الخميس، 18 يناير 2024

12.سورة يوسف كاملة{111 آية - مكية}

 

 12.سورة يوسف كاملة{11 آية - مكية}

 

سُورةُ يُوسُفَ

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

سُمِّيَت هذه السُّورَةُ بسورَةِ (يُوسُفَ):

فعن عُقبَةَ بنِ عامِرٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((قُلتُ يا رَسولَ الله، أَقْرِئْنِي سُورةَ هودٍ، وسُورةَ يُوسُفَ... )) الحديثَ .

وعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، قال: (كنتُ بحمصَ فقال لي بعضُ القومِ : اقرأْ علينا. فقرأتُ عليهم سورةَ يُوسفَ) .

وعن عمرِو بنِ ميمونٍ، في قصةِ مقتلِ عمرَ رضي الله عنه، قال: (وكان أي: عُمَر إذا مَرَّ بين الصَّفَّيْنِ قال: استووا، حتى إذا لم يرَ فيهنَّ خللًا تقدَّم فكبَّر، وربما قرأ سورةَ يوسفَ، أو النَّحلِ، أو نحوَ ذلك في الركعةِ الأُولَى)

فضائل السورة وخصائصها:

 

1- أنَّها السُّورةُ الوَحيدَةُ التي أُفْرِدَت لِقِصَّةِ نَبِيِّ الله يُوسُفَ عليه السلامُ، ولم تُذكَرْ قِصَّتُه في غَيرِها

2- لم تُذكَرْ قِصَّةُ نَبِيٍّ فِي القرآنِ بمثلِ هذا الإطْنابِ كما ذُكِرَتْ قِصَّةُ يُوسُفَ عليه السَّلامُ في هذه السُّورَة، فهي أطوَلُ قِصَّةٍ في القُرآنِ

بيان المكي والمدني:

 

سُورَةُ يُوسُفَ مَكِّيَّةٌ. ونَقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحِد مِن أهلِ العِلْمِ

مقاصد السورة:

 

مِن أهمِّ مَقاصِدِ سُورَةِ يُوسُفَ:

1- بَيانُ أنَّ العاقِبَةَ للمُؤمِنينَ المُتَّقِينَ الصَّابِرينَ رُغْمَ الابْتِلاءاتِ والمِحَنِ

.

2- تَسْلِيَةُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأَصحابِه، وتَطْمِينُ نُفوسِهم

موضوعات السورة:

 

ذُكِرَت قِصَّةُ يُوسُفَ عليه السَّلامُ في هذه السُّورةِ مُفَصَّلَةً في مكانٍ واحِدٍ، دونَ غَيرِها مِن قَصَصِ الأَنبياءِ، ومِن أبرَزِ ما اشتملتْ عليه هذه السورةُ مِن تفاصيلِ هذه القِصَّةِ وغيرِها مِن موضوعاتٍ:

1- ذِكْرُ جانبٍ مِن فَضائِل القُرآن الكَريم، وإعْجازِه في أُسلوب القَصَص وعَرْضِها.

2- رُؤْيا يُوسُف عليه السَّلامُ، ومَكْرُ إِخْوَتِه به، وحَسَدُهُم له وتَآمُرُهم عليه.

3- انْتِشالُ السَّيَّارَةِ ليُوسُفَ مِن الجُبِّ، وبَيْعُهم له، ومِحْنَتُه في قَصْرِ العَزيز، ومُراوَدَة امْرأَةِ العَزيز له، وشُيوعُ خَبَرِها، وما فعلتْه امرأةُ العزيزِ مع النِّسوةِ اللاتي تكلمْنَ بذلك.

4- حادِثَة دُخولِ يوسفَ السِّجْنَ بعدَ ظُهورِ بَراءَتِه، ودَعْوَتُه إلى الله فيه.

5- الرُّؤْيا التي رَآها المَلِكُ، وتَفْسيرُ يُوسُف لها، وثُبوتُ بَراءَةِ يُوسُفَ، وخُروجُه مِن السِّجْنِ، واسْتِلامُه للمُلْكِ والوِزارَةِ، وظُهورُ شَأْنِه.

6- لِقاءُ يُوسُف بِإخْوَتِه دونَ أن يَعْرِفوهُ، وطَلَبُه حُضورِ أَخيهِم معهم في المَرَّةِ القادِمَة، ثم  احْتِجازُه عنده بِحيلَةٍ دَبَّرَها بإلهامٍ مِن الله، وما حَصَل لِأَبيهِم بعدَ ذلك مِن الحُزْنِ.

7- لِقاءُ يُوسُف بإخْوَتِه مَرَّةً ثانِيَة، وكَشْفُه عن نَفسِه، وتَذْكيرُهم بما فعلوا به، وعَفْوُه عنهم، ثم أَمْرُهم بالعَوْدَةِ إلى أَبيهم، وإلْقاءِ قَميصِه على وَجْهِه؛ ليرجعَ بَصَرُه إليه.

8- حُضورُهُم بعدَ ذلك إلى يُوسُف، واجْتِماعُه بِأَبَوَيْهِ وأَهلِه في مِصْرَ، وإكْرامُه لهم.

9- تَعْقيباتٌ على ما وَرَدَ في قِصَّة يُوسُف، فذكَر تعالى ما يَدُلُّ على أنَّ القُرآن مِن عند الله، وما يَشهَد بِصِدْقِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يُبَلِّغُه عن رَبِّهِ، وبيَّن وَظيفَة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم ومَوْقِف المُشرِكين مِن دَعْوَتِه، وأَنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ليس بِدْعًا مِن الرُّسُل، وأنَّ العاقِبَة له ولِأَتْباعِه مِن المُؤْمِنين.

=================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات كاملة  

 

سورة يوسف مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة



 
 الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ (1) إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ (2) نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ (3) إِذۡ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ إِنِّي رَأَيۡتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوۡكَبٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ رَأَيۡتُهُمۡ لِي سَٰجِدِينَ (4) قَالَ يَٰبُنَيَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡيَاكَ عَلَىٰٓ إِخۡوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيۡدًاۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٞ مُّبِينٞ (5) وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ (6) ۞لَّقَدۡ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخۡوَتِهِۦٓ ءَايَٰتٞ لِّلسَّآئِلِينَ (7) إِذۡ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰٓ أَبِينَا مِنَّا وَنَحۡنُ عُصۡبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ (8) ٱقۡتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطۡرَحُوهُ أَرۡضٗا يَخۡلُ لَكُمۡ وَجۡهُ أَبِيكُمۡ وَتَكُونُواْ مِنۢ بَعۡدِهِۦ قَوۡمٗا صَٰلِحِينَ (9) قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ لَا تَقۡتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلۡقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّ يَلۡتَقِطۡهُ بَعۡضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ (10) قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مَالَكَ لَا تَأۡمَ۬نَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُۥ لَنَٰصِحُونَ (11) أَرۡسِلۡهُ مَعَنَا غَدٗا يَرۡتَعۡ وَيَلۡعَبۡ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحۡزُنُنِيٓ أَن تَذۡهَبُواْ بِهِۦ وَأَخَافُ أَن يَأۡكُلَهُ ٱلذِّئۡبُ وَأَنتُمۡ عَنۡهُ غَٰفِلُونَ (13) قَالُواْ لَئِنۡ أَكَلَهُ ٱلذِّئۡبُ وَنَحۡنُ عُصۡبَةٌ إِنَّآ إِذٗا لَّخَٰسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ وَأَجۡمَعُوٓاْ أَن يَجۡعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمۡرِهِمۡ هَٰذَا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ (15) وَجَآءُوٓ أَبَاهُمۡ عِشَآءٗ يَبۡكُونَ (16) قَالُواْ يَٰٓأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبۡنَا نَسۡتَبِقُ وَتَرَكۡنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَٰعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئۡبُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُؤۡمِنٖ لَّنَا وَلَوۡ كُنَّا صَٰدِقِينَ (17) وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (18) وَجَآءَتۡ سَيَّارَةٞ فَأَرۡسَلُواْ وَارِدَهُمۡ فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥۖ قَالَ يَٰبُشۡرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٞۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةٗۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ (19) وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۭ بَخۡسٖ دَرَٰهِمَ مَعۡدُودَةٖ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِينَ (20) وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشۡتَرَىٰهُ مِن مِّصۡرَ لِٱمۡرَأَتِهِۦٓ أَكۡرِمِي مَثۡوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدٗاۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ (22) وَرَٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَٰبَ وَقَالَتۡ هَيۡتَ لَكَۚ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ رَبِّيٓ أَحۡسَنَ مَثۡوَايَۖ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ (23) وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ (24) وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ وَقَدَّتۡ قَمِيصَهُۥ مِن دُبُرٖ وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِۚ قَالَتۡ مَا جَزَآءُ مَنۡ أَرَادَ بِأَهۡلِكَ سُوٓءًا إِلَّآ أَن يُسۡجَنَ أَوۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (25) قَالَ هِيَ رَٰوَدَتۡنِي عَن نَّفۡسِيۚ وَشَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٖ فَصَدَقَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ (26) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ (27) فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ قَالَ إِنَّهُۥ مِن كَيۡدِكُنَّۖ إِنَّ كَيۡدَكُنَّ عَظِيمٞ (28) يُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَاۚ وَٱسۡتَغۡفِرِي لِذَنۢبِكِۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلۡخَاطِـِٔينَ (29) ۞وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي ٱلۡمَدِينَةِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ (30) فَلَمَّا سَمِعَتۡ بِمَكۡرِهِنَّ أَرۡسَلَتۡ إِلَيۡهِنَّ وَأَعۡتَدَتۡ لَهُنَّ مُتَّكَـٔٗا وَءَاتَتۡ كُلَّ وَٰحِدَةٖ مِّنۡهُنَّ سِكِّينٗا وَقَالَتِ ٱخۡرُجۡ عَلَيۡهِنَّۖ فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ (31) قَالَتۡ فَذَٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمۡتُنَّنِي فِيهِۖ وَلَقَدۡ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ فَٱسۡتَعۡصَمَۖ وَلَئِن لَّمۡ يَفۡعَلۡ مَآ ءَامُرُهُۥ لَيُسۡجَنَنَّ وَلَيَكُونٗا مِّنَ ٱلصَّٰغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِۖ وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّي كَيۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَيۡهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ (33) فَٱسۡتَجَابَ لَهُۥ رَبُّهُۥ فَصَرَفَ عَنۡهُ كَيۡدَهُنَّۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا رَأَوُاْ ٱلۡأٓيَٰتِ لَيَسۡجُنُنَّهُۥ حَتَّىٰ حِينٖ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأۡتِيكُمَا طَعَامٞ تُرۡزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِيلِهِۦ قَبۡلَ أَن يَأۡتِيَكُمَاۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ إِنِّي تَرَكۡتُ مِلَّةَ قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ (37) وَٱتَّبَعۡتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشۡرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ عَلَيۡنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ (38) يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ (39) مَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ أَسۡمَآءٗ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ (40) يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسۡقِي رَبَّهُۥ خَمۡرٗاۖ وَأَمَّا ٱلۡأٓخَرُ فَيُصۡلَبُ فَتَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِن رَّأۡسِهِۦۚ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسۡتَفۡتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ إِنِّيٓ أَرَىٰ سَبۡعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعَ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖۖ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ أَفۡتُونِي فِي رُءۡيَٰيَ إِن كُنتُمۡ لِلرُّءۡيَا تَعۡبُرُونَ (43) قَالُوٓاْ أَضۡغَٰثُ أَحۡلَٰمٖۖ وَمَا نَحۡنُ بِتَأۡوِيلِ ٱلۡأَحۡلَٰمِ بِعَٰلِمِينَ (44) وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنۡهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعۡدَ أُمَّةٍ أَنَا۠ أُنَبِّئُكُم بِتَأۡوِيلِهِۦ فَأَرۡسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفۡتِنَا فِي سَبۡعِ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعِ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ لَّعَلِّيٓ أَرۡجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَعۡلَمُونَ (46) قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ (49) وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦۖ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسۡـَٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيۡدِهِنَّ عَلِيمٞ (50) قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِۦۚ قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ (51) ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَيۡبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي كَيۡدَ ٱلۡخَآئِنِينَ (52) ۞وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ (53) وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ (54) قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ (55) وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (56) وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57) وَجَآءَ إِخۡوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَعَرَفَهُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ قَالَ ٱئۡتُونِي بِأَخٖ لَّكُم مِّنۡ أَبِيكُمۡۚ أَلَا تَرَوۡنَ أَنِّيٓ أُوفِي ٱلۡكَيۡلَ وَأَنَا۠ خَيۡرُ ٱلۡمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمۡ تَأۡتُونِي بِهِۦ فَلَا كَيۡلَ لَكُمۡ عِندِي وَلَا تَقۡرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَٰوِدُ عَنۡهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَٰعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتۡيَٰنِهِ ٱجۡعَلُواْ بِضَٰعَتَهُمۡ فِي رِحَالِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَعۡرِفُونَهَآ إِذَا ٱنقَلَبُوٓاْ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيهِمۡ قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلۡكَيۡلُ فَأَرۡسِلۡ مَعَنَآ أَخَانَا نَكۡتَلۡ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ (63) قَالَ هَلۡ ءَامَنُكُمۡ عَلَيۡهِ إِلَّا كَمَآ أَمِنتُكُمۡ عَلَىٰٓ أَخِيهِ مِن قَبۡلُ فَٱللَّهُ خَيۡرٌ حَٰفِظٗاۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَٰعَهُمۡ وَجَدُواْ بِضَٰعَتَهُمۡ رُدَّتۡ إِلَيۡهِمۡۖ قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مَا نَبۡغِيۖ هَٰذِهِۦ بِضَٰعَتُنَا رُدَّتۡ إِلَيۡنَاۖ وَنَمِيرُ أَهۡلَنَا وَنَحۡفَظُ أَخَانَا وَنَزۡدَادُ كَيۡلَ بَعِيرٖۖ ذَٰلِكَ كَيۡلٞ يَسِيرٞ (65) قَالَ لَنۡ أُرۡسِلَهُۥ مَعَكُمۡ حَتَّىٰ تُؤۡتُونِ مَوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأۡتُنَّنِي بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يُحَاطَ بِكُمۡۖ فَلَمَّآ ءَاتَوۡهُ مَوۡثِقَهُمۡ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ (66) وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَٱدۡخُلُواْ مِنۡ أَبۡوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖۖ وَمَآ أُغۡنِي عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍۖ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَيۡهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَهُمۡ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغۡنِي عَنۡهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍ إِلَّا حَاجَةٗ فِي نَفۡسِ يَعۡقُوبَ قَضَىٰهَاۚ وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلۡمٖ لِّمَا عَلَّمۡنَٰهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ أَخَاهُۖ قَالَ إِنِّيٓ أَنَا۠ أَخُوكَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحۡلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلۡعِيرُ إِنَّكُمۡ لَسَٰرِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقۡبَلُواْ عَلَيۡهِم مَّاذَا تَفۡقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفۡقِدُ صُوَاعَ ٱلۡمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِۦ حِمۡلُ بَعِيرٖ وَأَنَا۠ بِهِۦ زَعِيمٞ (72) قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدۡ عَلِمۡتُم مَّا جِئۡنَا لِنُفۡسِدَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا كُنَّا سَٰرِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَٰٓؤُهُۥٓ إِن كُنتُمۡ كَٰذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِي رَحۡلِهِۦ فَهُوَ جَزَٰٓؤُهُۥۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّٰلِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ (76) ۞قَالُوٓاْ إِن يَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخٞ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ يُبۡدِهَا لَهُمۡۚ قَالَ أَنتُمۡ شَرّٞ مَّكَانٗاۖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ إِنَّ لَهُۥٓ أَبٗا شَيۡخٗا كَبِيرٗا فَخُذۡ أَحَدَنَا مَكَانَهُۥٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأۡخُذَ إِلَّا مَن وَجَدۡنَا مَتَٰعَنَا عِندَهُۥٓ إِنَّآ إِذٗا لَّظَٰلِمُونَ (79) فَلَمَّا ٱسۡتَيۡـَٔسُواْ مِنۡهُ خَلَصُواْ نَجِيّٗاۖ قَالَ كَبِيرُهُمۡ أَلَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ أَبَاكُمۡ قَدۡ أَخَذَ عَلَيۡكُم مَّوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبۡلُ مَا فَرَّطتُمۡ فِي يُوسُفَۖ فَلَنۡ أَبۡرَحَ ٱلۡأَرۡضَ حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ أَوۡ يَحۡكُمَ ٱللَّهُ لِيۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ (80) ٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ فَقُولُواْ يَٰٓأَبَانَآ إِنَّ ٱبۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ (81) وَسۡـَٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلۡعِيرَ ٱلَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَاۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ (82) قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٌۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَنِي بِهِمۡ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ (84) قَالُواْ تَٱللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ ٱلۡهَٰلِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ (86) يَٰبَنِيَّ ٱذۡهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيۡـَٔسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيۡهِ قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهۡلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئۡنَا بِبِضَٰعَةٖ مُّزۡجَىٰةٖ فَأَوۡفِ لَنَا ٱلۡكَيۡلَ وَتَصَدَّقۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَجۡزِي ٱلۡمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلۡ عَلِمۡتُم مَّا فَعَلۡتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذۡ أَنتُمۡ جَٰهِلُونَ (89) قَالُوٓاْ أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُۖ قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَآۖ إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (90) قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدۡ ءَاثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا وَإِن كُنَّا لَخَٰطِـِٔينَ (91) قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ (92) ٱذۡهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي يَأۡتِ بَصِيرٗا وَأۡتُونِي بِأَهۡلِكُمۡ أَجۡمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلۡعِيرُ قَالَ أَبُوهُمۡ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَۖ لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَٰلِكَ ٱلۡقَدِيمِ (95) فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلۡبَشِيرُ أَلۡقَىٰهُ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ فَٱرۡتَدَّ بَصِيرٗاۖ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ (96) قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا ٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَٰطِـِٔينَ (97) قَالَ سَوۡفَ أَسۡتَغۡفِرُ لَكُمۡ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ أَبَوَيۡهِ وَقَالَ ٱدۡخُلُواْ مِصۡرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ (100) ۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ (101) ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۖ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ أَجۡمَعُوٓاْ أَمۡرَهُمۡ وَهُمۡ يَمۡكُرُونَ (102) وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ (103) وَمَا تَسۡـَٔلُهُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّنۡ ءَايَةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ يَمُرُّونَ عَلَيۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ (105) وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوٓاْ أَن تَأۡتِيَهُمۡ غَٰشِيَةٞ مِّنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوۡ تَأۡتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ (107) قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (108) وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰٓۗ أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (109) حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ (110) لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ (111)

فمن(1-3)

غريب الكلمات:

نَقُصُّ: أي: نُخبِرُ ونبيِّنُ، والقصصُ: الأثرُ والأخبارُ المتُتبَّعةُ، وأصلُ (القصِّ): تتبُّعُ الأثرِ أو الشيءِ

المعنى الإجمالي:

 

افتَتحَ الله سبحانه هذه السُّورةَ الكريمةَ بالحُروفِ المُقطَّعةِ، ثم أخبَرَ تعالى أنَّ هذه آياتُ القُرآنِ الواضِحِ من جهةِ أحكامِه، وألفاظِه، وسائِرِ ما حَواهُ مِنْ صُنوفِ مَعانيه، البَيِّنِ صِدْقُه، الذي يُفْصِحُ عمَّا أُبْهِم ويُبَيِّنُه، وأنَّه سُبحانَه أنزلَ هذا القُرآنَ بلُغةِ العَرَبِ؛ لعلَّهم يَعقِلونَ معانيَه ويفهَمونَها، ويَعمَلونَ بهَديِه، ثمَّ توجَّه بالخِطابِ لِنَبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: نحن نقصُّ عليك أحسَنَ القَصَصِ بوَحيِنا إليك هذا القُرآنَ، وإن كُنتَ قبل إنزالِه عليك لَمِنَ الغافلينَ عن هذه الأخبارِ، لا تدري عنها شيئًا.

تفسير الآيات:

 

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1).

سبَبُ النُّزولِ:

عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((أُنزِلَ القرآنُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتلا عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ الله، لو قَصَصتَ علينا، فأنزل الله: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ يوسُف: 1 إلى قولِه تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ يوسُف: 3 فتلاها عليهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو حَدَّثتَنا، فأنزل الله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا الزمر: 23 الآية، كلُّ ذلك يُؤمَرونَ بالقُرآنِ))

.

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1).

الر.

تقدَّم الكلامُ عن هذه الحروفِ المُقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سُورةِ البَقَرةِ .

تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ.

أي: هذه آياتُ القُرآنِ الواضِحِ مِن جهةِ أحكامِه، وألفاظِه، وسائِرِ ما حَواهُ مِنْ صُنوفِ مَعانيه، البَيِّنِ صِدْقُه، الذي يُفْصِحُ عمَّا أُبْهِم ويُبَيِّنُه .

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2).

أي: إنَّا أنزَلْناه كِتابًا يُقرَأُ بلُغَتِكم- أيُّها العربُ- كي تعلَموا وتفهَموا مَعانيَه .

كما قال تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الزخرف: 1 - 3.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3).

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ.

أي: نحن نقُصُّ عليك- يا محمَّدُ- أحسَنَ أخبارِ الأُمَم الماضيةِ ؛ بإيحائِنا إليك هذا القرآنَ .

وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ.

أي: والشَّأنُ أنَّك كنتَ- يا محمَّدُ- من قبلِ أن نوحيَ إليك هذا القُرآنَ، مِن جملةِ قَومِك الذين لا عِلْمَ لهم بما في القُرآنِ؛ من الإيمانِ والهُدَى، وأخبارِ الأنبياءِ والأُمَمِ الماضيةِ

 

.

كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ الشورى: 52.

وقال سُبحانه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى الضحى: 7.

الفوائد التربوية:

 

في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إشارةٌ إلى ضرورةِ العِلمِ بمعاني الكتابِ العزيزِ، ووجهُ ذلك: أنَّه سُبحانه بَيَّنَ أنَّه أنزَلَه عربيًّا كي نعقِلَه، والعقلُ لا يكونُ إلَّا مع العِلمِ بمعانيه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إنَّما وُصِفَ القرآنُ بكونِه مُبِينًا؛ لوجوهٍ:

الأوَّل: أنَّ القرآنَ مُعجِزةٌ قاهرةٌ، وآيةٌ بيِّنةٌ لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم.

الثاني: أنَّه بيَّنَ فيه الهدى والرُّشد، والحلالَ والحرامَ، ولَمَّا بُيِّنَت هذه الأشياءُ فيه، كان الكتابُ مُبِينًا لهذه الأشياءِ.

الثَّالث: أنَّه بُيِّنَت فيه قَصصُ الأوَّلينَ، وشُرِحَت فيه أحوالُ المتقَدِّمينَ

.

2- قولُ الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ اللِّسانَ العربيَّ أفصَحُ الألسنةِ وأوسَعُها وأقوَمُها وأعدَلُها؛ لأنَّ مِن المقَرَّرِ أنَّ القولَ- وإن خُصَّ بخِطابِه قومٌ- يكونُ عامًّا لِمَن سِواهم .

3- قوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ هذه الجُملةُ تتنزَّلُ مِن جُملةِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا مَنزلةَ بدَلِ الاشتمالِ؛ لأنَّ أحسَنَ القصَصِ ممَّا يشتَمِلُ عليه إنزالُ القُرآنِ، وكونُ القَصَصِ مِن عند الله يتنزَّلُ منزلةَ الاشتمالِ مِن جملةِ تأكيدِ إنزالِه مِن عندِ الله، وقولُه: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ يتضَمَّنُ رابطًا بين جملةِ البدَلِ والجُملةِ المُبدَلِ منها .

4- قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وذلك لأنَّ لُغةَ العَربِ أفصَحُ اللُّغاتِ وأبيَنُها وأوسَعُها، وأكثَرُها تأديةً للمعاني التي تقومُ بالنُّفوسِ؛ فلهذا أُنزِلَ أشرفُ الكُتُبِ بأشرَفِ اللُّغاتِ، على أشرفِ الرُّسُلِ، بسِفارةِ أشرَفِ الملائكةِ، وكان ذلك في أشرَفِ بِقاعِ الأرضِ، وابتُدئَ إنزالُه في أشرفِ شُهورِ السَّنةِ، وهو رمضانُ، فكمُلَ مِن كُلِّ الوجوهِ .

5- في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ردٌّ على مَن زَعمَ أنَّ في القُرآنِ ما لا يَفْقَهُ ولا يَفْهَمُ معناه لا الرَّسولُ ولا المُؤمِنونَ؛ فإنَّ هذا مِن المنَكرِ الذي أنكَرَه العُلَماءُ .

6- ذكَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى أنَّه يقُصُّ على رَسولِه أحسَنَ القَصَصِ في هذا الكتابِ؛ حيث قال جلَّ وعلا: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ثمَّ ذكَرَ هذه القِصَّةَ وبَسَطَها، وذكَرَ ما جرى فيها، فعُلِمَ بذلك أنَّها قِصَّةٌ تامَّةٌ كامِلةٌ حَسَنةٌ، فمن أراد أن يُكمِلَها أو يحَسِّنَها بما يُذكَرُ في الإسرائيليَّاتِ التي لا يُعرَفُ لها سنَدٌ ولا ناقِلٌ، وأغلَبُها كذِبٌ؛ فهو مُستدرِكٌ على اللهِ، ومُكمِلٌ لشيءٍ يزعُمُ أنَّه ناقِصٌ، وحَسبُك بأمرٍ ينتهي إلى هذا الحَدِّ قُبحًا! فإنَّ تضاعيفَ هذه السُّورةِ قد مُلِئَت في كثيرٍ مِن التَّفاسيرِ من الأكاذيبِ والأمورِ الشَّنيعةِ المُناقِضةِ لِما قَصَّه الله تعالى بشيءٍ كثيرٍ، فعلى العبدِ أن يفهمَ عن الله ما قَصَّه، ويدَعَ ما سِوى ذلك، ممَّا ليس عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُنقَلُ .

7- ذكَرَ اللهُ أقاصيصَ الأنبياءِ في القُرآنِ، وكرَّرَها بمعنًى واحدٍ في وجوهٍ مُختَلفةٍ، بألفاظٍ مُتباينةٍ على درجاتِ البلاغةِ، وقد ذكرَ قِصَّةَ يُوسُفَ ولم يكَرِّرْها، فلم يَقدِرْ مُخالِفٌ على مُعارضةِ ما تكرَّر، ولا على مُعارضةِ غيرِ المُتكَرِّر، والإعجازُ لِمن تأمَّل

 

.

بلاغة الآيات   :

 

1- قوله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ

- قولُه: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وفي سُورةِ (يُونُسَ) وسُورة (لُقمانَ) قال: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ؛  فوَصَفَ الكِتابَ في سُورةِ (يُوسُف) بالمُبين، وفي السُّورتَينِ بالحَكيم؛ ووجهُ ذلك: أنَّ ذِكْرَ وَصْفِ إبانتِه هنا أنسَبُ؛ إذ كانت القِصَّةُ التي تَضَمَّنَتها هذه السُّورةُ مُفصِّلةً مُبيِّنةً لأهمِّ ما جَرَى في مدَّةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ بمِصْرَ

؛ فسورةُ (يُوسُفَ) عليه السَّلامُ لم تَنطوِ على غيرِ قِصَّتِه وبسْطِ التعريفِ بقَضيَّتِه، وبيانِ ما جرَى له مع أبيه وإخوتِه، وامتحانِه وتخلُّصِه بسابقِ اصطفائِه ممَّا كِيدَ به، وجَمْعِه بأخيه، ثُمَّ بأبيه وإخوتِه؛ فلهذا أُتْبِع الكتابُ بالوصفِ بـ الْمُبِينِ، وأمَّا سُورتَا (يُونُسَ) و(لُقمانَ) فقدْ تَردَّد فيهما من الآياتِ المُعتبَرِ بها، المطْلِعةِ على عَظيمِ حِكمتِه تعالى وإتْقانِه للأشياءِ ما لم يَرِدْ في سُورةِ (يُوسُفَ)، كخَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، وجَعْل الشَّمسِ ضِياءً والقَمرِ نُورًا، واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ وما خَلَق اللهُ في السَّمواتِ والأرضِ، وما في ذلك مِن عِبَرٍ وآياتٍ، وكذلك ما في سُورة (لُقمان) في قوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ لقمان: 10- 11، وما ذَكَره فيها أيضًا عن لُقمانَ وما آتاهُ من الحِكمةِ، وما انطوتْ عليه قِصَّتُه مِن حِكمةٍ، وما صُدِّرَ عنه في وصيَّتِه؛ فهذا وجهُ وصْفِ الكِتابِ في هاتَينِ السُّورتَينِ بالحَكيمِ .

- قولُه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ استِئنافٌ يُفيدُ تَعليلَ الإبانةِ مِن جِهَتَيْ لَفظِه ومَعناه؛ فإنَّ كونَه قُرآنًا يَدُلُّ على إبانةِ المعاني؛ لأنَّه ما جُعِل مَقروءًا إلَّا لِما في تَراكيبِه مِن المعاني المفيدةِ للقارئِ، وكونُه عَربيًّا يُفيدُ إبانةَ ألفاظِه المعانِيَ المقصودةَ للَّذين خُوطِبوا به ابتِداءً، وهم العرَبُ .

- والتَّأكيدُ بـ (إنَّ) مُتوجِّهٌ إلى خبَرِها، وهو فِعْلُ أَنْزَلْنَاهُ؛ ردًّا على الَّذين أنكَروا أن يَكونَ مُنزَّلًا مِن عندِ اللهِ .

- وقولُه: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فيه التَّعبيرُ عن العلمِ بالعقلِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ دَلالةَ القرآنِ على هذا العِلمِ قد بلَغَت في الوُضوحِ حَدَّ أن يُنزَّلَ مَن لم يَحصُلْ له العِلمُ منها مَنزِلةَ مَن لا عَقْلَ له، وأنَّهم ما داموا مُعْرِضين عنه فهُم في عِدادِ غيرِ العُقَلاءِ .

- وحَذَف مفعولَ تَعْقِلُونَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ إنزالَه كذلك هو سبَبٌ لحُصولِ تَعقُّلٍ لأشياءَ كثيرةٍ مِن العلومِ مِن إعجازٍ وغيرِه .

- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سورةِ (يوسفَ): إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يوسف: 2، وفي سورةِ (الزُّخرُفِ) قال: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الزخرف: 3؛ فقال هنا أَنْزَلْنَاهُ، وقال في (الزخرف): جَعَلْنَاهُ، ووجهُ ذلك: أنَّ آيةَ سورةِ (يوسُفَ) لَمَّا كانت توطِئةً لذِكْرِ قَصصِه عليه السَّلامُ، ولم تتَضمَّنِ السُّورةُ غيرَ ذلك إلَّا ما أُعقِبَ به في آخِرِها، ممَّا يُعرَفُ بعجيبِ ما تَضمَّنَتْه ما كان غَيبًا عندَ قُريشٍ والعرَبِ، مُستوفِيًا ما كان أهلُ الكتابِ يَظُنُّون أنَّهم انفَرَدوا بعِلمِه، فأنزَل اللهُ هذه السُّورةَ موفِيَةً مِن ذلك أتَمَّه، ومُعرِّفةً مِن قَصصِه العجيبَ، ومؤدِّيةً أكمَلَه وأعَمَّه، ولا أنسَبَ عِبارةً هنا مِن قولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا؛ لِيَعلَمَ العربُ والجميعُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يتَلقَّ ذلك القَصصَ مِن أحَدٍ مِن العرَبِ؛ إذ لم يَكُنْ عِندَهم مِنه نبَأٌ، ولا رحَل في تَعرُّفِه إلى أحَدٍ؛ فالتَّعبيرُ بالإنزالِ هنا بيِّنٌ، وأمَّا آيةُ الزُّخرُفِ فلم تُبْنَ على أخبارٍ .

2- قولُه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ

- قولُه: نَحْنُ نَقُصُّ: فيه افتِتاحُ الجُملَةِ بضَميرِ العظَمةِ نَحْنُ؛ للتَّنويهِ بالخبَرِ، وتقديمُ نَحْنُ على الخبَرِ الفعليِّ نَقُصُّ يفيدُ الاختصاصَ، أي: نَحن نقُصُّ لا غيرُنا؛ ردًّا على مَن يَطعُنُ مِن المشرِكين في القرآنِ بقولِهم: إِنَّما يُعَلِّمُه بَشَرٌ النحل: 103.

- قولُه: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ فعُبِّر بـ الْغَافِلِينَ دونَ أن يُوصَفَ وحْدَه بالغَفلةِ؛ ونُكتةُ ذلك الإشارةُ إلى تَفضيلِه بالقرآنِ على كلِّ مَن لم يَنتَفِعْ بالقرآنِ؛ فدخَل في هذا الفَضلِ أصحابُه والمسلِمون على تَفاوُتِ مَراتبِهم في العلمِ، ومَفهومُ قولِه: مِنْ قَبْلِهِ مقصودٌ منه التَّعريضُ بالمشرِكين المعْرِضين عن هَدْيِ القرآنِ .

- وأيضًا في قولِه: لَمِنَ الْغَافِلِينَ التَّعبيرُ عن عدَمِ العلمِ بالغفلةِ؛ لإجلالِ شأنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإنْ غفَل عنه بعضُ الغافِلين

=======================

 

المعنى الإجمالي

تفسير الآيات

الفوائد التربوية

الفوائد العلمية واللطائف

بلاغة الآيات

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (4-6)

ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: اذكُرْ- يا محمَّدُ- لقومِك قولَ يوسُفَ لأبيه يعقوبَ عليهما السلام: إنِّي رأيتُ في المنامِ أحدَ عشَرَ كوكبًا، والشَّمسَ والقمَرَ رأيتُهم لي ساجدينَ، فقال يعقوبُ لابنه يوسُفَ: يا بُنيَّ لا تذكُرْ لإخوتِك هذه الرُّؤيا فيَحسُدوك ويُعادوك، ويَحتالوا في إنزالِ الضررِ بكَ؛ إنَّ الشَّيطانَ للإنسانِ عدُوٌّ ظاهِرُ العداوةِ. وكما أراك ربُّك هذه الرُّؤيا فكذلك يَصطَفيك للنبُوَّةِ، ويعَلِّمُك من تعبيرِ الرُّؤى التي يراها النَّاسُ في منامِهم، ومِن معاني كتبِ الله وسننِ الأنبياءِ، ويُتِمُّ نِعمتَه عليك وعلى آلِ يَعقوبَ بالنبُوَّةِ والرِّسالة، كما أتمَّها مِن قبلُ على أبوَيك إبراهيمَ وإسحاقَ بالنبُوَّةِ والرِّسالةِ، إنَّ ربَّك عليمٌ بمن يَصطفيه مِن عبادِه، حَكيمٌ في تدبيرِ أمورِ خَلقِه.

تفسير الآيات:

 

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا مدحَ ما اشتمَلَ عليه هذا القُرآنُ مِن القَصَص، وأنَّها أحسَنُ القَصَصِ على الإطلاقِ، فلا يُوجَدُ مِن القَصَص ِفي شيءٍ مِن الكتُبِ مِثلُ هذا القرآنِ- ذكرَ قِصَّةَ يوسُفَ وأبيه وإخوتِه، القِصَّةَ العجيبةَ الحَسَنةَ

، فقال تعالى:

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4).

أي: اذكُرْ- يا محمَّدُ- لقَومِك حين قال يوسُفُ لأبيه يعقوبَ- عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ: يا أبتِ، إنِّي رأيتُ في المنامِ أحَدَ عشَرَ نَجمًا، والشَّمسَ والقمَرَ، رأيتُهم ساجدينَ لي .

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أكرمُ الناسِ يوسُف نبيُّ الله، ابنُ نبيِّ الله، ابنِ نبيِّ الله، ابنِ خليلِ الله )) .

قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5).

قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا.

أي: قال يعقوبُ لابنه يوسُفَ: يا بُنيَّ لا تَقصُصْ هذه الرُّؤيا على إخوتِك، فيَحسُدوك، ويَحتالوا لك حيلةً ليَضُرُّوك .

إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ.

أي: إنَّ الشَّيطانَ لآدمَ وذريتِه عدوٌّ ظاهِرُ العَداوةِ، يَحمِلُهم على الحسَدِ والكَيدِ .

كما قال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا الإسراء: 53.

وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6).

وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ.

أي: قال يعقوبُ لابنِه يوسُفَ: وكما أراك ربُّك في منامِك سُجودَ الكواكبِ والشَّمسِ والقَمَرِ لك، فكذلك يَختارُك ربُّك، ويَصطفيك للنبُوَّةِ .

وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ.

أي: ويُعلِّمُك مِن تعبيرِ الرُّؤى التي يراها النَّاسُ في مَنامِهم، وما يؤولُ أمرُها إليه ، ومن معاني كتُبِ الله وسُنَنِ الأنبياءِ .

وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ.

أي: ويُتِمُّ نِعمَتَه عليك في الدُّنيا والآخرةِ، وعلى أهلِ مِلَّةِ يعقوبَ مِن ذرِّيَّتِه وغيرِهم، كما أتمَّ نِعمَتَه من قبلِ ذلك على أبوَيك إبراهيمَ وإسحاقَ بالنِّعَم العظيمةِ في دِينِهم ودُنياهم .

إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

أي: إنَّ ربَّك عليمٌ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بمن يستحِقُّ إتمامَ النِّعمةِ، حَكيمٌ يضَعُ كلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به، ومِن ذلك حِكمتُه في تدبيرِ خَلْقِه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا في خِطابِ يعقوبَ ليُوسُفَ تنهيةٌ عن أن يقُصَّ على إخوتِه- مَخافةَ كَيدِهم- دَلالةٌ على تحذيرِ المُسلِمِ أخاه المُسلِمَ ممَّن يخافُه عليه، والتَّنبيهِ على بعضِ ما لا يَليقُ، ولا يكونُ ذلك داخِلًا في بابِ الغِيبةِ

.

2- ينبغي البعدُ عن أسبابِ الشَّرِّ، وكِتمانُ ما تُخشى مضَرَّتُه؛ لقولِ يعقوبَ ليُوسفَ: يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ، ففيه الحثُّ على التحَرُّزِ ممَّا يُخشَى ضُرُّه؛ فالإنسانُ مأمورٌ بالاحترازِ، فإن نفَعَ فذاك، وإلَّا لم يَلُمِ العبدُ نَفسَه .

3- قولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا يدُلُّ على جوازِ تَركِ إظهارِ النِّعمةِ لِمَن يُخشَى منه حَسَدٌ ومَكرٌ ، فليس للمَحسودِ أسلَمُ مِن إخفاءِ نِعمتِه عن الحاسِدِ .

4- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا فيه حُكمٌ بالعادةِ أنَّ الإخوةَ والقَرابةَ يَحسُدونَ .

5- قولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا في الآيةِ دليلٌ على أنَّ الرُّؤيا لا تُقَصُّ على غيرِ شَفيقٍ ولا ناصِحٍ، ولا على امرئٍ لا يُحسِنُ التَّأويلَ فيها .

6- مِن الحَزمِ إذا أراد العَبدُ فِعلًا مِن الأفعالِ أن يَنظُرَ إليه مِن جَميعِ نواحيه، ويُقَدِّرَ كُلَّ احتمالٍ مُمكِنٍ، وأنَّ الاحترازَ بسُوءِ الظَّنِّ لا يَضُرُّ إذا لم يُحقَّق، بل يُحترَزُ مِن كُلِّ احتِمالٍ يُخشى ضَرَرُه، ولو تضَمَّنَ ظَنَّ السُّوءِ بالغَيرِ، إذا كانت القرائِنُ تَدُلُّ عليه وتَقتَضيه، كما في قَولِه تعالى: يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وكما قَوِيَت القرائِنُ في قَولِه: قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ يوسف: 64؛ فإنَّه سبَقَ لهم في أخيه ما سَبَق، فلا يُلامُ يعقوبُ إذا ظَنَّ بهم هذا الظَّنَّ، وإن كانوا في الأخِ الأخيرِ لم يَجرِ منهم تفريطٌ ولا تَعَدٍّ .

7- إنَّ نِعمةَ اللهِ على العبدِ نِعمةٌ على من يتعلَّقُ به من أهلِ بَيتِه وأقارِبِه وأصحابِه، وأنَّه رُبَّما شَمِلَتهم، وحصل لهم ما حصَلَ له بسَبَبِه، كما قال يعقوبُ في تفسيرِه لرؤيا يوسُفَ: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ، ولَمَّا تمَّت النِّعمةُ على يوسُفَ، حصلَ لآلِ يعقوبَ مِن العِزِّ والتَّمكينِ في الأرضِ، والسُّرورِ والغِبطةِ ما حصلَ بسبَبِ يوسُفَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ جعلَ اللهُ تلك الرُّؤيا تنبيهًا ليُوسُفَ عليه السَّلامُ بعُلُوِّ شأنِه؛ ليتذَكَّرَها كلَّما حلَّت به ضائِقةٌ، فتَطمئِنَّ بها نَفسُه أنَّ عاقِبتَه طَيِّبةٌ، وهكذا إذا أراد اللهُ أمرًا مِن الأمورِ العِظامِ قدَّمَ بين يديه مُقَدِّمةً؛ تَوطئةً له، وتسهيلًا لأمرِه، واستعدادًا لِما يَرِدُ على العبدِ مِن المشاقِّ؛ لُطفًا بعبده، وإحسانًا إليه، وقد كانت هذه الرُّؤيا مُقَدِّمةً لِما وصَلَ إليه يوسُفُ عليه السَّلامُ مِن الارتفاعِ في الدُّنيا والآخرةِ، وإنَّما أخبَرَ يوسُفُ عليه السَّلامُ أباه بهاتِه الرُّؤيا؛ لأنَّه عَلِمَ بإلهامٍ أو بتعليمٍ سابقٍ مِن أبيه أنَّ للرُّؤيا تعبيرًا

.

2- قولُ الله تعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا... أصلٌ في تعبيرِ الرُّؤيا .

3- قولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا دليلٌ على مَعرفةِ يعقوبَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتأويلِ الرُّؤيا؛ فإنَّه عَلِمَ مِن تأويلِها أنَّه سيظهَرُ عليهم ، وأنَّها تقتضي تقدُّمَه فيهم؛ لذا نهَى ابنَه عن ذكرِها، وخاف مِن إخوتِه أن يكيدوا له مِن أجلِها .

4- قَولُ الله تعالى: كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ فيه دَلالةٌ على أنَّ الجَدَّ أبٌ ؛ لأنَّ إسحاقَ جدُّ يوسفَ، وإبراهيمَ جدُّ أبيه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ

- النِّداءُ يَا أَبَتِ في الآيةِ- مع كَوْنِ المنادَى حاضِرًا- مقصودٌ به الاهتمامُ بالخبَرِ الَّذي سيُلقَى إلى المخاطَبِ، فيُنزَّلُ المخاطَبُ منزِلةَ الغائبِ المطلوبِ حُضورُه، وفيه كِنايةٌ عن الاهتمامِ

.

- قولُه: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فيه تأخيرُ الشَّمسِ والقمَرِ؛ لِيَعطِفَهما على الكواكِبِ على طَريقِ الاختصاصِ؛ إثباتًا لِفَضلِهما، واستبدادِهما بالمَزيَّةِ على غَيرِهما مِن الطَّوالِعِ . وقيل: إنَّ التأخيرَ إنَّما هو مِن بابِ الترقِّي مِن الأدْنَى إلى الأعلَى، وَقُدِّمَتْ الشمسُ على القمرِ؛ لِسُطوعِ نُورِها، وكِبَرِ جِرمِها، واستمدادِه منها، وعُلُوِّ مكانِها .

- وقولُه: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ فيه تَكرارُ رَأَيْتُهُمْ على سَبيلِ التَّوكيدِ للفِعلِ الأوَّل رَأَيْتُ؛ لطُولِ الكَلامِ والفَصلِ بَينَ الفِعلِ رَأَيْتُ الأوَّل وبين سَاجِدِينَ؛ فطولُ الفَصلِ بالمفاعيلِ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ استَدَعَى ذلك؛ فجِيءَ بـ رَأَيْتُهُمْ تَطريةً وتَنويعًا للحَديثِ . وقيل: إنَّه ليس بتَكْرارٍ لـ رَأَيْتُ...، وإنَّما هو كَلامٌ مُستأنَفٌ ببَيانِ حالِهم الَّتي رآهم عليها، على تَقديرِ سُؤالٍ وقَع جوابًا له؛ كأنَّ يعقوبَ عليه السَّلامُ- أو كأنَّ سائلًا سأَلَ- قال له عندَ قولِه: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ: كيف رأيتَها؟ سائلًا عن حالٍ رُؤيتِها، فقال: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ؛ فجُملةُ رَأَيْتُهُمْ مؤكِّدةٌ لجُملَةِ رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا؛ جيءَ بها على الاستِعْمالِ في حِكايةِ الْمَرائي الحُلميَّةِ أن يُعادَ فِعلُ الرُّؤيةِ؛ تأكيدًا لَفظيًّا، أو استِئنافًا بيانيًّا، كأنَّ سامِعَ الرُّؤيا يَستزيدُ الرَّائيَ أخبارًا عمَّا رأى .

- قولُه: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ فيه إجراءُ الكواكِبِ والشَّمسِ والقَمرِ مجرَى العُقَلاءِ، حَيثُ عبَّر عنها بقولِه: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ بضَميرِ جمْعِ المذكَّرِ (هُم) وصِيغتِه سَاجِدِينَ؛ لأنَّه لَمَّا وصَفها بما هو خاصٌّ بالعُقَلاءِ- وهو السُّجودُ- أَجرَى عليها حُكمَهم، وهذا شائِعٌ في كلامِ العَرَب، وهو أنْ يُعطى الشَّيءُ حُكمَ الشَّيءِ؛ للاشتِراكِ في وَصفٍ ما، أو يُلابِسُه ويُقارِبُه من بعضِ الوُجوهِ، فيُعطَى حُكمًا مِن أحكامِه؛ إظهارًا لأثرِ الملابسةِ والمقاربةِ، وإنْ كان ذلك الوَصفُ أصلُه أنْ يَخُصَّ أحدَهما ، فلمَّا وصَفها صفةَ مَن يَعقِلُ، جمَعها جَمعَ مَن يَعْقِلُ .

- وتَقديمُ الجارِّ والمجرورِ لِي على عامِلِه سَاجِدِينَ؛ لإظْهارِ العِنايةِ والاهتِمامِ بما هو الأهَمُّ، وهو ذِكرُ يُوسُفَ عليه السَّلامُ، مع ما في ضِمْنِه مِن رِعايةِ الفاصلةِ .

2- قولُه تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ جاءتْ هذه الجُملةُ مَفصولةً عن الَّتي قَبْلَها- أي: لم تُعْطَفْ عليها- على طَريقةِ المُحاوَراتِ .

- قولُه: قالَ يَا بُنَيَّ... استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالِ مَن قال: فماذا قال يعقوبُ بعد سماعِ هذه الرُّؤيا العجيبةِ؟ فقيل: قال:... ، والنِّداءُ فيه مع حُضورِ المخاطَبِ مُستعمَلٌ في طَلبِ إحضارِ الذِّهنِ؛ اهتِمامًا بالغرَضِ المخاطَبِ فيه .

- وبُنَيَّ تَصغيرُ (ابنٍ)؛ كنايةً عن تَحبيبٍ وشفقةٍ، وفيه أيضًا كنايةٌ عن إمحاضِ النُّصحِ له .

- قولُه: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا فيه تنكيرُ كَيْدًا؛ للتَّعظيمِ والتَّهويلِ، زيادةً في تحذيرِه مِن قَصِّ الرُّؤيا عليهم ، وأُكِّد بالمصدَرِ للمبالَغةِ ؛ فهذا الأسلوبُ آكَدُ مِن أن يُقالَ: (فيَكيدوك كيدًا)؛ إذ ليس فيه دَلالةٌ على كَوْنِ نَفْسِ الفِعلِ مقصودَ الإيقاعِ، وقيل: إنَّما جيءَ باللَّامِ لِتَضمينِه معنى الاحتيالِ المتعدِّي باللَّام؛ لِيُفيدَ معنى المضمَّنِ والمضمَّنِ فيه للتَّأكيدِ، أي: فيَحْتالوا لك ولإهلاكِك حيلةً وكيدًا .

- قولُه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ واقعٌ موقِعَ التَّعليلِ للنَّهيِ عن قَصِّ الرُّؤيا على إخوتِه، وعداوَةُ الشَّيطانِ لجنسِ الإنسانِ تحمِلُه على أَنْ يَدْفَعَهم إلى إضرارِ بعضِهم ببعضٍ .

3- قولُه تعالى: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عطَف هذا الكَلامَ على تَحذيرِه مِن قَصِّ الرُّؤيا على إخوتِه؛ إعلامًا له بعُلوِّ قَدرِه، ومستقبَلِ كَمالِه؛ كي يَزيدَ تَملِّيًا مِن سُموِّ الأخلاقِ؛ فيتَّسِعَ صدرُه لاحتمالِ أذَى إخوتِه، وصفحًا عن غيرتِهم منه، وحسَدِهم إيَّاه؛ لِيَتمحَّضَ تحذيرُه للصَّلاحِ، وتَنتفِيَ عنه مفسَدةُ إثارةِ البغضاءِ ونحوِها، حِكْمةً نبويَّةً عظيمةً، وطِبًّا رُوحانيًّا ناجعًا .

- قولُه: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ فيه تشبيهٌ، وهو تشبيهُ تعليلٍ؛ لأنَّه تشبيهُ أحَدِ المعلولَينِ بالآخَرِ؛ لاتِّحادِ العِلَّةِ .

- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تذييلٌ بتَمجيدِ هذه النِّعَمِ، وأنَّها كائنةٌ على وَفْقِ عِلمِه وحِكْمتِه، وتصديرُ الجملةِ بـ إِنَّ للاهتمامِ لا للتَّأكيدِ؛ إذْ لا يَشُكُّ يوسفُ عليه السَّلامُ في عِلمِ اللهِ وحِكْمتِه، والاهتمامُ ذَريعةٌ إلى إفادةِ التَّعليلِ، والتَّفريعُ في ذلك تَعريضٌ بالثَّناءِ على يوسُفَ عليه السَّلامُ، وتَأهُّلِه لمثلِ تلك الفضائلِ

==================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (7-10)

ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ

غريب الكلمات:

 

عُصْبَةٌ: أي: جَماعةٌ ذَوو عدَدٍ، وعَددُها من العَشرةِ إلى الأربعينَ، وأصلُ (عصب): يدُلُّ على رَبطِ شَيءٍ بشَيءٍ، وسُمِّيَت بذلك كأنَّها رُبِطَ بعضُها ببعضٍ

.

غَيَابَتِ الجُبِّ: أي: قَعرِ البِئرِ، والغيابةُ: كلُّ ما غاب، أو غيَّب عنك شيئًا، وأصلُ (غيب): يدلُّ على تستُّرِ الشَّيءِ عن العُيونِ، والجبُّ: البئرُ التي ليسَتْ بمطويةٍ ، وأصلُ (جبب): يدلُّ على قَطعٍ، كأنَّها قُطِعت، ولم يحدثْ فيها شيءٌ بعدَ القطعِ .

السَّيَّارَةِ: أي: مارَّةِ الطَّريقِ مِن المُسافرينَ، وأصلُ (سير): يدلُّ على مُضيٍّ وجَرَيانٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا

أَرْضًا: مَنصوبةٌ على نزعِ الخافِضِ؛ أي: في أرضٍ، أو ظَرفٌ لـ اطْرَحُوهُ

، أو مفعولٌ به ثانٍ بتَضمينِ اطْرَحُوهُ معنى: (أنزِلوه)

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: لقد كان في قِصَّةِ يوسُفَ وإخوتِه عِبَرٌ، وأدلَّةٌ تدُلُّ على قُدرةِ اللهِ وحِكمتِه، لِمن يسألُ عن أخبارِهم، ويرغَبُ في مَعرفتِها، إذ قال إخوةُ يوسُفَ مِن أبيه فيما بينهم: إنَّ يُوسُفَ وأخاه الشَّقيقَ أحَبُّ إلى أبينا مِنَّا؛ يُفَضِّلُهما علينا ونحن جماعةٌ ذَوو عَددٍ، إنَّ أبانا لفي خطأٍ بيِّنٍ، اقتُلوا يوسُفَ، أو ألقُوه في أرضٍ مجهولةٍ، بعيدةٍ عن العُمرانِ، يَخلُصْ لكم حُبُّ أبيكم، وإقبالُه عليكم، ولا يلتفِتْ عنكم إلى غيرِكم، وتكونوا مِنْ بعد قَتْلِ يُوسُفَ أو إبعادِه تائبينَ إلى اللهِ، مُستَغفرينَ له مِن بعدِ ذَنبِكم.

قال قائلٌ مِن إخوةِ يوسُفَ: لا تقتُلوا يوسُفَ، وألقوه في جَوفِ البِئرِ يلتَقِطْه بعضُ المارَّةِ مِن المُسافرينَ فتَستريحوا منه، ولا حاجةَ إلى قَتلِه، إنْ كنتُم عازمينَ على فِعلِ ما تقولونَ.

تفسير الآيات:

 

لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7).

أي: لقد كان في قِصَّةِ يوسُفَ وإخوتِه الأحدَ عشَرَ عِبَرٌ ومواعِظُ ودَلالاتٌ للسَّائلينَ عن خَبَرِهم وقِصَّتِهم

.

إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8).

إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ.

أي: اذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين قال إخوةُ يوسُفَ فيما بينهم: واللهِ لَيوسُفُ وشَقيقُه أحبُّ إلى أبينا يعقوبَ مِنَّا، والحالُ أنَّنا جماعةٌ ذوو عَددٍ، فكيف أحبَّ هذينِ الاثنينِ أكثرَ مِن الجماعةِ ؟!

إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ.

أي: إنَّ أبانا لَفي خطأٍ واضحٍ، وذَهابٍ عن العِلمِ بالحقيقةِ والصَّوابِ في إيثارِه يوسُفَ وشقيقِه علينا بالمحبَّةِ، ونحن العَشرةُ أنفَعُ له منهما !

اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9).

اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ.

أي: قال إخوةُ يوسُفَ بعضُهم لبعضٍ: اقتُلوا يوسُفَ أو ألقُوه في أرضٍ بعيدةٍ مِن العُمرانِ، يتفَرَّغْ لكم أبوكم مِن شُغْلِه بيوسُفَ، ويُقبِلْ عليكم بكُلِّيَّتِه .

وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ.

أي: وتكونوا مِن بعدِ ما تفعلونَه بيوسُفَ قومًا صالحينَ، تتوبونَ إلى اللهِ مِن ذلك الصَّنيعِ .

قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10).

قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ.

أي: قال قائلٌ مِن إخوةِ يوسُفَ: لا تقتُلوا يوسُفَ؛ فإنَّ قَتلَه أعظَمُ إثمًا .

وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ.

أي: واطرَحوه وغيِّبوه في قَعرِ البِئرِ، يأخُذْه بعضُ المارَّةِ في الطَّريقِ مِن المُسافرينَ، إن كُنتُم فاعلينَ ما أردتُم مِن التَّفريقِ بينه وبين أبيه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ الله تعالى: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ فيه أنَّ العَدلَ مَطلوبٌ في كُلِّ الأمورِ؛ في مُعاملةِ السُّلطانِ رَعيَّتَه وفيما دونَه، حتى في مُعاملةِ الوالِدِ لأولادِه- في المحبَّةِ والإيثارِ وغَيرِه- وأنَّ في الإخلالِ بذلك يختَلُّ عليه الأمرُ، وتَفسُدُ الأحوالُ؛ ولهذا لَمَّا قدَّمَ يعقوبُ يوسُفَ- عليهما السَّلامُ- في المحبَّةِ، وآثَرَه على إخوتِه؛ جرى منهم ما جرى على أنفُسِهم، وعلى أبيهم وأخيهم

.

2- قَولُ الله تعالى: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ فيه وُجوبُ عِنايةِ الوالِدَينِ بمُداراةِ الأولادِ، وتَربيتِهم على المحبَّةِ والعدلِ، واتِّقاءِ وُقوعِ التَّحاسُدِ والتَّباغُضِ بينهم، ومنه اجتنابُ تَفضيلِ بعضِهم على بعضٍ بما يَعُدُّه المفضولُ إهانةً له، ومُحاباةً لأخيه بالهَوى، ومنه سُلوكُ سَبيلِ الحِكمةِ في تفضيلِ مَن فضَّلَ اللهُ تعالى بالمواهِبِ الفِطريَّةِ، كمكارمِ الأخلاقِ والتَّقوى، والعِلمِ والذَّكاء .

3- قال الله تعالى: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ لَمَّا حَسَدوا يوسُفَ على تقديمِ أبيهم له، لم يرضَ- سُبحانه- حتى أقامَهم بين يدَي يوسُفَ عليه السَّلامُ، وخرُّوا له سُجَّدًا؛ ليعلَموا أنَّ الحَسُود لا يَسُود، ويُقال: أطوَلُ النَّاسِ حُزنًا مَن لاقى النَّاس عن مرارةٍ، وأراد تأخيرَ مَن قدَّمه اللهُ أو تقديمَ مَن أخَّره الله؛ فإخوةُ يوسفَ- عليه السلام- أرادوا أن يجعَلوه فى أسفَلِ الجُبِّ، فرَفَعَه اللهُ فوقَ السَّريرِ .

4- قال الله تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ هذه آيةٌ مِن عِبَرِ الأخلاقِ السَّيِّئة، وهي التخَلُّصُ مِن مُزاحمةِ الفاضِلِ بفَضلِه لِمَن هو دونَه فيه أو مساويه، بإعدامِ صاحِبِ الفَضلِ، وهي أكبرُ جريمةٍ؛ لاشتِمالها على الحسَدِ، والإضرارِ بالغيرِ، وانتهاكِ ما أمرَ الله بحِفظِه، وهم قد كانوا أهلَ دينٍ ومِن بيتِ نُبُوَّة، وقد أصلح اللهُ حالَهم من بعدُ .

5- لا يحِلُّ أن يُواقِعَ العبدُ الذَّنبَ بأيِّ حالةٍ تكونُ، ولو أضمَرَ أنَّه سيتوبُ منه؛ فالذَّنبُ يجِبُ اجتنابُه، فإذا وقَع وجَبَت التوبةُ منه، وقد قال تعالى عن إخوةِ يوسفَ: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ تائِبينَ إلى الله مِن هذه الجريمةِ، مُصْلِحينَ لأعمالِكم بما يُكَفِّرُ إِثْمَها، وعدمِ التَّصَدِّي لمِثْلِها، فيَرْضَى عنكم أبُوكم، ويَرضَى رَبُّكم، فهم قدَّموا العزمَ على التوبةِ قبلَ صدورِ الذنبِ منهم؛ تسهيلًا لفعلِه، وإزالةً لشناعتِه، وتنشيطًا مِن بعضِهم لبعضٍ، وهكذا يُزَيِّنُ الشَّيطانُ للمؤمنِ المتديِّنِ معصيةَ الله تعالَى، ولا يَزالُ يَنْزَغُ له ويُسَوِّلُ، ويَعِدُ ويُمَنِّي ويُؤَوِّلُ، حتَّى يُرَجِّحَ داعِيَ الإيمانِ، أو يُجيبَ داعِيَ الشَّيطانِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ قولُه: لِلسَّائِلِينَ يَقْتضي تَحْضيضًا للنَّاسِ على تعَلُّمِ هذه الأنباءِ؛ لأنَّ المرادَ آياتٌ للنَّاسِ، فوصَفَهم بالسُّؤالِ؛ إذ كُلُّ واحدٍ ينبغي أن يسألَ عن مِثلِ هذه القصَصِ، إذ هي مقَرُّ العِبَرِ والاتِّعاظِ

؛ فإنَّ السَّائلين- سواء مَن سأَلَ عنها بلِسانِ الحالِ أو بلِسانِ المَقالِ- همُ الَّذين ينتَفِعونَ بالآياتِ والعِبَرِ، وأمَّا المُعْرِضونَ فلا ينتَفِعون بالآياتِ، ولا بما في القِصَصِ والبيِّناتِ .

2- قولُ الله تعالى: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا فيه سؤالٌ: أنَّ مِن المَعلومِ أنَّ تفضيلَ بعضِ الأولادِ على بعضٍ يُورِثُ الحِقدَ والحسَدَ، فلمَ أقدَمَ يعقوبُ عليه السَّلامُ على ذلك؟

الجوابُ: أنَّه إنَّما فضَّلَهما في المحبَّةِ، والمحبَّةُ ليست في وُسعِ البشَرِ، فكان معذورًا فيها، ولا يلحَقُه في ذلك لَومٌ .

3- ظاهرُ سياقِ قَولِه تعالى: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ يدُلُّ على عدمِ نُبوَّةِ إخوةِ يوسفَ، ولم يقُمْ دَليلٌ على نبُوَّتهم، ومِن النَّاسِ مَن يزعُمُ أنَّهم أُوحيَ إليهم بعدَ ذلك، وفي هذا نظرٌ، ويحتاجُ مُدَّعي ذلك إلى دليلٍ، ولم يذكُروا سوى قَولِه تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ البقرة: 136، وهذا فيه احتِمالٌ؛ لأنَّ بُطونَ بني إسرائيلَ يُقالُ لهم: الأسباطُ، كما يُقالُ للعَرَبِ: قبائِلُ، وللعَجَم: شعوبٌ، يذكُرُ تعالى أنَّه أوحى إلى الأنبياءِ مِن أسباطِ بني إسرائيلَ، فذكَرَهم إجمالًا؛ لأنَّهم كثيرونَ، ولكِنْ كُلُّ سِبطٍ مِن نَسلِ رَجلٍ مِن إخوةِ يوسُفَ، ولم يقُمْ دليلٌ على أعيانِ هؤلاء أنَّهم أُوحيَ إليهم، والله أعلم .

4- قَولُ الله تعالى: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ هذه الآيةُ أصلٌ في أحكامِ اللَّقيطِ .

5- قوله: إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لم يَبُتَّ القولَ عليهم، بل إنَّما عرَض عليهم ذلك تأليفًا لقَلبِهم، وتوجيهًا لهم إلى رأيِه، وحَذرًا من نِسبَتِهم له إلى التَّحكُّمِ والافتياتِ ، وقيل: فيه تعريضٌ بزيادةِ التَّريُّثِ فيما أضمَروه؛ لعَلَّهم يرَوْن الرُّجوعَ عنه أولى مِن تَنفيذِه .

6- قال الله تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ في هذا دليلٌ على أنَّ توبةَ القاتلِ مقبولةٌ؛ لأنَّ الله تعالى لم ينكرْ هذا القولَ منهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ

- قولُه: آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ فيه جمعُ الآياتِ، وهو هنا مُراعًى فيه تَعدُّدُها، وتعدُّدُ أنواعِها؛ ففي قصَّةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ دَلائلُ على ما للصَّبرِ وحُسنِ الطَّوِيَّةِ مِن عواقبِ الخيرِ والنَّصرِ، أو على ما للحسَدِ والإضرارِ بالنَّاسِ مِن الخيبةِ والاندِحارِ والهُبوطِ

.

2- قولُه تعالى: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

- قَولُه: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أفادَت لامُ الابتداءِ في لَيُوسُفُ التَّأكيدَ والتَّحقيقَ لمضمونِ الجملةِ؛ أي: أرادوا أنَّ زِيادةَ مَحبَّتِه وكثرةَ حبِّه لهما ثابتٌ، لا شُبهةَ فيه .

- وخَصُّوا يوسفَ عليه السَّلامُ بالأُخوَّةِ، فقالوا: وَأَخُوهُ؛ لأنَّه كان شَقيقَه، وكان بقيَّةُ إخوتِه إخوةً للأبِ ، ولم يَذكُروه باسمِه؛ إشعارًا بأنَّ محبةَ يعقوبَ عليه السلامُ له لأجلِ شقيقِه يوسفَ عليه السلامُ، ولذا لم يتعرَّضوه بشيءٍ مما أُوقِع بيوسفَ عليه السلامُ .

- وجملةُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ في موضعِ الحالِ، والمقصودُ مِن هذه الحالِ: التَّعجُّبُ مِن تَفْضيلِهما في الحبِّ في حالِ أنَّ رجاءَ انتِفاعِه مِن إخوَتِهما أشَدُّ مِن رَجائِه مِنهما .

- وجملةُ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ تعليلٌ للتَّعجُّبِ المستفادِ مِن جملةِ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، وتفريعٌ عليها .

3- قولُه تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ

- جملةُ: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ الكلامَ المتقدِّمَ يُثيرُ سُؤالًا في نُفوسِ السَّامِعين عن غرَضِ القائِلين ممَّا قالوه، فهذا المقصودُ للقائِلين، وإنَّما جعَلوا له الكلامَ السَّابِقَ كالمقدِّمةِ؛ لِتَتأثَّرَ نفوسُ السَّامعينَ، فإذا أُلْقِي إليها المطلوبُ كانت سريعةَ الامتثالِ إليه .

- وتنكيرُ أَرْضًا وإخلاؤُها مِن الوصفِ يُفيدُ الإبهامَ؛ أي: أرضًا مَنكورةً مجهولةً بعيدةً مِن العُمرانِ .

- قولُه: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا... فيه إيثارُ الخطابِ في لَكُمْ وما بَعدَه؛ للمُبالَغةِ في حَمْلِهم على القَبولِ؛ فإنَّ اعتِناءَ المرءِ بشأنِ نفْسِه، واهتمامَه بتحصيلِ مَنافِعِه أتَمُّ وأكمَلُ .

- وقولُه: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ فيه ذِكرُ الوجهِ لِتَصويرِ معنى إقبالِه عليهم؛ لأنَّ مَن أقبَل عليك صرَف وجْهَه إليك، وفيه كِنايةٌ عن خُلوصِ مَحبَّتِه لهم دونَ مُشارِكٍ .

- قولُه: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ فيه التَّعبيرُ بـ قَوْمًا دونَ الاكتفاءِ بـ صَالِحِينَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ صَلاحَ الحالِ صِفةٌ متمكِّنةٌ فيهم؛ كأنَّه مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم .

4- قولُه تعالى: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ

- قولُه: لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيث لم يَقُلْ: (لا تَقْتُلوه)-؛ استِجْلابًا لِشفَقتِهم عليه، أو استِعْظامًا لقَتلِه .

- قولُهم: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ في قولِه: بَعْضُ مِن الإبهامِ؛ لتحقيقِ ما يتَوخَّاه مِن ترويجِ كَلامِه بموافَقتِه لغرَضِهم الَّذي هو تَنائي يوسُفَ عنهم، بحيث لا يُدرَى أثرُه، ولا يُروَى خبَرُه

.================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (11-14)

ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ

غريب الكلمات:

 

ﮋيَرْتَعْﮊ: أي: يأكلْ ويَنعَمْ، وأصلُ (رتع): يدل على الاتِّساعِ في المأكَلِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى عن طلبِ إخوةِ يوسُفَ من أبيهم أن يأذنَ في خروجِ يوسفَ معهم، وذلك بعدَ اتِّفاقِهم على إبعادهِ، وأنهم قالوا لأبيهم: يا أبانا ما لك لا تأمَنُنا على يوسُفَ مع أنَّه أخونا، ونحن نُريدُ له الخيرَ، ونُشفِقُ عليه ونرعاه، ونخُصُّه بخالِصِ النُّصحِ؟ أرسِلْه معنا غدًا يأكُلْ ويَنشَطْ ويَفرحْ، ويلعَبْ بالاستِباقِ ونحوِه، وإنَّا لحافِظونَ له من كلِّ ما تخافُ عليه. قال يعقوبُ: إنِّي لَيؤلِمُ نفسي ذهابُكم به، ومُفارقتُه لي، وأخشى أن يأكُلَه الذِّئبُ وأنتم عنه غافِلونَ، فقال إخوةُ يوسُفَ لوالِدِهم: لئنْ أكَلَه الذِّئبُ ونحن جماعةٌ قويَّةٌ، إنَّا إذًا لخاسِرونَ، لا خيرَ فينا، ولا نَفعَ يُرْجَى منَّا.

تفسير الآيات:

 

قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تقرَّرَ في أذهانِ إخوةِ يوسُفَ التَّفريقُ بين يوسُفَ وأبيه، أعمَلوا الحِيلةَ على يعقوبَ، وتلطَّفوا في إخراجِه معهم، وذَكَروا نُصحَهم له، وما في إرسالِه معهم مِن انشراحِ صَدرِه بالارتِعاءِ واللَّعِب، وذكَروا حِفظَهم له ممَّا يَسوءُه

.

قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ.

أي: قال إخوةُ يوسُفَ لأبيهم يعقوبَ عليه السَّلامُ، وقد عزموا على إلقاءِ يوسُفَ في قَعرِ البِئرِ: يا أبانا لمَ تخافُ منَّا على يوسُفَ، فلا تأمَنُنا عليه ؟!

وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ.

أي: وإنَّا لناصِحونَ ليوسُفَ بالحِفظِ والرِّعايةِ والنَّفعِ له .

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12).

مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا نَفَوا عن أنفُسِهم التُّهمةَ المانِعةَ مِن عدَمِ إرسالِه معهم، ذَكَروا له مِن مَصلحةِ يوسُفَ وأُنسِه- الذي يُحبُّه أبوه له- ما يقتضي أن يسمَحَ بإرسالِه معهم، فقالوا :

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ نَرْتَعِ وَنَلْعَبْ بالنونِ فيهما، وكسرِ العينِ في نَرْتَعِ؛ بإخبارِ إخوةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ عن أنفُسِهم .

2- قراءةُ يَرْتَعِ وَيَلْعَبْ بالياءِ فيهما، وكسرِ العينِ في يَرْتَعِ ؛ بإسنادِ الفِعلِ إلى يوسُفَ، والإخبارِ بذلك عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

وقراءةُ نَرْتَعِ ويَرْتَعِ بكسرِ العينِ فيهما، مِن الرعي، على معنَى: يَرتعِي ماشيتَنا، قيل: ليتدربَ على الرعيِ وحفظِ المالِ، أو مِن الرعايةِ، وهي الحفظُ، على معنَى: نرعَى ويحرسُ بعضُنا بعضًا .

3- قراءةُ نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ بالنُّونِ فيهما؛ بإخبارِ إخوةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ عن أنفُسِهم .

4- قراءةُ يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ بالياءِ فيهما؛ بإسنادِ الفِعلِ إلى يوسُفَ، والإخبارِ بذلك عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

والمعنَى على هاتينِ القراءتينِ: نَرْتَعْ ويَرْتَعْ بسكونِ العينِ فيهما- هو: اللهوُ والاتساعُ في أكلِ الفواكهِ وغيرِها .

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ.

أي: ابعَثْه معَنا غدًا يأكُلْ ويَلْهُ، ويتنَزَّهْ في البرِّيَّة، وينشَطْ ويلعَبْ .

وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.

أي: وإنَّا لحافِظونَ ليوسُفَ، وسنَحميه من أن ينالَه مَكروهٌ أو أذًى .

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13).

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ.

أي: قال يعقوبُ لأولادِه: إنِّي ليَحزُنُني ذَهابُكم بيوسُفَ إلى البَرِّيَّة، ويشُقُّ عليَّ غيابُه عنِّي .

وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ.

أي: وأخافُ أن يأكُلَه الذِّئبُ، وأنتم مَشغولونَ عنه، لا تَشعرونَ بذلك .

قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ (14).

أي: قالوا لأبيهم: لَئِن أكلَ الذِّئبُ يوسُفَ، والحالُ أنَّنا جماعةٌ معه، ولم نستَطِعْ حِفظَه من الذِّئبِ- إنَّا إذًا لعَجَزةٌ هالِكونَ، لا خيرَ فينا، ولا نفعَ منَّا

 

.

الفوائد التربوية:

 

قولُ الله تعالى: قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ إنَّما ذكَرَ يعقوبُ عليه السَّلامُ أنَّ ذَهابَهم به غدًا يُحدِثُ به حُزنًا مُستقبلًا؛ ليصرِفَهم عن الإلحاحِ في طلَبِ الخُروجِ به؛ لأنَّ شأنَ الابنِ البارِّ أن يتَّقيَ ما يَحزُنُ أباه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ في هذا القَولِ الذي تواطَؤوا عليه عند أبيهم عبرةٌ مِن تواطُؤِ أهلِ الغرَضِ الواحِدِ على التحَيُّلِ لنَصبِ الأحابيلِ لتَحصيلِ غرَضٍ دَنيءٍ

.

2- في قَولِهم: مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا دليلٌ على أنَّهم تقدَّمَ منهم سؤالٌ في أن يَخرُجَ معهم، وذكروا سبَبَ الأمنِ وهو النُّصحُ، أي: لمَ لا تأمَنُنا عليه، وحالتُنا هذه؟ والنُّصحُ دليلٌ على الأمانة؛ ولهذا قُرِنَا في قَولِه: نَاصِحٌ أَمِينٌ الأعراف: 68، وكان قد أحَسَّ منهم قبلُ ما أوجبَ ألَّا يأمَنَهم عليه .

3- قولُهم: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ في لَفْظةِ: أَرْسِلْهُ دليلٌ على أنَّ يعقوبَ عليه السلامُ كان يُمسِكُه، ويَصحَبُه دائمًا .

4- قال تعالى حكايةً لِقَولِ إخوةِ يوسُفَ: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فعَلَّلوا طَلَبَه، والخروجَ به، بما يمكِنُ أن يستهويَ يوسُفَ لِصِباه؛ من الرُّتوعِ، واللَّعِب، والنَّشاطِ .

5- قيل: قد صدَّقَت هذه القِصَّةُ المَثَلَ السَّائرَ، وهو قولُهم: (البَلاءُ مُوكَّلٌ بالمَنطِقِ)؛ فإنَّ يعقوبَ عليه السَّلامُ قال في حقِّ يوسُفَ: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، فابْتُلِيَ مِن ناحيةِ هذا القولِ؛ لأنَّهم لم يَعْتَلُّوا على أبيهم إلا بالشيءِ نفسِه الذي سمِعوه يَنطِقُ به، لا غيرِه .

6- اقتَصَر إخوةُ يوسفَ على جوابِ خوفِ يعقوبَ عليه السَّلامُ مِن أكلِ الذِّئبِ بقولهم: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ؛ لأنَّه السَّببُ القويُّ في المنعِ، دونَ الحزنِ؛ لِقصَرِ مُدَّتِه، بِناءً على أنَّهم يأتون به عن قريبٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ

- قولُه: قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ سَوْقَ القِصَّةِ يَستَدعي تَساؤُلَ السَّامِعِ عمَّا جَرى بعدَ إشارةِ أخيهم عليهم، وهل رجَعوا عمَّا بَيَّتوا، وصمَّموا على ما أشار به أخوهم

.

- قولُه: قَالُوا يَا أَبَانَا فيه الخطابُ بنَسَبِ الأُبوَّةِ؛ تَحريكًا لِسلسلةِ النَّسَبِ بينَه وبينَهم، وتذكيرًا لِرابطةِ الأُخوَّةِ بينَهم وبينَ يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِيتَسبَّبوا بذلك إلى استِنْزالِه عليه السَّلامُ عن رأيِه في حِفْظِه منهم، لَمَّا أحَسَّ منهم بأماراتِ الحسَدِ والبغيِ .

- قولُه: مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ الاستفهامُ في مَا لَكَ مُستعمَلٌ في الإنكارِ على نفْيِ الائتمانِ .

- وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لَهُ على المبتَدَأِ لَنَاصِحُونَ؛ للقَصْرِ الادِّعائيِّ؛ جعَلوا أنفُسَهم لِفَرْطِ عِنايتِهم به بمَنزِلةِ مَن لا يَحفَظُ غيرَه، ولا يَنصَحُ غَيرَه .

2- قولُه تعالى: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ

- قولُه: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فيه التَّأكيدُ بإيرادِ الجملةِ اسميَّةً، وتَحلِيَتِها بـ (إنَّ) واللَّامِ، وإسنادُ الحفظِ إلى كلِّهم، وتقديمُ لَهُ على الخبَرِ؛ احتِيالًا في تَحصيلِ مَقصِدِهم .

3- قولُه تعالى: قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ

- قولُه: قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي فيه التَّأكيدُ بـ (إنَّ) واللَّامِ؛ لِقَطعِ إلحاحِهم بتَحْقيقِ أنَّ حُزنَه لفِراقِه ثابتٌ؛ تَنزيلًا لهم مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ ذلك، إذ رأى إلحاحَهم .

- قولُه: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ خصَّ الذِّئبَ؛ لأنَّه كان السَّبُعَ الغالِبَ على قُطْرِه، أو لصِغَرِ يُوسُفَ؛ فخاف عليه هذا السَّبُعَ الحقيرَ .

4- قولُه تعالى: قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ

- قولُه: قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ فيه التَّأكيدُ باللَّامِ الموطِّئةِ للقَسَمِ في لَئِنْ، و(إنَّ) ولامِ الابتداءِ، و(إذًا) الجوابيَّةِ في إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ؛ تحقيقًا لِحُصولِ خُسرانِهم على تقديرِ حُصولِ الشَّرطِ، والمرادُ: الكنايةُ عن عدَمِ تَفريطِهم فيه، وعن حِفظِهم إيَّاه؛ لأنَّ المرء لا يَرضى أن يوصَفَ بالخُسرانِ .

===========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (15-18)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

 

وَأَجْمَعُوا: أي: عَزَموا، وصمَّموا، يقالُ: أجْمَعتُ على كذا، بمعنَى: عزمتُ عليه، وأجْمَعْتُ كذا: أكثرُ ما يُقالُ فيما يكونُ جمعًا يُتوصَّلُ إليه بالفكرةِ، وأصلُ (جمع): يدلُّ على تضامِّ الشيءِ

.

نَسْتَبِقُ: أي: يسابقُ بعضُنا بعضًا في الرَّمْي، وقيل: نشتدُّ ونَعْدو؛ ليتبيَّنَ أيُّنا أسرعُ عَدْوًا، والاسْتِباقُ: التَّسابُقُ، وأصلُ (السبق): التقدُّمُ في السيرِ .

سَوَّلَتْ: أي: زيَّنَت وسَهَّلَت، والتَّسويلُ: تفعيلٌ مِن (السُّول)، وهو أمنيَّةُ الإنسانِ يتمنَّاها، فتُزَيِّنُ لطالِبِها الباطِلَ وغَيرَه مِن غرورِ الدُّنيا

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: فلمَّا ذهبَ إخوةُ يوسُفَ به، وأجمَعوا على إلقائِه في جَوفِ البِئرِ، فعَلوا به ما فعلوا من الأذى، ونفَّذوا ما يُريدونَ تنفيذَه بدونِ رَحمةٍ أو شفَقةٍ، وأوحَينا إلى يوسُفَ لتُخبِرَنَّ إخوتَك مُستقبَلًا بفِعلِهم هذا الذي فعَلوه بك، وهم لا يَعلَمونَ أنَّك أخوهم يوسُفُ، وجاء إخوةُ يوسُفَ إلى أبيهم في وقتِ العِشاءِ يَبكونَ، ويُظهِرونَ الأسفَ والجَزعَ، قالوا: يا أبانا إنَّا ذَهَبْنا نتسابَقُ، وترَكْنا يوسُفَ عند زادِنا وثيابِنا فأكَلَه الذِّئبُ، وما أنت بمُقِرٍّ ومُصَدِّقٍ لنا ولو كنَّا مَوصوفينَ بالصِّدقِ؛ لتُهمتِكَ لنا، وجاؤوا بقميصِه مُلطَّخًا بدَمٍ غيرِ دَمِ يوسُفَ؛ ليشهَدَ على صِدقِهم، فكان دليلًا على كَذِبِهم، فقال لهم أبوهم يعقوبُ عليه السَّلامُ: ما الأمرُ كما تقولونَ، بل زيَّنَت لكم أنفُسُكم الأمَّارةُ بالسُّوءِ أمرًا قبيحًا في يوسُفَ، فرأيتُموه حسَنًا وفعَلتُموه، فصبري صبرٌ جميلٌ لا شكوى معه لأحدٍ مِن الخَلقِ، وأستعينُ باللهِ على احتمالِ ما تَصِفونَ مِن الكَذِب، لا على حَولي وقوَّتي.

تفسير الآيات:

 

فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15).

فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ.

أي: فلما ذهب إخوةُ يوسُفَ به من عندِ أبيه، وأجمعوا رأيَهم وعزَموا على أن يُلقوه في قَعرِ البئرِ، قاموا بفعلِ ذلك

.

وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ.

أي: وأوحَينا إلى يوسُفَ لتُخبِرَنَّهم بفِعلِهم هذا الذي فعَلوه بك، وهم في حالٍ لا يعلمونَ فيها أنَّك أخوهم يوسُفُ .

وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16).

أي: وجاء إخوةُ يوسُفَ- بعدما ألقَوه في غيابةِ الجُبِّ- أباهم يعقوبَ في ظُلمةِ اللَّيلِ يتباكَونَ على يوسُفَ .

قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17).

قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ.

أي: قالوا مُعتَذرينَ كَذِبًا لأبيهم: يا أبانا إنَّا ذَهَبْنا نتسابَقُ ، وترَكْنا يوسُفَ عند أمتِعَتِنا، فأكَلَه الذِّئبُ، ونحن غائبونَ عنه .

وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ.

أي: وما أنت بمُقِرٍّ ومُصَدِّقٍ لقَولِنا هذا، ولو كنَّا عندَك مِن أهلِ الصدقِ؛ لسوءِ ظَنِّكَ بنا، وتُهمتِكَ لنا .

وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18).

وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ.

أي: وأتَوا بقَميصِ يوسُفَ مُتلَطِّخًا بدَمٍ مكذوبٍ، يزعُمونَ أنَّه دمُ يوسُفَ حين أكَلَه الذِّئبُ .

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا.

أي: قال يعقوبُ مُكَذِّبًا لأولادِه فيما زعَموا مِن أكلِ الذِّئبِ ليوسُفَ: ليس الأمرُ كما ادَّعيتُم، بل زيَّنَت لكم أنفُسُكم أمرًا في شأنِ يوسُفَ غيرَ ما تَصِفونَ .

فَصَبْرٌ جَمِيلٌ.

أي: فصَبري على ما فعَلْتُم بيوسُفَ صبرٌ جَميلٌ، لا جزعَ فيه، ولا شكوَى إلى الخَلقِ .

وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.

أي: وباللهِ أستعينُ على ما تذكُرونَ مِن الكَذِبِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ الحذَرُ مِن شُؤمِ الذُّنوبِ، وأنَّ الذَّنبَ الواحِدَ يستَتبِعُ ذنوبًا متعدِّدةً، ولا يتِمُّ لفاعِلِه إلَّا بعدَّةِ جرائِمَ؛ فإخوةُ يوسُفَ عليه السَّلامُ لَمَّا أرادوا التَّفريقَ بينه وبين أبيه، احتالوا لذلك بأنواعٍ مِن الحِيَلِ، وكذَبوا عدَّةَ مرَّاتٍ، وزوَّروا على أبيهم في القَميصِ والدَّمِ الذي فيه، وفي إتيانِهم عِشاءً يَبكونَ، ولا تَسْتَبْعِد أنَّه قد كثر البَحْث فيها في تلك المدة؛ بل لَعَلَّ ذلك اتَّصَل إلى أن اجْتَمَعوا بيُوسُف، وكُلَّما صار البَحْثُ، حَصَلَ مِن الإخبارِ بالكَذِب والافْتِراء ما حَصَل، وهذا شُؤْمُ الذَّنْبِ، وآثارُه التَّابِعَة والسَّابِقَة واللَّاحِقَة

.

2- قولُه تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فيه أنَّ النَّظرَ إلى الغاياتِ المحبوبةِ يُهَوِّنُ المشاقَّ المُعترِضةَ في وسائِلِها، فمتى علِمَ العبدُ عاقبةَ الأمرِ، وما يَؤُولُ إليه مِن خيرِ الدُّنيا والآخرةِ، هانت عليه المشقَّةُ، وتسلَّى بالغايةِ؛ فالله تعالى أوحَى إلى يوسُفَ في هذه الحالِ المُزعِجةِ أنَّ الأمرَ سيكونُ إلى خيرٍ وسَعةٍ، وبعد هذه الإهانةِ الصادرةِ مِن إخوتِك لك، ستكونُ لك الأثَرةُ عليهم، والعاقبةُ الحميدةُ، وفي هذا من اللُّطفِ والتَّسليةِ وتخفيفِ البلاءِ ما هو مِن أعظمِ نِعَمِ  اللهِ على العبدِ؛ ولهذا المعنى الجليلِ يُذَكِّرُ اللهُ عبادَه عند المشاقِّ والأمورِ المُزعِجة ما يترتَّبُ على ذلك من الثَّوابِ والخيرِ والطَّمعِ في فَضلِه؛ قال تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ النساء: 104.

3- قولُ الله تعالى: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ المعنى أنَّ إقدامَ يعقوبَ عليه السَّلامُ على الصَّبرِ لا يُمكِنُ إلَّا بمعونةِ الله تعالى؛ لأنَّ الدَّواعيَ النَّفسانيَّةَ تدعوه إلى إظهارِ الجزَعِ، وهي قويَّةٌ، والدَّواعيَ الرُّوحانيَّةَ تدعوه إلى الصَّبرِ والرِّضا، فكأنَّه وقعت المحاربةُ بين الصِّنفينِ، فما لم تحصُلْ إعانةُ الله تعالى لم تحصُل الغلَبةُ، فقَولُه: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يجري مجرى قَولِه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ الفاتحة: 5، وقولُه: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ يجري مجرى قولِه: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ الفاتحة: 5.

4- العبدُ مُحتاجٌ إلى الاستعانةِ بالله في فِعلِ المأموراتِ، وفي تَركِ المحظوراتِ، وفي الصَّبرِ على المقدوراتِ، كما في قولِ يعقوبَ عليه السَّلامُ لبَنيه: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ، ففيه ما يَنْبغي استعمالُه عندَ المصائبِ، وهو الصبرُ الجميلُ، والاستعانةُ باللهِ، وأنَّ التكلُّمَ بذلك حسنٌ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ دَلالةٌ على أنَّه ليس كلُّ مَن أُوحِيَ إليه الوحيَ العامَّ يكونُ نبيًّا؛ فإنَّه قد أُوحِيَ إلى يوسُفَ وهو صغيرٌ، كما أنَّه قد يُوحَى إلى غيرِ النَّاسِ؛ قال تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ

النحل: 68.

2- قَولُ الله تعالى: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ إنَّما جاؤوا عِشاءً؛ ليكونَ أقدرَ على الاعتذارِ في الظُّلمةِ؛ ولذا قيل: لا تَطلُبِ الحاجةَ باللَّيلِ؛ فإنَّ الحياءَ في العينَينِ، ولا تعتَذِرْ في النَّهارِ مِن ذنبٍ؛ فتَتلجلَجَ في الاعتذارِ ، وأيضًا جاؤوا عِشاءً؛ ليكون إتْيانُهم مُتَأَخِّرًا عن عادَتِهم، وأتَوْا باكِين؛ ليكون بُكاؤُهم دَلِيلًا لهم، وقَرينَةً على صِدْقِهم .

3- قولُ الله تعالى: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ هذه الآيةُ دليلٌ على أنَّ بُكاءَ المرءِ لا يدلُّ على صِدقِ مَقالِه؛ لاحتمالِ أن يكونَ تصنُّعًا، فمِن الخَلقِ مَن يقدِرُ على ذلك، ومنهم من لا يقدِرُ ، فمِن فوائدِ الآيةِ عدمُ الاغترارِ ببكاءِ الخصمِ، وعدمُ الاغترارِ بزخرفِ القولِ .

4- قولُ الله تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ فيه مشروعيَّةُ المُسابَقةِ .

5- قولُ الله تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ فيه من الطِّبِّ: رياضةُ النَّفسِ والدوابِّ، وتمرينُ الأعضاءِ على التصَرُّفِ .

6- قولُهم: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ تلطُّفٌ عَظيمٌ في تقريرِ ما يُحاوِلونَه؛ يقولون: ونحن نعلمُ أنَّك لا تصَدِّقُنا- والحالةُ هذه- لو كنَّا عندك صادقينَ، فكيف وأنت تتَّهِمُنا في ذلك؛ لأنَّك خَشيتَ أن يأكُلَه الذِّئبُ فأكَلَه الذِّئبُ، فأنت معذورٌ في تكذيبِك لنا؛ لِغَرابةِ ما وقع، وعجيبِ ما اتَّفقَ لنا في أمْرِنا هذا .

7- قولُ الله تعالى: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فيه إعمالُ الأماراتِ والحُكمُ بها، والآيةُ أصلٌ في الحُكمِ بالقرائِنِ، لكنْ محَلُّ العمَلِ بالقَرينةِ ما لم تُعارِضْها قرينةٌ أقوى منها، فإن عارَضَتْها قرينةٌ أقوى منها أبطَلَتْها؛ فأولادُ يعقوبَ لَمَّا جعلوا يوسُفَ في غيابةِ الجُبِّ، جعلوا على قَميصِه دَمًا؛ ليكونَ وجودُ الدَّمِّ على قميصِه قَرينةً على صِدقِهم في دعواهم أنَّه أكَلَه الذِّئبُ، ولا شَكَّ أنَّ الدَّمَ قرينةٌ على افتِراسِ الذِّئبِ له، ولكِنَّ يعقوبَ أبطَلَ قَرينتَهم هذه بقرينةٍ أقوى منها، وهي عدَمُ شَقِّ القَميصِ؛ ولذا صَرَّحَ بتكذيبِه لهم في قَولِه: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ فيجِبُ على النَّاظِرِ أن يلحَظَ القرائِنَ والأماراتِ والعَلاماتِ إذا تعارَضَت، فما ترجَّحَ منها قضَى بجانِبِ التَّرجيحِ .

8- قولُ الله تعالى: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فيه أنَّ سُوءَ الظَّنِّ مع وجودِ القَرائنِ الدَّالَّةِ عليه غيرُ ممنوعٍ ولا محَرَّمٍ .

9- قال الله تعالى: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ إنَّما لم يصَدِّقْ يعقوبُ بنيه حين قالوا: أكَلَه الذِّئبُ، وعَمِلوا تلك القرائِنَ المُبَرِّرة لقولِهم؛ لأنَّ المعلومَ لا يُعارِضُه الشَّكُّ والوَهمُ، فإنَّه قد علم برؤيا يوسُفَ- وربَّما بغيرِها- ما يَؤولُ إليه حالُ يوسُفَ؛ مِن تمامِ النِّعمةِ التي تشمَلُه وتشمَلُ آلَ يعقوبَ .

10- في قولِه تعالى: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ أنَّه لا ينبغي أن يُغتَرَّ بمُجرَّدِ صُورةِ القرائنِ، فكم حصلَ بمثل هذه التَّمويهاتِ مِن الاغترارِ وقلبِ الحقائقِ؛ لهذا كان الأذكياءُ يجعلونَ كلَّ احتمالٍ على بالهم، وينظُرونَ إلى الأمورِ مِن جميعِ جِهاتِها ونواحيها .

11- قال الله تعالى حكايةً عن يعقوبَ: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ، إنما فوَّض يعقوبُ- عليه السلام- الأمرَ إلى الله، ولم يسْعَ للكشفِ عن مصيرِ يوسفَ عليه السلامُ؛ لأنَّه علِم تعذرَ ذلك عليه؛ لكبرِ سنِّه، ولأنَّه لا عضدَ له يستعينُ به على أبنائِه أولئك، وقد صاروا هم الساعين في البعدِ بينَه وبينَ يوسفَ عليه السلامُ، فأيِس مِن استطاعةِ الكشفِ عن يوسفَ- عليه السلامُ- بدونِهم، ألا ترَى أنَّه لما وجَد منهم فرصةً قال لهم: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ يوسف: 87.

12- في قولِه تعالى عن يعقوبَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ مع قَولِه سُبحانه عنه: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ يوسُف: 86 أنَّ الشَّكوى إلى اللهِ لا تُنافي الصَّبرَ الجميلَ .

13- ذكَرَ اللهُ في القرآن: الصَّبرَ الجَميلَ، والصَّفحَ الجَميلَ، والهَجرَ الجَميلَ؛ فالصَّبرُ الجَميلُ: الذي لا شكوَى معه إلى المخلوقِ، والهَجرُ الجَميلُ: الذي لا أذى معه، والصَّفحُ الجَميلُ: الذي لا عِتابَ معه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

- تفريعُ حكايةِ الذَّهابِ به، والعَزْمِ على إلْقائِه في الجُبِّ، على حِكايةِ المحاوَرةِ بينَ يعقوبَ عليه السَّلامُ وبَنيه في مُحاوَلةِ الخروجِ بيوسُفَ عليه السَّلامُ إلى الباديةِ، يُؤذِنُ بجُمَلٍ محذوفةٍ، فيها ذِكرُ أنَّهم ألَحُّوا على يعقوبَ عليه السَّلامُ حتَّى أقنَعوه، فأَذِن ليوسُفَ عليه السَّلامُ بالخروجِ معَهم، وهو إيجازٌ

.

- وجملةُ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا بيانٌ لجملةِ أَوْحَيْنَا، وأُكِّدَت باللَّامِ ونونِ التَّوكيدِ؛ لتحقيقِ مَضمونِها، سواءٌ كان المرادُ منها الإخبارَ عن المستقبَلِ، أو الأمرَ في الحالِ .

2- قولُه تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ

- قولُهم: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا خبَرٌ مستعمَلٌ في لازِمِ الفائدةِ، أي: إنَّ المتكلِّمَ عَلِم بمَضمونِ الخبَرِ، وهو تعريضٌ بأنَّهم صادِقون فيما ادَّعَوْه؛ لأنَّهم يَعلَمون أباهم لا يُصدِّقُهم فيه، فلم يَكونوا طامِعين بتَصْديقِه إيَّاهم .

3- قولُه تعالى: وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ

- قولُه: بِدَمٍ كَذِبٍ وُصِفَ الدَّمُ بالكذبِ مُبالَغةً، كأنَّه نفْسُ الكَذِبِ وعَينُه، كما يُقالُ للكذَّابِ: هو الكَذِبُ بعَينِه، والزُّورُ بذاتِه ، أو معناه (ذِي كَذِبٍ) .

- قولُه: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا التَّعبيرُ بحرفِ الإضرابِ بَلْ يُفيدُ إبطالَ دَعْواهم أنَّ الذِّئبَ أكَلَه؛ فقد صَرَّح لهم بكَذِبِهم .

- وتنكيرُ أَمْرًا للتَّهويلِ .

- وقولُه: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ نائبٌ مَنابَ: اصْبِرْ صبرًا جَميلًا، وعُدِلَ به عن النَّصبِ إلى الرَّفعِ؛ للدَّلالةِ على الثَّباتِ والدَّوامِ .

- قولُه: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ فيه التَّعبيرُ عمَّا أصاب يوسُفَ عليه السَّلامُ بـ مَا تَصِفُونَ وهو في غايةِ البلاغةِ؛ لأنَّه كان واثِقًا بأنَّهم كاذِبون في الصِّفةِ، وواثِقًا بأنَّهم ألحَقوا بيوسُفَ عليه السَّلامُ ضُرًّا، فلمَّا لم يتَعيَّنْ عِندَه المُصابُ أجْمَل التَّعبيرَ عنه إجمالًا مُوجَّهًا؛ لأنَّهم يَحسَبون أنَّ ما يَصِفونه هو موتُه بأكْلِ الذِّئبِ إيَّاه، ويعقوبُ عليه السَّلامُ يُريدُ أنَّ ما يَصِفونه هو المصابُ الواقِعُ، الَّذي وصَفوه وصْفًا كاذِبًا .

====================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (19-21)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

غريب الكلمات:

 

وَارِدَهُمْ: الذي يتقَدَّمُهم إلى الماءِ ليَستقيَ لهم، وأصلُ (ورد): يدلُّ على المُوافاةِ إلى الشَّيءِ

.

فَأَدْلَى دَلْوَهُ: أي: أرسَلَها، والدَّلوُ: إناءٌ مَعروفٌ يُوضَعُ فيه الماءُ، وأصلُ (دلى): يدُلُّ على مُقاربةِ الشَّيءِ، ومُداناتِه بسُهولةٍ ورِفقٍ .

وَأَسَرُّوهُ: أي: أخْفَوه، وأصلُ (سرَّ): يدُلُّ على إخفاءِ الشَّيءِ .

بِضَاعَةً: البِضاعةُ: القِطعةُ مِن المالِ تُجعَلُ للتِّجارةِ؛ مِن: بَضَعتُ الشَّيءَ: إذا قَطَعْتَه، وأصل (بضع): يدلُّ على الطَّائفةِ مِن الشَّيءِ عُضْوًا أو غيرَه .

وَشَرَوْهُ: أي: باعُوه، يُقالُ: شَرَيتُ الشَّيءَ: إذا بِعتَه وإذا اشتَرَيتَه، فهو مِن الأضدادِ، وهو بمعنَى (بعتُ) أكثرُ .

بَخْسٍ: أي: ناقصٍ، وقيل: بَخْسٍ: بمعنى مَبْخُوس أي: منقوصٍ، والبَخْسُ والبَاخِسُ: الشيء الطفيف الناقص، يُقَال: بخسه حَقَّه إِذا نقَصه، وأصلُ البخسِ: نقصُ الشيءِ على سبيلِ الظُّلمِ .

مَثْوَاهُ: أي: منزلَه ومقامَه، وأصلُ (ثوي): إقامة

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مخبرًا عمَّا جرَى ليوسفَ عليه السَّلامُ بعدَ إلقاءِ إخوتِه له في الجُبِّ: وجاءت جماعةٌ مِن المُسافرينَ فأرسَلوا مَن يطلُبُ لهم الماءَ، فلمَّا أرسَلَ دَلْوَه في البئرِ تعلَّقَ بها يوسُف، فقال ذلك الوارِدُ: يا بُشرايَ هذا غلامٌ نَفيسٌ، وأخفَى السيارةُ أمرَ يوسُفَ، وجعَلوه بضاعةً وعزَموا على بيعِه، واللهُ عليمٌ بما يَعمَلونَه بيوسُفَ، وباعه السيارةُ بثَمَنٍ قليلٍ مِن الدَّراهمِ، وكانوا زاهدينَ فيه، راغبينَ في التخَلُّصِ منه، ولَمَّا ذهب المُسافِرونَ بيوسُفَ إلى «مصر» اشتَراه منهم عزيزُها- وهو الوزيرُ- وقال لامرأتِه: أحسِني مُعامَلتَه، واجعلي مَقامَه عندنا كريمًا؛ لعلَّنا نستفيدُ مِن خِدمتِه، أو نُقيمُه عندنا مقامَ الولَدِ.

وكما أنجَينا يوسُفَ مِن الجُبِّ، وجَعَلْنا عزيزَ «مصر» يَعطِفُ عليه، فكذلك مكَّنَّا له في أرضِ «مِصرَ»، وجعَلْناه على خزائِنِها، ولِنُعَلِّمَه تفسيرَ الرُّؤى، ومعاني كتُبِ الله وسُنَن الأنبياءِ، واللهُ غالِبٌ على أمرِه، فحُكمُه نافِذٌ لا يُبطِلُه مُبطِلٌ، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلمونَ أنَّ الأمرَ كُلَّه بيَدِ اللهِ.

تفسير الآيات:

 

وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا أراد اللهُ تعالى خَلاصَ يوسُفَ عليه السَّلامُ من الجُبِّ، بيَّنَ سَبَبه بقَولِه تعالى

:

وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ.

أي: وجاءت جَماعةٌ مارَّةٌ في الطَّريقِ مِن المُسافرينَ، فأرسلوا مُقدَّمَهم الَّذي يَرِدُ الماءَ ليَسْتَقيَ لهم، فأرسلَ دَلوَه في البئرِ ليَملأَها، فتعلَّقَ يوسُفُ بالدَّلوِ وخرَج .

قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ.

أي: قال واردُهم حين رأى يوسُفَ: أبْشِروا، هذا غُلامٌ .

وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً.

أي: وأخْفَى السيارةُ أمْرَ يوسُفَ، وجعَلوه بِضاعةً مِن جُملةِ تجارتِهم، وعزَمُوا على بيعِه .

وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ.

أي: واللهُ عليمٌ بما يعمَلُون بيوسُفَ ، ولكِنَّه ترَكَ تغييرَ ذلك؛ ليَمضيَ فيه وفيهم قَدَرُه السَّابِقُ في عِلمِه، وذلك بحسَبِ ما اقتضَتْه حِكمتُه سُبحانَه .

وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20).

وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ.

أي: وباع السيارةُ يوسُفَ بثَمَنٍ منقوصٍ؛ دراهِمَ قليلةٍ مَعدودةٍ غيرِ وافيةٍ .

وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ.

وكان السيارةُ في يوسُف مِن الرَّاغبينَ عنه .

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21).

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ.

أي: وقال الذي اشترى يوسُفَ مِن بائِعِه بمصرَ لامرأتِه: أكرمي مَنزِلَه ومُقامَه عِندَك .

عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا.

أي: عسى أن يَكفيَنا يوسُفُ بعضَ أمورِنا، أو نجعَلَه ولدًا لنا بالتبنِّي .

وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ.

أي: وكما أنقَذْنا يوسُفَ مِن إخوتِه، وأخرَجْناه مِن الجُبِّ، وصيَّرناه إلى الكَرامةِ والمَنزِلةِ الرَّفيعةِ عندَ عزيزِ مِصرَ، كذلك مكَّنَّا له في أرضِ مِصرَ، حتى بلغ فيها ما بلغَ .

وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ.

أي: ولنُعَلِّمَ يوسُفَ مِن تعبيرِ الرُّؤى- التي يراها النَّاسُ في منامِهم- ومعاني كتُبِ الله، وسُنَنِ الأنبياءِ، مكَّنَّا له في الأرضِ .

وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ.

أي: واللهُ غالِبٌ على أمرِه سبحانَه ، يفعَلُ ما يشاءُ، فلا يُرَدُّ أمرُه ولا يُمانَعُ، ولا يُنازَعُ فيما أرادَه ، ومِنْ ذلك ما يتعلَّقُ بيوسُفَ عليه السَّلامُ مِنَ الأمورِ الَّتي أرادَها اللَّهُ سبحانَه في شأنِه .

كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ الرعد: 41.

وقال سُبحانه: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ البروج: 16.

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلمونَ أنَّ اللهَ غالِبٌ على أمرِه، وأنَّ تدبيرَ الأمورِ بيَدِه، ولا يَدرُونَ حِكمَتَه في خَلقِه، وتلَطُّفَه لِما أراد سُبحانَه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ هذا وإن كان خبرًا مِن اللهِ- تعالى ذِكرُه- عن يوسُفَ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّه تذكيرٌ مِن اللهِ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتسليةٌ منه له عمَّا كان يَلقَى مِن أقربائِه وأنسِبائِه المُشرِكينَ مِن الأذى فيه، يقولُ له: فاصبِرْ يا محمَّدُ على ما نالَك في الله؛ فإنِّي قادِرٌ على تغييرِ ما ينالُك به هؤلاء المُشرِكونَ، كما كنتُ قادرًا على تغييرِ ما لَقِيَ يوسُفُ مِن إخوتِه في حالِ ما كانوا يفعَلونَ به ما فَعَلوا، ولم يكُنْ تَركي ذلك لهوانِ يوسُفَ عليَّ، ولكِنْ لماضي عِلمي فيه وفي إخوتِه، فكذلك تَرْكي تغييرَ ما ينالُك به هؤلاء المُشرِكونَ؛ لِغيرِ هوانٍ بك عليَّ، ولكِنْ لسابقِ عِلمي فيك وفيهم، ثمَّ يصيرُ أمرُك وأمرُهم إلى علُوِّك عليهم، وإذعانِهم لك، كما صار أمرُ إخوةِ يوسُفَ إلى الإذعانِ ليوسُفَ بالسُّؤدَدِ عليهم، وعلُوِّ يوسُفَ عليهم

.

2- من بُلِيَ وهو من أهلِ الخيرِ والصَّلاحِ بشَيءٍ مِن الأذى والمكرِ، فليتَّقِ اللهَ ويستعِنْ به ويصبِرْ؛ فإنَّ العاقبةَ للتَّقوى، كما قال تعالى بعد أن قَصَّ قِصَّةَ يوسُفَ وما حصل له من أنواعِ الأذى بالمَكرِ والمُخادعة: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، وقال تعالى حكايةً عنه أنَّه قال لإخوتِه: أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يوسُف: 90 الآية. وقال تعالى في قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ وما حصلَ له ولقَومِه مِن أذى فرعونَ وكيدِه، قال لقَومِه: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الأعراف: 128، وقد أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ المكرَ يعودُ وَبالُه على صاحِبِه، وقال تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فاطر: 43 وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا... الآية الأنعام: 123. والواقِعُ يشهَدُ بذلك؛ فإنَّ مَن سَبَرَ أخبارَ النَّاسِ، وتواريخَ العالَم، وقَف من أخبارِ مَن مكَرَ بأخيه فعاد مَكرُه عليه، وكان ذلك سببًا لنَجاتِه وسَلامتِه، على العجَبِ العُجابِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه تعالى: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ... استنبط الناسُ مِن هذه الآيةِ أحكامَ اللقيطِ؛ فأخذوا منها: أنَّ اللقيطَ يُؤخَذُ ولا يُتركُ. ومِن قولِه: هَذَا غُلَامٌ أنَّه كان صغيرًا، وأنَّ الالتقاطَ خاصٌّ به، فلا يُلتقَطُ الكبيرُ، وكذا قولُه: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ؛ لأنَّ ذلك أمرٌ يختصُّ بالصغارِ، ومِن قولِه: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ أنَّ اللقيطَ يُحكَمُ بحريتِه

، وموضعُ الحجةِ مِن الآيةِ أنَّ اللقيطَ لو كان مملوكًا لمن التقَطه، لما احْتاجُوا إلى شرائِه ، وهذا على القولِ بأنَّ الذين باعوه إنَّما هم إخوتُه.

2- مِنْ عَجائبِ الجَزاءِ في الدُّنْيا أنَّه لَمَّا امتدَّتْ أَيْدِي الظُّلمِ مِن إخْوَةِ يُوسفَ: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ امتدَّتْ أَكُفُّهُم بين يَدَيْه بالطَّلَبِ يقولُونَ: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا يوسف: 88.

3- قولُ الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا فيه أنَّ الشَّيءَ إذا تداوَلَته الأيدي، وصار مِن جُملةِ الأموالِ، ولم يُعلَمْ أنَّه كان على غيرِ وَجهِ الشَّرعِ، أنَّه لا إثمَ على مَن باشَرَه ببيعٍ أو شِراءٍ، أو خِدمةٍ أو انتفاعٍ أو استعمالٍ .

4- قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ لم يبَيِّن القُرآنُ اسمَ الذي اشتَراه مِن السَّيَّارةِ في مصر ولا مَنصِبَه ولا اسمَ امرأتِه؛ لأنَّ القُرآنَ ليس كتابَ حَوادِثَ وتاريخٍ، وإنَّما قَصَصُه حِكَمٌ ومواعِظُ، وعِبَرٌ وتهذيبٌ .

5- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: (أفرس الناس ثلاثة: العزيز، حين قال لامرأته: أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا وبنت شعيب التي قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ القصص: 26 وأبو بكر، حين تفرَّس في عمر رضي الله عنها وولاه من بعده)

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

- قولُه: قَالَ يَا بُشْرَى مُستأنَفٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ ذِكْرَ إدْلاءِ الدَّلْوِ يُهيِّئُ السَّامِعَ للسُّؤالِ عمَّا جَرى حينَئذٍ فيَقَعُ جوابُه: قَالَ يَا بُشْرَى

.

- قولُه: قَالَ يَا بُشْرَى هذا النداءُ تنبيهٌ للمخاطبينَ وتوكيدٌ للقصةِ ؛ لأنَّ البشرَى لا تُجيبُ ولا تعقلُ، والمعنَى: أبْشِروا، ويا أيُّها البشرَى هذا مِن أوانِك، وقيل: إنَّ هذه الكلمةَ تُستعملُ للتبشيرِ مِن غيرِ قصدٍ إلى النداءِ .

- قولُه: مَعْدُودَةٍ أي: غيرِ موزونةٍ؛ فهو بَيانٌ لقِلَّتِه، ونُقصانِه مِقدارًا، بعدَ بيانِ نُقصانِه في نفسِه؛ إذِ المعتادُ فيما لا يَبلُغُ أربَعين العَدُّ دونَ الوزنِ ، وهو كِنايةٌ عن كَونِها قليلةً؛ لأنَّ الشَّيءَ القليلَ يَسهُلُ عَدُّه، فإذا كَثُر صار تَقديرُه بالوزنِ أو الكَيلِ، ويُقالُ في الكنايةِ عن الكَثرةِ: لا يُعَدُّ .

- قولُه: وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ فيه صَوْغُ الإخبارِ عن زَهادَتِهم في يوسُفَ عليه السَّلامُ بصِيغةِ مِنَ الزَّاهِدِينَ؛ وهي أشَدُّ مُبالَغةً ممَّا لو أخبَر بـ (كانوا فيه زاهِدين)؛ لأنَّ جَعْلَهم مِن فريقٍ زاهِدينَ يُنْبِئُ بأنَّهم جَرَوْا في زُهدِهم في أمثالِه على سَنَنِ أمثالِهم البُسَطاءِ الَّذين لا يُقدِّرون قدْرَ نَفائِسِ الأمورِ .

- وفيه تقديمُ المجرورِ: فِيهِ على عامِلِه الزَّاهِدِينَ؛ للتَّنويهِ بشَأنِ المزهودِ فيه، وللتَّنبيهِ على ضَعْفِ تَوسُّمِهم وبَصَارتِهم، معَ الرِّعايةِ على الفاصلةِ .

2- قولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

- قولُه: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ التَّمكينُ في الأرضِ هنا مرادٌ به ابتداؤه، وتقديرُ أوَّلِ أجزائِه، فيوسُفُ- عليه السَّلام- بحلولِه محَلَّ العِنايةِ مِن عزيزِ مِصرَ قد خُطَّ له مُستقبَلُ تَمكينِه من الأرضِ بالوجهِ الأتَمِّ الذي أُشيرَ له بقَولِه تعالى بعدُ: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ يوسف: 56، فما ذُكِرَ هنالك هو كرَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ ممَّا هنا، وهو تمامُه .

- قولُه: أَكْرِمِي مَثْواهُ مَثْواهُ: مَكانُ إقامَتِه، وهو كنايةٌ عن الإحسانِ إليه في مَأكَلٍ ومشرَبٍ وملبَسٍ

- قولُه: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا، (ذَلِكَ) إشارةٌ إلى ما يُفهَمُ من كلامِ العزيزِ، وما فيه مِن معنَى البُعدِ لتَفخيمِه، أي: مِثْلَ ذلك التَّمكينِ البديعِ .

- قولُه: وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ لعلَّ ترْكَ المعطوفِ عليه (وهو: ولِيَصِلَ إلى مَنصِبِ الرِّئاسةِ بسَببِ تأويلِه لرُؤيا الملِكِ)؛ للإشعارِ بعدَمِ كَونِه مُرادًا بالذَّاتِ، أو جعَلْناه عِلَّةً لِمُعلَّلٍ محذوفٍ، كأنَّه قيل: ولهذه الحكمةِ البالِغةِ فعَلْنا ذلك التَّمْكينَ دونَ غيرِها ممَّا ليس له عاقبةٌ حميدةٌ .

============================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (22-29)

ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ

غريب الكلمات:

 

بَلَغَ أَشُدَّهُ : أي: بلغ مُنْتهَى شَبابِه وقُوَّتِه، والأَشُدُّ قيل: جمعٌ لا واحدَ له، وقيل: مفردُه شَدٌّ، وأصلُ (شدد): يدلُّ على قوَّةٍ في الشَّيءِ

.

وَرَاوَدَتْهُ: أي: أرادَتْه على ما تُريدُ، والمُراوَدة: مُفاعَلةٌ مِن راد يَرودُ: إذا جاء وذهبَ، وهي عِبارةٌ عن التحَيُّلِ لِمُواقَعتِه إيَّاها .

هَيْتَ: أي: هَلُمَّ وأقبِلْ إلى ما أدعوك إليه، يقال: هَيَّتَ فلانٌ لفلانٍ؛ إذا دعاه وصاح به، وأصلُ (هَيَتَ): يَدُلُّ عَلَى الصَّيحةِ .

هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا: الهمُّ بالشيءِ: هو حديثُ المرءِ نفسَه بمواقعتِه ما لم يُواقِعْ ، أو: هو المقاربةُ مِن الفعلِ مِن غيرِ دُخولٍ فيه، والهمُّ نوعانِ: همُّ خطراتٍ وكان هذا همَّ يوسفَ عليه السلامُ، وهمُّ اصرارٍ وكان هذا همَّ المرأةِ، وأصل (همَّ): يدلُّ على ذَوْبٍ وجَريانٍ ودبيبٍ وما أشبهَ ذلك .

السُّوءَ: السُّوءُ: الْقَبِيحُ، وهو خيانةُ مَن ائتَمَنه، وقيل: هو مُقدِّماتُ الفاحِشَةِ، وأصلُ (سوء): يدُلُّ على القُبحِ .

وَالْفَحْشَاءَ: أي: المَعصيةَ، وهي الزِّنا، وأصلُ (فحش): يدُلُّ على قُبْحٍ فِي شيءٍ وشناعةٍ .

وَقَدَّتْ: أي: شقَّتْ، وأصلُ (قدَّ): يدلُّ على قَطعِ الشَّيءِ طولًا .

دُبُرٍ: أي: خلفٍ، وأصلُ الدبر: آخرُ الشيءِ، وخلفُه، خلافُ قُبُلِه .

وَأَلْفَيَا: أي: وجدَا، وأصلُ (لفا): يدلُّ على انكشافِ شَيءٍ وكَشْفِه .

قُبُلٍ: القُبُل مِن كلِّ شيءٍ: خلافُ دُبُرِه، وذلك أنَّ مُقَدَّمَه يُقبِلُ على الشيءِ .

كَيْدِكُنَّ: أي: حيلتِكنَّ، و صنيعِكنَّ، والكَيْدُ: ضربٌ مِن الاحتيالِ، وقد يكونُ مذمومًا وممدوحًا، وإن كان يُستعمَلُ في المذمومِ أكثرَ، وأصلُ (كيد): يدُلُّ على مُعالجةٍ لشيءٍ بشِدَّةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى أنَّه لَمَّا بلغ يوسُفُ مُنتهى قوَّتِه في شبابِه أعطاه النُّبوَّةَ والعِلمَ، ومِثلَ هذا الجزاءِ الذي جَزَينا به يوسُفَ على إحسانِه نَجزي المُحسنينَ على إحسانِهم، ودَعَت امرأةُ العزيزِ يوسُفَ إلى نَفسِها، وغلَّقَت الأبوابَ عليها وعلى يوسُفَ، وقالت: هلمَّ إليَّ، فقال: معاذَ اللهِ! أعتَصِمُ به وأستجيرُ مِن الذي تدعِينَني إليه مِن خيانةِ سَيِّدي الذي أحسنَ مَنزِلتي وأكرَمَني، فلا أخونُه في أهلِه؛ إنَّه لا يُفلِحُ مَن ظَلمَ فَفَعل ما ليس له فِعلُه، ولقد عزَمَت امرأةُ العزيزِ على فِعلِ الفاحِشةِ، وخطرَ ليوسُفَ خاطِرٌ عارِضٌ في قَلبِه لم يَثبُتْ ولم يتحَوَّلْ إلى عَزمٍ، لولا أنْ رأى آيةً مِن آياتِ رَبِّه امتنَعَ بها عن ذلك الخاطِرِ، وإنَّما أريناه ذلك لندفَعَ عنه السُّوءَ والفاحِشةَ في جميعِ أمورِه؛ إنَّه من عبادنا المُطَهَّرينَ المُصطَفَينَ للرِّسالةِ، الذين أخلَصْتُهم من الشِّركِ والسُّوءِ والفَحشاءِ.

وأسرعَ يوسُفُ إلى البابِ يريدُ الخُروجَ، وأسرَعَت تُحاوِلُ الإمساكَ به، وجذَبَت قميصَه مِن خَلْفِه؛ لتَحُولَ بينه وبين الخروجِ فشَقَّته، ووجدا زوجَها عند البابِ، فقالت: ما جزاءُ مَن أراد بامرأتِك فاحِشةً إلَّا أن يُسجَنَ أو يُعذَّبَ العذابَ المُوجِعَ. قال يوسُفُ: هي التي طلَبَت منِّي ذلك، فشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهلها فقال: إن كان قميصُه شُقَّ من الأمامِ فصَدَقت في اتِّهامِها له، وهو مِن الكاذبينَ، وإن كان قميصُه شُقَّ من الخَلفِ فكَذَبت في قَولِها، وهو من الصَّادقينَ. فلمَّا رأى زوجُ المرأةِ قميصَ يوسُفَ شُقَّ مِن خَلفِه عَلِمَ براءةَ يوسُفَ، وقال لزَوجتِه: إنَّ هذا الكَذِبَ الذي اتَّهَمتِ به هذا الشَّابَّ هو مِن جملةِ مَكرِكُنَّ- أيَّتُها النِّساءُ- إنَّ مَكرَكُنَّ عظيمٌ، وقال ليوسُفَ: يوسُفُ، اترُكْ ذِكرَ ما كان منها، فلا تَذكُرْه لأحدٍ، واطلُبي- أيَّتُها المرأةُ- المغفرةَ لذَنبِك؛ إنَّك كنتِ من الآثمينَ في مُراودةِ يوسُفَ عن نفسِه، وفي افترائِك عليه.

تفسير الآيات:

 

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22).

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا.

أي: ولَمَّا بلغ يوسُفُ مُنتهى شِدَّتِه وقوَّتِه وشَبابِه، واكتمل خَلْقُه وعَقلُه

؛ أعطَيناه النُّبوَّةَ والعِلمَ .

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.

أي: ومِثلَ ذلك الجزاءِ نَجْزي كلَّ مَن أحْسَن .

كما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الأعراف: 56.

وقال سُبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ الزمر: 10.

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23).

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ.

أي: ودعتْ امرأةُ العزيزِ يوسفَ- التي هو مقيمٌ في بيتِها، وتحتَ تدبيرِها- إلى نفسِها، وطلبتْ منه أن يواقعَها .

وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ.

أي: وغلَّقَت امرأةُ العزيز جميعَ أبوابِ البَيتِ عليها وعلى يوسُفَ .

وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ.

أي: وقالت ليوسُفَ: تعالَ وأقبِلْ إليَّ .

قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ.

أي: قال يوسُفُ لامرأةِ العزيزِ حين دعتْه إلى نفسِها: أعتَصِمُ باللهِ مِن فِعلِ الفاحشةِ التي تَدعينَني إليها؛ إنَّ زوجَكِ سيِّدي، أكرَمَني وأحسنَ إليَّ، فلا أقابِلُ مَعروفَه بخيانتِه في أهلِه .

إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.

أي: إنَّه لا يفوزُ ولا ينجَحُ الظَّالِمونَ الذين يفعلونَ ما ليس لهم فِعلُه، وهذا الذي تَدعينَني إليه ظُلمٌ وخِيانةٌ لسَيِّدي الذي أحسَنَ إليَّ .

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24).

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا .

أي: ولقد همَّت امرأةُ العزيزِ- همَّ عزمٍ- بمُواقعةِ الفاحِشةِ مع يوسُفَ، وهمَّ يوسُفُ بامرأةِ العزيزِ، وكان همُّه خطرةً عارضةً، وحديثَ نفسٍ، مِن غيرِ اختيارٍ ولا عزمٍ .

عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللَّه عنهما، ((عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يَرْوي عَن رَبِّه عزَّ وجلَّ قال: قال إِنَّ اللَّهَ كَتَب الحسناتِ والسَّيِّئاتِ ثُمَّ بَيَّن ذلك فمَن هَمَّ بحسنةٍ فلم يَعْمَلْها كَتَبها اللَّهُ له عندَه حسنةً كامِلَةً فإنْ هو هَمَّ بها فعمِلَها كَتَبها اللَّه له عندَه عشرَ حسناتٍ إلى سَبعِمئةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ ، ومَن هَمَّ بسَيِّئَةٍ فلم يَعْمَلْها كَتَبها اللَّهُ له عندَه حسنةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فعَمِلَها كتَبها اللَّهُ له سَيِّئَةً واحدةً )) .

لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ.

أي: لولا أنْ رأى يوسُفُ آيةً مِن اللهِ قَوِيَ بها إيمانُه، وامتنَعَ بسَبَبِها مِن عِصيانِه .

كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء.

أي: أرَينا يوسُفَ كتلك الإراءةِ؛ كي نَقِيَه السُّوءَ والفَحشاءَ في جميعِ أمورِه .

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قولِه: الْمُخْلَصِينَ قراءتانِ:

1- قِراءةُ الْمُخْلَصِينَ بفَتحِ اللامِ: اسمُ مفعولٍ، بمعنى: أنَّ اللهَ أخلَصَهم من الشِّركِ والسُّوءِ والفَحشاءِ، فصاروا مُخلَصينَ، أي: اختارَهم اللهُ .

2- قِراءةُ الْمُخْلِصِينَ بكسرِ اللامِ: اسمُ فاعلٍ، بمعنى: أنَّهم أخلَصوا لله دينَهم وأعمالَهم مِن الشِّركِ والرِّياءِ .

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.

أي: إنَّ يوسُفَ مِن عبادِنا المُطَهَّرينَ المختارينَ المصطفَيْنَ، الذين أخلَصوا لله التوحيدَ والعبادةَ .

وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى عنها أنَّها همَّت، أتبَعَه بكيفيَّةِ طَلَبِها وهَرَبِه، فقال :

وَاسُتَبَقَا الْبَابَ.

أي: واستبقَ يوسُفُ وامرأةُ العزيزِ إلى بابِ البيتِ؛ يوسُفُ يفِرُّ منها، وهي تطلُبُه ليرجِعَ إلى البيتِ؛ لتقضيَ حاجَتَها منه، الَّتِي راودَتْه عليها .

وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ.

أي: وأدرَكَت امرأةُ العزيزِ يوسُفَ، فأمسَكَت بقميصِه، وجَذبَته لتَمنَعَه من الخروجِ، فشَقَّت قميصَه مِن الخَلفِ؛ مِن شِدَّةِ الجَذبِ .

وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ.

أي: وصادفَ يوسُفُ وامرأةُ العزيزِ زوجَها عند البابِ .

قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

أي: قالت امرأةُ العزيزِ لِزَوجِها لَمَّا وجَدَته عند البابِ، مُتَّهِمةً يوسُفَ بمُراودتِها: ما جزاءُ مَن أراد فِعلَ الفاحِشةِ بزَوجتِك إلَّا أن يُحبَسَ في السِّجنِ، أو يُضرَبَ ضَربًا مُوجِعًا .

قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26).

قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي.

أي: قال يوسُف للعزيزِ مُدافِعًا عن نفسِه: لم أُراوِدْ زوجَتَك عن نفسِها، بل هي مَن طلَبَت منِّي فِعلَ الفاحشةِ، فأبيتُ .

وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا.

أي: وحكمَ بينَ امرأةِ العزيزِ وبين يوسُفَ حاكِمٌ مِن أهلِها لَمَّا اختلفَ قولاهما .

إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ.

أي: قال الشَّاهِدُ حاكِمًا بين يوسُفَ وامرأةِ العزيزِ: إن كان قميصُ يوسُفَ شُقَّ مِن الأمامِ فصدَقَت في دعواها أنَّ يوسُفَ راودها، وهو مِن الكاذبينَ في دَعواه أنَّها التي راوَدَته، بدليلِ أنَّها دافعتْه عن نفسِها حتَّى شقَّت قميصَه مِن الأمامِ .

وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27).

أي: وإن كان قميصُ يوسُفَ شُقَّ مِن الخَلفِ فكَذَبت في دَعواها أنَّ يوسُفَ راودَها، وهو مِن الصَّادقينَ في دعواه أنَّها التي راوَدَته، بدليلِ أنَّه فرَّ منها حينَ راودتْه، فاتَّبعتْه، وجذَبتْ قميصَه حتَّى شقَّته مِن ورائِه .

فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28).

فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ.

أي: فلمَّا رأى زوجُ المرأةِ قميصَ يوسُفَ شُقَّ مِن خلفٍ، وتبيَّن له صِدقُه؛ قال لزوجتِه: إنَّ هذا الكَذِبَ الذي ادَّعَيتِه على يوسُفَ مِن جملةِ مَكرِكُنَّ وحِيَلِكُنَّ- أيَّتُها النِّساءُ .

إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ.

أي: قال العزيزُ لزوجتِه : إنَّ مَكرَكنَّ واحتيالَكنَّ- أيَّتُها النِّساءُ- عظيمٌ، شديدُ التَّأثيرِ في النُّفوسِ .

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29).

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا.

أي: وقال ليوسُف عليه السَّلامُ: يا يوسُفُ، أعرِضْ عن ذِكرِ ما جرَى منها، ولا تُخبِرْ به أحدًا .

وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ.

أي: قال العزيزُ لامرأتِه: واطلُبي المَغفِرةَ لذَنبِك الذي وقعَ منكِ، مِن مُراودةِ يوسُفَ عن نفسِه، وخيانةِ زَوجِك، ثمَّ قَذْفِ يوسُفَ بما هو بريءٌ منه؛ إنَّكِ كُنتِ من جملةِ المتعمِّدينَ الوقوعَ في الخَطايا

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُه: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في ذِكْرِ المحسِنين إيماءٌ إلى أنَّ إحسانَه هو سبَبُ جَزائِه بتِلك النِّعمةِ، وأنَّ اللهَ آتاه الحُكْمَ والعِلمَ جَزاءً على إحسانِه؛ لِكَونِه مُحسِنًا في أعمالِه، مُتَّقِيًا في عُنفُوانِ أمرِه؛ هَلْ جَزَاءُ الإحسانِ إِلاَّ الإحسانُ؟!

.

2- قولُ اللهِ تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ فيه الحذَرُ مِن الخَلوةِ بالنِّساءِ، التي يُخشَى منها الفِتنةُ .

3- قولُ الله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا فيه أنَّ الهمَّ الذي همَّ به يوسُفُ بالمرأةِ ثمَّ ترَكَه لله، ممَّا يقَرِّبُه إلى اللهِ زُلفى؛ لأنَّ الهمَّ داعٍ مِن دواعي النَّفسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ، وهو طبيعةٌ لأغلَبِ الخَلقِ، فلمَّا قابلَ بينه وبين محبَّةِ اللهِ وخَشيَتِه، غلَبَت محبَّةُ اللهِ وخَشيتُه داعيَ النَّفسِ والهوى، فكان ممَّن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ومِن السَّبعةِ الذين يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّ عَرشِه يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه؛ أحَدُهم: ((رجلٌ دعَتْه امرأةٌ ذاتُ مَنصبٍ وجمالٍ، فقال: إنِّي أخافُ اللهَ )) ، وإنَّما الهمُّ الذي يُلامُ عليه العبدُ: الهمُّ الذي يُساكِنُه، ويصيرُ عزمًا ربَّما اقتَرَن به الفِعلُ .

4- قال ابنُ الجَوْزِيِّ: (نازَعَتْنِي نَفْسِي إلى أمْرٍ مَكْروهٍ في الشَّرْعِ، وجَعَلَتْ تَنْصِبُ لِيَ التَّأْوِيلاتِ وتَدْفَعُ الكَراهةَ، وكانتْ تَأْويلاتُها فاسِدَةً، والحُجَّةُ ظاهِرةً على الكَراهَةِ، فلجَأْتُ إلى اللَّهِ تعالى في دَفْعِ ذلك عنْ قَلْبي، وأقْبَلْتُ على القِراءةِ، وكان دَرْسي قد بَلَغَ سُورةَ يُوسفَ؛ فاتِحَتَها، وذلك الخاطِرُ قد شَغَلَ قَلْبي حتَّى لا أدْري ما أَقْرَأُ، فلمَّا بَلَغْتُ إلى قولِه تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ انتَبَهْتُ لها، وكأَنِّي خُوطِبْتُ بها، فأَفَقْتُ مِن تلك السَّكْرَةِ، فقُلْتُ: يا نَفْسُ، أَفَهِمْتِ؟ هذا حُرٌّ بِيعَ ظُلْمًا، فَرَاعى حَقَّ مَن أحْسَنَ إليه، وسمَّاه مالِكًا، وإنْ لمْ يكُنْ له عليه مُلْكٌ، فقالَ: إِنَّهُ رَبِّي، ثُمَّ زادَ في بَيانِ مُوجِبِ كَفِّ كَفِّه عمَّا يُؤْذِيه، فقالَ: أَحْسَنَ مَثْوَايَ. فكيف بكَ وأنت عَبْدٌ على الحَقِيقةِ لِمَوْلًى ما زالَ يُحْسِنُ إليك مِن ساعَةِ وُجودِك، وإنَّ سَتْرَه عليك الزَّللَ أكْثرُ مِن عَدَدِ الحصَى؟!

أَفَمَا تَذْكُرِينَ كيف ربَّاكِ، وعلَّمَكِ، ورَزَقَكِ، ودَافَعَ عنكِ، وساقَ الخَيْرَ إليكِ، وهَداكِ أَقْوَمَ طَريقٍ، ونَجَّاكِ مِن كلِّ كيدٍ، ولوْ ذَهَبْتُ أَعُدُّ مِن هذه النِّعَمِ ما سَنَحَ ذِكْرُه امْتَلأتِ الطُّروسُ ، ولمْ تنقَطِعِ الكِتابةُ، فكيف يَحْسُنُ بكِ التَّعرُّضُ لِمَا يَكْرَهُه؟! مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) .

5- في قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ بيانُ أنَّ حِفْظَ الإحسانِ لِمَن أَحْسَنَ، هو مِن أخلاقِ الأنبياءِ وذوي الفَضلِ؛ وأنَّ حُرْمَةَ نسائِهم أعظمُ مِن غيرهِنَّ؛ إِذْ في مواقعةِ المعصيةِ معهنَّ- سوى تحريمِ الزِّنا - خيانةٌ، وإضاعةُ حُرْمَةٍ .

6- قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ فيه أنَّ الواجِبَ عند الدُّعاءِ إلى المعصيةِ الاستِعاذةُ باللهِ من ذلك، ليعصِمَه منها، ويدخُلُ فيه دُعاءُ الشَّيطانِ، ودُعاءُ شَياطينِ الإنسِ، ودُعاءُ هوى النَّفسِ .

7- مَن دخلَ الإيمانُ قَلبَه، وكان مُخلِصًا لله في جميعِ أمورِه، فإنَّ الله يَدفَعُ عنه- ببُرهانِ إيمانِه، وصِدقِ إخلاصِه- مِن أنواعِ السُّوءِ والفَحشاءِ وأسبابِ المعاصي، ما هو جزاءٌ لإيمانِه وإخلاصِه؛ لقَولِ الله تعالى: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ على قراءةِ مَن قرأها بكسرِ اللامِ، ومَن قرأها بالفتحِ، فإنَّه مِن إخلاصِ اللهِ إيَّاه، وهو متضمِّنٌ لإخلاصِه هو بنفسِه، فلمَّا أخلصَ عملَه للهِ أخلَصه اللهُ، وخلَّصه مِن السوءِ والفحشاءِ ، فالقلْبُ إِذا ذاقَ حَلاوةَ عُبوديَّتِه للَّهِ ومَحَبَّتِه لَهُ لم يكُنْ شَيْءٌ أحَبَّ إليه مِن ذَلِك حَتَّى يُقَدِّمَهُ عليه، وبذلك يُصْرَفُ عن أهلِ الإخلاصِ للَّهِ السُّوءُ والفحشاءُ؛ فَإِنَّ المُخلِصَ للَّهِ ذاقَ مِن حَلاوةِ عُبوديَّتِه للَّهِ مَا يمنَعُهُ عَن عُبوديَّتِه لغيرِه، ومِن حَلاوةِ مَحَبَّتِه للَّهِ مَا يمنَعُهُ عَن مَحَبَّةِ غَيرِه؛ إِذْ ليس عِنْد الْقلبِ السَّلِيمِ أحْلَى وَلَا ألذُّ وَلَا أطْيَبُ وَلَا أسَرُّ وَلَا أنْعَمُ مِن حَلاوةِ الإيمانِ المُتَضَمِّنِ عُبوديَّتَه للَّهِ، ومحبَّتَه لَهُ، وإخْلاصَ الدَّينِ لَهُ، وذَلِك يَقْتَضي انْجِذابَ الْقلبِ إلى اللَّهِ، فَيَصِيرُ الْقلبُ مُنِيبًا إلى اللَّهِ، خَائفًا مِنْهُ، رَاغِبًا رَاهِبًا .

8- عِشقُ الصُّوَرِ إنَّما تُبتلَى به القلوبُ الفارِغةُ مِن محبَّةِ الله تعالى، المُعرِضةُ عنه، المتعَوِّضةُ بغيرِه عنه، فإذا امتلأ القلبُ مِن محبَّةِ اللهِ، والشَّوقِ إلى لقائِه، دفَعَ ذلك عنه مرَضَ عِشقِ الصُّوَرِ؛ ولهذا قال تعالى في حَقِّ يوسُفَ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ فدَلَّ على أنَّ الإخلاصَ سبَبٌ لدَفعِ العِشقِ، وما يترتَّبُ عليه من السُّوءِ والفَحشاءِ التي هي ثَمرتُه ونَتيجتُه، فصَرفُ المُسَبَّبِ صَرفٌ لِسَبَبِه ، بل هو أكبَرُ الأسبابِ لحُصولِ كلِّ خَيرٍ، واندفاعِ كُلِّ شَرٍّ .

9- معلومٌ أنَّ الزانيَ حين يزني إنَّما يزني لحُبِّ نفسِه لذلك الفعلِ، فلو قام بقَلبِه خشيةُ الله التي تقهَرُ الشَّهوةَ، أو حُبُّ الله الذي يغلِبُها- لم يَزْنِ؛ ولهذا قال تعالى عن يوسُفَ عليه السَّلامُ: كَذَلِكَ لِنَصْرفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ فمن كان مُخلِصًا لله حَقَّ الإخلاصِ، لم يَزْنِ، وإنَّما يزني لخُلُوِّه عن ذلك، وهذا هو الإيمانُ الذي يُنزَعُ منه، لم يُنزَعْ منه نفسُ التَّصديقِ؛ ولهذا قيل: هو مُسلِمٌ وليس بمؤمِنٍ؛ فإنَّ المسلِمَ المُستحِقَّ للثَّوابِ لا بدَّ أن يكونَ مُصدِّقًا، وإلَّا كان مُناِفًقا؛ لكنْ ليس كلُّ مَن صدَّقَ قام بقَلبِه مِن الأحوالِ الإيمانيَّةِ الواجبةِ مِثلُ كَمالِ محبَّةِ الله ورَسولِه، ومِثلُ خَشيةِ اللهِ، والإخلاصِ له في الأعمالِ، والتوكُّلِ عليه، بل يكون الرجُلُ مصَدِّقًا بما جاء به الرَّسولُ، وهو مع ذلك يُرائي بأعمالِه، ويكونُ أهلُه ومالُه أحبَّ إليه مِن اللهِ ورَسولِه، والجهادِ في سَبيلِه .

10- قولُ الله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ فيه أنَّه ينبغي للعبدِ- إذا رأى محَلًّا فيه فتنةٌ وأسبابُ معصيةٍ- أن يفِرَّ منه، ويهربَ غايةَ ما يُمكِنُه؛ ليتمَكَّنَ مِن التخَلُّصِ مِن المعصيةِ، لأنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ لَمَّا راودَتْه التي هو في بَيتِها، فرَّ هاربًا يطلُبُ البابَ؛ ليتخَلَّصَ مِن شَرِّها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- إنَّما قال: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ولم يقُلْ: (امرأةُ العَزِيزِ)، ولا ذَكَرَ اسْمَها؛ قَصْدًا إلى زِيادةِ التَّقريرِ مع اسْتِهْجَانِ التَّصْريحِ باسْمِ المرأةِ، والمُحَافظةِ على السِّتْرِ عليها

، والعرَبُ تُضيفُ البُيوتَ إلى النِّساءِ، فتقولُ: ربَّةُ البَيتِ، وصاحبةُ البيتِ .

2- قول الله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، ذُكِر وصفُ الربِّ على الاحتمالينِ؛ احتمالِ أنَّه اللهُ، واحتمالِ أنَّه سيدُه-؛ لما يؤذنُ به مِن وجوبِ طاعتِه وشكرِه على نعمةِ الإيجادِ بالنسبةِ إلى الله، ونعمةِ التربيةِ بالنسبةِ لمولاه العزيزِ .

3- في قَولِه تعالى عن يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ دَلالةٌ على أنَّ اسمَ «الرَّبِّ» قد يُرادُ به السَّيِّدُ، وكما في قولِ يوسُفَ أيضًا لغُلامِ المَلِك: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يوسف: 42، وكذا عن الغُلامِ: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ يوسف: 42، وفيه حُجَّةٌ في أنَّ تسميةَ المخلوقِ بذلك غيرُ منكَرٍ .

4- قال الله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ما أحسَنَ هذا التنَصُّلَ مِن الوقوعِ في السُّوءِ! استعاذ أوَّلًا باللهِ الذي بيَدِه العِصمةُ، ومَلكوتُ كلِّ شَيءٍ، ثمَّ نبَّه على أنَّ إحسانَ اللهِ أو إحسانَ العزيزِ الذي سبقَ منه، لا يُناسِبُ أن يُجازَى بالإساءةِ، ثمَّ نفى الفلاحَ عن الظَّالِمينَ، وهو الظَّفَرُ والفَوزُ بالبُغْيةِ، فلا يناسِبُ أن أكونَ ظالِمًا أضَعُ الشَّيءَ غيرَ مَوضِعِه، وأتعدَّى ما حدَّه اللهُ تعالى لي .

5- قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فيه إرشادٌ لها إلى رعايةِ حقِّ العزيزِ بألطَفِ وجْهٍ، وفيه تحذيرٌ لها مِن عقابِ اللهِ عزَّ وجلَّ .

6- قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ فيه أنَّه يجوزُ تَركُ القبيحِ لِقُبحِه، ورعايةِ حَقِّ غَيرِه، وخشيةِ العار أو الفَقرِ أو الخوفِ، ونحو ذلك. ولا يقالُ: التَّشريكُ غيرُ مُفيدٍ في كونِه تاركًا للقبيحِ، وأنَّه لا يُثابُ .

7- قوله: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ إجابتَها لِمَا راوَدَتْه: ظُلمٌ؛ لأنَّ فيها ظُلْمَ كِلَيهما نفْسَه بارتكابِ معصيةٍ ممَّا اتَّفقَت الأديانُ على أنَّها كبيرةٌ، وظُلمَ سيِّدِه الَّذي آمَنَه على بيتِه، وآمَنَها على نفْسِها؛ إذ اتَّخَذها زوجًا وأحصَنَها .

8- قال الله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تدلُّ الآيةُ على لزومِ حُسنِ المكافأةِ بالجَميلِ، وأنَّ من أخلَّ بالمكافأةِ عليه، كان ظالِمًا .

9- قول الله تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ في صَرفِ السُّوءِ والفَحشاءِ عنه عليه السَّلامُ، وكَونِه مِن المُخلَصينَ؛ دليلٌ على عِصمتِه .

10- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ بيانُ أنَّ الحَسَنةَ الثَّانيةَ قد تكون مِن ثوابِ الأولى، وكذلك السَّيئةُ الثَّانيةُ قد تكونُ مِن عقوبةِ الأولى؛ قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ محمد: 1.

11- مِن رَحمةِ اللهِ تعالى بِعَبْدِهِ المُخلصِ أن يصرِفَ عنه ما يَغارُ عليه منه؛ كما قال تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ .

12- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ شاهِدٌ على نَفيِ ما قد ذَكَره طائِفةٌ مِن المفَسِّرينَ مِن أنَّه وُجِدَ مِن يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعضُ المُقدِّماتِ، مثل حَلِّ السَّراويلِ، والجلوسِ مَجْلِسَ الخاتنِ، ولو كان قد فَعَلَ صغيرةً لتابَ منها، والقرآنُ ليس فيه ذِكرُ تَوبتِه، بل إنَّه مَن وَقعَ منه بعضُ أنواعِ السُّوءِ والفَحشاءِ لم يكن ذلك قد صُرِفَ عنه، بل يكونُ قد وَقعَ وتاب اللهُ عليه منه، والقرآنُ يدلُّ على خِلافِ هذا، وقد شَهِدت النِّسوةُ له أنَّهنَّ ما عَلِمنَ عليه من سُوءٍ، ولو كان قد بَدَت منه هذه المقَدِّمات لكانت المرأةُ قد رأت ذلك، وهي من النِّسوةِ اللَّاتي شَهِدنَ وقُلنَ: مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وقالت مع ذلك: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وقالت: أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ .

13- قال اللَّهُ تعالى: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ولم يقُلْ: سيِّدَهُما؛ لِأنَّ يُوسفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يَدْخُلْ في رِقٍّ، ولم يكنْ مملوكًا لذلك الرجلِ على الحقيقةِ .

14- في قولِه تعالى: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ حجةٌ في أنَّ تسميةَ المخلوقينَ بالسَّادة جائزٌ .

15- قال الله تعالى: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فبادرَتَ إلى الكَذِبِ؛ أنَّ المراودةَ قد كانت من يوسُفَ، وقالت: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ولم تقُلْ «مَن فعلَ بأهلِك سُوءًا» تبرئةً لها، وتبرئةً له أيضًا مِن الفِعلِ، وإنَّما النِّزاعُ عند الإرادةِ والمُراودةِ .

16- قَولُ الله تعالى: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يدلُّ على عِظَمِ مَوقِعِ السَّجنِ مِن ذَوي الأقدارِ؛ حيث قرَنَته بالعذابِ الأليمِ .

17- في قوله تعالى: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي حُجَّةٌ في إباحةِ الانتصارِ، ومقابلةِ الظَّالمِ بمِثلِ فِعلِه .

18- قولُ الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إنَّما قال: مِنْ أَهْلِهَا ليكونَ أَولى بالقَبولِ في حَقِّ المرأةِ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ مِن حالِ مَن يكونُ مِن أقرِباءِ المرأةِ ومِن أهلِها ألَّا يَقصِدَها بالسُّوءِ والإضرارِ، فالمقصودُ بذِكرِ كَونِ ذلك الرَّجُلِ مِن أهلِها تَقويةُ قَولِ ذلك الرَّجُلِ .

19- إنْ قيل: كيف جاز الجَمْعُ بين إِنْ الَّذي هو للاستِقْبالِ وبينَ كَانَ؟ فالجوابُ: لأنَّ المعنى: إنْ يَعلَمْ أنَّه كان قميصُه قُدَّ، ونحوُه، كقولِك: إنْ أحسَنْتَ إليَّ فقد أحسَنتُ إليك مِن قبلُ، لِمَن يَمتَنُّ عليك بإحسانِه، تُريدُ: إنْ تَمتَنَّ عليَّ أمتَنَّ عليك .

20- قولُ الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ يَحتَجُّ به من يرى الحُكمَ بالقرائنِ والأماراتِ والعَلاماتِ فيما لا تحضُرُه البيِّناتُ؛ كاللُّقَطةِ والسَّرِقة والوديعةِ ، فالقرائنُ الجازمةُ رُبَّمَا قَامَتْ مقامَ البيِّناتِ؛ ذلك لأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ لَمَّا بَهَتَتْه امرأةُ العزيزِ، واضْطُرَّ إلى الدفاعِ، ولم تَكُنْ هناك بينةٌ، ولا شيءٌ يُصدِّقُه أو يُصدِّقُها، جاءَ ذلك الشاهدُ، وجعَل شقَّ قميصِه مِن دُبُرٍ قرينةً على صدقِه، وكذبِ المرأةِ، فذِكرُه تعالى لهذا مقرِّرًا له يدلُّ على جوازِ العملِ به .

21- قال الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ في الآيةِ دَليلٌ على القياسِ والاعتبارِ، والعمَلِ بالعُرفِ والعادةِ؛ لِمَا ذُكِرَ مِن قَدِّ القميصِ مُقبِلًا ومُدبِرًا .

22- قال الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ قدَّمَ أمارةَ صِدقِها؛ لأنَّه ممَّا يُحبُّه سَيِّدُها، فهو في الظاهرِ اهتمامٌ بها، وفي الحقيقةِ تقريرٌ لِكَذِبها مرَّتينِ: الأُولَى باللُّزومِ، والثَّانية بالمُطابقة .

23- مِن اللَّطائِفِ في قولِه تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ما قيل: إنَّ هذا الشَّاهِدَ أراد ألَّا يكونَ هو الفاضِحَ لها، ووَثِقَ بأنَّ انقِطاعَ قَميصِه إنَّما كان مِن دُبُر، فنَصَبه أمارةً لصِدقِه وكَذِبِها، ثمَّ ذكَرَ القِسمَ الآخَر، وهو قدُّه مِن قُبُلٍ، على علمٍ بأنَّه لم ينقَدَّ مِن قُبُلٍ حتى ينفِيَ عن نَفسِه التُّهمةَ في الشهادةِ وقَصْدَ الفَضيحةِ، ويُنصِفَهما جميعًا، فيَذكُر أمارةً على صِدقِها المعلومِ نَفيُه، كما ذكَرَه أمارةً على صِدقِه المعلومِ وُجودُه؛ ومِنَ ثمَّ قَدَّمَ أمارةً على صِدقِها، على أمارةِ صِدقِه في الذِّكرِ؛ إزاحةً للتُّهمةِ، ووُثوقًا بأنَّ الأمارةَ الثَّانيةَ هي الواقِعةُ، فلا يَضُرُّه تأخيرُها .

24- قولُ الله تعالى: قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وُصِفَ كَيدُ النِّساءِ بالعِظَم، وإن كان قد يُوجَدُ في الرِّجالِ؛ لأنهُنَّ ألطَفُ كَيدًا بما جُبِلنَ عليه، وبما تفرَّغنَ له، واكتسَبَ بعضُهنَّ مِن بَعضٍ، وهنَّ أنفَذُ حِيلةً .

25- في قولِه تعالى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ تَعميمُ الخِطابِ للتَّنبيهِ على أنَّ ذلك خُلُقٌ لهنَّ عريقٌ .

26- قال الله تعالى: فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ كيف وُصِفَ كَيدُ النِّساءِ بالعَظيمِ مع قَولِه تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا النساء: 28 وهلَّا كان مكرُ الرِّجالِ أعظمَ مِن مَكرِ النِّساءِ؟

الجوابُ: أمَّا كونُ الإنسانِ خُلِقَ ضَعيفًا فهو بالنِّسبةِ إلى خَلقِ ما هو أعظَمُ منه؛ كخَلقِ الملائكةِ، والسَّمواتِ والأرضِ، والجبالِ ونحو ذلك، وأمَّا عِظَمُ كَيدِ النِّساءِ ومَكرِهنَّ في هذا البابِ فهو أعظَمُ مِن كيدِ جَميعِ البشَرِ؛ لأنَّ لهنَّ مِن المَكرِ والِحيَل والكيدِ في إتمامِ مُرادِهنَّ ما لا يَقدِرُ عليه الرِّجالُ في هذا البابِ .

27- قولُ الله تعالى: قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ هذه الآيةُ الكريمةُ إذا ضُمَّت لها آيةٌ أُخرَى حصَل بذلك بيانُ أنَّ كيدَ النساءِ أعظمُ مِن كيدِ الشيطانِ، والآيةُ المذكورةُ هي قولُه: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا النساء: 76 ؛ لأنَّ قولَه في النساءِ: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ، وقوله في الشيطانِ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا يدلُّ على أنَّ كيدهنَّ أعظمُ مِن كيدِه ، وعن بعضِ العلماءِ: (إنِّي أخافُ مِن النساءِ ما لا أخافُ مِن الشيطانِ؛ فإنَّه تعالى يقولُ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، وقال للنساءِ: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، ولأنَّ الشيطانَ يوسوسُ مسارقةً، وهنَّ يواجِهْنَ به الرجالَ) .

وقيل: لا دلالةَ فيه، فالمقامُ مختلفٌ؛ فإنَّ ضعفَ كيدِ الشيطانِ إنَّما هو في مقابلةِ كَيْدِ الله تعالى، وعظمَ كيدِهنَّ إنَّما هو بالنسبةِ الى كيدِ الرجالِ، وإنَّما كيدُ النسوانِ بعضُ كيدِ الشيطانِ .

28- بَيَّنَ القُرآنُ العَظيمُ بَراءةَ يُوسُف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن الوُقوعِ فيما لا يَنبَغِي؛ حيث بَيَّنَ شَهادةَ كُلِّ مَن له تَعَلُّق بالمَسأَلَةِ بِبَراءَتِه، وشَهادةَ الله له بذلك، واعْتِراف إبليس به. أمَّا الذين لهم تَعَلُّق بتِلك الواقِعَة فهم: يُوسُف، والمَرأَةُ، وزَوْجُها، والنِّسْوَةُ، والشُّهودُ. أمَّا جَزْمُ يُوسُف بأنَّه بَرِيءٌ مِن تِلك المَعصِيَة فذَكَرَهُ تعالى في قوله: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، وأمَّا اعْتِرافُ المَرأَةِ بذلك ففي قولِها للنِّسْوَةِ: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ يوسف: 32. وأمَّا اعْتِراف زَوْجِ المَرأَةِ ففي قوله: قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ. وأمَّا اعْتِراف الشُّهود بذلك ففي قوله: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.... وأمَّا شَهادَةُ الله جَلَّ وعَلَا بِبَراءَتِه ففي قولِه: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. وأمَّا إِقْرار إبليس بطَهارَةِ يُوسُف ونَزاهَتِه ففي قولِه تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ص: 82-83، فأَقَرَّ بأنَّه لا يُمكِنُه إِغْواءُ المُخْلَصِين، ولا شَكَّ أنَّ يُوسُف مِن المُخْلَصِين، كما صَرَّحَ تعالى به في قوله: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، فظَهَرَت دِلالَةُ القُرآنِ مِن جِهاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ على بَراءَتِه ممَّا لا يَنْبَغي .

29- في قَولِه تعالى عن العزيزِ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ دَلالةٌ على أنَّهم كانوا يَرَونَ ذلك ذنبًا ويَستَغفِرونَ منه- وإن كانوا مع ذلك مُشرِكينَ- وقد كانت العرَبُ مُشرِكينَ، وهم يُحَرِّمونَ الفواحِشَ ويَستغفِرونَ اللهَ منها، وكان الزِّنا معروفًا عندهم في الإماءِ

 

، وذلك على القولِ بأنَّه طلبَ منها استغفارَ الله.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

- التنكيرُ في قوله: حُكْمًا وعِلْمًا للتفخيمِ

.

- ومِن قولِه تعالى: وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ إلى قولِه: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ اعتراضٌ جيءَ به أُنموذَجًا للقِصَّةِ؛ لِيَعلَمَ السَّامعُ مِن أوَّلِ الأمرِ أنَّ ما لَقِيه عليه السَّلامُ مِن الفتنِ الَّتي ستُحْكَى بتَفاصيلِها له غايةٌ جميلةٌ وعاقبةٌ حميدةٌ، وأنَّه عليه السَّلامُ مُحسِنٌ في جَميعِ أعمالِه لم يَصدُرْ عنه في حالَتَيِ السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ ما يُخِلُّ بنَزاهتِه، ومَدارُ حُسنِ التَّخليصِ إلى هذا الاعتِراضِ قبلَ تَمامِ الآيةِ الكريمةِ: هو التَّمكينُ البالغُ المفهومُ مِن كلامِ العزيزِ .

2- قولُه تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ

- قولُه: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فيه تشبيهُ حالِ المحاوِلِ أحَدًا على فِعْلِ شيءٍ مُكرِّرًا ذلك بحالِ مَن يَذهَبُ ويَجيءُ في المعاوَدةِ إلى الشَّيءِ المذهوبِ عنه، فأُطلِقَ (راوَد) بمعنى (حاوَل) ؛ فالمراودةُ المطالَبةُ، مِن: رادَ يَرُودُ؛ إذا جاء وذهَب لطَلَبِ شيءٍ، وهي مُفاعَلةٌ مِن واحدٍ نَحوُ مُطالبةِ الدَّائنِ ومُماطَلةِ المديونِ ونَظائِرِها ممَّا يكونُ مِن أحَدِ الجانِبَين الفِعلُ ومِن الآخَرِ سبَبُه؛ فإنَّ هذه الأفعالَ وإن كانت صادِرةً عن أحَدِ الجانِبَين لكنْ لَمَّا كانت أسبابُها صادِرةً عن الجانبِ الآخَرِ جُعِلَت كأنَّها صادِرةٌ عنهما، وهذا بابٌ لَطيفُ المسلَكِ مَبنيٌّ على اعتبارٍ دقيقٍ، تَحقيقُه: أنَّ سببَ الشَّيءِ يُقامَ مَقامَه، ويُطلَقُ عليه اسمُه، كما في قولِهم: كما تَدينُ تُدانُ، أي: كما تَجْزي تُجْزى؛ فإنَّ فعْلَ البادي وإن لم يَكُنْ جَزاءً، لكنَّه لِكَونِه سببًا للجزاءِ أُطلِقَ عليه اسمُه، وهذه قاعدةٌ مُطَّرِدةٌ مُستمِرَّةٌ، ولَمَّا كانت أسبابُ الأفعالِ المذكورةِ هنا صادِرةً عن الجانبِ المقابلِ لجانبِ فاعِلِها؛ فإنَّ مُراودَتَها لِجَمالِ يوسُفَ عليه السَّلامُ نُزِّلَ صُدورُها عن مَحالِّها بمَنزِلةِ صُدورِ مُسبِّباتِهما التي هي تلك الأفعالُ، فبُني الصيغةُ على ذلك، ورُوعيَ جانبُ الحقيقةِ بأن أُسند الفعلُ إلى الفاعل، وأُوقِعَ على صاحبِ السَّببِ. ويَجوزُ أن يُرادَ بصيغةِ المغالَبةِ مجرَّدُ المبالَغةِ، وقيل: الصِّيغةُ على بابِها، بمعنى أنَّها طَلَبَت منه الفِعلَ، وطلَب هو مِنها التَّرْكَ، ويَجوزُ أنْ يكونَ مَنْ الرُّوَيدِ، وهو الرِّفْقُ والتَّحمُّلُ، وتَعدِيَتُها بـ (عَنْ)؛ لتَضمينِها معنى المخادَعةِ؛ فالمعنى: خادَعَتْه عَنْ نَفْسِه .

- والتَّعبيرُ عن امرأةِ العزيزِ بطَريقِ الموصوليَّةِ في قولِه: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا؛ لِقَصدِ ما تُؤْذِنُ به الصِّلةُ مِن تقريرِ عِصْمةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّ كوْنَه في بيتِها مِن شأنِه أن يُطوِّعَه لِمُرادِها .

- قولُه: عَنْ نَفْسِهِ و(عَن) للمُجاوَزةِ، أي: راوَدَتْه مُباعِدةً له عن نَفسِه، أي: بأنْ يَجعَلَ نفْسَه لها؛ قيل: وهذا التَّركيبُ مِن مُبتكَراتِ القرآنِ؛ فالنَّفسُ هنا كِنايةٌ عن غرَضِ المواقَعةِ، أي: فالنَّفسُ أُريدَ بها عَفافُه، وتَمكينُها مِنه لِما تُريدُ، فكأنَّها تُراوِدُه عن أن يُسلِّمَ إليها إرادتَه، وحُكمَه في نفسِه، بخلافِ تَعْديَةِ هذا الفعلِ بـ (على)؛ فإنَّ ذلك إلى الشَّيءِ المطلوبِ حُصولُه .

- قولُه: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ فيه تضعيفُ (غَلَّقَتْ)؛ لإفادةِ شِدَّةِ الفعلِ وقوَّتِه، أي: أغلَقَت إغلاقًا مُحْكَمًا ، فقال: وغَلَّقَتْ؛ للمبالَغةِ في الإيثاقِ والإحكامِ، وقيل: كانت الأبوابُ سَبعةً؛ ولذلك جاء الفعلُ بصيغةِ التَّفعيلِ دون الإفعالِ؛ للتكثيرِ .

- قولُه: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ تعليلٌ لامتناعِه، وتعريضٌ بها في خيانةِ عهدِها .

- والضَّميرُ في إِنَّهُ ضميرُ الشَّأنِ، ومدارُ وضْعِه مَوضعَه ادِّعاءُ شُهرتِه المُغْنيةِ عن ذِكرِه، وفائدةُ تصديرِ الجملةِ به: الإيذانُ بفَخامةِ مَضمونِها، مع ما فيه مِن زيادةِ تقريرِه في الذِّهنِ؛ فإنَّ الضَّميرَ لا يُفهَمُ مِنه مِن أوَّلِ الأمرِ إلَّا شأنٌ مُبهَمٌ له خطَرٌ، فيَبْقَى الذِّهنُ مُترقِّبًا لِما يَعقُبُه، فيَتمَكَّنُ عِندَ وُرودِه له فَضْلَ تَمكُّنٍ؛ فكأنَّه قيل: إنَّ الشَّأنَ الخطيرَ هذا وهو ربِّي، أي: سيِّدي العزيزُ- وقيل: الضَّميرُ للهِ عزَّ وجلَّ- أحسَنَ مَثواي؛ فكيف يُمكِنُ أن أُسيءَ إليه بالخيانةِ في حَرَمِه، وفي الاقتصارِ على ذِكْرِ هذه الحالةِ، مِن غيرِ تَعرُّضٍ لاقتِضائِها الامتناعَ عمَّا دعَتْه إليه إيذانٌ بأنَّ هذه المرتبةَ مِن البيانِ كافيةٌ في الدَّلالةِ على استِحالتِه، وكونِه ممَّا لا يَدخُلُ تحتَ الوُقوعِ أصلًا .

- وجملةُ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تعليلٌ ثانٍ للامتناعِ المذكورِ، وهو تعليلٌ بعدَ تعليلٍ، والضَّميرُ المجعولُ اسْمًا لـ (إنَّ) ضميرُ الشَّأنِ يُفيدُ أهميَّةَ الجملةِ المجعولةِ خبَرًا عنه؛ لأنَّها موعِظةٌ جامعةٌ .

3- قولُه تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ

- جملةُ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا، وأكَّد همَّها بـ (قد) ولامِ القَسَمِ؛ لِيُفيدَ أنَّها عزَمَت عَزْمًا مُحقَّقًا .

- قولُه: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ أشيرَ إلى اختلافِ الهَمَّينِ باختلافِ التَّعبيرِ عنهُما، حيث لم يَقُلْ: (ولَقَد هَمَّا) بالمخالَطةِ أو (هَمَّ كُلٌّ مِنهما بالآخَرِ)، وصُدِّر الأوَّلُ بما يُقرِّرُ وُجودَه مِن التَّوكيدِ القَسَميِّ وَلَقَدْ، وعُقِّب الثَّاني بما يَعْفو أثَرَه مِن قولهِ عزَّ وجلَّ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ .

- قولُه: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ التَّقديرُ فيها: (ولولا أنْ رأَى بُرهانَ ربِّه هَمَّ بها)؛ فقُدِّم الجوابُ هَمَّ بِهَا على شَرْطِه لَوْلا؛ للاهتمامِ به، وقد يُجعَلُ المذكورُ وَهَمَّ بها قبلَ لَولا دليلًا للجوابِ، والجوابُ محذوفٌ لِدَلالةِ ما قَبْل لَوْلَا عليه، فيَحْسُنُ الوقفُ على قولِه: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ؛ لِيَظهَرَ مَعْنى الابتداءِ بجُملَةِ وَهَمَّ بِهَا واضِحًا، وبذلك يَظهَرُ أنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ لم يُخالِطْه همٌّ بامرأةِ العزيزِ؛ لأنَّ اللهَ عصَمَه مِن الهمِّ بالمعصيةِ بما أراه مِن البُرهانِ . وذلك على أحدِ أوجهِ تفسيرِ الآيةِ.

- وجملةُ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ تعليلٌ لحِكْمَةِ صَرفِه عن السُّوءِ والفحشاءِ .

4- قولُه تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

- قولُ الله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وحَّدَ البابَ هنا، وجمَعَه قبلُ في قَولِه تعالى: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ؛ لأنَّ إغلاقَ البابِ للاحتياطِ لا يتِمُّ إلَّا بإغلاقِ الجَميعِ، وأمَّا هُروبُه منها فلا يكونُ إلَّا إلى بابٍ واحدٍ، حتى لو تعدَّدَت أمامَه، لم يقصِدْ منها أوَّلًا إلَّا الأوَّلَ؛ فلهذا وحَّدَ البابَ هنا، وجمَعَه ثَمَّ .

- وإسنادُ القَدِّ إليها خاصَّةً مع أنَّ لِقُوَّةِ يوسفَ أيضًا دَخْلًا فيه؛ إمَّا لأنَّها الجُزءُ الأخيرُ للعِلَّةِ التَّامَّةِ، وإمَّا للإيذانِ بمُبالَغتِها في منْعِه عن الخروجِ، وبَذلِ مَجهودِها في ذلك؛ لِفَوْتِ المحبوبِ، أو لخوفِ الافتضاحِ .

- قولُه: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مستأنف استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ السَّامِعَ يَسأَلُ: ماذا حدَث عِندَ مُفاجَأَةِ سيِّدِها وهُما في تلك الحالةِ ؟

- قوله: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا لم تُصرِّحْ في قَولِها بذِكْرِ يوسُفَ، وأنَّه أراد بها سُوءًا؛ قَصدًا للعُمومِ، وأنَّ كلَّ مَن أراد بأهلِك سوءًا فحَقُّه أن يُسجَنَ أو يُعذَّبَ؛ لأنَّ ذلك أبلَغُ فيما قصَدَتْه مِن تخويفِ يوسُفَ؛ ففي إبهامِ المُريدِ تَهويلٌ لشأنِ الجزاءِ المذكورِ بكَونِه قانونًا مطَّرِدًا في حقِّ كلِّ أحدٍ كائنًا مَنْ كان .

وقيل: إنَّها لم تَذكُر أنَّ يُوسُفَ يجِبُ أن يُعامَل بِأَحَدِ هَذينِ الأَمْرَينِ، بل ذَكَرت ذلك ذِكْرًا كُلِّيًّا صَوْنًا للمَحْبوب عن الذِّكْرِ بالسُّوءِ والأَلَم .

وفي ذِكْرِ نفْسِها بعُنوانِ أهليَّةِ العزيزِ بِأَهْلِكَ إعظامٌ للخَطْبِ، وإغراءٌ له على تَحقيقِ ما تتوخَّاه بحُكْمِ الغضَبِ والحَميَّةِ .

- وبَدأَت بِذِكْرِ السِّجْنِ، وأَخَّرَت ذِكْرَ العَذابَ قيل: لشدَّةِ حبِّها يوسفَ؛ فالمُحِبُّ لا يَسعَى في إيلامِ المَحْبوبِ، ولذلك قالت: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ، والمُرادُ: أنْ يُسْجَنَ يومًا أو أَقَلَّ على سَبيلِ التَّخْفِيف، فأمَّا الحَبْسُ الدَّائِم فإنَّه لا يُعَبَّر عنه بهذه العِبارَةِ؛ بل يُقال: يجبُ أن يُجْعَلَ مِن المَسجونينَ، كما قال فِرعَونُ حين تَهَدَّدَ موسَى عليه السَّلام في قولِه: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ الشعراء: 29.

5- قولُه تعالى: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ

- قولُه: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي فيه تقديمُ المبتدَأِ هِيَ على خبَرِه الفعليِّ رَاوَدَتْنِي وهو يُفيدُ القَصْرَ، وهو قصْرُ قلْبٍ ؛ للرَّدِّ عليها .

- وفي التَّعبيرِ عنها بضَميرِ الغيبةِ هِيَ دونَ الخطابِ أو اسْمِ الإشارةِ: مُراعاةٌ لحُسنِ الأدبِ، مع الإيماءِ إلى الإعراضِ عنها ، وقيل: أتَى بضَميرِ الغَيبةِ؛ لاستيحائِه عن مواجهتِها بإشارةٍ أو ضميرِ خِطابٍ؛ إذ كان غلبَ عليه الحَياءُ أنْ يُشيرَ إليها ويُعيِّنَها بالإشارةِ، فيقول: هذِه راودتْني، أو تِلك راودتْني؛ لأنَّ في المواجهةِ بالقبيحِ ما ليس في الغَيبةِ .

- قولُه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا سُمِّي قولُه شهادةً؛ لأنَّه يؤولُ إلى إظهارِ الحقِّ في إثباتِ اعتداءِ يُوسُفَ عليه السَّلامُ على امرأة العزيزِ أو دَحْضِه .

- قوله: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ جملةُ إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ مُبيِّنةٌ لفِعل (شَهِد)، وفي زيادةِ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ بعدَ فَصَدَقَتْ، وزيادةِ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ بعدَ فَكَذَبَتْ: تأكيدٌ لزيادةِ تَقْريرِ الحقِّ، كما هو شأنُ الأحكامِ .

- ولَمَّا كانت كلُّ جملةٍ مُستقِلَّةً بنَفْسِها أبرَزَ اسْمَ كانَ بلَفْظِ المظْهَرِ: قَمِيصُهُ، ولم يُضْمِرْ ويَقُلْ: (إن كان قُدَّ) لِيَدُلَّ على الاستقلالِ، ولكونِ التَّصريحِ به أوضَحَ .

6- قولُه تعالى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ

- قولُه: يُوسُفُ حَذَف منه حَرْفَ النِّداءِ؛ لأنَّه مُنادًى قريبٌ، مُفاطِنٌ للحديثِ، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ لِمَحلِّه .

- قولُه: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ جملةُ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ عطفٌ على جملة يُوسُفُ أَعْرِضْ وهو عطفُ أمرٍ على أمرٍ، والمأمورُ مُختلِفٌ؛ فبَعدَ أنْ خاطبَها بأنَّ ما دَبَّرتْه هو من كيدِ النِّساءِ وجَّه الخِطابَ إلى يُوسُفَ عليه السَّلامُ بالنِّداء، ثم أعادَ الخِطابَ إلى المرأةِ، وهذا الأسلوبُ من الخِطابِ يُسمَّى بالإقبالِ، وقد يُسمَّى بالالتفاتِ بالمعنى اللُّغويِّ، وهو عزيزٌ في الكلامِ البَليغِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال: مِنَ الْخَاطِئِينَ بلَفْظِ التَّذكيرِ تَغليبًا للذُّكورِ على الإناثِ؛ لأنَّه لم يَقصِدْ بذلك قصْدَ الخبَرِ عن النِّساءِ، وإنَّما قصَد به الخبَرَ عمَّن يفعَلُ ذلك فيَخطَأُ، ولأنَّ الخاطِئين أعَمُّ

=========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (30-35)

ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ

غريب الكلمات:

 

شَغَفَهَا: أي: أصاب حبُّه شَغافَ قلبها، والشَّغافُ: غِلافُ القَلبِ

.

وَأَعْتَدَتْ: أي: هَيَّأَتْ وأعَدَّتْ، وأصلُه مِن الإعدادِ الذي هو تَهيئةُ الشَّيءِ .

مُتَّكَأً: أي: مجلسًا يُتكأُ فيه، أو وَسائِدَ يُتكأُ عليها، وأصلُ (وكأ): يدلُّ على شدِّ شيءٍ .

أَكْبَرْنَهُ: أي: أجلَلْنَه وأعظَمْنَه، وأصلُ (كبر): يدُلُّ على خِلافِ الصِّغَرِ .

حَاشَ لله: أي: معاذَ اللهِ، وتنزيهًا له؛ من المحاشاةِ: وهي التَّخليةُ والتَّبعيدُ .

فَاسْتَعْصَمَ: أي: امتنَعَ، وتحرَّى ما يَعصِمُه، وأصلُ (عصم): يدلُّ على إمساكٍ، ومَنعٍ، ومُلازمةٍ .

أَصْبُ: أي: أمِلْ، يُقال: صَبَا فلانٌ: إذا نزَع واشتاق، وفعَل فعلَ الصِّبيانِ، وأصلُ (صبا): يدلُّ على صِغَرِ السِّنِّ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى عن شيوعِ خبرِ امرأةِ العزيزِ، وأنَّ نِسوةً في المدينةِ تحَدَّثنَ به، وقُلنَ مُنكِراتٍ عليها: امرأةُ العزيزِ تُراوِدُ غُلامَها عن نفسِه، وتدعوه إلى نَفسِها، وقد بلَغ حبُّها له مبلغًا عظيمًا، إنَّا لَنَراها في هذا الفِعلِ في ضلالٍ واضِحٍ، فلمَّا سَمِعَت امرأةُ العزيزِ بغِيبتِهنَّ إيَّاها، واحتيالهِنَّ في ذمِّها، أرسَلَت إليهنَّ تَدعوهنَّ لزيارتِها، وهيَّأَت لهنَّ ما يتَّكِئنَ عليه مِن الوسائِدِ، وما يأكُلنَه مِن الطَّعامِ، وأعطَتْ كلَّ واحدةٍ منهنَّ سِكِّينًا؛ ليُقَطِّعنَ الطَّعامَ، ثمَّ قالت ليوسُفَ: اخرُجْ عليهنَّ، فلمَّا رأينَه أعظَمْنَه وأجلَلْنَه، وأخَذَهنَّ حُسنُه وجَمالُه، فجَرَحنَ أيديَهنَّ وهُنَّ يُقَطِّعنَ الطَّعامَ؛ مِن فَرطِ الدَّهشةِ والذُّهولِ، وقُلنَ مُتعَجِّباتٍ: مَعاذَ اللهِ، ما هذا مِن جِنسِ البشَرِ؛ لأنَّ جمالَه غيرُ مَعهودٍ في البشَرِ، ما هو إلَّا مَلَكٌ كريمٌ مِن الملائكة.

قالت امرأةُ العزيزِ للنِّسوةِ اللَّاتي قطَّعْنَ أيديَهنَّ: فهذا- الذي أصابَكنَّ في رؤيَتِكنَّ إيَّاه ما أصابَكنَّ- هو الفتى الذي لُمتُنَّني في الافتتانِ به، ولقد راودتْه عن نفسِه، فامتنَعَ وأبى، ولئنْ لم يفعَلْ ما آمُرُه به لَيُعاقَبَنَّ بدخولِ السِّجنِ، ولَيكونَنَّ مِن الأذلَّاءِ.

قال يوسُفُ مُستعيذًا مِن شَرِّهنَّ ومَكرِهنَّ: يا ربِّ، السِّجنُ أحَبُّ إليَّ ممَّا يدعونَني إليه مِن عمَلِ الفاحِشةِ، وإنْ لم تدفَعْ عنِّي مَكرَهنَّ أَمِلْ إليهنَّ، وأكُنْ مِن الجاهلينَ، فاستجاب اللهُ ليوسُفَ دعاءَه، فصرف عنه ما أرادت منه امرأةُ العزيزِ وصَواحِباتُها مِن معصيةِ الله، إنَّ اللهَ هو السَّميعُ لدُعاءِ يوسُفَ، ودُعاءِ كُلِّ داعٍ مِن خَلقِه، العليمُ بمَطلبِه وحاجتِه وما يُصلِحُه، وبحاجةِ جميعِ خَلقِه وما يُصلِحُهم، ثمَّ ظهر للعزيزِ وأصحابِه- من بعدِ ما رأَوا الأدلَّةَ على براءةِ يوسُفَ وعِفَّتِه- أن يسجُنوه إلى مُدَّةٍ مِن الزَّمَن؛ لينقطِعَ بذلك الخبرُ، ويتناساه النَّاسُ.

تفسير الآيات:

 

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30).

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ.

أي: وقال نساءٌ في مدينة مصرَ: امرأةُ العزيزِ ذاتُ القَدرِ الكبيرِ تُراوِدُ غُلامَها عن نَفسِه، وتدعوه إلى مواقَعتِها

!

قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا.

أي: قد وصل حُبُّ فتاها إلى شَغافِ قَلبِها، وبلغ حبُّها له مبلغًا عظيمًا !

إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ.

أي: إنَّا لنرى امرأةَ العزيزِ في خطأٍ واضحٍ في مُراودتِها فتاها، وحُبِّها له .

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31).

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ.

أي: فلمَّا سَمِعَت امرأةُ العزيزِ مقالةَ النِّساءِ اللاتي تكلَّمْنَ عن مراوَدتِها يوسُفَ، وشِدَّةِ حُبِّها له، أرسلَتْ إليهنَّ تدعوهنَّ إلى بَيتِها؛ لتُضيفَهُنَّ .

وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً.

القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التفسيرِ:

في قوله: مُتَّكَأً قراءتان:

1- مُتَّكًا: مشددُ التاءِ دونَ همزٍ، وفيها وجهان: أحدهما: أن يكونَ أصلُه مُتَّكَأً كالقراءةِ الأُخرَى، وإنما خُفِّفَ همزُه. والثاني: أن يكونَ مُفْتَعَلًا، مِن: أوكَيْتُ القِرْبةَ إذا شَدَدْتَ فاها بالوِكاءِ، فالمعنى: أَعْتَدَتْ شيئًا يَشْتَدِدْنَ عليه: إمَّا بالاتِّكاءِ، وإمَّا بالقطعِ بالسِّكِّينِ .

2- مُتَّكَأً: والمتَّكأُ الشيءُ الذي يُتَّكَأُ عليه من وسادةٍ ونحوها. وقيل: المتكأ: مكان الاتِّكاء. وقيل غيرُ ذلك .

وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً.

أي: وهيَّأت لهنَّ مجلِسًا يتَّكِئنَ عليه، مِن الوسائدِ والفُرُشِ .

وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا.

أي: وأعطَتْ كلَّ واحدةٍ مِن النِّساءِ اللَّاتي حَضَرنَ مَجلِسَها سِكِّينًا؛ لتُقَطِّعَ به ما يحتاجُ إلى تقطيعٍ مِن الطَّعامِ .

وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ.

أي: وقالت ليوسُفَ: اخرُجْ على هؤلاءِ النِّسوةِ .

فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ.

أي: فخرج يوسفُ عليهنَّ، فلمَّا رأى النِّسوةُ يوسُفَ أعظَمْنَ جمالَه، وأجلَلْنَ قَدْرَه .

وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.

أي: وجَرَحنَ أيديَهنَّ بالسَّكاكينِ، وهُنَّ يَحسَبنَ أنَّهنَّ يُقَطِّعنَ الطَّعامَ؛ لدَهشتِهنَّ بما رأينَ مِن جمالِ يوسُفَ .

وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ.

أي: وقالت النِّسوةُ: مَعاذَ اللهِ، وتنزيهًا له .

مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ.

أي: ما هذا مِن البشَرِ، ما هو إلَّا ملَكٌ مِن الملائكةِ، كريمٌ على اللهِ .

عن أنسِ بنِ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه، في حديثِ الإسراءِ والمِعراجِ الطَّويلِ: قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((ثمَّ عُرِجَ بي إلى السَّماءِ الثَّالثة، فاستفتَحَ جبريلُ، فقيل: من أنت؟ قال: جبريلُ، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِح لنا، فإذا أنا بيوسُفَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذا هو قد أُعطِيَ شَطرَ الحُسنِ، فرَحَّبَ ودعا لي بخ يرٍ)) .

قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32).

قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ.

أي: قالت امرأةُ العزيزِ للنِّسوةِ لَمَّا رأت افتِتانَهنَّ بيوسُفَ: فهذا الذي أصابَكنَّ حين نظرتنَّ إليه ما أصابكُنَّ؛ مِن الذهولِ وغيابِ العقل، حتَّى قطَّعتنَّ أيديَكنَّ- هو الفتَى الذي لُمتُنَّني في الافتتانِ به، وعيَّرتُموني في مُراودتي له، وحُبِّي إيَّاه !

وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ.

مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:

لمَّا تَقَرَّرَ عِندهُنَّ جَمالُ يُوسُف الظَّاهِر، وأَعْجَبَهُنَّ غايَة، وظَهَرَ مِنهُنَّ مِن العُذْرِ لِامْرَأَةِ العزيز شَيْءٌ كَثيرٌ -أَرادَت أن تُرِيهنَّ جَمالَه الباطِنَ بالعِفَّةِ التَّامَّة، فقالت :

وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ.

أي: ولقد راوَدْتُ يوسُفَ عن نَفسِه فدَعوتُه إلى الفاحشةِ، فامتنَعَ .

وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ.

أي: وَلَئِن لم يفعَلْ يوسُفُ ما آمُرُه به ليُلقَيَنَّ في السِّجنِ، ولَيكونَنْ من الأذلَّاءِ المُهانِينَ .

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا عَلِمَ يوسُفُ أنَّ القُوَّةَ البشَريَّةَ والطَّاقةَ الإنسانيَّةَ لا تفي بحُصولِ هذه العِصمةِ القَويَّة، فعند هذا التجأ يوسُفُ عليه السَّلامُ إلى الله تعالى .

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.

أي: قال يوسُفُ مُتضَرِّعًا إلى الله: يا ربِّ، دخُولي السِّجنَ، وتحمُّلُ مَشاقِّه أفضَلُ لديَّ وأهوَنُ ممَّا يَدعونَني إليه مِن مَعصيتِك، ويُراوِدنَني عليه مِن الفاحِشةِ .

وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ.

أي: وإنْ لم تدفَعْ عنِّي كيدَ أولئك النِّسوةِ أمِلْ إليهنَّ لضَعفي، وأُتابِعْهنَّ على ما يُرِدْنَ منِّي، وأكُنْ من الجاهلينَ بحقِّك، المُخالفينَ لأمرِك ونَهيِك، فاعصِمْني، ولا تَكِلْني إلى نَفسي .

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34).

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ.

أي: فاستجاب اللهُ ليوسُفَ دُعاءَه، فدفع عنه ما أرادَت منه امرأةُ العزيزِ وصواحِباتُها مِن معصيةِ الله .

إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

أي: إنَّ اللهَ هو السَّميعُ لدُعاءِ يوسُفَ حين دعاه، ويسمَعُ كُلَّ داعٍ مِن خَلقِه، العليمُ بمَكرِ النِّسوةِ، وبنِيَّةِ يوسُفَ وحاجتِه وبما يُصلِحُه، ويعلمُ جميعَ أحوالِ عبادِه .

ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35).

أي: ثمَّ ظهَر للعزيزِ وأصحابِه من بعدِ ما رأَوُا الأدلَّةَ المُبَرِّئةَ ليوسُفَ أنَّ المصلَحةَ في إيداعِه السِّجنَ مدَّةً مِن الزَّمَن

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ الله تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا فيه الحذَرُ مِن المحبَّةِ التي يُخشى ضَررُها؛ فإنَّ امرأةَ العزيزِ جرى منها ما جرى، بسبَبِ توحُّدِها بيوسُفَ، وحُبِّها الشَّديدِ له، الذي ما ترَكَها حتى راودَتْه تلك المُراوَدةَ، ثمَّ كذَبَت عليه، فسُجِنَ بسَبَبِها مدَّةً طويلةً

.

2- قولُ الله تعالى: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ هكذا ينبغي للعبدِ إذا ابتُلِيَ بين أمرينِ: إمَّا فِعلِ مَعصيةٍ، وإمَّا عُقوبةٍ دُنيويَّةٍ، أن يختارَ العُقوبةَ الدُّنيويَّةَ على مواقَعةِ الذَّنبِ المُوجِبِ للعُقوبةِ الشَّديدةِ في الدُّنيا والآخرةِ؛ ولهذا مِن علاماتِ الإيمانِ: أن يكرهَ العبدُ أن يعودَ في الكُفرِ بعد أن أنقَذَه اللهُ منه، كما يكرَهُ أن يُلقى في النَّارِ .

3- قال اللَّهُ تعالى: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، مَن احْتَمَل الهَوانَ والأذَى في طاعَةِ اللَّهِ على الكَرامَةِ والعِزِّ في مَعْصيةِ اللَّهِ-كما فَعَل يُوسفُ عليه السَّلامُ وغيرُه مِنَ الأنبياءِ والصَّالحينَ- كانتِ العاقِبةُ له في الدُّنيا والآخرةِ، وكان ما حَصَل له مِنَ الأذَى قد انقَلَب نَعيمًا وسُرورًا، كما أنَّ ما يحصُلُ لأربابِ الذُّنوبِ مِنَ التَّنعُّمِ بالذُّنوبِ ينقَلِبُ حُزْنًا وثُبورًا .

4- ينبغي للعبدِ أن يلتجئَ إلى اللهِ، ويحتميَ بحِماه عند وجودِ أسبابِ المَعصيةِ، ويتبَرَّأَ مِن حولِه وقُوَّتِه؛ لقولِ يوسُفَ عليه السَّلامُ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ .

5- قال الله تعالى عن يوسُفَ: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ فاختار السِّجنَ على الفاحِشةِ، ثمَّ تبرَّأ إلى اللهِ مِن حَولِه وقُوَّتِه، وأخبَرَ أنَّ ذلك ليس إلَّا بمعونةِ اللهِ له وتوفيقِه وتأييدِه لا مِن نَفسِه، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فلا يركَن العبدُ إلى نفسِه وصَبرِه وحالِه وعِفَّتِه، ومتى ركنَ إلى ذلك تخلَّت عنه عِصمةُ اللهِ، وأحاط به الخِذلانُ؛ وقد قال اللهُ تعالى لأكرمِ الخَلقِ عليه وأحبِّهِم إليه، صلَّى الله عليه وسلَّم: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا الإسراء: 74، فكيف بمن يُعرِّضُ نفسَه للفتنةِ بالخلوةِ أو المخالطةِ للأجنبياتِ أو بالسفرِ إلى بلادٍ تكثرُ فيها الفتنُ، ويزعمُ أنَّه واثقٌ مِن نفسِه.

6- الجَهلُ- كما يُطلَقُ على عدمِ العِلمِ- يُطلَقُ على عدَمِ الحِلمِ، وعلى ارتكابِ الذَّنبِ؛ لِقَولِه تعالى: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ، وقوله: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ يوسف: 89 ليس المعنى في ذلك عدَمَ العِلمِ، وإنَّما هو عدمُ العمَلِ به، واقتحامُ الذُّنوبِ، ومنه قولُ موسى صلَّى الله عليه وسلَّم: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ البقرة: 67، وقولُه تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ النساء: 17، وكلُّ من عصى الله فهو جاهِلٌ باعتبارِ عدمِ العمَلِ بالعِلمِ؛ لأنَّ العِلمَ الحقيقيَّ ما زال الجهلُ به، وأوجَبَ العملَ .

7- ابْتُلِي يُوسُف عليه السَّلامُ بِأَمْرٍ لا يَصبِر عليه إلَّا مَن صَبَّرَهُ الله، فإنَّ مُواقَعَة الفِعْل بِحَسْبِ قُوَّةِ الدَّاعِي وزَوالِ المانِع، وكان الدَّاعي هاهنا في غايَةِ القُوَّة، وذلك مِن وُجوهٍ:

أَحَدُها: ما رَكَّبَهُ الله سُبحانه في طبعِ الرَّجُلِ مِن ميلِه إلى المرأَةِ.

الثَّاني: أنَّ يُوسُفَ عليه السَّلامُ كان شَابًّا، وشهوةُ الشَّبابِ وَحِدَّتُه أقوَى.

الثَّالِث: أنَّه كان عَزَبًا، ليس له زَوجَة ولا سُرِّيَّة تَكْسرُ شِدَّةَ الشَّهوةِ.

الرَّابِع: أنَّه كان في بِلادِ غُرْبَةٍ، يَتَأَتَّى للغَريبِ فيها مِن قَضاءِ الوَطَرِ ما لا يَتَأَتَّى له في وطنِه وبينَ أهلِه ومَعارِفِه.

الخامِس: أنَّ المَرأةَ كانت ذاتَ مَنْصِبٍ وجَمالٍ، بحيث إنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن هَذينِ الأَمرَينِ يَدعو إلى مُواقعتِها.

السَّادِس: أنَّها طَلَبَت وأَرادَت وبَذَلت الجهدَ، فكَفَتْه مُؤْنةَ الطَّلَبِ وذُلَّ الرَّغبةِ إليها؛ بل كانت هي الرَّاغبةَ الذَّليلةَ، وهو العَزيزُ المَرغوبُ إليه.

السَّابِع: أنَّه في دارِها، وتحت سُلطانِها وقَهْرِها، بحيثُ يخشَى إن لم يُطاوِعْها مِن أذاها له، فاجْتَمَع داعي الرَّغبةِ والرَّهبةِ.

الثَّامِن: أنَّه لا يخشَى أن تَنُمَّ عليه هي، ولا أحدٌ مِن جِهَتِها، فإنَّها هي الطَّالِبَةُ الرَّاغبةُ، وقد غَلَّقَت الأَبوابَ، وغَيَّبَت الرُّقَباء.

التَّاسِع: أنَّه كان في الظَّاهِر مَمْلوكًا لها في الدَّار، بحيث يَدخُل ويَخرُج ويَحْضُر معها ولا يُنْكَر عليه، وكان الأُنْسُ سابِقًا على الطَّلَب وهو مِن أَقوَى الدَّواعِي.

العاشِر: أنَّها اسْتَعانَت عليه بأئمَّةِ المكرِ والاحتيالِ، فأَرَتْه إيَّاهنَّ، وشَكَتْ حالَها إليهنَّ؛ لتستعينَ بهنَّ عليه.

الحادي عَشَر: أنَّها تَوعَّدَتْه بالسَّجنِ والصَّغارِ، وهذا نَوعُ إكراهٍ، إذ هو تهديدُ مَن يَغْلِبُ على الظَّنِّ وُقوعُ ما هَدَّدَ به.

الثَّاني عَشَر: أنَّ الزَّوجَ لم يُظهِرْ مِن الغَيرةِ والنَّخْوةِ ما يُفَرِّقُ به بينَهما، ويُبْعِدُ كُلًّا منهما عن صاحبِه؛ بل كان غايةُ ما قابَلَها به أن قال لِيُوسُف: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وللمرأةِ: واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئِينَ، وشِدَّةُ الغَيْرَةِ للرَّجُل مِن أَقوَى المَوانِع، وهنا لم تَظْهَرْ منه غَيرةٌ.

ومع هذه الدَّواعِي كُلِّها فآثَر مَرضاةَ الله وخَوفَه، وحَمَله حُبُّه لله على أن اخْتار السِّجنَ على الزِّنا: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وعَلِمَ أنَّه لا يَطيقُ صَرْفَ ذلك عن نَفسِه، وأنَّ رَبَّه تعالى إن لم يعصِمْه، ويصرِفْ عنه كيدَهنَّ؛ صَبَا إليهِنَّ بطبعِه، وكان مِن الجاهِلينَ، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ، وهذا مِن كمالِ معرفتِه برَبِّه وبنفسِه .

8- قَولُه تعالى على لسانِ يوسُفَ: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ أَحَبُّ هنا ليسَتْ على بابها من التفضيلِ؛ لأنَّه لم يحِبَّ ما يدعونَه إليه قطُّ، وإنَّما هذان شَرَّان، فآثرَ أحدَ الشَّرَّينِ على الآخرِ، وإن كان في أحدِهما مَشقَّةٌ وفي الآخر لذَّةٌ، لكنْ لِمَا يترتَّبُ على تلك اللذَّةِ مِن معصيةِ اللهِ وسُوءِ العاقبة، لم يخطُرْ له ببالٍ، ولِمَا في الآخَرِ مِن احتمالِ المشقَّةِ في ذاتِ الله، والصَّبرِ على النَّوائب، وانتظارِ الفرَجِ، والحضورِ مع الله تعالى في كلِّ وقتٍ داعيًا له في تخليصِه- آثَرَه، ثمَّ ناط العِصمةَ بالله، واستسلمَ لله كعادةِ الأنبياءِ والصَّالحينَ، وأنَّه تعالى لا يَصرِفُ السُّوءَ إلَّا هو .

9- في قولِه تعالى عن يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ طَلَبُ سؤالِ اللهِ ودُعائِه أنْ يُثَبِّتَ القلبَ على دينِه، ويصرِفَه إلى طاعتِه، وإلَّا فإذا لم يُثَبِّتِ القلبَ صَبَا إلى الآمِرينَ بالذُّنوبِ، وصارَ مِن الجاهلين .

10- قولُ الله تعالى: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فيه أنَّ العِلمَ والعَقلَ يدعُوانِ صاحِبَهما إلى الخيرِ، ويَنهَيانِه عن الشَّرِّ، وأنَّ الجَهلَ يدعو صاحِبَه إلى مُوافَقةِ هوى النَّفسِ، وإن كان معصيةً ضارًّا لصاحِبِه .

11- قال اللَّهُ تعالى: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فإنَّ هذا جَهْلٌ؛ لأنَّه آثَرَ لذَّةً قَليلَةً مُنَغَّصَةً على لذَّاتٍ مُتَتابِعاتٍ، وشَهَواتٍ مُتَنَوِّعاتٍ في جنَّاتِ النَّعيمِ، ومَن آثَرَ هذا على هذا فمَنْ أجْهَلُ منه؟! فإنَّ العلمَ والعقلَ يدعو إلى تقديمِ أعظمِ المصلحتينِ وأعظمِ اللَّذَّتينِ، ويُؤثرُ ما كان محمودَ العاقبةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ، قوله: فَتَاهَا إضافتُه إلى ضميرِ امرأةِ العزيزِ؛ لأنَّه غلامُ زوجِها، فهو غلامٌ لها بالتبعِ، ما دامتْ زوجةً لمالكِه

.

2- في قولِه تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ إنْ قيل: فما كان مَكرُ النِّسوةِ اللَّاتي مكَرْنَ به، وسمِعَت به امرأةُ العزيزِ؛ فإنَّ اللهَ سُبحانه لم يقُصَّه في كتابِه؟

قيل: بلى، قد أشارَ إليه بقَولِه: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

وهذا الكلامُ متضَمِّنٌ لوجوهٍ مِن المَكرِ:

أحدها: قولُهنَّ: امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا ولم يُسَمُّوها باسمِها، بل ذكَرُوها بالوَصفِ الذي يُنادي عليها بقبيحِ فِعلِها؛ بكَونِها ذاتَ بَعْلٍ، فصُدورُ الفاحشةِ منها أقبَحُ مِن صُدورِها ممَّن لا زوجَ لها.

الثاني: أنَّ زَوجَها عزيزُ مِصرَ ورئيسُها وكبيرُها، وذلك أقبحُ لوقوعِ الفاحشةِ منها.

الثالث: أنَّ الذي تُراوِدُه مملوكٌ لا حُرٌّ، وذلك أبلغُ في القبح.

الرابع: أنَّه فتاها الذي هو في بيتِها وتحت كَنَفِها، فحُكمُه حُكمُ أهلِ البيتِ، بخلافِ مَن طلب ذلك مِن الأجنبيِّ البعيدِ.

الخامس: أنَّها هي المُراوِدةُ الطَّالبةُ.

السادس: أنَّها قد بلغ بها عِشقُها له كلَّ مَبلغٍ، حتى وصل حُبُّها له إلى شَغافِ قَلبِها.

السابع: أنَّ في ضِمنِ هذا أنَّه أعَفُّ منها وأبَرُّ وأوفى؛ حيث كانت هي المُراوِدةَ الطَّالبةَ، وهو المُمتنِعَ؛ عَفافًا وكَرَمًا وحَياءً، وهذا غايةُ الذَّمِّ لها.

الثامن: أنهنَّ أتينَ بفِعلِ المُراوَدةِ بصيغةِ المُستقبَلِ الدَّالَّةِ على الاستمرارِ والوُقوعِ حالًا واستقبالًا، وأنَّ هذا شأنُها، ولم يقُلْنَ: راودَت فتاها. وفَرقٌ بين قولك: فلانٌ أضاف ضيفًا، وفلانٌ يَقري الضَّيفَ، ويُطعِمُ الطَّعامَ، ويَحمِلُ الكَلَّ؛ فإنَّ هذا يدُلُّ على أنَّ هذا شأنُه وعادتُه.

التاسع: قولُهنَّ: إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، أي: إنَّا لَنستقبِحُ منها ذلك غايةَ الاستقباحِ، فنَسَبنَ الاستقباحَ إليها، ومِن شأنهنَّ مُساعدةُ بعضِهنَّ بعضًا على الهوى، ولا يَكَدْنَ يرَينَ ذلك قبيحًا، كما يساعِدُ الرِّجالُ بعضُهم بعضًا على ذلك؛ فحيث استقبحْنَ منها ذلك كان هذا دليلًا على أنَّه من أقبحِ الأمورِ، وأنَّه ممَّا لا ينبغي أن تُساعَدَ عليه، ولا يَحسُنُ مُعاونتُها عليه.

العاشر: أنهنَّ جَمَعْن لها في هذا الكلامِ واللَّومِ بين العِشقِ المُفرِط، والطَّلبِ المُفرِط، فلم تقتَصِدْ في حُبِّها، ولا في طَلَبِها؛ أمَّا العِشقُ فقولُهنَّ: قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا، أي: وصل حُبُّه إلى شَغافِ قَلبِها، وأمَّا الطَّلَبُ المُفرِطُ فقَولُهنَّ: تُرَاوِدُ فَتَاهَا، والمُراودةُ: الطَّلَبُ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ، فنَسَبوها إلى شِدَّةِ العِشقِ، وشِدَّةِ الحِرصِ على الفاحِشةِ، فلمَّا سَمِعَت بهذا المكرِ منهنَّ هيَّأتْ لهنَّ مكرًا أبلَغَ منه .

3- قولُ الله تعالى: قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ لَمَّا كان عَزمُها على السَّجنِ أقوى مِن العَزمِ على إيقاعِ الصَّغارِ به، أكَّدَتْه بالنُّونِ الثَّقيلةِ، فقالت: لَيُسْجَنَنَّ، وقالت: وَلَيَكُونًا بالنُّونِ الخفيفة مِنَ الصَّاغِرِينَ أي: الأذلَّاء. وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّ الزِّيادةَ في تأكيدِ السَّجنِ؛ لأنَّه يلزَمُ منه إبعادُه، وإبعادُ الحبيبِ أولى بالإنكارِ مِن إهانتِه .

4- قولُ الله تعالى: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فيه دليلٌ على أنَّ المؤمِنَ إذا ارتكبَ ذَنبًا، يرتكِبُه عن جَهالةٍ .

5- في قولِه تعالى عن يوسف: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ* فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ رَدٌّ على المعتزلة والجَهميَّة فيما يزعمونَ أنَّ الإنسانَ مالِكُ نفسِه؛ لا يحتاجُ إلى عصمة ربِّه عن المعاصي؛ فهذا نبيُّ اللهِ يوسفُ صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو بصرفِ كيدِهِنَّ عنه؛ عِلمًا منه أنَّ العِصمةَ هي التي تُنجيه، وتُحولُ بينه وبينَ المعصيةِ، فأخبر اللهُ عن إجابةِ دعوتِه؛ وصَرَفَ عنه كيدَهنَّ .

6- قولُ الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ عطْفُ استجابةِ رَبِّه له، وصَرْفِ كيدِهنَّ عنه بالفاء الدالَّةِ على التَّعقيبِ، وتَعليلُها بأنَّها مقتضى كمالِ صِفتَي السَّمعِ والعِلم- دليلٌ على أنَّ رَبَّه تعالى لم يتخَلَّ عن عنايتِه بتربيتِه أقصَرَ زمَنٍ يهتَمُّ فيه بأمرِ نَفسِه ومُجاهدتِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

- قولُه: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ صرَّحَ النِّسوةُ بإضافتِها إلى العزيزِ؛ مُبالَغةً في التَّشنيعِ؛ لأنَّ النُّفوسَ أقبَلُ لِسَماعِ ذَوي الأخطارِ وما يَجْري لهم

.

- قولُه: تُرَاوِدُ فَتَاهَا فيه التَّعبيرُ بصِيغةِ المضارِعِ تُرَاوِدُ مع كَوْنِ المراوَدةِ مضَتْ؛ لِقَصْدِ استِحْضارِ الحالةِ العَجيبةِ؛ لِقَصدِ الإنكارِ عليها في أنفُسِهنَّ ولَوْمِها على صَنيعِها؛ وللدَّلالةِ على أنَّ ذلك صارَ سجيَّةً لها؛ تُخادِعُه دائمًا عن نفسِه .

- قولُه: فَتَاهَا في التَّعبيرِ عن يوسُفَ عليه السَّلامُ بذلك مُضافًا إليها لا إلى العزيزِ- الَّذي لا تَستلزِمُ الإضافةُ إليه الهوانَ، بل ربَّما يُشعِرُ بنوعِ عزَّةٍ-؛ لإبانةِ ما بينَهما مِن التَّبايُنِ البيِّنِ النَّاشئِ عن المالكيَّةِ والمملوكيَّةِ، وذلك للمُبالَغةِ والإشباعِ في اللَّومِ؛ فإنَّ مَن لا زوجَ لها مِن النِّساءِ، أو لها زوجٌ دَنيءٌ قد تُعذَرُ في مُراوَدةِ الأخدانِ لا سيَّما إذا كان فيهم عُلوُّ الجَنابِ، وأمَّا الَّتي لها زوجٌ وأيُّ زوجٍ! عزيزُ مِصرَ؛ فمُراوَدتُها لغَيرِه- لا سيَّما لِمَن لا كَفاءةَ بينَها وبينَه أصلًا، وتَماديها في ذلك- غايةُ الغيِّ، ونهايةُ الضَّلالِ .

- قولُه: قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا تكريرٌ للَّومِ، وتأكيدٌ للعَذْلِ ببَيانِ اختلالِ أحوالِها القَلبيَّةِ كأحوالِها القالَبيَّة .

- ولِمَا في قَدْ شَغَفَهَا مِن الإجمالِ جِيءَ بالتمييزِ للنِّسبةِ بقولِه: حُبًّا، وأصله: شغَفَها حبُّه، أي: أصاب حبُّه شغافَها، أي: اخترَقَ الشَّغافَ فبلَغَ القلبَ؛ كنايةً عن التمكُّنِ .

- قولُه: إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ جملةٌ مُقرِّرةٌ لِمَضمونِ الجُملتَين السَّابِقَتين المسوقَتَين لِلَّومِ والتَّشنيعِ، وتَسجيلٌ عليها بأنَّها في أمرِها على خطَأٍ عظيمٍ، وهي استئنافٌ ابتدائيٌّ لإظهارِ اللومِ والإنكارِ عليها. والتأكيدُ بـ (إنَّ) واللام؛ لتحقيقِ اعتقادهنَّ ذلك، وإبعادًا لتُهمتِهنَّ بأنهنَّ يَحسِدْنَها على ذلِك الفتى، وإنَّما لم يَقُلْن: (إنَّها لَفي ضَلالٍ مبينٍ)؛ إشعارًا بأنَّ ذلك الحُكْمَ غيرُ صادرٍ عنهنَّ مُجازَفةً، بل عن عِلمٍ ورأيٍ، مع التَّلويحِ بأنَّهنَّ مُتنزِّهاتٌ عن أمثالِ ما هي عليه .

2- قولُه تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ

- قولُه تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ: حَقُّ (سَمِع) أن يُعَدَّى إلى المسموعِ بنَفسِه، فتَعديَتُه بالباءِ هنا إمَّا لأنَّه ضُمِّن معنى أُخبِرَتْ، كقولِ المثَلِ: «تَسْمَعُ بالمعيديِّ خيرٌ مِن أن تَراه» أي تُخبَرُ عنه. وإمَّا أن تَكونَ الباءُ مَزِيدةً للتَّوكيدِ، مثلَ قولِه تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ المائدة: 6.

- قولُه: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ عَطفٌ على مُقدَّرٍ يَستَدْعيه الأمرُ بالخروجِ، ويَنسحِبُ عليه الكلامُ، والتَّقديرُ: فخرَج عليهِنَّ فرأَينَه، وإنَّما حُذِف تَحقيقًا لِمُفاجَأةِ رُؤيتِهنَّ، كأنَّها تَفوتُ عند ذِكرِ خُروجِه عليهِنَّ، وفيه إيذانٌ بسُرعةِ امتِثالِه عليه السَّلامُ بأمرِها فيما لا يُشاهِدُ مَضرَّتَه مِن الأفاعيلِ .

- قولُه: وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ في التَّعبيرِ عن الجَرْحِ بالقَطعِ دَلالةٌ على كَثرةِ جَرحِهنَّ، ومع ذلك لم يُبالينَ بذلك، ولم يَشعُرْنَ به ؛ فأطلق عليه القطعَ؛ للمبالغةِ في شِدَّتِه حتَّى كأنَّه قَطَع قطعةً مِن لحمِ اليدِ .

- قولُه: وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ اللَّامُ في لِلَّهِ للتَّعليلِ، أي: جانَبَ يوسُفُ المعصيَةَ لأجْلِ طاعةِ اللهِ ، وحَاشَ لِلَّهِ تركيبٌ عربيٌّ جرَى مجرَى المَثَل؛ يُرادُ منه إبطالُ شيءٍ عن شيءٍ وبراءتُه منه .

- وقولُهنَّ: مَا هَذَا بَشَرًا مُبالَغةٌ في فَوْتِه مَحاسِنَ البشَرِ، فمَعناه التَّفضيلُ في مَحاسِنِ البَشَرِ، وهو ضِدُّ معنى التَّشابُهِ في بابِ التَّشبيهِ، ثمَّ شبَّهنَه بواحِدٍ مِن الملائكةِ بطَريقةِ حَصْرِه في جِنْسِ الملائكةِ تَشْبيهًا بَليغًا مؤكَّدًا، وأُطلِقَ في الآيةِ اسْمُ الملَكِ على ما كانتْ حَقيقتُه مُماثِلةً لحقيقةِ مُسمَّى الملَكِ في اللُّغةِ العَرَبيَّةِ؛ تَقريبًا لأَفْهامِ السَّامِعين؛ فهذا التَّشْبيهُ مِن تَشبيهِ المحسوسِ بالمتخيَّلِ .

3- قولُه تعالى: قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ

- قولُه: قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ والإشارةُ بما يُشارُ به إلى البعيدِ في قولِها: فَذَلِكُنَّ، فلم تقُلْ: (فهذا)، مع قربِ المُشارِ إليه وحضورِه؛ رفعًا لمنزلتِه في الحُسنِ، واستبعادًا لمحلِّه فيه، وإشارةً إلى أنَّه لغرابتِه بعيدٌ أن يوجدَ مثلُه .

- وقولُها: فَاسْتَعْصَمَ قيل: إنَّه بناءُ مُبالَغةٍ يدُلُّ على الامتناعِ البليغِ، والتَّحفُّظِ الشَّديدِ، كأنَّه في عِصْمةٍ، وهو يَجتَهِدُ في الاستِزادةِ منها، كما في استَمسَك واستجمَع الرَّأيَ، وفيه بُرهانٌ نيِّرٌ على أنَّه لم يَصدُرْ عنه عليه السَّلامُ شيءٌ مُخِلٌّ باستعصامِه، والمعنى: أنَّه امتنَع امتِناعَ مَعصومٍ، أي: جاعِلًا المراوَدةَ خَطيئةً عصَم نفْسَه منها ، وقيل: بل اسْتَعْصَمَ موافِقٌ لاعتَصَم؛ فاستَفْعَل فيه مُوافِقٌ لافتَعَل، وهذا أجوَدُ مِن جَعْلِ استَفعَل فيه للطَّلبِ؛ لأنَّ اعتَصَم يَدُلُّ على وُجودِ اعتِصامِه، وطلَبُ العصمةِ لا يَدُلُّ على حُصولِها، وأمَّا أنَّه بِناءُ مُبالَغةٍ يَدُلُّ على الاجتهادِ في الاستزادةِ مِن العصمةِ، فلم يَذكُرِ التَّصريفيُّون هذا المعنى لاستَفعَل .

- قولُها: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ فيه التَّعبيرُ عن مُراوَدتِها بالأمرِ- وذلك في قولِها: آمُرُهُ-؛ إظهارًا لجرَيانِ حُكومتِها عليه، واقتِضاءً للامتثالِ بأمرِها .

- قولُه: لَيُسْجَنَنَّ فيه بناءُ الفعلِ للمفعولِ؛ جَريًا على رَسْمِ الملوكِ، أو إيهامًا لِسُرعةِ تَرتُّبِ ذلك على عدَمِ امتِثالِه لأمْرِها؛ كأنَّه لا يَدخُلُ بينَهما فِعلُ فاعِلٍ ، وأكَّدَت حُصولَ سَجْنِه بنُونَيِ التَّوكيدِ، وقد قالت ذلك بمَسمَعٍ منه إرهابًا له .

- قولُها: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ فيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيث لم يَذكُرْ هنا العذابَ الأليمَ الَّذي ذكَرَتْه في قولِها السَّابِقِ: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يوسف: 25؛ لأنَّها إذْ ذاك كانت في طَراوةِ غَيظِها، ومُتنصِّلةً مِن أنَّها هي الَّتي راوَدَتْه، فناسَب هناك التَّغليظُ بالعقوبةِ، وأمَّا هنا فإنَّها في طَماعيَةٍ ورَجاءٍ، وأقامَت عُذرَها عِندَ النِّسوةِ، فرَقَّت عليه، فتوَعَّدَتْه بالسَّجنِ .

4- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ

- قولُه: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ ما حُكي قَبْلَه مَقامُ شِدَّةٍ، مِن شأنِه أن يَسأَلَ سامِعُه عن حالِ تَلقِّي يوسُفَ عليه السَّلامُ فيه لِكَلامِ امرأةِ العزيزِ .

- وقولُه: السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ فيه الاقتصارُ على ذِكرِ السِّجنِ؛ لأنَّ الصَّغارَ مِن فُروعِه ومُستتبَعاتِه .

- وعبَّر عما عرَضتْه المرأةُ بالموصوليَّةِ مِمَّا يَدْعُونَنِي؛ لِمَا في الصِّلةِ من الإيماءِ إلى كونِ المطلوبِ حالةً هي مَظِنَّةُ الطواعيةِ؛ لأنَّ تَمالُؤَ الناسِ على طلبِ الشيءِ من شأنِه أن يُوطِّنَ نفسَ المطلوبِ للفِعلِ؛ فأظهرَ أنَّ تمالُؤَهنَّ على طَلَبهنَّ منه امتثالَ أمْرِ المرأةِ لم يَفُلَّ من صارمِ عزْمِه على الممانعةِ، وجعَل ذلك تمهيدًا لسُؤالِ العِصمةِ من الوُقوعِ في شَرَكِ كَيدِهنَّ؛ فانتقَلَ مِن ذِكر الرِّضا بوعيدِها إلى سؤالِ العِصمةِ مِن كيدِها .

- وأُسنِد فِعْلُ يَدْعُونَنِي إلى ضَميرِ جَمْعِ النِّساءِ (نونِ النِّسوةِ) مع أنَّ الَّتي دعَتْه امرأةٌ واحدةٌ؛ إمَّا لأنَّ تِلك الدَّعوَةِ مِن رَغَباتِ صِنْفِ النِّساءِ؛ فيَكونُ على وِزَانِ جَمْعِ الضَّميرِ في كَيْدَهُنَّ، وإمَّا لأنَّ النِّسوَةَ اللَّاتي جمَعَتْهنَّ امرأةُ العزيزِ لَمَّا سَمِعْن كلامَها تَمالَأْن على لَوْمِ يوسُفَ عليه السَّلامُ، وتَحريضِه على إجابةِ الدَّاعيَةِ، وتَحْذيرِه مِن وَعيدِها بالسِّجنِ ، وقيل: دعَوْنه إلى أنفُسِهنَّ .

- وجملةُ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ خبرٌ مُستعمَلٌ في التَّخوُّفِ والتَّوقُّعِ؛ الْتِجاءً إلى اللهِ ومُلازَمةً للأدَبِ نحوَ ربِّه؛ بالتَّبرُّؤِ مِن الحولِ والقوَّةِ، والخشيةِ مِن تَقلُّبِ القلبِ، ومِن الفتنةِ بالميلِ إلى اللَّذَّةِ الحرامِ؛ فالخبَرُ مُستعمَلٌ في الدُّعاءِ؛ ولذلك فرَّع عنه جُملةَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ .

- قولُه: أَصْبُ كلمةٌ مُشعِرةٌ بالمَيلِ فقَط، لا بمُباشَرةِ المعصيةِ .

5- قولُه تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

- قولُه: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فيه العطفُ بفاءِ التَّعقيبِ في قولِه: فَاسْتَجَابَ؛ إشارةً إلى أنَّ اللهَ عجَّل إجابةَ دُعائِه الَّذي تَضمَّنه قولُه: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ، وفي إسنادِ الاستجابةِ إلى الرَّبِّ مضافًا إلى يوسُفَ عليه السَّلامُ ما لا يَخفْى مِن إظهارِ اللُّطفِ .

- وجملةُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ في موضِعِ العِلَّةِ لقولِه: فَاسْتَجَابَ المعطوفِ بفاءِ التَّعقيبِ، أي: أجاب دُعاءَه بدُونِ مُهلَةٍ؛ لأنَّه سَريعُ الإجابةِ، وعليمٌ بالضَّمائرِ الخالصةِ

============================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (36-42)

ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ

غريب الكلمات:

 

مِلَّةَ: أي: دينَ، وطريقةَ، مشتقَّة من أَمْلَلْتُ (أي: أَمْلَيْتُ)؛ لأنَّها تُبنَى على مسموعٍ ومتلوٍّ؛ فإذا أُريدَ الدِّينُ باعتبارِ الدُّعاءِ إليه؛ قيل: (مِلَّة)، وإذا أُريدَ باعتبارِ الطَّاعةِ والانقيادِ له؛ قيل: (دين)

.

الْقَيِّمُ: أي: المستقيمُ الذي لا عِوجَ فيه، أو: القائمُ الدائمُ الذي لا يزولُ، وأصلُ (قوم): يدلُّ على مراعاةِ الشيءِ وحِفظِه .

بِضْعَ: البِضْعُ هو ما بينَ الثَّلاثِ إلى العَشرةِ ، وقيل غير ذلك، واشتقاقُه مِن (بَضَعْت) بمعنَى (قَطَعت)، ومعناه القطعةُ مِن العَدَدِ، وأصلُ (بضع): يدلُّ على طائفةٍ مِن الشَّيءِ عُضْوًا أو غيرَه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى أنَّ يوسفَ عليه السلامُ دخَل معه السجنَ فتيانِ، وأنَّ أحدَهما قال: إنِّي رأيتُ في المنامِ أنِّي أعصِرُ عِنبًا ليصيرَ خَمرًا، وقال الآخرُ: إنِّي رأيتُ أنِّي أحمِلُ فوقَ رأسي خُبزًا تأكلُ الطَّيرُ منه، أخبِرْنا- يا يوسُفُ- بتفسيرِ ما رأينا، إنَّا نراك من المحسنين. قال لهما يوسفُ: لا تريانِ في مَنامِكما طَعامٌ تُرزَقانِه إلَّا أخبَرتُكما بتفسيرِه في اليقَظةِ قبل أن يأتيَكما، ذلك التَّعبيرُ الذي سأعبِّرُه لكما ممَّا علَّمَني ربِّي؛ إنِّي آمنتُ به، وأخلصتُ له العبادةَ، وابتعدتُ عن دينِ قَومٍ لا يُؤمِنونَ بالله، وهم بالبَعثِ والحِسابِ جاحِدونَ، واتَّبَعتُ دينَ آبائي إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، فعبدتُ الله وَحدَه، ما كان لنا أن نجعلَ لله شريكًا في عبادتِه، ذلك التَّوحيدُ بإفرادِ اللهِ بالعبادةِ، ممَّا تفضَّلَ الله به علينا وعلى النَّاسِ الذين جعَلَنا دُعاةً لهم إلى توحيدِه، ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يشكُرونَ.

وقال يوسُفُ للفَتَيينِ اللَّذينِ معه في السِّجنِ: يا ساكِنَي السِّجنِ، أعبادةُ آلهةٍ مخلوقةٍ شَتَّى خيرٌ أم عبادةُ اللهِ الواحدِ القَّهارِ؟ ما تعبُدونَ مِن دونِ اللهِ إلَّا أسماءً لا معانيَ وراءَها، جعلتُموها أنتم وآباؤكم أربابًا، جهلًا منكم وضلالًا، ما أنزل اللهُ مِن حُجَّةٍ أو برهانٍ على صِحَّتِها، وما الحُكمُ إلَّا لله تعالى وَحدَه لا شريكَ له، أمَرَ ألَّا تعبُدوا أحدًا غيرَه، وهذا هو الدِّينُ القيِّمُ الذي لا عِوَجَ فيه، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ يجهَلون ذلك، فلا يعلمونَ حقيقتَه.

يا ساكِنَي السِّجنِ، إليكما تفسيرَ رُؤياكما: أمَّا أحدُكما فإنَّه يخرجُ مِن السِّجنِ، ويكونُ ساقيَ الخَمرِ للمَلِك، وأمَّا الآخَرُ فإنَّه يُصلَبُ ويُترَكُ، فتأكُلُ الطَّيرُ مِن رأسِه، قُضيَ الأمرُ الذي فيه تستفتيانِ وفُرِغَ منه، وقال يوسُفُ للذي علِمَ أنَّه ناجٍ من صاحِبَيه: اذكُرني عند سيِّدِك المَلِك، وأخبِرْه بأنِّي مظلومٌ، قد سُجِنْتُ بلا ذَنبٍ، فأنسَى الشَّيطانُ ذلك الرَّجُلَ أن يَذكُرَ للمَلِك حالَ يوسُفَ، فمكثَ يوسُفُ بعد ذلك في السِّجنِ عِدَّةَ سَنواتٍ.

تفسير الآيات:

 

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكرَ السِّجنَ وكان سببًا ظاهِرًا في الإهانةِ، شَرعَ سُبحانه يقُصُّ مِن أمْرِه فيه ما حاصِلُه أنَّه جعَلَه سببَ الكرامةِ، كلُّ ذلك بيانًا للغَلَبةِ على الأمرِ، والاتِّصافِ بصِفاتِ القَهرِ، مع ما في ذلك مِن بيانِ تحقُّقِ ما تقدَّمَ به الوعدُ الوفيُّ ليوسُفَ عليه السَّلامُ، وغير ذلك مِن الحِكَم

.

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ

أي: فسَجَنوا يوسُفَ، ودخل معه السِّجنَ شابَّانِ .

قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا.

أي: قال أحدُ الشَّابَّينِ ليوسُفَ: إنِّي رأيتُ في المنامِ أنِّي أعصِرُ عِنبًا .

وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ.

أي: وقال الشَّابُّ الآخَرُ ليوسُفَ: إنِّي رأيتُ في المنامِ أنِّي أحمِلُ على رأسي خُبزًا تنهَشُ الطَّيرُ منه .

نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ.

أي: أخبِرْنا بتفسيرِ ما رَأينا في منامِنا .

إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.

أي: إنَّا نراك من المُحسِنينَ ، فأحسِنْ إلينا بتعبيرِ رُؤيانا .

قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37).

مناسبةُ الآيةِ لما قبلَها:

لمَّا وصَفاه بالإحسانِ، ورأَى منهما ميلًا إليه، ووثاقًا به؛ أخَذ في استدراجِهما في التوحيدِ الذي هو المقصودُ الكليُّ مِن أصلِ التخليقِ، قبلَ الشُّروعِ في عبارةِ الرُّؤْيا .

قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا.

أي: قال يوسُفُ للشَّابَّينِ: لا تريانِ في مَنامِكما طعامًا يأتيكما إلَّا أخبرتُكما بتعبيرِه في اليَقَظةِ قبلَ أن يقعَ .

ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي.

أي: هذا العِلمُ بتعبيرِ الرُّؤى ممَّا علَّمَني ربِّي .

إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ.

أي: إنِّي تبرَّأتُ مِن مِلَّةِ الكُفَّارِ الذين لا يؤمِنونَ بالله وبوَحدانيَّتِه، ولا يُقِرُّونَ بالبعثِ ولا بالثَّوابِ والعِقابِ يومَ الحِسابِ .

وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38).

وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ.

أي: واتَّبعتُ دينَ آبائي الأنبياءِ؛ إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ- عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- الذين دعَوا إلى توحيدِ اللهِ .

عن أبي هُريرةَ رَضيَ الله عنه، قال: ((قيل يا رسولَ الله: من أكرَمُ النَّاسِ؟ قال: أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألُك، قال: فيوسُفُ نبيُّ اللهِ، ابنُ نبيِّ اللهِ، ابنِ نبيِّ اللهِ، ابنِ خَليلِ اللهِ )) .

مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ.

أي: ما ينبغي لنا أن نجعلَ لله شريكًا في عبادتِه وطاعتِه .

ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ.

أي: ذلك التَّوحيدُ- الذي أكرَمَنا اللهُ تعالى به- ممَّا تفضَّلَ به علينا، وعلى النَّاسِ الذين جعَلَنا دُعاةً لهم إلى توحيدِه وطاعتِه .

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَشكُرونَ نِعَمَ اللهِ عليهم، فيُؤْمِنونَ به ويُوحِّدونَه، ويعملونَ بما شرَعه لهم، بل يُشركونَ .

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما ذكَر ما هو عليه مِن الدينِ الحنيفيِّ؛ تلطَّف في حسنِ الاستدلالِ على فسادِ ما عليه قومُ الفتَيَينِ مِن عبادةِ الأصنامِ، فناداهما باسْمِ الصُّحبةِ في المكانِ الشَّاقِّ الَّذي تخلُصُ فِيه الموَدَّةُ، وتتمحَّضُ فيه النَّصيحَةُ، ثُمَّ أورَد الدَّلِيلَ على بُطلانِ مِلَّةِ قومِهِما ، فقال:

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39).

أي: قال يوسُفُ للشَّابَّينِ: يا ساكِنَيِ السِّجنِ ، أآلهةٌ شتَّى لا تنفَعُ ولا تضُرُّ خيرٌ، أم المعبودُ الواحِدُ الذي لا ثانيَ له في ذاته وصفاتِه وكمالِه، الذي قهرَ كلَّ شَيءٍ مِن خَلْقِه، المستحِقُّ للعبادةِ وَحدَه ؟!

مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40).

مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم.

أي: ما تعبُدونَ مِن دونِ اللهِ إلَّا أسماءً سمَّيتُموها آلهةً أنتم وآباؤُكم، واعتقَدتُم ألوهيَّتَها، وليست في الحقيقةِ بآلهةٍ تستَحِقُّ العبادةَ .

مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ.

أي: لم يُنزِل اللهُ أيَّ حُجَّةٍ تدُلُّ على ثبوتِ أسماءِ تلك الآلهةِ الباطلةِ، ولا على استحقاقِها للعبادةِ .

كما قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى النجم: 23.

إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ.

أي: ما الحُكمُ إلَّا للهِ المُستحِقِّ للعبادةِ دونَ ما سواه؛ فهو وحدَه الحاكِمُ بين عبادِه، المشَرِّعُ لهم .

كما قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ الأنعام: 57.

وقال سُبحانه: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا الكهف: 26.

أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ.

أي: أمَرَكم الله- أيُّها النَّاسُ جميعًا- ألَّا تعبُدُوا إلَّا اللهَ وحدَه، ولا تُشرِكوا به شيئًا .

ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.

أي: ذلك التَّوحيدُ وإخلاصُ العبادةِ لله وحدَه، هو الدِّينُ المُستقيمُ الذي أمرَ الله به عبادَه .

كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ البينة: 5.

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يعلمونَ أنَّ توحيدَ اللهِ هو الدِّينُ المُستقيمُ الذي أمَرَ اللهُ به عبادَه؛ فهم لجهلِهم يُشرِكونَ بالله .

كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ الروم: 30.

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41).

مناسبةُ الآيةِ لما قبلَها:

لَمَّا فرغَ يوسفُ عليه السلامُ مِن دَعوتِهما؛ شرعَ في تعبيرِ رُؤياهما ، فقال:

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا.

أي: قال يوسفُ عليه السلامُ للشَّابين اللذينِ سألاه تعبيرَ رُؤْياهما: يا ساكِنَيِ السِّجنِ، أمَّا أحَدُكما فإنَّه يخرجُ مِن السِّجنِ، ويَسقي سيِّدَه المَلِكَ خَمرًا .

وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ.

أي: وأمَّا الآخَرُ فإنَّه يُقتَلُ، ويُعلَّقُ على خشَبةٍ، فتأكلُ الطَّيرُ مِن لحمِ رأسِه وشَحمِه .

قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ.

أي: فُرِغَ من الأمرِ الذي تسألانِ عن تَعبيرِه، وهو واقعٌ لا محالةَ .

وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42).

وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ.

أي: وقال يوسُفُ لصاحِبِه الذي تيقَّنَ أنَّه سينجو من القتلِ، ويخرُجُ مِن السِّجنِ: اذكُرني عند سيِّدِك الملِك، وأخبِرْه بأنِّي مسجونٌ بلا ذنبٍ .

فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ.

أي: فأنسَى الشَّيطانُ الفَتى الذي خرجَ مِن السِّجنِ أن يَذكُرَ يوسُفَ عند المَلِك، كما أوصاه بذلك .

فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.

أي: فمكث يوسُفُ في الحبسِ مَظلومًا مَنسيًّا بضعَ سنينَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُ الله تعالى: قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي فيه أنَّ العالمَ إذا جُهِلَت منزِلتُه في العِلمِ، فوصفَ نفسَه بما هو بصَددِه- وغرَضُه أن يُقتبَسَ منه، ويُنتفَعَ به في الدِّينِ- لم يكُن من بابِ التَّزكيةِ

.

2- عنْ قتادةَ في قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ قال: (إنَّ المؤمنَ ليَشْكُرُ ما بِه مِن نِعمةِ اللَّهِ، ويَشْكُرُ ما في النَّاسِ مِن نِعمةِ اللَّهِ) .

3- قولُه تعالى: ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا فيه وُجوبُ الاعترافِ بنِعَمِ الله الدِّينيةِ والدُّنيوية؛ فهو الذي مَنَّ بالعافيةِ والرِّزقِ وتَوابِعِ ذلك، وهو الذي مَنَّ بنِعمةِ الإسلامِ والإيمانِ والطَّاعةِ وتوابِعِ ذلك، فعلى العبدِ أن يعترفَ بها بقَلبِه ويتحدَّثَ بها، ويستعينَ بها على طاعةِ المُنعِم .

4- قال الله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ من العجَبِ أنَّ هذه الحقيقةَ التي بيَّنَها القرآنُ في مئاتٍ مِن الآياتِ البيِّناتِ تُتلى في السُّوَر الكثيرةِ بالأساليبِ البليغة؛ صار يجهَلُها كثيرٌ مِن الذين يدَّعونَ اتِّباعَ القرآنِ؛ فمنهم من يجهَلُ حقيقةَ التوحيدِ نفسِه، فيتوجَّهونَ إلى غيرِ الله إذا مسَّهم الضرُّ أو عجزوا عن بعضِ ما يحبُّونَ مِن النَّفعِ، فيدعونَهم خاشعينَ راغبينَ مِن دونِ الله، ويُسمُّونَهم شُفَعاءَ ووسائلَ عند الله، كما كان يفعلُ من كان قبلَهم من المُشركين .

5- أنَّ الدِّينَ المُستقيمَ- الذي عليه جميعُ الرُّسُلِ وأتباعهم- هو عبادةُ اللهِ وَحدَه لا شريكَ له؛ لِقَولِه: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يوسف: 40، فهو الدِّينُ المستقيمُ، المقيمُ للعقائدِ والأخلاقِ والأعمالِ، الذي لا تستقيمُ أمورُ الدِّينِ والدُّنيا إلَّا به .

6- قولُ الله تعالى حكايةً عن يوسفَ عليه السلام: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فيه أنَّه كما على العبدِ عبوديَّةٌ لله في الرَّخاءِ، فعليه عبوديَّةٌ له في الشِّدَّةِ؛ فيوسفُ عليه السلامُ لم يزَلْ يدعو إلى اللهِ، فلمَّا دخلَ السِّجنَ استمَرَّ على ذلك، ودعا الفتَيَين إلى التَّوحيدِ، ونهاهما عن الشِّركِ، ومِن فِطنتِه عليه السَّلامُ أنَّه لَمَّا رأى فيهما قابليَّةً لدَعوتِه؛ حيث ظنَّا فيه الظَّنَّ الحسَنَ وقالا له: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وأتَياه ليُعبِّرَ لهما رُؤياهما، فرآهما متشَوِّفَينِ لتَعبيرِها عنده- رأى ذلك فرصةً فانتهَزَها، فدعاهما إلى اللهِ تعالى قبل أن يعبِّرَ رُؤياهما؛ ليكونَ أنجحَ لمقصودِه، وأقربَ لحُصولِ مَطلوبِه، وبيَّنَ لهما أوَّلًا أنَّ الذي أوصَلَه إلى الحالِ- التي رأيَاه فيها من الكَمالِ والعِلمِ- إيمانُه وتوحيدُه، وتركُه ملَّةَ مَن لا يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ، وهذا دعاءٌ لهما بالحالِ، ثمَّ دعاهما بالمقالِ، وبيَّنَ فسادَ الشِّركِ وبرهنَ عليه، وحقيقةَ التَّوحيدِ وبرهَنَ عليه .

7- قولُ الله تعالى حكايةً عن يوسفَ عليه السلام: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فأوردَ يوسفُ عليه السلامُ الدَّليلَ على بُطلانِ مِلَّةِ قَومِهما في صورةِ الاستفهامِ؛ حتى لا تنفِرَ طباعُهما من المفاجأةِ بالدَّليلِ مِن غير استفهامٍ، وهكذا الوجهُ في محاجَّةِ الجاهلِ؛ أن يُؤخَذَ بدرجةٍ يسيرةٍ مِن الاحتجاجِ يقبَلُها، فإذا قَبِلَها لَزِمته عنها درجةٌ أخرى فوقَها، ثمَّ كذلك إلى أن يصِلَ إلى الإذعانِ بالحَقِّ .

8- قولُه تعالى في دَعوةِ يُوسُفَ للتَّوحيدِ: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فيه الإرشادُ إلى طَريقٍ نافِعٍ مِن طُرُقِ الجِدالِ، والمقابلةِ بينَ الحَقِّ والباطِلِ، وهو بيانُ ما في الحَقِّ مِن الخيرِ والمنافِعِ العاجِلةِ والآجِلةِ، وما في الباطِلِ مِن ضِدِّ ذلك؛ قال تعالى في دعوةِ يوسُفَ للتوحيد: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فذكَرَ ما في الشِّركِ مِن القُبحِ وسُوءِ الحالِ، واتِّباعِ الظُّنونِ الباطِلةِ، وأنَّ كُلَّ طائفةٍ مِن طوائِفِ الشِّركِ لهم مَعبودٌ؛ إمَّا نارٌ أو صَنمٌ، أو قبرٌ أو مَيِّتٌ، أو غيرُ ذلك من المعبوداتِ المتفَرِّقةِ التي لا تَملِكُ لنَفسِها ولا لأهلِها نَفعًا ولا ضَرًّا، ولا مَوتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، وكلُّ طائفةٍ تُضَلِّلُ الأخرى، وكُلُّهم ضالُّونَ هالِكونَ، فهل هذه الأربابُ والمعبوداتُ خيرٌ أم اللهُ الواحِدُ القهَّارُ؟ فذكَرَ له ثلاثةَ أوصافٍ عامَّةٍ عَظيمةٍ:

الأوَّل: أنَّه اللهُ الذي له الأسماءُ والصِّفاتُ العُليا، ومنه النِّعَمُ كُلُّها، وبذلك استحَقَّ أن يكونَ اللهَ المألوهَ، إلهَ أهلِ الأرضِ وأهلِ السَّماءِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ الزخرف: 84.

الثَّاني: أنَّه الواحِدُ المتفَرِّدُ بكُلِّ صِفةِ كَمالٍ، المتوحِّدُ بنُعوتِ الجلالِ والجَمالِ، الذي لا شريكَ له في شَيءٍ مِن الأفعالِ.

الثَّالث: أنَّه القهَّارُ لكُلِّ شَيءٍ؛ فجميعُ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ كُلُّهم مقهورونَ بقُدرتِه، خاضِعونَ لعَظَمتِه، مُتذَلِّلونَ لعِزَّتِه وجَبَروتِه، فمَن هذه صِفاتُه العظيمةُ هو الذي لا تنبغي العبادةُ إلَّا له وحدَه، لا شريكَ له .

9- قال الله تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ... مِن فوائدِ هذه الآياتِ: أنَّه يُبدأُ بالأهَمِّ فالأهمِّ، وأنَّه إذا سُئِلَ المفتي- وكان السَّائِلُ حاجتُه في غيرِ سؤالِه أشَدُّ- أنَّه ينبغي له أن يُعلِّمَه ما يحتاجُ إليه قبل أن يجيبَ سؤالَه؛ فإنَّ هذا علامةٌ على نُصحِ المعَلِّم وفطنتِه، وحُسنِ إرشادِه وتَعليمِه؛ فإنَّ يوسُفَ لَمَّا سأله الفَتَيانِ عن الرُّؤيا قدَّمَ لهما قبل تعبيرِها دعوتَهما إلى اللهِ وحدَه لا شريكَ له، فقال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ... ، وهذه طريقةٌ على كُلِّ ذي عِلمٍ أن يسلُكَها، خاصةً مع الجُهَّال والفَسَقة إذا استفتاه واحدٌ منهم؛ أن يقَدِّمَ الهدايةَ والإرشادَ والمَوعِظةَ والنَّصيحةَ أوَّلًا، ويَدعوَه إلى ما هو أولى به وأوجَبُ عليه ممَّا استفتى فيه، ثمَّ يُفتيَه بعد ذلك

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ أصلٌ في عبارةِ الرُّؤيا

.

2- في قَولِه تعالى: ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إيذانٌ بأنَّ الله تعالى علَّمَه عُلومًا أُخرَى، وهي علومُ الشَّريعةِ والحِكمةِ، والاقتصادِ والأمانةِ .

3- إذا قيل: إنَّ قَولَ يوسفَ عليه السلامُ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ظاهِرُه أنَّ يوسفَ عليه السَّلامُ كان داخلًا في هذه الملَّةِ ثمَّ ترَكَها.

فالجوابُ عن ذلك من وجهينِ:

الأوَّل: أنَّ المُرادَ بِالتَّركِ هو عدمُ التَّلَبُّسِ بذلك مِن الأصلِ، لا أنَّه قد كان تَلَبَّس به، ثُمَّ تَرَكه، كما يَدُلُّ عليه قولُه: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ، فالتركُ كما يكونُ للداخلِ في شيءٍ، ثمَّ ينتقلُ عنه، يكونُ لمن لم يدخُلْ فيه أصلًا، وليس مِن شَرطِه أن يكونَ قد كان داخلًا فيه ثمَّ ترَكَه ورجَع عنه ، ويوسفُ عليه السلام لما كان على التَّوحيدِ والإيمانِ الصَّحيحِ؛ صحَّ قَولُه: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فترَكَ ملَّتَهم وأعرض عنهم، ولم يوافِقْهم على ما كانوا عليه .

الثاني: أنَّ يوسفَ عليه السَّلامُ كان عبدًا لهم بِحَسَبِ زعمِهم، واعتقادِهم الفاسدِ، ولعلَّه قبلَ ذلك كان لا يُظهِرُ التَّوحيدَ والإيمانَ؛ خوفًا منهم على سبيلِ التَّقِيَّةِ، ثُمَّ إنَّه أظهرَه في هذا الوقتِ، فكان هذا جاريًا مجرَى تركِ مِلَّةِ أولئكَ الكفرةِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ .

4- قولُه: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إنَّما قال يوسفُ عليه السَّلامُ ذلك؛ تَرغيبًا لِصاحِبَيه في الإيمانِ والتَّوحيدِ، وتَنفيرًا لهما عمَّا كانا عليه مِن الشِّركِ والضَّلالِ ، فذَكَر آباءَه؛ لِيُرِيَهما أنَّه مِن بيتِ النُّبوَّةِ؛ لِيُقوِّي رغبَتَهما في الاستماعِ إليه، واتِّباعِ قولِه .

5- لم يذكُرِ اللهُ تعالى جُحودَ الصَّانعِ إلَّا عن فرعونِ موسى، وأمَّا الذين كانوا في زمَنِ يوسُفَ، فالقرآنُ يدُلُّ على أنَّهم كانوا مقرِّينَ بالله وهم مُشرِكونَ به؛ ولهذا كان خِطابُ يوسُفَ للمَلِك وللعزيزِ ولهم يتضَمَّنُ الإقرارَ بوجودِ الصَّانعِ، كقوله: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ .

6- الحُكمُ لله وحدَه، ورسُلُه يبلِّغونَ عنه؛ فحُكمُهم حُكمُه، وأمرُهم أمرُه، وطاعتُهم طاعتُه، فما حكمَ به الرَّسولُ وأمَرَهم به وشرَعَه مِن الدِّينِ، وجبَ على جميعِ الخلائقِ اتِّباعُه وطاعتُه؛ فإنَّ ذلك هو حكمُ اللهِ على خَلقِه؛ قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وهذه القاعدةُ هي أساسُ دينِ الله تعالى على ألسنةِ جميعِ رسُلِه، لا تختلفُ باختلافِ الأزمِنةِ والأمكِنةِ .

7- لم يَكتَفِ يوسفُ عليه السَّلامُ بمجرَّدِ تأويلِ رُؤياهما مع أنَّ فيه دَلالةً على فَضلِه؛ لأنَّهما لَمَّا نعَتاه عليه السَّلامُ بالانتظامِ في سِمْطِ المحسِنين، وأنَّهما قد عَلِما ذلك حيث قالا: إنَّا نَراك مِن المحسِنين، تَوسَّم عليه السَّلامُ فيهما خيرًا، وتَوجُّهًا إلى قَبولِ الحقِّ، فأراد أن يَخرُجَ آثِرَ ذي أثيرٍ عمَّا في عُهدتِه مِن دعوةِ الخلقِ إلى الحقِّ، فمَهَّد قبلَ الخوضِ في ذلك مُقدِّمةً تَزيدُهما عِلمًا بعِظَمِ شأنِه، وثقةً بأمرِه، ووُقوفًا على عُلوِّ طبَقتِه في بَدائعِ العُلومِ؛ تَوسُّلًا بذلك إلى تحقيقِ ما يتَوخَّاه، وقد تَخلَّص إليها مِن كلامِهما .

8- قولُ الله تعالى: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ فيه أنَّ عِلمَ التَّعبيرِ مِن العُلومِ الشَّرعيَّة، وأنَّه يُثابُ الإنسانُ على تعلُّمِه وتعليمِه، وأنَّ تعبيرَ المَرائي داخِلٌ في الفتوَى؛ فلا يجوزُ الإقدامُ على تعبيرِ الرُّؤيا من غيرِ عِلمٍ .

9- قولُ الله تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فيه أنَّ من وقع في مكروهٍ وشِدَّةٍ، لا بأس أن يستعينَ بمن له قدرةٌ على تخليصِه، أو الإخبارِ بحالِه، وأنَّ هذا لا يكونُ شكوى للمخلوقِ؛ فإنَّ هذا من الأمورِ العاديَّةِ التي جرى العُرفُ باستعانةِ النَّاسِ بعضِهم ببعضٍ .

10- في قَولِه تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ دليلٌ على جوازِ إطلاقِ اسمِ (الربِّ)- مع الإضافةِ- على غيرِ الله تعالى، وكذا قولُه تعالى: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، أمَّا بلا إضافةٍ فلا يجوزُ إطلاقُه إلَّا على اللهِ فقط .

11- في قَولِه تعالى: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ إشارةٌ إلى أنَّ نسيانَ الخيرِ يكونُ مِن الشَّيطانِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

- قولُه: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ فيه تأخيرُ الفاعلِ عن المفعولِ؛ للاهتمامِ بالمقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ؛ ليَتمكَّنَ عند النَّفسِ حينَ وُرودِه عليها فضلَ تمكُّنٍ

.

- قولُه: قَالَ أَحَدُهُمَا استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالِ مَن يقولُ: ما صَنَعا بعدَما دخَلا معه السِّجنَ؟ فأُجيبَ بأنَّه: قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي .

- قولُه: إِنِّي أَرَانِي فيه التَّعبيرُ بالمضارِعِ أَرَانِي دون الماضي (رَأيتُني)؛ لاستِحْضارِ الصُّورةِ الماضيَةِ .

- قولُه: أَعْصِرُ خَمْرًا يَعني عِنَبًا؛ ففيه تَسْميةُ الشَّيءِ بما يَؤُولُ إليه؛ لِكَونِه المقصودَ مِن العَصْرِ .

- قولُه: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ فيه إجراءُ الضَّميرِ مَجرى اسمِ الإشارةِ (ذلك)؛ فإنَّ اسمَ الإشارةِ يُشارُ به إلى مُتعدِّدٍ، والسِّرُّ في المصيرِ إلى إجراءِ الضَّميرِ مَجرى اسمِ الإشارةِ مع أنَّه لا حاجةَ إليه بعدَ تأويلِ المرجِعِ بما ذُكِر أو بما رُئي: أنَّ الضَّميرَ إنَّما يتَعرَّضُ لنفسِ المرجعِ مِن حيثُ هو مِن غيرِ تعرُّضٍ لحالٍ مِن أحوالِه؛ فلا يتَسنَّى تأويلُه بأحَدِ الاعتبارَينِ إلَّا بإجرائِه مَجرى اسمِ الإشارةِ الَّذي يدُلُّ على المشارِ إليه بالاعتبارِ الَّذي جَرى عليه في الكلامِ .

- قولُه: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ تعليلٌ للمُستفادِ مِن نَبِّئْنَا وهو عَرْضُ رُؤْياهما عليه، واستِفْسارُها منه عليه السَّلامُ .

2- قولُه تعالى: قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ

- قولُه: قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا... هذه الجملةُ جوابٌ عن كلامِهما؛ ففُصِلتْ- أي: لم تُعطَفْ على التي قبلَها- على أسلوبِ حِكايةِ جُمَلِ التَّحاوُرِ .

- وقولُه: لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ... فيه تَخصيصُ الطَّعامِ بالذِّكرِ؛ لكونِه عَريقًا في ذلك بحسَبِ الحالِ، مع ما فيه مِن مُراعاةِ حُسنِ التَّخلُّصِ إليه ممَّا استَعبَراه مِن الرُّؤيَيَيْنِ المتعلِّقتَين بالشَّرابِ والطَّعامِ .

- قولُه: ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ما في اسْمِ الإشارةِ ذَلِكُمَا مِن مَعنى البُعدِ؛ للإشارةِ إلى عُلوِّ درَجتِه، وبُعدِ مَنزلتِه .

- وجُملةُ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ تعليلٌ لِمَا قبْلَها، أي: علَّمَني ذلك؛ لأنِّي ترَكتُ مِلَّةَ أولئك ، فأخْبَر بأنَّ سَببَ عِنايةِ اللهِ به أنَّه انفرَدَ في ذلك المكانِ بتَوحيدِ اللهِ، وترْكِ مِلَّةِ أهلِ المدينةِ، فأرادَ الله اختيارَه لدَيهم .

- قولُه: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فيه التَّعبيرُ عن كُفرِهم باللهِ تعالى بسَلبِ الإيمانِ به؛ للتَّنصيصِ على أنَّ عِبادتَهم له تعالى مع عِبادةِ الأوثانِ ليسَت بإيمانٍ به تعالى، كما هو زَعمُهم الباطلُ .

- قولُه: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ فيه تَكْرارُ هُمْ على سَبيلِ التَّوكيدِ، وحَسَّن ذلك الفَصْلُ ؛ وقيل: للدَّلالةِ على أنَّهم خُصوصًا كافِرون بالآخرةِ، وأنَّ غيرَهم كانوا قومًا مؤمِنين بها، وهم الَّذين على مِلَّةِ إبراهيمَ .

3- قولُه تعالى: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ

- قُدِّم ذِكرُ تَركِه لمِلَّتِهم على ذِكرِ اتِّباعِه لملَّةِ آبائِه؛ لأنَّ التَّخلِيَةَ متقدِّمةٌ على التَّحليةِ .

- وجملةُ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ في قوَّةِ البيانِ لِمَا اقتَضَتْه جُملَةُ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي مِن كَونِ التَّوحيدِ صار كالسَّجيَّةِ لهم؛ عُرِف بها أسلافُه بينَ الأممِ، وعَرَّفهم بها لِنَفْسِه في هذه الفرصةِ .

- وصيغةُ الجُحودِ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ تَدُلُّ على المبالَغةِ في انتفاءِ الوصفِ عن الموصوفِ .

- و(مِن) في قولِه: مِنْ شَيْءٍ لتأكيدِ النَّفيِ، وأُدخِلتْ على المقصودِ بالنَّفيِ .

- وجملةُ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا زيادةٌ في الاستئنافِ والبيانِ؛ لقصدِ الترغيبِ في اتِّباعِ دِينِ التَّوحيدِ بأنَّه فضلٌ .

- قولُه: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ فيه وضْعُ الظَّاهِرِ مَوضِعَ الضَّميرِ الرَّاجِعِ إلى النَّاسِ- حيث لم يَقُلْ: (أَكْثرَهم)-؛ لزيادةِ توضيحٍ وبَيانٍ، ولِقَطعِ تَوهُّمِ رُجوعِه إلى المجموعِ الموهِمِ لعدَمِ اختِصاصِ غيرِ الشَّاكرِ بالنَّاسِ .

4- قولُه تعالى: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ

- قولُه: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ناداهُما بعُنوانِ الصُّحبَةِ؛ ليُقْبِلا عليه ويَقْبَلا مَقالَتَه - وذلك على أحدِ وَجْهي التفسيرِ- والجملةُ استئنافٌ ابتدائيٌّ، مصدَّرةٌ بتوجيهِ الخطابِ إلى الفَتَيَيْنِ بطَريقِ النِّداءِ المستَرعِي سَمْعَهما إلى ما يَقولُه؛ للاهتمامِ به .

- قولُه: أَأَرْبابٌ فيه استفهامٌ تقريريٌّ؛ أراد به تَقْريرَهما بإبطالِ دينِهِما .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، فإنَّه لما قال: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ، قابَل تَفرُّقَ أربابِهم بقولِه: الْوَاحِدُ، وجاء بصِفةِ القهَّارُ؛ تَنبيهًا على أنَّه تعالى له هذا الوصفُ الَّذي مَعناه الغَلَبةُ والقُدرةُ التَّامَّةُ، وإعلامًا بعُرُوِّ أصنامِهم عن هذا الوصفِ الَّذي لا يَنبَغي أن يُعبَدَ إلَّا المتَّصِفُ به .

5- قولُه تعالى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

- قولُه: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا فيه قَصْرٌ إضافيٌّ، ومعنى قَصْرِها على أنَّها أسماءٌ، أنَّها أسماءٌ لا مُسمَّياتِ لها؛ فليس لها في الوجودِ إلَّا أسماؤُها .

- وفي قولِه: سَمَّيْتُمُوهَا لم يَذكُرِ المسمَّياتِ؛ تربيةً لِمَا يقتَضيه المقامُ من إسقاطِها عن مَرتَبةِ الوُجودِ، وإيذانًا بأنَّ تَسميَتَهم في البُطلانِ حيث كانت بلا مُسمًّى، كعِبادتِهم حيث كان بلا مَعبودٍ .

- قولُه: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فيه كنايةٌ عن بُطْلانِها؛ إذ إنزالُ السُّلطانِ كنايةٌ عن إيجادِ دَليلِ إلهيَّتِها في شَواهِدِ العالَمِ، وليس ثَمَّةَ سُلطانٌ مُنزَّلٌ مِن اللهِ تعالى .

- وجملةُ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ انتقالٌ مِن أدلَّةِ إثباتِ انْفِرادِ اللهِ تعالى بالإلهيَّةِ إلى التَّعليمِ بامْتِثالِ أمْرِه ونَهْيِه؛ لأنَّ ذلك نتيجةُ إثباتِ الإلهيَّةِ والوَحْدانيَّةِ له؛ فهي بيانٌ لجُملَةِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ مِن حيث ما فيها مِن مَعْنى الحُكمِ .

- وجملةُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ خُلاصةٌ لِما تَقدَّم مِن الاستدلالِ، أي: ذلك الدِّينُ لا غَيرُه ممَّا أنتُم عليه وغيرُكم، وهو بمنزلةِ رَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ؛ لقولِه: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ .

6- قولُه تعالى: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ

- قوله: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ فيه افتتاحُ خِطابِهما بالنِّداءِ؛ اهتمامًا بما يُلقِيه إليهما مِن التعبيرِ، وخاطبَهما بوصْفِ صاحبي السِّجنِ أيضًا .

- قولُه: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ، إنَّما أخبَرَهما عليه السَّلامُ بذلك تَحقيقًا لِتَعبيرِه وتأكيدًا له. وفيه التَّعبيرُ عمَّا رَأَيَاه مِن الرُّؤيَيَيْنِ بالأمرِ، وعن طلَبِ تَأويلِه بالاستفتاءِ؛ تَهويلًا لأمرِه، وتفخيمًا لشأنِه؛ إذِ الاستفتاءُ إنَّما يَكونُ في النَّوازِلِ المشْكِلَةِ الحُكمِ، المبهَمَةِ الجوابِ، ووحَّد الأمرَ مع تَعدُّدِ رُؤياهما؛ لأنَّه وارِدٌ على حسَبِ ما وحَّدَه في قولِهما: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ .

- وفيه أيضًا إيثارُ صيغةِ الاستِقْبالِ تَسْتَفْتِيَانِ مع سَبْقِ استفتائِهما في ذلك؛ لأنَّهما بصَددِه إلى أن يَقضيَ عليه السَّلامُ مِن الجوابِ وَطَرَه .

7- قولُه تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ

- قولُه: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ، فيه إيثارُ التَّعبيرِ بهذا عن صيغةِ المضارعِ (أنَّه سيَنجو)؛ مبالَغةً في الدَّلالةِ على تحقُّقِ النَّجاةِ حسَبما يُفيدُه قولُه تعالى: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ، وهو السِّرُّ في إيثارِ ما عليهِ النَّظمُ الكريمُ، على أن يُقالَ: (للَّذي ظنَّه ناجيًا)، وإنَّما ذُكِر بوَصْفِ النَّجاةِ؛ تمهيدًا لِمَناطِ التَّوصيَةِ بالذِّكرِ عند الملِكِ

=========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (43-49)

ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ

غريب الكلمات:

 

عِجَافٌ: أي: مَهازيلُ في غايةِ الضَّعفِ والهُزالِ، وأصلُ (عجف): يدلُّ على هُزالٍ

.

تَعْبُرُونَ: أي: تفَسِّرونُ، والتَّعبيرُ: تفسيرُ ما تدُلُّ عليه الرُّؤيا، وتأويلُ إشاراتِها ورُموزِها، وأصلُ (عبر): يدلُّ على النُّفوذِ والمُضيِّ في الشَّيءِ .

أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ: أي: أخلاطُ أحلامٍ، لا تأويلَ لها، وأصلُ (ضغث): يدلُّ على التِباسِ الشَّيءِ بعضِه ببعضٍ، والأحلامُ جمعُ حُلْمٍ، وهو ما يراه الإنسانُ في نومِه .

وَادَّكَرَ: أي: تَذكَّرَ، وأصلُ (ذكر): يدلُّ على خِلافِ النِّسيانِ .

أُمَّةٍ: أي: حِينٍ ومُدَّةٍ منَ الدَّهرِ، وأصلُ إطلاقِ الأُمَّةِ على المُدَّةِ الطويلةِ هو أنَّها زمَنٌ ينقَرِضُ في مِثلِه جِيلٌ، والِجيلُ يُسمَّى أُمَّةً .

دَأَبًا: أي: مُلازَمةً لعادتِكم في الزِّراعةِ، والدَّأبُ: العادةُ والمُلازَمةُ، وأصلُ (دأب): يدُلُّ على مُلازمةٍ ودَوامٍ .

تُحْصِنُونَ: أي: تدَّخِرونَ وتَخزِنونَ، والإحصان: الإحرازُ، وهو إلقاءُ الشَّيءِ فيما هو كالحِصنِ- وهو الحِرزُ والمَلجأُ، وأصلُ (حصن): يدُلُّ على الحِفظِ والحِياطةِ والحِرْزِ .

يُغَاثُ: أي: يُمطَرُ؛ مِن الغَيثِ: وهو المَطَرُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: وقال مَلِكُ مصرَ: إنِّي رأيتُ في منامي سبعَ بقَراتٍ سِمانٍ، يأكُلُهنَّ سَبعُ بقَراتٍ نَحيلاتٍ مِن الهُزالِ، ورأيتُ سبعَ سُنبُلاتٍ خُضرٍ، وسَبعَ سُنبُلاتٍ يابساتٍ، يا أيُّها الأشرافُ والكُبَراءُ أخبِروني عن هذه الرُّؤيا، إن كنتُم على علمٍ بتفسيرِ الرُّؤى، قالوا: رؤياك هذه أخلاطُ أحلامٍ لا تأويلَ لها، وما نحن بتفسيرِ الأحلامِ المختلطةِ بعالِمينَ، وقال الذي نجا من الفَتيَينِ اللَّذينِ كانا في السِّجنِ معَ يُوسفَ، وتذكَّرَ بعدَ مُدَّةٍ ما نَسيَ مِن أمرِ يوسُفَ، قال: أنا أُخبِرُكم بتأويلِ هذه الرُّؤيا، فابعَثوني إلى يوسُفَ المسجونِ؛ لآتيَكم بتفسيرِها، وعندما وصل الرَّجُلُ إلى يوسُفَ قال له: يوسُفُ أيُّها الصِّدِّيقُ فسِّرْ لنا رؤيا مَن رأى سبعَ بقراتٍ سِمانٍ يأكلُهنَّ سَبعُ بقَراتٍ هَزيلاتٍ، ورأى سبعَ سُنبُلاتٍ خُضرٍ وأُخَرَ يابساتٍ؛ لعلِّي أرجِعُ إلى المَلِك وأصحابِه فأُخبِرُهم؛ لِيعلموا تأويلَ ما سألتُك عنه، ولِيعلَموا مكانتَك وفَضلَك.

قال يوسُفُ لسائِلِه عن رُؤيا المَلِك: تفسيرُ هذه الرُّؤيا: أنَّكم تزرعونَ سبعَ سِنينَ مُتتابِعةً جادِّينَ ليَكْثُرَ العَطاءُ، فما حصدتُم منه في كلِّ مرَّةٍ فادَّخِروه واترُكوه في سُنبُله؛ ؛ لئلَّا يَفْسُدَ، إلَّا قليلًا ممَّا تأكُلونَه من الحُبوبِ، ثمَّ يأتي بعد هذه السِّنينَ الخِصْبةِ سبعُ سنينَ شديدةُ الجَدْبِ، يُؤكَلُ فيهنَّ كلُّ ما ادَّخَرتُم لهنَّ مِن قَبلُ، إلَّا قليلًا ممَّا تَحفَظونَه وتدَّخِرونَه، ثمَّ يأتي مِن بعدِ هذه السِّنينَ المُجدِبةِ عامٌ يُمطَرُ فيه النَّاسُ، فيرفَعُ اللهُ تعالى عنهم الشِّدَّةَ، ويَعصِرونَ فيه الثِّمارَ؛ مِن كثرةِ الخِصْبِ والنَّماءِ.

تفسير الآيات:

 

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا بطلَ السَّببُ الذي أمَرَ به يوسُفُ عليه السَّلامُ- وهو تذكيرُ السَّاقي به- أثار اللهُ سُبحانه سَببًا يُنفَّذُ به ما أراد مِن رئاستِه

.

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ.

أي: وقال مَلِكُ مِصرَ لجُلَسائِه: إنِّي رأيتُ في المنامِ سبعَ بقَراتٍ سِمانٍ يأكُلُهنَّ سبعُ بقراتٍ هَزْلى !

وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ.

أي: ورأيتُ في منامي سبعَ سُنبُلاتٍ خُضرٍ، وسبعَ سُنبُلاتٍ أُخرَى يابسة !

يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ.

أي: قال المَلِكُ لِمن حَولَه: يا أيُّها الأشرافُ، أخبِروني بتفسيرِ رُؤياي إن كنتُم على عِلمٍ ودرايةٍ بذلك .

قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44).

قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ.

أي: قال الأشرافُ للمَلِك: رُؤياك هذه ليسَت بشيءٍ، إنَّما هي أخلاطُ أحلامٍ، لا حقيقةَ لها .

وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ.

أي: ولَسْنا على علمٍ بتفسيرِ الأحلامِ المُختلِطةِ .

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45).

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ.

أي: وقال الذي نجا من الفَتيَينِ اللَّذينِ كانا في السِّجنِ معَ يُوسفَ، وتذكَّرَ بعدَ مُدَّةٍ مِن الزَّمنِ ما كان من شأنِ يوسُفَ مِن عِلمِه بتعبيرِ الرُّؤى، وما أوصاه به مِن ذِكرِ أمْرِه عند سَيِّدِه المَلِك .

أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ.

أي: أنا أُخبِرُكم بتأويلِ رُؤيا المَلِك، فابعَثوني أذهَبْ إلى يوسُفَ المَسجونِ؛ لأسألَه تَعبيرَها .

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46).

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ.

أي: فأرسَلوه إليه، فقال له: يا يوسُفَ، يا كثيرَ الصِّدقِ في أقوالِك وأفعالِك، أخبِرْنا بتعبيرِ رُؤيا سبعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يأكُلُهنَّ سبعُ بقراتٍ هَزْلى، وسَبعِ سُنبُلاتٍ خُضرٍ، وسَبعِ سُنبُلاتٍ أخرى يابسةٍ .

لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ.

أي: فسِّرْ هذه الرُّؤيا؛ لَعلِّي أرجِعُ إلى المَلِك وجُلَسائِه لِيَعلَموا تعبيرَها، ويَعلَموا عِلمَك وفَضلَك، فتخرُجَ مِن السِّجنِ .

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47).

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا.

أي: قال يوسُفُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مُفَسِّرًا رُؤيا المَلِك: تَزرعونَ سَبعَ سَنواتٍ خِصبةٍ مُتَتابعةٍ، على عادتِكم في الزِّراعةِ .

فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ.

أي: اترُكوا محصولَ زَرعِكم في سُنبُلِه؛ لئلَّا يَفْسُدَ، وكُلوا منه قليلًا بقَدرِ حاجتِكم، وادَّخِروا أكثَرَ مَحصولِكم .

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48).

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ.

أي: ثمَّ يجيءُ مِن بعدِ السِّنينَ السَّبعِ الخِصبةِ سَبعُ سَنواتٍ شَديدةِ الجَدبِ، يُؤكَلُ فيهنَّ جميعُ ما ادَّخَرتُم لأجلِهنَّ مِن مَحصولِ زَرعِكم في السنين السبعِ الخصبةِ، إلَّا قليلًا منه يبقَى في حِرزِه .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعو في القُنوتِ: اللهُمَّ أنجِ سَلَمةَ بنَ هِشامٍ، اللهمَّ أنجِ الوليدَ بنَ الوَليدِ، اللهمَّ أنجِ عيَّاشَ بنَ أبي ربيعةَ، اللهُمَّ أنجِ المُستَضعفينَ مِن المُؤمنينَ، اللهمَّ اشدُدْ وطأتَك على مُضَرَ، اللهمَّ سِنينَ كَسِنِي يوسُفَ ) .

وعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ فَقَالَ: ((إنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا رأَى مِنَ النَّاسِ إدبارًا قال: اللَّهُمَّ سَبْعٌ كسَبْعِ يُوسُفَ )) .

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49).

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ.

أي: ثمَّ يجيءُ مِن بعدِ سَبعِ السَّنواتِ المُجدِبةِ عامٌ يُمطِرُ اللهُ فيه النَّاسَ الأمطارَ الكثيرةَ .

وَفِيهِ يَعْصِرُونَ.

أي: وفي ذلك العامِ يَعصِرُ النَّاسُ الأعنابَ والدُّهنَ وغيرَ ذلك

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ الله تعالى: قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ هذا جَزمٌ منهم بما لا يَعلَمونَ، وتعَذُّرٌ منهم بما ليس بعُذرٍ، فجمَعوا بين الجهلِ والجَزمِ بأنَّها أضغاثُ أحلامٍ، والإعجابِ بالنَّفسِ، بحيث إنَّهم لم يقولوا: لا نعلَمُ تأويلَها، وهذا من الأمورِ التي لا تنبغي لأهلِ الدِّينِ والحِجا

.

2- قال الله تعالى: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا هذا يدُلُّ على أنَّ من أراد أن يتعلَّمَ مِن رجلٍ شَيئًا، فإنَّه يجِبُ عليه أن يُعظِّمَه، وأن يُخاطِبَه بالألفاظِ المُشعِرةِ بالإجلالِ .

3- ينبغي للمَسؤولِ أن يدُلَّ السَّائلَ على أمرٍ ينفَعُه ممَّا يتعلَّقُ بسُؤالِه، ويُرشِدُه إلى الطَّريقِ التي ينتَفِعُ بها في دينِه ودُنياه؛ فإنَّ هذا مِن كمالِ نُصحِه وفِطنتِه، وحُسنِ إرشادِه؛ فإنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ لم يقتصِرْ على تعبيرِ رُؤيا المَلِك، بل دلَّهم مع ذلك على ما يصنعونَ في تلك السِّنينَ المُخصِباتِ مِن كثرةِ الزَّرعِ، وكَثرةِ جِبايتِه، فقال: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ .

4- ينبغي ويتأكَّدُ على المعَلِّم استعمالُ الإخلاصِ التامِّ في تعليمِه، وألَّا يجعَلَ تعليمَه وسيلةً لمعاوَضةِ أحدٍ في مالٍ أو جاهٍ أو نفعٍ، وألَّا يمتنِعَ مِن التَّعليم، أو لا ينصَح فيه، إذا لم يَفعَل السائلُ ما كلَّفَه به المعلِّمُ؛ فإنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ وصَّى أحدَ الفَتَيينِ أن يذكُرَه عند ربِّه؛ قال تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فلم يذكُرْه ونَسِيَ، فلمَّا بدَت حاجتُهم إلى سؤالِ يوسُفَ أرسَلوا ذلك الفتى، وجاءه سائلًا مُستفتيًا عن تلك الرُّؤيا قائلًا: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فلم يعَنِّفْه يوسفُ ولا وبَّخَه لِتَركِه ذِكرَه، بل أجابه عن سؤالِه جوابًا تامًّا مِن كلِّ وَجهٍ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا...

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- اللهُ سُبحانه وتعالى إذا أراد شيئًا هيَّأَ له أسبابًا، ولَمَّا دنا فرَجُ يوسُفَ عليه السَّلامُ، رأى مَلِكُ مصرَ في النَّومِ تلك الرُّؤيا

.

2- قَولُ الله تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ... هذه الآيةُ مِن أُصولِ التَّعبيرِ .

3- قولُ الله تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ... فيه صِحَّةُ رُؤيا الكافرِ .

4- قولُ الله تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ فيه جوازُ تَسميةِ الكافرِ مَلِكًا .

5- قولُ الله تعالى: قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ فيه أنَّ مَن قال: إنَّ الرُّؤيا لأوَّلِ عابرٍ، ليس عامًّا في كلِّ رُؤيا؛ لأنَّهم قالوا: أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ولم تَسقُطْ بقَولِهم ذلك، فتُخَصُّ تلك القاعدةُ بما يَحتمِلُ مِن الرُّؤيا وُجوهًا فيُعبَّرُ بأحدِها فتقَعُ عليه .

6- قولُ الله تعالى: قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ هذا مِن لُطفِ اللهِ بيوسُفَ عليه السَّلامُ؛ فإنَّه لو عبَّرَها ابتداءً- قبل أن يَعرِضَها المَلِكُ على الملأِ مِن قَومِه وعُلمائِهم فيَعجِزوا عنها- لم يكن لها ذلك الموقِعُ، ولكِنْ لَمَّا عرَضَها عليهم فعَجَزوا عن الجوابِ، وكان المَلِكُ مهتَمًّا لها، فعبَّرَها يوسُفُ- وقَعَت عندهم موقعًا عظيمًا .

7- قال الله تعالى: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا إنَّما وصفَه بالصِّدِّيقِ- وهو المُبالِغُ في الصِّدقِ- لأنَّه جرَّبَ أحوالَه، وعرَفَ صِدقَه في تأويلِ رُؤياه ورُؤيا صاحِبِه .

8- قوله: أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ أي: في تأويلِ رؤيا ذلك، ولم يُغيِّرْ لفظَ الملكِ؛ لأنَّ التعبيرَ يكونُ على وَفْقِه، كما بيَّنوه .

9- قال الله تعالى حاكيًا عن يوسفَ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ أشار إلى إبقاءِ ما فضَل عن أقواتِهم في سنبلِه؛ ليكونَ أسلمَ له من إصابةِ السوسِ الذي يصيبُ الحبَّ إذا تراكَم بعضُه على بعضٍ، فإذا كان في سنبلِه دفَع عنه السوسَ .

10- قولُ الله تعالى: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ هذه الآيةُ أصلٌ في القَولِ بالمصالحِ الشَّرعيَّةِ- التي هي حِفظُ الأديانِ والنُّفوسِ، والعُقولِ والأنسابِ والأموالِ- فكُلُّ ما تضمَّنَ تحصيلَ شَيءٍ من هذه الأمورِ فهو مصلحةٌ، وكلُّ ما يُفوِّتُ شيئًا منها فهو مَفسَدةٌ، ودَفعُه مصلحةٌ، ولا خِلافَ أنَّ مقصودَ الشَّرائعِ إرشادُ النَّاسِ إلى مصالحِهم الدُّنيويَّةِ؛ ليحصُلَ لهم التمَكُّنُ مِن معرفةِ الله تعالى وعبادتِه المُوصِلَتينِ إلى السَّعادةِ الأُخرويَّة، ومراعاةُ ذلك فضلٌ مِن اللهِ- عزَّ وجَلَّ- ورحمةٌ .

11- قَولُ الله تعالى: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ فيه أنَّ جِبايةَ الأرزاقِ- إذا أُريدَ بها التَّوسِعةُ على النَّاسِ مِن غيرِ ضَررٍ يَلحَقُهم- لا بأسَ بها؛ لأنَّ يوسُفَ أمَرَهم بجِبايةِ الأرزاقِ والأطعِمةِ في السِّنينَ المُخصِباتِ؛ للاستعدادِ للسِّنينَ المُجدِبة، وأنَّ هذا غيرُ مُناقِضٍ للتوكُّلِ على اللهِ، بل يتوكَّلُ العَبدُ على اللهِ ويعمَلُ بالأسبابِ التي تنفَعُه في دِينِه ودُنياه .

12- قولُ الله تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ هذا زيادةٌ على ما وقعَ السُّؤالُ عنه، فيُستدَلُّ به على أنَّه لا بأسَ بذلك في تعبيرِ الرُّؤيا والفتوى .

13- قولُ الله تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ أحكامُ هذا العامِ المبارَكِ ليست مُستنبَطةً مِن رؤيا الملِكِ وإنَّما تلَقَّاها عليه السَّلامُ مِن جهةِ الوحيِ، على أحدِ القولينِ، فبشَّرهم بها بعدَما أوَّلَ الرُّؤيا بما أوَّلَ، وأمرَهم بالتَّدبيرِ اللَّائقِ في شأنِه؛ إبانةً لِعُلوِّ كَعبِه ورُسوخِ قَدمِه في الفضلِ، وأنَّه مُحيطٌ بما لَمْ يَخطُرْ ببالِ أحدٍ، فضلًا عمَّا يُرى صورتُه في المنامِ على نحوِ قولِه لِصاحِبَيهِ عندَ استِفْتائِهما في مَنامِهما: لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا يوسف: 37، وإتمامًا للنِّعمةِ عليه حيث لم يُشارِكْه عليه السَّلامُ في العِلمِ بوُقوعها أحدٌ، ولو برؤيةِ ما يَدُلُّ عليها في المنامِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ

- قولُه: إِنِّي أَرَى، أي: (رَأيتُ)، وإيثارُ صيغةِ المضارِعِ لحِكايةِ الحالِ الماضيةِ

.

- قولُه: يَأْكُلُهُنَّ فيه العُدولُ إلى صيغةِ المضارعِ؛ لاستِحْضارِ الصُّورةِ؛ تعجُّبًا .

- وبينَ سِمَانٍ وعِجَافٌ مُزاوَجةٌ بَلاغيَّةٌ حسَنةٌ؛ ذلك أنَّ عِجَافٌ جَمعُ عَجْفاءَ، والقياسُ في جَمْعِ عَجْفاءَ (عُجْفٌ)، لكنَّه صِيغَ هنا بوَزنِ فِعَالٍ؛ لِمُزاوَجةِ (سِمَانٍ) .

- وفي قولِه: سَبْعٌ عِجَافٌ مناسَبةٌ حسنةٌ، حيث لم يَقُل: (سبعُ عِجافٍ) بالإضافةِ؛ لأنَّ التَّمييزَ موضوعٌ لبيانِ الجنسِ، والصِّفةُ ليست بصالحةٍ؛ لذلك فلا يُقالُ: ثلاثةُ ضِخامٍ وأربعةُ غِلاظٍ، وأمَّا قولُك: ثلاثةُ فُرسانٍ وخمسةُ رُكبانٍ؛ فلِجَرَيانِ الفارسِ والرَّاكبِ مَجرى الأسماءِ .

- قولُه: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ فيه التَّعبيرُ عن التَّعبيرِ بالإفتاءِ؛ لِتَشريفِهم، وتَفخيمِ أمرِ رؤياه .

- قولُه: إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ فيه الجمعُ بينَ الماضِي والمستقبَلِ؛ للدَّلالةِ على الاستمرارِ، واللَّامُ في لِلرُّؤْيَا للبيانِ، أو لتقويةِ العاملِ المؤخَّرِ لرعايةِ الفواصِلِ، أو لِتَضمينِ تَعْبُرُونَ معنى فِعلٍ متعَدٍّ باللَّامِ، كأنَّه قيل: (إن كُنتم تَنتدِبون لعِبارتِها) .

- وتَقديمُ لِلرُّؤيَا على عاملِه وهو تَعْبُرونَ؛ للرِّعايةِ على الفاصلةِ مع الاهتمامِ بالرُّؤيا في التَّعبيرِ .

- قولُه: قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ استئنافٌ مبنيٌّ على السُّؤالِ؛ كأنَّه قيل: فماذا قال الملَأُ للمَلِكِ؟ فقيل: قالوا: هي أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ .

- وجمَعوا الأحلامَ وهي رُؤيا واحدةٌ؛ مُبالَغةً في وصفِها بالبُطلانِ، كما في قولِهم: فلانٌ يَركَبُ الخيلَ، ويَلبَسُ العَمائمَ، لِمَن لا يَملِكُ إلَّا فرَسًا واحدًا، وعِمامةً فَرْدةً؛ تَزيُّدًا في الوصفِ، فهؤلاء أيضًا تَزيَّدوا في وصْفِ الحُلمِ بالبطلانِ، فجعَلوه أضغاثَ أحلامٍ. أو جمَعوها لِتَضمُّنِها أشياءَ مُختلِفةً مِن البقَراتِ السَّبعِ السِّمانِ والسَّبعِ العِجافِ، والسَّنابلِ السَّبعِ الخُضرِ والأُخَرِ اليابساتِ. وقيل: ويجوزُ أن يكونَ قد قَصَّ عليهم مع هذه الرُّؤيا رُؤيا غيرَها .

- جملةُ: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ فيها ابتداءُ الكَلامِ بضَميرِ السَّاقي أَنَا، وجَعَله مُسنَدًا إليه؛ وجَعَل خبَرَه فِعليًّا أُنَبِّئُكُمْ؛ لِقَصدِ استِجْلابِ تَعجُّبِ الملِكِ مِن أن يَكونَ السَّاقي يُنبِّئُ بتَأويلِ رُؤيا استَعْصَت على عُلماءِ بَلاطِ الملِكِ، مع إفادةِ تَقَوِّي الحُكْمِ، وهو إنباؤُه إيَّاهم بتَأويلِها .

- وضمائِرُ جمْعِ المخاطَبِ في أُنَبِّئُكُمْ فَأَرْسِلُونِ مُخاطَبٌ بها الملِكُ على وجْهِ التَّعظيمِ .

- وقولُه أيضًا: فَأَرْسِلُونَ فيه حذفُ المعمولِ؛ حيثُ لم يُسمِّ لهم المُرسَلَ إليه؛ لأنَّه أراد أنْ يُفاجِئَهم بخبرِ يُوسُفَ عليه السَّلامُ بعدَ حُصولِ تَعبيرِه؛ ليكونَ أوقعَ؛ إذ ليس مِثلُه مَظِنَّةَ أنْ يكونَ بينَ المساجِينِ .

2- قولُه تعالى: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ

- قولُه: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ مِن بابِ بَراعةِ الاستِهْلالِ؛ حيث وصَفه بالمبالَغةِ في الصِّدقِ حسَبَما شاهَده وذاق أحوالَه وجرَّبَها، وتَعرَّف صِدقَه في تأويلِ رُؤياه ورُؤيا صاحبِه، حيث جاء كما أوَّلَ؛ لِكَونِه بصَدَدِ اغتنامِ آثارِه، واقتباسِ أنوارِه .

- قولُه: أَفْتِنَا فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ حيث قال: أَفْتِنَا، ولم يَقُلْ كما قال هو وصاحبُه أوَّلًا: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ؛ لأنَّه عايَنَ عُلوَّ رُتبتِه عليه السَّلامُ في الفضلِ، فعبَّر عن ذلك بالإفتاءِ، وأيضًا في قولِه: أَفْتِنَا مع أنَّه المستفتي وحْدَه إشعارٌ بأنَّ الرُّؤيا ليسَت له، بل لِغَيرِه ممَّن له مُلابَسةٌ بأمورِ العامَّةِ، وأنَّه في ذلك مَعْبرٌ وسَفيرٌ .

- وكلَّمَه كلامَ مُحترِزٍ فقال: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، ولم يَبُتَّ القولَ في ذلك مُجاراةً معه على نَهجِ الأدبِ، واحترازًا عن المجازفةِ؛ لأنَّه ليس على يقينٍ مِن الرُّجوعِ؛ فربَّما اختُرِم دونَه، ولا مِن عِلمِهم؛ فرُبَّما لم يَعلَموا، أو معنى لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ لعلَّهم يعلَمون فضْلَك ومَكانَك مِن العلمِ، فيَطلُبوك، ويُخلِّصوك مِن مِحنتِك .

- قولُه: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (لعلَّ) كالتَّعليلِ لقولِه: أَفْتِنَا .

3- قولُه تعالى: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ

- قولُه: تَزْرَعُونَ خبَرٌ في مَعنى الأمرِ: (ازْرَعوا) ؛ للمُبالَغةِ في إيجابِ إنجازِ المأمورِ به، فيُجعَلُ كأنَّه وُجِد، فهو يُخبِرُ عنه، والدَّليلُ على كونِه في معنى الأمرِ قولُه: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ .

4- قولُه تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ

- قولُه: مِن بَعْدِ ذلك أي: مِن بعدِ السِّنينَ السَّبعِ المذكوراتِ، وإنَّما لم يَقُلْ: (مِن بعدِهنَّ) قصدًا إلى الإشارةِ إلى وَصفِهنَّ؛ فإنَّ الضَّميرَ ساكتٌ عن أوصافِ المرجعِ بالكُلِّيَّةِ .

- قولُه: يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ فيه تنبيهٌ على أنَّ أمْرَه عليه السَّلامُ بذلك كان لوقتِ الضَّرورةِ، وفيه تَلويحٌ بأنَّه تأويلٌ لأكلِ العِجافِ السِّمانَ، واللَّامُ في لَهُنَّ تَرشيحٌ لذلك؛ فكأنَّ ما ادُّخِرَ في السَّنابلِ مِن الحبوبِ شيءٌ قد هُيِّئَ وقُدِّم لهنَّ كالَّذي يُقدَّمُ للنَّازلِ، وإلَّا فهو في الحقيقةِ مُقدَّمٌ للنَّاسِ فيهِنَّ .

5- قوله تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ

- قولُه: ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ؛ حيث عبَّر عنه بالعامِ، ولم يُعبِّرْ عنه بالسَّنةِ؛ تَحاشِيًا عن المدلولِ الأصليِّ لها مِن عامِ القَحطِ، وتَنبيهًا مِنْ أوَّلِ الأمرِ عَلى اختِلافِ الحالِ بينَه وبينَ السَّوابقِ .

- قولُه: فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ فيه التَّعرُّضُ لذِكرِ العَصرِ- مع جَوازِ الاكتفاءِ عنه بذِكرِ الغيثِ المستلزِمِ له عادةً، كما اكتُفي به عن ذِكرِ تَصرُّفِهم في الحبوبِ-؛ إمَّا لأنَّ استِلزامَ الغيثِ له ليس كاستِلزامِه للحبوبِ؛ إذِ المذكوراتُ يتَوقَّفُ صَلاحُها على مَبادٍ أخرى غيرِ المطَرِ، وإمَّا لمراعاةِ جانبِ المستفتي باعتبارِ حالتِه الخاصَّةِ به بِشارةً له، وهي الَّتي يَدورُ عليها حُسْنُ موقِعِ تَغليبِه على النَّاسِ

=======================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (50-53)

ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ

غريب الكلمات:

 

خَطْبُكُنَّ: أي: أمرُكنَّ وشَأنُكنَّ. والخَطْبُ: الأمرُ العظيمُ، وأصلُ (خطب): يدُلُّ على الأمرِ يقَعُ؛ وإنَّما سُمِّيَ بذلك لِما يقَعُ فيه من التَّخاطُبِ والمُراجَعةِ

.

حَصْحَصَ: أي: وضَحَ وتَبيَّنَ، وأصلُ (حصَّ): يدلُّ على وُضوحِ الشَّيءِ وتَمكُّنِه .

لَأَمَّارَةٌ: أي: كثيرةُ الأمرِ، وأصلُ (أمر): خلافُ النَّهيِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى أنَّ  المَلِكَ لَمَّا علِمَ بتأويلِ رُؤياه قال لأعوانِه: أخرِجوا هذا الرجُلَ المعبِّرَ للرُّؤيا من السِّجنِ، وأحضِروه لي، فلمَّا جاءه رسولُ المَلِك يدعوه، قال يوسُفُ للرَّسولِ: ارجِعْ إلى سَيِّدِك المَلِك، واطلُبْ منه أن يسألَ النِّسوةَ اللَّاتي جَرَحْنَ أيديَهنَّ عن حقيقةِ أمْرِهنَّ وشأنِهنَّ معي؛ لتظهَرَ الحقيقةُ للجميعِ، وتتَّضِحَ براءتي، إنَّ رَبِّي عليمٌ بصَنيعهِنَّ وأفعالِهنَّ، لا يخفى عليه- سُبحانه- شَيءٌ مِن ذلك، فدعا المَلِكُ النِّسوةَ اللَّاتي جرَحْنَ أيديَهنَّ، وقال لهنَّ: ما شأنُكنَّ حين راودتُنَّ يوسُفَ عن نفسِه يومَ الضِّيافةِ؟ فهل رأيتُنَّ منه ما يَريبُ؟ قُلنَ: معاذَ اللهِ ما عَلِمْنا عليه أدنى شيءٍ يَشِينُه، عند ذلك قالت امرأةُ العزيزِ: الآنَ ظهرَ الحَقُّ بعدَ خفائِه، فأنا التي حاوَلْتُ فِتنَتَه بإغرائِه فامتنَعَ، وإنَّه لَمِنَ الصَّادقينَ في كُلِّ ما قاله، ذلك القَولُ الذي قُلتُه في تنزيهِه والإقرارِ على نفسي؛ ليعلمَ يوسُفُ أنِّي لم أخُنْه بالكَذِبِ عليه حالَ غَيبتِه عنِّي، وأنَّ اللهَ لا يُوَفِّقُ أهلَ الخيانةِ، ولا يُرشِدُهم في خيانِتِهم، قالت امرأةُ العزيز: وما أزَكِّي نفسي ولا أُبَرِّئُها؛ إنَّ النَّفسَ لَكثيرةُ الأمرِ لصاحِبِها بعمَلِ المعاصي؛ طلبًا لمَلذَّاتِها، إلَّا مَن عصَمَه الله، إنَّ اللهَ غفورٌ لذُنوبِ مَن تاب مِن عبادِه، رحيمٌ بهم.

تفسير الآيات:

 

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50).

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ.

أي: ولَمَّا عَلِمَ المَلِكُ بتأويلِ رُؤياه قال: أخرِجوا الذي عبَّرَ رُؤيايَ هذه مِن السِّجنِ، وأحضِروه إليَّ

.

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.

أي: فلمَّا جاء يوسفَ رسولُ المَلِك؛ ليُخرِجَه من السِّجنِ، قال له يوسُفُ: ارجِعْ إلى سيِّدِك المَلِك فاسأَلْه ما شأنُ النِّساءِ اللَّاتي قطَّعْنَ أيديَهنَّ؛ ليعلَمَ صِحَّةَ براءتي .

عن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لو لبثتُ في السِّجنِ طولَ لُبْثِ يوسُفَ، لأجبتُ الدَّاعيَ ) .

إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ.

أي: إنَّ اللهَ بمَكرِ النِّساءِ بي وبغيري من النَّاسِ عليمٌ، لا يخفى عليه ذلك .

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51).

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ.

أي: فرجَع رسولُ الملكِ إليه، وأخبَره برسالةِ يوسفَ، فدعا الملكُ النسوةَ اللاتي قطَّعن أيديهنَّ وامرأةَ العزيزِ، فقال لهن: ما شأنُكنَّ وخبَرُكنَّ حين راودتُنَّ يوسُفَ عن نفسِه ؟!

قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ.

أي: قال النِّسوةُ للمَلِك: معاذَ اللهِ أن يكونَ يوسُفُ متَّهمًا بسوءٍ، ما عَلِمْنا على يوسُفَ مِن ذنبٍ صغيرٍ ولا كبيرٍ !

قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.

أي: قالت امرأةُ العزيزِ: الآن تبيَّنَ الحَقُّ وظهر، أنا راودتُ يوسُفَ عن نفسِه، وإنَّه لَمِنَ الصَّادقينَ في قولِه: هي راودَتْني عن نفسي .

ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52).

ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ.

أي: قالت امرأةُ العزيزِ: ذلك الإقرارُ والاعترافُ بالحَقِّ؛ ليعلمَ يوسُفُ أنِّي لم أكذِبْ عليه، ولم أرْمِه بالذِّنبِ في حالِ غَيبتِه عنِّي .

وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ.

أي: وصدْعتُ بالحَقِّ؛ لأنَّ الله لا يسَدِّدُ حِيَلَ مَن خان الأماناتِ، بل يُبطِلُ كَيدَهم، ويَحرِمُهم الهِدايةَ .

وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا كان في الكلامِ السَّابقِ نوعُ تَزكيةٍ لنَفسِها، وأنَّه لم يجْرِ منها ذنبٌ في شأنِ يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ استدركَتْ فقالت :

وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي.

أي: ولسْتُ أُبرِّئُ نفسي من الخطأِ والهَمِّ بذلك الإثمِ، والقيامِ بالمكائدِ والحِيَلِ؛ لأجلِ ذلك .

إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ.

أي: لا أدَّعي براءةَ نفسي؛ لأنَّ نُفوسَ العبادِ كثيرًا ما تأمُرُهم بما تَهواه من المعاصي، إلَّا مَن رَحِمَ الله فعصَمَهم .

إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ.

أي: إنَّ اللهَ مِن شأنِه أنَّه كثيرُ الصَّفحِ عن ذنوبِ عبادِه التَّائبينَ، فيَستُرُها عليهم، ويتجاوَزُ عن مؤاخَذتِهم بها، رحيمٌ بهم فلا يعذِّبُهم، ويقبَلُ توبتَهم، ويوفِّقُهم للخيرِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ الله تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ يدلُّ على فضيلةِ العِلمِ؛ فإنَّه سُبحانه جعل علمَ يوسُفَ عليه السَّلامُ سببًا لخَلاصِه مِن المِحنةِ الدُّنيويَّة، فكيف لا يكونُ العِلمُ سَببًا للخَلاصِ مِن المِحَن الأُخرويَّة

.

2- قولُ الله تعالى: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فيه سَعيُ الإنسانِ في براءةِ نَفسِه؛ لئلَّا يُتَّهمَ بخيانةٍ أو نَحوِها، خصوصًا الأكابرَ، ومَن يُقتدى بهم ، فتبرئةُ العِرضِ مِن التُّهَمِ الباطلةِ مَقصِدٌ شَرعيٌّ .

3- قولُ الله تعالى: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ هذه حِكمةٌ عظيمةٌ تحِقُّ بأن يُؤتَسى بها، وهي تطَلُّبُ المسجونِ باطلًا أن يبقى في السِّجنِ حتى تتبيَّنَ براءتُه من السبَبِ الذي سُجِنَ لأجلِه، وهي راجِعةٌ إلى التحلِّي بالصبرِ حتى يظهرَ النَّصرُ .

4- قولُ الله تعالى: قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ في اعترافِ امرأةِ العزيزِ بحضرةِ المَلِك عِبرةٌ بفضيلةِ الاعترافِ بالحَقِّ، وتبرئةِ البَريءِ ممَّا أُلصِقَ به، ومِن خشيةِ عِقابِ الله الخائنينَ .

5- مِنْ عَجائبِ الجَزاءِ في الدُّنْيا أنَّه لمَّا بَغَتْ على يوسف عليه السلام المرأةُ بدَعْواها: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا أنْطَقَها الحقَّ بقولِها: أَنَا رَاوَدْتُهُ .

6- عاقبَ اللهُ كلَّ خائنٍ بأنَّه يُضِلُّ كَيدَه ويُبطِلُه، ولا يهديه لمقصودِه وإن نال بعضَه، فالذي ناله سببٌ لزيادةِ عُقوبتِه وخَيبتِه؛ قال تعالى: وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ .

7- قولُ الله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ أُطلِقَت الهدايةُ- التي هي الإرشادُ إلى الطريقِ المُوصلةِ إلى تيسيرِ الوُصولِ- وأُطلِقَ نفيُها على نفيِ ذلك التَّيسيرِ، أي: أنَّ سُنَّةَ الله في الكونِ جَرَت على أنَّ فُنونَ الباطِلِ- وإن راجَت أوائِلُها- لا تلبَثُ أن تنقَشِعَ .

8- قولُ الله تعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي أصلٌ في التَّواضُعِ، وكَسرِ النَّفسِ، وهَضمِها .

9- في قوله تعالى : إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي دليلٌ على أنَّ هذا وصفُ النَّفسِ مِن حيثُ هي، وأنَّها لا تخرُجُ عن هذا الوَصفِ إلَّا برَحمةٍ مِن اللهِ وعنايةٍ منه؛ لأنَّ النَّفسَ ظالِمةٌ جاهِلةٌ، والظُّلمُ والجَهلُ لا يأتي منهما إلَّا كُلُّ شَرٍّ، فإنْ رَحِمَ اللهُ العبدَ، ومَنَّ عليه بالعِلمِ النَّافعِ، وسُلوكِ طريقِ العَدلِ في أخلاقِه وأعمالِه، خرَجَت نفسُه مِن هذا الوَصفِ، وصارت مُطمَئنَّةً إلى طاعةِ اللهِ وذِكرِه، ولم تأمُرْ صاحِبَها إلَّا بالخيرِ، ويكونُ مآلُها إلى فضلِ الله وثوابِه؛ قال تعالى : يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي الفجر: 27-30 فعلى العبدِ أن يسعَى في إصلاحِ نَفسِه، وإخراجِها مِن هذا الوصفِ المذمومِ، وهو أنَّها أمَّارةٌ بالسُّوءِ، وذلك بالاجتهادِ، وتخَلُّقِها بأحسَنِ الأخلاقِ، وسُؤالِ اللهِ على الدَّوامِ، وأن يُكثِرَ مِن الدعاءِ المأثورِ : ((اهدِني لأحسَنِ الأخلاقِ؛ لا يَهدي لأحسَنِها إلَّا أنت، واصرِفْ عنِّي سَيِّئَها؛ لا يصرِفُ عني سَيِّئَها إلَّا أنت )) .

10- قال الله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي هذا يدُلُّ على أنَّه ليس كلُّ نفسٍ أمَّارةً بالسُّوءِ، بل ما رَحِمَ ربِّي ليس فيه النَّفسُ الأمَّارةُ بالسُّوءِ، وقد ذكَرَ طائفةٌ مِن النَّاسِ أنَّ النَّفسَ لها ثلاثةُ أحوالٍ: تكونُ أمَّارةً بالسُّوءِ، ثم تكونُ لوَّامةً، أي: تفعلُ الذَّنبَ، ثمَّ تلومُ عليه، أو تتلوَّمُ فتترَدَّدُ بين الذَّنبِ والتَّوبة، ثمَّ تصيرُ مُطمَئنَّةً

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه تعالى: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ... الذي فَعلَه يُوسُف مِن الصَّبْر والتَّوَقُّف إلى أن تَفَحَّصَ المَلِكُ عن حالِه هو اللَّائِق بالحَزْم والعَقْل، وبَيانُه مِن وُجوه:

الأَوَّل: أنَّه لو خَرَج في الحالِ فرُبَّما كان يَبْقَى في قلبِ المَلِك مِن تلك التُّهْمَةِ أثرُها، فلمَّا الْتَمَس مِن المَلِكِ أن يَتَفَحَّص عن حالِ تلك الواقِعَة دَلَّ ذلك على بَراءَتِه مِن تلك التُّهْمَة، فبعدَ خُروجِه لا يَقدِرُ أحدٌ أن يُلَطِّخَه بتلك الرَّذيلَةِ، وأن يَتَوَسَّل بها إلى الطَّعْنِ فيه.

الثَّاني: أنَّ الإنسانَ الذي بَقِيَ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنين إذا طَلَبه المَلِكُ وأمَر بإخْراجِه؛ الظَّاهِرُ أنَّه يُبادِرُ بالخُروجِ، فحيثُ لم يَخرُجْ عرَف منه كونَه في نِهايةِ العَقْلِ والصَّبرِ والثَّباتِ، وذلك يَصيرُ سَبَبًا لأن يَعتَقِدَ فيه بالبَراءَةِ عن جَميعِ أَنواعِ التُّهَمِ، ولأن يَحكُمَ بأنَّ كُلَّ ما قِيلَ فيه كان كَذِبًا وبُهتانًا.

الثَّالِث: أنَّ الْتِماسَه مِن المَلِك أن يَتَفَحَّصَ عن حالِه مِن تلك النِّسْوَة يَدُلُّ أيضًا على شِدَّةِ طَهارَتِه؛ إذ لو كان مُلَوَّثًا بوجهٍ ما، لكان خائِفًا أن يَذكُرَ ما سبَق

.

2- قال اللَّهُ تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، إنَّما قال: فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ وسَكَتَ عنِ امرأةِ العَزيزِ، وفي ذلك عدةُ أوجهٍ:

الأول: أنَّه جعَلَ السُّؤالَ عن النِّسوةِ اللاتي قطَّعنَ أيديَهنَّ دونَ امرأةِ العزيز؛ تسهيلًا للكشفِ عن أمرِها؛ لأنَّ ذِكرَها مع مكانةِ زَوجِها من المَلِك ربَّما يصرِفُ المَلِكَ عن الكشفِ؛ رعيًا للعزيز، ولأنَّ حديثَ المتَّكأِ شاع بينَ الناسِ، وأصبحت قضيَّةُ يوسفَ عليه السلام مشهورةً بذلك اليوم، وأيضًا فإنَّ النسوةَ كنَّ شواهدَ على إقرارِ امرأةِ العزيزِ بأنَّها راودَتْ يوسُفَ عليه السلامُ عن نفسِه .

الثاني: أنَّه سكَت عنها، أدبًا واحترامًا، وحُسْنَ عِشْرَةٍ ورِعايَةً لِذِمَامِ العَزيزِ، ووفاءً له فهو زوجُها .

الثالثُ: أنَّ في سؤالِه عنها تهمةً، ربَّما صار بها متَّهمًا .

الرابعُ: خَوْفًا مِن كَيْدِها، وعَظيمِ شَرِّها، واحترازًا عن مكرِها .

3- في قولِه: فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ حثٌّ للمَلِكِ على الجِدِّ في التَّفتيشِ؛ لِتتبيَّنَ بَرءاتُه، وتتَّضِحَ نَزاهتُه؛ إذ السُّؤالُ ممَّا يُهيِّجُ الإنسانَ على الاهتمامِ في البحثِ للتَّقصِّي عمَّا توجَّه إليه؛ لأنَّه يأنفُ مِن الجهلِ، وأمَّا الطَّلبُ فمِمَّا قد يُتسامَحُ ويُتساهَلُ فيه، ولا يُبالَى به؛ لذا لم يَقُلْ: فاسأَلْه أن يُفتِّشَ عن ذلك .

4- في قولِ اللَّهِ تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ذَكَرَ يُوسفُ عليه السَّلامُ السَّؤالَ عن تَقْطِيعِ الأَيْدِي، ولم يذكُرْ مُراودتَهنَّ له؛ تَنَزُّهًا منه عن نِسْبَةِ ذلك إليهنَّ، ولذلك لم يَنْسِبِ المُراودةَ فيما تَقَدَّمَ إلى امرأةِ العَزيزِ إلَّا بعدَ أنْ رَمَتْه بِدائِها وانْسَلَّتْ. وقد اكتَفَى هنا بالإِشارَةِ الإجماليَّةِ بقولِه: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، فجَعَل عِلْمَ اللَّهِ سبحانه بما وَقَع عليه مِن الكيدِ منهنَّ مُغْنيًا عن التَّصريحِ ، مُجاملةً معَهنَّ، واحتِرازًا عن سوءِ قالَتِهنَّ عندَ المَلِكِ وانتِصابِهنَّ للخُصومةِ؛ مُدافَعةً عن أنفُسِهنَّ متى سَمِعنَ بنِسْبتِه لهنَّ إلى الفسادِ . وقيل: اقتصَر على وصفِهنَّ بتَقطيعِ الأيدي، ولم يُصرِّحْ بمُراودَتِهنَّ له؛ لأنَّه كان يَطمَعُ في صَدْعِهنَّ بالحقِّ، وشَهادتِهنَّ بإقرارِها بأنَّها راوَدَتْه عن نفسِه، فاستَعصَم .

5- قولُ الله تعالى: قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ في قَولِ المَلِك لهنَّ: رَاوَدْتُنَّ دليلٌ على أنَّ براءتَه كانت متحَقِّقةً عند كلِّ مَن عَلِمَ القِصَّةَ .

6- في قَولِه تعالى عن امرأةِ العزيزِ: أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وكذا عن النِّسوةِ: قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ إشارةٌ إلى نَفيِ ما قد ذَكَرَه طائفةٌ مِن المفسِّرينَ مِن أنَّه وُجِدَ مِن يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعضُ المقَدِّماتِ، مثلُ حَلِّ السَّراويلِ، والجلوسِ مَجْلِسَ الخاتِنِ، فلو كان قد بَدَتْ منه هذه المقَدِّماتُ لكانت المرأةُ قد رأتْ ذلك، وقولُه تعالى: مِنْ سُوءٍ نكرةٌ في سياقِ النَّفيِ، فدلَّ ذلك على أنَّ المرأةَ لم تَرَ منه سوءًا .

7- قولُ امرأةِ العزيز: أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ هذا القولُ منها- وإنْ لم يكُنْ سأل عنه- إظهارٌ لتوبتِها، وتحقيقٌ لِصدقِ يوسُفَ وكرامتِه؛ لأنَّ إقرارَ المُقِرِّ على نفسِه أقوى من الشَّهادةِ عليه، فجمع اللهُ تعالى ليوسُفَ- لإظهارِ صِدقِه- الشَّهادةَ والإقرارَ، حتى لا يخامِرَ نَفسًا ظَنٌّ، ولا يُخالِطَها شَكٌّ .

8- تَمَدَّحَت امْرأةُ العَزيز بِعَدَم الخِيانَة على أَبلَغِ وَجْهٍ بِقَولِها: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ إِذْ نَفَت الخِيانَة في المَغيبِ، وهو حائِل بينه وبين دِفاعِه عن نَفسِه، وحالةُ المَغِيب أَمكَن لِمُريدِ الخِيانَة أن يَخونَ فيها مِن حالَةِ الحَضْرَةِ؛ لأنَّ الحاضِر قد يَتَفَطَّن لِقَصْدِ الخائِن فَيَدفَع خِيانَتَه بالحُجَّة

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ

- قولُه: فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، هذا السُّؤالُ مُستعمَلٌ في التَّنبيهِ دُون طلَبِ الفَهمِ؛ لأنَّ السائِلَ عالِمٌ بالأمْرِ المسؤولِ عنه، وإنَّما يُريدُ السائلُ حَثَّ المسؤولِ عن عِلمِ الخَبرِ على ما يُريدُ

.

- وقدَّمَ سُؤالَ النِّسوةِ؛ لِيُظهِرَ بَراءَةَ ساحَتِه عمَّا رُمي به وسُجِن فيه؛ لِئَلَّا يتَسلَّقَ به الحاسِدون إلى تَقْبيحِ أمْرِه عِندَه، ويَجعَلوه سُلَّمًا إلى حَطِّ مَنزِلتِه لدَيْه، ولِئَلَّا يَقولوا: ما خُلِّد في السِّجنِ بضعةَ سِنينَ إلَّا لأمْرٍ عَظيمٍ، وجُرْمٍ كبيرٍ، حقَّ به أن يُسجَنَ ويُعذَّبَ، ويُستَكَفَّ شَرُّه .

- جملةُ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ تَذييلٌ وتعريضٌ بأنَّ الكشْفَ المطلوبَ سيَنْجَلي عن بَراءتِه، وظهورِ كَيْدِ الكائداتِ له؛ ثِقةً باللهِ ربِّه أنَّه ناصِرُه .

2- قولُه تعالى: قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ

- جُمْلَةُ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ الجُمَلَ الَّتي سبَقَتْها تُثيرُ سُؤالًا في نَفْسِ السَّامعِ عمَّا حصَل مِن الملِكِ لَمَّا أُبلِغَ إليه اقتراحُ يوسُفَ عليه السَّلامُ .

- قولُه: قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ فيها مُبالَغةٌ في النَّفيِ والتَّنزيهِ، وتَعجُّبٌ مِن نَزاهتِه وعِفَّتِه عليه السَّلامُ .

- وجملةُ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ مُبيِّنةٌ لإجمالِ النَّفيِ الَّذي في حَاشَ لِلَّهِ، وفيها مُبالَغةٌ في نَفْيِ جِنْسِ السُّوءِ عنه بتَنْكيرِ سُوءٍ، وزيادةِ مِنْ .

- وجاءت جُملةُ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ مَفصولةً- أي: غيرَ مَعطوفةٍ على التي قَبْلَها-؛ لأنَّها حِكايةُ جوابٍ عن سؤالِ الملِكِ، والتَّعبيرُ بالماضِي حَصْحَصَ الْحَقُّ مع أنَّه لم يَثبُتْ إلَّا مِن إقرارِها الذي لم يَسبِقْ؛ لأنَّه قريبُ الوقوعِ؛ فهو لتقريبِ زَمَنِ الحالِ مِن المضيِّ، ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ ثُبوتَ الحقِّ بقولِ النِّسوةِ: مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ؛ فيَكونَ الماضِي على حقيقتِه .

- وفي قولِها: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ تقديمُ اسم الزَّمانِ الْآنَ؛ للدَّلالةِ على الاختصاصِ، أي: الآن لا قبْلَه؛ للدَّلالةِ على أنَّ ما قَبلَ ذلك الزمانِ كان زَمنَ باطلٍ، وهو زمنُ تُهمةِ يُوسُفَ عليه السَّلامُ بالمراودةِ؛ فالقَصرُ قَصْرُ تعيينٍ؛ إذ كان الملكُ لا يَدري أيُّ الوقتَينِ وقتُ الصِّدقِ؛ أهو وقتُ اعترافِ النِّسوةِ بنزاهةِ يُوسفَ عليه السَّلامُ، أم هو وقتُ رمْيِ امرأةِ العزيزِ إيَّاه بالمُراودةِ .

- وجملةُ أَنَا رَاوَدْتُهُ فيها تَقديمُ المسنَدِ إليه أَنَا على المسنَدِ الفعليِّ رَاوَدْتُهُ وهو يُفيدُ القَصْرَ؛ وذلك لإبطالِ أن يَكونَ هو راوَدَها، فهذا إقرارٌ مِنها على نَفْسِها، وشَهادةٌ لِغَيرِها بالبراءةِ، وزادَت فأكَّدَت صِدقَه بـ (إنَّ) واللَّامِ في: وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ .

3- قولُه تعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ

- وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي كالاحْتِراسِ ممَّا يقْتَضيه قولُها: ذَلِكَ لَيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ يوسف: 52 مِن أنَّ تَبْرِئةَ نَفْسِها مِن هذا الذَّنْبِ العظيمِ ادَّعاءٌ بأنَّ نَفْسَها بَريئةٌ بَراءةً عامَّةً فقالتْ: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي .

- جُمْلَةُ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ تعليلٌ لجملةِ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي؛ أي: لا أدَّعي بَراءةَ نَفْسي مِن ارتكابِ الذَّنبِ؛ لأنَّ النُّفوسَ كثيرةُ الأمرِ بالسُّوءِ .

- قولُه: إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ فيه إيثارُ الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ مع التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ؛ لتربيةِ مَبادئِ المغفرةِ والرَّحمةِ

============================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (54-57)

ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ

غريب الكلمات:

 

أَسْتَخْلِصْهُ: أي: أجعَلْه مِن خُلَصائي دونَ غيري، أو أُفوِّضْ إليه أمرَ مَملكتي، وأصْلُ (خلص): يدلُّ على تنقيةِ الشَّيءِ وتهذيبِه

.

مَكِينٌ: أي: مُتمكِّنٌ ممَّا أردتَ، نافذُ القولِ، أو: ذو مَكانةٍ ومنزِلةٍ خاصَّةٍ .

يَتَبَوَّأُ: أي: يَنزِلُ، وأصْلُ (بوأ): يدلُّ على الرُّجوعِ إلى الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى أنَّ مَلِكَ مصرَ قال حين عَلِمَ بَراءةَ يوسُفَ: جيئُوني به أجعَلْه مِن خُلَصائي وأهلِ مَشورتي، فلَمَّا جاء يوسُفُ، وكلَّمَه المَلِكُ، وعرَفَ براءتَه، وعظيمَ أمانتِه، وحُسنَ خُلُقِه؛ قال له: إنَّك اليومَ عندنا عظيمُ المَكانةِ، ومُؤتمَنٌ على كلِّ شَيءٍ، وأراد يوسُفُ أن ينفعَ العبادَ، ويُقيمَ العدلَ بينهم، فقال للمَلِكِ: اجعَلْني واليًا على خزائنِ مِصرَ؛ فإنِّي خازِنٌ أمينٌ، ذو عِلمٍ وبصيرةٍ بما أتولَّاه، وكما أنعَمَ اللَّهُ على يوسُفَ بالخَلاصِ مِن السِّجنِ، مكَّنَ له في أرضِ مصرَ ينزِلُ منها أيَّ مَنزِلٍ شاءَه، يُصيبُ اللهُ برَحمتِه مَن يشاءُ مِن عبادِه المتَّقينَ، ولا يُضيعُ أجرَ مَن أحسَنَ شيئًا مِن العمَلِ الصَّالحِ، ولَثوابُ الآخرةِ عندَ اللهِ لأهلِ الإيمانِ والتَّقوى- الَّذين يخافونَ عِقابَ اللهِ، ويُطيعونَه في أمرِه ونَهيِه- أعظَمُ مِن ثوابِ الدُّنيا.

تفسير الآيات :

 

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54).

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي.

أي: وقال ملِكُ مصرَ لَمَّا عَلِمَ بَراءةَ يوسُفَ، وعرَفَ فضْلَه وعِلْمَه، وحِكمتَه وحُسْنَ خُلُقِه، وصَبْرَه وعِفَّتَه: ائْتوني بيوسُفَ مِن السِّجنِ أجعَلْه مِن خاصَّتي وأهلِ مَشورَتي، خالِصًا لنَفْسي لا يُشاركُني فيه أحدٌ

.

فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ.

أي: فلَمَّا كلَّمَه الملِكُ، ورَأى فضْلَه وخِصالَه الحميدةَ، زادت مكانتُه لديه، فقال له: إنَّك قد صِرْتَ عندنا ذا مَكانةٍ وأمانةٍ، مُتمكِّنًا ممَّا أردْتَ، أمينًا على ما نأْتَمِنُك عليه .

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55).

مُناسبةُ الآيةِ لِما قبلها:

أنَّه لَمَّا وصَفَه الملِكُ بالتَّمكُّنِ عنده والأمانةِ، طلَبَ مِن الأعمالِ ما يُناسِبُ هذينِ الوصفينِ .

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ.

أي: قال له يوسُفُ طلبًا للمصلحَةِ العامَّةِ: وكِّلْني على خَزائنِ الأموالِ والطَّعامِ في أرضِ مصرَ؛ لحفْظِها وتدْبيرِها .

إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.

أي: إنِّي حافظٌ وخازنٌ، أمينٌ للخَزائنِ الَّتي استودعْتَني، ذو عِلْمٍ وبصَرٍ بما أتولَّاه منها، فأعْلَمُ كيفيَّةَ تدْبيرِها والتَّصرُّفِ فيها، دون أنْ يضيعَ شيءٌ منها في غيرِ مَحَلِّه .

وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56).

وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء.

القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ نَشَاءُ بالنُّونِ، بجَعلِ الفِعلِ للَّهِ تعالى .

2- قِراءةُ يَشَاءُ بالياءِ، بجَعلِ الفِعلِ لِيوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء.

أي: ومثْلَ ما أنعَمْنا على يوسُفَ بإنْجائِه مِن السِّجنِ، وتقْريبِه إلى قلْبِ الملِكِ، أقْدَرْناه في أرضِ مصرَ، يتَّخذُ منها منزِلًا حيث يشاءُ .

نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء.

أي: نُصيبُ برحْمتِنا في الدُّنيا والآخِرةِ مَن نشاءُ مِن عِبادِنا، كما رَحِمْنا يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.

أي: ولا نُبْطِلُ جَزاءَ الَّذينَ أحْسَنوا أعمالَهم بالطَّاعةِ، وترْكِ المَعصيةِ، فنُثيبُهم في الدُّنيا والآخِرةِ كما أثَبْنا يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ النحل: 30.

وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا الكهف: 30.

وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57).

مُناسبةُ الآيةِ لِما قبلها:

لَمَّا كان عِزُّ الدُّنيا لا يُعَدُّ في الحقيقةِ إلَّا إنْ كان موصولًا بنَعيمِ الآخِرةِ؛ نبَّهَ على ما له في الآخِرةِ ممَّا لا يُعَدُّ هذا في جنْبِه شيئًا، فقال تعالى :

وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57).

أي: ولَثوابُ اللَّهِ في الآخِرةِ خيرٌ مِن ثَوابِ الدُّنيا، للمُؤمنينَ المتَّقينَ، الَّذينَ يُؤمنونَ بِما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، ويمتثِلونَ ما أمَرَ اللَّهُ تعالى به، ويجْتنِبونَ ما نهَى عنه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فيه فَضيلةُ العِلْمِ؛ عِلْمِ الأحكامِ والشَّرعِ، وعِلْمِ تعْبيرِ الرُّؤيا، وعِلْمِ التَّدبيرِ والتَّربيةِ، وأنَّه أفضَلُ مِن الصُّورةِ الظَّاهِرةِ، ولو بلَغَ الشَّخصُ في الحُسْنِ جَمالَ يوسُفَ؛ فإنَّ يوسُفَ- بسَبَبِ جَمالِه- حصَلَت له تلك المِحنةُ والسِّجنُ، وبسَبَبِ عِلْمِه حصَلَ له العِزُّ والرِّفعَةُ والتَّمكينُ في الأرضِ؛ فإنَّ كلَّ خيرٍ في الدُّنيا والآخِرةِ مِن آثارِ العِلْمِ وموجِباتِه

.

2- قال اللَّهُ تعالى: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ هذه الآيةُ أصْلٌ لوُجوبِ عرْضِ المَرءِ نفسَه لوِلايةِ عمَلٍ مِن أمورِ الأُمَّةِ إذا علِمَ أنَّه لا يصلُحُ له غيرُه؛ لأنَّ ذلك مِن النُّصحِ للأُمَّةِ، وخاصَّةً إذا لم يكُنْ ممَّن يُتَّهمُ على إيثارِ منفعَةِ نفسِه على مصلحَةِ الأُمَّةِ، وقد علِمَ يوسُفُ عليه السَّلامُ أنَّه أفضلُ النَّاسِ هنالك؛ لأنَّه كان المُؤمنَ الوحيدَ في ذلك القُطْرِ، فهو لإيمانِه باللَّهِ يبُثُّ أصولَ الفضائلِ الَّتي تقْتَضيها شَريعةُ آبائِه إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، عليهم السَّلامُ .

3- قولُ اللَّهِ تعالى: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ فيه أنَّ المؤمنَ يُثابُ على حَسَناتِه في الدُّنيا والآخِرةِ .

4- قولُه تعالى: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، وكذلك قولُه تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يوسف: 22، فيه أنَّ الإحسانَ في عبادةِ اللهِ، والإحسانَ إلى العبادِ سببٌ يُنالُ به العِلمُ، وتُنالُ به خيراتُ الدُّنيا والآخرةِ، فجعل اللهُ الإحسانَ سببًا لنَيلِ هذه المراتبِ العاليةِ .

5- قولُ اللَّهِ تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ فيه أنَّ اللَّهَ واسِعُ الجودِ والكرَمِ؛ يجودُ على عبْدِه بخيرِ الدُّنيا والآخرةِ، وأنَّ خيرَ الآخرةِ له سَبَبانِ: الإيمانُ والتَّقوى، وأنَّه خيرٌ مِن ثَوابِ الدُّنيا ومُلْكِها، وأنَّ العبدَ ينبَغي له أن يدعُوَ نفسَه ويُشوِّقَها لِثَوابِ اللَّهِ، ولا يدَعَها تحزَنُ إذا رأَت أهلَ الدُّنيا ولذَّاتِها وهي غيرُ قادرةٍ عليها، بل يُسلِّيها بثَوابِ اللَّهِ الأُخرويِّ وفضلِه العظيمِ؛ لقولِه تعالى: وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ .

6- قولُ اللَّهِ تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ الآيةُ فيها مِن العِبرةِ: أنَّ المَظلومَ المَحسودَ إذا صبَرَ واتَّقى اللَّهَ، كانت له العاقِبةُ .

7- مَن ترَكَ للَّهِ شيئًا عوَّضَه اللَّهُ خيرًا منه؛ كما ترَكَ يوسُفُ الصِّدِّيقُ عليه السَّلامُ امرأَةَ العزيزِ للَّهِ، واخْتارَ السِّجنَ على الفاحِشةِ، فعوَّضَه اللَّهُ أنْ مكَّنَه في الأرضِ يتبوَّأُ منها حيث يشاءُ، فتأمَّلْ كيف جَزاهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى على ضِيقِ السِّجنِ أنْ مكَّنَه في الأرضِ ينزِلُ منها حيث يشاءُ، قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ وأذلَّ له العزيزَ وامرأَتَه، وأقرَّتِ المرأةُ والنِّسوةُ ببَراءتِه، وهذه سُنَّتُه تعالى في عِبادِه قديمًا وحديثًا إلى يومِ القيامةِ .

8- في قولِ اللَّهِ تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ إشارةٌ إلى أنَّ الطَّاعةَ تُثْمِرُ الرِّزقَ في الدُّنيا، ويُعْطَى المؤمنُ الأجْرَ عليها في الدُّنيا، ولا يَنْقُصُ ذلك مِن ثوابِه عند اللَّهِ شيئًا، كما يُعْطَى الكافِرُ بالشَّيْءِ يَسْكُنُ له في الدُّنيا، ولا يكونُ لهُ في الآخِرَةِ نَصيبٌ .

9- في قولِ اللَّهِ تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ إشارةٌ إلى أنَّ نَيْلَ الدُّنيا- إذا لم يَشغَلْ عنِ الآخِرةِ- غيرُ مَذْمومٍ، ويكونُ المُعْطَى به مرحومًا، غيرَ مَسْخوطٍ عليه، وأنَّه وإنْ كان كذلك فأَجْرُ الآخِرةِ خَيْرٌ منه؛ لقولِه تبارك وتعالى مِنْ قائلٍ: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- الوِلايةُ لها رُكنانِ: القوَّةُ والأمانةُ، قال اللَّهُ تعالى عن صاحبِ مصرَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ وقال تعالى أيضًا عنِ ابنةِ الرَّجلِ الصَّالحِ: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ

القصص: 26، فالوِلاياتُ الكِبارُ والصِّغارُ لا بُدَّ لِمُتولِّيها أن يكونَ كُفوًا في قُوَّتِه وأمانتِه وعِلمِه بأمورِ الوِلايةِ؛ لأنَّ المَلِكَ لَمَّا كلَّمَ يوسُفَ ورأى مِن عِلمِه وخِبرتِه بالأمورِ وحُسنِ نَظَرِه؛ استخلَصَه لنفسِه، وقال: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ وقال يوسفُ: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، فعلَّلَ ذلك بكمالِ حِفظِه لِما تحتَ يدِه وتصَرُّفِه، وكمالِ عِلمِه بوجوهِ المُستخرَج والمُنصَرِف، وحُسنِ التَّدبيرِ .

2- في قولِه تعالى: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ قال بعضُ أهلِ العِلْمِ: في هذه الآيةِ ما يُبيحُ للرَّجلِ الفاضِلِ أنْ يعمَلَ للرَّجلِ الفاجِرِ والسُّلطانِ الكافِرِ بما يقْتَضيه الشَّرعُ والعدْلُ، بشرْطِ أنْ يعلَمَ أنَّه يفوِّضُ إليه في فعْلٍ لا يعارِضُه فيه، فيُصلِحُ منه ما شاء، وأمَّا إذا كان عمَلُه بحسبِ اختيارِ الفاجِرِ وشَهواتِه وفُجورِه، فلا يجوزُ ذلك .

3- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ دلَّ ثناءُ يوسُفَ على نفْسِه أنَّه يجوزُ للإنسانِ أنْ يُثنِيَ على نفسِه بالحقِّ إذا جُهِلَ أمْرُه، ولا يكونُ ذلك مِن التَّزكيةِ المَنْهِيِّ عنها .

4- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ استُدِلَّ به على جَوازِ طلَبِ الوِلايةِ- كالقَضاءِ ونحوِه- لِمَن وَثِقَ مِن نفْسِه بالقِيامِ بحُقوقِه ، فهذا الطلبُ لم يكنْ حِرصًا مِن يوسُفَ عليه السلام على الولايةِ، وإنَّما هو رغبةٌ منه في النَّفعِ العامِّ، وقد عرَفَ مِن نفْسِه مِن الكَفاءةِ والأمانةِ والحفْظِ ما لم يكونوا يعرِفونَه .

5- قال تعالى حِكايةً عن يوسُفَ: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ اقتِراحُ يوسُفَ عليه السَّلامُ ذلك، إعدادٌ لنفْسِه للقيامِ بمصالِحِ الأُمَّةِ، على سُنَّةِ أهلِ الفضْلِ والكَمالِ مِن ارتِياحِ نُفوسِهم للعمَلِ في المصالِحِ؛ ولذلك لم يسأَلْ مالًا لنفْسِه ولا عرَضًا مِن مَتاعِ الدُّنيا، ولكنَّه سأَلَ أنْ يُوَلِّيَه خَزائنَ المملَكةِ؛ ليحفْظَ الأموالَ، ويعدِلَ في توزيعِها، ويرفُقَ بالأُمَّةِ في جمْعِها وإبلاغِها لمَحَالِّها .

6- سُؤالُ الوِلايةِ ذمَّه النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ، وأمَّا سُؤالُ يوسُفَ: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ؛ فلأنَّه كان طريقًا إلى أنْ يدعُوَهم إلى اللَّهِ، ويعدِلَ بين النَّاسِ، ويرفَعَ عنهم الظُّلمَ، ويفعَلَ مِن الخيرِ ما لم يكونوا يفعَلونَه، مع أنَّهم لم يكونوا يعرِفونَ حالَه، وقد عَلِمَ بتأْويلِ الرُّؤيا ما يَؤولُ إليه حالُ النَّاسِ، ففي هذه الأحوالِ ونحوِها ما يُوجِبُ الفَرقَ بين مِثلِ هذه الحالِ وبين ما نُهِيَ عنه .

7- قال اللَّهُ تعالى مُخبِرًا عن يوسُفَ: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ لم يقُلْ: إنِّي حسيبٌ كريمٌ، وإنْ كان كما قال النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّمَ: ((الكريمُ ابنُ الكريمِ ابنِ الكريمِ ابنِ الكريمِ يوسُفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ )) ، ولا قال: إنِّي جميلٌ مليحٌ، إنَّما قال: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ فسأَلَها بالحفْظِ والعلْمِ، لا بالنَّسبِ والجَمالِ .

8- إذا كانت اللَّذَّةُ مَطْلوبَةً لنَفْسِها فهي إنَّما تُذَمُّ إذا أعقَبَت ألَمًا أعظمَ منها، أو منَعَت لَذَّةً خيرًا منها، وتُحْمَدُ إذا أعانَت على اللَّذَّةِ المُستقِرَّةِ؛ وهو نَعيمُ الآخرةِ الَّتي هي دائمةٌ عظيمةٌ، كقولِه تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ .

9- في قولِ اللَّهِ تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فيه دليل على ذِكْرِ العُمومِ وإرادةِ الخُصوصِ؛ إذْ لا مَحالَةَ تمكينُ يوسُفَ لم يكُنْ في جَميعِ الأرْضِ، بلْ كان بأرْضِ مصرَ، دُون سائرِ الأرْضِ .

10- قولُ اللَّهِ تعالى: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ يدلُّ على أنَّ الأمورَ مُعلَّقةٌ بالمشيئةِ الإلهيَّةِ، والقُدرةِ المَحْضةِ .

11- قولُ اللَّهِ تعالى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ حالَ يوسُفَ عليه السَّلامُ في الآخرةِ خيرٌ مِن حالتِه العظيمةِ في الدُّنيا .

12- دلَّ قولُه تعالى: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ على أنَّ الإصابةَ تُطلقُ على الخيرِ أيضًا؛ إذ يصحُّ أنْ يُقالَ: أصابَه بخيرٍ، وأصابَه بِشرٍّ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ

- قولُه: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ في الكلامِ حذْفٌ؛ للإيذانِ بسُرْعةِ الإتيانِ به، والتَّقديرُ: فأَتَوا به، فلَمَّا كلَّمَه... فكأنَّه لم يكنْ بين الأمرِ بإحْضارِه والخِطابِ معه زَمانٌ أصلًا

.

- والسِّينُ والتَّاءُ في أَسْتَخْلِصْهُ للمُبالغَةِ، أي: أَجْعَلْه خالِصًا لِنَفْسي، خاصًّا بي، لا يُشارِكُني فيه أحدٌ، وهذا كِنايةٌ عن شِدَّةِ اتِّصالِه به، والعَمَلِ معه .

- قولُه: قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ اليومُ ليس بمِعْيارٍ لمُدَّةِ المَكانةِ والأمانةِ، بلْ هو آنُ التَّكلُّمِ، والمرادُ تحديدُ مَبْدَئِهما؛ احتِرازًا عنِ احتمالِ كونِهما بعد حينٍ .

2- قوله تعالى: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ

- قولُه: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ فيه عَدَمُ ذِكرِ إجابةِ الملِكِ إلى ما سأَلَه يوسُفُ عليه السَّلامُ مِن جَعْلِه على خَزائنِ الأرضِ؛ إيذانًا بأنَّ ذلك أمرٌ لا مَردَّ له، غَنيٌّ عنِ التَّصريحِ به، لا سِيَّما بَعْدَ تَقْديمِ ما يَندرِجُ تحتَه مِن أحْكامِ السَّلطنةِ بِحَذافيرِها، مِن قولِه: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ .

3- قوله تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ

- قولُه: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا في التَّعبيرِ عنِ الجَعْلِ المَذْكورِ بالتَّمْكينِ في الأرضِ، مع الإسْنادِ إلى ضَميرِ اللَّهِ عزَّ سلطانُه: تَشْريفٌ له عليه السَّلامُ، ومُبالغةٌ في كَمالِ وِلايتِه، وإشارةٌ إلى حُصولِ ذلك مِن أوَّلِ الأمرِ، لا أنَّه حصَلَ بعدَ السُّؤالِ .

- قولُه: يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ كِنايةٌ عنْ تصرُّفِه في جميعِ مَمْلكةِ مصرَ؛ فهو عند حُلولِه بمكانٍ منَ المَمْلكةِ لو شاءَ أنْ يَحُلَّ بغيرِه لَفَعل .

- وجُملةُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ إلى آخرِها تذْييلٌ لِمُناسبةِ عُمومِه لخُصوصِ ما أصابَ يوسُفَ عليه السَّلامُ منَ الرَّحمةِ في أحوالِه في الدُّنيا، وما كان له مِن مواقِفِ الإحسانِ الَّتي كان ما أُعطِيَه منَ النِّعَمِ وشَرَفِ المَنْزِلةِ جزاءً لها في الدُّنيا؛ لأنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أجْرَ المُحْسنين .

- قولُه: وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فيه إشعارٌ بأنَّ مَدارَ المَشيئةِ المَذْكورةِ إحسانُ مَن تُصيبُه الرَّحمةُ المَرْقومةُ، وأنَّها أجْرٌ له؛ ولِدَفْعِ تَوَهُّمِ انحصارِ ثَمَراتِ الإحسانِ فيما ذُكِرَ منَ الأجْرِ العاجِلِ قيل على سبيلِ التَّوكيدِ: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ .

4- قولُه تعالى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ فيه وضْعُ الموصولِ لِلَّذِينَ آمَنُوا.. مَوضِعَ المُضمَرِ؛ إذ التقديرُ: (خَيْرٌ لهم)، أي: للمُحسِنينَ المَذْكورِينَ، وإنَّما قيل: لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ؛ تَنْبيهًا على أنَّ المُرادَ بالإحْسانِ إنَّما هو الإيمانُ والثَّباتُ على التَّقوى، المُسْتفادُ من جَمْعِ صِيغتَيِ الماضي آمَنُوا وَكَانُوا والمستقَبلِ يَتَّقُونَ .

- والتَّعبيرُ في جانِبِ التَّقوى بِصيغةِ المُضارِعِ يَتَّقُونَ؛ لأنَّ التَّقوى مُتَجدِّدةٌ بتجدُّدِ أسبابِ الأمرِ والنَّهْيِ، واختلافِ الأعمالِ والأزمانِ

=========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (58-62)

ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ

غريب الكلمات:

 

مُنْكِرُونَ: أي: لا يعرِفونَه، وأصْلُ (نكر): يدلُّ على خِلافِ المعرفةِ الَّتي يسكُنُ إليها القلْبُ

.

بِجَهَازِهِمْ: الجَهازُ: ما يَحتاجُ إليه المُسافِرُ مِن زادٍ، ومَتاعٍ، وكُلِّ ما يُحمَلُ، وأصلُ (جهز): يدُلُّ على شَيءٍ يُحوَى .

أُوفِي: أي: أُتِمُّ ولا أَبْخَسُ، وأصْلُ (وفي): يدلُّ على إكمالٍ وإتمامٍ .

الْمُنْزِلِينَ: أي: المُضِيفينَ، وأصلُ (نزل): يدُلُّ هُبوطِ شَيءٍ ووُقوعِه .

رِحَالِهِمْ: أي: أمتعتِهم وأوعِيَتِهم، جمعُ رَحْلٍ: وهو كلُّ شيءٍ يعَدُّ للرَّحيلِ؛ مِن وِعاءٍ للمَتاعِ ومَركبٍ للبَعيرِ، وأصْلُ (رحل): يدلُّ على مُضِيٍّ في سفَرٍ .

بِضَاعَتَهُمْ: أي: أثمانَ الطَّعامِ التي دَفَعوها .

انْقَلَبُوا: أي: رجَعوا، وانصَرَفوا، وأصْلُ (قلب): صرْفُ الشَّيءِ عن وجْهٍ إلى وجْهٍ، أو ردُّه مِن جِهةٍ إلى جهةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: وقدِمَ إخوةُ يوسُفَ إلى مِصرَ بعد أنْ حلَّ بهم الجَدبُ في أرضِهم؛ ليَجلِبوا منها الطَّعامَ، فدَخَلوا على يوسفَ، فعَرَفهم ولم يَعرِفوه؛ لطولِ المدَّةِ، وتغيُّرِ هيئتِه، وقد أمَرَ يوسُفُ بإكرامِهم وحُسنِ ضيافتِهم، ثمَّ أعطاهم مِن الطَّعامِ ما طلَبوا، وكانوا قد أخبَروه أنَّ لهم أخًا مِن أبيهم لم يُحضِروه معهم- يُريدونَ شَقيقَه- فقال: ائتُوني بأخيكم مِن أبيكم، ألم تَرَوا أنِّي أوفيتُ لكم الكَيلَ، وأكرَمتُكم في الضِّيافةِ، وأنا خيرُ المُضْيفينَ لِمَن نزَلَ بي؟ فإنْ لم تأتوني به فليس لكم عندي طعامٌ أكيلُه لكم، ولا تأْتوا إليَّ. قالوا: سنبذُلُ جُهدَنا لإقناعِ أبيه أنْ يُرسِلَه معنا، ولن نُقصِّرَ في ذلك. وقال يوسُفُ لغِلمانِه: اجعَلوا ثمَنَ ما أخَذوه في أمتعتِهم سِرًّا؛ رجاءَ أن يَعرِفوه إذا انصرفوا إلى أهلِهم، لكي يرْجِعوا إلينا مرَّةً أُخرى.

تفسير الآيات :

 

وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58).

أي: وجاء إخوةُ يوسُفَ إلى مِصرَ لَمَّا أصابَهم القحْطُ؛ ليأْتوا بالطَّعامِ لأهليهم، فدخَلوا على يُوسفَ، فعرَفَهم حين رآهم، وهم لا يعرِفونَه

.

وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59).

وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ.

أي: ولَمَّا أوفى يوسُفُ إخوتَه الطَّعامَ، وحمَّلَ لكلِّ واحدٍ منهم بعيرَه، قال لهم: ائْتوني بأخيكم هذا الَّذي ذكَرتُموه لِي مِن أبيكم؛ لِتَزْدادوا حِملَ بعيرٍ آخرَ .

ثم قال يوسُفُ ترْغيبًا لإخوتِه في الرُّجوعِ إليه:

أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ.

أي: ألَا ترَونَ أنَّ عادتي هي إتمامُ الكيلِ دائمًا، وأنِّي لا أبْخَسُ النَّاسَ شيئًا .

وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ.

أي: وأنا خيرُ المُضْيفينَ في مصرَ لِمَن نزَلَ بي، وسأُحسِنُ إليكم، وأُكرِمُكم إذا أتيتُم بأخيكم .

فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60).

أي: فإنْ لم تُحْضِروا إليَّ أخاكم حين تأْتونَ إليَّ في المرَّةِ التَّاليةِ، فليس لكم عندي طعامٌ أكيلُه لكم، ولا تقْرُبوا أرضَ مصرَ .

قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61).

أي: قال إخوةُ يوسُفَ لِيوسُفَ حين أمَرَهم أن يأتوا إليه بأخيهم: سنسأَلُ أباه يعقوبَ أن يترُكَه يسافِرُ معنا، وسنجتهِدُ في إقناعِه حتَّى نأْتِيَ به معنا، وإنَّا لفاعِلونَ ما أمرْتَنا به .

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62).

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ.

أي: وقال يوسُفُ لغِلمانِه: اجْعَلوا أثمانَ ما اشتَرَوه من الطَّعامِ في أمتِعَتِهم، من حيث لا يشعُرونَ .

لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.

أي: لكي يعْرِفوا بِضاعتَهم إذا انصْرَفوا إلى أهلِهم، وفتَحوا أمتِعَتَهم فوجَدوها؛ لكي يرْجِعوا إلينا مرَّةً أُخرى

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُ اللَّهِ تعالى: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فيه إشارةٌ إلى أنَّه كان يُباشِرُ الأمورَ بنفْسِه، كما هو فِعْلُ الكُفاةِ الحَزَمَةِ، لا يثِقُ فيه بغيرِه

.

2- في قولِ يوسُفَ لإخوتِه: أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزلِينَ مشروعيَّةُ الضِّيافةِ، وأنَّها مِن سُنَنِ المُرسَلينَ، وقرَّرتْها هذه الشريعةُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قال اللَّهُ تعالى: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ... لم يعرِّفْهم نفْسَه لأسبابٍ فيها مَنفعَةٌ لهم ولأبيهم وله، وتمامٌ لِما أرادَه اللَّهُ تعالى بهم مِن الخيرِ في هذا البَلاءِ، وأيضًا فلو عرَّفَهم نفْسَه في أوَّلِ مرَّةٍ لم يقَعِ الاجتماعُ بهم وبأبيه ذلك الموقِعَ العظيمَ، ولم يَحُلَّ ذلك المَحَلَّ، وهذه عادةُ اللَّهِ سبحانه في الغاياتِ العظيمةِ الحميدةِ: إذا أرادَ أنْ يُوصِّلَ عبْدَه إليها هيَّأَ لها أسبابًا مِن المِحَنِ والبَلايا والمَشاقِّ، فيكونُ وُصولُه إلى تلك الغاياتِ بعدها كوُصولِ أهلِ الجنَّةِ إليها بعدَ الموتِ وأهوالِ البرزَخِ، والبعْثِ والنُّشورِ، والموقِفِ والحِسابِ، والصِّراطِ، ومُقاساةِ تلك الأهوالِ والشَّدائدِ، وكما أُدخِلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ تعالى عليه وآله وسلَّمَ إلى مكَّةَ ذلك المَدخَلَ العظيمَ، بعد أنْ أخرَجَه الكفَّارُ ذلك المَخْرَجَ، ونصَرَه ذلك النَّصرَ العزيزَ، بعد أنْ قاسى مع أعداءِ اللَّهِ ما قاساه

.

2- قولُه تعالى إخْبارًا عن يوسُفَ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أوضحُ حُجَّةٍ، وأبْلَغُها نِهايةً في مدحِ النَّفْسِ وتزكيتِها عندَ الحاجَةِ، أَلَا تَرَاهُ يقولُ في سُورةِ (المؤمنين): وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ المؤمنون: 29، فقدْ سَمَّى يوسُفُ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم نَفْسَه بخَيْرِ المُنْزِلينَ في المعنى الذي أرادَه، ولم يكُنْ مُنْكَرًا عليه، ولا مُسْتَقْبَحًا منه، وفيه حُجَّةٌ لمَنْ يقولُ إذا أرادَ مَدْحَ إنْسانٍ: فُلانٌ خَيرُ مَن فَعَلَ كذا، وفُلانٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا، وإنْ كان في النَّاسِ مَنْ هو خَيْرٌ مِنه وأَحْسَنُ، إذا أَضْمَرَ القائلُ ناسَ عَصْرِه، وعَزَلَ مَنْ تَقَدَّمَهُم مِن الأفضَلِ بِنِيَّتِه، فلا يكونُ كاذِبًا ولا آثِمًا بِمَا يدلُّ عليه ظاهِرُ قولِه .

3- قولُه: أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ لم يَقُلْه يوسفُ عليه السَّلامُ بطريقِ الامْتِنانِ، بل لحثِّهم على تحقيقِ ما أَمَرَهم به. والاقتِصارُ في الكَيْلِ على ذِكْرِ الإيفاءِ؛ لأنَّ مُعاملتَه عليه السَّلامُ معهم في ذلك كمُعامَلَتِه مع غيرِهم في مُراعاةِ مَواجِبِ العدْلِ، وأمَّا الضِّيافَةُ فليس للنَّاسِ فيها حقٌّ، فخَصَّهم في ذلك بما شاء .

4- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ  فيه تنبيهٌ على عِزَّةِ المَطْلَبِ وصُعوبَةِ مَنالِه

5- المالُ قد يُضافُ إلى المالِكِ الَّذي قد ملَكَه في بعضِ الأوقاتِ بعد زَوالِ مُلْكِه عنه، كقولِه تعالى: اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ فأضافَ البِضاعةَ إليهم بعد اشْتِرائِهم بها طعامًا

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ

- قولُه تعالى: فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وقَعَ الإخبارُ عنهم بالجُملةِ الاسميَّةِ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ عَدَمَ مَعْرفتِهم به أمْرٌ ثابتٌ مُتَمَكِّنٌ منهم، وأنَّ إنكارَهم له كان أمرًا مُستمرًّا في حالتَيِ المَحْضَرِ والمغِيبِ، وكان الإخبارُ عن مَعْرفتِه إيَّاهم بالجُملةِ الفِعليَّةِ فَعَرَفَهُمْ المُفيدةِ للتَّجدُّدِ

؛ للدَّلالةِ على أنَّ مَعْرفتَه إيَّاهم حَصَلَت بحِدْثانِ رُؤْيتِه إيَّاهم، دون تَوَسُّمٍ وتأمُّلٍ .

- قولُه: وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ قَرَنَ مفعولَ مُنْكِرُونَ الَّذي هو ضَميرُ يوسُفَ عليه السَّلامُ بِلامِ التَّقويةِ في لَهُ ولم يَقُلْ: (وهم مُنْكِرونَه)؛ لزيادةِ تقْوِيةِ جهْلِهم بمَعْرفتِه .

- وتقْديمُ المجْرورِ بِلامِ التَّقويةِ لَهُ على مُنْكِرُونَ؛ للرِّعايةِ على الفاصِلةِ، وللاهتِمامِ بتعلُّقِ نُكْرَتِهم إيَّاه؛ للتَّنْبيهِ على أنَّ ذلك مِن صُنْعِ اللَّهِ تعالى، وإلَّا فإنَّ شَمائلَ يوسُفَ عليه السَّلامُ ليستْ ممَّا شأنُه أنْ يُجْهَلَ ويُنْسَى .

2- قوله تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ

- قولُه: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ فيه مُناسَبَةٌ حَسَنَةٌ؛ حيثُ قالَه هنا بالواوِ، وقالَه بعدُ بالفاءِ في قولِه: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ؛ لأنَّه ذكَرَ هنا أوَّلَ مجيئِهم إلى يُوسفَ، فناسبَتْه الواوُ الدَّالَّةُ على الاستئْنَافِ، وذكَرَ بعدُ عند انصرافِهم عنه عطفًا على (لَمَّا دَخَلُوا)، فَنَاسبَتْه الفاءُ الدَّالَّةُ على التَّرتيبِ والتَّعقيبِ .

- قولُه: قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ نكَّرَ الأخَ ولم يقُلْ: (بأخيكم) وإنْ كان قد عَرَفَه وعَرَفَهم؛ مُبالَغةً في كونِه لا يُريدُ أن يَتَعرَّفَ لهم، ولا أنَّه يَدْري مَن هو، إظهارًا لعَدَمِ مَعْرفتِه بأخيهم إلَّا مِن ذِكْرِهم إيَّاه عنده، فعَدَلَ عنِ الإضافةِ المقتضِيَةِ المعرِفَةَ إلى التَّنكيرِ؛ تَنابُهًا في التَّظاهُرِ بجهْلِه به، كما في الفَرقِ بين قولِ القائلِ: مرَرْتُ بغُلامِك، ومرَرْتُ بغُلامٍ لك؛ ففي التَّعريفِ يكونُ المُتكلِّمُ عارفًا بالغُلامِ، وفي التَّنكيرِ يكونُ جاهِلًا به؛ فالتَّعريفُ يُفيد فرعَ عَهْدٍ في الغُلامِ بين المُتكلِّمِ وبين المُخاطَبِ، والتَّنكيرُ لا عَهْدَ فيه البتَّةَ .

- قولُه: أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ هذه الجُملةُ كِنايةٌ عنِ الوعْدِ بأنْ يُوفِيَ لهم الكَيلَ، ويُكْرِمَ ضِيافتَهم إنْ أَتَوا بأخيهم .

- وفيها تَخصيصُ الرُّؤيةِ بالإيفاءِ؛ لوُقوعِ الخِطابِ في أثنائِه، وأمَّا الإحسانُ في الإنزالِ فقد كان مُستمِرًّا فيما سبَق ولَحَقَ؛ ولذلك أخبَرَ عنه بالجُملةِ الاسميَّةِ .

- قولُه: أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ فيه إيثارُ صِيغةِ الاستقبالِ- مع كونِ هذا الكلامِ بعد التَّجهيزِ- للدَّلالةِ على أنَّ ذلك عادةٌ له مُستمِرَّةٌ .

3- قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ ولم يقُلْ: (فإنْ لم تفعَلوا)؛ وذلك لأنَّه لَمَّا كان مَقصودُ يوسُفَ عليه السَّلامُ بالأمرِ ومَرْمَى غَرَضِه بالتَّكليفِ منه استِحْضارَ أخيه، لم يَكْتَفِ في الشَّرطيَّةِ الدَّاعِيَةِ لهم إلى الجِدِّ في الامتثالِ، والسَّعْيِ في تَحْقيقِ المأمورِ به بالإشارةِ الإجْماليَّةِ إلى الفعْلِ الَّذي وَرَد به الأمرُ، بأنْ يقولَ: (فإنْ لم تفعَلوا)، بل أعادَه بعينِه مُتعلِّقًا بمَفعولِه؛ تحقيقًا لِمَطلَبِه، وإعرابًا عن مَقصِدِه .

4- قولُه تعالى: قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ فيه التَّأكيدُ- بعد الجُملةِ الفعليَّةِ المُصَدَّرةِ بالسِّينِ- بالجُملةِ الاسميَّةِ المؤكَّدَةِ بحرْفَيِ التَّأكيدِ: (إنَّ) واللَّامِ

============================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (63-66)

ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غريب الكلمات:

 

مَتَاعَهُمْ: أي: طعامَهم، أو أوعِيَتَهم، والمتاعُ: كُلُّ ما يُنتفَعُ به على وجهٍ ما، وأصْلُ (متع): يدلُّ على منفعَةٍ

.

مَا نَبْغِي: أيْ: أيَّ شيءٍ نطلُبُ وراءَ هذا، أو ماذا نريدُ؟ وأصْلُ (بغي): يدل على طلَبِ الشَّيءِ .

نَمِيرُ أَهْلَنَا: أي: نَجلِبُ إليهم الطَّعامَ؛ مِن قَولِهم: مار أهلَه يَميرُهم: إذا حملَ إليهم أقواتَهم مِن غيرِ بَلدِه .

كَيْلَ بَعِيرٍ: أي: حِمْلَ جَمَلٍ، يُكَالُ لَنَا، وقيل: حِمْلَ حمارٍ .

مَوْثِقًا: أي: عهدًا وميثاقًا، وأصْلُ (وثق): يدلُّ على عقْدٍ وإحكامٍ .

يُحَاطَ بِكُمْ: أي: تُمْنَعوا وتُغْلَبوا؛ مِن الإحاطة: وهو لفظٌ عامٌّ لجميعِ وُجوهِ الغَلَبة والقَسرِ، وأصْلُ (حوط): يدلُّ على الشَّيءِ يُطِيفُ بالشَّيءِ .

وَكِيلٌ: أي: شَهيدٌ علينا، كفيلٌ بالوفاءِ، وأصلُ (وكل): يدلُّ على اعتمادِ غيرِك في أمرِك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: فلَمَّا رجَعوا إلى أبيهم قصُّوا عليه ما كان مِن إكرامِ العزيزِ لهم، وقالوا: إنَّه لن يُعطيَنا مُستقبَلًا إلَّا إذا كان معنا أخونا الَّذي أخبَرناه به، فأرسِلْه معنا نُحضِرِ الطَّعامَ وافيًا، ونتعهَّدُ لك بحِفظِه. قال لهم أبوهم: كيف آمَنُكم عليه وقد أمِنتُكم على أخيه يوسُفَ مِن قَبلُ، والتَزمتُم بحِفظِه فلم تَفُوا بذلك؟! فلا أثِقُ بالتزامِكم وحِفظِكم، ولكِنِّي أثِقُ بحِفظِ الله؛ خيرِ الحافِظينَ، وأرحَمِ الرَّاحمينَ، أرجو أن يرحَمَني، فيحفَظَه ويَرُدَّه عليَّ.

ولَمَّا فَتَحوا أوعيَتَهم وجَدوا ثمنَ بضاعتِهم الَّذي دَفَعوه قد رُدَّ إليهم، قالوا: يا أبانا ماذا نطلُبُ أكثَرَ مِن هذا؟! هذا ثمَنُ بضاعتِنا رَدَّه العزيزُ إلينا، فكُنْ مُطمَئِنًّا على أخينا، وأرسِلْه معنا؛ لنجلِبَ طَعامًا وفيرًا لأهلِنا، ونحفَظ أخانا، ونزداد حِمْلَ بعيرٍ له؛ فإنَّ العزيزَ يَكيلُ لكلِّ واحدٍ حِمْلَ بعيرٍ، وذلك كَيلٌ يسيرٌ عليه. قال لهم يعقوبُ: لن أترُكَه يذهَبُ معكم حتَّى تتعَهَّدوا وتحلِفوا لي باللَّهِ أن ترُدُّوه إليَّ، إلَّا أن تُغْلَبوا عليه فلا تستطيعوا تخليصَه، فلَمَّا أعطَوه عهدَ اللَّهِ على ما طلَبَ، قال يعقوبُ: اللَّهُ على ما نقولُ وكيلٌ، تكفينا شَهادتُه علينا، وحِفظُه لنا.

تفسير الآيات :

 

فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ إخوةَ يوسُفَ عليه السَّلامُ لَمَّا رجعوا مِن مصرَ مُمْتارينَ، بادروا بما كان أهمَّ الأشياءِ عندهم مِن التَّوطئةِ لإرسالِ أخيهم معهم، وذلك قبل فتْحِ مَتاعِهم وعلْمِهم بإحسانِ العزيزِ إليهم مِن ردِّ بِضاعتِهم

.

فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ.

أي: فلَمَّا رجَعَ إخوةُ يوسُفَ إلى أبيهم يعقوبَ قالوا له: يا أبانا مُنِعَ منَّا الكيلُ في المستقبَلِ إنْ لم تُرسِلْ معنا أخانا الصَّغيرَ إلى مصرَ .

فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ.

أي: فأرْسِلْ معنا أخانا؛ حتَّى يُمْكِنَنا العودةُ إلى مصرَ وأخْذُ الطَّعامِ .

وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.

أي: وإنَّا لأخينا لحافِظونَ مِن أنْ يَنالَه في سَفَرِه سوءٌ، فلا تخَفْ عليه .

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64).

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ.

أي: قال يعقوبُ لأبنائِه: ماذا أفادَ ائتِمانُكم على أخيه يوسُفَ مِن قبلُ، حتَّى آمنَكم على أخيكم هذا الَّذي تسأَلونَني أنْ أُرسِلَه معكم؟ لقد فرَّطْتُم في يوسُفَ وحُلْتُم بيني وبينه، فكيف آمنُكم على أخيه؟! فلا أثِقُ بالتِزامِكم وحفْظِكم .

فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا.

أي: فاللَّهُ خيرٌ حافظًا لأخيكم منكم ومِن كلِّ أحدٍ .

وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

أي: واللَّهُ أرحمُ الرَّاحمينَ بخَلْقِه، وسيرحَمُ ضعْفي وكِبَري، ووَجْدي بفقْدِ وَلَدي، وأرجو منه أنْ يحفَظَه ويرُدَّه عليَّ .

وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65).

وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ.

أي: ولَمَّا فتَحَ إخوةُ يوسُفَ مَتاعَهم الَّذي حمَلوه مِن مصرَ، وجَدوا ثمَنَ الطَّعامِ الَّذي دفَعوه إلى يوسُفَ قد رجَعَ إليهم في رِحالِهم .

قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا.

أي: قال إخوةُ يوسُفَ لأبيهم يعقوبَ حينذاك؛ ترغيبًا في إرسالِ أخيهم معهم، وتطييبًا لنفْسِه: يا أبانا ماذا نُريدُ بعدَ هذا الإكرامِ؟! هذا ثمَنُ الطَّعامِ رُدَّ إلينا بعدَ أنْ أُوفِيَ لنا كيلُنا !

وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا.

أي: ونشْتَري لأهلِنا طعامًا مِن مصرَ إذا أرسَلْتَ معنا أخانا، ونحفَظُه ممَّا تخافُ عليه .

وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ.

أي: ونزدادُ حِمْلَ بعيرٍ لأخينا ، ذلك حِمْلٌ يسيرٌ .

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66).

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ.

أي: قال يعقوبُ: لن أُرْسِلَ معكم أخاكم إلى مصرَ حتَّى تُعْطوني يمينًا وعهدًا مُؤكَّدًا أنْ تردُّوه إليَّ، إلَّا أنْ تُغْلَبوا جميعُكم بأمرٍ لا قِبَلَ لكم به، فلا تقْدِروا على تخليصِ أخيكم ورَدِّه معكم .

فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ.

أي: فلَمَّا أعْطى أولادُ يعقوبَ أباهم عُهودَهم على أنْ يردُّوا إليه أخاهم، قال يعقوبُ: اللَّهُ شهيدٌ علينا بالوفاءِ بما نقولُ جميعًا، أنا وأنتم تَكْفِينا شَهادتُه وحفْظُه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا فيه التَّفويضُ إلى اللَّهِ تعالى، والاعتمادُ عليه في جميعِ الأمورِ

.

2- قولُه تعالى: قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ كلُّ ذلك زيادةٌ في التَّوثيقِ؛ لِمَا حصَلَ له مِن المُصيبةِ بيوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإنْ كان الاعتمادُ في حفْظِه إنَّما هو على اللَّهِ، وهذا مِن بابِ (اعْقِلْها وتوكَّلْ)

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- العُقودُ تنعَقِدُ بما يدُلُّ عليها مِن قَولٍ وفِعلٍ، لا فَرقَ بين عُقودِ التبرُّعاتِ، وعُقودِ المُعاوضاتِ؛ لأنَّ يوسُفَ صلَّى الله عليه وسلَّم ملَّكَ إخوتَه بضاعتَهم التي اشتَرَوا بها مِيرتَهم مِن حيثُ لا يشعُرونَ، وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ... الآية، وذلك مِن دونِ إيجابٍ وقبولٍ قوليٍّ؛ لأنَّ الفِعلَ والرِّضا يدلُّ على ذلك

.

2- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا لَمَّا كان المُفْرِحُ مُطلَقَ الرَّدِّ، بُنِيَ قولُه: رُدَّتْ للمفعولِ .

3- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فيه أنَّ سوءَ الظَّنِّ- مع وُجودِ القرائنِ الدَّالَّةِ عليه- غيرُ ممنوعٍ ولا مُحرَّمٍ .

4- قيل: قد صدَّقَت هذه القِصَّةُ المَثَلَ السَّائرَ، وهو قولُهم: (البَلاءُ مُوكَّلٌ بالمَنطِقِ)؛ فإنَّ يعقوبَ عليه السَّلامُ قال: إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ أي: تُغْلَبوا عليه، فابْتُلِيَ بذلك، وأُحيطَ بهم، وغُلِبوا عليه .

5- قولُه: حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا لَمَّا كان يعقوبُ غيرَ مُخْتارٍ لإرسالِ ابنِه وألحُّوا عليه في ذلك، علَّقَ إرسالَه بأخذِ المَوْثِقِ عليهم، وهو الحلِفُ باللَّهِ؛ إذْ به تُؤَكَّدُ العُهودُ وتُشَدَّدُ .

6- قولُه: حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ جعَلَ الحلِفَ باللَّهِ مَوْثِقًا منه؛ لأنَّ تأْكيدَ العُهودِ به مأْذونٌ فيه مِن جِهَتِه تعالى، فهو إذنٌ منه عزَّ وجلَّ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قولُه تعالى: فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ

- قولُه: مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ أي: حِيلَ بيننا وبين الكَيْلِ في المُستقبَلِ؛ لأنَّ رُجوعَهم بالطَّعامِ المُعَبَّرِ عنه بالجَهازِ قَرينةٌ أنَّ المنْعَ منَ الكَيلِ يقَعُ في المستقبَلِ، ولأنَّ ترْكيبَ مُنِعَ مِنَّا يُؤْذِنُ بذلك؛ إذ جَعَلوا الكَيلَ ممْنوعَ الابتداءِ منهم؛ لأنَّ (مِن) حرفُ ابتداءٍ، فهم يُريدونَ قولَ يوسُفَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي؛ لأنَّهم إذا أُنْذِروا بمَنْعِ الكَيْلِ فقد مُنِعَ الكَيلُ، ويكونُ مُنِعَ يُرادُ به في المُسْتَأْنَفِ، وإلَّا فقد كِيلَ لهم، وجاؤوا أباهم بالمِيرَةِ، لكنْ لَمَّا أُنْذِروا بمَنْعِ الكَيلِ قالوا: مُنِعَ

.

- قولُه: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فيه تأكيدُ حِفْظِه بالجُملةِ الاسميَّةِ الدَّالَّةِ على الثَّباتِ، وبحرفِ التَّوكيِد (إنَّ) .

2- قولُه تعالى: قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ الاستفهامُ هَلْ آمَنُكُمْ إنْكارِيٌّ فيه معنى النَّفيِ؛ فهو يَستَفْهِم عن وجْهِ التَّأكيدِ في قولِهم: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ .

3- قوله تعالى: وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ

- قولُه: قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي استئنافٌ مَبْنِيٌّ على السُّؤالِ، كأنَّه قِيلَ: ماذا قالوا حينئذٍ؟ فقيل: قالوا لأبيهم:... ؛ فجُملةُ قَالُوا يَا أَبَانَا مُسْتَأْنَفَةٌ استِئْنافًا بَيانِيًّا؛ لتَرَقُّبِ السَّامعِ أنْ يعلَمَ ماذا صدَرَ منهم حين فَجَأَهُم وِجْدانُ بضاعتِهم في ضمْنِ متاعِهم؛ لأنَّه مُفاجأةٌ غَريبةٌ، ولهذه النُّكْتةِ لم يُعْطَفْ بالفاءِ .

- قولُه: مَا نَبْغِي يحتملُ أنْ يكونَ للاستفهامِ الإنْكاريِّ بتنْزيلِ المُخاطَبِ منزِلةَ مَن يَتَطَلَّبُ منهم تَحْصيلَ بُغْيَةٍ، فيُنْكِرونَ أنْ تكونَ لهم بُغْيَةٌ أُخرى، أي: ماذا نطلُبُ بعد هذا ؟!

- قولُه: هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا جُملةٌ مُستأنَفةٌ، مُوَضِّحةٌ لِما دلَّ عليه الإنكارُ مِن بُلوغِ اللُّطْفِ غايتَه، والجُملُ بَعدَها معطوفةٌ عليه؛ فهو استئنافٌ مُوَضِّحٌ لقولِه: مَا نَبْغِي. وقولُه: وَنَمِيرُ أَهْلَنَا مَعطوفٌ على محذوفٍ، أي: رُدَّتْ إلينا، فنسْتَظْهِرُ بها، ونَمِيرُ أهلَنا بالرُّجوعِ إلى الملِكِ .

- وكرَّروا حِفْظَ الأخِ بقولِهم: وَنَحْفَظُ أَخَانَا؛ مُبالَغةً في الحضِّ على إرْسالِه .

- قولُه: ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ استئنافٌ وقَعَ تَعْليلًا لِمَا سَبَق، كأنَّه قيل: أيُّ حاجةٍ إلى الازْدِيادِ؟ فقيل ما قيل، أو ذلك الكَيلُ الزَّائدُ شيءٌ قليلٌ لا يُضَايقُنا فيه الملِكُ، أو سَهْلٌ عليه لا يَتَعاظَمَه أو أيَّ مَطْلبٍ نطلُبُ مِن مُهِمَّاتِنا، والجُملةُ الواقِعةُ بعدَه تَوضيحٌ وبَيانٌ لِمَا يُشْعِرُ به الإنْكارُ مِن كونِهم فائزينَ ببعضِ المَطالِبِ، أو مُتَمكِّنينَ مِن تَحْصيلِه .

- وجُملةُ وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ زيادةٌ في إظهارِ حِرْصِهم على سلامَةِ أخيهم؛ لأنَّ في سلامَتِه فائدةً لهم بازديادِ كَيلِ بَعيرٍ؛ لأنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ لا يُعْطي المُمْتارَ أكثرَ مِن حِمْلِ بَعيرٍ منَ الطَّعامِ؛ فإذا كان أخوهم معهم أعْطاه حِمْلَ بَعيرٍ في عِدادِ الإخوةِ، وبه تظْهَرُ المُناسَبةُ بين هذه الجُملةِ والَّتي قبْلَها، وهذه الجُمَلُ مُرَتَّبةٌ تَرْتيبًا بَديعًا؛ لأنَّ بعضَها مُتَوَلِّدٌ عن بعضٍ .

4- قوله تعالى: قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ

- قولُه: قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ تذْكيرٌ لهم بأنَّ اللَّهَ تعالى رقيبٌ على ما وقَعَ بينهم، وهذا توكيدٌ للحَلِفِ . وإيثارُ صِيغةِ الاستِقبالِ نَقُولُ؛ لاسْتِحضارِ صُورَتِه المُؤدِّي إلى تَثَبُّتِهم، ومُحافظتِهم على تَذَكُّرِه ومُراقبَتِه

==========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيتان (67-68)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ

المعنى الإجمالي:

 

يقول الله تعالى: وقال لهم أبوهم لَمَّا أرادوا الذَّهابَ إلى مصرَ: يا أبنائي إذا دخَلتُم أرضَ مصرَ فلا تدخُلوا مِن بابٍ واحدٍ، ولكن ادخُلوها مِن أبوابٍ مُتفَرِّقةٍ، وإنِّي إذ أُوصيكم بهذا لا أدفَعُ عنكم شيئًا قضاه اللَّهُ عليكم، فما الحُكمُ إلَّا للَّهِ وَحدَه، عليه اعتَمَدتُ ووَثِقتُ، وعليه وَحدَه يعتَمِدُ المؤمِنونَ، ولَمَّا دخَلوا من أبوابٍ مُتفَرِّقةٍ كما أمَرَهم أبوهم، ما كان ذلك لِيَدفعَ قضاءَ اللَّهِ عنهم، ولكِنْ حاجة في نَفسِه قضاها، وهي دخولُهم متفرِّقينَ شفقةً عليهم، وإنَّ يعقوبَ لصاحِبُ عِلمٍ عظيمٍ بأمرِ دينِه علَّمَه اللَّهُ له، ولكنَّ أكثرَ النَّاسَ لا يعلمونَ ما يَعلَمُه يعقوبُ عليه السَّلامُ مِن أمرِ دينِه وعواقِبِ الأمورِ ودقائِقِ الأشياءِ.

تفسير الآيتين:

 

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67).

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ.

أي: وقال يعقوبُ لأبنائِه لَمَّا أرادوا الخروجَ إلى مصرَ: يا بَنيَّ لا تدخُلوا مصرَ مِن بابٍ واحدٍ، وادخُلوا مِن أبوابٍ مُتعدِّدةٍ

.

وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ.

أي: هذا الاحترازُ سبَبٌ لا يَرُدُّ قدَرَ اللَّهِ، فما أقْدِرُ أنْ أدفَعَ عنكم بِوَصيَّتي هذه مِن قضاءِ اللَّهِ مِن شيءٍ؛ لأنَّ اللَّهَ إذا قدَّرَ شيئًا فلا بُدَّ مِن وُقوعِه، ولا ينفَعُ الحذَرُ مع القدَرِ .

إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ.

أي: ما الحُكمُ والقضاءُ إلَّا للَّهِ وحدَه؛ يحكُمُ في خلْقِه، ويقضي فيهم بما يشاءُ .

عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ.

أي: على اللَّهِ وحدَه اعتمدتُ ووَثِقتُ، لا على ما وصَّيتُكم به مِن دُخولِ مصرَ مِن أبوابٍ مُتفرِّقَةٍ، وعليه فلْيُفوِّضْ المُفَوِّضونَ أمورَهم .

وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68).

وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ.

أي: ولَمَّا دخَلَ أولادُ يعقوبَ مصرَ مِن أبوابٍ مُتفرِّقَةٍ، كما أمَرَهم أبوهم، ما كان ينفَعُهم دُخولُهم بتلك الصِّفةِ شيئًا ممَّا قضاهُ اللَّهُ عليهم .

إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا.

أي: لكِنْ أمَرَهم يعقوبُ بدُخولِ مصرَ مِن أبوابٍ مُتفرِّقَةٍ؛ لِحاجةٍ في نفْسِه أنفَذَها حين أمَرَهم بذلك، فلم يدَّخِرْ تلك النَّصيحةَ عنهم؛ لِيطمئنَّ قلْبُه بأنَّه لم يترُكْ شيئًا يظُنُّه نافعًا لهم إلَّا أبلَغَه إليهم؛ شفَقَةً منه، وحِرصًا على تنْبيهِهم للأخطارِ الَّتي قد تعرِضُ لهم، وتعْليمِهم الأخذَ بالأسبابِ مع التَّوكُّلِ على اللَّهِ .

وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ.

أي: وإنَّ يعقوبَ لصاحِبُ عِلْمٍ عظيمٍ؛ لِتعْليمِنا إيَّاه .

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يعلمونَ ما يعلَمُه نَبِيُّنا يعقوبُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن أمْرِ الدِّينِ، وعواقِبِ الأُمورِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- أنَّ الإنسانَ مأْمورٌ بأنْ يُراعِيَ الأسبابَ المُعتبَرَةَ في هذا العالَمِ، ومأمورٌ أيضًا بأنْ يعتقِدَ ويجزِمَ بأنَّه لا يصِلُ إليه إلَّا ما قدَّرَه اللَّهُ تعالى، وأنَّ الحذَرَ لا يُنْجِي مِن القدَرِ؛ فإنَّ الإنسانَ مأمورٌ بأنْ يحذَرَ من الأشياءِ المُهلِكةِ، والأغذيةِ الضَّارَّةِ، ويسعى في تحصيلِ المنافِعِ، ودفْعِ المَضارِّ بقدْرِ الإمكانِ. ثمَّ إنَّه مع ذلك ينْبغي أنْ يكونَ جازِمًا بأنَّه لا يصِلُ إليه إلَّا ما قدَّرَه اللَّهُ، ولا يحصُلُ في الوُجودِ إلَّا ما أرادَه اللَّهُ؛ فقولُه عليه السَّلامُ: لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ إشارةٌ إلى رِعايةِ الأسبابِ المُعتبَرَةِ في هذا العالَمِ، وقولُه: وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إشارةٌ إلى عدَمِ الالتفاتِ إلى الأسبابِ، وإلى التَّوحيدِ المحْضِ، والبَراءةِ عن كلِّ شيءٍ سِوى اللَّهِ تعالى

.

2- قال اللَّهُ تعالى: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ المُسلِمَ يجِبُ عليه أنْ يُحَذِّرَ أخاه ممَّا يخافُ عليه، ويُرْشِدَه إلى ما فيه طريقُ السَّلامَةِ والنَّجاةِ؛ فإنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ، والمُسلِمُ أخو المُسلِمِ .

3- قال اللَّهُ تعالى حِكايةً عن قولِ يعقوبَ لأولادِه: وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي: لا يكونُ ما أمرْتُكم به مُغنِيًا غَنَاءً مُبتدِئًا مِن عند اللَّهِ، بل هو الأدَبُ والوقوفُ عند ما أمَرَ اللَّهُ، فإنْ صادَفَ ما قدَّرَه فقد حصَلَ فائدتانِ، وإنْ خالَفَ ما قدَّرَه حصَلَت فائدةُ امتثالِ أوامِرِه، واقتِناعِ النَّفْسِ بعدَمِ التَّفريطِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قولُ اللَّهِ تعالى: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ فيه إثباتُ أنَّ العينَ حقٌّ

، هذا على القولِ بأنَّه أمَرهم بذلك لخوفِه عليهم مِن العينِ.

2- في قولِه تعالى: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ إلى قولِه سبحانه: مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا حجَّةٌ في الاحترازاتِ خشيةَ العينِ؛ لأنَّ يعقوبَ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ نبيٌّ وقد فَكَّرَ في هذا، وربُّه جلَّ وعلا- وإنْ كان قد بَيَّنَ أنَّ احترازَهم لم يُغْنِ عنهم شيئًا - فلم يُنْكِرْ وَصاةَ أبيهم بذلك، وقال نبيُّنا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: ((العينُ حقٌّ، ولو كان شيءٌ سابِقَ القَدَرِ، سبقَتْه العينُ )) ، هذا على القولِ بأنَّه خافَ عليهم مِن العينِ.

3- قولُه تعالى عن يعقوبَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ الحُكْمُ هنا هو مِن الحُكمِ الكونيِّ، ويُقابلُه الحُكْمُ الدِّينيُّ، كقولِه تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ المائدة: 1.

4- في قولِه تعالى: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا حُجَّةٌ على مَن ينفي القَدَرَ؛ لأنَّ العينَ- وإنْ كانت حقًّا - فليست تصيبُ إلَّا بقَدَرٍ ، هذا على القولِ بأنَّه أمَرهم بذلك لخوفِه عليهم مِن العينِ.

5- لم يُوصِهِم يعقوبُ عليه السلامُ بالتَّفرُّقِ في الكَرَّةِ الأُولى؛ لأنَّهم كانوا مجْهولينَ مَغْمورينَ بين النَّاسِ ، مع شُغْلِ النَّاسِ بما هم فيه مِن القَحْطِ ، أو لأَنَّ محبوبَه فيهم، وهو بنيامينُ الَّذي كان يتسَلَّى به عن شقيقِه يوسفَ، ولم يَكُنْ فيهم في الكَرَّةِ الأُولَى، فأهملَ أمرَهم، ولم يَحتفِلْ بهم لسوءِ صَنيعِهم فِي يُوسفَ

 

.

بلاغة الآيتين :

 

1- قولُه تعالى: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ عطْفٌ على جُملةِ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ وإعادةُ فِعْلِ (قال)؛ للإشارةِ إلى اختِلافِ زَمَنِ القَولينِ، وإنْ كانا معًا مُسَبَّبَينِ على إيتاءِ مَوْثِقِهم

.

- قولُه: وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ بيانٌ للمُرادِ بالنَّهيِ في قولِه: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ؛ لأنَّ عدَمَ الدُّخولِ مِن بابٍ واحدٍ ليس مُستلزِمًا للدُّخولِ مِن أبْوابٍ مُتفرِّقةٍ، فلو دخَلُوا مِنْ بابينِ مثلًا كانوا قد امتثلوا النهيَ عَنِ الدُّخولِ مِن بابٍ واحدٍ، وفي دُخولِهم مِن بابَيْنِ أو ثلاثةٍ بَعضُ ما في الدُّخولِ مِن بابٍ واحدٍ؛ مِن نوعِ اجتماعٍ مُصَحِّحٍ لوُقوعِ المحْذورِ؛ فأوضَحَه وبيَّنَه بقولِه: وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، ولم يَكتَفِ بهذا الأمْرِ، مع كَونِه مُسْتلزِمًا للنَّهي السابقِ؛ إظهارًا لكَمالِ العِنَايةِ، وإيذانًا بأنَّه المُرادُ بالأَمْرِ المذْكورِ، لا تَحقيقُ شَيْءٍ آخرَ .

- قولُه: وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ (المُتَفرِّقةُ) أرادَ بها المُتَعدِّدةَ؛ لأنَّه جعَلَها في مُقابَلةِ الواحدِ، ووجْهُ العُدولِ عنِ المُتَعدِّدةِ إلى المُتَفرِّقةِ: الإيماءُ إلى عِلَّةِ الأمْرِ؛ وهي إخفاءُ كونِهم جماعةً واحدةً .

- وفي قولِه: وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ زِيدَتْ (مِن)؛ لتَوكيدِ عُمومِ (شيءٍ) في سِياقِ النَّفْيِ .

- وجُملةُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ في مَوْضِعِ البَيانِ لجُملةِ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؛ ليُبَيِّنَ لهم أنَّ وصيَّتَه بأخْذِ الأسبابِ مع التَّنْبيهِ على الاعتمادِ على اللَّهِ هو مَعْنى التَّوكُّلِ الَّذي يَضِلُّ في فَهْمِه كثيرٌ منَ النَّاسِ اقتِصارًا وإنكارًا؛ ولذلك أتَى بجُملةِ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أمرًا لهم ولغيرِهم، على مَعْنى أنَّه واجِبُ الحاضِرينَ والغائِبينَ، وأنَّ مَقامَه لا يختصُّ بالصِّدِّيقينَ، بل هو واجِبُ كلِّ مؤمنٍ .

- قوله: وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ، أي: عليه دُون غَيرِه؛ فأفادَ تقديمُ الجارِّ والمجرورِ قَصْرَ التوكُّلِ على اللهِ تعالى .

- وجمَع بين الحَرفينِ (الواو والفاء) في عَطفِ الجُملةِ على الجُملةِ؛ كأنَّ الواوَ للعَطفِ، والفاءَ لإفادة التسبُّبِ؛ فإنَّ فِعلَ الأنبياءِ سببٌ لأنْ يُقتدَى بِهم .

2- قوله تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

- قولُه: وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي: منَ الأبوابِ المُتفرِّقةِ منَ البلدِ، وإنَّما اكْتَفى بذِكْرِه؛ لاستلزامِه الانتهاءَ عمَّا نُهُوا عنه . وقد أَغْنَت جُملةُ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ عن جُمَلٍ كثيرةٍ؛ وهي: أنَّهم ارْتَحَلوا ودخلوا من حيث أمَرَهم أبوهم، ولَمَّا دخلوا مِن حيث أمَرَهم سَلِموا ممَّا كان يخافُه عليهم، وما كان دُخولُهم مِن حيث أمَرَهم يُغْني عنهم مِنَ اللَّهِ مِن شيءٍ لو قدَّرَ اللَّهُ أنْ يُحاطَ بهم؛ فالكلامُ إيجازٌ .

- قولُه: مَا كَانَ يُغْنِي فِيه الجمْعُ بين صِيغَتَيِ الماضي والمستقبَلِ؛ لتحقيقِ المُقارَنةِ الواجِبةِ بين جَوابِ (لَمَّا) ومَدْخولِه دَخَلُوا؛ فإنَّ عدَمَ الإغْناءِ بالفعْلِ إنَّما يتحقَّقُ عند نُزولِ المحذورِ لا وقتَ الدُّخولِ، وإنَّما المُتحقِّقُ حينئذٍ ما أفادَه الجمْعُ المذكورُ مِن عدَمِ كونِ الدُّخولِ المذكورِ مُغْنِيًا فيما سيأتي .

- قولُه: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ في تأْكيدِ الجُملةِ بـ (إنَّ) واللَّامِ، وتنْكيرِ (العِلْم)، وتَعليلِه بالتَّعليمِ المُسْنَدِ إلى ذاتِه سبحانه: دَلالةٌ على جَلالةِ شأْنِ يعقوبَ عليه السَّلامُ وعُلوِّ مَرتبةِ عِلمِه وفَخَامتِه

======================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (69-77)

ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ

غريب الكلمات:

 

آوَى: أي: ضَمَّ، والمأْوى: المَكَانُ الَّذي يُرْجَعُ إليه ليلًا أو نهارًا، وأصْلُ (أوي): يدلُّ على تجمُّعٍ

.

تَبْتَئِسْ: أي: تحزَنْ وتَغتمَّ؛ مِن البُؤسِ: وهو الضُّرُّ والشِّدَّةُ .

السِّقَايَةَ: أي: الصُّواعَ الذي كان يشربُ فيه الملِكُ، ويكيلُ به الطَّعامَ، وأصْلُ (سقي): يدلُّ على إشرابِ الشَّيءِ الماءَ، وما أشبَهَه .

الْعِيرُ: أي: الإبِلُ التي عليها الأحمالُ؛ سُمِّيَت بذلك لأنَّها تَعيرُ، أي: تذهبُ وتجيءُ، وأصْلُ (عير): يدلُّ على مجيءٍ وذَهابٍ .

صُوَاعَ: الصُّواعُ: السِّقايَةُ، وكان يُسقَى بها المَلِكُ، ثم جُعِلَت صاعًا يُكالُ به .

زَعِيمٌ: أي: كَفيلٌ وضَمينٌ، وأصْلُ (زعم): يدلُّ على تكفُّلٍ بالشَّيءِ .

بِأَوْعِيَتِهِمْ: أي: برِحالِهم، وأصْلُ (وعي): يدلُّ على ضمِّ شيءٍ .

دِينِ الْمَلِكِ: أي: حُكمِه وقَضائِه، أو: سلطانِه ، وأصلُ (دين): يدلُّ على الانقيادِ والذُّلِّ .

تَصِفُونَ: أي: تكذِبونَ وتقولونَ، والوصْفُ: ذِكْرُ الشَّيءِ بحِلْيتِه ونعْتِه، وأصْلُ (وصف): تحْليةُ الشَّيءِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ

جَزَاؤُهُ مُبتدأٌ، ومَنْ اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ في محلِّ رفعٍ، خبرٌ على نيَّةِ حَذفِ مُضافٍ، والتَّقديرُ: جزاؤُه استِرقاقُ مَن وُجِدَ في رَحْلِه، وفَهُوَ جَزَاؤُهُ مُبتدأٌ وخبَرٌ، مُستأنَفٌ مُؤكِّدٌ لمعنى الأوَّلِ ومُقَرِّرٌ لحُكمِه، أي: فاستِرقاقُه جزاؤُه؛ كقولِك: حقُّ الضَّيفِ أن يُكْرَمَ، فهو حَقُّه. ويجوزُ أن يكونَ جَزَاؤُهُ مُبتدأً، والجملةُ الشَّرطيَّةُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ خبرًا له، على إقامةِ الظَّاهرِ جَزَاؤُهُ مَقامَ المُضمَرِ (هو)، والأصلُ: جزاؤُه مَن وُجِدَ في رحْلِه فهو هو، أي: فهو الجزاءُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول الله تعالى: ولَمَّا دخلَ إخوةُ يوسُفَ عليه في مَنزلِ ضِيافتِه ومعهم شَقيقُه، ضمَّ يوسُفُ إليه شقيقَه، وقال له سِرًّا: إنِّي أنا أخوك فلا تحزَنْ، ولا تغتمَّ بما صنَعوه بي وبك فيما مضى، وأمَرَه بكتمانِ ذلك عنهم، فلَمَّا جهَّزهم يوسُفُ، وحمَّلَ إبِلَهم بالطَّعامِ، جعَلَ الإناءَ- الَّذي يشرَبُ فيه المَلِكُ ويكيلُ للنَّاسِ به- في متاعِ أخيه الشَّقيقِ مِن حيثُ لا يشعُرُ أحَدٌ، ولَمَّا رَكِبوا ليَسيروا نادى مُنادٍ قائلًا: يا أصحابَ هذه العِيرِ المُحمَّلةِ بالطَّعامِ، إنَّكم لسارِقونَ، فقال أولادُ يعقوبَ مُقبِلينَ على المُنادي: ما الَّذي تَفقِدونَه؟ قال المُنادي ومَن بحَضرتِه: نَفقِدُ الإناءَ الَّذي يشرَبُ فيه المَلِكُ، ويكيلُ به الطَّعامَ، ومُكافأةُ مَن يُحضِرُه مِقدارُ حِمْلِ بعيرٍ مِن الطَّعامِ، وقال المنادي: وأنا بحِمْلِ البَعيرِ مِن الطَّعامِ ضامِنٌ وكَفيلٌ.

قال إخوةُ يوسُفَ: لقد تحقَّقتُم ممَّا شاهَدتُموه منَّا أنَّنا ما جِئنا أرضَ مصرَ مِن أجلِ الإفسادِ فيها، وليست السرقةُ مِن صِفاتِنا ، قال المُنادي ومَن معه لإخوةِ يوسُفَ: فما عُقوبةُ السَّارِقِ عِندَكم إن كُنتُم كاذبينَ في قَولِكم؟ قال إخوةُ يوسُفَ: جزاءُ السَّارِقِ أن يُسلَّمَ إلى مَن سرَقَ منه؛ حتَّى يكون عبدًا عندَه، مثلَ هذا الجزاءِ- وهو الاستِرقاقُ- نَجزي الظَّالِمينَ بالسَّرِقةِ، وهذا دينُنا وسُنَّتُنا في أهلِ السَّرِقةِ، ورَجَعوا بإخوةِ يوسُفَ إليه، فقام يوسُفُ بنَفسِه يُفتِّشُ أمتِعتَهم، فبدَأَ بأمتِعَتهم قبل مَتاعِ شَقيقِه؛ إحكامًا لِما دبَّرَه لاستبقاءِ أخيه معه، ثمَّ انتهى بوعاءِ أخيه، فاستخرجَ الإناءَ منه، كذلك يسَّرْنا لِيوسُفَ هذا التَّدبيرَ الَّذي توصَّلَ به لأخْذِ أخيه، وما كان له أن يأخُذَ أخاه في حُكمِ مَلِكِ مصرَ- لأنَّه ليس مِن دينِه أن يتمَلَّكَ السَّارِقَ- إلَّا بمَشيئةَ اللَّهِ، فقد كادَ لِيوسُفَ، حتَّى تمكَّنَ مِن أخْذِ شقيقِه مِن إخوتِه، بناءً على شريعتِهم، وإقرارِهم بأنفُسِهم.

نرفَعُ مَن نشاءُ مَنازِلَ في الدُّنيا على غيرِه، كما رفَعْنا منزلةَ يوسُفَ، وفوقَ كُلِّ ذي علمٍ مَن هو أعلَمُ منه، حتَّى ينتهيَ العِلمُ إلى اللَّهِ تعالى عالمِ الغَيبِ والشَّهادةِ.

ولَمَّا استُخرِجَ الصُّواعُ مِن رَحلِ أخيهم قال إخوةُ يوسُفَ: إنْ سرَقَ هذا فقد سرَقَ أخٌ شقيقٌ له مِن قَبلُ- يقصِدونَ يوسُفَ عليه السَّلامُ- فأخفَى يوسُفُ في نفسِه كلمةً حدَّثَ نفسَه بها قائلًا: أنتم أسوأُ مَنزلةً ممَّن ذكَرْتُم؛ حيثُ دبَّرتُم لي ما كان منكم، واللَّهُ أعلَمُ بما تَصِفونَ مِن الكَذِبِ والافتراءِ.

تفسير الآيات :

 

وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69).

وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ.

أي: ولَمَّا دخَلَ أولادُ يعقوبَ على يوسُفَ، ضمَّ يوسُفُ إليه أخاه الشَّقيقَ

.

قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.

أي: قال يوسُفُ لأخيه مُخبِرًا بحقيقتِه: إنِّي أنا أخوك، فلا تحزَنْ بما كان إخوتُك يفعَلون بي وبك مِن قبْلُ .

فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70).

فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ.

أي: فلَمَّا أوفى يوسُفُ إخوتَه الطَّعامَ، وحمَّلَ لكلِّ واحدٍ منهم بعيرَه؛ جعَلَ الإناءَ- الَّذي يشرَبُ فيه الملِكُ ويُكالُ به الطَّعامُ- في مَتاعِ أخيه الشَّقيقِ .

ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ.

أي: ثمَّ نادى منادٍ: يا أصحابَ القافِلَةِ المُحمَّلةِ بالطَّعامِ، إنَّكم لسارِقونَ .

قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71).

أي: قال إخوةُ يوسفَ وقد أقبلوا على المُنادي ومَن معه: ما الَّذي ضاعَ منكم ؟

قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72).

قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ.

أي: قال المُنادي ومَن معه: نفقِدُ الإناءَ الَّذي يشرَبُ فيه الملِكُ، ويكيلُ به الطَّعامَ .

وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ.

أي: ولمِن جاء بصُواعِ الملِكِ حِمْلُ بعيرٍ مِن الطَّعامِ .

وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ.

أي: قال المُنادي لإخوةِ يوسُفَ: وأنا بأنْ أُوفيَ مَن قامَ بذلك حِمْلَ بعيرٍ مِن الطَّعامِ، ضامِنٌ وكفيلٌ .

قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73).

أي: قال إخوةُ يوسُفَ: واللَّهِ لقد علِمْتم أنَّنا ما جئْنا لنعصِيَ اللَّهَ في أرضِكم، ولم نكُنْ سارِقينَ مِن قبْلُ قطُّ، فليستِ السَّرِقةُ مِن خِصالِنا .

قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74).

أي: قال المُنادي ومَن معه: فما عُقوبةُ سارِقِ الصُّواعِ إنْ كنتم كاذِبينَ في تَبْرئةِ أنفُسِكم، ووجَدْنا الصُّواعَ في رِحالِكم ؟

قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75).

قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ.

أي: قال إخوةُ يوسُفَ: عُقوبةُ مَن وُجِدَ الصُّواعُ في مَتاعِه أنْ يكونَ هو نفْسُه رقيقًا لِصاحِبِ الصُّواعِ .

كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.

أي: كذلك نُعاقِبُ الظَّالمينَ للنَّاسِ بسَرِقةِ أمْتعتِهم؛ أنْ يكونَ السَّارِقُ مِلْكًا لصاحِبِ المالِ المَسروقِ .

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76).

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ.

أي: فبدَأَ يوسُفُ بتفتيشِ أمتِعةِ إخوتِه قبلَ تفتيشِ مَتاعِ أخيه الشَّقيقِ، ثمَّ استخرَجَ الصُّواعَ مِن مَتاعِ شقيقِه؛ ليصِحَّ له بذلك إمساكُه عنده .

كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ.

أي: مِثْلَ ذلك الكيدِ العجيبِ دبَّرنا ليوسفَ؛ ليتوصلَ إلى مقصودِه بألطفِ حيلةٍ ؛ بأن ألهمناه أن يجعلَ السقايةَ في رحلِ أخيه؛ ليتوصَّلَ به إلى حبسِه .

مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ.

أي: ما كان يوسُفُ ليقْدِرَ على أنْ يأخُذَ أخاه الشَّقيقَ وَفقًا لشريعةِ ملِكِ مصرَ- فليس في حُكْمِه أنَّ مَن سَرَقَ يُسْتَرَقُّ- إلَّا بمشيئةِ الله ؛ فقد كادَ لِيوسُفَ، حتَّى تمكَّنَ مِن أخْذِ شقيقِه مِن إخوتِه، بناءً على شريعتِهم، وإقرارِهم بأنفُسِهم، فجعَلَ الحُكمَ منهم؛ ليتِمَّ له ما أرادَ .

نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء.

القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ دَرَجَاتٍ بالتَّنوينٍ، بمعنى: نرفَعُ مَن نشاءُ درجاتٍ في العِلْمِ على غيرِه، كما رفَعْنا يوسُفَ، فيكونُ في الآيةِ تقْديمٌ وتأْخيرٌ، كأنَّه قال: نرفَعُ مَن نشاءُ درجاتٍ .

2- قِراءةُ دَرَجَاتِ بالإضافةِ بلا تنوينٍ، بمعنى: نرفَعُ درجاتِ مَن نشاءُ في الدُّنيا بالعِلْمِ، كما رفَعْنا منزِلةَ يوسُفَ، فيكونُ الرَّفعُ للدَّرجاتِ .

نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء.

أي: نرفَعُ مَن نشاءُ درجاتٍ بالعلْمِ النَّافِعِ، ومعرفةِ الطرقِ الموصلةِ إلى المقاصِدِ الحَسَنةِ، كما رفَعْنا يوسُفَ .

كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ المجادلة: 11.

وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.

أي: وفوقَ كلِّ عالِمٍ مَن هو أعلَمُ منه، حتَّى ينتهِيَ العلْمُ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ عالِمِ الغيبِ والشَّهادةِ .

قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77).

قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ.

أي: قال إخوةُ يوسُفَ بعدما استُخرِجَ الصُّواعُ مِن رَحْلِ أخيهم؛ تنصُّلًا مِن التَّشبُّهِ به، وتبْرئةً لأنفُسِهم مِن هذه التُّهمةِ التي تُحرِجُهم: إنْ يسرِقْ هذا فليس بغريبٍ منه؛ فقد سرَقَ شقيقُه يوسُفُ مِن قبلُ .

فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ.

أي: فأضمَرَ يوسُفُ في نفْسِه كَلِمةً، ولم يُظهرها لهم .

وهذه الكلمةُ التي أسرَّها في نفْسِه، بعد أنْ وصَفَه إخوتُه بالسَّرقةِ كَذِبًا عليه؛ هي قولُه:

قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا.

أي: قال: أنتم شرٌّ منزِلةً عند اللَّهِ ممَّن نسبْتُموه إلى السَّرقةِ؛ لِصنيعِكم الظَّالِمِ بي، وعُقوقِ أبيكم، ثمَّ بعد تلك المُدَّةِ الطَّويلةِ لم يَزُلِ الحِقْدُ عن قُلوبِكم، فرميتُموني بالسَّرقةِ .

وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ.

أي: واللَّهُ أعلَمُ بما تذكرونَ من الكَذِبِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ اللَّهِ تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ تضمَّنتِ الآيةُ البَيانَ عمَّا يوجِبُه التَّلطُّفُ في بُلوغِ المُرادِ مِن إيقاعِ الأسبابِ الَّتي تُؤدِّي إليه، وتبعَثُ عليه بظاهِرٍ جميلٍ وباطِنٍ حقٍّ، ممَّا يخْفَى على كثيرٍ مِن النَّاسِ موقِعُه، ويُشْكِلُ عليه وجْهُه؛ لأنَّه أنفَذُ له، وأنجَحُ للمطلوبِ منه

.

2- قولُ اللَّهِ تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ فيه أنَّه ينبَغي لمَن أرادَ أنْ يُوهِمَ غيرَه بأمْرٍ لا يُحِبُّ أنْ يطَّلِعَ عليه أنْ يستعمِلَ المعاريضَ القوليَّةَ والفِعليَّةَ المانِعةَ له مِن الكَذِبِ، كما فعَلَ يُوسفُ؛ حيث ألقى الصُّواعَ في رَحْلِ أخيه، ثمَّ استخْرَجها منه مُوهِمًا أنَّه سارقٌ، وليس فيه إلَّا القَرينةُ الموهِمَةُ لإخوتِه، وقال بعد ذلك: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ولم يقُلْ: (مَن سرَقَ مَتاعَنا)، وكذلك لم يقُلْ: (إنَّا وجَدْنا مَتاعَنا عنده)، بل أتى بكلامٍ عامٍّ يصلُحُ له ولغيرِه، وليس في ذلك محذورٌ، وإنَّما فيه إيهامٌ أنَّه سارقٌ؛ ليحصُلَ المقصودُ الحاضِرُ، وأنَّه يبقى عند أخيه، وقد زالَ عنِ الأخِ هذا الإيهامُ بعدما تبيَّنتِ الحالُ .

3- العمَلُ بالشَّريعةِ فيه إصلاحُ الأرضِ والبلادِ، واستقامةُ الأمورِ، والعَملُ بالمعاصي- مِن سَرِقةٍ وغَيرِها- فيه فسادُ ذلك؛ لِقَولِهم: تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ، وكم في القُرآنِ مِن التَّصريحِ أنَّ العملَ بالمعاصي ومُخالفةَ الرُّسُلِ، فسادٌ للأرضِ، ومُتابعة الرُّسُلِ هو الصَّلاحُ المُطلَقُ؛ صَلاحُ الدِّينِ والدُّنيا .

4- قال اللَّهُ تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ في قِصَّةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ تنْبيهٌ على: أنَّ مَن كادَ غيرَه كيدًا مُحرَّمًا فإنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لا بُدَّ أنْ يَكيدَه، وأنَّه لا بُدَّ أنْ يَكيدَ للمظلومِ إذا صبَرَ على كيدِ كائدِه وتلطَّفَ به؛ فالمُؤمنُ المُتوكِّلُ على اللَّهِ إذا كادَه الخلْقُ فإنَّ اللَّهَ تعالى يَكيدُ له، وينتصِرُ له بغيرِ حولٍ منه ولا قوَّةٍ .

5- قولُ اللَّهِ تعالى: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ العلْمَ أشرَفُ المَقاماتِ وأعلى الدَّرجاتِ؛ لأنَّه تعالى لَمَّا هدى يوسُفَ إلى هذه الحيلةِ والفِكرةِ، مدَحَه لأجْلِ ذلك، فقال: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- حُذِفَ المفعولُ في قولِه: إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ليصِحَّ أنْ يُضَمَّنَ سرِقتَهم لِيوسُفَ، فيتِمَّ التَّعريضُ، ويكونَ الكلامُ صِدقًا، وذُكِرَ المفعولُ في قولِه: نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وهو صادِقٌ في ذلك، فصدَقَ في الجُملتينِ معًا تعريضًا وتصريحًا

، هذا على القولِ بأنَّ يوسفَ عليه السلامُ هو الذي أمَرهم بالنِّداءِ.

2- قولُ اللَّهِ تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ كيف رَضِيَ يوسُفُ أن ينسُبَ إليهم السَّرقةَ ولم يفعَلوها؟

والجوابُ عن ذلك من وجوهٍ:

أحدُها: أنَّهم طلَبوا السقايةَ، فلم يَجِدوها، وغلَب على ظنِّهم أنَّهم هم الذين أخَذوها، فقالوا ذلك بناءً على غلبةِ ظنِّهم، وليس في القرآنِ ما يدلُّ على أنَّهم قالوا ذلك بأمْرِ يوسُفَ عليه السَّلامُ.

الثَّاني: أنَّه مِن بابِ المعاريضِ، وأنَّ يُوسفَ نَوَى بذلك أنَّهم سرَقوه مِن أبيه، حيثُ غَيَّبوه عنه بالحيلةِ الَّتي احْتالوها عليه، وخانوه فيه، والخائِنُ يُسمَّى سارقًا.

الثَّالثُ: أنَّه أرادَ: أيَّتُها العيرُ حالُكم حالُ السُّرَّاقِ. فالمعنى: إنَّ شيئًا لغيرِكم صار عندكم مِن غيرِ رِضا الملِكِ ولا علْمِه.

الرابعُ: أنَّ هذا كان حِيلةً لاجتماعِ شَمْلِه بأخيه، وفصْلِه عنه إليه، وهو ضررٌ دفَعَه بأقلَّ منه، وقيل غيرُ ذلك .

3- في قولِه تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ إلى قولِه: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ حُجَّةٌ في جوازِ المعاريضِ، بل في إباحةِ الكذِبِ فيما دعا إلى الصَّلاحِ والخيرِ، ودفْعِ الحرَجِ فيه، وزَوالِ المأْثَمِ في تكْريرِه .

4- في قولِه تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ إلى قولِه: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ فيه دليلٌ على أنَّ الوصولَ إلى الحُقوقِ وصَلاحِ ذاتِ البَيْنِ مُباحٌ بالحِيَلِ ، وأنَّ التَّوصُّلَ إلى الأغراضِ بالحِيَلِ جائزٌ إذا لم تُخالِفْ شريعةً، ولا هدَمَت أصلًا .

5- قولُ اللَّهِ تعالى: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أصلٌ لِمشروعيَّةِ الجعالةِ .

6- قولُ اللَّهِ تعالى: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أصلٌ في الضمانِ والكفالةِ ، ففيه جوازُ الكَفالةِ على الرَّجلِ؛ لأنَّ المُؤذِّنَ الضَّامِنَ هو غيرُ يوسُفَ عليه السَّلامُ .

7- قولُه: لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ استَشْهَدوا بعِلْمِهم على بَراءةِ أنْفُسِهم؛ لِمَا عَرَفوا منهم في كَرَّتَيْ مَجيئِهم، ودُخولِهم أرضَهم، ممَّا يدلُّ على فَرْطِ أمانتِهم، كردِّ البضاعةِ التي جُعِلت في رحالِهم ، وأيضًا حَكَموا بعِلْمِهم ذلك؛ لأنَّ العِلْمَ بأحوالِهم الشَّاهدةِ يستلزِمُ العِلْمَ بأحوالِهم الغائبةِ .

8- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ لَمَّا كانت العِبرةُ بنَفْسِ الوِجْدانِ بَنَوا للمفعولِ قولَهم: وُجِدَ فِي رَحْلِهِ .

9- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ لِتحقُّقِهم البَراءةَ علَّقوا الحُكمَ على مُجرَّدِ الوِجْدانِ لا السَّرقةِ .

10- قال اللَّهُ تعالى: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ فيه أنَّ القرائنَ يُعْمَلُ بها عند الاشتباهِ؛ لأنَّه استدلَّ بوُجودِ الصُّواعِ في رَحْلِ أخيه على الحُكمِ عليه بالسَّرقةِ مِن غيرِ بيِّنةِ شَهادةٍ ولا إقرارٍ، فعلى هذا إذا وُجِدَ المسروقُ في يَدِ السَّارقِ- خصوصًا إذا كان معروفًا بالسَّرقةِ- فإنَّه يُحكَمُ عليه بالسَّرقةِ، وهذا أبلَغُ مِن الشَّهادةِ .

11- فَبَدَأَ المُفتِّشُ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ؛ وذلك لِتَزولَ الرِّيبةُ الَّتي يُظَنُّ أنَّها فُعِلَت بالقصْدِ، فلَمَّا لم يجِدْ في أوعيتِهم شيئًا اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ .

12- قولُ الله تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ يُستدَلُّ به على جوازِ تسميةِ قوانينِ مِلَلِ الكُفرِ (دينًا) لها .

13- قال اللَّهُ تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مِن لَطيفِ الكيدِ في ذلك: أنَّه لَمَّا أرادَ أخْذَ أخيه توصَّلَ إلى أخْذِه بما يُقِرُّ إخوتُه أنَّه حقٌّ وعدْلٌ، ولو أخَذَه بحُكمِ قُدرتِه وسُلطانِه لنُسِبَ إلى الظُّلمِ والجَورِ، ولم يكُنْ له طريقٌ في دِينِ الملِكِ يأخُذُه بها، فتوصَّلَ إلى أخْذِه بطريقٍ يعترِفُ إخوتُه أنَّها ليست ظُلمًا، فوضَعَ الصُّواعَ في رَحْلِ أخيه بمُواطأَةٍ منه له على ذلك، ولهذا قال: فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يوسف: 69.

ومِن لَطيفِ الكيدِ: أنَّه لم يُفَتِّشْ رِحالَهم وهم عنده، بل أمْهَلَهم حتَّى جهَّزَهم بجَهازِهم وخرَجوا، ثمَّ أرسَلَ في آثارِهم لذلك، والسِّياقُ يقْتَضي ذلك؛ إذ لو كان هذا وهم بحضْرَتِه لم يحتَجْ إلى الأذانِ، وإنَّما يكونُ الأذانُ نِداءً لبعيدٍ يُطْلَبُ وُقوفُه وحبْسُه. فكان في هذا مِن لَطيفِ الكيدِ: أنَّه أبعدُ مِن التُّهمةِ للطَّالِبِ بالمُواطأَةِ والمُوافقَةِ، وأنَّه لا يشعُرُ بما فُقِدَ له، فكأنَّه لَمَّا خرَجَ القومُ وارتَحَلوا، احتاجَ الملِكُ إلى صُواعِه لبعضِ حاجَتِه إليه، فالتمَسَه فلم يجِدْه، فسأَلَ عنه الحاضرين فلم يجِدُوه، فأرسَلوا في أثَرِ القومِ، فهذا أحْسنُ وأبعدُ مِن التَّفطُّنِ للحِيلَةِ مِن التَّفتيشِ في الحالِ قبل انفصالِهم عنه، بل كلَّما ازدادوا بُعدًا عنه كان أبلَغَ في هذا المعنى.

ومِن لَطيفِ الكيدِ: أنَّه أذَّنَ فيهم بصوتٍ عالٍ رفيعٍ يسمَعُه جميعُهم، ولم يقُلْ لواحدٍ واحدٍ منهم؛ إعلامًا بأنَّ ذَهابَ الصُّواعِ أمْرٌ قد اشتَهَر، ولم يبْقَ فيه خَفاءٌ، وأنتم قد اشتُهِرْتُم بأخْذِه، ولم يُتَّهَمْ به سِواكم.

ومِن لَطيفِ الكيدِ: قولُ المُؤذِّنِ وأصحابِه لإخوةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ: قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ أي: ما عُقوبةُ مَن ظهَرَ عليه أنَّه سرَقَه منكم ووُجِد معه؟ أي: ما عُقوبتُه عندكم وفي دِينِكم؟ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ فأخَذوهم بما حكَموا به على نُفوسِهم، لا بحُكمِ الملِكِ وقومِه.

ومِن لَطيفِ الكيدِ: أنَّ الطَّالِبَ لَمَّا همَّ بتفتيشِ رَواحِلِهم بدَأَ بأَوعيتِهم يفتِّشُها قبلَ وِعاءِ مَن هو معه؛ تطمينًا لهم، وبُعدًا عن تُهمةِ المَواطأَةِ؛ فإنَّه لو بدَأَ بوِعاءِ مَن هو فيه لقالوا: وما يُدْريه أنَّه في هذا الوِعاءِ دون غيرِه مِن أوعيتِنا؟ فأزالَ هذه التُّهمةَ بأنْ بدَأَ بأوعيتِهم أوَّلًا .

14- في قولِه تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ تنبيهٌ على أنَّ العِلْمَ الدَّقيقَ بلطيفِ الحِيَلِ المُوصلةِ إلى المقصودِ الشَّرعيِّ الَّذي يُحِبُّه اللَّهُ تعالى ورسولُه- مِن نَصْرِ دينِه وكَسْرِ أعدائِه، ونَصْرِ المُحِقِّ وقَمْعِ المُبْطِلِ- صفةُ مَدْحٍ يرفَعُ اللَّهُ تعالى بها درجةَ العبدِ، كما أنَّ العِلْمَ الَّذي يُخْصَمُ به المُبْطِلُ وتُدْحَضُ حُجَّتَهُ، صفةُ مَدْحٍ يرفَعُ بها درجةَ عبدِه .كما قال اللَّهُ تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ الأنعام: 83، وقد ذكَرَ اللَّهُ أنَّه يرفَعُ دَرَجاتِ مَنْ يشاءُ في قِصَّةِ مُنَاظَرَةِ إبْراهيمَ وفي قِصَّةِ احتِيالِ يوسُفَ، ولهذا قال السَّلفُ: بالعِلْمِ؛ فإنَّ سِياقَ الآياتِ يدُلُّ عليه، فقِصَّةُ إبراهيمَ في العِلْمِ بالحُجَّةِ والمُنَاظَرَةِ؛ لدَفْعِ ضَرَرِ الخَصمِ عنِ الدِّينِ، وقِصَّةُ يوسُفَ في العِلْمِ بالسِّياسةِ والتَّدبيرِ؛ لتَحصُلَ مَنْفعةُ المَطلوبِ؛ فالأوَّلُ عِلْمٌ بما يدفَعُ المَضَارَّ في الدِّينِ، والثَّاني عِلْمٌ بما يَجْلِبُ المَنافِعَ. أو يقال: الأوَّلُ: هو العِلْمُ الَّذي يدفَعُ المَضَرَّةَ عنِ الدِّينِ، ويجلِبُ مَنْفعَتَه، والثَّاني: عِلْمٌ بما يدفَعُ المَضَرَّةَ عنِ الدُّنيا، ويجلِبُ مَنفعَتَها. أو يقال: قِصَّةُ إبراهيمَ في عِلْمِ الأقْوالِ النَّافِعَةِ عند الحاجَةِ إليها، وقِصَّةُ يوسُفَ في عِلْمِ الأفْعالِ النَّافِعَةِ عند الحاجَةِ إليها؛ فالحاجَةُ في جَلْبِ المَنْفعَةِ ودَفْعِ المَضَرَّةِ قد تكونُ إلى القولِ، وقد تكونُ إلى الفِعْلِ .

15- في قولِه تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ أنَّ مِن الكيدِ ما هو مشروعٌ، إلَّا أنَّه لا يجوزُ أنْ يُرادَ به الكيدُ الَّذي تُستحَلُّ به المُحرَّماتُ، أو تُسقَطُ به الواجِباتُ؛ فإنَّ هذا كيدٌ للَّهِ، واللَّهُ هو المَكيدُ في مِثْلِ هذا، فمُحالٌ أنْ يَشْرَعَ اللَّهُ أنْ يُكادَ دِينُه. وأيضًا فإنَّ هذا الكيدَ لا يتِمُّ إلَّا بفعْلٍ يُقْصَدُ به غيرُ مقصودِه الشَّرعيِّ، ومُحالٌ أنْ يَشْرَعَ اللَّهُ لعبْدٍ أنْ يقصِدَ بفعْلِه ما لم يَشْرَعِ اللَّهُ ذلك الفعْلَ له .

16- في قولِه تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ دلالةٌ على أنَّ الكيدَ إنْ كان جزاءً للمُعتدي بمِثْلِ فِعْلِهِ كان عدلًا حَسَنًا .

17- قولُ اللَّهِ تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فيه شاهِدٌ لتَفاوُتِ النَّاسِ في العلْمِ المُؤْذِنِ بأنَّ علْمَ الَّذي خلَقَ لهم العلْمَ لا ينحصِرُ مداهُ، وأنَّه فوقَ كلِّ نهايةٍ مِن علْمِ النَّاسِ .

18- قال تعالى: فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قوله: فَأَسَرَّهَا أي: الكلمةَ، فكَنَّى عَنِ الكلمةِ، ولم يَجْرِ لها ذكرٌ متقدِّمٌ، والعربُ تفعلُ ذلكَ كثيرًا، إِذا كان مفهومًا المعنَى المرادُ عندَ سامِعي الكلامِ .

19- إن قِيل: كيفَ صبَر يوسفُ عليه السلامُ عن أبيه بعدَ أنْ صارَ ملِكًا، مع أنَّ البرَّ به يَقْتَضي أن يبادرَ إليه ويَسْتدْعيه؟

فالجوابُ: أنَّ ذلك كان عن أمرِ الله تعالى وبوحيٍ منه؛ ليرفعَ درجةَ يعقوبَ عليه السلامُ بالصبرِ على البلاءِ، ويَكملَ أجرُه، وتتفسَّر الرُّؤْيا الأُولَى، وكان يوسفُ عليه السلامُ يُلاقي مِن الحزنِ لأجلِ حزنِ أبيه عظيمًا، ولا يقدرُ على دفعِ سببِه

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

- قولُه: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ كلَّمَه بكلمةٍ مُخْتَصَرةٍ بليغَةٍ؛ إذْ أفادَه أنَّه هو أخوه الَّذي ظنَّه أكَلَه الذِّئبُ؛ فأكَّدَ الخبرَ بـ (إنَّ)، وبالجُملةِ الاسميَّةِ، وبالقَصْرِ الَّذي أفادَه ضميرُ الفَصْلِ أَنَا أي: أنا مَقْصورٌ على الكَوْنِ أخاك لا أجْنَبِيٌّ عنك؛ فهو قصرُ قَلْبٍ؛ لاعتقادِه أنَّ الَّذي كلَّمَه لا قَرابةَ بينه وبينه

.

- قولُه: بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أفادَ فِعْلُ الكَوْنِ في المُضِيِّ أنَّ المُرادَ ما عَمِلوه فيما مضى، وأفادَ صَوْغُ يَعْمَلُونَ بصيغةِ المُضارعِ أنَّه أعمالٌ مُتَكرِّرةٌ مِنَ الأذى، وفي هذا تهيئةٌ لنَفْسِ أخيه لِتلقِّي حادِثِ الصُّواعِ باطْمِئنانٍ؛ حتَّى لا يَخْشى أنْ يكونَ بمحَلِّ الرِّيبةِ مِن يوسُفَ عليه السَّلامُ .

2- قوله تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ

- قولُه: أذَّنَ؛ للتَّكثيرِ، فكأنَّه نادى مِرارًا .

- قولُه: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ فيه إسنادُ السَّرقةِ إلى جميعِهم؛ جَرْيًا على المُعْتادِ مِن مُؤاخَذَةِ الجَماعةِ بجُرْمِ الواحِدِ منهم، وتأْنيثُ اسمِ الإشارةِ وهو (أيَّتُها)؛ لتأْويلِ العِيرِ بمعنى الجَماعةِ؛ لأنَّ الرُّكَّابَ همُ الأهمُّ .

3- قوله تعالى: قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ

- قولُه: وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ جُملةٌ حالِيَّةٌ مِن ضميرِ قولِه: قَالُوا جيءَ بها للدَّلالةِ على انزعاجِهم ممَّا سَمِعوه؛ لمُبايَنَتِه لحالِهم .

- وصيغةُ المُستقبَلِ في قولِه: تَفْقِدُونَ؛ لاستحضارِ الصُّورةِ .

- قولُهم: مَاذَا تَفْقِدُونَ فيه العُدولُ عمَّا يقْتَضيه الظَّاهرُ مِن قولِهم: (ماذا سُرِقَ منكم)؛ لبَيانِ كَمالِ نزاهَتِهم بإظهارِ أنَّه لم يُسْرَقْ منهم شيءٌ، فَضْلًا أنْ يكونوا همُ السَّارقينَ له، وإنَّما المُمْكِنُ أنْ يضيعَ منهم شيءٌ، فيسْأَلونَهم أنَّه ماذا، وفيه إرشادٌ لهم إلى مُراعاةِ حُسْنِ الأدَبِ، والاحترازِ عنِ المُجازَفَةِ، ونِسْبَةِ البُرآءِ إلى ما لا خيرَ فيه، لا سيَّما بطريقِ التَّوكيدِ؛ فلذلك غيَّروا كلامَهم حيث قالوا في جوابِهم: نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ ولم يقولوا: (سَرَقْتُموه) أو (سُرِقَ) .

4- قوله تعالى: قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ فيه إضافةُ الصُّواعِ إلى الملِكِ؛ لتَشْريفِه، وتهويلِ سَرِقَتِه على وجهِ الحقيقةِ؛ لأنَّ شُؤونَ الدَّولةِ كلَّها للملِكِ. ويجوزُ أنْ يكونَ أُطْلِقَ الملِكُ على يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ تَعْظيمًا له .

5- قوله تعالى: قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ

- قولُه: قَالُوا تَاللَّهِ قَسَمٌ فيه مَعْنى التَّعجُّبِ ممَّا أُضيفَ إليهم؛ حيث أقْسَموا بالتَّاءِ مِن حُروفِ القَسَمِ، كأنَّهم عَجِبوا مِن رَمْيِهم بهذا الأمْرِ؛ لأنَّها تكونُ فيها التَّعجُّبُ غالِبًا؛ وذلك لأنَّ المُقْسَمَ عليه بالتَّاءِ يكونُ نادِرَ الوُقوعِ؛ لأنَّ الشَّيءَ المُتَعَجَّبَ منه لا يكْثُرُ وُقوعُه، ومِن ثَمَّ قلَّ استعمالُ التَّاءِ إلَّا مع اسمِ الجَلالَةِ؛ لأنَّ القَسَمَ باسمِ الجَلالَةِ أقْوى القَسَمِ .

- وقولُهم: تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ أكَّدوا ذلك بالقَسَمِ، ونَفَوا عن أنفُسِهم الاتِّصافَ بالسَّرقةِ بأبْلغَ ممَّا نَفَوا به الإفسادَ عنهم، وذلك بنَفْيِ الكَوْنِ سارقينَ دون أنْ يقولوا: (وما جِئْنا لِنسرِقَ)؛ لأنَّ السَّرقةَ وَصْفٌ يُتَعَيَّرُ به .

- قولُه: مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ونَفْيُ المَجيءِ للإفسادِ -وإنْ لم يكُنْ مُستلزِمًا لِمَا هو مُقْتَضى المَقامِ مِن نَفْيِ الإفسادِ مُطلقًا، لكنَّهم جَعَلوا المجيءَ الَّذي يترتَّبُ عليه ذلك، ولو بطَريقِ الاتِّفاقِ، مجيئًا لغَرَضِ الإفسادِ مفعولًا لأجْلِه ادِّعاءً- إظهارٌ لكَمالِ قُبْحِه عندهم، وتربيةٌ لاستحالةِ صُدورِه عنهم، فكأنَّهم قالوا: إنْ صدَرَ عنَّا إفسادٌ كان مَجيئُنا لذلك؛ مُريدينَ به تَقْبيحَ حالِه، وإظهارَ كمالِ نَزاهتِهم عنه .

- قولُه: تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ، إنَّما لم يكْتَفوا بنَفْيِ الأمْرَينِ المَذْكورينِ، بل استَشْهدوا بعِلْمِهم بذلك؛ إلزامًا للحُجَّةِ عليهم، وتحقيقًا للتَّعجُّبِ المفهومِ مِن تاءِ القَسَمِ .

6- قوله تعالى: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ

- قولُه: قَالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ علَّقوا الحُكْمَ على وِجْدَانِ الصَّاعِ لا على سَرِقتِه؛ لاعتِقادِهمُ البَراءةَ، فكأنَّهم يقولون: لا يُمكِنُ أنْ نسرِقَ .

فاختاروا عنوانَ الوِجْدانِ في الرحلِ دونَ السرقةِ، معَ أنَّه المرادُ؛ لأنَّ كونَ الأخذِ والاسترقاقِ سنةٌ عندَهم، ومِن شريعةِ أبيهم عليه السلامُ إنَّما هو بالنسبةِ إلى السارقِ، دونَ مَن وُجد عندَه مالُ غيرِه كيفما كان، إشارةً إلى كمالِ نزاهتِهم، حتى كأنَّ أنفسَهم لا تطاوعُهم وألسنتُهم لا تساعدُهم على التلفُّظِ به مثبتًا لأحدِهم بأيِّ وجهٍ كان، وكأنَّهم تأكيدًا لتلك الإشارةِ عدَلوا عن: (مَن وُجِد عندَه) إلى مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ .

- قولُه: فَهُوَ جَزاؤُهُ تقريرٌ لذلك الحُكْمِ، أي: فأَخْذُ السَّارقِ نفْسِه هو جزاؤه لا غيرُ ؛ فجُملةُ فَهُوَ جَزاؤُهُ توكيدٌ لَفْظيٌّ لجُملةِ جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ؛ لتقريرِ الحُكْمِ وعَدَمِ الانفلاتِ منه، وتكونُ الفاءُ للتَّفْريعِ؛ تفريعِ التَّأكيدِ على المُؤَكَّدِ .

- قولُه: كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ تأْكيدٌ للحُكْمِ المَذْكورِ بعدَ تأْكيدٍ، وفيه بيانٌ لقُبْحِ السَّرقةِ .

7- قوله تعالى: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ

- قولُه: ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ذَكَّرَ ضميرَ الصُّواعِ مرَّاتٍ ثُمَّ أنَّثَه؛ على رُجوعٍ بالتَّأنيثِ على السِّقايةِ، أو أنَّثَ الصُّواعَ؛ لأنَّه يُذكَّرُ ويُؤَنَّثُ، ولعلَّ يوسُفَ كان يُسمِّيه سِقايةً، وعَبيدُه صُواعًا؛ فقد وقَعَ فيما يتَّصِلُ به مِن الكلامِ سِقايةً، وفيما يتَّصِلُ بهم منه صُواعًا ، وهذا التَّأنيثُ في تَمامِ الرَّشاقةِ؛ إذْ كانتِ الحقيقةُ أنَّها سِقايةٌ جُعِلَت صُواعًا؛ فهو كَرَدِّ العَجُزِ على الصَّدْرِ .

- قولُه: وِعَاءِ أَخِيهِ فيه إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ، حيث لم يقُلْ: (منه) على رَجْعِ الضَّميرِ إلى الوِعاءِ، أو (مِن وِعائِه) على رَجْعِه إلى أخيه؛ قَصْدًا إلى زيادةِ كَشْفٍ وبيانٍ .

- قولُه: كَذَلِكَ في إدْخالِ الكافِ على اسمِ الإشارةِ (ذلك) دلالةٌ على فَخامةِ المُشارِ إليه، وكذا ما في (ذلك) مِن مَعْنى البُعدِ، أي: مثلَ ذلك الكَيدِ العَجيبِ .

- قولُه: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ استئنافٌ وتعليلٌ لذلك الكَيدِ وصُنْعِه، لا تفسيرٌ وبيانٌ له- كما قيل- كأنَّه قيل: لماذا فعَلَ ذلك؟ فقيل: لأنَّه لم يكُنْ ليأْخُذَ أخاه بما فعَلَه في دِينِ الملِكِ في أمْرِ السَّارقِ، أي: في سُلطانِه، أو في حُكْمِه وقَضائِه . وقيل: هي تفسيرٌ للكَيدِ وبيانٌ له؛ لأنَّه كان في دِينِ ملِكِ مصرَ .

- قولُه: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ الجُملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وإيثارُ صِيغةِ الاستقبالِ؛ للإشعارِ بأنَّ ذلك سُنَّةٌ مُستمِرَّةٌ، غيرُ مُخْتَصَّةٍ بهذه المادَّةِ .

- وجُملةُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ تذييلٌ لقِصَّةِ أخْذِ يوسُفَ عليه السَّلامُ أخاه؛ لأنَّ فيها رَفْعَ درجةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ في الحالِ بالتَّدبيرِ الحَكيمِ، مِن وقتِ مُناجاتِه أخاه إلى وقتِ استخراجِ السِّقايةِ مِن رَحْلِه، ورَفْعَ درجةِ أخيه في الحالِ بإلحاقِه لِيوسُفَ عليه السَّلامُ في العَيْشِ الرَّفيهِ، والكَمالِ بتلقِّي الحكمةِ مِن فيه، ورَفْعَ درجاتِ إخوتِه وأبيه في الاستقبالِ؛ بسببِ رَفْعِ درجةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ، وحُنُوِّه عليهم .

- قولُه تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ تذييلٌ لقولِه: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ أي: نرفَعُ درجاتٍ عاليةً مِن العِلْمِ مَن نشاءُ رَفْعَه، وفوقَ كلِّ أحدٍ منهم عليمٌ هو أعْلى درجةً .

وقيل: إنَّ جُملةَ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ تذييلٌ ثانٍ لجُملةِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ وعبَّر عن جِنْسِ المُتَفَوِّقِ في العِلْمِ بوَصْفِ عَلِيمٌ باعتبارِ نِسبتِه إلى مَن هو فوقَه، إلى أنْ يبْلُغَ إلى العليمِ المُطْلَقِ سبحانه .

- وظاهرُ تَنْكيرِ عَلِيمٌ أنْ يُرادَ به الجِنْسُ، فيَعُمَّ كلَّ مَوصوفٍ بقوَّةِ العِلْمِ، إلى أنْ ينتهِيَ إلى عِلْمِ اللَّهِ تعالى، فعُمومُ هذا الحُكْمِ بالنِّسبةِ إلى المخلوقاتِ لا إشكالَ فيه، ويتعيَّنُ تخصيصُ هذا العُمومِ بالنِّسبةِ إلى اللَّهِ تعالى بدليلِ العَقْلِ؛ إذْ ليس فوق اللَّهِ عَليمٌ. وقد يُحْمَلُ التَّنكيرُ على الوَحدةِ، ويكونُ المُرادُ: عليمٌ واحدٌ؛ فيكونُ التَّنكيرُ للوَحدةِ والتَّعظيمِ، وهو اللَّهُ تعالى، فلا يحتاجُ إلى التَّخصيصِ .

- وفي صيغةِ المُبالَغةِ عَلِيمٌ مع التَّنكيرِ، والالتفاتِ إلى الغَيبةِ: دلالةٌ على فَخامةِ شأْنِه عزَّ وعلا، وجَلالةِ مِقدارِ عِلْمِه المُحيطِ . على أحدِ القولينِ.

8- قوله تعالى: قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ

- قولُه: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فيه تَنْكيرُ أَخٌ؛ لأنَّ الحاضرينَ لا عِلْمَ لهم به .

- جُملةُ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قيل: هي توكيدٌ لجُملةِ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ، وشأْنُ التَّوكيدِ ألَّا يُعْطَفَ، ووجْهُ عَطْفِها: ما فيها مِن المُغايرةِ للَّتي قبلها بزيادةِ قَيْدِ لَهُمْ المُشْعِرِ بأنَّه أَبْدَى لأخيه أنَّهم كاذِبونَ. ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ: لم يُبْدِ لهم غَضَبًا ولا عِقابًا؛ مُبالغَةً في كَظْمِ غَيظِه، فيكونُ في الكلامِ تقديرُ مُضافٍ مُناسِبٍ، أي: لم يُبْدِ أثَرَها .

- قولُه: قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا استئنافٌ مبْنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ مِن الإخبارِ بالإسرارِ المَذكورِ، كأنَّه قيل: فماذا قال في نفْسِه في تَضاعيفِ ذلك الإسرارِ؟ فقيل: قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا ؛ وضَميرُ الغَيبةِ في فَأَسَرَّهَا عائدٌ إلى ما بعدَه، وهو قولُه: قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا أي: قال في نفْسِه، وهو يُشْبِهُ ضَميرَ الشَّأنِ والقصَّةِ، لكنَّ تأنيثَه بتأويلِ المَقولةِ أو الكلمةِ، وتكونُ جُملةُ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا تفسيرًا للضَّميرِ في فَأَسَرَّهَا .

- قولُه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ صيغةُ التَّفضيلِ أَعْلَمُ لمُجرَّدِ المُبالَغةِ لا لِتَفْضيلِ عِلْمِه عزَّ وجلَّ على عِلْمِهم، كيف لا وليس لهم بذلك مِن عِلْمٍ ؟!

- وقولُه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ تذييلٌ، وهو كلامٌ جامِعٌ، أي: اللَّهُ أعْلَمُ بصِدْقِكم فيما وصَفْتم أو بكَذِبِكم، والمرادُ: أنَّه يعلمُ كَذِبَهم

=========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (78-80)

ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

 

مَعَاذَ اللَّهِ: أي: أعوذُ وأستجيرُ باللَّهِ، وأصْلُ (عوذ): الْتِجاءٌ إلى الشَّيءِ

.

اسْتَيْأَسُوا: أي: يَئِسوا؛ من اليأْسِ: وهو القُنوطُ، وأصلُ (يئس): يدلُّ على قطْعِ الرَّجاءِ .

خَلَصُوا نَجِيًّا: أي: اعتَزَلوا النَّاسَ، وانفرَدوا يتَناجَون ويتَشاورون ويَتَسارُّون، وأصْلُ (خلص): يدلُّ على تنقيةِ الشَّيءِ وتهذيبِه، وأصْلُ (نجو): يدلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ .

أَبْرَحَ: أي: أخرُجَ وأفارِقَ، وأصْلُ (برح): زوالٌ، وبُروزٌ، وانكشافٌ

 

.

مشكل الإعراب:

 

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ

نَجِيًّا: حالٌ مِن واوِ الجَماعةِ في خَلَصُوا، وإنَّما أُفرِدَت الحالُ، وصاحِبُها (واو الجماعة) جمعٌ؛ لأنَّ النَّجيَّ (فعيلٌ) بمعنى (مُفاعِل)؛ كالعَشيرِ والخَليطِ، بمعنى: المُخالِط والمُعاشِرِ، وهذا في الاستعمالِ يُفرَدُ مُطلقًا؛ يقال: هم خَليطُك وعَشيرُك، أي: مُخالِطوك ومُعاشِروك. وقيل: لأنَّ نَجِيًّا مصدرٌ بمعنى التَّناجي.

وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ: في (ما) وَجهانِ؛ أحدهما: أنَّها زائدةٌ، ومِنْ قَبْلُ جارٌّ ومجرورٌ مُتعَلِّقٌ بالفِعلِ فَرَّطْتُمْ، أي: وفرَّطْتُم مِن قَبْلُ في يوسُفَ. والثاني: أنَّها مَصدريَّةٌ، ومحلُّ المصدرِ مَا فَرَّطْتُمْ النَّصبُ عَطفًا على مفعولِ تَعْلَمُوا، وهو أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ، أي: ألم تعلَموا أَخْذَ أبيكم الميثاقَ، وتَفريطَكم في يوسُفَ، وفُصِلَ بين حرفِ العَطفِ والمَعطوفِ بـ مِنْ قَبْلُ

. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى عن إخوةِ يوسفَ أنَّهم قالوا له مُستعطفينَ؛ لِيَفُوا بعَهدِ أبيهم: يا أيُّها العَزيزُ، إنَّ له والدًا كبيرًا في السِّنِّ يحِبُّه، ولا يُطيقُ بُعدَه، فخُذْ أحَدَنا بدلًا منه؛ إنَّا نراك مِن المُحسنينَ. قال يوسُفُ: نَستجيرُ باللَّهِ أن نأخُذَ أحدًا غيرَ الَّذي وجَدْنا الصُّواعَ عندَه؛ فإنَّنا نكونُ في عِدادِ الظَّالمينَ إن فعَلْنا ما تطلُبونَ، فلَمَّا يَئِسوا مِن إجابتِه إيَّاهم لِمَا طَلَبوه، انفَرَدوا عن النَّاسِ، وأخَذوا يتشاوَرونَ فيما بينهم؛ قال كبيرُهم: ألم تَعلَموا أنَّ أباكم قد أخذَ عليكم العهدَ المُؤكَّدَ؛ لَترُدُّنَّ أخاكم إلَّا أن تُغلَبوا، ومِن قبلِ هذا كان تقصيرُكم في يوسُفَ وتضييعُكم له؛ لذلك لن أُفارِقَ أرضَ مِصرَ حتَّى يأذنَ لي أبي في مُفارَقتِها، أو يقضيَ لي ربِّي بالخُروجِ منها، واللهُ خيرُ مَن حَكَمَ، وأعدَلُ مَن فَصَلَ بين النَّاسِ.

تفسير الآيات :

 

قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّ اللَّهَ تعالى بيَّنَ أنَّ إخوةَ يوسُفَ عليه السَّلامُ بعد الَّذي ذكَروه مِن قولِهم: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يوسف: 77 أحبُّوا موافقَتَه والعدولَ إلى طريقةِ الشَّفاعةِ، فقالوا للعزيزِ ما ذكَرَه اللَّهُ تعالى هنا

.

قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا.

أي: قال إخوةُ يوسُفَ لِيوسُفَ: يا أيُّها العزيزُ إنَّ لأخينا الَّذي تُريدُ أخْذَه أبًا شيخًا كبيرًا ، يحِبُّه حُبًّا شديدًا، ولا يصبِرُ على فِراقِه .

فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.

أي: فخُذْ واحدًا منَّا بدلًا مِن أخينا الَّذي تُريدُ أخْذَه؛ إِنَّا نَراكَ مِنَ المحسِنينَ في أفعالِك، فأحْسِنْ إلينا وإلى أبينا بأخْذِ أحدِنا، وترْكِ أخينا يرجِعُ إلى أبيه .

قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ (79).

أي: قال يوسُفُ لإخوتِه: نعوذُ باللَّهِ أنْ نأخُذَ بريئًا بدلًا ممَّن وجَدْنا الصُّواعَ لديه؛ إنَّا إذَا أخَذْنا غيرَه لظالِمونَ بوضْعِنا العُقوبةَ على مَن لا يستحِقُّها .

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80).

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا.

أي: فلَمَّا يئِسَ إخوةُ يوسُفَ مِن أنْ يُخَلِّيَ يوسُفُ سَراحَ أخيهم، ويأْخُذَ واحدًا منهم مكانَه، انفَرَدوا عنِ النَّاسِ، واجتمَعوا يتسارُّونَ فيما بينهم، ويتَشاوَرونَ في شأْنِ ما وقَعوا فيه .

قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ.

أي: قال أكبَرُ أولادِ يعقوبَ سِنًّا لإخوتِه: ألمْ تعلَموا أنَّ أباكم يعقوبَ قد أخَذَ عليكم عُهودَ اللَّهِ المُؤكَّدةَ بأنْ ترُدُّوا إليه ولَدَه ؟!

وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ.

أي: ألمْ تعلَموا أيضًا تَفريطَكم في يوسُفَ وإضاعتَه مِن قَبْلِ هذا؟! فاجتمَعَ عليكمُ الأمْرانِ؛ تفريطُكم في يوسُفَ، وعدَمُ إتيانِكم بأخيه .

فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي.

أي: فلنْ أُفارِقَ أرضَ مصرَ حتَّى يأْذَنَ لي أبي بالخُروجِ منها؛ فإنِّي أسْتَحيي منه، أو يقْضِيَ اللَّهُ لي بأمْرٍ .

وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.

أي: واللَّهُ أفضَلُ وأعدَلُ مَن حكَمَ بين النَّاسِ بالحقِّ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- تأَمَّلْ قولَ يوسُفَ: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ولم يقُلْ: (إلَّا مَن سرَقَ)، وهو أخصَرُ لفظًا؛ تحرِّيًا للصِّدْقِ، فإنَّ الأخَ لم يكُنْ سارِقًا بوجْهٍ؛ فإنَّه لم يفعَلْ في الصُّواعِ فِعْلَ السَّارقِ، ولم يقَعْ منه قبلَ ذلك ما يصِحُّ إطلاقُ الوصفِ عليه، وكان المَتاعُ عنده حقًّا؛ فالكلامُ مِن أحسَنِ المَعاريضِ وأصْدَقِها

.

2- في قَولِه تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ دَلالةٌ على الأصلِ الكبيرِ الذي أعادَه اللهُ وأبداه في كتابِه: أنَّ لكُلِّ نفسٍ ما كسَبَت من الخيرِ والثَّوابِ، وعليها ما اكتسَبَت من الشَّرِّ والعِقابِ، وأنَّه لا تزِرُ وازِرةٌ وِزرَ أُخرَى .

3- قَولُه تعالى: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ يؤخَذُ منه مسألةٌ دقيقةٌ: وهي أنَّ الإحسانَ إنَّما يكونُ إحسانًا إذا لم يتضمَّنْ فِعلَ مُحرَّمٍ أو تركَ واجِبٍ؛ فإنَّهم  طلبوا من يوسُفَ أن يُحسِنَ إليهم بتَركِ هذا الأخِ أن يذهبَ إلى أبيه، ويأخُذَ أحدَهم بدَلَه، فامتنَعَ وقال: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ، فالإحسانُ إذا تضمَّنَ ترْكَ العَدلِ كان ظُلمًا؛ ولهذا كان تخصيصُ بعضِ الأولادِ على بعضٍ، وبعضِ الزَّوجاتِ على بعضٍ- وإن كان إحسانًا إلى المُخَصَّص والمُفضَّل- غيرَ جائزٍ؛ لأنَّه تَركٌ للعدلِ، وكذلك ما أشبهَ ذلك

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ خاطَبوه بما يليقُ بالأكابِرِ؛ ليَرِقَّ لهم

.

2- قولُ اللَّهِ تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا دلَّ بالفاءِ على قُرْبِ زمَنِ تلك المُراجعاتِ .

3- قولُه: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ جعَلَ حَلِفَهم باللَّهِ مَوْثِقًا منه؛ لأنَّه بإذنٍ منه وتأكيد مِن جِهَتِه .

4- قولُ اللَّهِ تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ أي: أُفارِقَ هذه الْأَرْضَ وإيصالُه الفعْلَ بدون حرفٍ دليلٌ على أنَّه صار شديدَ الالتِصاقِ بها .

5- الحُكْمُ المذكورُ في قولِه تعالى عنِ ابنِ يعقوبَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي هو الحُكْمُ الكونيُّ، ويقابلُه: الحُكْمُ الدينيُّ، كما في قولِه تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ المائدة: 1.

6- قولُه: حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ غَيَّا ذلك بغايَتَينِ، إحدَاهُما: خاصَّةٌ؛ وهي قولُه: حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي يعني: في الانصرافِ إليه، والثَّانيةُ: عامَّةٌ؛ وهي قولُه: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي؛ لأنَّ إذْنَ اللَّهِ له هو مِن حُكْمِ اللَّهِ له في مُفارقَةِ أرْضِ مصرَ، وكأنَّه لَمَّا علَّقَ الأمْرَ بالغايةِ الخاصَّةِ رجَعَ إلى نفْسِه فأَتى بغايةٍ عامَّةٍ؛ تَفْويضًا لحُكْمِ اللَّهِ تعالى، ورُجوعًا إلى مَن له الحُكْمُ حقيقةً

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

- في قولِهم: إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا وصْفٌ لأبيهم بثلاثِ صِفاتٍ تقْتَضي التَّرقيقَ عليه؛ وهي: حَنانُ الأُبوَّةِ، وصِفْةُ الشَّيخوخةِ، واستِحقاقُه جَبْرَ خاطرِه؛ لأنَّه كبيرُ قومِه، أو لأنَّه انتهَى في الكِبَرِ إلى أقصاه، فالأوصافُ مَسوقَةٌ للحثِّ على سَراحِ الابنِ، لا لأصلِ الفائدةِ؛ لأنَّهم قد كانوا أخْبَروا يوسُفَ عليه السَّلامُ بخَبَرِ أبيهم

.

- وجُملةُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ تعليلٌ لإجابةِ المطلوبِ لا للطَّلَبِ، والتَّقديرُ: فلا تَرُدَّ سُؤالَنا؛ لأنَّا نراك مِن المُحسنينَ، فمِثلُك لا يصدُرُ منه ما يسوءُ أبًا شيخًا كبيرًا .

2- قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ

- وضمائرُ نَأْخُذَ ووَجَدْنَا ومَتَاعَنَا وإِنَّا ولَظَالِمُونَ مُرادٌ بها المُتكلِّمُ وحدَه دون مُشارِكٍ، فيجوزُ أنْ يكونَ مِن استعمالِ ضَميرِ الجَمْعِ في التَّعظيمِ حِكايةً لِعبارتِه في اللُّغةِ الَّتي تكلَّمَ بها؛ فإنَّه كان عظيمَ المدينةِ، ويجوزُ أنْ يكونَ استعمَلَ ضَميرَ المُتكلِّمِ المُشارِكِ تواضُعًا منه؛ تشبيهًا لنفْسِه بمَن له مُشارِكٌ في الفِعْلِ، وهو استِعمالٌ موجودٌ في الكلامِ ، وقيل: للإشعارِ بأنَّ الأخْذَ والإعطاءَ ليس ممَّا يُستبدُّ به، بل هو مَنوطٌ بآراءِ أُولي الحَلِّ والعَقْدِ .

- قولُه: إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ تعليلٌ للامتناعِ مِن أخْذِ غيرِه بأنَّه لو فَعَلَه لكانَ ذلك ظُلمًا، ودليلُ التَّعليلِ شيئانِ: وُقوعُ (إنَّ) في صدْرِ الجُملةِ، والإتيانُ بحَرْفِ الجَزاءِ وهو (إِذًا) .

3- قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ

- قولُه: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ استيْأَسَ بمعنى: يَئِسَ، وزيادةُ السِّينِ والتَّاءِ للمُبالَغةِ .

- قولُه: أَلَمْ تَعْلَمُوا الاستفهامُ تقْريريٌّ مُستعمَلٌ في التَّذكيرِ بعَدَمِ اطمئنانِ أبيهم بحِفْظِهم لابنِه .

- قولُه: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ترْديدٌ بين ما رسَمَه هو لنفْسِه، وبين ما عسى أنْ يكونَ اللَّهُ قد قدَّرَه له ممَّا لا قِبَلَ له بدَفْعِه، فحَذَفَ مُتعلِّقَ يَحْكُمَ المجرورَ بالباءِ؛ لتَنْزيلِ فِعْلِ يَحْكُمَ مَنزِلةَ ما لا يطْلُبُ مُتعلِّقًا .

- وجُملةُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ تذييلٌ، وإنْ كان على إرادةِ (وهو خيرُ الحاكِمينَ لي)؛ فالخبرُ مُستعمَلٌ في الثَّناءِ؛ للتَّعريضِ بالسُّؤالِ أنْ يُقدِّرَ له ما فيه رأفةٌ في رَدِّ غُرْبَتِه

=========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (81- 87)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ

غريب الكلمات:

 

أَسَفَى: الأسف: أشدُّ الحسرة، والحزنُ على ما فات، وأصل (أسف): يدلُّ على الفَوتِ والتلهُّفِ وما أشبَهَ ذلك

.

كَظِيمٌ: أي: مُمسِكٌ على حُزنِه، لا يُظهِرُه ولا يَشكوه، وأصلُ (كظم): يدلُّ على إمساكِ الشَّيءِ، وجَمعِه .

تَفْتَأُ: أي: لا تزالُ .

حَرَضًا: أي: مريضًا مُشْفيًا على الهلاكِ، وأصلُ (حرض): يدلُّ على الذَّهابِ والتَّلفِ والهلاكِ .

بَثِّي: أي: همِّي، وقيل: البثُّ: الهمُّ الشديدُ، وقيل: أشدُّ الحزنِ، وسُمِّيَ بذلك؛ لأنَّ صاحبَه لا يصبِرُ عليه حتَّى يَبُثَّه، أي: يَشكوَه ويَنشُرَه، وأصلُ (بثَّ): يدلُّ على تفريقِ الشَّيءِ وإظهارِه .

فَتَحَسَّسُوا: التَّحسُّسُ: شِدَّةُ التطَلُّبِ والتَّعرُّفِ؛ مِن الحِسِّ: وهو الإدراكُ بالحاسَّةِ .

رَوْحِ اللَّهِ: أي: فرَجِه ورحمتِه، وأصلُ (روح): يدلُّ على سَعَةٍ وفُسحةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى عن قولِ أكبَرِ الإخوةِ لإخوَتِه: ارجِعُوا إلى أبيكم، وأخبِروه بما جرَى، وقُولوا له: إنَّ ابنَكَ قد سرَقَ، وما شَهِدْنا بذلك إلَّا بعدَ أنْ تَيَقَّنَّا؛ فقد رأيْنا المِكيالَ في رَحْلِه، وما كان عِندَنا عِلمُ الغَيبِ أنَّه سيَسرِقُ حين عاهَدْناكَ على رَدِّه، واسألْ- يا أبانا- أهلَ مِصرَ، ومَن كان معَنا في القافِلةِ الَّتي كنَّا فيها، وإنَّنا لصادِقونَ فيما أخبَرْناكَ به.

ولَمَّا رجَعوا وأخبَروا أباهم، قال لهم: بل زَيَّنَتْ لكُم أنفُسُكم مَكيدةً دبَّرتُموها، كما فعَلتُم مِن قَبلُ مع يُوسُفَ، فصَبري صبرٌ جَميلٌ، لا جزَعَ فيه ولا شَكوَى معه؛ عسى اللَّهُ أنْ يرُدَّ إليَّ أبنائي جميعًا- وهُم: يوسُفُ، وشقيقُه، وأخوهمُ الكبيرُ الَّذي تخلَّفَ مِن أجْلِ أخيه- ؛ إنَّه هو العليمُ بحالي، الحَكيمُ في تدبيرِه. وأعرَضَ يَعقوبُ عنهم، وقد ضاق صَدرُه بما قالوه، وقال: يا حَسرَتي على يوسُفَ، وابيضَّتْ عيناه؛ مِن شِدَّةِ الحُزنِ، فهو مُمتلئُ القَلبِ حُزنًا، ولكِنَّه شَديدُ الكِتمانِ له. قال بَنُوه: تاللَّهِ، ما تزالُ تتذكَّرُ يوسُفَ، ويَشتدُّ حُزنُك عليه، حتَّى تُشْرِفَ على الهَلاكِ أو تَهلِكَ فِعلًا، فخَفِّفْ عن نفْسِك. قال يعقوبُ مُجيبًا لهم: لا أُظهِرُ همِّي وحُزني إلَّا إلى اللَّهِ وَحْدَه؛ فهو كاشِفُ الضُّرِّ والبَلاءِ، وأعلَمُ مِن رَحمةِ اللَّهِ وفَرَجِه ما لا تَعلَمونَه. وقال لأبنائِه: عُودُوا إلى مِصرَ، فاستَقْصُوا أخبارَ يوسُفَ وأخيه، ولا تَقنَطوا مِن رَحمةِ اللَّهِ؛ إنَّه لا يَقنَطُ مِن رَحمةِ اللَّهِ إلَّا الجاحِدونَ لقُدرتِه، الكافِرونَ به.

تفسير الآيات :

 

ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81).

ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ.

أي: قال أكبرُ أولادِ يَعقوبَ لإخوتِه: ارجِعوا إلى أبيكم يَعقوبَ، فقولوا له: يا أبانا، إنَّ ابنَك الَّذي أرسلْتَه معنا سرَقَ صُواعَ الملِكِ، وأُخِذَ بجِنايتِه

.

وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا.

أي: وما شَهِدْنا عِندَكَ- يا أبانا- بأنَّ ابنَك سرَقَ إلَّا بما رأيْنا؛ مِنِ استخراجِ الصُّواعِ مِن رَحْلِه .

وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ.

أي: وما كنَّا لِمَا غاب عنَّا عالِمينَ؛ فلم نَدْرِ أنَّ ابنَك سيَسرِقُ الصُّواعَ، ويُسْتَرَقُّ عند الملِكِ .

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82).

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا.

أي: وقولوا لأبيكم: وإنْ كنْتَ لا تُصَدِّقُنا فيما أخبرْناك به مِن سَرِقةِ ابنِك للصُّواعِ، فاسألْ أهلَ مِصْرَ الَّتي كنَّا فيها؛ ليَتبيَّنَ لك صِدْقُنا .

وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا.

أي: واسألْ أصحابَ القافِلةِ الَّتي جِئْنا معها ورافَقْناها؛ فسيُصَدِّقونَنا فيما أخبرْناكَ .

وَإِنَّا لَصَادِقُونَ.

أي: وإنَّا لصادِقونَ فيما أخْبَرناكَ به مِن سَرِقةِ ابنِك صُواعَ الملِكِ، واسترقاقِه بسَببِ سرِقَتِه، ولم نَكذِبْ عليك .

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83).

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا.

أي: قال يَعقوبُ لأبنائِه: ليس الأمرُ كما ادَّعيْتُم، بل زَيَّنَتْ لكم أنفُسُكم أمْرًا أردْتُموه بأخيكم غيرَ ما تقولون .

فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا.

أي: قال يَعقوبُ عليه السَّلامُ لهم: فصَبْري على فَقْدِ أبنائي صَبرٌ جميلٌ، لا جَزَعَ فيه، ولا شَكوَى إلى الخلْقِ؛ عسى اللَّهُ أنْ يَرُدَّ عليَّ أبنائي الغائبينَ جميعًا: يوسُفَ وأخويه .

إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.

أي: إنَّ اللَّهَ هو العَليمُ بحالي، الحَكيمُ في أفعالِه وقَضائِه وتَدبيرِ خَلْقِه .

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84).

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ.

أي: وأعرَضَ يَعقوبُ عليه السَّلامُ عن أبنائِه بعدَ أنْ أخبَرَوه بما جدَّدَ حُزنَه القديمَ، وقال: يا شِدَّةَ حُزْني على وَلدِي يوسُفَ !

وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ.

أي: وابيضَّتْ عَيْنَا يَعقوبَ عليه السَّلامُ مِن شدَّةِ الحُزنِ الَّذي أوْجَبَ له كثرَةَ البُكاءِ؛ فقلبُه مملوءٌ مِن الحُزنِ، وهو كاتمٌ له لا يُظهِرُه .

قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85).

قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ.

أي: قال أبناءُ يَعقوبَ لأبيهم مُتعجِّبينَ مِن حالِه: واللَّهِ، لا تَزالُ تَذكُرُ يوسُفَ ولا تنساه !

حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا.

أي: لا تزالُ تَذكُرُ يوسُفَ دائمًا، حتَّى يَضْعُفَ جِسمُك وعقلُك، وتقارِبَ الهلاكَ مِن شدَّةِ الحُزنِ عليه !

أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ.

أي: أو تكونَ ممَّن هلَكَ بالموتِ !

قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86).

قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ.

أي: قال يعقوبُ رادًّا على أَبنائِه: إنَّما أشْكو همِّي وحُزْني إلى اللَّهِ وحْدَه، لا إلى خَلْقِه .

وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.

أي: وأعلَمُ مِن عِندِ اللَّهِ عِلْمًا عَلَّمَنِيهِ لا تَعلمونَه أنتم .

يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّه لَمَّا أَخبرَ يَعقوبُ عليه السَّلامُ بَنِيه أنَّ عِلْمَه فوقَ عِلمِهم، أَتْبَعَه استِئنافًا ما يدُلُّ عليه، فقال لهم :

يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ.

أي: قال يَعقوبُ عليه السَّلامُ لأبنائِه: يا بَنِيَّ، اذْهَبوا إلى مِصْرَ، فاجتَهِدوا في الْتِماسِ يوسُفَ وأخيه، وتَعرَّفوا خبرَهما .

وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ.

أي: ولا تَقنَطُوا مِن فرَجِ اللَّهِ ورَحمتِه؛ وأنَّه سيروِّحُ عنَّا ما نحن فيه مِن الكَرْبِ والشِّدَّةِ .

إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.

أي: إنَّه لا يَقنَطُ مِن فَرَجِ اللَّهِ، ويقطَعُ رَجاءَه من رَحمتِه إلَّا القومُ الَّذين يَجْحَدون قُدرتَه، ويَستبعِدُون رَحمتَه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُه تعالى عن يعقوبَ في أوَّلِ ما صنَعَ أبناؤه بأخيهم يوسُفَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ يوسف: 18، وقَولُه عندما اشتدَّ به الأمرُ حين احتُبِسَ الابنُ الآخَرُ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فيه دليلٌ على أنَّ أصفياءَ الله إذا نزلت بهم الكوارِثُ والمُصيباتُ قابلوها في أوَّلِ الأمرِ بالصَّبرِ والاستعانةِ بالمَولى، وعندما ينتهي وتبلُغُ الشِّدَّةُ مُنتهاها، يُقابِلونَها بالصَّبرِ والرَّجاءِ، والطَّمَعِ في الفرَجِ، فيوفِّقُهم اللهُ للقيامِ بعُبوديَّتِه في الحالتينِ، ثم إذا كُشِفَ عنهم البَلاءُ قابلوا ذلك بالشُّكرِ والثَّناءِ على اللهِ، وزيادةِ المعرفةِ بلُطفِه لِقَولِ يوسُفَ عليه السَّلامُ: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

يوسف: 100.

 

2- قال اللَّهُ تعالى حاكيًا قولَ يَعقوبَ عليه السَّلامُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا؛ فالواجِبُ على كلِّ مسلِمٍ إذا أُصيبَ بمَكروهٍ في نفْسِه أو ولدِه أو مالِه؛ أنْ يَتلقَّى ذلك بالصَّبرِ الجميلِ، والرِّضا والتَّسلِيمِ لِمُجْريهِ عليه، وهو العَليمُ الحَكيمُ، ويَقتدِيَ بنَبِيِّ اللَّهِ يعقوبَ وسائِرِ النَّبِيِّينَ، صلواتُ اللَّهُ عليهم أجمعين .

 

3- إذا اشتكَى العبدُ إلى ربِّه ما نزَلَ به مِنَ الضُّرِّ، وسألَه إزالتَه؛ لم يَكُنْ مَذْمُومًا على ذلك باتِّفاقِ المُسلمين؛ فالشَّكْوَى إلى اللَّهِ لا تُنافي الصَّبْرَ، بلِ الشَّكْوَى إلى الخَلْقِ هي التي قد تُنافي الصَّبْرَ؛ فإِنَّ يَعقوبَ عليه السَّلامُ قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وقال: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ، فالصبرُ الجميلُ هو الذي لا شكوَى معه، ولا تنافيه الشَّكوى إلى الله سبحانَه وتعالى .

 

4- قال الله تعالى: قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ شكا إلى اللهِ، ولم يشْكُ مِن اللهِ، ومَن شَكا إلى اللهِ وصَلَ، ومن شكا من اللهِ انفَصَل، ويُقال: لَمَّا شكا إلى الله وجَدَ الخَلَف من اللهِ .

 

5- إنَّ اللَّهَ تعالى إذا شاءَ تَفْريجَ كُربةٍ هيَّأَ لها أسبابَها، ومَن كان يؤمِنُ بأنَّ اللَّهَ واسعُ القُدرةِ لا يُحيلُ مثلَ ذلك، فحَقُّهُ أنْ يأخُذَ في سَببِه ويَعتمِدَ على اللَّهِ في تَيسيرِه، وأمَّا القومُ الكافِرونَ باللَّهِ فهم يَقتصِرون على الأمورِ الغالِبةِ في العادةِ، ويُنكِرون غيرَها .

 

6- إذا اشْتَدَّ الكَرْبُ وعَظُمَ الخَطْبُ؛ كان الفَرَجُ حِينئذٍ قريبًا في الغالِبِ، ومِن لَطائِفِ أَسرارِ اقتِرانِ الفَرَجِ باشْتِدادِ الكَرْبِ: أنَّ الكَرْبَ إذا اشْتَدَّ وعَظُمَ وتَناهَى، وُجِدُ الإياسُ مِن كشْفِه مِن جِهةِ المخلوقِ، ووقَعَ التَّعَلُّقُ بالخالِقِ وحدَه، ومَنِ انقَطَعَ عنِ التَّعَلُّقِ بالخَلائقِ، وتَعَلَّقَ بالخالقِ؛ استجاب اللَّهُ له، وكَشَفَ عنه؛ فإنَّ التَّوَكُّلَ هو قَطْعُ الاستشرافِ باليأْسِ مِنَ المخلوقينَ، وقد أخبر الله تعالى عن يعقوبَ عليه السلامُ أنَّه لم ييأسْ مِن لقاءِ يوسفَ، وقال لإخوتِه: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا .

 

7- قولُ اللَّهِ تعالى: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ يَدُلُّ على أنَّه بحسَبِ إيمانِ العبدِ يَكونُ رَجاؤُهُ لرَحمةِ اللَّهِ ورَوْحِه .

 

8- قولُ اللَّهِ تعالى: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ فيه أنَّ اليأْسَ مِن رحمةِ اللَّهِ مِنَ الكبائرِ .

 

9- إيمانُ المُؤمنِ يَظهَرُ عندَ الابتِلاءِ؛ فهو يُبالِغُ في الدُّعاءِ، ولا يَرَى أثرًا للإجابةِ، ولا يَتغَيَّرُ أملُه ورَجاؤُه ولو قَوِيَتْ أسبابُ اليأْسِ؛ لعِلْمِه أنَّ الحقَّ أعلمُ بالمصالِحِ، أو لأنَّ المرادَ مِنْه الصَّبرُ أوِ الإيمانُ؛ فإنَّه لم يَحْكُمْ عليه بذلك إلَّا وهو يُريدُ مِنَ القلْبِ التَّسليمَ؛ ليَنْظُرَ كيف صبرُه، أو يُريدُ كثرةَ اللَّجَأِ والدُّعاءِ، فأمَّا مَن يُريدُ تَعْجيلَ الإجابةِ، ويَتَذمَّرُ إنْ لم تتعَجَّلْ فذاك ضعيفُ الإيمانِ، ويَرَى أنَّ له حقًّا في الإجابةِ، وكَأَنَّه يَتَقاضى أُجْرَةَ عَمَلِهِ، فيَعقوبُ عليه السَّلامُ بقِيَ سنينَ في البَلاءِ، ورجاؤُه لا يَتغَيَّرُ، فلَمَّا ضُمَّ إلى فَقْدِ يوسُفَ فَقْدُ بِنْيامينَ لم يتغيَّرْ أمَلُه، وقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا يوسف: 83. وقد كَشَفَ هذا المعنى قولُه تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ البقرة: 214، ومعلومٌ أنَّ هذا لا يَصْدُرُ مِنَ الرَّسولِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم والمؤمنينَ إلَّا بعد طُولِ البَلاءِ، وقُرْبِ اليأْسِ منَ الفرَجِ؛ فإيَّاكَ إيَّاكَ أنْ تَسْتَطِيلَ زمانَ البَلاءِ، وتَضْجَرَ مِن كثْرةِ الدُّعاءِ؛ فإنَّك مَبْتلًى بالبَلاءِ، مُتَعَبَّدٌ بالصَّبرِ والدُّعاءِ، ولا تَيئَسْ مِن رَوْحِ اللَّهِ وإنْ طالَ البَلاءُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قولُ اللَّهِ تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا فيه أنَّه لا يَجوزُ للإنسانِ أنْ يَشهَدَ إلَّا بما عَلِمَه وتَحَقَّقَه؛ إِمَّا بمُشاهَدَةٍ، أو خَبَرِ مَن يَثِقُ به، وتَطمئِنُّ إليه النَّفْسُ

.

2- قولُ اللَّهِ تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا تَضَمَّنَتْ هذه الآيةُ جَوازَ الشَّهادةِ بأيِّ وَجْهٍ حَصَلَ العِلْمُ بها؛ فإنَّ الشَّهادةَ مُرتبِطَةٌ بالعِلْمِ عقلًا وشرعًا؛ فلا تُسْمَعُ إلَّا ممَّنْ عَلِمَ، ولا تُقْبَلُ إلَّا منهم، وهذا هو الأصلُ في الشَّهاداتِ .

3- قولُ اللَّهِ تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا فيه رَدٌّ على مَن أجازَ الشَّهادةَ على الكِتابةِ بلا عِلْمٍ ولا تَذَكُّرٍ، وعلى مَن سمِعَ كلامًا مِن وراءِ حِجابٍ؛ لِعَدَمِ العِلْمِ فيه .

4- قولُ اللَّهِ تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ استَدَلَّ به مَن أجازَ شَهادةَ الرُّفْقَةِ- وإنْ لم يكونوا عُدولًا- فيما يَختصُّ بمُعاملاتِ السَّفَرِ .

5- قولُ اللَّهِ تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ في هذه الآيةِ مِنَ الفِقهِ: أنَّ على كلِّ مَن كان على حَقٍّ، وعَلِمَ أنَّه قد يُظَنُّ به أنَّه على خِلافِ ما هو عليه، أو يُتَوَهَّمُ- أنْ يَرفَعَ التُّهْمَةَ وكُلَّ رِيبةٍ عن نَفْسِه، ويُصَرِّحَ بالحَقِّ الَّذي هو عليه؛ حتَّى لا يبقَى لأحدٍ مُتَكَلَّمٌ .

6- قال اللَّهُ تعالى حاكيًا عن يَعقوبَ عليه السَّلامُ: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ظَنَّ بهم سُوءًا، فصَدَقَ ظَنُّهُ في زَعمِهم في يوسُفَ عليه السَّلامُ، ولَمْ يتحَقَّقْ ما ظَنَّهُ في أمْرِ أخيه، أي: أخطَأَ في ظَنِّهِ بهم في قَضيةِ أخي يوسُفَ، ومُسْتَنَدُه في هذا الظَّنِّ عِلْمُه أنَّ ابنَه لا يَسرِقُ؛ فعَلِمَ أنَّ في دَعْوَى السَّرِقةِ مَكِيدةً، فظَنُّهُ صادِقٌ على الجُمْلةِ لا على التَّفْصيلِ، وأمَّا تُهْمَتُه أبناءَه بأنْ يَكونوا تَمَالَؤُوا على أخيهم، فهو ظَنٌّ مُسْتَنِدٌ إلى القِياسِ على ما سبَقَ مِن أمرِهِم في قَضيَّةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ فإنَّه كان قال لهم: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ يوسف: 64، ويَجوزُ على النَّبيِّ الخطَأُ في الظَّنِّ في أُمورِ العاداتِ .

7- قال اللَّهُ تعالى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ أشرفُ أعضاءِ الإنسانِ هذه الأعضاءُ الثَّلاثةُ المشارِ إليها في هذِه الآيةِ، وهِي: اللِّسانُ والعينُ والقلبُ، وقد بَيَّن اللهُ تعالى أنَّها كانتْ غَريقةً في الغَمِّ: فاللِّسانُ كان مَشغولًا بقولِه: يَا أَسَفَى، والعَيْنُ بالبُكاءِ والبَياضِ، والقلْبُ بالغَمِّ الشَّديدِ الَّذي يُشْبِهُ الوِعاءَ المملوءَ الَّذي شُدَّ، ولا يُمكِنُ خُروجُ الماءِ منه، وفي هذا مُبالَغةٌ في وَصْفِ ذلك الغَمِّ .

8- قال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: (لم يَكُنْ عندَ يَعقوبَ ما في كِتابِنا مِنَ الاسْتِرْجاعِ، ولو كان عِندَه لَمَا قال: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) .

9- في قولِه تعالى: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ، إنْ قيل: هذا لَفْظُ الشَّكْوَى فأينَ الصَّبرُ؟ فالجوابُ مِن وجهيْنِ:

أحدُهما: أنَّه شَكَا إلى اللَّهِ لا مِنْه.

الثَّاني: أنَّه أرادَ به الدُّعاءَ؛ فالمعْنَى: يا رَبِّ ارْحَمْ أَسَفِي على يوسُفَ .

10- في قولِه تعالى: قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ حُجَّةٌ في أنَّ المحبَّةَ والشَّوقَ يُبْلِيَانِ ويُهْلِكانِ .

11- قولُه: قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ تَفْتَأُ أي: لا تفْتَأُ، فحَذَفَ (لا)؛ لأنَّ القَسَمَ إذا لم يكُنْ معه علاماتُ الإثباتِ كان على النَّفْيِ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ

- قولُه: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ فيه احتِراسٌ مِن تَحقُّقِ كونِه سرَقَ؛ وهو إمَّا لقصْدِ التَّلطُّفِ مع أبيهم في نِسبةِ ابنِه إلى السَّرِقةِ، وإمَّا لأنَّهم عَلِموا مِن أمانةِ أخيهم ما خالجَهُم به الشَّكُّ في وُقوعِ السَّرِقةِ منه

.

2- قوله تعالى: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

- قولُه: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ استِئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ نَشَأَ ممَّا سبَقَ، فكأنَّه قيل: فماذا كان عندَ قَوْلِ المتَوَقِّفِ لإخوتِه ما قال؟ فقيل: قال يَعقوبُ عليه السَّلامُ عِندَما رجَعوا إليه، فقالوا له ما قالوا ؛ فهو في صُورةِ الجَوابِ عنِ الكلامِ الَّذي لقَّنَه أخوهم على طَريقةِ الإيجازِ ، والقائلُ هنا هو يعقوبُ عليه السَّلامُ؛ وإنَّما حُذِفَ للإيذانِ بأنَّ مُسارَعَتَهم إلى قَبولِه، ورُجوعَهم به إلى أبيهم أمْرٌ مُسَلَّمٌ غَنِيٌّ عنِ البَيانِ، وإنَّما المُحْتاجُ إليه جوابُ أبيهم .

- وبلْ للإضْرابِ؛ فيقْتَضي كلامًا مَحْذوفًا قبلَها حتَّى يَصِحَّ الإضرابُ فيها، وتقديرُه: (ليس الأمْرُ حَقيقةً كما أخْبَرتُم، بَلْ سَوَّلَتْ...) .

3- قوله تعالى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ

- قولُه: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ إنَّما تأسَّفَ على يُوسُفَ وحْدَه دونَ أخَوَيه- بِنيامينَ والقائِلِ: لَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ- والحادِثُ رُزْؤُهما؛ لأنَّ رُزْأَ يُوسُفَ كان قاعِدةَ المصيباتِ، وأصْلَ الرَّزايا عندَه؛ إذ تَرَتَّبَتْ عليه، وكان غَضًّا عندَه، وإنْ تقادَمَ عَهدُهُ، آخِذًا بمَجامِعِ قَلْبِه لا يَنْساهُ، وهو الَّذي لا يَعلَمُ أحيٌّ هو أم ميِّتٌ، بخِلافِ أَخويهِ؛ فقد كان واثقًا بحياتِهما دونَ حياتِه، عالِمًا بمكانِهما، طامِعًا في إيابِهما، وأمَّا يوسُفُ فلم يكُنْ في شأْنِه ما يُحرِّكُ سِلْسِلةَ رَجائِه سِوى رَحمةِ اللَّهِ تعالى وفَضْلِه، ولأنَّ يوسُفَ كان أحَبَّ أولادِه إليه، وكان دائمًا يذْكُرُه ولا ينْساهُ . وقيل: إنَّما ذكَرَ القُرآنُ تَحسُّرَه على يُوسُفَ عليه السَّلامُ ولم يَذْكُرْ تَحسُّرَه على ابنَيْهِ الآخَرَيْنِ؛ لأنَّ ذلك التَّحسُّرَ هو الَّذي يَتعلَّقُ بهذه القِصَّةِ؛ فلا يقْتَضي ذِكْرُه أنَّ يعقوبَ عليه السَّلامُ لم يَتحسَّرْ قطُّ إلَّا على يُوسُفَ .

- وقولُه: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ فيه تَعْريضٌ بدُعاءِ اللَّهِ أنْ يُزيلَ أسَفَه بِرَدِّ يوسُفَ عليه السَّلامُ إليه .

وفيه تَجانُسٌ بين لفظتَيِ (الأَسَفِ) و(يوسُفَ)، وهو مُسْتَمْلَحٌ وبَديعٌ؛ لأنَّه غيرُ مُسْتَعملٍ وغيرُ مُتَكلَّفٍ، ويُسمَّى هذا تَجْنيسَ التَّصريفِ؛ وهو أنْ تنْفرِدَ كُلُّ كلمةٍ مِن الكَلِمتَينِ عنِ الأُخرى بحَرْفٍ .

- قولُه: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ فيه تعليلُ الابْيِضاضِ بالحُزْنِ، وإنَّما هو مِن البُكاءِ المتَوالي، وهو ثمرةُ الحزنِ؛ فعلَّلَ بالأصلِ الَّذي نشَأَ منه البُكاءُ وهو الحزنُ ؛ فابْيِضاضِ العَيْنَيْنِ كِنايةٌ عن عَدَمِ الإبصارِ، والحُزْنُ هو السَّببُ لعَدَمِ الإبصارِ .

- قولُه: فَهُوَ كَظِيمٌ، كَظِيمٌ على وزنِ (فَعيل) بمعنى (مَفْعول)، أي: مملوءٌ مِن الغَيظِ على أولادِه، مُمْسِكٌ له في قَلْبِه لا يُظْهرُه، ولا يُظْهرُ ما يَسوؤُهم؛ بدليلِ قولِه تعالى: وَهُوَ مَكْظُومٌ القلم: 48، مِن: كَظَمَ السِّقاءَ؛ إذا سدَّه بعدَ مَلْئِه، أو هو مُبالغةٌ للكاظِمِ؛ (فَعيل) بمعنى (فاعل)، وهو الظَّاهرُ اللَّائقُ بحالِ يَعقوبَ، أي: شَديدُ الكَظْمِ، كما قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ آل عمران: 134، ولَمْ يَشْكُ يعقوبُ إلى أحدٍ، وإنَّما كان يَكْتُمُه في نفْسِه، ويُمْسِكُ همَّه في صدْرِه، فكانَ يكْظِمُه، أي: يرُدُّه إلى قلْبِه، ولا يرْسِلُه بالشَّكْوى والغضَبِ والضَّجَرِ .

4- قوله تعالى: قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ

- قولُه: قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ فيه فنٌّ مِن فُنونِ البَلاغةِ يُسمَّى بائتِلافِ اللَّفظِ مع المعْنَى، وهو تلاؤُمُ ألفاظِ المعْنَى الْمُرادِ بعضِها مع بعضٍ ليس فيها لفظةٌ نابِيةٌ أو قَلِقَةٌ عن أخواتِها بحيثُ يُمْكِنُ استبدالُها، وفي هذا يُلاحظُ أشياءُ ثلاثةٌ؛ وهي: اختيارُ الألفاظِ الْمُفرَدةِ، ونظْمُ كلِّ كَلِمةٍ مع أخْتِها الْمُشاكِلَةِ لها، والغرَضُ المَقْصودُ مِن ذلك الكلامِ على اختلافِ أنواعِه؛ فالألفاظُ تنْقَسِمُ في الاستِعمالِ إلى جَزْلَةٍ ورَقيقةٍ، ولكلٍّ منها مواضِعُ يَحْسُنُ استِعْمالُها فيه؛ فالجَزْلُ يُسْتَعْمَلُ في مواقفِ الشِّدَّةِ وقَوارعِ التَّهديدِ والتَّخويفِ، والرَّقيقُ يُسْتَعْمَلُ في وَصْفِ تَباريحِ الأشواقِ، ولَوْعةِ الفِراقِ، وهذه الآيةُ مِن أرْوعِ الأمثلةِ على ذلك؛ فإنَّه سبحانه لَمَّا أَتَى بأغْربِ ألفاظِ القَسَمِ بالنِّسبةِ إلى أخواتِها وهي التَّاءُ؛ لأنَّ الواوَ والباءَ أكثرُ دَوَرانًا على الألْسِنةِ منها، أتَى سبحانه بأغْربِ صِيَغِ الأفعالِ النَّاقصةِ الَّتي ترفَعُ الأسماءَ وتنصِبُ الأخبارَ بالنِّسبةِ إلى أخواتِها وهي (تفْتَأُ)، وحذَفَ منها حرْفَ النَّفْيِ؛ زِيادةً في الإغْرابِ، ولأنَّ الْمَقامَ لا يَلْتَبِسُ بالإثباتِ، وكذلك لفظةُ حَرَضًا أغْربُ مِن جميعِ أخواتِها مِن ألْفاظِ الهَلاكِ؛ فاقْتَضى حُسْنُ النَّظْمِ وحُسْنُ الوضْعِ فيه أنْ تُجاوَرَ كلُّ لَفظةٍ بلَفظةٍ مِن جِنْسِها في الغَرابةِ والاستعمالِ؛ تَوَخِّيًا لحُسْنِ الجِوارِ، ورَغبةً في ائتلافِ المعاني بالألفاظِ، ولتَتَعادلَ الألفاظُ في الوضْعِ، وتتناسَبَ في النَّظْمِ .

- وفي جَعْلِهم الغايةَ الحَرَضَ أوِ الهلاكَ بقولِهم: حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ تَعْريضٌ بأنَّه يَذكُرُ أمْرًا لا طَمَعَ في تَدارُكِه .

5- قوله تعالى: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

- جُملةُ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ مُفيدةٌ قَصْرَ شَكْواه على التَّعلُّقِ باسمِ اللَّهِ، أي: يَشْكو إلى اللَّهِ لا إلى نفْسِه ليُجَدِّدَ الحُزْنَ .

- قولُه: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَعقَبَ به كلامَه؛ ليُنَبِّهَهم إلى قُصورِ عُقولِهم عن إدراكِ المقاصِدِ العالِيةِ؛ ليعْلَموا أنَّهم دُونَ مَرتبةِ أنْ يُعَلِّموه أو يَلُوموه، أي: أنا أعْلَمُ عِلْمًا مِن عند اللَّهِ علَّمَنيهِ لا تعْلَمونَه، وهو عِلْمُ النُّبوَّةِ، وفي هذا تَعْريضٌ برَدِّ تَعَرُّضِهم بأنَّه يَطمَعُ في الْمُحالِ بأنَّ ما يَحْسَبونَه مُحالًا سيقَعُ .

6- قوله تعالى: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ

- جُملةُ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا مُسْتَأْنَفَةٌ استئنافًا بَيانِيًّا؛ لأنَّ في قولِه: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ما يُثيرُ في أنفُسِهم ترقُّبَ مُكاشَفَتِه على كَذِبِهم، وفي خِطابِهم بوَصْفِ البُنوَّةِ منه تَرْقيقٌ لهم وتلطُّفٌ؛ ليكونَ أبْعَثَ على الامتِثالِ .

- قولُه: فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وإنَّما خصَّهما؛ لأنَّ الثَّالثَ الَّذي أقام وقال: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ إنَّما أقام مُختارًا؛ فكانتْ غَيبتُه اختِياريَّةً لا يعسُرُ إزالتُها .

- قولُه: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ تعليلٌ للنَّهْيِ عنِ اليأْسِ بقولِه: وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ؛ فموقِعُ (إنَّ) التَّعليلُ، والمَعْنَى: لا تَيئَسوا مِنَ الظَّفَرِ بيوسُفَ عليه السَّلامُ مُعْتَلِّينَ بطُولِ مُدَّةِ البُعدِ الَّتي يَبعُدُ معها اللِّقاءُ عادةً

===========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (88- 93)

ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ

غريب الكلمات:

 

مَسَّنَا: أي: أصابَنا، والمسُّ يقال في كلِّ ما يَنالُ الإنسانَ مِن أذًى، وأصلُ (مسس): يدلُّ على جَسِّ الشَّيْءِ باليَدِ

.

مُزْجَاةٍ: أي: قليلةٍ رَديئةٍ، ومَردودةٍ مَدفوعةٍ غيرِ مقبولةٍ؛ مِن الإزجاءِ: وهو الطَّردُ والسَّوقُ والدَّفعُ، وأصلُ (زجي): يدلُّ على الرَّميِ بالشَّيْءِ .

آثَرَكَ: أي: فَضَّلَكَ، وأَصْلُ (أَثَرَ): تَقديمُ الشَّيْءِ .

تَثْرِيبَ: أي: تَعْييرَ وتَوْبيخَ وتَأنيبَ، وأصلُ التَّثْريب: يدلُّ على اللَّومِ، والأخذِ على الذَّنبِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبر الله تعالى أنَّ إخوةَ يوسُفَ لما رجَعوا إلى مِصْرَ، ودخَلوا على يوسُفَ، قالوا: يا أيُّها العزيزُ، أصابَنا وأهْلَنا القَحْطُ والجَدْبُ، وجِئْناكَ بثَمنٍ رَديءٍ قليلٍ، فأعْطِنا به ما كُنتَ تُعطِينا مِن قَبلُ بالثَّمَنِ الجَيِّدِ، وتصدَّقْ عليْنا بقَبضِ هذه الدَّراهمِ الْمُزجاةِ وتَجوَّزْ فيها؛ إنَّ اللَّهَ تعالى يُثيبُ المتفَضِّلينَ بأموالِهم على المحتاجينَ، فلَمَّا سمِعَ مَقالتَهم رَقَّ لهم، وعرَّفَهم بنَفْسِه، وقال: هلْ تذكُرونَ الَّذي فعَلْتُموه بيوسُفَ وأخيه مِنَ الأذَى في حالِ جَهْلِكم بعاقبةِ ما تَفعلونَ؟ قالوا: أإنَّكَ لَأنتَ يوسُفُ؟! قال: نَعَمْ، أنا يوسُفُ، وهذا شَقيقي، قد تفضَّل اللَّهُ علينا، فجَمَعَ بيْننا بعدَ الفُرقةِ؛ إنَّه مَن يتَّقِ اللَّهَ، ويَصبِرْ على المِحَنِ؛ فإنَّ اللَّهَ لا يُذهِبُ ثوابَ إحسانِه، وإنَّما يَجْزيه أحسَنَ الجَزاءِ. قالوا: واللَّهِ، لقد فَضَّلكَ اللَّهُ علينا، وأعزَّك بالعِلْمِ والحِلمِ، والفَضلِ والملكِ، وقد كنَّا خاطِئينَ فِيما فعَلْناه بكَ. قال لهم يوسُفُ: لا تَأنيبَ عليكمُ اليومَ، يَغفِرُ اللَّهُ لكم، وهو أرحَمُ الرَّاحمينَ لِمَن تاب مِن ذَنبِه، وأناب إلى طاعتِه، ولَمَّا سألَهم عن أبيه أخبَروه بذَهابِ بَصَرِه مِنَ البُكاءِ عليه، فقال لهم: عُودُوا إلى أبيكم ومعَكم قَميصي هذا، فاطْرَحوه على وجهِ أبي يَعُدْ إليه بَصَرُه، ثم أَحْضِروا إليَّ جميعَ أهلِكم.

تفسير الآيات :

 

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88).

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ.

أي: فرجَعَ إخوةُ يوسُفَ إلى مِصْرَ، فلَمَّا دخلوا على يوسُفَ قالوا له: يا أيُّها العزيزُ، أصابَنا وأهْلَنا الجوعُ والحاجةُ والشِّدَّةُ؛ بسببِ القحْطِ، وقِلَّةِ الطَّعامِ

.

وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ.

أي: وأَتَيْنا بثَمنٍ رَديءٍ قليلٍ لِشِراءِ الطَّعامِ .

فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ.

أي: فأَوْفِنا كَيْلَ الطَّعامِ ولا تَنْقُصْه .

وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ.

أي: وتَفَضَّلْ عليْنا، وتَسامَحْ بما بيْنَ الثَّمَنِ الجَيِّدِ للطَّعامِ والثَّمنِ الرَّديءِ الَّذي قدَّمْناه لشِرائِه، ولا تَنْقُصْنا مِنَ الطَّعامِ بسَببِ ذلك .

إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ.

أي: إنَّ اللَّهَ يُثيبُ في الدُّنيا والآخِرَةِ المُتفضِّلين بأموالِهم على المُحتاجِينَ .

قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89).

أي: قال يوسُفُ لإِخْوتِه : هل تَذكُرونَ ما فعلْتُم بيوسُفَ وأخيه مِنَ الأذَى، حالَ جَهْلِكم بمِقدارِ ما ارتَكبتُموه، وعاقبةِ ما فعلْتُموه ؟

قَالُواْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90).

قَالُواْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:

في قولِه تعالى: أَإِنَّكَ قِراءتانِ:

1- قِراءةُ إِنَّكَ على لفظِ الخَبَرِ، بمعنى: أنَّهم لَمَّا عرَفوا يوسُفَ وتيَقَّنوا أنَّه هو، أَتَوْا بـ (إنَّ)؛ لِتأكيدِ ذلك .

2- قِراءةُ أَإِنَّكَ على لفظِ الاستفهامِ؛ قيل: بمعنى أنَّهم ظَنُّوا ذلك ظنًّا فاسْتَفْهَمُوه، أَهُوَ هُوَ؟ وقيل: هي بمعنَى القِراءةِ الأُولَى، أي: أثْبَتوا أنَّه يوسُفُ لا أنَّهم اسْتَخْبَروا عن أمْرٍ جَهِلوه، وإنَّما جاؤوا بلفظِ الاستفهامِ؛ لِتحقيقِ ما ثبَتَ لديْهِم .

قَالُواْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ.

أي: قال إخوةُ يوسُفَ له: أإنَّك لَأَنْتَ أخونا يوسُفُ ؟

قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا.

أي: قال يوسُفُ لإِخوتِه: نَعَمْ أنا يوسُفُ، وهذا أخي الشَّقِيقُ، قد مَنَّ اللَّهُ عليْنا بالاجتِماعِ بعدَ الفُرْقَةِ، والعِزَّةِ بعدَ الذِّلَّة، والتَّمْكينِ في الدُّنيا .

إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.

أي: إنَّه مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ، فيَمتَثِلْ ما أَمَرَ به، ويَجْتَنِبْ ما نَهَى عنه، ويَصْبِرْ على الطَّاعاتِ وعنِ المعاصي وعلى المصائِبِ؛ فإنَّ اللَّهَ لا يُبْطِلُ ثوابَ إحسانِه، ولا ثَوابَ كُلِّ مَن أحسَنَ بذلك .

قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ لَمَّا ذكَرَ لإخوتِه أنَّ اللَّهَ تعالى مَنَّ عليه، وأنَّ مَنْ يَتَّقِ المعاصي ويَصبِرْ على أذَى النَّاسِ، فإنَّه لا يُضَيِّعُه اللَّهُ؛ صَدَّقوه فيه، واعتَرَفوا له بالفضلِ والمَزِيَّةِ .

قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا.

أي: قال إخوةُ يوسُفَ مُقْسِمينَ له: تَاللَّهِ، لقد فضَّلَك اللَّهُ عليْنا بالعِلْمِ والحِلْمِ، وحُسْنِ الخِلْقَةِ والخُلُقِ، والمُلْكِ .

وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ.

أي: وما كُنَّا فيما فعَلْنا بكَ إلَّا مُذْنِبينَ مُخْطِئينَ في حقِّكَ .

قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92).

قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.

أي: قال يوسُفُ لإخوتِه: لا تَعْييرَ عليكم، ولا تَوْبيخَ بما صَنَعْتُم، ولا إفِسادَ لِمَا بَيْنَنا مِنَ الأُخوَّةِ بعدَ اليومِ .

يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

أي: دعا يوسُفُ لإخوتِه فقال: يَسْتُرُ اللَّهُ لكم ذُنوبَكم، ويتجاوَزُ عن مُؤاخَذَتِكم بها، وهو أرحمُ الرَّاحِمين لِمَنْ تاب إليه، وأنابَ إلى طاعتِه .

اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93).

اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا.

أي: قال يوسُفُ لإخوتِه: اذْهَبوا بقَميصي هذا فأَلْقُوهُ على وجْهِ أبي يعقوبَ، يَصِرْ مُبْصِرًا بَعدَ العَمَى .

وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ.

أي: وجِيئُوني بجَميعِ أهْلِكم بَنِي يعقوبَ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أرادَ يوسُفُ عليه السَّلامُ تَعليمَهم وسائلَ التَّعَرُّضِ إلى نِعَمِ اللَّهِ تعالى، وحَثَّهُم على التَّقْوَى والتَّخَلُّقِ بالصَّبْرِ، وهذا مِن أَفانِينِ الخطابةِ: أنْ يَغْتَنِمَ الواعِظُ الفُرْصةَ لإلْقاءِ الموعِظةِ، وهي فرصةُ تَأَثُّرِ السَّامِعِ وانفعالِه، وظُهورِ شَواهِدِ صِدْقِ الواعِظِ في مَوْعِظَتِه

.

2- قال اللَّهُ تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ في الآيةِ إرشادٌ إلى أدَبٍ جليلٍ، وهو تَقديمُ الوسائِلِ أمامَ المآرِبِ؛ فإنَّها أنجَحُ لها، وهكذا فعَلَ هؤلاءِ؛ قَدَّموا ما ذُكِرَ مِن رِقَّةِ الحالِ والتَّمَسْكُنِ، وتَصغيرِ العِوَضِ، ولم يَفْجَؤوه بحاجتِهم؛ لِيكونَ ذَريعةً إلى إسعافِ مَرامِهِم؛ بِبَعْثِ الشَّفَقةِ، وهَزِّ العَطْفِ والرَّأفةِ، وتَحريكِ سِلسِلةِ الرَّحمةِ؛ ومِن ثَمَّ رَقَّ لهم، ومَلَكَتْهُ الرَّحمةُ عليهم، فلم يتَمالَكْ أنْ عرَّفَهم نفْسَه .

3- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فيه فضيلةُ التَّقْوَى والصَّبْرِ، وأنَّ كلَّ خيرٍ في الدُّنيا والآخِرةِ فمِن آثارِ التَّقْوَى والصَّبْرِ، وأنَّ عاقبةَ أهْلِهِما أحسنُ العواقبِ .

4- في قَولِه تعالى: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ إشارةٌ إلى أنَّ إخبارَ العبدِ مِن نَفسِه بحُصولِ التَّقوى والصَّبرِ- إذا كان صِدقًا، وفي ذلك مَصلحةٌ- مِن بابِ التحَدُّث بنِعمةِ اللهِ .

5- الصَّبرُ مِن أَجَلِّ مقاماتِ الإيمانِ، وأخصُّ النَّاسِ باللَّهِ وأَولاهم به أشدُّهُم قِيامًا وتَحَقُّقًا به، وأنَّ الخاصَّةَ أحْوَجُ إليه مِنَ العامَّةِ، ومما يدلُّ على ذلك قولُ يوسُفَ الصِّدِّيقِ، وقد قال له إخوتُه: أَإِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيَعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ .

6- في قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ حَثٌّ على الإحسانِ، وإشارةٌ إلى أنَّ المُحْسِنَ يُجْزَى أحسَنَ جَزاءٍ منه تعالى، وإنْ لم يَجْزِه المحسَنُ إليه .

7- الصَّبْرُ والتَّقوى دَواءُ كُلِّ داءٍ مِن أَدْواءِ الدِّينِ، ولا يَسْتَغْني أحدُهما عن صاحبِه؛ قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ .

8- قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فيه أنَّ العِبْرَةَ في حالِ العبدِ بكَمالِ النِّهايةِ، لا بنَقْصِ البِدايةِ؛ فإنَّ أولادَ يعقوبَ عليه السَّلامُ جَرَى منهم ما جرَى في أوَّلِ الأمرِ، مِمَّا هو أكبرُ أسبابِ النَّقصِ واللَّوْمِ، ثُمَّ انتهَى أمْرُهم إلى التَّوْبةِ النَّصُوحِ، والسَّماحِ التَّامِّ مِن يوسُفَ ومِن أبيهم، والدُّعاءِ لهم بالمَغفرةِ والرَّحمةِ، وإذا سمَحَ العَبدُ عن حقِّه؛ فاللَّهُ خيرُ الرَّاحِمين .

9- قال الله تعالى حاكيًا عن يوسُفَ عليه السَّلامُ: قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ نتعلَّمُ من تجاوُزِ يوسُفَ عن ذنبِ إخوته، وإبقائِه عليهم، ومصافاتِه لهم: أن نغفِرَ لِمَن يسيءُ إلينا، ونحسِنَ إليه، ونصفِّيَ له الوُدَّ، وأن نُغضِيَ عن كلِّ إهانةٍ تلحَقُ بنا؛ فيُسبِغ الله تعالى إذ ذاك علينا نِعَمَه وخيراتِه في هذه الدنيا، كما أوسعَ على يوسُفَ، ويُورِثنا السَّعادةَ الأخرويَّة .

10- قولُه تعالى: قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فيه مِنَ العِبْرَةِ: أنَّ الظَّالِمَ الحاسِدَ قد يتوبُ اللَّهُ عليه ويَعْفُو عنه، وأنَّ المظلومَ يَنبغي له العَفْوُ عن ظالِمِه إذا قَدَرَ عليه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ فيه جوازُ إِخبارِ الإنسانِ بما يَجِدُ، وما هو فيه مِن مرَضٍ أوْ فَقْرٍ ونحوِهما، إذا كان على غيرِ وَجْهِ التَّسَخُّطِ

.

2- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا يُؤخَذُ منه جَوازُ شَكْوَى الحاجَةِ لِمَنْ يُرْجَى منه إزالتُها .

3- مَنْ تأمَّلَ ذُلَّ إخوةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ يومَ قالوا: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا، عَرَفَ شُؤْمَ الزَّللِ، ومَن تدبَّرَ أحوالَهم قاسَ ما بينهم وبين أخيهِم مِنَ الفُروقِ، وإنْ كانَتْ توبتُهم قُبِلَتْ؛ لأنَّه ليس مَن رَقَّعَ وخاطَ كمَن ثَوْبُه صَحيحٌ .

4- قولُ اللَّهِ تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ فيه سؤالٌ: إذا كان يعقوبُ أمَرَهُم أنْ يَتَحَسَّسُوا أَمْرَ يوسُفَ وأخيه؛ فلماذا عَدَلُوا إلى الشَّكْوَى، وطَلَبوا إِيفاءَ الكَيْلِ؟ والجوابُ: لأنَّ الْمُتَحَسِّسينَ يَتوسَّلونَ إلى مَطْلوبِهم بجميعِ الطُّرُقِ، والاعتِرافُ بالعَجْزِ، وضِيقِ اليَدِ، ورِقَّةِ الحالِ، وقِلَّةِ المالِ، وشِدَّةِ الحاجَةِ؛ مِمَّا يُرَقِّقُ القلْبَ، فقالوا: نُجَرِّبُه في ذِكْرِ هذه الأُمورِ، فإنْ رَقَّ قلبُه لنا ذَكَرْنا له المقصودَ، وإلَّا سَكَتْنا؛ فلهذا السَّبَبِ قَدَّمُوا ذِكْرَ هذه الواقِعةِ .

5- قولُ اللَّهِ تعالى: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ استدَلَّ بعضُهم بهذه الآيةِ على أنَّ أُجْرَةَ الكَيَّالِ على البائعِ؛ لأنَّه إذا كان عليه تَوْفِيَةُ الكَيْلِ، فعليه مَؤُونَتُه وما يَتِمُّ به .

6- قولُ اللَّهِ تعالى: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ قيل: إنَّ قولَ إخوةِ يوسفَ هذا مِنَ المَعاريضِ الَّتي هي مَنْدُوحَةٌ عنِ الكذبِ؛ وذلك أنَّهم كانوا يَعتقِدونَ أنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ مَلِكٌ كافِرٌ على غيرِ دِينِهِم، ولو قالوا: (إنَّ اللَّهَ يَجْزيك بصَدَقَتِك في الآخرةِ) كَذَبوا، فقالوا له لفظًا يُوهِمُ أنَّهم أَرادُوه، وهُم يَصِحُّ لهم إخراجُه منه بالتَّأويلِ .

7- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالَ أَنَا يُوسُفُ صَرَّحَ بالِاسْمِ؛ تعظيمًا لِمَا نَزَلَ به مِن ظُلْمِ إخوتِه وما عَوَّضَهُ اللَّهُ مِنَ الظَّفَرِ والنَّصْرِ، فكأنَّه قال: أنا الَّذي ظَلَمْتُموني على أعظمِ الوُجوهِ، واللَّهُ تعالى أوْصَلَني إلى أعظمِ المناصِبِ، أنا ذلك العاجِزُ الَّذي قَصَدْتُم قَتْلَه، وإلقاءَه في البِئْرِ، ثُمَّ صِرْتُ كما تَرَوْنَ؛ ولهذا قال: وَهَذَا أَخِي مع أنَّهم كانوا يَعْرِفونَه؛ لأنَّ مَقْصودَه أنْ يقولَ: وهذا أيضًا كان مَظلومًا كما كنْتُ، ثُمَّ إنَّه صارَ مُنْعَمًا عليه مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تعالى، كما تَرَوْنَ .

8- لَمَّا استَفْهَمُوه بقولِهم: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ أجابَهم فقال: قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي أجابَهم عن نفْسِه وعن أخيه؛ فكشَفَ لهم أمْرَه، وزادَهم في الجوابِ قولَه: وَهَذَا أَخِي مع أنَّهم قد سأَلوه عن نفْسِه فقط؛ لأنَّه سَبَقَ قولُه: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ، وكان في ذِكْرِ أخيه بَيانٌ لِما سأَلوا عنه، وإنْ كان معلومًا عِندَهم، وتوطِئةٌ لِما ذَكَرَ بَعدُ مِن قولِه: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا .

9- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ احتَجَّ به مَن قال: إنَّ إخوةَ يوسُفَ عليه السَّلامُ ما كانوا أنبياءَ؛ لأنَّ جميعَ المَناصِبِ الَّتي تَكونُ مُغايرَةً لمنصبِ النُّبوَّةِ كالعَدَمِ بالنِّسْبةِ إليه، فلو شارَكوه في مَنصِبِ النُّبُوَّةِ لَمَا قالوا: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا .

10- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فيه بيانُ ما مَنَّ اللَّهُ به على يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ مِنَ العِلْمِ والحِلْمِ، ومكارِمِ الأخلاقِ، وعَفْوِه عن إخوتِه الخاطئِينَ عَفْوًا بادَرَهم به، وتَمَّمَ ذلك بألَّا يُثَرِّبَ عليهم، ولا يُعَيِّرَهم به .

11- كَمَّل يوسفُ صلواتُ اللهِ عليه مراتِبَ الصَّبرِ؛ الصَّبرُ الاضطراريُّ: وهو صَبرُه على أذيَّةِ إخوَتِه، وما ترتَّبَ عليها مِن بُعدِه عن أبوَيه، وصَبرُه في السِّجنِ بِضعَ سِنينَ. والصَّبرُ الاختياريُّ: صَبرُه على مراودةِ سَيِّدتِه امرأةِ العزيزِ. وكَمَّل مراتِبَ العَدلِ والإحسانِ للرعيَّةِ حين تولَّى خزائِنَ البلادِ المِصريَّة، وكَمَّل مراتِبَ العَفوِ والكرَمِ حين قال له إخوتُه: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فارتقى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أعلَى مقاماتِ الفَضلِ والخيرِ، والصِّدقِ والكَمالِ، ونشَرَ اللهُ له الثَّناءَ بين العالَمينَ .

12- قال الله تعالى: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ شِفاءُ الأمراضِ كما يكونُ بالأدويةِ الحسِّيَّةِ يكونُ بأسبابٍ ربَّانيَّةٍ، بل يحصُلُ بهذا النَّوعِ مِن أنواعِ الشِّفاءِ ما لا يحصُلُ بغيرِه؛ فيعقوبُ عليه السَّلامُ قد ابيضَّت عيناه من الحُزنِ وذهب بصَرُه، فجعل اللهُ شفاءَه وإبصارَه بقميصِ يوسُفَ، حين ألقاه على وَجهِه فارتدَّ بصيرًا؛ لِمَا كان فيه من رائحةِ يوسُفَ الذي كان داءُ عينيه مِن حُزنِه عليه، فصار شِفاؤُه الوحيدُ- مع لُطفِ اللهِ- في قميصِ جَسَدِه، واللهُ قادِرٌ على أن يَشفيَه من دون سبَبٍ، ولكنَّه حكيمٌ؛ جعل الأمورَ تجري بأسبابٍ ونِظاماتٍ قد تهتدي العُقولُ إلى مَعرفتِها، وقد لا تهتدي؛ فهو تعالى يشفي العبادَ بأدويةٍ وأسبابٍ حِسِّيَّةٍ، وبأسبابٍ ربَّانيَّةٍ معنويَّةٍ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ الأنعام: 17، كما أنَّه تعالى يُوجِدُ الأشياءَ بأسبابٍ حسِّيَّةٍ معلومةٍ، وبأسبابٍ ربَّانيَّةٍ لا تهتدي العقولُ إليها، كما في مُعجزاتِ الأنبياءِ وكراماتِ الأولياءِ، وآياتِه النفسيَّةِ والكونيَّةِ، وهو المحمودُ على هذا، وعلى هذا

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ

- قولُه: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ في الكلامِ حذْفٌ، تقديرُه: (فذَهَبوا مِن الشَّامِ إلى مِصْرَ ودخَلوها، فلَمَّا دخَلوا عليه)، أو: (فلَمَّا دخَلوا على يُوسُفَ بعدَما رجَعوا إلى مصرَ بموجِبِ أمْرِ أبيهم)؛ فإنَّه يُحذَفُ ما يدلُّ ظاهِرُ القولِ عليه إيجازًا؛ وإنَّما لم يذكُرْ ذلك؛ إيذانًا بمُسارَعَتِهم إلى ما أُمِروا به، وإشعارًا بأنَّ ذلك أمْرٌ مُحقَّقٌ لا يفتَقِرُ إلى الذِّكْرِ والبَيانِ

؛ فالفاءُ في قولِه: فَلَمَّا عاطِفةٌ على كَلامٍ مُقدَّرٍ دَلَّ عليه المقامُ، أي: فارتَحَلوا إلى مِصرَ بقصْدِ استِطْلاقِ بِنيامينَ مِن عَزيزِ مِصرَ، ثُمَّ بالتَّعرُّضِ إلى التَّحسُّسِ مِن يوسُفَ عليه السَّلامُ، فوَصَلوا مصرَ، فدَخلوا على يُوسفَ، فلَمَّا دخلوا عليه... إلخ .

2- قوله تعالى: قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ

- قولُه: هَلْ عَلِمْتُمْ... استِفهامٌ معناهُ التَّقْريعُ والتَّوبيخُ، والمُرادُ بهذا الاستِفهامِ تَعْظيمُ الواقِعةِ، وتَعظيمُ القِصَّةِ، وتَلخيصُه: ما أعظمَ ما ارتكبتُم مِن يوسُفَ، وما أسمجَ ما أتيتُم مِن قَطيعةِ رَحِمِه، وتَضييعِ حَقِّه! كما تقولُ: هل تَدري مَن عصيتَ؟! هل تَعرِفُ مَن عاديتَ؟! وقيل: هَلْ بمعنى (قَدْ)؛ لأنَّهم كانوا عالِمينَ؛ فالاستفهامُ مُستعْمَلٌ في التَّوبيخِ، وهَلْ مُفيدةٌ للتَّحقيقِ؛ لأنَّها بمعنى (قد) في الاستِفهامِ؛ فهو تَوبيخٌ على ما يعْلَمونَه مُحَقَّقًا مِن أفعالِهم مع يوسُفَ عليه السَّلامُ وأخيه، أي: أفعالهم الذَّميمة، بقَرينةِ التَّوبيخِ .

- وفي قولِه: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ كان الظَّاهِرُ أنْ يَتعرَّضَ لِما فعَلوا بأخيه فقط، وإنَّما تعرَّضَ لِما فعَلوا بيوسُفَ؛ لاشتراكِهما في وُقوعِ الفِعْلِ عليهما؛ فإنَّ المرادَ بذلك إفرادُهم له عن يوسُفَ وإذْلالُه بذلك، حتَّى كان لا يَستطيعُ أنْ يكلِّمَهم إلَّا بعَجْزٍ وذِلَّةٍ، أي: هل تُبْتُم عن ذلك بعد عِلْمِكم بقُبْحِه؟ فهو سُؤالٌ عنِ الْمَلزومِ والمرادُ لازِمُه ، ولم يَذكُرْ لهم ماذا واجَهَ أباهم؛ تَعْظيمًا لقدْرِه، وتفْخيمًا لشأْنِه أنْ يَذكُرَه مع نفْسِه وأخيه .

3- قوله تعالى: قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ

- قولُه: قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ فيه تأْكيدُ الجُملةِ بـ (إنَّ) ولامِ الابتداءِ، وضَميرِ الفصْلِ (أنت)؛ لشِدَّةِ تحقُّقِهم أنَّه يوسُفُ عليه السَّلامُ .

- الاستفهام في قولهم: أَإِنَّكَ تقْريريٌّ؛ ولذلك حُقِّقَ بـ (إنَّ) ودُخولِ اللَّامِ عليه، وأُدْخِلَ على الجُملةِ الْمُؤكَّدةِ؛ لأنَّهم تَطَلَّبوا تأْييدَه لعِلْمِهم به، وكانوا عَرَفوه بِتلك العَلاماتِ الَّتي سَبَقَ ذِكرُها، وقيل: هو استفهامُ استِخْبارٍ .

- قولُه: أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي، أي: وهذا أَخِي مِن أَبَوَيَّ؛ تَعْريفًا لنفْسِه به، ومُبالَغةً في تَعْريفِ نفْسِه، وتَفْخيمًا لشأْنِ أخيه، وإدْخالًا له في قولِه: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وتَكمِلةً لِما أفادَه قولُه: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ حسْبَما يُفيدُه قولُه: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا؛ فكأنَّه قال: هل علِمْتُم ما فعَلْتُم بِنَا مِن التَّفريقِ والإذْلالِ، فأنا يوسُفُ وهذا أخي، قدْ مَنَّ اللَّهُ علينا بالخَلاصِ عمَّا ابْتُلينا به، والاجتماعِ بعد الفُرقةِ، والعزَّةِ بعد الذِّلَّةِ، والأُنسِ بعْد الوَحْشَةِ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ فيه إشارةٌ إلى الجوابِ عن طلَبِهم لِرَدِّ أخيه بـ (إنَّه أخي لا أخوكم)؛ فلا وجهَ لطَلَبِكم .

- قولُه: أَنَا يُوسُفُ هذا الجَوابُ مُجرَّدٌ عنِ التَّأْكيدِ؛ لأنَّهم كانوا مُتَحقِّقينَ ذلك؛ فلم يَبْقَ إلَّا تأْييدُه لذلك، وقولُه: وَهَذَا أَخِي خبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعجُّبِ مِن جَمْعِ اللَّهِ بينهما بعدَ طولِ الفُرقَةِ؛ فجُملةُ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بَيانٌ للمَقْصودِ مِن جُملةِ وَهَذَا أَخِي .

- قولُه: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ تَعليلٌ بطَريقِ الاستِئنافِ التَّعليليِّ لجُملةِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا، وفيه تَعريضٌ بأنَّهم لم يتَّقوا اللَّهَ فيه وفي أخيه .

- قولُه: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ذِكْرُ الْمُحْسِنِينَ وَضْعٌ للظَّاهِرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ؛ إذْ مُقتضَى الظَّاهِرِ أنْ يقالَ: (فإنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أجْرَهم)، فعَدَلَ عنه إلى الْمُحْسِنِينَ، ووُضِعَ الْمُحْسِنِينَ مَوضِعَ الضَّميرِ؛ لاشتمالِ المحسنينَ على المتَّقين والصَّابرين، فـ الْمُحْسِنِينَ عامٌّ يندرِجُ فيه مَن تقدَّمَ. أو وُضِعَ المظْهَرُ موضِعَ المضْمَرِ؛ تنبيهًا على أنَّ المنْعوتينَ بالتَّقوى والصَّبرِ مَوصوفونَ بالإحسانِ، وعلى أنَّ المحسِنَ مَن جمَعَ بين التَّقوى والصَّبرِ، وللدِّلالةِ على أنَّ ذلك مِنَ الإحسانِ، وللتَّعميمِ في الحُكْمِ؛ ليكونَ كالتَّذييلِ، ويَدْخلَ في عُمومِه هو وأخوه .

4- قوله تعالى: قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

- قولُه: قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ قيل: الظَّاهرُ أنَّ مُنْتهى الجُملةِ هو قولُه:  عَلَيْكُمُ؛ لأنَّ مثلَ هذا القولِ ممَّا يجْري مَجْرى المثَلِ، فيُبْنَى على الاختصارِ، فيُكْتفى بـ لَا تَثْرِيبَ مثلَ قولِهم: لا بأْسَ. وزيادةُ عَلَيْكُمُ؛ للتَّأكيدِ .

- قولُه: وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ في هذا الخِتامِ مُناسَبةٌ حَسَنَةٌ؛ وذلك أنَّه لَمَّا دعا لهم بالمغفِرةِ أخبَرَ عنِ اللَّهِ بالصَّفةِ الَّتي هي سَببُ الغُفرانِ؛ وهو أنَّه تعالى أرحَمُ الرُّحماءِ؛ فهو يرجو منه قَبولَ دُعائِه لهم بالمَغفِرةِ .

- قوله تعالى: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ

- قولُه: فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ فيه إدماجُ الأمْرِ بالإتيانِ بأبيه في ضِمْنِ تبْشيرِه بوُجودِه إدماجًا بليغًا ؛ إذ قال: يَأْتِ بَصِيرًا، ثمَّ قال: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ؛ لِقَصْدِ صِلَةِ أرحامِ عَشيرتِه .

- قولُه: فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا فيه إفرادُ أبيه يَعقوبَ عليه السَّلامُ بالذِّكْرِ؛ تَعظيمًا له، على أحدِ وجْهيِ التفسيرِ، بَينَما قال في الباقينَ: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ

===================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (94- 98)

ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ

غريب الكلمات:

 

فَصَلَتِ: أي: خرجَتْ وفارَقَتْ؛ مِن قَولِهم: فصل من البلدِ فُصولًا: إذا انفصل منه، وجاوزَ حِيطانَه، وأصلُ (فصل): يدلُّ على تمييزِ الشَّيءِ مِن الشَّيءِ، وإبانتِه عنه

.

تُفَنِّدُونِ: أي: تُسَفِّهوني، وتَنسُبوني إلى الفَنَدِ: وهو الخَرَفُ، وضَعْفُ الرَّأْيِ والعَقلِ مِن كِبَر السِّنِّ، وأصلُ (فند): يدلُّ على ثِقَلٍ وشِدَّةٍ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يقولُ الله تعالى: ولَمَّا خرجَتْ قافلةُ بَني يَعقوبَ من مِصْرَ مُتَّجِهةً إلى الشَّامِ، قال يعقوبُ لِمَنْ حَضَرَ عندَه: إنِّي لَأشَمُّ رائحةَ يوسُفَ، لولا أن تُكَذِّبوني وتَنسُبوني إلى الهَرَمِ والخَرَفِ، فقال له الحاضِرونَ: واللَّهِ، إنَّك لفي خَطئِك الَّذي كنتَ عليه قديمًا، فلَمَّا أنْ جاء يعقوبَ ولدُه المبَشِّرُ برِسالةِ يوسُفَ، ألْقَى قَميصَ يوسُفَ على وجْهِ أبيه، فعاد مُبْصِرًا بعَينَيهِ كما كان. قال يعقوبُ لأولادِه: ألَمْ أَقُلْ لكم: إنِّي أعلمُ مِنَ اللَّهِ تعالى ما لا تَعلمونَه؟ قال أولادُ يعقوبَ لأبيهم: يا أبانا، اطلُبْ مِنَ اللَّهِ أنْ يَغفِرَ لنا ذُنوبنَا؛ إنَّا نَعترِفُ بأنَّنا كُنَّا خاطِئينَ، فقال لهم أبوهم: سوف أطلُبُ مِن ربِّي أنْ يَغفِرَ لكم؛ إنَّ ربِّي هو الغَفورُ الرَّحيمُ.

تفسير الآيات :

 

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94).

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ.

أي: ولَمَّا خرجَتْ قافلةُ بَنِي يعقوبَ مِن مصرَ إلى الشَّامِ، قال يعقوبُ عليه السَّلامُ لِمَنْ حضَرَ عِندَه: إنِّي لَأَشَمُّ رائحةَ ابْنِي يوسُفَ

!

لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ.

أي: لولا أنْ تَنْسُبوني إلى الهَرَمِ وضَعْفِ العَقلِ والخَرَفِ، لَتَحَقَّقْتُم ذلك وصَدَّقْتُمُوني .

قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95).

أي: قال الحاضِرونَ ليعقوبَ: واللَّهِ، إنَّك لفي خَطئِك الَّذي كنتَ عليه قديمًا، قد ذهبتَ عن العلمِ بحقيقةِ أمرِ يوسفَ، ومِن أجلِ ذلك تطمعُ في رجوعِه إليك .

فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96).

فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا.

أي: فلَمَّا أنْ جاءَ يَعقوبَ ولَدُه المبَشِّرُ برِسالةِ يوسُفَ، ألْقَى قَميصَ يوسُفَ على وجهِ يعقوبَ، فعاد مُبْصِرًا بعَينيهِ كما كان !

قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.

أي: قال يعقوبُ لأولادِه: ألم أقُلْ لكم: إنِّي أعلَمُ مِنْ اللَّهِ أنَّه سيَرُدُّ عليَّ يوسُفَ، ويَجمَعُ بيني وبينَه .

قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97).

أي: قال إخوةُ يوسُفَ لأبيهم: يا أبانا، اسأَلِ اللَّهَ أنْ يَسْتُرَ علينا ذُنوبَنا الَّتي أذْنَبْناها في حقِّك وحقِّ يوسُفَ، ويَتجاوزَ عن مُؤاخَذَتِنا بها؛ إنَّا كُنَّا مُذْنِبينَ مُتَعَمِّدين للإثمِ بمَا فعَلْنا .

قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98).

أي: قال يَعقوبُ لهم: سوفَ أسأَلُ ربِّي أنْ يَغفِرَ ذُنوبَكم؛ إنَّ ربِّي هو السَّاتِرُ لِذُنوبِ التَّائِبين المُتجاوِزُ عن المُؤاخَذةِ بها، الرَّحيمُ بهم؛ فلا يُعَذِّبُهم بعدَ تَوْبَتِهِم

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ اللَّهِ تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أوْصَل اللَّهُ تعالى إلى يَعقوبَ رِيحَ يوسُفَ عليه السَّلامُ عندَ انْقِضاءِ مُدَّةِ المِحنةِ، ومَجِيءِ وقتِ الرَّوْحِ والفرَحِ مِنَ المكانِ البَعيدِ، ومَنَعَ مِن وُصولِ خَبَرِهِ إليه مع قُرْبِ إحدى البلدتَيْنِ مِنَ الأُخْرى طوالَ سنواتِ هذه المحنةِ، وذلك يدلُّ على أنَّ كلَّ سَهْلٍ فهو في زَمانِ المِحنَةِ صَعْبٌ، وكلَّ صعبٍ فهو في زمانِ الإِقبالِ سَهْلٌ

.

2- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ لَمَّا سأَلَ إخوةُ يوسُفَ أباهمُ الاستغفارَ لِذُنوبِهم، عَلَّلُوه بالاعترافِ بالذَّنْبِ؛ لأنَّ الاعترافَ شَرْطُ التَّوْبةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قولُ اللَّهِ تعالى: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ عَجَّلوا إليه بَشيرًا، فأسرَعَ بعدَ خُروجِ العِيرِ مِن مِصرَ إلى الشَّامِ؛ ولذلك عبَّرَ بالفاءِ في فَلَمَّا

.

2- قولُ الله تعالى: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فيه دَلالةٌ على جوازِ التَّبشيرِ ببشائرِ الدُّنيا واستحبابِه، وجوازِ السُّرورِ بحُصولِ النِّعَم الحاصلةِ في الدُّنيا .

3- قال الله تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ إنَّما سألوه المغفرةَ؛ لأنَّهم أدخلوا عليه مِن ألمِ الحُزنِ ما لا يسقُط المأثمُ عنه إلَّا بإحلالِه، وهذا الحكمُ ثابِتٌ فيمن آذى مُسلِمًا في نفسِه أو مالِه أو غيرِ ذلك ظالِمًا له، فإنَّه يجِبُ عليه أن يتحلَّلَ منه .

4- قال الله تعالى عن إخوةِ يُوسفَ بعدَ ندامتِهم: قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا يوسف: 97 ولم يقولوا: كفرنَا، ولا رَدَّ اللهُ عليهم ولا أبوهم قولَهم، مع كلِّ ما ذكرَهم به مِن الغَدْرِ بأخيهم وإلقائِه في الجُبِّ، وكَذِبِهم بعد رجوعِهم إلى أبيهم، ففي ذلك رَدٌّ على الخوارجِ فيما يزعمونَ أنَّ الذنوبَ كُفْرٌ .

5- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، ثم عَلَّلَ ذلك بقولِه: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فعَلَ كلَّ ذلك؛ تسكينًا لقلوبِهم، وتَصحيحًا لرَجائِهم؛ ليَقْوَى أملُهم؛ فيكونَ تعالى عند ظنِّهِم بتحقيقِ الإجابةِ، وتنجيزًا لِطَلَبِه

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ

- قولُه: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ فيه تأْكيدُ هذا الخبَرِ بـ (إنَّ) واللَّامِ؛ لأنَّه مَظِنَّةُ الإنكارِ؛ ولذلك أعقَبَه بـ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ

.

2- قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

- قولُه: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا أَنْ مَزيدةٌ؛ للتَّأْكيدِ، وفائدةُ التَّأْكيدِ في هذه الآيةِ تَحقيقُ هذه الكَرامَةِ الحاصِلةِ ليعقوبَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّها خارِقُ عادةٍ؛ ولذلك لم يُؤْتَ بـ (أنْ) في نظائرِ هذه الآيةِ ممَّا لم يَكُنْ فيه داعٍ للتَّأكيدِ ؛ ففيه مُناسَبةٌ حَسَنَةٌ مِن هذا الوجْهِ.

وقيل: إنَّه قال هنا: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا وفي سورةِ (العنكبوتِ) آخِرًا قال: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا بذِكْرِ (أنْ)، وقال في (هودٍ): وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا، وفي (العنكبوتِ) أوَّلًا قال: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى بحَذْفِ (أنْ)؛ للتَّنبيهِ على جوازِ الأمْرينِ .

3- قوله تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ فيه الاقتِصارُ على استِدْعاءِ الاستغفارِ، وعدَمِ طَلَبِ صَفْحِ أبيهم عنهم، ومِنْ حقِّ مَنِ اعترَفَ بذَنْبِه أنْ يُصْفَحَ عنه، ويُسْتَغْفَرَ له؛ فكأنَّهم كانوا على ثِقَةٍ مِن عَفوِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ ولذلك اقتَصَروا على استدْعاءِ الاستغفارِ، وأدْرَجوا ذلك في الاستغفارِ .

4- قوله تعالى: قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

- قولُه: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فيه التَّعبيرُ عن عِدَتِه لهم بالاستغفارِ بـ (سَوْفَ)، وهي أبلَغُ في التَّنفيسِ مِن السِّينِ ، وإنَّما وعَدَهم بالاستغفارِ في الْمُستقبَلِ؛ للدَّلالةِ على أنَّه يُلازِمُ الاستغفارَ لهم في أزمِنةِ المستقبَلِ، ويُعْلَمُ منه أنَّه استغفرَ لهم في الحالِ بدَلالةِ الفَحْوى، ولكنَّه أرادَ أنْ يُنَبِّهَهم إلى عِظَمِ الذَّنْبِ وعَظَمَةِ اللَّهِ تعالى، وأنَّه سيُكَرِّرُ الاستغفارَ لهم في أزمِنةٍ مُستقبَلةٍ . وقيل: إنَّ يَعقوبَ أخَّرَ الدُّعاءَ والاستغفارَ لهم إلى وقْتِ السَّحَرِ؛ لأنَّه أشرَفُ الأوقاتِ، وهو الوقْتُ الَّذي يقولُ اللَّهُ فيه: هلْ مِن داعٍ، فأستجيبَ له .

- وجُملةُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ في موضِعِ التَّعليلِ لجُملةِ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، وفيه التَّأكيدُ بضَميرِ الفصْلِ (هو)؛ لِتَقْويةِ الخبَرِ

===========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (99- 101)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ

غريب الكلمات:

 

الْعَرْشِ: أي: سريرِ الملِكِ، أو سريرِ المملَكةِ، وأصلُ (عرش): يدلُّ على ارتفاعٍ في شيءٍ مبْنِيٍّ، أو شيءٍ مُسقَّفٍ

.

وَخَرُّوا: الخُرورُ والخَرُّ: السُّقوطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى الأرضِ، وخرَّ: سقَط على وَجهِه، وأصلُ (خَرَّ): هو اضْطِرابٌ، وسُقوطٌ معَ صوتٍ .

الْبَدْوِ: أي: الباديةِ، وهي كلُّ مكانٍ يبدو ما يَعِنُّ فيه، أي: يعرِضُ، أو خلافُ الحضَرِ، وأصلُ (بدو): هو ظُهورُ الشَّيءِ .

نَزَغَ: أي: أفسَدَ وأغْرى، وحمَلَ بعضَنا على بعضٍ، وأصلُ (نزغ): يدلُّ على إفسادٍ بين اثنينِ .

فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: أي: خالِقَهما ومُبدِعَهما ومُبتدئَهما، وأصلُ (فطر): الشَّقُّ طولًا، ويدلُّ على فتْحِ شيءٍ، وإبرازِه

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يقول الله تعالى: فلَمَّا دخَلَ يعقوبُ وأهلُه على يوسُفَ ضمَّ إليه أبويْه، وقال لجميعِ أهلِه: ادخُلوا مصرَ آمنينَ إنْ شاءَ اللَّهُ، وأجلَسَ أباه وأمَّه على العَرشِ الَّذي يجلِسُ عليه، وخرَّ الجميعُ له سُجودًا؛ تحيةً وتعظيمًا ليوسُفَ، وقال لأبيه: يا أبتِ هذا السُّجودُ منكم لي هو تَفسيرُ رُؤْيايَ الَّتي رأيتُها في صِغَري، قد حقَّقَها ربِّي، وقد أحسَنَ بي جلَّ وعلا حين أخرَجني مِن السِّجنِ، وجاء بكم مِن الباديةِ مِن بَعدِ أنْ أفسَدَ الشَّيطانُ بَيني وبين إخوتي؛ إنَّ ربِّي لطيفٌ لِمَا يُريدُه، إنَّه هو العليمُ الحَكيمُ.

وقال يوسُفُ داعيًا ربَّه: ربِّي قد آتيتَني مِن مُلْكِ مصرَ، وعلَّمتَني مِن تَعبيرِ الرُّؤى، ومِن عُلومِ الكُتُبِ المُنزَّلةِ، وسُنَنِ الأنبياءِ، يا خالقَ السَّمواتِ والأرضِ، أنت ناصِري ومُتولِّي أُموري في الدُّنيا والآخِرَةِ، تَوفَّني وأنا على الإسلامِ، وألْحِقْني في الثَّوابِ والدَّرجاتِ بالصَّالِحين.

تفسير الآيات :

 

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99).

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ.

أي: فرحَلَ يعقوبُ بأهلِه جميعًا إلى مصرَ، فلَمَّا دخَلوا على يوسُفَ ضمَّ يوسُفُ إليه أبويْه، واختصَّهما بقُربِه

.

وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ.

أي: وقال يوسُفُ لجميعِ أهلِه: ادخُلوا مِصرَ آمنينَ- إنْ شاءَ اللَّهُ- مِن المَكارِه والمَخاوِفِ .

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100).

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ.

أي: وأجلَسَ يوسُفُ أباه وأمَّه على السَّريرِ الَّذي يجلِسُ عليه .

وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا.

أي: وخرَّ أبو يوسُفَ وأمُّه وإخوتُه الأَحدَ عشَرَ ساجِدينَ لِيوسُفَ؛ تَحيةً له وتعظيمًا .

وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا.

أي: وقال يوسُفُ لأبيه يعقوبَ: يا أبتِ هذا السُّجودُ منكم هو ما آلَتْ إليه رُؤْيايَ الَّتي رأيْتُها في مَنامي مِن قبلُ- وذلك حينَ رأى أنَّ الشَّمسَ والقمَرَ وأحدَ عشَرَ كوكبًا له ساجِدينَ- قد حقَّقَ ربِّي وُقوعَها، وجعَلَها صادِقةً .

وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ.

أي: وقد أحسَنَ ربِّي إليَّ حينَ أخرَجَني مِن السِّجنِ، وجاءَ بكم مِن بادِيةِ الشَّامِ إلى حاضِرةِ مصرَ .

مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي.

أي: مِن بعدِ أنْ دخَلَ الشَّيطانُ بيني وبين إخوتي، فأفسَدَ ما بَيننا بالحسَدِ، وأغْرى بعضَنا ببعضٍ .

إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء.

أي: إنَّ ربِّي لطيفٌ لِما يُريدُه بعِبادِه مِن البِرِّ والرَّحمةِ؛ فيُيسِّرُ لهم الخيرَ بطُرُقٍ خفيَّةٍ دقيقةٍ، مِن حيثُ لا يَعلمونَ، ولا يَحتسِبونَ .

إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.

أي: إنَّ اللَّهَ هو العَليمُ بمصالِحِ خَلْقِه وغيرِ ذلك، لا يَخْفَى عليه ظواهِرُ الأمورِ وبواطنُها، ولا مَبادئُها وعَواقبُها، الحكيمُ في أفعالِه وأقوالِه وتَدبيرِه؛ فيضَعُ كلَّ شيءٍ في موضِعِه اللَّائقِ به، ويَسوقُ الأمورَ إلى أوقاتِها المُقدَّرةِ لها .

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّه لَمَّا جمَعَ اللَّهُ شمْلَ يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، علِمَ أنَّ نعيمَ الدُّنيا لا يَدومُ، فسأَلَ اللَّهَ حُسْنَ العاقِبةِ .

وأيضًا أنَّه لَمَّا أتمَّ اللَّهُ لِيوسُفَ ما أتمَّ مِن التَّمكينِ في الأرضِ والمُلْكِ، وأقرَّ عينَه بأبويْه وإخوتِه، وبعدَ العِلْمِ العَظيمِ الَّذي أعطاه اللَّهُ إيَّاه؛ قال مُقرًّا بنِعمةِ اللَّهِ، شاكرًا لها، داعيًا بالثَّباتِ على الإسلامِ ، فقال:

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ.

أي: قال يوسُفُ: يا ربِّ، قد آتيتَني مِن مُلْكِ مصرَ بالتَّصرُّفِ في شُؤونِ خَزائنِها .

وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ.

أي: وعلَّمتَني- يا ربِّ- مِن تَعبيرِ الرُّؤى، ومِن عُلومِ الكُتُبِ المُنزَّلةِ، وسُنَنِ الأنبياءِ .

فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ.

أي: يا خالِقَ السَّمواتِ والأرضِ، أنت ناصِري ومُتولِّي أُموري في الدُّنيا وفي الآخرةِ .

تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.

أي: اقبِضْني إليك- يا ربِّ- إذا جاء أَجَلي وأنا ثابِتٌ على الإسلامِ، وألْحِقْني في الثَّوابِ والدَّرجاتِ بالصَّالِحين مِن آبائي؛ إبراهيمَ وإسحاقَ وغيرِهما مِن الأنبياءِ والمُرسَلينَ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال يوسُفُ عليه السلامُ: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ لم يقُلْ: (أخرَجَني مِن الجُبِّ)؛ حفْظًا للأدبِ مع إخوتِه، وتَفَتِّيًا

عليهم ألَّا يُخْجِلَهم بما جَرى في الجُبِّ، وقال: وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ولم يقُلْ: جاءَ بكم مِن الجوعِ والنَّصبِ، أو: رفَعَ عنكم جُهْدَ الجُوعِ والحاجةِ؛ أدبًا معهم، وأضافَ ما جَرى إلى السَّببِ ولم يُضِفْه إلى المُباشِرِ الَّذي هو أقرَبُ إليه منه، فقال: نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ولم يقُلْ: (نزَغَ الشَّيطانُ إخوتي)، بل كأنَّ الذَّنْبَ والجهْلَ صدَرَ مِن الطَّرفينِ ؛ فأعْطى الفُتُوَّةَ والكرَمَ والأدبَ حَقَّه؛ ولهذا لم يكُنْ كَمالُ هذا الخُلُقِ إلَّا للرُّسلِ والأنبياءِ صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم .

2- قوله: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِن لُطْفِ يوسُفَ وحُسْنِ خِطابِه عليه السَّلامُ؛ حيثُ قال: (إنَّ إتيانَكم مِن الباديةِ مِن إحسانِ اللَّهِ إليَّ)، فلم يقُلْ: (أحسَنَ بكم)، بل قال: أَحْسَنَ بِي؛ فجعَلَ الإحسانَ عائدًا إليه .

3- في قولِ يوسُفَ عليه السَّلامُ: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ إشارةٌ إلى أنَّه ينبغي على العبدِ أن يتذكَّرَ في حالِ الرَّخاءِ والسُّرورِ حالةَ الحُزنِ والشِّدَّةِ؛ ليزدادَ شُكرُه وثناؤُه على اللهِ .

4- قولُ يوسفَ عليه السلامُ: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ فيه أنَّ اللهَ تعالَى يُوصِلُ بِرَّه وإحسانَه إلى العبدِ من حيث لا يَشعُرُ، ويُوصِلُه إلى المَنازلِ الرَّفيعةِ مِن أمورٍ يكرَهُها .

5- قولُ يوسُفَ عليه السَّلامُ: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ فيه أنَّه ينْبَغي للعبدِ أنْ يَتملَّقَ إلى اللَّهِ دائمًا في تَثبيتِ إيمانِه، ويَعمَلَ الأسبابَ الموجِبةَ لذلك، ويسأَلَ اللَّهَ حُسْنَ الخاتِمةِ، وتَمامَ النِّعمةِ .

6- قولُ اللَّهِ تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ مَن أرادَ الدُّعاءَ يستحب له أنْ يُقدِّمَ عليه ذِكْرَ الثَّناءِ على اللَّهِ؛ فهاهنا يوسُفُ عليه السَّلامُ لَمَّا أرادَ أنْ يذكُرَ الدُّعاءَ، قدَّمَ عليه الثَّناءَ، ثمَّ ذكَرَ عُقَيْبَه الدُّعاءَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قال اللَّهُ تعالى حِكايةً عن يوسُفَ: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ خَصَّ مِن إحسانِ اللَّهِ إليه إحْسانَينِ؛ هما: يومَ أخرَجَه مِن السِّجنِ، ومَجيءَ عَشيرتِه مِن الباديةِ؛ فإنَّ (إذْ) ظرْفُ زمانٍ لفعْلِ أَحْسَنَ؛ فهي بإضافتِها إلى ذلك الفعْلِ اقتَضَت وُقوعَ إحسانٍ غيرِ معدودٍ؛ فإنَّ ذلك الوقتَ كان زمَنَ ثُبوتِ بَراءتِه مِن الإثمِ الَّذي رمَتْه به امرأةُ العزيزِ، وتلك مِنَّةٌ، وزمَنَ خَلاصِه مِن السِّجنِ؛ فإنَّ السِّجنَ عذابُ النَّفْسِ بالانفصالِ عنِ الأصدقاءِ والأحِبَّةِ، وبخِلْطَةِ مَن لا يُشاكِلونه، وبشُغْلِه عن خُلْوَةِ نفْسِه بتلقِّي الآدابِ الإلهيَّةِ، وكان أيضًا زمَنَ إقبالِ الملِكِ عليه. وأمَّا مجيءُ أهلِه فزوالُ ألَمٍ نفْسانيٍّ بوَحشتِه في الانفرادِ عن قَرابتِه، وشوقِه إلى لقائِهم؛ فأفصَحَ بذكْرِ خُروجِه مِن السِّجنِ ومجيءِ أهلِه مِن البدْوِ إلى حيثُ هو مَكينٌ قويٌّ

.

2- قَولُه: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ يُستدَلُّ به على أنَّ الانتقالَ من البدوِ نِعمةٌ، وذلك لِما يلحقُ أهلَ الباديةِ مِن الجَفاءِ، والبُعدِ عن مواردِ العُلومِ، وعن رَفاهةِ المدنيَّة، ولُطفِ المُعاشرة، والكمالاتِ الإنسانيَّة .

3- قولُه: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ لم يَذكُرْ يوسُفُ عليه السَّلامُ إخراجَه مِن البئْرِ؛ لوُجوهٍ:

الأوَّلُ: أنَّه قال لإخوتِه: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ولو ذَكَرَ واقِعةَ البئْرِ لكان ذلك تَثريبًا لهم؛ فكان إهمالُه جاريًا مَجْرى الكرَمِ.

الثَّاني: أنَّه لَمَّا خرَجَ مِن البئْرِ لم يَصِرْ ملِكًا بل صيَّروه عبدًا، أمَّا لَمَّا خرَجَ مِن السِّجنِ صيَّروه ملِكًا؛ فكان هذا الإخراجُ أقرَبَ مِن أنْ يكونَ إنعامًا كاملًا.

الثَّالثُ: أنَّه لَمَّا أُخْرِجَ مِن البئْرِ وقَعَ في المضارِّ الحاصِلةِ بسبَبِ تُهمةِ المرأةِ، ولَمَّا أُخْرِجَ مِن السِّجنِ وصَلَ إلى أبيه وإخوتِه، وزالَتِ التُّهمةُ؛ فكان هذا أقرَبَ إلى المَنْفعةِ .

الرابع: أنَّ مُصيبةَ السِّجنِ كانتْ عند يوسُفَ أعظَمَ؛ لطولِ مُدَّتِها، ولمُصاحَبَتِه الأوباشَ وأعداءَ الدِّينِ فيه، بخِلافِ مُصيبةِ الجُبِّ؛ لقِصَرِ مُدَّتِها .

الخامس: لأنَّ السِّجْنَ كان باخْتيارِه، فكانَ الخُروجُ منه أعْظمَ بخلافِ الجُبِّ .

4- قولُه: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ فيه دَلالةٌ على أنَّ فِعْلَ العبدِ خلْقُ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّه أضافَ إخراجَه مِن السِّجنِ إلى اللَّهِ تعالى، ومجيئَهم مِن البدْوِ إليه .

5- قال يوسُفُ الصِّدِّيقُ: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فأخبَرَ أنَّه تعالى يلطُفُ لِما يُريدُه؛ فيأْتي به بطُرُقٍ خَفِيَّةٍ لا يعلَمُها النَّاسُ، واسمُه جلَّ وعلا (اللَّطيفُ) يتضمَّنُ عِلْمَه بالأشياءِ الدَّقيقةِ، وإيصالَه الرَّحمةَ بالطُّرقِ الخَفِيَّةِ؛ فكان ظاهِرُ ما امتحَنَ به يوسُفَ مِن مُفارقةِ أبيه وإلقائِه في السِّجنِ، وبيعِه رقيقًا، ثمَّ مُراودةِ الَّتي هو في بيتِها عن نَفْسِه، وكذِبِها عليه وسَجْنِه- مِحَنًا ومصائبَ، وباطِنُها نِعَمًا وفتْحًا، جعَلَها اللَّهُ سببًا لِسعادتِه في الدُّنيا والآخرةِ .

6- قولُ اللَّهِ تعالى: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا فيه سؤالٌ: كيف قال يوسُفُ عليه السَّلامُ ذلك، مع عِلْمِه بأنَّ كلَّ نبيٍّ لا يموتُ إلَّا مُسلمًا؟

الجوابُ: قاله إظهارًا للعُبوديَّةِ والافتقارِ، وشِدَّةِ الرَّغبةِ في طلَبِ سعادةِ الخاتِمةِ، وتَعليمًا للأُمَّةِ، وطلبًا للثَّوابِ . وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه إنَّما قال يوسُفُ ذلك؛ لأنَّ كَمالَ حالِ المُسلمِ أنْ يَستسلِمَ لحُكمِ اللَّهِ تعالى على وجْهٍ يستقِرُّ قلْبُه على ذلك الإسلامِ، ويَرْضَى بقضاءِ اللَّهِ وقدَرِه، ويكونَ مُطمئِنَّ النَّفْسِ، مُنشرِحَ الصَّدرِ، مُنفسِحَ القلْبِ في هذا البابِ، وهذه الحالةُ زائدةٌ على الإسلامِ الَّذي هو ضِدُّ الكُفْرِ؛ فالمطلوبُ هاهنا هو الإسلامُ بهذا المعنى .

7- قولُ اللَّهِ تعالى: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ فيه سؤالٌ: أنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ كان مِن أكابِرِ الأنبياءِ، والصَّلاحُ أوَّلُ دَرجاتِ المُؤمنينَ؛ فالواصِلُ إلى الغايةِ كيف يَليقُ به أنْ يطلُبَ البِدايةَ؟

والجوابُ: قال ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللَّه عنهما وغيرُه مِن المُفسِّرين: يعني بآبائِه إبراهيمَ، وإسماعيلَ، وإسحاقَ، ويَعقوبَ، والمعنى: ألحِقْني بهم في ثَوابِهم ومَراتِبِهم ودَرجاتِهم .

8- قولُ اللَّهِ تعالى: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ جمَعَت هذه الدَّعوةُ: الإقرارَ بالتَّوحيدِ، والاستسلامَ للرَّبِّ، وإظهارَ الافتِقارِ إليه، والبَراءةَ مِن مُوالاةِ غيرِه سبحانه، وكونَ الوَفاةِ على الإسلامِ أجلَّ غاياتِ العبدِ، وأنَّ ذلك بِيَدِ اللَّهِ لا بِيَدِ العبْدِ، والاعترافَ بالمعادِ، وطلبَ مُرافقةِ السُّعداءِ .

9-  قال ابنُ الجَوْزيِّ: (قرأْتُ سُورةَ يوسُفَ عليه السَّلامُ، فتعَجَّبْتُ مِن مَدْحِه عليه السَّلامُ على صَبْرِه، وشَرْحِ قِصَّتِه للنَّاسِ، ورَفْعِ قدْرِه بتَرْكِ ما تَرَك، فتأمَّلْتُ خَبِيئَةَ الأمْرِ فإذا هي مُخالفةٌ للْهَوى المَكْروهِ، فقلْتُ: واعَجَبًا! لو وافَقَ هَواهُ مَن كان يكونُ؟! ولَمَّا خالَفَه لقدْ صارَ أمرًا عَظيمًا؛ تُضْرَبُ الأمْثالُ بصَبْرِه، ويُفْتَخَرُ على الخلْقِ باجْتهادِه، وكلُّ ذلك قد كان بِصَبْرِ ساعةٍ، فيا له عِزًّا وفَخْرًا أنْ تَمْلِكَ نفْسَك ساعةَ الصَّبرِ عنِ المحْبوبِ وهو قريبٌ!)

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قولُه تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ فيه إيجازٌ، حيثُ طَوى ذِكْرَ سفَرِهم مِن بِلادِهم إلى دُخولِهم على يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ إذ ليس فيه مِن العِبَرِ شيءٌ

.

- وإعادةُ اسمِ يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ لأجْلِ بُعدِ المَعادِ .

- وقولُه: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ جُملةٌ دُعائيَّةٌ بقَرينةِ قولِه: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لكونِهم قد دخلوا مصرَ حينئذٍ- وذلك على أحدِ الأوجُهِ في التفسيرِ- فالأمرُ في ادْخُلُوا للدُّعاءِ، وجُملةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُعترِضةٌ بين جُملةِ ادْخُلُوا والحالِ مِن ضميرِها إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وفيها تأدُّبٌ مع اللَّهِ؛ كالاحتراسِ في الدُّعاءِ الواردِ بصِيغةِ الأمْرِ، وهو لمُجرَّدِ التَّيمُّنِ؛ فوُقوعُه في الوعْدِ والعزْمِ والدُّعاءِ بمَنزلةِ وُقوعِ التَّسميةِ في أوَّلِ الكلامِ، وليس هو مِن الاستثناءِ الواردِ النَّهْيُ عنه في الحديثِ: ((ألَّا يقولَ: اغفِرْ لي إنْ شئْتَ؛ فإنَّه لا مُكْرِهَ له)) ؛ لأنَّ ذلك في الدُّعاءِ المُخَاطَبِ به اللَّهُ صَراحةً .

2- قوله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

- قولُه: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا فيه تقديمُ الرَّفعِ لفظًا على الخُرورِ مع أنَّ الرَّفعَ مُؤَخَّرٌ عن ِالخُرورِ- وإنْ قُدِّم لفظًا- ؛ للاهتمامِ بتَعْظيمِه لهما .

- قولُه: وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ذِكْرُ مِنَ الْبَدْوِ فيه إظهارٌ لتَمامِ النِّعمةِ؛ لأنَّ انتقالَ أهلِ الباديةِ إلى المدينةِ ارْتقاءٌ في الحضارةِ .

- قولُه: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ فيه إسنادُ النَّزْغِ إلى الشَّيطانِ؛ لأنَّه المُوَسْوِسُ، كما قال: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا، وذكَرَ هذا القَدْرَ مِن أمْرِ إخوتِه؛ لأنَّ النِّعمةَ إذا جاءتْ إِثْرَ شِدَّةٍ وبلاءٍ كانتْ أحسنَ مَوقِعًا ، وهذا مِن مُبالَغتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الإحسانِ؛ حيثُ أسنَدَ ذلك إلى الشَّيطانِ . وقد أشارَ إلى مَصائبِه السَّابقةِ مِن الإبقاءِ في الجُبِّ ومُشاهدةِ مَكْرِ إخوتِه به بقولِه: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي؛ فكلمةُ بعد اقتَضَتْ أنَّ ذلك شيءٌ انقَضَى أثرُه، وقد ألَمَّ به إجْمالًا؛ اقتصارًا على شُكْرِ النِّعمةِ، وإعراضًا عنِ التَّذكيرِ بتِلك الحوادثِ المُكَدِّرَةِ للصِّلةِ بينه وبين إخوتِه؛ فمرَّ بها مَرَّ الكِرامِ، وباعَدَها عنهم بقدْرِ الإمكانِ؛ إذ ناطَها بنَزْغِ الشَّيطانِ .

- قولُه: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ جُملةٌ مُسْتَأْنَفَةُ استِئنافًا ابتدائيًّا؛ لقصْدِ الاهتمامِ بها، وتعليمِ مَضْمونِها .

- وجُملةُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ مُسْتَأْنَفَةٌ أيضًا، أو تعليلٌ لجُملةِ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ، وحرْفُ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ، وتَوسيطُ ضَميرِ الفصْلِ (هو) للتَّقويةِ .

3- قوله تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ

- قولُه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ جعَلَ الَّذي أُوتِيَهُ بعضًا مِن المُلْكِ ومِن التَّأويلِ؛ لأنَّ ما أُوتِيَهُ بَعضٌ مِن جِنْسِ المُلْكِ، وبعضٌ مِن التَّأويلِ؛ إشعارًا بأنَّ ذلك في جانِبِ مُلْكِ اللَّهِ وفي جانِبِ عِلْمِه شيءٌ قليلٌ ، وذلك بناءً على أنَّ (مِن) للتبعيضِ.

- قولُه: فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ نُصِبَ فَاطِرَ على أنَّه صِفَةٌ للمُنادى، أو مُنادًى آخرُ، وصَفَه تعالى به بعدَ وصْفِه بالرُّبوبيَّةِ؛ مُبالَغةً في تَرتيبِ مَبادِي ما يعقُبُه مِن قولِه: أَنْتَ وَلِيِّي .

- وجُملةُ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِن قَبيلِ الخبَرِ في إنْشاءِ الدُّعاءِ، وإنْ أمْكَنَ حمْلُه على الإخبارِ بالنِّسبةِ لوِلايةِ الدُّنيا، قيل: لإثباتِه ذلك الشَّيءَ لوِلايةِ الآخِرةِ؛ فالمعنى: كُنْ وَلِيِّيَ في الدُّنيا والآخرةِ

========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (102- 107)

ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

 

غَاشِيَةٌ: أي: عُقوبةٌ تَغشاهم وتَشملُهم، وأصْلُ (غشي): يدلُّ على تغْطيةِ شيءٍ بشيءٍ

.

بَغْتَةً: أي: فجأَةً، وكلُّ ما جاءَ فجأةً فقد بَغَتَ، يقال: قد بَغَتَه الأمرُ يَبْغَتُه بغْتًا وبَغتةً، إذَا أتاه فجأةً، وأصْلُ (بغت): مُفاجأةُ الشَّيءِ مِن حيث لا يحتسِبُ

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يقولُ الله تعالى: ذلك الَّذي قصَصْناه عليك- يا مُحمَّدُ- مِن أمْرِ يوسُفَ وغيرِه هو مِن أخبارِ الغَيبِ، نُوحيه إليك، وما كنتَ حاضرًا مع إخوةِ يوسُفَ إذِ اتَّفقوا على إلْقاءِ يوسُفَ في الجُبِّ، وهم يَمكرون.

وما أكثَرُ النَّاسِ ولو حرصْتَ على هِدايتِهم- يا مُحمَّدُ- بمُؤمنِينَ بما جئْتَ به، وما تطلُبُ منهم مُقابِلَ دعوتِهم وتَبليغِ ما كُلِّفْتَ به أجرًا، إنَّ الَّذي أُرْسِلْتَ به مِن القُرآنِ ما هو إلَّا تذكِرَةٌ، وعِظَةٌ للعالَمين.

وكمْ مِن آيةٍ منتشِرَةٍ في السَّمواتِ والأرضِ دالَّةٍ على أنَّ اللَّهَ وحْدَه هو المُستحِقُّ للعِبادةِ، ومع ذلك يمُرُّ عليها النَّاسُ وهم مُعرِضون عنِ التَّفكُّرِ فيها، والاعتِبارِ بها، وما يُقِرُّ أكثرُهم بأنَّ اللَّهَ ربُّهم إلَّا وهم مُشرِكون به غيرَه في العِبادةِ. أفأمِنَ هؤلاءِ أنْ تأتِيَهم عُقوبةٌ مِن اللَّهِ تُحيطُ بهم؛ بسبَبِ شِرْكِهم، أو تأتِيَهم القيامةُ فجأَةً وهم لا يشْعُرون بمَجيئِها؟!

تفسير الآيات :

 

ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102).

ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ.

أي: ذلك الَّذي قَصَصْنا في هذه السُّورةِ- مِن خبَرِ يوسُفَ وغيرِه ممَّا غاب عنك عِلْمُه- نُوحيه إليك- يا مُحمَّدُ- وَنُعْلِمُكَ به؛ لنُثبِّتَ به فؤادَك، ولتَصبِرَ على ما أصابَكَ

.

وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ.

أي: وما كنتَ حاضرًا- يا مُحمَّدُ- عند إخوةِ يوسُفَ حين اتَّفقَتْ آراؤُهم، وصحَّتْ عَزائمُهم على إلْقاءِ يوسُفَ في الجُبِّ، والحالُ أنَّهم يَمكُرون به في هذا الفعْلِ، ويبْغونَ له الغَوائلَ .

وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّ هذا انتِقالٌ مِن سَوْقِ هذه القِصَّةِ إلى العِبرةِ بتَصميمِ المُشركين على التَّكذيبِ بعدَ هذه الدَّلائلِ البيِّنةِ .

وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103).

أي: وما أكثَرُ النَّاسِ - يا محمَّدُ- ولو حرصْتَ على هِدايتِهم بمُؤمنِينَ باللَّهِ، وبما جئْتَهم به مِن عِندِه سُبحانَه .

كما قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ الأنعام: 116.

وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104).

وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ.

أي: وما تطلُبُ منهم- يا محمَّدُ- على تَذكيرِهم بالقُرآنِ، ونُصْحِهم، ودَعوتِهم إلى الإيمانِ أُجْرةً .

كما قال تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ الأنعام: 90.

إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ.

أي: ما القُرآنُ إلَّا عِظَةٌ وتذْكِرةٌ للعالَمينَ، يَتذكَّرون به، ويهتَدون .

كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الإسراء: 9.

وقال سبحانه: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ المائدة: 15- 16.

وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105).

أي: وكمْ مِن علاماتٍ كثيرةٍ في السَّمواتِ والأرضِ دالَّةٍ على أنَّ اللَّه هو المستحِقُّ للعِبادةِ وحْدَه، يمُرُّ عليها النَّاسُ ويرَونَها، وهم عن التَّفكُّرِ فيها والاعتِبارِ بها مُعرِضون .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ الأنبياء: 32.

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106).

أي: وما يُقِرُّ أكثَرُ النَّاسِ بأنَّ اللَّهَ ربُّهم إلَّا وهم مُشرِكون به غيرَه في عِبادتِه !

عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللَّهُ عنهما، قال: ((كان المُشرِكون يقولون: لبَّيكَ لا شَريكَ لك، قال: فيقولُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ويْلَكُم، قدْ قدْ !!، فيقولونَ: إلَّا شَريكًا هو لك، تملِكُه وما ملَكَ؛ يقولونَ هذا وهم يَطوفونَ بالبيتِ )) !

وعن مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ، قال: ((انطلقْتُ مع أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضِيَ اللَّهُ عنه إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقال: يا أبا بكرٍ، لَلشِّرْكُ فيكم أَخْفَى مِن دَبيبِ النَّمْلِ، فقال أبو بكرٍ: وهل الشِّرْكُ إلَّا مَن جعَلَ مع اللَّهِ إلهًا آخَرَ؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: والَّذي نفْسي بيَدِه، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِن دَبيبِ النَّمْلِ! ألَا أدُلُّك على شيءٍ إذا قُلْتَه ذهَبَ عنك قليلُه وكثيرُه؟، قال: قل: اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بكَ أنْ أُشْرِكَ بكَ وأنا أعلَمُ، وأستغفِرُك لِمَا لا أعلَمُ )) .

وعن سَعدِ بنِ عُبَيدةَ، ((أنَّ ابنَ عمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما سمِعَ رجلًا يقولُ: لا والكَعبةِ، فقال ابنُ عمَرَ: لا يُحْلَفُ بغيرِ اللَّهِ؛ فإنِّي سمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: مَن حلِفَ بغيرِ اللَّهِ فقد كفَرَ، أو أشْرَكَ )) .

وعن مَحمودِ بنِ لبيدٍ رضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ أخوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّرْكُ الأصغَرُ، قالوا: وما الشِّرْكُ الأصغَرُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: الرِّياءُ؛ يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لهم يومَ القيامةِ إذا جُزِيَ النَّاسُ بأَعمالِهم: اذْهَبوا إلى الَّذين كنتُم تُراؤونَ في الدُّنيا، فانْظُروا هل تجِدونَ عندهم جزاءً؟ !)) .

أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107).

أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ.

أي: أفأمِنَ أولئك الَّذين لا يُؤمِنونَ باللَّهِ إلَّا وهم مُشرِكون أنْ تأتِيَهم عُقوبةٌ مِن اللَّهِ تغْشاهم وتُحيطُ بهم؛ بسبَبِ شِرْكِهم باللَّهِ ؟!

كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ الأعراف: 97- 99.

وقال سبحانه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ النحل: 45- 47.

أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ.

أي: أوْ أَمِنَ الَّذين لا يُؤمِنونَ باللَّهِ إلَّا وهم مُشرِكون أنْ تأتِيَهم القِيامةُ فجأَةً وهم لا يَدْرونَ بمَجيئِها؟! فلْيَتوبوا إلى اللَّهِ إذًا

 

.

كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ الزخرف: 66.

وقال سبحانه: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ محمد: 18.

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ أشارَ تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ إلى صِحَّةِ نُبوَّةِ نبيِّنا صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه أَنْزَلَ عليه هذا القُرآنَ، وفصَّلَ له هذه القِصَّةَ، مع أنَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لم يكُنْ حاضرًا لدَى أولادِ يعقوبَ حين أجْمَعوا أمْرَهم على المَكْرِ به، وجَعْلِه في غَيابةِ الجُبِّ، إلى غيرِ ذلك؛ فلولا أنَّ اللَّهَ أوْحَى إليه ذلك ما عرَفَه مِن تِلقاءِ نفْسِه. والآياتُ المُشيرةُ لإثباتِ رِسالتِه- بدَليلِ إخبارِه بالقِصَصِ الماضيةِ، الَّتي لا يمكِنُه علْمُ حَقائقِها إلَّا عن طريقِ الوحيِ- كثيرةٌ، كقولِه: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ آل عمران: 44، وقولِه: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ القصص: 44، وقولِه: وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ القصص: 45، وقولِه: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الآيةَ القصص: 46، وقولِه: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ص: 69- 70، وقولِه: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ هود: 49، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ؛ فهذه الآياتُ مِن أوضَحِ الأدلَّةِ على أنَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ رَسولٌ كريمٌ، وإنْ كانتِ المُعجزاتُ الباهِرةُ الدَّالَّةُ على ذلك أكثَرَ مِن الحصْرِ

.

2- إنْ قيل: إنَّ قولَه تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ أفاد تقييدَ إيمانِهم بكونِهم مشركينَ، وهو مشكلٌ لما بينَ الإيمانِ والشركِ مِن المنافاةِ.

فالجوابُ: أنَّ هذا الإيمانَ المُقيَّدَ بحالِ الشِّرْكِ إنَّما هو إيمانٌ لُغويٌّ لا شَرعيٌّ؛ لأنَّ مَن يعبُدُ مع اللَّهِ غيرَه لا يَصدُقُ عليه اسمُ الإيمانِ البتَّةَ شرعًا. أمَّا الإيمانُ اللُّغويُّ فهو يَشملُ كلَّ تصديقٍ؛ فتَصديقُ الكافرِ بأنَّ اللَّهَ هو الخالقُ الرَّازقُ يَصدُقُ عليه اسمُ الإيمانِ لُغةً مع كُفْرِه باللَّهِ، ولا يَصدُقُ عليه اسمُ الإيمانِ شرعًا، وإذا حقَّقْتَ ذلك علِمْتَ أنَّ الإيمانَ اللُّغويَّ يُجامِعُ الشِّركَ؛ فلا إشكالَ في تَقييدِه به ، وقيل: وما يؤمِنُ أكثَرُهم بأنَّ اللَّهَ خالِقُه ورازقُه وخالِقُ كلِّ شيءٍ قولًا، إلَّا وهو مُشرِكٌ بعِبادةِ الأصنامِ فِعلًا. وقيل: إنَّ المُرادَ به المنافِقونَ؛ يُؤمِنونَ بألسنَتِهم قولًا، ويُشرِكون بقُلوبِهم اعتقادًا .

3- قال اللَّهُ تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ سمَّاه اللَّهُ تعالى إيمانًا مع التَّقييدِ، وإلَّا فالمُشرِكُ الَّذي جعَلَ مع اللَّهِ إلهًا آخَرَ لا يَدخُلُ في مُسمَّى الإيمانِ عند الإطلاقِ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ في هذه الآيةِ ما يُسَمَّى في عِلْمِ البَيانِ بـ (الاحتجاجِ النَّظريِّ)، وبعضُهم يُسَمِّيه (المَذهبَ الكَلاميَّ)؛ وهو في الأساسِ مُصطلَحٌ جدَليٌّ

، وهو أنْ يُلْزِمَ الخَصْمَ ما هو لازمٌ لهذا الاحتِجاجِ، وفيه هنا تَهَكُّمٌ مَريرٌ بقُريشٍ وبمَن كذَّبَ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم؛ لأنَّه لا يَخْفى على أحدٍ أنَّه لم يكُنْ مِن حَمَلَةِ هذا الحَديثِ وأشباهِه، ولا لَقِيَ فيها أحدًا ولا سمِعَ منه، ولم يكُنْ مِن عِلْمِ قومِه؛ فإذا أخبَرَ به وقصَّه هذا القَصَصَ البديعَ الَّذي أعجَزَ حَمَلَتَه ورُواتِه، لم تقَعْ شُبهةٌ في أنَّه ليس منه، وإنَّما هو مِن جِهَةِ القُرون الخاليةِ، ونحوُه وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ القصص: 44؛ فقولُه: وَمَا كُنْتَ هنا تَهَكُّمٌ بهم؛ لأنَّه قد عَلِمَ كلُّ أحدٍ أنَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ما كان معهم .

- واسمُ الإشارةِ ذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ مِن نبَأِ يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ لتَمْييزِ الأنباءِ أكْمَلَ تمييزٍ؛ لِتتمكَّنَ مِن عُقولِ السَّامعينَ لِما فيها مِن المواعِظِ .

- قولُه: نُوحِيهِ إِلَيْكَ عبَّرَ بصيغةِ المُضارِعِ نُوحِيهِ؛ تصويرًا لحالِ الإيحاءِ الشَّريفِ، وإشارةً إلى أنَّه لا يزالُ معه يكشِفُ له ما يُريدُ .

- وأيضًا في قولِه: نُوحِيهِ إِلَيْكَ تَذْكيرُ ضميرِ نُوحِيهِ؛ لأجلِ مُراعاةِ اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ .

- قولُه: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ هذه الجُملةُ استخلاصٌ لمَواضِعِ العِبْرةِ مِن القِصَّةِ، وفيها مِنَّةٌ على النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم، وتَعريضٌ للمُشركينَ بتَنْبِيهِهم لإعجازِ القُرآنِ مِن الجانبِ العِلْميِّ؛ فإنَّ صُدورَ ذلك مِن النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم الأُمِّيِّ آيةٌ كُبْرَى على أنَّه وحيٌ مِن اللَّهِ تعالى؛ ولذلك عقَّبَ بقولِه: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ. وجُملةُ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ في موضِعِ الحالِ؛ إذ هي تَمامُ التَّعجُّبِ .

- وليس المُرادُ بقولِه: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ مُجَرَّدَ نَفْيِ حُضورِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في مَشْهَدِ إجماعِهم ومَكْرِهم فقط، بلْ في سائرِ المَشاهِدِ أيضًا، وإنَّما تَخصيصُه بالذِّكْرِ هنا؛ لكونِه مَطْلَعَ القِصَّةِ، وأَخْفَى أحوالِها، كما يُنْبِئُ عنه قولُه: وَهُمْ يَمْكُرُونَ .

- قولُه: وَهُمْ يَمْكُرُونَ فيه التَّعبيرُ عن مَكْرِهم بصِيغةِ المُضارعِ يَمْكُرُونَ؛ لاستِحضارِ الحالةِ العَجيبةِ .

2- قوله تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ

- قوله: وَلَوْ حَرَصْتَ اعتراضٌ، وهذه الآيةِ مِن الاعتراضِ الَّذي لا يأْتي في الكلامِ إلَّا لفائدةٍ، وهو جارٍ مَجرَى التَّوكيدِ، وفائدةُ هذا الاعتراضِ هنا أمْرانِ؛ أوَّلُهما: تصويرُ حِرْصِه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم على إيمانِ قَومِه وهدايتِهم، وتهالُكِه على رَدْعِهم عن غَيِّهم، وحَرْفِهم عن مَظانِّ الخطأِ، ومواطِنِ الضَّلالِ، واستهدافِه للأذَى في سبيلِ هذا الحِرْصِ، مع عِلْمِه بعدَمِ جَدْوى ذلك، واستِحالةِ إقلاعِهم عمَّا هم فيه. والثَّاني: تَصويرُ لَجاجَتِهم، وجُحودِ عَقليَّتِهم، وإصرارِهم على الغَيِّ الَّذي هم فيه شارِعونَ، وبه آخِذون، وعِنادِهم ومُكابَرَتِهم فيما لا تُجْدي معه الحُجَجُ والبَراهينُ الثَّابِتَةُ المُنيرةُ .

3- قوله تعالى: وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ

- قولُه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ فيه قَصْرٌ، وهو قَصْرٌ إضافيٌّ، أي: ما هو إلَّا ذِكْرٌ للعالَمينَ، لا لِتحْصيلِ أجْرِ تَبْلِيغه .

4- قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ

- قولُه: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ المقصودُ مِن هذا تَشْنيعُ حالِهم، وهذا مِن قَبيلِ تأْكيدِ الشَّيءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ على وجْهِ التَّهَكُّمِ .

5- قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

- قولُه: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ... اعتِراضٌ بالتَّفريعِ على ما دلَّتْ عليه الجُملتانِ قبْلَه مِن تفْظيعِ حالِهم، وجُرْأَتِهم على خالِقِهم، والاستِمرارِ على ذلك دون إقْلاعٍ، والاستفهامُ بقولِه: أَفَأَمِنُوا استفهامُ إنكارٍ؛ فيه تَوبيخٌ وتَهْديدٌ

===========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (108- 111)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ

غريب الكلمات:

 

بَصِيرَةٍ: أي: يقينٍ، والبصيرةُ كذلك: الحُجَّةُ والبَيانُ، وأصْلُ (بصر): وُضُوحُ الشَّيءِ

.

بَأْسُنَا: أي: عذابُنا، وأصْلُ (بأس): الشِّدَّةُ وما ضاهاها .

عِبْرَةٌ: أي: اعتِبارٌ وموعظةٌ، والاعْتبارُ والعِبرةُ: الحالةُ التي يتوصَّلُ بها مِن معرفةِ المشاهَدِ إلى ما ليسَ بمشاهَدٍ، وأصلُ (العَبْرِ): تجاوزٌ مِن حالٍ إلى حالٍ .

يُفْتَرَى: أي: يُكْذَبُ ويُخْتَلَقُ، والافتِراءُ: الاختِلاقُ، أو العظيمُ مِن الكذِبِ، وأصْلُه مِن (الفَرْيِ): وهو قطْعُ الشيء

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يقولُ الله تعالَى: قلْ- يا محمَّدُ-: هذه طريقَتي؛ أدْعو إلى تَوحيدِ اللَّهِ تعالى على عِلْمٍ ويقينٍ منِّي بصحَّةِ ذلك، أنا ومَن اتَّبعَني، وأُنَزِّه اللَّهَ تعالى عن كلِّ نقْصٍ، وما أنا مِن المُشرِكين.

ثمَّ يُبَيِّنُ اللَّهُ تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الرُّسلَ الَّذين أرسَلَهم مِن قبْلِه ما كانوا إلَّا رجالًا يُوحِي إليهم، وهم مِن أهلِ المُدُنِ، وليسوا مِن أهلِ البَوادي. أفلَمْ يَسِرْ هؤلاء المُشرِكون في الأرضِ، فيَرَوا كيف كان إهلاكُ اللَّهِ للأُمَمِ الَّذين كذَّبوا الرُّسلَ مِن قبْلِهم، فيعتَبِروا؟! ولَدارُ الآخِرةِ خيرٌ مِن دارِ الدُّنيا للَّذين اتَّقَوا.

حتَّى إذا يَئِس الرسلُ، وظنوا أنهم أُخلِفوا فيما وعَدَهم اللَّهُ به مِن النَّصرِ، جاءَهم نصرُ اللَّهِ فجأَةً، فنجَّاهم وأتْباعَهم المُؤمنينَ، ولا يَستطيعُ أحدٌ أنْ يرُدَّ عذابَه عزَّ وجلَّ عنِ القومِ المُجرِمين.

لقد كان في قَصَصِ يوسُفَ مع إخوتِه وقَصَصِ المُرسَلينَ مع أُمَمِهم عِظَةٌ لأهلِ العُقولِ السَّليمةِ، ما كان القُرآنُ وما فيه مِن القَصصِ حديثًا يُكذَبُ ويُختلَقُ، ولكنْ يُصدِّقُ ما سبَقَه مِن الكتُبِ المُنزَّلَةِ على أنبياءِ اللَّهِ، وهو تفصيلٌ لكلِّ ما يَحتاجُ العِبادُ إلى بَيانِه، وهدًى ورحمةٌ لقومٍ يُؤمِنون.

تفسير الآيات :

 

قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:

أنَّه لَمَّا وصَفَ اللَّهُ سبحانه لرَسولِه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أكثَرَ النَّاسِ بما وصَفَ، مِن سُوءِ الطَّريقةِ للتَّقليدِ الَّذي منْشؤُه الإعراضُ عنِ الأدلَّةِ الموجِبةِ للعِلْمِ؛ أمَرَ أنْ يَذكُرَ طريقَ الخُلَّصِ، فقال

:

قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي.

أي: قلْ- يا مُحمَّدُ- للنَّاسِ: هذه طريقَتي؛ أدْعو إلى تَوحيدِ اللَّهِ على بيِّنةٍ وعِلْمٍ، ويَقينٍ منِّي بصحَّةِ ذلك مِن غيرِ شكٍّ، أنا وكلُّ مَن اتَّبعَني كذلك ندْعو إلى عِبادةِ اللَّهِ وحْدَه على بيِّنةٍ وعلْمٍ .

وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

أي: وقلْ- يا محمَّدُ- تَعظيمًا للَّهِ: أُنَزِّه اللَّهَ عن جَميعِ النقائصِ؛ كأنْ يكونَ له شريكٌ في المُلْكِ أو العِبادةِ، أو يكونَ له مثيلٌ أو ولَدٌ أو صاحبةٌ أو مُعِينٌ، وأتبرَّأُ مِن الَّذين يَعبُدون غيرَه، ولا أعبُدُ إلَّا اللَّهَ وحْدَه .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109).

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى.

أي: وما أرسَلْنا الأنبياءَ مِن قبْلِك- يا مُحمَّدُ- إلَّا رجالًا- لا مَلائكةً ولا نِساءً- نُوحِي إليهم أنْ يأْمُروا النَّاسَ بتوحيدي، وإفرادِ العِبادةِ لي، ويَدْعُوهم إلى طاعتِي، وهم مِن أهلِ المُدُنِ لا مِن أهلِ البَوادي .

أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.

أي: أفلم يَسِرْ هؤلاء المُشرِكون المُكذِّبون لك- يا محمَّدُ- في الأرضِ، فينْظُروا كيف أهلَكَ اللَّهُ الأُمَمَ الَّذين كذَّبوا رسلَهم مِن قبلِهم، فيَعتَبِروا ؟!

وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ.

أي: وكما أنْجَينا المُتَّقين في الدُّنيا عندَ نزولِ العُقوبةِ بالمُشرِكين والعُصاةِ، كذلك كتَبْنا لهم النَّجاةَ في الدَّارِ الآخِرةِ أيضًا، والجنَّةُ خَيرٌ لهم مِن الدُّنيا وأحسَنُ .

أَفَلاَ تَعْقِلُونَ.

أي: أفلا تعقِلون حَقيقةَ ما أخبَرْناكم به في القُرآنِ مِن سُوءِ عاقِبةِ الكُفْرِ، وخيريَّةِ الدَّارِ الآخرةِ، فتُؤمِنوا باللَّهِ، وتتَّقوا الإشراكَ به ؟!

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110).

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء.

القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:

في قولِه تعالى: كُذِبُوا قِراءتانِ:

1- قِراءةُ كُذِبُوا بتَخفيفِ الذَّالِ، على جعلِ الضمير في قوله تعالى: وَظَنُّوا للرسلِ، فالمعنى: ظنَّ الرسلُ أنَّهم قد أُخْلِفوا، والمرادُ ما يَرِدُ على القلبِ، ويهْجِسُ فيه مِن حديثِ النفسِ، وعوارضِ الوساوس، الذي لا يسلمُ منه أحدٌ مِن البشرِ، وَقِيلَ: المعنَى: وظنَّ الرُّسلُ أَنَّها قَدْ كَذَبَتْهم أنفسُهم حينَ حَدَّثَتْهم بأَنَّهم يُنْصَرُونَ عليهم، أو: كَذَبَهم رَجاؤُهم لِلنَّصْرِ.

وعلى جعلِ الضميرِ في قوله تعالى: وَظَنُّوا للمرسَلِ إليهم، لما في ذكرِ الرسل مِن دلالةٍ عليهم، فالمعنى: وظنَّ المرسلُ إليهم أنَّ الرُّسلَ قد كُذِبوا فيما وُعِدوا به مِن النَّصرِ. وقيل: ظنَّ المرسلُ إليهم أنَّ الرُّسلَ قد كَذَبَوهم فيما أخبَرُوهم به مِن نُزولِ العذابِ بهم إنْ لم يؤْمِنوا؛ لِمَا شاهَدوا مِن إمهالِ اللَّهِ لهم .

2- قِراءةُ كُذِّبُوا بتَشْديدِ الذَّالِ، بجَعْلِ الظَّنِّ للأنبياءِ بمعنى العِلْمِ، والمعنى: ولَمَّا أيقَنَ الأنبياءُ أنَّ قومَهم قد كَذَّبوهم فلن يُصدِّقوهم، جاء الرُّسلَ نصْرُنا. وقيل: ظنَّ الأنبياءُ أنَّ المُؤمنينَ بهم يُكذِّبونهم، وخافوا أنْ يدخُلَ قُلوبَ أتباعِهم شكٌّ .

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء.

أي: حتَّى إذا يئِس رُسلُ اللَّهِ ، وخطَر بقلوبِهم، وحدَّثتْهم أنفسُهم أنَّهم قد أُخلِفوا فيما وعَدَهم اللَّهُ به مِن النَّصرِ؛ لطولِ البلاءِ عليهم، وإبطاءِ النصرِ- أتاهم نصْرُنا فجأَةً، فنَجَّيْناهم وأتْباعَهم المُؤمنينَ .

كما قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ البقرة: 214.

وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.

أي: ولا يقدِرُ أحدٌ أنْ يرُدَّ عذابَنا عنِ القومِ المُشرِكينَ المُكذِّبينَ للرُّسلِ .

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111).

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ.

أي: لقد كان في قَصَصِ يوسُفَ وإخوتِه وقَصَصِ المُرسَلين مع أُمَمِهم، وكيف نجَّى اللَّهُ المؤمنِينَ وأهلَكَ الكافرين؛ عِظَةٌ لأهْلِ العُقولِ السَّليمةِ يعتَبِرون بها .

مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى.

أي: ما كان القُرآنُ وما فيه مِن الأخبارِ والقَصصِ حديثًا يُكذَبُ ويُختلَقُ .

وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.

أي: ولكنِ القُرآنُ يُصدِّقُ الكُتُبَ الَّتي أنزَلَها اللَّهُ مِن قَبْلُ على الأنبياءِ، ويَشهَدُ لِما فيها مِن الصَّحيحِ الَّذي لم يُحَرَّفْ أنَّه حَقٌّ مِن عند اللَّهِ .

وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ.

أي: والقُرآنُ يُبيِّنُ كلَّ ما يَحتاجُ العِبادُ إلى بَيانِه مِن العَقائدِ، والشَّرائعِ والأحكامِ، والأخبارِ .

وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

أي: والقُرآنُ هدًى مِن كلِّ ضلالةٍ لِمَنِ اتَّبعَه، ورحمةٌ في الدُّنيا والآخِرةِ للمُصدِّقينَ به، العامِلينَ بما فيه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ اللَّهِ تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ فيه التنبيهُ على الإخلاصِ؛ لأنَّ كثيرًا لو دعا إلى الحقِّ فهو يَدْعو إلى نفسِه

.

2- قولُ اللَّهِ تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فيه دَلالةٌ على أنَّ أصحابَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ والمُؤمنينَ الَّذين آمَنوا به مأْمورونَ بأنْ يَدْعوا إلى الإيمانِ بما يَستطيعونَ ، وأنَّ الدعوةَ إلى الله طريقُ مَن اتَّبَع النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم .

3- قولُه تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي دلَّتِ الآيةُ على أنَّ مَن لَمْ يكُنْ على بَصيرةٍ فليس مِن أتْبَاعِ الرَّسولِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّ أتْباعَه هم أولو البَصائرِ .

4- قولُ اللَّهِ تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ يدلُّ على أنَّ الدُّعاءَ إلى اللَّهِ تعالى إنَّما يحسُنُ ويجوزُ مع هذا الشَّرطِ؛ وهو أنْ يكونَ على بصيرةٍ ممَّا يقولُ، وعلى هدًى ويقينٍ، فإنْ لم يكُنْ كذلك فهو محْضُ الغُرورِ .

5- قولُ اللَّهِ تعالى: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ فيه حَضٌّ على العمَلِ لِدارِ الآخِرةِ والاستعدادِ لها، واتِّقاءِ المُهلِكاتِ .

6- قال اللَّهُ تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَن تأَمَّلَ قِصَّةَ يوسُفَ ظهَرَ أنَّ في غرائبِها، وامتحانِ اللَّهِ فيها لقومٍ في مواضِعَ، ولُطْفِه لقومٍ في مواضِعَ، وإحسانِه لقومٍ في مواضِعَ: مُعتَبَرًا لِمَن له لُبٌّ وأجادَ النَّظرَ؛ حتَّى يعلَمَ أنَّ كلَّ أمْرٍ مِن عند اللَّهِ وإليه .

7- قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وقد قَصَّ اللَّهُ علينا في القرآنِ أخبارَ الأنبياءِ وما أصابَهم وما أصابَ أتباعَهم المؤمنينَ مِن الأذَى في اللَّه، ثُمَّ إنَّه تعالَى نَصَرهم، وجَعَل العاقبةَ لهم؛ لنعتبِرَ، ولِيتيقَّنَ المُرتابُ، ويتوبَ المُذْنِبُ، ويَقْوى إيمانُ المُؤمنينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فيه أنَّ البصيرةَ مِن الفرائضِ، ووجهُ ذلك أنَّه لا بدَّ للداعيةِ مِن العلمِ بما يَدْعو إليه، والدعوةُ فريضةُ؛ فيكونُ العلمُ بذلك فريضةً

.

2- يُشتَرَطُ في الآمِرِ بالمعروفِ أنْ يكونَ له عِلْمٌ يَعلَمُ به أنَّ ما يأْمُرُ به معروفٌ، وأنَّ ما يُنْهى عنه مُنْكَرٌ؛ لأنَّه إذا كان جاهلًا بذلك فقد يأْمُرُ بمُنْكَرٍ ويَنْهى عن معروفٍ؛ قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ .

3- في قولِه تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي بيانُ أنَّ مقصودَ الدَّعوةِ النَّبويَّةِ، بل المقصودَ بخَلْقِ الخَلْقِ، وإنزالِ الكُتُبِ، وإرسالِ الرُّسلِ: أنْ يكونَ الدِّينُ كلُّه للَّهِ، وهو دعوةُ الخلائقِ إلى خالقِهم .

4- قولُ اللَّهِ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الآيةُ تدلُّ على أنَّ اللَّهَ ما بعَثَ رسولًا إلى الحقِّ مِن النِّسوانِ، وأيضًا لم يبعَثْ رسولًا مِن أهلِ الباديةِ .

5- قولُ اللَّهِ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أي: الأماكنِ المَبْنِيَّةِ بالمَدَرِ والحجَرِ ونحوِه؛ لأنَّها مُتهيِّئةٌ للإقامةِ والاجتِماعِ، وانتيابِ أهلِ الفضائلِ، وذلك أجدَرُ بغَزارَةِ العقْلِ، وأصالةِ الرأْيِ، وحِدَّةِ الذِّهنِ، وتوليدِ المعارِفِ مِن البَوادي ، فالله تعالى لم يبعَثْ نبيًّا مِن أهلِ الباديةِ؛ لغَلَبَةِ الجَفاءِ والقَسوةِ على أهلِ البَدْوِ، ولأنَّ أهلَ الأمصارِ أعقَلُ وأحلَمُ وأفضَلُ وأعلَمُ .

6- قولُ اللهِ تعالى: أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيه التَّذكيرُ باستواءِ أحوالِ الرُّسلِ عليهمُ السَّلامُ وما لَقَوه مِن أقوامِهم؛ فهو وعيدٌ باستواءِ العاقِبةِ للفريقينِ .

7- ذكَرَ اللَّهُ تعالى في أوَّلِ السُّورةِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، ثمَّ ذكَرَ في آخِرِها: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ؛ تَنبيهًا على أنَّ حُسْنَ هذه القِصَّةِ إنَّما كان بسبَبِ أنَّه يحصُلُ منها العِبرةُ، ومعرِفةُ الحِكمةِ والقُدرةِ .

8- ذكَرَ اللَّهُ سُبحانَه فِي غيرِ مَوضِعٍ مِن كِتابِه أنَّ الرَّحمةَ تَحصُلُ بالقُرآنِ، ومِن ذلك قولُه تعالى: وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ

- قولُه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ استِئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للانتقالِ مِن الاعتبارِ بدَلالةِ نُزولِ هذه القِصَّةِ للنَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم الأُمِّيِّ على صِدْقِ نُبوَّتِه وصِدْقِه فيما جاءَ به مِن التَّوحيدِ، إلى الاعتبارِ بجَميعِ ما جاء به مِن هذِه الشَّريعةِ عنِ اللَّهِ تعالى، وهو المُعَبَّرُ عنه بالسَّبيلِ

.

- قولُه: هَذِهِ سَبِيلِي فيه الإشارةُ إلى الشَّريعةِ بتَنْزيلِ المعقولِ مَنْزلةَ المحسوسِ؛ لبُلوغِه مِن الوضوحِ للعُقولِ حدًّا لا يَخفَى فيه إلَّا عمَّن لا يُعَدُّ مُدْرِكًا .

- قولُه: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي الضَّميرُ الظَّاهِرُ أَنَا تأْكيدٌ للضَّميرِ المُستَتِرِ في أَدْعُو .

- وجُملةُ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بمنزِلةِ التَّذييلِ لِمَا قبلَها؛ لأنَّها تعُمُّ ما تضمَّنتْه .

2- قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ

- قولُه: أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الاستفهامُ إنكاريٌّ للتَّوبيخِ والتَّقْريعِ؛ فإنَّ مَجْموعَ المُتَحَدَّثِ عنهم سارُوا في الأرضِ فرَأَوْا عاقِبةَ المُكَذِّبينَ، كعادٍ وثمودَ .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنَةٌ، حيث قال هنا في سُورةِ (يوسُفَ): أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وكذلك في سُورةِ (الحجِّ)، وفي آخِرِ سُورةِ (غافرٍ)، وسُورةِ (مُحمَّد) بالفاءِ أَفَلَمْ، بَينَما قال في (الرُّومِ): أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الروم: 9، وكذلك في سُورةِ (فاطرٍ)، وأوَّلِ (غافرٍ) بالواوِ أَوَلَمْ؛ فتَكرَّرَ هذا في عِدَّةِ مواضِعَ؛ منها ما ورَدَ فيه بعدَ همزةِ التَّقريرِ وفاءِ التَّعقيبِ، ومنها ما ورَدَ بواوِ العطفِ؛ فأمَّا تقْديمُ الهمزةِ قَبلها فلأنَّ لها الصَّدارةَ في الكلامِ، ولَمَّا جَرَتْ في هذه الآياتِ مِن تَخْصيصِ بَعضِ هذه المواضعِ بالفاءِ المُقْتَضيةِ مع التَّشريكِ التَّرتيبَ والتَّعقيبَ، وبعضِها بالواوِ المُقْتَضيةِ مُجَرَّدَ التَّشريكِ والجَمْعِ؛ فخُصِّصَ كلُّ واحدٍ مِن هذه المواضِعِ بما اخْتُصَّ به في عَطْفِه على ما قبله؛ فمِن الوارِدِ بالفاءِ آيةُ (يوسُفَ) المَذْكورةُ آنفًا، وفي سورةِ (الحجِّ): أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا الحج: 46، وفي آخِرِ سورةِ (غافرٍ): أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ غافر: 82، وفي سورةِ (محمَّدٍ): أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا محمد: 10؛ فهذه أربعُ آياتٍ ممَّا ورَدَ بالفاءِ. ومِن الوارِدِ بالواوِ قولُه في سورةِ (الرُّومِ): أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا الروم: 9، وفي سورةِ (فاطرٍ): أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فاطر: 44، وفي سورةِ (غافرٍ): أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ غافر: 21، فهذه ثلاثُ آياتٍ، ووجْهُ ذلك:

أنَّ ما في الثَّلاثةِ الأُوَلِ تقدَّمَه التَّعبيرُ في الإنكارِ بالفاءِ في قولِه هنا: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ يوسف: 107، وفي الحجِّ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا الحج: 45، وفي آخِرِ (غافر)ٍ: فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ غافر: 81. وأمَّا في الثَّلاثةِ الأخيرةِ؛ تَقدَّمَه التَّعبيرُ بالواوِ في قولِه في (الرُّومِ): أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ الروم: 8، وفي (فاطرٍ): أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ فاطر: 37، وفي أوَّلِ (غافرٍ): وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ غافر: 18، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ غافر: 19، وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ غافر: 20، وقيل غير ذلك .

- وجُملةُ: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ تعريضٌ بسلامَةِ عاقِبةِ المُتَّقينَ في الدَّنيا، وتعريضٌ أيضًا بأنَّ دارَ الآخرةِ أشدُّ أيضًا على الَّذين مِن قَبلِهم مِن العاقِبةِ الَّتي كانتْ في الدُّنيا؛ فحصَلَ إيجازٌ بحذْفِ جُملتينِ .

- وأيضًا في قولِه تعالى: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ مُناسَبةٌ حَسَنَةٌ، حيثُ قال تعالى في سورةِ (الأعرافِ): وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ الأعراف: 169، فقال في سورةِ (الأعرافِ): وَالدَّارُ الْآخِرَةُ فوصَفَ الدَّارَ بالآخِرةِ، وفي الآيةِ الَّتي في سُورةِ (يوسُفَ) أضافَ الدَّارَ إلى الآخِرةِ؛ ووجه ذلك: أنْ قَبلَه في سُورةِ (الأعرافِ): فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى الأعراف: 169، فقولُه: هَذَا الْأَدْنَى إنَّما يعني هذا المَنْزِلَ الأَدْنى، وهو والدَّارُ الدُّنيا بمعنًى واحدٍ؛ فلَمَّا جعَلَ الأَدْنى وصْفًا للمَنْزِلِ ذكَرَ الدَّارَ الآخِرةَ بعدَه، فجعَلَ الدَّارَ مَوصوفَةً والآخِرةَ صِفَةً لها، وكلٌّ يُؤَدِّي معنًى واحدًا، إلَّا أنَّه يَختصُّ ببَعضِ اللَّفظِ دون بعضٍ؛ لمُشاكَلَةِ ما قَبْلَه ومُوافَقَتِه له. وأمَّا قولُه: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ في (يوسُفَ) فإنَّ قبلَه: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً يوسف: 107، والسَّاعةُ هي السَّاعةُ الآخِرةُ، وهي القيامةُ؛ فلَمَّا ذُكِرَت الدَّارُ أُضيفَتْ إليها، فكأنَّه قال: ولَدارُ السَّاعةِ الآخِرةِ خيرٌ؛ فتقدَّمَ كُلَّ آيةٍ ما كان المَذْكورُ بعدَه ألْيقَ به .

- وأيضًا من المُناسَبةِ الحَسَنةِ قولُه هنا في سُورةِ (يُوسُفَ): خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا بَينما قال في (الأعرافِ): خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الأعراف: 169؛ ووجهُ هذا الاختلافِ: أنَّه في سُورةِ (يوسف) دُعِيَ القومُ إلى الاعتبارِ بأحوالِ الأُمَمِ الَّذين أُهْلِكوا في أزْمِنةِ أنبيائِهم بالنَّظَرِ إلى مَنازِلِهم وهي خاويةٌ على عُروشِها؛ ليعْلَموا أنَّ الدَّارَ الآخِرةَ خيرٌ لِمَن اتَّقى منهم. وأمَّا قولُه في سورةِ (الأعرافِ) فهو تَرْهيبٌ لليهودِ الَّذين في عَصْرِ النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم، وارتشائهم على كِتْمانِ أمْرِه، وتَرغيبٌ لهم فيما عِندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ إذا صدَّقوا ما في كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، والتَّرغيبُ والتَّرهيبُ لا يَتعلَّقانِ إلَّا بالآنِفِ المُستقبَلِ؛ فلذلك قال: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ الأعراف: 169.

- ومِن المُناسَبةِ الحَسَنةِ كذلك: إدخالُ اللَّامِ على (دار الآخِرةِ) في سورةِ (يُوسفَ)، وإخلاؤها منها في سُورةِ (الأعرافِ) في قولِه: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ الأعراف: 169؛ ووجهُ ذلك: أنَّ قولَه: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ يوسف: 109 جاء بعد قولِه: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يوسف: 109، ومعناه: فيَعْلَموا كيف كان حالُ مَن قَبلَهم، وأنَّ الدَّارَ الآخرةَ خيرٌ لهم؛ فاللَّامُ هي الَّتي تَدخُلُ على المُبتدَأِ فتُعَلِّقُ الفِعْلَ، والفِعْلُ هو: فيَعْلَموا الدَّارُ خيرٌ، كما تقول: علِمْتُ لَزَيدٌ أفضلُ مِن عمرٍو. وأمَّا قولُه: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ الأعراف: 169 في سورةِ (الأعرافِ) فلم يَتقدَّمْه اللَّامُ، بل قولُه: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ الأعراف: 169 مِن غيرِ أنْ يَتقدَّمَه ما يَجْري مَجْرى التَّوكيدِ والقَسَمِ الَّذي يُتَلَقَّى باللَّامِ .

3- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ حَتَّى مُتَعَلِّقةٌ بمَحذوفٍ دلَّ عليه الكلامُ؛ لأنَّ (حتَّى) غايةٌ لِما قبلَها، وليس في اللَّفظِ ما يكونُ له غايةٌ؛ فاحْتِيجَ إلى تَقْديرٍ؛ فكأنَّه قيل: (وما أرسَلْنا مِن قَبلِك إلَّا رجالًا، فتَراخى نصْرُهم، حتَّى استَيْئَسوا عنِ النَّصْرِ وظنُّوا أنَّهم قد كُذبوا)؛ فآذَنَ حرْفُ الغايةِ (حتَّى) بمعنًى مَحذوفٍ دلَّ عليه جُملةُ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا بما قُصِدَ بها مِن معنى قَصْدِ الأُسوةِ بسَلَفِه مِن الرُّسلِ عليهم السَّلامُ، أي: فدامَ تكْذيبُهم وإعراضُهم، وتأخَّرَ تَحقيقُ ما أنْذَروهم به مِن العذابِ، حتَّى اطمأنوا بالسَّلامةِ وسَخِروا بالرُّسلِ، وأَيِسَ الرُّسلُ عليهم السَّلامُ مِن إيمانِ قومِهم. والمعنى: أنَّ مُدَّةَ التَّكذيبِ والعَداوةِ مِن الكفَّارِ، وانتِظارِ النَّصرِ مِن اللَّهِ، وتأْميلِه قد تطاوَلَتْ عليهم وتمادَتْ، حتَّى استَشْعَروا القُنوطَ، وتَوهَّموا أنْ لا نَصْرَ لهم في الدُّنيا، فجاءَهم نصْرُنا فجأَةً مِن غيرِ احتِسابٍ .

- قولُه: اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ اسْتَيْئَسَ مُبالغةٌ في (يَئِسَ)، والتَّعريفُ في الرُّسُلُ عليهم السَّلامُ تَعريفُ العَهْدِ الذِّكْريِّ، وهو مِن الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ لإعطاءِ الكَلامِ استقلالًا بالدَّلالةِ؛ اهتمامًا بالجُملةِ .

- قولُه: فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ الجَمْعُ بين الماضي (نُجِّيَ) والمُضارِعِ (نَشَاءُ) احتِباكٌ، تقديرُه: فنُجِّيَ مَن شِئْنا ممَّن نَجَا في القُرونِ السَّالفةِ، ونُنَجِّي مَن نَشاءُ في المُستقبَلِ .

4- قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيه مِن مَحاسِنِ البَلاغةِ: ردُّ العَجُزِ على الصَّدْرِ؛ فهذه الآيةُ مُرتبِطةٌ بجُملةِ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ يوسف: 102، وهي تتنزَّلُ منها مَنْزِلةَ البَيانِ لِما تَضمَّنَه معنى الإشارةِ في قولِه: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ مِن التَّعجُّبِ، وما تَضمَّنَه معنى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ مِن الاستِدلالِ على أنَّه وَحيٌ مِن اللَّهِ مع دَلالةِ الأُمِّيَّةِ، وهي أيضًا تَتنزَّلُ مَنزِلةِ التَّذييلِ للجُمَلِ المُسْتَطْرَدِ بها؛ لقصْدِ الاعتِبارِ بالقِصَّةِ ابتداءً مِن قولِه: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ يوسف: 103؛ فلها مواقعُ ثلاثةٌ عَجيبةٌ مِن النَّظْمِ المُعْجِزِ .

- وقولُه: لَقَدْ كَانَ... فيه تأكيدُ الجُملةِ بـ (قد) واللَّامِ؛ للتَّحقيقِ .

- قولُه: عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فيه تَخصيصُ أُولي الألبابِ بالذِّكْرِ؛ لأنَّهم هم الَّذين ينتَفِعون بالعِبَرِ، وكذلك في قولِه: وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خُصَّ المُؤمنون بذلك؛ لأنَّهم هم الَّذين ينتَفِعون بذلك .

- وقولُه: عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فيه ما يُعرَفُ باختِلافِ صيغةِ اللَّفظةِ؛ وهو نقلُها مِن هيئةٍ إلى هيئةٍ- كنقْلِها مِن وزْنٍ إلى وزْنٍ آخَرَ، أو نقْلِها مِن صِيغةِ الاسمِ إلى صيغةِ الفِعْلِ، أو بالعكس، أو كنقْلِها مِن الماضي إلى المُستقبَلِ، أو بالعكس، أو مِن الواحدِ إلى التَّثْنيةِ أو الجَمْعِ، إلى غير ذلك- وقولُه تعالى: لِأُولِي الْأَلْبَابِ مثالٌ للنَّقْلِ مِن الإفرادِ إلى التَّثْنيةِ والجَمْعِ؛ وذلك أنَّ لفظةَ (اللُّبِّ) الَّذي هو العَقْلُ لا لفظةُ (اللُّبِّ) الَّذي تَحتَ القِشْرِ؛ فإنَّها لا تَحْسُنُ في الاستِعمالِ إلَّا مجموعةً (الألْباب)، وكذلك ورَدَتْ هنا وفي أكثرِ مِن مَوضعٍ مِن القُرآنِ الكريمِ .

- وفي سُورةِ (يوسُفَ) نَفْحَةٌ مِنَ القَصصِ الرَّائعِ الَّذي استَوْفى شَرائطَ القِصَّةِ، وقدِ امتازَتْ هذه القِصَّةُ- على تَسَلْسُلِ حَوادِثِها، وكثرةِ فُنونِها، وتَنَوُّعِ فُصولِها- بالإيجازِ؛ الطَّويلِ منه والقَصيرِ، كما جاءتْ قَصَصُ القُرآنِ كلُّها، وأحسنُ ما جاء منها في هذا البابِ قِصَّةُ يوسُفَ عليه السَّلام؛ فإنَّها جاءتْ على الطَّريقَتَينِ في سُورةٍ واحدةٍ مِن قولِه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ إلى قوله: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، وجاءتْ على الطَّريقَةِ المُخْتصرَةِ في قولِه على لِسانِ يوسُفَ: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي؛ فذكَرَ تعالى القِصَّةَ أوَّلًا على طَريقِ البَسْطِ مُفصَّلةً لِمَن لم يُشارِكْ في طَريقِ عِلْمِها، وذكَرَها تعالى أخيرًا مُخْتصَرةً؛ لِيعْلَمَها مُفَصَّلَةً مَن لَم يكُنْ يَعْلَمُها، حتَّى إذا جاءتْ مُجْمَلَةً عَلِمَ الإشاراتِ فيها، وابتدَأَها بقولِه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، ثم أنْهاها بقولِه: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ؛ ووجْهُ الاعتبارِ بقَصَصِهم هو: أنَّ هذه القَصَصَ إنَّما سُجِّلَتْ لِحُصولِ العِبْرةِ منها، ومَعْرفةِ الحِكْمةِ والمَغْزى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...