9. سرة التوبة {129 مدنية}
9. سرة التوبة ج1.{129 مدنية}
سورةُ التَّوبةِ
مقدمة السورة
أسماء السورة :
مِن أسماءِ هذه السُّورةِ
: التَّوبةُ ، وبراءةُ ، والفاضِحةُ .
فعن سعيدِ بن ِجُبَيرٍ، قال: (قُلتُ لابنِ عبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عنهما: سورةُ التَّوبةِ؟ قال: التَّوبةُ: الفاضِحةُ ) .
وعن البَراءِ رَضِيَ الله عنه، قال: (آخِرُ سُورةٍ نَزَلت سورةُ بَراءة ) .
وعن زيدِ بنِ ثابتٍ
رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (فتتَبَّعْتُ القُرآنَ حتى وجَدْتُ آخِرَ سُورةِ التَّوبةِ
مع أبي خُزيمةَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ حتى خاتِمةِ سُورةِ البراءةِ)
فضل السورة وخصائصها:
1- حَثُّ الصَّحابةِ على تعَلُّمِها:
كتب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنه: (تعلَّمُوا سورةَ براءة، وعَلِّمُوا نساءَكم سُورةَ النُّور)
.
2- أنَّها مِن أواخِرِ ما نزَلَ من القرآنِ:
عن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (آخِرُ سُورةٍ أُنزِلَت: براءة) .
3- لا
يُبدأُ فيها بـ(بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ) نقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ
بيان المكي والمدني :
سُورةُ التَّوبةِ
مَدَنيَّةٌ، ونقَلَ غيرُ واحدٍ الإجماعَ على ذلك
مقاصد السورة :
مِن أهَمِّ مَقاصِدِ سُورةِ التَّوبةِ:
1- رسمُ المنهاجِ الذي يجبُ أن يسلكَه المؤمنون في علاقاتِهم مع المشركينَ، ومعَ أهلِ الكتابِ، ومعَ المنافقينَ
.
2- كشفُ الغطاءِ عن المنافقينَ وأصنافِهم وأوصافِهم، وفضحُ أفاعيلِهم في المجتمعِ المسلمِ .
3- بيانُ كثيرٍ مِن الأحكامِ والإرشاداتِ التي تحتاجُ إليها الدولةُ الناشئةُ
موضوعات السورة :
مِن أهمِّ الموضوعاتِ التي تناولتْها سُورةُ التَّوبةِ:
1- البَراءةُ مِن المُشرِكينَ، والأمرُ بقِتالِهم، ونبذُ عُهودِهم، ومَنعُهم من دخولِ المَسجِدِ الحرامِ، والنَّهيُ عن مُوالاتِهم، ولو كانوا ذَوي قُربى.
2- الإشارةُ إلى وَقعةِ حَربِ حُنَينٍ، وتربيةُ نُفوسِ المؤمنينَ بِصِدقِ التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى.
3- إعلانُ الحَربِ على أهلِ الكِتابِ مِن العَرَبِ؛ حتى يُعطُوا الجِزيةَ، وأنَّهم ليسُوا بَعيدًا مِن أهلِ الشِّركِ، وأنَّ الجَميعَ لا تنفَعُهم قُوَّتُهم ولا أموالُهم، وتقبيحُ قَولِ اليَهودِ والنَّصارى في حَقِّ عُزَيرٍ وعِيسى عليهما السَّلامُ، وتأكيدُ رِسالةِ الرَّسولِ الصَّادِقِ المُحِقِّ، وعيبُ أحبارِ اليَهودِ في أكْلِهم الأموالَ بالباطِلِ.
4- حُرمةُ الأشهُرِ الحُرُمِ، وضَبطُ السَّنَةِ الشَّرعيَّةِ، وإبطالُ النَّسيءِ الذي كان عند الجاهليَّةِ.
5- الحَثُّ على الجِهادِ والنَّفيرِ العامِّ في سبيلِ اللهِ بالأموالِ والأنفُسِ، وعَدَمُ الرُّكونِ إلى الدُّنيا وزِينَتِها.
6- نُصرةُ الله سبحانه وتعالى لنبِيِّه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصاحِبِه الصِّدِّيقِ، وحِفظُه لهما مِن أعيُنِ الكُفَّارِ.
7- ذِكرُ أوصافِ المُنافِقينَ، ودسائسِهم الماكِرةِ، وذِكرُ أذاهُم للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقَولِ والفِعلِ، وأيمانِهم الكاذِبةِ، وأمرِهم بالمُنكَر ونَهيِهم عن المَعروفِ، وكَذِبِهم في عُهودِهم وسُخرَيتِهم بضُعَفاءِ المُؤمِنينَ، والأمر بجِهادِهم، والنَّهي عن الاستعانةِ بهم، ونَهْي النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الاستغفارِ لأحيائِهم، وعن الصَّلاةِ على أمواتِهم، وعَيب المُقَصِّرينَ على اعتذارِهم بالأعذارِ الباطلةِ.
8- ذَمُّ الأعرابِ في صلابَتِهم، وتمسُّكِهم بالدِّينِ الباطِلِ، ومَدحُ بَعضِهم بصَلابَتِهم في دِينِ الحَقِّ.
9- ذِكرُ السَّابِقينَ مِن المهاجِرينَ والأنصارِ، وفَضلِهم، وذِكرُ المُعتَرفِينَ بِتَقصيرِهم، وقَبولِ الصَّدَقاتِ مِن الفُقَراءِ، وقَبول تَوبةِ التَّائبينَ.
10- ذِكرُ بِناءِ مَسجِدِ الضِّرارِ للغَرَضِ الفاسِدِ، ومَكرِ المُنافِقينَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه.
11- ذِكرُ بناءِ مَسجِدِ قُباءٍ على الطَّاعةِ والتَّقوى، وأنَّه أولى أن يقومَ فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
12- مُبايعةُ الحَقِّ تعالى عَبيدَه باشتِراءِ أنفُسِهم وأموالِهم، ومُعاوَضتهم عن ذلك بالجنَّةِ.
13- النَّهيُ عن الاستغفارِ للمُشرِكينَ.
14- قَبولُ تَوبةِ المُتخَلِّفينَ عن غَزوةِ تَبوك.
15- النَّفيرُ لِطَلَبِ العِلمِ والتَّفقُّهِ في دينِ الله تعالى، وتَبليغِ الدِّينِ.
16- الامتنانُ على المسلمينَ بأن أرسَلَ فيهم رسولًا منهم، جَبَلَه على صِفاتٍ فيها كلُّ خَيرٍ لهم، وأمْرُ اللهِ نَبِيَّه بالتوكُّلِ عليه في جَميعِ أحوالِه.
===========
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (1 - 2)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
غريب الكلمات:
بَرَاءَةٌ: أي: تَبَرُّؤٌ وقَطعٌ للمُوالاةِ والعِصمةِ والأمانِ، وأصلُ (برء): يدلُّ على التباعُدِ مِن الشَّيءِ ومُزايَلتِه
.
فَسِيحُوا: أي: فَسِيروا واذهَبُوا، وأصلُ (سيح): يدلُّ على استمرارِ شَيءٍ وذَهابِه
.
المعنى الإجمالي:
يَقولُ اللهُ تعالى: هذه بَراءةٌ مِن اللهِ ورَسولِه إلى جميعِ المُشركينَ الذين عاهَدتُموهم، أيُّها المُسلِمونَ فنقضوا عهدهم، فَسِيرُوا- أيُّها المُشرِكونَ- في الأرضِ أربعةَ أشهُرٍ- هي مدةُ الإمهالِ- أينَما شِئتُم آمِنينَ، لا يَنالُكم مِن المُسلِمينَ سُوءٌ، واعلَمُوا أنَّكم لن تُعجِزوا اللهَ، ولن تَفُوتوا مِن عِقابِه إن أرادَه بكم، واعلَمُوا أنَّ اللهَ مُذِلُّ الكافرينَ.
تفسير الآيتين:
بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) .
أي: هذه بَراءةٌ مِن اللهِ ورَسولِه إلى جميعِ المُشركينَ الذين عاهَدتُموهم، أيُّها المُسلِمونَ
.
فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) .
فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
أي: فَسِيُروا واذهَبُوا- أيُّها المُشرِكونَ- في أرضِ اللهِ أينَما شِئتُم، آمِنينَ مُدَّةَ أربعةِ أشهُرٍ، لا يَنالُكم فيها مِن المُسلِمينَ سُوءٌ .
وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ.
أي: واعلَمُوا- أيُّها المُشرِكونَ- أنَّكم إن اختَرْتُم الاستمرارَ على الكُفرِ في مُدَّةِ عَهْدِكم- وأنتم آمِنونَ فيها مِن المُسلِمينَ- غيرُ فائِتينَ مِن عِقابِ اللهِ إن أرادَه بكم؛ فأنتُم على أرضِه وفي سُلطانِه، وتَحتَ قُدرَتِه، فبادِرُوا بالتَّوبةِ .
وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ.
أي: واعلَمُوا- أيُّها المُشرِكونَ- أنَّ اللهَ مُذِلُّ الكافرينَ في الدُّنيا والآخِرةِ
.
الفوائد التربوية :
قَوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ فيه ضَمانٌ مِن اللهِ عزَّ وجَلَّ بِنَصرِه المُؤمِنينَ على الكافِرينَ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَّى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ افتُتِحَت السُّورةُ- كما تُفتَتَحُ العُهودُ وصُكوكُ العُقودِ- بأدَلِّ كَلِمةٍ على الغَرَض الذي يُرادُ منها، كما في قَولِهم: هذا ما عَهِدَ به فلانٌ، وهذا ما اصطَلَحَ عليه فُلانٌ وفُلانٌ، وقَولِ المُوَثِّقينَ: باع أو وكَّل أو تزوَّجَ، وذلك هو مقتضى الحالِ في إنشاءِ الرَّسائِلِ والمواثيقِ ونَحوِها
.
2- قال الله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أعلَنَ اللهُ لِهَؤلاء هذه البَراءةَ؛ لِيَأخُذوا حِذْرَهم، وفي ذلك تضييقٌ عليهم إن داموا على الشِّركِ؛ لأنَّ الأرضَ صارَت لأهلِ الإسلامِ، كما دلَّ عليه قولُه تعالى بَعدُ: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التوبة: 3] .
3- قَولُ الله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ لَمَّا كان الأمرُ بهذا السَّيرِ مُفرَّعًا على البراءةِ مِن العَهدِ، ومُقرِّرًا لِحُرمةِ الأشهُرِ الحُرُم؛ عُلِمَ أنَّ المُرادَ السَّيرُ بأمنٍ دُونَ خَوفٍ في أيِّ مكانٍ مِن الأرضِ، وليس هو سَيرَهم في أرضِ قَومِهم؛ دلَّ على ذلك إطلاقُ السِّياحةِ وإطلاقُ الأرضِ، فكان المعنى: فَسِيحُوا آمِنينَ حيثُما شِئتُم من الأرضِ .
4- قال اللهُ تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ أنذَرَ المُعاهَدينَ في مُدَّةِ عَهدِهم، أنَّهم وإن كانوا آمِنينَ، فإنَّهم لن يُعجِزوا اللهَ ولن يَفُوتُوه، وأنَّه مَن استمَرَّ منهم على شِركِه فإنَّه لا بُدَّ أن يُخزِيَه، فكان هذا ممَّا يَجلِبُهم إلى الدُّخولِ في الإسلامِ، إلَّا مَن عاند وأصَرَّ، ولم يُبالِ بِوَعيدِ اللهِ له .
5- المقصودُ مِن قَولِه تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أمورٌ: الأولُ: أن يتفَكَّروا لأنفُسِهم ويَحتاطوا في هذا الأمرِ. والثاني: لئلَّا يُنسَبَ المُسلِمونَ إلى نَكثِ العَهدِ. والثالث: أراد اللهُ أن يعُمَّ جميعَ المُشرِكينَ بالجهادِ، فعَمَّ الكُلَّ بالبراءةِ، وأجَّلَهم أربعةَ أشهُرٍ؛ وذلك لقُوَّةِ الإسلامِ، وتخويفِ الكُفَّارِ، ولا يصِحُّ ذلك إلَّا بنَقْضِ العُهودِ. والرابع: أراد النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يحُجَّ في السَّنةِ الآتيةِ، فأمَرَ بإظهارِ هذه البَراءةِ؛ لئلَّا يُشاهِدَ العُراةَ .
6- في قَول اللهِ تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمَّا كانت السِّياحةُ تُطلَقُ على غَيرِ السَّيرِ، حقَّقَ المعنى بِقَولِه: فِي الْأَرْضِ .
7- قَولُ اللهِ تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ لَمَّا كان الإسلامُ قد ظهَرَ بعد أن كان خَفِيًّا، وقَوِيَ بعد أن كان ضعيفًا، افتتَحَ تعالى وَعْظَهم بالكلمةِ التي تُقالُ أوَّلًا لِمَن يُرادُ تَقريعُ سَمْعِه وإيقاظُ قَلْبِه، وتَنبيهُه على أنَّ ما بَعدَها أمرٌ مُهِمٌّ، ينبغي مَزيدُ الاعتناءِ به، فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
.
بلاغة الآيتين:
1- قَولُه تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
- قولُه: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ فيه إيثارُ الجُملةِ الاسميَّة على الفِعليَّة- فلم يُعبَّر بالجُملةِ الفِعليَّة، كأنْ يُقال: (قد بَرِئ اللهُ ورسولُه من الذين .. أو نحوُ ذلك)-؛ للدَّلالةِ على دَوامِ هذه البَراءةِ واستمرارِها، وللتَّوسُّل إلى تَهويلِها بالتنوينِ التَّفخيميِّ
.
2- قَولُه تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ
- قولُه: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ فيه تلوينُ الخِطابِ بصَرْفه عن المُسلِمينَ، وتَوجيهِه إلى المُشرِكينَ مع حُصولِ المقصودِ بصِيغةِ أَمْرِ الغائبِ (فَلْيَسيحوا) أيضًا؛ للمُبالغةِ في الإعلامِ بالإمهالِ حسْمًا لمادةِ تَعلُّلهم بالغفلةِ، وقطعًا لشأفةِ اعْتِذارهم بعدمِ الاستعدادِ ، وهو التفاتٌ من غَيْبة إلى خطابٍ، وفي ضِمنِهِ تهديدٌ .
- وإيثارُ صيغةِ الأمرِ في قولِه: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ مع تَسنِّي إفادةِ ذلك المعنى بطريقِ الإخبارِ أيضًا- كأن يُقال مثلًا: فلكم أنْ تَسيحوا، أو نحو ذلك-؛ لإظهارِ كَمالِ القُوَّةِ والغَلَبةِ، وعَدمِ الاكْتِراثِ لهم ولاستعدادِهم، فكأنَّ ذلك أمْرٌ مَطلوبٌ منهم .
- وذُكِر فِي الْأَرْضِ؛ لقَصْدِ التَّعميمِ لأقطارِ الأرضِ من دارِ الإسلامِ وغيرِها .
- قولُه: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ فيه وضْعُ الاسمِ الجَليلِ مَوضِعَ المُضْمَر- حيثُ لم يَقُل: (وأنَّه)-؛ لتربيةِ المهابةِ، وتَهويلِ أمْرِ الإخزاءِ، وهو الإذلالُ بما فيه فضيحةٌ وعارٌ، وإيثارُ الإظهارِ على الإضمارِ أيضًا في قولِه: مُخْزِي الْكَافِرِينَ- حيثُ لم يَقُلْ: (وأنَّ اللهَ مُخْزيكم)-؛ لذمِّهم بالكفرِ بعدَ وصْفِهم بالإشراكِ، والإشعارِ بأنَّ عِلَّةَ الإخزاءِ هي كُفرُهم .
=================
غريب الكلمات
مشكل الإعراب
المعنى الإجمالي
تفسير الآيتين
الفوائد التربوية
الفوائد العلمية واللطائف
بلاغة الآيتين
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (3 - 4)
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ
غريب الكلمات:
وَأَذَانٌ: أي: إعلامٌ، وأصلُ (أذن): يدلُّ على العِلمِ والإعلامِ
.
يُظَاهِرُوا: أي: يُعاوِنوا ويُعِينوا، والظَّهيرُ: العَوْنُ، وأصلُ (ظهر): يدلُّ على قوَّةٍ وبُروزٍ
.
مشكل الإعراب:
قَولُه تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ
وَرَسُولُهُ: مرفوعٌ على أنَّه مَعطوفٌ على الضَّميرِ في بَرِيءٌ وجاز ذلك العَطفُ للفَصلِ بـ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ؛ فهو مسوِّغٌ للعَطفِ؛ لِأَنه يقومُ مقَامَ التَّوكيدِ، أو مَرفوعٌ على أنه مُبتَدأٌ، والخَبَرُ مَحذوفٌ، أي: ورَسولُه بَريءٌ، وإنَّما حُذِفَ للدَّلالةِ عليه. وقيل غيرُ ذلك
.
المعنى الإجمالي:
يقولُ اللهُ تعالى: وهذا إعلامٌ مِن اللهِ ورَسولِه إلى جميعِ النَّاسِ مُسلِمِهم وكافِرِهم، يومَ النَّحرِ بأنَّ اللهَ بَريءٌ مِن عُهودِ المُشرِكينَ، ورسولُه كذلك بريءٌ منها، فإن تُبتُم- أيُّها المُشرِكونَ- فهو خيرٌ لكم، وإن أعرَضْتُم فاعلَمُوا أنَّكم لن تُعجِزوا اللهَ، ولن تَفُوتوا مِن عقابِه، وبَشِّرْ- يا مُحمَّدُ- الكافرينَ بعَذابٍ مُوجِعٍ.
ثمَّ استثنى اللهُ ممَّا بَرِئَ منه هو ورَسولُه مِن عُهودِ الكُفَّارِ بعضَ المُعاهَدينَ الذين عاهَدَهم المُؤمِنونَ، ثمَّ وَفَوْا بعُهودِهم مع المُؤمِنينَ، ولم ينقُصوهم شيئًا من ذلك، وأمَرَ المؤمنينَ أن يُؤَدُّوا إليهم عَهدَهم إلى أنْ تَنتهِيَ المُدَّةُ التي اتَّفَقوا عليها؛ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ الذين يَفُونَ بِعُهودِهم ولا يَنقُضونَها.
تفسير الآيتين:
وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) .
وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ .
أي: وهذا إعلامٌ مِنَ اللهِ ورَسولِه إلى جميعِ النَّاسِ مُسلِمِهم وكافِرِهم، يومَ النَّحرِ
بأنَّ اللهَ بريءٌ من عهودِ المُشركين، ورسولُه بريءٌ منها كذلك .
عن حُميد بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ، أنَّ أبا هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((بعثَني أبو بكرٍ في تلك الحَجَّةِ في مؤذِّنِينَ بَعَثَهم يومَ النَّحرِ يُؤَذِّنونَ بمِنًى: ألَّا يُحَجَّ بعد العامِ مُشرِكٌ، ولا يَطوفَ بالبَيتِ عُريانٌ، قال حُميدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ: ثمَّ أردَفَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعليِّ بنِ أبي طالِبٍ، وأمَرَه أن يُؤَذِّنَ بِبَراءةَ، قال أبو هريرةَ: فأذَّنَ معنا عليٌّ يومَ النَّحرِ في أهلِ مِنًى ببَراءةَ، وألَّا يحُجَّ بعد العامِ مُشرِكٌ، ولا يطوفَ بالبَيتِ عُريانٌ )) .
فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ .
أي: فإن تُبتُم مِن كُفرِكم- أيُّها المُشرِكونَ- فهو خيرٌ لكم في الدُّنيا والآخرةِ .
وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي .
أي: وإن أعرَضْتُم- أيُّها المُشرِكونَ- عن الإيمانِ وطاعةِ اللهِ ورَسولِه، وثبَتُّم على كُفرِكم؛ فأيقِنُوا أنَّكم غيرُ فائِتينَ مِن عِقابِ اللهِ؛ فأنتم تحتَ قَهرِه وقُدرَتِه .
وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .
أي: وبَشِّرْ- يا مُحمَّدُ- الكافِرينَ بعذابٍ مُؤلمٍ مُوجِعٍ، يُصيبُهم في الدُّنيا والآخرةِ .
إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أعلَمَهم اللهُ تعالى بالبَراءةِ، وبالوَقتِ الذي يؤَذَّنُ بها فيه، وكان معنى البَراءةِ منهم أنَّه لا عَهدَ لهم؛ استثنى بعضَ المُعاهَدينَ ، فقال تعالى:
إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا .
أي: هذه البراءةُ التَّامَّةُ المُطلَقةُ مِن جَميعِ المُشرِكينَ إلَّا مَن عاهَدْتُموهم - أيُّها المُؤمِنونَ- ثمَّ لم يَنقُصوكم شيئًا ممَّا عاهَدْتُموهم عليه، ولم يُعِينوا عليكم أحدًا مِن أعدائِكم .
فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ .
أي: فأَوفُوا- أيُّها المؤمنونَ- إلى هؤلاء المُشرِكينَ، العَهدَ الذي بينكم وبَينَهم ولا تَنقُضُوه، إلى انتهاءِ المُدَّةِ التي اتَّفَقتُم عليها .
إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ .
أي: إنَّ اللهَ يُحِبُّ الذين يتَّقونَه، فيَمتَثِلونَ أوامِرَه ويجتَنِبونَ مَعاصِيَه، ومن ذلك أنَّهم يُوفُونَ بِعُهودِهم ولا يَنقُضونَها
.
الفوائد التربوية:
1- في قَولِه تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ التَّرغيبُ في التَّوبةِ، والإقلاعِ عن الشِّركِ الموجِبِ لِكَونِ اللهِ ورَسولِه مَوصُوفَينِ بالبراءةِ منه
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ليس تَكرارًا لِقَولِه السَّابِق: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وذلك مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ المَقصودَ مِن الكَلامِ الأوَّلِ الإخبارُ بِثُبوتِ البَراءةِ. والمقصودَ مِن هذا الكَلامِ إعلامُ جَميعِ النَّاسِ بما حصَلَ وثَبَت.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ المُرادَ مِن الكلامِ الأوَّلِ البَراءةُ مِن العَهدِ. ومِن الكلامِ الثَّاني البراءةُ التي هي نقيضُ المُوالاةِ الجارِيةِ مَجرى الزَّجرِ والوَعيدِ، والذي يدلُّ على حصولِ هذا الفَرقِ أنَّ في البراءةِ الأولى: بَرِيء إليهم، وفي الثَّانية: بَريء منهم.
الوجهُ الثَّالِثُ: أنَّه تعالى في الكَلامِ الأوَّلِ أظهَرَ البراءةَ مِن المشركينَ الذين عاهَدُوا ونَقَضوا العَهدَ، وفي هذه الآيةِ أظهَرَ البراءةَ من المُشرِكينَ مِن غيرِ أنْ يصِفَهم بوصفٍ مُعَيَّنٍ؛ تنبيهًا على أنَّ المُوجِبَ لهذه البراءةِ كُفرُهم وشِركُهم
.
2- إضافةُ الأذانِ إلى اللهِ ورَسولِه دون المُسلِمينَ في قَولِ اللهِ تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ؛ لأنَّه تَشريعٌ وحُكمٌ في مَصالِحِ الأمَّةِ، فلا يكونُ إلَّا مِن اللهِ على لسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ لَمَّا كان المقصودُ الإبلاغَ الذي هو وظيفةُ الرَّسولِ، عدَّاه بحرفِ الانتهاءِ فقال: إِلَى النَّاسِ أي: كُلِّهم .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ جاء بَعدَه قَولُه تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وليسَ بِتَكرارٍ؛ لأنَّ الأوَّلَ للمَكانِ، والثَّاني للزَّمانِ، وَقد تقدَّم ذِكرُهما في قَولِه تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ الآيةُ تدُلُّ على أنَّ العَهدَ المؤقَّتَ لا يجوزُ نَقضُه إلَّا بانتهاءِ وَقتِه، وأنَّ شَرْطَ وُجوبِ الوَفاءِ به علينا، مُحافظةُ العَدُوِّ المُعاهِدِ لنا عليه بحذافِيره؛ مِن نَصِّ القَولِ وفَحواه ولَحْنِه، فإنْ نقضَ شيئًا ما مِن شُروطِ العَهدِ، وأخَلَّ بِغَرَضٍ ما من أغراضِه، عُدَّ ناقِضًا له؛ إذ قال: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ولفظُ شَيءٍ أعَمُّ الألفاظِ، وهو نكرةٌ في سياقِ النَّفيِ، فيَصدُقُ بأدنى إخلالٍ بالعَهدِ .
6- مِن شُروطِ العَهدِ التي ينتقِضُ بالإخلالِ بها، عَدَمُ مُظاهرةِ أحدٍ مِن أعدائِنا وخُصومِنا علينا، قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ، وقد صرَّحَ بهذا للاهتمامِ به، فهو يدخُلُ في عُمومِ ما قَبلَه
.
بلاغة الآيتين:
1- قَولُه تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
- قولُه: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ عُلِّقتِ البراءةُ بالذين عُوهِدوا من المشركينَ، وعُلِّق الأذانُ بالنَّاسِ؛ لأنَّ البَراءةَ مُختصَّةٌ بالمعاهَدين والناكِثين منهم، وأمَّا الأذانُ فعامٌّ لجميع النَّاسِ؛ مَن عاهَد ومَن لم يُعاهِدْ، ومَن نَكَث من المعاهَدين ومَن لم يَنكُثْ
.
- وجاء التَّصريحُ بفعلِ البراءةِ مَرَّةً ثانيةً دونَ إضمارٍ ولا اختصارٍ- بأن يُقال: (وأذانٌ إلى النَّاس بذلك، أو بها، أو بالبراءة)- لأنَّ المقامَ مَقامُ بَيانٍ وإطنابٍ؛ لأجلِ اختلافِ أفهامِ السَّامعين فيما يَسمَعونَه؛ ففيهم الذَّكيُّ والغبيُّ، ففي الإطنابِ والإيضاحِ قَطعٌ لمعاذيرِهم، واستِقصاءٌ في الإبلاغِ لهم .
- قوله تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ بعد قوله: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فيه التِفاتٌ من الغَيبةِ إلى الخِطابِ؛ لزِيادةِ التَّهديدِ والتَّشديدِ .
- قولُه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ جُعِل الإنذارُ بِشارةً على سَبيلِ الاسْتِهزاء بهم، وفي هذا وعيدٌ عظيمٌ بما يَحِلُّ بهم .
- وقولُه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أيضًا فيه تَلوينٌ للخطابِ، وصَرْفٌ له عنهم إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ البِشارةَ بعذابٍ أليمٍ، وإنْ كانتْ بطريقِ التهكُّمِ، إنَّما تليقُ بمَن يقِفُ على الأَسرارِ الإلهيَّةِ .
2- قَولُه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
- قولُه: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا فيه ذِكْرُ كَلِمة شَيْئًا ؛ للمُبالغةِ في نفْيِ الانْتِقاصِ؛ لأنَّ كلمة (شَيء) نَكِرةٌ عامَّةٌ، فإذا وقعتْ في سِياقِ النَّفيِ أفادتِ انتفاءَ كلِّ ما يَصدُقُ عليه أنَّه موجودٌ .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تذييلٌ في معنى التَّعليلِ للأمرِ بإتمامِ العَهدِ إلى الأجَلِ بأنَّ ذلك من التَّقوى، أي: مِن امْتِثالِ الشَّرعِ الذي أَمَرَ اللهُ به؛ لأنَّ الإخبارَ بمحبَّةِ اللهِ المتقين عقِبَ الأمرِ كنايةٌ عن كونِ المأمورِ به من التَّقوى .
==========
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (5 - 6)
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ
غريب الكلمات:
انْسَلَخَ: أي: انقَضَى ومَضَى وخرَج، وأصلُ (سلخ): يدلُّ على إخراجِ الشَّيءِ عَن جِلدِه؛ مِن: سَلَخْتُ جِلدَ الشَّاةِ سَلخًا
.
وَاحْصُرُوهُمْ: أي: احبِسُوهم، وامنَعوهم، وأصلُ (حصر): يدلُّ على حبسٍ ومَنعٍ .
مَرْصَدٍ: أي: طَريقٍ ومَرقَبٍ، وأصلُ (رصد): يدلُّ على التَّهيُّؤِ لمُراقَبةِ شَيءٍ على مَسلَكِه .
فَخَلُّوا: أي: اتركُوهم، ولا تتعَرَّضوا لَهُم، وأصلُ (خلو): يدلُّ على تعَرِّي الشَّيءِ من الشَّيءِ .
اسْتَجَارَكَ: أي: استأمَنَك، وسألَ جِوارَك، أي: أمانَك وذِمامَك .
مَأْمَنَهُ: أي: دارَ قَومِه، والموضِعَ الذي يأمَنُ فيه، وأصلُ الأمنِ: يدلُّ على طُمأنينةِ النَّفسِ، وزوالِ الخَوفِ
.
المعنى الإجمالي:
يأمُرُ اللهُ عِبادَه أن يَقتُلوا المُشرِكينَ في أيِّ مَكانٍ وَجَدوهم، بعد أن تَنقَضيَ الأشهُرُ الحُرُمُ، وأن يأخُذُوهم أسرَى، ويُضَيِّقُوا عليهم، ويمنعوهم مِن الانتشارِ في الأرضِ، والدخولِ إليهم، ويُحاصِرُوهم، ويَقعُدوا لِقَتلِهم وأسْرِهم بكلِّ طَريقٍ يَمُرُّونَ به، فإن تابُوا وأدَّوُا الصَّلاةَ المفروضةَ على وَجهِها الأكمَلِ، وأعطَوُا الزَّكاةَ لِمُستحقِّيها، فأمَرَ اللهُ عبادَه المؤمنينَ أن يترُكوهم، ولا يتعَرَّضوا لهم؛ إنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ.
ثم أمَرَ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُعطِيَ الأمانَ كُلَّ مَن أستأمَنَه مِن المُشرِكينَ الذين أُمِرَ بِقتالِهم، حتى يسمَعَ القُرآنَ، ثمَّ إنْ لم يُسلِمْ فَلْيترُكْه يرجِعْ إلى بلَدِه وديارِه التي يأمَنُ فيها؛ ذلك بأنَّهم قَومٌ لا يَعلمونَ.
تفسير الآيتين:
فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا قرَّرَ اللهُ تعالى أمْرَ البراءةِ مِن المُشركينَ إثباتًا ونفيًا؛ أمَرَ بما يُصنَعُ بعد ما ضَرَبَه لهم مِن الأجَلِ
، فقال تعالى:
فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ.
الناسخُ والمنسوخُ:
قيل: هذه الآيةُ منسوخةٌ بقولِه تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد: 4] ، وقيل: هي محكمةٌ .
فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ.
أي: فإذا انقَضَتِ الأشهُرُ الحُرُمُ ، فاقتُلوا المُشرِكينَ أينَما لَقِيتُموهم من الأرضِ .
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.
أي: وخُذوا- أيُّها المُؤمِنونَ- الكُفَّارَ أسرَى، وضيِّقوا عليهم، وامنعوهم مِن الانتشارِ في الأرضِ، والدخولِ إليكم، وحاصِروهم إن تحَصَّنوا، واقعُدوا لِقَتلِهم أو أسْرِهم على كلِّ طَريقٍ يَمُرُّونَ منه .
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ.
أي: فإن رجَعَ المُشرِكونَ عن الكُفرِ إلى الإيمانِ، وأدَّوا ما فرَضَ اللهُ عليهم من الصَّلَواتِ؛ بالإتيانِ بها على وجهِها الأكمَلِ، وأعطَوُا الزَّكاةَ مُستحقِّيها؛ فاترُكوا- أيُّها المُسلِمونَ- طَريقَهم، لا تقعُدُوا عليها، ودَعُوهم يذهبونَ حيثما يَشاؤونَ، دون أن تتعَرَّضوا لهم .
عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النَّاسَ حتى يَشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاةَ، ويُؤتوا الزَّكاةَ، فإذا فعَلوا ذلك عَصَموا منِّي دماءَهم وأموالَهم إلَّا بحقِّ الإسلامِ، وحِسابُهم على اللهِ )) .
إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
أي: إنَّ الله غَفورٌ لِمَن تاب مِن عِبادِه، فيستُرُ ذُنوبَهم، ويتجاوَزُ عن مؤاخَذتِهم بها، رحيمٌ بهم، ومِن رَحمتِه أنْ وفَّقَهم للتَّوبةِ، وقَبِلَها منهم، ولا يُعاقِبُهم بعدها .
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6).
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ.
أي: وإنِ استأمَنَك- يا محمَّدُ- أحدٌ مِن المُشرِكينَ الذين أمرتُك بقِتالِهم، فأمِّنْه حتى تتلوَ عليه القرآنَ، ويسمعَه، ويفهمَ ما أُنزِل عليك؛ ليكونَ على بصيرةٍ مِن أمرِه، وتقومَ عليه حُجَّةُ اللَّهِ .
ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ.
أي: ثم إنْ لم يُسلِمْ، فاترُكْه يرجِعْ إلى بلَدِه ودِيارِه التي يأمَنُ فيها .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ.
أي: أعطِ- يا مُحَمَّدُ- المُشركينَ الأمانَ، حتى يسمَعُوا القرآنَ؛ مِن أجلِ أنَّهم قومٌ جَهَلةٌ لا يَعلمونَ دِينَ اللهِ وثَوابَه وعِقابَه، فيحصُلَ لهم العِلمُ بِسَماعِه، وتقومَ عليهم حُجَّةُ الله على عبادِه
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ عمَّ جميعَ المُشرِكينَ، وعمَّ البِقاعَ والأماكِنَ مِن حِلٍّ وحَرَمٍ إلَّا ما خصَّصَتْه الأدلَّةُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ
.
2- قَولُ الله تعالى: وَخُذُوهُمْ فيه أنَّه يجوزُ الأسْرُ بَدَلَ القَتلِ، والتَّخييرُ بينهما .
3- قَولُ الله تعالى: وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فيه جوازُ حِصارِهم والإغارةِ عليهم وبَيَاتِهم .
4- كلمةُ (كُلَّ) في قَولِ الله تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ مُستعملةٌ في تعميمِ المراصِدِ المظنونِ مُرورُهم بها؛ تحذيرًا للمُسلِمينَ مِن إضاعَتِهم الحراسةَ في المراصدِ، فيأتيَهم العدُوُّ منها، أو مِن التَّفريطِ في بعضِ مَمارِّ العَدُوِّ، فينطلِقَ الأعداءُ آمنين فيَستخِفُّوا بالمُسلمينَ، ويتَسامَعَ جماعاتُ المُشرِكينَ أنَّ المُسلِمينَ ليسُوا بِذَوي بأسٍ ولا يَقَظةٍ، فيؤُولُ معنى (كُلَّ) هنا إلى معنى الكَثرةِ؛ للتَّنبيهِ على الاجتهادِ في استقصاءِ المراصِدِ .
5- التعبيرُ بالقُعودِ في قَولِ اللهِ تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ للإرشادِ إلى التأنِّي .
6- في الترصُّدِ والاستقرارِ والتمَكُّنِ وإيصالِ الفِعلِ إلى الظَّرفِ في قَولِ اللهِ تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ؛ إشارةٌ إلى أن يشغَلوا في الترصُّدِ كُلَّ جُزءٍ مِن أجزاءِ كُلِّ مَرصدٍ، إن قَدَروا على ذلك، بخلافِ ما لو عبَّرَ بـ (في كُلِّ مَرصدٍ) فإنَّه إنما يدلُّ على شغلِ كُلِّ مَرصدٍ الصَّادِقُ بالكَونِ في موضعٍ واحدٍ منه، أيُّ موضعٍ كان .
7- الأمرُ في قولِه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ للإذنِ والإباحة باعتبارِ كلِّ واحدٍ من المأموراتِ على حِدَةٍ، أي: فقد أُذِن لكلٍّ في قتْلِهم وفي أخْذِهم، وفي حِصارِهم، وفي مَنْعِهم مِنَ المرورِ بالأرضِ الَّتي تحتَ حكمِ الإسلامِ، وقدْ يَعْرِضُ الوجوبُ إِذا ظَهَرتْ مصلحَةٌ عَظيمَةٌ .
8- قال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ هذه الآيةُ دالَّةٌ على أنَّ مَن قال: قد تُبتُ، أنَّه لا يُجتزَأُ بِقَولِه حتى ينضافَ إلى ذلك أفعالُه المُحقِّقةُ للتَّوبةِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ شَرَطَ هنا مع التَّوبةِ إقامَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ؛ ليُحَقِّقَ بهما التَّوبة. وقال في آيةِ الرِّبا: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ [البقرة: 279] . وقال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة: 160] .
9- في قولِه تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ دلالةٌ على أنَّ التوبةَ مِن الشركِ تُسمَّى توبةً، كما تُسمَّى مِن الذنبِ؛ لأنَّ معناها الرجوعُ عما كان عليه .
10- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ لم يُكتَفَ في تخليةِ السَّبيلِ بالتَّوبةِ مِن الشِّركِ، حتى يُقيمُوا الصَّلاةَ ويُؤتُوا الزَّكاةَ، فاستدَلَّ به من قال بقَتلِ تارِكِ الصَّلاةِ، وقتالِ مانِعِ الزَّكاةِ، واستدَلَّ به من قال بتَكفيرِهما .
11- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ الآيةُ تُفيدُ دَلالةَ إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، على الإسلامِ، وتوجِبُ لِمَن يُؤدِّيهما حُقوقَ المُسلمينَ؛ مِن حِفظِ دَمِه ومالِه، إلَّا بما يُوجِبُه عليه شَرعُه من جنايةٍ تقتضي حدًّا مَعلومًا، أو جريمةً تُوجِبُ تَعزيرًا أو تغريمًا .
12- قولُه تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه لطيفةٌ، وهو أنَّه تعالى ضيَّقَ عليهم جميعَ الخَيراتِ، وألقاهم في جميعِ الآفاتِ، ثم بيَّنَ أنَّهم لو تابوا عن الكُفرِ، وأقاموا الصَّلاةَ، وآتَوُا الزَّكاةَ، فقد تخلَّصوا عن كلِّ تلك الآفاتِ في الدُّنيا، فنرجو مِن فَضلِ اللهِ أن يكونَ الأمرُ كذلك يومَ القيامةِ .
13- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ يدلُّ على أنَّ المقصودَ مِن شَرعِ القتلِ قَبولُ الدِّينِ، والإقرارُ بالتَّوحيدِ .
14- الخطابُ بِقَولِه: اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ يدلُّ على أنَّ أمانَ السُّلطانِ جائِزٌ .
15- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ فيه إشارةٌ إلى وجوبِ الدَّعوةِ قبل القِتالِ .
16- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ فيه حُجَّةٌ صَريحةٌ لِمَذهَبِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، القائلينَ بأنَّ (القُرآنَ كَلامُ اللهِ غيرُ مَخلوقٍ)؛ لأنَّه تعالى هو المتكَلِّمُ به، وأضافه إلى نفسِه إضافةَ الصِّفةِ إلى موصوفِها، وبُطلانُ مذهَبِ المُعتَزلةِ ومَن أخذَ بِقَولهم: إنَّ القُرآنَ مَخلوقٌ .
17- قولُه تعالى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ نصٌّ صريحٌ في أنَّ هذا الذي نَقرؤُه ونَتلُوه، هو بِعَينِه كلامُ الله، فالصَّوتُ صَوتُ القارِئِ، والكلامُ كَلامُ البارِئِ؛ لأنَّ اللهَ صرَّح بأنَّ هذا المُشرِكَ المُستجيرَ يَسمَعُ كَلامَ اللهِ، يتلوه عليه نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فهذا المحفوظُ في الصُّدورِ، المقروءُ في الألسِنةِ، المكتوبُ في المصاحِفِ؛ هو كلامُ اللهِ جَلَّ وعلا، بمعانيه وألفاظِه .
18- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُون في الكلامِ تَنويهٌ بمعالي أخلاقِ المُسلِمينَ، وغَضٌّ من أخلاقِ أهلِ الشِّركِ، وأنَّ سبَبَ ذلك الغَضِّ الإشراكُ الذي يُفسِدُ الأخلاقَ؛ ولذلك جُعِلوا (قومًا لا يَعلمونَ) دونَ أن يُقالَ (بأنَّهم لا يَعلمونَ)؛ للإشارةِ إلى أنَّ نَفيَ العِلمِ مُطَّرِدٌ فيهم، فيشيرُ إلى أنَّ سبَبَ اطِّرادِه فيهم هو نَشأتُه عن الفِكرةِ الجامعةِ لأشتاتِهم، وهي عقيدةُ الإشراكِ
.
بلاغة الآيتين:
1- قَولُه تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
- قولُه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فيه وضْعُ المُظْهَرِ مَوضِعَ المُضْمَرِ- حيثُ لم يَقُل: (فإذا انسلختْ فاقْتُلوا...)-؛ ليكون ذريعةً إلى وَصْفِها بالحُرمةِ؛ تأكيدًا لِمَا يُنبِئ عنه إباحةُ السِّياحةِ من حُرْمةِ التعرُّضِ لهم، مع ما فيهِ من مَزيدِ الاعتناءِ بشأنِها
.
- قولُه: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ هذا المُركَّبُ مُستَعمَلٌ هنا تَمثيلًا في عدمِ الإضرارِ بهم ومُتاركتِهم ، وهو كِنايةٌ عن الكفِّ عنهم، وإجرائِهم مجرَى المسلمين في تصرُّفاتهم حيثُما شاؤوا .
- قولُه تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ التوبةِ: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، وقال بَعدَه في التَّوبةِ أيضًا: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ؛ فالشَّرطُ فيهما واحدٌ، لكنِ اختَلَف الجوابُ؛ ووجهُ هذه المُناسَبةِ أنَّ قولَه: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ورَدَ بعدَ الأمْرِ بقَتلِ المشركين؛ فناسَبَ أن يكونَ جوابُ الشرطِ فيها الأمرَ بتَرْكِه، وهو قوله تعالى: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، أمَّا قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، فورَدَ بعدَ إثباتِ رُسوخِ المشركين في كُفرِهم وضَلالِهم، وصَدِّهم عن سَبيلِ الله، وكونِه هو الباعثَ لهم على قِتالِ المؤمنِينَ ابتداءً، ثم على نَقْضِ عُهودِهم؛ فناسَبَ أنْ يُذكَرَ في جوابِ شَرطِها فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ؛ لأنَّ هذِه أجلبُ لقُلوبِهم، وأشدُّ استمالةً لهم إلى الإسلامِ .
- وجُملةُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذييلٌ أُريدَ به حثُّ المسلِمينَ على عَدمِ التعرُّضِ بالسُّوءِ للذين يُسْلِمونَ من المُشركينَ، وعدَم مُؤاخذتِهم لِمَا فَرَط منهم؛ فالمعنى: اغْفِروا لهم؛ لأنَّ الله غَفَر لهم، وهو غَفورٌ رحيمٌ .
2- قَولُه تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ
- قولُه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ عطْفٌ على جملةِ: فَإِنْ تَابُوا؛ لتَفصيلِ مَفهومِ الشَّرْطِ، أو عطْفٌ على جُملة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ؛ لتَخصيصِ عُمومِه، أي: إلَّا مُشرِكًا استجارَك لمصلحةٍ؛ للسِّفارةِ عن قَومِه، أو لمعرفةِ شرائعِ الإسلامِ، وصِيغَ الكلامُ بطَريقةِ الشَّرْطِ؛ لتأكيدِ حُكْمِ الجوابِ، وللإشارةِ إلى أنَّ الشأنَ أنْ تقَعَ الرَّغبةُ في الجِوارِ مِن جانبِ المشركين .
- وجِيءَ بحرْفِ (إن) التي شأنُها أنْ يكونَ شَرْطُها نادرَ الوقوعِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ هذا شَرْطٌ فَرْضيٌّ؛ لكيلَا يَزعمَ المشرِكون أنَّهم لم يَتمكَّنوا من لِقاءِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيتَّخِذوه عُذْرًا للاستمرارِ على الشِّركِ إذا غَزاهُم المسلِمون .
- وجِيءَ بلَفْظِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دونَ لِفْظِ (مُشْرِكٍ)؛ للتَّنصيصِ على عُمومِ الجِنْس .
- وتَقديمُ أَحَدٌ على اسْتَجَارَكَ؛ للاهْتِمامِ بالمُسنَدِ إليه؛ ليكونَ أوَّلَ ما يَقْرعُ السَّمعَ، فيَقع المُسنَدُ بعدَ ذلك من نَفْسِ السَّامعِ مَوقِعَ التمكُّن .
- وجُملةُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ في مَوضِعِ التَّعليلِ؛ لتأكيدِ الأَمْرِ بالوَفاءِ لهم بالإجارةِ إلى أن يَصِلوا دِيارَهم؛ فلذلك فُصِلتْ عن الجُملةِ التي قَبْلها، ولم تُعطَف عليها .
================
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (7 - 8)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
غريب الكلمات:
يَرْقُبُوا: أي: يَحفَظُوا ويُراعُوا، وأصلُ (رقب): يدلُّ على انتصابٍ لِمُراعاةِ شَيءٍ
.
إِلًّا: الإلُّ: الحِلْفُ والقَرابةُ والعهد والعقد، ويأتي أيضًا بمعنى الله، وأصلُ (ألل) هنا يدلُّ على السَّبَبِ يُحافَظُ عليه .
ذِمَّةً: الذِّمَّةُ: العَهدُ والمِيثاقُ، وما يجِبُ أن يُحفَظَ ويُحمى، وأصلُ (ذمم): خلافُ الحَمدِ، وسُمِّي العَهْدُ ذِمامًا؛ لأنَّ الإنسانَ يُذَمُّ على إضاعتِه منه
.
المعنى الإجمالي:
يقول الله تعالى: كيف يكونُ للمُشرِكينَ عهدُ أمانٍ عندَ اللهِ وعندَ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم؟ هذا أمرٌ مُستبعَدٌ، إلَّا الذينَ عاهَدْتُم- أيُّها المُؤمِنونَ- عند المسجِدِ الحرامِ يومَ الحُدَيبيَة، فما دامُوا مُستقيمينَ لكم على ما تعاهَدْتُم عليه، فاستَقِيموا لهم كذلك، إلى انتهاءِ مُدَّةِ العَهدِ، ولا تَبدَؤُوهم بنَقضِه؛ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المتَّقينَ.
كيف يكونُ للمُشرِكينَ عَهدُ أمانٍ، وهم إن يغلِبُوكم- أيُّها المُؤمِنونَ- لا يَرحَموكم، ولا يُراعُوا فيكم الله ولا قَرابةً ولا عَهدًا؟ يقولونَ لكم بألسِنَتِهم كلامًا طيِّبًا يُرضِيكم، ولكِنَّ قُلوبَهم تَمتنِعُ أن تُوافِقَ ما يتكَلَّمونَ به، وأكثَرُهم فاسِقونَ.
تفسير الآيتين:
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا قال تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وقال: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فلعلَّ بعضَ قبائِلِ العَرَبِ مِنَ المشركينَ يتعجَّبُ مِن هذه البراءةِ، ويسألُ عن سَبَبِها، وكيف أُنهِيَت العُهودُ، وأُعلِنَتِ الحَربُ؟! فكان المقامُ مقامَ بيانِ سَبَبِ ذلك، والحِكمةِ المُوجِبةِ لِأن يتبَرَّأَ اللهُ ورَسولُه مِن المُشرِكينَ، وأنَّه حُكمٌ واقِعٌ في مَحلِّه، وأنَّ نَبْذَ العُهودِ إلى المُشرِكينَ أمرٌ في غايةِ الإحكامِ والصَّوابِ
.
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ.
أي: كيف يكونُ للمُشرِكينَ بِرَبِّهم عهدُ أمانٍ عندَ اللهِ وعندَ رَسولِه مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؟! هذا أمرٌ مُستبعَدٌ؛ فهؤلاءِ قَومٌ يُضمِرونَ الغَدرَ، والواجِبُ على المؤمِنينَ قَتلُهم أينَما وَجَدُوهم؛ لِكُفرِهم باللهِ ورسولِه، ومُحارَبتِهم أولياءَه .
إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
أي: لا ينبغي أن يكونَ للمُشرِكينَ عَهدٌ يأمَنونَ به عَدا الذينَ عاهَدْتُموهم - أيُّها المُؤمِنونَ- يومَ الحُدَيبيَةِ عند المسجِدِ الحرامِ، وهم مُوفُونَ بعَهدِهم، مُستقيمونَ عليه .
فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ.
أي: فما دامَ المُشرِكونَ مُستَقيمينَ لكم- أيُّها المُؤمِنونَ- على ما تعاهَدْتُم عليه، متمسِّكينَ بما عاقَدْتُموهم عليه، فاستَقِيموا لهم كذلك إلى انتهاءِ مُدَّةِ العَهدِ، وأوْفُوا لهم بعهدِهم، ولا تَبدَؤُوهم بنَقضِه .
إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.
أي: إنَّ اللهَ يُحِبُّ الذين يتَّقونَ اللهَ، فيَمتَثِلونَ أوامِرَه، ويجتَنِبونَ نَواهِيَه، ومن ذلك أنَّهم يُوفُونَ بالعُهودِ، ولا يَغدِرونَ .
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا أنكَرَ سُبحانَه أن يكونَ للمُشرِكينَ غَيرِ المُستَثنَينَ عَهدٌ؛ بيَّن السَّبَبَ المُوجِبَ للإنكارِ ، فقال تعالى:
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً.
أي: كيفَ يكونُ للمُشرِكينَ عَهدُ أمانٍ، والحالُ أنَّهم إن يغلِبُوكم- أيُّها المُؤمِنونَ- لا يَرحَموكم، ولا يُراعُوا فيكم اللهَ، ولا قَرابةً، ولا عَهدًا ؟!
يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ سُبحانَه حالَهم مع المُؤمِنينَ إن ظَهَروا عليهم، ذَكَرَ حالَهم معهم إذا كانوا غيرَ ظاهِرينَ، فقال تعالى :
يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ.
أي: يَقولُ لكم المُشرِكونَ بألسِنَتِهم كلامًا طَيِّبًا يُرضيكم- أيُّها المُؤمِنونَ- لكِنَّ قُلوبَهم تمتَنِعُ أن تُوافِقَ ما يَنطِقونَ به؛ فهي مُنطَوِيةٌ على بُغضِكم وعَداوَتِكم، والامتناعِ عَن محبَّتِكم، والدُّخولِ في دِينِكم .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 118-120].
وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ.
أي: وأكثَرُ أولئك القَومِ خارِجونَ عَن طاعةِ اللهِ، ناقِضونَ للعُهودِ، لا ديانةَ لهم، ولا مُروءةَ
.
الفوائد التربوية :
الوفاءُ بالعَهدِ مِن أخلاقِ المُتَّقينَ؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ الله تعالى: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال الله تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ. في وَصفِهم بالمُشرِكينَ إيماءٌ إلى عِلَّةِ الإنكارِ على دوامِ العَهدِ مَعَهم
.
2- دلَّ قولُه تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً على أنَّ مَن كانت حالُه أنَّه إذا ظهَرَ لم يَرقُبْ ما بيننا وبينه مِن العَهدِ- لم يكُنْ له عَهدٌ؛ لأنَّ مَن جاهَرَنا بالطَّعنِ في ديننا، كان ذلك دليلًا على أنَّه لو ظهر لم يَرقُبِ العَهدَ الذي بيننا وبينه؛ فإنَّه إذا كان مع وُجودِ العَهدِ والذِّلَّةِ يفعلُ هذا، فكيف يكونُ مع العِزَّةِ والقُدرةِ؟! خلافًا لِمَن لم يُظهِر لنا مثلَ هذا الكَلامِ؛ فإنَّه يجوزُ أنْ يَفيَ لنا بالعَهدِ لو ظَهَرَ .
3- قال تعالى: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ. إن قيلَ: إنَّ الموصوفينَ بهذه الصِّفةِ كُفَّارٌ، والكُفرُ أقبَحُ وأخبَثُ مِن الفِسقِ، فكيف يَحسُنُ وَصفُهم بالفِسقِ في مَعرِضِ المبالغةِ في الذَّمِّ، وأيضًا الكُفَّارُ كلُّهم فاسِقونَ، فلا يبقى لِقَولِه: وَأَكْثَرُهُمْ فائدةٌ؟ فالجَوابُ: أنَّ الكافِرَ قد يكونُ عَدلًا في دِينِه، له حفظٌ لمراعاةِ الحالِ الحسنةِ مِن التعفُّفِ عمَّا يثلمُ العِرضَ، فلا ينقُضُ العَهدَ، وقد يكونُ فاسِقًا خبيثَ النَّفسِ في دينِه، لا مروءةَ تردعُه، ولا طباعَ مرضيةٌ تزَعُه، فينقُضُه، فالمرادُ بالفِسقِ هنا نَقضُ العَهدِ، وكان في المُشرِكينَ مَن وَفَى بِعَهدِه؛ فلهذا قال: وَأَكْثَرُهُمْ، أي: إنَّ هَؤلاءِ الكُفَّارَ- الذين مِن عادَتِهم نَقضُ العَهدِ- أكثَرُهم فاسِقونَ في دِينِهم وعند أقوامِهم، وذلك يُوجِبُ المُبالغةَ في الذَّمِّ ، وقيل: التعبيرُ بقولِه: وَأَكْثَرُهُمْ لأنَّ منهم مَن قضَى الله له بالإيمانِ ، وقيل: المرادُ بالأكثريةِ: الكلُّ، فمعنَى وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ: وكلُّهم فاسقونَ
.
بلاغة الآيتين:
1- قَولُه تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
- قولُه تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ استئنافٌ بيانيٌّ، نَشأ عن قولِه: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ عن قُولِهِ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وعن قولِه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، التي كانتْ تَدرُّجًا في إبطالِ ما بينهم وبين المسلمينَ من عُهودٍ سابقةٍ؛ لأنَّ ذلك يُثيرُ سؤالًا في نُفوسِ السَّامعينَ من المسلِمينَ الذين لم يَطَّلِعوا على دَخيلةِ الأَمْرِ؛ فلعلَّ بعضَ قَبائل العربِ من المشركين يَتعجَّب من هذه البَراءةِ، ويسألُ عن سببِها؛ فكان المقامُ مَقامَ بيانِ سَببِ ذلك، وأنَّه أمران: بُعدُ ما بين العقائدِ، وسَبْقُ الغَدْرِ
.
- قولُهُ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ اسْتِفهامٌ بمَعْنى الإنكارِ، والاسْتِبعادِ لِأنْ يكونَ لهم عَهْدٌ ولا يَنْكُثوه مع ضِغنِ صُدورِهم وعَداوتِها، وتوقُّدِها من الغيظِ، أو لأنْ يَفيَ اللهُ تعالى ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعَهْدِ، وهم نَكَثوه .
- وفي قولِهِ: كَيْفَ يَكُونُ تَوجيهُ الإنكارِ إلى كيفيَّةِ ثُبوتِ العَهْدِ، وفيه من المُبالَغةِ ما ليس في تَوجيهِهِ إلى ثُبوتِهِ؛ لأنَّ كلَّ موجودٍ يَجِبُ أنْ يكونَ وجودُهُ على حالٍ من الأحوالِ قَطْعًا .
- قَولُ اللهِ تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ المقصودُ مِن تَخصيصِهم بالذِّكرِ؛ التَّنويهُ بخَصلةِ وَفائِهم بما عاهَدُوا عليه .
2- قَولُه تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
- قولُه: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ... كَيْفَ هذه مُؤكِّدةٌ لـكَيْفَ التي في الآيةِ قَبْلها، وفي إعادةِ الاسْتِفهامِ إشعارٌ بأنَّ جُملةَ الحالِ لها مزيدُ تَعلُّقٍ بتوجُّه الإنكارِ على دَوامِ العهدِ للمُشركينَ، حتَّى كأنَّها مُستَقِلَّةٌ بالإنكارِ، لا مجرَّدُ قيدٍ للأَمْرِ الذي تَوجَّه إليه الإنكارُ ابتداءً؛ فهي تَكرارٌ لاسْتِبعادِ ثَباتِهم على العَهْدِ، أو بقاءِ حُكْمه، مع التَّنبيهِ على العِلَّةِ .
- وفي قوله: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ أيضًا استأنَفَ هذا الكلامَ، أي: حالُهم في الظَّاهرِ يُخالِفُ باطِنَهم، وهذا كلُّه تَقريرٌ واسْتِبعادٌ لثَباتِ قلوبِهم على العَهْد .
- ونِسبةُ الإرضاءِ إلى الأفواهِ في قولِهِ: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ؛ للإيذانِ بأنَّ كلامَهم مُجرَّدُ ألفاظٍ يَتفوَّهون بها، مِن غيرِ أنْ يكونَ لها مِصداقٌ في قلوبِهم
.
سورةُ التَّوبةِ
الآيات (9 - 12)
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
غريب الكلمات:
نَكَثُوا: أي: نَقَضوا، وأصلُ (نكث): يدلُّ على نَقضِ شَيءٍ
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ استبدَلوا بآياتِ اللهِ شَيئًا قليلًا مِن عَرَضِ الدُّنيا، فصَدُّوا أنفسهم عن قبولِ الحقِّ واتباعِه، وصدُّوا غيرَهم من النَّاسِ عن الدُّخولِ في الإسلامِ، وحاولوا ردَّ مَن أسلَمَ عن اتِّباعِ الحَقِّ، إنَّهم ساء ما كانوا يعملونَ؛ لا يُراعُونَ في مؤمِنٍ قَدَرُوا عليه اللهَ ولا قَرابةً ولا عَهدًا، وأولئك هم المُعتَدونَ.
ثم يُخاطِبُ المؤمنينَ قائِلًا لهم: فإنْ تاب المُشرِكونَ، وأدَّوُا الصَّلاةَ المفروضةَ على وجهِها الأكمَلِ، وأعطَوُا الزَّكاةَ الواجِبةَ لِمُستحِقِّيها، فهم إخوانُكم في الإسلامِ، ونُبَيِّنُ الآياتِ لِقَومٍ يَعلمونَ، وإنْ نَقَضوا عُهودَهم من بعدِ ما عاهَدُوكم، وقَدَحوا في دينِكم وانتَقَصوه، فقاتِلُوا رُؤَساءَ الكُفرِ؛ إنَّهم لا عُهودَ لهم صادقةً يُوفونَ بها؛ لعلَّهم يَنتَهونَ عَن الكُفرِ والضَّلالِ.
تفسير الآيات:
اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كشَفَ تعالى سرائِرَهم؛ شرعَ سبحانه يُقيمُ لهم الدَّليلَ على فِسقِهم وخِيانَتِهم، بتَذكيرِهم ما بدا مِن بَعضِهم مِن النَّقضِ، بعد أن أثبَتَ فيما مضى أنَّهم شَرعٌ واحِدٌ
، بعضُهم أولياءُ بَعضٍ .
وأيضا فهذا بيانٌ مُستأنَفٌ لِمَن عساه يستغرِبُ غَلَبةَ الفِسقِ، والخُروجَ مِن دائرةِ الفَضائِلِ الفِطريَّةِ والتقليديَّةِ على أكثَرِهم، حتى مُراعاة اللهِ والقرابةِ والوفاءِ بالعَهدِ الممدوحَينِ عِندَهم، ويسألُ عن سبَبِه، وجَوابُه :
اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً.
أي: استبدَلَ أولئك المُشرِكونَ، بآياتِ القُرآنِ شَيئًا قليلًا مِن عَرَضِ الدُّنيا، ومَتاعِها الفاني، فتَرَكوا اتِّباعَها لذلك، واتَّبَعوا أهواءَهم .
فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ.
أي: فتسبَّبَ عن ضَلالِهم قيامُهم بإضلالِ غَيرِهم، فمَنَعوا أنفسهم من قبولِ الحقِّ واتِّباعِه، ومنعوا غيرَهم مِن الدُّخولِ في الإسلامِ، وحاوَلُوا رَدَّ المُسلِمينَ عن اتِّباعِ الحَقِّ .
إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
أي: بِئسَ ما كان يعمَلُه أولئك المُشرِكونَ؛ مِن استبدالِهم الكُفرَ بالإيمانِ، وصَدِّهم النَّاسَ عن سبيلِ الرَّحمنِ .
لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أخبَرَ تعالى بعَراقَتِهم في الفِسقِ، دلَّ عليه بأنَّ خِيانَتَهم ليست خاصَّةً بالمُخاطَبينَ، بل عامَّةٌ لكُلِّ مَن اتَّصَف بصِفةِ الإيمانِ ، فقال تعالى:
لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً.
أي: لا يُراعي أولئك المُشرِكونَ في أيِّ مُؤمنٍ قَدَرُوا عليه اللهَ ولا قَرابةً ولا عَهدًا .
وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ.
أي: وأولئك المُشرِكونَ هم المُجاوِزونَ حُدودَ اللهِ، الظَّالِمونَ لِعبادِ اللَّهِ .
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حالَ مَن لا يَرقُبُ في اللهِ إلًّا ولا ذِمَّةً، وينقُضُ العَهدَ، وينطوي على النِّفاقِ، ويتعَدَّى ما حُدَّ له؛ بيَّنَ مِن بعدُ أنَّهم إن أقاموا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ كيف حُكمُهم ، فقال تعالى:
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ.
أي: فإن رجَعَ المُشرِكونَ عن كُفرِهم إلى الإيمانِ باللهِ، وأدَّوُا الصَّلواتِ المفروضةَ، وأعطَوُا الزَّكاةَ الواجبةَ مُستحِقِّيها؛ فهُم إخوانُكم- أيُّها المُسلِمونَ- في الإسلامِ .
وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
أي: ونُبَيِّنُ آياتِ القُرآنِ لِقَومٍ يَعقِلونَ عن اللهِ بَيانَه وآياتِه، فيَفهمُونَها، ويتفَكَّرونَ فيها، وينتَفِعونَ بها .
كما قال تعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] .
وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12).
مَناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا استوفى اللهُ تعالى بيانَ أصنافِ المُشرِكينَ، الذين أمَرَ اللهُ بالبراءةِ مِن عَهدِهم، والذينَ أمَرَ بإتمامِ عَهدِهم إلى مُدَّتِهم ما استقاموا على العَهدِ، والذين يَستجِيبونَ- عطَفَ على أولئك بيانَ الذين يُعلِنونَ بِنَكْثِ العَهدِ، ويُعلِنونَ بما يُسخِطُ المُسلِمينَ ، فقال تعالى:
وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ.
أي: وإن نقَضَ أولئك المُشرِكونَ عُهودَهم مِن بعدِ ما عاهَدُوكم على ألَّا يُقاتِلوكم، ولا يُظاهِروا عليكم أحدًا مِن أعدائِكم .
وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ.
أي: وقدحوا في دينِكم الإسلامِ، وعابُوه وانتقَصُوه .
فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.
أي: فقاتِلوا- أيُّها المُؤمِنونَ- رؤساءَ الكُفرِ الذين نقَضُوا العُهودَ، وطَعَنوا في الإسلامِ .
إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ لَا إِيْمَانَ قيل: على معنى أنَّهم لا إسلامَ لهم ولا دينَ، فهم كفَّارٌ. وقيل: المرادُ معنى الأمنِ، أي: لا أمانَ لهم، فقد بطَلَ الأمانُ الذي أعطَيتُموهم؛ لأنَّهم قد نقَضُوا عَهْدَهم .
2- قِراءةُ لَا أَيْمَانَ على معنى أنَّه لا عَهْدَ لهم، أي: هم لا يُوفُونَ بِعُهودِهم ومَواثيقِهم .
إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ.
أي: إنَّ رُؤَساءَ الكُفرِ لا عُهودَ لهم صادقةً يُوفُونَ بها .
لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ.
أي: قاتِلُوهم؛ كي ينتَهُوا عن الكُفرِ والضَّلالِ
.
الفوائد التربوية:
1- دلَّ قولُه تعالى: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً على ذمِّ قطيعةِ الرَّحِمِ، ونَقْضِ الذِّمَّة
.
2- قال الله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ هذه الأُخوَّةُ أوَّلُ مَزيَّةٍ دُنيويَّةٍ للإسلامِ؛ فإنَّ المُشرِكينَ كانوا مَحرومينَ مِن هذه الأُخوَّةِ العظيمةِ، بعضُهم حَربٌ لِبَعضٍ في كلِّ وَقتٍ، إلَّا ما يكونُ مِن عَهدٍ أو جِوارٍ، قلَّما يفي به القَويُّ للضَّعيفِ دائمًا .
3- قال الله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي: لِيكُنْ غَرَضُكم في مُقاتَلتِهم- بعد ما وُجِدَ منهم من العظائِم ما وُجِد- انتهاءَهم عمَّا هم فيه، وهذا مِن كَرَمِه سبحانَه وفَضلِه، وعَوْدِه على المُسيءِ بالرَّحمةِ .
4- ممَّا امتاز به الإسلامُ على جميعِ شَرائعِ الأُمَمِ وقَوانينِها: جَعلُ الحَربِ ضَرورةً مُقَيَّدةً بإرادةِ مَنعِ الباطِلِ، وتقريرِ الحَقِّ والفضائِلِ؛ يُبيِّنُ ذلك قَولُ الله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي: قاتِلُوهم راجِينَ بِقِتالِكم إيَّاهم أن يَنتَهوا عن كُفرِهم وشِرْكِهم، وما يحمِلُهم عليه مِن نَكْثِ أيمانِهم، ونَقضِ عُهودِهم، والضَّراوةِ بِقتالِكم كلَّما قَدَرُوا عليه، وهو يتضَمَّنُ النَّهيَ عن القتالِ اتِّباعًا لِهَوى النَّفسِ أو إرادةِ منافِعِ الدُّنيا؛ مِن سَلبٍ وكَسْبٍ، وانتقامٍ مَحضٍ بالأَوْلى
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بيَّنَ عَراقَتَهم في القبائِحِ وأنَّها في جِبِلَّتِهم، بذِكرِ الكَونِ، فقال: كَانُوا يَعْمَلُونَ، أي: يُجَدِّدونَ عَمَلَه في كلِّ وَقتٍ
.
2- قَولُه تعالى: فِي مُؤْمِنٍ إعلامٌ بأنَّ عَداوَتَهم إنَّما هي بحسَبِ الإيمانِ فقط، وقَولُه أوَّلًا: لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ [التوبة: 8] كان يحتمِلُ أن يظُنَّ ظانٌّ أنَّ ذلك للإحَنِ التي وقعَت، فزال هذا الاحتمالُ بِقَولِه: فِي مُؤْمِنٍ .
3- قال اللهُ تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ هذه الآيةُ دليلٌ على أنَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ مَقرونتانِ بالشَّهادةِ، في كَفِّ السَّيفِ وحَقنِ الدَّمِ، ودليلٌ على أنَّ المُؤاخاةَ بالإسلامِ بين المُسلِمينَ مَوقوفةٌ على فِعلِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ جَميعًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى شَرَطَهما في إثباتِ المُؤاخاةِ، ومَن لم يكُنْ مِن أهلِ وُجوبِ الزَّكاةِ وجَبَ عليه أن يُقِرَّ بِحُكمِها، فإذا أقَرَّ بحُكمِها دخل في الصِّفةِ التي تجِبُ بها الأخُوَّةُ .
4- في قولِ الله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ علَّقَ الأخُوَّةَ في الدِّينِ على التَّوبةِ مِن الشِّركِ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ؛ والمُعَلَّقُ بالشَّرطِ ينعَدِمُ عند عَدَمِه، فمَن لم يفعلْ ذلك فليس بأخٍ في الدِّينِ، ومَن ليس بأخٍ في الدِّينِ فهو كافِرٌ؛ لأنَّ المؤمنينَ إخوةٌ- رغم قيامِ الكبائِرِ بهم- بدليلِ قَولِه تعالى في آيةِ المُقتَتِلين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] ، وهذا مع أنَّه قد سمَّى قتالَ المؤمِنِ كُفرًا .
5- دلَّ قولُه تعالى: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ على أنَّ عَهدَ المُشرِكِ ينتقِضُ بذلك؛ فإنَّه حتى لو كان مُستقيمًا فيه بدونِ نَكْثٍ؛ فإنَّ مُجاهَرتَنا بالشَّتيمةِ، والوقيعةِ في رَبِّنا ونَبِيِّنا وكتابِنا ودِينِنا، يقدحُ في الاستقامةِ، كما تقدَحُ مُجاهَرتُنا بالمحاربةِ، في العَهدِ، بل ذلك أشَدُّ علينا إنْ كنَّا مُؤمِنينَ .
6- دَعوةُ الذِّميِّ أو المُعاهَدِ إلى دينِه، وترغيبُه المسلمينَ إليه، مِن أَوْلى الأشياءِ أن ينتقِضَ العهدُ بها؛ فإنَّه حِرابُ الله ورسولِه باللِّسانِ، وقد يكون أعظَمَ مِن الحِرابِ باليَدِ، كما أنَّ الدَّعوةَ إلى اللهِ ورَسولِه جهادٌ بالقَلبِ وباللِّسانِ، وقد يكون أفضَلَ من الجهادِ باليَدِ. ولَمَّا كانت الدَّعوةُ إلى الباطِلِ مُستلزِمةً- ولا بُدَّ- للطَّعنِ في الحَقِّ، كان دعاؤُهم إلى دينِهم، وتَرغيبُهم فيه طعنًا في دينِ الإسلامِ، وقد قال تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ولا ريب أنَّ الطَّعنَ في الدِّينِ أعظَمُ مِن الطَّعنِ بالرُّمحِ والسَّيفِ، فأَوْلى ما انتقَضَ به العَهدُ الطَّعنُ في الدينِ، ولو لم يكُن مَشروطًا عليهم؛ فالشَّرطُ ما زادَه إلَّا تأكيدًا وقُوَّةً .
7- مَن كان مِن المؤمنينَ بأرضٍ هو فيها مُستضعَفٌ، أو في وقتٍ هو فيه مُستضعَفٌ؛ فليعمَلْ بآياتِ الصَّبرِ والصَّفحِ، وأمّا أهلُ القُوَّةِ فإنَّما يَعملونَ بآيةِ قِتالِ أئمَّةِ الكُفرِ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ الذين يطعَنونَ في الدِّينِ، وبآيةِ قِتالِ الذينَ أوتُوا الكتابَ حتى يعطُوا الجِزيةَ عن يدٍ وهم صاغِرونَ .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ استدَلَّ به مَن قال: إنَّ الذِّميَّ يُقتَلُ إذا طعنَ في الإسلامِ، سواءٌ شَرَطَ انتقاضَ العَهدِ به أم لا. واستدَلَّ من قال بقَبولِ تَوبَتِه بِقَولِه: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ .
9- قال الله تعالى: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ مِن هاهنا أُخِذَ قَتلُ مَن سَبَّ الرَّسولَ، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه، أو مَن طعَنَ في دينِ الإسلامِ، أو ذَكَرَه بتنَقُّصٍ .
10- قال تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فسَمَّاهم أئمَّةَ الكُفرِ لِطعنِهم في الدِّينِ؛ فكُلُّ طاعِنٍ في الدِّينِ، فهو إمامٌ في الكُفرِ؛ وذلك لأنَّه علَّلَ ذلك بأنَّهم لا أيمانَ لهم، وذلك يشمَلُ جَميعَ النَّاكِثينَ الطَّاعِنينَ، ولأنَّ النَّكثَ والطَّعنَ وصفٌ مُشتَقٌّ مُناسِبٌ لِوجوبِ القِتالِ، وقد رُتِّبَ عليه بحرفِ الفاءِ تَرتيبَ الجَزاءِ على شرطِه، فإذا طعَنَ الذِّمِّيُّ في الدِّينِ، فهو إمامٌ في الكُفرِ، فيجِبُ قَتْلُه؛ لِقَولِه تعالى: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ولا يَمينَ له؛ لأنَّه عاهَدَنا على ألَّا يُظهِرَ عَيبَ الدِّينِ، وخالَفَ
.
بلاغة الآيات:
1- قَولُه تعالى: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- قولُهُ: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ الإضافةُ في سَبيلِهِ؛ للتَّشريفِ
.
- قَولُ اللهِ تعالى: اشْتَرَوْا بآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ مَفعولُ فَصَدُّوا مَحذوفٌ لِقَصدِ العُمومِ، أي: صَدُّوا كلَّ قاصدٍ .
- قولُهُ: إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فيه الافتتاحُ بحَرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للاهْتِمامِ بهذا الذَّمِّ لهم، وعبَّر عن عَمَلِهم بـ كانُوا يَعْمَلُونَ؛ للإشارةِ إلى أنَّه دَأَبٌ لهم، ومُتكرِّرٌ منهم .
2- قوله تعالى: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ
- في قولِه تعالى: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً تَكرارٌ لِمَعْنى قولِه: لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً؛ حيث ذُكِرَ الأوَّلُ وجُعِلَ جَزَاءً للشَّرْطِوَإِنْ يَظْهَرُوا، ثمَّ أُعيدَ ذَلِك تَقبيحًا لهم فقال: إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً . وفي تَكرارِ ذلِك بإبدالِ الضَّميرِ في قوله: فِيكُمْ بقولِه: فِي مُؤْمِنٍ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ إذ الأوَّلُ وقَعَ جوابًا لِقَولِه: وَإِنْ يَظْهَرُوا، والثاني وقَعَ إخبارًا عن تَقبيحِ حالِهم .
- قولُه: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فيه قَصْرٌ؛ وهو إمَّا أنْ يكونَ للمُبالغةِ في اعتدائِهم؛ لأنَّه اعتداءٌ عَظيمٌ باطِنيٌّ على قومٍ حالَفوهم وعاهَدوهم، ولم يُلْحِقوا بهم ضُرًّا مع تَمكُّنهم منه، وإمَّا أن يَكونَ قَصْرَ قَلْبٍ، أي: هم المعتَدُونَ لا أنتُم؛ لأنَّهم بَدؤُوكم بنَقضِ العَهْدِ .
- قولُه: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ عَطفٌ على جُملةِ: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً لِمُناسبةِ أنَّ إثباتَ الاعتداءِ العَظيمِ لهم، نَشَأ عن الحِقدِ- الشَّيءِ الذي أضمَرُوه للمُؤمِنينَ- لا لِشَيءٍ إلَّا لأنَّهم مُؤمِنونَ .
3- قَولُه تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
- فيه تَكرارُ قولِه: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لاختلافِ جزاءِ الشَّرطِ؛ إذْ جزاءُ الشَّرطِ في الأوَّلِ تَخليةُ سبيلِهم في الدُّنيا، وهو قَولُه تعالى: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، وفي الثَّاني إثباتُ أُخُوَّتِهم لنا في الدِّينِ، وهو قَولُه تعالى: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وهي ليستْ عينَ تَخليَتِهم، بل سَبَبُها .
- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ.
- قَولُه: فَإِخْوَانُكُمْ خبَرٌ لِمَحذوفٍ، أي: فَهُم إخوانُكم. وصِيغَ هذا الخبَرُ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ إيمانَهم يقتَضي ثباتَ الأُخُوَّةِ ودوامَها، تنبيهًا على أنَّهم يَعودونَ كالمُؤمِنينَ السَّابقينَ مِن قَبلُ، في أصلِ الأخُوَّةِ الدِّينيَّةِ .
- قولُهُ: وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اعتراضٌ؛ للحَثِّ على التَّأمُّلِ في الأحكامِ المُندرِجةِ في تَضاعيفِها، والمحافظةِ عليها ؛ فهو اعتراضٌ وتذييلٌ أيضًا، وعُطِفَ هذا التَّذييلُ على جُملةِ: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ؛ لأنَّه به أَعْلقُ؛ لأنَّهم إنْ تابوا فقد صاروا إخوانًا للمُسْلمين، فصاروا مِن قَومٍ يَعْلمونَ؛ إذ ساووا المُسلِمينَ في الاهتداءِ بالآياتِ المُفصَّلةِ .
4- قوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ
- قولُه: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ فيه التَّعبيرُ عن نَقْضِ العَهْدِ بنَكْثِ الأيمانِ؛ تَشنيعًا للنَّكْثِ .
- وزِيدَ قولُه: مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ زِيادةً في تَسجيلِ شناعةِ نَكْثِهم، بتذكيرِ أنَّه غَدْرٌ لعَهْدٍ .
- وقَولُ اللهِ تعالى: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ بعد قوله: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ مِن عَطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ فالطَّعنُ في الإسلامِ ضَربٌ مِن ضُروبِ نَكْثِ الأيمانِ، ونَقضِ السَّلْمِ والوَلاءِ، كالقِتالِ ومُظاهَرةِ الأعداءِ .
- قولُهُ: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فيه وَضْعُ المُظْهَرِ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ مَوضِعَ الضَّميرِ- حيثُ لَم يَقُلْ: (فقاتِلوهم)-؛ لزيادةِ التَّشنيعِ عليهم ببُلوغِهم هذه المنزلةَ من الكُفْرِ، وللدَّلالةِ على أنَّهم صاروا بذلك ذَوي الرِّئاسةِ والتَّقدُّمِ في الكُفْرِ، أحقَّاءَ بالقَتْلِ. وعلى أنَّ المرادَ بالأئمَّةِ رؤساءُ المشركينَ؛ فالتَّخصيصُ إمَّا لأنَّ قَتْلَهم أهمُّ، وهُمْ به أحقُّ، أو للمَنْعِ من مُراقبتِهم ، أو خَصَّ الأئمَّةَ بالذِّكرِ؛ لأنَّهم هم الذين يُحرِّضونَ الأتباعَ على البقاءِ على الكُفْرِ .
- وجُملةُ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ تَعليلٌ لقِتالِهم بأنَّهم اسْتَحقُّوه لأجْلِ اسْتِخفافهم بالأَيْمانِ التي حَلَفوها على السَّلْمِ، فغَدَروا .
- ونَفْيُ الأَيْمانِ لهم: نفيٌ للماهيةِ الحقِّ لليَمينِ، وهي قَصْدُ تعظيمِه والوفاءِ به، فلمَّا لم يُوفُوا بأيمانِهم، نُزِّلتْ أيمانُهم مَنْزلةَ العَدَمِ؛ لفُقْدانِ أَخَصِّ خواصِّها، وهو العملُ بما اقْتَضتْه .
========
سورةُ التَّوبةِ
الآيات (13-16)
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
غريب الكلمات:
يُخْزِهِمْ: أي: يُذِلَّهم، والخِزْيُ: الهوانُ، وأصلُه: يدلُّ على الإبعادِ
.
وَلِيجَةً: أي: بِطَانةً، دُخَلاءَ مِن المُشرِكينَ يُخالِطونَهم ويودُّونَهم. وكلُّ شَيءٍ أدخَلْتَه في شَيءٍ وليسَ منه، يُقالُ له: (وَليجةٌ)، وأصلُ (ولج): يدلُّ على دخولِ شَيءٍ
.
مشكل الإعراب:
قَوْله تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ: اسم الجلالةِ مُبتدأٌ، وفي الخَبرِ وجهانِ؛ أحدُهما: أنَّه أَحَقُّ وعلى هذا فَقَولُه: أَنْ تَخْشَوْهُ بدلُ اشتمالٍ مِن اسمِ الجلالةِ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، أي: فخَشيةُ اللهِ أحقُّ مِن خَشيَتِهم. أو أَنْ تَخْشَوْهُ في محلِّ نصبٍ أو جَرٍّ على نزْعِ الخافِضِ، والتَّقديرُ: أحقُّ بأن تَخْشَوه. الثاني: أنَّ الخبَرَ جُملةُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فـأَحَقُّ خبَرٌ مُقدَّمٌ. وأَنْ تَخْشَوْهُ مبتدأٌ ثانٍ مُؤخَّرٌ، والجُملة خبَرُ اسمِ الجلالةِ، أي: فاللهُ خَشْيَتُه أحقُّ
.
وجُملةُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ استئنافيَّةٌ لا محلَّ لها مِن الإعرابِ، وجوابُ إِنْ مَحذوفٌ دلَّ عليه ما قَبلَه، أي: إنْ كُنتُم مُؤمِنينَ فاخْشَوُا اللهَ. وقيل غيرُ ذلك
.
المعنى الإجمالي:
يُخاطِبُ اللهُ عِبادَه المُؤمِنينَ قائلًا لهم: ألَا تُقاتِلونَ- أيُّها المؤمنونَ- المُشركينَ الذين نقَضُوا العَهدَ الذي بينكم وبَينَهم، وعَزَموا بقُلوبِهم على إخراجِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مكَّة، وهم بدَؤُوكم بنَقضِ العَهدِ الذي بينكم بقِتالِ حُلَفائِكم خُزاعةَ، أتخافونَهم؟! فاللهُ أحَقُّ أن تخافُوا منه إنْ كُنتم مُؤمِنينَ.
قاتِلُوهم- أيُّها المُؤمِنونَ- يُعَذِّبْهم اللهُ بأيديكم، ويُهِنْهم، ويَنصُرْكم عليهم، ويُداوِ اللهُ صُدورَ قَومٍ مُؤمنينَ، مما فيها من الألَمِ، ويُزِلِ الغَيظَ مِن قُلوبِهم، ويتوبُ سبحانه على مَن يَشاءُ مِن أولئك المُشرِكينَ، واللهُ عليمٌ حَكيمٌ.
أظَنَنتُم- أيُّها المُسلمونَ- أن يترُكَكم اللهُ دونَ أن يختبِرَكم بالجهادِ، فيعلَمَ الذين صَدَقوا في جهادِهم في سبيلِه، ولم يتَّخِذوا من دونِ اللهِ ولا رسولِه ولا المؤمنينَ بِطانةَ سُوءٍ مِن الكُفَّارِ، يُوالُونَهم ويُفشُونَ إليهم أسرارَ المُؤمِنينَ، واللهُ خَبيرٌ بما تَعملونَ.
تفسير الآيات:
أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا قال تعالى: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، أتبَعَه بذِكرِ السَّبَبِ الذي يبعَثُهم على مُقاتَلَتِهم
، فقال تعالى:
أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ.
أي: ألَا تُقاتِلونَ- أيُّها المؤمنونَ- المُشرِكينَ الذين نقَضُوا العهدَ الذي بينَكم وبينهم ؟!
وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ.
أي: وعَزَموا بقُلوبِهم على إخراجِ رَسولِ اللهِ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن مكَّةَ .
كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] .
وقال سبحانه: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 76] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد: 13] .
وقال جلَّ جلالُه: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة: 1] .
وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
أي: وهَؤلاءِ المُشرِكونَ بَدَؤُوكم- أيُّها المُؤمِنونَ- بنَقضِ العَهدِ الذي بينكم، بقِتالِ حُلَفائِكم خُزاعةَ .
أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ .
أي: أتَخافُونَ- أيُّها المُؤمِنونَ- على أنفُسِكم مِن هؤلاءِ المُشرِكينَ، فتَترُكوا قتالَهم؛ لِئلَّا ينالَكم منهم مَكروهٌ؟ فاللهُ أَوْلى أن تخافُوا مِن عُقوبَتِه بتَركِكم جهادَ أولئكَ المُشرِكين، إن كُنتُم مُؤمِنينَ حقًّا .
كما قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175] .
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بكَّتَ اللهُ تعالى المُؤمِنينَ في التَّواني عن قتالِ المُشرِكين، وأقام الحُجَجَ البَيِّنةَ على وُجوبِ قِتالِهم، ودَحْضِ شُبهةِ المانِعِ منه- صَرَّحَ بالأمرِ القَطعيِّ به، مع الوعد بإظهارِ المُؤمِنينَ عليهم أكمَلَ الظُّهورِ وأتَمَّه، بما يُزيلُ خَشْيَتَهم منهم، بل يُوجِبُ إقدامَهم عليهم، ورغبَتَهم فيهم ، فقال تعالى:
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ.
أي: قاتِلوا- أيُّها المُؤمِنونَ- هؤلاءِ المُشرِكينَ الذين نقَضُوا عهودَهم؛ فإنَّكم إن تُقاتِلوهم يَقتُلْهم اللهُ بأيديكم .
وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ.
أي: ويُذِلَّهم اللهُ ويُهِنْهُم بالأسرِ، ويَمنَحْكم النَّصرَ عليهم .
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ.
أي: ويُداوِ اللهُ صُدورَ قَومٍ مُؤمنينَ، ظَلَمَهم المُشرِكون وقَهَروهم، فتنشَرِحْ صُدورُهم بالانتصارِ عليهم وقَتْلِهم، وأَسْرِهم، ويَزُلْ ما حصَلَ في قُلوبِهم من الألَمِ .
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان الشِّفاءُ في قَولِه تعالى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قد لا يُرادُ به الكَمالُ؛ أتبَعَه تحقيقًا لِكَمالِه بقَولِه :
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ.
أي: ويُزِلِ اللهُ الغَيظَ الكامِنَ في قُلوبِ المُؤمِنينَ بِسبَبِ ظُلمِ الكُفَّارِ وقَهْرِهم لهم .
وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ.
أي: ويتوبُ اللهُ على مَن يَشاءُ أن يتوبَ عليهم من أولئك المُشركِينَ، بأن يُوفِّقَهم للدُّخولِ في الإسلامِ، ويَقبَلَ منهم التَّوبةَ مِن الكُفرِ والآثامِ .
وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أي: واللهُ عليمٌ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بما يُصلِحُ عِبادَه، وعِلمُه بمن يستحِقُّ منهم التَّوفيقَ للتَّوبةِ، ومَن يستحِقُّ منهم الخِذلانَ عنها، حكيمٌ في أفعالِه وأقوالِه وشَرْعِه، يضَعُ كُلَّ شَيءٍ في موضِعِه اللَّائِقِ به، ومن ذلك حِكمَتُه في تَصريفِ عِبادِه مِن حالٍ إلى حالٍ .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16).
مَناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الآياتِ المُتقَدِّمةَ كانت مُرغِّبةً في الجهادِ، والمقصودُ مِن هذه الآيةِ مَزيدُ بَيانٍ في التَّرغيبِ .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ.
أي: أظَنَنْتُم- أيُّها المُسلِمونَ - أن يترُكَكم اللهُ دون أن يَخْتَبِرَكم بالجِهادِ، فيعلَمَ الصَّادِقينَ منكم الذين يُجاهِدونَ في سبيلِه، مِن الكاذِبينَ المُضَيِّعينَ ما أمَرَ به من جهادِ الكافرينَ؛ عِلمًا ظاهِرًا مَشهودًا يترتَّبُ عليه الثَّوابُ والعِقابُ ؟
كما قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142].
وقال سُبحانه: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179] .
وقال عزَّ وجَلَّ: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 1 - 3] .
وقال جلَّ جلاله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31] .
وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً.
أي: ولـمَّا يَعْلمِ الله الَّذين جاهدُوا مِنكم، والَّذين لم يتَّخِذوا مِن دُونِ اللهِ ولا رَسولِه ولا المُؤمِنينَ بِطانةَ سُوءٍ مِن الكُفَّارِ، يُوالُونَهم ويُفشُونَ إليهم أسرارَ المُؤمِنينَ .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة: 51 - 53] .
وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
أي: واللهُ عَليمٌ بِجَميعِ أعمالِكم الخَفِيَّةِ- أيُّها المُسلِمونَ- فيُجازيكم عليها؛ إنْ خَيرًا فخَيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ، ومن ذلك اتِّخاذُ بِطانةٍ مِن الكافِرينَ
.
الفوائد التربوية:
1- قال الله تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ المُؤمِنَ ينبغي أن يَخشى ربَّه، وألَّا يَخشَى أحدًا سِواه
.
2- في قَولِه تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دليلٌ على أنَّ المُؤمِنَ حقَّ الإيمانِ يكونُ أشجَعَ النَّاسِ، وأعلاهم هِمَّةً؛ لأنَّه لا يخشى إلَّا اللهَ عَزَّ وجَلَّ .
3- قال اللهُ تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً المُجاهِدُ قد يُجاهِدُ، ولا يكونُ مُخلِصًا، بل يكونُ مُنافقًا، باطِنُه خلافُ ظاهِرِه، وهو الذي يتَّخِذُ الوليجةَ مِن دونِ الله ورسولِه والمُؤمنينِ، فبيَّنَ تعالى في هذه الآيةِ أنَّه لا يترُكُهم إلَّا إذا أتَوْا بالجهادِ مع الإخلاصِ؛ خاليًا عن النِّفاقِ والرِّياءِ، والتودُّدِ إلى الكُفَّارِ، وإبطالِ ما يُخالِفُ طريقةَ الدِّينِ، والمقصودُ بيانُ أنَّه ليس الغَرضُ مِن إيجابِ القتالِ نَفسَ القِتالِ فقط، بل الغَرَضُ أن يُؤتَى به انقيادًا لأمرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وِلِحُكمِه وتكليفِه؛ لِيَظهَرَ به بذلُ النَّفسِ والمالِ في طلَبِ رِضوانِ الله تعالى، فحينئذٍ يحصُلُ به الانتفاعُ، وأمَّا الإقدامُ على القتالِ لِسائِرِ الأغراضِ، فذاك ممَّا لا يُفيدُ أصلًا .
4- شَرَع اللهُ الجِهادَ؛ لِيَحصُلَ به مقصودٌ أعظَمُ، وهو أن يتميَّزَ الصَّادِقونَ، الذين لا يتحَيَّزونَ إلَّا لِدينِ الله، من الكاذبينَ الذين يزعُمونَ الإيمانَ، وهم يتَّخِذونَ الولائِجَ والأولياءَ مِن دونِ الله ورَسولِه والمُؤمِنينَ؛ قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ، كذلك جَرَت سنَّةُ اللهِ تعالى بالابتلاءِ؛ لينكشِفَ الخَبيءُ، وتتمَيَّزَ الصفوفُ، وتتمَحَّصَ القلوبُ، ولا يكون ذلك كما يكونُ بالشَّدائِدِ والتَّكاليفِ والمِحَن والابتلاءاتِ
5- قال الله تعالى: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً، ولا وَليجةَ أعظَمُ ممَّن جعَلَ رَجُلًا بِعَينِه مُختارًا على كلامِ اللهِ، وكَلامِ رَسولِه، وكلامِ سائِرِ الأمَّةِ، يُقَدِّمُه على ذلك كُلِّه، ويَعْرِضُ كتابَ اللهِ وسُنَّةَ رَسولِه وإجماعَ الأمَّةِ على قَولِه، فما وافَقَه منها قَبِلَه؛ لِمُوافَقتِه لِقَولِه، وما خالَفَه منها تلطَّفَ في ردِّه، وتطَلَّبَ له وُجوهَ الحِيَلِ، فإن لم تكُنْ هذه وليجةً، فلا نَدرِي ما الوليجةُ ؟!
6- يجِبُ على الإنسانِ أن يُبالغَ في أمرِ النيَّةِ ورعايةِ القَلبِ؛ قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي: عالِمٌ بنيَّاتِهم وأغراضِهم، مُطَّلِعٌ عليها لا يخفى عليه منها شيءٌ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ يدُلُّ على أنَّ قِتالَ النَّاكثينَ أَوْلى مِن قِتالِ غَيرِهم من الكُفَّارِ؛ لِيكونَ ذلك زَجرًا لِغَيرِهم
.
2- مُؤاخَذتُهم على مُجَرَّدِ الهَمِّ بإخراجِ الرَّسولِ في قَولِ الله تعالى: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ تدُلُّ على أنَّهم لم يُخرِجوه، وإلَّا لكان الأجدَرُ أن يَنعَى عليهم الإخراجَ لا الهَمَّ به ، وهذا على أحدِ أوجهِ التفسيرِ للآيةِ.
3- قَولُ الله تعالى: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ إنَّما قال: بَدَءُوكُمْ تنبيهًا على أنَّ البادِئَ أظلمُ .
4- إن قيل: أليسَ قال اللهُ تعالى في سورةِ الأنفالِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] فكيف قال تعالى هنا: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ فالجَوابُ: أنَّ المُرادَ مِن قَولِه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ عذابُ الاستئصالِ، والمرادُ مِن قَولِه: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ عذابُ القَتلِ والحَربِ. والفَرقُ بين البابَينِ أنَّ عَذابَ الاستئصالِ قد يتعَدَّى إلى غيرِ المُذنِبِ، وإن كان في حَقِّه سببًا لِمَزيدِ الثَّوابِ، أمَّا عذابُ القَتلِ فالظَّاهِرُ أنَّه يَبقَى مقصورًا على المُذنِبِ .
5- في قوله تعالى: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ إثباتُ تأثيرِ الأسبابِ؛ حيث بيَّن اللهُ تعالى أنَّه هو المُعَذِّبُ؛ وأنَّ أيديَنا أسبابٌ وآلاتٌ وأوساطٌ وأدواتٌ في وصولِ العَذابِ إلى المُشرِكينَ هؤلاء .
6- قَولُ الله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ فيه دليلٌ على أنَّ شِفاءَ الصُّدورِ مِن ألَمِ النَّكثِ والطَّعنِ، وذَهابَ الغَيظِ الحاصِلِ في صدورِ المُؤمِنينَ مِن ذلك؛ أمرٌ مَقصودٌ للشَّارِعِ، مطلوبُ الحُصولِ، وأنَّ ذلك يحصُلُ إذا جاهَدُوا ، فدلَّ على مَحبَّةِ اللهِ لعبادِه المُؤمِنينَ، واعتنائِه بأحوالِهم، حتى إنَّه جعَلَ مِن جُملةِ المقاصِدِ الشَّرعيَّةِ شِفاءَ ما في صُدورِهم، وذَهابَ غَيظِهم .
7- قَولُ الله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ دالٌّ على المُعجِزة؛ لأنَّه تعالى أخبَرَ عن حصولِ هذه الأحوالِ، وقد وقَعَت مُوافِقةً لهذه الأخبارِ، فيكونُ ذلك إخبارًا عن الغَيبِ، والإخبارُ عن الغَيبِ مُعجِزٌ .
8- قَولُ الله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يدلُّ على كَونِ الصَّحابةِ مُؤمِنينَ في عِلمِ الله تعالى إيمانًا حَقيقيًّا؛ لأنَّها تدُلُّ على أنَّ قُلوبَهم كانت مملوءةً من الغَضَبِ ومن الحمِيَّةِ؛ لأجلِ الدِّينِ، ومن الرَّغبةِ الشَّديدةِ في عُلُوِّ دِينِ الإسلامِ، وهذه الأحوالُ لا تحصُلُ إلَّا في قلوبِ المُؤمِنينَ .
9- ذكَرَ الله تعالى ما تسبَّبَ عن النَّصرِ مِن شفاءِ صُدورِ المُؤمِنينَ، وإذهابِ غَيظِهم في قَولِه: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ؛ تتميمًا للنِّعَم، فذكَرَ ما تسبَّبَ عن النَّصرِ بالنِّسبةِ للكُفَّارِ، وذكَرَ ما تسبَّبَ للمُسلمينَ مِن الفَرَحِ والسُّرورِ بإدراكِ الثَّأرِ، ولم يذكُرْ ما نالوه من المغانِمِ والمطاعِمِ؛ إذ العَرَبُ قَومٌ جُبِلوا على الحميَّةِ والأنَفةِ، فرَغْبَتُهم في إدراكِ الثَّأرِ وقَتلِ الأعداءِ هي اللَّائقةُ بِطِباعِهم
.
بلاغة الآيات:
1- قَولُه تعالى: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
- قولُه: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ دخَلتِ الهَمزةُ على (لا تُقاتِلُونَ) تَقريرًا بانْتِفاءِ المُقاتَلةِ، ومعناه: الحَضُّ عليها على سَبيلِ المُبالَغةِ
.
- قولُهُ: أَتَخْشَوْنَهُمْ اسْتِفهامٌ على مَعْنى التَّقريرِ والتَّوبيخِ؛ فهو تَقريرٌ للخَشيةِ منهم، وتَوبيخٌ عليها .
2- قَولُه تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ
- قولُه: قَاتِلُوهُمْ تجريدٌ للأمرِ بالقِتالِ بعدَ التَّوبيخِ على ترْكِهِ، ووَعْدٌ بنَصْرِهم، وبتَعذيبِ أعدائِهم وإخزائهم، وتَشجيعٌ لهم .
3- قولُه تعالى: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
- قولُه: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ كلامٌ مُستأنَفٌ يُنبِئُ عمَّا سيكونُ من بعضِ أَهْلِ مَكَّةَ، من التَّوبةِ المقبولةِ بحسَبِ مَشيئتِه تعالى المَبنيَّةِ على الحِكَمِ البالِغةِ .
- قال تعالى هنا: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وقال فيما بعد: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 27] فاستَوَتِ الآيتانِ في إعلامِه تعالى نبيَّه والمُؤمِنينَ أنَّه يتوبُ على من يشاءُ، وفى خَتْمِ الآيتينِ بِصِفَتينِ مِن صِفاتِه سُبحانه، ثم اختلفَتِ الصِّفَتانِ، فقيل في الأولى: عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وفى الثَّانية: غَفُورٌ رَحِيمٌ؛ وذلك لِمُناسَبةٍ حَسَنةٍ: أنَّ الآيةَ الأُولى أُعقِبَ بها ما تقَدَّمَها مُتَّصِلًا بها مِن الآيِ في كُفَّارِ مَكَّةَ، وفِعْلِهم مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه؛ مِن التَّضييقِ والإخراجِ، وبَدْئِهم بالقتالِ يومَ بَدرٍ، ونَقضِهم العهدَ في قصَّةِ خُزاعةَ في صُلحِ الحُديبِيَةِ، فأمَرَ اللهُ تعالى بقِتالِهم وخِزْيِهم، والنَّصرِ عليهم، وشفاءِ صُدورِ مَن آمنَ مِن خُزاعةَ وغَيرِهم ممَّن آذَوْه، فقال تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ثمَّ قال تعالى: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ثمَّ قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، أي: بما في القِتالِ، وفي طَيِّ ما جرى من ذلك كلِّه بِتَقديرِه السَّابِقِ أوَّلًا؛ إذ لا تتحَرَّكُ ذرَّةٌ إلَّا بإذنِه وتقَدُّمِ عِلْمِه أَوَّلًا، وما في ذلك من الحكمةِ، وخَتَم أفعالَهم السيِّئةَ بالأوبةِ والرُّجوعِ إليه سبحانَه بِسابِقِ سَعادةٍ لِمَن شاهَدَها له منهم؛ فهذا وَجهُ النَّظمِ، والتَّناسُبُ فيه واضِحٌ.
وأمَّا الآيةُ الثَّانيةُ فسَبَبُها- والله أعلَمُ- ما جرى يومَ حُنَينٍ مِن تولِّي النَّاسِ مُدبِرينَ، حين ابتُلُوا بإعجابِهم بكَثرتِهم، فلم تُغنِ عنهم شيئًا، ولم يثبُتْ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك اليومِ أحَدٌ؛ إذ لم يَبرَحْ عليه السَّلامُ مِن مكانِه، فلم يثبُتْ معه إلَّا القَليلُ مِن العَدَدِ القليلِ، فنادى العباسُ رضي الله عنه بآلِ الأنصارِ فاستجابَ ناسٌ، وأنزَلَ اللهُ سَكينتَه على رسولِه وعلى المُؤمِنينَ، ومكَّنَ نبيَّه والمُسلِمينَ من أعدائِهم، فخُتِمَت هذه الآيُ بِقَولِه تعالى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ؛ تأنيسًا لِمَن فَرَّ مِن المسلمينَ في ذلك اليومِ، وبِشارةً لهم بتوبةِ اللهِ عليهم، وأنَّ ما وقع منهم من الفِرارِ مَغفورٌ لهم؛ رحمةً مِن اللهِ سبحانه، فجاء كلُّ هذا على ما يناسِبُ، ولا يُلائِمُ خِلافُه .
- قولُه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذييلٌ؛ لإفادةِ أنَّ الله يُعامِلُ النَّاسَ بما يَعْلمُ مِن نيَّاتِهم، وأنَّه حَكيمٌ لا يأمُرُ إلَّا بما فيه تَحقيقُ الحِكْمةِ؛ فوَجَبَ على النَّاسِ امْتِثالُ أوامِرِه، وأنَّه يَقْبلُ تَوبةَ مَن تاب إليه؛ تَكثيرًا للصَّلاحِ .
4- قَولُه تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
- قولُه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا (أَمْ) مُنْقَطِعةٌ؛ لإفادةِ الإضرابِ عن غَرضٍ من الكلامِ للانْتِقال إلى غَرَضٍ آخَرَ، والكلامُ بَعْدَ (أَمْ) المُنْقطِعةِ له حُكْمُ الاسْتِفهامِ دائمًا؛ فقولُه: حَسِبْتُمْ في قوَّةِ (أَحَسِبْتُمْ)، والاسْتِفهامُ المُقدَّرُ إنكاريٌّ .
- وتَنكيرُ وَلِيجَةً في سِياقِ النَّفْيِ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً يَعُمُّ سائرَ أفرادِها .
- وجملةُ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ تَذييلٌ؛ لإنكارِ ذلك الحُسبانِ، أي: لا تَحسبوا ذلك مع عِلمِكم بأنَّ اللهَ خَبيرٌ بكلِّ ما تَعملونَه .
============
سورةُ التَّوبةِ
الآيات (17-19)
ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ
غريب الكلمات:
سِقَايَةَ الْحَاجِّ: أي: سَقْيَ الحَجيجِ، و(سقاية) مصدرٌ مِن (سقى)، وأصلُ (سقي): إشرابُ الشيءِ الماءَ، وما أشبهَه
.
وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ: أي: القِيامَ بِمَصالِحِه ومُعاهَدتَه. والعِمارةُ: نَقيضُ الخَرابِ، و(عمارة) مصدرُ (عمَر)، وأصلُ (عمر): يدلُّ على بقاءٍ، وامتدادِ زمانٍ
.
المعنى الإجمالي:
يُبَيِّنُ تعالى أنَّه لا ينبغي للمُشرِكينَ أن يَعمُرُوا مساجِدَ الله ببنائِها أو التعبُّدِ فيها، والحالُ أنَّهم شاهِدونَ على أنفُسِهم بالكُفرِ، أولئك بطَلَت أعمالُهم، وهم في نارِ جهنَّمَ، ماكثونَ فيها على الدَّوامِ.
وأخبَرَ تعالى أنَّ مساجِدَ اللهِ يعمُرُها مَن آمَنَ باللهِ وبالبَعثِ والقيامةِ، وأقام الصَّلاةَ المكتوبةَ بِحُدودِها، وأدَّى الزَّكاةَ المَفروضةَ إلى مُستحِقِّيها، ولم يخَفْ إلَّا اللهَ تعالى، فعسَى أولئك أن يكونُوا من المُهتَدينَ.
ثم يقولُ تعالى: أجعَلْتُم- أيُّها النَّاسُ- أصحابَ سِقايةِ الحجيجِ وعِمارةِ المَسجِدِ الحرامِ، كمَن آمَنَ باللهِ وباليومِ الآخِرِ، وجاهدَ في سبيلِ الله، بل لا يَستوونَ عندَ اللهِ، واللهُ لا يهدي القَومَ الظَّالِمينَ.
تفسير الآيات:
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه تعالى بدأ السُّورةَ بذِكرِ البراءةِ من الكُفَّارِ، وبالَغَ في إيجابِ ذلك، وذكرَ مِن أنواعِ فضائِحِهم وقبائِحِهم ما يُوجِبُ تلك البراءةَ، ثمَّ إنَّه تعالى حكى عنهم شُبَهًا احتجُّوا بها في أنَّ هذه البراءةَ غيرُ جائزةٍ، وأنَّه يجِبُ أن تكونَ المُخالَطةُ والمُناصَرةُ حاصلةً؛ فأوَّلُها ما ذكَرَه في هذه الآيةِ، وذلك أنَّهم موصوفونَ بصِفاتٍ حَميدةٍ وخِصالٍ مَرضِيَّةٍ، وهي تُوجِبُ مُخالَطتَهم ومُعاوَنتَهم ومُناصَرتَهم، ومن جملةِ تلك الصِّفاتِ كَونُهم عامرينَ للمَسجِدِ الحَرامِ
.
وأيضًا لَمَّا حَذَّرَهم اللهُ تعالى منِ اتِّخاذِ وليجةٍ مِن دُونِه، شرَعَ يُبَيِّنُ أنَّ الوليجةَ التي يتَّخِذُها بعضُهم لا تصلُحُ للعاطفةِ بما اتَّصَفَت به من محاسِنِ الأعمالِ، ما لم تُوضَعْ تلك المحاسِنُ على الأساسِ الذي هو الإيمانُ الـمُبَينُ بدَلائِلِه، فقال سائقًا له مَساقَ جَوابِ قائلٍ قال: إنَّ فيهم مِن أفعالِ الخَيرِ ما يدعو إلى الكَفِّ عنهم؛ من عمارةِ المسجِدِ الحرامِ وخِدمَتِه وتَعظيمِه .
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ.
أي: ما ينبغي للمُشركينَ أن يَعمُروا مساجِدَ اللهِ ببِنائِها وتزيينِها، والعبادةِ فيها، والحالُ أنَّهم شاهِدونَ على أنفُسِهم بالكُفرِ ؛ بما يأتُونَه من أقوالٍ وأفعالٍ كُفريَّةٍ، يُقِرُّونَ بها، ولا يُمكِنُهم إنكارُها .
أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ.
أي: أولئك المُشرِكونَ قد بَطَلَت أعمالُهم- ومنها عِمارةُ البَيتِ الحَرامِ- فلا يُؤجَرونَ عليها في الآخرةِ؛ بِسَبَبِ شِرْكِهم .
كما قال سُبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15-16] .
وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] .
وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ.
أي: وأولئك المُشرِكونَ في نارِ جهنَّمَ، ماكِثونَ فيها على الدَّوامِ .
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى عدَمَ استحقاقِ المُشرِكينَ لِعِمارةِ مَساجِدِ اللهِ، أثبَتَها للمُسلِمينَ الكامِلينَ، وجَعَلَها مقصورةً عليهم بالفِعلِ لا بمجَرَّدِ الشَّأنِ والاستحقاقِ ، فقال تعالى:
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.
أي: ما يَعمُرُ مَساجِدَ اللهِ حقًّا- بقَصْدِها وعبادةِ اللهِ تعالى وذِكْرِه فيها، وببنائِها وتَرميمِها والعنايةِ بها - إلَّا المُؤمِنُ باللهِ عزَّ وجلَّ، وبالبَعْثِ والقيامةِ .
كما قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 36-37] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] .
وقال سُبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة: 114] .
وعن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ((مَن بنى مَسجِدًا يبتغي به وَجهَ اللهِ، بنى اللهُ له مِثلَه في الجنَّةِ )) .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ يَومَ القيامةِ في ظِلِّه، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه)) وذَكَرَ منهم: ((ورجُلٌ قَلبُه مُعَلَّقٌ في المسجِدِ )) .
وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ.
أي: وأقام الصَّلاةَ المَكتوبةَ بِحُدودِها، وأدَّى الزَّكاةَ الواجبةَ عليه في مالِه إلى مُستحِقِّيها، ولم يَخَفْ إلَّا اللهَ تعالى وَحْدَه، فلم يترُكْ أمرَ اللهِ ونَهْيَه؛ لِخَشيةِ غَيرِه .
فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ.
أي: فعُمَّارُ المَساجِدِ المُؤمِنونَ بالله وباليومِ الآخِرِ، المقيمونَ الصَّلاةَ والمؤتونَ الزكاةَ، الذين يَخشَونَ اللهَ تعالى وَحدَه، هم مِن الذينَ هداهم اللهُ للتمَسُّك بالحَقِّ الـمُوصِلِ إلى الجنَّةِ .
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وقَعَ الكلامُ على أنَّ المُؤمِنينَ هم الأحِقَّاءُ بعِمارةِ المَسجِدِ الحرامِ مِن المُشرِكينَ؛ دلَّ ذلك الكلامُ على أنَّ المَسجِدَ الحَرامَ لا يحِقُّ لِغَيرِ المُسلِمِ أن يُباشِرَ فيه عملًا مِن الأعمالِ الخاصَّةِ به، فكان ذلك مَثارَ ظَنٍّ بأنَّ القِيامَ بِشَعائِرِ المسجِدِ الحرامِ مُساوٍ للقيامِ بأفضَلِ أعمالِ الإسلامِ .
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ .
أي: أجَعَلْتُم - أيُّها النَّاسُ- أصحابَ سَقْيِ الحَجيجِ وعمارةِ المَسجِدِ الحرامِ المُشركينَ، كالمؤمنينَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، والمجاهدينَ في سبيلِ اللهِ ؟!
عن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كنتُ عند مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رجلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عَمَلًا بعد الإسلامِ إلَّا أنْ أسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عَمَلًا بعد الإسلامِ إلَّا أن أعمُرَ المَسجِدَ الحَرامَ، وقال آخَرُ: الجِهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلتُم، فزَجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَومُ الجُمُعةِ، ولكِنْ إذا صَلَّيْتُ الجُمُعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتُم فيه، فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية إلى آخِرِها )) .
لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ.
أي: لا يجعَلُ اللهُ سُقاةَ الحاجِّ وعُمَّارَ المسجِدِ الحرامِ مِن الكُفَّارِ، في منزلةِ المُؤمِنينَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، والمُجاهِدينَ في سبيلِ الله .
كما قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] .
وقال سبحانه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم: 35-36] .
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا نفى اللهُ عزَّ وجلَّ المُساواةَ بين الفَريقينِ، أوضَحَ مَن الراجِحُ مِنهما، ولَمَّا أثبَتَ الهِدايةَ للمُؤمِنينَ بِقَولِه: فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، نفاها عن المُشرِكينَ فقال :
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
أي: واللهُ لا يوفِّقُ للتَّوبةِ، ولِفِعلِ الأعمالِ الصَّالحةِ، الكُفَّارَ والمُشرِكينَ، ومنهم أهلُ سِقايةِ الحاجِّ وعِمارةِ المَسجِدِ الحرامِ، مِن المُشرِكينَ الذين ظَلَموا بمُساواةِ أعمالِهم هذه بالإيمانِ باللهِ وباليومِ الآخِرِ والجهادِ في سبيلِ اللهِ، فوَضَعوا الأشياءَ في غيرِ مواضِعِها
.
كما قال تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 27] .
وقال سبحانه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .
الفوائد التربوية:
1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ في ضِمنِ هذا الخبَرِ أمرُ المؤمنينَ بعِمارةِ المَساجِدِ، ويتناوَلُ عِمارَتُها رَمَّ ما تهدَّمَ منها، وتنظيفَها، وتنويرَها، وتعظيمَها، واعتيادَها للعِبادةِ والذِّكرِ- ومِن الذِّكرِ دَرسُ العِلمِ، بل هو أجَلُّه- وصَونَها عمَّا لم تُبْنَ له
.
2- عُمَّارُ المَساجِدِ على الحقيقةِ، وأهلُها الذينَ هم أهلُها؛ موصوفونَ بالإيمانِ النَّافِعِ، وبالقيامِ بالأعمالِ الصَّالحةِ التي أمُّها الصَّلاةُ والزَّكاةُ، وبخشيةِ الله التي هي أصلُ كُلِّ خَيرٍ؛ يُبيِّنُ ذلك قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فيه أنَّ أولئك الجامعينَ لهذه الخَمسِ مِن أركانِ الإيمانِ والإسلامِ- التي يلزَمُها سائِرُ أركانِها- هم الذين يرجُونَ بحَقٍّ، أو يُرجَى لهم بحسَبِ سُنَنِ اللهِ في أعمالِ البشَرِ، وتأثيرِها في إصلاحِهم؛ أن يكونوا من جماعةِ المُهتَدينَ إلى ما يُحِبُّ اللهُ ويرضى مِن عمارةِ مَساجِدِه حِسًّا ومعنًى، واستحقاقِ الجَزاءِ عليها بالجنَّةِ خالدين فيها، دونَ غَيرِهم من المُشرِكينَ الجامِعينَ لأضدادِها .
4- قَولُ اللهِ تعالى: فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (عسى) مِن اللهِ تعالى: واجِبةٌ حيثما وقعَتْ في القُرآنِ، وفي ذلك قَطعُ أطماعِ المُشرِكينَ أن يكونوا مُهتَدينَ؛ إذ مَن جمَعَ هذه الخِصالَ جُعِلَ حالُه حالَ مَن تُرجَى له الهدايةُ، فكيف بمن هو عارٍ منها، وفي ذلك ترجيحُ الخَشيةِ على الرَّجاءِ، ورَفْضُ الاغترارِ بالأعمالِ الصَّالحةِ، فربَّما دخَلَها بعضُ المُفسِداتِ وصاحِبُها لا يشعُرُ بها
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الكافِرَ ممنوعٌ مِن عمارةِ مَسجِدٍ مِن مساجِدِ المُسلمينَ، ولو أوصى بها لم تُقبَلْ وصيَّتُه، ويُمنَعُ عن دخولِ المَساجِدِ
.
2- قَولُ اللهِ تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ يدلُّ على أنَّ عَمَلَ الكافِرِ مُحبَطٌ لا ثوابَ فيه .
3- قَولُ اللهِ تعالى: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ احتُجَّ بهذه الآيةِ على أنَّ الفاسِقَ مِن أهلِ الصَّلاةِ لا يبقى مُخلَّدًا في النَّارِ مِن وَجهَينِ: أنَّ قَولَه: وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ يُفيدُ الحَصرَ، أي: هم فيها خالِدونَ لا غيرُهم، ولَمَّا كان هذا الكلامُ واردًا في حَقِّ الكُفَّارِ، ثبت أنَّ الخُلودَ لا يحصُلُ إلَّا للكافِرِ. والثاني: أنَّه تعالى جعَلَ الخُلودَ في النَّارِ جَزاءً للكُفَّارِ على كُفرِهم، فلو كان هذا الحُكمُ جَزاءً لِغَيرِ الكافِرِ، لَمَا صَحَّ تهديدُ الكافِرِ به .
4- قَولُه تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ دليلٌ على أنَّ الشَّهادةَ لعُمَّارِ المساجِدِ بالإيمانِ صحيحةٌ؛ لأنَّ اللهَ سُبحانه ربَطَه بها، وأخبَرَ عنه بمُلازَمتِها. وقد قال بعضُ السَّلَفِ: (إذا رأيتم الرَّجُلَ يعمُرُ المَسجِدَ، فحَسِّنُوا به الظَّنَّ) .
5- قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ جرتِ العادةُ أنَّ اللَّهَ يذكرُ الإيمانَ باليومِ الآخِرِ مع الإيمانِ به؛ لأَنَّ الكُفرَ باليومِ الآخِرِ سببٌ لكلِّ البَلايا، وأنواعِ الكُفرِ والجحودِ؛ لأنَّ مَطامِعَ العُقلاءِ محصورةٌ في أمرينِ؛ هما: جلبُ النَّفعِ، ودفعُ الضرِّ، والذي لا يُصدِّقُ بيومِ القيامةِ لا يرغَبُ في خيرٍ في ذلك اليَومِ، ولا يخافُ من شَرٍّ في ذلك اليومِ، فلا يَنزَجِرُ عن شيءٍ، ولا يَرعَوي عن شيءٍ؛ ولذا كان التَّكذيبُ بالبعثِ من أشنعِ أنواعِ الكُفرِ باللهِ جلَّ وعلا .
6- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ اعتبارُ إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ في عِمارةِ المسجِدِ، كأنَّه يدلُّ على أنَّ المُرادَ مِن عِمارة المسجِدِ الحضورُ فيه؛ وذلك لأنَّ الإنسانَ إذا كان مُقيمًا للصَّلاةِ، فإنَّه يحضُرُ في المسجِدِ، فتحصُلُ عِمارةُ المسجِدِ به، وإذا كان مُؤتيًا للزَّكاةِ، فإنَّه يحضُرُ في المسجِدِ طوائفُ الفُقَراءِ والمساكينِ لِطَلبِ أخْذِ الزَّكاةِ، فتحصُلُ عِمارةُ المسجِدِ به. وإذا حَمَلْنا العِمارةَ على مصالِحِ البِناءِ: فإيتاءُ الزَّكاةِ مُعتبَرٌ في هذا البابِ أيضًا؛ لأنَّ إيتاءَ الزَّكاةِ واجِبٌ، وبناءَ المسجِدِ نافلةٌ، والإنسانُ ما لم يَفرُغْ عن الواجِبِ لا يَشتغِل بالنَّافلةِ، والظَّاهِرُ أنَّ الإنسانَ ما لم يكُن مؤدِّيًا للزَّكاةِ لم يشتغِلْ ببناءِ المَساجدِ .
7- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ناسبَ ذِكرُ إيتاءِ الزَّكاةِ مع عمارةِ المَساجِدِ؛ لأنَّها لَمَّا كانت مَجمَعًا للنَّاسِ بانَ فيها أمْرُ الغَنيِّ والفقيرِ، وعُرِفَت أحوالُ منَ يؤدِّي الزَّكاةِ، ومَن يستحِقُّها .
8- قَولُ اللهِ تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ فيه أنَّ الجهادَ والإيمانَ باللهِ أفضَلُ مِن سقايةِ الحاجِّ وعمارةِ المسجِدِ الحرامِ بدرجاتٍ كثيرةٍ؛ لأنَّ الإيمانَ أصلُ الدِّينِ، وبه تُقبَلُ الأعمالُ، وتزكو الخِصالُ، وأمَّا الجِهادُ في سبيلِ اللهِ فهو ذِروةُ سَنامِ الدِّينِ، الذي به يُحفَظُ الدِّينُ الإسلاميُّ ويتَّسِعُ، ويُنصَرُ الحقُّ، ويُخذَلُ الباطِلُ، وأمَّا عِمارةُ المسجِدِ الحرامِ وسِقايةُ الحاجِّ، فهي وإنْ كانت أعمالًا صالحةً، فهي مُتوقِّفةٌ على الإيمانِ، وليس فيها مِن المصالِحِ ما في الإيمانِ والجهادِ؛ فلذلك قال: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
.
بلاغة الآيات:
1- قَولُه تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ
- قولُه: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ابتداءُ ذمٍّ لهم، وجِيءَ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ الذي فيه معنى البُعدِ؛ لأنَّهم قد تميَّزوا بوَصْفِ الشَّهادةِ على أَنْفُسِهم بالكُفْرِ
.
- قولُهُ: وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ فيه إيرادُ الجُملةِ الاسميَّةِ؛ للمُبالَغةِ في الدَّلالةِ على الخُلودِ، والظَّرفُ وَفِي النَّارِ مُتعلِّقٌ بالخَبَرِ خَالِدُونَ، وقُدِّم عليه؛ للاهْتِمام به، ولمُراعاةِ الفاصِلَةِ ، وليحصُل منه تعجيلُ المَساءةِ للكُفَّارِ إذا سَمِعوه .
2- قَولُه تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ
- وقولُه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ... استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ جُملةَ: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ لَمَّا اقْتَضتْ إقْصاءَ المشركينَ عن العبادةِ في المساجِدِ، كانتْ بحيثُ تُثيرُ سؤالًا في نُفوسِ السَّامعينَ أن يَتطلَّبوا مَن هم الأحقَّاءُ بأنْ يَعْمُروا المساجدَ، فكانتْ هذه الجُمْلةُ مُفيدةً في جوابِ هذا السَّائلِ .
- ومجيءُ صيغةِ القَصْرِ إِنَّمَا فيها مُؤذِنٌ بأنَّ المقصودَ إقصاءُ فِرَقٍ أُخْرى عن أنْ يَعْمُروا مَساجدَ اللهِ غيرِ المشركينَ الذين كان إقصاؤُهم بالصَّريحِ؛ فتعيَّن أنْ يكونَ المرادُ من الموصولِ وصِلتِه خُصوصَ المُسلمينَ؛ لأنَّ مجموعَ الصِّفاتِ المذكورةِ في الصِّلةِ لا يَثْبُتُ لغيرِهم .
- قولُه: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فيه قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، وذلك باعتبارِ تعارُضِ خَشْيَتين، فإذا ترَدَّدَ الحالُ بينَ خشْيَتِهم اللَّه وخشْيَتِهم غيرَه قَدَّموا خشيةَ اللَّه على خشيةِ غيرِه، كقولِه آنِفًا: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ [التَّوْبَة: 13] وليس المرادُ مِن القصرِ أنَّهم لا يخافونَ شيئًا غيرَ اللَّه، فإنَّهم قد يَخافونَ الأسدَ، ويخافونَ العدُوَّ .
- قولُه: فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فيه تَبْعيدٌ للمُشركينَ عن مواقفِ الاهتداءِ، وحَسْمٌ لأطماعِهم من الانْتِفاعِ بأعمالِهم التي اسْتَعظموها، وافْتَخروا بها، وأمَّلوا عاقِبَتَها، بأنَّ الذين آمنوا وضَمُّوا إلى إيمانِهم العملَ بالشَّرائعِ مع اسْتِشعارِ الخشيةِ والتَّقوى؛ اهتداؤُهم دائرٌ بين (عسى) و(لعلَّ)؛ فما بالُ المشركينَ يَقْطَعون أنَّهم مُهتدونَ، ونائلونَ عند اللهِ الحُسْنى ؟!
- والتعبيرُ عنهم باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم اسْتَحقُّوا هذا الأملَ فيهم بسَببِ تلك الأعمالِ التي عُدَّتْ لهم .
3- قَولُه تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- الاسْتِفهامُ في أَجَعَلْتُمْ للإنكارِ؛ وهو إنكارُ أن يُشبَّه المشرِكونَ، وأعمالُهم المُحبَطةُ، بالمؤمنِينَ، وأعمالِهم المُثْبَتةِ، وجَعَلَ تَسويتَهم ظُلمًا، بعدَ ظُلْمِهم بالكُفْرِ .
- والخِطابُ في هذه الآيةِ إمَّا للمُشركينَ على طريقةِ الالتِفاتِ، وهو المتبادِرُ من تخصيصِ ذكرِ الإيمانِ بجانبِ المشبَّهِ به، وإمَّا لبعض المؤمنِينَ المؤْثِرين للسِّقاية والعِمارةِ ونحوِهما على الهِجرَةِ والجِهادِ ونظائرِهما، وهو المناسِبُ للاكتفاءِ في الردِّ عليهم ببيانِ عَدمِ مساواتِهم عند اللهِ للفريق الثاني، وبيانِ أعظميةِ درجتِهم عند الله تعالى على وجه يُشعر بعدم حِرمانِ الأَوَّلين بالكُليَّةِ. أمَّا على الأوَّلِ فهو توبيخٌ للمشركين، ومدارُه على إنكار تشبيهِ أنفسِهم- مِن حيثُ اتصافُهم بوصفَيْهم المذكورينِ، مع قطعِ النظرِ عمَّا هُم عليهِ من الشركِ- بالمؤمنين، مِن حيث اتصافُهم بالإيمان والجهاد، أو على إنكارِ تشبيهِ وصفيهم المذكورين في حدِّ ذاتِهما، مع الإغماضِ عن مقارنتِهما للشِّرك بالإيمانِ والجهادِ، وأمَّا اعتبارُ مقارنتِهما له، كما قيل، فيأباه المقامُ، كيف لا وقد بيِّن آنفًا حبوطُ أعمالِهم بذلك الاعتبارِ بالمرة، وكونُها بمنزلة العدم، فتوبيخُهم بعد ذلك على تشبيهِهما بالإيمانِ والجهادِ، ثم رَدُّ ذلك بما يُشعر بعدم حِرمانِهم عن أصل الفضيلة بالكلية، كما أشير إليه، ممَّا لا يساعدُهُ النظمُ التنزيليُّ، ولو اعتُبر ذلك لما احتيج إلى تقريرِ إنكارِ التشبيهِ وتأكيدِه بشيء آخرَ؛ إذ لا شيءَ أظهرُ بطلانًا مِن تشبيهِ المعدومِ بالموجودِ .
- قولُه: كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لم يُذْكَرِ الإيمانُ بالرِّسولِ؛ لأنَّ الإيمانَ باليومِ الآخِرِ إنَّما هو مُتلقَّفٌ مِن أخبارِ الرَّسولِ، فيَتضمَّن الإيمانَ بالرَّسولِ، أو لم يُذْكَرْ؛ لِمَا عُلِمَ وشُهِرَ مِن أنَّ الإيمانَ بالله تعالى قَرِينتُه الإيمانُ بالرِّسولِ؛ لاشْتِمالِ كلمةِ الشَّهادةِ والأذانِ والإقامةِ وغيرِها عليهما، مُقتَرَنَيْنِ مُزْدَوجَيْنِ كأنَّهما شيءٌ واحدٌ، لا يَنْفَكُّ أَحدُهما عن صاحبِهِ؛ فانْطوى تحت ذِكْرِ الإيمانِ باللهِ تعالى الإيمانُ بالرِّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وقيل: دلَّ عليه بذِكْرِ إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ؛ إذ لا يُتلقَّى ذلك إلَّا مِنه .
4- قولُه تعالى: ... وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ التَّوبة: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، بعد قوله: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وورَد بعدَ هذا بآياتٍ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ بعدَ قولِه: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ... الآيَةَ [التوبة: 24] ، وقال بعد ذلك في هذِه السُّورةِ أيضًا: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ بعد قوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ... الآيةَ [التوبة: 37] ، وفي ذِكْرِ المنافِقينَ مِن هذِه السُّورةِ قال: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 80] ، فخُصِّصتْ بعضُ هذه الآياتِ بـ(الظَّالِمين) وبعضُها بـ(الفاسقين) وبعضُها بـ(الكافرين)؛ ووجْهُ هذِه المُناسَبةِ؛ أنَّ المراد بـ (الظَّالمين) في الآيةِ الأُوَلى مُشرِكو العربِ، الذين قاموا بسِقايةِ الحاجِّ، وأنفقوا على المسجد الحرامِ؛ فهُم لأنفُسِهم بالكُفرِ ظالِمون، وبعَمَلِهم- الذي يُؤمِّلون الانتفاعَ به مع مُضامَّةِ الكُفرِ- واضِعونَ الشَّيءَ في غيرِ موضعِه، فلمَّا فَعَل هؤلاءِ المشرِكون ذلك، وكان كلُّ مُشركٍ ظالِمًا، وكلُّ مَن وضَع شيئًا في غيرِ مَوضعِه يكونُ ظالِمًا؛ عبَّر عنهم بـ(الظَّالمين)؛ لانطِواءِ هذه الصِّفةِ على الكُفرِ، وعلى المعنَى الزَّائدِ بتَضييعِ المالِ في حالِ الشِّركِ.
وأمَّا الموضِع الثاني، وهو قولُه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ؛ فإنَّه تحذيرٌ لِمَن قال فيهم مِن المُسلِمين: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة: 24] ؛ فعَرَّفهم أنَّ مَن آثَرَ مُراعاةَ هذِه الأبوابِ التي عَدَّها على طاعةِ اللهِ تعالى؛ فإنَّه بفِعلِه ذلك مِن جُملةِ الفاسِقين، وأنَّ حُكمَه حُكمُهم؛ فكان ذِكرُ (الفاسقين) أليقَ بهذا المَكانِ.
وأمَّا الموضِعُ الثَّالِث، وهو قولُه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ فإنَّه بعدَ قولِه تعالى في وصْفِ الكُفَّار: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ [التوبة: 37] ، فأخْبَر الله تعالى أنَّ ذلك زيادةٌ في كُفرِهم، ثم عَقَّبَه بوصْفِهم بأنَّه لا يَهدِيهم، فكان أحقُّ الأوصافِ في هذا المكانِ لَفْظَةَ (الكافرين) التي اقتَضاهَا هذا المعنى والذِّكرُ المتقدِّمُ في مَكانَينِ من الآيةِ.
أمَّا الموضِعُ الرابع، وهو قولُ الله تعالى في ذِكرِ المنافقِينَ مِن هذِه السُّورةِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، فقدْ قال تعالى قَبْلَه: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ الآياتِ [التوبة: 75] ، فوُصِفوا بالتَّظاهُرِ بالإسلامِ، ثم خَرَجوا عنه بشَنيعِ كُفرِهم، وقَبيحِ مُرتَكَباتِهم، ووصَفَهم تعالى بأنَّهم يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ إلى قولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثم قال: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ؛ فلخُروجِهم ومُفارقتِهم ما قدْ كانوا تَظاهَروا به مِن الإسلامِ، وُصِفوا بالفِسقِ الذي هو الخُروجُ والمفارقةُ، كما يُقالُ: فَسَقتِ الرُّطبةُ، إذا خرَجتْ مِن قِشرِها .
==========
سورةُ التَّوبةِ
الآيات (20-22)
ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
غريب الكلمات:
مُقِيمٌ: أي: دائِمٌ ثابتٌ مُستمِرٌّ، ويُعبَّر بالإقامةِ عن الدوامِ، وأصلُ (قوم): يدلُّ على انتصابٍ أو عَزمٍ
.
المعنى الإجمالي:
يُبيِّنُ تعالى أنَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذين آمَنُوا وترَكُوا ديارَ الكُفرِ إلى ديارِ الإيمانِ بِهجرَتِهم إلى المدينةِ، وجاهَدُوا بأموالِهم وأنفُسِهم؛ لِتَكونَ كَلِمةُ اللهِ هي العليا؛ هم أرفَعُ درجةً مِن سُقاةِ الحاجِّ وعُمَّارِ المسجِدِ الحرامِ مِن المُشرِكينَ، وأولئك هم الفائِزونَ، يُبشِّرُهم ربُّهم جلَّ وعلا برحمةٍ عظيمةٍ، ورضًا منه، وجناتٍ لهم فيها نعيمٌ دائِمٌ لا يزولُ، ماكثينَ فيها على الدَّوامِ، إنَّ اللهَ عنده أجرٌ عَظيمٌ.
تفسير الآيات:
الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما حكَم الله تعالى بأنَّ الصنفينِ لا يستوون بقولِه: لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ؛ بيَّن ذلك وأوضَحه، فعدَّد الإيمانَ والهجرةَ والجهادَ، وحكَم أنَّ أهلَ هذه الخصالِ أعْظمُ دَرَجَةً عندَ اللَّهِ مِن جميعِ الخلق، ثم حكَم لهم بالفوزِ برحمتِه ورضوانِه، مع تفصيلٍ للجهادِ المذكورِ في قولِه: وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ بأنَّه الجِهادُ بالأموالِ والأنفُسِ
.
الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ.
أي: أصحابُ مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، الذين آمَنوا باللهِ تعالى، وبِكُلِّ ما يجِبُ عليهم الإيمانُ به، وهاجَرُوا مِن أوطانِهم ودِيارِهم إلى مَدينةِ رَسولِ اللهِ، وجاهَدوا لإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ تعالى بأموالِهم وأنفُسِهم، أولئك أرفَعُ مَنزلةً، وأعلى مكانةً عِندَ اللهِ مِن سُقاةِ الحاجِّ، وعُمَّارِ المَسجِدِ الحَرامِ مِن المُشركينَ .
كما قال تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 95-96] .
وقال سبحانه: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال النَّبيُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تسُبُّوا أصحابي؛ فلو أنَّ أحَدَكم أنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما بلغ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصِيفَه ) .
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ.
أي: وأولئك- الذين آمَنوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا في سبيلِ اللهِ- هم الذينَ يَظفَرونَ بِمَطلوبِهم بِدُخولِ الجنَّةِ، والنَّجاةِ مِن النَّارِ .
كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185] .
وقال سُبحانه: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر: 20] .
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما قال الله تعالى: أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ، وقال: وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ؛ أتبَعه ببيانِ هذه الدَّرَجةِ العَظيمةِ، وهذا الفَوزِ المُجمَلِ ، فقال:
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ.
أي: يُعْلِمُ اللهُ الذين آمَنوا وهاجَروا وجاهَدوا في سبيلِ اللهِ، بأنَّ لهم رحمةً عظيمةً مِن ربِّهم، يزولُ بها عنهم الشرورُ، ويصلُ إليهم بها كلُّ خيرٍ، وأنَّه رَضِيَ عنهم رضًا كامِلًا، فلا يسخطُ عليهم أبدًا .
كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 10 - 13] .
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ. فيقولون: لبَّيكَ رَبَّنا وسَعْدَيكَ، والخيرُ في يديكَ. فيقولُ: هل رَضِيتُم؟ فيقولونَ: وما لنا لا نَرضَى يا رَبِّ، وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا مِن خَلْقِك؟! فيقولُ: ألَا أُعطِيكم أفضَلَ مِن ذلك؟ فيقولونَ: يا ربِّ، وأيُّ شَيءٍ أفضَلُ مِن ذلك؟! فيقولُ: أُحِلُّ عليكم رِضواني، فلا أسخَطُ عليكم بَعدَه أبدًا )) .
وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ.
أي: ويُبَشِّرُهم اللهُ أيضًا بجنَّاتٍ لهم فيها نعيمٌ دائِمٌ لا يَزولُ .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فصلت: 8] .
وقال سُبحانه: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا [الطلاق: 11] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ في الجنَّةِ مِئةَ درجةٍ، أعَدَّها اللهُ للمُجاهِدينَ في سبيلِه، كُلُّ دَرَجتَينِ ما بينهما كما بينَ السَّماءِ والأرضِ، فإذا سألتُمُ اللهَ فَسَلُوه الفِردَوسَ؛ فإنَّه أوسَطُ الجَنَّةِ، وأعلى الجنَّةِ، وفَوقَه عَرشُ الرَّحمنِ، ومنه تفَجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ ))
.
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22).
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
أي: ماكِثينَ في تلك الجَنَّاتِ بلا نهايةٍ
.
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف: 107- 108] .
إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ عنده جزاءٌ وثوابٌ كَبيرٌ على الأعمالِ الصَّالحةِ، يمنَحُه للمُؤمِنينَ في الآخرةِ
.
كما قال تعالى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17] .
وقال سُبحانه: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف: 68-73] .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ قال في وَصفِهم أَعْظَمُ دَرَجَةً مع أنَّه ليس للكُفَّارِ دَرَجةٌ؛ لِوجوهٍ:
الأول: أنَّ هذا ورَدَ على حسَبِ ما كانوا يُقَدِّرونَ لأنفُسِهم مِن الدَّرَجةِ والفَضيلةِ عند اللهِ.
الثاني: أن يكونَ المُرادُ أنَّ أولئك أعظَمُ دَرَجةً مِن كلِّ مَن لم يكُنْ مَوصوفًا بهذه الصِّفاتِ؛ تنبيهًا على أنَّهم لَمَّا كانوا أفضَلَ مِن المؤمنينَ الذين ما كانوا مَوصوفِينَ بهذه الصِّفاتِ، فبِألَّا يُقاسُوا إلى الكُفَّارِ أَوْلى.
الثالثُ: أن يكونَ المُرادُ أنَّ المُؤمِنَ المُجاهِدَ المُهاجِرَ أفضَلُ ممَّن على السِّقايةِ والعِمارةِ، والمُرادُ منه ترجيحُ تلك الأعمالِ على هذه الأعمالِ، ولا شَكَّ أنَّ السِّقايةَ والعِمارةَ مِن أعمالِ الخَيرِ، وإنَّما بطَلَ إيجابُهما للثَّوابِ في حقِّ الكُفَّارِ؛ لأنَّ قِيامَ الكُفرِ- الذي هو أعظَمُ الجِناياتِ- يمنَعُ ظُهورَ ذلك الأثَرِ
.
2- في قولِه تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ إلى قولِه سبحانه: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ رَدٌّ على المرجئةِ فيما يزعمون أنَّ المرءَ بكلمةِ الإخلاصِ وحدَها مستكملٌ الإيمانَ؛ ومَن كان مستكملَ الإيمان فهو في الجنةِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى لم يشهدْ بالفوزِ بالجنةِ والرحمةِ والرضوانِ في هذه الآيةِ إلَّا بالهجرةِ والجهادِ بالأموالِ والأنفسِ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ لَمَّا كانت الأوصافُ التي تحَلَّوا بها، وصارَوا بها عَبِيدَه حقيقةً، هي ثلاثةً: الإيمانُ، والهِجرةُ، والجِهادُ بالمالِ والنَّفسِ- قُوبِلوا في التَّبشيرِ بثَلاثةٍ: الرَّحمةِ، والرِّضوانِ، والجنَّاتِ. فبدَأَ بالرَّحمةِ؛ لأنَّها الوَصفُ الأعَمُّ النَّاشِئُ عنها تيسيرُ الإيمانِ لهم، وثنَّى بالرِّضوانِ؛ لأنَّه الغايةُ مِن إحسانِ الرَّبِّ لِعَبدِه، وهو مُقابِلُ الجهادِ؛ إذ هو بَذْلُ النَّفسِ والمالِ، وقُدِّمَ على الجنَّاتِ؛ لأنَّ رِضا اللهِ عن العَبدِ أفضَلُ مِن إسكانِهم الجنَّةَ، وأتى ثالثًا بِقَولِه: وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، أي: دائِمٌ لا ينقطِعُ. وهذا مُقابِلٌ لِقَولِه: وَهَاجَرُوا لأنَّهم تركُوا أوطانَهم التي نَشَؤوا فيها، وكانوا فيها مُنعَّمِينَ، فآثَرُوا الهِجرةَ على دارِ الكُفرِ إلى مُستَقَرِّ الإيمانِ والرِّسالةِ، فقُوبِلوا على ذلك بالجَنَّاتِ ذواتِ النَّعيمِ الدَّائِمِ، فجاء التَّرتيبُ في أوصافِهم على حسَبِ الواقِعِ: الإيمانُ، ثمَّ الهِجرةُ، ثمَّ الجِهادُ. وجاء التَّرتيبُ في المُقابِلِ على حسَبِ الأعَمِّ، ثمَّ الأشْرَفِ، ثمَّ التَّكميلِ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ قَولُه: وَرِضْوَانٍ أي: نَوعٍ مِن الرِّضَا التَّامِّ الكامِلِ، الذي لا يَشُوبُه ولا يَعقُبُه سَخَطٌ؛ يدُلُّ على هذا المعنى زيادةُ لَفظِ (رِضوانٍ) في المبنى على لَفظِ (رِضا) مع تنكيرِه
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ
- قَولُ الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ المفضَّل عليه محذوفٌ؛ لظهورِه: أي أعظمُ درجةً عندَ الله مِن أصحابِ السِّقاية والعمارةِ الذين آمنوا ولم يُهاجروا، ولم يُجاهدوا الجهادَ الكثيرَ الذي جاهده المسلمونَ أيامَ بقاءِ أولئك في الكفرِ
. وقيل: لم يُعيِّنْ ذِكرَهم، فلم يقُلْ: (أعظَمُ درجةً مِن المشتَغِلينَ بالسِّقايةِ والعِمارةِ)؛ لأنَّه لو عيَّنَ ذِكرَهم لأوهَمَ أنَّ فَضيلَتَهم إنَّما حصَلَت بالنِّسبةِ إليهم، ولَمَّا ترَكَ ذِكرَ المَرجوحِ، دلَّ ذلك على أنَّهم أفضَلُ مِن كلِّ مَن سِواهم على الإطلاقِ؛ لأنَّه لا يُعقَلُ حُصولُ سَعادةٍ وفَضيلةٍ للإنسانِ أعلى وأكمَلَ مِن هذه الصِّفاتِ .
- قولُه: وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ جملةٌ مَعطوفةٌ على أَعْظَمُ دَرَجَةً، أي: أَعْظمُ، وهم أصحابُ الفَوزِ، وتَعريفُ الْفائِزُونَ باللَّامِ مُفيدٌ للقَصْرِ، وهو قَصْرٌ ادِّعائيٌّ؛ للمُبالَغةِ في عِظَمِ فوزِهِم، حتى إنَّ فوزَ غيرِهم بالنِّسبةِ إلى فوزِهِم يُعَدُّ كالمعدومِ .
- والإتيانُ باسمِ الإشارةِ (أُولئِكَ)؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم اسْتَحقُّوا الفوزَ لأجْلِ تِلك الأوصافِ التي مَيَّزتْهم، وهي: الإيمانُ، والهِجْرةُ، والجِهادُ بالأموالِ والأنْفُسِ .
2- قوله تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ
- قولُه: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فيه التَّعرُّضُ لعُنوانِ الربوبيَّة؛ تأكيدًا للمُبشَّرِ به، وتَربيةً له ؛ فأُسْنِدَ التَّبشيرُ إلى رَبُّهُمْ؛ لِمَا في ذلك من الإحسانِ إليهم بأنَّ مالِكَ أَمْرِهم، والنَّاظِرَ في مصالِحهم هو الذي يُبشِّرُهم .
- وإسنادُ التَّبشيرِ إلى اسمِ الجَلالةِ بِصيغةِ المُضارِعِ- المُفيدِ للتَّجَدُّدِ- مُؤذِنٌ بتَعاقُبِ الخَيراتِ عليهم، وتَجَدُّدِ إدخالِ السُّرورِ بذلك لهم؛ لأنَّ تجَدُّدَ التَّبشيرِ يُؤذِنُ بأنَّ المُبَشَّرَ به شَيءٌ لم يكُن معلومًا للمبشَّرِ، وإلَّا لكان الإخبارُ به تحصيلًا للحاصِلِ .
- قولُه: بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ فيه تَنكيرُ الرَّحمةِ والرِّضوانِ؛ للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ .
3- قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
- قولُه: خالِدِينَ فِيها أَبَدًا أكَّدَ الخُلُودَ بالتَّأبيدِ؛ لأنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ للمُكْثِ الطَّويلِ .
- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ استئنافٌ وَقَعَ تعليلًا لِمَا سَبَق ، مع ما فيه من التَّأكيدِ بـ(إنَّ) واسميَّةِ الجُمْلةِ.
============
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (23-24)
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ
غريب الكلمات:
وَعَشِيرَتُكُمْ: العَشِيرَةُ: أهلُ الرَّجل الذين يتكثَّر بهم، أو الجماعةُ التي ترجِعُ إلى عَقدٍ واحدٍ كعَقدِ العشرةِ فما زادَ، ومنه المعاشرَةُ، وهي الاجتماعُ على الشَّيءِ، وَأصلُ (عشر): يدلُّ على مداخلةٍ ومخالطةٍ
.
اقْتَرَفْتُمُوهَا: أي: اكتَسَبتُموها وحصَّلْتُموها، والاقترافُ: الاكْتِسابُ، حُسنًا كان أو سُوءًا، وهو في الإساءةِ أكثرُ استعمالًا، وأصلُ (الاقترافِ): اقتطاعُ الشيءِ مِن مكانِه إلى غيرِه، وأصلُ (قرف): يَدُلُّ عَلَى مُخالطةِ الشَّيءِ، والالتِباسِ به، وادِّراعِه، ومنه: اقْتَرفْتُ الشَّيءَ: اكْتَسَبْتُه، وكأنَّه لابَسَه وادَّرَعه .
كَسَادَهَا: أي: فَوَاتَ وَقتِ رواجِها، والكَسادُ: خِلافُ النَّفاقِ ونقِيضُه، وأصلُ (كسد): يدلُّ على الشَّيءِ الدُّونِ لا يُرغَبُ فيه .
فَتَرَبَّصُوا: أي: انتَظِرُوا وتمهَّلُوا، والتَّربُّصُ: الانتِظارُ بالشَّيءِ، وأصلُ (ربص): يدلُّ على الانتظارِ
.
المعنى الإجمالي:
ينهى اللهُ المُؤمِنينَ عن مُوالاةِ آبائِهم وإخوانِهم في النَّسَبِ إن اختارُوا الكُفرَ باللهِ، وآثَرُوه على الإيمانِ، وأخبَرَ أنَّه مَن يتوَلَّهم فأولئك هم الظَّالِمونَ.
وأمَرَ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: إنْ كان آباؤُهم وأبناؤُهم وإخوانُهم وأزواجُهم وعمومُ أقاربِهم، وأموالٌ اكتَسَبُوها، وتَعِبُوا في تحصيلِها، وتجارةٌ يَخافونَ إن هاجَرُوا أن تكسُدَ، وبيوتٌ يُحِبُّونَها، ولا يُريدونَ مُفارَقتَها؛ أحَبَّ إليهم مِن اللهِ ورَسولِه وجهادٍ لإعلاءِ كلمَتِه- فَلْينتَظِروا حتى يأتيَهم اللهُ بعُقوبةٍ عاجلةٍ أو آجِلةٍ، واللهُ لا يهدي القَومَ الفاسِقينَ.
تفسير الآيتين:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ.
أي: يا أيُّها الذين آمَنوا، لا تتَّخِذوا آباءَكم وإخوانَكم في النَّسَبِ بِطانةً وأصدقاءَ، تُناصِرونَهم، وتُفشُونَ إليهم أسرارَ المُسلِمينَ، وتُؤثِرونَ المُكْثَ بينهم على الهِجرةِ إلى دارِ الإسلامِ، إن اختارُوا- على وجهِ الرِّضا والمحبَّةِ- الكُفرَ باللهِ، وآثَرُوه على الإيمانِ به سبُحانه
.
وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي: ومَن يتَّخِذْ منكم- أيُّها المُؤمِنونَ- أقارِبَه الكُفَّارَ بِطانةً، يُحِبُّهم ويُناصِرُهم، ويُؤثِرُ المُقامَ بينهم على الهِجرةِ إلى دارِ الإسلامِ، فأولئك هم الذينَ عَصَوُا اللهَ، وخالَفُوا أمرَه، فوَضَعوا الوَلايةَ في غَيرِ مَوضِعِها، واتَّخَذوا من يَضُرُّهم أولياءَ، وتَرَكوا ما ينفَعُهم مِن الهجرةِ والجِهادِ في سَبيلِ الله تعالى .
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كانتِ الأنفُسُ مُختلِفةَ الهِمَمِ، مُتبايِنةَ السَّجايا والشِّيَمِ، كان هذا غيرَ كافٍ في التَّهديدِ لِكُلِّها، فأتبَعَه تَهديدًا أشَدَّ منه بالنِّسبةِ إلى تلك النُّفوسِ، فقال مُنتَقِلًا من أسلوبِ الإقبالِ إلى مقامِ الإعراضِ المُؤذِنِ بزَواجِرِ الغَضَبِ .
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ.
أي: قل- يا محمَّدُ- للمُتخَلِّفينَ عن الهِجرةِ إلى دارِ الإسلامِ: إن كان آباؤُكم وأبناؤُكم، وإخوانُكم في النَّسَبِ وزوجاتُكم، وعمومُ أقارِبِكم .
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا.
أي: وأموالٌ اكتسَبْتُموها، وتَعِبتُم في تَحصيلِها، وتجارةٌ تَخافونَ- إن هاجَرْتُم- عدَمَ بَيعِها ورواجِها، أو رُخْصَ سِعرِها ونَقصَ أرباحِها، وبيوتٌ تُحِبُّونَ سُكْناها، فلا تُريدونَ تَرْكَها .
أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ.
أي: إن كانت تلك الأشياءُ أحبَّ إليكم مِن اللهِ ورَسولِه، وجهادٍ لإعلاءِ كَلِمتِه تعالى .
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ بهِنَّ حَلاوةَ الإيمانِ: مَن كان اللهُ ورَسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سِواهما، وأنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلَّا لله، وأن يَكرَهَ أن يعودَ في الكُفرِ بعد أن أنقَذَه اللهُ منه، كما يكرَهُ أن يُقذَفَ في النَّارِ )) .
وعنه أيضًا، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يُؤمِنُ أحَدُكم، حتى أكونَ أحَبَّ إليه مِن وَلَدِه ووالِدِه والنَّاسِ أجمَعينَ )) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ هِشامٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كنَّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، فقال له عُمَرُ: يا رَسولَ اللهِ، لأنت أحَبُّ إليَّ مِن كُلِّ شَيءٍ إلَّا مِن نفسي، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا والذي نفسي بِيَدِه، حتَّى أكونَ أحَبَّ إليك مِن نَفسِك. فقال له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللهِ لأنتَ أحَبُّ إليَّ مِن نَفسي. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الآنَ يا عُمَرُ )) .
فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ.
أي: فانتَظِرُوا- أيُّها المُتخَلِّفونَ عن الهِجرةِ والجِهادِ- حتى يأتيَكم اللهُ بعُقوبةٍ عاجلةٍ أو آجِلةٍ .
عن أبي أُمامةَ رَضِيَ الله عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن لم يَغْزُ أو يُجهِّزْ غازِيًا، أو يَخْلُفْ غازيًا في أهلِه بخَيرٍ؛ أصابَه اللهُ سُبحانه بقارعةٍ قبلَ يَومِ القيامةِ )) .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن مات ولم يَغزُ، ولم يحدِّث به نفسَه، مات علَى شُعبةٍ من نِفاقٍ )) .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إذا تَبايَعتُم بالعِينةِ ، وأخَذْتُم أذنابَ البَقَرِ ، ورَضِيتُم بالزَّرعِ، وتَرَكْتم الجِهادَ؛ سلَّطَ اللهُ عليكم ذُلًّا لا يَنزِعُه، حتى تَرجِعُوا إلى دينِكم )) .
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
أي: واللهُ لا يوفِّقُ للخَيرِ الخارِجينَ عن طاعَتِه إلى مَعصِيَتِه، المُؤْثِرينَ على محبَّةِ الله تعالى شيئًا مِن تلك المذكوراتِ
.
الفوائد التربوية:
1- الحَذرُ مِن مُوالاةِ مَن استحَبُّوا الكُفرَ على الإيمانِ، في ظاهِرِ أمْرِهم أو باطِنِه؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
.
2- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ هكذا تتقطَّعُ أواصِرُ الدَّمِ والنَّسَبِ، إذا انقطَعَتْ آصِرةُ القَلبِ والعقيدةِ، وتَبطُلُ وَلايةُ القَرابةِ في الأسرةِ، إذا بطَلَت وَلايةُ القَرابةِ في اللهِ؛ فلِلَّه الوَلايةُ الأُولى، وفيها ترتبِطُ البَشَريَّةُ جميعًا، فإذا لم تكُنْ، فلا وَلايةَ بعد ذلك، والحَبلُ مَقطوعٌ، والعُروةُ مَنقوضةٌ
3- قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّه إذا وقعَ التَّعارُضُ بين مصلحةٍ واحدةٍ مِن مصالِحِ الدِّينِ وبين جميعِ مُهِمَّاتِ الدُّنيا؛ وجب على المُسلِمِ تَرجيحُ الدِّينِ على الدُّنيا
4- قال اللهُ تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ هذه الآيةُ الكريمةُ أعظَمُ دليلٍ على وُجوبِ محبَّةِ اللهِ ورَسولِه، وعلى تقديمِها على محبَّةِ كُلِّ شَيءٍ، وعلى الوعيدِ الشَّديدِ والمَقْتِ الأكيدِ، على من كان شَيءٌ مِن هذه المذكوراتِ أحَبَّ إليه مِن اللهِ ورَسولِه، وجهادٍ في سبيلِه، وعلامةُ ذلك أنَّه إذا عُرِضَ عليه أمرانِ؛ أحدُهما يُحبُّه اللهُ ورَسولُه، وليس لِنَفسِه فيه هوًى، والآخَرُ تُحبُّه نَفسُه وتَشتَهيه، ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا لله ورَسولِه، أو يَنقُصُه؛ فإنَّه إن قدَّمَ ما تهواه نفسُه على ما يُحبُّه الله، دلَّ ذلك على أنَّه ظالِمٌ، تارِكٌ لِما يجِبُ عليه .
5- قال اللهُ تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ هذه آيةٌ شَديدةٌ لا ترى أشَدَّ منها، كأنَّها تنعى على النَّاسِ ما هم عليه مِن رَخاوةِ عَقدِ الدِّينِ، واضطرابِ حَبلِ اليَقينِ، فلْيُنصِفْ أورَعُ النَّاسِ وأتقاهم مِن نَفسِه؛ هل يجدُ عنده من التصَلُّبِ في ذاتِ اللهِ، والثَّباتِ على دينِ الله ما يَستحِبُّ له دينُه، على الآباءِ والأبناءِ والإخوانِ والعشائِرِ والمالِ والمَساكِنِ وجميعِ حُظوظِ الدُّنيا، ويتجَرَّدُ منها لأجلِه، أم يَزوي اللهُ عنه أحقَرَ شَيءٍ منها لِمَصلحتِه، فلا يدري أيُّ طَرَفيه أطولُ؟ ويُغْويه الشَّيطانُ عن أجَلِّ حَظٍّ مِن حظوظِ الدِّينِ، فلا يُبالي، كأنَّما وقَعَ على أنفِه ذُبابٌ فَطَيَّرَه !
6- قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. فكلُّ من قدَّمَ طاعةَ أحدٍ مِن هؤلاءِ على طاعةِ اللهِ ورَسولِه، أو قَولَ أحدٍ منهم على قَولِ اللهِ ورَسولِه، أو مرضاةَ أحدٍ منهم على مَرضاةِ اللهِ ورَسولِه، أو خَوفَ أحدٍ منهم ورجاءَه والتوكُّلَ عليه، على خَوفِ اللهِ ورَجائِه والتوكُّلِ عليه، أو مُعاملةَ أحَدِهم على مُعامَلةِ الله- فهو ممَّن ليس اللهُ ورَسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سِواهما، وإن قالَه بلِسانِه فهو كَذِبٌ منه، وإخبارٌ بخِلافِ ما هو عليه
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا افتتَحَ الخِطابَ بـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إشعارًا بأنَّ ما سيُلقى إليهم مِن الوَصايا هو مِن مُقتَضياتِ الإيمانِ وشِعارِه
.
2- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ذَكَرَ الآباءَ والإخوانَ؛ لأنَّهم أهلُ الرَّأيِ والمَشورةِ، ولم يذكُرِ الأبناءَ؛ لأنَّهم في الغالِبِ تبَعٌ لآبائِهم .
3- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون لَمَّا كان الوالِدونَ هم الذينَ يُقاتِلونَ، ويَحتاجُونَ إلى المُوالاةِ والمُناصَرةِ، دونَ الوالِداتِ، اقتصَرَ على ذِكرِهم .
4- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون جَعَلَ التَّحذيرَ مِن أولئكَ بخصوصِ كَونِهم آباءً وإخوانًا؛ تنبيهًا على أقصى الجَدارةِ بالوَلايةِ، لِيُعلَمَ بفحوى الخِطابِ أنَّ مَن دونَهم أَوْلى بحُكمِ النَّهيِ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ قولُه: إِنِ اسْتَحَبُّوا نبَّه بصيغةِ الاستفعالِ على أنَّ الإيمانَ لِكَثرةِ مَحاسِنِه، وظُهورِ دَلائِلِه، مَعشوقٌ بالطَّبعِ، فلا يتركُه أحَدٌ إلَّا بنوعِ مُعالجةٍ ومُكابرةٍ لِعَقلِه ومُجاهَدةٍ .
6- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ذكَرَ تعالى الأمورَ الدَّاعيةَ إلى مُخالطةِ الكُفَّارِ، وهي أمورٌ أربعةٌ؛ أوَّلها: مُخالطةُ الأقارِبِ، وذكر منهم أربعةَ أصنافٍ على التَّفصيلِ، وهم: الآباءُ والأبناءُ والإخوانُ والأزواجُ، ثمَّ ذكَرَ البقيَّةَ بلفظٍ واحدٍ يتناوَلُ الكُلَّ، وهي لفظُ العَشيرةِ. وثانيها: المَيلُ إلى إمساكِ الأموالِ المُكتَسَبةِ. وثالثها: الرَّغبةُ في تحصيلِ الأموالِ بالتِّجارةِ. ورابعها: الرَّغبةُ في المساكِنِ. ولا شَكَّ أنَّ هذا التَّرتيبَ ترتيبٌ حَسَنٌ؛ فإنَّ أعظَمَ الأسبابِ الدَّاعيةِ إلى المُخالطةِ القَرابةُ، ثمَّ إنَّه يُتوصَّلُ بتلك المُخالَطةِ إلى إبقاءِ الأموالِ الحاصِلةِ، ثمَّ إنَّه يُتوصَّلُ بالمُخالطةِ إلى اكتسابِ الأموالِ التي هي غيرُ حاصلةٍ، وفي آخِرِ المراتِبِ الرَّغبةُ في البِناءِ في الأوطانِ، والدُّورِ التي بُنِيَت لأجلِ السُّكنى، فذكَرَ تعالى هذه الأشياءَ على هذا التَّرتيبِ الواجبِ .
7- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ذكَرَ الأبناءَ هنا؛ لأنَّه ذكَرَ المحبَّةَ، وهم أعلَقُ بالنَّفسِ، بخلافِ الآيةِ قَبلَها فلم يُذكَروا؛ لأنَّ المَقصودَ منها الرَّأيُ والمَشورةُ .
8- وجهُ الاقترانِ بين محبَّةِ اللهِ ومَحبَّةِ رَسولِه، في قَولِه تعالى: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أنَّه لا تتِمُّ محبَّةُ اللهِ إلَّا بمحَبَّةِ ما يُحِبُّه، وكراهةِ ما يكرَهُه، ولا طريقَ إلى مَعرفةِ ما يُحبُّه وما يَكرَهُه- تعالى- إلَّا مِن جهةِ نبيِّه المُبَلِّغِ عنه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ما يُحبُّه وما يَكرَهُه، فصارت مَحبَّةُ اللهِ مُستلزِمةً لِمَحبَّةِ رَسولِه وتَصديقِه ومُتابَعتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
9- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا أخَّرَ هنا حبَّ الزوجيَّةِ عن حُبِّ البَنينَ؛ لأنَّ الكَلامَ في الحُبِّ المُعارِضِ لحُبِّ اللهِ ورَسولِه والجهادِ في سبيلِه، وما يُخشَى مِن حَملِه على مُوالاةِ أهلِ الكُفرِ في الحَربِ على المُؤمِنينَ، وقلَّما تكونُ زَوجُ الرَّجُلِ مُعارِضةً له في دينِه، ووَلايةِ مَن يَدينُ للهِ بِوَلايتِه، كما يُعارِضُه أبوه وابنُه وأخوه مِن أهلِ الحَربِ دونَ امرأتِه. وقدَّمَه على حُبِّ البَنينَ في قَولِه تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ [آل عمران: 14] ؛ لأنَّ الكلامَ في الآيةِ على حُبِّ الشَّهَواتِ، وهو أقوى الشَّهواتِ البَشَريَّةِ على الإطلاقِ .
10- قال الله تعالى: وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا خَصَّ الأموالَ المُقتَرَفةَ بالذِّكرِ؛ لأنَّها أرغَبُ عند أهلِها، وصاحِبُها أشَدُّ حِرصًا عليها ممَّن تأتيه الأموالُ مِن غَيرِ تَعَبٍ ولا كَدٍّ؛ فحُبُّ الأموالِ المُقتَرَفةِ- أي: المُكتَسَبةِ- أقوى في النَّفسِ مِن حُبِّ الأموالِ المَورُوثةِ؛ لأنَّ عَناءَ الإنسانِ في اقترافِها يجعَلُ لها في قَلبِه مِن القيمةِ والمَنزِلةِ ما ليس لِمَا جاءَه عَفوًا، كما هو مشهورٌ بين النَّاسِ عِلمًا وعَمَلًا .
11- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ خَصَّ الجِهادَ بالذِّكرِ مِن عُمومِ ما يُحبُّه اللهُ منهم؛ تَنويهًا بشأنِه، ولأنَّ ما فيه من الخَطَرِ على النُّفوسِ، ومِن إنفاقِ الأموالِ، ومُفارَقةِ الإلْفِ، جعَلَه أقوى مَظِنَّةً للتقاعُسِ عنه .
12- دلَّ قولُه تعالى: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ على أنَّ مَحبَّةَ اللهِ تعالى فَرْضٌ على العِبادِ؛ لأنَّه سُبحانه توعَّدَ مَن قدَّمَ محبَّةَ غيرِه على مَحبَّتِه ومَحبَّةِ رَسولِه، والوعيدُ لا يقَعُ إلَّا على فَرْضٍ لازمٍ، وحَتمٍ واجِبٍ
.
بلاغة الآيتين:
1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ... استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ لافْتِتاحِ غرَضٍ آخَرَ، وهو تَقْريعُ المنافقينَ ومَنْ يُواليهم
.
- وصِيغةُ الحَصْرِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ؛ للمُبالَغَةِ، أي: إنَّ ظُلْم غيرِهم كَلَا ظُلمٍ بالنِّسبةِ لعَظَمةِ ظُلْمِهم .
- والإتيانُ باسمِ الإشارةِ فَأُولَئِكَ لزِيادةِ تمييزِ هؤلاءِ أو هؤلاءِ، وللتَّنبيهِ على أنَّ جَدارتَهم بالحُكمِ المذكورِ بَعْدَ الإشارةِ كانتْ لأجْلِ تِلك الصِّفاتِ، أي: اسْتِحبابِ الكُفْرِ على الإيمانِ .
2- قولُه تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
- فيه تلوينٌ للخِطابِ، وأَمْرٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يُثبِّتَ المؤمنينَ، ويُقوِّيَ عَزائمَهم على الانْتِهاءِ عما نُهُوا عَنْه من موالاةِ الآباءِ والإخوانِ، ويُزهِّدَهم فيهم، وفيمَنْ يَجْري مَجْراهم من الأبناءِ والأزواجِ، ويَقْطَعَ علائِقَهم عن زخارفِ الدُّنيا وزينتِها، على وَجْهِ التَّوبيخِ والتَّرهيبِ .
- وفيه تَرتيبٌ حَسَنٌ، حَيثُ قدَّم الآباءَ؛ لأنَّهم الذين يَجِبُ برُّهم وإكرامُهم وحُبُّهم، وثنَّى بالأبناء؛ لكونِهم أَعْلَقَ بالقُلوبِ، ولَمَّا ذَكَرَ الأصلَ والفَرْعَ ذكَر الحاشيةَ وهي الإخوانُ، ثُمَّ ذَكَرَ الأزواجَ، وهنَّ في المحبَّةِ والإيثارِ كالأبناءِ، ثُمَّ ذَكَر الأَبعدَ بَعدَ الأقربِ في القرابةِ، فقال: وَعَشِيرَتُكُمْ .
- وعطَفَ على حُبِّ اللهِ تعالى ورَسولِه الجهادَ في سبيلِه مُنكَّرًا، في قَولِه تعالى: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ؛لأنَّه أظهَرُ آياتِهما، ونُكتةُ تَنكِيرِه وإبهامِه إفادةُ أنَّ كُلَّ نَوعٍ من أنواعِ الجِهادِ في سبيلِ اللهِ- قلَّ أو كَثُرَ- فإنَّ تارِكَه لأجلِ حُبِّ شَيءٍ مِن تلك الأصنافِ الثَّمانيةِ، وتَفضيلِها عليه؛ يستحِقُّ الوعيدَ الذي في الآيةِ .
- وقوله: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أَمْرٌ مُتضمِّنٌ للتَّهديدِ والوعيدِ الشَّديدِ، ويؤكِّدُه إبهامُ الأمرِ، وعَدَمُ التَّصريحِ به؛ لتذهَبَ أنفُسُهم كلَّ مَذهَبٍ، وتتردَّدَ بين أنواعِ العُقوباتِ .
- قولُه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تَذييلٌ، والواو اعتراضيَّةٌ، وهذا تهديدٌ بأنَّهم فَضَّلوا قَرابتَهم وأموالَهم على مَحبَّةِ اللهِ ورسولِه وعلى الجِهادِ؛ فقد تَحقَّقَ أنَّهم فاسِقون، واللهُ لا يَهْدي القومَ الفاسقينَ؛ فحَصَلَ بمَوقِعِ التَّذييلِ تَعريضٌ بهم .
==============
سورةُ التَّوبةِ
الآيات (25-27)
ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
غريب الكلمات:
رَحُبَتْ: أي: اتَّسَعَت، وأصلُ (رحب): يدل على سَعَةٍ
.
المعنى الإجمالي:
يقولُ الله تعالى: لقد نَصَرَكم اللهُ- أيُّها المُؤمِنونَ، أصحابَ رَسولِ اللهِ- على أعدائِكم الكُفَّارِ في غَزَواتٍ كَثيرةٍ، ونَصَرَكم أيضًا يوم حُنَينٍ حين أعجَبَتْكم كَثرَتُكم، فلم تُفِدْكم تلك الكَثرةُ شَيئًا، وضاقت عليكم الأرضُ على سَعَتِها؛ لِشِدَّةِ ما أصابَكم، ثم فرَرْتُم من الكُفَّارِ مُنهَزِمينَ.
ثمَّ أنزَلَ اللهُ ثَباتَه وطُمأنينَتَه على رَسولِه وعلى المُؤمِنينَ، وأنزَلَ جُنودًا مِنَ الملائكةِ لم تَرَوْها، وعذَّبَ اللهُ يومَ حُنَينٍ الذين كَفَروا، بأيدي المُؤمِنينَ، وذلك جزاءُ الكافِرينَ.
ثم يتوبُ اللهُ على من يشاءُ أن يتوبَ عليه مِنَ الكُفَّارِ، فيَهدِيه إلى الإسلامِ، واللهُ غَفورٌ رحيمٌ.
تفسير الآيات:
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا تقَدَّمَ قَولُه: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة:14] واستطرَدَ بعد ذلك بما استطرَدَ؛ ذَكَّرَهم تعالى نَصْرَه إيَّاهم في مَواطِنَ كَثيرةٍ
.
وأيضًا لَمَّا تضَمَّنَتِ الآياتُ السَّابقةُ الحَثَّ على قِتالِ المُشرِكينَ ابتداءً مِن قَولِه تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] ، وكان التَّمهيدُ للإقدامِ على ذلك مُدَرَّجًا؛ بإبطالِ حُرمةِ عَهدِهم لِشِرْكِهم، وبإظهارِ أنَّهم مُضمِرونَ العَزمَ على الابتداءِ بِنَقضِ العُهودِ التي بينهم وبين المُسلِمينَ، لو قُدِّرَ لهم النَّصرُ على المسلمين، وهَمِّهم بإخراجِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، حتى إذا انتهى ذلك التَّمهيدُ المُدَرَّجُ إلى الحَثِّ على قتالِهم، وضَمانِ نَصرِ اللهِ المُسلِمينَ عليهم، وما اتَّصَل بذلك ممَّا يُثيرُ حماسةَ المُسلِمينَ- جاء في هذه الآيةِ بِشَواهِدِ ما سبق مِن نَصرِ اللهِ المُسلِمينَ في مواطِنَ كَثيرةٍ، وتذكيرٍ بِمُقارنةِ التَّأييدِ الإلهيِّ لِحالةِ الامتثالِ لأوامِرِه، وأنَّ في غَزوةِ حُنَينٍ شَواهِدَ تَشهدُ للحالَينِ .
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ.
أي: لقد نصَرَكم اللهُ- أيُّها المُؤمِنونَ أصحابَ رَسولِ الله- على أعدائِكم الكُفَّارِ في غَزَواتٍ كثيرةٍ .
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا.
أي: ونَصَرَكم اللهُ أيضًا في غَزوةِ حُنَينٍ، حين أعجَبَتْكم كَثْرَتُكم، فلم تُفِدْكم تلك الكَثرةُ شَيْئًا .
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ.
أي: وضاقَت عليكم الأرضُ مع سَعَتِها؛ لِشِدَّةِ ما أصابَكم .
ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ.
أي: ثمَّ فَرَرتُم مِن الكُفَّارِ مُنهَزِمينَ .
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا كان يومُ حُنَينٍ أقبَلَت هوازِنُ وغَطَفانُ وغَيرُهم بنَعَمِهم وذَرارِيِّهم، ومع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم عَشرةُ آلافٍ، ومِنَ الطُّلَقاءِ، فأدبَرُوا عنه حتى بَقِيَ وَحدَه، فنادى يومَئذٍ نِداءَينِ، لم يَخلِطْ بينهما؛ التفَتَ عن يمينِه فقال: يا معشَرَ الأنصارِ. قالوا: لبَّيكَ يا رسولَ اللهِ، أبشِرْ نَحن معَك، ثمَّ التفَتَ عن يَسارِه فقال: يا مَعشَرَ الأنصارِ. قالوا: لبَّيكَ يا رسولَ اللهِ، أبشِرْ نَحنُ معك، وهو على بَغلةٍ بَيضاءَ، فنزَلَ فقال: أنا عَبدُ اللهِ ورَسولُه، فانهزَمَ المُشرِكونَ )) .
وعن العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ رَضِيَ الله عنه، قال: ((شَهِدْتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ حُنَينٍ، فلَزِمْتُ أنا وأبو سفيانَ بنُ الحارِثِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم نُفارِقْه، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على بغلةٍ له بيضاءَ، أهداها له فَروةُ ابنُ نُفاثةَ الجُذاميُّ، فلمَّا التقى المُسلِمونَ والكُفَّارُ ولَّى المُسلِمونَ مُدبِرينَ، فطَفِقَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُركِضُ بَغلَتَه قِبَل الكُفَّارِ، قال عبَّاسٌ: وأنا آخِذٌ بلِجامِ بَغلةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكُفُّها؛ إرادةَ ألَّا تُسرِعَ، وأبو سُفيانَ آخِذٌ برِكابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيْ عبَّاسُ، نادِ أصحابَ السَّمُرةِ. فقال عبَّاس- وكان رَجُلًا صَيِّتًا-: فقُلتُ بأعلى صوتي: أين أصحابُ السَّمُرةِ؟ قال: فواللهِ، لكأنَّ عَطفَتَهم- حين سَمِعوا صوتي- عَطفةُ البَقَرِ على أولادِها، فقالوا: يا لبَّيكَ، يا لبَّيكَ، قال: فاقتَتَلوا والكُفَّارَ، والدُّعوةُ في الأنصارِ يقولون: يا مَعشرَ الأنصارِ، يا مَعشرَ الأنصارِ. قال: ثمَّ قَصُرَت الدَّعوةُ على بني الحارِثِ بنِ الخَزْرجِ، فقالوا: يا بَني الحارِثِ بنِ الخَزرج، يا بني الحارِثِ ابنِ الخزرج، فنظَرَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو على بَغلَتِه كالمُتطاوِلِ عليها إلى قِتالِهم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا حينَ حِمِيَ الوَطيسُ. ثم أخذَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَصَياتٍ فرمى بهِنَّ وُجوهَ الكُفَّارِ، ثم قال: انهَزَموا وربِّ مُحمَّدٍ.قال: فذهَبْتُ أنظُرُ، فإذا القِتالُ على هَيئَتِه فيما أرى، قال: فواللهِ، ما هو إلَّا أن رماهم بحَصَياتِه، فما زِلْتُ أرى حَدَّهم كَليلًا، وأمْرَهم مُدبِرًا) ) .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((افتَتَحْنا مكَّةَ، ثم إنَّا غَزَوْنا حُنَينًا، فجاء المُشركون بأحسَنِ صُفوفٍ رأيتُ، فصُفَّتِ الخَيلُ، ثم صُفَّتِ المُقاتِلة، ثم صُفَّتِ النِّساءُ مِن وراء ذلك، ثمَّ صُفَّتِ الغَنَمُ، ثم صُفَّتِ النَّعَمُ، ونحن بَشَرٌ كثيرٌ، وعلى مُجَنِّبةِ خَيلِنا خالدُ بنُ الوليد، فجَعَلَتْ خيلُنا تلوي خَلْفَ ظُهورِنا، فلم نلبَثْ أن انكشَفَت خَيلُنا، وفرَّتِ الأعرابُ ومَن نعلَمُ مِن النَّاسِ، فنادى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا لَلمُهاجِرينَ، يا لَلمُهاجِرينَ. ثم قال: يا لَلأنصارِ، يا لَلأنصارِ. قُلنا: لبَّيك يا رسولَ الله، قال: فتقَدَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَايْمُ اللهِ، ما أتَيناهم حتَّى هَزَمَهم اللهُ، فقَبَضْنا ذلك المالَ، ثم انطَلَقْنا إلى الطَّائِفِ فحاصَرْناهم أربعينَ ليلةً، ثم رَجَعْنا إلى مكَّةَ، فنَزَلْنا، فجعل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعطي الرَّجُلَ المِئةَ مِن الإبِلِ)) .
وعن أبي إسحاقَ، قال: ((قال رجلٌ للبَراءِ: يا أبا عُمارةَ، أفرَرْتم يومَ حُنَينٍ؟! قال: لا واللهِ، ما ولَّى رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنَّه خرَجَ شُبَّانُ أصحابِه وأخِفَّاؤُهم حُسَّرًا، ليس عليهم سِلاحٌ أو كثيرُ سِلاحٍ، فلَقُوا قومًا رُماةً، لا يكادُ يَسقُطُ لهم سَهمٌ؛ جمْعَ هوازِنَ وبني نَصرٍ، فرَشَقوهم رشْقًا ما يكادُونَ يُخطِئونَ، فأقبَلُوا هناك إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على بَغلَتِه البَيضاءِ، وأبو سفيانَ بنُ الحارِثِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ يقودُ به، فنزل فاستنصَرَ، وقال: أنا النبيُّ لا كَذِبْ، أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ )) .
ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (26).
ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
أي: ثمَّ بعد أن ولَّى المُسلِمونَ مُدبِرينَ يومَ حُنَينٍ، أنزَلَ اللهُ ثَباتَه وطُمأنينَتَه على رسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى أصحابِه المُؤمِنينَ، فأذهَبَ خَوفَهم .
وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا.
أي: وأنزَلَ اللهُ يومَ حُنَينٍ جُنودًا مِن الملائِكةِ، لم تَرَوْها- أيُّها المُسلِمونَ- أنزَلَها اللهُ تعالى لِتَجْبينِ الكُفَّارِ، وتَقويةِ قُلوبِ المُؤمنينَ، وتَثبيتِهم، وتَبشيرِهم بالنَّصرِ .
وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ.
أي: وعذَّب اللهُ يومَ حُنَينٍ الكافرينَ، بأيدي المُؤمِنينَ؛ بقَتلِهم وأسْرِهم، وأخْذِ أمْوالِهم، وسَبْيِ أهالِيهم وذَراريِّهم .
وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ.
أي: وذلك التَّعذيبُ الذي أصابَهم، هو جَزاءُ أهلِ الكُفرِ في الدُّنيا؛ بسبَبِ كُفرِهم .
ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (27).
ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء.
أي: ثمَّ يُوفِّقُ اللهُ للتَّوبةِ- مِن بعدِ تَعذيبِ الكافِرينَ في الدُّنيا- مَن يشاءُ أن يتوبَ عليه مِنهم، فيَهديه إلى الإسلامِ .
وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
أي: واللهُ غَفورٌ لِذُنوبِ التَّائِبينَ إليه، فيستُرُها عليهم، ويتَجاوَزُ عن مؤاخَذتِهم بها، رَحيمٌ بهم فيُوفِّقُهم- سُبحانَه- للتَّوبةِ، ويَقبَلُها منهم، ولا يُعَذِّبُهم بَعدَها
.
الفوائد التربوية:
1- قال اللهُ تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ يَذكُرُ تعالى للمُؤمِنينَ فَضلَه عليهم، وإحسانَه لَدَيهم في نَصرِه إيَّاهم في مواطِنَ كَثيرةٍ مِن غَزَواتِهم مع رَسولِه، وأنَّ ذلك مِن عِندِه تعالى، وبِتَأييدِه وتَقديرِه، لا بعَدَدِهم ولا بعُدَدِهم، ونبَّهَهم على أنَّ النَّصرَ مِن عِندِه، سواءٌ قَلَّ الجَمعُ أو كَثُرَ
.
2- الإعجابُ سُمٌّ قاتِلٌ للأسبابِ، أدَّبَنا اللهُ سبحانه بذِكرِ سُوءِ أثَرِه؛ لِنَحذَرَه، فقال: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا .
3- إنَّ اللهَ إذا امتحَنَ عِبادَه بالغَلَبةِ والكَسرةِ والهَزيمةِ، ذَلُّوا وانكَسَروا وخَضَعوا، فاستوجَبُوا منه العِزَّ والنَّصرَ؛ فإنَّ خِلْعةَ النَّصرِ إنَّما تكونُ مع وِلايةِ الذُّلِّ والانكسارِ؛ قال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا فهو سُبحانه إذا أراد أن يُعِزَّ عَبدَه ويَجبُرَه وينصُرَه، كَسَرَه أوَّلًا، ويكونُ جَبرُه له ونَصْرُه، على مقدارِ ذُلِّه وانكسارِه .
4- في قَولِه تعالى: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا دَلالةٌ على وقوعِ العُقوبةِ على الإعجابِ بالكَثرةِ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ تَخصيصُ يومِ حُنَينٍ بالذِّكرِ مِن بينِ أيَّامِ الحُروبِ؛ لأنَّ المُسلِمينَ انَهَزموا في أثناءِ النَّصرِ، ثمَّ عاد إليهم النَّصرُ؛ فتخصيصُه بالذِّكرِ؛ لِما فيه مِن العِبرةِ بحُصولِ النَّصرِ عند امتثالِ أمرِ اللهِ ورسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وحُصولِ الهَزيمةِ عند إيثارِ الحُظوظِ العاجلةِ على الامتثالِ .
6- قال اللهُ تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا هذه الآياتُ تذكيرٌ للمُؤمِنينَ بأنَّ عِنايةَ اللهِ تعالى وتأييدَه لِرَسولِه وللمُؤمِنينَ بالقُوى المعنويَّةِ؛ أعظَمُ شأنًا، وأدنى إلى النَّصرِ منِ القُوَّةِ الماديَّةِ، كالكثرةِ العَدَديَّةِ وما يتعلَّقُ بها، وجُعِلَ هذا التَّذكيرُ تاليًا للنَّهيِ عن وَلايةِ آبائِهم وإخوانِهم مِن الكُفَّارِ، وللوعيدِ على إيثارِ حُبِّ القَرابةِ والزوجيَّةِ والعشيرةِ- ولو كانوا مُؤمِنينَ- والمالِ والسَّكَنِ، على حبِّ اللهِ ورَسولِه والجهادِ في سبيلِه؛ تفنيدًا لوَسوسةِ شياطينِ الجِنِّ والإنسِ- مِن المنافِقينَ ومَرْضى القُلوبِ- لهم، وإغرائِهم باستنكارِ عَوْدِ حالةِ الحَربِ مع المُشرِكين، وتنفيرِهم مِن قِتالِهم لِكَثرتِهم، ولقرابةِ بَعضِهم، ولِكَسادِ التِّجارةِ التي تكونُ معهم، وذلك بعدَ إقامةِ الدَّلائِلِ على كَونِ ذلك مِن الحَقِّ والعَدلِ، والمَصلحةِ العامَّةِ في الدِّينِ والدُّنيا
.
7- قال اللهُ تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكثرةَ لَتَكونُ أحيانًا سببًا في الهزيمةِ؛ لأنَّ بعضَ الدَّاخِلينَ فيها، التَّائِهينَ في غِمارِها- ممَّن لم يُدرِكوا حقيقةَ العَقيدةِ التي يَنساقُونَ في تيَّارِها- تتزَلْزَلُ أقدامُهم، وترتَجِفُ في ساعةِ الشِّدَّةِ، فيُشِيعونَ الاضطرابَ والهزيمةَ في الصُّفوفِ، فوق ما تَخدَعُ الكثرةُ أصحابَها، فتَجعَلُهم يتهاوَنونَ في تَوثيقِ صِلَتِهم باللهِ؛ انشغالًا بهذه الكَثرةِ الظَّاهِرةِ، عن اليَقَظةِ لِسِرِّ النَّصرِ في الحياةِ، لقد قامَتْ كُلُّ عقيدةٍ بالصَّفوةِ المُختارة، لا بالزَّبَدِ الذي يذهَبُ جُفاءً، ولا بالهَشيمِ الذي تَذْرُوه الرِّياحُ
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا أسنَدَ سُبحانه الفِعلَ للجَمعِ؛ إشارةً إلى أنَّهم لعُلُوِّ مَقامِهم ينبغِي ألَّا يكونَ منهم مَن يقولُ مثلَ ذلك
.
2- قولُه تعالى: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فيه تنبيهٌ على خَطئِهم في الأدبِ مع اللهِ، المناسِبِ لمَقامِهم، أي: ما كان يَنبغي لكم أن تَعْتمِدوا على كَثرتِكم
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ
- قولُه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فيه تأكيدُ الكلامِ بـلَقْدَ؛ لتَحقيقِ هذا النَّصرِ؛ لأنَّ القومَ كأنَّهم نَسُوه أو شَكُّوا فيه، فنُزِّلوا مَنْزلةَ مَنْ يَحتاجُ إلى تَأكيدِ الخَبَرِ
.
- وأُسْنِدَ النَّصرُ إلى اللهِ تعالى بالصَّراحةِ في قولِه: نَصَرَكُمُ اللَّهُ؛ لإظهارِ أنَّ إيثارَ مَحبَّةِ اللهِ، وإنْ كان يُفوِّتُ بعضَ حُظوظِ الدُّنيا، ففيه حَظُّ الآخِرةِ، وفيه حُظوظٌ أُخرى من الدُّنيا، وهي حُظوظُ النَّصْرِ بما فيه مِن تأييدِ الجامعةِ، ومن المغانِمِ، وحِمايةِ الأُمَّةِ مِن اعْتِداءِ أعدائها، وذلك مِن فَضْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
2- قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ
- قولُه: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ في تَعليقِ السَّكينةِ بإنزالِ اللهِ تعالى وإضافتِها إلى ضميرِهِ: تَنويهٌ بشأنِها وبَرَكتِها، وإشارةٌ إلى أنَّها سَكينةٌ خارقةٌ للعادةِ، ليستْ لها أسبابٌ ومُقدِّماتٌ ظاهرةٌ، وإنَّما حَصَلتْ بمَحْضِ تَقديرِ اللهِ وتكوينِه أُنُفًا؛ كَرامةً لنبيِّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإجابةً لنِدائهِ النَّاسَ؛ ولذلك قَدَّم ذِكرَ الرَّسولِ قَبْلَ ذِكْرِ المؤمنين .
- قولُه: وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فيه إعادةُ حَرْفِ (على) بعدَ حَرْفِ العَطْفِ؛ للتَّنبيهِ على تَجديدِ تعليقِ الفِعْلِ بالمجرورِ الثَّاني؛ للإيماءِ إلى التَّفاوتِ بين السَّكِينتينِ؛ فسكينةُ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سَكينةُ اطمئنانٍ على المسلمينَ الذين معَه، وثِقةٍ بالنَّصرِ، وسكينةُ المؤمنين سَكينةُ ثباتٍ وشجاعةٍ بَعْدَ الجَزَعِ والخوفِ .
3- قوله تعالى: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
- قولُهُ: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ فيه التَّعبيرُ بالفِعْلِ المُضارِعِ يَتُوبُ دونَ الفِعْلِ الماضي؛ للإشارةِ إلى إفادةِ تَجدُّدِ التَّوبةِ على كُلِّ مَن تابَ إلى اللهِ تعالى .
- وقولُه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذييلٌ للكلامِ؛ لإفادةِ أنَّ المَغْفرةَ مِن شأنِهِ تعالى، وأنَّه رَحيمٌ بعبادِهِ إنْ أَنابوا إليه، وتَرَكوا الإشراكَ به .
===========
ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
غريب الكلمات:
عَيْلَةً: أي: فَقرًا وفاقةً؛ من: عال يَعيِلُ عَيلةً: إذا احتاجَ
.
يَدِينُونَ: أي: يُسلِمُونَ، ويُطيعونَ؛ يقالُ: دان له يَدِينُ دِينًا: إذا انقادَ وطاعَ، وأصلُ (دين): يدلُّ على جنسٍ مِن الانقيادِ .
الْجِزْيَةَ: أي: الخراجَ المجعولَ على رأسِ الذِّميِّ، وتسميتُها بذلك للاجتزاءِ بها عن حَقْنِ دَمِهم، وأصلُ (جزي): يدلُّ على قيامِ الشَّيءِ مَقامَ غَيرِه ومُكافأتِه إيَّاه .
صَاغِرُونَ: أي: أذِلَّاءُ مَقهورونَ، وأصلُ (صغر): يدلُّ على قِلَّةٍ وحَقارةٍ
.
المعنى الإجمالي:
يقولُ الله تعالى: يا أيُّها المُؤمنونَ، إنَّما المُشرِكونَ بَواطِنُهم نَجِسةٌ وخَبيثةٌ، فلا تُمَكِّنوهم مِن دُخولِ الحَرَمِ بعد هذا العامِ التَّاسِعِ للهِجرةِ، الذي نبَذْتُم فيه لِجَميعِ المُشرِكينَ عُهودَهم، وإن خِفْتُم فَقرًا بسببِ مَنْعِكم المشركينَ من دُخولِه، فسوفَ يُغنيكم اللهُ من فَضلِه إنْ شاءَ؛ إنَّ اللهَ عليمٌ حكيمٌ.
قاتِلوا الذين لا يُؤمِنون باللهِ، ولا باليومِ الآخرِ، ولا يُحَرِّمونَ ما حَرَّمَه اللهُ ورسولُه، ولا يَدِينونَ بالإسلامِ، مِن اليَهودِ والنَّصارى، حتى يدفَعُوا الجزيةَ بأَيْدِيهم وهم أذلَّةٌ مَقهورونَ.
تفسير الآيتين:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّها رُجوعٌ إلى غَرَضِ إقصاءِ المُشرِكينَ عن المَسجِدِ الحرامِ، المُفادِ بِقَولِه: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ جِيءَ به لتأكيدِ الأمرِ بإبعادِهم عن المسجِدِ الحَرامِ مع تَعليلِه بِعِلَّةٍ أخرى تقتضي إبعادَهم عنه: وهي أنَّهم نَجَسٌ، فقد علَّلَ فيما مضى بأنَّهم شاهِدونَ على أنفسِهم بالكُفرِ، فلَيسُوا أهلًا لِتَعميرِ المسجِدِ المبنيِّ للتَّوحيدِ، وعلَّلَ هنا بأنَّهم نَجَسٌ، فلا يَعْمُروا المسجِدَ لِطَهارَتِه
.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، المُطَهَّرةُ بواطِنُهم بالإيمانِ، ما المُشرِكونَ بِجَميعِ مِلَلِهم وأديانِهم إلَّا نَجِسةٌ وخَبيثةٌ بواطِنُهم؛ بالشِّركِ والكُفرِ بالرَّحمنِ .
فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا.
أي: لِأنَّ المُشرِكينَ نَجَسٌ، فلا تُمَكِّنُوهم مِن دُخُولِ جميعِ الحَرَمِ، بعد هذا العامِ التَّاسِعِ للهِجرةِ، الذي نبَذْتُم فيه لِجَميعِ المُشرِكينَ عُهودَهم .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بَعَثَني أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ في الحَجَّةِ التي أمَّرَه عليها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبل حَجَّةِ الوَداعِ، في رَهطٍ يُؤَذِّنونَ في النَّاسِ يومَ النَّحرِ: لا يَحُجُّ بعدَ العامِ مُشرِكٌ، ولا يَطوفُ بالبَيتِ عُرْيانٌ ) [404] رواه البخاري (369)، ومسلم (1347) واللفظ له. .
وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء.
أي: وإنْ خِفْتُم- أيُّها المُؤمِنونَ- فَقرًا بسبَبِ مَنْعِكم المُشرِكينَ مِن دُخولِ الحَرَمِ، وانقطاعِ التِّجارةِ التي بينكم وبينهم؛ فسوف يُغنِيكم اللهُ مِن رِزقِه إن شاءَ .
إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أي: إنَّ الله عليمٌ بكلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بما تُخفِيه صُدورُكم مِن خَوفِ العَيْلةِ، وعليمٌ بما يَصلُحُ لِعِبادِه، فيَعلَمُ مَن يليقُ به الغِنى، ومَن لا يَليقُ به، حكيمٌ في شَرْعِه وفي تَدبيرِ شُؤونِ خَلْقِه، يضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به .
قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حُكمَ المُشرِكينَ في إظهارِ البَراءةِ عن عَهدِهم، وفي إظهارِ البَراءةِ عنهم في أنفُسِهم، وفي وُجوبِ مُقاتَلتِهم، وفي تَبعيدِهم عن المسجِدِ الحرامِ، وأورَدَ الإشكالاتِ التي ذكَرُوها، وأجاب عنها بالجَواباتِ الصَّحيحةِ- ذكَرَ بعده حُكمَ أهلِ الكِتابِ .
وأيضًا لَمَّا كان قَولُه تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مَوضِعَ تَعَجُّبٍ، يكونُ سببًا لِأنْ يُقالَ: من أين يكونُ ذلك الغِنى؟ أجابَ بقوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ؛ ففي ذلك غِنًى لا يُشْبِهُ ما كُنتُم فيه مِن قِتالِ بَعضِكم لِبَعضٍ؛ لِتَغنَمَ ما في يَدِه مِن ذلك المالِ الحَقيرِ، ولا ما كُنتُم تُعِدُّونَه غِنًى مِن المتاجِرِ التي لا يبلُغُ أكبَرُها وأصغَرُها ما أرشدناكم إليه، مع ما في ذلك مِنَ العِزِّ المُمَكِّنِ مِن الإصلاحِ والطَّاعةِ .
قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ.
أي: قاتِلُوا- أيُّها المُؤمِنونَ- الكُفَّارَ الذين لا يُؤمِنونَ بالله إيمانًا صحيحًا، ولا يُؤمِنونَ بالبَعثِ يومَ القيامةِ، والجَنَّةِ والنَّارِ .
وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ.
أي: ولا يحرِّمون ما حرَّم اللهُ، وما حرَّم رسولُه، فلا يتَّبِعونَ شَريعَتَه .
وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ.
أي: والكُفَّارُ الذين أمَرْناكم بقِتالِهم- أيُّها المُؤمِنونَ- مِن اليَهودِ والنَّصارى، الذين آتَيْناهم التَّوراةَ والإنجيلَ، لا يدينونَ بالإسلامِ .
حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
أي: قاتِلوهم إلى أن يَقْبَلوا دفْعَ أموالِ الجِزْيةِ- التي تُؤخَذُ جزاءَ تركِ المسلمينَ قتالَهم، وإقامتِهم آمنينَ بينَ أظهرِ المسلمينَ، وذلك في حالِ كونِهم لم يُسلِموا- فيَبْذُلوها لكم بأيديهم، وهُم أذلَّاءُ مَقهورونَ
.
الفوائد التربوية:
1- الرِّزقُ ليس مقصورًا على بابٍ واحدٍ، ومحلٍّ واحدٍ، بل لا ينغلِقُ بابٌ إلَّا فُتِحَ غَيره أبوابٌ كثيرةٌ؛ فإنَّ فَضلَ اللهِ واسِعٌ، وَجُودَه عَظيمٌ، خصوصًا لِمَن ترك شيئًا لِوَجهِه الكريمِ، فإنَّ اللهَ أكرمُ الأكرَمِينَ؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
.
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ فيه دليلٌ على أنَّ الرِّزقَ ليس بالاجتهادِ، وإنَّما هو مِن فَضلِ اللهِ، تولَّى قِسْمَتَه بين عبادِه، وذلك بيِّنٌ في قَولِه تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف: 32] ، وهو أيضًا يفتحُ بابَ الرَّجاءِ مع التضرُّعِ إلى اللهِ في تَحقيقِ وعْدِه؛ لأنَّه يفعلُ ما يَشاءُ
.
3- قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا لكنَّ الموسمَ الاقتصاديَّ الذي ينتظرُه أهلُ مكةَ، والتجارةَ التي يعيشُ عليها معظمُ الظاهرين في الجزيرةِ، ورحلةَ الشتاءِ والصيفِ التي تكادُ تقومُ عليها الحياةُ، إنَّها كلَّها ستتعرضُ للضياعِ بمنعِ المشركينَ مِن الحجِّ، وبإعلانِ الجهادِ العامِّ على المشركينَ كافةً، نعم! ولكنَّها العقيدةُ، واللهُ يريدُ أن تخلصَ القلوبُ كلُّها للعقيدةِ! وبعدَ ذلك، فاللهُ هو المتكفلُ بأمرِ الرزقِ مِن وراءِ الأسبابِ المعهودةِ المألوفةِ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ وحينَ يشاءُ الله يستبدلُ أسبابًا بأسبابٍ، وحين يشاءُ يُغلقُ بابًا، ويفتحُ الأبوابَ
الفوائد العلمية واللطائف:
1- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا بيانُ أنَّه لا يجِبُ الحَجُّ- الوجوبَ المقتضيَ للفِعلِ وصِحَّتِه- إلَّا على مسلمٍ؛ حيث نهى اللهُ تعالى المشركينَ أنْ يَقرَبوا المسجِدَ الحرامَ، ومَنَعَهم منه، فاستحال أنْ يُؤمَروا بحَجِّ البَيتِ
!!
2- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فيه أنَّ الكافِرَ يُمنَعُ مِن دُخولِ الحَرَمِ؛ وأنَّه لا يُؤذَنُ له في دُخُولِه، لا لتِجارةٍ ولا لِغَيرِها، وإن كان لِمَصلحةٍ لنا .
3- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا المرادُ مِن المسجِدِ الحرامِ جَميعُ الحَرَمِ، والدَّليلُ عليه قَولُه تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ؛ وذلك لأنَّ مَوضِعَ التِّجاراتِ ليس هو عينَ المَسجِدِ، فلو كان المقصودُ من هذه الآيةِ المنعَ مِن المسجِدِ خاصَّةً، لَمَا خافوا بسبَبِ هذا المنعِ مِن العَيلَةِ، وإنَّما يخافونَ العَيلةَ إذا مُنِعوا مِن حُضورِ الأسواقِ والمَواسِمِ ، وسمَّى الحَرَمَ كلَّه مسجدًا لمجاورتِه المسجدَ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ قَولُه: إِنْ شَاءَ تعليقٌ للإغناءِ بالمشيئة؛ ولسائلٍ أن يسأَلَ فَيقولَ: الغَرَضُ بهذا الخبرِ إزالةُ الخَوفِ بالعَيلةِ، وهذا الشَّرطُ يمنَعُ من إفادةِ هذا المقصودِ، فالجوابُ مِن وُجوهٍ:
الأوَّل: عَلَّقَ الإغناءَ بالمشيئةِ؛ لأنَّ الغِنى في الدُّنيا ليس من لوازِمِ الإيمانِ، ولا يدلُّ على محبَّةِ اللهِ؛ فلهذا علَّقَه اللهُ بالمشيئةِ، فإنَّ اللهَ يُعطي الدُّنيا مَن يُحِبُّ ومن لا يحِبُّ، ولا يعطي الإيمانَ والدِّينَ إلَّا مَن يُحِبُّ.
الثاني: لأنَّ الإغناءَ يقَعُ في حقِّ بَعضٍ دُونَ بَعضٍ، فالله تعالى عَلِمَ أنَّ فيهم من لا يبلُغُ هذا الغِنى الموعودَ، وأيضا فالإغناءُ يقَعُ في وقتٍ دون وقتٍ.
الثالث: لإجراءِ الحُكمِ على الحِكمةِ، فإن اقتضَتِ الحِكمةُ والمصلحةُ إغناءَكم أغناكم.
الرابع: إعلامًا بأنَّ الرِّزقَ لا يأتي بحِيلةٍ ولا اجتهادٍ، وإنَّما هو فَضلُ اللهِ.
الخامس: لكي لا يحصُلَ الاعتمادُ على حصولِ هذا المطلوبِ، فيكونُ الإنسانُ أبدًا مُتضَرِّعًا إلى اللهِ تعالى في طلَبِ الخَيراتِ، ودَفْعِ الآفاتِ، ولتنقطِعَ الآمالُ إليه عَزَّ وجَلَّ.
السادس: أنَّ المقصودَ مِن ذِكرِ هذا الشَّرطِ تَعليمُ رِعايةِ الأدبِ، كما في قَولِه تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] .
5- قَولُ اللهِ تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضلِهِ إخبارٌ عن غيبٍ في المُستقبَلِ، وقد وقع الأمرُ مُطابِقًا لذلك الخبرِ، فكان معجزةً .
6- قَولُ اللهِ تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ أصلٌ في قَبوِل الجِزيةِ مِن أهلِ الكِتابِ .
7- قَولُ اللهِ تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قَولُه: عَنْ يَدٍ استدَلَّ به مَن لم يُجِزْ توكيلَ مُسلمٍ في دَفْعِ الجزيةِ، ولا أن يَضمَنَها عنه، ولا يُحيلَ بها عليه .
8- قَولُ الله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قيل: المرادُ يدُ المؤَدِّي، وعلى هذا استدَلَّ به من قال: تسقُطُ الجِزيةُ بالموتِ والإسلامِ؛ لأنَّ الاستيفاءَ عن يَدِه .
9- قَولُ اللهِ تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ استدَلَّ به من قال إنَّ الجِزيةَ تؤخَذُ بإهانةٍ .
10- قولُ الله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ استدَلَّ به من قال إنَّ أهلَ الذِّمَّةِ يُترَكونَ في بلدِ الإسلامِ؛ لأنَّ مَفهومَها الكَفُّ عنهم عند أدائِها، ومن الكَفِّ ألَّا يُجْلَوْا .
11- قَولُ اللهِ تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَاستدَلَّ به من قال: لا حَدَّ لأقَلِّ الجِزيةِ .
12- قَولُ اللهِ تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ استدَلَّ به من قال: إنَّ الجِزيةَ عِوَضُ حَقنِ الدَّمِ، لا أُجرةُ الدَّارِ .
13- في قوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قولِه سبحانه: وَهُمْ صَاغِرُونَ دلالةٌ على أنَّ نساءَهم وصبيانَهم لا جزيةَ عليهم؛ لأنَّهم لا يُقاتَلون، بل قد نُهِيَ عن قَتْلِهِم .
14- وُصِفَتِ النَّصارى في قَولِه تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بأنَّهم لا يُؤمِنونَ باليومِ الآخِرِ، مع أنَّ النَّصارى يُقِرُّونَ بمَعادِ الأبدانِ! ووجهُ ذلك أنَّهم لا يُقِرُّون بما أخبَرَ اللهُ به من الأكلِ والشُّربِ واللِّباسِ والنِّكاحِ، والنَّعيم والعذابِ في الجنَّةِ والنَّارِ، بل غايةُ ما يُقِرُّونَ به من النَّعيمِ: السَّماعُ والشَّمُّ، ومنهم مُتفَلسِفةٌ يُنكِرونَ مَعادَ الأجسادِ .
15- ليس المرادُ بالعطاءِ في قَولِه تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ العطاءَ الأوَّلَ وحْدَه، بل العطاءُ المستمِرُّ المتكرِّرُ كُلَّ عامٍ .
16- دلَّ قولُه تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ على أنَّه لا يجوزُ الإمساكُ عن قتالِهم إلَّا إذا كانوا صاغِرينَ حالَ إعطائِهم الجزيةَ، ومِن المعلومِ أنَّ مَن أظهَرَ سَبَّ نبيِّنا في وجوهِنا، وشَتَمَ ربَّنا على رُؤوسِ الملإِ مِنَّا، وطعَنَ في دينِنا في مَجامِعِنا- فليس بصاغرٍ؛ لأنَّ الصاغِرَ: الذَّليلُ الحقيرُ، وهذا فِعلُ مُتعَزِّزٍ مُراغِمٍ، ففي هذه الحالِ يكونُ قتالُ هؤلاء مأمورًا به، ولا تنعقِدُ لهم ذمَّةٌ، ولو عُقِدَ لهم كان عقدًا فاسِدًا .
17- ليس المرادُ بالصَّغَار في قَولِه تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ أنْ يكونوا صاغرينَ حالَ تناوُلِ الجزيةِ منهم فقط؛ ويفارقُهم الصَّغَارُ فيما عدا هذا الوقتَ، هذا باطِلٌ قطعًا، وإنَّما أنْ يلازِمَهم الصَّغَارُ والذُّلُّ في كامِلِ مدَّةِ أداءِ الجِزيةِ .
18- في قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ دليلٌ على توهينِ قولِ مَن قال: إنَّ مَن أسلم مِن رجالهم - وقد مضى بعضُ السَّنَةِ - فعليه مِن الجزيةِ بقَدْر ما مضَى منها. لأنَّ اللهَ جلَّ جلالُه جَعَلَ الجزيةَ صَغَارًا؛ والصَّغَارُ لاحقٌ بالدافع وقتَ الدفعِ؛ لقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ؛ وكيف يُلْزَمُ المسلمُ صَغَارَ الجزيةِ وقد أَعَزَّهُ اللهُ بالإسلام؛ والإسلامُ يَجُبُّ ما قبْلَه
؟!
بلاغة الآيتين:
1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للرُّجوعِ إلى غَرَضِ إقصاءِ المُشركينَ عن المسجدِ الحرامِ، المُفادِ بقولِهِ: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ؛ وجِيءَ به لتأكيدِ الأَمْرِ بإبعادِهم عن المسجدِ الحَرامِ، مع تَعليلِه بعِلَّةِ أُخْرى تَقتضي إبعادَهم عنه، وهي: أَنَّهم نَجَسٌ
.
- وقولُهُ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فيه حَصْرٌ، وصِيغةُ الحَصْرِ هذِه لإفادةِ نَفْي التَّردُّدِ في اعْتِبارِهم نَجَسًا؛ فهي للمُبالَغةِ في اتِّصافِهم بالنَّجاسةِ، حتَّى كأنَّهم لا وصْف لهم إلَّا النَّجَسيَّة .
- ووُصِفوا بالمصْدَرِ نَجَسٌ مُبالَغةً أيضًا، كأنَّهم عينُ النَّجاسةِ، أو هم ذَوُو نَجَسٍ .
- قولُه: فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فيه النَّهيُ عن القُرْبِ؛ للمُبالَغَةِ، أو للمَنْعِ عن دُخولِ الحَرَمِ .
- قولُ الله تعالى: فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ جُعِلَ النَّهيُ على صورةِ نَهيِ المُشرِكينَ عن ذلك؛ مبالغةً في نهيِ المُؤمِنينَ حين جُعِلوا مُكَلَّفينَ بانكفافِ المُشرِكينَ عن الاقترابِ مِن المسجِدِ الحَرامِ .
- قولُهُ: بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا فيه إضافةُ (العامِ) إلى ضَميرِ (هُم)؛ لمزيدِ اخْتِصاصِهم بحُكمٍ هائلٍ في ذلك العامِ، ووصْفُ (العامِ) باسمِ الإشارةِ هَذَا؛ لزِيادةِ تمييزِه وبيانِه .
- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَعليلٌ لقولِه: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً، أي: إنَّ اللهَ يُغْنيكم؛ لأنَّه يَعْلَمُ ما لكم مِن المنافعِ من وِفادةِ القبائلِ، فلمَّا مَنَعَكم مِن تمكينِهم من الحجِّ لم يَكُنْ تاركًا مَنْفعتَكم؛ فقَدَّرَ غِناكُم عنهم بوسائلَ أُخْرى عَلِمها، وأحْكَم تَدبيرَها .
2- قوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
- قولُه: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ... هذه الجملةُ استئنافٌ ابتدائيٌّ، لا تَتفرَّعُ على التي قَبْلَها؛ فالكلامُ انْتِقالٌ من غَرَضِ نَبْذِ العَهْدِ مَع المشركينَ، وأحوالِ المُعامَلةِ بَينهم وبين المسلِمين، إلى غرَضِ المُعامَلةِ بين المسلمينَ وأَهْلِ الكِتابِ من اليهودِ والنَّصارى .
- وقولُهُ: عَنْ يَدٍ تأكيدٌ لمعنى يُعْطُوا؛ للتَّنصيصِ على الإعطاءِ، و(عن) فيه للمُجاوَزةِ، أي: يَدْفُعوها بأيديهم، ولا يُقبَلُ منهم إرسالُها ولا الحوالةُ فيها، ومَحَلُّ المجرورِ الحالُ مِن الجِزيةِ، والمرادُ يَدُ المُعْطي، أي: يُعْطُوها غيرَ مُمتنِعينَ، ولا مُنازِعينَ في إعطائِها، وهذا كقولِ العَربِ: (أعْطَى بيدِه) إذا انْقادَ .
================
سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (30-31)
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
غريب الكلمات:
يُضَاهِئُونَ: أي: يُشابِهونَ، والمُضاهاةُ: مُعارَضةُ الفِعلِ بمِثْلِه، يقالُ: ضاهَيْتُه: إذا فعَلْتَ مثلَ فِعْلِه، وأَصْلُ (ضهي): يدلُّ على مُشابَهةِ شَيءٍ لِشَيءٍ
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ تعالى أنَّ اليهودَ قالوا: إنَّ عُزَيرًا هو ابنُ اللهِ، والنَّصارى قالوا: المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ هو ابنُ اللهِ، ذلك قولُهم بألسِنَتِهم، يُشابِهونَ قَولَ الكُفَّارِ مِن الأُمَمِ قَبْلَهم، لَعَنَهم اللهُ، كيف يُصرَفونَ عَنِ الحَقِّ؟!
اتَّخَذوا عُلَماءَهم وعُبَّادَهم سادةً يُطيعُونَهم مِن دُونِ اللهِ، في تحليلِ الحَرامِ، وتحريمِ الحَلالِ، واتَّخَذَ النَّصارى المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ إلهًا مِن دُونِ اللهِ، وما أُمِرُوا إلَّا لِيَعبُدوا إلهًا واحدًا، هو اللهُ، لا إلهَ إلَّا هو، تنَزَّهَ وتقَدَّس عن شِرْكِهم.
تفسير الآيتين:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا حكَمَ اللهُ تعالى في الآيةِ المُتقَدِّمةِ على اليهودِ والنَّصارى بأنَّهم لا يُؤمِنونَ بالله، شَرَحَ ذلك في هذه الآيةِ، وذلك بأنْ نقَلَ عنهم أنَّهم أثبَتُوا لله ابنًا، ومَن جَوَّزَ ذلك في حَقِّ الإلهِ، فهو في الحقيقةِ قد أنكَرَ الإلهَ، وأيضًا بيَّنَ تعالى أنَّهم بمنزلةِ المُشرِكينَ في الشِّركِ، وإن كانت طُرُقُ القَولِ بالشِّركِ مُختلِفةً؛ إذ لا فَرقَ بين من يَعبُدُ الصَّنمَ، وبين من يعبُدُ المَسيحَ وغَيرَه؛ لأنَّه لا معنى للشِّركِ إلَّا أن يتَّخِذَ الإنسانُ مع اللهِ مَعبودًا، فإذا حصَلَ هذا المعنى، فقد حصَلَ الشِّركُ
.
وأيضًا لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بقِتالِ أهلِ الكِتابِ، ووصَفَهم بما هو السَّبَبُ الباعِثُ على ذلك؛ عطَفَ عليه بعضَ أقوالِهم المُبيحةِ لِقِتالِهم، المُوجِبةِ لِنَكالِهم .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ.
أي: وقالت اليهودُ : عُزَيرٌ هو ابنُ اللهِ !
وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ.
أي: وقالت النَّصارى: المسيحُ عيسى ابنُ مَريمَ، هو ابنُ اللهِ !
كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة: 116] .
وقال سبحانه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم: 88 - 92] .
عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا كان يومُ القيامةِ أذَّنَ مُؤذِّنٌ: لِيَتْبَعْ كُلُّ أمَّةٍ ما كانت تعبُدُ، فلا يبقى أحدٌ كان يعبُدُ غَيرَ اللهِ- سُبحانه- من الأصنامِ والأنصابِ إلَّا يَتَساقَطونَ في النَّارِ، حتى إذا لم يبقَ إلَّا مَن كان يعبُدُ اللهَ مِن بَرٍّ وفاجرٍ وَغُبَّرِ أهلِ الكِتابِ، فيُدعى اليَهودُ، فيقالُ لهم: ما كُنْتُم تعبُدونَ؟ قالوا: كنَّا نعبُدُ عُزَيرَ ابنَ اللهِ، فيُقال: كذَبْتُم؛ ما اتَّخَذَ اللهُ مِن صاحبةٍ ولا وَلَدٍ، فماذا تَبْغُونَ؟ قالوا: عَطِشْنا يا رَبَّنا، فاسْقِنا، فيُشارُ إليهم: ألَا تَرِدُونَ ؟ فيُحشَرونَ إلى النَّارِ كأنَّها سرابٌ، يَحطِمُ بعضُها بعضًا، فيتساقَطونَ في النَّارِ، ثم يُدعَى النَّصارى، فيُقالُ لهم: ما كُنتُم تَعبُدونَ؟ قالوا: كنَّا نعبُدُ المسيحَ ابنَ اللهِ، فيُقال لهم: كَذَبْتُم؛ ما اتَّخَذَ اللهُ مِن صاحبةٍ ولا وَلَدٍ، فيُقال لهم: ماذا تَبغُونَ؟ فيقولونَ: عَطِشْنا يا رَبَّنا، فاسْقِنا، قال: فيُشارُ إليهم: ألَا تَرِدُونَ؟ فيُحشَرونَ إلى جَهنَّمَ، كأنَّها سرابٌ، يَحطِمُ بعضُها بعضًا، فيتَساقَطونَ في النَّارِ )) .
ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ.
أي: نِسبَةُ الوَلَدِ إلى اللهِ تعالى كَذِبًا وزورًا هو قولُ اليهودِ والنَّصارى بألسنتِهم، فلا مُستنَدَ لهم فيما ادَّعَوه .
يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ.
أي: يُشابِهُ قَولُ اليهودِ والنَّصارى في نِسبَتِهم الوَلَدَ إلى الله تعالى، قَولَ الكُفَّارِ مِن الأُمَمِ قَبلَهم في ذلك .
قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
أي: لعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى، كيف يُصرَفونَ عَنِ الحَقِّ، فيَضِلُّونَ عنه، ويَعْدِلونَ إلى الباطِلِ، ومِن أينَ يتطرَّقُ إليهم ذلك الصَّرْفُ بعد وضوحِ الدَّليلِ على أنَّ الله تعالى لم يتَّخِذْ وَلَدًا ؟!
كما قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 72 - 77] .
اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه تعالى وصَفَ اليَهودَ والنَّصارى بضَربٍ آخَرَ مِن الشِّرْكِ، بِقَولِه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ .
اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ.
أي: اتَّخذَ اليَهودُ عُلَماءَهم، واتَّخَذ النَّصارى عُبَّادَهم، سادةً يُطيعونَهم مِن دُونِ اللهِ، في تحليلِ الحرامِ، وتَحريمِ الحَلالِ .
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ.
أي: واتَّخَذَ النَّصارى المسيحَ عِيسى ابنَ مَريمَ إلهًا مِن دُونِ الله سُبحانَه !
وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا.
أي: وما أُمِرَ اليَهودُ والنَّصارى في كُتُبِهم إلَّا أن يعبُدوا ويُطيعُوا مَعبودًا واحدًا، وهو اللهُ المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه، المُتَفَرِّدُ بالتَّشريعِ والتَّحليلِ والتَّحريمِ دونَ ما سِواه .
كما قال تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 4-5] .
لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ.
أي: لا مُستَحِقَّ للعبادةِ إلَّا اللهُ وَحدَه .
سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ .
أي: تنَزَّه اللهُ وتقَدَّسَ أتمَّ تنزيهٍ، عن شِرْكِ المُشرِكينَ، وافتراءاتِ الكافِرينَ
.
الفوائد التربوية:
دلَّ قولُه تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ على أنَّ مَن أطاع أحدًا في دينٍ لم يأذَنِ اللهُ به- من تحليلٍ أو تحريمٍ، أو استحبابٍ أو إيجابٍ- فقد لَحِقَه من هذا الذمِّ نصيبٌ، ويلحق الذمُّ مَن تبيَّن له الحقَّ فترَكَه أو قصَّرَ في طلبه فلم يتبيَّنْ له، أو أعرضَ عن طلبه لهوىً أو كسلٍ ونحو ذلك
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ في هذا دليلٌ على أنَّ مَن أخبَرَ عن كُفرِ غَيرِه، الذي لا يجوزُ لأحدٍ أن يَبتدئَ به، لا حَرَجَ عليه؛ لأنَّه إنَّما ينطِقُ به على معنى الاستعظامِ له والرَّدِّ عليه، فلا يمنَعُ ذلك منه، ولو شاء ربُّنا ما تكَلَّمَ به أحدٌ، فإذا أمكَنَ مِن انطلاقِ الألسِنَةِ به، فقد أذِنَ في الإخبارِ عنه، على معنى إنكارِه بالقَلبِ واللِّسانِ، والرَّدِّ عليه بالحُجَّةِ والبُرهانِ
.
2- ذَكَرَ اللهُ تعالى اعتقادَ النَّصارى في عيسى على ثلاثةِ أشكالٍ؛ فمنها ما قال اللهُ تعالى عنهم: وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، ومنها: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17] ، ومنها: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة: 73] ، ولكنَّ هذه الاعتقاداتِ حقيقتُها اعتقادٌ واحدٌ عندَهم- لا أنَّها اعتقادُ كلِّ فِرْقةٍ على حِدَةٍ- فما ذَكَرَهُ اللهُ تعالى عنهم هو قولُ جملةِ النَّصارى؛ فإنَّهم يقولونَ: إنَّه اللهُ باعتبارٍ، وإنَّه ابنُ اللهِ باعتبارٍ آخَرَ، وإنَّه ثالثُ ثلاثةٍ باعتبارِ آخَرَ؛ حيث إنَّهم عَبَدُوا معه المسيحَ وأمَّه، فصار ثالثَ ثلاثةٍ- سُبحانه وتعالى عمَّا يُشرِكون .
3- إنَّ اللهَ سُبحانه لم يذكُرْ قولًا مقرونًا بذِكرِ الأفواهِ والألسُنِ إلَّا وكان قولًا زُورًا، قال الله تعالى: ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، وقال تعالى أيضًا: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 167] ، وقال: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف: 5] ، وقال: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11] .
4- في قوله تعالى: ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ دلالةٌ على جوازِ تسميةِ الشيءِ باسمِ الشيءِ إذا جاوَره؛ لأنَّ القولَ - لا محالةَ - بالألسنةِ لا بالأفواهِ .
5- قال اللهُ تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ الإشراكُ باللهِ في حُكْمِه، والإشراكُ به في عِبادَتِه كِلاهما بمعنًى واحدٍ، لا فَرْقَ بينهما البتَّةَ؛ فالذي يَتْبَعُ نظامًا غيرَ نِظامِ اللهِ، وتشريعًا غيرَ ما شَرَعه الله، وقانونًا مُخالِفًا لِشَرعِ اللهِ، مِن وَضْعِ البَشرِ، مُعرِضًا عن نورِ السَّماءِ، الذي أنزَلَه اللهُ على لِسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، من كان يفعَلُ هذا هو ومَن يعبُدُ الصَّنَمَ ويَسجُدُ للوَثَنِ، لا فرق بينهما البتَّةَ بِوجهٍ مِن الوجوهِ، فهما واحِدٌ؛ فكِلاهما مُشرِكٌ بالله: هذا أشرَكَ به في عبادَتِه، وهذا أشرَكَ به في حُكمِه، والإشراكُ به في عِبادَتِه، والإشراكُ به في حُكمِه، كِلاهما سَواءٌ، وقد قال اللهُ جلَّ وعلا في الإشراكِ به في عبِادَتِه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] وقال في الإشراكِ به في حُكْمِه أيضًا: لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 26] وفي قراءةِ ابنِ عامرٍ مِن السَّبعةِ: (وَلَا تُشْرِكْ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا بصيغةِ النَّهيِ المُطابِقةِ لِقَولِه: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] ؛ فكِلاهما إشراكٌ باللهِ .
6- مَن اعتقَدَ طاعةَ أحدٍ لِعَينِه أو لِصَفةٍ فيه، فأطاعه في خلافِ ما أمَرَ اللهُ، فهو من الذين ذُكِروا في قولِه تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أنَّهم كانوا يعتَقِدونَ وُجوبَ طاعةِ أحْبارِهم، فأخبَرَ اللهُ تعالى أنَّهم اتَّخَذوهم أربابًا .
7- هؤلاء الذينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا- حيث أطاعُوهم في تحليلِ ما حرَّم اللهُ وتحريمِ ما أحلَّ اللهُ- يكونونَ على وجهينِ:
أحدهما: أنْ يعلَمُوا أنَّهم بدَّلوا دينَ الله؛ فيتَّبِعونَهم على التَّبديلِ، فيعتقدونَ تحليلَ ما حرَّم اللهُ، وتحريمَ ما أحلَّ اللهُ؛ اتِّباعًا لرُؤسائِهم- مع عِلْمِهم أنَّهم خالفُوا دينَ الرُّسُلِ- فهذا كفرٌ، وقد جعَلَه اللهُ ورسولُه شِركًا، وإنْ لم يكونوا يُصَلُّونَ لهم، ويَسجُدونَ لهم.
والثاني: أنْ يكون اعتقادُهم وإيمانُهم بتحريمِ الحرامِ وتحليلِ الحلالِ ثابتًا، لكِنَّهم أطاعوهم في مَعصيةِ اللهِ- كما يفعلُ المسلمُ ما يفعلُه مِن المعاصي التي يَعتقِدُ أنَّها معاصٍ- فهؤلاء لهم حُكْمُ أمثالِهم من أهلِ الذُّنوبِ، كما ثبت في الصَّحيحِ عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّما الطَّاعةُ في المعروفِ )) .
8- لم تُوصفِ النَّصارى باسم (المُشرِكينَ)- يعني: بأل التَّعريفِ- وإنما وُصِفت بعمومِ فِعْلِ الشِّركِ، كما في قوله تعالى: سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ووجهُ ذلك: أنَّ أهلَ الكتابِ ليس في أصلِ دِينِهم شِركٌ؛ فإنَّ اللهَ إنَّما بعثَ الرُّسُلَ بالتَّوحيدِ، فكلُّ مَن آمن بالرُّسُلِ والكُتُبِ، لم يكنْ في أصلِ دينِهم شِرْكٌ، كما في قَولِه تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا ولكنَّ النَّصارى ابتَدَعوا الشِّركَ، وحيث ميَّزَهُم اللهُ عن المشركين، فعَطَفَ ذِكْرَهُم على ذِكْرِ المُشرِكينَ؛ فلِأَنَّ أصلَ دينِهم اتِّباعُ الكُتُبِ المُنزَّلةِ التي جاءت بالتَّوحيدِ لا بالشِّركِ، وفرْقٌ بين دَلالةِ اللَّفظِ مُفرَدًا ومَقرونًا، فإذا أُفْرِدَ ذِكْرُ المشركينَ دخلَ فيهم أهلُ الكتابِ، وإذا قُرِنُوا بأهلِ الكِتابِ لم يَدخُلوا فيهم .
9- قَولُ اللهِ تعالى: عَمَّا يُشْرِكُونَ فيه دَلالةٌ على إطلاقِ اسمِ الشِّركِ على اليَهودِ والنَّصارى
.
بلاغة الآيتين:
1- قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
- قولُه: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ المقصودُ مِن الإشارةِ ذلِكَ تَشهيرُ القولِ وتمييزُه؛ زِيادةً في تَشنيعِه عِندَ المسلمينَ
.
- وقولُه: بأَفْواهِهِمْ حالٌ مِن القولِ، والمرادُ: أنَّه قولٌ لا يَعْدو الوجودَ في اللِّسانِ، وليس له ما يُحقِّقُهُ في الواقِعِ، وهذا كِنايةٌ عن كوْنِهِ كاذبًا، وفي هذا أيضًا إلزامٌ لهم بهذا القولِ، وسَدٌّ لبابِ تَنصُّلِهم منه؛ إذ هو إقرارُهم بأفواهِهِم، وصَريحُ كلامِهم .
- وجُملةُ: أَنَّى يُؤْفَكُونَ مُستأنَفةٌ، والاسْتِفهام فيها مُستَعْمَل في التَّعجُّبِ من حالِهم في الاتِّباع الباطلِ، حتَّى شبَّهَ المكانَ الذي يُصرَفون إليه باعْتِقادِهم بمكانٍ مجهولٍ مِن شأنِهِ أنْ يُسألَ عنه باسمِ الاسْتِفهامِ عن المكانِ أَنَّى .
2- قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
- قولُهُ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ... الجملةُ تَقريرٌ لمضمونِ جُمْلةِ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْن