الخميس، 18 يناير 2024

12.سورة يوسف كاملة{111 آية - مكية}

 

 12.سورة يوسف كاملة{11 آية - مكية}

 

سُورةُ يُوسُفَ

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

سُمِّيَت هذه السُّورَةُ بسورَةِ (يُوسُفَ):

فعن عُقبَةَ بنِ عامِرٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((قُلتُ يا رَسولَ الله، أَقْرِئْنِي سُورةَ هودٍ، وسُورةَ يُوسُفَ... )) الحديثَ .

وعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، قال: (كنتُ بحمصَ فقال لي بعضُ القومِ : اقرأْ علينا. فقرأتُ عليهم سورةَ يُوسفَ) .

وعن عمرِو بنِ ميمونٍ، في قصةِ مقتلِ عمرَ رضي الله عنه، قال: (وكان أي: عُمَر إذا مَرَّ بين الصَّفَّيْنِ قال: استووا، حتى إذا لم يرَ فيهنَّ خللًا تقدَّم فكبَّر، وربما قرأ سورةَ يوسفَ، أو النَّحلِ، أو نحوَ ذلك في الركعةِ الأُولَى)

فضائل السورة وخصائصها:

 

1- أنَّها السُّورةُ الوَحيدَةُ التي أُفْرِدَت لِقِصَّةِ نَبِيِّ الله يُوسُفَ عليه السلامُ، ولم تُذكَرْ قِصَّتُه في غَيرِها

2- لم تُذكَرْ قِصَّةُ نَبِيٍّ فِي القرآنِ بمثلِ هذا الإطْنابِ كما ذُكِرَتْ قِصَّةُ يُوسُفَ عليه السَّلامُ في هذه السُّورَة، فهي أطوَلُ قِصَّةٍ في القُرآنِ

بيان المكي والمدني:

 

سُورَةُ يُوسُفَ مَكِّيَّةٌ. ونَقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحِد مِن أهلِ العِلْمِ

مقاصد السورة:

 

مِن أهمِّ مَقاصِدِ سُورَةِ يُوسُفَ:

1- بَيانُ أنَّ العاقِبَةَ للمُؤمِنينَ المُتَّقِينَ الصَّابِرينَ رُغْمَ الابْتِلاءاتِ والمِحَنِ

.

2- تَسْلِيَةُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأَصحابِه، وتَطْمِينُ نُفوسِهم

موضوعات السورة:

 

ذُكِرَت قِصَّةُ يُوسُفَ عليه السَّلامُ في هذه السُّورةِ مُفَصَّلَةً في مكانٍ واحِدٍ، دونَ غَيرِها مِن قَصَصِ الأَنبياءِ، ومِن أبرَزِ ما اشتملتْ عليه هذه السورةُ مِن تفاصيلِ هذه القِصَّةِ وغيرِها مِن موضوعاتٍ:

1- ذِكْرُ جانبٍ مِن فَضائِل القُرآن الكَريم، وإعْجازِه في أُسلوب القَصَص وعَرْضِها.

2- رُؤْيا يُوسُف عليه السَّلامُ، ومَكْرُ إِخْوَتِه به، وحَسَدُهُم له وتَآمُرُهم عليه.

3- انْتِشالُ السَّيَّارَةِ ليُوسُفَ مِن الجُبِّ، وبَيْعُهم له، ومِحْنَتُه في قَصْرِ العَزيز، ومُراوَدَة امْرأَةِ العَزيز له، وشُيوعُ خَبَرِها، وما فعلتْه امرأةُ العزيزِ مع النِّسوةِ اللاتي تكلمْنَ بذلك.

4- حادِثَة دُخولِ يوسفَ السِّجْنَ بعدَ ظُهورِ بَراءَتِه، ودَعْوَتُه إلى الله فيه.

5- الرُّؤْيا التي رَآها المَلِكُ، وتَفْسيرُ يُوسُف لها، وثُبوتُ بَراءَةِ يُوسُفَ، وخُروجُه مِن السِّجْنِ، واسْتِلامُه للمُلْكِ والوِزارَةِ، وظُهورُ شَأْنِه.

6- لِقاءُ يُوسُف بِإخْوَتِه دونَ أن يَعْرِفوهُ، وطَلَبُه حُضورِ أَخيهِم معهم في المَرَّةِ القادِمَة، ثم  احْتِجازُه عنده بِحيلَةٍ دَبَّرَها بإلهامٍ مِن الله، وما حَصَل لِأَبيهِم بعدَ ذلك مِن الحُزْنِ.

7- لِقاءُ يُوسُف بإخْوَتِه مَرَّةً ثانِيَة، وكَشْفُه عن نَفسِه، وتَذْكيرُهم بما فعلوا به، وعَفْوُه عنهم، ثم أَمْرُهم بالعَوْدَةِ إلى أَبيهم، وإلْقاءِ قَميصِه على وَجْهِه؛ ليرجعَ بَصَرُه إليه.

8- حُضورُهُم بعدَ ذلك إلى يُوسُف، واجْتِماعُه بِأَبَوَيْهِ وأَهلِه في مِصْرَ، وإكْرامُه لهم.

9- تَعْقيباتٌ على ما وَرَدَ في قِصَّة يُوسُف، فذكَر تعالى ما يَدُلُّ على أنَّ القُرآن مِن عند الله، وما يَشهَد بِصِدْقِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يُبَلِّغُه عن رَبِّهِ، وبيَّن وَظيفَة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم ومَوْقِف المُشرِكين مِن دَعْوَتِه، وأَنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ليس بِدْعًا مِن الرُّسُل، وأنَّ العاقِبَة له ولِأَتْباعِه مِن المُؤْمِنين.

=================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات كاملة  

 

سورة يوسف مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة



 
 الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ (1) إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ (2) نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ (3) إِذۡ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ إِنِّي رَأَيۡتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوۡكَبٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ رَأَيۡتُهُمۡ لِي سَٰجِدِينَ (4) قَالَ يَٰبُنَيَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡيَاكَ عَلَىٰٓ إِخۡوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيۡدًاۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٞ مُّبِينٞ (5) وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ (6) ۞لَّقَدۡ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخۡوَتِهِۦٓ ءَايَٰتٞ لِّلسَّآئِلِينَ (7) إِذۡ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰٓ أَبِينَا مِنَّا وَنَحۡنُ عُصۡبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ (8) ٱقۡتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطۡرَحُوهُ أَرۡضٗا يَخۡلُ لَكُمۡ وَجۡهُ أَبِيكُمۡ وَتَكُونُواْ مِنۢ بَعۡدِهِۦ قَوۡمٗا صَٰلِحِينَ (9) قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ لَا تَقۡتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلۡقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّ يَلۡتَقِطۡهُ بَعۡضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ (10) قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مَالَكَ لَا تَأۡمَ۬نَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُۥ لَنَٰصِحُونَ (11) أَرۡسِلۡهُ مَعَنَا غَدٗا يَرۡتَعۡ وَيَلۡعَبۡ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحۡزُنُنِيٓ أَن تَذۡهَبُواْ بِهِۦ وَأَخَافُ أَن يَأۡكُلَهُ ٱلذِّئۡبُ وَأَنتُمۡ عَنۡهُ غَٰفِلُونَ (13) قَالُواْ لَئِنۡ أَكَلَهُ ٱلذِّئۡبُ وَنَحۡنُ عُصۡبَةٌ إِنَّآ إِذٗا لَّخَٰسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ وَأَجۡمَعُوٓاْ أَن يَجۡعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمۡرِهِمۡ هَٰذَا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ (15) وَجَآءُوٓ أَبَاهُمۡ عِشَآءٗ يَبۡكُونَ (16) قَالُواْ يَٰٓأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبۡنَا نَسۡتَبِقُ وَتَرَكۡنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَٰعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئۡبُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُؤۡمِنٖ لَّنَا وَلَوۡ كُنَّا صَٰدِقِينَ (17) وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (18) وَجَآءَتۡ سَيَّارَةٞ فَأَرۡسَلُواْ وَارِدَهُمۡ فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥۖ قَالَ يَٰبُشۡرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٞۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةٗۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ (19) وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۭ بَخۡسٖ دَرَٰهِمَ مَعۡدُودَةٖ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِينَ (20) وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشۡتَرَىٰهُ مِن مِّصۡرَ لِٱمۡرَأَتِهِۦٓ أَكۡرِمِي مَثۡوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدٗاۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ (22) وَرَٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَٰبَ وَقَالَتۡ هَيۡتَ لَكَۚ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ رَبِّيٓ أَحۡسَنَ مَثۡوَايَۖ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ (23) وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ (24) وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ وَقَدَّتۡ قَمِيصَهُۥ مِن دُبُرٖ وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِۚ قَالَتۡ مَا جَزَآءُ مَنۡ أَرَادَ بِأَهۡلِكَ سُوٓءًا إِلَّآ أَن يُسۡجَنَ أَوۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (25) قَالَ هِيَ رَٰوَدَتۡنِي عَن نَّفۡسِيۚ وَشَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٖ فَصَدَقَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ (26) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ (27) فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ قَالَ إِنَّهُۥ مِن كَيۡدِكُنَّۖ إِنَّ كَيۡدَكُنَّ عَظِيمٞ (28) يُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَاۚ وَٱسۡتَغۡفِرِي لِذَنۢبِكِۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلۡخَاطِـِٔينَ (29) ۞وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي ٱلۡمَدِينَةِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ (30) فَلَمَّا سَمِعَتۡ بِمَكۡرِهِنَّ أَرۡسَلَتۡ إِلَيۡهِنَّ وَأَعۡتَدَتۡ لَهُنَّ مُتَّكَـٔٗا وَءَاتَتۡ كُلَّ وَٰحِدَةٖ مِّنۡهُنَّ سِكِّينٗا وَقَالَتِ ٱخۡرُجۡ عَلَيۡهِنَّۖ فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ (31) قَالَتۡ فَذَٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمۡتُنَّنِي فِيهِۖ وَلَقَدۡ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ فَٱسۡتَعۡصَمَۖ وَلَئِن لَّمۡ يَفۡعَلۡ مَآ ءَامُرُهُۥ لَيُسۡجَنَنَّ وَلَيَكُونٗا مِّنَ ٱلصَّٰغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِۖ وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّي كَيۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَيۡهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ (33) فَٱسۡتَجَابَ لَهُۥ رَبُّهُۥ فَصَرَفَ عَنۡهُ كَيۡدَهُنَّۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا رَأَوُاْ ٱلۡأٓيَٰتِ لَيَسۡجُنُنَّهُۥ حَتَّىٰ حِينٖ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأۡتِيكُمَا طَعَامٞ تُرۡزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِيلِهِۦ قَبۡلَ أَن يَأۡتِيَكُمَاۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ إِنِّي تَرَكۡتُ مِلَّةَ قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ (37) وَٱتَّبَعۡتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشۡرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ عَلَيۡنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ (38) يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ (39) مَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ أَسۡمَآءٗ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ (40) يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسۡقِي رَبَّهُۥ خَمۡرٗاۖ وَأَمَّا ٱلۡأٓخَرُ فَيُصۡلَبُ فَتَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِن رَّأۡسِهِۦۚ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسۡتَفۡتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجٖ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ إِنِّيٓ أَرَىٰ سَبۡعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعَ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖۖ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ أَفۡتُونِي فِي رُءۡيَٰيَ إِن كُنتُمۡ لِلرُّءۡيَا تَعۡبُرُونَ (43) قَالُوٓاْ أَضۡغَٰثُ أَحۡلَٰمٖۖ وَمَا نَحۡنُ بِتَأۡوِيلِ ٱلۡأَحۡلَٰمِ بِعَٰلِمِينَ (44) وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنۡهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعۡدَ أُمَّةٍ أَنَا۠ أُنَبِّئُكُم بِتَأۡوِيلِهِۦ فَأَرۡسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفۡتِنَا فِي سَبۡعِ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعِ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ لَّعَلِّيٓ أَرۡجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَعۡلَمُونَ (46) قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ (49) وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦۖ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسۡـَٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيۡدِهِنَّ عَلِيمٞ (50) قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِۦۚ قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ (51) ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَيۡبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي كَيۡدَ ٱلۡخَآئِنِينَ (52) ۞وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ (53) وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ (54) قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ (55) وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (56) وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57) وَجَآءَ إِخۡوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَعَرَفَهُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ قَالَ ٱئۡتُونِي بِأَخٖ لَّكُم مِّنۡ أَبِيكُمۡۚ أَلَا تَرَوۡنَ أَنِّيٓ أُوفِي ٱلۡكَيۡلَ وَأَنَا۠ خَيۡرُ ٱلۡمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمۡ تَأۡتُونِي بِهِۦ فَلَا كَيۡلَ لَكُمۡ عِندِي وَلَا تَقۡرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَٰوِدُ عَنۡهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَٰعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتۡيَٰنِهِ ٱجۡعَلُواْ بِضَٰعَتَهُمۡ فِي رِحَالِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَعۡرِفُونَهَآ إِذَا ٱنقَلَبُوٓاْ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيهِمۡ قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلۡكَيۡلُ فَأَرۡسِلۡ مَعَنَآ أَخَانَا نَكۡتَلۡ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ (63) قَالَ هَلۡ ءَامَنُكُمۡ عَلَيۡهِ إِلَّا كَمَآ أَمِنتُكُمۡ عَلَىٰٓ أَخِيهِ مِن قَبۡلُ فَٱللَّهُ خَيۡرٌ حَٰفِظٗاۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَٰعَهُمۡ وَجَدُواْ بِضَٰعَتَهُمۡ رُدَّتۡ إِلَيۡهِمۡۖ قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مَا نَبۡغِيۖ هَٰذِهِۦ بِضَٰعَتُنَا رُدَّتۡ إِلَيۡنَاۖ وَنَمِيرُ أَهۡلَنَا وَنَحۡفَظُ أَخَانَا وَنَزۡدَادُ كَيۡلَ بَعِيرٖۖ ذَٰلِكَ كَيۡلٞ يَسِيرٞ (65) قَالَ لَنۡ أُرۡسِلَهُۥ مَعَكُمۡ حَتَّىٰ تُؤۡتُونِ مَوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأۡتُنَّنِي بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يُحَاطَ بِكُمۡۖ فَلَمَّآ ءَاتَوۡهُ مَوۡثِقَهُمۡ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ (66) وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَٱدۡخُلُواْ مِنۡ أَبۡوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖۖ وَمَآ أُغۡنِي عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍۖ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَيۡهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَهُمۡ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغۡنِي عَنۡهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍ إِلَّا حَاجَةٗ فِي نَفۡسِ يَعۡقُوبَ قَضَىٰهَاۚ وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلۡمٖ لِّمَا عَلَّمۡنَٰهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ أَخَاهُۖ قَالَ إِنِّيٓ أَنَا۠ أَخُوكَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحۡلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلۡعِيرُ إِنَّكُمۡ لَسَٰرِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقۡبَلُواْ عَلَيۡهِم مَّاذَا تَفۡقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفۡقِدُ صُوَاعَ ٱلۡمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِۦ حِمۡلُ بَعِيرٖ وَأَنَا۠ بِهِۦ زَعِيمٞ (72) قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدۡ عَلِمۡتُم مَّا جِئۡنَا لِنُفۡسِدَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا كُنَّا سَٰرِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَٰٓؤُهُۥٓ إِن كُنتُمۡ كَٰذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِي رَحۡلِهِۦ فَهُوَ جَزَٰٓؤُهُۥۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّٰلِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ (76) ۞قَالُوٓاْ إِن يَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخٞ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ يُبۡدِهَا لَهُمۡۚ قَالَ أَنتُمۡ شَرّٞ مَّكَانٗاۖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ إِنَّ لَهُۥٓ أَبٗا شَيۡخٗا كَبِيرٗا فَخُذۡ أَحَدَنَا مَكَانَهُۥٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأۡخُذَ إِلَّا مَن وَجَدۡنَا مَتَٰعَنَا عِندَهُۥٓ إِنَّآ إِذٗا لَّظَٰلِمُونَ (79) فَلَمَّا ٱسۡتَيۡـَٔسُواْ مِنۡهُ خَلَصُواْ نَجِيّٗاۖ قَالَ كَبِيرُهُمۡ أَلَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ أَبَاكُمۡ قَدۡ أَخَذَ عَلَيۡكُم مَّوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبۡلُ مَا فَرَّطتُمۡ فِي يُوسُفَۖ فَلَنۡ أَبۡرَحَ ٱلۡأَرۡضَ حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ أَوۡ يَحۡكُمَ ٱللَّهُ لِيۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ (80) ٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ فَقُولُواْ يَٰٓأَبَانَآ إِنَّ ٱبۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ (81) وَسۡـَٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلۡعِيرَ ٱلَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَاۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ (82) قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٌۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَنِي بِهِمۡ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ (84) قَالُواْ تَٱللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ ٱلۡهَٰلِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ (86) يَٰبَنِيَّ ٱذۡهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيۡـَٔسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيۡهِ قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهۡلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئۡنَا بِبِضَٰعَةٖ مُّزۡجَىٰةٖ فَأَوۡفِ لَنَا ٱلۡكَيۡلَ وَتَصَدَّقۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَجۡزِي ٱلۡمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلۡ عَلِمۡتُم مَّا فَعَلۡتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذۡ أَنتُمۡ جَٰهِلُونَ (89) قَالُوٓاْ أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُۖ قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَآۖ إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (90) قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدۡ ءَاثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا وَإِن كُنَّا لَخَٰطِـِٔينَ (91) قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ (92) ٱذۡهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي يَأۡتِ بَصِيرٗا وَأۡتُونِي بِأَهۡلِكُمۡ أَجۡمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلۡعِيرُ قَالَ أَبُوهُمۡ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَۖ لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَٰلِكَ ٱلۡقَدِيمِ (95) فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلۡبَشِيرُ أَلۡقَىٰهُ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ فَٱرۡتَدَّ بَصِيرٗاۖ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ (96) قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا ٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَٰطِـِٔينَ (97) قَالَ سَوۡفَ أَسۡتَغۡفِرُ لَكُمۡ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ أَبَوَيۡهِ وَقَالَ ٱدۡخُلُواْ مِصۡرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ (100) ۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ (101) ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۖ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ أَجۡمَعُوٓاْ أَمۡرَهُمۡ وَهُمۡ يَمۡكُرُونَ (102) وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ (103) وَمَا تَسۡـَٔلُهُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّنۡ ءَايَةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ يَمُرُّونَ عَلَيۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ (105) وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوٓاْ أَن تَأۡتِيَهُمۡ غَٰشِيَةٞ مِّنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوۡ تَأۡتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ (107) قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (108) وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰٓۗ أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (109) حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ (110) لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ (111)

فمن(1-3)

غريب الكلمات:

نَقُصُّ: أي: نُخبِرُ ونبيِّنُ، والقصصُ: الأثرُ والأخبارُ المتُتبَّعةُ، وأصلُ (القصِّ): تتبُّعُ الأثرِ أو الشيءِ

المعنى الإجمالي:

 

افتَتحَ الله سبحانه هذه السُّورةَ الكريمةَ بالحُروفِ المُقطَّعةِ، ثم أخبَرَ تعالى أنَّ هذه آياتُ القُرآنِ الواضِحِ من جهةِ أحكامِه، وألفاظِه، وسائِرِ ما حَواهُ مِنْ صُنوفِ مَعانيه، البَيِّنِ صِدْقُه، الذي يُفْصِحُ عمَّا أُبْهِم ويُبَيِّنُه، وأنَّه سُبحانَه أنزلَ هذا القُرآنَ بلُغةِ العَرَبِ؛ لعلَّهم يَعقِلونَ معانيَه ويفهَمونَها، ويَعمَلونَ بهَديِه، ثمَّ توجَّه بالخِطابِ لِنَبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: نحن نقصُّ عليك أحسَنَ القَصَصِ بوَحيِنا إليك هذا القُرآنَ، وإن كُنتَ قبل إنزالِه عليك لَمِنَ الغافلينَ عن هذه الأخبارِ، لا تدري عنها شيئًا.

تفسير الآيات:

 

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1).

سبَبُ النُّزولِ:

عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((أُنزِلَ القرآنُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتلا عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ الله، لو قَصَصتَ علينا، فأنزل الله: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ يوسُف: 1 إلى قولِه تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ يوسُف: 3 فتلاها عليهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو حَدَّثتَنا، فأنزل الله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا الزمر: 23 الآية، كلُّ ذلك يُؤمَرونَ بالقُرآنِ))

.

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1).

الر.

تقدَّم الكلامُ عن هذه الحروفِ المُقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سُورةِ البَقَرةِ .

تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ.

أي: هذه آياتُ القُرآنِ الواضِحِ مِن جهةِ أحكامِه، وألفاظِه، وسائِرِ ما حَواهُ مِنْ صُنوفِ مَعانيه، البَيِّنِ صِدْقُه، الذي يُفْصِحُ عمَّا أُبْهِم ويُبَيِّنُه .

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2).

أي: إنَّا أنزَلْناه كِتابًا يُقرَأُ بلُغَتِكم- أيُّها العربُ- كي تعلَموا وتفهَموا مَعانيَه .

كما قال تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الزخرف: 1 - 3.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3).

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ.

أي: نحن نقُصُّ عليك- يا محمَّدُ- أحسَنَ أخبارِ الأُمَم الماضيةِ ؛ بإيحائِنا إليك هذا القرآنَ .

وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ.

أي: والشَّأنُ أنَّك كنتَ- يا محمَّدُ- من قبلِ أن نوحيَ إليك هذا القُرآنَ، مِن جملةِ قَومِك الذين لا عِلْمَ لهم بما في القُرآنِ؛ من الإيمانِ والهُدَى، وأخبارِ الأنبياءِ والأُمَمِ الماضيةِ

 

.

كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ الشورى: 52.

وقال سُبحانه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى الضحى: 7.

الفوائد التربوية:

 

في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إشارةٌ إلى ضرورةِ العِلمِ بمعاني الكتابِ العزيزِ، ووجهُ ذلك: أنَّه سُبحانه بَيَّنَ أنَّه أنزَلَه عربيًّا كي نعقِلَه، والعقلُ لا يكونُ إلَّا مع العِلمِ بمعانيه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إنَّما وُصِفَ القرآنُ بكونِه مُبِينًا؛ لوجوهٍ:

الأوَّل: أنَّ القرآنَ مُعجِزةٌ قاهرةٌ، وآيةٌ بيِّنةٌ لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم.

الثاني: أنَّه بيَّنَ فيه الهدى والرُّشد، والحلالَ والحرامَ، ولَمَّا بُيِّنَت هذه الأشياءُ فيه، كان الكتابُ مُبِينًا لهذه الأشياءِ.

الثَّالث: أنَّه بُيِّنَت فيه قَصصُ الأوَّلينَ، وشُرِحَت فيه أحوالُ المتقَدِّمينَ

.

2- قولُ الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ اللِّسانَ العربيَّ أفصَحُ الألسنةِ وأوسَعُها وأقوَمُها وأعدَلُها؛ لأنَّ مِن المقَرَّرِ أنَّ القولَ- وإن خُصَّ بخِطابِه قومٌ- يكونُ عامًّا لِمَن سِواهم .

3- قوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ هذه الجُملةُ تتنزَّلُ مِن جُملةِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا مَنزلةَ بدَلِ الاشتمالِ؛ لأنَّ أحسَنَ القصَصِ ممَّا يشتَمِلُ عليه إنزالُ القُرآنِ، وكونُ القَصَصِ مِن عند الله يتنزَّلُ منزلةَ الاشتمالِ مِن جملةِ تأكيدِ إنزالِه مِن عندِ الله، وقولُه: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ يتضَمَّنُ رابطًا بين جملةِ البدَلِ والجُملةِ المُبدَلِ منها .

4- قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وذلك لأنَّ لُغةَ العَربِ أفصَحُ اللُّغاتِ وأبيَنُها وأوسَعُها، وأكثَرُها تأديةً للمعاني التي تقومُ بالنُّفوسِ؛ فلهذا أُنزِلَ أشرفُ الكُتُبِ بأشرَفِ اللُّغاتِ، على أشرفِ الرُّسُلِ، بسِفارةِ أشرَفِ الملائكةِ، وكان ذلك في أشرَفِ بِقاعِ الأرضِ، وابتُدئَ إنزالُه في أشرفِ شُهورِ السَّنةِ، وهو رمضانُ، فكمُلَ مِن كُلِّ الوجوهِ .

5- في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ردٌّ على مَن زَعمَ أنَّ في القُرآنِ ما لا يَفْقَهُ ولا يَفْهَمُ معناه لا الرَّسولُ ولا المُؤمِنونَ؛ فإنَّ هذا مِن المنَكرِ الذي أنكَرَه العُلَماءُ .

6- ذكَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى أنَّه يقُصُّ على رَسولِه أحسَنَ القَصَصِ في هذا الكتابِ؛ حيث قال جلَّ وعلا: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ثمَّ ذكَرَ هذه القِصَّةَ وبَسَطَها، وذكَرَ ما جرى فيها، فعُلِمَ بذلك أنَّها قِصَّةٌ تامَّةٌ كامِلةٌ حَسَنةٌ، فمن أراد أن يُكمِلَها أو يحَسِّنَها بما يُذكَرُ في الإسرائيليَّاتِ التي لا يُعرَفُ لها سنَدٌ ولا ناقِلٌ، وأغلَبُها كذِبٌ؛ فهو مُستدرِكٌ على اللهِ، ومُكمِلٌ لشيءٍ يزعُمُ أنَّه ناقِصٌ، وحَسبُك بأمرٍ ينتهي إلى هذا الحَدِّ قُبحًا! فإنَّ تضاعيفَ هذه السُّورةِ قد مُلِئَت في كثيرٍ مِن التَّفاسيرِ من الأكاذيبِ والأمورِ الشَّنيعةِ المُناقِضةِ لِما قَصَّه الله تعالى بشيءٍ كثيرٍ، فعلى العبدِ أن يفهمَ عن الله ما قَصَّه، ويدَعَ ما سِوى ذلك، ممَّا ليس عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُنقَلُ .

7- ذكَرَ اللهُ أقاصيصَ الأنبياءِ في القُرآنِ، وكرَّرَها بمعنًى واحدٍ في وجوهٍ مُختَلفةٍ، بألفاظٍ مُتباينةٍ على درجاتِ البلاغةِ، وقد ذكرَ قِصَّةَ يُوسُفَ ولم يكَرِّرْها، فلم يَقدِرْ مُخالِفٌ على مُعارضةِ ما تكرَّر، ولا على مُعارضةِ غيرِ المُتكَرِّر، والإعجازُ لِمن تأمَّل

 

.

بلاغة الآيات   :

 

1- قوله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ

- قولُه: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وفي سُورةِ (يُونُسَ) وسُورة (لُقمانَ) قال: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ؛  فوَصَفَ الكِتابَ في سُورةِ (يُوسُف) بالمُبين، وفي السُّورتَينِ بالحَكيم؛ ووجهُ ذلك: أنَّ ذِكْرَ وَصْفِ إبانتِه هنا أنسَبُ؛ إذ كانت القِصَّةُ التي تَضَمَّنَتها هذه السُّورةُ مُفصِّلةً مُبيِّنةً لأهمِّ ما جَرَى في مدَّةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ بمِصْرَ

؛ فسورةُ (يُوسُفَ) عليه السَّلامُ لم تَنطوِ على غيرِ قِصَّتِه وبسْطِ التعريفِ بقَضيَّتِه، وبيانِ ما جرَى له مع أبيه وإخوتِه، وامتحانِه وتخلُّصِه بسابقِ اصطفائِه ممَّا كِيدَ به، وجَمْعِه بأخيه، ثُمَّ بأبيه وإخوتِه؛ فلهذا أُتْبِع الكتابُ بالوصفِ بـ الْمُبِينِ، وأمَّا سُورتَا (يُونُسَ) و(لُقمانَ) فقدْ تَردَّد فيهما من الآياتِ المُعتبَرِ بها، المطْلِعةِ على عَظيمِ حِكمتِه تعالى وإتْقانِه للأشياءِ ما لم يَرِدْ في سُورةِ (يُوسُفَ)، كخَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، وجَعْل الشَّمسِ ضِياءً والقَمرِ نُورًا، واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ وما خَلَق اللهُ في السَّمواتِ والأرضِ، وما في ذلك مِن عِبَرٍ وآياتٍ، وكذلك ما في سُورة (لُقمان) في قوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ لقمان: 10- 11، وما ذَكَره فيها أيضًا عن لُقمانَ وما آتاهُ من الحِكمةِ، وما انطوتْ عليه قِصَّتُه مِن حِكمةٍ، وما صُدِّرَ عنه في وصيَّتِه؛ فهذا وجهُ وصْفِ الكِتابِ في هاتَينِ السُّورتَينِ بالحَكيمِ .

- قولُه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ استِئنافٌ يُفيدُ تَعليلَ الإبانةِ مِن جِهَتَيْ لَفظِه ومَعناه؛ فإنَّ كونَه قُرآنًا يَدُلُّ على إبانةِ المعاني؛ لأنَّه ما جُعِل مَقروءًا إلَّا لِما في تَراكيبِه مِن المعاني المفيدةِ للقارئِ، وكونُه عَربيًّا يُفيدُ إبانةَ ألفاظِه المعانِيَ المقصودةَ للَّذين خُوطِبوا به ابتِداءً، وهم العرَبُ .

- والتَّأكيدُ بـ (إنَّ) مُتوجِّهٌ إلى خبَرِها، وهو فِعْلُ أَنْزَلْنَاهُ؛ ردًّا على الَّذين أنكَروا أن يَكونَ مُنزَّلًا مِن عندِ اللهِ .

- وقولُه: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فيه التَّعبيرُ عن العلمِ بالعقلِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ دَلالةَ القرآنِ على هذا العِلمِ قد بلَغَت في الوُضوحِ حَدَّ أن يُنزَّلَ مَن لم يَحصُلْ له العِلمُ منها مَنزِلةَ مَن لا عَقْلَ له، وأنَّهم ما داموا مُعْرِضين عنه فهُم في عِدادِ غيرِ العُقَلاءِ .

- وحَذَف مفعولَ تَعْقِلُونَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ إنزالَه كذلك هو سبَبٌ لحُصولِ تَعقُّلٍ لأشياءَ كثيرةٍ مِن العلومِ مِن إعجازٍ وغيرِه .

- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سورةِ (يوسفَ): إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يوسف: 2، وفي سورةِ (الزُّخرُفِ) قال: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الزخرف: 3؛ فقال هنا أَنْزَلْنَاهُ، وقال في (الزخرف): جَعَلْنَاهُ، ووجهُ ذلك: أنَّ آيةَ سورةِ (يوسُفَ) لَمَّا كانت توطِئةً لذِكْرِ قَصصِه عليه السَّلامُ، ولم تتَضمَّنِ السُّورةُ غيرَ ذلك إلَّا ما أُعقِبَ به في آخِرِها، ممَّا يُعرَفُ بعجيبِ ما تَضمَّنَتْه ما كان غَيبًا عندَ قُريشٍ والعرَبِ، مُستوفِيًا ما كان أهلُ الكتابِ يَظُنُّون أنَّهم انفَرَدوا بعِلمِه، فأنزَل اللهُ هذه السُّورةَ موفِيَةً مِن ذلك أتَمَّه، ومُعرِّفةً مِن قَصصِه العجيبَ، ومؤدِّيةً أكمَلَه وأعَمَّه، ولا أنسَبَ عِبارةً هنا مِن قولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا؛ لِيَعلَمَ العربُ والجميعُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يتَلقَّ ذلك القَصصَ مِن أحَدٍ مِن العرَبِ؛ إذ لم يَكُنْ عِندَهم مِنه نبَأٌ، ولا رحَل في تَعرُّفِه إلى أحَدٍ؛ فالتَّعبيرُ بالإنزالِ هنا بيِّنٌ، وأمَّا آيةُ الزُّخرُفِ فلم تُبْنَ على أخبارٍ .

2- قولُه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ

- قولُه: نَحْنُ نَقُصُّ: فيه افتِتاحُ الجُملَةِ بضَميرِ العظَمةِ نَحْنُ؛ للتَّنويهِ بالخبَرِ، وتقديمُ نَحْنُ على الخبَرِ الفعليِّ نَقُصُّ يفيدُ الاختصاصَ، أي: نَحن نقُصُّ لا غيرُنا؛ ردًّا على مَن يَطعُنُ مِن المشرِكين في القرآنِ بقولِهم: إِنَّما يُعَلِّمُه بَشَرٌ النحل: 103.

- قولُه: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ فعُبِّر بـ الْغَافِلِينَ دونَ أن يُوصَفَ وحْدَه بالغَفلةِ؛ ونُكتةُ ذلك الإشارةُ إلى تَفضيلِه بالقرآنِ على كلِّ مَن لم يَنتَفِعْ بالقرآنِ؛ فدخَل في هذا الفَضلِ أصحابُه والمسلِمون على تَفاوُتِ مَراتبِهم في العلمِ، ومَفهومُ قولِه: مِنْ قَبْلِهِ مقصودٌ منه التَّعريضُ بالمشرِكين المعْرِضين عن هَدْيِ القرآنِ .

- وأيضًا في قولِه: لَمِنَ الْغَافِلِينَ التَّعبيرُ عن عدَمِ العلمِ بالغفلةِ؛ لإجلالِ شأنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإنْ غفَل عنه بعضُ الغافِلين

=======================

 

المعنى الإجمالي

تفسير الآيات

الفوائد التربوية

الفوائد العلمية واللطائف

بلاغة الآيات

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (4-6)

ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: اذكُرْ- يا محمَّدُ- لقومِك قولَ يوسُفَ لأبيه يعقوبَ عليهما السلام: إنِّي رأيتُ في المنامِ أحدَ عشَرَ كوكبًا، والشَّمسَ والقمَرَ رأيتُهم لي ساجدينَ، فقال يعقوبُ لابنه يوسُفَ: يا بُنيَّ لا تذكُرْ لإخوتِك هذه الرُّؤيا فيَحسُدوك ويُعادوك، ويَحتالوا في إنزالِ الضررِ بكَ؛ إنَّ الشَّيطانَ للإنسانِ عدُوٌّ ظاهِرُ العداوةِ. وكما أراك ربُّك هذه الرُّؤيا فكذلك يَصطَفيك للنبُوَّةِ، ويعَلِّمُك من تعبيرِ الرُّؤى التي يراها النَّاسُ في منامِهم، ومِن معاني كتبِ الله وسننِ الأنبياءِ، ويُتِمُّ نِعمتَه عليك وعلى آلِ يَعقوبَ بالنبُوَّةِ والرِّسالة، كما أتمَّها مِن قبلُ على أبوَيك إبراهيمَ وإسحاقَ بالنبُوَّةِ والرِّسالةِ، إنَّ ربَّك عليمٌ بمن يَصطفيه مِن عبادِه، حَكيمٌ في تدبيرِ أمورِ خَلقِه.

تفسير الآيات:

 

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا مدحَ ما اشتمَلَ عليه هذا القُرآنُ مِن القَصَص، وأنَّها أحسَنُ القَصَصِ على الإطلاقِ، فلا يُوجَدُ مِن القَصَص ِفي شيءٍ مِن الكتُبِ مِثلُ هذا القرآنِ- ذكرَ قِصَّةَ يوسُفَ وأبيه وإخوتِه، القِصَّةَ العجيبةَ الحَسَنةَ

، فقال تعالى:

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4).

أي: اذكُرْ- يا محمَّدُ- لقَومِك حين قال يوسُفُ لأبيه يعقوبَ- عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ: يا أبتِ، إنِّي رأيتُ في المنامِ أحَدَ عشَرَ نَجمًا، والشَّمسَ والقمَرَ، رأيتُهم ساجدينَ لي .

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أكرمُ الناسِ يوسُف نبيُّ الله، ابنُ نبيِّ الله، ابنِ نبيِّ الله، ابنِ خليلِ الله )) .

قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5).

قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا.

أي: قال يعقوبُ لابنه يوسُفَ: يا بُنيَّ لا تَقصُصْ هذه الرُّؤيا على إخوتِك، فيَحسُدوك، ويَحتالوا لك حيلةً ليَضُرُّوك .

إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ.

أي: إنَّ الشَّيطانَ لآدمَ وذريتِه عدوٌّ ظاهِرُ العَداوةِ، يَحمِلُهم على الحسَدِ والكَيدِ .

كما قال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا الإسراء: 53.

وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6).

وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ.

أي: قال يعقوبُ لابنِه يوسُفَ: وكما أراك ربُّك في منامِك سُجودَ الكواكبِ والشَّمسِ والقَمَرِ لك، فكذلك يَختارُك ربُّك، ويَصطفيك للنبُوَّةِ .

وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ.

أي: ويُعلِّمُك مِن تعبيرِ الرُّؤى التي يراها النَّاسُ في مَنامِهم، وما يؤولُ أمرُها إليه ، ومن معاني كتُبِ الله وسُنَنِ الأنبياءِ .

وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ.

أي: ويُتِمُّ نِعمَتَه عليك في الدُّنيا والآخرةِ، وعلى أهلِ مِلَّةِ يعقوبَ مِن ذرِّيَّتِه وغيرِهم، كما أتمَّ نِعمَتَه من قبلِ ذلك على أبوَيك إبراهيمَ وإسحاقَ بالنِّعَم العظيمةِ في دِينِهم ودُنياهم .

إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

أي: إنَّ ربَّك عليمٌ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بمن يستحِقُّ إتمامَ النِّعمةِ، حَكيمٌ يضَعُ كلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به، ومِن ذلك حِكمتُه في تدبيرِ خَلْقِه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا في خِطابِ يعقوبَ ليُوسُفَ تنهيةٌ عن أن يقُصَّ على إخوتِه- مَخافةَ كَيدِهم- دَلالةٌ على تحذيرِ المُسلِمِ أخاه المُسلِمَ ممَّن يخافُه عليه، والتَّنبيهِ على بعضِ ما لا يَليقُ، ولا يكونُ ذلك داخِلًا في بابِ الغِيبةِ

.

2- ينبغي البعدُ عن أسبابِ الشَّرِّ، وكِتمانُ ما تُخشى مضَرَّتُه؛ لقولِ يعقوبَ ليُوسفَ: يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ، ففيه الحثُّ على التحَرُّزِ ممَّا يُخشَى ضُرُّه؛ فالإنسانُ مأمورٌ بالاحترازِ، فإن نفَعَ فذاك، وإلَّا لم يَلُمِ العبدُ نَفسَه .

3- قولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا يدُلُّ على جوازِ تَركِ إظهارِ النِّعمةِ لِمَن يُخشَى منه حَسَدٌ ومَكرٌ ، فليس للمَحسودِ أسلَمُ مِن إخفاءِ نِعمتِه عن الحاسِدِ .

4- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا فيه حُكمٌ بالعادةِ أنَّ الإخوةَ والقَرابةَ يَحسُدونَ .

5- قولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا في الآيةِ دليلٌ على أنَّ الرُّؤيا لا تُقَصُّ على غيرِ شَفيقٍ ولا ناصِحٍ، ولا على امرئٍ لا يُحسِنُ التَّأويلَ فيها .

6- مِن الحَزمِ إذا أراد العَبدُ فِعلًا مِن الأفعالِ أن يَنظُرَ إليه مِن جَميعِ نواحيه، ويُقَدِّرَ كُلَّ احتمالٍ مُمكِنٍ، وأنَّ الاحترازَ بسُوءِ الظَّنِّ لا يَضُرُّ إذا لم يُحقَّق، بل يُحترَزُ مِن كُلِّ احتِمالٍ يُخشى ضَرَرُه، ولو تضَمَّنَ ظَنَّ السُّوءِ بالغَيرِ، إذا كانت القرائِنُ تَدُلُّ عليه وتَقتَضيه، كما في قَولِه تعالى: يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وكما قَوِيَت القرائِنُ في قَولِه: قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ يوسف: 64؛ فإنَّه سبَقَ لهم في أخيه ما سَبَق، فلا يُلامُ يعقوبُ إذا ظَنَّ بهم هذا الظَّنَّ، وإن كانوا في الأخِ الأخيرِ لم يَجرِ منهم تفريطٌ ولا تَعَدٍّ .

7- إنَّ نِعمةَ اللهِ على العبدِ نِعمةٌ على من يتعلَّقُ به من أهلِ بَيتِه وأقارِبِه وأصحابِه، وأنَّه رُبَّما شَمِلَتهم، وحصل لهم ما حصَلَ له بسَبَبِه، كما قال يعقوبُ في تفسيرِه لرؤيا يوسُفَ: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ، ولَمَّا تمَّت النِّعمةُ على يوسُفَ، حصلَ لآلِ يعقوبَ مِن العِزِّ والتَّمكينِ في الأرضِ، والسُّرورِ والغِبطةِ ما حصلَ بسبَبِ يوسُفَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ جعلَ اللهُ تلك الرُّؤيا تنبيهًا ليُوسُفَ عليه السَّلامُ بعُلُوِّ شأنِه؛ ليتذَكَّرَها كلَّما حلَّت به ضائِقةٌ، فتَطمئِنَّ بها نَفسُه أنَّ عاقِبتَه طَيِّبةٌ، وهكذا إذا أراد اللهُ أمرًا مِن الأمورِ العِظامِ قدَّمَ بين يديه مُقَدِّمةً؛ تَوطئةً له، وتسهيلًا لأمرِه، واستعدادًا لِما يَرِدُ على العبدِ مِن المشاقِّ؛ لُطفًا بعبده، وإحسانًا إليه، وقد كانت هذه الرُّؤيا مُقَدِّمةً لِما وصَلَ إليه يوسُفُ عليه السَّلامُ مِن الارتفاعِ في الدُّنيا والآخرةِ، وإنَّما أخبَرَ يوسُفُ عليه السَّلامُ أباه بهاتِه الرُّؤيا؛ لأنَّه عَلِمَ بإلهامٍ أو بتعليمٍ سابقٍ مِن أبيه أنَّ للرُّؤيا تعبيرًا

.

2- قولُ الله تعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا... أصلٌ في تعبيرِ الرُّؤيا .

3- قولُ الله تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا دليلٌ على مَعرفةِ يعقوبَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتأويلِ الرُّؤيا؛ فإنَّه عَلِمَ مِن تأويلِها أنَّه سيظهَرُ عليهم ، وأنَّها تقتضي تقدُّمَه فيهم؛ لذا نهَى ابنَه عن ذكرِها، وخاف مِن إخوتِه أن يكيدوا له مِن أجلِها .

4- قَولُ الله تعالى: كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ فيه دَلالةٌ على أنَّ الجَدَّ أبٌ ؛ لأنَّ إسحاقَ جدُّ يوسفَ، وإبراهيمَ جدُّ أبيه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ

- النِّداءُ يَا أَبَتِ في الآيةِ- مع كَوْنِ المنادَى حاضِرًا- مقصودٌ به الاهتمامُ بالخبَرِ الَّذي سيُلقَى إلى المخاطَبِ، فيُنزَّلُ المخاطَبُ منزِلةَ الغائبِ المطلوبِ حُضورُه، وفيه كِنايةٌ عن الاهتمامِ

.

- قولُه: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فيه تأخيرُ الشَّمسِ والقمَرِ؛ لِيَعطِفَهما على الكواكِبِ على طَريقِ الاختصاصِ؛ إثباتًا لِفَضلِهما، واستبدادِهما بالمَزيَّةِ على غَيرِهما مِن الطَّوالِعِ . وقيل: إنَّ التأخيرَ إنَّما هو مِن بابِ الترقِّي مِن الأدْنَى إلى الأعلَى، وَقُدِّمَتْ الشمسُ على القمرِ؛ لِسُطوعِ نُورِها، وكِبَرِ جِرمِها، واستمدادِه منها، وعُلُوِّ مكانِها .

- وقولُه: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ فيه تَكرارُ رَأَيْتُهُمْ على سَبيلِ التَّوكيدِ للفِعلِ الأوَّل رَأَيْتُ؛ لطُولِ الكَلامِ والفَصلِ بَينَ الفِعلِ رَأَيْتُ الأوَّل وبين سَاجِدِينَ؛ فطولُ الفَصلِ بالمفاعيلِ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ استَدَعَى ذلك؛ فجِيءَ بـ رَأَيْتُهُمْ تَطريةً وتَنويعًا للحَديثِ . وقيل: إنَّه ليس بتَكْرارٍ لـ رَأَيْتُ...، وإنَّما هو كَلامٌ مُستأنَفٌ ببَيانِ حالِهم الَّتي رآهم عليها، على تَقديرِ سُؤالٍ وقَع جوابًا له؛ كأنَّ يعقوبَ عليه السَّلامُ- أو كأنَّ سائلًا سأَلَ- قال له عندَ قولِه: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ: كيف رأيتَها؟ سائلًا عن حالٍ رُؤيتِها، فقال: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ؛ فجُملةُ رَأَيْتُهُمْ مؤكِّدةٌ لجُملَةِ رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا؛ جيءَ بها على الاستِعْمالِ في حِكايةِ الْمَرائي الحُلميَّةِ أن يُعادَ فِعلُ الرُّؤيةِ؛ تأكيدًا لَفظيًّا، أو استِئنافًا بيانيًّا، كأنَّ سامِعَ الرُّؤيا يَستزيدُ الرَّائيَ أخبارًا عمَّا رأى .

- قولُه: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ فيه إجراءُ الكواكِبِ والشَّمسِ والقَمرِ مجرَى العُقَلاءِ، حَيثُ عبَّر عنها بقولِه: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ بضَميرِ جمْعِ المذكَّرِ (هُم) وصِيغتِه سَاجِدِينَ؛ لأنَّه لَمَّا وصَفها بما هو خاصٌّ بالعُقَلاءِ- وهو السُّجودُ- أَجرَى عليها حُكمَهم، وهذا شائِعٌ في كلامِ العَرَب، وهو أنْ يُعطى الشَّيءُ حُكمَ الشَّيءِ؛ للاشتِراكِ في وَصفٍ ما، أو يُلابِسُه ويُقارِبُه من بعضِ الوُجوهِ، فيُعطَى حُكمًا مِن أحكامِه؛ إظهارًا لأثرِ الملابسةِ والمقاربةِ، وإنْ كان ذلك الوَصفُ أصلُه أنْ يَخُصَّ أحدَهما ، فلمَّا وصَفها صفةَ مَن يَعقِلُ، جمَعها جَمعَ مَن يَعْقِلُ .

- وتَقديمُ الجارِّ والمجرورِ لِي على عامِلِه سَاجِدِينَ؛ لإظْهارِ العِنايةِ والاهتِمامِ بما هو الأهَمُّ، وهو ذِكرُ يُوسُفَ عليه السَّلامُ، مع ما في ضِمْنِه مِن رِعايةِ الفاصلةِ .

2- قولُه تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ جاءتْ هذه الجُملةُ مَفصولةً عن الَّتي قَبْلَها- أي: لم تُعْطَفْ عليها- على طَريقةِ المُحاوَراتِ .

- قولُه: قالَ يَا بُنَيَّ... استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالِ مَن قال: فماذا قال يعقوبُ بعد سماعِ هذه الرُّؤيا العجيبةِ؟ فقيل: قال:... ، والنِّداءُ فيه مع حُضورِ المخاطَبِ مُستعمَلٌ في طَلبِ إحضارِ الذِّهنِ؛ اهتِمامًا بالغرَضِ المخاطَبِ فيه .

- وبُنَيَّ تَصغيرُ (ابنٍ)؛ كنايةً عن تَحبيبٍ وشفقةٍ، وفيه أيضًا كنايةٌ عن إمحاضِ النُّصحِ له .

- قولُه: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا فيه تنكيرُ كَيْدًا؛ للتَّعظيمِ والتَّهويلِ، زيادةً في تحذيرِه مِن قَصِّ الرُّؤيا عليهم ، وأُكِّد بالمصدَرِ للمبالَغةِ ؛ فهذا الأسلوبُ آكَدُ مِن أن يُقالَ: (فيَكيدوك كيدًا)؛ إذ ليس فيه دَلالةٌ على كَوْنِ نَفْسِ الفِعلِ مقصودَ الإيقاعِ، وقيل: إنَّما جيءَ باللَّامِ لِتَضمينِه معنى الاحتيالِ المتعدِّي باللَّام؛ لِيُفيدَ معنى المضمَّنِ والمضمَّنِ فيه للتَّأكيدِ، أي: فيَحْتالوا لك ولإهلاكِك حيلةً وكيدًا .

- قولُه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ واقعٌ موقِعَ التَّعليلِ للنَّهيِ عن قَصِّ الرُّؤيا على إخوتِه، وعداوَةُ الشَّيطانِ لجنسِ الإنسانِ تحمِلُه على أَنْ يَدْفَعَهم إلى إضرارِ بعضِهم ببعضٍ .

3- قولُه تعالى: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عطَف هذا الكَلامَ على تَحذيرِه مِن قَصِّ الرُّؤيا على إخوتِه؛ إعلامًا له بعُلوِّ قَدرِه، ومستقبَلِ كَمالِه؛ كي يَزيدَ تَملِّيًا مِن سُموِّ الأخلاقِ؛ فيتَّسِعَ صدرُه لاحتمالِ أذَى إخوتِه، وصفحًا عن غيرتِهم منه، وحسَدِهم إيَّاه؛ لِيَتمحَّضَ تحذيرُه للصَّلاحِ، وتَنتفِيَ عنه مفسَدةُ إثارةِ البغضاءِ ونحوِها، حِكْمةً نبويَّةً عظيمةً، وطِبًّا رُوحانيًّا ناجعًا .

- قولُه: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ فيه تشبيهٌ، وهو تشبيهُ تعليلٍ؛ لأنَّه تشبيهُ أحَدِ المعلولَينِ بالآخَرِ؛ لاتِّحادِ العِلَّةِ .

- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تذييلٌ بتَمجيدِ هذه النِّعَمِ، وأنَّها كائنةٌ على وَفْقِ عِلمِه وحِكْمتِه، وتصديرُ الجملةِ بـ إِنَّ للاهتمامِ لا للتَّأكيدِ؛ إذْ لا يَشُكُّ يوسفُ عليه السَّلامُ في عِلمِ اللهِ وحِكْمتِه، والاهتمامُ ذَريعةٌ إلى إفادةِ التَّعليلِ، والتَّفريعُ في ذلك تَعريضٌ بالثَّناءِ على يوسُفَ عليه السَّلامُ، وتَأهُّلِه لمثلِ تلك الفضائلِ

==================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (7-10)

ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ

غريب الكلمات:

 

عُصْبَةٌ: أي: جَماعةٌ ذَوو عدَدٍ، وعَددُها من العَشرةِ إلى الأربعينَ، وأصلُ (عصب): يدُلُّ على رَبطِ شَيءٍ بشَيءٍ، وسُمِّيَت بذلك كأنَّها رُبِطَ بعضُها ببعضٍ

.

غَيَابَتِ الجُبِّ: أي: قَعرِ البِئرِ، والغيابةُ: كلُّ ما غاب، أو غيَّب عنك شيئًا، وأصلُ (غيب): يدلُّ على تستُّرِ الشَّيءِ عن العُيونِ، والجبُّ: البئرُ التي ليسَتْ بمطويةٍ ، وأصلُ (جبب): يدلُّ على قَطعٍ، كأنَّها قُطِعت، ولم يحدثْ فيها شيءٌ بعدَ القطعِ .

السَّيَّارَةِ: أي: مارَّةِ الطَّريقِ مِن المُسافرينَ، وأصلُ (سير): يدلُّ على مُضيٍّ وجَرَيانٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا

أَرْضًا: مَنصوبةٌ على نزعِ الخافِضِ؛ أي: في أرضٍ، أو ظَرفٌ لـ اطْرَحُوهُ

، أو مفعولٌ به ثانٍ بتَضمينِ اطْرَحُوهُ معنى: (أنزِلوه)

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: لقد كان في قِصَّةِ يوسُفَ وإخوتِه عِبَرٌ، وأدلَّةٌ تدُلُّ على قُدرةِ اللهِ وحِكمتِه، لِمن يسألُ عن أخبارِهم، ويرغَبُ في مَعرفتِها، إذ قال إخوةُ يوسُفَ مِن أبيه فيما بينهم: إنَّ يُوسُفَ وأخاه الشَّقيقَ أحَبُّ إلى أبينا مِنَّا؛ يُفَضِّلُهما علينا ونحن جماعةٌ ذَوو عَددٍ، إنَّ أبانا لفي خطأٍ بيِّنٍ، اقتُلوا يوسُفَ، أو ألقُوه في أرضٍ مجهولةٍ، بعيدةٍ عن العُمرانِ، يَخلُصْ لكم حُبُّ أبيكم، وإقبالُه عليكم، ولا يلتفِتْ عنكم إلى غيرِكم، وتكونوا مِنْ بعد قَتْلِ يُوسُفَ أو إبعادِه تائبينَ إلى اللهِ، مُستَغفرينَ له مِن بعدِ ذَنبِكم.

قال قائلٌ مِن إخوةِ يوسُفَ: لا تقتُلوا يوسُفَ، وألقوه في جَوفِ البِئرِ يلتَقِطْه بعضُ المارَّةِ مِن المُسافرينَ فتَستريحوا منه، ولا حاجةَ إلى قَتلِه، إنْ كنتُم عازمينَ على فِعلِ ما تقولونَ.

تفسير الآيات:

 

لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7).

أي: لقد كان في قِصَّةِ يوسُفَ وإخوتِه الأحدَ عشَرَ عِبَرٌ ومواعِظُ ودَلالاتٌ للسَّائلينَ عن خَبَرِهم وقِصَّتِهم

.

إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8).

إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ.

أي: اذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين قال إخوةُ يوسُفَ فيما بينهم: واللهِ لَيوسُفُ وشَقيقُه أحبُّ إلى أبينا يعقوبَ مِنَّا، والحالُ أنَّنا جماعةٌ ذوو عَددٍ، فكيف أحبَّ هذينِ الاثنينِ أكثرَ مِن الجماعةِ ؟!

إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ.

أي: إنَّ أبانا لَفي خطأٍ واضحٍ، وذَهابٍ عن العِلمِ بالحقيقةِ والصَّوابِ في إيثارِه يوسُفَ وشقيقِه علينا بالمحبَّةِ، ونحن العَشرةُ أنفَعُ له منهما !

اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9).

اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ.

أي: قال إخوةُ يوسُفَ بعضُهم لبعضٍ: اقتُلوا يوسُفَ أو ألقُوه في أرضٍ بعيدةٍ مِن العُمرانِ، يتفَرَّغْ لكم أبوكم مِن شُغْلِه بيوسُفَ، ويُقبِلْ عليكم بكُلِّيَّتِه .

وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ.

أي: وتكونوا مِن بعدِ ما تفعلونَه بيوسُفَ قومًا صالحينَ، تتوبونَ إلى اللهِ مِن ذلك الصَّنيعِ .

قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10).

قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ.

أي: قال قائلٌ مِن إخوةِ يوسُفَ: لا تقتُلوا يوسُفَ؛ فإنَّ قَتلَه أعظَمُ إثمًا .

وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ.

أي: واطرَحوه وغيِّبوه في قَعرِ البِئرِ، يأخُذْه بعضُ المارَّةِ في الطَّريقِ مِن المُسافرينَ، إن كُنتُم فاعلينَ ما أردتُم مِن التَّفريقِ بينه وبين أبيه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ الله تعالى: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ فيه أنَّ العَدلَ مَطلوبٌ في كُلِّ الأمورِ؛ في مُعاملةِ السُّلطانِ رَعيَّتَه وفيما دونَه، حتى في مُعاملةِ الوالِدِ لأولادِه- في المحبَّةِ والإيثارِ وغَيرِه- وأنَّ في الإخلالِ بذلك يختَلُّ عليه الأمرُ، وتَفسُدُ الأحوالُ؛ ولهذا لَمَّا قدَّمَ يعقوبُ يوسُفَ- عليهما السَّلامُ- في المحبَّةِ، وآثَرَه على إخوتِه؛ جرى منهم ما جرى على أنفُسِهم، وعلى أبيهم وأخيهم

.

2- قَولُ الله تعالى: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ فيه وُجوبُ عِنايةِ الوالِدَينِ بمُداراةِ الأولادِ، وتَربيتِهم على المحبَّةِ والعدلِ، واتِّقاءِ وُقوعِ التَّحاسُدِ والتَّباغُضِ بينهم، ومنه اجتنابُ تَفضيلِ بعضِهم على بعضٍ بما يَعُدُّه المفضولُ إهانةً له، ومُحاباةً لأخيه بالهَوى، ومنه سُلوكُ سَبيلِ الحِكمةِ في تفضيلِ مَن فضَّلَ اللهُ تعالى بالمواهِبِ الفِطريَّةِ، كمكارمِ الأخلاقِ والتَّقوى، والعِلمِ والذَّكاء .

3- قال الله تعالى: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ لَمَّا حَسَدوا يوسُفَ على تقديمِ أبيهم له، لم يرضَ- سُبحانه- حتى أقامَهم بين يدَي يوسُفَ عليه السَّلامُ، وخرُّوا له سُجَّدًا؛ ليعلَموا أنَّ الحَسُود لا يَسُود، ويُقال: أطوَلُ النَّاسِ حُزنًا مَن لاقى النَّاس عن مرارةٍ، وأراد تأخيرَ مَن قدَّمه اللهُ أو تقديمَ مَن أخَّره الله؛ فإخوةُ يوسفَ- عليه السلام- أرادوا أن يجعَلوه فى أسفَلِ الجُبِّ، فرَفَعَه اللهُ فوقَ السَّريرِ .

4- قال الله تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ هذه آيةٌ مِن عِبَرِ الأخلاقِ السَّيِّئة، وهي التخَلُّصُ مِن مُزاحمةِ الفاضِلِ بفَضلِه لِمَن هو دونَه فيه أو مساويه، بإعدامِ صاحِبِ الفَضلِ، وهي أكبرُ جريمةٍ؛ لاشتِمالها على الحسَدِ، والإضرارِ بالغيرِ، وانتهاكِ ما أمرَ الله بحِفظِه، وهم قد كانوا أهلَ دينٍ ومِن بيتِ نُبُوَّة، وقد أصلح اللهُ حالَهم من بعدُ .

5- لا يحِلُّ أن يُواقِعَ العبدُ الذَّنبَ بأيِّ حالةٍ تكونُ، ولو أضمَرَ أنَّه سيتوبُ منه؛ فالذَّنبُ يجِبُ اجتنابُه، فإذا وقَع وجَبَت التوبةُ منه، وقد قال تعالى عن إخوةِ يوسفَ: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ تائِبينَ إلى الله مِن هذه الجريمةِ، مُصْلِحينَ لأعمالِكم بما يُكَفِّرُ إِثْمَها، وعدمِ التَّصَدِّي لمِثْلِها، فيَرْضَى عنكم أبُوكم، ويَرضَى رَبُّكم، فهم قدَّموا العزمَ على التوبةِ قبلَ صدورِ الذنبِ منهم؛ تسهيلًا لفعلِه، وإزالةً لشناعتِه، وتنشيطًا مِن بعضِهم لبعضٍ، وهكذا يُزَيِّنُ الشَّيطانُ للمؤمنِ المتديِّنِ معصيةَ الله تعالَى، ولا يَزالُ يَنْزَغُ له ويُسَوِّلُ، ويَعِدُ ويُمَنِّي ويُؤَوِّلُ، حتَّى يُرَجِّحَ داعِيَ الإيمانِ، أو يُجيبَ داعِيَ الشَّيطانِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ قولُه: لِلسَّائِلِينَ يَقْتضي تَحْضيضًا للنَّاسِ على تعَلُّمِ هذه الأنباءِ؛ لأنَّ المرادَ آياتٌ للنَّاسِ، فوصَفَهم بالسُّؤالِ؛ إذ كُلُّ واحدٍ ينبغي أن يسألَ عن مِثلِ هذه القصَصِ، إذ هي مقَرُّ العِبَرِ والاتِّعاظِ

؛ فإنَّ السَّائلين- سواء مَن سأَلَ عنها بلِسانِ الحالِ أو بلِسانِ المَقالِ- همُ الَّذين ينتَفِعونَ بالآياتِ والعِبَرِ، وأمَّا المُعْرِضونَ فلا ينتَفِعون بالآياتِ، ولا بما في القِصَصِ والبيِّناتِ .

2- قولُ الله تعالى: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا فيه سؤالٌ: أنَّ مِن المَعلومِ أنَّ تفضيلَ بعضِ الأولادِ على بعضٍ يُورِثُ الحِقدَ والحسَدَ، فلمَ أقدَمَ يعقوبُ عليه السَّلامُ على ذلك؟

الجوابُ: أنَّه إنَّما فضَّلَهما في المحبَّةِ، والمحبَّةُ ليست في وُسعِ البشَرِ، فكان معذورًا فيها، ولا يلحَقُه في ذلك لَومٌ .

3- ظاهرُ سياقِ قَولِه تعالى: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ يدُلُّ على عدمِ نُبوَّةِ إخوةِ يوسفَ، ولم يقُمْ دَليلٌ على نبُوَّتهم، ومِن النَّاسِ مَن يزعُمُ أنَّهم أُوحيَ إليهم بعدَ ذلك، وفي هذا نظرٌ، ويحتاجُ مُدَّعي ذلك إلى دليلٍ، ولم يذكُروا سوى قَولِه تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ البقرة: 136، وهذا فيه احتِمالٌ؛ لأنَّ بُطونَ بني إسرائيلَ يُقالُ لهم: الأسباطُ، كما يُقالُ للعَرَبِ: قبائِلُ، وللعَجَم: شعوبٌ، يذكُرُ تعالى أنَّه أوحى إلى الأنبياءِ مِن أسباطِ بني إسرائيلَ، فذكَرَهم إجمالًا؛ لأنَّهم كثيرونَ، ولكِنْ كُلُّ سِبطٍ مِن نَسلِ رَجلٍ مِن إخوةِ يوسُفَ، ولم يقُمْ دليلٌ على أعيانِ هؤلاء أنَّهم أُوحيَ إليهم، والله أعلم .

4- قَولُ الله تعالى: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ هذه الآيةُ أصلٌ في أحكامِ اللَّقيطِ .

5- قوله: إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لم يَبُتَّ القولَ عليهم، بل إنَّما عرَض عليهم ذلك تأليفًا لقَلبِهم، وتوجيهًا لهم إلى رأيِه، وحَذرًا من نِسبَتِهم له إلى التَّحكُّمِ والافتياتِ ، وقيل: فيه تعريضٌ بزيادةِ التَّريُّثِ فيما أضمَروه؛ لعَلَّهم يرَوْن الرُّجوعَ عنه أولى مِن تَنفيذِه .

6- قال الله تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ في هذا دليلٌ على أنَّ توبةَ القاتلِ مقبولةٌ؛ لأنَّ الله تعالى لم ينكرْ هذا القولَ منهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ

- قولُه: آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ فيه جمعُ الآياتِ، وهو هنا مُراعًى فيه تَعدُّدُها، وتعدُّدُ أنواعِها؛ ففي قصَّةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ دَلائلُ على ما للصَّبرِ وحُسنِ الطَّوِيَّةِ مِن عواقبِ الخيرِ والنَّصرِ، أو على ما للحسَدِ والإضرارِ بالنَّاسِ مِن الخيبةِ والاندِحارِ والهُبوطِ

.

2- قولُه تعالى: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

- قَولُه: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أفادَت لامُ الابتداءِ في لَيُوسُفُ التَّأكيدَ والتَّحقيقَ لمضمونِ الجملةِ؛ أي: أرادوا أنَّ زِيادةَ مَحبَّتِه وكثرةَ حبِّه لهما ثابتٌ، لا شُبهةَ فيه .

- وخَصُّوا يوسفَ عليه السَّلامُ بالأُخوَّةِ، فقالوا: وَأَخُوهُ؛ لأنَّه كان شَقيقَه، وكان بقيَّةُ إخوتِه إخوةً للأبِ ، ولم يَذكُروه باسمِه؛ إشعارًا بأنَّ محبةَ يعقوبَ عليه السلامُ له لأجلِ شقيقِه يوسفَ عليه السلامُ، ولذا لم يتعرَّضوه بشيءٍ مما أُوقِع بيوسفَ عليه السلامُ .

- وجملةُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ في موضعِ الحالِ، والمقصودُ مِن هذه الحالِ: التَّعجُّبُ مِن تَفْضيلِهما في الحبِّ في حالِ أنَّ رجاءَ انتِفاعِه مِن إخوَتِهما أشَدُّ مِن رَجائِه مِنهما .

- وجملةُ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ تعليلٌ للتَّعجُّبِ المستفادِ مِن جملةِ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، وتفريعٌ عليها .

3- قولُه تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ

- جملةُ: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ الكلامَ المتقدِّمَ يُثيرُ سُؤالًا في نُفوسِ السَّامِعين عن غرَضِ القائِلين ممَّا قالوه، فهذا المقصودُ للقائِلين، وإنَّما جعَلوا له الكلامَ السَّابِقَ كالمقدِّمةِ؛ لِتَتأثَّرَ نفوسُ السَّامعينَ، فإذا أُلْقِي إليها المطلوبُ كانت سريعةَ الامتثالِ إليه .

- وتنكيرُ أَرْضًا وإخلاؤُها مِن الوصفِ يُفيدُ الإبهامَ؛ أي: أرضًا مَنكورةً مجهولةً بعيدةً مِن العُمرانِ .

- قولُه: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا... فيه إيثارُ الخطابِ في لَكُمْ وما بَعدَه؛ للمُبالَغةِ في حَمْلِهم على القَبولِ؛ فإنَّ اعتِناءَ المرءِ بشأنِ نفْسِه، واهتمامَه بتحصيلِ مَنافِعِه أتَمُّ وأكمَلُ .

- وقولُه: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ فيه ذِكرُ الوجهِ لِتَصويرِ معنى إقبالِه عليهم؛ لأنَّ مَن أقبَل عليك صرَف وجْهَه إليك، وفيه كِنايةٌ عن خُلوصِ مَحبَّتِه لهم دونَ مُشارِكٍ .

- قولُه: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ فيه التَّعبيرُ بـ قَوْمًا دونَ الاكتفاءِ بـ صَالِحِينَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ صَلاحَ الحالِ صِفةٌ متمكِّنةٌ فيهم؛ كأنَّه مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم .

4- قولُه تعالى: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ

- قولُه: لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيث لم يَقُلْ: (لا تَقْتُلوه)-؛ استِجْلابًا لِشفَقتِهم عليه، أو استِعْظامًا لقَتلِه .

- قولُهم: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ في قولِه: بَعْضُ مِن الإبهامِ؛ لتحقيقِ ما يتَوخَّاه مِن ترويجِ كَلامِه بموافَقتِه لغرَضِهم الَّذي هو تَنائي يوسُفَ عنهم، بحيث لا يُدرَى أثرُه، ولا يُروَى خبَرُه

.================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (11-14)

ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ

غريب الكلمات:

 

ﮋيَرْتَعْﮊ: أي: يأكلْ ويَنعَمْ، وأصلُ (رتع): يدل على الاتِّساعِ في المأكَلِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى عن طلبِ إخوةِ يوسُفَ من أبيهم أن يأذنَ في خروجِ يوسفَ معهم، وذلك بعدَ اتِّفاقِهم على إبعادهِ، وأنهم قالوا لأبيهم: يا أبانا ما لك لا تأمَنُنا على يوسُفَ مع أنَّه أخونا، ونحن نُريدُ له الخيرَ، ونُشفِقُ عليه ونرعاه، ونخُصُّه بخالِصِ النُّصحِ؟ أرسِلْه معنا غدًا يأكُلْ ويَنشَطْ ويَفرحْ، ويلعَبْ بالاستِباقِ ونحوِه، وإنَّا لحافِظونَ له من كلِّ ما تخافُ عليه. قال يعقوبُ: إنِّي لَيؤلِمُ نفسي ذهابُكم به، ومُفارقتُه لي، وأخشى أن يأكُلَه الذِّئبُ وأنتم عنه غافِلونَ، فقال إخوةُ يوسُفَ لوالِدِهم: لئنْ أكَلَه الذِّئبُ ونحن جماعةٌ قويَّةٌ، إنَّا إذًا لخاسِرونَ، لا خيرَ فينا، ولا نَفعَ يُرْجَى منَّا.

تفسير الآيات:

 

قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تقرَّرَ في أذهانِ إخوةِ يوسُفَ التَّفريقُ بين يوسُفَ وأبيه، أعمَلوا الحِيلةَ على يعقوبَ، وتلطَّفوا في إخراجِه معهم، وذَكَروا نُصحَهم له، وما في إرسالِه معهم مِن انشراحِ صَدرِه بالارتِعاءِ واللَّعِب، وذكَروا حِفظَهم له ممَّا يَسوءُه

.

قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ.

أي: قال إخوةُ يوسُفَ لأبيهم يعقوبَ عليه السَّلامُ، وقد عزموا على إلقاءِ يوسُفَ في قَعرِ البِئرِ: يا أبانا لمَ تخافُ منَّا على يوسُفَ، فلا تأمَنُنا عليه ؟!

وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ.

أي: وإنَّا لناصِحونَ ليوسُفَ بالحِفظِ والرِّعايةِ والنَّفعِ له .

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12).

مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا نَفَوا عن أنفُسِهم التُّهمةَ المانِعةَ مِن عدَمِ إرسالِه معهم، ذَكَروا له مِن مَصلحةِ يوسُفَ وأُنسِه- الذي يُحبُّه أبوه له- ما يقتضي أن يسمَحَ بإرسالِه معهم، فقالوا :

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ نَرْتَعِ وَنَلْعَبْ بالنونِ فيهما، وكسرِ العينِ في نَرْتَعِ؛ بإخبارِ إخوةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ عن أنفُسِهم .

2- قراءةُ يَرْتَعِ وَيَلْعَبْ بالياءِ فيهما، وكسرِ العينِ في يَرْتَعِ ؛ بإسنادِ الفِعلِ إلى يوسُفَ، والإخبارِ بذلك عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

وقراءةُ نَرْتَعِ ويَرْتَعِ بكسرِ العينِ فيهما، مِن الرعي، على معنَى: يَرتعِي ماشيتَنا، قيل: ليتدربَ على الرعيِ وحفظِ المالِ، أو مِن الرعايةِ، وهي الحفظُ، على معنَى: نرعَى ويحرسُ بعضُنا بعضًا .

3- قراءةُ نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ بالنُّونِ فيهما؛ بإخبارِ إخوةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ عن أنفُسِهم .

4- قراءةُ يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ بالياءِ فيهما؛ بإسنادِ الفِعلِ إلى يوسُفَ، والإخبارِ بذلك عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

والمعنَى على هاتينِ القراءتينِ: نَرْتَعْ ويَرْتَعْ بسكونِ العينِ فيهما- هو: اللهوُ والاتساعُ في أكلِ الفواكهِ وغيرِها .

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ.

أي: ابعَثْه معَنا غدًا يأكُلْ ويَلْهُ، ويتنَزَّهْ في البرِّيَّة، وينشَطْ ويلعَبْ .

وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.

أي: وإنَّا لحافِظونَ ليوسُفَ، وسنَحميه من أن ينالَه مَكروهٌ أو أذًى .

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13).

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ.

أي: قال يعقوبُ لأولادِه: إنِّي ليَحزُنُني ذَهابُكم بيوسُفَ إلى البَرِّيَّة، ويشُقُّ عليَّ غيابُه عنِّي .

وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ.

أي: وأخافُ أن يأكُلَه الذِّئبُ، وأنتم مَشغولونَ عنه، لا تَشعرونَ بذلك .

قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ (14).

أي: قالوا لأبيهم: لَئِن أكلَ الذِّئبُ يوسُفَ، والحالُ أنَّنا جماعةٌ معه، ولم نستَطِعْ حِفظَه من الذِّئبِ- إنَّا إذًا لعَجَزةٌ هالِكونَ، لا خيرَ فينا، ولا نفعَ منَّا

 

.

الفوائد التربوية:

 

قولُ الله تعالى: قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ إنَّما ذكَرَ يعقوبُ عليه السَّلامُ أنَّ ذَهابَهم به غدًا يُحدِثُ به حُزنًا مُستقبلًا؛ ليصرِفَهم عن الإلحاحِ في طلَبِ الخُروجِ به؛ لأنَّ شأنَ الابنِ البارِّ أن يتَّقيَ ما يَحزُنُ أباه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ في هذا القَولِ الذي تواطَؤوا عليه عند أبيهم عبرةٌ مِن تواطُؤِ أهلِ الغرَضِ الواحِدِ على التحَيُّلِ لنَصبِ الأحابيلِ لتَحصيلِ غرَضٍ دَنيءٍ

.

2- في قَولِهم: مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا دليلٌ على أنَّهم تقدَّمَ منهم سؤالٌ في أن يَخرُجَ معهم، وذكروا سبَبَ الأمنِ وهو النُّصحُ، أي: لمَ لا تأمَنُنا عليه، وحالتُنا هذه؟ والنُّصحُ دليلٌ على الأمانة؛ ولهذا قُرِنَا في قَولِه: نَاصِحٌ أَمِينٌ الأعراف: 68، وكان قد أحَسَّ منهم قبلُ ما أوجبَ ألَّا يأمَنَهم عليه .

3- قولُهم: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ في لَفْظةِ: أَرْسِلْهُ دليلٌ على أنَّ يعقوبَ عليه السلامُ كان يُمسِكُه، ويَصحَبُه دائمًا .

4- قال تعالى حكايةً لِقَولِ إخوةِ يوسُفَ: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فعَلَّلوا طَلَبَه، والخروجَ به، بما يمكِنُ أن يستهويَ يوسُفَ لِصِباه؛ من الرُّتوعِ، واللَّعِب، والنَّشاطِ .

5- قيل: قد صدَّقَت هذه القِصَّةُ المَثَلَ السَّائرَ، وهو قولُهم: (البَلاءُ مُوكَّلٌ بالمَنطِقِ)؛ فإنَّ يعقوبَ عليه السَّلامُ قال في حقِّ يوسُفَ: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، فابْتُلِيَ مِن ناحيةِ هذا القولِ؛ لأنَّهم لم يَعْتَلُّوا على أبيهم إلا بالشيءِ نفسِه الذي سمِعوه يَنطِقُ به، لا غيرِه .

6- اقتَصَر إخوةُ يوسفَ على جوابِ خوفِ يعقوبَ عليه السَّلامُ مِن أكلِ الذِّئبِ بقولهم: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ؛ لأنَّه السَّببُ القويُّ في المنعِ، دونَ الحزنِ؛ لِقصَرِ مُدَّتِه، بِناءً على أنَّهم يأتون به عن قريبٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ

- قولُه: قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ سَوْقَ القِصَّةِ يَستَدعي تَساؤُلَ السَّامِعِ عمَّا جَرى بعدَ إشارةِ أخيهم عليهم، وهل رجَعوا عمَّا بَيَّتوا، وصمَّموا على ما أشار به أخوهم

.

- قولُه: قَالُوا يَا أَبَانَا فيه الخطابُ بنَسَبِ الأُبوَّةِ؛ تَحريكًا لِسلسلةِ النَّسَبِ بينَه وبينَهم، وتذكيرًا لِرابطةِ الأُخوَّةِ بينَهم وبينَ يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِيتَسبَّبوا بذلك إلى استِنْزالِه عليه السَّلامُ عن رأيِه في حِفْظِه منهم، لَمَّا أحَسَّ منهم بأماراتِ الحسَدِ والبغيِ .

- قولُه: مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ الاستفهامُ في مَا لَكَ مُستعمَلٌ في الإنكارِ على نفْيِ الائتمانِ .

- وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لَهُ على المبتَدَأِ لَنَاصِحُونَ؛ للقَصْرِ الادِّعائيِّ؛ جعَلوا أنفُسَهم لِفَرْطِ عِنايتِهم به بمَنزِلةِ مَن لا يَحفَظُ غيرَه، ولا يَنصَحُ غَيرَه .

2- قولُه تعالى: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ

- قولُه: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فيه التَّأكيدُ بإيرادِ الجملةِ اسميَّةً، وتَحلِيَتِها بـ (إنَّ) واللَّامِ، وإسنادُ الحفظِ إلى كلِّهم، وتقديمُ لَهُ على الخبَرِ؛ احتِيالًا في تَحصيلِ مَقصِدِهم .

3- قولُه تعالى: قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ

- قولُه: قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي فيه التَّأكيدُ بـ (إنَّ) واللَّامِ؛ لِقَطعِ إلحاحِهم بتَحْقيقِ أنَّ حُزنَه لفِراقِه ثابتٌ؛ تَنزيلًا لهم مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ ذلك، إذ رأى إلحاحَهم .

- قولُه: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ خصَّ الذِّئبَ؛ لأنَّه كان السَّبُعَ الغالِبَ على قُطْرِه، أو لصِغَرِ يُوسُفَ؛ فخاف عليه هذا السَّبُعَ الحقيرَ .

4- قولُه تعالى: قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ

- قولُه: قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ فيه التَّأكيدُ باللَّامِ الموطِّئةِ للقَسَمِ في لَئِنْ، و(إنَّ) ولامِ الابتداءِ، و(إذًا) الجوابيَّةِ في إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ؛ تحقيقًا لِحُصولِ خُسرانِهم على تقديرِ حُصولِ الشَّرطِ، والمرادُ: الكنايةُ عن عدَمِ تَفريطِهم فيه، وعن حِفظِهم إيَّاه؛ لأنَّ المرء لا يَرضى أن يوصَفَ بالخُسرانِ .

===========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (15-18)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

 

وَأَجْمَعُوا: أي: عَزَموا، وصمَّموا، يقالُ: أجْمَعتُ على كذا، بمعنَى: عزمتُ عليه، وأجْمَعْتُ كذا: أكثرُ ما يُقالُ فيما يكونُ جمعًا يُتوصَّلُ إليه بالفكرةِ، وأصلُ (جمع): يدلُّ على تضامِّ الشيءِ

.

نَسْتَبِقُ: أي: يسابقُ بعضُنا بعضًا في الرَّمْي، وقيل: نشتدُّ ونَعْدو؛ ليتبيَّنَ أيُّنا أسرعُ عَدْوًا، والاسْتِباقُ: التَّسابُقُ، وأصلُ (السبق): التقدُّمُ في السيرِ .

سَوَّلَتْ: أي: زيَّنَت وسَهَّلَت، والتَّسويلُ: تفعيلٌ مِن (السُّول)، وهو أمنيَّةُ الإنسانِ يتمنَّاها، فتُزَيِّنُ لطالِبِها الباطِلَ وغَيرَه مِن غرورِ الدُّنيا

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: فلمَّا ذهبَ إخوةُ يوسُفَ به، وأجمَعوا على إلقائِه في جَوفِ البِئرِ، فعَلوا به ما فعلوا من الأذى، ونفَّذوا ما يُريدونَ تنفيذَه بدونِ رَحمةٍ أو شفَقةٍ، وأوحَينا إلى يوسُفَ لتُخبِرَنَّ إخوتَك مُستقبَلًا بفِعلِهم هذا الذي فعَلوه بك، وهم لا يَعلَمونَ أنَّك أخوهم يوسُفُ، وجاء إخوةُ يوسُفَ إلى أبيهم في وقتِ العِشاءِ يَبكونَ، ويُظهِرونَ الأسفَ والجَزعَ، قالوا: يا أبانا إنَّا ذَهَبْنا نتسابَقُ، وترَكْنا يوسُفَ عند زادِنا وثيابِنا فأكَلَه الذِّئبُ، وما أنت بمُقِرٍّ ومُصَدِّقٍ لنا ولو كنَّا مَوصوفينَ بالصِّدقِ؛ لتُهمتِكَ لنا، وجاؤوا بقميصِه مُلطَّخًا بدَمٍ غيرِ دَمِ يوسُفَ؛ ليشهَدَ على صِدقِهم، فكان دليلًا على كَذِبِهم، فقال لهم أبوهم يعقوبُ عليه السَّلامُ: ما الأمرُ كما تقولونَ، بل زيَّنَت لكم أنفُسُكم الأمَّارةُ بالسُّوءِ أمرًا قبيحًا في يوسُفَ، فرأيتُموه حسَنًا وفعَلتُموه، فصبري صبرٌ جميلٌ لا شكوى معه لأحدٍ مِن الخَلقِ، وأستعينُ باللهِ على احتمالِ ما تَصِفونَ مِن الكَذِب، لا على حَولي وقوَّتي.

تفسير الآيات:

 

فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15).

فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ.

أي: فلما ذهب إخوةُ يوسُفَ به من عندِ أبيه، وأجمعوا رأيَهم وعزَموا على أن يُلقوه في قَعرِ البئرِ، قاموا بفعلِ ذلك

.

وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ.

أي: وأوحَينا إلى يوسُفَ لتُخبِرَنَّهم بفِعلِهم هذا الذي فعَلوه بك، وهم في حالٍ لا يعلمونَ فيها أنَّك أخوهم يوسُفُ .

وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16).

أي: وجاء إخوةُ يوسُفَ- بعدما ألقَوه في غيابةِ الجُبِّ- أباهم يعقوبَ في ظُلمةِ اللَّيلِ يتباكَونَ على يوسُفَ .

قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17).

قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ.

أي: قالوا مُعتَذرينَ كَذِبًا لأبيهم: يا أبانا إنَّا ذَهَبْنا نتسابَقُ ، وترَكْنا يوسُفَ عند أمتِعَتِنا، فأكَلَه الذِّئبُ، ونحن غائبونَ عنه .

وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ.

أي: وما أنت بمُقِرٍّ ومُصَدِّقٍ لقَولِنا هذا، ولو كنَّا عندَك مِن أهلِ الصدقِ؛ لسوءِ ظَنِّكَ بنا، وتُهمتِكَ لنا .

وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18).

وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ.

أي: وأتَوا بقَميصِ يوسُفَ مُتلَطِّخًا بدَمٍ مكذوبٍ، يزعُمونَ أنَّه دمُ يوسُفَ حين أكَلَه الذِّئبُ .

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا.

أي: قال يعقوبُ مُكَذِّبًا لأولادِه فيما زعَموا مِن أكلِ الذِّئبِ ليوسُفَ: ليس الأمرُ كما ادَّعيتُم، بل زيَّنَت لكم أنفُسُكم أمرًا في شأنِ يوسُفَ غيرَ ما تَصِفونَ .

فَصَبْرٌ جَمِيلٌ.

أي: فصَبري على ما فعَلْتُم بيوسُفَ صبرٌ جَميلٌ، لا جزعَ فيه، ولا شكوَى إلى الخَلقِ .

وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.

أي: وباللهِ أستعينُ على ما تذكُرونَ مِن الكَذِبِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ الحذَرُ مِن شُؤمِ الذُّنوبِ، وأنَّ الذَّنبَ الواحِدَ يستَتبِعُ ذنوبًا متعدِّدةً، ولا يتِمُّ لفاعِلِه إلَّا بعدَّةِ جرائِمَ؛ فإخوةُ يوسُفَ عليه السَّلامُ لَمَّا أرادوا التَّفريقَ بينه وبين أبيه، احتالوا لذلك بأنواعٍ مِن الحِيَلِ، وكذَبوا عدَّةَ مرَّاتٍ، وزوَّروا على أبيهم في القَميصِ والدَّمِ الذي فيه، وفي إتيانِهم عِشاءً يَبكونَ، ولا تَسْتَبْعِد أنَّه قد كثر البَحْث فيها في تلك المدة؛ بل لَعَلَّ ذلك اتَّصَل إلى أن اجْتَمَعوا بيُوسُف، وكُلَّما صار البَحْثُ، حَصَلَ مِن الإخبارِ بالكَذِب والافْتِراء ما حَصَل، وهذا شُؤْمُ الذَّنْبِ، وآثارُه التَّابِعَة والسَّابِقَة واللَّاحِقَة

.

2- قولُه تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فيه أنَّ النَّظرَ إلى الغاياتِ المحبوبةِ يُهَوِّنُ المشاقَّ المُعترِضةَ في وسائِلِها، فمتى علِمَ العبدُ عاقبةَ الأمرِ، وما يَؤُولُ إليه مِن خيرِ الدُّنيا والآخرةِ، هانت عليه المشقَّةُ، وتسلَّى بالغايةِ؛ فالله تعالى أوحَى إلى يوسُفَ في هذه الحالِ المُزعِجةِ أنَّ الأمرَ سيكونُ إلى خيرٍ وسَعةٍ، وبعد هذه الإهانةِ الصادرةِ مِن إخوتِك لك، ستكونُ لك الأثَرةُ عليهم، والعاقبةُ الحميدةُ، وفي هذا من اللُّطفِ والتَّسليةِ وتخفيفِ البلاءِ ما هو مِن أعظمِ نِعَمِ  اللهِ على العبدِ؛ ولهذا المعنى الجليلِ يُذَكِّرُ اللهُ عبادَه عند المشاقِّ والأمورِ المُزعِجة ما يترتَّبُ على ذلك من الثَّوابِ والخيرِ والطَّمعِ في فَضلِه؛ قال تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ النساء: 104.

3- قولُ الله تعالى: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ المعنى أنَّ إقدامَ يعقوبَ عليه السَّلامُ على الصَّبرِ لا يُمكِنُ إلَّا بمعونةِ الله تعالى؛ لأنَّ الدَّواعيَ النَّفسانيَّةَ تدعوه إلى إظهارِ الجزَعِ، وهي قويَّةٌ، والدَّواعيَ الرُّوحانيَّةَ تدعوه إلى الصَّبرِ والرِّضا، فكأنَّه وقعت المحاربةُ بين الصِّنفينِ، فما لم تحصُلْ إعانةُ الله تعالى لم تحصُل الغلَبةُ، فقَولُه: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يجري مجرى قَولِه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ الفاتحة: 5، وقولُه: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ يجري مجرى قولِه: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ الفاتحة: 5.

4- العبدُ مُحتاجٌ إلى الاستعانةِ بالله في فِعلِ المأموراتِ، وفي تَركِ المحظوراتِ، وفي الصَّبرِ على المقدوراتِ، كما في قولِ يعقوبَ عليه السَّلامُ لبَنيه: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ، ففيه ما يَنْبغي استعمالُه عندَ المصائبِ، وهو الصبرُ الجميلُ، والاستعانةُ باللهِ، وأنَّ التكلُّمَ بذلك حسنٌ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ دَلالةٌ على أنَّه ليس كلُّ مَن أُوحِيَ إليه الوحيَ العامَّ يكونُ نبيًّا؛ فإنَّه قد أُوحِيَ إلى يوسُفَ وهو صغيرٌ، كما أنَّه قد يُوحَى إلى غيرِ النَّاسِ؛ قال تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ

النحل: 68.

2- قَولُ الله تعالى: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ إنَّما جاؤوا عِشاءً؛ ليكونَ أقدرَ على الاعتذارِ في الظُّلمةِ؛ ولذا قيل: لا تَطلُبِ الحاجةَ باللَّيلِ؛ فإنَّ الحياءَ في العينَينِ، ولا تعتَذِرْ في النَّهارِ مِن ذنبٍ؛ فتَتلجلَجَ في الاعتذارِ ، وأيضًا جاؤوا عِشاءً؛ ليكون إتْيانُهم مُتَأَخِّرًا عن عادَتِهم، وأتَوْا باكِين؛ ليكون بُكاؤُهم دَلِيلًا لهم، وقَرينَةً على صِدْقِهم .

3- قولُ الله تعالى: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ هذه الآيةُ دليلٌ على أنَّ بُكاءَ المرءِ لا يدلُّ على صِدقِ مَقالِه؛ لاحتمالِ أن يكونَ تصنُّعًا، فمِن الخَلقِ مَن يقدِرُ على ذلك، ومنهم من لا يقدِرُ ، فمِن فوائدِ الآيةِ عدمُ الاغترارِ ببكاءِ الخصمِ، وعدمُ الاغترارِ بزخرفِ القولِ .

4- قولُ الله تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ فيه مشروعيَّةُ المُسابَقةِ .

5- قولُ الله تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ فيه من الطِّبِّ: رياضةُ النَّفسِ والدوابِّ، وتمرينُ الأعضاءِ على التصَرُّفِ .

6- قولُهم: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ تلطُّفٌ عَظيمٌ في تقريرِ ما يُحاوِلونَه؛ يقولون: ونحن نعلمُ أنَّك لا تصَدِّقُنا- والحالةُ هذه- لو كنَّا عندك صادقينَ، فكيف وأنت تتَّهِمُنا في ذلك؛ لأنَّك خَشيتَ أن يأكُلَه الذِّئبُ فأكَلَه الذِّئبُ، فأنت معذورٌ في تكذيبِك لنا؛ لِغَرابةِ ما وقع، وعجيبِ ما اتَّفقَ لنا في أمْرِنا هذا .

7- قولُ الله تعالى: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فيه إعمالُ الأماراتِ والحُكمُ بها، والآيةُ أصلٌ في الحُكمِ بالقرائِنِ، لكنْ محَلُّ العمَلِ بالقَرينةِ ما لم تُعارِضْها قرينةٌ أقوى منها، فإن عارَضَتْها قرينةٌ أقوى منها أبطَلَتْها؛ فأولادُ يعقوبَ لَمَّا جعلوا يوسُفَ في غيابةِ الجُبِّ، جعلوا على قَميصِه دَمًا؛ ليكونَ وجودُ الدَّمِّ على قميصِه قَرينةً على صِدقِهم في دعواهم أنَّه أكَلَه الذِّئبُ، ولا شَكَّ أنَّ الدَّمَ قرينةٌ على افتِراسِ الذِّئبِ له، ولكِنَّ يعقوبَ أبطَلَ قَرينتَهم هذه بقرينةٍ أقوى منها، وهي عدَمُ شَقِّ القَميصِ؛ ولذا صَرَّحَ بتكذيبِه لهم في قَولِه: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ فيجِبُ على النَّاظِرِ أن يلحَظَ القرائِنَ والأماراتِ والعَلاماتِ إذا تعارَضَت، فما ترجَّحَ منها قضَى بجانِبِ التَّرجيحِ .

8- قولُ الله تعالى: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فيه أنَّ سُوءَ الظَّنِّ مع وجودِ القَرائنِ الدَّالَّةِ عليه غيرُ ممنوعٍ ولا محَرَّمٍ .

9- قال الله تعالى: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ إنَّما لم يصَدِّقْ يعقوبُ بنيه حين قالوا: أكَلَه الذِّئبُ، وعَمِلوا تلك القرائِنَ المُبَرِّرة لقولِهم؛ لأنَّ المعلومَ لا يُعارِضُه الشَّكُّ والوَهمُ، فإنَّه قد علم برؤيا يوسُفَ- وربَّما بغيرِها- ما يَؤولُ إليه حالُ يوسُفَ؛ مِن تمامِ النِّعمةِ التي تشمَلُه وتشمَلُ آلَ يعقوبَ .

10- في قولِه تعالى: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ أنَّه لا ينبغي أن يُغتَرَّ بمُجرَّدِ صُورةِ القرائنِ، فكم حصلَ بمثل هذه التَّمويهاتِ مِن الاغترارِ وقلبِ الحقائقِ؛ لهذا كان الأذكياءُ يجعلونَ كلَّ احتمالٍ على بالهم، وينظُرونَ إلى الأمورِ مِن جميعِ جِهاتِها ونواحيها .

11- قال الله تعالى حكايةً عن يعقوبَ: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ، إنما فوَّض يعقوبُ- عليه السلام- الأمرَ إلى الله، ولم يسْعَ للكشفِ عن مصيرِ يوسفَ عليه السلامُ؛ لأنَّه علِم تعذرَ ذلك عليه؛ لكبرِ سنِّه، ولأنَّه لا عضدَ له يستعينُ به على أبنائِه أولئك، وقد صاروا هم الساعين في البعدِ بينَه وبينَ يوسفَ عليه السلامُ، فأيِس مِن استطاعةِ الكشفِ عن يوسفَ- عليه السلامُ- بدونِهم، ألا ترَى أنَّه لما وجَد منهم فرصةً قال لهم: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ يوسف: 87.

12- في قولِه تعالى عن يعقوبَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ مع قَولِه سُبحانه عنه: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ يوسُف: 86 أنَّ الشَّكوى إلى اللهِ لا تُنافي الصَّبرَ الجميلَ .

13- ذكَرَ اللهُ في القرآن: الصَّبرَ الجَميلَ، والصَّفحَ الجَميلَ، والهَجرَ الجَميلَ؛ فالصَّبرُ الجَميلُ: الذي لا شكوَى معه إلى المخلوقِ، والهَجرُ الجَميلُ: الذي لا أذى معه، والصَّفحُ الجَميلُ: الذي لا عِتابَ معه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

- تفريعُ حكايةِ الذَّهابِ به، والعَزْمِ على إلْقائِه في الجُبِّ، على حِكايةِ المحاوَرةِ بينَ يعقوبَ عليه السَّلامُ وبَنيه في مُحاوَلةِ الخروجِ بيوسُفَ عليه السَّلامُ إلى الباديةِ، يُؤذِنُ بجُمَلٍ محذوفةٍ، فيها ذِكرُ أنَّهم ألَحُّوا على يعقوبَ عليه السَّلامُ حتَّى أقنَعوه، فأَذِن ليوسُفَ عليه السَّلامُ بالخروجِ معَهم، وهو إيجازٌ

.

- وجملةُ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا بيانٌ لجملةِ أَوْحَيْنَا، وأُكِّدَت باللَّامِ ونونِ التَّوكيدِ؛ لتحقيقِ مَضمونِها، سواءٌ كان المرادُ منها الإخبارَ عن المستقبَلِ، أو الأمرَ في الحالِ .

2- قولُه تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ

- قولُهم: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا خبَرٌ مستعمَلٌ في لازِمِ الفائدةِ، أي: إنَّ المتكلِّمَ عَلِم بمَضمونِ الخبَرِ، وهو تعريضٌ بأنَّهم صادِقون فيما ادَّعَوْه؛ لأنَّهم يَعلَمون أباهم لا يُصدِّقُهم فيه، فلم يَكونوا طامِعين بتَصْديقِه إيَّاهم .

3- قولُه تعالى: وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ

- قولُه: بِدَمٍ كَذِبٍ وُصِفَ الدَّمُ بالكذبِ مُبالَغةً، كأنَّه نفْسُ الكَذِبِ وعَينُه، كما يُقالُ للكذَّابِ: هو الكَذِبُ بعَينِه، والزُّورُ بذاتِه ، أو معناه (ذِي كَذِبٍ) .

- قولُه: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا التَّعبيرُ بحرفِ الإضرابِ بَلْ يُفيدُ إبطالَ دَعْواهم أنَّ الذِّئبَ أكَلَه؛ فقد صَرَّح لهم بكَذِبِهم .

- وتنكيرُ أَمْرًا للتَّهويلِ .

- وقولُه: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ نائبٌ مَنابَ: اصْبِرْ صبرًا جَميلًا، وعُدِلَ به عن النَّصبِ إلى الرَّفعِ؛ للدَّلالةِ على الثَّباتِ والدَّوامِ .

- قولُه: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ فيه التَّعبيرُ عمَّا أصاب يوسُفَ عليه السَّلامُ بـ مَا تَصِفُونَ وهو في غايةِ البلاغةِ؛ لأنَّه كان واثِقًا بأنَّهم كاذِبون في الصِّفةِ، وواثِقًا بأنَّهم ألحَقوا بيوسُفَ عليه السَّلامُ ضُرًّا، فلمَّا لم يتَعيَّنْ عِندَه المُصابُ أجْمَل التَّعبيرَ عنه إجمالًا مُوجَّهًا؛ لأنَّهم يَحسَبون أنَّ ما يَصِفونه هو موتُه بأكْلِ الذِّئبِ إيَّاه، ويعقوبُ عليه السَّلامُ يُريدُ أنَّ ما يَصِفونه هو المصابُ الواقِعُ، الَّذي وصَفوه وصْفًا كاذِبًا .

====================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (19-21)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

غريب الكلمات:

 

وَارِدَهُمْ: الذي يتقَدَّمُهم إلى الماءِ ليَستقيَ لهم، وأصلُ (ورد): يدلُّ على المُوافاةِ إلى الشَّيءِ

.

فَأَدْلَى دَلْوَهُ: أي: أرسَلَها، والدَّلوُ: إناءٌ مَعروفٌ يُوضَعُ فيه الماءُ، وأصلُ (دلى): يدُلُّ على مُقاربةِ الشَّيءِ، ومُداناتِه بسُهولةٍ ورِفقٍ .

وَأَسَرُّوهُ: أي: أخْفَوه، وأصلُ (سرَّ): يدُلُّ على إخفاءِ الشَّيءِ .

بِضَاعَةً: البِضاعةُ: القِطعةُ مِن المالِ تُجعَلُ للتِّجارةِ؛ مِن: بَضَعتُ الشَّيءَ: إذا قَطَعْتَه، وأصل (بضع): يدلُّ على الطَّائفةِ مِن الشَّيءِ عُضْوًا أو غيرَه .

وَشَرَوْهُ: أي: باعُوه، يُقالُ: شَرَيتُ الشَّيءَ: إذا بِعتَه وإذا اشتَرَيتَه، فهو مِن الأضدادِ، وهو بمعنَى (بعتُ) أكثرُ .

بَخْسٍ: أي: ناقصٍ، وقيل: بَخْسٍ: بمعنى مَبْخُوس أي: منقوصٍ، والبَخْسُ والبَاخِسُ: الشيء الطفيف الناقص، يُقَال: بخسه حَقَّه إِذا نقَصه، وأصلُ البخسِ: نقصُ الشيءِ على سبيلِ الظُّلمِ .

مَثْوَاهُ: أي: منزلَه ومقامَه، وأصلُ (ثوي): إقامة

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مخبرًا عمَّا جرَى ليوسفَ عليه السَّلامُ بعدَ إلقاءِ إخوتِه له في الجُبِّ: وجاءت جماعةٌ مِن المُسافرينَ فأرسَلوا مَن يطلُبُ لهم الماءَ، فلمَّا أرسَلَ دَلْوَه في البئرِ تعلَّقَ بها يوسُف، فقال ذلك الوارِدُ: يا بُشرايَ هذا غلامٌ نَفيسٌ، وأخفَى السيارةُ أمرَ يوسُفَ، وجعَلوه بضاعةً وعزَموا على بيعِه، واللهُ عليمٌ بما يَعمَلونَه بيوسُفَ، وباعه السيارةُ بثَمَنٍ قليلٍ مِن الدَّراهمِ، وكانوا زاهدينَ فيه، راغبينَ في التخَلُّصِ منه، ولَمَّا ذهب المُسافِرونَ بيوسُفَ إلى «مصر» اشتَراه منهم عزيزُها- وهو الوزيرُ- وقال لامرأتِه: أحسِني مُعامَلتَه، واجعلي مَقامَه عندنا كريمًا؛ لعلَّنا نستفيدُ مِن خِدمتِه، أو نُقيمُه عندنا مقامَ الولَدِ.

وكما أنجَينا يوسُفَ مِن الجُبِّ، وجَعَلْنا عزيزَ «مصر» يَعطِفُ عليه، فكذلك مكَّنَّا له في أرضِ «مِصرَ»، وجعَلْناه على خزائِنِها، ولِنُعَلِّمَه تفسيرَ الرُّؤى، ومعاني كتُبِ الله وسُنَن الأنبياءِ، واللهُ غالِبٌ على أمرِه، فحُكمُه نافِذٌ لا يُبطِلُه مُبطِلٌ، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلمونَ أنَّ الأمرَ كُلَّه بيَدِ اللهِ.

تفسير الآيات:

 

وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا أراد اللهُ تعالى خَلاصَ يوسُفَ عليه السَّلامُ من الجُبِّ، بيَّنَ سَبَبه بقَولِه تعالى

:

وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ.

أي: وجاءت جَماعةٌ مارَّةٌ في الطَّريقِ مِن المُسافرينَ، فأرسلوا مُقدَّمَهم الَّذي يَرِدُ الماءَ ليَسْتَقيَ لهم، فأرسلَ دَلوَه في البئرِ ليَملأَها، فتعلَّقَ يوسُفُ بالدَّلوِ وخرَج .

قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ.

أي: قال واردُهم حين رأى يوسُفَ: أبْشِروا، هذا غُلامٌ .

وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً.

أي: وأخْفَى السيارةُ أمْرَ يوسُفَ، وجعَلوه بِضاعةً مِن جُملةِ تجارتِهم، وعزَمُوا على بيعِه .

وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ.

أي: واللهُ عليمٌ بما يعمَلُون بيوسُفَ ، ولكِنَّه ترَكَ تغييرَ ذلك؛ ليَمضيَ فيه وفيهم قَدَرُه السَّابِقُ في عِلمِه، وذلك بحسَبِ ما اقتضَتْه حِكمتُه سُبحانَه .

وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20).

وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ.

أي: وباع السيارةُ يوسُفَ بثَمَنٍ منقوصٍ؛ دراهِمَ قليلةٍ مَعدودةٍ غيرِ وافيةٍ .

وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ.

وكان السيارةُ في يوسُف مِن الرَّاغبينَ عنه .

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21).

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ.

أي: وقال الذي اشترى يوسُفَ مِن بائِعِه بمصرَ لامرأتِه: أكرمي مَنزِلَه ومُقامَه عِندَك .

عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا.

أي: عسى أن يَكفيَنا يوسُفُ بعضَ أمورِنا، أو نجعَلَه ولدًا لنا بالتبنِّي .

وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ.

أي: وكما أنقَذْنا يوسُفَ مِن إخوتِه، وأخرَجْناه مِن الجُبِّ، وصيَّرناه إلى الكَرامةِ والمَنزِلةِ الرَّفيعةِ عندَ عزيزِ مِصرَ، كذلك مكَّنَّا له في أرضِ مِصرَ، حتى بلغ فيها ما بلغَ .

وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ.

أي: ولنُعَلِّمَ يوسُفَ مِن تعبيرِ الرُّؤى- التي يراها النَّاسُ في منامِهم- ومعاني كتُبِ الله، وسُنَنِ الأنبياءِ، مكَّنَّا له في الأرضِ .

وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ.

أي: واللهُ غالِبٌ على أمرِه سبحانَه ، يفعَلُ ما يشاءُ، فلا يُرَدُّ أمرُه ولا يُمانَعُ، ولا يُنازَعُ فيما أرادَه ، ومِنْ ذلك ما يتعلَّقُ بيوسُفَ عليه السَّلامُ مِنَ الأمورِ الَّتي أرادَها اللَّهُ سبحانَه في شأنِه .

كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ الرعد: 41.

وقال سُبحانه: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ البروج: 16.

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلمونَ أنَّ اللهَ غالِبٌ على أمرِه، وأنَّ تدبيرَ الأمورِ بيَدِه، ولا يَدرُونَ حِكمَتَه في خَلقِه، وتلَطُّفَه لِما أراد سُبحانَه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ هذا وإن كان خبرًا مِن اللهِ- تعالى ذِكرُه- عن يوسُفَ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّه تذكيرٌ مِن اللهِ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتسليةٌ منه له عمَّا كان يَلقَى مِن أقربائِه وأنسِبائِه المُشرِكينَ مِن الأذى فيه، يقولُ له: فاصبِرْ يا محمَّدُ على ما نالَك في الله؛ فإنِّي قادِرٌ على تغييرِ ما ينالُك به هؤلاء المُشرِكونَ، كما كنتُ قادرًا على تغييرِ ما لَقِيَ يوسُفُ مِن إخوتِه في حالِ ما كانوا يفعَلونَ به ما فَعَلوا، ولم يكُنْ تَركي ذلك لهوانِ يوسُفَ عليَّ، ولكِنْ لماضي عِلمي فيه وفي إخوتِه، فكذلك تَرْكي تغييرَ ما ينالُك به هؤلاء المُشرِكونَ؛ لِغيرِ هوانٍ بك عليَّ، ولكِنْ لسابقِ عِلمي فيك وفيهم، ثمَّ يصيرُ أمرُك وأمرُهم إلى علُوِّك عليهم، وإذعانِهم لك، كما صار أمرُ إخوةِ يوسُفَ إلى الإذعانِ ليوسُفَ بالسُّؤدَدِ عليهم، وعلُوِّ يوسُفَ عليهم

.

2- من بُلِيَ وهو من أهلِ الخيرِ والصَّلاحِ بشَيءٍ مِن الأذى والمكرِ، فليتَّقِ اللهَ ويستعِنْ به ويصبِرْ؛ فإنَّ العاقبةَ للتَّقوى، كما قال تعالى بعد أن قَصَّ قِصَّةَ يوسُفَ وما حصل له من أنواعِ الأذى بالمَكرِ والمُخادعة: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، وقال تعالى حكايةً عنه أنَّه قال لإخوتِه: أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يوسُف: 90 الآية. وقال تعالى في قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ وما حصلَ له ولقَومِه مِن أذى فرعونَ وكيدِه، قال لقَومِه: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الأعراف: 128، وقد أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ المكرَ يعودُ وَبالُه على صاحِبِه، وقال تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فاطر: 43 وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا... الآية الأنعام: 123. والواقِعُ يشهَدُ بذلك؛ فإنَّ مَن سَبَرَ أخبارَ النَّاسِ، وتواريخَ العالَم، وقَف من أخبارِ مَن مكَرَ بأخيه فعاد مَكرُه عليه، وكان ذلك سببًا لنَجاتِه وسَلامتِه، على العجَبِ العُجابِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه تعالى: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ... استنبط الناسُ مِن هذه الآيةِ أحكامَ اللقيطِ؛ فأخذوا منها: أنَّ اللقيطَ يُؤخَذُ ولا يُتركُ. ومِن قولِه: هَذَا غُلَامٌ أنَّه كان صغيرًا، وأنَّ الالتقاطَ خاصٌّ به، فلا يُلتقَطُ الكبيرُ، وكذا قولُه: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ؛ لأنَّ ذلك أمرٌ يختصُّ بالصغارِ، ومِن قولِه: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ أنَّ اللقيطَ يُحكَمُ بحريتِه

، وموضعُ الحجةِ مِن الآيةِ أنَّ اللقيطَ لو كان مملوكًا لمن التقَطه، لما احْتاجُوا إلى شرائِه ، وهذا على القولِ بأنَّ الذين باعوه إنَّما هم إخوتُه.

2- مِنْ عَجائبِ الجَزاءِ في الدُّنْيا أنَّه لَمَّا امتدَّتْ أَيْدِي الظُّلمِ مِن إخْوَةِ يُوسفَ: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ امتدَّتْ أَكُفُّهُم بين يَدَيْه بالطَّلَبِ يقولُونَ: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا يوسف: 88.

3- قولُ الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا فيه أنَّ الشَّيءَ إذا تداوَلَته الأيدي، وصار مِن جُملةِ الأموالِ، ولم يُعلَمْ أنَّه كان على غيرِ وَجهِ الشَّرعِ، أنَّه لا إثمَ على مَن باشَرَه ببيعٍ أو شِراءٍ، أو خِدمةٍ أو انتفاعٍ أو استعمالٍ .

4- قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ لم يبَيِّن القُرآنُ اسمَ الذي اشتَراه مِن السَّيَّارةِ في مصر ولا مَنصِبَه ولا اسمَ امرأتِه؛ لأنَّ القُرآنَ ليس كتابَ حَوادِثَ وتاريخٍ، وإنَّما قَصَصُه حِكَمٌ ومواعِظُ، وعِبَرٌ وتهذيبٌ .

5- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: (أفرس الناس ثلاثة: العزيز، حين قال لامرأته: أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا وبنت شعيب التي قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ القصص: 26 وأبو بكر، حين تفرَّس في عمر رضي الله عنها وولاه من بعده)

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

- قولُه: قَالَ يَا بُشْرَى مُستأنَفٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ ذِكْرَ إدْلاءِ الدَّلْوِ يُهيِّئُ السَّامِعَ للسُّؤالِ عمَّا جَرى حينَئذٍ فيَقَعُ جوابُه: قَالَ يَا بُشْرَى

.

- قولُه: قَالَ يَا بُشْرَى هذا النداءُ تنبيهٌ للمخاطبينَ وتوكيدٌ للقصةِ ؛ لأنَّ البشرَى لا تُجيبُ ولا تعقلُ، والمعنَى: أبْشِروا، ويا أيُّها البشرَى هذا مِن أوانِك، وقيل: إنَّ هذه الكلمةَ تُستعملُ للتبشيرِ مِن غيرِ قصدٍ إلى النداءِ .

- قولُه: مَعْدُودَةٍ أي: غيرِ موزونةٍ؛ فهو بَيانٌ لقِلَّتِه، ونُقصانِه مِقدارًا، بعدَ بيانِ نُقصانِه في نفسِه؛ إذِ المعتادُ فيما لا يَبلُغُ أربَعين العَدُّ دونَ الوزنِ ، وهو كِنايةٌ عن كَونِها قليلةً؛ لأنَّ الشَّيءَ القليلَ يَسهُلُ عَدُّه، فإذا كَثُر صار تَقديرُه بالوزنِ أو الكَيلِ، ويُقالُ في الكنايةِ عن الكَثرةِ: لا يُعَدُّ .

- قولُه: وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ فيه صَوْغُ الإخبارِ عن زَهادَتِهم في يوسُفَ عليه السَّلامُ بصِيغةِ مِنَ الزَّاهِدِينَ؛ وهي أشَدُّ مُبالَغةً ممَّا لو أخبَر بـ (كانوا فيه زاهِدين)؛ لأنَّ جَعْلَهم مِن فريقٍ زاهِدينَ يُنْبِئُ بأنَّهم جَرَوْا في زُهدِهم في أمثالِه على سَنَنِ أمثالِهم البُسَطاءِ الَّذين لا يُقدِّرون قدْرَ نَفائِسِ الأمورِ .

- وفيه تقديمُ المجرورِ: فِيهِ على عامِلِه الزَّاهِدِينَ؛ للتَّنويهِ بشَأنِ المزهودِ فيه، وللتَّنبيهِ على ضَعْفِ تَوسُّمِهم وبَصَارتِهم، معَ الرِّعايةِ على الفاصلةِ .

2- قولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

- قولُه: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ التَّمكينُ في الأرضِ هنا مرادٌ به ابتداؤه، وتقديرُ أوَّلِ أجزائِه، فيوسُفُ- عليه السَّلام- بحلولِه محَلَّ العِنايةِ مِن عزيزِ مِصرَ قد خُطَّ له مُستقبَلُ تَمكينِه من الأرضِ بالوجهِ الأتَمِّ الذي أُشيرَ له بقَولِه تعالى بعدُ: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ يوسف: 56، فما ذُكِرَ هنالك هو كرَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ ممَّا هنا، وهو تمامُه .

- قولُه: أَكْرِمِي مَثْواهُ مَثْواهُ: مَكانُ إقامَتِه، وهو كنايةٌ عن الإحسانِ إليه في مَأكَلٍ ومشرَبٍ وملبَسٍ

- قولُه: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا، (ذَلِكَ) إشارةٌ إلى ما يُفهَمُ من كلامِ العزيزِ، وما فيه مِن معنَى البُعدِ لتَفخيمِه، أي: مِثْلَ ذلك التَّمكينِ البديعِ .

- قولُه: وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ لعلَّ ترْكَ المعطوفِ عليه (وهو: ولِيَصِلَ إلى مَنصِبِ الرِّئاسةِ بسَببِ تأويلِه لرُؤيا الملِكِ)؛ للإشعارِ بعدَمِ كَونِه مُرادًا بالذَّاتِ، أو جعَلْناه عِلَّةً لِمُعلَّلٍ محذوفٍ، كأنَّه قيل: ولهذه الحكمةِ البالِغةِ فعَلْنا ذلك التَّمْكينَ دونَ غيرِها ممَّا ليس له عاقبةٌ حميدةٌ .

============================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (22-29)

ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ

غريب الكلمات:

 

بَلَغَ أَشُدَّهُ : أي: بلغ مُنْتهَى شَبابِه وقُوَّتِه، والأَشُدُّ قيل: جمعٌ لا واحدَ له، وقيل: مفردُه شَدٌّ، وأصلُ (شدد): يدلُّ على قوَّةٍ في الشَّيءِ

.

وَرَاوَدَتْهُ: أي: أرادَتْه على ما تُريدُ، والمُراوَدة: مُفاعَلةٌ مِن راد يَرودُ: إذا جاء وذهبَ، وهي عِبارةٌ عن التحَيُّلِ لِمُواقَعتِه إيَّاها .

هَيْتَ: أي: هَلُمَّ وأقبِلْ إلى ما أدعوك إليه، يقال: هَيَّتَ فلانٌ لفلانٍ؛ إذا دعاه وصاح به، وأصلُ (هَيَتَ): يَدُلُّ عَلَى الصَّيحةِ .

هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا: الهمُّ بالشيءِ: هو حديثُ المرءِ نفسَه بمواقعتِه ما لم يُواقِعْ ، أو: هو المقاربةُ مِن الفعلِ مِن غيرِ دُخولٍ فيه، والهمُّ نوعانِ: همُّ خطراتٍ وكان هذا همَّ يوسفَ عليه السلامُ، وهمُّ اصرارٍ وكان هذا همَّ المرأةِ، وأصل (همَّ): يدلُّ على ذَوْبٍ وجَريانٍ ودبيبٍ وما أشبهَ ذلك .

السُّوءَ: السُّوءُ: الْقَبِيحُ، وهو خيانةُ مَن ائتَمَنه، وقيل: هو مُقدِّماتُ الفاحِشَةِ، وأصلُ (سوء): يدُلُّ على القُبحِ .

وَالْفَحْشَاءَ: أي: المَعصيةَ، وهي الزِّنا، وأصلُ (فحش): يدُلُّ على قُبْحٍ فِي شيءٍ وشناعةٍ .

وَقَدَّتْ: أي: شقَّتْ، وأصلُ (قدَّ): يدلُّ على قَطعِ الشَّيءِ طولًا .

دُبُرٍ: أي: خلفٍ، وأصلُ الدبر: آخرُ الشيءِ، وخلفُه، خلافُ قُبُلِه .

وَأَلْفَيَا: أي: وجدَا، وأصلُ (لفا): يدلُّ على انكشافِ شَيءٍ وكَشْفِه .

قُبُلٍ: القُبُل مِن كلِّ شيءٍ: خلافُ دُبُرِه، وذلك أنَّ مُقَدَّمَه يُقبِلُ على الشيءِ .

كَيْدِكُنَّ: أي: حيلتِكنَّ، و صنيعِكنَّ، والكَيْدُ: ضربٌ مِن الاحتيالِ، وقد يكونُ مذمومًا وممدوحًا، وإن كان يُستعمَلُ في المذمومِ أكثرَ، وأصلُ (كيد): يدُلُّ على مُعالجةٍ لشيءٍ بشِدَّةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى أنَّه لَمَّا بلغ يوسُفُ مُنتهى قوَّتِه في شبابِه أعطاه النُّبوَّةَ والعِلمَ، ومِثلَ هذا الجزاءِ الذي جَزَينا به يوسُفَ على إحسانِه نَجزي المُحسنينَ على إحسانِهم، ودَعَت امرأةُ العزيزِ يوسُفَ إلى نَفسِها، وغلَّقَت الأبوابَ عليها وعلى يوسُفَ، وقالت: هلمَّ إليَّ، فقال: معاذَ اللهِ! أعتَصِمُ به وأستجيرُ مِن الذي تدعِينَني إليه مِن خيانةِ سَيِّدي الذي أحسنَ مَنزِلتي وأكرَمَني، فلا أخونُه في أهلِه؛ إنَّه لا يُفلِحُ مَن ظَلمَ فَفَعل ما ليس له فِعلُه، ولقد عزَمَت امرأةُ العزيزِ على فِعلِ الفاحِشةِ، وخطرَ ليوسُفَ خاطِرٌ عارِضٌ في قَلبِه لم يَثبُتْ ولم يتحَوَّلْ إلى عَزمٍ، لولا أنْ رأى آيةً مِن آياتِ رَبِّه امتنَعَ بها عن ذلك الخاطِرِ، وإنَّما أريناه ذلك لندفَعَ عنه السُّوءَ والفاحِشةَ في جميعِ أمورِه؛ إنَّه من عبادنا المُطَهَّرينَ المُصطَفَينَ للرِّسالةِ، الذين أخلَصْتُهم من الشِّركِ والسُّوءِ والفَحشاءِ.

وأسرعَ يوسُفُ إلى البابِ يريدُ الخُروجَ، وأسرَعَت تُحاوِلُ الإمساكَ به، وجذَبَت قميصَه مِن خَلْفِه؛ لتَحُولَ بينه وبين الخروجِ فشَقَّته، ووجدا زوجَها عند البابِ، فقالت: ما جزاءُ مَن أراد بامرأتِك فاحِشةً إلَّا أن يُسجَنَ أو يُعذَّبَ العذابَ المُوجِعَ. قال يوسُفُ: هي التي طلَبَت منِّي ذلك، فشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهلها فقال: إن كان قميصُه شُقَّ من الأمامِ فصَدَقت في اتِّهامِها له، وهو مِن الكاذبينَ، وإن كان قميصُه شُقَّ من الخَلفِ فكَذَبت في قَولِها، وهو من الصَّادقينَ. فلمَّا رأى زوجُ المرأةِ قميصَ يوسُفَ شُقَّ مِن خَلفِه عَلِمَ براءةَ يوسُفَ، وقال لزَوجتِه: إنَّ هذا الكَذِبَ الذي اتَّهَمتِ به هذا الشَّابَّ هو مِن جملةِ مَكرِكُنَّ- أيَّتُها النِّساءُ- إنَّ مَكرَكُنَّ عظيمٌ، وقال ليوسُفَ: يوسُفُ، اترُكْ ذِكرَ ما كان منها، فلا تَذكُرْه لأحدٍ، واطلُبي- أيَّتُها المرأةُ- المغفرةَ لذَنبِك؛ إنَّك كنتِ من الآثمينَ في مُراودةِ يوسُفَ عن نفسِه، وفي افترائِك عليه.

تفسير الآيات:

 

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22).

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا.

أي: ولَمَّا بلغ يوسُفُ مُنتهى شِدَّتِه وقوَّتِه وشَبابِه، واكتمل خَلْقُه وعَقلُه

؛ أعطَيناه النُّبوَّةَ والعِلمَ .

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.

أي: ومِثلَ ذلك الجزاءِ نَجْزي كلَّ مَن أحْسَن .

كما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الأعراف: 56.

وقال سُبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ الزمر: 10.

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23).

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ.

أي: ودعتْ امرأةُ العزيزِ يوسفَ- التي هو مقيمٌ في بيتِها، وتحتَ تدبيرِها- إلى نفسِها، وطلبتْ منه أن يواقعَها .

وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ.

أي: وغلَّقَت امرأةُ العزيز جميعَ أبوابِ البَيتِ عليها وعلى يوسُفَ .

وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ.

أي: وقالت ليوسُفَ: تعالَ وأقبِلْ إليَّ .

قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ.

أي: قال يوسُفُ لامرأةِ العزيزِ حين دعتْه إلى نفسِها: أعتَصِمُ باللهِ مِن فِعلِ الفاحشةِ التي تَدعينَني إليها؛ إنَّ زوجَكِ سيِّدي، أكرَمَني وأحسنَ إليَّ، فلا أقابِلُ مَعروفَه بخيانتِه في أهلِه .

إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.

أي: إنَّه لا يفوزُ ولا ينجَحُ الظَّالِمونَ الذين يفعلونَ ما ليس لهم فِعلُه، وهذا الذي تَدعينَني إليه ظُلمٌ وخِيانةٌ لسَيِّدي الذي أحسَنَ إليَّ .

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24).

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا .

أي: ولقد همَّت امرأةُ العزيزِ- همَّ عزمٍ- بمُواقعةِ الفاحِشةِ مع يوسُفَ، وهمَّ يوسُفُ بامرأةِ العزيزِ، وكان همُّه خطرةً عارضةً، وحديثَ نفسٍ، مِن غيرِ اختيارٍ ولا عزمٍ .

عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللَّه عنهما، ((عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يَرْوي عَن رَبِّه عزَّ وجلَّ قال: قال إِنَّ اللَّهَ كَتَب الحسناتِ والسَّيِّئاتِ ثُمَّ بَيَّن ذلك فمَن هَمَّ بحسنةٍ فلم يَعْمَلْها كَتَبها اللَّهُ له عندَه حسنةً كامِلَةً فإنْ هو هَمَّ بها فعمِلَها كَتَبها اللَّه له عندَه عشرَ حسناتٍ إلى سَبعِمئةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ ، ومَن هَمَّ بسَيِّئَةٍ فلم يَعْمَلْها كَتَبها اللَّهُ له عندَه حسنةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فعَمِلَها كتَبها اللَّهُ له سَيِّئَةً واحدةً )) .

لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ.

أي: لولا أنْ رأى يوسُفُ آيةً مِن اللهِ قَوِيَ بها إيمانُه، وامتنَعَ بسَبَبِها مِن عِصيانِه .

كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء.

أي: أرَينا يوسُفَ كتلك الإراءةِ؛ كي نَقِيَه السُّوءَ والفَحشاءَ في جميعِ أمورِه .

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قولِه: الْمُخْلَصِينَ قراءتانِ:

1- قِراءةُ الْمُخْلَصِينَ بفَتحِ اللامِ: اسمُ مفعولٍ، بمعنى: أنَّ اللهَ أخلَصَهم من الشِّركِ والسُّوءِ والفَحشاءِ، فصاروا مُخلَصينَ، أي: اختارَهم اللهُ .

2- قِراءةُ الْمُخْلِصِينَ بكسرِ اللامِ: اسمُ فاعلٍ، بمعنى: أنَّهم أخلَصوا لله دينَهم وأعمالَهم مِن الشِّركِ والرِّياءِ .

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.

أي: إنَّ يوسُفَ مِن عبادِنا المُطَهَّرينَ المختارينَ المصطفَيْنَ، الذين أخلَصوا لله التوحيدَ والعبادةَ .

وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى عنها أنَّها همَّت، أتبَعَه بكيفيَّةِ طَلَبِها وهَرَبِه، فقال :

وَاسُتَبَقَا الْبَابَ.

أي: واستبقَ يوسُفُ وامرأةُ العزيزِ إلى بابِ البيتِ؛ يوسُفُ يفِرُّ منها، وهي تطلُبُه ليرجِعَ إلى البيتِ؛ لتقضيَ حاجَتَها منه، الَّتِي راودَتْه عليها .

وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ.

أي: وأدرَكَت امرأةُ العزيزِ يوسُفَ، فأمسَكَت بقميصِه، وجَذبَته لتَمنَعَه من الخروجِ، فشَقَّت قميصَه مِن الخَلفِ؛ مِن شِدَّةِ الجَذبِ .

وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ.

أي: وصادفَ يوسُفُ وامرأةُ العزيزِ زوجَها عند البابِ .

قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

أي: قالت امرأةُ العزيزِ لِزَوجِها لَمَّا وجَدَته عند البابِ، مُتَّهِمةً يوسُفَ بمُراودتِها: ما جزاءُ مَن أراد فِعلَ الفاحِشةِ بزَوجتِك إلَّا أن يُحبَسَ في السِّجنِ، أو يُضرَبَ ضَربًا مُوجِعًا .

قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26).

قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي.

أي: قال يوسُف للعزيزِ مُدافِعًا عن نفسِه: لم أُراوِدْ زوجَتَك عن نفسِها، بل هي مَن طلَبَت منِّي فِعلَ الفاحشةِ، فأبيتُ .

وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا.

أي: وحكمَ بينَ امرأةِ العزيزِ وبين يوسُفَ حاكِمٌ مِن أهلِها لَمَّا اختلفَ قولاهما .

إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ.

أي: قال الشَّاهِدُ حاكِمًا بين يوسُفَ وامرأةِ العزيزِ: إن كان قميصُ يوسُفَ شُقَّ مِن الأمامِ فصدَقَت في دعواها أنَّ يوسُفَ راودها، وهو مِن الكاذبينَ في دَعواه أنَّها التي راوَدَته، بدليلِ أنَّها دافعتْه عن نفسِها حتَّى شقَّت قميصَه مِن الأمامِ .

وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27).

أي: وإن كان قميصُ يوسُفَ شُقَّ مِن الخَلفِ فكَذَبت في دَعواها أنَّ يوسُفَ راودَها، وهو مِن الصَّادقينَ في دعواه أنَّها التي راوَدَته، بدليلِ أنَّه فرَّ منها حينَ راودتْه، فاتَّبعتْه، وجذَبتْ قميصَه حتَّى شقَّته مِن ورائِه .

فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28).

فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ.

أي: فلمَّا رأى زوجُ المرأةِ قميصَ يوسُفَ شُقَّ مِن خلفٍ، وتبيَّن له صِدقُه؛ قال لزوجتِه: إنَّ هذا الكَذِبَ الذي ادَّعَيتِه على يوسُفَ مِن جملةِ مَكرِكُنَّ وحِيَلِكُنَّ- أيَّتُها النِّساءُ .

إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ.

أي: قال العزيزُ لزوجتِه : إنَّ مَكرَكنَّ واحتيالَكنَّ- أيَّتُها النِّساءُ- عظيمٌ، شديدُ التَّأثيرِ في النُّفوسِ .

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29).

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا.

أي: وقال ليوسُف عليه السَّلامُ: يا يوسُفُ، أعرِضْ عن ذِكرِ ما جرَى منها، ولا تُخبِرْ به أحدًا .

وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ.

أي: قال العزيزُ لامرأتِه: واطلُبي المَغفِرةَ لذَنبِك الذي وقعَ منكِ، مِن مُراودةِ يوسُفَ عن نفسِه، وخيانةِ زَوجِك، ثمَّ قَذْفِ يوسُفَ بما هو بريءٌ منه؛ إنَّكِ كُنتِ من جملةِ المتعمِّدينَ الوقوعَ في الخَطايا

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُه: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في ذِكْرِ المحسِنين إيماءٌ إلى أنَّ إحسانَه هو سبَبُ جَزائِه بتِلك النِّعمةِ، وأنَّ اللهَ آتاه الحُكْمَ والعِلمَ جَزاءً على إحسانِه؛ لِكَونِه مُحسِنًا في أعمالِه، مُتَّقِيًا في عُنفُوانِ أمرِه؛ هَلْ جَزَاءُ الإحسانِ إِلاَّ الإحسانُ؟!

.

2- قولُ اللهِ تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ فيه الحذَرُ مِن الخَلوةِ بالنِّساءِ، التي يُخشَى منها الفِتنةُ .

3- قولُ الله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا فيه أنَّ الهمَّ الذي همَّ به يوسُفُ بالمرأةِ ثمَّ ترَكَه لله، ممَّا يقَرِّبُه إلى اللهِ زُلفى؛ لأنَّ الهمَّ داعٍ مِن دواعي النَّفسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ، وهو طبيعةٌ لأغلَبِ الخَلقِ، فلمَّا قابلَ بينه وبين محبَّةِ اللهِ وخَشيَتِه، غلَبَت محبَّةُ اللهِ وخَشيتُه داعيَ النَّفسِ والهوى، فكان ممَّن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ومِن السَّبعةِ الذين يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّ عَرشِه يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه؛ أحَدُهم: ((رجلٌ دعَتْه امرأةٌ ذاتُ مَنصبٍ وجمالٍ، فقال: إنِّي أخافُ اللهَ )) ، وإنَّما الهمُّ الذي يُلامُ عليه العبدُ: الهمُّ الذي يُساكِنُه، ويصيرُ عزمًا ربَّما اقتَرَن به الفِعلُ .

4- قال ابنُ الجَوْزِيِّ: (نازَعَتْنِي نَفْسِي إلى أمْرٍ مَكْروهٍ في الشَّرْعِ، وجَعَلَتْ تَنْصِبُ لِيَ التَّأْوِيلاتِ وتَدْفَعُ الكَراهةَ، وكانتْ تَأْويلاتُها فاسِدَةً، والحُجَّةُ ظاهِرةً على الكَراهَةِ، فلجَأْتُ إلى اللَّهِ تعالى في دَفْعِ ذلك عنْ قَلْبي، وأقْبَلْتُ على القِراءةِ، وكان دَرْسي قد بَلَغَ سُورةَ يُوسفَ؛ فاتِحَتَها، وذلك الخاطِرُ قد شَغَلَ قَلْبي حتَّى لا أدْري ما أَقْرَأُ، فلمَّا بَلَغْتُ إلى قولِه تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ انتَبَهْتُ لها، وكأَنِّي خُوطِبْتُ بها، فأَفَقْتُ مِن تلك السَّكْرَةِ، فقُلْتُ: يا نَفْسُ، أَفَهِمْتِ؟ هذا حُرٌّ بِيعَ ظُلْمًا، فَرَاعى حَقَّ مَن أحْسَنَ إليه، وسمَّاه مالِكًا، وإنْ لمْ يكُنْ له عليه مُلْكٌ، فقالَ: إِنَّهُ رَبِّي، ثُمَّ زادَ في بَيانِ مُوجِبِ كَفِّ كَفِّه عمَّا يُؤْذِيه، فقالَ: أَحْسَنَ مَثْوَايَ. فكيف بكَ وأنت عَبْدٌ على الحَقِيقةِ لِمَوْلًى ما زالَ يُحْسِنُ إليك مِن ساعَةِ وُجودِك، وإنَّ سَتْرَه عليك الزَّللَ أكْثرُ مِن عَدَدِ الحصَى؟!

أَفَمَا تَذْكُرِينَ كيف ربَّاكِ، وعلَّمَكِ، ورَزَقَكِ، ودَافَعَ عنكِ، وساقَ الخَيْرَ إليكِ، وهَداكِ أَقْوَمَ طَريقٍ، ونَجَّاكِ مِن كلِّ كيدٍ، ولوْ ذَهَبْتُ أَعُدُّ مِن هذه النِّعَمِ ما سَنَحَ ذِكْرُه امْتَلأتِ الطُّروسُ ، ولمْ تنقَطِعِ الكِتابةُ، فكيف يَحْسُنُ بكِ التَّعرُّضُ لِمَا يَكْرَهُه؟! مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) .

5- في قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ بيانُ أنَّ حِفْظَ الإحسانِ لِمَن أَحْسَنَ، هو مِن أخلاقِ الأنبياءِ وذوي الفَضلِ؛ وأنَّ حُرْمَةَ نسائِهم أعظمُ مِن غيرهِنَّ؛ إِذْ في مواقعةِ المعصيةِ معهنَّ- سوى تحريمِ الزِّنا - خيانةٌ، وإضاعةُ حُرْمَةٍ .

6- قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ فيه أنَّ الواجِبَ عند الدُّعاءِ إلى المعصيةِ الاستِعاذةُ باللهِ من ذلك، ليعصِمَه منها، ويدخُلُ فيه دُعاءُ الشَّيطانِ، ودُعاءُ شَياطينِ الإنسِ، ودُعاءُ هوى النَّفسِ .

7- مَن دخلَ الإيمانُ قَلبَه، وكان مُخلِصًا لله في جميعِ أمورِه، فإنَّ الله يَدفَعُ عنه- ببُرهانِ إيمانِه، وصِدقِ إخلاصِه- مِن أنواعِ السُّوءِ والفَحشاءِ وأسبابِ المعاصي، ما هو جزاءٌ لإيمانِه وإخلاصِه؛ لقَولِ الله تعالى: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ على قراءةِ مَن قرأها بكسرِ اللامِ، ومَن قرأها بالفتحِ، فإنَّه مِن إخلاصِ اللهِ إيَّاه، وهو متضمِّنٌ لإخلاصِه هو بنفسِه، فلمَّا أخلصَ عملَه للهِ أخلَصه اللهُ، وخلَّصه مِن السوءِ والفحشاءِ ، فالقلْبُ إِذا ذاقَ حَلاوةَ عُبوديَّتِه للَّهِ ومَحَبَّتِه لَهُ لم يكُنْ شَيْءٌ أحَبَّ إليه مِن ذَلِك حَتَّى يُقَدِّمَهُ عليه، وبذلك يُصْرَفُ عن أهلِ الإخلاصِ للَّهِ السُّوءُ والفحشاءُ؛ فَإِنَّ المُخلِصَ للَّهِ ذاقَ مِن حَلاوةِ عُبوديَّتِه للَّهِ مَا يمنَعُهُ عَن عُبوديَّتِه لغيرِه، ومِن حَلاوةِ مَحَبَّتِه للَّهِ مَا يمنَعُهُ عَن مَحَبَّةِ غَيرِه؛ إِذْ ليس عِنْد الْقلبِ السَّلِيمِ أحْلَى وَلَا ألذُّ وَلَا أطْيَبُ وَلَا أسَرُّ وَلَا أنْعَمُ مِن حَلاوةِ الإيمانِ المُتَضَمِّنِ عُبوديَّتَه للَّهِ، ومحبَّتَه لَهُ، وإخْلاصَ الدَّينِ لَهُ، وذَلِك يَقْتَضي انْجِذابَ الْقلبِ إلى اللَّهِ، فَيَصِيرُ الْقلبُ مُنِيبًا إلى اللَّهِ، خَائفًا مِنْهُ، رَاغِبًا رَاهِبًا .

8- عِشقُ الصُّوَرِ إنَّما تُبتلَى به القلوبُ الفارِغةُ مِن محبَّةِ الله تعالى، المُعرِضةُ عنه، المتعَوِّضةُ بغيرِه عنه، فإذا امتلأ القلبُ مِن محبَّةِ اللهِ، والشَّوقِ إلى لقائِه، دفَعَ ذلك عنه مرَضَ عِشقِ الصُّوَرِ؛ ولهذا قال تعالى في حَقِّ يوسُفَ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ فدَلَّ على أنَّ الإخلاصَ سبَبٌ لدَفعِ العِشقِ، وما يترتَّبُ عليه من السُّوءِ والفَحشاءِ التي هي ثَمرتُه ونَتيجتُه، فصَرفُ المُسَبَّبِ صَرفٌ لِسَبَبِه ، بل هو أكبَرُ الأسبابِ لحُصولِ كلِّ خَيرٍ، واندفاعِ كُلِّ شَرٍّ .

9- معلومٌ أنَّ الزانيَ حين يزني إنَّما يزني لحُبِّ نفسِه لذلك الفعلِ، فلو قام بقَلبِه خشيةُ الله التي تقهَرُ الشَّهوةَ، أو حُبُّ الله الذي يغلِبُها- لم يَزْنِ؛ ولهذا قال تعالى عن يوسُفَ عليه السَّلامُ: كَذَلِكَ لِنَصْرفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ فمن كان مُخلِصًا لله حَقَّ الإخلاصِ، لم يَزْنِ، وإنَّما يزني لخُلُوِّه عن ذلك، وهذا هو الإيمانُ الذي يُنزَعُ منه، لم يُنزَعْ منه نفسُ التَّصديقِ؛ ولهذا قيل: هو مُسلِمٌ وليس بمؤمِنٍ؛ فإنَّ المسلِمَ المُستحِقَّ للثَّوابِ لا بدَّ أن يكونَ مُصدِّقًا، وإلَّا كان مُناِفًقا؛ لكنْ ليس كلُّ مَن صدَّقَ قام بقَلبِه مِن الأحوالِ الإيمانيَّةِ الواجبةِ مِثلُ كَمالِ محبَّةِ الله ورَسولِه، ومِثلُ خَشيةِ اللهِ، والإخلاصِ له في الأعمالِ، والتوكُّلِ عليه، بل يكون الرجُلُ مصَدِّقًا بما جاء به الرَّسولُ، وهو مع ذلك يُرائي بأعمالِه، ويكونُ أهلُه ومالُه أحبَّ إليه مِن اللهِ ورَسولِه، والجهادِ في سَبيلِه .

10- قولُ الله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ فيه أنَّه ينبغي للعبدِ- إذا رأى محَلًّا فيه فتنةٌ وأسبابُ معصيةٍ- أن يفِرَّ منه، ويهربَ غايةَ ما يُمكِنُه؛ ليتمَكَّنَ مِن التخَلُّصِ مِن المعصيةِ، لأنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ لَمَّا راودَتْه التي هو في بَيتِها، فرَّ هاربًا يطلُبُ البابَ؛ ليتخَلَّصَ مِن شَرِّها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- إنَّما قال: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ولم يقُلْ: (امرأةُ العَزِيزِ)، ولا ذَكَرَ اسْمَها؛ قَصْدًا إلى زِيادةِ التَّقريرِ مع اسْتِهْجَانِ التَّصْريحِ باسْمِ المرأةِ، والمُحَافظةِ على السِّتْرِ عليها

، والعرَبُ تُضيفُ البُيوتَ إلى النِّساءِ، فتقولُ: ربَّةُ البَيتِ، وصاحبةُ البيتِ .

2- قول الله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، ذُكِر وصفُ الربِّ على الاحتمالينِ؛ احتمالِ أنَّه اللهُ، واحتمالِ أنَّه سيدُه-؛ لما يؤذنُ به مِن وجوبِ طاعتِه وشكرِه على نعمةِ الإيجادِ بالنسبةِ إلى الله، ونعمةِ التربيةِ بالنسبةِ لمولاه العزيزِ .

3- في قَولِه تعالى عن يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ دَلالةٌ على أنَّ اسمَ «الرَّبِّ» قد يُرادُ به السَّيِّدُ، وكما في قولِ يوسُفَ أيضًا لغُلامِ المَلِك: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يوسف: 42، وكذا عن الغُلامِ: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ يوسف: 42، وفيه حُجَّةٌ في أنَّ تسميةَ المخلوقِ بذلك غيرُ منكَرٍ .

4- قال الله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ما أحسَنَ هذا التنَصُّلَ مِن الوقوعِ في السُّوءِ! استعاذ أوَّلًا باللهِ الذي بيَدِه العِصمةُ، ومَلكوتُ كلِّ شَيءٍ، ثمَّ نبَّه على أنَّ إحسانَ اللهِ أو إحسانَ العزيزِ الذي سبقَ منه، لا يُناسِبُ أن يُجازَى بالإساءةِ، ثمَّ نفى الفلاحَ عن الظَّالِمينَ، وهو الظَّفَرُ والفَوزُ بالبُغْيةِ، فلا يناسِبُ أن أكونَ ظالِمًا أضَعُ الشَّيءَ غيرَ مَوضِعِه، وأتعدَّى ما حدَّه اللهُ تعالى لي .

5- قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فيه إرشادٌ لها إلى رعايةِ حقِّ العزيزِ بألطَفِ وجْهٍ، وفيه تحذيرٌ لها مِن عقابِ اللهِ عزَّ وجلَّ .

6- قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ فيه أنَّه يجوزُ تَركُ القبيحِ لِقُبحِه، ورعايةِ حَقِّ غَيرِه، وخشيةِ العار أو الفَقرِ أو الخوفِ، ونحو ذلك. ولا يقالُ: التَّشريكُ غيرُ مُفيدٍ في كونِه تاركًا للقبيحِ، وأنَّه لا يُثابُ .

7- قوله: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ إجابتَها لِمَا راوَدَتْه: ظُلمٌ؛ لأنَّ فيها ظُلْمَ كِلَيهما نفْسَه بارتكابِ معصيةٍ ممَّا اتَّفقَت الأديانُ على أنَّها كبيرةٌ، وظُلمَ سيِّدِه الَّذي آمَنَه على بيتِه، وآمَنَها على نفْسِها؛ إذ اتَّخَذها زوجًا وأحصَنَها .

8- قال الله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تدلُّ الآيةُ على لزومِ حُسنِ المكافأةِ بالجَميلِ، وأنَّ من أخلَّ بالمكافأةِ عليه، كان ظالِمًا .

9- قول الله تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ في صَرفِ السُّوءِ والفَحشاءِ عنه عليه السَّلامُ، وكَونِه مِن المُخلَصينَ؛ دليلٌ على عِصمتِه .

10- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ بيانُ أنَّ الحَسَنةَ الثَّانيةَ قد تكون مِن ثوابِ الأولى، وكذلك السَّيئةُ الثَّانيةُ قد تكونُ مِن عقوبةِ الأولى؛ قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ محمد: 1.

11- مِن رَحمةِ اللهِ تعالى بِعَبْدِهِ المُخلصِ أن يصرِفَ عنه ما يَغارُ عليه منه؛ كما قال تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ .

12- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ شاهِدٌ على نَفيِ ما قد ذَكَره طائِفةٌ مِن المفَسِّرينَ مِن أنَّه وُجِدَ مِن يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعضُ المُقدِّماتِ، مثل حَلِّ السَّراويلِ، والجلوسِ مَجْلِسَ الخاتنِ، ولو كان قد فَعَلَ صغيرةً لتابَ منها، والقرآنُ ليس فيه ذِكرُ تَوبتِه، بل إنَّه مَن وَقعَ منه بعضُ أنواعِ السُّوءِ والفَحشاءِ لم يكن ذلك قد صُرِفَ عنه، بل يكونُ قد وَقعَ وتاب اللهُ عليه منه، والقرآنُ يدلُّ على خِلافِ هذا، وقد شَهِدت النِّسوةُ له أنَّهنَّ ما عَلِمنَ عليه من سُوءٍ، ولو كان قد بَدَت منه هذه المقَدِّمات لكانت المرأةُ قد رأت ذلك، وهي من النِّسوةِ اللَّاتي شَهِدنَ وقُلنَ: مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وقالت مع ذلك: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وقالت: أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ .

13- قال اللَّهُ تعالى: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ولم يقُلْ: سيِّدَهُما؛ لِأنَّ يُوسفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يَدْخُلْ في رِقٍّ، ولم يكنْ مملوكًا لذلك الرجلِ على الحقيقةِ .

14- في قولِه تعالى: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ حجةٌ في أنَّ تسميةَ المخلوقينَ بالسَّادة جائزٌ .

15- قال الله تعالى: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فبادرَتَ إلى الكَذِبِ؛ أنَّ المراودةَ قد كانت من يوسُفَ، وقالت: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ولم تقُلْ «مَن فعلَ بأهلِك سُوءًا» تبرئةً لها، وتبرئةً له أيضًا مِن الفِعلِ، وإنَّما النِّزاعُ عند الإرادةِ والمُراودةِ .

16- قَولُ الله تعالى: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يدلُّ على عِظَمِ مَوقِعِ السَّجنِ مِن ذَوي الأقدارِ؛ حيث قرَنَته بالعذابِ الأليمِ .

17- في قوله تعالى: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي حُجَّةٌ في إباحةِ الانتصارِ، ومقابلةِ الظَّالمِ بمِثلِ فِعلِه .

18- قولُ الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إنَّما قال: مِنْ أَهْلِهَا ليكونَ أَولى بالقَبولِ في حَقِّ المرأةِ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ مِن حالِ مَن يكونُ مِن أقرِباءِ المرأةِ ومِن أهلِها ألَّا يَقصِدَها بالسُّوءِ والإضرارِ، فالمقصودُ بذِكرِ كَونِ ذلك الرَّجُلِ مِن أهلِها تَقويةُ قَولِ ذلك الرَّجُلِ .

19- إنْ قيل: كيف جاز الجَمْعُ بين إِنْ الَّذي هو للاستِقْبالِ وبينَ كَانَ؟ فالجوابُ: لأنَّ المعنى: إنْ يَعلَمْ أنَّه كان قميصُه قُدَّ، ونحوُه، كقولِك: إنْ أحسَنْتَ إليَّ فقد أحسَنتُ إليك مِن قبلُ، لِمَن يَمتَنُّ عليك بإحسانِه، تُريدُ: إنْ تَمتَنَّ عليَّ أمتَنَّ عليك .

20- قولُ الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ يَحتَجُّ به من يرى الحُكمَ بالقرائنِ والأماراتِ والعَلاماتِ فيما لا تحضُرُه البيِّناتُ؛ كاللُّقَطةِ والسَّرِقة والوديعةِ ، فالقرائنُ الجازمةُ رُبَّمَا قَامَتْ مقامَ البيِّناتِ؛ ذلك لأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ لَمَّا بَهَتَتْه امرأةُ العزيزِ، واضْطُرَّ إلى الدفاعِ، ولم تَكُنْ هناك بينةٌ، ولا شيءٌ يُصدِّقُه أو يُصدِّقُها، جاءَ ذلك الشاهدُ، وجعَل شقَّ قميصِه مِن دُبُرٍ قرينةً على صدقِه، وكذبِ المرأةِ، فذِكرُه تعالى لهذا مقرِّرًا له يدلُّ على جوازِ العملِ به .

21- قال الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ في الآيةِ دَليلٌ على القياسِ والاعتبارِ، والعمَلِ بالعُرفِ والعادةِ؛ لِمَا ذُكِرَ مِن قَدِّ القميصِ مُقبِلًا ومُدبِرًا .

22- قال الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ قدَّمَ أمارةَ صِدقِها؛ لأنَّه ممَّا يُحبُّه سَيِّدُها، فهو في الظاهرِ اهتمامٌ بها، وفي الحقيقةِ تقريرٌ لِكَذِبها مرَّتينِ: الأُولَى باللُّزومِ، والثَّانية بالمُطابقة .

23- مِن اللَّطائِفِ في قولِه تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ما قيل: إنَّ هذا الشَّاهِدَ أراد ألَّا يكونَ هو الفاضِحَ لها، ووَثِقَ بأنَّ انقِطاعَ قَميصِه إنَّما كان مِن دُبُر، فنَصَبه أمارةً لصِدقِه وكَذِبِها، ثمَّ ذكَرَ القِسمَ الآخَر، وهو قدُّه مِن قُبُلٍ، على علمٍ بأنَّه لم ينقَدَّ مِن قُبُلٍ حتى ينفِيَ عن نَفسِه التُّهمةَ في الشهادةِ وقَصْدَ الفَضيحةِ، ويُنصِفَهما جميعًا، فيَذكُر أمارةً على صِدقِها المعلومِ نَفيُه، كما ذكَرَه أمارةً على صِدقِه المعلومِ وُجودُه؛ ومِنَ ثمَّ قَدَّمَ أمارةً على صِدقِها، على أمارةِ صِدقِه في الذِّكرِ؛ إزاحةً للتُّهمةِ، ووُثوقًا بأنَّ الأمارةَ الثَّانيةَ هي الواقِعةُ، فلا يَضُرُّه تأخيرُها .

24- قولُ الله تعالى: قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وُصِفَ كَيدُ النِّساءِ بالعِظَم، وإن كان قد يُوجَدُ في الرِّجالِ؛ لأنهُنَّ ألطَفُ كَيدًا بما جُبِلنَ عليه، وبما تفرَّغنَ له، واكتسَبَ بعضُهنَّ مِن بَعضٍ، وهنَّ أنفَذُ حِيلةً .

25- في قولِه تعالى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ تَعميمُ الخِطابِ للتَّنبيهِ على أنَّ ذلك خُلُقٌ لهنَّ عريقٌ .

26- قال الله تعالى: فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ كيف وُصِفَ كَيدُ النِّساءِ بالعَظيمِ مع قَولِه تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا النساء: 28 وهلَّا كان مكرُ الرِّجالِ أعظمَ مِن مَكرِ النِّساءِ؟

الجوابُ: أمَّا كونُ الإنسانِ خُلِقَ ضَعيفًا فهو بالنِّسبةِ إلى خَلقِ ما هو أعظَمُ منه؛ كخَلقِ الملائكةِ، والسَّمواتِ والأرضِ، والجبالِ ونحو ذلك، وأمَّا عِظَمُ كَيدِ النِّساءِ ومَكرِهنَّ في هذا البابِ فهو أعظَمُ مِن كيدِ جَميعِ البشَرِ؛ لأنَّ لهنَّ مِن المَكرِ والِحيَل والكيدِ في إتمامِ مُرادِهنَّ ما لا يَقدِرُ عليه الرِّجالُ في هذا البابِ .

27- قولُ الله تعالى: قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ هذه الآيةُ الكريمةُ إذا ضُمَّت لها آيةٌ أُخرَى حصَل بذلك بيانُ أنَّ كيدَ النساءِ أعظمُ مِن كيدِ الشيطانِ، والآيةُ المذكورةُ هي قولُه: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا النساء: 76 ؛ لأنَّ قولَه في النساءِ: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ، وقوله في الشيطانِ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا يدلُّ على أنَّ كيدهنَّ أعظمُ مِن كيدِه ، وعن بعضِ العلماءِ: (إنِّي أخافُ مِن النساءِ ما لا أخافُ مِن الشيطانِ؛ فإنَّه تعالى يقولُ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، وقال للنساءِ: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، ولأنَّ الشيطانَ يوسوسُ مسارقةً، وهنَّ يواجِهْنَ به الرجالَ) .

وقيل: لا دلالةَ فيه، فالمقامُ مختلفٌ؛ فإنَّ ضعفَ كيدِ الشيطانِ إنَّما هو في مقابلةِ كَيْدِ الله تعالى، وعظمَ كيدِهنَّ إنَّما هو بالنسبةِ الى كيدِ الرجالِ، وإنَّما كيدُ النسوانِ بعضُ كيدِ الشيطانِ .

28- بَيَّنَ القُرآنُ العَظيمُ بَراءةَ يُوسُف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن الوُقوعِ فيما لا يَنبَغِي؛ حيث بَيَّنَ شَهادةَ كُلِّ مَن له تَعَلُّق بالمَسأَلَةِ بِبَراءَتِه، وشَهادةَ الله له بذلك، واعْتِراف إبليس به. أمَّا الذين لهم تَعَلُّق بتِلك الواقِعَة فهم: يُوسُف، والمَرأَةُ، وزَوْجُها، والنِّسْوَةُ، والشُّهودُ. أمَّا جَزْمُ يُوسُف بأنَّه بَرِيءٌ مِن تِلك المَعصِيَة فذَكَرَهُ تعالى في قوله: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، وأمَّا اعْتِرافُ المَرأَةِ بذلك ففي قولِها للنِّسْوَةِ: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ يوسف: 32. وأمَّا اعْتِراف زَوْجِ المَرأَةِ ففي قوله: قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ. وأمَّا اعْتِراف الشُّهود بذلك ففي قوله: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.... وأمَّا شَهادَةُ الله جَلَّ وعَلَا بِبَراءَتِه ففي قولِه: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. وأمَّا إِقْرار إبليس بطَهارَةِ يُوسُف ونَزاهَتِه ففي قولِه تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ص: 82-83، فأَقَرَّ بأنَّه لا يُمكِنُه إِغْواءُ المُخْلَصِين، ولا شَكَّ أنَّ يُوسُف مِن المُخْلَصِين، كما صَرَّحَ تعالى به في قوله: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، فظَهَرَت دِلالَةُ القُرآنِ مِن جِهاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ على بَراءَتِه ممَّا لا يَنْبَغي .

29- في قَولِه تعالى عن العزيزِ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ دَلالةٌ على أنَّهم كانوا يَرَونَ ذلك ذنبًا ويَستَغفِرونَ منه- وإن كانوا مع ذلك مُشرِكينَ- وقد كانت العرَبُ مُشرِكينَ، وهم يُحَرِّمونَ الفواحِشَ ويَستغفِرونَ اللهَ منها، وكان الزِّنا معروفًا عندهم في الإماءِ

 

، وذلك على القولِ بأنَّه طلبَ منها استغفارَ الله.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

- التنكيرُ في قوله: حُكْمًا وعِلْمًا للتفخيمِ

.

- ومِن قولِه تعالى: وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ إلى قولِه: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ اعتراضٌ جيءَ به أُنموذَجًا للقِصَّةِ؛ لِيَعلَمَ السَّامعُ مِن أوَّلِ الأمرِ أنَّ ما لَقِيه عليه السَّلامُ مِن الفتنِ الَّتي ستُحْكَى بتَفاصيلِها له غايةٌ جميلةٌ وعاقبةٌ حميدةٌ، وأنَّه عليه السَّلامُ مُحسِنٌ في جَميعِ أعمالِه لم يَصدُرْ عنه في حالَتَيِ السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ ما يُخِلُّ بنَزاهتِه، ومَدارُ حُسنِ التَّخليصِ إلى هذا الاعتِراضِ قبلَ تَمامِ الآيةِ الكريمةِ: هو التَّمكينُ البالغُ المفهومُ مِن كلامِ العزيزِ .

2- قولُه تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ

- قولُه: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فيه تشبيهُ حالِ المحاوِلِ أحَدًا على فِعْلِ شيءٍ مُكرِّرًا ذلك بحالِ مَن يَذهَبُ ويَجيءُ في المعاوَدةِ إلى الشَّيءِ المذهوبِ عنه، فأُطلِقَ (راوَد) بمعنى (حاوَل) ؛ فالمراودةُ المطالَبةُ، مِن: رادَ يَرُودُ؛ إذا جاء وذهَب لطَلَبِ شيءٍ، وهي مُفاعَلةٌ مِن واحدٍ نَحوُ مُطالبةِ الدَّائنِ ومُماطَلةِ المديونِ ونَظائِرِها ممَّا يكونُ مِن أحَدِ الجانِبَين الفِعلُ ومِن الآخَرِ سبَبُه؛ فإنَّ هذه الأفعالَ وإن كانت صادِرةً عن أحَدِ الجانِبَين لكنْ لَمَّا كانت أسبابُها صادِرةً عن الجانبِ الآخَرِ جُعِلَت كأنَّها صادِرةٌ عنهما، وهذا بابٌ لَطيفُ المسلَكِ مَبنيٌّ على اعتبارٍ دقيقٍ، تَحقيقُه: أنَّ سببَ الشَّيءِ يُقامَ مَقامَه، ويُطلَقُ عليه اسمُه، كما في قولِهم: كما تَدينُ تُدانُ، أي: كما تَجْزي تُجْزى؛ فإنَّ فعْلَ البادي وإن لم يَكُنْ جَزاءً، لكنَّه لِكَونِه سببًا للجزاءِ أُطلِقَ عليه اسمُه، وهذه قاعدةٌ مُطَّرِدةٌ مُستمِرَّةٌ، ولَمَّا كانت أسبابُ الأفعالِ المذكورةِ هنا صادِرةً عن الجانبِ المقابلِ لجانبِ فاعِلِها؛ فإنَّ مُراودَتَها لِجَمالِ يوسُفَ عليه السَّلامُ نُزِّلَ صُدورُها عن مَحالِّها بمَنزِلةِ صُدورِ مُسبِّباتِهما التي هي تلك الأفعالُ، فبُني الصيغةُ على ذلك، ورُوعيَ جانبُ الحقيقةِ بأن أُسند الفعلُ إلى الفاعل، وأُوقِعَ على صاحبِ السَّببِ. ويَجوزُ أن يُرادَ بصيغةِ المغالَبةِ مجرَّدُ المبالَغةِ، وقيل: الصِّيغةُ على بابِها، بمعنى أنَّها طَلَبَت منه الفِعلَ، وطلَب هو مِنها التَّرْكَ، ويَجوزُ أنْ يكونَ مَنْ الرُّوَيدِ، وهو الرِّفْقُ والتَّحمُّلُ، وتَعدِيَتُها بـ (عَنْ)؛ لتَضمينِها معنى المخادَعةِ؛ فالمعنى: خادَعَتْه عَنْ نَفْسِه .

- والتَّعبيرُ عن امرأةِ العزيزِ بطَريقِ الموصوليَّةِ في قولِه: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا؛ لِقَصدِ ما تُؤْذِنُ به الصِّلةُ مِن تقريرِ عِصْمةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّ كوْنَه في بيتِها مِن شأنِه أن يُطوِّعَه لِمُرادِها .

- قولُه: عَنْ نَفْسِهِ و(عَن) للمُجاوَزةِ، أي: راوَدَتْه مُباعِدةً له عن نَفسِه، أي: بأنْ يَجعَلَ نفْسَه لها؛ قيل: وهذا التَّركيبُ مِن مُبتكَراتِ القرآنِ؛ فالنَّفسُ هنا كِنايةٌ عن غرَضِ المواقَعةِ، أي: فالنَّفسُ أُريدَ بها عَفافُه، وتَمكينُها مِنه لِما تُريدُ، فكأنَّها تُراوِدُه عن أن يُسلِّمَ إليها إرادتَه، وحُكمَه في نفسِه، بخلافِ تَعْديَةِ هذا الفعلِ بـ (على)؛ فإنَّ ذلك إلى الشَّيءِ المطلوبِ حُصولُه .

- قولُه: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ فيه تضعيفُ (غَلَّقَتْ)؛ لإفادةِ شِدَّةِ الفعلِ وقوَّتِه، أي: أغلَقَت إغلاقًا مُحْكَمًا ، فقال: وغَلَّقَتْ؛ للمبالَغةِ في الإيثاقِ والإحكامِ، وقيل: كانت الأبوابُ سَبعةً؛ ولذلك جاء الفعلُ بصيغةِ التَّفعيلِ دون الإفعالِ؛ للتكثيرِ .

- قولُه: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ تعليلٌ لامتناعِه، وتعريضٌ بها في خيانةِ عهدِها .

- والضَّميرُ في إِنَّهُ ضميرُ الشَّأنِ، ومدارُ وضْعِه مَوضعَه ادِّعاءُ شُهرتِه المُغْنيةِ عن ذِكرِه، وفائدةُ تصديرِ الجملةِ به: الإيذانُ بفَخامةِ مَضمونِها، مع ما فيه مِن زيادةِ تقريرِه في الذِّهنِ؛ فإنَّ الضَّميرَ لا يُفهَمُ مِنه مِن أوَّلِ الأمرِ إلَّا شأنٌ مُبهَمٌ له خطَرٌ، فيَبْقَى الذِّهنُ مُترقِّبًا لِما يَعقُبُه، فيَتمَكَّنُ عِندَ وُرودِه له فَضْلَ تَمكُّنٍ؛ فكأنَّه قيل: إنَّ الشَّأنَ الخطيرَ هذا وهو ربِّي، أي: سيِّدي العزيزُ- وقيل: الضَّميرُ للهِ عزَّ وجلَّ- أحسَنَ مَثواي؛ فكيف يُمكِنُ أن أُسيءَ إليه بالخيانةِ في حَرَمِه، وفي الاقتصارِ على ذِكْرِ هذه الحالةِ، مِن غيرِ تَعرُّضٍ لاقتِضائِها الامتناعَ عمَّا دعَتْه إليه إيذانٌ بأنَّ هذه المرتبةَ مِن البيانِ كافيةٌ في الدَّلالةِ على استِحالتِه، وكونِه ممَّا لا يَدخُلُ تحتَ الوُقوعِ أصلًا .

- وجملةُ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تعليلٌ ثانٍ للامتناعِ المذكورِ، وهو تعليلٌ بعدَ تعليلٍ، والضَّميرُ المجعولُ اسْمًا لـ (إنَّ) ضميرُ الشَّأنِ يُفيدُ أهميَّةَ الجملةِ المجعولةِ خبَرًا عنه؛ لأنَّها موعِظةٌ جامعةٌ .

3- قولُه تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ

- جملةُ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا، وأكَّد همَّها بـ (قد) ولامِ القَسَمِ؛ لِيُفيدَ أنَّها عزَمَت عَزْمًا مُحقَّقًا .

- قولُه: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ أشيرَ إلى اختلافِ الهَمَّينِ باختلافِ التَّعبيرِ عنهُما، حيث لم يَقُلْ: (ولَقَد هَمَّا) بالمخالَطةِ أو (هَمَّ كُلٌّ مِنهما بالآخَرِ)، وصُدِّر الأوَّلُ بما يُقرِّرُ وُجودَه مِن التَّوكيدِ القَسَميِّ وَلَقَدْ، وعُقِّب الثَّاني بما يَعْفو أثَرَه مِن قولهِ عزَّ وجلَّ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ .

- قولُه: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ التَّقديرُ فيها: (ولولا أنْ رأَى بُرهانَ ربِّه هَمَّ بها)؛ فقُدِّم الجوابُ هَمَّ بِهَا على شَرْطِه لَوْلا؛ للاهتمامِ به، وقد يُجعَلُ المذكورُ وَهَمَّ بها قبلَ لَولا دليلًا للجوابِ، والجوابُ محذوفٌ لِدَلالةِ ما قَبْل لَوْلَا عليه، فيَحْسُنُ الوقفُ على قولِه: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ؛ لِيَظهَرَ مَعْنى الابتداءِ بجُملَةِ وَهَمَّ بِهَا واضِحًا، وبذلك يَظهَرُ أنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ لم يُخالِطْه همٌّ بامرأةِ العزيزِ؛ لأنَّ اللهَ عصَمَه مِن الهمِّ بالمعصيةِ بما أراه مِن البُرهانِ . وذلك على أحدِ أوجهِ تفسيرِ الآيةِ.

- وجملةُ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ تعليلٌ لحِكْمَةِ صَرفِه عن السُّوءِ والفحشاءِ .

4- قولُه تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

- قولُ الله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وحَّدَ البابَ هنا، وجمَعَه قبلُ في قَولِه تعالى: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ؛ لأنَّ إغلاقَ البابِ للاحتياطِ لا يتِمُّ إلَّا بإغلاقِ الجَميعِ، وأمَّا هُروبُه منها فلا يكونُ إلَّا إلى بابٍ واحدٍ، حتى لو تعدَّدَت أمامَه، لم يقصِدْ منها أوَّلًا إلَّا الأوَّلَ؛ فلهذا وحَّدَ البابَ هنا، وجمَعَه ثَمَّ .

- وإسنادُ القَدِّ إليها خاصَّةً مع أنَّ لِقُوَّةِ يوسفَ أيضًا دَخْلًا فيه؛ إمَّا لأنَّها الجُزءُ الأخيرُ للعِلَّةِ التَّامَّةِ، وإمَّا للإيذانِ بمُبالَغتِها في منْعِه عن الخروجِ، وبَذلِ مَجهودِها في ذلك؛ لِفَوْتِ المحبوبِ، أو لخوفِ الافتضاحِ .

- قولُه: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مستأنف استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ السَّامِعَ يَسأَلُ: ماذا حدَث عِندَ مُفاجَأَةِ سيِّدِها وهُما في تلك الحالةِ ؟

- قوله: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا لم تُصرِّحْ في قَولِها بذِكْرِ يوسُفَ، وأنَّه أراد بها سُوءًا؛ قَصدًا للعُمومِ، وأنَّ كلَّ مَن أراد بأهلِك سوءًا فحَقُّه أن يُسجَنَ أو يُعذَّبَ؛ لأنَّ ذلك أبلَغُ فيما قصَدَتْه مِن تخويفِ يوسُفَ؛ ففي إبهامِ المُريدِ تَهويلٌ لشأنِ الجزاءِ المذكورِ بكَونِه قانونًا مطَّرِدًا في حقِّ كلِّ أحدٍ كائنًا مَنْ كان .

وقيل: إنَّها لم تَذكُر أنَّ يُوسُفَ يجِبُ أن يُعامَل بِأَحَدِ هَذينِ الأَمْرَينِ، بل ذَكَرت ذلك ذِكْرًا كُلِّيًّا صَوْنًا للمَحْبوب عن الذِّكْرِ بالسُّوءِ والأَلَم .

وفي ذِكْرِ نفْسِها بعُنوانِ أهليَّةِ العزيزِ بِأَهْلِكَ إعظامٌ للخَطْبِ، وإغراءٌ له على تَحقيقِ ما تتوخَّاه بحُكْمِ الغضَبِ والحَميَّةِ .

- وبَدأَت بِذِكْرِ السِّجْنِ، وأَخَّرَت ذِكْرَ العَذابَ قيل: لشدَّةِ حبِّها يوسفَ؛ فالمُحِبُّ لا يَسعَى في إيلامِ المَحْبوبِ، ولذلك قالت: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ، والمُرادُ: أنْ يُسْجَنَ يومًا أو أَقَلَّ على سَبيلِ التَّخْفِيف، فأمَّا الحَبْسُ الدَّائِم فإنَّه لا يُعَبَّر عنه بهذه العِبارَةِ؛ بل يُقال: يجبُ أن يُجْعَلَ مِن المَسجونينَ، كما قال فِرعَونُ حين تَهَدَّدَ موسَى عليه السَّلام في قولِه: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ الشعراء: 29.

5- قولُه تعالى: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ

- قولُه: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي فيه تقديمُ المبتدَأِ هِيَ على خبَرِه الفعليِّ رَاوَدَتْنِي وهو يُفيدُ القَصْرَ، وهو قصْرُ قلْبٍ ؛ للرَّدِّ عليها .

- وفي التَّعبيرِ عنها بضَميرِ الغيبةِ هِيَ دونَ الخطابِ أو اسْمِ الإشارةِ: مُراعاةٌ لحُسنِ الأدبِ، مع الإيماءِ إلى الإعراضِ عنها ، وقيل: أتَى بضَميرِ الغَيبةِ؛ لاستيحائِه عن مواجهتِها بإشارةٍ أو ضميرِ خِطابٍ؛ إذ كان غلبَ عليه الحَياءُ أنْ يُشيرَ إليها ويُعيِّنَها بالإشارةِ، فيقول: هذِه راودتْني، أو تِلك راودتْني؛ لأنَّ في المواجهةِ بالقبيحِ ما ليس في الغَيبةِ .

- قولُه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا سُمِّي قولُه شهادةً؛ لأنَّه يؤولُ إلى إظهارِ الحقِّ في إثباتِ اعتداءِ يُوسُفَ عليه السَّلامُ على امرأة العزيزِ أو دَحْضِه .

- قوله: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ جملةُ إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ مُبيِّنةٌ لفِعل (شَهِد)، وفي زيادةِ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ بعدَ فَصَدَقَتْ، وزيادةِ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ بعدَ فَكَذَبَتْ: تأكيدٌ لزيادةِ تَقْريرِ الحقِّ، كما هو شأنُ الأحكامِ .

- ولَمَّا كانت كلُّ جملةٍ مُستقِلَّةً بنَفْسِها أبرَزَ اسْمَ كانَ بلَفْظِ المظْهَرِ: قَمِيصُهُ، ولم يُضْمِرْ ويَقُلْ: (إن كان قُدَّ) لِيَدُلَّ على الاستقلالِ، ولكونِ التَّصريحِ به أوضَحَ .

6- قولُه تعالى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ

- قولُه: يُوسُفُ حَذَف منه حَرْفَ النِّداءِ؛ لأنَّه مُنادًى قريبٌ، مُفاطِنٌ للحديثِ، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ لِمَحلِّه .

- قولُه: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ جملةُ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ عطفٌ على جملة يُوسُفُ أَعْرِضْ وهو عطفُ أمرٍ على أمرٍ، والمأمورُ مُختلِفٌ؛ فبَعدَ أنْ خاطبَها بأنَّ ما دَبَّرتْه هو من كيدِ النِّساءِ وجَّه الخِطابَ إلى يُوسُفَ عليه السَّلامُ بالنِّداء، ثم أعادَ الخِطابَ إلى المرأةِ، وهذا الأسلوبُ من الخِطابِ يُسمَّى بالإقبالِ، وقد يُسمَّى بالالتفاتِ بالمعنى اللُّغويِّ، وهو عزيزٌ في الكلامِ البَليغِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال: مِنَ الْخَاطِئِينَ بلَفْظِ التَّذكيرِ تَغليبًا للذُّكورِ على الإناثِ؛ لأنَّه لم يَقصِدْ بذلك قصْدَ الخبَرِ عن النِّساءِ، وإنَّما قصَد به الخبَرَ عمَّن يفعَلُ ذلك فيَخطَأُ، ولأنَّ الخاطِئين أعَمُّ

=========================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (30-35)

ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ

غريب الكلمات:

 

شَغَفَهَا: أي: أصاب حبُّه شَغافَ قلبها، والشَّغافُ: غِلافُ القَلبِ

.

وَأَعْتَدَتْ: أي: هَيَّأَتْ وأعَدَّتْ، وأصلُه مِن الإعدادِ الذي هو تَهيئةُ الشَّيءِ .

مُتَّكَأً: أي: مجلسًا يُتكأُ فيه، أو وَسائِدَ يُتكأُ عليها، وأصلُ (وكأ): يدلُّ على شدِّ شيءٍ .

أَكْبَرْنَهُ: أي: أجلَلْنَه وأعظَمْنَه، وأصلُ (كبر): يدُلُّ على خِلافِ الصِّغَرِ .

حَاشَ لله: أي: معاذَ اللهِ، وتنزيهًا له؛ من المحاشاةِ: وهي التَّخليةُ والتَّبعيدُ .

فَاسْتَعْصَمَ: أي: امتنَعَ، وتحرَّى ما يَعصِمُه، وأصلُ (عصم): يدلُّ على إمساكٍ، ومَنعٍ، ومُلازمةٍ .

أَصْبُ: أي: أمِلْ، يُقال: صَبَا فلانٌ: إذا نزَع واشتاق، وفعَل فعلَ الصِّبيانِ، وأصلُ (صبا): يدلُّ على صِغَرِ السِّنِّ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى عن شيوعِ خبرِ امرأةِ العزيزِ، وأنَّ نِسوةً في المدينةِ تحَدَّثنَ به، وقُلنَ مُنكِراتٍ عليها: امرأةُ العزيزِ تُراوِدُ غُلامَها عن نفسِه، وتدعوه إلى نَفسِها، وقد بلَغ حبُّها له مبلغًا عظيمًا، إنَّا لَنَراها في هذا الفِعلِ في ضلالٍ واضِحٍ، فلمَّا سَمِعَت امرأةُ العزيزِ بغِيبتِهنَّ إيَّاها، واحتيالهِنَّ في ذمِّها، أرسَلَت إليهنَّ تَدعوهنَّ لزيارتِها، وهيَّأَت لهنَّ ما يتَّكِئنَ عليه مِن الوسائِدِ، وما يأكُلنَه مِن الطَّعامِ، وأعطَتْ كلَّ واحدةٍ منهنَّ سِكِّينًا؛ ليُقَطِّعنَ الطَّعامَ، ثمَّ قالت ليوسُفَ: اخرُجْ عليهنَّ، فلمَّا رأينَه أعظَمْنَه وأجلَلْنَه، وأخَذَهنَّ حُسنُه وجَمالُه، فجَرَحنَ أيديَهنَّ وهُنَّ يُقَطِّعنَ الطَّعامَ؛ مِن فَرطِ الدَّهشةِ والذُّهولِ، وقُلنَ مُتعَجِّباتٍ: مَعاذَ اللهِ، ما هذا مِن جِنسِ البشَرِ؛ لأنَّ جمالَه غيرُ مَعهودٍ في البشَرِ، ما هو إلَّا مَلَكٌ كريمٌ مِن الملائكة.

قالت امرأةُ العزيزِ للنِّسوةِ اللَّاتي قطَّعْنَ أيديَهنَّ: فهذا- الذي أصابَكنَّ في رؤيَتِكنَّ إيَّاه ما أصابَكنَّ- هو الفتى الذي لُمتُنَّني في الافتتانِ به، ولقد راودتْه عن نفسِه، فامتنَعَ وأبى، ولئنْ لم يفعَلْ ما آمُرُه به لَيُعاقَبَنَّ بدخولِ السِّجنِ، ولَيكونَنَّ مِن الأذلَّاءِ.

قال يوسُفُ مُستعيذًا مِن شَرِّهنَّ ومَكرِهنَّ: يا ربِّ، السِّجنُ أحَبُّ إليَّ ممَّا يدعونَني إليه مِن عمَلِ الفاحِشةِ، وإنْ لم تدفَعْ عنِّي مَكرَهنَّ أَمِلْ إليهنَّ، وأكُنْ مِن الجاهلينَ، فاستجاب اللهُ ليوسُفَ دعاءَه، فصرف عنه ما أرادت منه امرأةُ العزيزِ وصَواحِباتُها مِن معصيةِ الله، إنَّ اللهَ هو السَّميعُ لدُعاءِ يوسُفَ، ودُعاءِ كُلِّ داعٍ مِن خَلقِه، العليمُ بمَطلبِه وحاجتِه وما يُصلِحُه، وبحاجةِ جميعِ خَلقِه وما يُصلِحُهم، ثمَّ ظهر للعزيزِ وأصحابِه- من بعدِ ما رأَوا الأدلَّةَ على براءةِ يوسُفَ وعِفَّتِه- أن يسجُنوه إلى مُدَّةٍ مِن الزَّمَن؛ لينقطِعَ بذلك الخبرُ، ويتناساه النَّاسُ.

تفسير الآيات:

 

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30).

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ.

أي: وقال نساءٌ في مدينة مصرَ: امرأةُ العزيزِ ذاتُ القَدرِ الكبيرِ تُراوِدُ غُلامَها عن نَفسِه، وتدعوه إلى مواقَعتِها

!

قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا.

أي: قد وصل حُبُّ فتاها إلى شَغافِ قَلبِها، وبلغ حبُّها له مبلغًا عظيمًا !

إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ.

أي: إنَّا لنرى امرأةَ العزيزِ في خطأٍ واضحٍ في مُراودتِها فتاها، وحُبِّها له .

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31).

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ.

أي: فلمَّا سَمِعَت امرأةُ العزيزِ مقالةَ النِّساءِ اللاتي تكلَّمْنَ عن مراوَدتِها يوسُفَ، وشِدَّةِ حُبِّها له، أرسلَتْ إليهنَّ تدعوهنَّ إلى بَيتِها؛ لتُضيفَهُنَّ .

وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً.

القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التفسيرِ:

في قوله: مُتَّكَأً قراءتان:

1- مُتَّكًا: مشددُ التاءِ دونَ همزٍ، وفيها وجهان: أحدهما: أن يكونَ أصلُه مُتَّكَأً كالقراءةِ الأُخرَى، وإنما خُفِّفَ همزُه. والثاني: أن يكونَ مُفْتَعَلًا، مِن: أوكَيْتُ القِرْبةَ إذا شَدَدْتَ فاها بالوِكاءِ، فالمعنى: أَعْتَدَتْ شيئًا يَشْتَدِدْنَ عليه: إمَّا بالاتِّكاءِ، وإمَّا بالقطعِ بالسِّكِّينِ .

2- مُتَّكَأً: والمتَّكأُ الشيءُ الذي يُتَّكَأُ عليه من وسادةٍ ونحوها. وقيل: المتكأ: مكان الاتِّكاء. وقيل غيرُ ذلك .

وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً.

أي: وهيَّأت لهنَّ مجلِسًا يتَّكِئنَ عليه، مِن الوسائدِ والفُرُشِ .

وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا.

أي: وأعطَتْ كلَّ واحدةٍ مِن النِّساءِ اللَّاتي حَضَرنَ مَجلِسَها سِكِّينًا؛ لتُقَطِّعَ به ما يحتاجُ إلى تقطيعٍ مِن الطَّعامِ .

وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ.

أي: وقالت ليوسُفَ: اخرُجْ على هؤلاءِ النِّسوةِ .

فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ.

أي: فخرج يوسفُ عليهنَّ، فلمَّا رأى النِّسوةُ يوسُفَ أعظَمْنَ جمالَه، وأجلَلْنَ قَدْرَه .

وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.

أي: وجَرَحنَ أيديَهنَّ بالسَّكاكينِ، وهُنَّ يَحسَبنَ أنَّهنَّ يُقَطِّعنَ الطَّعامَ؛ لدَهشتِهنَّ بما رأينَ مِن جمالِ يوسُفَ .

وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ.

أي: وقالت النِّسوةُ: مَعاذَ اللهِ، وتنزيهًا له .

مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ.

أي: ما هذا مِن البشَرِ، ما هو إلَّا ملَكٌ مِن الملائكةِ، كريمٌ على اللهِ .

عن أنسِ بنِ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه، في حديثِ الإسراءِ والمِعراجِ الطَّويلِ: قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((ثمَّ عُرِجَ بي إلى السَّماءِ الثَّالثة، فاستفتَحَ جبريلُ، فقيل: من أنت؟ قال: جبريلُ، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِح لنا، فإذا أنا بيوسُفَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذا هو قد أُعطِيَ شَطرَ الحُسنِ، فرَحَّبَ ودعا لي بخ يرٍ)) .

قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32).

قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ.

أي: قالت امرأةُ العزيزِ للنِّسوةِ لَمَّا رأت افتِتانَهنَّ بيوسُفَ: فهذا الذي أصابَكنَّ حين نظرتنَّ إليه ما أصابكُنَّ؛ مِن الذهولِ وغيابِ العقل، حتَّى قطَّعتنَّ أيديَكنَّ- هو الفتَى الذي لُمتُنَّني في الافتتانِ به، وعيَّرتُموني في مُراودتي له، وحُبِّي إيَّاه !

وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ.

مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:

لمَّا تَقَرَّرَ عِندهُنَّ جَمالُ يُوسُف الظَّاهِر، وأَعْجَبَهُنَّ غايَة، وظَهَرَ مِنهُنَّ مِن العُذْرِ لِامْرَأَةِ العزيز شَيْءٌ كَثيرٌ -أَرادَت أن تُرِيهنَّ جَمالَه الباطِنَ بالعِفَّةِ التَّامَّة، فقالت :

وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ.

أي: ولقد راوَدْتُ يوسُفَ عن نَفسِه فدَعوتُه إلى الفاحشةِ، فامتنَعَ .

وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ.

أي: وَلَئِن لم يفعَلْ يوسُفُ ما آمُرُه به ليُلقَيَنَّ في السِّجنِ، ولَيكونَنْ من الأذلَّاءِ المُهانِينَ .

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا عَلِمَ يوسُفُ أنَّ القُوَّةَ البشَريَّةَ والطَّاقةَ الإنسانيَّةَ لا تفي بحُصولِ هذه العِصمةِ القَويَّة، فعند هذا التجأ يوسُفُ عليه السَّلامُ إلى الله تعالى .

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.

أي: قال يوسُفُ مُتضَرِّعًا إلى الله: يا ربِّ، دخُولي السِّجنَ، وتحمُّلُ مَشاقِّه أفضَلُ لديَّ وأهوَنُ ممَّا يَدعونَني إليه مِن مَعصيتِك، ويُراوِدنَني عليه مِن الفاحِشةِ .

وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ.

أي: وإنْ لم تدفَعْ عنِّي كيدَ أولئك النِّسوةِ أمِلْ إليهنَّ لضَعفي، وأُتابِعْهنَّ على ما يُرِدْنَ منِّي، وأكُنْ من الجاهلينَ بحقِّك، المُخالفينَ لأمرِك ونَهيِك، فاعصِمْني، ولا تَكِلْني إلى نَفسي .

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34).

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ.

أي: فاستجاب اللهُ ليوسُفَ دُعاءَه، فدفع عنه ما أرادَت منه امرأةُ العزيزِ وصواحِباتُها مِن معصيةِ الله .

إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

أي: إنَّ اللهَ هو السَّميعُ لدُعاءِ يوسُفَ حين دعاه، ويسمَعُ كُلَّ داعٍ مِن خَلقِه، العليمُ بمَكرِ النِّسوةِ، وبنِيَّةِ يوسُفَ وحاجتِه وبما يُصلِحُه، ويعلمُ جميعَ أحوالِ عبادِه .

ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35).

أي: ثمَّ ظهَر للعزيزِ وأصحابِه من بعدِ ما رأَوُا الأدلَّةَ المُبَرِّئةَ ليوسُفَ أنَّ المصلَحةَ في إيداعِه السِّجنَ مدَّةً مِن الزَّمَن

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ الله تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا فيه الحذَرُ مِن المحبَّةِ التي يُخشى ضَررُها؛ فإنَّ امرأةَ العزيزِ جرى منها ما جرى، بسبَبِ توحُّدِها بيوسُفَ، وحُبِّها الشَّديدِ له، الذي ما ترَكَها حتى راودَتْه تلك المُراوَدةَ، ثمَّ كذَبَت عليه، فسُجِنَ بسَبَبِها مدَّةً طويلةً

.

2- قولُ الله تعالى: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ هكذا ينبغي للعبدِ إذا ابتُلِيَ بين أمرينِ: إمَّا فِعلِ مَعصيةٍ، وإمَّا عُقوبةٍ دُنيويَّةٍ، أن يختارَ العُقوبةَ الدُّنيويَّةَ على مواقَعةِ الذَّنبِ المُوجِبِ للعُقوبةِ الشَّديدةِ في الدُّنيا والآخرةِ؛ ولهذا مِن علاماتِ الإيمانِ: أن يكرهَ العبدُ أن يعودَ في الكُفرِ بعد أن أنقَذَه اللهُ منه، كما يكرَهُ أن يُلقى في النَّارِ .

3- قال اللَّهُ تعالى: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، مَن احْتَمَل الهَوانَ والأذَى في طاعَةِ اللَّهِ على الكَرامَةِ والعِزِّ في مَعْصيةِ اللَّهِ-كما فَعَل يُوسفُ عليه السَّلامُ وغيرُه مِنَ الأنبياءِ والصَّالحينَ- كانتِ العاقِبةُ له في الدُّنيا والآخرةِ، وكان ما حَصَل له مِنَ الأذَى قد انقَلَب نَعيمًا وسُرورًا، كما أنَّ ما يحصُلُ لأربابِ الذُّنوبِ مِنَ التَّنعُّمِ بالذُّنوبِ ينقَلِبُ حُزْنًا وثُبورًا .

4- ينبغي للعبدِ أن يلتجئَ إلى اللهِ، ويحتميَ بحِماه عند وجودِ أسبابِ المَعصيةِ، ويتبَرَّأَ مِن حولِه وقُوَّتِه؛ لقولِ يوسُفَ عليه السَّلامُ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ .

5- قال الله تعالى عن يوسُفَ: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ فاختار السِّجنَ على الفاحِشةِ، ثمَّ تبرَّأ إلى اللهِ مِن حَولِه وقُوَّتِه، وأخبَرَ أنَّ ذلك ليس إلَّا بمعونةِ اللهِ له وتوفيقِه وتأييدِه لا مِن نَفسِه، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فلا يركَن العبدُ إلى نفسِه وصَبرِه وحالِه وعِفَّتِه، ومتى ركنَ إلى ذلك تخلَّت عنه عِصمةُ اللهِ، وأحاط به الخِذلانُ؛ وقد قال اللهُ تعالى لأكرمِ الخَلقِ عليه وأحبِّهِم إليه، صلَّى الله عليه وسلَّم: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا الإسراء: 74، فكيف بمن يُعرِّضُ نفسَه للفتنةِ بالخلوةِ أو المخالطةِ للأجنبياتِ أو بالسفرِ إلى بلادٍ تكثرُ فيها الفتنُ، ويزعمُ أنَّه واثقٌ مِن نفسِه.

6- الجَهلُ- كما يُطلَقُ على عدمِ العِلمِ- يُطلَقُ على عدَمِ الحِلمِ، وعلى ارتكابِ الذَّنبِ؛ لِقَولِه تعالى: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ، وقوله: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ يوسف: 89 ليس المعنى في ذلك عدَمَ العِلمِ، وإنَّما هو عدمُ العمَلِ به، واقتحامُ الذُّنوبِ، ومنه قولُ موسى صلَّى الله عليه وسلَّم: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ البقرة: 67، وقولُه تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ النساء: 17، وكلُّ من عصى الله فهو جاهِلٌ باعتبارِ عدمِ العمَلِ بالعِلمِ؛ لأنَّ العِلمَ الحقيقيَّ ما زال الجهلُ به، وأوجَبَ العملَ .

7- ابْتُلِي يُوسُف عليه السَّلامُ بِأَمْرٍ لا يَصبِر عليه إلَّا مَن صَبَّرَهُ الله، فإنَّ مُواقَعَة الفِعْل بِحَسْبِ قُوَّةِ الدَّاعِي وزَوالِ المانِع، وكان الدَّاعي هاهنا في غايَةِ القُوَّة، وذلك مِن وُجوهٍ:

أَحَدُها: ما رَكَّبَهُ الله سُبحانه في طبعِ الرَّجُلِ مِن ميلِه إلى المرأَةِ.

الثَّاني: أنَّ يُوسُفَ عليه السَّلامُ كان شَابًّا، وشهوةُ الشَّبابِ وَحِدَّتُه أقوَى.

الثَّالِث: أنَّه كان عَزَبًا، ليس له زَوجَة ولا سُرِّيَّة تَكْسرُ شِدَّةَ الشَّهوةِ.

الرَّابِع: أنَّه كان في بِلادِ غُرْبَةٍ، يَتَأَتَّى للغَريبِ فيها مِن قَضاءِ الوَطَرِ ما لا يَتَأَتَّى له في وطنِه وبينَ أهلِه ومَعارِفِه.

الخامِس: أنَّ المَرأةَ كانت ذاتَ مَنْصِبٍ وجَمالٍ، بحيث إنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن هَذينِ الأَمرَينِ يَدعو إلى مُواقعتِها.

السَّادِس: أنَّها طَلَبَت وأَرادَت وبَذَلت الجهدَ، فكَفَتْه مُؤْنةَ الطَّلَبِ وذُلَّ الرَّغبةِ إليها؛ بل كانت هي الرَّاغبةَ الذَّليلةَ، وهو العَزيزُ المَرغوبُ إليه.

السَّابِع: أنَّه في دارِها، وتحت سُلطانِها وقَهْرِها، بحيثُ يخشَى إن لم يُطاوِعْها مِن أذاها له، فاجْتَمَع داعي الرَّغبةِ والرَّهبةِ.

الثَّامِن: أنَّه لا يخشَى أن تَنُمَّ عليه هي، ولا أحدٌ مِن جِهَتِها، فإنَّها هي الطَّالِبَةُ الرَّاغبةُ، وقد غَلَّقَت الأَبوابَ، وغَيَّبَت الرُّقَباء.

التَّاسِع: أنَّه كان في الظَّاهِر مَمْلوكًا لها في الدَّار، بحيث يَدخُل ويَخرُج ويَحْضُر معها ولا يُنْكَر عليه، وكان الأُنْسُ سابِقًا على الطَّلَب وهو مِن أَقوَى الدَّواعِي.

العاشِر: أنَّها اسْتَعانَت عليه بأئمَّةِ المكرِ والاحتيالِ، فأَرَتْه إيَّاهنَّ، وشَكَتْ حالَها إليهنَّ؛ لتستعينَ بهنَّ عليه.

الحادي عَشَر: أنَّها تَوعَّدَتْه بالسَّجنِ والصَّغارِ، وهذا نَوعُ إكراهٍ، إذ هو تهديدُ مَن يَغْلِبُ على الظَّنِّ وُقوعُ ما هَدَّدَ به.

الثَّاني عَشَر: أنَّ الزَّوجَ لم يُظهِرْ مِن الغَيرةِ والنَّخْوةِ ما يُفَرِّقُ به بينَهما، ويُبْعِدُ كُلًّا منهما عن صاحبِه؛ بل كان غايةُ ما قابَلَها به أن قال لِيُوسُف: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وللمرأةِ: واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئِينَ، وشِدَّةُ الغَيْرَةِ للرَّجُل مِن أَقوَى المَوانِع، وهنا لم تَظْهَرْ منه غَيرةٌ.

ومع هذه الدَّواعِي كُلِّها فآثَر مَرضاةَ الله وخَوفَه، وحَمَله حُبُّه لله على أن اخْتار السِّجنَ على الزِّنا: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وعَلِمَ أنَّه لا يَطيقُ صَرْفَ ذلك عن نَفسِه، وأنَّ رَبَّه تعالى إن لم يعصِمْه، ويصرِفْ عنه كيدَهنَّ؛ صَبَا إليهِنَّ بطبعِه، وكان مِن الجاهِلينَ، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ، وهذا مِن كمالِ معرفتِه برَبِّه وبنفسِه .

8- قَولُه تعالى على لسانِ يوسُفَ: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ أَحَبُّ هنا ليسَتْ على بابها من التفضيلِ؛ لأنَّه لم يحِبَّ ما يدعونَه إليه قطُّ، وإنَّما هذان شَرَّان، فآثرَ أحدَ الشَّرَّينِ على الآخرِ، وإن كان في أحدِهما مَشقَّةٌ وفي الآخر لذَّةٌ، لكنْ لِمَا يترتَّبُ على تلك اللذَّةِ مِن معصيةِ اللهِ وسُوءِ العاقبة، لم يخطُرْ له ببالٍ، ولِمَا في الآخَرِ مِن احتمالِ المشقَّةِ في ذاتِ الله، والصَّبرِ على النَّوائب، وانتظارِ الفرَجِ، والحضورِ مع الله تعالى في كلِّ وقتٍ داعيًا له في تخليصِه- آثَرَه، ثمَّ ناط العِصمةَ بالله، واستسلمَ لله كعادةِ الأنبياءِ والصَّالحينَ، وأنَّه تعالى لا يَصرِفُ السُّوءَ إلَّا هو .

9- في قولِه تعالى عن يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ طَلَبُ سؤالِ اللهِ ودُعائِه أنْ يُثَبِّتَ القلبَ على دينِه، ويصرِفَه إلى طاعتِه، وإلَّا فإذا لم يُثَبِّتِ القلبَ صَبَا إلى الآمِرينَ بالذُّنوبِ، وصارَ مِن الجاهلين .

10- قولُ الله تعالى: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فيه أنَّ العِلمَ والعَقلَ يدعُوانِ صاحِبَهما إلى الخيرِ، ويَنهَيانِه عن الشَّرِّ، وأنَّ الجَهلَ يدعو صاحِبَه إلى مُوافَقةِ هوى النَّفسِ، وإن كان معصيةً ضارًّا لصاحِبِه .

11- قال اللَّهُ تعالى: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فإنَّ هذا جَهْلٌ؛ لأنَّه آثَرَ لذَّةً قَليلَةً مُنَغَّصَةً على لذَّاتٍ مُتَتابِعاتٍ، وشَهَواتٍ مُتَنَوِّعاتٍ في جنَّاتِ النَّعيمِ، ومَن آثَرَ هذا على هذا فمَنْ أجْهَلُ منه؟! فإنَّ العلمَ والعقلَ يدعو إلى تقديمِ أعظمِ المصلحتينِ وأعظمِ اللَّذَّتينِ، ويُؤثرُ ما كان محمودَ العاقبةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ، قوله: فَتَاهَا إضافتُه إلى ضميرِ امرأةِ العزيزِ؛ لأنَّه غلامُ زوجِها، فهو غلامٌ لها بالتبعِ، ما دامتْ زوجةً لمالكِه

.

2- في قولِه تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ إنْ قيل: فما كان مَكرُ النِّسوةِ اللَّاتي مكَرْنَ به، وسمِعَت به امرأةُ العزيزِ؛ فإنَّ اللهَ سُبحانه لم يقُصَّه في كتابِه؟

قيل: بلى، قد أشارَ إليه بقَولِه: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

وهذا الكلامُ متضَمِّنٌ لوجوهٍ مِن المَكرِ:

أحدها: قولُهنَّ: امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا ولم يُسَمُّوها باسمِها، بل ذكَرُوها بالوَصفِ الذي يُنادي عليها بقبيحِ فِعلِها؛ بكَونِها ذاتَ بَعْلٍ، فصُدورُ الفاحشةِ منها أقبَحُ مِن صُدورِها ممَّن لا زوجَ لها.

الثاني: أنَّ زَوجَها عزيزُ مِصرَ ورئيسُها وكبيرُها، وذلك أقبحُ لوقوعِ الفاحشةِ منها.

الثالث: أنَّ الذي تُراوِدُه مملوكٌ لا حُرٌّ، وذلك أبلغُ في القبح.

الرابع: أنَّه فتاها الذي هو في بيتِها وتحت كَنَفِها، فحُكمُه حُكمُ أهلِ البيتِ، بخلافِ مَن طلب ذلك مِن الأجنبيِّ البعيدِ.

الخامس: أنَّها هي المُراوِدةُ الطَّالبةُ.

السادس: أنَّها قد بلغ بها عِشقُها له كلَّ مَبلغٍ، حتى وصل حُبُّها له إلى شَغافِ قَلبِها.

السابع: أنَّ في ضِمنِ هذا أنَّه أعَفُّ منها وأبَرُّ وأوفى؛ حيث كانت هي المُراوِدةَ الطَّالبةَ، وهو المُمتنِعَ؛ عَفافًا وكَرَمًا وحَياءً، وهذا غايةُ الذَّمِّ لها.

الثامن: أنهنَّ أتينَ بفِعلِ المُراوَدةِ بصيغةِ المُستقبَلِ الدَّالَّةِ على الاستمرارِ والوُقوعِ حالًا واستقبالًا، وأنَّ هذا شأنُها، ولم يقُلْنَ: راودَت فتاها. وفَرقٌ بين قولك: فلانٌ أضاف ضيفًا، وفلانٌ يَقري الضَّيفَ، ويُطعِمُ الطَّعامَ، ويَحمِلُ الكَلَّ؛ فإنَّ هذا يدُلُّ على أنَّ هذا شأنُه وعادتُه.

التاسع: قولُهنَّ: إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، أي: إنَّا لَنستقبِحُ منها ذلك غايةَ الاستقباحِ، فنَسَبنَ الاستقباحَ إليها، ومِن شأنهنَّ مُساعدةُ بعضِهنَّ بعضًا على الهوى، ولا يَكَدْنَ يرَينَ ذلك قبيحًا، كما يساعِدُ الرِّجالُ بعضُهم بعضًا على ذلك؛ فحيث استقبحْنَ منها ذلك كان هذا دليلًا على أنَّه من أقبحِ الأمورِ، وأنَّه ممَّا لا ينبغي أن تُساعَدَ عليه، ولا يَحسُنُ مُعاونتُها عليه.

العاشر: أنهنَّ جَمَعْن لها في هذا الكلامِ واللَّومِ بين العِشقِ المُفرِط، والطَّلبِ المُفرِط، فلم تقتَصِدْ في حُبِّها، ولا في طَلَبِها؛ أمَّا العِشقُ فقولُهنَّ: قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا، أي: وصل حُبُّه إلى شَغافِ قَلبِها، وأمَّا الطَّلَبُ المُفرِطُ فقَولُهنَّ: تُرَاوِدُ فَتَاهَا، والمُراودةُ: الطَّلَبُ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ، فنَسَبوها إلى شِدَّةِ العِشقِ، وشِدَّةِ الحِرصِ على الفاحِشةِ، فلمَّا سَمِعَت بهذا المكرِ منهنَّ هيَّأتْ لهنَّ مكرًا أبلَغَ منه .

3- قولُ الله تعالى: قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ لَمَّا كان عَزمُها على السَّجنِ أقوى مِن العَزمِ على إيقاعِ الصَّغارِ به، أكَّدَتْه بالنُّونِ الثَّقيلةِ، فقالت: لَيُسْجَنَنَّ، وقالت: وَلَيَكُونًا بالنُّونِ الخفيفة مِنَ الصَّاغِرِينَ أي: الأذلَّاء. وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّ الزِّيادةَ في تأكيدِ السَّجنِ؛ لأنَّه يلزَمُ منه إبعادُه، وإبعادُ الحبيبِ أولى بالإنكارِ مِن إهانتِه .

4- قولُ الله تعالى: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فيه دليلٌ على أنَّ المؤمِنَ إذا ارتكبَ ذَنبًا، يرتكِبُه عن جَهالةٍ .

5- في قولِه تعالى عن يوسف: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ* فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ رَدٌّ على المعتزلة والجَهميَّة فيما يزعمونَ أنَّ الإنسانَ مالِكُ نفسِه؛ لا يحتاجُ إلى عصمة ربِّه عن المعاصي؛ فهذا نبيُّ اللهِ يوسفُ صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو بصرفِ كيدِهِنَّ عنه؛ عِلمًا منه أنَّ العِصمةَ هي التي تُنجيه، وتُحولُ بينه وبينَ المعصيةِ، فأخبر اللهُ عن إجابةِ دعوتِه؛ وصَرَفَ عنه كيدَهنَّ .

6- قولُ الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ عطْفُ استجابةِ رَبِّه له، وصَرْفِ كيدِهنَّ عنه بالفاء الدالَّةِ على التَّعقيبِ، وتَعليلُها بأنَّها مقتضى كمالِ صِفتَي السَّمعِ والعِلم- دليلٌ على أنَّ رَبَّه تعالى لم يتخَلَّ عن عنايتِه بتربيتِه أقصَرَ زمَنٍ يهتَمُّ فيه بأمرِ نَفسِه ومُجاهدتِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

- قولُه: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ صرَّحَ النِّسوةُ بإضافتِها إلى العزيزِ؛ مُبالَغةً في التَّشنيعِ؛ لأنَّ النُّفوسَ أقبَلُ لِسَماعِ ذَوي الأخطارِ وما يَجْري لهم

.

- قولُه: تُرَاوِدُ فَتَاهَا فيه التَّعبيرُ بصِيغةِ المضارِعِ تُرَاوِدُ مع كَوْنِ المراوَدةِ مضَتْ؛ لِقَصْدِ استِحْضارِ الحالةِ العَجيبةِ؛ لِقَصدِ الإنكارِ عليها في أنفُسِهنَّ ولَوْمِها على صَنيعِها؛ وللدَّلالةِ على أنَّ ذلك صارَ سجيَّةً لها؛ تُخادِعُه دائمًا عن نفسِه .

- قولُه: فَتَاهَا في التَّعبيرِ عن يوسُفَ عليه السَّلامُ بذلك مُضافًا إليها لا إلى العزيزِ- الَّذي لا تَستلزِمُ الإضافةُ إليه الهوانَ، بل ربَّما يُشعِرُ بنوعِ عزَّةٍ-؛ لإبانةِ ما بينَهما مِن التَّبايُنِ البيِّنِ النَّاشئِ عن المالكيَّةِ والمملوكيَّةِ، وذلك للمُبالَغةِ والإشباعِ في اللَّومِ؛ فإنَّ مَن لا زوجَ لها مِن النِّساءِ، أو لها زوجٌ دَنيءٌ قد تُعذَرُ في مُراوَدةِ الأخدانِ لا سيَّما إذا كان فيهم عُلوُّ الجَنابِ، وأمَّا الَّتي لها زوجٌ وأيُّ زوجٍ! عزيزُ مِصرَ؛ فمُراوَدتُها لغَيرِه- لا سيَّما لِمَن لا كَفاءةَ بينَها وبينَه أصلًا، وتَماديها في ذلك- غايةُ الغيِّ، ونهايةُ الضَّلالِ .

- قولُه: قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا تكريرٌ للَّومِ، وتأكيدٌ للعَذْلِ ببَيانِ اختلالِ أحوالِها القَلبيَّةِ كأحوالِها القالَبيَّة .

- ولِمَا في قَدْ شَغَفَهَا مِن الإجمالِ جِيءَ بالتمييزِ للنِّسبةِ بقولِه: حُبًّا، وأصله: شغَفَها حبُّه، أي: أصاب حبُّه شغافَها، أي: اخترَقَ الشَّغافَ فبلَغَ القلبَ؛ كنايةً عن التمكُّنِ .

- قولُه: إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ جملةٌ مُقرِّرةٌ لِمَضمونِ الجُملتَين السَّابِقَتين المسوقَتَين لِلَّومِ والتَّشنيعِ، وتَسجيلٌ عليها بأنَّها في أمرِها على خطَأٍ عظيمٍ، وهي استئنافٌ ابتدائيٌّ لإظهارِ اللومِ والإنكارِ عليها. والتأكيدُ بـ (إنَّ) واللام؛ لتحقيقِ اعتقادهنَّ ذلك، وإبعادًا لتُهمتِهنَّ بأنهنَّ يَحسِدْنَها على ذلِك الفتى، وإنَّما لم يَقُلْن: (إنَّها لَفي ضَلالٍ مبينٍ)؛ إشعارًا بأنَّ ذلك الحُكْمَ غيرُ صادرٍ عنهنَّ مُجازَفةً، بل عن عِلمٍ ورأيٍ، مع التَّلويحِ بأنَّهنَّ مُتنزِّهاتٌ عن أمثالِ ما هي عليه .

2- قولُه تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ

- قولُه تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ: حَقُّ (سَمِع) أن يُعَدَّى إلى المسموعِ بنَفسِه، فتَعديَتُه بالباءِ هنا إمَّا لأنَّه ضُمِّن معنى أُخبِرَتْ، كقولِ المثَلِ: «تَسْمَعُ بالمعيديِّ خيرٌ مِن أن تَراه» أي تُخبَرُ عنه. وإمَّا أن تَكونَ الباءُ مَزِيدةً للتَّوكيدِ، مثلَ قولِه تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ المائدة: 6.

- قولُه: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ عَطفٌ على مُقدَّرٍ يَستَدْعيه الأمرُ بالخروجِ، ويَنسحِبُ عليه الكلامُ، والتَّقديرُ: فخرَج عليهِنَّ فرأَينَه، وإنَّما حُذِف تَحقيقًا لِمُفاجَأةِ رُؤيتِهنَّ، كأنَّها تَفوتُ عند ذِكرِ خُروجِه عليهِنَّ، وفيه إيذانٌ بسُرعةِ امتِثالِه عليه السَّلامُ بأمرِها فيما لا يُشاهِدُ مَضرَّتَه مِن الأفاعيلِ .

- قولُه: وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ في التَّعبيرِ عن الجَرْحِ بالقَطعِ دَلالةٌ على كَثرةِ جَرحِهنَّ، ومع ذلك لم يُبالينَ بذلك، ولم يَشعُرْنَ به ؛ فأطلق عليه القطعَ؛ للمبالغةِ في شِدَّتِه حتَّى كأنَّه قَطَع قطعةً مِن لحمِ اليدِ .

- قولُه: وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ اللَّامُ في لِلَّهِ للتَّعليلِ، أي: جانَبَ يوسُفُ المعصيَةَ لأجْلِ طاعةِ اللهِ ، وحَاشَ لِلَّهِ تركيبٌ عربيٌّ جرَى مجرَى المَثَل؛ يُرادُ منه إبطالُ شيءٍ عن شيءٍ وبراءتُه منه .

- وقولُهنَّ: مَا هَذَا بَشَرًا مُبالَغةٌ في فَوْتِه مَحاسِنَ البشَرِ، فمَعناه التَّفضيلُ في مَحاسِنِ البَشَرِ، وهو ضِدُّ معنى التَّشابُهِ في بابِ التَّشبيهِ، ثمَّ شبَّهنَه بواحِدٍ مِن الملائكةِ بطَريقةِ حَصْرِه في جِنْسِ الملائكةِ تَشْبيهًا بَليغًا مؤكَّدًا، وأُطلِقَ في الآيةِ اسْمُ الملَكِ على ما كانتْ حَقيقتُه مُماثِلةً لحقيقةِ مُسمَّى الملَكِ في اللُّغةِ العَرَبيَّةِ؛ تَقريبًا لأَفْهامِ السَّامِعين؛ فهذا التَّشْبيهُ مِن تَشبيهِ المحسوسِ بالمتخيَّلِ .

3- قولُه تعالى: قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ

- قولُه: قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ والإشارةُ بما يُشارُ به إلى البعيدِ في قولِها: فَذَلِكُنَّ، فلم تقُلْ: (فهذا)، مع قربِ المُشارِ إليه وحضورِه؛ رفعًا لمنزلتِه في الحُسنِ، واستبعادًا لمحلِّه فيه، وإشارةً إلى أنَّه لغرابتِه بعيدٌ أن يوجدَ مثلُه .

- وقولُها: فَاسْتَعْصَمَ قيل: إنَّه بناءُ مُبالَغةٍ يدُلُّ على الامتناعِ البليغِ، والتَّحفُّظِ الشَّديدِ، كأنَّه في عِصْمةٍ، وهو يَجتَهِدُ في الاستِزادةِ منها، كما في استَمسَك واستجمَع الرَّأيَ، وفيه بُرهانٌ نيِّرٌ على أنَّه لم يَصدُرْ عنه عليه السَّلامُ شيءٌ مُخِلٌّ باستعصامِه، والمعنى: أنَّه امتنَع امتِناعَ مَعصومٍ، أي: جاعِلًا المراوَدةَ خَطيئةً عصَم نفْسَه منها ، وقيل: بل اسْتَعْصَمَ موافِقٌ لاعتَصَم؛ فاستَفْعَل فيه مُوافِقٌ لافتَعَل، وهذا أجوَدُ مِن جَعْلِ استَفعَل فيه للطَّلبِ؛ لأنَّ اعتَصَم يَدُلُّ على وُجودِ اعتِصامِه، وطلَبُ العصمةِ لا يَدُلُّ على حُصولِها، وأمَّا أنَّه بِناءُ مُبالَغةٍ يَدُلُّ على الاجتهادِ في الاستزادةِ مِن العصمةِ، فلم يَذكُرِ التَّصريفيُّون هذا المعنى لاستَفعَل .

- قولُها: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ فيه التَّعبيرُ عن مُراوَدتِها بالأمرِ- وذلك في قولِها: آمُرُهُ-؛ إظهارًا لجرَيانِ حُكومتِها عليه، واقتِضاءً للامتثالِ بأمرِها .

- قولُه: لَيُسْجَنَنَّ فيه بناءُ الفعلِ للمفعولِ؛ جَريًا على رَسْمِ الملوكِ، أو إيهامًا لِسُرعةِ تَرتُّبِ ذلك على عدَمِ امتِثالِه لأمْرِها؛ كأنَّه لا يَدخُلُ بينَهما فِعلُ فاعِلٍ ، وأكَّدَت حُصولَ سَجْنِه بنُونَيِ التَّوكيدِ، وقد قالت ذلك بمَسمَعٍ منه إرهابًا له .

- قولُها: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ فيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيث لم يَذكُرْ هنا العذابَ الأليمَ الَّذي ذكَرَتْه في قولِها السَّابِقِ: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يوسف: 25؛ لأنَّها إذْ ذاك كانت في طَراوةِ غَيظِها، ومُتنصِّلةً مِن أنَّها هي الَّتي راوَدَتْه، فناسَب هناك التَّغليظُ بالعقوبةِ، وأمَّا هنا فإنَّها في طَماعيَةٍ ورَجاءٍ، وأقامَت عُذرَها عِندَ النِّسوةِ، فرَقَّت عليه، فتوَعَّدَتْه بالسَّجنِ .

4- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ

- قولُه: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ ما حُكي قَبْلَه مَقامُ شِدَّةٍ، مِن شأنِه أن يَسأَلَ سامِعُه عن حالِ تَلقِّي يوسُفَ عليه السَّلامُ فيه لِكَلامِ امرأةِ العزيزِ .

- وقولُه: السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ فيه الاقتصارُ على ذِكرِ السِّجنِ؛ لأنَّ الصَّغارَ مِن فُروعِه ومُستتبَعاتِه .

- وعبَّر عما عرَضتْه المرأةُ بالموصوليَّةِ مِمَّا يَدْعُونَنِي؛ لِمَا في الصِّلةِ من الإيماءِ إلى كونِ المطلوبِ حالةً هي مَظِنَّةُ الطواعيةِ؛ لأنَّ تَمالُؤَ الناسِ على طلبِ الشيءِ من شأنِه أن يُوطِّنَ نفسَ المطلوبِ للفِعلِ؛ فأظهرَ أنَّ تمالُؤَهنَّ على طَلَبهنَّ منه امتثالَ أمْرِ المرأةِ لم يَفُلَّ من صارمِ عزْمِه على الممانعةِ، وجعَل ذلك تمهيدًا لسُؤالِ العِصمةِ من الوُقوعِ في شَرَكِ كَيدِهنَّ؛ فانتقَلَ مِن ذِكر الرِّضا بوعيدِها إلى سؤالِ العِصمةِ مِن كيدِها .

- وأُسنِد فِعْلُ يَدْعُونَنِي إلى ضَميرِ جَمْعِ النِّساءِ (نونِ النِّسوةِ) مع أنَّ الَّتي دعَتْه امرأةٌ واحدةٌ؛ إمَّا لأنَّ تِلك الدَّعوَةِ مِن رَغَباتِ صِنْفِ النِّساءِ؛ فيَكونُ على وِزَانِ جَمْعِ الضَّميرِ في كَيْدَهُنَّ، وإمَّا لأنَّ النِّسوَةَ اللَّاتي جمَعَتْهنَّ امرأةُ العزيزِ لَمَّا سَمِعْن كلامَها تَمالَأْن على لَوْمِ يوسُفَ عليه السَّلامُ، وتَحريضِه على إجابةِ الدَّاعيَةِ، وتَحْذيرِه مِن وَعيدِها بالسِّجنِ ، وقيل: دعَوْنه إلى أنفُسِهنَّ .

- وجملةُ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ خبرٌ مُستعمَلٌ في التَّخوُّفِ والتَّوقُّعِ؛ الْتِجاءً إلى اللهِ ومُلازَمةً للأدَبِ نحوَ ربِّه؛ بالتَّبرُّؤِ مِن الحولِ والقوَّةِ، والخشيةِ مِن تَقلُّبِ القلبِ، ومِن الفتنةِ بالميلِ إلى اللَّذَّةِ الحرامِ؛ فالخبَرُ مُستعمَلٌ في الدُّعاءِ؛ ولذلك فرَّع عنه جُملةَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ .

- قولُه: أَصْبُ كلمةٌ مُشعِرةٌ بالمَيلِ فقَط، لا بمُباشَرةِ المعصيةِ .

5- قولُه تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

- قولُه: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فيه العطفُ بفاءِ التَّعقيبِ في قولِه: فَاسْتَجَابَ؛ إشارةً إلى أنَّ اللهَ عجَّل إجابةَ دُعائِه الَّذي تَضمَّنه قولُه: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ، وفي إسنادِ الاستجابةِ إلى الرَّبِّ مضافًا إلى يوسُفَ عليه السَّلامُ ما لا يَخفْى مِن إظهارِ اللُّطفِ .

- وجملةُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ في موضِعِ العِلَّةِ لقولِه: فَاسْتَجَابَ المعطوفِ بفاءِ التَّعقيبِ، أي: أجاب دُعاءَه بدُونِ مُهلَةٍ؛ لأنَّه سَريعُ الإجابةِ، وعليمٌ بالضَّمائرِ الخالصةِ

============================

 

سُورةُ يُوسُفَ

الآيات (36-42)

ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ

غريب الكلمات:

 

مِلَّةَ: أي: دينَ، وطريقةَ، مشتقَّة من أَمْلَلْتُ (أي: أَمْلَيْتُ)؛ لأنَّها تُبنَى على مسموعٍ ومتلوٍّ؛ فإذا أُريدَ الدِّينُ باعتبارِ الدُّعاءِ إليه؛ قيل: (مِلَّة)، وإذا أُريدَ باعتبارِ الطَّاعةِ والانقيادِ له؛ قيل: (دين)

.

الْقَيِّمُ: أي: المستقيمُ الذي لا عِوجَ فيه، أو: القائمُ الدائمُ الذي لا يزولُ، وأصلُ (قوم): يدلُّ على مراعاةِ الشيءِ وحِفظِه .

بِضْعَ: البِضْعُ هو ما بينَ الثَّلاثِ إلى العَشرةِ ، وقيل غير ذلك، واشتقاقُه مِن (بَضَعْت) بمعنَى (قَطَعت)، ومعناه القطعةُ مِن العَدَدِ، وأصلُ (بضع): يدلُّ على طائفةٍ مِن الشَّيءِ عُضْوًا أو غيرَه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى أنَّ يوسفَ عليه السلامُ دخَل معه السجنَ فتيانِ، وأنَّ أحدَهما قال: إنِّي رأيتُ في المنامِ أنِّي أعصِرُ عِنبًا ليصيرَ خَمرًا، وقال الآخرُ: إنِّي رأيتُ أنِّي أحمِلُ فوقَ رأسي خُبزًا تأكلُ الطَّيرُ منه، أخبِرْنا- يا يوسُفُ- بتفسيرِ ما رأينا، إنَّا نراك من المحسنين. قال لهما يوسفُ: لا تريانِ في مَنامِكما طَعامٌ تُرزَقانِه إلَّا أخبَرتُكما بتفسيرِه في اليقَظةِ قبل أن يأتيَكما، ذلك التَّعبيرُ الذي سأعبِّرُه لكما ممَّا علَّمَني ربِّي؛ إنِّي آمنتُ به، وأخلصتُ له العبادةَ، وابتعدتُ عن دينِ قَومٍ لا يُؤمِنونَ بالله، وهم بالبَعثِ والحِسابِ جاحِدونَ، واتَّبَعتُ دينَ آبائي إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، فعبدتُ الله وَحدَه، ما كان لنا أن نجعلَ لله شريكًا في عبادتِه، ذلك التَّوحيدُ بإفرادِ اللهِ بالعبادةِ، ممَّا تفضَّلَ الله به علينا وعلى النَّاسِ الذين جعَلَنا دُعاةً لهم إلى توحيدِه، ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يشكُرونَ.

وقال يوسُفُ للفَتَيينِ اللَّذينِ معه في السِّجنِ: يا ساكِنَي السِّجنِ، أعبادةُ آلهةٍ مخلوقةٍ شَتَّى خيرٌ أم عبادةُ اللهِ الواحدِ القَّهارِ؟ ما تعبُدونَ مِن دونِ اللهِ إلَّا أسماءً لا معانيَ وراءَها، جعلتُموها أنتم وآباؤكم أربابًا، جهلًا منكم وضلالًا، ما أنزل اللهُ مِن حُجَّةٍ أو برهانٍ على صِحَّتِها، وما الحُكمُ إلَّا لله تعالى وَحدَه لا شريكَ له، أمَرَ ألَّا تعبُدوا أحدًا غيرَه، وهذا هو الدِّينُ القيِّمُ الذي لا عِوَجَ فيه، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ يجهَلون ذلك، فلا يعلمونَ حقيقتَه.

يا ساكِنَي السِّجنِ، إليكما تفسيرَ رُؤياكما: أمَّا أحدُكما فإنَّه يخرجُ مِن السِّجنِ، ويكونُ ساقيَ الخَمرِ للمَلِك، وأمَّا الآخَرُ فإنَّه يُصلَبُ ويُترَكُ، فتأكُلُ الطَّيرُ مِن رأسِه، قُضيَ الأمرُ الذي فيه تستفتيانِ وفُرِغَ منه، وقال يوسُفُ للذي علِمَ أنَّه ناجٍ من صاحِبَيه: اذكُرني عند سيِّدِك المَلِك، وأخبِرْه بأنِّي مظلومٌ، قد سُجِنْتُ بلا ذَنبٍ، فأنسَى الشَّيطانُ ذلك الرَّجُلَ أن يَذكُرَ للمَلِك حالَ يوسُفَ، فمكثَ يوسُفُ بعد ذلك في السِّجنِ عِدَّةَ سَنواتٍ.

تفسير الآيات:

 

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكرَ السِّجنَ وكان سببًا ظاهِرًا في الإهانةِ، شَرعَ سُبحانه يقُصُّ مِن أمْرِه فيه ما حاصِلُه أنَّه جعَلَه سببَ الكرامةِ، كلُّ ذلك بيانًا للغَلَبةِ على الأمرِ، والاتِّصافِ بصِفاتِ القَهرِ، مع ما في ذلك مِن بيانِ تحقُّقِ ما تقدَّمَ به الوعدُ الوفيُّ ليوسُفَ عليه السَّلامُ، وغير ذلك مِن الحِكَم

.

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ

أي: فسَجَنوا يوسُفَ، ودخل معه السِّجنَ شابَّانِ .

قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا.

أي: قال أحدُ الشَّابَّينِ ليوسُفَ: إنِّي رأيتُ في المنامِ أنِّي أعصِرُ عِنبًا .

وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ.

أي: وقال الشَّابُّ الآخَرُ ليوسُفَ: إنِّي رأيتُ في المنامِ أنِّي أحمِلُ على رأسي خُبزًا تنهَشُ الطَّيرُ منه .

نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ.

أي: أخبِرْنا بتفسيرِ ما رَأينا في منامِنا .

إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.

أي: إنَّا نراك من المُحسِنينَ ، فأحسِنْ إلينا بتعبيرِ رُؤيانا .

قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37).

مناسبةُ الآيةِ لما قبلَها:

لمَّا وصَفاه بالإحسانِ، ورأَى منهما ميلًا إليه، ووثاقًا به؛ أخَذ في استدراجِهما في التوحيدِ الذي هو المقصودُ الكليُّ مِن أصلِ التخليقِ، قبلَ الشُّروعِ في عبارةِ الرُّؤْيا .

قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا.

أي: قال يوسُفُ للشَّابَّينِ: لا تريانِ في مَنامِكما طعامًا يأتيكما إلَّا أخبرتُكما بتعبيرِه في اليَقَظةِ قبلَ أن يقعَ .

ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي.

أي: هذا العِلمُ بتعبيرِ الرُّؤى ممَّا علَّمَني ربِّي .

إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ.

أي: إنِّي تبرَّأتُ مِن مِلَّةِ الكُفَّارِ الذين لا يؤمِنونَ بالله وبوَحدانيَّتِه، ولا يُقِرُّونَ بالبعثِ ولا بالثَّوابِ والعِقابِ يومَ الحِسابِ .

وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38).

وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ.

أي: واتَّبعتُ دينَ آبائي الأنبياءِ؛ إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ- عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- الذين دعَوا إلى توحيدِ اللهِ .

عن أبي هُريرةَ رَضيَ الله عنه، قال: ((قيل يا رسولَ الله: من أكرَمُ النَّاسِ؟ قال: أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألُك، قال: فيوسُفُ نبيُّ اللهِ، ابنُ نبيِّ اللهِ، ابنِ نبيِّ اللهِ، ابنِ خَليلِ اللهِ )) .

مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ.

أي: ما ينبغي لنا أن نجعلَ لله شريكًا في عبادتِه وطاعتِه .

ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ.

أي: ذلك التَّوحيدُ- الذي أكرَمَنا اللهُ تعالى به- ممَّا تفضَّلَ به علينا، وعلى النَّاسِ الذين جعَلَنا دُعاةً لهم إلى توحيدِه وطاعتِه .

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَشكُرونَ نِعَمَ اللهِ عليهم، فيُؤْمِنونَ به ويُوحِّدونَه، ويعملونَ بما شرَعه لهم، بل يُشركونَ .

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما ذكَر ما هو عليه مِن الدينِ الحنيفيِّ؛ تلطَّف في حسنِ الاستدلالِ على فسادِ ما عليه قومُ الفتَيَينِ مِن عبادةِ الأصنامِ، فناداهما باسْمِ الصُّحبةِ في المكانِ الشَّاقِّ الَّذي تخلُصُ فِيه الموَدَّةُ، وتتمحَّضُ فيه النَّصيحَةُ، ثُمَّ أورَد الدَّلِيلَ على بُطلانِ مِلَّةِ قومِهِما ، فقال:

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39).

أي: قال يوسُفُ للشَّابَّينِ: يا ساكِنَيِ السِّجنِ ، أآلهةٌ شتَّى لا تنفَعُ ولا تضُرُّ خيرٌ، أم المعبودُ الواحِدُ الذي لا ثانيَ له في ذاته وصفاتِه وكمالِه، الذي قهرَ كلَّ شَيءٍ مِن خَلْقِه، المستحِقُّ للعبادةِ وَحدَه ؟!

مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40).

مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم.

أي: ما تعبُدونَ مِن دونِ اللهِ إلَّا أسماءً سمَّيتُموها آلهةً أنتم وآباؤُكم، واعتقَدتُم ألوهيَّتَها، وليست في الحقيقةِ بآلهةٍ تستَحِقُّ العبادةَ .

مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ.

أي: لم يُنزِل اللهُ أيَّ حُجَّةٍ تدُلُّ على ثبوتِ أسماءِ تلك الآلهةِ الباطلةِ، ولا على استحقاقِها للعبادةِ .

كما قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى النجم: 23.

إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ.

أي: ما الحُكمُ إلَّا للهِ المُستحِقِّ للعبادةِ دونَ ما سواه؛ فهو وحدَه الحاكِمُ بين عبادِه، المشَرِّعُ لهم .

كما قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ الأنعام: 57.

وقال سُبحانه: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا الكهف: 26.

أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ.

أي: أمَرَكم الله- أيُّها النَّاسُ جميعًا- ألَّا تعبُدُوا إلَّا اللهَ وحدَه، ولا تُشرِكوا به شيئًا .

ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.

أي: ذلك التَّوحيدُ وإخلاصُ العبادةِ لله وحدَه، هو الدِّينُ المُستقيمُ الذي أمرَ الله به عبادَه .

كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ البينة: 5.

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يعلمونَ أنَّ توحيدَ اللهِ هو الدِّينُ المُستقيمُ الذي أمَرَ اللهُ به عبادَه؛ فهم لجهلِهم يُشرِكونَ بالله .

كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ الروم: 30.

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41).

مناسبةُ الآيةِ لما قبلَها:

لَمَّا فرغَ يوسفُ عليه السلامُ مِن دَعوتِهما؛ شرعَ في تعبيرِ رُؤياهما ، فقال:

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا.

أي: قال يوسفُ عليه السلامُ للشَّابين اللذينِ سألاه تعبيرَ رُؤْياهما: يا ساكِنَيِ السِّجنِ، أمَّا أحَدُكما فإنَّه يخرجُ مِن السِّجنِ، ويَسقي سيِّدَه المَلِكَ خَمرًا .

وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ.

أي: وأمَّا الآخَرُ فإنَّه يُقتَلُ، ويُعلَّقُ على خشَبةٍ، فتأكلُ الطَّيرُ مِن لحمِ رأسِه وشَحمِه .

قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ.

أي: فُرِغَ من الأمرِ الذي تسألانِ عن تَعبيرِه، وهو واقعٌ لا محالةَ .

وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42).

وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ.

أي: وقال يوسُفُ لصاحِبِه الذي تيقَّنَ أنَّه سينجو من القتلِ، ويخرُجُ مِن السِّجنِ: اذكُرني عند سيِّدِك الملِك، وأخبِرْه بأنِّي مسجونٌ بلا ذنبٍ .

فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ.

أي: فأنسَى الشَّيطانُ الفَتى الذي خرجَ مِن السِّجنِ أن يَذكُرَ يوسُفَ عند المَلِك، كما أوصاه بذلك .

فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.

أي: فمكث يوسُفُ في الحبسِ مَظلومًا مَنسيًّا بضعَ سنينَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُ الله تعالى: قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي فيه أنَّ العالمَ إذا جُهِلَت منزِلتُه في العِلمِ، فوصفَ نفسَه بما هو بصَددِه- وغرَضُه أن يُقتبَسَ منه، ويُنتفَعَ به في الدِّينِ- لم يكُن من بابِ التَّزكيةِ

.

2- عنْ قتادةَ في قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ قال: (إنَّ المؤمنَ ليَشْكُرُ ما بِه مِن نِعمةِ اللَّهِ، ويَشْكُرُ ما في النَّاسِ مِن نِعمةِ اللَّهِ) .

3- قولُه تعالى: ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا فيه وُجوبُ الاعترافِ بنِعَمِ الله الدِّينيةِ والدُّنيوية؛ فهو الذي مَنَّ بالعافيةِ والرِّزقِ وتَوابِعِ ذلك، وهو الذي مَنَّ بنِعمةِ الإسلامِ والإيمانِ والطَّاعةِ وتوابِعِ ذلك، فعلى العبدِ أن يعترفَ بها بقَلبِه ويتحدَّثَ بها، ويستعينَ بها على طاعةِ المُنعِم .

4- قال الله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ من العجَبِ أنَّ هذه الحقيقةَ التي بيَّنَها القرآنُ في مئاتٍ مِن الآياتِ البيِّناتِ تُتلى في السُّوَر الكثيرةِ بالأساليبِ البليغة؛ صار يجهَلُها كثيرٌ مِن الذين يدَّعونَ اتِّباعَ القرآنِ؛ فمنهم من يجهَلُ حقيقةَ التوحيدِ نفسِه، فيتوجَّهونَ إلى غيرِ الله إذا مسَّهم الضرُّ أو عجزوا عن بعضِ ما يحبُّونَ مِن النَّفعِ، فيدعونَهم خاشعينَ راغبينَ مِن دونِ الله، ويُسمُّونَهم شُفَعاءَ ووسائلَ عند الله، كما كان يفعلُ من كان قبلَهم من المُشركين .

5- أنَّ الدِّينَ المُستقيمَ- الذي عليه جميعُ الرُّسُلِ وأتباعهم- هو عبادةُ اللهِ وَحدَه لا شريكَ له؛ لِقَولِه: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يوسف: 40، فهو الدِّينُ المستقيمُ، المقيمُ للعقائدِ والأخلاقِ والأعمالِ، الذي لا تستقيمُ أمورُ الدِّينِ والدُّنيا إلَّا به .

6- قولُ الله تعالى حكايةً عن يوسفَ عليه السلام: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فيه أنَّه كما على العبدِ عبوديَّةٌ لله في الرَّخاءِ، فعليه عبوديَّةٌ له في الشِّدَّةِ؛ فيوسفُ عليه السلامُ لم يزَلْ يدعو إلى اللهِ، فلمَّا دخلَ السِّجنَ استمَرَّ على ذلك، ودعا الفتَيَين إلى التَّوحيدِ، ونهاهما عن الشِّركِ، ومِن فِطنتِه عليه السَّلامُ أنَّه لَمَّا رأى فيهما قابليَّةً لدَعوتِه؛ حيث ظنَّا فيه الظَّنَّ الحسَنَ وقالا له: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وأتَياه ليُعبِّرَ لهما رُؤياهما، فرآهما متشَوِّفَينِ لتَعبيرِها عنده- رأى ذلك فرصةً فانتهَزَها، فدعاهما إلى اللهِ تعالى قبل أن يعبِّرَ رُؤياهما؛ ليكونَ أنجحَ لمقصودِه، وأقربَ لحُصولِ مَطلوبِه، وبيَّنَ لهما أوَّلًا أنَّ الذي أوصَلَه إلى الحالِ- التي رأيَاه فيها من الكَمالِ والعِلمِ- إيمانُه وتوحيدُه، وتركُه ملَّةَ مَن لا يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ، وهذا دعاءٌ لهما بالحالِ، ثمَّ دعاهما بالمقالِ، وبيَّنَ فسادَ الشِّركِ وبرهنَ عليه، وحقيقةَ التَّوحيدِ وبرهَنَ عليه .

7- قولُ الله تعالى حكايةً عن يوسفَ عليه السلام: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فأوردَ يوسفُ عليه السلامُ الدَّليلَ على بُطلانِ مِلَّةِ قَومِهما في صورةِ الاستفهامِ؛ حتى لا تنفِرَ طباعُهما من المفاجأةِ بالدَّليلِ مِن غير استفهامٍ، وهكذا الوجهُ في محاجَّةِ الجاهلِ؛ أن يُؤخَذَ بدرجةٍ يسيرةٍ مِن الاحتجاجِ يقبَلُها، فإذا قَبِلَها لَزِمته عنها درجةٌ أخرى فوقَها، ثمَّ كذلك إلى أن يصِلَ إلى الإذعانِ بالحَقِّ .

8- قولُه تعالى في دَعوةِ يُوسُفَ للتَّوحيدِ: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فيه الإرشادُ إلى طَريقٍ نافِعٍ مِن طُرُقِ الجِدالِ، والمقابلةِ بينَ الحَقِّ والباطِلِ، وهو بيانُ ما في الحَقِّ مِن الخيرِ والمنافِعِ العاجِلةِ والآجِلةِ، وما في الباطِلِ مِن ضِدِّ ذلك؛ قال تعالى في دعوةِ يوسُفَ للتوحيد: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فذكَرَ ما في الشِّركِ مِن القُبحِ وسُوءِ الحالِ، واتِّباعِ الظُّنونِ الباطِلةِ، وأنَّ كُلَّ طائفةٍ مِن طوائِفِ الشِّركِ لهم مَعبودٌ؛ إمَّا نارٌ أو صَنمٌ، أو قبرٌ أو مَيِّتٌ، أو غيرُ ذلك من المعبوداتِ المتفَرِّقةِ التي لا تَملِكُ لنَفسِها ولا لأهلِها نَفعًا ولا ضَرًّا، ولا مَوتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، وكلُّ طائفةٍ تُضَلِّلُ الأخرى، وكُلُّهم ضالُّونَ هالِكونَ، فهل هذه الأربابُ والمعبوداتُ خيرٌ أم اللهُ الواحِدُ القهَّارُ؟ فذكَرَ له ثلاثةَ أوصافٍ عامَّةٍ عَظيمةٍ:

الأوَّل: أنَّه اللهُ الذي له الأسماءُ والصِّفاتُ العُليا، ومنه النِّعَمُ كُلُّها، وبذلك استحَقَّ أن يكونَ اللهَ المألوهَ، إلهَ أهلِ الأرضِ وأهلِ السَّماءِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ الزخرف: 84.

الثَّاني: أنَّه الواحِدُ المتفَرِّدُ بكُلِّ صِفةِ كَمالٍ، المتوحِّدُ بنُعوتِ الجلالِ والجَمالِ، الذي لا شريكَ له في شَيءٍ مِن الأفعالِ.

الثَّالث: أنَّه القهَّارُ لكُلِّ شَيءٍ؛ فجميعُ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ كُلُّهم مقهورونَ بقُدرتِه، خاضِعونَ لعَظَمتِه، مُتذَلِّلونَ لعِزَّتِه وجَبَروتِه، فمَن هذه صِفاتُه العظيمةُ هو الذي لا تنبغي العبادةُ إلَّا له وحدَه، لا شريكَ له .

9- قال الله تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ... مِن فوائدِ هذه الآياتِ: أنَّه يُبدأُ بالأهَمِّ فالأهمِّ، وأنَّه إذا سُئِلَ المفتي- وكان السَّائِلُ حاجتُه في غيرِ سؤالِه أشَدُّ- أنَّه ينبغي له أن يُعلِّمَه ما يحتاجُ إليه قبل أن يجيبَ سؤالَه؛ فإنَّ هذا علامةٌ على نُصحِ المعَلِّم وفطنتِه، وحُسنِ إرشادِه وتَعليمِه؛ فإنَّ يوسُفَ لَمَّا سأله الفَتَيانِ عن الرُّؤيا قدَّمَ لهما قبل تعبيرِها دعوتَهما إلى اللهِ وحدَه لا شريكَ له، فقال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ... ، وهذه طريقةٌ على كُلِّ ذي عِلمٍ أن يسلُكَها، خاصةً مع الجُهَّال والفَسَقة إذا استفتاه واحدٌ منهم؛ أن يقَدِّمَ الهدايةَ والإرشادَ والمَوعِظةَ والنَّصيحةَ أوَّلًا، ويَدعوَه إلى ما هو أولى به وأوجَبُ عليه ممَّا استفتى فيه، ثمَّ يُفتيَه بعد ذلك

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ أصلٌ في عبارةِ الرُّؤيا

.

2- في قَولِه تعالى: ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إيذانٌ بأنَّ الله تعالى علَّمَه عُلومًا أُخرَى، وهي علومُ الشَّريعةِ والحِكمةِ، والاقتصادِ والأمانةِ .

3- إذا قيل: إنَّ قَولَ يوسفَ عليه السلامُ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ظاهِرُه أنَّ يوسفَ عليه السَّلامُ كان داخلًا في هذه الملَّةِ ثمَّ ترَكَها.

فالجوابُ عن ذلك من وجهينِ:

الأوَّل: أنَّ المُرادَ بِالتَّركِ هو عدمُ التَّلَبُّسِ بذلك مِن الأصلِ، لا أنَّه قد كان تَلَبَّس به، ثُمَّ تَرَكه، كما يَدُلُّ عليه قولُه: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ، فالتركُ كما يكونُ للداخلِ في شيءٍ، ثمَّ ينتقلُ عنه، يكونُ لمن لم يدخُلْ فيه أصلًا، وليس مِن شَرطِه أن يكونَ قد كان داخلًا فيه ثمَّ ترَكَه ورجَع عنه ، ويوسفُ عليه السلام لما كان على التَّوحيدِ والإيمانِ الصَّحيحِ؛ صحَّ قَولُه: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فترَكَ ملَّتَهم وأعرض عنهم، ولم يوافِقْهم على ما كانوا عليه .

الثاني: أنَّ يوسفَ عليه السَّلامُ كان عبدًا لهم بِحَسَبِ زعمِهم، واعتقادِهم الفاسدِ، ولعلَّه قبلَ ذلك كان لا يُظهِرُ التَّوحيدَ والإيمانَ؛ خوفًا منهم على سبيلِ التَّقِيَّةِ، ثُمَّ إنَّه أظهرَه في هذا الوقتِ، فكان هذا جاريًا مجرَى تركِ مِلَّةِ أولئكَ الكفرةِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ .

4- قولُه: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إنَّما قال يوسفُ عليه السَّلامُ ذلك؛ تَرغيبًا لِصاحِبَيه في الإيمانِ والتَّوحيدِ، وتَنفيرًا لهما عمَّا كانا عليه مِن الشِّركِ والضَّلالِ ، فذَكَر آباءَه؛ لِيُرِيَهما أنَّه مِن بيتِ النُّبوَّةِ؛ لِيُقوِّي رغبَتَهما في الاستماعِ إليه، واتِّباعِ قولِه .

5- لم يذكُرِ اللهُ تعالى جُحودَ الصَّانعِ إلَّا عن فرعونِ موسى، وأمَّا الذين كانوا في زمَنِ يوسُفَ، فالقرآنُ يدُلُّ على أنَّهم كانوا مقرِّينَ بالله وهم مُشرِكونَ به؛ ولهذا كان خِطابُ يوسُفَ للمَلِك وللعزيزِ ولهم يتضَمَّنُ الإقرارَ بوجودِ الصَّانعِ، كقوله: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ .

6- الحُكمُ لله وحدَه، ورسُلُه يبلِّغونَ عنه؛ فحُكمُهم حُكمُه، وأمرُهم أمرُه، وطاعتُهم طاعتُه، فما حكمَ به الرَّسولُ وأمَرَهم به وشرَعَه مِن الدِّينِ، وجبَ على جميعِ الخلائقِ اتِّباعُه وطاعتُه؛ فإنَّ ذلك هو حكمُ اللهِ على خَلقِه؛ قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وهذه القاعدةُ هي أساسُ دينِ الله تعالى على ألسنةِ جميعِ رسُلِه، لا تختلفُ باختلافِ الأزمِنةِ والأمكِنةِ .

7- لم يَكتَفِ يوسفُ عليه السَّلامُ بمجرَّدِ تأويلِ رُؤياهما مع أنَّ فيه دَلالةً على فَضلِه؛ لأنَّهما لَمَّا نعَتاه عليه السَّلامُ بالانتظامِ في سِمْطِ المحسِنين، وأنَّهما قد عَلِما ذلك حيث قالا: إنَّا نَراك مِن المحسِنين، تَوسَّم عليه السَّلامُ فيهما خيرًا، وتَوجُّهًا إلى قَبولِ الحقِّ، فأراد أن يَخرُجَ آثِرَ ذي أثيرٍ عمَّا في عُهدتِه مِن دعوةِ الخلقِ إلى الحقِّ، فمَهَّد قبلَ الخوضِ في ذلك مُقدِّمةً تَزيدُهما عِلمًا بعِظَمِ شأنِه، وثقةً بأمرِه، ووُقوفًا على عُلوِّ طبَقتِه في بَدائعِ العُلومِ؛ تَوسُّلًا بذلك إلى تحقيقِ ما يتَوخَّاه، وقد تَخلَّص إليها مِن كلامِهما .

8- قولُ الله تعالى: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ فيه أنَّ عِلمَ التَّعبيرِ مِن العُلومِ الشَّرعيَّة، وأنَّه يُثابُ الإنسانُ على تعلُّمِه وتعليمِه، وأنَّ تعبيرَ المَرائي داخِلٌ في الفتوَى؛ فلا يجوزُ الإقدامُ على تعبيرِ الرُّؤيا من غيرِ عِلمٍ .

9- قولُ الله تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فيه أنَّ من وقع في مكروهٍ وشِدَّةٍ، لا بأس أن يستعينَ بمن له قدرةٌ على تخليصِه، أو الإخبارِ بحالِه، وأنَّ هذا لا يكونُ شكوى للمخلوقِ؛ فإنَّ هذا من الأمورِ العاديَّةِ التي جرى العُرفُ باستعانةِ النَّاسِ بعضِهم ببعضٍ .

10- في قَولِه تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ دليلٌ على جوازِ إطلاقِ اسمِ (الربِّ)- مع الإضافةِ- على غيرِ الله تعالى، وكذا قولُه تعالى: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، أمَّا بلا إضافةٍ فلا يجوزُ إطلاقُه إلَّا على اللهِ فقط .

11- في قَولِه تعالى: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ إشارةٌ إلى أنَّ نسيانَ الخيرِ يكونُ مِن الشَّيطانِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

- قولُه: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ فيه تأخيرُ الفاعلِ عن المفعولِ؛ للاهتمامِ بالمقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ؛ ليَتمكَّنَ عند النَّفسِ حينَ وُرودِه عليها فضلَ تمكُّنٍ

.

- قولُه: قَالَ أَحَدُهُمَا استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالِ مَن يقولُ: ما صَنَعا بعدَما دخَلا معه السِّجنَ؟ فأُجيبَ بأنَّه: قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي .

- قولُه: إِنِّي أَرَانِي فيه التَّعبيرُ بالمضارِعِ أَرَانِي دون الماضي (رَأيتُني)؛ لاستِحْضارِ الصُّورةِ الماضيَةِ .

- قولُه: أَعْصِرُ خَمْرًا يَعني عِنَبًا؛ ففيه تَسْميةُ الشَّيءِ بما يَؤُولُ إليه؛ لِكَونِه المقصودَ مِن العَصْرِ .

- قولُه: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ فيه إجراءُ الضَّميرِ مَجرى اسمِ الإشارةِ (ذلك)؛ فإنَّ اسمَ الإشارةِ يُشارُ به إلى مُتعدِّدٍ، والسِّرُّ في المصيرِ إلى إجراءِ الضَّميرِ مَجرى اسمِ الإشارةِ مع أنَّه لا حاجةَ إليه بعدَ تأويلِ المرجِعِ بما ذُكِر أو بما رُئي: أنَّ الضَّميرَ إنَّما يتَعرَّضُ لنفسِ المرجعِ مِن حيثُ هو مِن غيرِ تعرُّضٍ لحالٍ مِن أحوالِه؛ فلا يتَسنَّى تأويلُه بأحَدِ الاعتبارَينِ إلَّا بإجرائِه مَجرى اسمِ الإشارةِ الَّذي يدُلُّ على المشارِ إليه بالاعتبارِ الَّذي جَرى عليه في الكلامِ .

- قولُه: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ تعليلٌ للمُستفادِ مِن نَبِّئْنَا وهو عَرْضُ رُؤْياهما عليه، واستِفْسارُها منه عليه السَّلامُ .

2- قولُه تعالى: قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ

- قولُه: قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا... هذه الجملةُ جوابٌ عن كلامِهما؛ ففُصِلتْ- أي: لم تُعطَفْ على التي قبلَها- على أسلوبِ حِكايةِ جُمَلِ التَّحاوُرِ .

- وقولُه: لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ... فيه تَخصيصُ الطَّعامِ بالذِّكرِ؛ لكونِه عَريقًا في ذلك بحسَبِ الحالِ، مع ما فيه مِن مُراعاةِ حُسنِ التَّخلُّصِ إليه ممَّا استَعبَراه مِن الرُّؤيَيَيْنِ المتعلِّقتَين بالشَّرابِ والطَّعامِ .

- قولُه: ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ما في اسْمِ الإشارةِ ذَلِكُمَا مِن مَعنى البُعدِ؛ للإشارةِ إلى عُلوِّ درَجتِه، وبُعدِ مَنزلتِه .

- وجُملةُ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ تعليلٌ لِمَا قبْلَها، أي: علَّمَني ذلك؛ لأنِّي ترَكتُ مِلَّةَ أولئك ، فأخْبَر بأنَّ سَببَ عِنايةِ اللهِ به أنَّه انفرَدَ في ذلك المكانِ بتَوحيدِ اللهِ، وترْكِ مِلَّةِ أهلِ المدينةِ، فأرادَ الله اختيارَه لدَيهم .

- قولُه: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فيه التَّعبيرُ عن كُفرِهم باللهِ تعالى بسَلبِ الإيمانِ به؛ للتَّنصيصِ على أنَّ عِبادتَهم له تعالى مع عِبادةِ الأوثانِ ليسَت بإيمانٍ به تعالى، كما هو زَعمُهم الباطلُ .

- قولُه: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ فيه تَكْرارُ هُمْ على سَبيلِ التَّوكيدِ، وحَسَّن ذلك الفَصْلُ ؛ وقيل: للدَّلالةِ على أنَّهم خُصوصًا كافِرون بالآخرةِ، وأنَّ غيرَهم كانوا قومًا مؤمِنين بها، وهم الَّذين على مِلَّةِ إبراهيمَ .

3- قولُه تعالى: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ

- قُدِّم ذِكرُ تَركِه لمِلَّتِهم على ذِكرِ اتِّباعِه لملَّةِ آبائِه؛ لأنَّ التَّخلِيَةَ متقدِّمةٌ على التَّحليةِ .

- وجملةُ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ في قوَّةِ البيانِ لِمَا اقتَضَتْه جُملَةُ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي مِن كَونِ التَّوحيدِ صار كالسَّجيَّةِ لهم؛ عُرِف بها أسلافُه بينَ الأممِ، وعَرَّفهم بها لِنَفْسِه في هذه الفرصةِ .

- وصيغةُ الجُحودِ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ تَدُلُّ على المبالَغةِ في انتفاءِ الوصفِ عن الموصوفِ .

- و(مِن) في قولِه: مِنْ شَيْءٍ لتأكيدِ النَّفيِ، وأُدخِلتْ على المقصودِ بالنَّفيِ .

- وجملةُ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا زيادةٌ في الاستئنافِ والبيانِ؛ لقصدِ الترغيبِ في اتِّباعِ دِينِ التَّوحيدِ بأنَّه فضلٌ .

- قولُه: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ فيه وضْعُ الظَّاهِرِ مَوضِعَ الضَّميرِ الرَّاجِعِ إلى النَّاسِ- حيث لم يَقُلْ: (أَكْثرَهم)-؛ لزيادةِ توضيحٍ وبَيانٍ، ولِقَطعِ تَوهُّمِ رُجوعِه إلى المجموعِ الموهِمِ لعدَمِ اختِصاصِ غيرِ الشَّاكرِ بالنَّاسِ .

4- قولُه تعالى: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ

- قولُه: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ناداهُما بعُنوانِ الصُّحبَةِ؛ ليُقْبِلا عليه ويَقْبَلا مَقالَتَه - وذلك على أحدِ وَجْهي التفسيرِ- والجملةُ استئنافٌ ابتدائيٌّ، مصدَّرةٌ بتوجيهِ الخطابِ إلى الفَتَيَيْنِ بطَريقِ النِّداءِ المستَرعِي سَمْعَهما إلى ما يَقولُه؛ للاهتمامِ به .

- قولُه: أَأَرْبابٌ فيه استفهامٌ تقريريٌّ؛ أراد به تَقْريرَهما بإبطالِ دينِهِما .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، فإنَّه لما قال: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ، قابَل تَفرُّقَ أربابِهم بقولِه: الْوَاحِدُ، وجاء بصِفةِ القهَّارُ؛ تَنبيهًا على أنَّه تعالى له هذا الوصفُ الَّذي مَعناه الغَلَبةُ والقُدرةُ التَّامَّةُ، وإعلامًا بعُرُوِّ أصنامِهم عن هذا الوصفِ الَّذي لا يَنبَغي أن يُعبَدَ إلَّا المتَّصِفُ به .

5- قولُه تعالى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

- قولُه: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا فيه قَصْرٌ إضافيٌّ، ومعنى قَصْرِها على أنَّها أسماءٌ، أنَّها أسماءٌ لا مُسمَّياتِ لها؛ فليس لها في الوجودِ إلَّا أسماؤُها .

- وفي قولِه: سَمَّيْتُمُوهَا لم يَذكُرِ المسمَّياتِ؛ تربيةً لِمَا يقتَضيه المقامُ من إسقاطِها عن مَرتَبةِ الوُجودِ، وإيذانًا بأنَّ تَسميَتَهم في البُطلانِ حيث كانت بلا مُسمًّى، كعِبادتِهم حيث كان بلا مَعبودٍ .

- قولُه: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فيه كنايةٌ عن بُطْلانِها؛ إذ إنزالُ السُّلطانِ كنايةٌ عن إيجادِ دَليلِ إلهيَّتِها في شَواهِدِ العالَمِ، وليس ثَمَّةَ سُلطانٌ مُنزَّلٌ مِن اللهِ تعالى .

- وجملةُ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ انتقالٌ مِن أدلَّةِ إثباتِ انْفِرادِ اللهِ تعالى بالإلهيَّةِ إلى التَّعليمِ بامْتِثالِ أمْرِه ونَهْيِه؛ لأنَّ ذلك نتيجةُ إثباتِ الإلهيَّةِ والوَحْدانيَّةِ له؛ فهي بيانٌ لجُملَةِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ مِن حيث ما فيها مِن مَعْنى الحُكمِ .

- وجملةُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ خُلاصةٌ لِما تَقدَّم مِن الاستدلالِ، أي: ذلك الدِّينُ لا غَيرُه ممَّا أنتُم عليه وغيرُكم، وهو بمنزلةِ رَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ؛ لقولِه: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ .

6- قولُه تعالى: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا ا