ فيما قدَّره ليبتليَ العبادَ، أيقبَلون أم لا؟ لكنْ يتَّخذُ أعداءُ الرُّسل مِن هذا ذريعةً للتَّنفير من الرُّسل، قال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ .
11- إقرارُ المكذِّبين للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتوحيدِ الرُّبوبيَّة، وتؤخَذُ من قولهم: فَمِنَ اللَّهِ، فهم يُقرُّون بالله عزَّ وجلَّ، ويُقرُّون بأنَّ ما يحدُثُ في الكونِ فمِنَ الله، وأنَّ اللهَ هو الرَّزَّاق، وأنَّه المحيي المميتُ، يُقرُّون بهذا كلِّه، لكن لا يُقرُّون بلازمِه، وهو توحيدُ الألوهيَّةِ .
12- بيانُ أنَّ ما يُصيبُنا من الحسناتِ فهو محضُ فضلٍ من الله؛ لقوله: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، ويدلُّ لذلك: أنَّ الحسنةَ الَّتي تصيبُك إمَّا أن تكونَ ابتداءً، وإمَّا أن تكونَ ثوابًا، فإن كانت ابتداءً فكونُها فضلًا واضحٌ، وإن كانت ثوابًا على عمَلٍ فإنَّ توفيقَنا للعمل الَّذي كانت هذه الحَسنةُ ثوابًا له مِن الله عزَّ وجلَّ، إذًا: فهي مِن اللهِ، سواءٌ كانت ابتداءً أم ثوابًا .
13- جوازُ إضافةِ الشَّيءِ إلى سَببِه؛ لقوله: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ .
14- في قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أنَّ الرُّسلَ عليهم الصَّلاة والسَّلامُ لا يكونون سببًا لشرٍّ يحدُثُ، هم ولا ما جاؤوا به؛ لأنَّهم بُعِثوا بصلاح الدُّنيا والآخرةِ والدِّين

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الاستفهامُ هنا معناه التَّعجُّب
، وهو تعجيبٌ لرسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن إحجامِهم عن القِتالِ مَع أنَّهم كانوا قَبلَ ذلكَ راغبِينَ فيه، حِراصًا عليه، بحيثُ كادوا يُباشرونه كما يُنبئُ عنه الأمرُ بكفِّ الأيدي؛ فإنَّ ذلك مُشعِرٌ بكونِهم بصَددِ بَسْطِها إلى العَدوِّ بحيثُ يَكادون يَسطُونَ بهم .
2- قال تعالى: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً:
- دلَّت إِذَا الفُجائيَّة على أنَّ هذا الفريقَ لم يكُنْ تُترقَّب منهم هذه الحالةُ؛ لأنَّهم كانوا يظهَرون من الحريصينَ على القتال .
- وقوله: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً مسُوقٌ مساقَ التَّوبيخِ لهم؛ حيث رغِبوا تأخيرَ العمل بأمر الله بالجهاد؛ لخوفِهم من بأس المشركين؛ فالتَّشبيهُ جارٍ على طريقة المبالَغة؛ لأنَّ حملَ هذا الكلامِ على ظاهر الإخبار لا يلائمُ حالَهم من فضيلةِ الإيمان والهجرة .
- وفي قوله: كَخَشْيَةِ اللَّهِ تشبيهٌ، أي: يخشَوْنهم مشبِهين لأهلِ خشيةِ الله تعالى .
3- قوله: وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا: وقَع موقعَ زيادة التَّوبيخ الَّذي اقتضاه قوله: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، أي: ولا تُنقصون شيئًا من أعمارِكم المكتوبة؛ فلا وجهَ للخوفِ وطلبِ تأخير فرْض القتال. وقيل: معنى نفي الظُّلم هنا أنَّهم لا يُظلَمون بنقصِ ثوابِ جهادهم، فيكون موقعُه موقعَ التَّشجيعِ؛ لإزالة الخوف .
4- قال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ:
- قوله: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ فيه حذفُ جوابِ لو؛ اعتمادًا على دَلالةِ ما قبلَهُ عليهِ، والتقدير: (وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مشيدةٍ يُدرككم الموتُ)، وجملةُ وَلَوْ كُنْتُمْ... معطوفةٌ على أُخرى مِثلِها محذوفة، والتقدير: لو لم تكونوا في بُروج مُشيَّدةٍ ولو كُنتُم...إلخ، وقد اطَّردَ حذفُ الجملةِ الأولى المعطوفِ عليها؛ لدِلالة المذكورِ -أي: الجملة الثانية جملة المعطوف وَلَوْ كُنْتُمْ- عليها دَلالةً واضحةً؛ فإنَّ الشَّيءَ إذا تَحقَّقَ عِندَ المانِعِ، فلَأَنْ يَتحقَّقَ عِندَ عَدمِه أَوْلَى، وعلى هذِه النُّكتةِ يَدورُ ما في (لو) الوصليَّةِ من التأكيدِ والمبالغةِ .
5- قوله: فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا هذا استفهامٌ معناه التَّعجُّب من هذه المقالة، وهذا النَّوعُ مِن الاستفهامِ يَتضمَّنُ إنكارَ ما استُفْهِم عن عِلَّتِه، وأنَّه يَنبغي أنْ يوجَدَ مُقابِلُه .
- وهو كلامٌ مُعترِضٌ بين المبيَّن وبيانِه، مسُوقٌ من جِهتِه تعالى؛ لتعييرِهم بالجهل، وتقبيحِ حالهم، والتَّعجُّبِ مِن كمال غَباوَتِهم، والفاء لترتيبِه على ما قبله .
6- قوله: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ... بيانٌ للجوابِ المُجْملِ المأمورِ به في قوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وإجراؤُه على لِسان النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثمَّ سَوْقُ البَيانِ من جهتِه عزَّ وجلَّ بطَريقِ تلوينِ الخطابِ وتوجيهِه إلى كلِّ واحدٍ من النَّاسِ، والالتفاتُ لمزيدِ الاعتناءِ به، والاهتمامِ بردِّ مقالتِهم الباطلةِ .
7- قوله: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا رَسُولًا حالٌ قُصِد بها التأكيدُ أو التَّعميمُ؛ فالتَّأكيدُ إنْ عُلِّق الجارُّ في لِلنَّاسِ بالفِعل أَرْسَلْنَاكَ، والتَّعميمُ، إنْ علِّق الجارُّ بها، أي: رسولًا للنَّاس جميعًا، كقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ: 28] .
8- قوله: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا: اعتراضٌ تذييليٌّ، وفيه التفاتٌ من الخِطابِ إلى الغَيبة-حيث لم يقل: (وكفى بإلهك أو بربِّك شهيدًا)-؛ لتربيةِ المهابةِ، وتَقويةِ الشَّهادةِ .

=============11.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (80- 84)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ
غريبُ الكَلِمات:

بَرَزُوا: خرَجوا إلى الفَضاءِ والمتَّسعِ من الأرض، وأصل (برز): ظهور الشَّيء وبُدُوُّه، ومنه سُمِّي الفضاء؛ لأنَّه ظاهرٌ وبادٍ غيرُ خفيٍّ
.
بَيَّتَ طَائِفَةٌ: أي: دَبَّروا وزوَّروا، أو قالوا وقدَّروا ليلًا، يقال: بيَّت فلان رأيَه: إذا فكَّر فيه ليلًا، وأصل البَيْت: مأوى الإنسان باللَّيل؛ لأنَّه يقال: بات: أقام باللَّيل، ويُطلَق أيضًا على المآبِ ومجمَع الشَّمل .
يَتَدَبَّرُونَ: يتأمَّلون في معانيه، ويَتبصَّرون ما فيه؛ يُقال: تدبَّرتُ الأمرَ، أي: نظرتُ في عاقبتِه، والتَّدبير: التَّفكُّر في دُبُر الأمور، ثمَّ جُعِل كلُّ تمييزٍ تدبُّرًا، وأصل (دبر): آخِرُ الشَّيء وخَلْفُه، خلافُ قُبُله .
أَذَاعُوا بِهِ: أي: أشاعُوه وأفشَوْه، وتحدَّثوا به، والإذاعة: الإفشاءُ والتَّفريق، وأصل (ذيع): يدلُّ على إظهارِ الشَّيء، وظُهورِه وانتشاره .
يَسْتَنْبِطُونَهُ: أي: يَبْحثون ويُنقِّرون عنه ويَستخرجونه، مأخوذٌ من النَّبَطِ، وهو الماءُ يخرُجُ من البِئر أوَّلَ ما تُحفَر، وأصل (نبط): يدلُّ على استخراجِ شيءٍ .
بَأْسًا: أي: عَذابًا، وشِدَّةً في النِّكايةِ، وأصلُ (بأس): الشدَّة وما ضاهاها .
تَنْكِيلًا: أي: نِكايةً في العَدوِّ، وعُقوبةً وتعذيبًا، وهو مَصدَر: نكَّلَ بفُلانٍ يُنكِّل به تَنكيلًا: إذا أوجعَه عُقوبةً، وفعَلَ به ما يَمْنَعُه من المعاودةِ ويَمْنَعُ غيرَه مِن إتيانِ مِثلِ صَنيعِه، وأصلُ (نكل): يدلُّ على مَنْعٍ وامتناعٍ

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يُخبِر تعالى أنَّ كلَّ مَن أطاع رسولَه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم فقد أطاعه سبحانه، ومَن أعرَض عن طاعةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلن يُسأَلَ عنه، فإنَّ اللهَ لم يُرسِلْه حافظًا لِما يعمَلُ العبادُ، ولا محاسبًا لهم، وإنَّما أرسَله مبلِّغًا.
ثمَّ يُخبِرُ تعالى أنَّ المنافقين يقولون للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: سنُطيعُك ولن نعصيَك، فإذا خرَجوا مِن عنده أضمَر جماعةٌ منهم ليلًا معصيتَه على غيرِ ما أظهَروه له مِن الطَّاعة، واللهُ يكتُبُ ما يُضمِرون ويُخفون في أنفسِهم، ثمَّ أمَر اللهُ نبيَّه أن يُعرِضَ عن هؤلاء، وأن يتوكَّلَ عليه، وحسبُه اللهُ وكيلًا يتوكَّلُ عليه.
أفلَا يتأمَّلُ ويتفكَّرُ هؤلاء المنافقون في القرآنِ الكريمِ فتتَّضحَ لهم أدلَّتُه وتظهَرَ براهينُه؟! ولو كان هذا القرآنُ مِن عند غيرِ اللهِ لوجَدوا فيه اختلافًا واضطرابًا كثيرًا.
ثمَّ يُخبِر تعالى أنَّ المنافقين إن أتاهم خبرٌ في مضمونِه أمنُ المؤمنين، أو فيه ما يخوِّفُهم، أشاعوه دون تثبُّتٍ مِن صحَّتِه، ولو ردُّوا هذه الأخبارَ قبل إشاعتِها إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وإلى علمائِهم وأمرائِهم ليرَوْا هل مِن المصلحةِ إذاعتُه أو لا! لو ردُّوها إليهم لعلِم حقيقةَ ذلك الخبرِ: الَّذين يبحثون عنه، ويُعمِلون أفكارَهم لاستخراجِ ما خَفِي مِن معانيه، ولولا فضلُ اللهِ عليكم لكنتم مثلَ المنافقين فاتَّبعتُم الشيطانَ في إذاعة الأخبارِ، باستثناءِ القَليلِ من الإذاعةِ.
ثمَّ أمَر الله نبيَّه بالقتال في سبيله، مبيِّنًا أنَّه عليه ما كُلِّفَه دون ما كُلِّفَه غيرُه، وأَمَرَه كذلك أن يرغِّبَ ويشجِّعَ المؤمنين على القتال؛ لعلَّ اللهَ أن يردَّ عنهم قوَّةَ الكَفَرة وشوكتَهم، واللهُ تعالى أشدُّ قوَّةً وصَولةً مِن أولئك الكفَّارِ، وأشدُّ عقوبةً وأعظمُ عذابًا ونِكايةً في عدوِّه.
تفسير الآيات:

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا نفَى اللهُ تعالى عِلَل المنافقين في التَّخلُّفِ عن طاعةِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أنْ ختَم بالشَّهادةِ برسالتِه- قال مرغِّبًا مرهِّبًا على وجهٍ عامٍّ يُسكِّنُ قلبَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويخفِّفُ مِن دوَامِ عصيانهم له، دالًّا على عصمتِه في جميعِ حركاتِه وسكَناته
.
وأيضًا فهذه الآيةُ كالتَّكملةِ لقوله: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا [النساء: 79] باعتبارِ ما تضمَّنه مِن ردِّ اعتقادِهم أنَّ الرَّسولَ مصدرُ السَّيِّئات الَّتي تُصيبُهم، ثمَّ من قوله: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النساء: 79] إلخ، المؤذِن بأنَّ بين الخالقِ والمخلوق فرقًا في التَّأثير، وأنَّ الرِّسالة معنًى آخَرُ، فاحتَرَس بقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80] عن توهُّم السَّامعين التَّفرقةَ بين الله ورسولِه في أمور التَّشريعِ، فأثبَت أنَّ الرَّسولَ في تبليغِه إنَّما يُبلِّغُ عن اللهِ؛ فأمرُه أمرُ الله، ونهيُه نهيُ الله، وطاعتُه طاعةُ الله، وقد دلَّ على ذلك كلِّه قولُه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80] ؛ لاشتمالِها على إثباتِ كونِه رسولًا، واستلزامِها أنَّه يأمُرُ وينهى، وأنَّ ذلك تبليغٌ لمرادِ الله تعالى فقال:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
أي: كلُّ مَنْ أطاعَ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم فقد أطاع اللهَ سبحانه؛ لكونِه لا يَنطِقُ عن الهوى، إنْ هو إلَّا وحيٌ يُوحَى؛ فهو لا يأمُرُ ولا ينهى إلَّا بأمرِ الله تعالى وشرعِه ووحيِه .
عن أبي هُريرةَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن أطاعَني فقد أطاعَ اللهَ، ومَن عصَاني فقد عصَى اللهَ )) .
وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا
أي: ومَن أعرَض عن طاعتِك- يا محمَّدُ- فلا عليك منه، ولا تُسأَلُ عنه، إنْ عليك إلَّا البلاغُ؛ فإنَّا لم نُرسِلْك عليهم حافظًا لِما يعمَلون ومُحاسِبًا، بل أرسلناك مبلِّغًا ومبيِّنًا وناصحًا، وقد أدَّيتَ وظيفتَك، ووجب أجرُك على الله عزَّ وجلَّ، سواءٌ أطاعوا أم أعرَضوا .
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ
أي: ويقولُ المنافقون لك- يا محمَّدُ-: سنُطيعك ولا يكونُ منَّا عِصيانٌ .
فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ
أي: فإذا خرَجوا مِن عندك- يا محمَّدُ- وخلَوْا في حالةٍ لا تطَّلعُ فيها عليهم .
بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ
أي: استسَرَّ جماعةٌ منهم ليلًا فيما بينهم بغيرِ ما أظهَروه لك، وغيَّروا ما تقولُ لهم فاستقرُّوا على معصيتِك .
وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ
أي: إنَّ اللهَ تعالى يحفَظُ عليهم هذا العصيانَ الَّذي بيَّتوه، وسيُجازيهم عليه أتمَّ الجزاء، فلا تحزَنْ عليهم- يا محمَّدُ- ولا تكُ في ضَيقٍ ممَّا يفعَلون، فإنَّ أمرَهم لا يخفى على اللهِ جلَّ وعلا .
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
أي: فأعرِضْ- يا محمَّدُ- عن هؤلاء المُنافِقين، وخَلِّهم وما هم عليه من الضَّلالةِ، ولا تؤاخِذْهم، ولا تخَفْ منهم، ولا تشغَلْ بالَك بهم .
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
أي: واعتمِدْ أنتَ- يا محمَّدُ- على اللهِ تعالى وثِقْ به .
وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا
أي: وحَسْبُك باللهِ سبحانه وليًّا وناصرًا ومُعِينًا .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا حَكَى عن المنافقين أنواعَ مَكرِهم وكيدِهم، وكان كلُّ ذلك لأجلِ أنَّهم ما كانوا يَعتقِدون كونَه محقًّا في ادِّعاء الرِّسالة صادقًا فيه، بل كانوا يعتقدون أنَّه مُفتَرٍ متخرِّصٌ؛ فلا جرَمَ أمَرَهم اللهُ تعالى بأن ينظُروا ويتفكَّروا في الدَّلائلِ الدَّالَّة على صحَّةِ نبوَّتِه، فاحتَجَّ تعالى بالقرآنِ على صحَّةِ نبوَّتِه ، فقال:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
أي: أفلا يتأمَّلُ هؤلاء المنافِقون معانيَ القُرآن، وينظُرون في مبادئِه وعواقِبه، ولوازمِ ذلك، فتظهَرَ لهم براهينُ الحقِّ، وتلوحَ أدلَّتُه، ويعلَموا حُجَّةَ اللهِ عليهم في طاعة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم واتِّباعِ أمره ؟
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا
أي: ولو كان القرآنُ مفتَعَلًا ومختَلَقًا مِن عندِ أحدٍ، لاضطَرَبَتْ أحكامُه، واختلفَتِ اختلافًا كبيرًا، وتناقضت معانيه كثيرًا، وأبان بعضُه عن فسادِ بعضٍ .
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أي: وإذا أتَى هؤلاء المنافقِينَ خبرٌ يتعلَّقُ بأمْنِ المؤمنين، أو خَبرُ أمرٍ يُوجِبُ خوفَ المؤمنين .
أَذَاعُوا بِهِ
أي: أفشَوْه وأشاعوه على الفورِ دون تثبُّتٍ وتحقُّقٍ من صحَّتِه أوَّلًا .
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ
أي: ولو أَرجَعوا هذا الأمرَ قبل بثِّه، إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وإلى أُمرائِهم وعلمائِهم حتَّى يكونَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أو ذَوُو أمرِهم هم الَّذين يقولون الخبرَ عن ذلك, بعد أن ثبتَتْ عندهم صحَّتُه أو كذبُه، إن رأَوْا في إذاعتِه مصلحةً ونشاطًا للمؤمنين وسرورًا لهم، وتحرُّزًا من أعدائِهم، وإن رأَوْا أنَّه ليس فيه مصلحةٌ، أو فيه مصلحةٌ ولكنَّ مضرَّتَه تزيدُ على مصلحتِه، لم يُذِيعوه .
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
أي: لعَلِمَ حقيقةَ ذلك الخبرِ على الوجهِ المرادِ مِن الأمنِ أو الخوف، الَّذين يَبحَثون عنه, ويَستعلِمونه من معادنِه، ويَستخرجون ما خفِيَ من المعاني بفِكرِهم وآرائِهم السَّديدةِ، وعلومِهم الرَّشيدةِ، حتَّى يصِلوا إلى حقيقةِ الأمرِ بإذنِ الله تعالى .
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
أي: ولولا إنعامُ اللهِ عليكم- أيُّها المؤمنون- بفضلِه وتوفيقِه ورحمتِه وإحسانِه وتأديبِكم، وتعليمِكم ما لم تكونوا تعلَمون .
لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا
أي: لكُنتُم مِثلَ المنافقين فاتَّبعتم الشَّيطانَ في إذاعةِ الأخبار، باستثناءِ القليلِ مِن الإذاعةِ .
وقيل: لاتَّبعتُم الشَّيطانَ في كلِّ ما تفعلونه إلَّا قليلًا مِن أفعالِكم وأحوالِكم .
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمَر اللهُ تعالى بالجِهادِ ورغَّبَ فيه أشدَّ التَّرغيبِ في الآياتِ المتقدِّمة، وذكَرَ في المنافقين قلَّةَ رغبتِهم في الجهاد، بل ذكَر عنهم شدَّةَ سعيِهم في تثبيطِ المسلمين عن الجهاد، وجميع ذلك قد أفاد الاهتمامَ بأمرِ القتال، والتَّحريضَ عليه- عاد في هذه الآيةِ إلى الأمرِ بالجهادِ وتهيَّأ الكلامُ لتفريع الأمرِ به فقال:
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أي: فجاهِدْ- يا محمَّدُ- بنفسِك أعداءَ الله؛ لإعلاءِ كلمة الله جلَّ وعلا .
لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ
أي: ليس لك قدرةٌ على غيرِ نفسِك، وإنَّما عليك ما كُلِّفْتَه دون ما كُلِّفَه غيرُك .
وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ
أي: وحُضَّهم- يا محمَّدُ- على القتالِ، ورغِّبْهم فيه وشجِّعْهم عليه .
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أي: لعلَّ اللهَ تعالى أن يمنَعَ ويرُدَّ عنكم قوَّةَ الكافرين وشوكتَهم، وينصُرَكم عليهم بسببِ القتال في سبيلِ الله تعالى والتَّحريض عليه؛ فبالتَّحريض عليه تنبعِثُ الهِمَمُ على مناجَزةِ الأعداء، والمدافعةِ عن حَوزةِ الإسلام وأهلِه .
وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا
أي: واللهُ تعالى أشدُّ قوةً وصَولةً من أولئك الكفَّارِ، وهو قادرٌ عليهم في الدُّنيا والآخرةِ .
وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا
أي: وهو سبحانه أشدُّ عقوبةً وأعظمُ عذابًا ونِكايةً في عدوِّه، من نِكايةِ الكفَّارِ بالمؤمنين

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- الانقيادُ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، طاعةٌ للهِ، وانقيادٌ لحُكم اللهِ؛ إذ الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم في تبليغِه إنَّما يبلِّغُ عن الله؛ فأمرُه أمرُ الله، ونهيُه نهيُ الله، وطاعتُه طاعةُ الله؛ لذا قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
.
2- التَّحذيرُ من النِّفاقِ، وأنَّ الإنسانَ يجبُ أن يكونَ صريحًا بيِّنًا لا يَظهَرُ للنَّاسِ بوجهٍ، وإذا اختفَى عنهم أعطاهم وجهًا آخَرَ؛ ولهذا لا أحسَنَ مِن الشَّخصِ الصَّادقِ الَّذي لا يُباري ولا يُماري، ولا تأخُذُه في اللهِ لومةُ لائمٍ، وهذا هو الواجبُ على كلِّ مسلمٍ؛ أن يكونَ ظاهرُه وباطنُه سواءً، وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ .
3- الإعراضُ عمَّن يئِسْنا من صلاحِه؛ لقوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، ولكن لا يعني هذا إعراضًا مطلَقًا بحيث إنَّنا لا نُعيدُ عليه الكَرَّةَ مرَّةً ثانية، وإنَّما نُعرِضُ عنه ما دُمْنا قد أيِسْنا من صلاحِه .
4- كفايةُ اللهِ سبحانه لِمَن توكَّلَ عليه؛ لقوله: وكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، وهذا كقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ .
5- الحثُّ على تدبُّرِ القُرآنِ؛ فقولُ الله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يُرشِدُنا إلى تعلُّمِ معاني القرآنِ، وتدبُّرِ تفاصيله، وما فيه من المعاني البديعةِ، ولو تأمَّل النَّاسُ وتدبَّروا هَدْيَ القرآنِ لحصَل لهم خيرٌ عظيمٌ . وكلَّما ازداد العبدُ تأمُّلًا فيه، ازداد عِلمًا وعملًا وبصيرةً؛ لذلك أمَر الله بذلك، وحثَّ عليه، وأخبر أنَّه هو المقصودُ بإنزال القرآن .
6- مِن فوائد التَّدبُّر لكتاب الله: أنَّه بذلك يصلُ العبدُ إلى درجةِ اليقينِ والعِلمِ بأنَّه كلامُ الله؛ لأنَّه يراه يصدِّقُ بعضُه بعضًا، ويوافق بعضُه بعضًا، فترى الحُكمَ والقِصَّةَ والإخبارات تُعادُ في القرآنِ في عدَّةِ مواضعَ، كلُّها متوافقةٌ متصادِقةٌ، لا ينقُضُ بعضُها بعضًا، فبذلك يُعلَمُ كمالُ القرآن، وأنَّه مِن عندِ مَن أحاط علمُه بجميعِ الأمور؛ فلذلك قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا .
7- التَّحذيرُ من التَّعجُّلِ في نشر الخبرِ، والحرصُ على عدم إذاعة الشَّيء إلَّا بعد التَّيقُّن من معناه، والمعرفةِ به؛ لقوله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ، وهذا إنكارٌ عليهم، وذمٌّ لهم، ثمَّ أرشَدهم إلى ما هو الأصوب .
8- قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ خوضُ العامَّةِ في السِّياسة وأمور الحربِ والسِّلم، والأمن والخوف، أمرٌ معتادٌ، وهو ضارٌّ جدًّا إذا شُغِلوا به عن عملِهم، ويكونُ ضررُه أشدَّ إذا وقَفوا على أسرار ذلك وأذاعوا به، وهم لا يستطيعون كتمانَ ما يعلَمون، ولا يعرِفون كُنْهَ ضررِ ما يقولون، وأضَرُّه عِلمُ جواسيسِ العدوِّ بأسرار أُمَّتِهم، وما يكونُ وراء ذلك، ومِثلُ أمرِ الخوفِ والأمنِ وسائرِ الأمور السِّياسيَّة والشُّؤون العامَّة الَّتي تختصُّ بالخاصَّةِ دون العامَّةِ .
9- الرُّجوع إلى الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم في حياتِه، وإلى سنَّتِه بعد وفاته، وإلى الأمراءِ والعلماءِ في نَشْرِ الأخبارِ وإذاعتِها؛ قال تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ .
10- التَّعمُّقُ في التَّثبُّتِ، ويُؤخذُ من قوله: الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ولم يقُلْ: يَعلمونه، وهنا إظهارٌ في موضع الإضمار؛ لأنَّ الأصل: ولو ردُّوه إلى الرَّسول وإلى أُولي الأمرِ منهم لعلِموه، لكنَّه قال: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ، فأظهَر في موضعِ الإضمار لهذه الحِكمةِ .
11- لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ في هذا دليلٌ لقاعدةٍ أدبيَّة، وهي أنَّه إذا حصل بحثٌ في أمرٍ من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهلٌ لذلك، ويُجعَل إلى أهله، ولا يُتقدَّمَ بين أيديهم؛ فإنَّه أقربُ إلى الصَّواب، وأحرى للسَّلامة من الخطأ .
12- أنَّه يَنبغي للإنسانِ أنْ يَلجأَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ في ابتغاء الفضلِ، لا إلى غيرِه؛ لقوله: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ .
13- وجوبُ الإخلاصِ؛ لقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وما عدَا سبيلَ اللهِ، فيوصَفُ بأنَّه في سبيلِ الطَّاغوت؛ قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ .
14- أنَّه لا يُكلَّفُ أحدٌ هدايةَ أحدٍ، حتَّى الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم الَّذي هو أهدى الخَلْق وأعظمُهم هدايةً، لا يمكِنُ أن يُكلَّفَ هدايةَ أحدٍ، دليلُه: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ، وعليه فإذا دعوتَ إلى اللهِ، أو أمرتَ بمعروفٍ، أو نهيتَ عن مُنكَرٍ، ولم يُستجَبْ لك، فلا حرَجَ عليك .
15- أنَّه يجبُ على الإنسان مراعاةُ نفسِه، وقيادتُها للحقِّ؛ لأنَّه مكلَّفٌ إيَّاها؛ لقوله: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أنت مكلَّفٌ بنفسِك، يجب أن تجُرَّها إلى ما فيه الخيرُ، وأن تنهاها عمَّا فيه الشَّرُّ، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف: 53] .
16- أنَّ مَن قام بالواجب في حقِّ نفسِه، فلا ينسَ إخوانه؛ لقوله: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ، أي: حُثَّهم على القتالِ في سبيل الله، فإن استجابوا فذلك المطلوبُ، وإن لم يستجيبوا فقد أبرأتَ ذمَّتَك .
17- أنَّ الكافرينَ لهم بأسٌ وقوَّةٌ، لكنَّهم تحت قوَّةِ الله؛ لقوله: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وأنت لا تنبهِرْ بقوَّةِ الأعداء؛ فإنهم ليسوا عند قدرةِ الله شيئًا .
18- قول اللهِ تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا فيه تقويةٌ لقلوبِ المؤمنين؛ إذ إنَّ بأسَ اللهِ أشدُّ مِن بأس الكفَّارِ

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ مِن أقوى الدَّلائلِ على أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم معصومٌ في جميع الأوامرِ والنَّواهي، وفي كلِّ ما يُبلِّغه عن الله سُبحانَه؛ لأنَّه لو أخطأَ في شيءٍ منها لم تكُنْ طاعتُه طاعةَ الله
.
2- قولُ الله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ يدلُّ على أنَّ كلَّ تكليفٍ كلَّف اللهُ به في القرآن، ولم يكُنْ ذلك التَّكليفُ مبيَّنًا في القرآن، فحينئذٍ لا سبيلَ لنا إلى القيام بتلك التَّكاليف إلَّا ببيان الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم .
3- قولُ الله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ يدلُّ على أنَّه لا طاعةَ إلَّا للهِ ألبتَّةَ؛ وأنَّه تعالى هو الَّذي يُطاعُ لذاتِه، وذلك لأنَّ طاعةَ الرَّسول لكونِه رسولًا فيما هو فيه رسولٌ لا تكونُ إلَّا طاعة الله، فكانت الآيةُ دالَّةً على أنَّه لا طاعةَ لأحدٍ إلَّا لله؛ لأنَّه ربُّ النَّاس، وإلهُهم، ومَلِكُهم .
4- أنَّ الأصلَ فيما قاله الرَّسولُ عليه الصَّلاة والسلام أنَّه شَرْعٌ؛ لعمومِ قوله: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ .
5- قوله: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ فيه الاحتجاجُ بالسُّنَّة، وأنَّها كالقُرآنِ في وجوبِ العملِ بها، ولكن نحتاجُ في السُّنَّةِ إلى إثباتِ نِسبتِها إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّه ما دام أنَّها لم تثبُتْ فإنَّها ليست من كلامِ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم .
6- أنَّ معصيةَ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم معصيةٌ لله، تؤخَذُ بطريق المفهوم؛ لأنَّه إذا كانت طاعتُه طاعةً لله، فمعصيتُه معصيةٌ لله عزَّ وجلَّ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ .
7- قول الله تعالى: بَيَّتَ طَائِفَةٌ قال: (بيَّت) بالتَّذكير، ولم يقل: (بيَّتَتْ) بالتَّأنيثِ؛ لأنَّ تأنيثَ (طائفة) غيرُ حقيقيٍّ، ولأنَّها في معنى الفريقِ والفَوجِ .
8- أنَّ المنافقين يَحرِصون على أنْ يُخفُوا أعمالَهم؛ ولهذا يُوقِعونها ليلًا؛ لقوله: بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ .
9- أنَّ قولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كقولِ الله في وجوبِ طاعتِه وتركِ ما نهى عنه، ووجهه: أنَّه حذَّر هؤلاء الَّذين يُبيِّتون غيرَ ما يقولُ الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ .
10- بُطلانُ التَّقِيَّة الَّتي يتَّخذُها الرَّافضةُ دِينًا، وتؤخَذُ من تهديدِ الله عزَّ وجلَّ هؤلاء الَّذين يتظاهرون بالطَّاعة ويُبيِّتون خلافَ الطَّاعة؛ وذلك في قوله: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ .
11- إثباتُ العِلمِ للهِ تعالى؛ لقوله: يَكْتُبُ، ولا كتابةَ إلَّا بعد عِلمٍ .
12- قول الله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ في ذِكر تدبُّرِ القرآنِ دلالةٌ على أنَّ القرآن معلومُ المعنى؛ ففي ذلك ردٌّ على مَن قال مِن الرَّافضة: إنَّ القرآنَ لا يُفهَمُ معناه إلَّا بتفسيرِ الرَّسولِ والإمامِ المعصومِ، ولو كان كذلك لَمَا جاز أن يأمُرَ اللهُ تعالى المنافقين بتدبُّرِ القرآن، وأن يُجعَلَ القرآنُ حُجَّةً في صحَّة نبوَّتِه، ولا أن يُجعَلَ عجزُهم عن مثلِه حُجَّةً عليهم .
13- قولُ اللهِ تعالى: لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا المرادُ من التَّقييدِ بالكثير المبالغةُ في إثباتِ الملازَمَة، أي: لو كان من عند غيرِ الله، للزِمَ أن يكونَ فيه اختلافٌ كثيرٌ فضلًا عن القَليلِ ، وإذا كان مِن عندِ اللهِ فلن يَجِدوا فيه اختلافًا ولو قليلًا، لكنْ قولُه: اخْتِلَافًا كَثِيرًا بيانٌ لواقِعِ ما كان مِن عندِ غيرِ الله، وليس هذا قيدًا في أنَّه لو كانَ مِن عند الله لوَجدوا فيه اختلافًا قليلًا؛ إذ إنَّه لا اختلافَ في كِتابِ الله عزَّ وجلَّ .
14- إثباتُ أنَّ القرآنَ كلامُ الله، يؤخَذ من قوله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ؛ فإنَّه يدلُّ على أنَّ القرآن من عندِ الله عزَّ وجلَّ، فإذا كان مِن عند الله صار صفةً من صفاتِه، ولا يمكن أن يكون مخلوقًا؛ لأنَّه صفةٌ، وصفةُ الموصوف لازمةٌ له، ليست بائنةً منه .
15- إثباتُ العِنديَّة لله وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، أي: إنَّ الشَّيءَ يكون من عنده، وهو كذلك، لكنَّ العنديَّة قد تكون صفةً، وقد تكون قُربًا؛ فقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ العنديَّةُ هذه عنديَّةُ قُربٍ؛ لأنَّهم ملائكةٌ بائنونَ عن الله عزَّ وجلَّ، وإذا قلت: القرآنُ مِن عند اللهِ، فإن هذه عنديَّةُ صفةٍ .
16- ما جرَتْ به العادةُ في أنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا نهى عن شيء بيَّن وجهًا آخرَ غيرَ مَنهيٍّ عنه؛ يؤخذ من قوله: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ .
17- قولُ اللهِ تعالى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ القياسَ حُجَّةٌ في الشَّرع؛ فالله تعالى أمَر المكلَّف بردِّ الواقعة إلى مَن يستنبطُ الحُكمَ فيها، ولولا أنَّ الاستنباطَ حُجَّةٌ لَمَا أُمِر المكلَّفُ بذلك؛ فثبت أنَّ الاستنباطَ حُجَّةٌ، والقياسُ إمَّا استنباطٌ أو داخلٌ فيه، فوجَب أن يكونَ حُجَّة .
18- قول الله تعالى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فيه أنَّ في أحكامِ الحوادثِ ما لا يُعرَفُ بالنَّصِّ، بل بالاستنباطِ ، وأنَّ الاستنباطَ واجبٌ على العلماءِ .
19- قولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فيه أنَّ العاميَّ يجب عليه تقليدُ العلماء في أحكام الحوادث .
20- قول الله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فيه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان مكلَّفًا باستنباطِ الأحكام؛ لأنَّه تعالى أمَر بالرَّدِّ إلى الرَّسولِ، وإلى أولي الأمر، فلم يخصُصْ أولي الأمرِ بذلك دون الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم .
21- أنَّه ليس أَمامَنا إلَّا سبيلانِ: سبيلُ السُّنَّة والرَّشاد، وسبيلُ الضَّلال؛ لقوله: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ، فإذًا: لا يوجدُ إلَّا الحقُّ أو الضَّلالُ؛ قال الله تعالى: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [يونس: 32] ، وفي هذا ردٌّ على المعتزلةِ القائلين بالمنزلةِ بين منزلتينِ .
22- أنَّ محلَّ التَّحريضِ للقِتال- أي: قِتالِ المشركين- هم المؤمنون؛ لأنَّه لم يقُلْ: حرِّض النَّاس، بل قال: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فالمؤمِنُ هو الَّذي ينفع فيه التَّحريضُ على القتالِ في سبيل الله .
23- أنَّه مهما بذَلْنا من الجهدِ والجهاد والإعداد فإنَّ الأمرَ بيدِ الله؛ لقول الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني: بعد اجتهادِك وتحريضِك المؤمنينَ على القتال واستعدادِكم وإعدادِكم، الأمرُ بيدِ الله .
24- الاستدلالُ لأهلِ السُّنَّة بأنَّ أعمالَ العباد مخلوقةٌ لله عزَّ وجلَّ، وتؤخَذ من قوله: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فنسَب ذلك إليه، مع أنَّه يأتي بفِعْل المؤمنين، لكن نسَبه اللهُ إليه، وأحيانًا يأتي بغيرِ فِعل المؤمنين، مثل قوله تبارك وتعالى في سورة الأحزاب: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا .
25- إثبات البأسِ والتَّنكيلِ للهِ عزَّ وجلَّ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
- فيه التعبيرُ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم بالاسم الظاهر الرَّسولَ دونَ التعبيرِ بضَميرِ الخِطابِ- حيثُ لم يَقُلْ: (يُطِعْكَ)-؛ للإيذانِ بأنَّ مَناطَ كونِ طَاعتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طاعةً له تعالى، ليس خُصوصيَّةَ ذاتِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل مِن حَيثِيَّةِ رسالَتِه
.
- وإظهارُ لفظِ الجلالةِ (الله)؛ لتربيةِ المهابةِ، وتَأكيدِ وُجوبِ الطَّاعةِ بذِكرِ عُنوان الألوهيَّةِ .
2- قوله: وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا: خبرٌ فيه تعريضٌ بهم، وتهديدٌ لهم بأنْ صَرَفه عن الاشتغالِ بهم، فيُعلَم أنَّ اللهَ سيتولَّى عِقابَهم .
- وفيه التفاتٌ؛ حيث خاطَب النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالإعراضِ عن المتولِّين والمُعرضينَ عن طاعةِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على طريقةِ الالتفاتِ مِن الغَيبةِ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ إلى الخطابِ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا، مبالغةً في التَّحريضِ والحثِّ عليه .
3- قوله: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ
- تنكيرُ طَاعَةٌ؛ للتَّعظيم بالتَّعميمِ ، ورفعُها يدلُّ على ثباتِ الطَّاعةِ واستقرارِها، أي: إنَّ كلَّ طاعةٍ منَّا لك دائمًا، نحن ثابتونَ على ذلك .
- قوله: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فيه: التهديدُ بإعلامِهم أنَّه لن يُفلِتَهم من عقابِه، فلا يَغُرَّنَّهم تأخُّرُ العذابِ مدَّةً .
- والتعبيرُ بصِيغة المضارعِ في قوله: يَكْتُبُ فيه دَلالةٌ على تجدُّدِ ذلك، وأنَّه لا يُضاع منه شيءٌ .
4- قوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا: فيه إظهارُ الجَلالةِ في مقامِ الإضمار؛ للإشعارِ بعِلَّة الحُكمِ ، مع ما فيه مِن تربيةِ المهابةِ والجلالِ.
5- قوله: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ: الاستفهامُ يُرادُ به الإنكارُ والاستقباحُ؛ لعدم تدبُّرهم للقُرآن الكريمِ، وذلك للتوبيخِ والتعجُّبِ منهم في استمرارِ جهلِهم، مع توفُّرِ أسباب التدبُّرِ لدَيهم، وإعراضِهم عن التأمُّل فيما فيه من مُوجِباتِ الإيمان .
6- قوله: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ: كلامٌ مسوقٌ مساقَ التوبيخِ للمُنافقين، واللَّوم لِمَن يَقبَلُ مِثلَ تلك الإذاعة مِن المسلمين الأغرارِ .
- والباء في قولِه: أَذَاعُوا بِهِ مزيدةٌ لتوكيدِ اللُّصوق؛ كما في: وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ [المائدة: 6] ، أو لتضمُّن الإذاعةِ معنى التَّحدُّث .
7- قوله: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: فيه تلوينٌ للخطاب، وتوجيهٌ له إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بطريق الالتفات، وهو جوابُ شرط محذوفٌ يَنساقُ إليه النَّظمُ الكريم، أي: إذا كان الأمرُ كما حُكي مِن عدمِ طاعة المنافقين وكَيدِهم، وتقصيرِ الآخَرين في مراعاةِ أحكامِ الإسلام، فقاتِلْ أنتَ وحْدَك غيرَ مكترِثٍ بما فعلوا .
8- قوله: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ هذا الأسلوبُ طريقٌ من طُرق الحثِّ والتحريض لغير المخاطَب؛ لأنَّه إيجابُ القِتالِ على الرسول، وقد عُلِم إيجابُه على جميع المؤمنينَ بقوله: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ [النساء: 74] ؛ فهو أمرٌ للقُدوةِ بما يجب اقتداءُ الناسِ به فيه، وبيَّن لهم عِلَّةَ الأمر، وهي رجاءُ كفِّ بأسِ المشركينَ .
9- قوله: وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا الجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مُقرِّر لِمَا قبلها ، وهي جملةٌ خبريَّة، مرادٌ بها التقريعُ والتَّهديد .
- وإظهار الاسم الجليل الله؛ لتربيةِ المهابة، وتعليلِ الحُكم، وتقويةِ استقلال الجملة .
- وتكرير الخبر (أشدُّ- وأشدُّ)؛ لتأكيد التَّشديد .


.===================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...