الخميس، 18 يناير 2024

9. سرة التوبة ج1.{129 مدنية}

 9. سرة التوبة {129 مدنية}

 9. سرة التوبة  ج1.{129 مدنية}

سورةُ التَّوبةِ

مقدمة السورة

أسماء السورة :

مِن أسماءِ هذه السُّورةِ

: التَّوبةُ ، وبراءةُ ، والفاضِحةُ .

فعن سعيدِ بن ِجُبَيرٍ، قال: (قُلتُ لابنِ عبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عنهما: سورةُ التَّوبةِ؟ قال: التَّوبةُ: الفاضِحةُ ) .

وعن البَراءِ رَضِيَ الله عنه، قال: (آخِرُ سُورةٍ نَزَلت سورةُ بَراءة ) .

وعن زيدِ بنِ ثابتٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (فتتَبَّعْتُ القُرآنَ حتى وجَدْتُ آخِرَ سُورةِ التَّوبةِ مع أبي خُزيمةَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ حتى خاتِمةِ سُورةِ البراءةِ)

فضل السورة وخصائصها:

1- حَثُّ الصَّحابةِ على تعَلُّمِها:

كتب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنه: (تعلَّمُوا سورةَ براءة، وعَلِّمُوا نساءَكم سُورةَ النُّور)

.

2- أنَّها مِن أواخِرِ ما نزَلَ من القرآنِ:

عن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (آخِرُ سُورةٍ أُنزِلَت: براءة) .

3- لا يُبدأُ فيها بـ(بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ) نقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ

بيان المكي والمدني :

 

سُورةُ التَّوبةِ مَدَنيَّةٌ، ونقَلَ غيرُ واحدٍ الإجماعَ على ذلك

مقاصد السورة :

 

مِن أهَمِّ مَقاصِدِ سُورةِ التَّوبةِ:

1- رسمُ المنهاجِ الذي يجبُ أن يسلكَه المؤمنون في علاقاتِهم مع المشركينَ، ومعَ أهلِ الكتابِ، ومعَ المنافقينَ

.

2- كشفُ الغطاءِ عن المنافقينَ وأصنافِهم وأوصافِهم، وفضحُ أفاعيلِهم في المجتمعِ المسلمِ .

3-  بيانُ كثيرٍ مِن الأحكامِ والإرشاداتِ التي تحتاجُ إليها الدولةُ الناشئةُ


موضوعات السورة :

 

مِن أهمِّ الموضوعاتِ التي تناولتْها سُورةُ التَّوبةِ:

1- البَراءةُ مِن المُشرِكينَ، والأمرُ بقِتالِهم، ونبذُ عُهودِهم، ومَنعُهم من دخولِ المَسجِدِ الحرامِ، والنَّهيُ عن مُوالاتِهم، ولو كانوا ذَوي قُربى.

2- الإشارةُ إلى وَقعةِ حَربِ حُنَينٍ، وتربيةُ نُفوسِ المؤمنينَ بِصِدقِ التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى.

3- إعلانُ الحَربِ على أهلِ الكِتابِ مِن العَرَبِ؛ حتى يُعطُوا الجِزيةَ، وأنَّهم ليسُوا بَعيدًا مِن أهلِ الشِّركِ، وأنَّ الجَميعَ لا تنفَعُهم قُوَّتُهم ولا أموالُهم، وتقبيحُ قَولِ اليَهودِ والنَّصارى في حَقِّ عُزَيرٍ وعِيسى عليهما السَّلامُ، وتأكيدُ رِسالةِ الرَّسولِ الصَّادِقِ المُحِقِّ، وعيبُ أحبارِ اليَهودِ في أكْلِهم الأموالَ بالباطِلِ.

4- حُرمةُ الأشهُرِ الحُرُمِ، وضَبطُ السَّنَةِ الشَّرعيَّةِ، وإبطالُ النَّسيءِ الذي كان عند الجاهليَّةِ.

5- الحَثُّ على الجِهادِ والنَّفيرِ العامِّ في سبيلِ اللهِ بالأموالِ والأنفُسِ، وعَدَمُ الرُّكونِ إلى الدُّنيا وزِينَتِها.

6- نُصرةُ الله سبحانه وتعالى لنبِيِّه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصاحِبِه الصِّدِّيقِ، وحِفظُه لهما مِن أعيُنِ الكُفَّارِ.

7- ذِكرُ أوصافِ المُنافِقينَ، ودسائسِهم الماكِرةِ، وذِكرُ أذاهُم للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقَولِ والفِعلِ، وأيمانِهم الكاذِبةِ، وأمرِهم بالمُنكَر ونَهيِهم عن المَعروفِ، وكَذِبِهم في عُهودِهم وسُخرَيتِهم بضُعَفاءِ المُؤمِنينَ، والأمر بجِهادِهم، والنَّهي عن الاستعانةِ بهم، ونَهْي النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الاستغفارِ لأحيائِهم، وعن الصَّلاةِ على أمواتِهم، وعَيب المُقَصِّرينَ على اعتذارِهم بالأعذارِ الباطلةِ.

8- ذَمُّ الأعرابِ في صلابَتِهم، وتمسُّكِهم بالدِّينِ الباطِلِ، ومَدحُ بَعضِهم بصَلابَتِهم في دِينِ الحَقِّ.

9- ذِكرُ السَّابِقينَ مِن المهاجِرينَ والأنصارِ، وفَضلِهم، وذِكرُ المُعتَرفِينَ بِتَقصيرِهم، وقَبولِ الصَّدَقاتِ مِن الفُقَراءِ، وقَبول تَوبةِ التَّائبينَ.

10- ذِكرُ بِناءِ مَسجِدِ الضِّرارِ للغَرَضِ الفاسِدِ، ومَكرِ المُنافِقينَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه.

11- ذِكرُ بناءِ مَسجِدِ قُباءٍ على الطَّاعةِ والتَّقوى، وأنَّه أولى أن يقومَ فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

12- مُبايعةُ الحَقِّ تعالى عَبيدَه باشتِراءِ أنفُسِهم وأموالِهم، ومُعاوَضتهم عن ذلك بالجنَّةِ.

13- النَّهيُ عن الاستغفارِ للمُشرِكينَ.

14- قَبولُ تَوبةِ المُتخَلِّفينَ عن غَزوةِ تَبوك.

15- النَّفيرُ لِطَلَبِ العِلمِ والتَّفقُّهِ في دينِ الله تعالى، وتَبليغِ الدِّينِ.

16- الامتنانُ على المسلمينَ بأن أرسَلَ فيهم رسولًا منهم، جَبَلَه على صِفاتٍ فيها كلُّ خَيرٍ لهم، وأمْرُ اللهِ نَبِيَّه بالتوكُّلِ عليه في جَميعِ أحوالِه.

 

===========

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيتان (1 - 2)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ

غريب الكلمات:

 

بَرَاءَةٌ: أي: تَبَرُّؤٌ وقَطعٌ للمُوالاةِ والعِصمةِ والأمانِ، وأصلُ (برء): يدلُّ على التباعُدِ مِن الشَّيءِ ومُزايَلتِه

.

فَسِيحُوا: أي: فَسِيروا واذهَبُوا، وأصلُ (سيح): يدلُّ على استمرارِ شَيءٍ وذَهابِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ اللهُ تعالى: هذه بَراءةٌ مِن اللهِ ورَسولِه إلى جميعِ المُشركينَ الذين عاهَدتُموهم، أيُّها المُسلِمونَ فنقضوا عهدهم، فَسِيرُوا- أيُّها المُشرِكونَ- في الأرضِ أربعةَ أشهُرٍ- هي مدةُ الإمهالِ- أينَما شِئتُم آمِنينَ، لا يَنالُكم مِن المُسلِمينَ سُوءٌ، واعلَمُوا أنَّكم لن تُعجِزوا اللهَ، ولن تَفُوتوا مِن عِقابِه إن أرادَه بكم، واعلَمُوا أنَّ اللهَ مُذِلُّ الكافرينَ.

تفسير الآيتين:

 

بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) .

أي: هذه بَراءةٌ مِن اللهِ ورَسولِه إلى جميعِ المُشركينَ الذين عاهَدتُموهم، أيُّها المُسلِمونَ

.

فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) .

فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.

أي: فَسِيُروا واذهَبُوا- أيُّها المُشرِكونَ- في أرضِ اللهِ أينَما شِئتُم، آمِنينَ مُدَّةَ أربعةِ أشهُرٍ، لا يَنالُكم فيها مِن المُسلِمينَ سُوءٌ .

وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ.

أي: واعلَمُوا- أيُّها المُشرِكونَ- أنَّكم إن اختَرْتُم الاستمرارَ على الكُفرِ في مُدَّةِ عَهْدِكم- وأنتم آمِنونَ فيها مِن المُسلِمينَ- غيرُ فائِتينَ مِن عِقابِ اللهِ إن أرادَه بكم؛ فأنتُم على أرضِه وفي سُلطانِه، وتَحتَ قُدرَتِه، فبادِرُوا بالتَّوبةِ .

وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ.

أي: واعلَمُوا- أيُّها المُشرِكونَ- أنَّ اللهَ مُذِلُّ الكافرينَ في الدُّنيا والآخِرةِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

قَوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ فيه ضَمانٌ مِن اللهِ عزَّ وجَلَّ بِنَصرِه المُؤمِنينَ على الكافِرينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَّى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ افتُتِحَت السُّورةُ- كما تُفتَتَحُ العُهودُ وصُكوكُ العُقودِ- بأدَلِّ كَلِمةٍ على الغَرَض الذي يُرادُ منها، كما في قَولِهم: هذا ما عَهِدَ به فلانٌ، وهذا ما اصطَلَحَ عليه فُلانٌ وفُلانٌ، وقَولِ المُوَثِّقينَ: باع أو وكَّل أو تزوَّجَ، وذلك هو مقتضى الحالِ في إنشاءِ الرَّسائِلِ والمواثيقِ ونَحوِها

.

2- قال الله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أعلَنَ اللهُ لِهَؤلاء هذه البَراءةَ؛ لِيَأخُذوا حِذْرَهم، وفي ذلك تضييقٌ عليهم إن داموا على الشِّركِ؛ لأنَّ الأرضَ صارَت لأهلِ الإسلامِ، كما دلَّ عليه قولُه تعالى بَعدُ: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التوبة: 3] .

3- قَولُ الله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ لَمَّا كان الأمرُ بهذا السَّيرِ مُفرَّعًا على البراءةِ مِن العَهدِ، ومُقرِّرًا لِحُرمةِ الأشهُرِ الحُرُم؛ عُلِمَ أنَّ المُرادَ السَّيرُ بأمنٍ دُونَ خَوفٍ في أيِّ مكانٍ مِن الأرضِ، وليس هو سَيرَهم في أرضِ قَومِهم؛ دلَّ على ذلك إطلاقُ السِّياحةِ وإطلاقُ الأرضِ، فكان المعنى: فَسِيحُوا آمِنينَ حيثُما شِئتُم من الأرضِ .

4- قال اللهُ تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ أنذَرَ المُعاهَدينَ في مُدَّةِ عَهدِهم، أنَّهم وإن كانوا آمِنينَ، فإنَّهم لن يُعجِزوا اللهَ ولن يَفُوتُوه، وأنَّه مَن استمَرَّ منهم على شِركِه فإنَّه لا بُدَّ أن يُخزِيَه، فكان هذا ممَّا يَجلِبُهم إلى الدُّخولِ في الإسلامِ، إلَّا مَن عاند وأصَرَّ، ولم يُبالِ بِوَعيدِ اللهِ له .

5- المقصودُ مِن قَولِه تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أمورٌ: الأولُ: أن يتفَكَّروا لأنفُسِهم ويَحتاطوا في هذا الأمرِ. والثاني: لئلَّا يُنسَبَ المُسلِمونَ إلى نَكثِ العَهدِ. والثالث: أراد اللهُ أن يعُمَّ جميعَ المُشرِكينَ بالجهادِ، فعَمَّ الكُلَّ بالبراءةِ، وأجَّلَهم أربعةَ أشهُرٍ؛ وذلك لقُوَّةِ الإسلامِ، وتخويفِ الكُفَّارِ، ولا يصِحُّ ذلك إلَّا بنَقْضِ العُهودِ. والرابع: أراد النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يحُجَّ في السَّنةِ الآتيةِ، فأمَرَ بإظهارِ هذه البَراءةِ؛ لئلَّا يُشاهِدَ العُراةَ .

6- في قَول اللهِ تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمَّا كانت السِّياحةُ تُطلَقُ على غَيرِ السَّيرِ، حقَّقَ المعنى بِقَولِه: فِي الْأَرْضِ .

7- قَولُ اللهِ تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ لَمَّا كان الإسلامُ قد ظهَرَ بعد أن كان خَفِيًّا، وقَوِيَ بعد أن كان ضعيفًا، افتتَحَ تعالى وَعْظَهم بالكلمةِ التي تُقالُ أوَّلًا لِمَن يُرادُ تَقريعُ سَمْعِه وإيقاظُ قَلْبِه، وتَنبيهُه على أنَّ ما بَعدَها أمرٌ مُهِمٌّ، ينبغي مَزيدُ الاعتناءِ به، فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

- قولُه: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ فيه إيثارُ الجُملةِ الاسميَّة على الفِعليَّة- فلم يُعبَّر بالجُملةِ الفِعليَّة، كأنْ يُقال: (قد بَرِئ اللهُ ورسولُه من الذين .. أو نحوُ ذلك)-؛ للدَّلالةِ على دَوامِ هذه البَراءةِ واستمرارِها، وللتَّوسُّل إلى تَهويلِها بالتنوينِ التَّفخيميِّ

.

2- قَولُه تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ

- قولُه: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ فيه تلوينُ الخِطابِ بصَرْفه عن المُسلِمينَ، وتَوجيهِه إلى المُشرِكينَ مع حُصولِ المقصودِ بصِيغةِ أَمْرِ الغائبِ (فَلْيَسيحوا) أيضًا؛ للمُبالغةِ في الإعلامِ بالإمهالِ حسْمًا لمادةِ تَعلُّلهم بالغفلةِ، وقطعًا لشأفةِ اعْتِذارهم بعدمِ الاستعدادِ ، وهو التفاتٌ من غَيْبة إلى خطابٍ، وفي ضِمنِهِ تهديدٌ .

- وإيثارُ صيغةِ الأمرِ في قولِه: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ مع تَسنِّي إفادةِ ذلك المعنى بطريقِ الإخبارِ أيضًا- كأن يُقال مثلًا: فلكم أنْ تَسيحوا، أو نحو ذلك-؛ لإظهارِ كَمالِ القُوَّةِ والغَلَبةِ، وعَدمِ الاكْتِراثِ لهم ولاستعدادِهم، فكأنَّ ذلك أمْرٌ مَطلوبٌ منهم .

- وذُكِر فِي الْأَرْضِ؛ لقَصْدِ التَّعميمِ لأقطارِ الأرضِ من دارِ الإسلامِ وغيرِها .

- قولُه: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ فيه وضْعُ الاسمِ الجَليلِ مَوضِعَ المُضْمَر- حيثُ لم يَقُل: (وأنَّه)-؛ لتربيةِ المهابةِ، وتَهويلِ أمْرِ الإخزاءِ، وهو الإذلالُ بما فيه فضيحةٌ وعارٌ، وإيثارُ الإظهارِ على الإضمارِ أيضًا في قولِه: مُخْزِي الْكَافِرِينَ- حيثُ لم يَقُلْ: (وأنَّ اللهَ مُخْزيكم)-؛ لذمِّهم بالكفرِ بعدَ وصْفِهم بالإشراكِ، والإشعارِ بأنَّ عِلَّةَ الإخزاءِ هي كُفرُهم .

=================

 

غريب الكلمات

مشكل الإعراب

المعنى الإجمالي

تفسير الآيتين

الفوائد التربوية

الفوائد العلمية واللطائف

بلاغة الآيتين

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيتان (3 - 4)

ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ

غريب الكلمات:

 

وَأَذَانٌ: أي: إعلامٌ، وأصلُ (أذن): يدلُّ على العِلمِ والإعلامِ

.

يُظَاهِرُوا: أي: يُعاوِنوا ويُعِينوا، والظَّهيرُ: العَوْنُ، وأصلُ (ظهر): يدلُّ على قوَّةٍ وبُروزٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ

وَرَسُولُهُ: مرفوعٌ على أنَّه مَعطوفٌ على الضَّميرِ في بَرِيءٌ وجاز ذلك العَطفُ للفَصلِ بـ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ؛ فهو مسوِّغٌ للعَطفِ؛ لِأَنه يقومُ مقَامَ التَّوكيدِ، أو مَرفوعٌ على أنه مُبتَدأٌ، والخَبَرُ مَحذوفٌ، أي: ورَسولُه بَريءٌ، وإنَّما حُذِفَ للدَّلالةِ عليه. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى: وهذا إعلامٌ مِن اللهِ ورَسولِه إلى جميعِ النَّاسِ مُسلِمِهم وكافِرِهم، يومَ النَّحرِ بأنَّ اللهَ بَريءٌ مِن عُهودِ المُشرِكينَ، ورسولُه كذلك بريءٌ منها، فإن تُبتُم- أيُّها المُشرِكونَ- فهو خيرٌ لكم، وإن أعرَضْتُم فاعلَمُوا أنَّكم لن تُعجِزوا اللهَ، ولن تَفُوتوا مِن عقابِه، وبَشِّرْ- يا مُحمَّدُ- الكافرينَ بعَذابٍ مُوجِعٍ.

ثمَّ استثنى اللهُ ممَّا بَرِئَ منه هو ورَسولُه مِن عُهودِ الكُفَّارِ بعضَ المُعاهَدينَ الذين عاهَدَهم المُؤمِنونَ، ثمَّ وَفَوْا بعُهودِهم مع المُؤمِنينَ، ولم ينقُصوهم شيئًا من ذلك، وأمَرَ المؤمنينَ أن يُؤَدُّوا إليهم عَهدَهم إلى أنْ تَنتهِيَ المُدَّةُ التي اتَّفَقوا عليها؛ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ الذين يَفُونَ بِعُهودِهم ولا يَنقُضونَها.

تفسير الآيتين:

 

وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) .

وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ .

أي: وهذا إعلامٌ مِنَ اللهِ ورَسولِه إلى جميعِ النَّاسِ مُسلِمِهم وكافِرِهم، يومَ النَّحرِ

بأنَّ اللهَ بريءٌ من عهودِ المُشركين، ورسولُه بريءٌ منها كذلك .

عن حُميد بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ، أنَّ أبا هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((بعثَني أبو بكرٍ في تلك الحَجَّةِ في مؤذِّنِينَ بَعَثَهم يومَ النَّحرِ يُؤَذِّنونَ بمِنًى: ألَّا يُحَجَّ بعد العامِ مُشرِكٌ، ولا يَطوفَ بالبَيتِ عُريانٌ، قال حُميدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ: ثمَّ أردَفَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعليِّ بنِ أبي طالِبٍ، وأمَرَه أن يُؤَذِّنَ بِبَراءةَ، قال أبو هريرةَ: فأذَّنَ معنا عليٌّ يومَ النَّحرِ في أهلِ مِنًى ببَراءةَ، وألَّا يحُجَّ بعد العامِ مُشرِكٌ، ولا يطوفَ بالبَيتِ عُريانٌ )) .

فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ .

أي: فإن تُبتُم مِن كُفرِكم- أيُّها المُشرِكونَ- فهو خيرٌ لكم في الدُّنيا والآخرةِ .

وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي .

أي: وإن أعرَضْتُم- أيُّها المُشرِكونَ- عن الإيمانِ وطاعةِ اللهِ ورَسولِه، وثبَتُّم على كُفرِكم؛ فأيقِنُوا أنَّكم غيرُ فائِتينَ مِن عِقابِ اللهِ؛ فأنتم تحتَ قَهرِه وقُدرَتِه .

وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .

أي: وبَشِّرْ- يا مُحمَّدُ- الكافِرينَ بعذابٍ مُؤلمٍ مُوجِعٍ، يُصيبُهم في الدُّنيا والآخرةِ .

إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أعلَمَهم اللهُ تعالى بالبَراءةِ، وبالوَقتِ الذي يؤَذَّنُ بها فيه، وكان معنى البَراءةِ منهم أنَّه لا عَهدَ لهم؛ استثنى بعضَ المُعاهَدينَ ، فقال تعالى:

إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا .

أي: هذه البراءةُ التَّامَّةُ المُطلَقةُ مِن جَميعِ المُشرِكينَ إلَّا مَن عاهَدْتُموهم - أيُّها المُؤمِنونَ- ثمَّ لم يَنقُصوكم شيئًا ممَّا عاهَدْتُموهم عليه، ولم يُعِينوا عليكم أحدًا مِن أعدائِكم .

فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ .

أي: فأَوفُوا- أيُّها المؤمنونَ- إلى هؤلاء المُشرِكينَ، العَهدَ الذي بينكم وبَينَهم ولا تَنقُضُوه، إلى انتهاءِ المُدَّةِ التي اتَّفَقتُم عليها .

إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ .

أي: إنَّ اللهَ يُحِبُّ الذين يتَّقونَه، فيَمتَثِلونَ أوامِرَه ويجتَنِبونَ مَعاصِيَه، ومن ذلك أنَّهم يُوفُونَ بِعُهودِهم ولا يَنقُضونَها

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- في قَولِه تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ التَّرغيبُ في التَّوبةِ، والإقلاعِ عن الشِّركِ الموجِبِ لِكَونِ اللهِ ورَسولِه مَوصُوفَينِ بالبراءةِ منه

 

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ليس تَكرارًا لِقَولِه السَّابِق: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وذلك مِن وُجوهٍ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ المَقصودَ مِن الكَلامِ الأوَّلِ الإخبارُ بِثُبوتِ البَراءةِ. والمقصودَ مِن هذا الكَلامِ إعلامُ جَميعِ النَّاسِ بما حصَلَ وثَبَت.

الوجهُ الثَّاني: أنَّ المُرادَ مِن الكلامِ الأوَّلِ البَراءةُ مِن العَهدِ. ومِن الكلامِ الثَّاني البراءةُ التي هي نقيضُ المُوالاةِ الجارِيةِ مَجرى الزَّجرِ والوَعيدِ، والذي يدلُّ على حصولِ هذا الفَرقِ أنَّ في البراءةِ الأولى: بَرِيء إليهم، وفي الثَّانية: بَريء منهم.

الوجهُ الثَّالِثُ: أنَّه تعالى في الكَلامِ الأوَّلِ أظهَرَ البراءةَ مِن المشركينَ الذين عاهَدُوا ونَقَضوا العَهدَ، وفي هذه الآيةِ أظهَرَ البراءةَ من المُشرِكينَ مِن غيرِ أنْ يصِفَهم بوصفٍ مُعَيَّنٍ؛ تنبيهًا على أنَّ المُوجِبَ لهذه البراءةِ كُفرُهم وشِركُهم

.

2- إضافةُ الأذانِ إلى اللهِ ورَسولِه دون المُسلِمينَ في قَولِ اللهِ تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ؛ لأنَّه تَشريعٌ وحُكمٌ في مَصالِحِ الأمَّةِ، فلا يكونُ إلَّا مِن اللهِ على لسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ لَمَّا كان المقصودُ الإبلاغَ الذي هو وظيفةُ الرَّسولِ، عدَّاه بحرفِ الانتهاءِ فقال: إِلَى النَّاسِ أي: كُلِّهم .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ جاء بَعدَه قَولُه تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ  وليسَ بِتَكرارٍ؛ لأنَّ الأوَّلَ للمَكانِ، والثَّاني للزَّمانِ، وَقد تقدَّم ذِكرُهما في قَولِه تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ الآيةُ تدُلُّ على أنَّ العَهدَ المؤقَّتَ لا يجوزُ نَقضُه إلَّا بانتهاءِ وَقتِه، وأنَّ شَرْطَ وُجوبِ الوَفاءِ به علينا، مُحافظةُ العَدُوِّ المُعاهِدِ لنا عليه بحذافِيره؛ مِن نَصِّ القَولِ وفَحواه ولَحْنِه، فإنْ نقضَ شيئًا ما مِن شُروطِ العَهدِ، وأخَلَّ بِغَرَضٍ ما من أغراضِه، عُدَّ ناقِضًا له؛ إذ قال: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ولفظُ شَيءٍ أعَمُّ الألفاظِ، وهو نكرةٌ في سياقِ النَّفيِ، فيَصدُقُ بأدنى إخلالٍ بالعَهدِ .

6- مِن شُروطِ العَهدِ التي ينتقِضُ بالإخلالِ بها، عَدَمُ مُظاهرةِ أحدٍ مِن أعدائِنا وخُصومِنا علينا، قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ، وقد صرَّحَ بهذا للاهتمامِ به، فهو يدخُلُ في عُمومِ ما قَبلَه

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ

- قولُه: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ عُلِّقتِ البراءةُ بالذين عُوهِدوا من المشركينَ، وعُلِّق الأذانُ بالنَّاسِ؛ لأنَّ البَراءةَ مُختصَّةٌ بالمعاهَدين والناكِثين منهم، وأمَّا الأذانُ فعامٌّ لجميع النَّاسِ؛ مَن عاهَد ومَن لم يُعاهِدْ، ومَن نَكَث من المعاهَدين ومَن لم يَنكُثْ

.

- وجاء التَّصريحُ بفعلِ البراءةِ مَرَّةً ثانيةً دونَ إضمارٍ ولا اختصارٍ- بأن يُقال: (وأذانٌ إلى النَّاس بذلك، أو بها، أو بالبراءة)- لأنَّ المقامَ مَقامُ بَيانٍ وإطنابٍ؛ لأجلِ اختلافِ أفهامِ السَّامعين فيما يَسمَعونَه؛ ففيهم الذَّكيُّ والغبيُّ، ففي الإطنابِ والإيضاحِ قَطعٌ لمعاذيرِهم، واستِقصاءٌ في الإبلاغِ لهم .

- قوله تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ بعد قوله: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فيه التِفاتٌ من الغَيبةِ إلى الخِطابِ؛ لزِيادةِ التَّهديدِ والتَّشديدِ .

- قولُه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ جُعِل الإنذارُ بِشارةً على سَبيلِ الاسْتِهزاء بهم، وفي هذا وعيدٌ عظيمٌ بما يَحِلُّ بهم .

- وقولُه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أيضًا فيه تَلوينٌ للخطابِ، وصَرْفٌ له عنهم إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ البِشارةَ بعذابٍ أليمٍ، وإنْ كانتْ بطريقِ التهكُّمِ، إنَّما تليقُ بمَن يقِفُ على الأَسرارِ الإلهيَّةِ .

2- قَولُه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ

- قولُه: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا فيه ذِكْرُ كَلِمة شَيْئًا ؛ للمُبالغةِ في نفْيِ الانْتِقاصِ؛ لأنَّ كلمة (شَيء) نَكِرةٌ عامَّةٌ، فإذا وقعتْ في سِياقِ النَّفيِ أفادتِ انتفاءَ كلِّ ما يَصدُقُ عليه أنَّه موجودٌ .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تذييلٌ في معنى التَّعليلِ للأمرِ بإتمامِ العَهدِ إلى الأجَلِ بأنَّ ذلك من التَّقوى، أي: مِن امْتِثالِ الشَّرعِ الذي أَمَرَ اللهُ به؛ لأنَّ الإخبارَ بمحبَّةِ اللهِ المتقين عقِبَ الأمرِ كنايةٌ عن كونِ المأمورِ به من التَّقوى .

==========

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيتان (5 - 6)

ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ

غريب الكلمات:

 

انْسَلَخَ: أي: انقَضَى ومَضَى وخرَج، وأصلُ (سلخ): يدلُّ على إخراجِ الشَّيءِ عَن جِلدِه؛ مِن: سَلَخْتُ جِلدَ الشَّاةِ سَلخًا

.

وَاحْصُرُوهُمْ: أي: احبِسُوهم، وامنَعوهم، وأصلُ (حصر): يدلُّ على حبسٍ ومَنعٍ .

مَرْصَدٍ: أي: طَريقٍ ومَرقَبٍ، وأصلُ (رصد): يدلُّ على التَّهيُّؤِ لمُراقَبةِ شَيءٍ على مَسلَكِه .

فَخَلُّوا: أي: اتركُوهم، ولا تتعَرَّضوا لَهُم، وأصلُ (خلو): يدلُّ على تعَرِّي الشَّيءِ من الشَّيءِ .

اسْتَجَارَكَ: أي: استأمَنَك، وسألَ جِوارَك، أي: أمانَك وذِمامَك .

مَأْمَنَهُ: أي: دارَ قَومِه، والموضِعَ الذي يأمَنُ فيه، وأصلُ الأمنِ: يدلُّ على طُمأنينةِ النَّفسِ، وزوالِ الخَوفِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ عِبادَه أن يَقتُلوا المُشرِكينَ في أيِّ مَكانٍ وَجَدوهم، بعد أن تَنقَضيَ الأشهُرُ الحُرُمُ، وأن يأخُذُوهم أسرَى، ويُضَيِّقُوا عليهم، ويمنعوهم مِن الانتشارِ في الأرضِ، والدخولِ إليهم، ويُحاصِرُوهم، ويَقعُدوا لِقَتلِهم وأسْرِهم بكلِّ طَريقٍ يَمُرُّونَ به، فإن تابُوا وأدَّوُا الصَّلاةَ المفروضةَ على وَجهِها الأكمَلِ، وأعطَوُا الزَّكاةَ لِمُستحقِّيها، فأمَرَ اللهُ عبادَه المؤمنينَ أن يترُكوهم، ولا يتعَرَّضوا لهم؛ إنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ.

ثم أمَرَ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُعطِيَ الأمانَ كُلَّ مَن أستأمَنَه مِن المُشرِكينَ الذين أُمِرَ بِقتالِهم، حتى يسمَعَ القُرآنَ، ثمَّ إنْ لم يُسلِمْ فَلْيترُكْه يرجِعْ إلى بلَدِه وديارِه التي يأمَنُ فيها؛ ذلك بأنَّهم قَومٌ لا يَعلمونَ.

تفسير الآيتين:

 

فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قرَّرَ اللهُ تعالى أمْرَ البراءةِ مِن المُشركينَ إثباتًا ونفيًا؛ أمَرَ بما يُصنَعُ بعد ما ضَرَبَه لهم مِن الأجَلِ

، فقال تعالى:

فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ.

الناسخُ والمنسوخُ:

قيل: هذه الآيةُ منسوخةٌ بقولِه تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد: 4] ، وقيل: هي محكمةٌ .

فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ.

أي: فإذا انقَضَتِ الأشهُرُ الحُرُمُ ، فاقتُلوا المُشرِكينَ أينَما لَقِيتُموهم من الأرضِ .

وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.

أي: وخُذوا- أيُّها المُؤمِنونَ- الكُفَّارَ أسرَى، وضيِّقوا عليهم، وامنعوهم مِن الانتشارِ في الأرضِ، والدخولِ إليكم، وحاصِروهم إن تحَصَّنوا، واقعُدوا لِقَتلِهم أو أسْرِهم على كلِّ طَريقٍ يَمُرُّونَ منه .

فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ.

أي: فإن رجَعَ المُشرِكونَ عن الكُفرِ إلى الإيمانِ، وأدَّوا ما فرَضَ اللهُ عليهم من الصَّلَواتِ؛ بالإتيانِ بها على وجهِها الأكمَلِ، وأعطَوُا الزَّكاةَ مُستحقِّيها؛ فاترُكوا- أيُّها المُسلِمونَ- طَريقَهم، لا تقعُدُوا عليها، ودَعُوهم يذهبونَ حيثما يَشاؤونَ، دون أن تتعَرَّضوا لهم .

عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النَّاسَ حتى يَشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاةَ، ويُؤتوا الزَّكاةَ، فإذا فعَلوا ذلك عَصَموا منِّي دماءَهم وأموالَهم إلَّا بحقِّ الإسلامِ، وحِسابُهم على اللهِ )) .

إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.

أي: إنَّ الله غَفورٌ لِمَن تاب مِن عِبادِه، فيستُرُ ذُنوبَهم، ويتجاوَزُ عن مؤاخَذتِهم بها، رحيمٌ بهم، ومِن رَحمتِه أنْ وفَّقَهم للتَّوبةِ، وقَبِلَها منهم، ولا يُعاقِبُهم بعدها .

وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6).

وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ.

أي: وإنِ استأمَنَك- يا محمَّدُ- أحدٌ مِن المُشرِكينَ الذين أمرتُك بقِتالِهم، فأمِّنْه حتى تتلوَ عليه القرآنَ، ويسمعَه، ويفهمَ ما أُنزِل عليك؛ ليكونَ على بصيرةٍ مِن أمرِه، وتقومَ عليه حُجَّةُ اللَّهِ .

ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ.

أي: ثم إنْ لم يُسلِمْ، فاترُكْه يرجِعْ إلى بلَدِه ودِيارِه التي يأمَنُ فيها .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ.

أي: أعطِ- يا مُحَمَّدُ- المُشركينَ الأمانَ، حتى يسمَعُوا القرآنَ؛ مِن أجلِ أنَّهم قومٌ جَهَلةٌ لا يَعلمونَ دِينَ اللهِ وثَوابَه وعِقابَه، فيحصُلَ لهم العِلمُ بِسَماعِه، وتقومَ عليهم حُجَّةُ الله على عبادِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ عمَّ جميعَ المُشرِكينَ، وعمَّ البِقاعَ والأماكِنَ مِن حِلٍّ وحَرَمٍ إلَّا ما خصَّصَتْه الأدلَّةُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَخُذُوهُمْ فيه أنَّه يجوزُ الأسْرُ بَدَلَ القَتلِ، والتَّخييرُ بينهما .

3- قَولُ الله تعالى: وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فيه جوازُ حِصارِهم والإغارةِ عليهم وبَيَاتِهم .

4- كلمةُ (كُلَّ) في قَولِ الله تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ مُستعملةٌ في تعميمِ المراصِدِ المظنونِ مُرورُهم بها؛ تحذيرًا للمُسلِمينَ مِن إضاعَتِهم الحراسةَ في المراصدِ، فيأتيَهم العدُوُّ منها، أو مِن التَّفريطِ في بعضِ مَمارِّ العَدُوِّ، فينطلِقَ الأعداءُ آمنين فيَستخِفُّوا بالمُسلمينَ، ويتَسامَعَ جماعاتُ المُشرِكينَ أنَّ المُسلِمينَ ليسُوا بِذَوي بأسٍ ولا يَقَظةٍ، فيؤُولُ معنى (كُلَّ) هنا إلى معنى الكَثرةِ؛ للتَّنبيهِ على الاجتهادِ في استقصاءِ المراصِدِ .

5- التعبيرُ بالقُعودِ في قَولِ اللهِ تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ للإرشادِ إلى التأنِّي .

6- في الترصُّدِ والاستقرارِ والتمَكُّنِ وإيصالِ الفِعلِ إلى الظَّرفِ في قَولِ اللهِ تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ؛ إشارةٌ إلى أن يشغَلوا في الترصُّدِ كُلَّ جُزءٍ مِن أجزاءِ كُلِّ مَرصدٍ، إن قَدَروا على ذلك، بخلافِ ما لو عبَّرَ بـ (في كُلِّ مَرصدٍ) فإنَّه إنما يدلُّ على شغلِ كُلِّ مَرصدٍ الصَّادِقُ بالكَونِ في موضعٍ واحدٍ منه، أيُّ موضعٍ كان .

7- الأمرُ في قولِه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ للإذنِ والإباحة باعتبارِ كلِّ واحدٍ من المأموراتِ على حِدَةٍ، أي: فقد أُذِن لكلٍّ في قتْلِهم وفي أخْذِهم، وفي حِصارِهم، وفي مَنْعِهم مِنَ المرورِ بالأرضِ الَّتي تحتَ حكمِ الإسلامِ، وقدْ يَعْرِضُ الوجوبُ إِذا ظَهَرتْ مصلحَةٌ عَظيمَةٌ .

8- قال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ هذه الآيةُ دالَّةٌ على أنَّ مَن قال: قد تُبتُ، أنَّه لا يُجتزَأُ بِقَولِه حتى ينضافَ إلى ذلك أفعالُه المُحقِّقةُ للتَّوبةِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ شَرَطَ هنا مع التَّوبةِ إقامَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ؛ ليُحَقِّقَ بهما التَّوبة. وقال في آيةِ الرِّبا: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ [البقرة: 279] . وقال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة: 160] .

9- في قولِه تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ دلالةٌ على أنَّ التوبةَ مِن الشركِ تُسمَّى توبةً، كما تُسمَّى مِن الذنبِ؛ لأنَّ معناها الرجوعُ عما كان عليه .

10- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ لم يُكتَفَ في تخليةِ السَّبيلِ بالتَّوبةِ مِن الشِّركِ، حتى يُقيمُوا الصَّلاةَ ويُؤتُوا الزَّكاةَ، فاستدَلَّ به من قال بقَتلِ تارِكِ الصَّلاةِ، وقتالِ مانِعِ الزَّكاةِ، واستدَلَّ به من قال بتَكفيرِهما .

11- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ الآيةُ تُفيدُ دَلالةَ إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، على الإسلامِ، وتوجِبُ لِمَن يُؤدِّيهما حُقوقَ المُسلمينَ؛ مِن حِفظِ دَمِه ومالِه، إلَّا بما يُوجِبُه عليه شَرعُه من جنايةٍ تقتضي حدًّا مَعلومًا، أو جريمةً تُوجِبُ تَعزيرًا أو تغريمًا .

12- قولُه تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه لطيفةٌ، وهو أنَّه تعالى ضيَّقَ عليهم جميعَ الخَيراتِ، وألقاهم في جميعِ الآفاتِ، ثم بيَّنَ أنَّهم لو تابوا عن الكُفرِ، وأقاموا الصَّلاةَ، وآتَوُا الزَّكاةَ، فقد تخلَّصوا عن كلِّ تلك الآفاتِ في الدُّنيا، فنرجو مِن فَضلِ اللهِ أن يكونَ الأمرُ كذلك يومَ القيامةِ .

13- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ يدلُّ على أنَّ المقصودَ مِن شَرعِ القتلِ قَبولُ الدِّينِ، والإقرارُ بالتَّوحيدِ .

14- الخطابُ بِقَولِه: اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ يدلُّ على أنَّ أمانَ السُّلطانِ جائِزٌ .

15- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ فيه إشارةٌ إلى وجوبِ الدَّعوةِ قبل القِتالِ .

16- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ فيه حُجَّةٌ صَريحةٌ لِمَذهَبِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، القائلينَ بأنَّ (القُرآنَ كَلامُ اللهِ غيرُ مَخلوقٍ)؛ لأنَّه تعالى هو المتكَلِّمُ به، وأضافه إلى نفسِه إضافةَ الصِّفةِ إلى موصوفِها، وبُطلانُ مذهَبِ المُعتَزلةِ ومَن أخذَ بِقَولهم: إنَّ القُرآنَ مَخلوقٌ .

17- قولُه تعالى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ نصٌّ صريحٌ في أنَّ هذا الذي نَقرؤُه ونَتلُوه، هو بِعَينِه كلامُ الله، فالصَّوتُ صَوتُ القارِئِ، والكلامُ كَلامُ البارِئِ؛ لأنَّ اللهَ صرَّح بأنَّ هذا المُشرِكَ المُستجيرَ يَسمَعُ كَلامَ اللهِ، يتلوه عليه نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فهذا المحفوظُ في الصُّدورِ، المقروءُ في الألسِنةِ، المكتوبُ في المصاحِفِ؛ هو كلامُ اللهِ جَلَّ وعلا، بمعانيه وألفاظِه .

18- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُون في الكلامِ تَنويهٌ بمعالي أخلاقِ المُسلِمينَ، وغَضٌّ من أخلاقِ أهلِ الشِّركِ، وأنَّ سبَبَ ذلك الغَضِّ الإشراكُ الذي يُفسِدُ الأخلاقَ؛ ولذلك جُعِلوا (قومًا لا يَعلمونَ) دونَ أن يُقالَ (بأنَّهم لا يَعلمونَ)؛ للإشارةِ إلى أنَّ نَفيَ العِلمِ مُطَّرِدٌ فيهم، فيشيرُ إلى أنَّ سبَبَ اطِّرادِه فيهم هو نَشأتُه عن الفِكرةِ الجامعةِ لأشتاتِهم، وهي عقيدةُ الإشراكِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

- قولُه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فيه وضْعُ المُظْهَرِ مَوضِعَ المُضْمَرِ- حيثُ لم يَقُل: (فإذا انسلختْ فاقْتُلوا...)-؛ ليكون ذريعةً إلى وَصْفِها بالحُرمةِ؛ تأكيدًا لِمَا يُنبِئ عنه إباحةُ السِّياحةِ من حُرْمةِ التعرُّضِ لهم، مع ما فيهِ من مَزيدِ الاعتناءِ بشأنِها

.

- قولُه: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ هذا المُركَّبُ مُستَعمَلٌ هنا تَمثيلًا في عدمِ الإضرارِ بهم ومُتاركتِهم ، وهو كِنايةٌ عن الكفِّ عنهم، وإجرائِهم مجرَى المسلمين في تصرُّفاتهم حيثُما شاؤوا .

- قولُه تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ التوبةِ: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، وقال بَعدَه في التَّوبةِ أيضًا: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ؛ فالشَّرطُ فيهما واحدٌ، لكنِ اختَلَف الجوابُ؛ ووجهُ هذه المُناسَبةِ أنَّ قولَه: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ورَدَ بعدَ الأمْرِ بقَتلِ المشركين؛ فناسَبَ أن يكونَ جوابُ الشرطِ فيها الأمرَ بتَرْكِه، وهو قوله تعالى: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، أمَّا قولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، فورَدَ بعدَ إثباتِ رُسوخِ المشركين في كُفرِهم وضَلالِهم، وصَدِّهم عن سَبيلِ الله، وكونِه هو الباعثَ لهم على قِتالِ المؤمنِينَ ابتداءً، ثم على نَقْضِ عُهودِهم؛ فناسَبَ أنْ يُذكَرَ في جوابِ شَرطِها فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ؛ لأنَّ هذِه أجلبُ لقُلوبِهم، وأشدُّ استمالةً لهم إلى الإسلامِ .

- وجُملةُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذييلٌ أُريدَ به حثُّ المسلِمينَ على عَدمِ التعرُّضِ بالسُّوءِ للذين يُسْلِمونَ من المُشركينَ، وعدَم مُؤاخذتِهم لِمَا فَرَط منهم؛ فالمعنى: اغْفِروا لهم؛ لأنَّ الله غَفَر لهم، وهو غَفورٌ رحيمٌ .

2- قَولُه تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ

- قولُه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ عطْفٌ على جملةِ: فَإِنْ تَابُوا؛ لتَفصيلِ مَفهومِ الشَّرْطِ، أو عطْفٌ على جُملة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ؛ لتَخصيصِ عُمومِه، أي: إلَّا مُشرِكًا استجارَك لمصلحةٍ؛ للسِّفارةِ عن قَومِه، أو لمعرفةِ شرائعِ الإسلامِ، وصِيغَ الكلامُ بطَريقةِ الشَّرْطِ؛ لتأكيدِ حُكْمِ الجوابِ، وللإشارةِ إلى أنَّ الشأنَ أنْ تقَعَ الرَّغبةُ في الجِوارِ مِن جانبِ المشركين .

- وجِيءَ بحرْفِ (إن) التي شأنُها أنْ يكونَ شَرْطُها نادرَ الوقوعِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ هذا شَرْطٌ فَرْضيٌّ؛ لكيلَا يَزعمَ المشرِكون أنَّهم لم يَتمكَّنوا من لِقاءِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيتَّخِذوه عُذْرًا للاستمرارِ على الشِّركِ إذا غَزاهُم المسلِمون .

- وجِيءَ بلَفْظِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دونَ لِفْظِ (مُشْرِكٍ)؛ للتَّنصيصِ على عُمومِ الجِنْس .

- وتَقديمُ أَحَدٌ على اسْتَجَارَكَ؛ للاهْتِمامِ بالمُسنَدِ إليه؛ ليكونَ أوَّلَ ما يَقْرعُ السَّمعَ، فيَقع المُسنَدُ بعدَ ذلك من نَفْسِ السَّامعِ مَوقِعَ التمكُّن .

- وجُملةُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ في مَوضِعِ التَّعليلِ؛ لتأكيدِ الأَمْرِ بالوَفاءِ لهم بالإجارةِ إلى أن يَصِلوا دِيارَهم؛ فلذلك فُصِلتْ عن الجُملةِ التي قَبْلها، ولم تُعطَف عليها .

================

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيتان (7 - 8)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ

غريب الكلمات:

 

يَرْقُبُوا: أي: يَحفَظُوا ويُراعُوا، وأصلُ (رقب): يدلُّ على انتصابٍ لِمُراعاةِ شَيءٍ

.

إِلًّا: الإلُّ: الحِلْفُ والقَرابةُ والعهد والعقد، ويأتي أيضًا بمعنى الله، وأصلُ (ألل) هنا يدلُّ على السَّبَبِ يُحافَظُ عليه .

ذِمَّةً: الذِّمَّةُ: العَهدُ والمِيثاقُ، وما يجِبُ أن يُحفَظَ ويُحمى، وأصلُ (ذمم): خلافُ الحَمدِ، وسُمِّي العَهْدُ ذِمامًا؛ لأنَّ الإنسانَ يُذَمُّ على إضاعتِه منه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول الله تعالى: كيف يكونُ للمُشرِكينَ عهدُ أمانٍ عندَ اللهِ وعندَ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم؟ هذا أمرٌ مُستبعَدٌ، إلَّا الذينَ عاهَدْتُم- أيُّها المُؤمِنونَ- عند المسجِدِ الحرامِ يومَ الحُدَيبيَة، فما دامُوا مُستقيمينَ لكم على ما تعاهَدْتُم عليه، فاستَقِيموا لهم كذلك، إلى انتهاءِ مُدَّةِ العَهدِ، ولا تَبدَؤُوهم بنَقضِه؛ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المتَّقينَ.

كيف يكونُ للمُشرِكينَ عَهدُ أمانٍ، وهم إن يغلِبُوكم- أيُّها المُؤمِنونَ- لا يَرحَموكم، ولا يُراعُوا فيكم الله ولا قَرابةً ولا عَهدًا؟ يقولونَ لكم بألسِنَتِهم كلامًا طيِّبًا يُرضِيكم، ولكِنَّ قُلوبَهم تَمتنِعُ أن تُوافِقَ ما يتكَلَّمونَ به، وأكثَرُهم فاسِقونَ.

تفسير الآيتين:

 

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قال تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وقال: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فلعلَّ بعضَ قبائِلِ العَرَبِ مِنَ المشركينَ يتعجَّبُ مِن هذه البراءةِ، ويسألُ عن سَبَبِها، وكيف أُنهِيَت العُهودُ، وأُعلِنَتِ الحَربُ؟! فكان المقامُ مقامَ بيانِ سَبَبِ ذلك، والحِكمةِ المُوجِبةِ لِأن يتبَرَّأَ اللهُ ورَسولُه مِن المُشرِكينَ، وأنَّه حُكمٌ واقِعٌ في مَحلِّه، وأنَّ نَبْذَ العُهودِ إلى المُشرِكينَ أمرٌ في غايةِ الإحكامِ والصَّوابِ

.

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ.

أي: كيف يكونُ للمُشرِكينَ بِرَبِّهم عهدُ أمانٍ عندَ اللهِ وعندَ رَسولِه مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؟! هذا أمرٌ مُستبعَدٌ؛ فهؤلاءِ قَومٌ يُضمِرونَ الغَدرَ، والواجِبُ على المؤمِنينَ قَتلُهم أينَما وَجَدُوهم؛ لِكُفرِهم باللهِ ورسولِه، ومُحارَبتِهم أولياءَه .

إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

أي: لا ينبغي أن يكونَ للمُشرِكينَ عَهدٌ يأمَنونَ به عَدا الذينَ عاهَدْتُموهم - أيُّها المُؤمِنونَ- يومَ الحُدَيبيَةِ عند المسجِدِ الحرامِ، وهم مُوفُونَ بعَهدِهم، مُستقيمونَ عليه .

فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ.

أي: فما دامَ المُشرِكونَ مُستَقيمينَ لكم- أيُّها المُؤمِنونَ- على ما تعاهَدْتُم عليه، متمسِّكينَ  بما عاقَدْتُموهم عليه، فاستَقِيموا لهم كذلك إلى انتهاءِ مُدَّةِ العَهدِ، وأوْفُوا لهم بعهدِهم، ولا تَبدَؤُوهم بنَقضِه .

إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.

أي: إنَّ اللهَ يُحِبُّ الذين يتَّقونَ اللهَ، فيَمتَثِلونَ أوامِرَه، ويجتَنِبونَ نَواهِيَه، ومن ذلك أنَّهم يُوفُونَ بالعُهودِ، ولا يَغدِرونَ .

كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا أنكَرَ سُبحانَه أن يكونَ للمُشرِكينَ غَيرِ المُستَثنَينَ عَهدٌ؛ بيَّن السَّبَبَ المُوجِبَ للإنكارِ ، فقال تعالى:

كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً.

أي: كيفَ يكونُ للمُشرِكينَ عَهدُ أمانٍ، والحالُ أنَّهم إن يغلِبُوكم- أيُّها المُؤمِنونَ- لا يَرحَموكم، ولا يُراعُوا فيكم اللهَ، ولا قَرابةً، ولا عَهدًا ؟!

يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ سُبحانَه حالَهم مع المُؤمِنينَ إن ظَهَروا عليهم، ذَكَرَ حالَهم معهم إذا كانوا غيرَ ظاهِرينَ، فقال تعالى :

يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ.

أي: يَقولُ لكم المُشرِكونَ بألسِنَتِهم كلامًا طَيِّبًا يُرضيكم- أيُّها المُؤمِنونَ- لكِنَّ قُلوبَهم تمتَنِعُ أن تُوافِقَ ما يَنطِقونَ به؛ فهي مُنطَوِيةٌ على بُغضِكم وعَداوَتِكم، والامتناعِ عَن محبَّتِكم، والدُّخولِ في دِينِكم .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 118-120].

وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ.

أي: وأكثَرُ أولئك القَومِ خارِجونَ عَن طاعةِ اللهِ، ناقِضونَ للعُهودِ، لا ديانةَ لهم، ولا مُروءةَ

 

.

الفوائد التربوية :

 

الوفاءُ بالعَهدِ مِن أخلاقِ المُتَّقينَ؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ الله تعالى: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ. في وَصفِهم بالمُشرِكينَ إيماءٌ إلى عِلَّةِ الإنكارِ على دوامِ العَهدِ مَعَهم

.

2- دلَّ قولُه تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً على أنَّ مَن كانت حالُه أنَّه إذا ظهَرَ لم يَرقُبْ ما بيننا وبينه مِن العَهدِ- لم يكُنْ له عَهدٌ؛ لأنَّ مَن جاهَرَنا بالطَّعنِ في ديننا، كان ذلك دليلًا على أنَّه لو ظهر لم يَرقُبِ العَهدَ الذي بيننا وبينه؛ فإنَّه إذا كان مع وُجودِ العَهدِ والذِّلَّةِ يفعلُ هذا، فكيف يكونُ مع العِزَّةِ والقُدرةِ؟! خلافًا لِمَن لم يُظهِر لنا مثلَ هذا الكَلامِ؛ فإنَّه يجوزُ أنْ يَفيَ لنا بالعَهدِ لو ظَهَرَ .

3- قال تعالى: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ. إن قيلَ: إنَّ الموصوفينَ بهذه الصِّفةِ كُفَّارٌ، والكُفرُ أقبَحُ وأخبَثُ مِن الفِسقِ، فكيف يَحسُنُ وَصفُهم بالفِسقِ في مَعرِضِ المبالغةِ في الذَّمِّ، وأيضًا الكُفَّارُ كلُّهم فاسِقونَ، فلا يبقى لِقَولِه: وَأَكْثَرُهُمْ فائدةٌ؟ فالجَوابُ: أنَّ الكافِرَ قد يكونُ عَدلًا في دِينِه، له حفظٌ لمراعاةِ الحالِ الحسنةِ مِن التعفُّفِ عمَّا يثلمُ العِرضَ، فلا ينقُضُ العَهدَ، وقد يكونُ فاسِقًا خبيثَ النَّفسِ في دينِه، لا مروءةَ تردعُه، ولا طباعَ مرضيةٌ تزَعُه، فينقُضُه، فالمرادُ بالفِسقِ هنا نَقضُ العَهدِ، وكان في المُشرِكينَ مَن وَفَى بِعَهدِه؛ فلهذا قال: وَأَكْثَرُهُمْ، أي: إنَّ هَؤلاءِ الكُفَّارَ- الذين مِن عادَتِهم نَقضُ العَهدِ- أكثَرُهم فاسِقونَ في دِينِهم وعند أقوامِهم، وذلك يُوجِبُ المُبالغةَ في الذَّمِّ ، وقيل: التعبيرُ بقولِه: وَأَكْثَرُهُمْ لأنَّ منهم مَن قضَى الله له بالإيمانِ ، وقيل: المرادُ بالأكثريةِ: الكلُّ، فمعنَى وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ: وكلُّهم فاسقونَ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ

- قولُه تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ استئنافٌ بيانيٌّ، نَشأ عن قولِه: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ عن قُولِهِ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وعن قولِه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، التي كانتْ تَدرُّجًا في إبطالِ ما بينهم وبين المسلمينَ من عُهودٍ سابقةٍ؛ لأنَّ ذلك يُثيرُ سؤالًا في نُفوسِ السَّامعينَ من المسلِمينَ الذين لم يَطَّلِعوا على دَخيلةِ الأَمْرِ؛ فلعلَّ بعضَ قَبائل العربِ من المشركين يَتعجَّب من هذه البَراءةِ، ويسألُ عن سببِها؛ فكان المقامُ مَقامَ بيانِ سَببِ ذلك، وأنَّه أمران: بُعدُ ما بين العقائدِ، وسَبْقُ الغَدْرِ

.

- قولُهُ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ اسْتِفهامٌ بمَعْنى الإنكارِ، والاسْتِبعادِ لِأنْ يكونَ لهم عَهْدٌ ولا يَنْكُثوه مع ضِغنِ صُدورِهم وعَداوتِها، وتوقُّدِها من الغيظِ، أو لأنْ يَفيَ اللهُ تعالى ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعَهْدِ، وهم نَكَثوه .

- وفي قولِهِ: كَيْفَ يَكُونُ تَوجيهُ الإنكارِ إلى كيفيَّةِ ثُبوتِ العَهْدِ، وفيه من المُبالَغةِ ما ليس في تَوجيهِهِ إلى ثُبوتِهِ؛ لأنَّ كلَّ موجودٍ يَجِبُ أنْ يكونَ وجودُهُ على حالٍ من الأحوالِ قَطْعًا .

- قَولُ اللهِ تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ المقصودُ مِن تَخصيصِهم بالذِّكرِ؛ التَّنويهُ بخَصلةِ وَفائِهم بما عاهَدُوا عليه .

2- قَولُه تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ

- قولُه: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ... كَيْفَ هذه مُؤكِّدةٌ لـكَيْفَ التي في الآيةِ قَبْلها، وفي إعادةِ الاسْتِفهامِ إشعارٌ بأنَّ جُملةَ الحالِ لها مزيدُ تَعلُّقٍ بتوجُّه الإنكارِ على دَوامِ العهدِ للمُشركينَ، حتَّى كأنَّها مُستَقِلَّةٌ بالإنكارِ، لا مجرَّدُ قيدٍ للأَمْرِ الذي تَوجَّه إليه الإنكارُ ابتداءً؛ فهي تَكرارٌ لاسْتِبعادِ ثَباتِهم على العَهْدِ، أو بقاءِ حُكْمه، مع التَّنبيهِ على العِلَّةِ .

- وفي قوله: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ أيضًا استأنَفَ هذا الكلامَ، أي: حالُهم في الظَّاهرِ يُخالِفُ باطِنَهم، وهذا كلُّه تَقريرٌ واسْتِبعادٌ لثَباتِ قلوبِهم على العَهْد .

- ونِسبةُ الإرضاءِ إلى الأفواهِ في قولِهِ: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ؛ للإيذانِ بأنَّ كلامَهم مُجرَّدُ ألفاظٍ يَتفوَّهون بها، مِن غيرِ أنْ يكونَ لها مِصداقٌ في قلوبِهم

 

.

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (9 - 12)

ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ

غريب الكلمات:

 

نَكَثُوا: أي: نَقَضوا، وأصلُ (نكث): يدلُّ على نَقضِ شَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ استبدَلوا بآياتِ اللهِ شَيئًا قليلًا مِن عَرَضِ الدُّنيا، فصَدُّوا أنفسهم عن قبولِ الحقِّ واتباعِه، وصدُّوا غيرَهم من النَّاسِ عن الدُّخولِ في الإسلامِ، وحاولوا ردَّ مَن أسلَمَ عن اتِّباعِ الحَقِّ، إنَّهم ساء ما كانوا يعملونَ؛ لا يُراعُونَ في مؤمِنٍ قَدَرُوا عليه اللهَ ولا قَرابةً ولا عَهدًا، وأولئك هم المُعتَدونَ.

ثم يُخاطِبُ المؤمنينَ قائِلًا لهم: فإنْ تاب المُشرِكونَ، وأدَّوُا الصَّلاةَ المفروضةَ على وجهِها الأكمَلِ، وأعطَوُا الزَّكاةَ الواجِبةَ لِمُستحِقِّيها، فهم إخوانُكم في الإسلامِ، ونُبَيِّنُ الآياتِ لِقَومٍ يَعلمونَ، وإنْ نَقَضوا عُهودَهم من بعدِ ما عاهَدُوكم، وقَدَحوا في دينِكم وانتَقَصوه، فقاتِلُوا رُؤَساءَ الكُفرِ؛ إنَّهم لا عُهودَ لهم صادقةً يُوفونَ بها؛ لعلَّهم يَنتَهونَ عَن الكُفرِ والضَّلالِ.

تفسير الآيات:

 

اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كشَفَ تعالى سرائِرَهم؛ شرعَ سبحانه يُقيمُ لهم الدَّليلَ على فِسقِهم وخِيانَتِهم، بتَذكيرِهم ما بدا مِن بَعضِهم مِن النَّقضِ، بعد أن أثبَتَ فيما مضى أنَّهم شَرعٌ واحِدٌ

، بعضُهم أولياءُ بَعضٍ .

وأيضا فهذا بيانٌ مُستأنَفٌ لِمَن عساه يستغرِبُ غَلَبةَ الفِسقِ، والخُروجَ مِن دائرةِ الفَضائِلِ الفِطريَّةِ والتقليديَّةِ على أكثَرِهم، حتى مُراعاة اللهِ والقرابةِ والوفاءِ بالعَهدِ الممدوحَينِ عِندَهم، ويسألُ عن سبَبِه، وجَوابُه :

اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً.

أي: استبدَلَ أولئك المُشرِكونَ، بآياتِ القُرآنِ شَيئًا قليلًا مِن عَرَضِ الدُّنيا، ومَتاعِها الفاني، فتَرَكوا اتِّباعَها لذلك، واتَّبَعوا أهواءَهم .

فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ.

أي: فتسبَّبَ عن ضَلالِهم قيامُهم بإضلالِ غَيرِهم، فمَنَعوا أنفسهم من قبولِ الحقِّ واتِّباعِه، ومنعوا غيرَهم مِن الدُّخولِ في الإسلامِ، وحاوَلُوا رَدَّ المُسلِمينَ عن اتِّباعِ الحَقِّ .

إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.

أي: بِئسَ ما كان يعمَلُه أولئك المُشرِكونَ؛ مِن استبدالِهم الكُفرَ بالإيمانِ، وصَدِّهم النَّاسَ عن سبيلِ الرَّحمنِ .

لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ تعالى بعَراقَتِهم في الفِسقِ، دلَّ عليه بأنَّ خِيانَتَهم ليست خاصَّةً بالمُخاطَبينَ، بل عامَّةٌ لكُلِّ مَن اتَّصَف بصِفةِ الإيمانِ ، فقال تعالى:

لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً.

أي: لا يُراعي أولئك المُشرِكونَ في أيِّ مُؤمنٍ قَدَرُوا عليه اللهَ ولا قَرابةً ولا عَهدًا .

وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ.

أي: وأولئك المُشرِكونَ هم المُجاوِزونَ حُدودَ اللهِ، الظَّالِمونَ لِعبادِ اللَّهِ .

فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حالَ مَن لا يَرقُبُ في اللهِ إلًّا ولا ذِمَّةً، وينقُضُ العَهدَ، وينطوي على النِّفاقِ، ويتعَدَّى ما حُدَّ له؛ بيَّنَ مِن بعدُ أنَّهم إن أقاموا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ كيف حُكمُهم ، فقال تعالى:

فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ.

أي: فإن رجَعَ المُشرِكونَ عن كُفرِهم إلى الإيمانِ باللهِ، وأدَّوُا الصَّلواتِ المفروضةَ، وأعطَوُا الزَّكاةَ الواجبةَ مُستحِقِّيها؛ فهُم إخوانُكم- أيُّها المُسلِمونَ- في الإسلامِ .

وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.

أي: ونُبَيِّنُ آياتِ القُرآنِ لِقَومٍ يَعقِلونَ عن اللهِ بَيانَه وآياتِه، فيَفهمُونَها، ويتفَكَّرونَ فيها، وينتَفِعونَ بها .

كما قال تعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] .

وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12).

مَناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا استوفى اللهُ تعالى بيانَ أصنافِ المُشرِكينَ، الذين أمَرَ اللهُ بالبراءةِ مِن عَهدِهم، والذينَ أمَرَ بإتمامِ عَهدِهم إلى مُدَّتِهم ما استقاموا على العَهدِ، والذين يَستجِيبونَ- عطَفَ على أولئك بيانَ الذين يُعلِنونَ بِنَكْثِ العَهدِ، ويُعلِنونَ بما يُسخِطُ المُسلِمينَ ، فقال تعالى:

وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ.

أي: وإن نقَضَ أولئك المُشرِكونَ عُهودَهم مِن بعدِ ما عاهَدُوكم على ألَّا يُقاتِلوكم، ولا يُظاهِروا عليكم أحدًا مِن أعدائِكم .

وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ.

أي: وقدحوا في دينِكم الإسلامِ، وعابُوه وانتقَصُوه .

فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.

أي: فقاتِلوا- أيُّها المُؤمِنونَ- رؤساءَ الكُفرِ الذين نقَضُوا العُهودَ، وطَعَنوا في الإسلامِ .

إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ لَا إِيْمَانَ قيل: على معنى أنَّهم لا إسلامَ لهم ولا دينَ، فهم كفَّارٌ. وقيل: المرادُ معنى الأمنِ، أي: لا أمانَ لهم، فقد بطَلَ الأمانُ الذي أعطَيتُموهم؛ لأنَّهم قد نقَضُوا عَهْدَهم .

2- قِراءةُ لَا أَيْمَانَ على معنى أنَّه لا عَهْدَ لهم، أي: هم لا يُوفُونَ بِعُهودِهم ومَواثيقِهم .

إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ.

أي: إنَّ رُؤَساءَ الكُفرِ لا عُهودَ لهم صادقةً يُوفُونَ بها .

لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ.

أي: قاتِلُوهم؛ كي ينتَهُوا عن الكُفرِ والضَّلالِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- دلَّ قولُه تعالى: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً على ذمِّ قطيعةِ الرَّحِمِ، ونَقْضِ الذِّمَّة

.

2- قال الله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ هذه الأُخوَّةُ أوَّلُ مَزيَّةٍ دُنيويَّةٍ للإسلامِ؛ فإنَّ المُشرِكينَ كانوا مَحرومينَ مِن هذه الأُخوَّةِ العظيمةِ، بعضُهم حَربٌ لِبَعضٍ في كلِّ وَقتٍ، إلَّا ما يكونُ مِن عَهدٍ أو جِوارٍ، قلَّما يفي به القَويُّ للضَّعيفِ دائمًا .

3- قال الله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي: لِيكُنْ غَرَضُكم في مُقاتَلتِهم- بعد ما وُجِدَ منهم من العظائِم ما وُجِد- انتهاءَهم عمَّا هم فيه، وهذا مِن كَرَمِه سبحانَه وفَضلِه، وعَوْدِه على المُسيءِ بالرَّحمةِ .

4- ممَّا امتاز به الإسلامُ على جميعِ شَرائعِ الأُمَمِ وقَوانينِها: جَعلُ الحَربِ ضَرورةً مُقَيَّدةً بإرادةِ مَنعِ الباطِلِ، وتقريرِ الحَقِّ والفضائِلِ؛ يُبيِّنُ ذلك قَولُ الله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي: قاتِلُوهم راجِينَ بِقِتالِكم إيَّاهم أن يَنتَهوا عن كُفرِهم وشِرْكِهم، وما يحمِلُهم عليه مِن نَكْثِ أيمانِهم، ونَقضِ عُهودِهم، والضَّراوةِ بِقتالِكم كلَّما قَدَرُوا عليه، وهو يتضَمَّنُ النَّهيَ عن القتالِ اتِّباعًا لِهَوى النَّفسِ أو إرادةِ منافِعِ الدُّنيا؛ مِن سَلبٍ وكَسْبٍ، وانتقامٍ مَحضٍ بالأَوْلى

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بيَّنَ عَراقَتَهم في القبائِحِ وأنَّها في جِبِلَّتِهم، بذِكرِ الكَونِ، فقال: كَانُوا يَعْمَلُونَ، أي: يُجَدِّدونَ عَمَلَه في كلِّ وَقتٍ

.

2- قَولُه تعالى: فِي مُؤْمِنٍ إعلامٌ بأنَّ عَداوَتَهم إنَّما هي بحسَبِ الإيمانِ فقط، وقَولُه أوَّلًا: لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ [التوبة: 8] كان يحتمِلُ أن يظُنَّ ظانٌّ أنَّ ذلك للإحَنِ التي وقعَت، فزال هذا الاحتمالُ بِقَولِه: فِي مُؤْمِنٍ .

3- قال اللهُ تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ هذه الآيةُ دليلٌ على أنَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ مَقرونتانِ بالشَّهادةِ، في كَفِّ السَّيفِ وحَقنِ الدَّمِ، ودليلٌ على أنَّ المُؤاخاةَ بالإسلامِ بين المُسلِمينَ مَوقوفةٌ على فِعلِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ جَميعًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى شَرَطَهما في إثباتِ المُؤاخاةِ، ومَن لم يكُنْ مِن أهلِ وُجوبِ الزَّكاةِ وجَبَ عليه أن يُقِرَّ بِحُكمِها، فإذا أقَرَّ بحُكمِها دخل في الصِّفةِ التي تجِبُ بها الأخُوَّةُ .

4- في قولِ الله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ علَّقَ الأخُوَّةَ في الدِّينِ على التَّوبةِ مِن الشِّركِ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ؛ والمُعَلَّقُ بالشَّرطِ ينعَدِمُ عند عَدَمِه، فمَن لم يفعلْ ذلك فليس بأخٍ في الدِّينِ، ومَن ليس بأخٍ في الدِّينِ فهو كافِرٌ؛ لأنَّ المؤمنينَ إخوةٌ- رغم قيامِ الكبائِرِ بهم- بدليلِ قَولِه تعالى في آيةِ المُقتَتِلين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] ، وهذا مع أنَّه قد سمَّى قتالَ المؤمِنِ كُفرًا .

5- دلَّ قولُه تعالى: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ على أنَّ عَهدَ المُشرِكِ ينتقِضُ بذلك؛ فإنَّه حتى لو كان مُستقيمًا فيه بدونِ نَكْثٍ؛ فإنَّ مُجاهَرتَنا بالشَّتيمةِ، والوقيعةِ في رَبِّنا ونَبِيِّنا وكتابِنا ودِينِنا، يقدحُ في الاستقامةِ، كما تقدَحُ مُجاهَرتُنا بالمحاربةِ، في العَهدِ، بل ذلك أشَدُّ علينا إنْ كنَّا مُؤمِنينَ .

6- دَعوةُ الذِّميِّ أو المُعاهَدِ إلى دينِه، وترغيبُه المسلمينَ إليه، مِن أَوْلى الأشياءِ أن ينتقِضَ العهدُ بها؛ فإنَّه حِرابُ الله ورسولِه باللِّسانِ، وقد يكون أعظَمَ مِن الحِرابِ باليَدِ، كما أنَّ الدَّعوةَ إلى اللهِ ورَسولِه جهادٌ بالقَلبِ وباللِّسانِ، وقد يكون أفضَلَ من الجهادِ باليَدِ. ولَمَّا كانت الدَّعوةُ إلى الباطِلِ مُستلزِمةً- ولا بُدَّ- للطَّعنِ في الحَقِّ، كان دعاؤُهم إلى دينِهم، وتَرغيبُهم فيه طعنًا في دينِ الإسلامِ، وقد قال تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ولا ريب أنَّ الطَّعنَ في الدِّينِ أعظَمُ مِن الطَّعنِ بالرُّمحِ والسَّيفِ، فأَوْلى ما انتقَضَ به العَهدُ الطَّعنُ في الدينِ، ولو لم يكُن مَشروطًا عليهم؛ فالشَّرطُ ما زادَه إلَّا تأكيدًا وقُوَّةً .

7- مَن كان مِن المؤمنينَ بأرضٍ هو فيها مُستضعَفٌ، أو في وقتٍ هو فيه مُستضعَفٌ؛ فليعمَلْ بآياتِ الصَّبرِ والصَّفحِ، وأمّا أهلُ القُوَّةِ فإنَّما يَعملونَ بآيةِ قِتالِ أئمَّةِ الكُفرِ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ الذين يطعَنونَ في الدِّينِ، وبآيةِ قِتالِ الذينَ أوتُوا الكتابَ حتى يعطُوا الجِزيةَ عن يدٍ وهم صاغِرونَ .

8- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ استدَلَّ به مَن قال: إنَّ الذِّميَّ يُقتَلُ إذا طعنَ في الإسلامِ، سواءٌ شَرَطَ انتقاضَ العَهدِ به أم لا. واستدَلَّ من قال بقَبولِ تَوبَتِه بِقَولِه: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ .

9- قال الله تعالى: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ مِن هاهنا أُخِذَ قَتلُ مَن سَبَّ الرَّسولَ، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه، أو مَن طعَنَ في دينِ الإسلامِ، أو ذَكَرَه بتنَقُّصٍ .

10- قال تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فسَمَّاهم أئمَّةَ الكُفرِ لِطعنِهم في الدِّينِ؛ فكُلُّ طاعِنٍ في الدِّينِ، فهو إمامٌ في الكُفرِ؛ وذلك لأنَّه علَّلَ ذلك بأنَّهم لا أيمانَ لهم، وذلك يشمَلُ جَميعَ النَّاكِثينَ الطَّاعِنينَ، ولأنَّ النَّكثَ والطَّعنَ وصفٌ مُشتَقٌّ مُناسِبٌ لِوجوبِ القِتالِ، وقد رُتِّبَ عليه بحرفِ الفاءِ تَرتيبَ الجَزاءِ على شرطِه، فإذا طعَنَ الذِّمِّيُّ في الدِّينِ، فهو إمامٌ في الكُفرِ، فيجِبُ قَتْلُه؛ لِقَولِه تعالى: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ولا يَمينَ له؛ لأنَّه عاهَدَنا على ألَّا يُظهِرَ عَيبَ الدِّينِ، وخالَفَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

- قولُهُ: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ الإضافةُ في سَبيلِهِ؛ للتَّشريفِ

.

- قَولُ اللهِ تعالى: اشْتَرَوْا بآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ مَفعولُ فَصَدُّوا مَحذوفٌ لِقَصدِ العُمومِ، أي: صَدُّوا كلَّ قاصدٍ .

- قولُهُ: إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فيه الافتتاحُ بحَرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للاهْتِمامِ بهذا الذَّمِّ لهم، وعبَّر عن عَمَلِهم بـ كانُوا يَعْمَلُونَ؛ للإشارةِ إلى أنَّه دَأَبٌ لهم، ومُتكرِّرٌ منهم .

2- قوله تعالى: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ

- في قولِه تعالى: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً تَكرارٌ لِمَعْنى قولِه: لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً؛ حيث ذُكِرَ الأوَّلُ وجُعِلَ جَزَاءً للشَّرْطِوَإِنْ يَظْهَرُوا، ثمَّ أُعيدَ ذَلِك تَقبيحًا لهم فقال: إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً . وفي تَكرارِ ذلِك بإبدالِ الضَّميرِ في قوله: فِيكُمْ بقولِه: فِي مُؤْمِنٍ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ إذ الأوَّلُ وقَعَ جوابًا لِقَولِه: وَإِنْ يَظْهَرُوا، والثاني وقَعَ إخبارًا عن تَقبيحِ حالِهم .

- قولُه: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فيه قَصْرٌ؛ وهو إمَّا أنْ يكونَ للمُبالغةِ في اعتدائِهم؛ لأنَّه اعتداءٌ عَظيمٌ باطِنيٌّ على قومٍ حالَفوهم وعاهَدوهم، ولم يُلْحِقوا بهم ضُرًّا مع تَمكُّنهم منه، وإمَّا أن يَكونَ قَصْرَ قَلْبٍ، أي: هم المعتَدُونَ لا أنتُم؛ لأنَّهم بَدؤُوكم بنَقضِ العَهْدِ .

- قولُه: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ عَطفٌ على جُملةِ: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً لِمُناسبةِ أنَّ إثباتَ الاعتداءِ العَظيمِ لهم، نَشَأ عن الحِقدِ- الشَّيءِ الذي أضمَرُوه للمُؤمِنينَ- لا لِشَيءٍ إلَّا لأنَّهم مُؤمِنونَ .

3- قَولُه تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

- فيه تَكرارُ قولِه: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لاختلافِ جزاءِ الشَّرطِ؛ إذْ جزاءُ الشَّرطِ في الأوَّلِ تَخليةُ سبيلِهم في الدُّنيا، وهو قَولُه تعالى: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، وفي الثَّاني إثباتُ أُخُوَّتِهم لنا في الدِّينِ، وهو قَولُه تعالى: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وهي ليستْ عينَ تَخليَتِهم، بل سَبَبُها .

- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ.

- قَولُه: فَإِخْوَانُكُمْ خبَرٌ لِمَحذوفٍ، أي: فَهُم إخوانُكم. وصِيغَ هذا الخبَرُ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ إيمانَهم يقتَضي ثباتَ الأُخُوَّةِ ودوامَها، تنبيهًا على أنَّهم يَعودونَ كالمُؤمِنينَ السَّابقينَ مِن قَبلُ، في أصلِ الأخُوَّةِ الدِّينيَّةِ .

- قولُهُ: وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اعتراضٌ؛ للحَثِّ على التَّأمُّلِ في الأحكامِ المُندرِجةِ في تَضاعيفِها، والمحافظةِ عليها ؛ فهو اعتراضٌ وتذييلٌ أيضًا، وعُطِفَ هذا التَّذييلُ على جُملةِ: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ؛ لأنَّه به أَعْلقُ؛ لأنَّهم إنْ تابوا فقد صاروا إخوانًا للمُسْلمين، فصاروا مِن قَومٍ يَعْلمونَ؛ إذ ساووا المُسلِمينَ في الاهتداءِ بالآياتِ المُفصَّلةِ .

4- قوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ

- قولُه: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ فيه التَّعبيرُ عن نَقْضِ العَهْدِ بنَكْثِ الأيمانِ؛ تَشنيعًا للنَّكْثِ .

- وزِيدَ قولُه: مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ زِيادةً في تَسجيلِ شناعةِ نَكْثِهم، بتذكيرِ أنَّه غَدْرٌ لعَهْدٍ .

- وقَولُ اللهِ تعالى: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ بعد قوله: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ مِن عَطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ فالطَّعنُ في الإسلامِ ضَربٌ مِن ضُروبِ نَكْثِ الأيمانِ، ونَقضِ السَّلْمِ والوَلاءِ، كالقِتالِ ومُظاهَرةِ الأعداءِ .

- قولُهُ: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فيه وَضْعُ المُظْهَرِ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ مَوضِعَ الضَّميرِ-  حيثُ لَم يَقُلْ: (فقاتِلوهم)-؛ لزيادةِ التَّشنيعِ عليهم ببُلوغِهم هذه المنزلةَ من الكُفْرِ، وللدَّلالةِ على أنَّهم صاروا بذلك ذَوي الرِّئاسةِ والتَّقدُّمِ في الكُفْرِ، أحقَّاءَ بالقَتْلِ. وعلى أنَّ المرادَ بالأئمَّةِ رؤساءُ المشركينَ؛ فالتَّخصيصُ إمَّا لأنَّ قَتْلَهم أهمُّ، وهُمْ به أحقُّ، أو للمَنْعِ من مُراقبتِهم ، أو خَصَّ الأئمَّةَ بالذِّكرِ؛ لأنَّهم هم الذين يُحرِّضونَ الأتباعَ على البقاءِ على الكُفْرِ .

- وجُملةُ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ تَعليلٌ لقِتالِهم بأنَّهم اسْتَحقُّوه لأجْلِ اسْتِخفافهم بالأَيْمانِ التي حَلَفوها على السَّلْمِ، فغَدَروا .

- ونَفْيُ الأَيْمانِ لهم: نفيٌ للماهيةِ الحقِّ لليَمينِ، وهي قَصْدُ تعظيمِه والوفاءِ به، فلمَّا لم يُوفُوا بأيمانِهم، نُزِّلتْ أيمانُهم مَنْزلةَ العَدَمِ؛ لفُقْدانِ أَخَصِّ خواصِّها، وهو العملُ بما اقْتَضتْه .

 

========

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (13-16)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات:

 

يُخْزِهِمْ: أي: يُذِلَّهم، والخِزْيُ: الهوانُ، وأصلُه: يدلُّ على الإبعادِ

.

وَلِيجَةً: أي: بِطَانةً، دُخَلاءَ مِن المُشرِكينَ يُخالِطونَهم ويودُّونَهم. وكلُّ شَيءٍ أدخَلْتَه في شَيءٍ وليسَ منه، يُقالُ له: (وَليجةٌ)، وأصلُ (ولج): يدلُّ على دخولِ شَيءٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَوْله تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ: اسم الجلالةِ مُبتدأٌ، وفي الخَبرِ وجهانِ؛ أحدُهما: أنَّه أَحَقُّ وعلى هذا فَقَولُه: أَنْ تَخْشَوْهُ بدلُ اشتمالٍ مِن اسمِ الجلالةِ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، أي: فخَشيةُ اللهِ أحقُّ مِن خَشيَتِهم. أو أَنْ تَخْشَوْهُ في محلِّ نصبٍ أو جَرٍّ على نزْعِ الخافِضِ، والتَّقديرُ: أحقُّ بأن تَخْشَوه. الثاني: أنَّ الخبَرَ جُملةُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فـأَحَقُّ خبَرٌ مُقدَّمٌ. وأَنْ تَخْشَوْهُ مبتدأٌ ثانٍ مُؤخَّرٌ، والجُملة خبَرُ اسمِ الجلالةِ، أي: فاللهُ خَشْيَتُه أحقُّ

.

وجُملةُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ استئنافيَّةٌ لا محلَّ لها مِن الإعرابِ، وجوابُ إِنْ مَحذوفٌ دلَّ عليه ما قَبلَه، أي: إنْ كُنتُم مُؤمِنينَ فاخْشَوُا اللهَ. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ عِبادَه المُؤمِنينَ قائلًا لهم: ألَا تُقاتِلونَ- أيُّها المؤمنونَ- المُشركينَ الذين نقَضُوا العَهدَ الذي بينكم وبَينَهم، وعَزَموا بقُلوبِهم على إخراجِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مكَّة، وهم بدَؤُوكم بنَقضِ العَهدِ الذي بينكم بقِتالِ حُلَفائِكم خُزاعةَ، أتخافونَهم؟! فاللهُ أحَقُّ أن تخافُوا منه إنْ كُنتم مُؤمِنينَ.

قاتِلُوهم- أيُّها المُؤمِنونَ- يُعَذِّبْهم اللهُ بأيديكم، ويُهِنْهم، ويَنصُرْكم عليهم، ويُداوِ اللهُ صُدورَ قَومٍ مُؤمنينَ، مما فيها من الألَمِ، ويُزِلِ الغَيظَ مِن قُلوبِهم، ويتوبُ سبحانه على مَن يَشاءُ مِن أولئك المُشرِكينَ، واللهُ عليمٌ حَكيمٌ.

أظَنَنتُم- أيُّها المُسلمونَ- أن يترُكَكم اللهُ دونَ أن يختبِرَكم بالجهادِ، فيعلَمَ الذين صَدَقوا في جهادِهم في سبيلِه، ولم يتَّخِذوا من دونِ اللهِ ولا رسولِه ولا المؤمنينَ بِطانةَ سُوءٍ مِن الكُفَّارِ، يُوالُونَهم ويُفشُونَ إليهم أسرارَ المُؤمِنينَ، واللهُ خَبيرٌ بما تَعملونَ.

تفسير الآيات:

 

أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قال تعالى: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، أتبَعَه بذِكرِ السَّبَبِ الذي يبعَثُهم على مُقاتَلَتِهم

، فقال تعالى:

أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ.

أي: ألَا تُقاتِلونَ- أيُّها المؤمنونَ- المُشرِكينَ الذين نقَضُوا العهدَ الذي بينَكم وبينهم ؟!

وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ.

أي: وعَزَموا بقُلوبِهم على إخراجِ رَسولِ اللهِ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن مكَّةَ .

كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] .

وقال سبحانه: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 76] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد: 13] .

وقال جلَّ جلالُه: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة: 1] .

وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

أي: وهَؤلاءِ المُشرِكونَ بَدَؤُوكم- أيُّها المُؤمِنونَ- بنَقضِ العَهدِ الذي بينكم، بقِتالِ حُلَفائِكم خُزاعةَ .

أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ .

أي: أتَخافُونَ- أيُّها المُؤمِنونَ- على أنفُسِكم مِن هؤلاءِ المُشرِكينَ، فتَترُكوا قتالَهم؛ لِئلَّا ينالَكم منهم مَكروهٌ؟ فاللهُ أَوْلى أن تخافُوا مِن عُقوبَتِه بتَركِكم جهادَ أولئكَ المُشرِكين، إن كُنتُم مُؤمِنينَ حقًّا .

كما قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175] .

قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بكَّتَ اللهُ تعالى المُؤمِنينَ في التَّواني عن قتالِ المُشرِكين، وأقام الحُجَجَ البَيِّنةَ على وُجوبِ قِتالِهم، ودَحْضِ شُبهةِ المانِعِ منه- صَرَّحَ بالأمرِ القَطعيِّ به، مع الوعد بإظهارِ المُؤمِنينَ عليهم أكمَلَ الظُّهورِ وأتَمَّه، بما يُزيلُ خَشْيَتَهم منهم، بل يُوجِبُ إقدامَهم عليهم، ورغبَتَهم فيهم ، فقال تعالى:

قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ.

أي: قاتِلوا- أيُّها المُؤمِنونَ- هؤلاءِ المُشرِكينَ الذين نقَضُوا عهودَهم؛ فإنَّكم إن تُقاتِلوهم يَقتُلْهم اللهُ بأيديكم .

وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ.

أي: ويُذِلَّهم اللهُ ويُهِنْهُم بالأسرِ، ويَمنَحْكم النَّصرَ عليهم .

وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ.

أي: ويُداوِ اللهُ صُدورَ قَومٍ مُؤمنينَ، ظَلَمَهم المُشرِكون وقَهَروهم، فتنشَرِحْ صُدورُهم بالانتصارِ عليهم وقَتْلِهم، وأَسْرِهم، ويَزُلْ ما حصَلَ في قُلوبِهم من الألَمِ .

وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان الشِّفاءُ في قَولِه تعالى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قد لا يُرادُ به الكَمالُ؛ أتبَعَه تحقيقًا لِكَمالِه بقَولِه :

وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ.

أي: ويُزِلِ اللهُ الغَيظَ الكامِنَ في قُلوبِ المُؤمِنينَ بِسبَبِ ظُلمِ الكُفَّارِ وقَهْرِهم لهم .

وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ.

أي: ويتوبُ اللهُ على مَن يَشاءُ أن يتوبَ عليهم من أولئك المُشركِينَ، بأن يُوفِّقَهم للدُّخولِ في الإسلامِ، ويَقبَلَ منهم التَّوبةَ مِن الكُفرِ والآثامِ .

وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

أي: واللهُ عليمٌ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بما يُصلِحُ عِبادَه، وعِلمُه بمن يستحِقُّ منهم التَّوفيقَ للتَّوبةِ، ومَن يستحِقُّ منهم الخِذلانَ عنها، حكيمٌ في أفعالِه وأقوالِه وشَرْعِه، يضَعُ كُلَّ شَيءٍ في موضِعِه اللَّائِقِ به، ومن ذلك حِكمَتُه في تَصريفِ عِبادِه مِن حالٍ إلى حالٍ .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16).

مَناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الآياتِ المُتقَدِّمةَ كانت مُرغِّبةً في الجهادِ، والمقصودُ مِن هذه الآيةِ مَزيدُ بَيانٍ في التَّرغيبِ .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ.

أي: أظَنَنْتُم- أيُّها المُسلِمونَ - أن يترُكَكم اللهُ دون أن يَخْتَبِرَكم بالجِهادِ، فيعلَمَ الصَّادِقينَ منكم الذين يُجاهِدونَ في سبيلِه، مِن الكاذِبينَ المُضَيِّعينَ ما أمَرَ به من جهادِ الكافرينَ؛ عِلمًا ظاهِرًا مَشهودًا يترتَّبُ عليه الثَّوابُ والعِقابُ ؟

كما قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142].

وقال سُبحانه: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179] .

وقال عزَّ وجَلَّ: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 1 - 3] .

وقال جلَّ جلاله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31] .

وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً.

أي: ولـمَّا يَعْلمِ الله الَّذين جاهدُوا مِنكم، والَّذين لم يتَّخِذوا مِن دُونِ اللهِ ولا رَسولِه ولا المُؤمِنينَ بِطانةَ سُوءٍ مِن الكُفَّارِ، يُوالُونَهم ويُفشُونَ إليهم أسرارَ المُؤمِنينَ .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة: 51 - 53] .

وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.

أي: واللهُ عَليمٌ بِجَميعِ أعمالِكم الخَفِيَّةِ- أيُّها المُسلِمونَ- فيُجازيكم عليها؛ إنْ خَيرًا فخَيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ، ومن ذلك اتِّخاذُ بِطانةٍ مِن الكافِرينَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ المُؤمِنَ ينبغي أن يَخشى ربَّه، وألَّا يَخشَى أحدًا سِواه

.

2- في قَولِه تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دليلٌ على أنَّ المُؤمِنَ حقَّ الإيمانِ يكونُ أشجَعَ النَّاسِ، وأعلاهم هِمَّةً؛ لأنَّه لا يخشى إلَّا اللهَ عَزَّ وجَلَّ .

3- قال اللهُ تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً المُجاهِدُ قد يُجاهِدُ، ولا يكونُ مُخلِصًا، بل يكونُ مُنافقًا، باطِنُه خلافُ ظاهِرِه، وهو الذي يتَّخِذُ الوليجةَ مِن دونِ الله ورسولِه والمُؤمنينِ، فبيَّنَ تعالى في هذه الآيةِ أنَّه لا يترُكُهم إلَّا إذا أتَوْا بالجهادِ مع الإخلاصِ؛ خاليًا عن النِّفاقِ والرِّياءِ، والتودُّدِ إلى الكُفَّارِ، وإبطالِ ما يُخالِفُ طريقةَ الدِّينِ، والمقصودُ بيانُ أنَّه ليس الغَرضُ مِن إيجابِ القتالِ نَفسَ القِتالِ فقط، بل الغَرَضُ أن يُؤتَى به انقيادًا لأمرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وِلِحُكمِه وتكليفِه؛ لِيَظهَرَ به بذلُ النَّفسِ والمالِ في طلَبِ رِضوانِ الله تعالى، فحينئذٍ يحصُلُ به الانتفاعُ، وأمَّا الإقدامُ على القتالِ لِسائِرِ الأغراضِ، فذاك ممَّا لا يُفيدُ أصلًا .

4- شَرَع اللهُ الجِهادَ؛ لِيَحصُلَ به مقصودٌ أعظَمُ، وهو أن يتميَّزَ الصَّادِقونَ، الذين لا يتحَيَّزونَ إلَّا لِدينِ الله، من الكاذبينَ الذين يزعُمونَ الإيمانَ، وهم يتَّخِذونَ الولائِجَ والأولياءَ مِن دونِ الله ورَسولِه والمُؤمِنينَ؛ قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ، كذلك جَرَت سنَّةُ اللهِ تعالى بالابتلاءِ؛ لينكشِفَ الخَبيءُ، وتتمَيَّزَ الصفوفُ، وتتمَحَّصَ القلوبُ، ولا يكون ذلك كما يكونُ بالشَّدائِدِ والتَّكاليفِ والمِحَن والابتلاءاتِ

5- قال الله تعالى: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً، ولا وَليجةَ أعظَمُ ممَّن جعَلَ رَجُلًا بِعَينِه مُختارًا على كلامِ اللهِ، وكَلامِ رَسولِه، وكلامِ سائِرِ الأمَّةِ، يُقَدِّمُه على ذلك كُلِّه، ويَعْرِضُ كتابَ اللهِ وسُنَّةَ رَسولِه وإجماعَ الأمَّةِ على قَولِه، فما وافَقَه منها قَبِلَه؛ لِمُوافَقتِه لِقَولِه، وما خالَفَه منها تلطَّفَ في ردِّه، وتطَلَّبَ له وُجوهَ الحِيَلِ، فإن لم تكُنْ هذه وليجةً، فلا نَدرِي ما الوليجةُ ؟!

6- يجِبُ على الإنسانِ أن يُبالغَ في أمرِ النيَّةِ ورعايةِ القَلبِ؛ قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي: عالِمٌ بنيَّاتِهم وأغراضِهم، مُطَّلِعٌ عليها لا يخفى عليه منها شيءٌ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ يدُلُّ على أنَّ قِتالَ النَّاكثينَ أَوْلى مِن قِتالِ غَيرِهم من الكُفَّارِ؛ لِيكونَ ذلك زَجرًا لِغَيرِهم

.

2- مُؤاخَذتُهم على مُجَرَّدِ الهَمِّ بإخراجِ الرَّسولِ في قَولِ الله تعالى: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ تدُلُّ على أنَّهم لم يُخرِجوه، وإلَّا لكان الأجدَرُ أن يَنعَى عليهم الإخراجَ لا الهَمَّ به ، وهذا على أحدِ أوجهِ التفسيرِ للآيةِ.

3- قَولُ الله تعالى: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ  إنَّما قال: بَدَءُوكُمْ تنبيهًا على أنَّ البادِئَ أظلمُ .

4- إن قيل: أليسَ قال اللهُ تعالى في سورةِ الأنفالِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] فكيف قال تعالى هنا: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ فالجَوابُ: أنَّ المُرادَ مِن قَولِه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ عذابُ الاستئصالِ، والمرادُ مِن قَولِه: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ عذابُ القَتلِ والحَربِ. والفَرقُ بين البابَينِ أنَّ عَذابَ الاستئصالِ قد يتعَدَّى إلى غيرِ المُذنِبِ، وإن كان في حَقِّه سببًا لِمَزيدِ الثَّوابِ، أمَّا عذابُ القَتلِ فالظَّاهِرُ أنَّه يَبقَى مقصورًا على المُذنِبِ .

5- في قوله تعالى: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ إثباتُ تأثيرِ الأسبابِ؛ حيث بيَّن اللهُ تعالى أنَّه هو المُعَذِّبُ؛ وأنَّ أيديَنا أسبابٌ وآلاتٌ وأوساطٌ وأدواتٌ في وصولِ العَذابِ إلى المُشرِكينَ هؤلاء .

6- قَولُ الله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ فيه دليلٌ على أنَّ شِفاءَ الصُّدورِ مِن ألَمِ النَّكثِ والطَّعنِ، وذَهابَ الغَيظِ الحاصِلِ في صدورِ المُؤمِنينَ مِن ذلك؛ أمرٌ مَقصودٌ للشَّارِعِ، مطلوبُ الحُصولِ، وأنَّ ذلك يحصُلُ إذا جاهَدُوا ، فدلَّ على مَحبَّةِ اللهِ لعبادِه المُؤمِنينَ، واعتنائِه بأحوالِهم، حتى إنَّه جعَلَ مِن جُملةِ المقاصِدِ الشَّرعيَّةِ شِفاءَ ما في صُدورِهم، وذَهابَ غَيظِهم .

7- قَولُ الله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ دالٌّ على المُعجِزة؛ لأنَّه تعالى أخبَرَ عن حصولِ هذه الأحوالِ، وقد وقَعَت مُوافِقةً لهذه الأخبارِ، فيكونُ ذلك إخبارًا عن الغَيبِ، والإخبارُ عن الغَيبِ مُعجِزٌ .

8- قَولُ الله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يدلُّ على كَونِ الصَّحابةِ مُؤمِنينَ في عِلمِ الله تعالى إيمانًا حَقيقيًّا؛ لأنَّها تدُلُّ على أنَّ قُلوبَهم كانت مملوءةً من الغَضَبِ ومن الحمِيَّةِ؛ لأجلِ الدِّينِ، ومن الرَّغبةِ الشَّديدةِ في عُلُوِّ دِينِ الإسلامِ، وهذه الأحوالُ لا تحصُلُ إلَّا في قلوبِ المُؤمِنينَ .

9- ذكَرَ الله تعالى ما تسبَّبَ عن النَّصرِ مِن شفاءِ صُدورِ المُؤمِنينَ، وإذهابِ غَيظِهم في قَولِه: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ؛ تتميمًا للنِّعَم، فذكَرَ ما تسبَّبَ عن النَّصرِ بالنِّسبةِ للكُفَّارِ، وذكَرَ ما تسبَّبَ للمُسلمينَ مِن الفَرَحِ والسُّرورِ بإدراكِ الثَّأرِ، ولم يذكُرْ ما نالوه من المغانِمِ والمطاعِمِ؛ إذ العَرَبُ قَومٌ جُبِلوا على الحميَّةِ والأنَفةِ، فرَغْبَتُهم في إدراكِ الثَّأرِ وقَتلِ الأعداءِ هي اللَّائقةُ بِطِباعِهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

- قولُه: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ دخَلتِ الهَمزةُ على (لا تُقاتِلُونَ) تَقريرًا بانْتِفاءِ المُقاتَلةِ، ومعناه: الحَضُّ عليها على سَبيلِ المُبالَغةِ

.

- قولُهُ: أَتَخْشَوْنَهُمْ اسْتِفهامٌ على مَعْنى التَّقريرِ والتَّوبيخِ؛ فهو تَقريرٌ للخَشيةِ منهم، وتَوبيخٌ عليها .

2- قَولُه تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ

- قولُه: قَاتِلُوهُمْ تجريدٌ للأمرِ بالقِتالِ بعدَ التَّوبيخِ على ترْكِهِ، ووَعْدٌ بنَصْرِهم، وبتَعذيبِ أعدائِهم وإخزائهم، وتَشجيعٌ لهم .

3- قولُه تعالى: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

- قولُه: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ كلامٌ مُستأنَفٌ يُنبِئُ عمَّا سيكونُ من بعضِ أَهْلِ مَكَّةَ، من التَّوبةِ المقبولةِ بحسَبِ مَشيئتِه تعالى المَبنيَّةِ على الحِكَمِ البالِغةِ .

- قال تعالى هنا: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وقال فيما بعد: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 27] فاستَوَتِ الآيتانِ في إعلامِه تعالى نبيَّه والمُؤمِنينَ أنَّه يتوبُ على من يشاءُ، وفى خَتْمِ الآيتينِ بِصِفَتينِ مِن صِفاتِه سُبحانه، ثم اختلفَتِ الصِّفَتانِ، فقيل في الأولى: عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وفى الثَّانية: غَفُورٌ رَحِيمٌ؛ وذلك لِمُناسَبةٍ حَسَنةٍ: أنَّ الآيةَ الأُولى أُعقِبَ بها ما تقَدَّمَها مُتَّصِلًا بها مِن الآيِ في كُفَّارِ مَكَّةَ، وفِعْلِهم مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه؛ مِن التَّضييقِ والإخراجِ، وبَدْئِهم بالقتالِ يومَ بَدرٍ، ونَقضِهم العهدَ في قصَّةِ خُزاعةَ في صُلحِ الحُديبِيَةِ، فأمَرَ اللهُ تعالى بقِتالِهم وخِزْيِهم، والنَّصرِ عليهم، وشفاءِ صُدورِ مَن آمنَ مِن خُزاعةَ وغَيرِهم ممَّن آذَوْه، فقال تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ثمَّ قال تعالى: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ثمَّ قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، أي: بما في القِتالِ، وفي طَيِّ ما جرى من ذلك كلِّه بِتَقديرِه السَّابِقِ أوَّلًا؛ إذ لا تتحَرَّكُ ذرَّةٌ إلَّا بإذنِه وتقَدُّمِ عِلْمِه أَوَّلًا، وما في ذلك من الحكمةِ، وخَتَم أفعالَهم السيِّئةَ بالأوبةِ والرُّجوعِ إليه سبحانَه بِسابِقِ سَعادةٍ لِمَن شاهَدَها له منهم؛ فهذا وَجهُ النَّظمِ، والتَّناسُبُ فيه واضِحٌ.

وأمَّا الآيةُ الثَّانيةُ فسَبَبُها- والله أعلَمُ- ما جرى يومَ حُنَينٍ مِن تولِّي النَّاسِ مُدبِرينَ، حين ابتُلُوا بإعجابِهم بكَثرتِهم، فلم تُغنِ عنهم شيئًا، ولم يثبُتْ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك اليومِ أحَدٌ؛ إذ لم يَبرَحْ عليه السَّلامُ مِن مكانِه، فلم يثبُتْ معه إلَّا القَليلُ مِن العَدَدِ القليلِ، فنادى العباسُ رضي الله عنه بآلِ الأنصارِ فاستجابَ ناسٌ، وأنزَلَ اللهُ سَكينتَه على رسولِه وعلى المُؤمِنينَ، ومكَّنَ نبيَّه والمُسلِمينَ من أعدائِهم، فخُتِمَت هذه الآيُ بِقَولِه تعالى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ؛ تأنيسًا لِمَن فَرَّ مِن المسلمينَ في ذلك اليومِ، وبِشارةً لهم بتوبةِ اللهِ عليهم، وأنَّ ما وقع منهم من الفِرارِ مَغفورٌ لهم؛ رحمةً مِن اللهِ سبحانه، فجاء كلُّ هذا على ما يناسِبُ، ولا يُلائِمُ خِلافُه .

- قولُه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذييلٌ؛ لإفادةِ أنَّ الله يُعامِلُ النَّاسَ بما يَعْلمُ مِن نيَّاتِهم، وأنَّه حَكيمٌ لا يأمُرُ إلَّا بما فيه تَحقيقُ الحِكْمةِ؛ فوَجَبَ على النَّاسِ امْتِثالُ أوامِرِه، وأنَّه يَقْبلُ تَوبةَ مَن تاب إليه؛ تَكثيرًا للصَّلاحِ .

4- قَولُه تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

- قولُه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا (أَمْ) مُنْقَطِعةٌ؛ لإفادةِ الإضرابِ عن غَرضٍ من الكلامِ للانْتِقال إلى غَرَضٍ آخَرَ، والكلامُ بَعْدَ (أَمْ) المُنْقطِعةِ له حُكْمُ الاسْتِفهامِ دائمًا؛ فقولُه: حَسِبْتُمْ في قوَّةِ (أَحَسِبْتُمْ)، والاسْتِفهامُ المُقدَّرُ إنكاريٌّ .

- وتَنكيرُ وَلِيجَةً في سِياقِ النَّفْيِ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً يَعُمُّ سائرَ أفرادِها .

- وجملةُ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ تَذييلٌ؛ لإنكارِ ذلك الحُسبانِ، أي: لا تَحسبوا ذلك مع عِلمِكم بأنَّ اللهَ خَبيرٌ بكلِّ ما تَعملونَه .

============

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (17-19)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات:

 

سِقَايَةَ الْحَاجِّ: أي: سَقْيَ الحَجيجِ، و(سقاية) مصدرٌ مِن (سقى)، وأصلُ (سقي): إشرابُ الشيءِ الماءَ، وما أشبهَه

.

وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ: أي: القِيامَ بِمَصالِحِه ومُعاهَدتَه. والعِمارةُ: نَقيضُ الخَرابِ، و(عمارة) مصدرُ (عمَر)، وأصلُ (عمر): يدلُّ على بقاءٍ، وامتدادِ زمانٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ تعالى أنَّه لا ينبغي للمُشرِكينَ أن يَعمُرُوا مساجِدَ الله ببنائِها أو التعبُّدِ فيها، والحالُ أنَّهم شاهِدونَ على أنفُسِهم بالكُفرِ، أولئك بطَلَت أعمالُهم، وهم في نارِ جهنَّمَ، ماكثونَ فيها على الدَّوامِ.

وأخبَرَ تعالى أنَّ مساجِدَ اللهِ يعمُرُها مَن آمَنَ باللهِ وبالبَعثِ والقيامةِ، وأقام الصَّلاةَ المكتوبةَ بِحُدودِها، وأدَّى الزَّكاةَ المَفروضةَ إلى مُستحِقِّيها، ولم يخَفْ إلَّا اللهَ تعالى، فعسَى أولئك أن يكونُوا من المُهتَدينَ.

ثم يقولُ تعالى: أجعَلْتُم- أيُّها النَّاسُ- أصحابَ سِقايةِ الحجيجِ وعِمارةِ المَسجِدِ الحرامِ، كمَن آمَنَ باللهِ وباليومِ الآخِرِ، وجاهدَ في سبيلِ الله، بل لا يَستوونَ عندَ اللهِ، واللهُ لا يهدي القَومَ الظَّالِمينَ.

تفسير الآيات:

 

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه تعالى بدأ السُّورةَ بذِكرِ البراءةِ من الكُفَّارِ، وبالَغَ في إيجابِ ذلك، وذكرَ مِن أنواعِ فضائِحِهم وقبائِحِهم ما يُوجِبُ تلك البراءةَ، ثمَّ إنَّه تعالى حكى عنهم شُبَهًا احتجُّوا بها في أنَّ هذه البراءةَ غيرُ جائزةٍ، وأنَّه يجِبُ أن تكونَ المُخالَطةُ والمُناصَرةُ حاصلةً؛ فأوَّلُها ما ذكَرَه في هذه الآيةِ، وذلك أنَّهم موصوفونَ بصِفاتٍ حَميدةٍ وخِصالٍ مَرضِيَّةٍ، وهي تُوجِبُ مُخالَطتَهم ومُعاوَنتَهم ومُناصَرتَهم، ومن جملةِ تلك الصِّفاتِ كَونُهم عامرينَ للمَسجِدِ الحَرامِ

.

وأيضًا لَمَّا حَذَّرَهم اللهُ تعالى منِ اتِّخاذِ وليجةٍ مِن دُونِه، شرَعَ يُبَيِّنُ أنَّ الوليجةَ التي يتَّخِذُها بعضُهم لا تصلُحُ للعاطفةِ بما اتَّصَفَت به من محاسِنِ الأعمالِ، ما لم تُوضَعْ تلك المحاسِنُ على الأساسِ الذي هو الإيمانُ الـمُبَينُ بدَلائِلِه، فقال سائقًا له مَساقَ جَوابِ قائلٍ قال: إنَّ فيهم مِن أفعالِ الخَيرِ ما يدعو إلى الكَفِّ عنهم؛ من عمارةِ المسجِدِ الحرامِ وخِدمَتِه وتَعظيمِه .

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ.

أي: ما ينبغي للمُشركينَ أن يَعمُروا مساجِدَ اللهِ ببِنائِها وتزيينِها، والعبادةِ فيها، والحالُ أنَّهم شاهِدونَ على أنفُسِهم بالكُفرِ ؛ بما يأتُونَه من أقوالٍ وأفعالٍ كُفريَّةٍ، يُقِرُّونَ بها، ولا يُمكِنُهم إنكارُها .

أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ.

أي: أولئك المُشرِكونَ قد بَطَلَت أعمالُهم- ومنها عِمارةُ البَيتِ الحَرامِ- فلا يُؤجَرونَ عليها في الآخرةِ؛ بِسَبَبِ شِرْكِهم .

كما قال سُبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15-16] .

وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] .

وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ.

أي: وأولئك المُشرِكونَ في نارِ جهنَّمَ، ماكِثونَ فيها على الدَّوامِ .

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ.

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى عدَمَ استحقاقِ المُشرِكينَ لِعِمارةِ مَساجِدِ اللهِ، أثبَتَها للمُسلِمينَ الكامِلينَ، وجَعَلَها مقصورةً عليهم بالفِعلِ لا بمجَرَّدِ الشَّأنِ والاستحقاقِ ، فقال تعالى:

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.

أي: ما يَعمُرُ مَساجِدَ اللهِ حقًّا- بقَصْدِها وعبادةِ اللهِ تعالى وذِكْرِه فيها، وببنائِها وتَرميمِها والعنايةِ بها - إلَّا المُؤمِنُ باللهِ عزَّ وجلَّ، وبالبَعْثِ والقيامةِ .

كما قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 36-37] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] .

وقال سُبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة: 114] .

وعن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ((مَن بنى مَسجِدًا يبتغي به وَجهَ اللهِ، بنى اللهُ له مِثلَه في الجنَّةِ )) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ يَومَ القيامةِ في ظِلِّه، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه)) وذَكَرَ منهم: ((ورجُلٌ قَلبُه مُعَلَّقٌ في المسجِدِ )) .

وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ.

أي: وأقام الصَّلاةَ المَكتوبةَ بِحُدودِها، وأدَّى الزَّكاةَ الواجبةَ عليه في مالِه إلى مُستحِقِّيها، ولم يَخَفْ إلَّا اللهَ تعالى وَحْدَه، فلم يترُكْ أمرَ اللهِ ونَهْيَه؛ لِخَشيةِ غَيرِه .

فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ.

أي: فعُمَّارُ المَساجِدِ المُؤمِنونَ بالله وباليومِ الآخِرِ، المقيمونَ الصَّلاةَ والمؤتونَ الزكاةَ، الذين يَخشَونَ اللهَ تعالى وَحدَه، هم مِن الذينَ هداهم اللهُ للتمَسُّك بالحَقِّ الـمُوصِلِ إلى الجنَّةِ .

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19.

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا وقَعَ الكلامُ على أنَّ المُؤمِنينَ هم الأحِقَّاءُ بعِمارةِ المَسجِدِ الحرامِ مِن المُشرِكينَ؛ دلَّ ذلك الكلامُ على أنَّ المَسجِدَ الحَرامَ لا يحِقُّ لِغَيرِ المُسلِمِ أن يُباشِرَ فيه عملًا مِن الأعمالِ الخاصَّةِ به، فكان ذلك مَثارَ ظَنٍّ بأنَّ القِيامَ بِشَعائِرِ المسجِدِ الحرامِ مُساوٍ للقيامِ بأفضَلِ أعمالِ الإسلامِ .

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ .

أي: أجَعَلْتُم - أيُّها النَّاسُ- أصحابَ سَقْيِ الحَجيجِ وعمارةِ المَسجِدِ الحرامِ المُشركينَ، كالمؤمنينَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، والمجاهدينَ في سبيلِ اللهِ ؟!

عن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كنتُ عند مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رجلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عَمَلًا بعد الإسلامِ إلَّا أنْ أسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عَمَلًا بعد الإسلامِ إلَّا أن أعمُرَ المَسجِدَ الحَرامَ، وقال آخَرُ: الجِهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلتُم، فزَجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَومُ الجُمُعةِ، ولكِنْ إذا صَلَّيْتُ الجُمُعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتُم فيه، فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية إلى آخِرِها )) .

لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ.

أي: لا يجعَلُ اللهُ سُقاةَ الحاجِّ وعُمَّارَ المسجِدِ الحرامِ مِن الكُفَّارِ، في منزلةِ المُؤمِنينَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، والمُجاهِدينَ في سبيلِ الله .

كما قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] .

وقال سبحانه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم: 35-36] .

وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا نفى اللهُ عزَّ وجلَّ المُساواةَ بين الفَريقينِ، أوضَحَ مَن الراجِحُ مِنهما، ولَمَّا أثبَتَ الهِدايةَ للمُؤمِنينَ بِقَولِه: فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، نفاها عن المُشرِكينَ فقال :

وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

أي: واللهُ لا يوفِّقُ للتَّوبةِ، ولِفِعلِ الأعمالِ الصَّالحةِ، الكُفَّارَ والمُشرِكينَ، ومنهم أهلُ سِقايةِ الحاجِّ وعِمارةِ المَسجِدِ الحرامِ، مِن المُشرِكينَ الذين ظَلَموا بمُساواةِ أعمالِهم هذه بالإيمانِ باللهِ وباليومِ الآخِرِ والجهادِ في سبيلِ اللهِ، فوَضَعوا الأشياءَ في غيرِ مواضِعِها

 

.

كما قال تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 27] .

وقال سبحانه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ في ضِمنِ هذا الخبَرِ أمرُ المؤمنينَ بعِمارةِ المَساجِدِ، ويتناوَلُ عِمارَتُها رَمَّ ما تهدَّمَ منها، وتنظيفَها، وتنويرَها، وتعظيمَها، واعتيادَها للعِبادةِ والذِّكرِ- ومِن الذِّكرِ دَرسُ العِلمِ، بل هو أجَلُّه- وصَونَها عمَّا لم تُبْنَ له

.

2- عُمَّارُ المَساجِدِ على الحقيقةِ، وأهلُها الذينَ هم أهلُها؛ موصوفونَ بالإيمانِ النَّافِعِ، وبالقيامِ بالأعمالِ الصَّالحةِ التي أمُّها الصَّلاةُ والزَّكاةُ، وبخشيةِ الله التي هي أصلُ كُلِّ خَيرٍ؛ يُبيِّنُ ذلك قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فيه أنَّ أولئك الجامعينَ لهذه الخَمسِ مِن أركانِ الإيمانِ والإسلامِ- التي يلزَمُها سائِرُ أركانِها- هم الذين يرجُونَ بحَقٍّ، أو يُرجَى لهم بحسَبِ سُنَنِ اللهِ في أعمالِ البشَرِ، وتأثيرِها في إصلاحِهم؛ أن يكونوا من جماعةِ المُهتَدينَ إلى ما يُحِبُّ اللهُ ويرضى مِن عمارةِ مَساجِدِه حِسًّا ومعنًى، واستحقاقِ الجَزاءِ عليها بالجنَّةِ خالدين فيها، دونَ غَيرِهم من المُشرِكينَ الجامِعينَ لأضدادِها .

4- قَولُ اللهِ تعالى: فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (عسى) مِن اللهِ تعالى: واجِبةٌ حيثما وقعَتْ في القُرآنِ، وفي ذلك قَطعُ أطماعِ المُشرِكينَ أن يكونوا مُهتَدينَ؛ إذ مَن جمَعَ هذه الخِصالَ جُعِلَ حالُه حالَ مَن تُرجَى له الهدايةُ، فكيف بمن هو عارٍ منها، وفي ذلك ترجيحُ الخَشيةِ على الرَّجاءِ، ورَفْضُ الاغترارِ بالأعمالِ الصَّالحةِ، فربَّما دخَلَها بعضُ المُفسِداتِ وصاحِبُها لا يشعُرُ بها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الكافِرَ ممنوعٌ مِن عمارةِ مَسجِدٍ مِن مساجِدِ المُسلمينَ، ولو أوصى بها لم تُقبَلْ وصيَّتُه، ويُمنَعُ عن دخولِ المَساجِدِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ يدلُّ على أنَّ عَمَلَ الكافِرِ مُحبَطٌ لا ثوابَ فيه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ احتُجَّ بهذه الآيةِ على أنَّ الفاسِقَ مِن أهلِ الصَّلاةِ لا يبقى مُخلَّدًا في النَّارِ مِن وَجهَينِ: أنَّ قَولَه: وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ يُفيدُ الحَصرَ، أي: هم فيها خالِدونَ لا غيرُهم، ولَمَّا كان هذا الكلامُ واردًا في حَقِّ الكُفَّارِ، ثبت أنَّ الخُلودَ لا يحصُلُ إلَّا للكافِرِ. والثاني: أنَّه تعالى جعَلَ الخُلودَ في النَّارِ جَزاءً للكُفَّارِ على كُفرِهم،  فلو كان هذا الحُكمُ جَزاءً لِغَيرِ الكافِرِ، لَمَا صَحَّ تهديدُ الكافِرِ به .

4- قَولُه تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ دليلٌ على أنَّ الشَّهادةَ لعُمَّارِ المساجِدِ بالإيمانِ صحيحةٌ؛ لأنَّ اللهَ سُبحانه ربَطَه بها، وأخبَرَ عنه بمُلازَمتِها. وقد قال بعضُ السَّلَفِ: (إذا رأيتم الرَّجُلَ يعمُرُ المَسجِدَ، فحَسِّنُوا به الظَّنَّ) .

5- قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ جرتِ العادةُ أنَّ اللَّهَ يذكرُ الإيمانَ باليومِ الآخِرِ مع الإيمانِ به؛ لأَنَّ الكُفرَ باليومِ الآخِرِ سببٌ لكلِّ البَلايا، وأنواعِ الكُفرِ والجحودِ؛ لأنَّ مَطامِعَ العُقلاءِ محصورةٌ في أمرينِ؛ هما: جلبُ النَّفعِ، ودفعُ الضرِّ، والذي لا يُصدِّقُ بيومِ القيامةِ لا يرغَبُ في خيرٍ في ذلك اليَومِ، ولا يخافُ من شَرٍّ في ذلك اليومِ، فلا يَنزَجِرُ عن شيءٍ، ولا يَرعَوي عن شيءٍ؛ ولذا كان التَّكذيبُ بالبعثِ من أشنعِ أنواعِ الكُفرِ باللهِ جلَّ وعلا .

6- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ اعتبارُ إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ في عِمارةِ المسجِدِ، كأنَّه يدلُّ على أنَّ المُرادَ مِن عِمارة المسجِدِ الحضورُ فيه؛ وذلك لأنَّ الإنسانَ إذا كان مُقيمًا للصَّلاةِ، فإنَّه يحضُرُ في المسجِدِ، فتحصُلُ عِمارةُ المسجِدِ به، وإذا كان مُؤتيًا للزَّكاةِ، فإنَّه يحضُرُ في المسجِدِ طوائفُ الفُقَراءِ والمساكينِ لِطَلبِ أخْذِ الزَّكاةِ، فتحصُلُ عِمارةُ المسجِدِ به. وإذا حَمَلْنا العِمارةَ على مصالِحِ البِناءِ: فإيتاءُ الزَّكاةِ مُعتبَرٌ في هذا البابِ أيضًا؛ لأنَّ إيتاءَ الزَّكاةِ واجِبٌ، وبناءَ المسجِدِ نافلةٌ، والإنسانُ ما لم يَفرُغْ عن الواجِبِ لا يَشتغِل بالنَّافلةِ، والظَّاهِرُ أنَّ الإنسانَ ما لم يكُن مؤدِّيًا للزَّكاةِ لم يشتغِلْ ببناءِ المَساجدِ .

7- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ناسبَ ذِكرُ إيتاءِ الزَّكاةِ مع عمارةِ المَساجِدِ؛ لأنَّها لَمَّا كانت مَجمَعًا للنَّاسِ بانَ فيها أمْرُ الغَنيِّ والفقيرِ، وعُرِفَت أحوالُ منَ يؤدِّي الزَّكاةِ، ومَن يستحِقُّها .

8- قَولُ اللهِ تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ فيه أنَّ الجهادَ والإيمانَ باللهِ أفضَلُ مِن سقايةِ الحاجِّ وعمارةِ المسجِدِ الحرامِ بدرجاتٍ كثيرةٍ؛ لأنَّ الإيمانَ أصلُ الدِّينِ، وبه تُقبَلُ الأعمالُ، وتزكو الخِصالُ، وأمَّا الجِهادُ في سبيلِ اللهِ فهو ذِروةُ سَنامِ الدِّينِ، الذي به يُحفَظُ الدِّينُ الإسلاميُّ ويتَّسِعُ، ويُنصَرُ الحقُّ، ويُخذَلُ الباطِلُ، وأمَّا عِمارةُ المسجِدِ الحرامِ وسِقايةُ الحاجِّ، فهي وإنْ كانت أعمالًا صالحةً، فهي مُتوقِّفةٌ على الإيمانِ، وليس فيها مِن المصالِحِ ما في الإيمانِ والجهادِ؛ فلذلك قال: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ

- قولُه: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ابتداءُ ذمٍّ لهم، وجِيءَ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ الذي فيه معنى البُعدِ؛ لأنَّهم قد تميَّزوا بوَصْفِ الشَّهادةِ على أَنْفُسِهم بالكُفْرِ

.

- قولُهُ: وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ فيه إيرادُ الجُملةِ الاسميَّةِ؛ للمُبالَغةِ في الدَّلالةِ على الخُلودِ، والظَّرفُ وَفِي النَّارِ مُتعلِّقٌ بالخَبَرِ خَالِدُونَ، وقُدِّم عليه؛ للاهْتِمام به، ولمُراعاةِ الفاصِلَةِ ، وليحصُل منه تعجيلُ المَساءةِ للكُفَّارِ إذا سَمِعوه .

2- قَولُه تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ

- وقولُه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ... استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ جُملةَ: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ لَمَّا اقْتَضتْ إقْصاءَ المشركينَ عن العبادةِ في المساجِدِ، كانتْ بحيثُ تُثيرُ سؤالًا في نُفوسِ السَّامعينَ أن يَتطلَّبوا مَن هم الأحقَّاءُ بأنْ يَعْمُروا المساجدَ، فكانتْ هذه الجُمْلةُ مُفيدةً في جوابِ هذا السَّائلِ .

- ومجيءُ صيغةِ القَصْرِ إِنَّمَا فيها مُؤذِنٌ بأنَّ المقصودَ إقصاءُ فِرَقٍ أُخْرى عن أنْ يَعْمُروا مَساجدَ اللهِ غيرِ المشركينَ الذين كان إقصاؤُهم بالصَّريحِ؛ فتعيَّن أنْ يكونَ المرادُ من الموصولِ وصِلتِه خُصوصَ المُسلمينَ؛ لأنَّ مجموعَ الصِّفاتِ المذكورةِ في الصِّلةِ لا يَثْبُتُ لغيرِهم .

- قولُه: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فيه قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، وذلك باعتبارِ تعارُضِ خَشْيَتين، فإذا ترَدَّدَ الحالُ بينَ خشْيَتِهم اللَّه وخشْيَتِهم غيرَه قَدَّموا خشيةَ اللَّه على خشيةِ غيرِه، كقولِه آنِفًا: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ [التَّوْبَة: 13] وليس المرادُ مِن القصرِ أنَّهم لا يخافونَ شيئًا غيرَ اللَّه، فإنَّهم قد يَخافونَ الأسدَ، ويخافونَ العدُوَّ .

- قولُه: فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فيه تَبْعيدٌ للمُشركينَ عن مواقفِ الاهتداءِ، وحَسْمٌ لأطماعِهم من الانْتِفاعِ بأعمالِهم التي اسْتَعظموها، وافْتَخروا بها، وأمَّلوا عاقِبَتَها، بأنَّ الذين آمنوا وضَمُّوا إلى إيمانِهم العملَ بالشَّرائعِ مع اسْتِشعارِ الخشيةِ والتَّقوى؛ اهتداؤُهم دائرٌ بين (عسى) و(لعلَّ)؛ فما بالُ المشركينَ يَقْطَعون أنَّهم مُهتدونَ، ونائلونَ عند اللهِ الحُسْنى ؟!

- والتعبيرُ عنهم باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم اسْتَحقُّوا هذا الأملَ فيهم بسَببِ تلك الأعمالِ التي عُدَّتْ لهم .

3- قَولُه تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

- الاسْتِفهامُ في أَجَعَلْتُمْ للإنكارِ؛ وهو إنكارُ أن يُشبَّه المشرِكونَ، وأعمالُهم المُحبَطةُ، بالمؤمنِينَ، وأعمالِهم المُثْبَتةِ، وجَعَلَ تَسويتَهم ظُلمًا، بعدَ ظُلْمِهم بالكُفْرِ .

- والخِطابُ في هذه الآيةِ إمَّا للمُشركينَ على طريقةِ الالتِفاتِ، وهو المتبادِرُ من تخصيصِ ذكرِ الإيمانِ بجانبِ المشبَّهِ به، وإمَّا لبعض المؤمنِينَ المؤْثِرين للسِّقاية والعِمارةِ ونحوِهما على الهِجرَةِ والجِهادِ ونظائرِهما، وهو المناسِبُ للاكتفاءِ في الردِّ عليهم ببيانِ عَدمِ مساواتِهم عند اللهِ للفريق الثاني، وبيانِ أعظميةِ درجتِهم عند الله تعالى على وجه يُشعر بعدم حِرمانِ الأَوَّلين بالكُليَّةِ. أمَّا على الأوَّلِ فهو توبيخٌ للمشركين، ومدارُه على إنكار تشبيهِ أنفسِهم- مِن حيثُ اتصافُهم بوصفَيْهم المذكورينِ، مع قطعِ النظرِ عمَّا هُم عليهِ من الشركِ- بالمؤمنين، مِن حيث اتصافُهم بالإيمان والجهاد، أو على إنكارِ تشبيهِ وصفيهم المذكورين في حدِّ ذاتِهما، مع الإغماضِ عن مقارنتِهما للشِّرك بالإيمانِ والجهادِ، وأمَّا اعتبارُ مقارنتِهما له، كما قيل، فيأباه المقامُ، كيف لا وقد بيِّن آنفًا حبوطُ أعمالِهم بذلك الاعتبارِ بالمرة، وكونُها بمنزلة العدم، فتوبيخُهم بعد ذلك على تشبيهِهما بالإيمانِ والجهادِ، ثم رَدُّ ذلك بما يُشعر بعدم حِرمانِهم عن أصل الفضيلة بالكلية، كما أشير إليه، ممَّا لا يساعدُهُ النظمُ التنزيليُّ، ولو اعتُبر ذلك لما احتيج إلى تقريرِ إنكارِ التشبيهِ وتأكيدِه بشيء آخرَ؛ إذ لا شيءَ أظهرُ بطلانًا مِن تشبيهِ المعدومِ بالموجودِ .

- قولُه: كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لم يُذْكَرِ الإيمانُ بالرِّسولِ؛ لأنَّ الإيمانَ باليومِ الآخِرِ إنَّما هو مُتلقَّفٌ مِن أخبارِ الرَّسولِ، فيَتضمَّن الإيمانَ بالرَّسولِ، أو لم يُذْكَرْ؛ لِمَا عُلِمَ وشُهِرَ مِن أنَّ الإيمانَ بالله تعالى قَرِينتُه الإيمانُ بالرِّسولِ؛ لاشْتِمالِ كلمةِ الشَّهادةِ والأذانِ والإقامةِ وغيرِها عليهما، مُقتَرَنَيْنِ مُزْدَوجَيْنِ كأنَّهما شيءٌ واحدٌ، لا يَنْفَكُّ أَحدُهما عن صاحبِهِ؛ فانْطوى تحت ذِكْرِ الإيمانِ باللهِ تعالى الإيمانُ بالرِّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وقيل: دلَّ عليه بذِكْرِ إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ؛ إذ لا يُتلقَّى ذلك إلَّا مِنه .

4- قولُه تعالى: ... وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ التَّوبة: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، بعد قوله: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وورَد بعدَ هذا بآياتٍ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ بعدَ قولِه: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ... الآيَةَ [التوبة: 24] ، وقال بعد ذلك في هذِه السُّورةِ أيضًا: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ بعد قوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ... الآيةَ [التوبة: 37] ، وفي ذِكْرِ المنافِقينَ مِن هذِه السُّورةِ قال: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 80] ، فخُصِّصتْ بعضُ هذه الآياتِ بـ(الظَّالِمين) وبعضُها بـ(الفاسقين) وبعضُها بـ(الكافرين)؛ ووجْهُ هذِه المُناسَبةِ؛ أنَّ المراد بـ (الظَّالمين) في الآيةِ الأُوَلى مُشرِكو العربِ، الذين قاموا بسِقايةِ الحاجِّ، وأنفقوا على المسجد الحرامِ؛ فهُم لأنفُسِهم بالكُفرِ ظالِمون، وبعَمَلِهم- الذي يُؤمِّلون الانتفاعَ به مع مُضامَّةِ الكُفرِ- واضِعونَ الشَّيءَ في غيرِ موضعِه، فلمَّا فَعَل هؤلاءِ المشرِكون ذلك، وكان كلُّ مُشركٍ ظالِمًا، وكلُّ مَن وضَع شيئًا في غيرِ مَوضعِه يكونُ ظالِمًا؛ عبَّر عنهم بـ(الظَّالمين)؛ لانطِواءِ هذه الصِّفةِ على الكُفرِ، وعلى المعنَى الزَّائدِ بتَضييعِ المالِ في حالِ الشِّركِ.

وأمَّا الموضِع الثاني، وهو قولُه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ؛ فإنَّه تحذيرٌ لِمَن قال فيهم مِن المُسلِمين: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة: 24] ؛ فعَرَّفهم أنَّ مَن آثَرَ مُراعاةَ هذِه الأبوابِ التي عَدَّها على طاعةِ اللهِ تعالى؛ فإنَّه بفِعلِه ذلك مِن جُملةِ الفاسِقين، وأنَّ حُكمَه حُكمُهم؛ فكان ذِكرُ (الفاسقين) أليقَ بهذا المَكانِ.

وأمَّا الموضِعُ الثَّالِث، وهو قولُه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ فإنَّه بعدَ قولِه تعالى في وصْفِ الكُفَّار: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ [التوبة: 37] ، فأخْبَر الله تعالى أنَّ ذلك زيادةٌ في كُفرِهم، ثم عَقَّبَه بوصْفِهم بأنَّه لا يَهدِيهم، فكان أحقُّ الأوصافِ في هذا المكانِ لَفْظَةَ (الكافرين) التي اقتَضاهَا هذا المعنى والذِّكرُ المتقدِّمُ في مَكانَينِ من الآيةِ.

أمَّا الموضِعُ الرابع، وهو قولُ الله تعالى في ذِكرِ المنافقِينَ مِن هذِه السُّورةِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، فقدْ قال تعالى قَبْلَه: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ الآياتِ [التوبة: 75] ، فوُصِفوا بالتَّظاهُرِ بالإسلامِ، ثم خَرَجوا عنه بشَنيعِ كُفرِهم، وقَبيحِ مُرتَكَباتِهم، ووصَفَهم تعالى بأنَّهم يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ إلى قولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثم قال: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ؛ فلخُروجِهم ومُفارقتِهم ما قدْ كانوا تَظاهَروا به مِن الإسلامِ، وُصِفوا بالفِسقِ الذي هو الخُروجُ والمفارقةُ، كما يُقالُ: فَسَقتِ الرُّطبةُ، إذا خرَجتْ مِن قِشرِها .

==========

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (20-22)

ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ

غريب الكلمات:

 

مُقِيمٌ: أي: دائِمٌ ثابتٌ مُستمِرٌّ، ويُعبَّر بالإقامةِ عن الدوامِ، وأصلُ (قوم): يدلُّ على انتصابٍ أو عَزمٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبيِّنُ تعالى أنَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذين آمَنُوا وترَكُوا ديارَ الكُفرِ إلى ديارِ الإيمانِ بِهجرَتِهم إلى المدينةِ، وجاهَدُوا بأموالِهم وأنفُسِهم؛ لِتَكونَ كَلِمةُ اللهِ هي العليا؛ هم أرفَعُ درجةً مِن سُقاةِ الحاجِّ وعُمَّارِ المسجِدِ الحرامِ مِن المُشرِكينَ، وأولئك هم الفائِزونَ، يُبشِّرُهم ربُّهم جلَّ وعلا برحمةٍ عظيمةٍ، ورضًا منه، وجناتٍ لهم فيها نعيمٌ دائِمٌ لا يزولُ، ماكثينَ فيها على الدَّوامِ، إنَّ اللهَ عنده أجرٌ عَظيمٌ.

تفسير الآيات:

 

الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما حكَم الله تعالى بأنَّ الصنفينِ لا يستوون بقولِه: لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ؛  بيَّن ذلك وأوضَحه، فعدَّد الإيمانَ والهجرةَ والجهادَ، وحكَم أنَّ أهلَ هذه الخصالِ أعْظمُ دَرَجَةً عندَ اللَّهِ مِن جميعِ الخلق، ثم حكَم لهم بالفوزِ برحمتِه ورضوانِه، مع تفصيلٍ للجهادِ المذكورِ في قولِه: وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ بأنَّه الجِهادُ بالأموالِ والأنفُسِ

.

الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ.

أي: أصحابُ مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، الذين آمَنوا باللهِ تعالى، وبِكُلِّ ما يجِبُ عليهم الإيمانُ به، وهاجَرُوا مِن أوطانِهم ودِيارِهم إلى مَدينةِ رَسولِ اللهِ، وجاهَدوا لإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ تعالى بأموالِهم وأنفُسِهم، أولئك أرفَعُ مَنزلةً، وأعلى مكانةً عِندَ اللهِ مِن سُقاةِ الحاجِّ، وعُمَّارِ المَسجِدِ الحَرامِ مِن المُشركينَ .

كما قال تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 95-96] .

وقال سبحانه: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10] .

وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال النَّبيُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تسُبُّوا أصحابي؛ فلو أنَّ أحَدَكم أنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما بلغ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصِيفَه ) .

وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ.

أي: وأولئك- الذين آمَنوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا في سبيلِ اللهِ- هم الذينَ يَظفَرونَ بِمَطلوبِهم بِدُخولِ الجنَّةِ، والنَّجاةِ مِن النَّارِ .

كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185] .

وقال سُبحانه: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر: 20] .

يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما قال الله تعالى: أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ، وقال: وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ؛ أتبَعه ببيانِ هذه الدَّرَجةِ العَظيمةِ، وهذا الفَوزِ المُجمَلِ ، فقال:

يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ.

أي: يُعْلِمُ اللهُ الذين آمَنوا وهاجَروا وجاهَدوا في سبيلِ اللهِ، بأنَّ لهم رحمةً عظيمةً مِن ربِّهم، يزولُ بها عنهم الشرورُ، ويصلُ إليهم بها كلُّ خيرٍ، وأنَّه رَضِيَ عنهم رضًا كامِلًا، فلا يسخطُ عليهم أبدًا .

كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] .

وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 10 - 13] .

وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ. فيقولون: لبَّيكَ رَبَّنا وسَعْدَيكَ، والخيرُ في يديكَ. فيقولُ: هل رَضِيتُم؟ فيقولونَ: وما لنا لا نَرضَى يا رَبِّ، وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا مِن خَلْقِك؟! فيقولُ: ألَا أُعطِيكم أفضَلَ مِن ذلك؟ فيقولونَ: يا ربِّ، وأيُّ شَيءٍ أفضَلُ مِن ذلك؟! فيقولُ: أُحِلُّ عليكم رِضواني، فلا أسخَطُ عليكم بَعدَه أبدًا )) .

وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ.

أي: ويُبَشِّرُهم اللهُ أيضًا بجنَّاتٍ لهم فيها نعيمٌ دائِمٌ لا يَزولُ .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فصلت: 8] .

وقال سُبحانه: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا [الطلاق: 11] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ في الجنَّةِ مِئةَ درجةٍ، أعَدَّها اللهُ للمُجاهِدينَ في سبيلِه، كُلُّ دَرَجتَينِ ما بينهما كما بينَ السَّماءِ والأرضِ، فإذا سألتُمُ اللهَ فَسَلُوه الفِردَوسَ؛ فإنَّه أوسَطُ الجَنَّةِ، وأعلى الجنَّةِ، وفَوقَه عَرشُ الرَّحمنِ، ومنه تفَجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ ))

 

.

خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22).

خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.

أي: ماكِثينَ في تلك الجَنَّاتِ بلا نهايةٍ

.

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف: 107- 108] .

إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

أي: إنَّ اللهَ عنده جزاءٌ وثوابٌ كَبيرٌ على الأعمالِ الصَّالحةِ، يمنَحُه للمُؤمِنينَ في الآخرةِ

.

كما قال تعالى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17] .

وقال سُبحانه: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف: 68-73] .

 

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ قال في وَصفِهم أَعْظَمُ دَرَجَةً مع أنَّه ليس للكُفَّارِ دَرَجةٌ؛ لِوجوهٍ:

الأول: أنَّ هذا ورَدَ على حسَبِ ما كانوا يُقَدِّرونَ لأنفُسِهم مِن الدَّرَجةِ والفَضيلةِ عند اللهِ.

الثاني: أن يكونَ المُرادُ أنَّ أولئك أعظَمُ دَرَجةً مِن كلِّ مَن لم يكُنْ مَوصوفًا بهذه الصِّفاتِ؛ تنبيهًا على أنَّهم لَمَّا كانوا أفضَلَ مِن المؤمنينَ الذين ما كانوا مَوصوفِينَ بهذه الصِّفاتِ، فبِألَّا يُقاسُوا إلى الكُفَّارِ أَوْلى.

الثالثُ: أن يكونَ المُرادُ أنَّ المُؤمِنَ المُجاهِدَ المُهاجِرَ أفضَلُ ممَّن على السِّقايةِ والعِمارةِ، والمُرادُ منه ترجيحُ تلك الأعمالِ على هذه الأعمالِ، ولا شَكَّ أنَّ السِّقايةَ والعِمارةَ مِن أعمالِ الخَيرِ، وإنَّما بطَلَ إيجابُهما للثَّوابِ في حقِّ الكُفَّارِ؛ لأنَّ قِيامَ الكُفرِ- الذي هو أعظَمُ الجِناياتِ- يمنَعُ ظُهورَ ذلك الأثَرِ

.

2- في قولِه تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ إلى قولِه سبحانه: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ رَدٌّ على المرجئةِ فيما يزعمون أنَّ المرءَ بكلمةِ الإخلاصِ وحدَها مستكملٌ الإيمانَ؛ ومَن كان مستكملَ الإيمان فهو في الجنةِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى لم يشهدْ بالفوزِ بالجنةِ والرحمةِ والرضوانِ في هذه الآيةِ إلَّا بالهجرةِ والجهادِ بالأموالِ والأنفسِ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ لَمَّا كانت الأوصافُ التي تحَلَّوا بها، وصارَوا بها عَبِيدَه حقيقةً، هي ثلاثةً: الإيمانُ، والهِجرةُ، والجِهادُ بالمالِ والنَّفسِ- قُوبِلوا في التَّبشيرِ بثَلاثةٍ: الرَّحمةِ، والرِّضوانِ، والجنَّاتِ. فبدَأَ بالرَّحمةِ؛ لأنَّها الوَصفُ الأعَمُّ النَّاشِئُ عنها تيسيرُ الإيمانِ لهم، وثنَّى بالرِّضوانِ؛ لأنَّه الغايةُ مِن إحسانِ الرَّبِّ لِعَبدِه، وهو مُقابِلُ الجهادِ؛ إذ هو بَذْلُ النَّفسِ والمالِ، وقُدِّمَ على الجنَّاتِ؛ لأنَّ رِضا اللهِ عن العَبدِ أفضَلُ مِن إسكانِهم الجنَّةَ، وأتى ثالثًا بِقَولِه: وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، أي: دائِمٌ لا ينقطِعُ. وهذا مُقابِلٌ لِقَولِه: وَهَاجَرُوا لأنَّهم تركُوا أوطانَهم التي نَشَؤوا فيها، وكانوا فيها مُنعَّمِينَ، فآثَرُوا الهِجرةَ على دارِ الكُفرِ إلى مُستَقَرِّ الإيمانِ والرِّسالةِ، فقُوبِلوا على ذلك بالجَنَّاتِ ذواتِ النَّعيمِ الدَّائِمِ، فجاء التَّرتيبُ في أوصافِهم على حسَبِ الواقِعِ: الإيمانُ، ثمَّ الهِجرةُ، ثمَّ الجِهادُ. وجاء التَّرتيبُ في المُقابِلِ على حسَبِ الأعَمِّ، ثمَّ الأشْرَفِ، ثمَّ التَّكميلِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ قَولُه: وَرِضْوَانٍ أي: نَوعٍ مِن الرِّضَا التَّامِّ الكامِلِ، الذي لا يَشُوبُه ولا يَعقُبُه سَخَطٌ؛ يدُلُّ على هذا المعنى زيادةُ لَفظِ (رِضوانٍ) في المبنى على لَفظِ (رِضا) مع تنكيرِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ

- قَولُ الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ المفضَّل عليه محذوفٌ؛ لظهورِه: أي أعظمُ درجةً عندَ الله مِن أصحابِ السِّقاية والعمارةِ الذين آمنوا ولم يُهاجروا، ولم يُجاهدوا الجهادَ الكثيرَ الذي جاهده المسلمونَ أيامَ بقاءِ أولئك في الكفرِ

. وقيل: لم يُعيِّنْ ذِكرَهم، فلم يقُلْ: (أعظَمُ درجةً مِن المشتَغِلينَ بالسِّقايةِ والعِمارةِ)؛ لأنَّه لو عيَّنَ ذِكرَهم لأوهَمَ أنَّ فَضيلَتَهم إنَّما حصَلَت بالنِّسبةِ إليهم، ولَمَّا ترَكَ ذِكرَ المَرجوحِ، دلَّ ذلك على أنَّهم أفضَلُ مِن كلِّ مَن سِواهم على الإطلاقِ؛ لأنَّه لا يُعقَلُ حُصولُ سَعادةٍ وفَضيلةٍ للإنسانِ أعلى وأكمَلَ مِن هذه الصِّفاتِ .

- قولُه: وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ جملةٌ مَعطوفةٌ على أَعْظَمُ دَرَجَةً، أي: أَعْظمُ، وهم أصحابُ الفَوزِ، وتَعريفُ الْفائِزُونَ باللَّامِ مُفيدٌ للقَصْرِ، وهو قَصْرٌ ادِّعائيٌّ؛ للمُبالَغةِ في عِظَمِ فوزِهِم، حتى إنَّ فوزَ غيرِهم بالنِّسبةِ إلى فوزِهِم يُعَدُّ كالمعدومِ .

- والإتيانُ باسمِ الإشارةِ (أُولئِكَ)؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم اسْتَحقُّوا الفوزَ لأجْلِ تِلك الأوصافِ التي مَيَّزتْهم، وهي: الإيمانُ، والهِجْرةُ، والجِهادُ بالأموالِ والأنْفُسِ .

2- قوله تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ

- قولُه: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فيه التَّعرُّضُ لعُنوانِ الربوبيَّة؛ تأكيدًا للمُبشَّرِ به، وتَربيةً له ؛ فأُسْنِدَ التَّبشيرُ إلى رَبُّهُمْ؛ لِمَا في ذلك من الإحسانِ إليهم بأنَّ مالِكَ أَمْرِهم، والنَّاظِرَ في مصالِحهم هو الذي يُبشِّرُهم .

- وإسنادُ التَّبشيرِ إلى اسمِ الجَلالةِ بِصيغةِ المُضارِعِ- المُفيدِ للتَّجَدُّدِ- مُؤذِنٌ بتَعاقُبِ الخَيراتِ عليهم، وتَجَدُّدِ إدخالِ السُّرورِ بذلك لهم؛ لأنَّ تجَدُّدَ التَّبشيرِ يُؤذِنُ بأنَّ المُبَشَّرَ به شَيءٌ لم يكُن معلومًا للمبشَّرِ، وإلَّا لكان الإخبارُ به تحصيلًا للحاصِلِ .

- قولُه: بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ فيه تَنكيرُ الرَّحمةِ والرِّضوانِ؛ للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ .

3- قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

- قولُه: خالِدِينَ فِيها أَبَدًا أكَّدَ الخُلُودَ بالتَّأبيدِ؛ لأنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ للمُكْثِ الطَّويلِ .

- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ استئنافٌ وَقَعَ تعليلًا لِمَا سَبَق ، مع ما فيه من التَّأكيدِ بـ(إنَّ) واسميَّةِ الجُمْلةِ.

============

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيتان (23-24)

ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ

غريب الكلمات:

 

وَعَشِيرَتُكُمْ: العَشِيرَةُ: أهلُ الرَّجل الذين يتكثَّر بهم، أو الجماعةُ التي ترجِعُ إلى عَقدٍ واحدٍ كعَقدِ العشرةِ فما زادَ، ومنه المعاشرَةُ، وهي الاجتماعُ على الشَّيءِ، وَأصلُ (عشر): يدلُّ على مداخلةٍ ومخالطةٍ

.

اقْتَرَفْتُمُوهَا: أي: اكتَسَبتُموها وحصَّلْتُموها، والاقترافُ: الاكْتِسابُ، حُسنًا كان أو سُوءًا، وهو في الإساءةِ أكثرُ استعمالًا، وأصلُ (الاقترافِ): اقتطاعُ الشيءِ مِن مكانِه إلى غيرِه، وأصلُ (قرف): يَدُلُّ عَلَى مُخالطةِ الشَّيءِ، والالتِباسِ به، وادِّراعِه، ومنه: اقْتَرفْتُ الشَّيءَ: اكْتَسَبْتُه، وكأنَّه لابَسَه وادَّرَعه .

كَسَادَهَا: أي: فَوَاتَ وَقتِ رواجِها، والكَسادُ: خِلافُ النَّفاقِ ونقِيضُه، وأصلُ (كسد): يدلُّ على الشَّيءِ الدُّونِ لا يُرغَبُ فيه .

فَتَرَبَّصُوا: أي: انتَظِرُوا وتمهَّلُوا، والتَّربُّصُ: الانتِظارُ بالشَّيءِ، وأصلُ (ربص): يدلُّ على الانتظارِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

ينهى اللهُ المُؤمِنينَ عن مُوالاةِ آبائِهم وإخوانِهم في النَّسَبِ إن اختارُوا الكُفرَ باللهِ، وآثَرُوه على الإيمانِ، وأخبَرَ أنَّه مَن يتوَلَّهم فأولئك هم الظَّالِمونَ.

وأمَرَ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: إنْ كان آباؤُهم وأبناؤُهم وإخوانُهم وأزواجُهم وعمومُ أقاربِهم، وأموالٌ اكتَسَبُوها، وتَعِبُوا في تحصيلِها، وتجارةٌ يَخافونَ إن هاجَرُوا  أن تكسُدَ، وبيوتٌ يُحِبُّونَها، ولا يُريدونَ مُفارَقتَها؛ أحَبَّ إليهم مِن اللهِ ورَسولِه وجهادٍ لإعلاءِ كلمَتِه- فَلْينتَظِروا حتى يأتيَهم اللهُ بعُقوبةٍ عاجلةٍ أو آجِلةٍ، واللهُ لا يهدي القَومَ الفاسِقينَ.

تفسير الآيتين:

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23).

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ.

أي: يا أيُّها الذين آمَنوا، لا تتَّخِذوا آباءَكم وإخوانَكم في النَّسَبِ بِطانةً وأصدقاءَ، تُناصِرونَهم، وتُفشُونَ إليهم أسرارَ المُسلِمينَ، وتُؤثِرونَ المُكْثَ بينهم على الهِجرةِ إلى دارِ الإسلامِ، إن اختارُوا- على وجهِ الرِّضا والمحبَّةِ- الكُفرَ باللهِ، وآثَرُوه على الإيمانِ به سبُحانه

.

وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.

أي: ومَن يتَّخِذْ منكم- أيُّها المُؤمِنونَ- أقارِبَه الكُفَّارَ بِطانةً، يُحِبُّهم ويُناصِرُهم، ويُؤثِرُ المُقامَ بينهم على الهِجرةِ إلى دارِ الإسلامِ، فأولئك هم الذينَ عَصَوُا اللهَ، وخالَفُوا أمرَه، فوَضَعوا الوَلايةَ في غَيرِ مَوضِعِها، واتَّخَذوا من يَضُرُّهم أولياءَ، وتَرَكوا ما ينفَعُهم مِن الهجرةِ والجِهادِ في سَبيلِ الله تعالى .

قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كانتِ الأنفُسُ مُختلِفةَ الهِمَمِ، مُتبايِنةَ السَّجايا والشِّيَمِ، كان هذا غيرَ كافٍ في التَّهديدِ لِكُلِّها، فأتبَعَه تَهديدًا أشَدَّ منه بالنِّسبةِ إلى تلك النُّفوسِ، فقال مُنتَقِلًا من أسلوبِ الإقبالِ إلى مقامِ الإعراضِ المُؤذِنِ بزَواجِرِ الغَضَبِ .

قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ.

أي: قل- يا محمَّدُ- للمُتخَلِّفينَ عن الهِجرةِ إلى دارِ الإسلامِ: إن كان آباؤُكم وأبناؤُكم، وإخوانُكم في النَّسَبِ وزوجاتُكم، وعمومُ أقارِبِكم .

وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا.

أي: وأموالٌ اكتسَبْتُموها، وتَعِبتُم في تَحصيلِها، وتجارةٌ تَخافونَ- إن هاجَرْتُم- عدَمَ بَيعِها ورواجِها، أو رُخْصَ سِعرِها ونَقصَ أرباحِها، وبيوتٌ تُحِبُّونَ سُكْناها، فلا تُريدونَ تَرْكَها .

أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ.

أي: إن كانت تلك الأشياءُ أحبَّ إليكم مِن اللهِ ورَسولِه، وجهادٍ لإعلاءِ كَلِمتِه تعالى .

عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ بهِنَّ حَلاوةَ الإيمانِ: مَن كان اللهُ ورَسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سِواهما، وأنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلَّا لله، وأن يَكرَهَ أن يعودَ في الكُفرِ بعد أن أنقَذَه اللهُ منه، كما يكرَهُ أن يُقذَفَ في النَّارِ )) .

وعنه أيضًا، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يُؤمِنُ أحَدُكم، حتى أكونَ أحَبَّ إليه مِن وَلَدِه ووالِدِه والنَّاسِ أجمَعينَ )) .

وعن عبدِ اللهِ بنِ هِشامٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كنَّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، فقال له عُمَرُ: يا رَسولَ اللهِ، لأنت أحَبُّ إليَّ مِن كُلِّ شَيءٍ إلَّا مِن نفسي، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا والذي نفسي بِيَدِه، حتَّى أكونَ أحَبَّ إليك مِن نَفسِك. فقال له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللهِ لأنتَ أحَبُّ إليَّ مِن نَفسي. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الآنَ يا عُمَرُ )) .

فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ.

أي: فانتَظِرُوا- أيُّها المُتخَلِّفونَ عن الهِجرةِ والجِهادِ- حتى يأتيَكم اللهُ بعُقوبةٍ عاجلةٍ أو آجِلةٍ .

عن أبي أُمامةَ رَضِيَ الله عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن لم يَغْزُ أو يُجهِّزْ غازِيًا، أو يَخْلُفْ غازيًا في أهلِه بخَيرٍ؛ أصابَه اللهُ سُبحانه بقارعةٍ قبلَ يَومِ القيامةِ )) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن مات ولم يَغزُ، ولم يحدِّث به نفسَه، مات علَى شُعبةٍ من نِفاقٍ )) .

وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إذا تَبايَعتُم بالعِينةِ ، وأخَذْتُم أذنابَ البَقَرِ ، ورَضِيتُم بالزَّرعِ، وتَرَكْتم الجِهادَ؛ سلَّطَ اللهُ عليكم ذُلًّا لا يَنزِعُه، حتى تَرجِعُوا إلى دينِكم )) .

وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.

أي: واللهُ لا يوفِّقُ للخَيرِ الخارِجينَ عن طاعَتِه إلى مَعصِيَتِه، المُؤْثِرينَ على محبَّةِ الله تعالى شيئًا مِن تلك المذكوراتِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- الحَذرُ مِن مُوالاةِ مَن استحَبُّوا الكُفرَ على الإيمانِ، في ظاهِرِ أمْرِهم أو باطِنِه؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

.

2- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ هكذا تتقطَّعُ أواصِرُ الدَّمِ والنَّسَبِ، إذا انقطَعَتْ آصِرةُ القَلبِ والعقيدةِ، وتَبطُلُ وَلايةُ القَرابةِ في الأسرةِ، إذا بطَلَت وَلايةُ القَرابةِ في اللهِ؛ فلِلَّه الوَلايةُ الأُولى، وفيها ترتبِطُ البَشَريَّةُ جميعًا، فإذا لم تكُنْ، فلا وَلايةَ بعد ذلك، والحَبلُ مَقطوعٌ، والعُروةُ مَنقوضةٌ

3- قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّه إذا وقعَ التَّعارُضُ بين مصلحةٍ واحدةٍ مِن مصالِحِ الدِّينِ وبين جميعِ مُهِمَّاتِ الدُّنيا؛ وجب على المُسلِمِ تَرجيحُ الدِّينِ على الدُّنيا

4- قال اللهُ تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ هذه الآيةُ الكريمةُ أعظَمُ دليلٍ على وُجوبِ محبَّةِ اللهِ ورَسولِه، وعلى تقديمِها على محبَّةِ كُلِّ شَيءٍ، وعلى الوعيدِ الشَّديدِ والمَقْتِ الأكيدِ، على من كان شَيءٌ مِن هذه المذكوراتِ أحَبَّ إليه مِن اللهِ ورَسولِه، وجهادٍ في سبيلِه، وعلامةُ ذلك أنَّه إذا عُرِضَ عليه أمرانِ؛ أحدُهما يُحبُّه اللهُ ورَسولُه، وليس لِنَفسِه فيه هوًى، والآخَرُ تُحبُّه نَفسُه وتَشتَهيه، ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا لله ورَسولِه، أو يَنقُصُه؛ فإنَّه إن قدَّمَ ما تهواه نفسُه على ما يُحبُّه الله، دلَّ ذلك على أنَّه ظالِمٌ، تارِكٌ لِما يجِبُ عليه .

5- قال اللهُ تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ هذه آيةٌ شَديدةٌ لا ترى أشَدَّ منها، كأنَّها تنعى على النَّاسِ ما هم عليه مِن رَخاوةِ عَقدِ الدِّينِ، واضطرابِ حَبلِ اليَقينِ، فلْيُنصِفْ أورَعُ النَّاسِ وأتقاهم مِن نَفسِه؛ هل يجدُ عنده من التصَلُّبِ في ذاتِ اللهِ، والثَّباتِ على دينِ الله ما يَستحِبُّ له دينُه، على الآباءِ والأبناءِ والإخوانِ والعشائِرِ والمالِ والمَساكِنِ وجميعِ حُظوظِ الدُّنيا، ويتجَرَّدُ منها لأجلِه، أم يَزوي اللهُ عنه أحقَرَ شَيءٍ منها لِمَصلحتِه، فلا يدري أيُّ طَرَفيه أطولُ؟ ويُغْويه الشَّيطانُ عن أجَلِّ حَظٍّ مِن حظوظِ الدِّينِ، فلا يُبالي، كأنَّما وقَعَ على أنفِه ذُبابٌ فَطَيَّرَه !

6- قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. فكلُّ من قدَّمَ طاعةَ أحدٍ مِن هؤلاءِ على طاعةِ اللهِ ورَسولِه، أو قَولَ أحدٍ منهم على قَولِ اللهِ ورَسولِه، أو مرضاةَ أحدٍ منهم على مَرضاةِ اللهِ ورَسولِه، أو خَوفَ أحدٍ منهم ورجاءَه والتوكُّلَ عليه، على خَوفِ اللهِ ورَجائِه والتوكُّلِ عليه، أو مُعاملةَ أحَدِهم على مُعامَلةِ الله- فهو ممَّن ليس اللهُ ورَسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سِواهما، وإن قالَه بلِسانِه فهو كَذِبٌ منه، وإخبارٌ بخِلافِ ما هو عليه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا افتتَحَ الخِطابَ بـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إشعارًا بأنَّ ما سيُلقى إليهم مِن الوَصايا هو مِن مُقتَضياتِ الإيمانِ وشِعارِه

.

2- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ذَكَرَ الآباءَ والإخوانَ؛ لأنَّهم أهلُ الرَّأيِ والمَشورةِ، ولم يذكُرِ الأبناءَ؛ لأنَّهم في الغالِبِ تبَعٌ لآبائِهم .

3- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون لَمَّا كان الوالِدونَ هم الذينَ يُقاتِلونَ، ويَحتاجُونَ إلى المُوالاةِ والمُناصَرةِ، دونَ الوالِداتِ، اقتصَرَ على ذِكرِهم .

4- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون جَعَلَ التَّحذيرَ مِن أولئكَ بخصوصِ كَونِهم آباءً وإخوانًا؛ تنبيهًا على أقصى الجَدارةِ بالوَلايةِ، لِيُعلَمَ بفحوى الخِطابِ أنَّ مَن دونَهم أَوْلى بحُكمِ النَّهيِ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ قولُه: إِنِ اسْتَحَبُّوا نبَّه بصيغةِ الاستفعالِ على أنَّ الإيمانَ لِكَثرةِ مَحاسِنِه، وظُهورِ دَلائِلِه، مَعشوقٌ بالطَّبعِ، فلا يتركُه أحَدٌ إلَّا بنوعِ مُعالجةٍ ومُكابرةٍ لِعَقلِه ومُجاهَدةٍ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ذكَرَ تعالى الأمورَ الدَّاعيةَ إلى مُخالطةِ الكُفَّارِ، وهي أمورٌ أربعةٌ؛ أوَّلها: مُخالطةُ الأقارِبِ، وذكر منهم أربعةَ أصنافٍ على التَّفصيلِ، وهم: الآباءُ والأبناءُ والإخوانُ والأزواجُ، ثمَّ ذكَرَ البقيَّةَ بلفظٍ واحدٍ يتناوَلُ الكُلَّ، وهي لفظُ العَشيرةِ. وثانيها: المَيلُ إلى إمساكِ الأموالِ المُكتَسَبةِ. وثالثها: الرَّغبةُ في تحصيلِ الأموالِ بالتِّجارةِ. ورابعها: الرَّغبةُ في المساكِنِ. ولا شَكَّ أنَّ هذا التَّرتيبَ ترتيبٌ حَسَنٌ؛ فإنَّ أعظَمَ الأسبابِ الدَّاعيةِ إلى المُخالطةِ القَرابةُ، ثمَّ إنَّه يُتوصَّلُ بتلك المُخالَطةِ إلى إبقاءِ الأموالِ الحاصِلةِ، ثمَّ إنَّه يُتوصَّلُ بالمُخالطةِ إلى اكتسابِ الأموالِ التي هي غيرُ حاصلةٍ، وفي آخِرِ المراتِبِ الرَّغبةُ في البِناءِ في الأوطانِ، والدُّورِ التي بُنِيَت لأجلِ السُّكنى، فذكَرَ تعالى هذه الأشياءَ على هذا التَّرتيبِ الواجبِ .

7- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ذكَرَ الأبناءَ هنا؛ لأنَّه ذكَرَ المحبَّةَ، وهم أعلَقُ بالنَّفسِ، بخلافِ الآيةِ قَبلَها فلم يُذكَروا؛ لأنَّ المَقصودَ منها الرَّأيُ والمَشورةُ .

8- وجهُ الاقترانِ بين محبَّةِ اللهِ ومَحبَّةِ رَسولِه، في قَولِه تعالى: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أنَّه لا تتِمُّ محبَّةُ اللهِ إلَّا بمحَبَّةِ ما يُحِبُّه، وكراهةِ ما يكرَهُه، ولا طريقَ إلى مَعرفةِ ما يُحبُّه وما يَكرَهُه- تعالى- إلَّا مِن جهةِ نبيِّه المُبَلِّغِ عنه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ما يُحبُّه وما يَكرَهُه، فصارت مَحبَّةُ اللهِ مُستلزِمةً لِمَحبَّةِ رَسولِه وتَصديقِه ومُتابَعتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

9- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا أخَّرَ هنا حبَّ الزوجيَّةِ عن حُبِّ البَنينَ؛ لأنَّ الكَلامَ في الحُبِّ المُعارِضِ لحُبِّ اللهِ ورَسولِه والجهادِ في سبيلِه، وما يُخشَى مِن حَملِه على مُوالاةِ أهلِ الكُفرِ في الحَربِ على المُؤمِنينَ، وقلَّما تكونُ زَوجُ الرَّجُلِ مُعارِضةً له في دينِه، ووَلايةِ مَن يَدينُ للهِ بِوَلايتِه، كما يُعارِضُه أبوه وابنُه وأخوه مِن أهلِ الحَربِ دونَ امرأتِه. وقدَّمَه على حُبِّ البَنينَ في قَولِه تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ [آل عمران: 14] ؛ لأنَّ الكلامَ في الآيةِ على حُبِّ الشَّهَواتِ، وهو أقوى الشَّهواتِ البَشَريَّةِ على الإطلاقِ .

10- قال الله تعالى: وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا خَصَّ الأموالَ المُقتَرَفةَ بالذِّكرِ؛ لأنَّها أرغَبُ عند أهلِها، وصاحِبُها أشَدُّ حِرصًا عليها ممَّن تأتيه الأموالُ مِن غَيرِ تَعَبٍ ولا كَدٍّ؛ فحُبُّ الأموالِ المُقتَرَفةِ- أي: المُكتَسَبةِ- أقوى في النَّفسِ مِن حُبِّ الأموالِ المَورُوثةِ؛ لأنَّ عَناءَ الإنسانِ في اقترافِها يجعَلُ لها في قَلبِه مِن القيمةِ والمَنزِلةِ ما ليس لِمَا جاءَه عَفوًا، كما هو مشهورٌ بين النَّاسِ عِلمًا وعَمَلًا .

11- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ خَصَّ الجِهادَ بالذِّكرِ مِن عُمومِ ما يُحبُّه اللهُ منهم؛ تَنويهًا بشأنِه، ولأنَّ ما فيه من الخَطَرِ على النُّفوسِ، ومِن إنفاقِ الأموالِ، ومُفارَقةِ الإلْفِ، جعَلَه أقوى مَظِنَّةً للتقاعُسِ عنه .

12- دلَّ قولُه تعالى: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ على أنَّ مَحبَّةَ اللهِ تعالى فَرْضٌ على العِبادِ؛ لأنَّه سُبحانه توعَّدَ مَن قدَّمَ محبَّةَ غيرِه على مَحبَّتِه ومَحبَّةِ رَسولِه، والوعيدُ لا يقَعُ إلَّا على فَرْضٍ لازمٍ، وحَتمٍ واجِبٍ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ... استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ لافْتِتاحِ غرَضٍ آخَرَ، وهو تَقْريعُ المنافقينَ ومَنْ يُواليهم

.

- وصِيغةُ الحَصْرِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ؛ للمُبالَغَةِ، أي: إنَّ ظُلْم غيرِهم كَلَا ظُلمٍ بالنِّسبةِ لعَظَمةِ ظُلْمِهم .

- والإتيانُ باسمِ الإشارةِ فَأُولَئِكَ لزِيادةِ تمييزِ هؤلاءِ أو هؤلاءِ، وللتَّنبيهِ على أنَّ جَدارتَهم بالحُكمِ المذكورِ بَعْدَ الإشارةِ كانتْ لأجْلِ تِلك الصِّفاتِ، أي: اسْتِحبابِ الكُفْرِ على الإيمانِ .

2- قولُه تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

- فيه تلوينٌ للخِطابِ، وأَمْرٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يُثبِّتَ المؤمنينَ، ويُقوِّيَ عَزائمَهم على الانْتِهاءِ عما نُهُوا عَنْه من موالاةِ الآباءِ والإخوانِ، ويُزهِّدَهم فيهم، وفيمَنْ يَجْري مَجْراهم من الأبناءِ والأزواجِ، ويَقْطَعَ علائِقَهم عن زخارفِ الدُّنيا وزينتِها، على وَجْهِ التَّوبيخِ والتَّرهيبِ .

- وفيه تَرتيبٌ حَسَنٌ، حَيثُ قدَّم الآباءَ؛ لأنَّهم الذين يَجِبُ برُّهم وإكرامُهم وحُبُّهم، وثنَّى بالأبناء؛ لكونِهم أَعْلَقَ بالقُلوبِ، ولَمَّا ذَكَرَ الأصلَ والفَرْعَ ذكَر الحاشيةَ وهي الإخوانُ، ثُمَّ ذَكَرَ الأزواجَ، وهنَّ في المحبَّةِ والإيثارِ كالأبناءِ، ثُمَّ ذَكَر الأَبعدَ بَعدَ الأقربِ في القرابةِ، فقال: وَعَشِيرَتُكُمْ .

- وعطَفَ على حُبِّ اللهِ تعالى ورَسولِه الجهادَ في سبيلِه مُنكَّرًا، في قَولِه تعالى: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ؛لأنَّه أظهَرُ آياتِهما، ونُكتةُ تَنكِيرِه وإبهامِه إفادةُ أنَّ كُلَّ نَوعٍ من أنواعِ الجِهادِ في سبيلِ اللهِ- قلَّ أو كَثُرَ- فإنَّ تارِكَه لأجلِ حُبِّ شَيءٍ مِن تلك الأصنافِ الثَّمانيةِ، وتَفضيلِها عليه؛ يستحِقُّ الوعيدَ الذي في الآيةِ .

- وقوله: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أَمْرٌ مُتضمِّنٌ للتَّهديدِ والوعيدِ الشَّديدِ، ويؤكِّدُه إبهامُ الأمرِ، وعَدَمُ التَّصريحِ به؛ لتذهَبَ أنفُسُهم كلَّ مَذهَبٍ، وتتردَّدَ بين أنواعِ العُقوباتِ .

- قولُه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تَذييلٌ، والواو اعتراضيَّةٌ، وهذا تهديدٌ بأنَّهم فَضَّلوا قَرابتَهم وأموالَهم على مَحبَّةِ اللهِ ورسولِه وعلى الجِهادِ؛ فقد تَحقَّقَ أنَّهم فاسِقون، واللهُ لا يَهْدي القومَ الفاسقينَ؛ فحَصَلَ بمَوقِعِ التَّذييلِ تَعريضٌ بهم .

==============

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (25-27)

ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ

غريب الكلمات:

 

رَحُبَتْ: أي: اتَّسَعَت، وأصلُ (رحب): يدل على سَعَةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: لقد نَصَرَكم اللهُ- أيُّها المُؤمِنونَ، أصحابَ رَسولِ اللهِ- على أعدائِكم الكُفَّارِ في غَزَواتٍ كَثيرةٍ، ونَصَرَكم أيضًا يوم حُنَينٍ حين أعجَبَتْكم كَثرَتُكم، فلم تُفِدْكم تلك الكَثرةُ شَيئًا، وضاقت عليكم الأرضُ على سَعَتِها؛ لِشِدَّةِ ما أصابَكم، ثم فرَرْتُم من الكُفَّارِ مُنهَزِمينَ.

ثمَّ أنزَلَ اللهُ ثَباتَه وطُمأنينَتَه على رَسولِه وعلى المُؤمِنينَ، وأنزَلَ جُنودًا مِنَ الملائكةِ لم تَرَوْها، وعذَّبَ اللهُ يومَ حُنَينٍ الذين كَفَروا، بأيدي المُؤمِنينَ، وذلك جزاءُ الكافِرينَ.

ثم يتوبُ اللهُ على من يشاءُ أن يتوبَ عليه مِنَ الكُفَّارِ، فيَهدِيه إلى الإسلامِ، واللهُ غَفورٌ رحيمٌ.

تفسير الآيات:

 

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا تقَدَّمَ قَولُه: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة:14] واستطرَدَ بعد ذلك بما استطرَدَ؛ ذَكَّرَهم تعالى نَصْرَه إيَّاهم في مَواطِنَ كَثيرةٍ

.

وأيضًا لَمَّا تضَمَّنَتِ الآياتُ السَّابقةُ الحَثَّ على قِتالِ المُشرِكينَ ابتداءً مِن قَولِه تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] ، وكان التَّمهيدُ للإقدامِ على ذلك مُدَرَّجًا؛ بإبطالِ حُرمةِ عَهدِهم لِشِرْكِهم، وبإظهارِ أنَّهم مُضمِرونَ العَزمَ على الابتداءِ بِنَقضِ العُهودِ التي بينهم وبين المُسلِمينَ، لو قُدِّرَ لهم النَّصرُ على المسلمين، وهَمِّهم بإخراجِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، حتى إذا انتهى ذلك التَّمهيدُ المُدَرَّجُ إلى الحَثِّ على قتالِهم، وضَمانِ نَصرِ اللهِ المُسلِمينَ عليهم، وما اتَّصَل بذلك ممَّا يُثيرُ حماسةَ المُسلِمينَ- جاء في هذه الآيةِ بِشَواهِدِ ما سبق مِن نَصرِ اللهِ المُسلِمينَ في مواطِنَ كَثيرةٍ، وتذكيرٍ بِمُقارنةِ التَّأييدِ الإلهيِّ لِحالةِ الامتثالِ لأوامِرِه، وأنَّ في غَزوةِ حُنَينٍ شَواهِدَ تَشهدُ للحالَينِ .

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ.

أي: لقد نصَرَكم اللهُ- أيُّها المُؤمِنونَ أصحابَ رَسولِ الله- على أعدائِكم الكُفَّارِ في غَزَواتٍ كثيرةٍ .

وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا.

أي: ونَصَرَكم اللهُ  أيضًا في غَزوةِ حُنَينٍ، حين أعجَبَتْكم كَثْرَتُكم، فلم تُفِدْكم تلك الكَثرةُ شَيْئًا .

وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ.

أي: وضاقَت عليكم الأرضُ مع سَعَتِها؛ لِشِدَّةِ ما أصابَكم .

ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ.

أي: ثمَّ فَرَرتُم مِن الكُفَّارِ مُنهَزِمينَ .

عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا كان يومُ حُنَينٍ أقبَلَت هوازِنُ وغَطَفانُ وغَيرُهم بنَعَمِهم وذَرارِيِّهم، ومع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم عَشرةُ آلافٍ، ومِنَ الطُّلَقاءِ، فأدبَرُوا عنه حتى بَقِيَ وَحدَه، فنادى يومَئذٍ نِداءَينِ، لم يَخلِطْ بينهما؛ التفَتَ عن يمينِه فقال: يا معشَرَ الأنصارِ. قالوا: لبَّيكَ يا رسولَ اللهِ، أبشِرْ نَحن معَك، ثمَّ التفَتَ عن يَسارِه فقال: يا مَعشَرَ الأنصارِ. قالوا: لبَّيكَ يا رسولَ اللهِ، أبشِرْ نَحنُ معك، وهو على بَغلةٍ بَيضاءَ، فنزَلَ فقال: أنا عَبدُ اللهِ ورَسولُه، فانهزَمَ المُشرِكونَ )) .

وعن العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ رَضِيَ الله عنه، قال: ((شَهِدْتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ حُنَينٍ، فلَزِمْتُ أنا وأبو سفيانَ بنُ الحارِثِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم نُفارِقْه، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على بغلةٍ له بيضاءَ، أهداها له فَروةُ ابنُ نُفاثةَ الجُذاميُّ، فلمَّا التقى المُسلِمونَ والكُفَّارُ ولَّى المُسلِمونَ مُدبِرينَ، فطَفِقَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُركِضُ بَغلَتَه قِبَل الكُفَّارِ، قال عبَّاسٌ: وأنا آخِذٌ بلِجامِ بَغلةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكُفُّها؛ إرادةَ ألَّا تُسرِعَ، وأبو سُفيانَ آخِذٌ برِكابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيْ عبَّاسُ، نادِ أصحابَ السَّمُرةِ. فقال عبَّاس- وكان رَجُلًا صَيِّتًا-: فقُلتُ بأعلى صوتي: أين أصحابُ السَّمُرةِ؟ قال: فواللهِ، لكأنَّ عَطفَتَهم- حين سَمِعوا صوتي- عَطفةُ البَقَرِ على أولادِها، فقالوا: يا لبَّيكَ، يا لبَّيكَ، قال: فاقتَتَلوا والكُفَّارَ، والدُّعوةُ في الأنصارِ يقولون: يا مَعشرَ الأنصارِ، يا مَعشرَ الأنصارِ. قال: ثمَّ قَصُرَت الدَّعوةُ على بني الحارِثِ بنِ الخَزْرجِ، فقالوا: يا بَني الحارِثِ بنِ الخَزرج، يا بني الحارِثِ ابنِ الخزرج، فنظَرَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو على بَغلَتِه كالمُتطاوِلِ عليها إلى قِتالِهم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا حينَ حِمِيَ الوَطيسُ. ثم أخذَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَصَياتٍ فرمى بهِنَّ وُجوهَ الكُفَّارِ، ثم قال: انهَزَموا وربِّ مُحمَّدٍ.قال: فذهَبْتُ أنظُرُ، فإذا القِتالُ على هَيئَتِه فيما أرى، قال: فواللهِ، ما هو إلَّا أن رماهم بحَصَياتِه، فما زِلْتُ أرى حَدَّهم كَليلًا، وأمْرَهم مُدبِرًا) ) .

وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((افتَتَحْنا مكَّةَ، ثم إنَّا غَزَوْنا حُنَينًا، فجاء المُشركون بأحسَنِ صُفوفٍ رأيتُ، فصُفَّتِ الخَيلُ، ثم صُفَّتِ المُقاتِلة، ثم صُفَّتِ النِّساءُ مِن وراء ذلك، ثمَّ صُفَّتِ الغَنَمُ، ثم صُفَّتِ النَّعَمُ، ونحن بَشَرٌ كثيرٌ، وعلى مُجَنِّبةِ خَيلِنا خالدُ بنُ الوليد، فجَعَلَتْ خيلُنا تلوي خَلْفَ ظُهورِنا، فلم نلبَثْ أن انكشَفَت خَيلُنا، وفرَّتِ الأعرابُ ومَن نعلَمُ مِن النَّاسِ، فنادى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا لَلمُهاجِرينَ، يا لَلمُهاجِرينَ. ثم قال: يا لَلأنصارِ، يا لَلأنصارِ. قُلنا: لبَّيك يا رسولَ الله، قال: فتقَدَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَايْمُ اللهِ، ما أتَيناهم حتَّى هَزَمَهم اللهُ، فقَبَضْنا ذلك المالَ، ثم انطَلَقْنا إلى الطَّائِفِ فحاصَرْناهم أربعينَ ليلةً، ثم رَجَعْنا إلى مكَّةَ، فنَزَلْنا، فجعل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعطي الرَّجُلَ المِئةَ مِن الإبِلِ)) .

وعن أبي إسحاقَ، قال: ((قال رجلٌ للبَراءِ: يا أبا عُمارةَ، أفرَرْتم يومَ حُنَينٍ؟! قال: لا واللهِ، ما ولَّى رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنَّه خرَجَ شُبَّانُ أصحابِه وأخِفَّاؤُهم حُسَّرًا، ليس عليهم سِلاحٌ أو كثيرُ سِلاحٍ، فلَقُوا قومًا رُماةً، لا يكادُ يَسقُطُ لهم سَهمٌ؛ جمْعَ هوازِنَ وبني نَصرٍ، فرَشَقوهم رشْقًا ما يكادُونَ يُخطِئونَ، فأقبَلُوا هناك إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على بَغلَتِه البَيضاءِ، وأبو سفيانَ بنُ الحارِثِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ يقودُ به، فنزل فاستنصَرَ، وقال: أنا النبيُّ لا كَذِبْ، أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ )) .

ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (26).

ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ.

أي: ثمَّ بعد أن ولَّى المُسلِمونَ مُدبِرينَ يومَ حُنَينٍ، أنزَلَ اللهُ ثَباتَه وطُمأنينَتَه على رسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى أصحابِه المُؤمِنينَ، فأذهَبَ خَوفَهم .

وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا.

أي: وأنزَلَ اللهُ يومَ حُنَينٍ جُنودًا مِن الملائِكةِ، لم تَرَوْها- أيُّها المُسلِمونَ- أنزَلَها اللهُ تعالى لِتَجْبينِ الكُفَّارِ، وتَقويةِ قُلوبِ المُؤمنينَ، وتَثبيتِهم، وتَبشيرِهم بالنَّصرِ .

وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ.

أي: وعذَّب اللهُ يومَ حُنَينٍ الكافرينَ، بأيدي المُؤمِنينَ؛ بقَتلِهم وأسْرِهم، وأخْذِ أمْوالِهم، وسَبْيِ أهالِيهم وذَراريِّهم .

وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ.

أي: وذلك التَّعذيبُ الذي أصابَهم، هو جَزاءُ أهلِ الكُفرِ في الدُّنيا؛ بسبَبِ كُفرِهم .

ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (27).

ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء.

أي: ثمَّ يُوفِّقُ اللهُ للتَّوبةِ- مِن بعدِ تَعذيبِ الكافِرينَ في الدُّنيا- مَن يشاءُ أن يتوبَ عليه مِنهم، فيَهديه إلى الإسلامِ .

وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.

أي: واللهُ غَفورٌ لِذُنوبِ التَّائِبينَ إليه، فيستُرُها عليهم، ويتَجاوَزُ عن مؤاخَذتِهم بها، رَحيمٌ بهم فيُوفِّقُهم- سُبحانَه- للتَّوبةِ، ويَقبَلُها منهم، ولا يُعَذِّبُهم بَعدَها

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال اللهُ تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ يَذكُرُ تعالى للمُؤمِنينَ فَضلَه عليهم، وإحسانَه لَدَيهم في نَصرِه إيَّاهم في مواطِنَ كَثيرةٍ مِن غَزَواتِهم مع رَسولِه، وأنَّ ذلك مِن عِندِه تعالى، وبِتَأييدِه وتَقديرِه، لا بعَدَدِهم ولا بعُدَدِهم، ونبَّهَهم على أنَّ النَّصرَ مِن عِندِه، سواءٌ قَلَّ الجَمعُ أو كَثُرَ

.

2- الإعجابُ سُمٌّ قاتِلٌ للأسبابِ، أدَّبَنا اللهُ سبحانه بذِكرِ سُوءِ أثَرِه؛ لِنَحذَرَه، فقال: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا .

3- إنَّ اللهَ إذا امتحَنَ عِبادَه بالغَلَبةِ والكَسرةِ والهَزيمةِ، ذَلُّوا وانكَسَروا وخَضَعوا، فاستوجَبُوا منه العِزَّ والنَّصرَ؛ فإنَّ خِلْعةَ النَّصرِ إنَّما تكونُ مع وِلايةِ الذُّلِّ والانكسارِ؛ قال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا فهو سُبحانه إذا أراد أن يُعِزَّ عَبدَه ويَجبُرَه وينصُرَه، كَسَرَه أوَّلًا، ويكونُ جَبرُه له ونَصْرُه، على مقدارِ ذُلِّه وانكسارِه .

4- في قَولِه تعالى: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا دَلالةٌ على وقوعِ العُقوبةِ على الإعجابِ بالكَثرةِ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ تَخصيصُ يومِ حُنَينٍ بالذِّكرِ مِن بينِ أيَّامِ الحُروبِ؛ لأنَّ المُسلِمينَ انَهَزموا في أثناءِ النَّصرِ، ثمَّ عاد إليهم النَّصرُ؛ فتخصيصُه بالذِّكرِ؛ لِما فيه مِن العِبرةِ بحُصولِ النَّصرِ عند امتثالِ أمرِ اللهِ ورسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وحُصولِ الهَزيمةِ عند إيثارِ الحُظوظِ العاجلةِ على الامتثالِ .

6- قال اللهُ تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا هذه الآياتُ تذكيرٌ للمُؤمِنينَ بأنَّ عِنايةَ اللهِ تعالى وتأييدَه لِرَسولِه وللمُؤمِنينَ بالقُوى المعنويَّةِ؛ أعظَمُ شأنًا، وأدنى إلى النَّصرِ منِ القُوَّةِ الماديَّةِ، كالكثرةِ العَدَديَّةِ وما يتعلَّقُ بها، وجُعِلَ هذا التَّذكيرُ تاليًا للنَّهيِ عن وَلايةِ آبائِهم وإخوانِهم مِن الكُفَّارِ، وللوعيدِ على إيثارِ حُبِّ القَرابةِ والزوجيَّةِ والعشيرةِ- ولو كانوا مُؤمِنينَ- والمالِ والسَّكَنِ، على حبِّ اللهِ ورَسولِه والجهادِ في سبيلِه؛ تفنيدًا لوَسوسةِ شياطينِ الجِنِّ والإنسِ- مِن المنافِقينَ ومَرْضى القُلوبِ- لهم، وإغرائِهم باستنكارِ عَوْدِ حالةِ الحَربِ مع المُشرِكين، وتنفيرِهم مِن قِتالِهم لِكَثرتِهم، ولقرابةِ بَعضِهم، ولِكَسادِ التِّجارةِ التي تكونُ معهم، وذلك بعدَ إقامةِ الدَّلائِلِ على كَونِ ذلك مِن الحَقِّ والعَدلِ، والمَصلحةِ العامَّةِ في الدِّينِ والدُّنيا

 

.

7- قال اللهُ تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ *  ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكثرةَ لَتَكونُ أحيانًا سببًا في الهزيمةِ؛ لأنَّ بعضَ الدَّاخِلينَ فيها، التَّائِهينَ في غِمارِها- ممَّن لم يُدرِكوا حقيقةَ العَقيدةِ التي يَنساقُونَ في تيَّارِها- تتزَلْزَلُ أقدامُهم، وترتَجِفُ في ساعةِ الشِّدَّةِ، فيُشِيعونَ الاضطرابَ والهزيمةَ في الصُّفوفِ، فوق ما تَخدَعُ الكثرةُ أصحابَها، فتَجعَلُهم يتهاوَنونَ في تَوثيقِ صِلَتِهم باللهِ؛ انشغالًا بهذه الكَثرةِ الظَّاهِرةِ، عن اليَقَظةِ لِسِرِّ النَّصرِ في الحياةِ، لقد قامَتْ كُلُّ عقيدةٍ بالصَّفوةِ المُختارة، لا بالزَّبَدِ الذي يذهَبُ جُفاءً، ولا بالهَشيمِ الذي تَذْرُوه الرِّياحُ

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا أسنَدَ سُبحانه الفِعلَ للجَمعِ؛ إشارةً إلى أنَّهم لعُلُوِّ مَقامِهم ينبغِي ألَّا يكونَ منهم مَن يقولُ مثلَ ذلك

.

2- قولُه تعالى: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فيه تنبيهٌ على خَطئِهم في الأدبِ مع اللهِ، المناسِبِ لمَقامِهم، أي: ما كان يَنبغي لكم أن تَعْتمِدوا على كَثرتِكم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ

- قولُه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فيه تأكيدُ الكلامِ بـلَقْدَ؛ لتَحقيقِ هذا النَّصرِ؛ لأنَّ القومَ كأنَّهم نَسُوه أو شَكُّوا فيه، فنُزِّلوا مَنْزلةَ مَنْ يَحتاجُ إلى تَأكيدِ الخَبَرِ

.

- وأُسْنِدَ النَّصرُ إلى اللهِ تعالى بالصَّراحةِ في قولِه: نَصَرَكُمُ اللَّهُ؛ لإظهارِ أنَّ إيثارَ مَحبَّةِ اللهِ، وإنْ كان يُفوِّتُ بعضَ حُظوظِ الدُّنيا، ففيه حَظُّ الآخِرةِ، وفيه حُظوظٌ أُخرى من الدُّنيا، وهي حُظوظُ النَّصْرِ بما فيه مِن تأييدِ الجامعةِ، ومن المغانِمِ، وحِمايةِ الأُمَّةِ مِن اعْتِداءِ أعدائها، وذلك مِن فَضْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ .

2- قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ

- قولُه: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ في تَعليقِ السَّكينةِ بإنزالِ اللهِ تعالى وإضافتِها إلى ضميرِهِ: تَنويهٌ بشأنِها وبَرَكتِها، وإشارةٌ إلى أنَّها سَكينةٌ خارقةٌ للعادةِ، ليستْ لها أسبابٌ ومُقدِّماتٌ ظاهرةٌ، وإنَّما حَصَلتْ بمَحْضِ تَقديرِ اللهِ وتكوينِه أُنُفًا؛ كَرامةً لنبيِّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإجابةً لنِدائهِ النَّاسَ؛ ولذلك قَدَّم ذِكرَ الرَّسولِ قَبْلَ ذِكْرِ المؤمنين .

- قولُه: وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فيه إعادةُ حَرْفِ (على) بعدَ حَرْفِ العَطْفِ؛ للتَّنبيهِ على تَجديدِ تعليقِ الفِعْلِ بالمجرورِ الثَّاني؛ للإيماءِ إلى التَّفاوتِ بين السَّكِينتينِ؛ فسكينةُ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سَكينةُ اطمئنانٍ على المسلمينَ الذين معَه، وثِقةٍ بالنَّصرِ، وسكينةُ المؤمنين سَكينةُ ثباتٍ وشجاعةٍ بَعْدَ الجَزَعِ والخوفِ .

3- قوله تعالى: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

- قولُهُ: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ فيه التَّعبيرُ بالفِعْلِ المُضارِعِ يَتُوبُ دونَ الفِعْلِ الماضي؛ للإشارةِ إلى إفادةِ تَجدُّدِ التَّوبةِ على كُلِّ مَن تابَ إلى اللهِ تعالى .

- وقولُه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذييلٌ للكلامِ؛ لإفادةِ أنَّ المَغْفرةَ مِن شأنِهِ تعالى، وأنَّه رَحيمٌ بعبادِهِ إنْ أَنابوا إليه، وتَرَكوا الإشراكَ به .

===========

ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ

غريب الكلمات:

 

عَيْلَةً: أي: فَقرًا وفاقةً؛ من: عال يَعيِلُ عَيلةً: إذا احتاجَ

.

يَدِينُونَ: أي: يُسلِمُونَ، ويُطيعونَ؛ يقالُ: دان له يَدِينُ دِينًا: إذا انقادَ وطاعَ، وأصلُ (دين): يدلُّ على جنسٍ مِن الانقيادِ .

الْجِزْيَةَ: أي: الخراجَ المجعولَ على رأسِ الذِّميِّ، وتسميتُها بذلك للاجتزاءِ بها عن حَقْنِ دَمِهم، وأصلُ (جزي): يدلُّ على قيامِ الشَّيءِ مَقامَ غَيرِه ومُكافأتِه إيَّاه .

صَاغِرُونَ: أي: أذِلَّاءُ مَقهورونَ، وأصلُ (صغر): يدلُّ على قِلَّةٍ وحَقارةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: يا أيُّها المُؤمنونَ، إنَّما المُشرِكونَ بَواطِنُهم نَجِسةٌ وخَبيثةٌ، فلا تُمَكِّنوهم مِن دُخولِ الحَرَمِ بعد هذا العامِ التَّاسِعِ للهِجرةِ، الذي نبَذْتُم فيه لِجَميعِ المُشرِكينَ عُهودَهم، وإن خِفْتُم فَقرًا بسببِ مَنْعِكم المشركينَ من دُخولِه، فسوفَ يُغنيكم اللهُ من فَضلِه إنْ شاءَ؛ إنَّ اللهَ عليمٌ حكيمٌ.

قاتِلوا الذين لا يُؤمِنون باللهِ، ولا باليومِ الآخرِ، ولا يُحَرِّمونَ ما حَرَّمَه اللهُ ورسولُه، ولا يَدِينونَ بالإسلامِ، مِن اليَهودِ والنَّصارى، حتى يدفَعُوا الجزيةَ بأَيْدِيهم وهم أذلَّةٌ مَقهورونَ.

تفسير الآيتين:

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّها رُجوعٌ إلى غَرَضِ إقصاءِ المُشرِكينَ عن المَسجِدِ الحرامِ، المُفادِ بِقَولِه: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ جِيءَ به لتأكيدِ الأمرِ بإبعادِهم عن المسجِدِ الحَرامِ مع تَعليلِه بِعِلَّةٍ أخرى تقتضي إبعادَهم عنه: وهي أنَّهم نَجَسٌ، فقد علَّلَ فيما مضى بأنَّهم شاهِدونَ على أنفسِهم بالكُفرِ، فلَيسُوا أهلًا لِتَعميرِ المسجِدِ المبنيِّ للتَّوحيدِ، وعلَّلَ هنا بأنَّهم نَجَسٌ، فلا يَعْمُروا المسجِدَ لِطَهارَتِه

.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.

أي: يا أيُّها المؤمنونَ، المُطَهَّرةُ بواطِنُهم بالإيمانِ، ما المُشرِكونَ بِجَميعِ مِلَلِهم وأديانِهم إلَّا نَجِسةٌ وخَبيثةٌ بواطِنُهم؛ بالشِّركِ والكُفرِ بالرَّحمنِ .

فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا.

أي: لِأنَّ المُشرِكينَ نَجَسٌ، فلا تُمَكِّنُوهم مِن دُخُولِ جميعِ الحَرَمِ، بعد هذا العامِ التَّاسِعِ للهِجرةِ، الذي نبَذْتُم فيه لِجَميعِ المُشرِكينَ عُهودَهم .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بَعَثَني أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ في الحَجَّةِ التي أمَّرَه عليها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبل حَجَّةِ الوَداعِ، في رَهطٍ يُؤَذِّنونَ في النَّاسِ يومَ النَّحرِ: لا يَحُجُّ بعدَ العامِ مُشرِكٌ، ولا يَطوفُ بالبَيتِ عُرْيانٌ ) [404] رواه البخاري (369)، ومسلم (1347) واللفظ له. .

وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء.

أي: وإنْ خِفْتُم- أيُّها المُؤمِنونَ- فَقرًا بسبَبِ مَنْعِكم المُشرِكينَ مِن دُخولِ الحَرَمِ، وانقطاعِ التِّجارةِ التي بينكم وبينهم؛ فسوف يُغنِيكم اللهُ مِن رِزقِه إن شاءَ .

إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

أي: إنَّ الله عليمٌ بكلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بما تُخفِيه صُدورُكم مِن خَوفِ العَيْلةِ، وعليمٌ بما يَصلُحُ لِعِبادِه، فيَعلَمُ مَن يليقُ به الغِنى، ومَن لا يَليقُ به، حكيمٌ في شَرْعِه وفي تَدبيرِ شُؤونِ خَلْقِه، يضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به .

قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حُكمَ المُشرِكينَ في إظهارِ البَراءةِ عن عَهدِهم، وفي إظهارِ البَراءةِ عنهم في أنفُسِهم، وفي وُجوبِ مُقاتَلتِهم، وفي تَبعيدِهم عن المسجِدِ الحرامِ، وأورَدَ الإشكالاتِ التي ذكَرُوها، وأجاب عنها بالجَواباتِ الصَّحيحةِ- ذكَرَ بعده حُكمَ أهلِ الكِتابِ .

وأيضًا لَمَّا كان قَولُه تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مَوضِعَ تَعَجُّبٍ، يكونُ سببًا لِأنْ يُقالَ: من أين يكونُ ذلك الغِنى؟ أجابَ بقوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ؛ ففي ذلك غِنًى لا يُشْبِهُ ما كُنتُم فيه مِن قِتالِ بَعضِكم لِبَعضٍ؛ لِتَغنَمَ ما في يَدِه مِن ذلك المالِ الحَقيرِ، ولا ما كُنتُم تُعِدُّونَه غِنًى مِن المتاجِرِ التي لا يبلُغُ أكبَرُها وأصغَرُها ما أرشدناكم إليه، مع ما في ذلك مِنَ العِزِّ المُمَكِّنِ مِن الإصلاحِ والطَّاعةِ .

قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ.

أي: قاتِلُوا- أيُّها المُؤمِنونَ- الكُفَّارَ الذين لا يُؤمِنونَ بالله إيمانًا صحيحًا، ولا يُؤمِنونَ بالبَعثِ يومَ القيامةِ، والجَنَّةِ والنَّارِ .

وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ.

أي: ولا يحرِّمون ما حرَّم اللهُ، وما حرَّم رسولُه، فلا يتَّبِعونَ شَريعَتَه .

وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ.

أي: والكُفَّارُ الذين أمَرْناكم بقِتالِهم- أيُّها المُؤمِنونَ- مِن اليَهودِ والنَّصارى، الذين آتَيْناهم التَّوراةَ والإنجيلَ، لا يدينونَ بالإسلامِ .

حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.

أي: قاتِلوهم إلى أن يَقْبَلوا دفْعَ أموالِ الجِزْيةِ- التي تُؤخَذُ جزاءَ تركِ المسلمينَ قتالَهم، وإقامتِهم آمنينَ بينَ أظهرِ المسلمينَ، وذلك في حالِ كونِهم لم يُسلِموا- فيَبْذُلوها لكم بأيديهم، وهُم أذلَّاءُ مَقهورونَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- الرِّزقُ ليس مقصورًا على بابٍ واحدٍ، ومحلٍّ واحدٍ، بل لا ينغلِقُ بابٌ إلَّا فُتِحَ غَيره أبوابٌ كثيرةٌ؛ فإنَّ فَضلَ اللهِ واسِعٌ، وَجُودَه عَظيمٌ، خصوصًا لِمَن ترك شيئًا لِوَجهِه الكريمِ، فإنَّ اللهَ أكرمُ الأكرَمِينَ؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ فيه دليلٌ على أنَّ الرِّزقَ ليس بالاجتهادِ، وإنَّما هو مِن فَضلِ اللهِ، تولَّى قِسْمَتَه بين عبادِه، وذلك بيِّنٌ في قَولِه تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف: 32] ، وهو أيضًا يفتحُ بابَ الرَّجاءِ مع التضرُّعِ إلى اللهِ في تَحقيقِ وعْدِه؛ لأنَّه يفعلُ ما يَشاءُ

 

.

3- قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا لكنَّ الموسمَ الاقتصاديَّ الذي ينتظرُه أهلُ مكةَ، والتجارةَ التي يعيشُ عليها معظمُ الظاهرين في الجزيرةِ، ورحلةَ الشتاءِ والصيفِ التي تكادُ تقومُ عليها الحياةُ، إنَّها كلَّها ستتعرضُ للضياعِ بمنعِ المشركينَ مِن الحجِّ، وبإعلانِ الجهادِ العامِّ على المشركينَ كافةً، نعم! ولكنَّها العقيدةُ، واللهُ يريدُ أن تخلصَ القلوبُ كلُّها للعقيدةِ! وبعدَ ذلك، فاللهُ هو المتكفلُ بأمرِ الرزقِ مِن وراءِ الأسبابِ المعهودةِ المألوفةِ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ وحينَ يشاءُ الله يستبدلُ أسبابًا بأسبابٍ، وحين يشاءُ يُغلقُ بابًا، ويفتحُ الأبوابَ

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا بيانُ أنَّه لا يجِبُ الحَجُّ- الوجوبَ المقتضيَ للفِعلِ وصِحَّتِه- إلَّا على مسلمٍ؛ حيث نهى اللهُ تعالى المشركينَ أنْ يَقرَبوا المسجِدَ الحرامَ، ومَنَعَهم منه، فاستحال أنْ يُؤمَروا بحَجِّ البَيتِ

!!

2- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فيه أنَّ الكافِرَ يُمنَعُ مِن دُخولِ الحَرَمِ؛ وأنَّه لا يُؤذَنُ له في دُخُولِه، لا لتِجارةٍ ولا لِغَيرِها، وإن كان لِمَصلحةٍ لنا .

3- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا المرادُ مِن المسجِدِ الحرامِ جَميعُ الحَرَمِ، والدَّليلُ عليه قَولُه تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ؛ وذلك لأنَّ مَوضِعَ التِّجاراتِ ليس هو عينَ المَسجِدِ، فلو كان المقصودُ من هذه الآيةِ المنعَ مِن المسجِدِ خاصَّةً، لَمَا خافوا بسبَبِ هذا المنعِ مِن العَيلَةِ، وإنَّما يخافونَ العَيلةَ إذا مُنِعوا مِن حُضورِ الأسواقِ والمَواسِمِ ، وسمَّى الحَرَمَ كلَّه مسجدًا لمجاورتِه المسجدَ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ قَولُه: إِنْ شَاءَ تعليقٌ للإغناءِ بالمشيئة؛ ولسائلٍ أن يسأَلَ فَيقولَ: الغَرَضُ بهذا الخبرِ إزالةُ الخَوفِ بالعَيلةِ، وهذا الشَّرطُ يمنَعُ من إفادةِ هذا المقصودِ، فالجوابُ مِن وُجوهٍ:

الأوَّل: عَلَّقَ الإغناءَ بالمشيئةِ؛ لأنَّ الغِنى في الدُّنيا ليس من لوازِمِ الإيمانِ، ولا يدلُّ على محبَّةِ اللهِ؛ فلهذا علَّقَه اللهُ بالمشيئةِ، فإنَّ اللهَ يُعطي الدُّنيا مَن يُحِبُّ ومن لا يحِبُّ، ولا يعطي الإيمانَ والدِّينَ إلَّا مَن يُحِبُّ.

الثاني: لأنَّ الإغناءَ يقَعُ في حقِّ بَعضٍ دُونَ بَعضٍ، فالله تعالى عَلِمَ أنَّ فيهم من لا يبلُغُ هذا الغِنى الموعودَ، وأيضا فالإغناءُ يقَعُ في وقتٍ دون وقتٍ.

الثالث: لإجراءِ الحُكمِ على الحِكمةِ، فإن اقتضَتِ الحِكمةُ والمصلحةُ إغناءَكم أغناكم.

الرابع: إعلامًا بأنَّ الرِّزقَ لا يأتي بحِيلةٍ ولا اجتهادٍ، وإنَّما هو فَضلُ اللهِ.

الخامس: لكي لا يحصُلَ الاعتمادُ على حصولِ هذا المطلوبِ، فيكونُ الإنسانُ أبدًا مُتضَرِّعًا إلى اللهِ تعالى في طلَبِ الخَيراتِ، ودَفْعِ الآفاتِ، ولتنقطِعَ الآمالُ إليه عَزَّ وجَلَّ.

السادس: أنَّ المقصودَ مِن ذِكرِ هذا الشَّرطِ تَعليمُ رِعايةِ الأدبِ، كما في قَولِه تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] .

5- قَولُ اللهِ تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضلِهِ إخبارٌ عن غيبٍ في المُستقبَلِ، وقد وقع الأمرُ مُطابِقًا لذلك الخبرِ، فكان معجزةً .

6- قَولُ اللهِ تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ أصلٌ في قَبوِل الجِزيةِ مِن أهلِ الكِتابِ .

7- قَولُ اللهِ تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قَولُه: عَنْ يَدٍ استدَلَّ به مَن لم يُجِزْ توكيلَ مُسلمٍ في دَفْعِ الجزيةِ، ولا أن يَضمَنَها عنه، ولا يُحيلَ بها عليه .

8- قَولُ الله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قيل: المرادُ يدُ المؤَدِّي، وعلى هذا استدَلَّ به من قال: تسقُطُ الجِزيةُ بالموتِ والإسلامِ؛ لأنَّ الاستيفاءَ عن يَدِه .

9- قَولُ اللهِ تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ استدَلَّ به من قال إنَّ الجِزيةَ تؤخَذُ بإهانةٍ .

10- قولُ الله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ استدَلَّ به من قال إنَّ أهلَ الذِّمَّةِ يُترَكونَ في بلدِ الإسلامِ؛ لأنَّ مَفهومَها الكَفُّ عنهم عند أدائِها، ومن الكَفِّ ألَّا يُجْلَوْا .

11- قَولُ اللهِ تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَاستدَلَّ به من قال: لا حَدَّ لأقَلِّ الجِزيةِ .

12- قَولُ اللهِ تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ استدَلَّ به من قال: إنَّ الجِزيةَ عِوَضُ حَقنِ الدَّمِ، لا أُجرةُ الدَّارِ .

13- في قوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قولِه سبحانه: وَهُمْ صَاغِرُونَ دلالةٌ على أنَّ نساءَهم وصبيانَهم لا جزيةَ عليهم؛ لأنَّهم لا يُقاتَلون، بل قد نُهِيَ عن قَتْلِهِم .

14- وُصِفَتِ النَّصارى في قَولِه تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بأنَّهم لا يُؤمِنونَ باليومِ الآخِرِ، مع أنَّ النَّصارى يُقِرُّونَ بمَعادِ الأبدانِ! ووجهُ ذلك أنَّهم لا يُقِرُّون بما أخبَرَ اللهُ به من الأكلِ والشُّربِ واللِّباسِ والنِّكاحِ، والنَّعيم والعذابِ في الجنَّةِ والنَّارِ، بل غايةُ ما يُقِرُّونَ به من النَّعيمِ: السَّماعُ والشَّمُّ، ومنهم مُتفَلسِفةٌ يُنكِرونَ مَعادَ الأجسادِ .

15- ليس المرادُ بالعطاءِ في قَولِه تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ العطاءَ الأوَّلَ وحْدَه، بل العطاءُ المستمِرُّ المتكرِّرُ كُلَّ عامٍ .

16- دلَّ قولُه تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ على أنَّه لا يجوزُ الإمساكُ عن قتالِهم إلَّا إذا كانوا صاغِرينَ حالَ إعطائِهم الجزيةَ، ومِن المعلومِ أنَّ مَن أظهَرَ سَبَّ نبيِّنا في وجوهِنا، وشَتَمَ ربَّنا على رُؤوسِ الملإِ مِنَّا، وطعَنَ في دينِنا في مَجامِعِنا- فليس بصاغرٍ؛ لأنَّ الصاغِرَ: الذَّليلُ الحقيرُ، وهذا فِعلُ مُتعَزِّزٍ مُراغِمٍ، ففي هذه الحالِ يكونُ قتالُ هؤلاء مأمورًا به، ولا تنعقِدُ لهم ذمَّةٌ، ولو عُقِدَ لهم كان عقدًا فاسِدًا .

17- ليس المرادُ بالصَّغَار في قَولِه تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ أنْ يكونوا صاغرينَ حالَ تناوُلِ الجزيةِ منهم فقط؛ ويفارقُهم الصَّغَارُ فيما عدا هذا الوقتَ، هذا باطِلٌ قطعًا، وإنَّما أنْ يلازِمَهم الصَّغَارُ والذُّلُّ في كامِلِ مدَّةِ أداءِ الجِزيةِ .

18- في قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ دليلٌ على توهينِ قولِ مَن قال: إنَّ مَن أسلم مِن رجالهم - وقد مضى بعضُ السَّنَةِ - فعليه مِن الجزيةِ بقَدْر ما مضَى منها. لأنَّ اللهَ جلَّ جلالُه جَعَلَ الجزيةَ صَغَارًا؛ والصَّغَارُ لاحقٌ بالدافع وقتَ الدفعِ؛ لقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ؛ وكيف يُلْزَمُ المسلمُ صَغَارَ الجزيةِ وقد أَعَزَّهُ اللهُ بالإسلام؛ والإسلامُ يَجُبُّ ما قبْلَه

 

؟!

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للرُّجوعِ إلى غَرَضِ إقصاءِ المُشركينَ عن المسجدِ الحرامِ، المُفادِ بقولِهِ: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ؛ وجِيءَ به لتأكيدِ الأَمْرِ بإبعادِهم عن المسجدِ الحَرامِ، مع تَعليلِه بعِلَّةِ أُخْرى تَقتضي إبعادَهم عنه، وهي: أَنَّهم نَجَسٌ

.

- وقولُهُ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فيه حَصْرٌ، وصِيغةُ الحَصْرِ هذِه لإفادةِ نَفْي التَّردُّدِ في اعْتِبارِهم نَجَسًا؛ فهي للمُبالَغةِ في اتِّصافِهم بالنَّجاسةِ، حتَّى كأنَّهم لا وصْف لهم إلَّا النَّجَسيَّة .

- ووُصِفوا بالمصْدَرِ نَجَسٌ مُبالَغةً أيضًا، كأنَّهم عينُ النَّجاسةِ، أو هم ذَوُو نَجَسٍ .

- قولُه: فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فيه النَّهيُ عن القُرْبِ؛ للمُبالَغَةِ، أو للمَنْعِ عن دُخولِ الحَرَمِ .

- قولُ الله تعالى: فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ جُعِلَ النَّهيُ على صورةِ نَهيِ المُشرِكينَ عن ذلك؛ مبالغةً في نهيِ المُؤمِنينَ حين جُعِلوا مُكَلَّفينَ بانكفافِ المُشرِكينَ عن الاقترابِ مِن المسجِدِ الحَرامِ .

- قولُهُ: بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا فيه إضافةُ (العامِ) إلى ضَميرِ (هُم)؛ لمزيدِ اخْتِصاصِهم بحُكمٍ هائلٍ في ذلك العامِ، ووصْفُ (العامِ) باسمِ الإشارةِ هَذَا؛ لزِيادةِ تمييزِه وبيانِه .

- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَعليلٌ لقولِه: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً، أي: إنَّ اللهَ يُغْنيكم؛ لأنَّه يَعْلَمُ ما لكم مِن المنافعِ من وِفادةِ القبائلِ، فلمَّا مَنَعَكم مِن تمكينِهم من الحجِّ لم يَكُنْ تاركًا مَنْفعتَكم؛ فقَدَّرَ غِناكُم عنهم بوسائلَ أُخْرى عَلِمها، وأحْكَم تَدبيرَها .

2- قوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ

- قولُه: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ... هذه الجملةُ استئنافٌ ابتدائيٌّ، لا تَتفرَّعُ على التي قَبْلَها؛ فالكلامُ انْتِقالٌ من غَرَضِ نَبْذِ العَهْدِ مَع المشركينَ، وأحوالِ المُعامَلةِ بَينهم وبين المسلِمين، إلى غرَضِ المُعامَلةِ بين المسلمينَ وأَهْلِ الكِتابِ من اليهودِ والنَّصارى .

- وقولُهُ: عَنْ يَدٍ تأكيدٌ لمعنى يُعْطُوا؛ للتَّنصيصِ على الإعطاءِ، و(عن) فيه للمُجاوَزةِ، أي: يَدْفُعوها بأيديهم، ولا يُقبَلُ منهم إرسالُها ولا الحوالةُ فيها، ومَحَلُّ المجرورِ الحالُ مِن الجِزيةِ، والمرادُ يَدُ المُعْطي، أي: يُعْطُوها غيرَ مُمتنِعينَ، ولا مُنازِعينَ في إعطائِها، وهذا كقولِ العَربِ: (أعْطَى بيدِه) إذا انْقادَ .

================

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيتان (30-31)

ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ

غريب الكلمات:

 

يُضَاهِئُونَ: أي: يُشابِهونَ، والمُضاهاةُ: مُعارَضةُ الفِعلِ بمِثْلِه، يقالُ: ضاهَيْتُه: إذا فعَلْتَ مثلَ فِعْلِه، وأَصْلُ (ضهي): يدلُّ على مُشابَهةِ شَيءٍ لِشَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ اليهودَ قالوا: إنَّ عُزَيرًا هو ابنُ اللهِ، والنَّصارى قالوا: المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ هو ابنُ اللهِ، ذلك قولُهم بألسِنَتِهم، يُشابِهونَ قَولَ الكُفَّارِ مِن الأُمَمِ قَبْلَهم، لَعَنَهم اللهُ، كيف يُصرَفونَ عَنِ الحَقِّ؟!

اتَّخَذوا عُلَماءَهم وعُبَّادَهم سادةً يُطيعُونَهم مِن دُونِ اللهِ، في تحليلِ الحَرامِ، وتحريمِ الحَلالِ، واتَّخَذَ النَّصارى المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ إلهًا مِن دُونِ اللهِ، وما أُمِرُوا إلَّا لِيَعبُدوا إلهًا واحدًا، هو اللهُ، لا إلهَ إلَّا هو، تنَزَّهَ وتقَدَّس عن شِرْكِهم.

تفسير الآيتين:

 

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا حكَمَ اللهُ تعالى في الآيةِ المُتقَدِّمةِ على اليهودِ والنَّصارى بأنَّهم لا يُؤمِنونَ بالله، شَرَحَ ذلك في هذه الآيةِ، وذلك بأنْ نقَلَ عنهم أنَّهم أثبَتُوا لله ابنًا، ومَن جَوَّزَ ذلك في حَقِّ الإلهِ، فهو في الحقيقةِ قد أنكَرَ الإلهَ، وأيضًا بيَّنَ تعالى أنَّهم بمنزلةِ المُشرِكينَ في الشِّركِ، وإن كانت طُرُقُ القَولِ بالشِّركِ مُختلِفةً؛ إذ لا فَرقَ بين من يَعبُدُ الصَّنمَ، وبين من يعبُدُ المَسيحَ وغَيرَه؛ لأنَّه لا معنى للشِّركِ إلَّا أن يتَّخِذَ الإنسانُ مع اللهِ مَعبودًا، فإذا حصَلَ هذا المعنى، فقد حصَلَ الشِّركُ

.

وأيضًا لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بقِتالِ أهلِ الكِتابِ، ووصَفَهم بما هو السَّبَبُ الباعِثُ على ذلك؛ عطَفَ عليه بعضَ أقوالِهم المُبيحةِ لِقِتالِهم، المُوجِبةِ لِنَكالِهم .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ.

أي: وقالت اليهودُ : عُزَيرٌ هو ابنُ اللهِ !

وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ.

أي: وقالت النَّصارى: المسيحُ عيسى ابنُ مَريمَ، هو ابنُ اللهِ !

كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة: 116] .

وقال سبحانه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم: 88 - 92] .

عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا كان يومُ القيامةِ أذَّنَ مُؤذِّنٌ: لِيَتْبَعْ كُلُّ أمَّةٍ ما كانت تعبُدُ، فلا يبقى أحدٌ كان يعبُدُ غَيرَ اللهِ- سُبحانه- من الأصنامِ والأنصابِ إلَّا يَتَساقَطونَ في النَّارِ، حتى إذا لم يبقَ إلَّا مَن كان يعبُدُ اللهَ مِن بَرٍّ وفاجرٍ وَغُبَّرِ أهلِ الكِتابِ، فيُدعى اليَهودُ، فيقالُ لهم: ما كُنْتُم تعبُدونَ؟ قالوا: كنَّا نعبُدُ عُزَيرَ ابنَ اللهِ، فيُقال: كذَبْتُم؛ ما اتَّخَذَ اللهُ مِن صاحبةٍ ولا وَلَدٍ، فماذا تَبْغُونَ؟ قالوا: عَطِشْنا يا رَبَّنا، فاسْقِنا، فيُشارُ إليهم: ألَا تَرِدُونَ ؟ فيُحشَرونَ إلى النَّارِ كأنَّها سرابٌ، يَحطِمُ بعضُها بعضًا، فيتساقَطونَ في النَّارِ، ثم يُدعَى النَّصارى، فيُقالُ لهم: ما كُنتُم تَعبُدونَ؟ قالوا: كنَّا نعبُدُ المسيحَ ابنَ اللهِ، فيُقال لهم: كَذَبْتُم؛ ما اتَّخَذَ اللهُ مِن صاحبةٍ ولا وَلَدٍ، فيُقال لهم: ماذا تَبغُونَ؟ فيقولونَ: عَطِشْنا يا رَبَّنا، فاسْقِنا، قال: فيُشارُ إليهم: ألَا تَرِدُونَ؟ فيُحشَرونَ إلى جَهنَّمَ، كأنَّها سرابٌ، يَحطِمُ بعضُها بعضًا، فيتَساقَطونَ في النَّارِ )) .

ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ.

أي: نِسبَةُ الوَلَدِ إلى اللهِ تعالى كَذِبًا وزورًا هو قولُ اليهودِ والنَّصارى بألسنتِهم، فلا مُستنَدَ لهم فيما ادَّعَوه .

يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ.

أي: يُشابِهُ قَولُ اليهودِ والنَّصارى في نِسبَتِهم الوَلَدَ إلى الله تعالى، قَولَ الكُفَّارِ مِن الأُمَمِ قَبلَهم في ذلك .

قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.

أي: لعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى، كيف يُصرَفونَ عَنِ الحَقِّ، فيَضِلُّونَ عنه، ويَعْدِلونَ إلى الباطِلِ، ومِن أينَ يتطرَّقُ إليهم ذلك الصَّرْفُ بعد وضوحِ الدَّليلِ على أنَّ الله تعالى لم يتَّخِذْ وَلَدًا ؟!

كما قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 72 - 77] .

اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه تعالى وصَفَ اليَهودَ والنَّصارى بضَربٍ آخَرَ مِن الشِّرْكِ، بِقَولِه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ .

اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ.

أي: اتَّخذَ اليَهودُ عُلَماءَهم، واتَّخَذ النَّصارى عُبَّادَهم، سادةً يُطيعونَهم مِن دُونِ اللهِ، في تحليلِ الحرامِ، وتَحريمِ الحَلالِ .

وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ.

أي: واتَّخَذَ النَّصارى المسيحَ عِيسى ابنَ مَريمَ إلهًا مِن دُونِ الله سُبحانَه !

وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا.

أي: وما أُمِرَ اليَهودُ والنَّصارى في كُتُبِهم إلَّا أن يعبُدوا ويُطيعُوا مَعبودًا واحدًا، وهو اللهُ المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه، المُتَفَرِّدُ بالتَّشريعِ والتَّحليلِ والتَّحريمِ دونَ ما سِواه .

كما قال تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 4-5] .

لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ.

أي: لا مُستَحِقَّ للعبادةِ إلَّا اللهُ وَحدَه .

سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ .

أي: تنَزَّه اللهُ وتقَدَّسَ أتمَّ تنزيهٍ، عن شِرْكِ المُشرِكينَ، وافتراءاتِ الكافِرينَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

دلَّ قولُه تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ على أنَّ مَن أطاع أحدًا في دينٍ لم يأذَنِ اللهُ به- من تحليلٍ أو تحريمٍ، أو استحبابٍ أو إيجابٍ- فقد لَحِقَه من هذا الذمِّ نصيبٌ، ويلحق الذمُّ مَن تبيَّن له الحقَّ فترَكَه أو قصَّرَ في طلبه فلم يتبيَّنْ له، أو أعرضَ عن طلبه لهوىً أو كسلٍ ونحو ذلك

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ في هذا دليلٌ على أنَّ مَن أخبَرَ عن كُفرِ غَيرِه، الذي لا يجوزُ لأحدٍ أن يَبتدئَ به، لا حَرَجَ عليه؛ لأنَّه إنَّما ينطِقُ به على معنى الاستعظامِ له والرَّدِّ عليه، فلا يمنَعُ ذلك منه، ولو شاء ربُّنا ما تكَلَّمَ به أحدٌ، فإذا أمكَنَ مِن انطلاقِ الألسِنَةِ به، فقد أذِنَ في الإخبارِ عنه، على معنى إنكارِه بالقَلبِ واللِّسانِ، والرَّدِّ عليه بالحُجَّةِ والبُرهانِ

.

2- ذَكَرَ اللهُ تعالى اعتقادَ النَّصارى في عيسى على ثلاثةِ أشكالٍ؛ فمنها ما قال اللهُ تعالى عنهم: وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، ومنها: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17] ، ومنها: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة: 73] ، ولكنَّ هذه الاعتقاداتِ حقيقتُها اعتقادٌ واحدٌ عندَهم- لا أنَّها اعتقادُ كلِّ فِرْقةٍ على حِدَةٍ- فما ذَكَرَهُ اللهُ تعالى عنهم هو قولُ جملةِ النَّصارى؛ فإنَّهم يقولونَ: إنَّه اللهُ باعتبارٍ، وإنَّه ابنُ اللهِ باعتبارٍ آخَرَ، وإنَّه ثالثُ ثلاثةٍ باعتبارِ آخَرَ؛ حيث إنَّهم عَبَدُوا معه المسيحَ وأمَّه، فصار ثالثَ ثلاثةٍ- سُبحانه وتعالى عمَّا يُشرِكون .

3- إنَّ اللهَ سُبحانه لم يذكُرْ قولًا مقرونًا بذِكرِ الأفواهِ والألسُنِ إلَّا وكان قولًا زُورًا، قال الله تعالى: ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، وقال تعالى أيضًا: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 167] ، وقال: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف: 5] ، وقال: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11] .

4- في قوله تعالى: ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ دلالةٌ على جوازِ تسميةِ الشيءِ باسمِ الشيءِ إذا جاوَره؛ لأنَّ القولَ - لا محالةَ - بالألسنةِ لا بالأفواهِ .

5- قال اللهُ تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ الإشراكُ باللهِ في حُكْمِه، والإشراكُ به في عِبادَتِه كِلاهما بمعنًى واحدٍ، لا فَرْقَ بينهما البتَّةَ؛ فالذي يَتْبَعُ نظامًا غيرَ نِظامِ اللهِ، وتشريعًا غيرَ ما شَرَعه الله، وقانونًا مُخالِفًا لِشَرعِ اللهِ، مِن وَضْعِ البَشرِ، مُعرِضًا عن نورِ السَّماءِ، الذي أنزَلَه اللهُ على لِسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، من كان يفعَلُ هذا هو ومَن يعبُدُ الصَّنَمَ ويَسجُدُ للوَثَنِ، لا فرق بينهما البتَّةَ بِوجهٍ مِن الوجوهِ، فهما واحِدٌ؛ فكِلاهما مُشرِكٌ بالله: هذا أشرَكَ به في عبادَتِه، وهذا أشرَكَ به في حُكمِه، والإشراكُ به في عِبادَتِه، والإشراكُ به في حُكمِه، كِلاهما سَواءٌ، وقد قال اللهُ جلَّ وعلا في الإشراكِ به في عبِادَتِه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] وقال في الإشراكِ به في حُكْمِه أيضًا: لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 26] وفي قراءةِ ابنِ عامرٍ مِن السَّبعةِ: (وَلَا تُشْرِكْ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا بصيغةِ النَّهيِ المُطابِقةِ لِقَولِه: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] ؛ فكِلاهما إشراكٌ باللهِ .

6- مَن اعتقَدَ طاعةَ أحدٍ لِعَينِه أو لِصَفةٍ فيه، فأطاعه في خلافِ ما أمَرَ اللهُ، فهو من الذين ذُكِروا في قولِه تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أنَّهم كانوا يعتَقِدونَ وُجوبَ طاعةِ أحْبارِهم، فأخبَرَ اللهُ تعالى أنَّهم اتَّخَذوهم أربابًا .

7- هؤلاء الذينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا- حيث أطاعُوهم في تحليلِ ما حرَّم اللهُ وتحريمِ ما أحلَّ اللهُ- يكونونَ على وجهينِ:

أحدهما: أنْ يعلَمُوا أنَّهم بدَّلوا دينَ الله؛ فيتَّبِعونَهم على التَّبديلِ، فيعتقدونَ تحليلَ ما حرَّم اللهُ، وتحريمَ ما أحلَّ اللهُ؛ اتِّباعًا لرُؤسائِهم- مع عِلْمِهم أنَّهم خالفُوا دينَ الرُّسُلِ- فهذا كفرٌ، وقد جعَلَه اللهُ ورسولُه شِركًا، وإنْ لم يكونوا يُصَلُّونَ لهم، ويَسجُدونَ لهم.

والثاني: أنْ يكون اعتقادُهم وإيمانُهم بتحريمِ الحرامِ وتحليلِ الحلالِ ثابتًا، لكِنَّهم أطاعوهم في مَعصيةِ اللهِ- كما يفعلُ المسلمُ ما يفعلُه مِن المعاصي التي يَعتقِدُ أنَّها معاصٍ- فهؤلاء لهم حُكْمُ أمثالِهم من أهلِ الذُّنوبِ، كما ثبت في الصَّحيحِ عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّما الطَّاعةُ في المعروفِ )) .

8- لم تُوصفِ النَّصارى باسم (المُشرِكينَ)- يعني: بأل التَّعريفِ- وإنما وُصِفت بعمومِ فِعْلِ الشِّركِ، كما في قوله تعالى: سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ووجهُ ذلك: أنَّ أهلَ الكتابِ ليس في أصلِ دِينِهم شِركٌ؛ فإنَّ اللهَ إنَّما بعثَ الرُّسُلَ بالتَّوحيدِ، فكلُّ مَن آمن بالرُّسُلِ والكُتُبِ، لم يكنْ في أصلِ دينِهم شِرْكٌ، كما في قَولِه تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا ولكنَّ النَّصارى ابتَدَعوا الشِّركَ، وحيث ميَّزَهُم اللهُ عن المشركين، فعَطَفَ ذِكْرَهُم على ذِكْرِ المُشرِكينَ؛ فلِأَنَّ أصلَ دينِهم اتِّباعُ الكُتُبِ المُنزَّلةِ التي جاءت بالتَّوحيدِ لا بالشِّركِ، وفرْقٌ بين دَلالةِ اللَّفظِ مُفرَدًا ومَقرونًا، فإذا أُفْرِدَ ذِكْرُ المشركينَ دخلَ فيهم أهلُ الكتابِ، وإذا قُرِنُوا بأهلِ الكِتابِ لم يَدخُلوا فيهم .

9- قَولُ اللهِ تعالى: عَمَّا يُشْرِكُونَ فيه دَلالةٌ على إطلاقِ اسمِ الشِّركِ على اليَهودِ والنَّصارى

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ

- قولُه: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ المقصودُ مِن الإشارةِ ذلِكَ تَشهيرُ القولِ وتمييزُه؛ زِيادةً في تَشنيعِه عِندَ المسلمينَ

.

- وقولُه: بأَفْواهِهِمْ حالٌ مِن القولِ، والمرادُ: أنَّه قولٌ لا يَعْدو الوجودَ في اللِّسانِ، وليس له ما يُحقِّقُهُ في الواقِعِ، وهذا كِنايةٌ عن كوْنِهِ كاذبًا، وفي هذا أيضًا إلزامٌ لهم بهذا القولِ، وسَدٌّ لبابِ تَنصُّلِهم منه؛ إذ هو إقرارُهم بأفواهِهِم، وصَريحُ كلامِهم .

- وجُملةُ: أَنَّى يُؤْفَكُونَ مُستأنَفةٌ، والاسْتِفهام فيها مُستَعْمَل في التَّعجُّبِ من حالِهم في الاتِّباع الباطلِ، حتَّى شبَّهَ المكانَ الذي يُصرَفون إليه باعْتِقادِهم بمكانٍ مجهولٍ مِن شأنِهِ أنْ يُسألَ عنه باسمِ الاسْتِفهامِ عن المكانِ أَنَّى .

2- قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ

- قولُهُ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ... الجملةُ تَقريرٌ لمضمونِ جُمْلةِ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؛ ليُبْنَى على التَّقريرِ زِيادةُ التَّشنيعِ بقولِه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا .

===========

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيتان (32-33)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ

مشكل الإعراب:

 

قَوْلُه تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ

أَن يُتِمَّ: مَصدرٌ مُؤَوَّلٌ، وهو في محلِّ نَصبٍ، مَفعولٌ به، والاستثناءُ هنا مُفرَّغٌ- ناقِصٌ مَنفيٌّ- وإنما دَخَلَ الاستثناءُ المفرَّغُ مع الفِعلِ الْمُثْبَتِ يَأْبَى- وشَرطُ الاستثناءِ المُفَرَّغِ أن يكونَ بعد نفيٍ أو شِبْههِ كالاستفهامِ

- لأنَّ يَأْبَى في معنى النَّفيِ؛ لأنَّه في معنى (لا يُريِدُ)، والتَّقديرُ: ولا يُريدُ اللهُ إلَّا إتمامَ نُورِه. وقيل: إنَّ المُستثنى منه مَحذوفٌ، وهو مفعولُ يَأْبَى، والتَّقديرُ: ويأبى اللهُ كُلَّ شيءٍ إلَّا إتمامَ نورِه، وعليه فـ أَنْ يُتِمَّ في محلِّ نَصبٍ على الاستثناءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ أهلَ الكِتابِ يُريدونَ أن يُبطِلوا دينَ اللهِ الإسلامَ، بما يَقولونَه بألسِنَتِهم مِن تكذيبٍ للحَقِّ، وافتراءاتٍ عليه، ولا يَرضى اللهُ إلَّا أن يُتِمَّ دِينَه ويُظهِرَه للنَّاسِ، ولو كَرِه الكافِرونَ، ويُخبِرُ تعالى أنَّه هو الذي أرسَلَ رَسولَه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالهُدى، وبِدِينِ الإسلامِ؛ لِيُظهِرَه على سائِرِ الأديانِ، ولو كَرِه المُشرِكونَ.

تفسير الآيتين:

 

يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وَهَّى اللهُ سُبحانَه أمْرَ أهلِ الكِتابِ مِن جِهةِ استنادِهم، زاد ذلك توهيةً مِن جِهةِ مُرادِهم؛ بالإعلامِ بأنَّهم بقِتالِهم لأهلِ الطَّاعةِ إنَّما يُقاتِلونَ اللهَ تعالى، وأنَّه لا يُنَفِّذُ غَرَضَهم، بل يريدُ غَيرَ ما يريدونَ، ومِن المُقَرَّرِ أنَّه لا يكونُ إلَّا ما يريدُ سُبحانه

.

يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ.

أي: يريدُ اليَهودُ والنَّصارى أن يُبْطِلوا دينَ اللهِ الإسلامَ، بما يقولونَه بألسِنَتِهم مِن تكذيبٍ للحَقِّ، وافتراءاتٍ عليه .

كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 7، 8].

وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ.

أي: ولا يَرضى اللهُ إلَّا أن يُتِمَّ دينَه، ويُظهِرَه للنَّاس .

كما قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3].

وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.

أي: ولو كَرِهَ الكُفَّارُ إتمامَ اللهِ دينَه، فإنَّه سيُتِمُّه لا محالةَ .

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا حكى اللهَ تعالى عن الأعداءِ أنَّهم يُحاوِلونَ إطفاءَ نورِ الله، وبيَّنَ تعالى أنَّه يأبى ذلك، وأنَّه يُتِمُّ نورَه- بَيَّنَ كيفيَّةَ ذلك الإتمامِ ، وبيَّنَ النُّورَ المَذكورَ الذي قد تكَفَّلَ بإتمامِه وحِفْظِه، فقال تعالى :

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ.

أي: اللهُ وَحْدَه هو الذي بعَثَ رَسولَه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بالعِلمِ النَّافِعِ المُشتَمِل على الإيمانِ الصَّحيحِ، ومعرفةِ الشَّرائِعِ والأحكامِ، وبَعَثَه بدِينِ الإسلامِ المُشتَمِل على الأعمالِ الصَّالحةِ النَّافعةِ في الدُّنيا والآخرةِ .

لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.

أي: ليُعلِيَ اللهُ الإسلامَ بالغَلَبةِ والانتصارِ على أهلِ الأديانِ، ويُعلِيَه بالحُجَّةِ والبُرهانِ على سائرِ الأديانِ .

عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: سَمِعْتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يذهَبُ اللَّيلُ والنَّهارُ حتى تُعبَدَ اللَّاتُ والعُزَّى. فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إن كنْتُ لَأظَنُّ حين أنزَلَ اللهُ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أنَّ ذلك تامًّا! قال: إنَّه سيكونُ من ذلك ما شاءَ اللهُ )) .

وعن ثوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ زَوَى ليَ الأرضَ ، فرأَيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتِي سيبلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي منها )) .

وعن خبَّابِ بن الأرَتِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((شَكَوْنا إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظِلِّ الكَعبةِ، قُلنا له: ألَا تَستَنصِرُ لنا، ألَا تدعو اللهَ لنا؟ قال: كان الرَّجُلُ فيمن قبلَكم يُحفَرُ له في الأرضِ فيُجعَلُ فيه، فيُجاءُ بالمِنشارِ فيُوضَعُ على رأسِه، فيُشَقُّ باثنَتَينِ، وما يصدُّه ذلك عن دينِه، ويُمشَطُ بأمشاطِ الحَديدِ ما دونَ لَحمِه مِن عَظمٍ أو عصَبٍ، وما يصُدُّه ذلك عن دينِه، واللهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمرُ، حتى يسيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنعاءَ إلى حَضرمَوتَ، لا يخافُ إلَّا اللهَ، أو الذِّئبَ على غَنَمِه، ولكنَّكم تَستعجِلون )) .

وعن تميمٍ الدَّاريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: سمِعْتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لَيَبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يترُكُ اللهُ بَيتَ مَدَرٍ ولا وبَرٍ إلَّا أدخَلَه اللهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ، أو بذُلِّ ذَليلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللهُ به الكُفرَ)) .

وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.

أي: ولو كَرِهَ المشركونَ ظُهورَ الإسلامِ على جميعِ الأديانِ، فإنَّ اللهَ سيُظهِرُه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بُشرى وتثبيتٌ لأهلِ الإسلامِ الدَّاعِينَ له العاملينَ به، أنَّ اللهَ سبحانَه قد تكَفَّلَ لهذا الأمرِ بالتَّمامِ والظُّهورِ على جميعِ الأديانِ، وأنَّه لا بُدَّ أنْ يكونوا على ثِقةٍ مِن هذا الوعدِ الذي لا بدَّ أنْ يُنجِزَه سبحانَه

.

2- بعثَ اللهُ تعالى مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ إلى النَّاسِ؛ فبالهدى يُعرَفُ الحقُّ، وبدينِ الحَقِّ يُقصَدُ الخيرُ ويُعمَلُ به، فلا بدَّ مِن عِلْمٍ بالحَقِّ، وقصْدٍ له، وقُدرةٍ عليه، والفتنةُ تضادُّ ذلك؛ فإنَّها تمنعُ معرفةَ الحَقِّ؛ لِمَا فيها من الشُّبُهاتِ التي تَلبِسُ الحقَّ بالباطِلِ، أو تمنَعُ قصدَ الحَقِّ؛ لِمَا فيها من الأهواءِ والشَّهواتِ، أو تمنعُ القُدرةَ على الخيرِ؛ لِمَا فيها من ظهورِ قُوَّةِ الشَّرِّ

 

.

3- الوَعدُ الحَقُّ مِن اللهِ، الدَّالُّ على سُنَّتِه التي لا تتبَدَّلُ: أنَّه مُتِمُّ نُورِه بإظهارِ دِينِه، ولو كَرِهَ الكافِرونَ، وهو وعدٌ تطمَئِنُّ له قلوبُ الذين آمَنوا، فيدفَعُهم هذا إلى المُضِيِّ في الطَّريقِ على المشَقَّةِ واللَّأواءِ في الطَّريقِ، وعلى الكَيدِ والحَربِ مِن الكافرينِ؛ قال الله تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ

الفوائد العلمية واللطائف:

 

 

1- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ بيانُ أنَّه لا هُدَى إلَّا فيما جاء به الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يَقبلُ اللهُ مِن أحدٍ دينًا يَدينُه به إلَّا أنْ يكونَ مُوافِقًا لدينِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد نزَّه سبحانه وتعالى نفسَه عمَّا يَصِفُه به العبادُ إلَّا ما وصفَه به المُرسَلونَ، فقال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 180-181] وسلَّمَ على المُرسَلينَ؛ لِسَلامةِ ما وصَفُوه به مِن النَّقائِصِ والعُيوبِ

.

2- كثيرًا ما يجمَعُ سُبحانه بين هذينِ الأصلَينِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لأنَّ بهما تمامَ الدَّعوةِ، وظهورَ دِينِه على الدِّين ِكُلِّه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ كالبَيانِ لِقَولِه تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ؛ ولذلك كَرَّرَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، غيرَ أنَّه وضَعَ الْمُشْرِكُونَ مَوضِعَ الْكَافِرُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم ضَمُّوا الكُفرَ بالرَّسولِ إلى الشِّركِ باللهِ تعالى

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ لزِيادةِ إثارةِ غَيظِ المُسلِمينَ على أَهْلِ الكتابِ، بكَشْفِ ما يُضمِرونَه للإسلامِ من المُمالاةِ، والتألُّبِ على مُناوأةِ الدِّينِ

.

- وقد مَثَّلَ حالَهم في طَلبِهم أنْ يُبطِلوا نُبوَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتكذيبِ، بحالِ مَن يُريدُ أنْ يَنْفُخَ في نُورٍ عَظيمٍ مُنبَثٍّ في الآفاقِ، يُريدُ اللهُ أنْ يَزيدَه ويُبلِغَه الغايةَ القُصْوى في الإشراقِ أو الإضاءةِ؛ ليُطْفئَه بنَفخِه ويَطْمِسَه، ومِن كمالِ بلاغةِ هذا الكلامِ أنَّه صالحٌ لتَفكيك التَّشبيهِ؛ بأن يُشبَّهَ الإسلامُ وحْدَه بالنُّورِ، ويُشبَّهَ مُحاوِلُو إبطالِه بمُريدِي إطفاءِ النُّورِ، ويُشَبَّهُ الإرجافُ والتَّكذيبُ بالنَّفخِ، ومِن الرَّشاقةِ أنَّ آلةَ النَّفخِ وآلةَ التَّكذيبِ واحدةٌ، وهي الأفواهُ ، وهذا التَّمثيلُ له دَلالتانِ؛ الأُولى: قوَّةُ نورِ اللهِ، وظُهورُ أَمْرِهِ، حتَّى مَثَلَ أمامَهم نورًا حقيقيًّا، كنُورِ الشَّمْسِ. والثانيةُ: ضَعْفِ كَيدِ الكافرين؛ لأنَّ كُلَّ مُحاولاتِهم لم تَكَدْ تَعْدو النَّفْخَ بأفواهِهم، وما ذلك بمُحقِّقٍ لهم ما يُريدونَ .

- قولُه: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ في إضافةِ النُّورِ إلى اسمِ الجلالةِ بقولِه: نُورَ اللَّهِ: إشارةٌ إلى أنَّ مُحاولةَ إطفائِه عَبَثٌ، وأنَّ أصحابَ تِلك المحاولةِ لا يَبلُغون مُرادَهم .

- وقولُهُ: بِأَفْوَاهِهِمْ تَعبيرٌ جميلٌ رشيقٌ؛ لأنَّ المعنى تمَّ بدُونِه؛ فجاءَ هو لإضافةِ ظِلالٍ رقيقةٍ على المعنى العامِّ، اكْتَسى بها جمالًا ورُواءً؛ فقد أفادتْ- أولًا- أنَّ كيدَهم للقرآنِ لم يَعْدُ كلماتٍ جوفاءَ اتَّهمُوه بها (أَساطيرُ الأوَّلين - رِئيٌ من الجِنِّ- شِعْرٌ- لو نَشاءُ لقُلْنا مِثْلَ هذا)؛ هذه الكلماتُ لم يَكُنْ لها نصيبٌ من الوجودِ سِوى التلفُّظِ بها لم تتمكَّنْ حتَّى من قُلوبِ قائليها، وهذا يدُلُّ على ضَعْفِ كيدِهم، وهى تُفيدُ- ثانيًا- أنَّ النُّورَ كان ماثلًا أمامَهم حتَّى قَصَدوه قصدًا في مكانٍ وجِهةٍ، وهذا يدلُّ على ظُهورِ أَمْرِ اللهِ، وقوَّةِ انْتِصارِه، وهى تُفيد - ثالثًا - أنَّ هذا النُّورَ لم يَكُنْ لأيِّ عامِلٍ آخَرَ أنْ يُطْفِئه (ريحٌ شديدةٌ مثلًا، أو عاصِفةٌ مُدمِّرةٌ)؛ فهو قائمٌ رَغْمَ هذه التقلُّباتِ التي لا يَكادُ يَخْلو منها وَقتٌ؛ فكيف يَتسنَّى لهم أنْ يُطْفِئوه بأفواهِهِم؟! إنَّه نُورٌ قويٌّ باهِرٌ، وسيَظلُّ- هكذا- نُورًا باهرًا قويًّا، ولو كَرِهَ الكافرون .

- ومِن محاسِنِ البيانِ أيضًا في قولِه تعالى: نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ أنَّ فيه إضافَتينِ؛ إحْداهُما: إضافةُ النُّورِ إلى اللهِ تعالى: نُورَ اللَّهِ، والمُرادُ به دِينُ الإسلامِ، والأُخْرى إضافةُ الأفواهِ، وهي الآلةُ المُستَعْملةُ للإطفاءِ إلى جماعةِ المُريدينَ لإطفاءِ النُّورِ: بِأَفْوَاهِهِمْ وعند التَّأمُّلِ في الإضافةِ الأُوْلى: نُورَ اللَّهِ يتَّضِحُ أنَّ النُّورَ المُضافَ قَدْ اكْتَسَبَ قَدْرًا مِن خَصائصِ القوَّةِ والعَظَمةِ والشَّرَفِ والعُلوِّ والبَقاءِ من المضافِ إليه (الله)، ثم تأتي الإضافةُ الأُخْرى: بِأَفْوَاهِهِمْ بإضافةِ الأفواهِ الضَّعيفةِ إلى نفَرٍ مِن البَشَرِ المخلوقينَ الضُّعفاءِ؛ فالمضافُ فيها- وهو كلمةُ: (أفواهٍ)- على ما فيه من الضَّعْفِ العُضويِّ والعَضَليِّ يَزدادُ ضعفًا من خلال إضافتِه إلى الضَّميرِ المُتَّصِلِ (هُمْ) العائدِ إلى أولئك المخلوقينَ المهازيلِ، وهذا مِن عجيبِ البَيانِ؛ إذ يَجْمعُ أَمْرَين؛ أحدُهما: التَّهكُّمُ بإرادتِهم، وزعْمِهم أنَّه نورٌ ضعيفٌ يُمكِنُ أنْ يَنطفِئ بمجرَّد النَّفخِ، والآخَرُ: تَصغيرُ شأنِهم، وتَضعيفُ كيدِهم؛ فهم بالمقارنةِ مع قوَّةِ الخَالقِ العظيمِ ضُعفاءُ، مهما أُوتُوا مِن قوَّةٍ، ومَحْدُودون مهما اسْتَعْملوا من آلةٍ وأداةٍ؛ فكيف إذا كانتْ أداةُ الإطفاءِ أفواهَهم ؟

- وقولُه: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ فيه إظهارُ النُّورِ في مَقامِ الإضمارِ مُضافًا إلى ضَميرِهِ عزَّ وجلَّ؛ زيادةً في الاعتِناءِ بشأنِهِ، وتَشريفًا له على تشريفٍ، وإشعارًا بعِلَّةِ الحُكْم .

- و(لو) في قولِهِ: وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ اتَّصاليَّةٌ، وهي تُفيدُ المبالغةَ بأنَّ ما بَعْدَها أجدرُ بانْتِفاءِ ما قَبْلَها لو كان مُنْتفيًا .

2- قَولُه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ

- قَولُ اللهِ تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ عبَّرَ عن الإسلامِ بالهُدى ودينِ الحَقِّ؛ تنويهًا بِفَضلِه، وتعريضًا بأنَّ ما هم عليه ليس بهُدًى ولا حقٍّ .

- قولُهُ: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ خُصَّ المشرِكون هنا بالذِّكْرِ؛ لأنَّ الكَراهةَ كراهةٌ مُختصَّةٌ بظهورِ دِينِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ ظهورَ دينِ الإسلامِ أشدُّ حسرةً على المشركين مِن كلِّ أُمَّةٍ؛ لأنَّهم الذين ابتدءُوا بمعارضتِه وعداوتِه، ودَعَوا الأُممَ للتألُّبِ عليه، واستَنْصروا بهم، فلم يُغنوا عنهم شيئًا، ولأنَّ أتمَّ مظاهرِ انتصارِ الإسلامِ كان في جزيرة العربِ، وهي ديارُ المشركينَ، وخُصَّ الكافرون قَبْلُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ؛ لأنَّها كراهةُ إتمامِ نُورِ اللهِ في قَديمِ الدَّهْرِ، وباقِيه يَعُمُّ الكَفَرةَ من لَدُنْ خَلْقِ الدُّنيا إلى انْقِراضِها، ووَقعتِ الكراهةُ والإتمامُ مِرارًا كثيرةً .

- وفي هاتَينِ الآيتَينِ مُناسَباتٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هنا في سُورةِ التَّوبةِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، بَينمَا قال عزَّ وجَلَّ في سُورةِ الصَّفِ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:8-9] ؛ فقال تعالى في الآيةِ الأُولى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ، وقال في الثَّانية: لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ: فاختُصَّتِ الأُولى بـ (أنْ)، والثانيةُ باللَّامِ دون (أنْ)؛ ووجْهُ هذِه المناسَبةِ: أنَّ الإرادةَ في الآيةِ الأُولى تَعلَّقتْ بإطفاءِ نُورِ اللهِ بأفواهِهم، وإطفاءُ نورِ اللهِ إنَّما يكونُ بما حاوَلوا مِن دَفْعِ الحَقِّ بالباطِلِ؛ فالحقُّ يُسمَّى نُورًا؛ لأنَّ حُجَجَه وبَراهينَه تُضيءِ لطالبِه بها إليه، والباطِلُ هو قولُهم بأفواهِهم، وهو ما أخْبَر اللهُ تعالى به قبلُ عن اليهودِ والنَّصارَى بقولِه: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30] ، أي: هو قولٌ لا حَقيقةَ له، ولا مَحصولَ، وبمِثلِه لا يُدفَعُ الحقُّ، وبالأفواهِ لا يُطفأُ هذا النورُ كما يُطفأُ السِّراجُ؛ لأنَّ هذا النُّورَ، وإنْ أَشْبَهَه في أنَّه يَهدِي، ويُبيِّن الحقَّ مِن الباطِل، فهو بخِلافِه في الامتِناعِ من الإطفاءِ كما يَتهيَّأ ذلك في السِّراجِ.

وأمَّا الآيةُ في سُورةِ الصَّفِّ، وتَعليقُ الإرادةِ فيها بالإطفاءِ مع زِيادةِ اللامِ، فعلى قولِ المحقِّقينَ مِن النَّحويِّين، فالفعلُ بعدَ هذه اللَّامِ مُعدًّى إلى مفعولٍ مَحذوفٍ، واللَّامُ الداخلةُ على الفِعلِ المنصوبِ تكونُ مُنبِئةً على العِلَّةِ التي لها أُنشِئَ الفِعلُ، والمرادُ في الآيةِ على هذا التَّحقيقِ: يُريدون أنْ يكذبوا؛ ليُطْفِئوا نورَ اللهِ بأفواهِهم؛ لأنَّ قَبْلَها: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ [الصف: 7] ؛ فقوله: يُرِيدُونَ لم يُذْكَر فيه مفعولُ ما يُريدونَ؛ اعتمادًا على ما نَبَّه عليه بقولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، فكأنَّه قِيل: يُريدونَ افتراءَ الكذبِ؛ ليُطْفِئوا نورَ الله؛ فلهذا خُصَّتِ الآيةُ الثانيةُ بدُخولِ اللَّامِ على (يُطْفِئوا)، ولَمَّا كان المرادُ في الآيةِ الأُولَى الإطفاءَ بالأفواهِ لِمَا دَلَّ عليه مُفتَتحُ الآياتِ، وهو قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ [التوبة: 30] ، كانتِ الإرادةُ مُعدَّاةً إلى إطفاءِ نُورِ اللهِ تعالى بأفواهِهم، أي: يُريدونَ أنْ يَدْفعوا الحقَّ بالباطِلِ مِن أفواهِهم .

وأيضًا مِمَّا يُبيِّنُ تِلك المناسباتِ ما يَلي:

أولًا: في الغاياتِ الظَّاهرةِ والمخفيَّةِ، حيثُ قال في التَّوبةِ: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا، وفي آيةِ الصَّفِّ قال: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا، وقَبْلَ النَّظَرِ في دَلالاتِ هذا الاختلافِ بين الآيتَينِ، والمعنى الذي يُضيفُه دُخولُ اللامِ في الثَّانيةِ؛ يُشارُ إلى مُقدِّمة نَحْويَّةٍ يسيرةٍ تُعينُ على فَهْمِ المعنى، وهي أنَّ الفِعْلَ المُضارِعَ يُطْفِئُوا في الآيتَينِ منصوبٌ بـ (أنْ) الظَّاهِرةِ في الأُولى، والمُضْمَرةِ في الثَّانيةِ، وتَقديرُ الثَّانيةِ: يُريدونْ لأنْ يُطْفِئوا، و(أنْ) والفِعْلُ المضارعُ بَعْدَها تؤوَّلُ بمَصْدرِ (إطفاء)، وعلى هذا يكونُ التَّقديرُ في آيةِ التَّوبةِ: (يُريدون إطفاءَ نَورِ اللهِ)، وفي آيةِ الصَّفِّ: (يُريدونِ لإطفاءِ نورِ اللهِ)، وهذه اللَّامُ هي لامُ التَّعليلِ، وفي هذا الاختِلافِ اللَّفظيِّ بين الآيتَينِ إشارةٌ إلى أنَّهم يُغايرونَ في إظهارِ غاياتِهم وأهدافِهم؛ ففي آيةِ التَّوبةِ: هم يُريدون إطفاءَ نُورِ اللهِ صَراحةً، وبصُورةٍ ظاهرةٍ ومباشِرةٍ؛ فالإطفاءُ (وهو المفعولُ به للفِعْلِ: يُريدونَ)، هو مُرادُهم عَلَنًا؛ فالغايةُ من إرادتِهم هنا ظاهرةٌ وصريحةٌ.

أمَّا آيةُ الصَّفِّ، وتَقديرُها: (يُريدونَ لإطفاءِ نُورِ اللهِ)؛ فالشَّيءُ المُرادُ فيها (وهو المفعولُ بِهِ للفِعْلِ: يُريدون) غيرُ مذكورٍ، أي: إنَّهم يُريدون مُراداتٍ مُخْتلِفةً يَجْعلونها وسائلَ مُوصِلةً في نهاياتِها إلى إطفاءِ نُورِ اللهِ؛ فهم لا يُظهِرون عَلَنًا أنَّهم يُريدونَ الإطفاءَ، وإنَّما يُريدونَ أنْ يَصِلوا إلى الإطفاءِ من خلالِ طُرُقٍ غير مُباشِرةٍ تُوصِلُ في زَعْمِهم وتَدْبيرِهم إليه؛ ولذلك يَظهرونَ في هذه الحالِ بعباءاتٍ مُختلِفةٍ، ويَدْعُمون البرامجَ والمشروعاتِ، ويَرْفعونَ شِعاراتٍ إصلاحيَّةً في ظاهِرِها، لكِنَّها تتغيَّا في حقيقتِها إطفاءَ نُورِ اللهِ، وما مِن شكٍّ في أنَّ خُطورةَ هؤلاء في الحالِ الثَّانيةِ، وهي حالُ الغاياتِ المخفيَّةِ؛ أشدُّ من خطورتِهم في الحالِ الأُوْلى التي يُصرِّحون فيها بمُراداتِهم، ويُعلِنونَ فيها غاياتِهم.

وقدِ اتَّفقتْ الآيتانِ في البَدْءِ بالفِعْلِ المُضارِعِ: يُرِيدُونَ الذي يَدُلُّ على الحدوثِ والتَّجدُّدِ في الحاضِرِ والمُستقْبَلِ، ولم يأتِ التعبيرُ بالفِعْلِ الماضي (أَرَادُوا) الذي يَدُلُّ في الأَصْلِ على انْقِضاءِ حُدوثِ الفِعْلِ في الزَّمنِ الماضي؛ فهم يُريدونَ بصورةٍ مُتجدِّدةٍ ومُتكرِّرةٍ إطفاءَ نُورِ اللهِ مُنذُ ظهورِ ذلك النُّورِ إلى زمنِنا الحاضِرِ، وستتجدَّدُ معهم تلك الإرادةُ، وتَستمِرُّ ما بقي هذا النُّورُ الممتدُّ على مدَى الزَّمنِ المُتتابِعِ، وما بَقِيتْ فيهم قُوَّةٌ على النَّفْخِ؛ إنَّهم عَبْرَ التاريخِ لم يَقِفوا عند حدِّ انحرافِهم الشَّخصيِّ عن دِينِ الحَقِّ، واتِّباعِهم شهواتِهم، إنَّما هم كذلك يُعلِنونَ باستمرارٍ الحربَ على دِينِ الحَقِّ، ويُريدونَ إطفاءَ نُورِ اللهِ في الأرضِ.

ثانيًا: في الموقِفِ الرَّبَّانيِّ؛ حيثُ جاءَ الموقِفُ الربانيُّ من تلك الإراداتِ والغاياتِ في الآيتينِ مُختلِفًا في المَبْنى؛ ليُعطيَ المُتأمِّلَ دَلالاتٍ إضافيَّةً في المعنى، تَتناسَبُ مع اختلافِ الدَّلالاتِ في الغاياتِ في الآيتينِ: ففي آيةِ التَّوبةِ يَقولُ اللهُ تعالى بجُملةٍ فِعليَّةٍ حاصِرةٍ: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، والإباءُ: هو الامْتِناعُ بقوَّةٍ؛ فاللهُ تعالى هنا يأبى كُلَّ شيءٍ إلَّا إتمامَ نُورِهِ، وفي التَّعبيرِ بالفِعْلِ (يَأْبى) من المُبالَغةِ والدَّلالةِ على الامْتِناع ما ليس في نَفْي الإرادةِ، لو كان التَّعبيرُ: (ولا يُريدُ اللهُ إلا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ)؛ فهم يُريدونَ إطفاءَ النُّورِ، واللهُ الذي له جميعُ العَظَمةِ وكمالُ القُدْرةِ والعِزِّ ونفوذُ الكَلَمةِ يَأْبى إلَّا أن يُتِمَّ نُورَه، ثُم يُجدِّدون الإرادةَ، واللهُ يَأْبَى ... وما تَزالُ إراداتُهم تَتجدَّد، ويتجدَّد معها إباءُ العظيمِ- جلَّ وعلَا- وامتناعُهُ من كلِّ شيءٍ إلَّا إتمام النُّورِ.

واسْتِعمالُ الجُملةِ الفِعْليَّةِ الحاصِرةِ بفِعْلِها المضارعِ (يَأْبَى) المُشعِرِ بقوَّةِ الامْتِناعِ؛ يَتناسَبُ مع الغايةِ الصَّريحةِ والجُرأةِ المُعلَنةِ التي ظَهَرتْ منهم في أَوَّلِ الآيةِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ؛ فرايةُ الإطفاءِ لنُورِ اللهِ المُعلَنةُ بصراحةٍ وجُرأةٍ لا يُناسِبها إلَّا القوَّةُ في بيانِ الموقفِ الإلهيِّ.

أمَّا آيةُ الصَّفِّ التي جاءتْ إرادةُ الإطفاءِ فيها عَبْرَ الوسائلِ والأعوانِ والشِّعاراتِ الإصلاحيَّةِ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ [الصف: 8] ؛ فيُناسِبُها أنْ تكونَ صياغةُ الموقفِ الإلهيُّ فيها من خِلالِ الجُمْلةِ الاسميَّةِ الحاليَّةِ: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف: 8] ؛ التي تَدلُّ على الدَّوامِ والثُّبوتِ، أي: إنَّهم يُريدونَ أمورًا يُخادِعونَ فيها ويَكيدونَ؛ ليَصِلوا من خلالِها إلى إطفاءِ نُورِ اللهِ، فلربَّما شَعَروا بشَيءٍ من القُدْرةِ، ووَجَدوا من الأعوانِ مَنْ يَمُدُّهم بعَونِهِ بقصدٍ سيِّئٍ، أو بنيَّةٍ حَسَنةٍ، أو وَجَد بعضُ أَهْلِ الإيمانِ في نَفْسِهِ أنَّ الدِّينَ يَتضاءلُ، وأنَّ نُورَهُ آخِذٌ في الانحسارِ؛ فيأتي الموقِفُ الإلهيُّ الواعِدُ بدوامِ إتمامِ النُّورِ، وبخاصَّةٍ في الأحوالِ التي يُريدونَ فيها الإطفاءَ من خلالِ الدُّروبِ المُلتويةِ.

وإتمامُ النُّورِ الموعودُ به في الآيتينِ لا يَقْتصِرُ على مُجرَّدِ إشراقِه، بل الموقِفُ الإلهيُّ يَعِدُ بإكمالِه وإعلائِه، ويُبشِّرُ بتبليغِه غايتَه بنَشْرِه في الآفاقِ، وإظهارِهِ على الدِّينِ كُلِّهِ، حتى يَبْلُغَ ما بَلَغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، وحتَّى لا يَبْقى بَيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أَدْخَلَ اللهُ فيه هذا النُّورَ.

لقدِ اجْتَمعتْ في معاني هاتَينِ الآيتَينِ الصُّورُ التكامُليَّةُ التي تُظهِر بتفنُّنٍ حالَ دِينِ الحَقِّ، وإراداتِ أعدائِه وغاياتِهم ضِدَّهُ، والموقِفُ الرَّبَّانيُّ الذي يَختِمُ فيه المؤمنُ قراءتَهُ المُتدبِّرةَ لهاتينِ الآيتينِ، لكنَّ البيانَ لم يَقِفْ عند هذا الحدِّ؛ إذ يتأكَّدُ المعنى من خلالِ الكلمةِ الختاميَّةِ الوارِدةِ بَعْدَ الآيتينِ في السُّورتين بلَفْظٍ واحدٍ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 9] ؛ فهو سُبْحانه قد أَرْسَلَ رَسولَهُ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حاملًا لمنهجِ النُّورِ والهُدى ودِينِ الحَقِّ؛ ليُظْهِرَ رِسالتَهَ على جميعِ الرِّسالاتِ، ولم يُرْسِلْه لتَنْتصِرَ على رِسالتِهِ إراداتُ النَّافخينَ .

- ومِن المُناسَبةِ الحَسنَةِ أيضًا: أنَّ آيةَ التَّوبةِ زادتْ على آيةِ الصَّفِّ عَشْرةَ أحرفٍ؛ ووجْهُ ذلك أنَّ زيادةَ آيةِ التَّوبةِ مُقابَلٌ بها ما ورَد من الطُّولِ في المحكيِّ في هذِه السُّورةِ مِن قولِ الطائَفتَينِ مِن اليَهودِ والنَّصارَى؛ قال تعالى حاكيًا عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ... الآيةَ [التوبة: 30] ؛ فوقَع في المحكيِّ هنا طُولٌ اقتَضى ما بُني جوابًا عليه؛ ليتناسَبَ. وأمَّا آيةُ الصَّف فمُقابَلٌ بها قولُ عيسى عليه السَّلامُ لَمَّا قال لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] ، ثم قال تَعالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف: 6] ، وإنَّما الجوابُ على المحكيِّ مِن قولِهم خاصَّةً، وهو قولهم: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، وليس هذا في الطُّولِ وعِدَّةِ الكَلِمِ المحكيِّ في سُورة بَراءة؛ فالواقعُ في سُورةِ بَراءة سِتُّ كَلِماتٍ، وفي الصَّفِّ ثلاثُ كَلِماتٍ، ثمَّ إنَّ الواقِعَ في سُورةِ بَراءة مقالُ طَائفتَينِ (اليهود والنَّصارى) مُفْصَحًا به، والواقِعَ في الصَّفِّ مقالةُ طَائفةٍ واحدةٍ، وهذا مُراعًى؛ فوَرَد كلٌّ مِن الآيتَينِ مُناسِبًا لِمَا اتَّصل به وعلى ما يَجِبُ في السُّورتَينِ .

==============

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيتان (34-35)

ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ

غريب الكلمات:

 

يَكْنِزُونَ: أي: يَجمَعونَ، والكَنْزُ: جعلُ المالِ بعضِه على بعضٍ وحفظُه. وكلُّ ما لم تؤدَّ زكاتُه فهو كنزٌ، وأَصلُ (كنز) يدلُّ على تجَمُّعٍ في الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى: يا أيُّها الذين آمَنوا، إنَّ كَثيرًا مِن عُلَماءِ اليَهودِ، وعُبَّادِ النَّصارى، يتمَلَّكونَ أموالَ النَّاسِ بِغَيرِ حَقٍّ، ويُعْرِضونَ عن الحَقِّ، ويَصُدُّونَ النَّاسَ عنه، والذين يَجمَعونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ، ولا يُخرِجونَ حُقوقَ الله منها، ولا يُنفِقونَ منها في سَبيلِ الله فبَشِّرْهم- يا مُحمَّدُ- بعذابٍ مُوجِعٍ، يومَ يُوقَدُ على كُنُوزِهم في نارِ جَهنَّمَ، فتُكوَى بها جِباهُهم، وجُنُوبهم وظُهورُهم، ويقالُ لهم توبيخًا وتهكُّمًا: هذا ما جَمَعْتُم لأنفُسِكم، فذُوقوا عذابَ ما كُنتُم تَكنِزونَه.

تفسير الآيتين:

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذَكَرَ اللهُ جلَّ وعلا أنَّ اليَهودَ والنَّصارى اتَّخَذوا أحبارَهم ورُهبانَهم أربابًا؛ بيَّنَ أنَّ الرُّهبانَ والأحبارَ لا ينبغي اتِّخاذُهم أربابًا؛ لأنَّ أكثَرَهم فَجَرةٌ غيرُ مُستَقيمينَ

.

وأيضًا لَمَّا وصَفَ اللهُ تعالى رؤساءَ اليَهودِ والنَّصارى بالتكَبُّرِ والتَّجبُّرِ، وادِّعاءِ الرُّبوبيَّةِ والترفُّعِ على الخَلقِ؛ وصَفَهم في هذه الآيةِ بالطَّمَعِ والحِرصِ على أخذِ أموالِ النَّاسِ؛ تنبيهًا على أنَّ المَقصودَ مِن إظهارِ تلك الربوبيَّةِ والتجبُّرِ والفَخرِ، أخذُ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ ، فقال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.

أي: يا أيُّها المُؤمِنونَ، إنَّ كثيرًا مِن عُلَماءِ اليهودِ وعُبَّادِ النَّصارى، يتملَّكونَ أموالَ النَّاسِ بِغَيرِ حَقٍّ ؛ فاحْذَروا التشبُّه بعُلَماءِ السُّوءِ، والعُبَّادِ الضالِّينَ، ولا تكونُوا مِثْلَهم .

وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ.

أي: ويُعرِضُ أولئك الأحبارُ والرُّهبانُ عن اتِّباعِ الحَقِّ، ويَمنعونَ النَّاسَ عن الدُّخولِ في الإسلامِ .

وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.

مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:

لما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؛ عطَف عليه قولَه هذا، والمناسبةُ بينَهما: أنَّ كلتا الجملتين تنبيهٌ على مساوي أقوامٍ يضعُهم الناسُ في مقاماتِ الرفعةِ والسؤددِ، وليسوا أهلًا لذلك، فمضمونُ الجملةِ الأُولَى بيانُ مساوي أقوامٍ رفَع الناسُ أقدارَهم لعلمِهم ودينِهم، وكانوا منطوينَ على خبائثَ خفيةٍ، ومضمونُ الجملةِ الثانيةِ بيانُ مساوي أقوامٍ رفعَهم الناسُ لأجلِ أموالِهم، فبيَّن الله أنَّ تلك الأموالَ إذا لم تنفقْ في سبيلِ الله لا تُغني عنهم شيئًا مِن العذابِ ؛ فإنَّ الناسَ عالةٌ على العلماءِ، وعلى العبَّادِ، وعلى أربابِ الأموالِ، فإذا فسَدتْ أحوالُ هؤلاء فسَدتْ أحوالُ الناسِ .

النَّاسِخُ والمَنسوخُ:

قيل: هذه الآيةُ مَنسوخةٌ بقَولِه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهمْ بِهَا [التوبة:103] .

عن خالدِ بنِ أسلمَ، قال: (خرَجْنا مع عبدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، فقال أعرابيٌّ: أخبِرْني عن قَولِ الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه قال ابنُ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما: مَن كَنَزَها فلم يُؤَدِّ زَكاتَها، فوَيلٌ له؛ إنَّما كان هذا قَبلَ أن تُنزَلَ الزَّكاةُ ، فلما أُنزِلَت جعَلَها اللهُ طُهرًا للأموالِ) .

وقيل: الآيةُ مُحكَمةٌ، ولا نَسْخَ فيها .

وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.

أي: والذين يَجمَعونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ بعضَها إلى بعضٍ، ويُمسِكُونَها، ولا يُخرِجونَ حقوقَ الله منها- مِن الزَّكاةِ والنَّفَقاتِ الواجِبةِ، وبَذْلِها في الجهادِ- فبَشِّرْهم يا مُحمَّدُ بعذابٍ مُوجِعٍ .

كما قال تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِه يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 180] .

وقال سبحانه: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ [الهمزة: 1- 4] .

وعن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((همُ الأخسَرونَ وربِّ الكعبةِ. فقلتُ: يا رسولَ الله، فِدَاك أبي وأمِّي، مَن هُم؟ قال: هم الأكثَرونَ أموالًا، إلَّا من قال هكذا وهكذا وهكذا- مِن بينِ يَدَيه ومِن خَلْفِه وعن يَمينِه وعن شِمالِه- وقليلٌ ما هم، ما مِن صاحِبِ إبلٍ ولا بقَرٍ ولا غَنَمٍ، لا يُؤدِّي زكاتَها، إلَّا جاءت يومَ القيامةِ أعظَمَ ما كانت وأسْمَنَه، تنطَحُه بِقُرونِها، وتَطَؤُه بأظلافِها، كلَّما نَفِدَت أُخْراها، عادت عليه أُولاها، حتى يُقضَى بين النَّاسِ )) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن آتاه اللهُ مالًا فلم يؤَدِّ زَكاتَه؛ مُثِّلَ له مالُه شُجاعًا أقرَعَ له زَبِيبَتانِ ، يُطَوِّقُه يومَ القِيامةِ، يأخُذُ بلِهْزِمَتَيه- يعني بشِدْقَيه- يقولُ: أنا مالُك، أنا كَنْزُك. ثمَّ تلا هذه الآيةَ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ... إلى آخِرِ الآيةِ )) .

وعن أمِّ سَلَمةَ رَضِيَ الله عنها، قالت: ((كنتُ ألبَسُ أوْضاحًا مِن ذَهَبٍ، فقُلتُ: يا رسولَ الله، أكَنْزٌ هو؟ فقال: ما بلَغَ أن تُؤدَّى زكاتُه فزُكِّيَ، فليس بكَنزٍ)) .

وعن ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا نَزلَ في الفِضَّةِ والذَّهَبِ ما نَزلَ، قالوا: فأيَّ المالِ نتَّخِذُ؟ قال عُمَرُ: فأنا أعلَمُ لكم ذلك. فأوضَعَ على بَعيرِه، فأدرَكَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنا في أثَرِه، فقال: يا رسولَ الله، أيَّ المالِ نَتَّخِذُ؟ فقال: ليتَّخِذْ أحدُكم قَلبًا شاكرًا، ولِسانًا ذاكرًا، وزوجةً مُؤمِنةً تُعِينُ أحَدَكم على أمْرِ الآخِرةِ )) .

يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لما انتهى قَوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ على الإجمالِ والإبهامِ في العَذابِ؛ أخَذ في التَّفصيلِ بعد الإجمالِ ، فقال تعالى:

يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ.

أي: يومَ يُوقَدُ فيه على كُنوزِهم في نارِ جَهنَّمَ، فتُحرق بالذَّهَبِ والفِضَّةِ المَكنُوزةِ جِباهُهم وجُنوبُهم وظهورُهم .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن صاحِبِ ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ، لا يؤدِّي منها حَقَّها، إلَّا إذا كان يومُ القِيامةِ، صُفِّحَت له صفائِحَ مِن نارٍ، فأُحمِيَ عليها في نارِ جَهنَّمَ، فيُكوى بها جَنْبُه وجَبِينُه وظَهْرُه، كُلَّما بَرُدَت أُعِيدَت له، في يومٍ كان مِقدارُه خَمسينَ ألفَ سَنَةٍ، حتى يُقضَى بين العِبادِ، فيُرى سَبيلَه؛ إمَّا إلى الجنَّةِ، وإمَّا إلى النَّارِ )) .

وعن أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (بَشِّرِ الكانِزينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عليه في نارِ جهنَّمَ، ثم يُوضَعُ على حَلَمةِ ثَدْيِ أحَدِهم حتى يَخرُجَ مِن نُغْضِ كَتِفِه، ويُوضَعُ على نُغْضِ كَتِفِه حتى يَخرُجَ مِن حَلَمةِ ثَدْيِه، يتزَلزَلُ .

هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ.

أي: يُقالُ تَوبيخًا وتَهكُّمًا مِن الذينَ تُكوَى جِباهُهم وجُنوبُهم وظُهورُهم، بِكُنوزِهم: هذا الذي تُكْوَونَ به في النَّارِ هو ما جَمَعْتُم في الدُّنيا لأنفُسِكم، دونَ أن تُؤَدُّوا حُقوقَ الله فيه، فاطعَمُوا عذابَ هذا الذي كُنتُم تَكْنِزونَه .

عن جابِرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما من صاحِبِ إبلٍ ولا بقَرٍ ولا غَنَمٍ، لا يؤدِّي حَقَّها، إلا أُقعِدَ لها يومَ القيامةِ بِقَاعٍ قَرقَرٍ تطؤُه ذاتُ الظِّلْفِ بظِلْفِها وتنطَحُه ذاتُ القَرنِ بِقَرنِها، ليس فيها يومَئذٍ جمَّاءُ ولا مَكسورةُ القرْنِ. قلْنا: يا رسولَ الله، وما حَقُّها؟ قال: إطراقُ فَحْلِها ، وإعارةُ دَلْوِها، ومَنِيحَتُها ، وحَلْبُها على الماءِ، وحَملٌ عليها في سبيلِ الله. ولا مِن صاحِبِ مالٍ لا يُؤَدِّي زكاتَه، إلَّا تَحوَّلَ يومَ القِيامةِ شُجاعًا أقرَعَ، يَتْبَعُ صاحِبَه حيثما ذهَبَ، وهو يفِرُّ منه، ويُقال: هذا مالُك الذي كنْتَ تَبخَلُ به، فإذا رأى أنَّه لا بُدَّ منه، أدخَلَ يدَه في فِيه، فجعَلَ يَقضَمُها كما يَقْضَمُ الفَحلُ ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ... هذا تحذيرٌ مِن الله تعالى لعبادِه المؤمنينَ عن كثيرٍ مِن العُلَماءِ والعُبَّادِ، الذين يأكلونَ أموالَ النَّاسِ بِغَيرِ حقٍّ، ويصُدُّونَ عن سَبيلِ الله؛ فإنَّهم إذا كانت لهم رواتِبُ مِن أموالِ النَّاسِ، أو بذَلَ النَّاسُ لهم من أموالِهم، فإنَّه لأجْلِ عِلْمِهم وعِبادَتِهم، ولأجْلِ هُداهم وهدايَتِهم، وهؤلاءِ يأخُذُونها، ويصُدُّونَ النَّاسَ عن سبيل الله، فيكونُ أخْذُهم لها على هذا الوَجه سُحتًا وظُلمًا؛ فإنَّ النَّاسَ ما بَذَلوا لهم مِن أموالِهم، إلَّا لِيَدُلُّوهم إلى الطَّريقِ المستقيمِ، ومِن أخْذِهم لأموالِ النَّاسِ بِغَيرِ حَقٍّ: أن يُعطُوهم لِيُفتُوهم، أو يَحكُموا لهم بِغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ، فهؤلاءِ الأحبارُ والرُّهبانُ، لِيُحذَرْ منهم هاتانِ الحالتانِ: أخْذُهم لأموالِ النَّاسِ بغَيرِ حَقٍّ، وصَدُّهم النَّاسَ عن سَبيلِ الله

.

2- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ذكَرَ اللهُ هنا انحرافَ الإنسانِ في مالِه، وذلك بأحَدِ أمرَينِ: إمَّا أن يُنفِقَه في الباطِلِ الذي لا يُجدِي عليه نَفعًا، بل لا يَنالُه منه إلَّا الضَّرَرُ المَحْضُ، وذلك كإخراجِ الأموالِ في المعاصِي والشَّهَواتِ، التي لا تُعِينُ على طاعةِ الله، وإخراجِها للصَّدِّ عن سبيلِ الله. وإمَّا أن يُمسِكَ مالَه عن إخراجِه في الواجِباتِ .

3- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فيه تحذيرُ المُؤمِنينَ مِن حالِ الذين صار جمْعُ الأموالِ، والافتِتانُ بِكَثرَتِها، وخَزْنُها في الصَّناديقِ، أعظَمَ هَمِّهم في الحياةِ .

4- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إنْ قيل: مَن لم يكْنِزْ ولم يُنفِقْ في سبيلِ الله، وأنفَقَ في المعاصي، هل يكونُ حُكمُه في الوعيدِ حُكمَ مَن كنَزَ ولم يُنفِقْ في سبيلِ الله؟

قيل له: إنَّ ذلك أشَدُّ؛ فإنَّ مَن بذَّرَ مالَه في المعاصِي، عصى من جِهَتينِ: بالإنفاقِ والتَّناوُلِ، كشِراءِ الخَمرِ وشُربِها. بل من جهاتٍ إذا كانت المعصيةُ ممَّا تتعَدَّى، كمن أعان على ظُلمِ مُسلمٍ؛ مِن قَتلِه أو أخْذِ مالِه، إلى غيرِ ذلك. والكانِزُ عصى من جِهَتينِ، وهما منعُ الزَّكاةِ، وحَبسُ المالِ لا غيرُ، وقد لا يُراعى حبسُ المالِ. واللهُ أعلمُ .

5- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه هذا يندرِجُ فيه مَن كنَزَ المالَ عن النَّفَقةِ الواجبةِ في سبيل الله. والجهادُ أحَقُّ الأعمالِ باسمِ سَبيلِ الله، سواءٌ كان مَلِكًا أو مُقَدَّمًا، أو غَنِيًّا أو غيرَ ذلك. وإذا دخَلَ في هذا ما كُنِزَ من المالِ المَورُوثِ والمكسوبِ، فما كُنِزَ مِن الأموالِ المُشتَرَكةِ التي يستحِقُّها عمومُ الأمَّةِ- ومُستَحَقُّها: مصالِحُهم- أَوْلى وأَحْرى .

6- في قَولِه تعالى: وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ذمٌّ ووعيدٌ لِمَن يمنعُ حقوقَ مالِه الواجبةَ، مِن الزَّكاةِ وصِلَةِ الرَّحِمِ، وقِرَى الضَّيفِ، والإنفاقِ في النَّوائِبِ .

7- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ... حُجَّةٌ لِمَن قال: إنَّ الكُفَّارَ مُخاطَبونَ بفُروعِ الشَّريعةِ؛ وذلك على القولِ بأنَّ الآيةَ نزَلَت في أهلِ الكِتابِ .

8- من أحَبَّ شَيئًا وقَدَّمَه على طاعةِ الله، عُذِّبَ به؛ قال تعالى: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ؛ فهؤلاء لَمَّا كان جمعُ هذه الأموالِ آثَرَ عِندَهم مِن رِضا الله عنهم، عُذِّبوا بها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه إسنادُ هذه الجريمةِ المُزرِيةِ إلى الكَثيرينَ منهم دونَ جَميعِهم، مِن دقائِقِ تَحرِّي الحَقِّ في عباراتِ الكتابِ العَزيزِ؛ فهو لا يحكُمُ على الأمَّةِ الكبيرةِ بِفَسادِ جَميعِ أفرادِها، أو فِسْقِهم أو ظُلْمِهم، بل يُسنِدُ ذلك إلى الكثيرِ أو الأكثَرِ، أو يُطلِقُ اللَّفظَ العامَّ ثمَّ يستثني منه

.

2- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه إطلاقُ الأكلِ على أخْذِ مالِ الغَيرِ، إطلاقٌ شائِعٌ؛ قال تعالى: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا [الفجر: 19] .

3- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم أفرَدَ الضَّميرَ في يُنْفِقُونَهَا مع تقدُّمِ اثنَينِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ؛ لِيدُلَّ على الأنواعِ الكثيرةِ، أي: يُنفِقونَ ما وجَبَ عليهم من هذه الأموالِ التي جَمَعوها من هَذينِ النَّوعَينِ مُجتَمِعَينِ أو مُنفَرِدَينِ. ولو ثَنَّى لأوهَمَ أنَّ اجتماعَهما شَرطٌ للتَّرهيبِ. وقيل: يجوزُ أن يعودَ الضَّميرُ إلى الفِضَّةِ؛ لأنَّ الذَّمَّ على كَنْزِها، والحاجةَ إليها- لِكَثرَتِها- أقَلُّ، فالذَّمُّ على كَنزِ الذَّهَبِ مِن بابِ الأوْلى؛ لأنَّه أعلى منها وأعَزُّ. وقيل: الضَّميرُ يعودُ إلى المعنى دونَ اللَّفْظِ؛ لأنَّ المكنوزَ دراهمُ ودَنانيرُ، لأنَّ كُلَّ واحدٍ مِنْهما جُمْلةٌ وافيةٌ، وعِدةٌ كثيرةٌ ودنانيرُ ودراهمُ؛ فهو كقولِه تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا .

4- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم أي: فأخبِرْهم على سبيلِ التهَكُّمِ؛ لأنَّ الذينَ يكنِزونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ، إنَّما يكنِزونَهما ليتَوَسَّلوا بهما إلى تحصيلِ الفَرَجِ يومَ الحاجةِ. فقيل: هذا هو الفَرَجُ .

5- قولُه تعالى: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ قدَّمَ الجِباهَ ثمَّ الجُنُوبَ؛ لأنَّ مانِعَ الصَّدَقةِ في الدُّنيا كان يَصرِفُ وَجْهَه أوَّلًا عن السَّائِلِ، ثم يَنُوءُ بِجانبِه، ثمَّ يتولَّى بِظَهْرِه

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- في قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ افْتِتاحُ الجُمْلةِ بالنِّداءِ، واقْتِرانُها بحَرْفَي التَّأكيدِ (إنَّ، واللام)؛ للاهْتِمامِ بِمَضْمونِها، ورفْعِ احْتِمالِ المُبالغةِ فيه لَغَرابتِه

.

- وقولُه: لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ فيه التَّعبيرُ بالأَكْلِ؛ بِناءً على أنَّهُ مُعْظَمُ الغَرَضِ مِنَ المالِ، وتَقْبيحًا لحالِهم، وتَنْفيرًا للسَّامِعينَ عنهم .

- قولُه: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه... على القول بأنَّ الاسمَ الموصولَ (الذين) عِبارةٌ عَنِ الكثيرِ مِنَ الأَحْبارِ والرُّهبانِ؛ فيَكونُ مبالغةً في الوَصْفِ بالحِرْصِ والضَّنِّ بهما بَعْدَ وَصْفِهمْ بما سَبَقَ مِنْ أخْذِ الرِّشا .

- وعلى القولِ بأنَّ الموصولَ (الذين) عِبارةٌ عَنِ الكانزينَ مِنَ المُسلِمينَ؛ فيَكونُ قَرَنَ في النَّظْمِ بين الكانِزينَ مِنَ المُسلِمينَ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وبَيْنَ المُرْتَشينَ مِنَ الأحبارِ والرُّهبانِ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؛ تَغليظًا ودَلالةً على أنَّهم سواءٌ في التَّبشيرِ بالعذابِ في قولِه: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .

- وفيه تَخْصيصُ الذَّهبِ والفِضَّةِ بالذِّكْرِ مِنْ بين سائرِ الأموالِ؛ لأنَّهما قِيَمُ الأموالِ وأَثْمانُها وقانونُ التَّموُّلِ وأثمانُ الأشياءِ، وهما لا يُكْنَزانِ إلَّا عَنْ فَضْلةٍ عَنِ الحاجةِ وعن كَثْرةٍ، ومَنْ كَثُرَا عِنْدَهُ حتَّى يَكْنِزَهُما لَمْ يَعْدَمْ سائرَ أَجْناسِ المالِ؛ فكان ذِكْرُ كَنْزِهما دليلًا على ما سِواهما .

2- يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ

- قولُه: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى ... فيه إسْنادُ الفِعْلِ المبنيِّ للمَفْعولِ يُحْمَى إلى المَجْرورِ عليها؛ لعَدَمِ تَعلَّقُ الغَرَضِ بذِكْرِ المفعولِ المَحْميِّ لظُهورِه؛ إذ هو النَّارُ التي تُحْمى؛ ولذَلِكَ لَمْ يُقْرَنْ بعلامةِ التَّأنيثِ، فكأنَّه قيل: يومَ يَحمِي الحامونَ عليها، وعُدِّي بـ(على)؛ لإفادةِ أنَّ الحَمْيَ تَمَكَّنَ مِنَ الأموالِ بحيثُ تَكْتَسِبُ حرارةَ المَحميِّ كُلَّها، ثُمَّ أُكِّدَ مَعْنى التَّمكُّنِ بمعنى الظَّرفيَّةِ التي في قولِه: فِي نَارِ جَهَنَّمَ؛ فصارتِ الأموالُ مَحميَّةً عليها النَّارُ، ومَوضوعةً في النَّارِ .

- قولُه: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فيه تَوبيخٌ لهم؛ إذْ مَعْنى لِأَنْفُسِكُمْ: لِتَنْتَفِعَ بِه أَنْفُسُكم وتَلْتَذَّ، فصار عذابًا لكم، وزيادةُ قولِه: لِأَنْفُسِكُمْ؛ للتَّنديمِ والتَّغليظِ .

- وجُمْلةُ: فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ توبيخٌ وتنديمٌ، والفاءُ في فَذُوقُوا لتَفْريعِ مَضمونِ جُمْلةِ التَّوبيخِ على جُمْلةِ التَّنديمِ الأُوْلى هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ .

- وفي قولِه: فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ سُلوكُ مَسْلَكِ الإطنابِ بالتَّعدادِ في التَّعبيرِ عَنِ التَّعميمِ؛ لاسْتِحضارِ حالةِ ذَلِكَ العِقابِ الأليمِ؛ تهويلًا لشأنِه؛ فلذلك لم يَقُلْ: (فتُكْوى بها أجسادُهُمْ) .

- قوله: مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ فيه التَّعبيرُ بالموصوليَّةِ مَا؛ للتَّنبيه على غَلَطِهم فيما كَنَزوا؛ لقَصْدِ التَّنديمِ . وفيه إيجازٌ؛ حيثُ أُضْمِرَ القولُ في هَذَا مَا كَنَزْتُمْ، أي: يُقالُ لهم وَقْتَ الكَيِّ .

==============

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيتان (36-37)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

 

عِدَّةَ: أي: عَدَدَ، وأصل العدِّ: إِحْصاءُ الشيءِ

.

حُرُمٌ: أي: مُحَرَّمةٌ، وأصلُ (حرم): يدلُّ على مَنعٍ وتَشديدٍ .

الْدِّيْنُ الْقَيِّمُ: أي: الدينُ الصَّحيحُ المستقيمُ، والحِسابُ الصَّحيحُ، والعدَدُ المُستوِي والمُستوفَى، وأصلُ (قوم): يدلُّ على مُراعاةِ الشَّيءِ وحِفظِه .

النَّسِيءُ: أي: تَأْخيرُ تَحْريمِ المُحَرَّمِ، وأصلُ (نسأ): يدلُّ على تأخيرِ الشَّيءِ .

لِيُوَاطِئُوا: أي: لِيُوافِقوا، والمُواطَأةُ: المُوافَقةُ، وأصلُه أن يطَأَ الرَّجُلُ برِجلِه مَوطِئَ صاحِبِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِنده- تعالى- اثنَا عشَرَ شَهرًا، في حكم الله وتقديره المسطَّر في اللوح المحفوظ منذُ خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ، منها أربَعةٌ يَحرُمُ فيها القتال وانتهاكُ المَحارِمِ أشَدَّ ممَّا يَحرُمُ في غَيرِها، ذلك الدِّينُ المُستَقيمُ، والحسابُ الصَّحيحُ، فلا تَظلِموا فيهنَّ أنفُسَكم بارتكابِكم السَّيِّئاتِ، وقاتِلوا المُشرِكينَ بأجمَعِكم، كما يُقاتِلونَكم بأجمَعِهم، واعلَمُوا أنَّ اللهَ مع المتَّقِينَ.

ويُبيِّنُ اللهُ تعالى أنَّ تأخيرَ تَحريمِ الأشهُرِ الحُرُمِ، وتغيِيرَها عمَّا شَرَعه اللهُ تعالى، زيادةٌ في كُفرِ مُشرِكي قُريشٍ، وقد كانوا يُحِلُّونَ شَهرَ مُحَرَّمٍ عامًا، ويَستَبدِلونَ به صَفَرًا، فيَجعَلونَه مُحَرَّمًا، وفي العامِ الذي يليه يَعودونَ لِتَحريمِ مُحَرَّمٍ، يُضِلُّ اللهُ بذلك الكُفَّارَ؛ يُحِلُّونَ ذلك التَّأخيرَ والتَّغييرَ عامًا، ويُحَرِّمونَه عامًا؛ لِيُوافِقُوا بذلك عددَ الأشهُرِ التي حَرَّمها اللهُ كلَّ عامٍ؛ فهم في كلِّ عامٍ لهم أربعةُ أشهُرٍ مُحَرَّمةٌ، كما حَرَّمَ اللهُ أربعةَ أشهُرٍ، لكِنَّهم يُؤَخِّرونَ ويُغَيِّرونَ الأشهُرَ، فيُحِلُّون ما حَرَّمَ اللهُ تعالى، حُسِّنَ لهم قَبيحُ أعمالِهم، واللهُ تعالى لا يُوَفِّقُ للحَقِّ المصرِّين على كفرهم.

تفسير الآيتين:

 

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ أنواعًا مِن قبائِحِ أهلِ الشِّركِ وأهْلِ الكتابِ؛ ذكَرَ أيضًا نوعًا منه، وهو تغييرُ العَرَبِ أحكامَ الله تعالى؛ لأنَّه حَكَمَ في وقتٍ بحُكمٍ خاصٍّ، فإذا غَيَّروا ذلك الوَقتَ، فقد غيَّروا حُكمَ الله

.

وأيضًا فهذه الآيةُ والتي تَليها عَودٌ إلى الكلامِ في أحوالِ المُشرِكينَ، وما يُشرَعُ مِن مُعامَلَتِهم بعد الفَتحِ، وسُقوطِ عصبيَّةِ الشِّركِ، وكان الكلامُ في قتالِ أهلِ الكِتابِ، وما يجِبُ أن ينتهيَ به من إعطاءِ الجِزيةِ مِن قَبيلِ الاستطرادِ، اقتضاه ما ذَكَرَ قبلَه من أحكامِ قِتالِ المُشرِكينَ ومُعامَلتِهم، وقد ختم الكلامَ في أهلِ الكتابِ ببيانِ حالِ كثيرٍ مِن رجالِ الدِّين الذين أفسدَتْ عليهم دينَهم المطامعُ الماليةُ، وإنذارِ مَن كانت هذه حالَهم بالعذابِ الشديدِ يومَ القيامةِ، وجعلِ هذا الإنذارِ موجهًا إلينا وإليهم جميعًا، ومِن ثمَّ كان التناسبُ بينَ الكلامِ فيما يشتركُ فيه المسلمون معَ أهلِ الكتابِ مِن الوعيدِ على أكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ، وكنزِ النَّقْدين، إلى ما يجبُ أن يخالفوا فيه المشركينَ مِن إبطالِ النسيءِ، ومِن أحكامِ القتالِ- تناسبًا ظاهرًا قويًّا .

وأيضًا لَمَّا تقدَّمَ كَثيرٌ ممَّا ينبني على التَّاريخِ: كالحجِّ في غير موضِعٍ، وإتمامِ عَهدِ مَن له مُدَّةٌ إلى مُدَّتِه، والزكاةِ، والجِزيةِ، وخُتِمَ ذلك بالكَنزِ الذي لا يُطلَقُ شَرعًا إلَّا على ما لم تؤَدَّ زَكاتُه، وكان مُشرِكو العَرَبِ، الذين تقدَّمَ الأمرُ بالبراءةِ منهم، والتَّأذينِ بهذه الآياتِ يومَ الحَجِّ الأكبَرِ فيهم، قد أحدَثوا في الأشهُرِ بالنَّسِيءِ الذي أُمِروا أن يُنادُوا في الحَجِّ بإبطالِه، ما غَيَّرَ السِّنينَ عن مَوضُوعِها الذي وَضَعَها اللهُ عليه، فضاهَوْا به فِعلَ أهلِ الكتابِ بالتَّدَيُّنِ بتَحليلِ أكابِرِهم وتحريمِهم، كما ضاهَى أولئك قَولَ أهْلِ الشِّركِ في النبوَّةِ والأبُوَّةِ ، قال تعالى:

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ.

أي: إنَّ عدَدَ الشُّهورِ في حُكمِ الله وتَقديرِه، اثنا عشَرَ شَهرًا قَمَرِيًّا، مكتوبةٌ في اللَّوحِ المحفوظِ مُنذُ خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] .

وعن أبي بَكْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ الزَّمانَ قد استدارَ كهَيئَتِه يومَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ؛ السَّنةُ اثنا عشَرَ شَهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثةٌ متوالياتٌ: ذُو القَعدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورجَبٌ شَهرُ مُضَرَ، الذي بين جُمادى وشَعبانَ )) .

مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ.

أي: مِن هذه الشُّهورِ الاثنَي عشَرَ أربعةُ أشهُرٍ، يَحْرُم انتهاكُ المحارِمِ فيها ، أشَدَّ ممَّا يَحرُمُ في غيرِها، وهي: ذو القَعدةِ، وذو الحِجَّةِ، ومُحرَّمٌ، ورجَب .

ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.

أي: هذا الذي أخبَرْتُكم به- مِن كَونِ الشُّهورِ اثنَي عَشَرَ شَهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ- هو الدِّينُ المُستَقيمُ، والحِسابُ الصَّحيحُ .

فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ.

أي: فلا تَظلِموا- أيُّها النَّاسُ- أنفُسَكم في هذه الأشهُرِ الأربعةِ الحُرُمِ ، بارتكابِ السَّيِّئاتِ .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّه وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ [المائدة: 2] .

وعن جابِرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ الله عنهما، قال: ((لم يكُنْ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يغزُو في الشَّهرِ الحرامِ، إلَّا أن يُغزَى- أو يُغْزَوْا- فإذا حضَرَ ذاك، أقام حتى ينسلِخَ)) .

وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً.

أي: وقاتِلوا- أيُّها المُسلِمونَ- المُشرِكينَ كلَّهم، وأنتم مجتَمِعونَ مُؤتَلِفونَ مُتَوافِقونَ جميعًا على قتالهم، بلا تفَرُّقٍ ولا تخاذُلٍ ولا تقاطُعٍ، كما يقاتِلُكم المُشرِكونَ مُجتَمِعينَ غيرَ مُتَفَرِّقينَ .

وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.

أي: واعلَمُوا- أيُّها المؤمِنونَ- أنَّكم إن قاتَلْتُم المُشرِكينَ كافَّةً، واتَّقَيتُم اللهَ بفِعلِ أوامِرِه واجتنابِ نواهيه؛ فإنَّ اللهَ معكم بِعَونِه وتَأييدِه، وينصُرُكم على أعدائِكم المُشرِكينَ .

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ الآيةَ السَّابِقةَ كالمُقَدِّمةِ إلى المقصودِ هنا، وهو إبطالُ النَّسيءِ وتَشنيعُه .

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ.

أي: إنَّما تأخيرُ تَحريمِ الأشهُرِ الأربعةِ الحُرُمِ، وتغييرُها عمَّا شَرَعَه اللهُ- بأن يكونَ شَهرُ مُحَرَّمٍ الحرامُ حلالًا، وشهرُ صَفَر الحَلالُ حَرامًا - زيادةٌ في كُفرِ مُشرِكي العَرَبِ، الذين ابتَدَعوا هذا التَّأخيرَ .

يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ثلاثُ قِراءاتٍ:

1- قراءةُ: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بضَمِّ الياءِ وفتح الضادِ، على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، أي: أنَّ الكافرين يُضَلُّونَ .

2- قراءةُ: يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بضَمِّ الياء وكسرِ الضاد، ومعناه أنَّ الكفَّارَ يُضِلُّونَ بالنَّسيءِ أتباعَهم في إِحْلالِهم المحَرَّمَ مَرَّةً، وتحريمِهم إيَّاه أخرى. أو: يُضِلُّ اللهُ الذين كفروا .

3- قراءةُ: يَضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بفَتحِ الياءِ وكَسرِ الضَّادِ، والفِعلُ للكفَّارِ الضَّالِّينَ، فهم يَضِلُّونَ لا يَهتَدونَ .

يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ .

أي: يُضَلُّ بتأخيرِ تَحريمِ الأشهُرِ الأربعةِ الحُرُمِ، الذينَ كفَروا .

يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا.

أي: يُحِلُّ الذينَ كَفَروا ذلك النَّسيءَ عامًا دونَ عامٍ، فيُحِلُّونَ شَهرَ مُحَرَّمٍ عامًا، ويُحَرِّمونَه في عامٍ آخَرَ، فإذا قاتلوا في المحرَّمِ أحلُّوه، وحرَّموا مكانَه صَفرًا، وإذا لم يُقاتِلوا فيه حرَّمُوه .

لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ.

أي: لِيُوافِقوا بتَحلِيلِهم شَهرَ مُحَرَّمٍ، وتَحريمِهم شَهرَ صَفَرٍ، عدَدَ الأشهُرِ الأربعةِ التي حَرَّمَها اللهُ كُلَّ عامٍ بلا زيادةٍ ولا نُقصانٍ في العَدَدِ، فيُحِلُّوا بتأخيرِ حُرمةِ شَهرِ مُحَرَّم، ما حرَّمَه الله تعالى !

زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ.

أي: حُسِّنَ للمُشرِكينَ سيِّئُ أعمالِهم وقَبيحُها .

وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.

أي: واللهُ لا يوفِّقُ للحَقِّ المصرِّين على كفرهم، ويخذُلُهم عن الهُدى

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .

وقال سبحانه: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهمْ أَغْلَالًا فَهيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 7 - 11] .

الفوائد التربوية:

 

1- الحِرصُ على استعمالِ تَقوى الله في السِّرِّ والعَلَنِ، والقيامِ بِطاعَتِه، خصوصًا عند قتال الكُفَّارِ؛ فإنَّه في هذه الحالِ ربَّما ترَكَ المؤمِنُ العمَلَ بالتَّقوى في معاملةِ الكُفَّارِ الأعداءِ المُحارِبينَ؛ يُرشِدُ إلى ذلك قولُه تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ

.

2- قال الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ جُعِلَ النَّسيءُ زيادةً في الكُفرِ؛ لأنَّ الكافِرَ كلمَّا أحدَثَ مَعصِيةً ازداد كُفرًا، فزادَتْهم رِجسًا إلى رِجْسِهم، كما أنَّ المؤمِنَ كلَّما أحدَثَ طاعةً ازدادَ إيمانًا؛ قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124] .

3- قال الله تعالى: لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهمْ هذا يدلُّ على أنَّ مِن أسوَأِ الأعمالِ وأخبَثِها تحليلَ ما حَرَّمَه اللهُ، وتحريمَ ما أحَلَّ اللهُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهنَّ أَنْفُسَكُمْ. فإن قيل: أجزاءُ الزَّمانِ مُتشابِهةٌ في الحقيقةِ، فما السَّبَبُ في هذا التَّمييزِ؟ فالجوابُ: أنَّ هذا المعنى غيرُ مُستبعَدٍ في الشَّرائِعِ؛ فإنَّ أمثِلتَه كثيرةٌ، ألا ترى أنَّه تعالى ميَّزَ البلدَ الحرامَ عن سائِرِ البلادِ بِمَزيدِ الحُرمةِ، ومَيَّزَ يومَ الجُمُعةِ عن سائِرِ أيَّامِ الأسبوعِ بمزيدِ الحُرمةِ، وميَّزَ يومَ عرفةَ عن سائِرِ الأيام بتلك العبادةِ المخصوصةِ، وميَّزَ شَهرَ رَمَضانَ عن سائِرِ الشُّهورِ بمَزيدِ حُرمةٍ، وهو وجوبُ الصَّومِ، وميَّزَ بعضَ ساعاتِ اليومِ بوجوبِ الصَّلاةِ فيها، وميَّزَ بعض اللَّيالي عن سائِرِها، وهي ليلةُ القَدْرِ، وميَّزَ بعضَ الأشخاصِ عن سائرِ النَّاسِ بإعطاءِ خِلعةِ الرِّسالةِ، وإذا كانت هذه الأمثلةُ ظاهرةً مَشهورةً، فأيُّ استبعادٍ في تخصيصِ بَعضِ الأشهُرِ بمزيدِ الحُرمةِ

؟!

2- فَي قَولِه تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ قال أهلُ المعاني: وفي جَعْلِ بعضِ الشُّهورِ أعظَمَ حُرمةً من بعضٍ، فوائِدُ من المصلحةِ في الكَفِّ عن الظُّلمِ فيها؛ لِعِظَمِ مَنزِلَتِها في حُكمِ خالِقِها، فربَّما أدَّى ذلك إلى تَركِ الظُّلمِ رأسًا؛ لانطفاءِ الثَّائرة في تلك المدَّةِ .

3- ضَبطُ التَّوقيتِ: مِن أصولِ إقامةِ نِظامِ الأمَّةِ، ودَفْعِ الفوضى عن أحوالِها؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ .

4- قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه...، مِن أحكامِ كتابِ الله التشريعيةِ أنَّ كلَّ ما يتعلَّق بحسابِ الشهورِ والسِّنين، كالصيامِ والحجِّ وعدةِ المطلقاتِ والرضاعِ، فالمعتبرُ فيه الأشهرُ القمريةُ، ولهذا فسَّرَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام الأربعةَ الحرمَ، بأنها: رجبُ مُضَرَ، وذو القعدةِ، وذو الحِجَّةِ، ومُحَرَّمٌ ، وهذه الشهورُ القمريةُ هي أقدمُ أشهُرِ التوقيتِ في البشرِ وأضبطِها، ويمكنُ العلمُ بها بالرؤيةِ البصريةِ للأُميينَ، والمتعلِّمين في البدوِ والحضرِ على سواءٍ، ولَمَّا استعمرَ الكفارُ كثيرًا مِن البلادِ الإسلاميةِ حَوَّلُوا التاريخَ إلى تاريخِهم؛ استعبادًا واستذلالًا للشعوبِ .

5- قولُ الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهنَّ أَنْفُسَكُم فيه أنَّ اللهَ تعالى وضَعَ هذه الأشهُرَ، وسَمَّاها ورَتَّبَها على ما هي عليه، وأنزل ذلك على أنبيائِه، فيُستَدَلُّ به لِمَن قال: إنَّ اللُّغاتِ تَوقيفيَّةٌ .

6- قَولُ الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهنَّ أَنْفُسَكُم وجهُ تخصيصِ المعاصي في هذه الأشهُرِ بالنَّهيِ: أنَّ اللهَ جعَلَها مواقيتَ للعِبادةِ، فإنْ لم يكُنْ أحَدٌ مُتَلِّبسًا بالعبادةِ فيها، فليَكُنْ غيرَ مُتلَبِّسٍ بالمعاصي، وليس النَّهيُ عن المعاصي فيها بمقتَضٍ أنَّ المعاصِيَ في غيرِ هذه الأشهُرِ ليست منهيًّا عنها، بل المرادُ أنَّ المعصيةَ فيها أعظَمُ، وأنَّ العمَلَ الصَّالِحَ فيها أكثَرُ أجرًا .

7- قَولُ الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهنَّ أَنْفُسَكُم فيه ذِكرُ الأشهُرِ الحُرمِ، وتعظيمُ الظُّلمِ فيها زيادةً عليه في غَيرِها، ومن هنا شُرِعَ تَغليظُ الدِّيَةِ في القَتلِ فيها، على ما ذهب إليه بعضُ العُلماءِ .

8- قولُه تعالى: فِي كِتَابِ اللَّهِ يريد: اللَّوحَ المحفوظَ. وأعاده بعد أن قال: عِنْدَ اللَّه؛ لأنَّ كثيرًا من الأشياءِ يُوصَفُ بأنَّه عند الله، ولا يُقالُ إنَّه مكتوبٌ في كتابِ الله، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ .

9- قولُ الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ إنَّما قال: يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ لِيُبيِّنَ أنَّ قضاءَه وقَدَرَه كان قبل ذلك، وأنَّه سبحانه وضَعَ هذه الشُّهورَ وسمَّاها بأسمائِها، على ما رتَّبَها عليه يومَ خلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ، وأنزل ذلك على أنبيائِه في كتُبِه المُنَزَّلةِ، وهو معنى قَولِه تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا وحُكمُها باقٍ على ما كانت عليه، لم يُزِلْها عن ترتيبِها تغييرُ المُشركين لأسمائها، وتقديمُ المُقَدَّمِ في الاسمِ منها، والمقصودُ من ذلك اتِّباعُ أمرِ الله فيها، ورَفضُ ما كان عليه أهلُ الجاهليَّةِ مِن تأخيرِ أسماء الشُّهورِ وتقديمِها، وتعليقِ الأحكامِ على الأسماءِ التي رتَّبوها عليه؛ ولذلك قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في خُطبَتِه في حَجَّةِ الوداعِ: ((أيُّها النَّاسُ، إنَّ الزَّمانَ قد استدارَ كهيئَتِه يومَ خلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ )) . وأنَّ الذي فعَلَ أهلُ الجاهليَّةِ مِن جَعْلِ المُحَرَّمِ صَفَرًا، وصَفَرٍ مُحَرَّمًا؛ ليس يتغيَّرُ به ما وصَفَه الله تعالى .

10- في قَولِه تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ هذا هو الدِّينُ القَيِّمُ؛ ليُبيِّنَ أنَّ ما سواه من أمْرِ النَّسيءِ وغَيرِه مِن عاداتِ الأُمَمِ، ليس قَيِّمًا؛ لِمَا يَدخُلُه مِن الانحرافِ والاضطرابِ .

11- دلَّ قولُه تعالى: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهنَّ أَنْفُسَكُمْ أنَّ السَّيِّئةَ- وإنْ كانت لا تتَضاعَفُ- إلَّا أنَّها قد تَعْظُمُ أحيانًا بشَرَفِ الزَّمانِ أو المكانِ .

12- قولُ الله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين جملةُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين تأييدٌ وضَمانٌ بالنَّصرِ عند قِتالِهم المُشرِكينَ؛ لأنَّ المعيَّةَ هنا مَعيَّةُ تأييدٍ على العمَلِ، وليست معيَّةَ عِلمٍ؛ إذ لا تختَصُّ معيَّةُ العِلمِ بالمتَّقينَ .

13- قال الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ هذه الآيةُ الكريمةُ مِن سُورةِ براءةَ، مِن أصرَحِ النُّصوصِ القُرآنيَّةِ في أنَّ كُلَّ مَن اتَّبَع نِظامًا غيرَ نِظامِ الله، وتشريعًا غيرَ تَشريعِ الله، وقانونًا غيرَ قانونِ الله؛ أنَّه كافِرٌ بالله؛ إن كان يزعُمُ الإيمانَ فقد كفَرَ، وإن كان كافرًا، فقد ازداد كُفرًا جديدًا إلى كُفرِه الأوَّلِ .

14- قال تعالى: يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا، فعَبَّرَ عن الحولِ بلفْظٍ يدورُ على معنَى السَّعةِ فقال: عَامًا؛ إشارةً إلى أنَّهم يَفعلونَه ولو لم يَضطرَّهم إلى ذلك جدبُ سَنةٍ ولا عَضُّ زمانٍ، بل بمُجرَّدِ التَّشهِّي؛ فإنَّهم يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا هكذا دائمًا كلَّما أرادوا، وليس المرادُ أنَّهم كلَّ سَنةٍ يَفعلون ذلك، مِن غيرِ إجلالٍ لسَنةٍ مِن السِّنينَ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ

- في قولِهِ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ افتْتِاحُ الكلامِ بحَرْفِ التَّوكِيدِ؛ للاهْتِمامِ بمضمونِه؛ لتَتوجَّهَ أَسْماعُ النَّاسِ وألبابُهم إلى وَعْيِه

.

- وقولُه: الشُّهُورِ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ عبَّرَ هنا بجَمْعِ الكَثْرةِ (الشُّهورِ)؛ وذلك لأنَّها كانتْ أَزْيدَ مِنْ عَشرةٍ، بخِلافِ قولِهِ في سُورةِ البَقرةِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة: 197] ، حيثُ جاء بلَفْظِ جَمْعِ القِلَّةِ أَشْهُرٌ وهو مُناسِبٌ؛ لأنَّهُ أَشْهُرٌ قليلةٌ؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُهُ .

- قولُه: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الإشارةُ بـذَلِكَ الذي يَتضمَّنُ مَعْنى البُعْدِ، فيه تفخيمُ المُشارِ إليه، وهو الدِّينُ .

- قوله: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ فيه تَخْصيصُ النَّهْي عن المَظالِمِ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ؛ تَشريفًا لها، وتعظيمًا بالتَّخصيصِ بالذِّكْرِ، وإنْ كانتِ المظالِمُ مَنْهيًّا عَنْها في كُلِّ زمانٍ .

- قولُه: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ احْتِراسٌ مِن ظَنِّ أنَّ النَّهيَ عن انْتِهاءِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ يَقْتضي النَّهْيَ عن قِتالِ المشركينَ فيها إذا بَدؤوا بقِتالِ المُسلِمينَ، وبهذا يُؤذِنُ التَّشبيهُ التَّعليليُّ في قولِهِ: كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً؛ فيكونُ المَعْنى: فلا تَنْتَهِكوا حُرْمةَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ بالمعاصي، أو باعْتِدائكُم على أعدائكُم؛ فإنْ هُمْ بادَؤوكُمْ بالقتالِ فقاتِلُوهم؛ فمقصودُ الكلامِ هو الأَمْرُ بقِتالِ المُشْركِينَ الذين يُقاتِلونَ المسلمينَ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ، وتعليلُه بأنَّهُم يَسْتحِلُّونَ تلك الأَشْهُرَ في قِتالِهم المُسلِمينَ .

- قولُه: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ الجُمْلةُ بمَنْزِلةِ التَّذييلِ لِمَا قَبْلَها؛ مِنْ أَجْلِ ما فيها مِن العُمومِ في المُتَّقينَ .

- وفيه وضْعُ الظاهِرِ مَوضِعَ المُضْمَرِ- حيثُ لَمْ يَقُلْ: (واعْلَموا أنَّ اللهَ مَعَكُم)-؛ مَدْحًا لهم بالتَّقوى، وحَثًّا للقاصِرينَ على القِتالِ، وإيذانًا بأنَّ مَعِيَّةَ اللهِ للمُتَّقينَ عليها المدارُ في النَّصْرِ، وقيل: هي بِشارةٌ وضَمانٌ لهم بالنُّصْرةِ؛ بسَببِ تَقْواهُمْ ، وأيضًا أظْهرَ الوَصْفَ تَعليقًا للحُكمِ به، وتَعميمًا .

2- إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ

- قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا استئنافٌ بيانيٌّ ناشئٌ عَنْ قولِه تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ ...؛ لأنَّ ذلك كالمُقدِّمةِ إلى المقصودِ، وهو إبْطالُ النَّسيءِ وتَشْنيعُه .

- وصِيغةُ القَصْرِ في قولِهِ: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ تَقْتضي أنَّهُ لا يَعْدُو كونَه مِنْ أَثَرِ الكُفْرِ لمَحبَّةِ الاعْتِداءِ والغاراتِ؛ فهو قَصْرٌ حقيقيٌّ، ويَلْزَمُ مِنْ كونِه زيادةً في الكُفْرِ: أنَّ الذين وَضَعوهُ ليسوا إلَّا كافرينَ وما هم بمُصْلِحينَ، وما الذين تابَعوهم إلَّا كافِرونُ كذلك، وما هم بمتَّقينَ .

- وجُمْلةُ: يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا بيانٌ لسَببِ كونِ النَّسيءِ ضَلالًا .

- واخْتيرَ التَّعبيرُ بالفِعْلِ المُضارِعِ في (يُضَلُّ- يُحلُّونَهُ- يُحرِّمونَهُ)؛ لدَلالتِهِ على التَّجدُّدِ والاسْتِمرارِ، أي: هم في ضلالٍ مُتجدِّدٍ مُسْتَمِرٍّ بتَجدُّدِ سَببِه .

- قولُه: لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فيه الإتيانُ بالموصولِ مَا دونَ أنْ يَقولَ مَثلًا: (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ الشُّهورِ الحُرُمِ)؛ للإشارةِ إلى تَعليلِ عَمَلِهِم في اعْتِقادِهِمْ بأنَّهم حافَظوا على عِدَّةِ الأشْهُرِ التي حرَّمها اللهُ تَعظيمًا؛ ففيه تَعريضٌ بالتَّهكُّمِ بهم .

- وعطَف فَيُحِلُّوا عَلَى لِيُواطِئُوا تَنزيلًا للأمْرِ المترتِّبِ على العِلَّةِ مَنزلةَ المقصودِ مِن التَّعليلِ، وإنْ لم يَكُنْ قَصْدُ صاحبِه به التَّعليلَ، على طَريقةِ التَّهكُّمِ والتَّخطئةِ، مثلُ قَولِه تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] .

- وفي قولِه: فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ- حيثُ لم يَقُلْ: (فيُحِلُّوهُ)-؛ لزيادةِ التَّصريحِ بتَسجيلِ شَناعَةِ عَمَلِهِمْ .

- وجُمْلةُ: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ مُسْتأنَفةٌ اسْتِئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ ما حُكِي مِنِ اضْطرابِ حالِهم يُثيرُ سؤالَ السائلينَ عن سببِ هذا الضِّغْثِ من الضَّلالِ الذي تَملَّؤُوه؛ فقيل: لأنَّهم زُيِّنَ لهم سوءُ أعمالِهم .

- قولُه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيث لم يَقُل: -(واللهُ لا يَهديهم)-؛ لقَصدِ إفادةِ التَّعميمِ الذي يَشمَلُهم وغيرَهم، أي: هذا شأنُ اللهِ مع جَميعِ الكافِرينَ .

==============

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (38-40)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

غريب الكلمات:

 

انْفِرُوا: أي: اخرُجُوا مِن مَنازِلِكم إلى مَغْزاكم، والنَّفْرُ: مُفارقةُ مكانٍ إلى مكانٍ لأمْرٍ هاجَه على ذلك، وأَصلُ (نفر): يدلُّ على تجافٍ وتباعُدٍ

.

اثَّاقَلْتُمْ: أي: تَثاقَلْتُم، وتَباطَأتُم وتَكاسَلْتُم، وأصلُ (ثقل): ضِدُّ الخِفَّةِ .

مَتَاعُ: أي: مُتْعة، وانْتِفاع، وأصلُ (متَع): المنفعةُ، وامتدادُ مدَّةٍ في خيرٍ .

الْغَارِ: نَقْبٌ في الجَبَلِ، وأصلُ (غور): يدلُّ على خُفوضٍ في الشَّيءِ، وانحطاطٍ وتَطامُنٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: يا أيُّها الذين آمَنوا، ما بالُكم إذا دُعِيتُم إلى الجِهادِ في سبيلِ الله تكاسَلْتُم، ومِلْتُم لِلُزومِ مَساكِنِكم؟! أَرِضًا منكم بنَعيمِ الدُّنيا بَدَلًا من نعيمِ الجنَّةِ في الآخرةِ؟! فما متاعُ الحياةِ الدُّنيا مُقارنةً بِنَعيمِ الآخرةِ إلَّا قَليلٌ، إن لم تُبادِرُوا للجِهادِ الذي دُعِيتُم إليه، يُعَذِّبْكم اللهُ عذابًا مُوجِعًا، ويستبدِلْ بكم قومًا آخَرينَ، إذا دُعُوا للجِهادِ أجابُوا، ولا تضُرُّوا اللهَ شَيئًا بعَدمِ تَلبِيَتِكم داعِيَ الجِهادِ، واللهُ على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ.

وإنْ لم تنصُروا مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَينصُرُه اللهُ تعالى، كما نَصَرَه مِن قَبلُ حين اضطُرَّ إلى الخروجِ مِن مكَّة، والحالُ أنَّه أحدُ اثنَينِ فحَسْبُ، ليس معه إلَّا أبو بكرٍ رَضِيَ الله عنه، حين كانا في غارٍ في جبَلِ ثَورٍ للاختباءِ من كفَّارِ قُريشٍ، إذ يقولُ لأبي بكرٍ: لا تَحزَنْ؛ إنَّ اللهَ معنا، فأنزَلَ اللهُ سَكينَتَه على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَوَّاه بجُنودٍ مِن الملائكةِ لم تَرَوْها أنتم، وجَعَلَ اللهُ كَلِمةَ الكُفَّارِ هي السُّفلى، وكِلمةُ الله هي العليا، واللهُ عزيزٌ حَكيمٌ.

مشكل الإعراب:

 

1- قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ

ثَانِيَ: حالٌ مِن الهاءِ في أَخْرَجَهُ، أي: أحَدَ اثنَينِ. اثْنَيْنِ مُضافٌ إليه مَجرورٌ، وعلامةُ جرِّه الياءُ؛ لأنَّه مُلحَقٌ بالمُثنَّى

.

2- قوله تعالى:وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هيَ الْعُلْيَا

وَكَلِمَةُ اللَّهِ هيَ الْعُلْيَا (الواو) استئنافيَّة. كَلِمةُ مبتدأٌ مَرفوعٌ. هيَ الْعُلْيَا جُملةٌ اسميَّةٌ في محلِّ رَفعٍ خَبَرٌ لـ (كَلِمَةُ اللَّه)، ويجوزُ أن تكونَ هيَ ضميرَ فَصلٍ، والْعُلْيَا هي الخَبَرُ. والجملةُ كُلُّها استئنافيَّةٌ، لا محَلَّ لها من الإعرابِ

 

.

تفسير الآيات:

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا شرَحَ معايِبَ هؤلاءِ الكُفَّارِ وفَضائِحَهم، عاد إلى التَّرغيبِ في مُقاتَلَتِهم

.

وأيضًا لَمَّا أوعَزَ اللهُ تعالى في أمرِ الجِهادِ، وأزاح جميعَ عِلَلِهم، وبيَّنَ أنَّ حُسْنَه لا يختَصُّ به شَهرٌ دونَ شَهرٍ، وأنَّ بَعضَهم كان يُحِلُّ لهم ويُحَرِّمُ، فيتَّبِعونَه بما يؤدِّي إلى تحريمِ الشَّهرِ الحلالِ، وتحليلِ الشَّهرِ الحرامِ بالقتال فيه- عاتَبَهم اللهُ سبحانه على تخلُّفِهم عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الآمِرِ لهم بالنَّفْرِ في غزوةِ تَبُوكَ عن أمْرِه سبحانَه، فقال تعالى :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ.

أي: ما الذي يَدعُوكم- أيُّها المُؤمِنونَ- إذا أُمِرْتُم بجهادِ الكُفَّارِ لإعلاءِ كَلِمةِ الله، إلى أن تَتَثاقلوا وتتَباطَؤوا وتتقاعَسُوا، وتَميلوا إلى لُزومِ أرضِكم ومَساكِنِكم ؟!

أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ.

أي: ما لَكُم فَعَلْتُم ذلك- أيُّها المُؤمِنونَ- أَرِضًا منكم بنَعيمِ الحياةِ الدُّنيا وراحَتِها، بدَلًا مِن نعيمِ الجنَّةِ في الآخرةِ ؟!

فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ.

أي: فما الذي يتمَتَّعُ به المتمَتِّعونَ في الحياةِ الدُّنيا- التي مالتْ بكم- مُقارنةً بما سيتمَتَّعُ به المُؤمِنونَ في الجنَّةِ؛ إلَّا يسيرٌ مَحدودٌ، ووقتُه قصيرٌ معدودٌ، فكيف تُقَدِّمونَ القَليلَ الزَّائِلَ على الكثيرِ الباقي؟! فاطلُبوا- أيُّها المؤمنونَ- نعيمَ الآخرةِ بطاعةِ رَبِّكم، والمُسارَعةِ إلى إجابةِ أمْرِه في النَّفيرِ؛ لِجِهادِ عَدُوِّه وعَدُوِّكم .

عن المُستَورِدِ بنِ شدَّادٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((سَمِعْتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: واللَّه ما الدُّنيا في الآخرةِ إلَّا مِثلُ ما يجعَلُ أحدُكم إصْبَعَه هذه في اليَمِّ، فلْينظُرْ بمَ تَرجِعُ؟ )) .

إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا رغَّبَهم في الآيةِ الأُولى في الجِهادِ بناءً على التَّرغيبِ في ثوابِ الآخرةِ؛ رغَّبَهم في هذه الآيةِ في الجهادِ بناءً على أنواعٍ أُخَرَ مِن الأمورِ المُقَوِّيةِ للدَّواعي، وهي ثلاثةُ أنواعٍ: قولُه تعالى: يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. الثاني: قولُه: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ. الثالث: قَولُه: وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا .

وأيضًا فهذا وعيدٌ وتَهديدٌ عَقَّبَ به المَلامَ السَّابِقَ؛ لأنَّ اللَّومَ وقَعَ على تثاقُلٍ حصَلَ، ولَمَّا كان التَّثاقُلُ مُفْضِيًا إلى التخَلُّفِ عن القتالِ، صَرَّح بالوعيدِ والتَّهديدِ إن يعودُوا لمِثلِ ذلك التَّثاقُلِ ، فقال:

إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.

أي: إنْ لم تُبادِروا- أيُّها المُؤمِنونَ- بالخُروجِ إلى الجهادِ بعد أن دُعِيتُم إليه، يُعَذِّبْكم اللهُ عَذابًا مُوجِعًا في الدُّنيا والآخرةِ .

عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: إذا تبايَعْتُم بالعِينةِ، وأخَذْتُم أذنابَ البَقَرِ، ورَضِيتُم بالزَّرعِ، وتَرَكتُم الجهادَ- سلَّطَ اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزِعُه، حتى تَرجِعوا إلى دينِكم )) .

وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ.

أي: ويَستَبدِلِ اللهُ سبحانه بكم قومًا آخَرينَ، أطوَعَ لله منكم، إذا استُنْفِروا إلى الجِهادِ أجابُوا، ونَصَروا دينَ الله عزَّ وجلَّ .

كما قال سبحانه: إِنْ يَشَأْ يُذْهبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء: 133] .

وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] .

وقال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .

وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا.

أي: ولا تَضُرُّوا اللهَ سُبحانَه شَيئًا؛ فهو غَنيٌّ عنكم، وناصِرٌ دينَه، وإنَّما تَضرُّونَ أنفُسَكم، بتَرْكِكم الجهادَ في سَبيلِه عزَّ وجلَّ .

كما قال تعالى: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران: 144] .

وقال سبحانه: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: 7] .

وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

أي: واللهُ قادِرٌ على فِعلِ كلِّ شيءٍ، لا يُعجِزُه شَيءٌ أراده سبحانَه، ومِن ذلك قُدرتُه على استبدال قومٍ آخرينَ بكم، وعلى نصرِ دينِه مِن دُونِكم .

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذا ذِكرُ طَريقٍ آخَرَ في ترغيبِهم في الجهادِ؛ وذلك لأنَّه تعالى ذكَرَ في الآيةِ الأولى أنَّهم إن لم يَنفِروا باستنفارِه، ولم يشتَغِلوا بنُصرَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّ اللهَ ينصُرُه بدليلِ أنَّ اللهَ نَصَره وقَوَّاه حالَ ما لم يكُنْ معه إلَّا رَجُلٌ واحِدٌ، فهاهنا أَوْلى .

وأيضًا لَمَّا وصَفَ اللهُ تعالى نَفسَه الأقدَسَ بما هو له أهلٌ مِن شُمولِ القُدرةِ، وعَظيمِ البأسِ والقُوَّةِ؛ أتبع ذلك بدَليلٍ يتضَمَّنُ أنَّ المُستَنفِرَ لهم- وهو نبيُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- غيرُ مُحتاجٍ إليهم، ولا مُتَوقِّفٍ نَصرُه عليهم، كما لم يَحتَجْ إليهم- بحِياطةِ القادِرِ له- فيما مضى من الهجرةِ التي ذَكَرَها، وأنَّ نَفْعَ ذلك إنما هو لهم، باستجلابِ ما وُعِدُوه، واستِدْفاعِ ما أُوعِدُوه في الدَّارَينِ، قال تعالى :

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ.

أي: إن تَترُكوا- أيُّها المُؤمِنونَ- نُصرةَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الكُفَّارِ، فسَينصُرُه اللهُ تعالى كما نَصَرَه مِن قَبلُ، حين اضطَرَّه كفَّارُ قُريشٍ إلى الخُروجِ مِن مكَّةَ .

ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ.

أي: نصَرَ اللهُ رسولَه محمَّدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، حين اضطُرَّ للخُروجِ مِن مكَّةَ، والحالُ أنَّه أحدُ اثنَينِ فحَسْبُ، ليس معه إلَّا أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه حين كانا مُختَفِيَينِ من كفَّارِ قُريشٍ في غارٍ في جبَلِ ثَورٍ .

عن عائشةَ رَضِيَ الله عنها، قالت: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للمُسلِمينَ: ((إنِّي أُريتُ دارَ هجْرَتِكم، ذاتَ نَخلٍ بين لابَتَينِ- وهما الحَرَّتانِ- فهاجر مَن هاجَرَ قِبَل المدينةِ، ورجَعَ عامَّةُ مَن كان هاجَرَ بأرضِ الحَبَشةِ إلى المدينةِ، وتجهَّزَ أبو بكرٍ قِبَل المدينةِ، فقال له رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: على رِسْلِك فإنِّي أرجو أن يُؤذَنَ لي، فقال أبو بكرٍ: وهل ترجو ذلك بأبي أنتَ؟ قال: نعم، فحَبَس أبو بكرٍ نَفسَه على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِيصحَبَه، وعَلَف راحِلَتينِ- كانَتا عِندَه- وَرَقَ السَّمُرِ- وهو الخَبَطُ- أربعةَ أشهُرٍ. قالت عائشةُ: فبينما نحن يومًا جُلوسٌ في بيتِ أبي بكرٍ في نحرِ الظَّهيرةِ ، قال قائِلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتقنِّعًا، في ساعةٍ لم يكُن يأتينا فيها. فقال أبو بكرٍ: فِداءٌ له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه السَّاعةِ إلَّا أمرٌ! قالت: فجاء رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاستأذَنَ، فأَذِنَ له فدخَلَ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بكرٍ: أَخرِجْ مَنْ عِندك. فقال أبو بكرٍ: إنَّما هم أهلُك، بأبي أنت يا رسولَ الله! قال: فإنِّي قد أُذِنَ لي في الخُروجِ. فقال أبو بكرٍ: الصَّحابةَ بأبي أنت يا رسولَ الله. قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نعم. قال أبو بكرٍ: فخُذ- بأبي أنت يا رسولَ الله- إحدى راحِلَتيَّ هاتينِ، قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بالثَّمَنِ. قالت عائشةُ: فجَهَّزْناهما أحَثَّ الجَهازِ ، وصَنَعْنا لهما سُفرةً في جِرابٍ ، فقطَعَت أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ قِطعةً مِن نِطاقِها ، فربَطَت به على فَمِ الجِرابِ؛ فبذلك سُمِّيَت ذاتَ النِّطاقَينِ، قالت: ثم لَحِقَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ بغارٍ في جبَلِ ثَورٍ، فَكَمِنا فيه ثلاثَ ليالٍ، يَبيتُ عندهما عبدُ الله بنُ أبي بكرٍ، وهو غلامٌ شابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ فيُدلِجُ مِن عِندِهما بسَحَرٍ، فيُصبِحُ مع قريشٍ بمكَّةَ كبائِتٍ، فلا يسمَعُ أمرًا يُكتادانِ به إلَّا وَعاه، حتى يأتِيَهما بخبرِ ذلك حينَ يَختلِطُ الظَّلامُ، ويرعى عليهما عامِرُ بن فُهَيرةَ- مولى أبي بكرٍ- مِنْحةً مِن غَنَمٍ ، فيُريحُها عليهما حين تذهَبُ ساعةٌ مِن العِشاءِ، فيَبيتانِ في رِسْلٍ- وهو لبَنُ مِنحَتِهما ورَضِيفِهما- حتى ينعِقَ بها عامرُ بن فُهَيرةَ بِغَلَسٍ يفعَلُ ذلك في كلِّ ليلةٍ مِن تلك الليالي الثَّلاثِ، واستأجَرَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ رَجُلًا من بني الدِّيلِ هاديًا خِرِّيتًا- والخِرِّيتُ الماهرُ بالهدايةِ- وهو على دينِ كُفَّارِ قُريشٍ، فأَمِناه فدَفَعا إليه راحِلَتَيهما، وواعَداه غارَ ثَورٍ بعد ثلاثِ لَيالٍ، براحِلَتَيهما صُبحَ ثلاثٍ، وانطلَقَ معهما عامِرُ بنُ فُهَيرةَ، والدَّليلُ، فأخَذَ بهم طريقَ السَّواحِلِ )) .

إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ.

أي: إذ يقولُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِصاحِبِه أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: لا تحزَنْ- يا أبا بكرٍ- لأنَّ اللهَ مَعَنا بنَصْرِه وحِفْظِه، ولن يَصِلَ المشركونَ إلينا .

عن أنسِ بنِ مالكٍ، أنَّ أبا بكرٍ الصِّديقَ رَضِيَ الله عنه حَدَّثَه، قال: ((نظَرْتُ إلى أقدامِ المُشرِكينَ على رُؤوسِنا ونحن في الغارِ، فقلتُ: يا رسولَ الله، لو أنَّ أحَدَهم نظَرَ إلى قَدَمَيه أبصَرَنا تحت قَدَمَيه! فقال: يا أبا بكرٍ، ما ظَنُّك باثنينِ اللهُ ثالِثُهما؟ )) .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لو كُنتُ مُتَّخِذًا مِن أمَّتي خليلًا، لاتَّخَذتُ أبا بكرٍ، ولكِنْ أخي وصاحِبي)) .

وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عليَّ في مالِه وصُحبَتِه أبو بكرٍ، ولو كنتُ مُتَّخذًا خَليلًا، لاتَّخَذتُ أبا بكرٍ خَليلًا، ولكِنْ أخُوَّةُ الإسلامِ، لا تَبقَينَّ في المسجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا خَوخةُ أبي بكرٍ )) .

فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ.

أي: فأنزَلَ اللهُ الطُّمأنينةَ والثَّباتَ على رسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا.

أي: وقَوَّى اللهُ رسولَه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأعانَه بجُنودٍ مِن الملائكةِ، لم تَرَوْها أنتم .

وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى.

أي: وجعَلَ اللهُ كَلِمةَ الكُفَّارِ- وهي الشِّركُ والكُفرُ- حقيرةً مَقهورةً، منحَطَّةً وساقطةً، فأذَلَّ اللهُ الشِّركَ وأهْلَه، وخَذَلهم ودَحَرَهم .

وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا.

أي: وكَلِمةُ الله- وهي كَلِمةُ التَّوحيدِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ودينُه الذي شَرَعه لعبادِه- هي الغالِبةُ المنصورةُ على الشِّركِ وأهْلِه .

عن أبي موسى الأشعريِّ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سُئِلَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الرَّجُلِ يُقاتِلَ شَجاعةً، ويُقاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقاتِلُ رِياءً، أيُّ ذلك في سبيلِ الله؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن قاتَلَ لِتَكونَ كَلِمةُ الله هي العُليا، فهو في سبيلِ الله )) .

وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

واللهُ عَزيزٌ في انتقامِه وانتصارِه مِن الكُفَّارِ، لا يقهَرُه، ولا يَغلِبُه شَيءٌ، ولا يفوتُه أحَدٌ، قاهرٌ غالِبٌ، مَنيعُ الجَنابِ، لا يُضامُ مَن لاذ ببابِه، حكيمٌ في أقوالِه وأفعالِه، وفي تدبيرِه خَلْقَه، يضَعُ سُبحانَه الأشياءَ موَاضِعَها اللَّائِقةَ بها، وقد يؤخِّرُ نَصرَ حِزبِه إلى وقتٍ آخَرَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ على قَدْرِ رَغبةِ العَبدِ في الدُّنيا ورِضاه بها، يكونُ تَثاقُلُه عن طاعةِ الله، وطَلَبِ الآخرةِ

.

2- قال الله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ متاعُ الدُّنيا في جَنْبِ متاعِ الآخرةِ، قليلٌ حَقيرٌ، وسعادةُ الدُّنيا بالنِّسبةِ إلى سعادةِ الآخرةِ، كالقَطرةِ في البَحرِ، وتَرْكُ الخيرِ الكَثيرِ لأجلِ الشَّرِّ القليلِ، شَرٌّ عَظيمٌ، وهو جَهلٌ وسَفَهٌ .

3- قال اللهُ تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هذه الآيةُ فيها سِرٌّ عَظيمٌ يعلَمُ به الإنسانُ أنَّ كُلَّ ما يفعَلُه إنَّما أثَرُه راجِعٌ إلى نَفسِه، فإن كان شَرًّا فهو يجني شَرًّا على نَفسِه، وإن كان خَيرًا فهو يجلِبُ الخيرَ لِنَفسِه إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .

4- مَن كان اللهُ تعالى معه بعِزَّتِه التي لا تُغلَب، وقُدرَتِه التي لا تُقهَر، ورَحمَتِه التي قام ويقومُ بها كلُّ شَيءٍ- فهو حقيقٌ بألَّا يستسلِمَ لِحُزنٍ ولا خوفٍ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا .

5- قال تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا اللهُ جلَّ وعلا يَشرَعُ بأفعالِ رُسُلِه وأقوالِهم لِخَلقِه؛ فاللهُ جلَّ وعلا مع عظَمَتِه وجَلالِه وتَصريحِ النَّبيِّ بأنَّه معه، وأنَّ اللهَ أيَّدَه بجُنودِ الملائكةِ، مع هذا يدخُلُ في غارٍ في ظلمةِ اللَّيلِ، والغارُ فيه الحيَّاتُ وخَشاشُ الأرضِ؛ لِيَسُنَّ للنَّاسِ ويَشرَعَ لهم حَملَ أعباءِ تَبليغِ الرِّسالةِ والدَّعوة، وأن يتحَمَّلوا في شأنِ الدَّعوةِ إلى الله كُلَّ البَلايا والمشاقِّ، ويَستَهينوا فيها بكلِّ عَظيمٍ، هذا هو السِّرُّ في ذلك .

6- في قولِ الله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ أنَّ الحُزنَ قد يَعرِضُ لخَواصِّ عِبادِ الله الصِّدِّيقِينَ، ولا ينقصُهم إضافةُ الحزنِ إليهم، مع أنَّ الأَوْلى إذا نزَلَ بالعبدِ أن يَسعى في ذَهابِه عنه؛ فإنَّه مُضعِفٌ للقَلبِ، مُوهنٌ للعَزيمةِ، ولم يكنْ حُزنُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عنه لشَكٍّ وحَيرةٍ، وإنَّما كان خوفًا على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَصِلَ إليه ضَرَرٌ . وقيل: ليس في نهيِ أبي بكرٍ عن الحُزنِ ما يدُلُّ على وجودِه، بل قد يُنهى عنه؛ لئلَّا يُوجَدَ إذا وُجِدَ مُقتَضيه، فالنَّهيُ عن الشَّيءِ لا يدُلُّ على وقوعِه، بل يدُلُّ على أنَّه ممنوعٌ منه؛ لئلَّا يقَعَ فيما بعدُ، كقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب: 1] ، فهذا لا يدُلُّ على أنَّه كان يُطيعُهم. فقَولُه لَا تَحْزَنْ لا يدُلُّ على أنَّ الصِّدِّيقَ كان قد حَزِنَ، لكنْ مِن المُمكِنِ في العَقلِ أنَّه يحزَنُ، فقد يُنهى عن ذلك؛ لئلَّا يفعَلَه .

7- قَولُه تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا في الآيةِ فَضيلةُ السَّكينةِ، وأنَّها مِن تمامِ نِعمةِ الله على العَبدِ في أوقاتِ الشَّدائدِ والمخاوفِ التي تَطيشُ بها الأفئدةُ، وهي تكونُ على حسَبِ مَعرفةِ العَبدِ برَبِّه، وثِقَتِه بِوَعدِه الصَّادِقِ، وبحَسَبِ إيمانِه وشَجاعَتِه .

8- كلُّ مَن وافَقَ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أمرٍ خالفَ فيه غَيرَه؛ فهو من الذينَ اتَّبَعوه في ذلك؛ وله نصيبٌ مِن قَولِه تعالى: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا؛ فإنَّ المعيَّةَ الإلهيَّةَ المتضَمِّنةَ للنَّصرِ هي لِما جاء به إلى يومِ القِيامةِ .

9- قولُه تعالى: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فيه أنَّه لا حُزنَ مع الله، وأنَّ مَن كان اللهُ معه، فما له وللحُزنِ؟ وإنَّما الحُزنُ كلُّ الحُزنِ لِمَن فاته اللهُ، فمن حصَلَ اللهُ له، فعلى أيِّ شَيءٍ يَحزَنُ؟ ومن فاته اللهُ فبأيِّ شَيءٍ يَفرَحُ ؟

10- والمعيَّةُ في قَولِه تعالى: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا معيَّةٌ خاصَّةٌ، غيرُ قَولِه تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة: 7] فالمعيَّةُ الخاصَّةُ تقتضي حُسنَ الظَّنِّ بإجابَتِه سُبحانَه، ورِضاه وحِفْظَه وصِيَانَتَه، وأمَّا المعيَّةُ العامَّةُ فتَقتَضي التَّحذيرَ مِن عِلمِه، واطِّلاعِه وقُدرَتِه، وبَطْشِه وانتِقامِه .

11- قال الله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هذانِ الاسمانِ مِن أسماءِ الله: (العَزيزُ الحكيمُ) المتضَمِّنانِ هاتَينِ الصِّفَتينِ مِن صِفاتِ الله، وهي عِزُّه وحِكمَتُه وحُكْمُه- هما أبلَغُ شَيءٍ في امتثالِ أمْرِه وطاعَتِه جَلَّ وعلا؛ لأنَّ عِزَّتَه- أي: غَلَبَتَه وقُوَّتَه وقَهْرَه وسُلطانَه- يجعَلُك أيُّها المِسكينُ، تخافُه وتخضَعُ لأمْرِه ونَهْيِه، وكونُه جلَّ وعلا حكيمًا لا يأمُرُك إلَّا بما فيه لك الخَيرُ، ولا ينهاك إلَّا عمَّا فيه لك الشَّرُّ؛ ذلك يقتضِي أيضًا أن تُطيعَه وتخضعَ لأمْرِه ونَهيِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ بُنِي (قيل) للمَفعولِ، والقائِلُ هو الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يُذكَرْ؛ إغلاظًا ومُخاشنةً لهم، وصَونًا لِذِكرِه؛ إذ أخلَدَ إلى الهُوَينا والدَّعةِ مَن أخلَدَ، وخالَفَ أمْرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

.

2- قَولُه تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ خِطابٌ لكلِّ قرْنٍ، وقد أَخبَرَ فيه أنَّه مَن نَكَل عن الجهادِ المأمورِ به، نَزَعَ الأمرَ منه، وعذَّبَه، واستبدَلَ به مَن يقومُ بالجهادِ- وهذا هو الواقِعُ- وإنَّ هذا الدِّينَ لِمَن ذَبَّ عنه .

3- قولُ الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا دلَّ على فضيلةِ أبي بكرٍ رَضِيَ الله عنه من وجوهٍ؛ منها: الأول: أنَّ الهجرةَ كانت بإذنِ الله تعالى، وكان في خِدمةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جماعةٌ مِن المُخلِصينَ، وكانوا في النَّسَبِ إلى شجرةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقرَبَ من أبي بكرٍ؛ فتخصيصُ الله إيَّاه بهذا التَّشريفِ دلَّ على منصبٍ عالٍ له في الدِّينِ. الثاني: أنَّه تعالى سَمَّاه ثَانِيَ اثْنَيْنِ فجُعِل ثانيَ مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حالَ كَونِهما في الغارِ، والعلماءُ أثبتوا أنَّه رَضِيَ الله عنه كان ثانيَ محمَّدٍ في أكثَرِ المناصِبِ الدينيَّةِ. الثالث: أنَّه تعالى وصَفَ أبا بكرٍ بِكَونِه صاحِبًا للرَّسولِ، وذلك يدلُّ على كمالِ الفَضلِ. الرابع: قَولُه: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ولا شَكَّ أنَّ المرادَ مِن هذه المعيَّةِ: المعيَّةُ بالحِفظِ والنُّصرةِ، والحِراسةِ والمَعونةِ، وبالجملةِ فالرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسُّلام شَرَكَ بين نفسِه وبين أبي بكرٍ في هذه المعيَّةِ، وذلك منصِبٌ في غايةِ الشَّرفِ .

4- قال الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ... في هذه الآيةِ دَليلٌ على جوازِ الفِرارِ مِن خَوفِ العَدُوِّ، والاستخفاءِ في الغِيرانِ وغيرِها، وعدمِ الاستسلامِ المؤَدِّي إلى الآلامِ والهُمومِ، وألَّا يُلقِيَ بيَدِه إلى العدُوِّ؛ توكُّلًا على الله، واستسلامًا له، ولو شاء ربُّكم لعَصَمه مع كَونِه معهم، ولكِنَّها سُنَّةُ الأنبياءِ، وسِيرةُ الأمَمِ، حَكَمَ اللهُ بها لتكونَ قُدوةً للخَلقِ، وأنمُوذجًا في الرِّفقِ، وعمَلًا بالأسبابِ، وهذا أدَلُّ دليلٍ على فسادِ مَن منعَ ذلك، وقال: من خافَ مع الله سِواه كان ذلك نقصًا في توكُّلِه، ولم يؤمِنْ بالقَدَرِ. وهذا كلُّه في معنى الآية، ولله الحَمدُ والهداية .

5- في قَولِه تعالى: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ إلى قَولِه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ بيانُ أنَّ نَصْرَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَرْضٌ علينا؛ لأنَّه مِن التَّعزيرِ المَفروضِ؛ ولأنَّه مِن أعظَمِ الجِهادِ في سبيلِ الله؛ ولذلك قال سُبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّه كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه [الصف: 14] .

6- قال الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ .. جعَلَ أبا بكرٍ في مقابلةِ الصَّحابةِ أجمَعَ، فقال: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحبه في الغار، بتأنيسِه له، وحَمْلِه على عُنُقِه، ووفائِه له بوقايتِه له بنفسِه، وبمواساتِه بمالِه، وبهذه الفضائِلِ استحَقَّ أن يقالَ فيه: ((لو كنتُ مُتَّخِذًا خَليلًا لاتَّخذْتُ أبا بكرٍ خَليلًا )) وسبقت له بذلك كُلِّه الفضيلةُ على النَّاسِ . قال سفيانُ بنُ عُيَينةَ: خرج أبو بكرٍ بهذه الآيةِ مِن المعاتَبةِ التي في قَولِه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ . وقال الشَّعبي: عاتبَ اللهُ عزَّ وجَلَّ أهلَ الأرضِ جميعًا في هذه الآيةِ غيرَ أبي بكرٍ الصِّديقِ رَضِيَ اللهُ عنه .

7- قال اللهُ تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ أبو بكرٍ الصِّديقُ رَضِيَ الله عنه هو الثَّاني في الإسلامِ، وفي بذْلِ النَّفسِ، وفي الزُّهدِ، وفي الصُّحبةِ، وفي الخِلافةِ، وفي العُمُرِ، وفي سبَبِ الموتِ؛ لأنَّ الرَّسولَ مات عن أثَرِ السُّمِّ، وأبو بكرٍ سُمَّ فمات .

8- قال بعضُ العُلَماءِ: في قَولِه تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ما يدلُّ على أنَّ الخليفةَ بعد النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ الله عنه؛ لأنَّ الخليفةَ لا يكونُ أبدًا إلَّا ثانًيا .

9- قولُه تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لا يختَصُّ بمُصاحَبتِه في الغارِ، بل هو صاحِبُه المُطلَقُ الذي كَمُلَ في الصُّحبةِ كَمالًا لم يَشْرَكْه فيه غَيرُه، فصار مُختَصًّا بالأكمَليَّةِ مِن الصُّحبةِ .

10- وُحِّدَ الضميرُ في عَلَيْهِ مِن قَولِه تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا؛ لأنَّ نزولَ السَّكينةِ على أحَدِهما يستلزِمُ مُشاركةَ الآخَرِ له؛ إذ مُحَالٌ أن يَنزِلَ ذلك على الصَّاحِبَ دونَ المصحوبِ، أو على المصحوبِ دونَ الصَّاحِبِ المُلازِمِ، فلمَّا كان لا يحصُلُ ذلك إلَّا مع الآخَرِ وَحَّد الضميرَ، وأعاده إلى الرَّسولِ؛ فإنَّه هو المقصودُ، والصَّاحبُ تابِعٌ له، ولو قيل: (فأنزل السَّكينةَ عليهما وأيَّدَهما)؛ لأوهَمَ أنَّ أبا بكرٍ شريكٌ في النبوَّةِ! كهارونَ مع موسى؛ حيث قال تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا

 

[القصص: 35] .

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ

- قولُه: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ اسْتِفهامٌ مَعْناهُ الإنكارُ والتَّقريعُ؛ فإنَّه وإنْ كان في الظَّاهرِ اسْتِفهامًا، إلَّا أنَّ المُرادَ منه المُبالغةُ في الإنكارِ

.

- وقولُه: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ... فيه تَمْثيلٌ لحالِ الكارِهينَ للغَزْوِ، المُتطلِّبينَ للعُذْرِ عَنِ الجِهادِ كسلًا وجُبْنًا، بحالِ مَنْ يُطْلَبُ منه النُّهوضُ والخُروجُ، فيُقابِلُ ذلك الطَّلَبَ بالالْتِصاقِ بالأرضِ، والتَّمكُّنِ مِنَ القُعودِ، فيَأبى النُّهوضَ فضلًا عن السَّيرِ ، وعُدِّي التَّثاقُل بـ(إلى)؛ لأنَّه ضُمِّنَ معنى الميلِ والإخلادِ، كأنَّه تَثاقُلٌ يَطلُب فاعلُه الوصولَ إلى الأرضِ؛ للقُعودِ والسُّكونِ بها .

- وفيه تعريضٌ بأنَّ بُطْأَهم ليس عن عَجزٍ، ولكنَّه عن تَعلُّقٍ بالإقامةِ في بلادِهم وأموالِهم .

- قولُه: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ هذا الاسْتِفهامُ فيه نوعٌ مِنَ الإنكارِ والتَّعجُّبِ؛ فهو اسْتِفهامٌ إنكاريٌّ تَعجُّبيٌّ .

- واخْتيرَ فِعْلُ الرِّضا في قولِهِ: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا دونَ نَحو: (آثرتُمْ) أو (فضَّلتُمْ)؛ مُبالغةً في الإنكارِ؛ لأنَّ فِعْلَ (رَضِي بكذا) يَدُلُّ على انْشِراحِ النَّفْسِ .

- قولُه: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ترشيحُ الحياةِ الدُّنيا بما يؤذِنُ بنَفاستِها، ويَسْتدعي الرَّغبةَ فيها، وتَجْريدُ الآخِرةِ عَنْ مِثلِ ذلك، وتَخصيصُها بالذِّكرِ هنا- مبالغةٌ في بَيانِ حَقارةِ الدُّنيا ودَناءتِها، وعِظَمِ شأنِ الآخِرةِ وعُلوِّها .

- وفيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيثُ قال: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ولَمْ يَقُلْ: فما مَتاعُها-؛ لزِيادةِ التَّقريرِ .

2- قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

- قولُه: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ فيه وَصْفُهم بالمُغايرةِ لهم؛ لتَّأكيدِ الوعيدِ، والتَّشديدِ في التَّهديدِ بالدَّلالةِ على المُغايرةِ الوَصْفيَّةِ .

- قولُه: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييلٌ للكلامِ؛ لأنَّهُ يُحقِّقُ مَضمونَ لَحاقِ الضُّرِّ بِهِم؛ لأنَّهُ قَديرٌ عليهم في جُمْلةِ كُلِّ شَيءٍ، وعدَمُ لَحاقِ الضُّرِّ بِهِ؛ لأنَّهُ قَديرٌ على كُلِّ شيءٍ؛ فدَخَلتِ الأشياءُ التي مِنْ شأنِها الضُّرُّ ؛ ففي خِتامِ الآيةِ بقولِهِ: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ فإنَّه سُبْحانَه لَمَّا رَتَّبَ على انْتِفاءِ نَفْرِهِم التَّعذيبَ والاسْتِبدالَ وانْتِفاءَ الضَّررِ، أَخْبَر تعالى أنَّه على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ؛ مِنَ التَّعذيبِ والتغييرِ وغيرِ ذلك .

3- قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

- قولُه تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ استئنافٌ بَيانيٌّ لقولِه: وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ لأنَّ نَفْيَ أنْ يكونَ قُعودُهُم عَنِ النَّفيرِ مُضِرًّا باللهِ ورسولِهِ، يُثيرُ في نَفْسِ السَّامِعِ سؤالًا عن حُصولِ النَّصْرِ بدونِ نَصيرٍ؛ فبيَّنَ بأنَّ اللهَ يَنْصُرُه، كما نَصَرَه حَينَ كان ثانيَ اثْنينِ لا جَيشَ مَعَه؛ فالذي نَصَرَه حين كان ثانيَ اثْنينِ قديرٌ على نَصْرِهِ وهو في جيشٍ عظيمٍ، فتبيَّنَ أنَّ تَقديرَ قُعودِهِمْ عن النَّفيرِ لا يَضُرُّ اللهَ شيئًا .

- وفي قولِه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ حُذِفَ الجزاءُ، وأقيمُ سببُه مَقامَه، والتَّقديرُ: إنْ لم تَنْصروه فسَيْنصرَهُ اللهُ الذي قد نَصَرَه في وقتِ ضرورةٍ أَشدَّ مِنْ هذه المرَّةِ، أو: إنْ لَمْ تَنْصروهُ فَقَدْ أوْجَب له النُّصْرةَ حتَّى نَصَرَه في مِثْلِ ذلك الوَقْتِ، فلَنْ يَخذلَه في غيرِه .

- وجُمْلةُ: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مُستأنَفةٌ بمنزلةِ التَّذييلِ للكلامِ؛ لأنَّه لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ كلمةِ الذين كَفَروا بأنَّها صارتْ سُفْلى، أفادَ أنَّ العَلاءَ انَحْصرَ في دِينِ اللهِ وشأنِه؛ فضَميرُ الفَصْلِ هِيَ مُفيدٌ للقَصْرِ؛ ولذلك لَمْ تُعْطَفْ وَكَلِمَةُ اللَّهِ على كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ إذْ ليس المُقصودُ إفادةَ جعْلِ كَلِمةِ اللهِ عُلْيا؛ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ الجَعْلُ مِنْ إحداثِ الحالةِ، بِل المَقصودُ إفادةُ أنَّ العلاءَ ثابتٌ لها، ومَقْصورٌ عليها، وأنَّها في نَفْسِها كذلك لا يَتبدَّلُ شأنُها، ولا يَتغيَّرُ حالُها دونَ غَيرِها مِنَ الكَلِمِ؛ ولذلك وُسِّطَ ضميرُ الفصلِ؛ فكانتِ الجُملةُ كالتَّذييلِ لَجَعْلِ كلمةِ الذين كَفَروا سُفْلى .

- وقولُه: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تذييلٌ لمضمونِ الجُمْلتينِ: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ لأنَّ العزيزَ لا يَغْلِبُه شيءٌ، والحكيمُ لا يَفوتُه مَقْصِدٌ؛ فلا جَرَمَ أنْ تَكونَ كلمتُه العُليا، وكَلِمةُ ضدِّهِ السُّفْلى ، وناسَبَ هنا الوصْفُ بالعِزَّةِ الدَّالَّةِ على القَهْرِ والغَلَبَةِ، والحِكْمةِ الدَّالَّةِ على ما يَصْنَعُ مع أنبيائهِ وأوليائهِ، ومَنْ عاداهُم مِنْ إعزازِ دِينِه، وإخمادِ الكُفْرِ .

==============

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (41-43)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ

غريب الكلمات:

 

خِفَافًا وَثِقَالًا: أي: خَفَّتْ عليكم الحَركةُ أو ثَقُلَت، مُوسِرينَ أو مُعسِرينَ، شبابًا أو شُيوخًا، والخِفافُ جمعُ خفيفٍ. والثقالُ: جمعُ ثقيلٍ، والخَفيفُ: بإزاءِ الثَّقيلِ، وأصلُ (ثقل): ضِدُّ الخِفَّةِ

.

عَرَضًا قَرِيبًا: أي: غَنيمةً حاضِرةً، سَهْلةَ التَّناوُلِ، والعَرَضُ: ما لا يكونُ له ثباتٌ، والعَرَضُ: طَمَعُ الدُّنيا، قليلًا كان أو كثيرًا، وسُمِّيَ به؛ لأنَّه يُعْرِضُ، أي: يُريكَ عُرضَه .

سَفَرًا قَاصِدًا: أي: مَوضعًا قريبًا سَهْلًا غيرَ شاقٍّ .

الشُّقَّةُ: أي: السَّفَرُ البَعيدُ المَسافةِ، والناحيةُ التي تلحَقُك المشَقَّةُ في الوصولِ إليها، وأصل (شقق): يدلُّ على انصداعٍ في الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ المؤمنينَ أن يَخرُجوا لجِهادِ الكُفَّارِ مُسرِعينَ، سواءٌ كانوا خِفافًا أم ثِقالًا، وأن يُجاهدوا بأموالِهم وأنفُسِهم؛ لإعلاءِ كَلِمةِ الله تعالى؛ فإنَّ ذلك خيرٌ لهم إن كانوا يَعلَمونَ.

ثمَّ يُخاطِبُ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: لو كان ما تدعُو إليه المُنافِقينَ المُتخَلِّفينَ عن غَزوِ الرُّومِ، غنيمةً حاضرةً سهلةَ التَّناوُلِ، وسَفَرًا سَهلًا لِمَوضعٍ قَريبٍ- لَخَرجوا معك، لكِنْ طالَتْ عليهم مسافةُ السَّفَرِ لِغَزوِ الرُّومِ، فتَرَكوا المَسيرَ معك لِشدَّةِ المشَقَّةِ، وسَيَحلِفونَ لك- يا محمَّدُ- كذبًا فيَقولون: والله لو استَطَعْنا الخُروجَ معكم لَخَرجْنا، يُهلِكونَ أنفُسَهم، واللهُ يعلَمُ أنَّهم كاذِبونَ.

عفا اللهُ عنك- يا مُحمَّدُ- على إذنِك لهؤلاءِ المُنافِقينَ حين استأذَنُوك للتخَلُّفِ عن الخُروجِ معك، لأيِّ شَيءٍ أذِنْتَ لهم؟ كان ينبغي ألَّا تأذَنَ لهم حتى تعلَمَ الصَّادِقينَ في أنَّ لهم عذرًا، وتَعلَمَ الكاذبينَ الذين لا عُذرَ لهم.

تفسير الآيات:

 

انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا وبَّخ اللهُ تعالى المُؤمِنينَ على التَّثاقُلِ عَن النَّفْرِ لَمَّا استنفَرَهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتوعَّدَ تعالى مَن لا ينفِرُ مع الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قفَّى عليه ببيانِ حُكمِ النَّفيرِ العامِّ، وأتبَعَه بهذا الأمرِ الجَزمِ، الذي يُوجِبُ القِتالَ على كلِّ فَردٍ مِن الأفرادِ بما استطاع، ولا يُعذَر فيه أحَدٌ بالتخَلُّفِ عن الإقدامِ، وتَركِ طاعةِ الإمامِ

، فقال تعالى:

انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً.

أي: اخرُجوا- أيُّها المُؤمِنونَ- إلى جهادِ الكُفَّارِ مُسرِعينَ، سواءٌ خَفَّ عليكم الجِهادُ وسَهُلَ، أم ثقُلَ وصَعُبَ، سواءٌ كُنتُم شبابًا أم شُيوخًا، أغنياءَ أم فُقَراءَ، أقوياءَ أم ضُعَفاءَ، نَشيطينَ أم كُسالى، فارغينَ مِن الشُّغُلِ أم مَشغولينَ .

كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التوبة: 38] .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا استُنفِرْتُم فانفِرُوا )) .

وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ.

أي: ابذُلوا جُهدَكم واستَفرِغوا وُسْعَكم- أيُّها المؤمنونَ- في إنفاقِ أموالِكم في تجهيزِ الغُزاةِ، والإعدادِ للجِهادِ، وقتالِ الكُفَّارِ بأنفُسِكم؛ لإعلاءِ كَلِمةِ الله عزَّ وجلَّ .

عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((جاهدُوا المُشرِكينَ بأموالِكم وأنفُسِكم وألسِنَتِكم )) .

ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.

أي: أمْرُكم بالنَّفيرِ، وأمْرُكم بالجِهادِ بالأموالِ والأنفُسِ، فيه خيرٌ عظيمٌ لكم- أيُّها المُؤمِنونَ- في دُنياكم وآخِرَتِكم، وهو خيرٌ لكم مِن مَتاعِ الدُّنيا، إن كُنتُم تَعلَمونَ حقًّا شَرَفَ الجِهادِ، وفَضلَ المُجاهدينَ .

كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216] .

وقال سبحانه: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه بِأَمْوَالِهمْ وَأَنْفُسِهمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهدِينَ بِأَمْوَالِهمْ وَأَنْفُسِهمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:95-96] .

وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَرَسُولِه وَتُجَاهدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّه وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 10 - 13] .

وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((جاهدُوا في سبيلِ الله؛ فإنَّ الجِهادَ في سبيلِ الله بابٌ مِن أبوابِ الجنَّةِ، يُنَجِّي اللهُ به مِنَ الهَمِّ والغَمِّ )) .

وعن سهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعديِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رِباطُ يَومٍ في سبيلِ الله خَيرٌ مِن الدُّنيا وما عليها، وموضِعُ سَوطِ أحَدِكم من الجنَّةِ خَيرٌ مِن الدُّنيا وما عليها، والرَّوحةُ يَروحُها العَبدُ في سبيلِ اللهِ أو الغَدوةُ، خَيرٌ مِن الدُّنيا وما عليها )) .

وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن أحَدٍ يَدخُلُ الجنَّةَ، يُحِبُّ أن يرجِعَ إلى الدُّنيا، وأنَّ له ما على الأرضِ مِن شَيءٍ، غيرُ الشَّهيدِ؛ فإنَّه يتمَنَّى أن يرجِعَ، فيُقتَلَ عَشرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرى من الكَرامةِ )) .

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بالغَ اللهُ تعالى في تَرغيبِهم في الجِهادِ في سبيلِ الله، وكان قد ذَكَرَ قَولَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ؛ عاد إلى تقريرِ كَونِهم مُتَثاقِلينَ، وبيَّنَ أنَّ أقوامًا- مع كلِّ ما تقَدَّمَ مِن الوعيدِ، والحَثِّ على الجهادِ- تخلَّفوا في غَزوةِ تَبوك ، فقال تعالى:

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ.

أي: لو كان- يا مُحمَّدُ- ما تدعُو إليه المُنافِقينَ المُتَخلِّفينَ عن غَزْوِ الرُّومِ، غنيمةً حاضِرةً سَهلةَ التَّناوُلِ، وسفَرًا سَهلًا لِمَوضعٍ قَريبٍ- لَخَرجوا معك؛ طمَعًا في متاعِ الحياةِ الدُّنيا .

وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ.

أي: ولكنْ طالَتْ عليهم مَسافةُ السَّفرِ لِغَزوِ الرُّومِ، فتَرَكوا المَسِيرَ معك؛ لشِدَّةِ المشَقَّةِ .

وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ.

أي: وسيَحلِفُ لك- يا مُحمَّدُ- هؤلاءِ المُنافِقونَ، فيقولونَ كاذِبينَ: والله لو أطَقْنا الخُروجَ معكم في الغَزْوِ- بوجودِ المالِ والمراكِبِ، وقُوَّةِ البَدَنِ- لخَرَجْنا معكم لِقتالِ الرُّومِ .

يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ.

أي: يُوجِبُ المنافِقونَ لأنفُسِهم غضَبَ الله وعِقابَه؛ بسبَبِ نِفاقِهم، وحَلِفِهم بالله تعالى كاذِبينَ، وتخَلُّفِهم عن الجِهادِ .

وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.

أي: واللهُ يعلَمُ أنَّ المُنافِقينَ- في اعتذارِهم عن القُعودِ، وحَلِفِهم- كاذِبونَ؛ لأنَّهم كانوا قادِرينَ على الخُروجِ لِلقتالِ، ولكِنَّهم قَعَدوا عنه؛ لِنِفاقِهم، وزُهدِهم في الخَيرِ .

عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بكَّتَهم على وجهِ الإعراضِ؛ لأجلِ التخَلُّفِ والحَلِفِ عليه كاذِبًا؛ أقبَلَ إليه صلَّى الله عليه وسلَّم بالعتابِ في لذيذِ الخِطابِ على الاسترسالِ في اللِّينِ لهم والائتلافِ، وأخْذِ العَفوِ وتَرْكِ الخِلافِ إلى هذا الحَدِّ، فقال مُؤذِنًا بأنَّهم ما تخلَّفوا إلَّا بإذنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لأعذارٍ ادَّعَوها كاذبينَ فيها، كما كَذَبوا في هذا الحَلِف :

عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ.

أي: سامَحَك اللهُ وغَفَرَ لك- يا مُحمَّدُ- على إذْنِك لِهؤلاءِ المُنافِقينَ، الذين استَأذَنوك في التخَلُّفِ عن الخُروجِ معك، لأيِّ شَيءٍ أذِنْتَ للمُنافِقينَ أن يتخَلَّفوا عن المَسِيرِ معك لِغَزوِ الرُّومِ ؟!

حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ.

أي: كان ينبغي لك- يا مُحمَّدُ- عندما استأذَنَك المتخَلِّفونَ عن المَسيرِ معك لجِهادِ الرُّومِ، ألَّا تأذَنَ لأحدٍ منهم حتى تعلَمَ الصَّادِقينَ الذينَ لهم عُذرٌ في تخلُّفِهم، فتعذِرَهم، وتعلَمَ الكاذِبينَ الذين لا عُذرَ لهم، وإنما تخَلَّفوا نِفاقًا وشَكًّا في دينِ الله

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ في هذا إشارةٌ إلى ذَمِّهم بِسُفولِ الهمَمِ، ودَناءَةِ الشِّيَم؛ بالعَجزِ والكَسَل، والنَّهَم والثِّقَل، وإلى أنَّ هذا الدِّينَ مَتينٌ، لا يحمِلُه إلَّا ماضي الهَمِّ، صادِقُ العَزمِ

.

2- حُبُّ المنافِعِ الماديَّةِ، والرَّغبةُ فيها، لاصِقٌ بِطَبعِ الإنسانِ، وناهيك بها إذا كانت سَهلةَ المأخَذِ، قَريبةَ المَنالِ، وكان الرَّاغِبُ فيها مِن غَيرِ المُوقِنينَ بالآخِرةِ، وما فيها من الأجرِ العَظيمِ، قال الله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهمُ الشُّقَّةُ !

3- قَولُ الله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ... فيه دلالةٌ على وجوبِ الاحترازِ عن العَجَلةِ، ووجوبِ التثبُّتِ والتأنِّي، وتَركِ الاغترارِ بِظواهرِ الأمورِ، والمُبالغةِ في التفحُّصِ، حتى يُمكِنَه أن يعامِلَ كُلَّ فَريقٍ بما يستحِقُّه مِن التَّقريبِ أو الإبعادِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا استدَلَّ بها من أوجَبَ النَّفيرَ على كلِّ أحدٍ، عند الحاجةِ وهُجومِ الكُفَّارِ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه فيه دليلٌ على أنَّه كما يجِبُ الجِهادُ في النَّفسِ، يجِبُ الجهادُ في المال، حيث اقتضَتِ الحاجةُ ودَعَت لذلك .

3- قال الله تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه قال أهلُ العِلمِ: هذا يدُلُّ على أنَّ المُوسِرَ يجِبُ عليه الجِهادُ بالمالِ، إذا عجَزَ عن الجهادِ ببَدَنِه؛ لِزَمانةٍ أو عِلَّةٍ، فوجوبُ الجِهادِ بالمالِ كوُجوبِ الجِهادِ بالبَدَنِ على الكفايةِ .

4- قال اللهُ تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه قد أمَرَ اللهُ بكِلَا الأمرَينِ، فمن استطاعَهما معًا وجَبَا عليه، ومن لم يستَطِعْ إلَّا واحدًا منهما، وجَبَ عليه الذي استطاعَه منهما .

5- قَولُ الله تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اختيارُ فِعلِ (العلم) دون (الإيمان) مثلًا؛ للإشارةِ إلى أنَّ مِن هذا الخَيرِ ما يَخفى، فيَحتاجُ مُتطلِّبُ تَعيينِ شُعَبِه إلى إعمالِ النَّظَرِ، والعِلمِ .

6- الجهادُ بالنَّفسِ في قَولِه تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه يشمَلُ جِهادَ اللِّسانِ وجِهادَ اليَدِ، بل قد يكونُ جهادُ اللِّسانِ أقوى منه، كما قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((جاهدُوا المُشرِكينَ بأيديكم وألسِنَتِكم وأموالِكم )) .

7- قال الله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ في هذه الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ تعمُّدَ اليمينِ الفاجرةِ، يُفضِي إلى الهَلاكِ .

8- قولُ الله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ أخبَرَ عنهم أنَّهم سيَحلِفونَ، وهذا إخبارٌ عن غَيبٍ يقَعُ في المستقبَلِ، والأمرُ لَمَّا وقع كما أخبَرَ، كان هذا إخبارًا عن الغَيبِ، فكان مُعجِزًا ، ودليلًا على نبوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقد جاؤُوا فحَلَفوا كما أخبَرَ أنَّه سيكونُ منهم .

9- قَولُ الله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ فيه دليلٌ على أنَّ قَولَه: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا إنَّما يتناوَلُ مَن كان قادِرًا متمَكِّنًا؛ إذ لو لم تكُنِ الاستطاعةُ مُعتبَرةً في ذلك التَّكليفِ، لَمَا أمكَنَهم جعلُ عَدمِ الاستطاعةِ عُذرًا في التخَلُّفِ .

10- قولُ الله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ استدَلَّ به من قال بجَوازِ الاجتهادِ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه لو أَذِنَ لهم عن وحيٍ، لم يُعاتَبْ، واستدَلَّ بها من قال: إنَّ اجتِهادَه قد يُخطِئُ، ولكِنْ يُنَبَّهُ عليه بسُرعةٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

قولُه: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فيه تَخصيصُ الأموالِ والأَنْفُسِ بالذِّكْرِ؛ إذ ذلك وَصْفٌ لأَكْمَلِ ما يكونُ مِنَ الجِهادِ وأَنْفعِهِ عِنْدَ اللهِ، فحَضَّ على كَمالِ الأوصافِ، وقُدِّمتِ الأموالُ على الأنفسِ؛ إذ هي أولُ مَصرفٍ وَقْتَ التَّجهيزِ

، ولأنَّ الجهادَ بالأموالِ أقلُّ حضورًا بالذهنِ عندَ سماعِ الأمرِ بالجهاد، فكان ذكرُه أهمَّ بعدَ ذكرِ الجهادِ مجملًا ، ولأنَّ الناسَ يُقاتلون دونَ أموالِهم؛ فإنَّ المجاهدَ بالمالِ قد أخرَج مالَه حقيقةً لله، والمجاهدُ بنفسِه لله يرجو النجاةَ، لا يُوافِقُ أنَّه يُقتلُ في الجهادِ؛ ولهذا أكثرُ القادرينَ على القتالِ يهونُ على أحدِهم أن يُقاتلَ، ولا يهونُ عليه إخراجُ مالِه .

قولُه: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيه إبهامُ خَيْرٌ وتَنْكيرُه؛ لقَصْدِ تَوقُّعِ خيرِ الدُّنيا والآخِرةِ مِنْ شُعَبٍ كثيرةٍ .

واسْمُ الإشارةِ ذَلِكُمْ وما فيه مِنْ معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ ببُعْدِ مَنْزلتِه في الشَّرَفِ .

2- قوله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

قوله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ اسْتئنافٌ لابْتِداءِ الكلامِ على حالِ المُنافِقينَ وغزوةِ تَبوكَ، حين تَخلَّفوا واسْتأذَنَ كثيرٌ مِنْهُم في التَّخلُّفِ، واعْتَلُّوا بِعَلَلٍ كاذِبةٍ، وهو ناشئٌ عن قولِه: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ .

وفي قولِه: لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا... فيه صَرْفٌ للخِطابِ عنهم، وتوجيهٌ له إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تعديدًا لِما صدَر عنهم مِنَ الهَنَاتِ قولًا وفعلًا على طريقِ المُباثَّةِ- أي: الإظهارِ-، وبيانًا لِدَناءةِ هِممِهم، وسائرِ رَذائلِهم .

قولُه: وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ فيه تَعديةُ الفِعل بَعُدتْ بحَرْفِ (عَلَى)؛ لتَضمُّنِه معنى (ثَقُلت)؛ ولذلك حَسُن الجمعُ بين فِعلِ بَعُدتْ وفاعلِه (الشُّقَّة) مع تَقارُب معنييهما، فكأنَّه قيل: ولكن بَعُد منهم المكانُ؛ لأنَّه شُقَّةٌ، فثَقُل عليهم السَّفرُ؛ فجاءَ الكلامُ مُوجزًا .

قولُه: لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ في تَقييدِ الخُروجِ بالمَعيَّةِ إشعارٌ بأنَّ أَمْرَ الغَزْوِ لا يُهِمُّهُم ابْتِداءً، وأنَّهم إنَّما يَخْرجونَ- لو خَرَجوا إجابةً لاسْتِنفارِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- خُروجَ النَّاصِرِ لغيرِهِ .

3- قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ

قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ في إلْقاءِ العِتابِ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصِيغةِ الاسْتِفهامِ عَنِ العِلَّةِ: إيماءٌ إلى أنَّه ما أَذِنَ لهم إلَّا لسببٍ تأوَّلَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورجا منه الصَّلاحَ على الجُمْلةِ، وهذا مِن صِيَغِ التَّلطُّفِ في اللَّومِ .

وفي تَصديرِ فاتحةِ الخِطابِ ببِشارةِ العفوِ دونَ ما يُوهِمُ العِتابَ: مُراعاةٌ لجانبِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتعهدٌ له بحُسْنِ المفاوضةِ، ولُطْفِ المُراجَعةِ ، وأيضًا في افْتِتاحِ العِتابِ بالإعلامِ بالعفوِ إكرامٌ عظيمٌ، ولَطافةٌ شريفةٌ؛ حيثُ أخْبَرَه تعالى بالعَفوِ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبْلَ أنْ يُباشِرَه بالعِتابِ، وفي هذا الافْتِتاحِ كِنايةٌ عَنْ خِفَّةِ مُوجِبِ العِتابِ؛ لأنَّهُ بمَنْزلةِ أنْ يُقال: ما كان يَنْبغي ، قال مُورِّق العجليُّ رضي الله عنه: سَمِعْتُم بمعاتبةٍ أحسَنَ من هذه، بدأ بالعَفوِ قبل المُعاتَبةِ، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ .

قولُه: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ في زِيادةِ لَكَ بعد قولِه: يَتَبَيَّنَ: زِيادةُ مُلاطفةٍ بأنَّ العِتابَ ما كان إلَّا عَن تَفريطٍ في شيءٍ يَعودُ نفعُه إليه .

وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ في تَغييرِ الأسلوبِ، حيثُ عبَّر عن الفريقِ الأَوَّلِ بالموصول الَّذِينَ وصِلتُه فعلٌ دالٌّ على الحُدوثِ صَدَقُوا، وعبَّر عن الفريقِ الثَّاني باسم الفاعلِ الْكاذِبِينَ المفيدِ للدَّوامِ؛ وذلِك للإيذانِ بأنَّ ما ظَهَر مِن الأوَّلين صِدقٌ حادِثٌ في أمرٍ خاصٍّ، غيرُ مُصحِّحٍ لدُخولِهم في زُمرةِ الصادِقين، وأنَّ ما صدَر مِن الآخَرين وإنْ كان كَذِبًا حادثًا مُتعلِّقًا بأمرٍ خاصٍّ، لكنَّه أمرٌ جارٍ على عادتِهم المستمرَّةِ، ناشئٌ عن رُسوخِهم في الكذِب .

وفيه أيضًا إسْنادُ التَّبيُّنِ إلى الأوَّلينَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعليقُ العِلْمِ بالآخِرينَ الْكاذِبِينَ- مع أنَّ مَدارَ الإسنادِ والتَّعلُّقِ أولًا وبالذَّاتِ هو وَصْفُ الصِّدْقِ والكَذِبِ-؛ لأنَّ المَقْصِدَ هو العِلْمُ بكِلَا الفريقينِ باعْتِبارِ اتِّصافِهما بوَصْفَيْهِما المَذكورينِ، ومُعامَلتِهِما بحَسَبِ اسْتِحقاقِهِما، لا العِلْمُ بوَصْفيهِما بِذَاتَيْهِما، أو باعْتِبارِ قيامِهِما بمَوْصوفَيْهِما .

==========

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (44-47)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ

غريب الكلمات:

 

وَارْتَابَتْ: أي: وشكَّت، والرَّيب: الشكُّ مع الخَوف، ومع تُهمَة المشكوكِ فيه، وتوهُّمُ أمْرٍ ما بالشَّيء

.

عُدَّةً: أي: أُهبةَ السَّفَرِ، وما يُعَدُّ مِن مالٍ وسِلاحٍ؛ من الإعدادِ الذي هو تَهيئةُ الشَّيءِ .

انْبِعَاثَهُمْ: أي: نُهوضَهم لِلْخُرُوجِ ومُضِيَّهم، وأصل (بعث): يدلُّ على إثارةِ الشَّيءِ، وتَوجِيهِه .

فَثَبَّطَهُمْ: أي: ثقَّلَ عليهم الخروجَ، وحبَسَهم عنه؛ يُقالُ: ثبَّطَه المرضُ وأثبَطَه: إذا حبَسَه ومنَعَه، ولم يكَدْ يُفارِقُه .

خَبَالًا: أي: فَسادًا وشرًّا، وأصلُ (خبل): يدلُّ على فَسادٍ .

وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ: أي: سَعَوا، وأسرَعوا السَّيرَ وسْطَكم بالنَّميمةِ والفَسادِ؛ مِن الوَضعِ: وهو سُرعةُ السَّيرِ، والخِلالُ جَمعُ خَللٍ، وهو: الفُرجةُ بين الشَّيئينِ .

يَبْغُونَكُمُ: أي: يَطْلبونَ لكم ما تُفتَنون به، وأصلُ (بغى): يدلُّ على طلبِ الشيءِ .

الْفِتْنَةَ: أي: الشِّرْكَ، والكفرَ، وتُطلَق أيضًا على الشَّرِّ والعذابِ، وهي في الأصلِ: الاختِبارُ، والابتلاءُ، والامتِحانُ، مأخوذةٌ مِن الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودتُه من رداءتِه .

سَمَّاعُونَ: أي: مُطيعونَ، قابِلونَ لكَلامِهم، أو عُيونٌ يتجَسَّسونَ لهم الأخبارَ، ويَنقِلونها إليهم، وأصل (سمع): يدلُّ على إيناسِ الشَّيءِ بالأذُنِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قائلًا له: لا يستأذِنُك- يا مُحمَّدُ- الذين يُؤمِنونَ بالله وباليومِ الآخِرِ، في تَركِ جِهادِ الكُفَّارِ بأموالِهم وأنفُسِهم، واللهُ عليمٌ بالمتَّقينَ. إنَّما يستأذِنُك في القُعودِ والتخَلُّفِ عن جِهادِ الكُفَّارِ بأعذار ٍكاذبةٍ، المُنافِقونَ الذين لا يُؤمِنونَ بالله ولا باليَومِ الآخِرِ، وقد امتلأتْ قُلوبُهم شَكًّا، فهم في شَكِّهم يتحَيَّرونَ ويتذبذَبونَ، ولو أرادوا الخُروجَ لاستعَدُّوا له بتَجهيزِ ما يلزَمُ ذلك، لكِنَّ اللهَ كَرِهَ انطِلاقَهم مع المؤمِنينَ، فكَسَّلَهم عنه، وقيل لهم: اقعُدُوا مع القاعدينَ.

لو خرَجوا فيكم- أيُّها المُؤمِنونَ- فلن يزيدُوكم بخُروجِهم إلَّا شرًّا وفَسادًا، وإيقاعَ الاضطرابِ بينكم، ولأَسْرَعوا المشيَ بينَكم بالنَّميمةِ والبَغضاءِ، وفيكم- أيُّها المؤمنونَ- مَن يسمَعُ كَلامَهم، فيقبَلُه ويستجيبُ له ويطيعُه، واللهُ عليمٌ بالظَّالمينَ.

تفسير الآيات:

 

لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44).

لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ.

أي: لا يَستأذِنُك- يا محمَّدُ- أصحابُك المؤمنونَ بالله، وبالبَعثِ، والجزاءِ في الآخرةِ، في تَركِ جهادِ الكُفَّارِ بأموالِهم وأنفُسِهم، ولا يَطلُبونَ منك أن تأذَنَ لهم في الجِهادِ، بل يُبادِرونَ إليه؛ لشِدَّةِ رَغبَتِهم في الخَيرِ

.

وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.

أي: واللهُ ذو علمٍ بهؤلاءِ المتَّقينَ، وبكُلِّ مَن يتَّقيه بامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نَواهيه، ومن ذلك المسارعةُ إلى جهادِ أعدائِه، وعَدمُ الاستئذانِ في تَرْكِه، وسيُجازيهم على تَقواهم له أعظَمَ الثَّوابِ .

إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى بيَّنَ هنا أنَّ هذا الاستِئذانَ لا يَصدُرُ إلَّا عند عدَمِ الإيمانِ بالله واليَومِ الآخِرِ، ثمَّ لَمَّا كان عدَمُ الإيمانِ قد يكونُ بسبَبِ الشَّكِّ فيه، وقد يكونُ بسبَبِ الجَزمِ والقَطعِ بِعَدَمِه- بيَّن تعالى أنَّ عدَمَ إيمانِ هؤلاءِ إنَّما كان بسبَبِ الشَّكِّ والرَّيبِ، فقال تعالى :

إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.

أي: إنَّما يستأذِنُك- يا مُحمَّدُ- في القُعودِ والتخَلُّفِ عن جهادِ الكُفَّارِ بأعذارٍ كاذبةٍ، المُنافِقونَ الذين لا يُؤمِنونَ بالله تعالى، ولا بالبَعثِ والجَزاءِ في الآخرةِ، فلا يَرغَبونَ فيما عندَ الله تعالى، ولا يَخافونَ عَذابَه .

وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.

أي: وقد شكَّت قلوبُهم في صِحَّةِ الدِّينِ، وظُهورِ أمْرِه، فهم في شَكِّهم يتحَيَّرونَ، ويتَذَبذبونَ بين الإيمانِ والكُفرِ .

كما قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 143] .

وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((مَثَلُ المُنافِقِ كمَثَلِ الشَّاةِ العائرةِ بين الغَنَمينِ؛ تَعيرُ إلى هذه مَرَّةً، وإلى هذه مَرَّةً )) .

وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46).

وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً.

أي: ولو أراد المُنافِقونَ الخُروجَ معك- يا مُحمَّدُ- في غزوةِ تَبُوكَ، لتأهَّبُوا للخُروجِ، بإعدادِ ما يَحتاجُونَه مِن لوازِمِ السَّفَرِ والقِتالِ، لكِنَّهم تَرَكوا الاستعدادَ؛ لِرَغبَتِهم في التخَلَّفِ عن الجِهادِ .

وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ.

أي: ولكِنْ لم يُحِبَّ اللهُ تعالى انطلاقَ المُنافِقينَ معك- يا محمَّدُ- في تلك الغَزوةِ؛ لعِلْمِه أنَّ في خُروجِهم شرًّا وضررًا على المُؤمِنينَ .

فَثَبَّطَهُمْ .

أي: فثقَّله عليهم، وكسَّلهم عنه .

وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ.

أي: وقيل : اقعُدُوا عن الجِهادِ مع الذينَ ليس من شَأنِهم النُّهوضُ والخُروجُ للقِتالِ، كالضُّعَفاءِ والمَرضى، والصِّبيانِ وغَيرِهم .

لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لـمَّا ذكَر الله تعالى أنَّه كرِه خروجَهم، وثبَّطهم؛ أخبَر سبحانَه عن الحكمةِ التي تتعلَّقُ بالمؤمنين في تثبيطِ هؤلاءِ عنهم، وبيَّن لِمَ كرِه خروجَهم، فقال :

لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً.

أي: لو خرَجَ هؤلاءِ المُنافِقونَ في جُملَتِكم- أيُّها المُؤمِنونَ- لِغَزوِ الرُّومِ، فلن يَزيدُوكم بخُروجِهم شيئًا سِوى الشرِّ والفَسادِ، وإيقاعِ الاضطرابِ بَينكم .

ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ.

أي: ولأَسْرَعوا سَيْرَهم في الدُّخولِ والمَشيِ بينكم بالنَّميمةِ، وإفسادِ ذاتِ بَينِكم؛ لِتَفريقِ كَلِمتِكم، وإلقاءِ الأراجيفِ، وبَثِّ الإشاعاتِ لِتَثبيطِكم .

وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ .

أي: وفيكم- أيُّها المُؤمِنونَ- مَن يَسمَعُ كَلامَ المُنافِقينَ، فيقبَلُه، ويستجيبُ لهم، ويُطيعُهم .

وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.

أي: واللهُ عزَّ وجلَّ ذو علمٍ بأولئك المُنافِقينَ الظَّالِمينَ، وبمَن يقبَلُ كَلامَهم ويُطيعُهم، وبكُلِّ من يَظلِمُ نَفسَه ويَظلِمُ غَيرَه، بفِعْلِ ما ليس له فِعْلُه، لا يخفى عليه سُبحانَه شَيءٌ من ظواهرِهم وبواطِنِهم، وسيُجازيهم على أعمالِهم

 

.

كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ [الأنعام: 58] .

الفوائد التربوية:

 

1- مَن ليس لهم إيمانٌ تامٌّ، ولا يقينٌ صادِقٌ؛ تقِلُّ رغبَتُهم في الخَيرِ، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ لذا جبَنوا عن القتالِ، واحْتاجوا أن يَسْتأذِنوا في تَركِ القتالِ

.

2- قال اللهُ تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا الخَبالُ: هو الإفسادُ الذي يُوجِبُ اختلافَ الرَّأيِ، وهو من أعظمِ الأمورِ التي يجِبُ الاحترازُ عنها في الحُروبِ؛ لأنَّه عند حُصولِ الاختلافِ في الرَّأي يحصُلُ الانهزامُ والانكسارُ على أسهَلِ الوُجوه .

3- في قَولِه تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً إشارةٌ إلى أنَّ ما يقومُ بالقَلبِ مِن تصديقٍ وحُبٍّ لله ورَسولِه وتعظيمٍ؛ لا بدَّ أنْ يظهرَ على الجوارِحِ- وكذلك بالعكسِ-؛ ولهذا يُستدَلُّ بانتفاءِ اللَّازمِ الظَّاهرِ على انتفاءِ الملزومِ الباطنِ، فإنَّ الإرادةَ التي في القَلبِ- مع القُدرةِ- تُوجبُ فِعْلَ المرادِ؛ فالسفرُ في غزوةٍ بعيدةٍ لا يكون إلَّا بِعُدَّةٍ

 

!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهمْ يَتَرَدَّدُونَ فشَهدَ اللهُ على المنافِقينَ في هذه الآيةِ بأنَّهم لَيسُوا مؤمِنينَ، مع أنَّهم يُقِرُّونَ ظاهرًا بالإيمانِ، ففيه ردٌّ على الكَرَّاميَّةِ في قَولِهم: الإيمانُ هو مُجرَّدُ الإقرارِ

.

2- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهمْ يَتَرَدَّدُونَ يدلُّ على أنَّ الشَّاكَّ المُرتابَ، غيرُ مُؤمِنٍ بالله تعالى .

3- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ إخبارٌ مِن الله تعالى بأنَّ المؤمنَ لا يستأذِنُ الرسولَ في تَركِ الجهادِ، وإنَّما يستأذِنُه الذي لا يؤمِنُ، والتاركُ مِن غيرِ استئذانٍ أَوْلى بهذا الوَصفِ .

4- طبيعةُ الكافرينَ بالله واليومِ الآخِرِ تقتضي كراهَتَهم للجِهادِ؛ لأنَّهم يَرَونَ بذْلَ المالِ للجِهادِ مَغْرمًا، يُفَوِّتُ عليهم بعضَ منافِعِهم به، ولا يَرجُونَ عليه ثوابًا، كما يرجو المُؤمِنون، ويَرَونَ الجهادَ بالنَّفسِ آلامًا ومتاعِبَ وتعَرُّضًا للقَتلِ، الذي ليس بعده حياةٌ عندهم؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ .

5- عُدِّيَ التردُّدُ في قَولِه تعالى: فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ بأداةِ (في)؛ للدَّلالةِ على انغماسِ صاحِبِه في هذا الرَّيبِ .

6- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهمْ يَتَرَدَّدُونَ، إنَّما أضاف الشَّكَّ والارتيابَ إلى القَلبِ؛ لأنَّه محَلُّ المعرفةِ والإيمانِ، فإذا داخَلَه الشَّكُّ كان ذلك نِفاقًا .

7- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِين ختَمَ الآيةَ بِقَولِه: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ للتَّنبيه على ذَمِّهم، وإلحاقِهم بالنِّساءِ والصِّبيانِ والعاجِزينَ، الذينَ شَأنُهم القُعودُ في البُيوتِ، وهم القاعِدونَ والخالِفونَ .

8- قَولُه تعالى: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ثبَّطَ سُبحانه أعداءَه عن مُتابعةِ رَسولِه، واللَّحاقِ به؛ غَيرةً، فغار سُبحانَه على نَبيِّه وأصحابِه أن يَخرُجَ بينهم المُنافِقونَ فيَسعَوْا بينهم بالفِتنةِ، فثبَّطَهم وأقعَدَهم عنهم .

9- قَولُ الله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُم إن قيل: عَلِمَ اللهُ أنَّ المُنافِقينَ لو خرَجُوا مع المؤمنينَ للجِهادِ، ما زادُوهم إلَّا خَبالًا وفَسادًا، ولأَوضَعوا خِلالَهم، وأسْرَعوا في السَّعيِ بينهم بالنَّميمةِ، فكيف أمَرَهم بالخُروجِ مع المُؤمِنينَ؟! فالجوابُ: أنَّه إنَّما أمَرَهم بالخُروجِ مع المُؤمِنينَ؛ لإلزامِهم الحجَّةَ، ولإظهارِ نِفاقِهم .

10- عُدِّيَ السَّماعُ باللَّامِ في قَولِه تعالى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ؛ لأنه مُضَمَّنٌ معنى القَبولِ والطَّاعةِ، كما في قَولِ المصلِّي: (سمِعَ اللهُ لِمَن حمِدَه) أي: استجابَ لِمَن حمِدَه، وكذلك سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي: مُطيعونَ لهم

 

وهذا على أحدِ أوجُهِ التأويلِ للآيةِ.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ

قولُه: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا... فيه وَجْهٌ لَطيفٌ من البَلاغةِ، وإيضاحُه: أنَّ الاسْتِئذانَ يَسْتلزِمُ شَيئينِ مُتضادَّينِ، ويجوزُ أنْ يُقالَ: اسْتأذَنتُ في كذا، واسْتأذنتُ في تَرْكِ كذا؛ فلمَّا كان شأنُ المؤمنينَ الرَّغبةَ في الجِهادِ كان المذكورُ مع اسْتئذانِ المؤمنِينَ في الآيةِ أَنْ يُجَاهِدُوا دونَ (ألَّا يُجاهدوا)؛ إذ لا يَليقُ بالمؤمنينَ الاسْتِئذانُ في ترْكِ الجِهادِ؛ فإذا انتَفَى أنْ يَسْتأذنوا في أن يُجاهِدوا ثبَت أنهم يُجاهِدونَ دونَ اسْتِئذانٍ

.

وفي قولِهِ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا... تَنبيهٌ على أنَّه كان يَنبغي أن يُسْتَدلَّ باسْتِئذانِهم على حالِهم، ولا يُؤذَنَ لهم؛ فالخُلَّصُ من المؤمنينَ يُبادِرونَ إلى الجِهادِ مِن غَيرِ تَوقُّفٍ على الإذنِ، فضلًا عن أنْ يَسْتأذِنوكَ في التَّخلُّفِ، وحيثُ اسْتأذَنَكَ هؤلاءِ في التخلُّف كان ذلك علامةً للتَّأني في أَمْرِهم، بل دليلًا على نِفاقِهم .

وجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مُعترِضةٌ؛ لفائدةِ التَّنبيهِ على أنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ على أسرارِ المؤمنينَ؛ إذْ هُمُ المرادُ بالمُتَّقينَ ، وفيه أيضًا شهادةٌ لهم بالانْتِظامِ في زُمرةِ المتَّقينَ، وعِدَةٌ لهم بأَجْزلِ الثَّوابِ، وتَقريرٌ لمضمونِ ما سَبَقَ، كأنَّهُ قيل: واللهُ عليمٌ بأنَّهُمْ كَذَلِكَ، وإشعارٌ بأنَّ ما صَدرَ عنُهم مُعلَّلٌ بالتَّقوى .

وفي هذِه الآيةُ تَعييرٌ للمُنافِقينَ، وطَعْنٌ عليهم بيِّنٌ .

2- قوله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ

قولُه: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... مُستأنَفَةٌ استئنافًا بيانيًّا نَشَأ عن تَبرئةِ المؤمنينَ مِن أنْ يَسْتأذنوا في الجِهادِ، ببيانِ الذين شأنُهم الاسْتِئذانُ في هذا الشَّأنِ، وأنَّهم الذين لا يُؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخِرِ في باطِنِ أمْرِهم؛ لأنَّ انْتِفاءَ إيمانِهم يَنْفي رَجاءَهم في ثوابِ الجِهادِ؛ فلذلك لا يُعرِّضونَ أَنْفُسَهم له .

وأفادتْ إِنَّمَا القَصْرَ، وصِيغةُ القَصْرِ هنا دَالَّةٌ باعْتِبارِ أحَدِ مَفادَيْها على تأكيدِ جُمْلةِ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وقد كانتْ مُغْنيةً عَنِ الجملةِ المؤكَّدةِ، لولا أنَّ المُرادَ مِن تقديمِ تلك الجُمْلةِ التَّنويهُ بفَضيلةِ المؤمنينَ؛ فالكلامُ إطنابٌ لقَصْدِ التَّنويهِ، والتنويهُ مِن مَقاماتِ الإطنابِ .

وأيضًا في قولِه: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حَذْفُ مُتَعلِّقَ يَسْتَأْذِنُكَ؛ لِظُهورِه ممَّا قَبْلَه ممَّا يُؤذِنُ به فِعْلُ الاسْتئذانِ في قولِهِ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، والتَّقديرُ: (إنَّما يَسْتَأذِنُكَ الذين لا يُؤمنونَ في ألَّا يُجاهِدوا) .

وفي قولِه: لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تَخصيصُ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخِرِ بالذِّكْرِ في المَوْضِعينِ؛ للإيذانِ بأنَّ الباعِثَ على الجِهادِ ببَذْلِ النَّفْسِ والمالِ إنَّما هو الإيمانُ بِهِما .

قولُه: وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فيه إيثارُ صِيغةِ الماضي؛ للدَّلالةِ على تَحقيقِ الرَّيبِ وتقرُّرِه .

3- قولُه تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ

والأمرُ في قولِهِ: اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ أمرُ تَوبيخٍ، كقولِه تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] ، بقَرينةِ قولِهِ: مَعَ القَاعِدِينَ .

وزيادةُ قولِه: مَعَ الْقاعِدِينَ ذمٌّ لهم وتعجيزٌ، وإلحاقٌ بالنِّساءِ والصِّبيانِ والزَّمْنَى الذين شأنُهُم القُعودُ والجُثومُ في البُيوتِ، وهم القاعِدونَ والخالِفونَ والخوالِفُ .

4- قوله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ

قولُه: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالًا ... اسْتِئنافٌ بَيانيٌّ لجُمْلةِ: كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ؛ لبَيانِ الحِكْمةِ مِنْ كراهيةِ اللهِ انْبِعاثَهم، وهي إرادةُ اللهِ سَلامةَ المُسلِمينَ مِن أضرارِ وُجودِ هؤلاءِ بينهم؛ لأنَّهم كانوا يُضمِرونَ المَكرَ للمُسلِمينَ فيَخرجون مُرْغَمِين .

قولُه: وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ فيه حذف المفعول، والتقدير: لأَوْضَعُوا رَكائِبَهم، والمُرادُ به المُبالغةُ في الإسراعِ بالنَّمائمِ؛ لأنَّ الرَّاكِبَ أسرعُ مِنَ الماشي . وقيل: المعنى: أَوْقَعوا الإيضاعَ، وحُذِفَ المفعولُ إشارةً إلى أنَّ مُرادَهم الإيضاعُ نَفْسُه لا بَقيدِ دَابَّةٍ، وعبَّر بالإيضاعِ؛ لأنَّه للرَّاكبِ، وهو أَسْرعُ مِن الماشِي .

وهو تمثيلٌ لحالةِ المُنافِقين حِينَ يَبذُلون جُهدَهم لإيقاعِ التَّخاذُلِ والخوفِ بَينَ جَيشِ المُؤمنِين، وإلقاءِ الأخبارِ الكاذِبةِ عن قُوَّةِ العدوِّ، بحالِ مَن يُجهِد بَعيرَه بالسَّيرِ لإبلاغِ خَبرٍ مهمٌّ، واختير هنا ذِكرُ الإيضاعِ لعِزَّةِ هذا المعنى، ولِمَا فيه مِن الصَّلاحيةِ لتَفكيكِ الهيئةِ بأنْ يُشبَّه الفاتِنون بالرَّكبِ، ووسائلِ الفِتنةِ بالرَّواحلِ، وفي ذكر خِلَالَكُمْ ما يَصلُح لتشبيهِ استقرائِهم الجماعاتِ والأفرادَ بتَغلْغُلِ الرَّواحلِ في خِلالِ الطُّرُقِ والشِّعابِ .

وجُملةُ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ اعْتِراضٌ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ بَغْيَهُمُ الفِتْنةَ أشدُّ خَطَرًا على المسلِمينَ؛ لأنَّ في المُسلمينَ فَريقًا تَنْطلي عليهم حِيلُهُم، وهؤلاءِ هم سُذَّجُ المُسلِمينَ الذين يَعْجبونَ مِنْ أخبارِهم ويَتأثَّرونَ، ولا يَبْلغونَ إلى تَمييزِ التَّمويهاتِ والمَكائِدِ عَنِ الصِّدْقِ والحَقِّ .

وجاءَ قولُه: سَمَّاعُونَ بصِيغةِ المُبالَغةِ (فعَّالونَ)؛ للدَّلالةِ على أنِّ اسْتِماعَهم تامٌّ، وهو الاسْتِماعُ الذي يُقارِنُه اعْتِقادُ ما يُسْمَعُ .

وجُملةُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تَذييلٌ قُصِدَ مِنْه إعلامُ المسلمينَ بأنَّ اللهَ يَعْلَمُ أحوالَ المُنافِقينَ الظَّالمينَ؛ ليَكونوا مِنْهُمْ على حَذَرٍ، وليَتوسَّموا فيهم ما وَسَمَهُمُ القرآنُ بِه، ولِيَعْلموا أنَّ الاسْتِماعَ لَهُمْ هو ضَرْبٌ مِنَ الظُّلْمِ .

وفي قولِه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَضَعَ المُظْهَرَ مَوضِعَ المُضْمَرِ- حيثُ لم يَقُلْ: (واللهُ عليمٌ بهم)-؛ للتَّسجيلِ عليهِمْ بالظُّلْمِ، والتَّشديدِ في الوَعيدِ، والإشعارِ بتَرتُّبِه على الظُّلْمِ، ولَعلَّه شامِلٌ للفَريقينِ: السَّمَّاعِينَ والقاعِدينَ .

==========================

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات ( 48-52)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ

غريب الكلمات:

 

قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ: أي: دَبَّروا لك الحِيَلَ والمكايِدَ، ودوَّروا الآراءَ في إبطالِ أمْرِك، وتَقليبُ الأمورِ: تَدبيرُها والنَّظرُ فيها، وأصلُ (قلب): يدلُّ على ردِّ شَيءٍ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ

.

تَرَبَّصُونَ: أي: تَنتَظِرونَ، وأصل التَّربُّص: الانتِظارُ والتمَكُّثُ .

الْحُسْنَيَيْنِ: أي: العاقِبَتينِ اللَّتَينِ كلٌّ منهما حسَنٌ: النُّصرةُ أو الشَّهادةُ، وأصل (حسن) ضِدُّ القُبحِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ المُنافِقينَ طَلَبوا فِتنةَ المُسلِمينَ من قبلُ، وطَلَبوا الشَّرَّ لِرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصرَّفوا آراءَهم، وأعمَلُوا الحِيَلَ والمكايِدَ؛ ليُحَقِّقوا ذلك، إلى أن جاء نصرُ الله، وغلَبَ دينُه، وهم كارِهونَ حُصولَ ذلك.

ويُبيِّنُ تعالى أنَّ مِن المُنافِقينَ مَن يقولُ لمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين دعاهم لِغَزوِ الرُّومِ: ائذَنْ لي في التخَلُّفِ عن الخُروجِ، ولا تفتِنِّي برؤيةِ نِساءِ الرُّومِ؛ فإنِّي لا أصبِرُ عنهُنَّ إن رأيتُهنَّ.

ويُبَيِّنُ تعالى أنَّهم قد وقعوا في الفِتنةِ العظيمةِ ببَقائِهم في الكُفرِ، وإثمِ تَخلُّفِهم عن الجِهادِ، وبمَعصيَتِهم لرَسولِ الله، وإنَّ جَهنَّمَ لَمُحيطةٌ بالكافرينَ.

ويُبيِّنُ تعالى أنَّه إن غزا المؤمنون ونَصَرهم اللَّهُ على أعدائِهم، وغَنِموا، ونالهم خِصْبٌ فِي مَعايِشِهم؛ ساء ذلك المُنافِقينَ وحَزِنوا من أجلِه، وإن تصِبْهم مصيبةٌ بهزيمةٍ أو قتلٍ أو جِراحٍ يَقولوا: قد احتَطْنا لأنفُسِنا، وأخَذْنا حِذْرَنا من قَبلُ، فسَلِمْنا؛ لِعَدمِ خُروجِنا معكم، وينصَرِفوا وهم فَرِحونَ، وأمَرَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: لن يُصيبَنا إلَّا ما كتَبَ اللهُ لنا، هو سيِّدُنا وناصِرُنا، وعلى الله وَحدَه فلْيَعتَمِدِ المُؤمِنونَ، ويُفَوِّضوا أمورَهم إليه.

كما أمَرَه تعالى أن يقولَ لهم: هل تَنتَظِرونَ بنا إلَّا أن تُصيبَنا إحدى الحُسنَيَينِ: النَّصرُ أو الشَّهادةُ، ونحن ننتظِرُ أن يُصيبَكم اللهُ بِعقوبةٍ مِن عِندِه أو بأيدينا، فانتَظِروا ونحنُ معكم مُنتَظِرونَ.

تفسير الآيات:

 

لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللمسلمينَ أنَّه ثَبَّطَ المُنافقينَ عن الخُروجِ للجِهادِ، وبيَّن أنَّهم لو خَرَجوا فيهم ما زادُوهم إلَّا خَبالًا- بَيَّنَ أنَّ هذا الذي ينطوي عليه المُنافقونَ مِن الشرِّ، كان موجودًا فيهم قبلَ ذلك؛ قبل أن يَنزِلَ القرآنُ في شأنِهم، وأن تَطَّلِعُوا عليهم، فقال تعالى

:

لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ.

أي: لقد طلَبَ المُنافِقونَ فِتنةَ المُسلِمينَ، بصَدِّهم عن الدِّينِ، وإفسادِ ما بينهم مِن قَبلِ غَزوةِ تبوكَ، كما فعَلُوا في غزوةِ أحُدٍ وغَيرِها .

وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ.

أي: وطلَبَ المُنافِقونَ الشَّرَّ لك- يا مُحمَّدُ- فصرَّفوا آراءَهم، وأجالُوا أفكارَهم، وأدارُوا عُقولَهم، وأعمَلُوا الحِيَل والمكايِدَ، ساعِينَ بذلك لإفسادِ أمْرِك، وإنكارِ دِينِك، وصَدِّ النَّاسِ عن اتِّباعِك، وتخذيلِ أصحابِك عنك .

حَتَّى جَاء الْحَقُّ.

أي: سعى المُنافقونَ في ابتغاءِ الفِتنةِ، وتقليبِ الأمورِ، إلى أن جاء نَصرُ الله تعالى .

كما قال عزَّ وجلَّ: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81] .

وقال سبحانه: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ: 49] .

وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ.

أي: وغلَبَ دينُ الله الذي أمَرَ بالدُّخولِ فيه- وهو الإسلامُ- وعلا وظهَرَ وانتصَرَ، والحالُ أنَّ المُنافِقينَ كارِهونَ لِظُهورِه، ويَسوؤُهم انتصارُه وعُلُوُّه .

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49).

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي.

سبَبُ النُّزولِ:

عن جابِرِ بنِ عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((سمِعْتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ لجَدِّ بنِ قَيسٍ: يا جَدُّ، هل لك في جِلادِ بني الأصفَرِ؟ قال جدٌّ: أوَ تأذَنُ لي يا رسولَ الله؛ فإنِّي رجُلٌ أحِبُّ النِّساءَ، وإنِّي أخشى إنْ أنا رأيتُ نِساءَ بَني الأصفَرِ أنْ أفتَتِنَ؟! فقال رَسولُ الله- وهو مُعرِضٌ عنه-: قد أذِنْتُ لك، فعند ذلك أنزَلَ اللهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)) .

وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((لَمَّا أراد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَخرُجَ إلى غزوةِ تَبوكَ، قال للجَدِّ بنِ قَيسٍ: يا جَدُّ بنَ قَيسٍ، ما تقولُ في مُجاهَدةِ بني الأصفَرِ؟ قال: يا رسولَ الله، إنِّي امرُؤٌ صاحِبُ نِساءٍ، ومتى أرى نِساءَ بني الأصفَرِ أفتَتِنُ؛ فائذَنْ لي في الجُلوسِ، ولا تفتِنِّي! فأنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)) .

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي.

أي: ومِنَ المُنافِقينَ مَن يَقولُ لمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين دَعاهم إلى غَزوِ الرُّومِ: ائذَنْ لي في القُعودِ عن الخُروجِ معك، ولا تَبتَلِني برؤيةِ نِساءِ الرُّومِ؛ فإنِّي إن رأيتُهنَّ لا أصبِرُ عَنهنَّ، فأقَعُ في الإثمِ بسبَبِ الخُروجِ معكم !!

أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ.

أي: ألَا إنَّ المُنافِقينَ الذين اعتَذَروا عن الجِهادِ بسبَبِ خَوفِهم مِن الفِتنةِ بنِساءِ الرُّومِ، قد وقَعُوا في الفِتنةِ العَظيمةِ ببَقائِهم في الكُفرِ، وإثْمِهم بالتخَلُّفِ عن الجهادِ، ومَعصيةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ.

أي: وإنَّ نارَ جَهنَّمَ ستُحيطُ بالكافِرينَ يَومَ القيامةِ، وتُحدِقُ بهم مِن كُلِّ جانِبٍ، فليس لهم عنها مفَرٌّ .

كما قال تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت: 54-55] .

وقال سُبحانه: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهمْ غَوَاشٍ [الأعراف: 41] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهمْ سُرَادِقُهَا [الكهف: 29] .

وقال جلَّ جلاله: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوههمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [الأنبياء: 39-40] .

وقال تبارك وتعالى: إِنَّهَا عَلَيْهمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة: 8-9] .

إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ (50).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذا نوعٌ آخَرُ مِن كَيدِ المُنافِقينَ، ومن خُبْثِ بَواطِنِهم .

إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ.

أي: إن غَزَوْتُمْ وَنَصَرَكم اللَّهُ على أعدائِكم، وظَهَرْتُم عليهم وغَنِمْتُم، وتتابَعَ النَّاسُ في دُخولِ دينِكم، ونالكم خِصْبٌ فِي مَعايِشِكم؛ ساء ذلك المُنافِقينَ، وحَزِنوا من أجلِه .

وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ.

أي: وإن تُصِبْكم مُصيبةٌ بهزيمةٍ أو قتلٍ أو جِراحٍ، يقُلِ المُنافِقونَ: قد احتَطْنا لأنفُسِنا، وأخَذْنا حِذْرَنا مِن قَبلِ أن يُصيبَكم هذا المَكروهُ، فسَلِمْنا لأنَّا لم نَخرُجْ معكم .

وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ.

أي: وينصَرِفِ المُنافقونَ- إن أصابَتْكم مصيبةٌ- وهم مَسرُورونَ بما أصابَكم، ومَسرُورونَ بسَلامَتِهم بتخلُّفِهم عنكم .

قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان قَولُهم: قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ متضَمِّنًا لِتوهُّمِ القدرةِ على الاحتراسِ مِن القَدَرِ؛ ومبينًا أنَّهم يَفرَحونَ بمُصيبةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمسلمينَ، وبِعَدمِ مُشاركَتِهم لهم فيها، فقال تعالى رادًّا عليهم في ذلك ، بعَدمِ اكتراثِ المُسلِمينَ بالمُصيبةِ، وانتفاءِ حُزْنِهم عليها؛ لأنَّهم يعلمونَ أنَّ ما أصابَهم ما كان إلَّا بتقديرِ الله لِمَصلحةِ المُسلِمين في ذلك، فهو نَفعٌ مَحضٌ .

قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا.

أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للمُنافِقينَ الذين يَفرَحونَ بما يُصيبُكم مِن مَكروهٍ: لن يُصيبَنا إلَّا ما قدَّرَه اللهُ وكتَبَه لنا في اللَّوحِ المَحفوظِ .

كما قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّه يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد: 22-23] .

وقال سُبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه [التغابن: 11] .

وعن صُهَيبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((عَجَبًا لأمرِ المُؤمِنِ، إنَّ أمْرَه كُلَّه خَيرٌ، وليس ذاك لأحَدٍ إلَّا للمُؤمِنِ؛ إن أصابَتْه سرَّاءُ شكَرَ، فكان خَيرًا له، وإن أصابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ، فكان خَيرًا له )) .

وعن عبدِ الله بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((سَمِعْتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: كتَبَ اللهُ مَقاديرَ الخَلائِقِ قَبلَ أن يَخلُقَ السَّمَواتِ والأرضَ بِخَمسينَ ألفَ سنةٍ )) .

هُوَ مَوْلاَنَا.

أي: اللهُ هو سَيِّدُنا وناصِرُنا .

وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.

أي: وعلى الله وَحْدَه فلْيعتَمِدِ المؤمنونَ، ويُفَوِّضوا أمورَهم إليه .

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لما أجابَ تعالى عن فَرَحِ المُنافِقينَ بمصائِبِ المُؤمنِينَ؛ أجاب بجوابٍ ثانٍ، وذلك لأنَّ المُسلِمَ إذا ذهَبَ إلى الغَزوِ، فإن صار مَغلوبًا مقتولًا، فاز بالاسمِ الحَسَنِ في الدُّنيا، والثَّوابِ العظيمِ الذي أعَدَّه اللهُ للشُّهَداءِ في الآخرةِ، وإن صار غالبًا فاز في الدُّنيا بالمالِ الحلالِ والاسمِ الجَميلِ، وهي الرُّجوليَّةُ والشَّوكة والقُوَّة، وفي الآخرة: بالثَّوابِ العَظيمِ. وأمَّا المنافِقُ إذا قعد في بَيتِه، قعَد مذمومًا، مَنسوبًا إلى الجُبنِ والفَشَلِ، وضَعفِ القَلبِ، والقَناعةِ بالأمورِ الخَسيسةِ من الدُّنيا على وجهٍ يُشارِكُه فيها النِّسوانُ والصِّبيانُ، والعاجِزونَ مِن النِّساء، ثم يكونونَ أبدًا خائِفينَ على أنفُسِهم وأولادِهم وأموالِهم، وفي الآخِرةِ إن ماتوا فقد انتَقَلوا إلى العذابِ الدَّائمِ في القِيامةِ، وإن أَذِنَ اللهُ في قَتْلِهم وَقَعوا في القَتلِ والأسْرِ والنَّهبِ، وانتَقَلوا من الدُّنيا إلى عذابِ النَّارِ .

وأيضًا لَمَّا تضَمَّنَ ما سبقَ أنَّ سَرَّاءَ المؤمنينَ وضَرَّاءَهم لهم خَيرٌ؛ من حيثُ إنَّ الرِّضا بـمُرِّ القَضاءِ، مُوجِبٌ لإقبالِ القاضي على المقضِيِّ عليه بالرَّأفةِ والرَّحمةِ- صرَّحَ بذلك في قَولِه تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي: وهي أن نُصيبَ أعداءَنا، فنظفَرَ ونغنَمَ ونُؤجَرَ، أو يُصيبُونا بقَتلٍ أو غيرِه، فنؤجَرَ، وكِلَا الأمرينِ حَسَنٌ .

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ.

أي: قلْ- يا مُحمَّدُ- للمُنافِقينَ الذين يَفرَحونَ بما يُصيبُكم مِن مكروهٍ: ما تنتَظِرونَ بنا إلَّا أن تُصيبَنا إحدى الخَلَّتينِ اللَّتين هما أحسَنُ مِن غَيرِهما: النَّصرُ أو الشَّهادةُ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((تضمَّنَ اللهُ لِمَن خرَجَ في سبيلِه، لا يُخرِجُه إلَّا جِهادًا في سبيلي، وإيمانًا بي، وتصديقًا بِرُسُلي، فهو عليَّ ضامِنٌ أن أُدخِلَه الجنَّةَ، أو أَرجِعَه إلى مَسكَنِه الذي خرَجَ منه، نائلًا ما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ، والذي نفسُ مُحمَّدٍ بِيَده، ما من كَلْمٍ يُكْلَمُ في سبيلِ الله، إلَّا جاء يومَ القِيامةِ كَهَيئَتِه حين كُلِمَ؛ لَونُه لَونُ دَمٍ، ورِيحُه مِسكٌ، والذي نفسُ مُحمَّدٍ بِيَدِه، لولا أن يَشُقَّ على المُسلِمينَ ما قعَدْتُ خلافَ سَرِيَّةٍ تغزُو في سبيلِ الله أبدًا، ولكِنْ لا أجِدُ سَعةً فأحمِلَهم، ولا يَجِدونَ سَعةً، ويشُقُّ عليهم أن يتخَلَّفوا عني، والذي نفسُ مُحمَّدٍ بِيَدِه، لَوَدِدْتُ أنِّي أغزو في سَبيلِ الله فأُقتَلُ، ثم أغزو فأُقتَلُ، ثمَّ أغزو فأُقتَلُ )) .

وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا.

أي: ونحن ننتَظِرُ بكم- أيُّها المُنافِقونَ- أن يُصيبَكم اللهُ في الدُّنيا بعقوبةٍ مِن عِندِه أو بعذابٍ بأيدينا، فيُسَلِّطَنا عليكم، فنَقتُلَكم، إن أظهَرْتم نِفاقَكم .

فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ.

أي: وإذا كان الأمرُ كذلك إذن فانتَظِروا، ونحن مَعكم مُنتَظِرونَ ما اللهُ فاعِلٌ بنا وبكم؛ فكلٌّ منا سيَصيرُ إلى ما يتربَّصُ به الآخَرُ إليه

 

.

كما قال تعالى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [يونس: 102] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا فيه تنبيهٌ على أنَّ من عصى اللهَ لِغَرَضٍ ما، فإنَّه تعالى يُبطِلُ عليه ذلك الغَرَضَ، ألا ترى أنَّ القَومَ إنَّما اختاروا القُعودَ؛ لِئلَّا يقَعُوا في الفتنةِ، فالله تعالى بيَّنَ أنهَّم في عَينِ الفِتنةِ واقعونَ ساقِطونَ

؟!

2- قَولُ الله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فيه تعليمٌ للمُسلِمينَ التخَلُّقَ بألَّا يَحزَنوا لِما يُصيبُهم؛ لِئلَّا يَهنوا وتذهَبَ قُوَّتُهم، وأن يَرضَوْا بما قَدَّرَ اللهُ لهم، ويَرجُوا رِضا رَبِّهم؛ لأنَّهم واثِقونَ بأنَّ اللهَ يُريدُ نَصرَ دِينِه .

3- أخبَرَ اللهُ تعالى عن نَفسِه في قَولِه تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا أنَّه هو سُبحانه وليُّ المؤمنينَ، فلا يقضي قضاءً لهم إلَّا كان خيرًا لهم، ومَن تولَّاه اللهُ لم يَخذُلْه، وإنَّما يتولَّى مَصالِحَه .

4- إذا ترَكَ العِبادُ الذي أُمِرُوا به من الجهادِ في سَبيلِ الله، واشتَغَلوا عنه بما يصُدُّهم عنه مِن عمارةِ الدُّنيا، هلَكوا في دُنياهم بالذُّلِّ، وقَهرِ العَدُوِّ لهم، واستيلائِه على نُفوسِهم وذراريِّهم وأموالِهم، ورَدِّه لهم عن دِينِهم، وعَجْزِهم حينئذٍ عن العمَلِ بالدِّينِ، بل وعن عمارةِ الدُّنيا، وفُتورِ همَمِهم عن الدِّينِ، بل وفسادِ عَقائِدِهم فيه. قال تعالى: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 217] وتَركُ الجهادِ يُوجِبُ الهلاكَ في الدُّنيا- كما يُشاهدُه النَّاسُ- وأمَّا في الآخرةِ فلَهم عذابُ النَّارِ. وأمَّا المؤمِنُ المجاهدُ، فهو كما قال اللهُ تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِه أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ فأخبَرَ تعالى أنَّ المُؤمِنَ لا ينتَظِرُ إلَّا إحدى الحُسنَيَينِ: إمَّا النَّصرَ والظَّفَرَ، وإمَّا الشَّهادةَ والجنَّةَ، فالمؤمِنُ المجاهدُ إن حَيِيَ حَيِيَ حياةً طيِّبةً، وإن قُتِلَ فما عند الله خَيرٌ للأبرارِ .

5- قال اللهُ تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ هذه الآيةُ الكريمةُ مِن أعظَمِ الآياتِ التي تجعَلُ المُسلِمَ يَشتاقُ إلى الجهادِ غايةَ الاشتياقِ؛ لأنَّك لا تجِدُ في الدُّنيا رجلًا مآلُه إلى خيرٍ عَظيمٍ على كلِّ التَّقديراتِ إلَّا المجاهدَ في سبيلِ الله؛ لأنَّه إن مات نال أمنيَّةَ الدُّنيا والآخِرةِ، ونال الفوزَ والحياةَ الأبديَّةَ، والكرامةَ التي لا نظيرَ لها، وإنْ نصَرَه اللهُ على عدُوِّه، فرجَعَ ظافِرًا غانِمًا فائِزًا؛ فهذا أيضًا حسَنٌ، وهذا لا يكونُ لأحَدٍ إلَّا للمجاهدِ في سبيلِ الله، فمن تأمَّلَ معنى هذه الآيةِ الكريمةِ اشتاقَ لا محالةَ إلى الجهادِ في سَبيلِ الله تعالى

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّه وَهُمْ كَارِهُونَ وُصِفَ أمرُ الله بالظُّهورِ؛ لأنَّه كان كالمَستورِ، أي: غلَبَ وعلا دينُ الله

.

2- وقولُه: وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّه وَهُمْ كَارِهُونَ فيه تَنْبيهٌ على أنَّهُ لا تَأثيرَ لِمَكْرِهم وكَيدِهم، ومُبالغتِهم في إِثارةِ الشَّرِّ؛ فإنَّهم مُذْ رَامُوا ذلك رَدَّه اللهُ في نَحْرِهم، وقَلَبَ مُرادَهُم، وأتَى بِضِدِّ مَقصودِهم؛ فكما كان ذَلِكَ في الماضي كذا يَكونُ في المُستقبَلِ .

3- قولُهُ تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي إلى قوله: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِه أَوْ بِأَيْدِينَا استُدِلَّ به على جوازِ قَتلِ الزِّنديقِ والمُنافِقِ مِن غَيرِ استتابةٍ، وجهُ ذلك أنَّ معنى قَولِه: أَوْ بِأَيْدِينَا- أي: بالقَتلِ- إن أظهَرْتُم ما في قُلوبِكم قتَلْناكم؛ وذلك لأنَّ العَذابَ على ما يُبطِنونَه مِن النِّفاقِ بأيدينا لا يكونُ إلَّا القَتلَ لِكُفرِهم، ولو كان المنافِقُ يَجِبُ قَبولُ ما يُظهرُه من التوبةِ بعدما ظهَرَ نفاقُه وزَندقَتُه، لم يمكِنْ أن نتربَّصَ بهم أن يُصيبَهم اللهُ تعالى بعذابٍ مِن عِندِه أو بأيدينا؛ لأنَّا كُلَّما أرَدْنا أن نعَذِّبَهم على ما أظَهَروه أظهَرُوا التَّوبةَ .

4- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ هذا وعيدٌ لهم على الفِتنةِ التي ترَدَّوْا فيها، وُضِعَ فيه المُظهَرُ مَوضِعَ ضَميرِهم؛ للنَّصِّ على أنَّ عِقابَهم بإحاطةِ جَهنَّمَ بهم عقابٌ على الكُفرِ الذي حمَلَهم على ذلك الاعتذارِ، الذي هو ذنبٌ في نفِسه كان أقصى عِقابِه مسَّ النَّارِ دونَ إحاطَتِها لو لم يكُن سَبَبُه الكفرَ، بتكذيبِ الرَّسولِ فيما جاء به مِن حُكمِ الجِهادِ وثَوابِه، والعِقابِ على تَرْكِه، أو الشَّكِّ في ذلك .

5- في قَولِه تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا دَلالةٌ على أنَّ ما يُصيبُ العبدَ في دُنياه- ممَّا يضُرُّه أو ينفَعُه- فكلُّه مُقَدَّرٌ عليه، ولا يصيبُ العبدَ إلَّا ما كُتِبَ له مِن مقاديرِ ذلك في الكتابِ السَّابِقِ، ولو اجتهَدَ على ذلك الخلقُ كلُّهم جميعًا .

6- قَولُ الله تعالى: وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يفيدُ الحَصرَ، وهذا كالتَّنبيه على أنَّ حالَ المُنافِقينَ بالضِّدِّ من ذلك، وأنَّهم لا يتوكَّلونَ إلَّا على الأسبابِ الدُّنيويَّةِ، واللَّذَّاتِ العاجلةِ الفانيةِ .

7- قال الله تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِه أَوْ بِأَيْدِينَا. ولم تُذكَرْ هاتانِ العاقِبَتانِ للمُنافقينَ بِصيغةِ الحَصرِ كعاقِبَتَي المؤمنينَ؛ لجوازِ أن يَتوبوا عن نِفاقِهم، ويَصِحَّ إيمانُهم، وقد تاب بعضُهم، واعتَرَفوا بما كانوا عليه بعد ظُهورِ أمْرِهم .

8- في قَولِه تعالى: أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا إثباتُ تأثيرِ الأسبابِ؛ حيث بيَّن اللهُ تعالى أنَّ العذابَ قد يقَعُ بأيدي العِبادِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّه وَهُمْ كَارِهُونَ في هذه الآيةِ تَحقيرٌ لشَأْنِهم؛ وذلك أنَّه أخْبَر أنَّهم لَمَّا سَعَوا على الإسلامِ، أبْطَل اللهُ سَعْيَهم

.

وجُملةُ: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ تَعْليلٌ لقولِه: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ؛ لأنَّها دَليلٌ على أنَّ ذلك دَيدنٌ لهم مِنْ قَبْلُ .

2- قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ

قَولُه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي عبَّرَ عن قولِه بالفعلِ المضارعِ؛ لاستحضارِ تلك الحالِ لِغَرابَتِها، فإنَّ مِثْلَه في نفاقِه لا يخشَى على نَفْسِه إثمَ الافتتانِ بالنِّساءِ؛ إذ لا يجِدُ مِن دِينِه مانعًا مِن التمتُّعِ بهنَّ وهو يحِبُّهنَّ، بل شأنُ ذلك أن يكونَ مُرَغِّبًا له في هذه الغَزوةِ .

قولُه: أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا في الإتيانِ بأداةِ الاسْتِفتاحِ ألَا: تَنبيهٌ على ما بَعْدَها من عَجيبِ حالِهم؛ إذْ عامَلَهم اللهُ بنَقيضِ مَقْصودِهم؛ فهم احْتَرَزوا عن فِتْنةٍ فوَقَعوا في الفِتْنةِ .

والتَّعريفُ في الْفِتْنَةِ تَعْريفُ الجِنْسِ المؤذِنُ بكَمالِ المُعرَّفِ في جِنْسِه، أي: في الفِتْنةِ العَظيمةِ سَقَطوا .

وقَدَّمَ الظَّرفَ: فِي الْفِتْنَةِ على عامِلِه: سَقَطُوا للدَّلالةِ على الحَصرِ، يقولُ: ألَا فلْيَعْلموا أنَّهم سَقَطوا وتَرَدَّوا بهذا القَولِ في هاويةِ الفِتنةِ بأوسَعِ مَعناها، لا في شَيءٍ آخَرَ مِن شُبُهاتِها أو مُشابهاتِها .

قولُه: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ فيه إيثارُ الجُمْلةِ الاسْميَّةِ؛ للدَّلالةِ على الثَّباتِ والاسْتِمرارِ .

في قولِه: لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ إيثارُ وضْعِ المُظْهَرِ مَوضِعَ المُضْمَرِ- حيثُ لم يَقُلْ: مُحيطةٌ بِهم-؛ للتَّسجيلِ عليهم بالكُفْرِ، والإشعارِ بأنَّهُ مُعظمُ أسبابِ الإحاطةِ المذكورةِ .

3- قوله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ

قولُه: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا... فيه إسنادُ المُساءةِ إلى الحَسَنةِ والمَسرَّةِ إلى أَنْفُسِهمْ، دونَ المصيبةِ بأنْ يُقالَ: (وإنْ تُصِبْكَ مُصيبةٌ تَسْرُرْهُمْ)؛ للإيذانِ باخْتِلافِ حالَيْهم حالَتَيِ عُروضِ المَساءةِ والمَسرَّةِ بأنَّهُمْ في الأُوْلى مُضطرُّونَ، وفي الثَّانيةِ مُخْتارونَ .

قولُه: وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ فيه تَمْثِيلٌ لِحالِم في تَخلُّصِهم مِنَ المُصيبةِ، التي قَدْ كانتْ تَحِلُّ بهم لو خَرَجوا مع المُسْلِمينَ، بحالِ مَن أَشْرَفوا على خَطَرٍ ثُمَّ سَلِموا منه، ورَجَعوا فَرِحينَ مَسْرورينَ بسَلامتِهم، وبإصابةِ أعدائهم .

قولُه: وَهُمْ فَرِحُونَ فيه إيثارُ الجُمْلةِ الاسْميَّةِ؛ للدَّلالةِ على دَوامِ السُّرورِ .

4- قوله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

قولُه: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا فيه تَعدِيةُ فِعْلِ كَتَبَ باللَّامِ لَنَا؛ للإيذانِ بأنَّهُ كَتَبَ ذلك لنَفْعِهم؛ لأنَّهم يَعْلَمونَ أنَّ ما أَصابَهم ما كان إلَّا بتَقديرِ الله لِمْصلحةِ المُسلِمينَ في ذلك؛ فهو نَفْعٌ مَحْضٌ . فقال: لَنَا دون (علينا)؛ تنبيهًا على أنَّ الذي يُصيبُنا، نَعُدُّه نِعمةً لا نِقمةً، كما دلَّ لذلك الآيةُ التي تليها: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ . وهذه اللَّامُ في قولِه إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا أيضًا مفيدةٌ مَعْنى الاخْتِصاصِ، كأنَّه قيل: لنْ يُصيبَنا إلَّا ما اخْتَصَّنا اللهُ بِه مِنَ النُّصْرةِ عليكم أو الشَّهادةِ .

قولُه: وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فيه إظهارُ الاسْمِ الجليلِ اللَّه في مَقامِ الإضمارِ؛ لإظْهارِ التَّبرُّكِ والتَّلذُّذِ بِه .

وفي قولِه: وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قدَّم الظَّرْفَ وَعَلَى اللَّه على الفِعْلِ فَلْيَتَوَكَّلِ؛ لإفادةِ القَصْرِ، وأَصْلُ الكلامِ في غَيرِ القُرآنِ: (ليتوكَّلِ المؤمنونَ علىِ الله) .

5- قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِه أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ

قولُه: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ... الاسْتِفهامُ مُستَعمَلٌ في النَّفي بقَرينةِ الاسْتِثناءِ، ومَعْنى الكلامِ تَوبيخٌ لهم، وتَخطئةٌ لتَربُّصِهم؛ لأنَّهُمْ يَتربَّصونَ بالمُسلِمينَ أنْ يُقْتلوا، ويَغْفُلونَ عن احْتِمالِ أنْ يُنْصروا؛ فكان المَعْنى: لا تَتربَّصونَ بِنا إلَّا أنْ نُقْتَلَ أو نَغْلِبَ، وذلك إحْدى الحُسْنَيَيْنِ .

وجاءتْ جُملةُ: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ اسْميَّةً- حيثُ لَمْ يَقُلْ (ونَتَربَصُّ بِكُمْ)- بخِلافِ الجُمْلةِ الفِعليَّةِ المعطوفِ عليها هَلْ تَرَبَّصُونَ؛ لإفادةِ تَقويةِ التَّربُّصِ، وكِنايةً عن تَقويةِ حُصولِ المُتربِّصِ؛ لأنَّ تَقويةَ التَّربُّصِ تُفيدُ قوَّةَ الرَّجاءِ في حُصولِ المُتربِّصِ، فتُفيدُ قُوَّةَ حُصولِه، وهو المُكْنَى عنه .

قولُه: فَتَرَبَّصُوا أَمْرٌ يتضَّمنُ التَّهديدَ والوعيدَ .

وجُملةُ: إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ تَهديدٌ للمُخاطبينَ، وفُصِلَتْ هذه الجُمْلةُ عَنِ التي قَبْلَها- أي: لَمْ تُعْطَفْ عليها-؛ لأنَّها كالعِلَّةِ للحَضِّ .

=====================

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيتان (53-54)

ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ للمُنافِقينَ إنَّهم سواءٌ أنفَقوا أموالَهم بِرضًا منهم أو بغيرِ رِضًا، فلن يُقبَلَ منهم إنفاقُهم؛ وذلك لأنَّهم كانوا قَومًا فاسِقينَ.

وما منَعَ قَبولَ نَفقاتِهم إلَّا كُفرُهم باللهِ وبِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكَونُهم لا يأتونَ الصَّلاةَ إلَّا وهم مُتثاقِلونَ، ولا يُنفِقونَ شَيئًا في أوجُهِ الخَيرِ إلَّا وهم كارِهونَ.

تفسير الآيتين:

 

قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ الأُولَى أنَّ عاقِبةَ هؤلاءِ المُنافِقينَ، هي العذابُ في الدُّنيا وفي الآخرةِ؛ بيَّنَ أنَّهم، وإن أتَوْا بِشَيءٍ مِن أعمالِ البِرِّ، فإنَّهم لا ينتَفِعونَ به في الآخرةِ، والمقصودُ بيانُ أنَّ أسبابَ العَذابِ في الدُّنيا والآخرةِ مُجتَمِعةٌ في حَقِّهم، وأنَّ أسبابَ الرَّاحةِ والخَيرِ زائلةٌ عنهم في الدُّنيا وفي الآخرةِ

.

قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للمُنافِقينَ: سواءٌ عليكم أنفَقْتُم أموالَكم باختيارِكم أم بِغَيرِ رِضًا منكم؛ فإنَّ الله تعالى لن يتقَبَّلَ منكم نفَقاتِكم .

كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] .

وقال سبحانه: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] .

إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ .

أي: لا يتقبَّلُ اللهُ تعالى نفَقاتِكم- أيُّها المُنافِقونَ- لأنَّكم كُنتم قومًا كافرينَ، خارِجينَ عن طاعةِ ربِّ العالَمينَ .

وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّها عَطفٌ على جملةِ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ؛ فهي بيانٌ للتَّعليلِ لِعَدمِ قَبولِ نَفَقاتِهم، بزيادةِ ذِكرِ سَبَبينِ آخَرينِ مانِعَينِ مِن قَبولِ أعمالِهم، هما مِن آثارِ الكُفرِ والفُسوقِ. وهما: أنَّهم لا يأتونَ الصَّلاةَ إلَّا وهم كُسالى، وأنَّهم لا يُنفِقونَ إلَّا وهم كارِهونَ .

وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ.

أي: وما منَعَ قَبولَ نَفَقاتِ المُنافِقينَ إلَّا كُفْرُهم باللهِ عزَّ وجلَّ، وبِرَسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى.

أي: ولا يأتي المُنافِقونَ الصَّلواتِ المفروضةَ إلَّا وهم مُتَثاقِلونَ عنها، يُراؤونَ النَّاسَ بها .

كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142] .

وقال سبحانه: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 45-46] .

وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ.

أي: ولا يُنفِقُ المُنافِقونَ شَيئًا مِن أموالِهم في أوجُهِ الخَيرِ- رعايةً لِمَصالِحِهم الخاصَّةِ- إلَّا وهم كارِهونَ لهذا الإنفاقِ، ويَعُدُّونَه مَغْرمًا لا مَغْنمًا

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- رُوحُ الطَّاعاتِ الإتيانُ بها لِغَرضِ العبوديَّةِ، والانقيادِ في الطَّاعةِ، فإن لم يُؤتَ بها لهذا الغَرَضِ، فلا فائدةَ فيها، بل ربَّما صارت وَبالًا على صاحِبِها؛ قال الله تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ

.

2- ينبغي للعَبدِ ألَّا يأتيَ الصَّلاةَ إلَّا وهو نشيطُ البدَنِ والقَلبِ إليها، ولا يُنفِقَ إلَّا وهو مُنشَرِحُ الصَّدرِ ثابتُ القَلبِ، يرجو ذُخْرَها وثوابَها مِن اللهِ وَحْدَه، ولا يتشَبَّهُ بالمُنافِقينَ الذين قال اللهُ تعالى فيهم: وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ .

3- قَولُ الله تعالى: وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ هذا يُوجِبُ أن تكون النَّفسُ طيِّبةً عند أداءِ الزَّكاةِ والإنفاقِ في سبيلِ الله؛ لأنَّ اللهَ ذَمَّ المُنافِقينَ بِكَراهَتِهم الإنفاقَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ سمَّى الإلزامَ إكراهًا؛ لأنهم مُنافِقونَ، فكان إلزامُ الله ورسولِه إيَّاهم الإنفاقَ شاقًّا عليهم كالإكراهِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ اخْتِيرَ وَصفُ (الفاسقين) دونَ (الكافرينَ)؛ لأنَّهم يُظهِرونَ الإسلامَ ويُبطِنونَ الكُفرَ، فكانوا كالمائِلينَ عن الإسلامِ إلى الكُفرِ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ الكُفرُ وإن كان وَحدَه كافيًا في عدمِ القَبولِ، إلَّا أنَّ ذِكرَ هَذينِ السَّبَبينِ إشارةٌ إلى تمكُّنِ الكُفرِ مِن قُلوبِهم، وإلى مَذَمَّتِهم بالنِّفاقِ الدَّالِّ على الجُبنِ والتردُّدِ، فذِكرُ الكُفرِ بَيانٌ لذِكرِ الفُسوقِ، وذِكرُ التَّكاسُلِ عن الصَّلاةِ؛ لإظهارِ أنَّهم مُتهاوِنونَ بأعظَمِ عبادةٍ، فكيف يكونُ إنفاقُهم عن إخلاصٍ ورَغبةٍ؟ وذِكرُ الكراهيةِ في الإنفاقِ؛ لإظهارِ عَدَمِ الإخلاصِ في هذه الخَصلةِ المُتحَدَّثِ عنها .

4- في قوله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا إلى قولِه سبحانه: وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ دليلٌ على أنَّ الكافرَ لا يَصْعَدُ له عملٌ؛ ولا يُقْبَلُ منه خيرٌ يُثَابُ عليه في الآخرةِ .

5- استُدِلَّ بقولِه تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ على أنَّ الزكاةَ المأخوذةَ قهرًا من صاحِبِها لا تُجْزِئُه في الباطِنِ؛ لِعَدمِ النيَّةِ مع القُدرةِ عليها، ولأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يأخُذُها من المنافِقينَ بإعطائِهم إيَّاها؛ وقد صرَّح القرآنُ بنَفيِ قَبولِها؛ لأنَّهم يُنفِقونَ وهم كارِهونَ، فعُلِمَ أنَّ النَّفَقةَ- مع كراهةِ الإنفاقِ- لا تُقبلُ .

6- قولُه تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا إلى قوله سبحانه: وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ استدلَّ به على أنَّ المرتدَ لو أَخْرَجَ زكاةَ مالِه في الرِّدَّةِ، ثم راجع الإسلامَ؛ لوجبتْ عليه الإعادةُ، واستئنافُ ما دَفَعَ مرةً أخرى؛ لأنَّه دَفَعَه في حينِ لم يُقْبَلْ منه، والزكاةُ أعظمُ النفقات

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ

قولُه: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا فيه نَظْمُ الكلامِ في سِلْكِ الأَمْرِ؛ للمُبالَغةِ في بَيانِ تَساوي الأَمْرينِ في عَدِمِ القَبولِ

.

وقولُه: أَنْفِقُوا أَمْرٌ في مَعْنى الخَبَرِ، ومَعْناهُ: لَنْ يُتَقبَّلَ مِنْكُم، أَنْفقتُم طَوعًا أو كَرْهًا، وفيه تَهديدٌ وتوبيخٌ لَهم .

قولُه: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ في مَوضِعِ العِلَّةِ لنَفْي التَّقبُّلِ، أي: تَعليلٌ لَرَدِّ إنفاقِهم .

2- قَولُه تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ في هذه الآيةِ تَرْتيبٌ حَسَنٌ بَديعٌ، حيثُ ذَكَر السَّببَ الذي هو بمُفْردِه مانعٌ مِنْ قَبولِ نَفَقاتِهم، وهو الكفرُ، وأتْبَعَه بما هو ناشِئٌ عَنِ الكُفْرِ، ومُسْتلزِمٌ له وهو دَليلٌ عليه، وذلك هو إتيانُ الصَّلاةِ وهم كُسالَى، وإيتاءُ النَّفَقةِ وهم كارِهونَ؛ فالكَسَلُ في الصَّلاةِ، وتَرْكُ النَّشاطِ إليها، وأخذِها بالإقبالِ- مِنْ ثَمراتِ الكُفْرِ .

قولُه: وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ فيه تَخصيصُ هَذينِ العَمَلينِ الجَليلينِ- وهُما الصَّلاةُ والنَّفَقَةُ- بالذِّكْرِ مِنْ أعمالِ البِرِّ، والاكْتِفاءُ بهما، وإنْ كانوا أَفْسَدَ حالًا في سائرِ أعمالِ البِرِّ؛ لأنَّ الصَّلاةَ أَشْرَفُ الأعمالِ البَدنيَّةِ، والنَّفَقةَ في سَبيلِ اللهِ أَشْرفُ الأعمالِ الماليَّةِ، وهما الوصْفانِ المطلوبُ إظهارُهُما في الإسلامِ، ويُسْتدلُّ بهما على الإيمانِ، وتَعدادُ القَبائحِ يَزيدُ الموصوفَ بها ذَمًّا وتقبيحًا .

===========================

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (55-57)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ

المعنى الإجمالي:

 

ينهى اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُعجَبَ بأموالِ المُنافِقينَ وأولادِهم؛ فإنَّه تعالى إنَّما يريدُ أن يُعذِّبَهم بها في الحياةِ الدُّنيا، وأن تخرُجَ أرواحُهم، وهم مُستمِرُّونَ على كُفرِهم.

ويخبِرُ تعالى عن كذبِهم وجبنِهم، وأنَّهم يحلِفونَ باللهِ لِلمؤمنينَ إنَّهم منهم، وهم لَيسوا في الحقيقةِ منهم، ولكِنَّهم قَومٌ يخافونَ مِن المؤمنينَ، فيَحلِفونَ لهم؛ لِيَأمَنوهم. ويخبرُ أنَّهم لو يَجِدونَ مكانًا يتحَصَّنونَ فيه، أو كُهوفًا في الجِبالِ، أو نَفَقًا في الأرضِ؛ لَهَربوا إليها، وهم يُسرِعونَ في مَشيِهم؛ لشِدَّةِ كراهَتِهم للمؤمنينَ، ونُفورِهم منهم، وخوفًا مِن الخروجِ للجِهادِ معهم.

تفسير الآيات:

 

فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا قطَعَ اللهُ تعالى في الآيةِ الأولى رجاءَ المُنافِقينَ عن جميعِ منافِعِ الآخرةِ؛ بيَّنَ هنا أنَّ الأشياءَ التي يظنُّونَها من بابِ المنافِعِ في الدُّنيا، فإنَّه تعالى جعَلَها أسبابَ تَعذيبِهم في الدُّنيا، وأسبابَ اجتماعِ المِحَنِ والآفاتِ عليهم في الآخِرةِ

.

فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ .

أي: فلا تَستحسِنْ- يا مُحمَّدُ- أموالَ المُنافِقينَ ولا أولادَهم، ممَّا أنعَمْنا عليهم؛ استدراجًا لهم .

كما قال تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131] .

وقال سبحانه: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56] .

إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ.

أي: إنَّما يريدُ اللهُ أن يعذِّبَ المُنافِقينَ بأموالِهم وأولادِهم في حياتِهم الدُّنيا .

عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من كانتِ الآخِرةُ هَمَّه، جعَلَ اللهُ غناه في قَلْبِه، وجمَعَ له شَمْلَه، وأتَتْه الدُّنيا وهي راغمةٌ، ومن كانت الدُّنيا همَّه، جعل اللهُ فَقْرَه بين عَينَيه ، وفرَّق عليه شَملَه، ولم يأتِه مِن الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ له )) .

وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ.

أي: ويريدُ اللهُ أن تَخرُجَ أرواحُ المُنافِقينَ، وهم مُستمِرُّونَ على كُفرِهم باللهِ ورَسولِه، فيتَّصِلَ لهم عذابُ الآخرةِ الدَّائِمُ، بعذابِهم في الدُّنيا .

وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى كَونَ المُنافِقينَ مُستَجمِعينَ لكُلِّ مَضارِّ الدُّنيا والآخرةِ، خالِينَ عن جميعِ منافِعِ الآخرةِ والدُّنيا- عاد إلى ذِكرِ فضائِحِهم وقبائِحِهم، ومنها إقدامُهم على الأيمانِ الكاذبةِ، فقال تعالى :

وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ.

أي: ويَحلِفُ المنافِقونَ باللهِ يمينًا مُؤكَّدةً لكم- أيُّها المؤمنونَ- كَذِبًا: إنَّهم مُؤمِنونَ مِثلُكم، وليسوا- في الحقيقةِ- مِن أهلِ دِينِكم، بل هم كفَّارٌ، وأعداءٌ لكم .

كما قال تعالى عن المُنافِقينَ: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة: 14] .

وقال سُبحانه: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المُنافِقونَ: 1].

وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ.

أي: ولكنَّ المنافِقينَ يخافونَ منكم- أيُّها المؤمِنونَ- فيَحلِفونَ لكم إنَّهم مُؤمِنونَ؛ لِيَأمَنوكم .

لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى فَرَقَ المُنافِقينَ مِن المؤمنينَ، أخبَرَ بما هم عليه معهم، ممَّا يُوجِبُه الفَرَقُ، وهو: أنَّهم لو أمكَنَهم الهروبُ منهم لَهَربوا، ولكِنَّ صُحبَتَهم لهم، صُحبةُ اضطرارٍ لا اختيارٍ .

لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ.

أي: لو يجِدُ المُنافِقونَ مَكانًا يتحصَّنونَ فيه، أو كُهوفًا في الجبالِ، أو نَفقًا في الأرضِ، يُتكَلَّفُ الدُّخولُ إليه بمشقَّةٍ- لذَهَبوا إليه ؛ هربًا منكم أيُّها المؤمِنونَ .

وَهُمْ يَجْمَحُونَ.

أي: لو يَجِدُ المُنافِقونَ مكانًا يَلجؤونَ إليه، لَهُرِعوا إليه وهم يُسرِعونَ في مَشْيِهم؛ لِشِدَّةِ كراهَتِهم لكم، ونُفورِهم منكم، وخوفًا من الخُروجِ للجِهادِ معكم

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- النَّظرُ إلى متاعِ الدُّنيا على وجهِ المحبَّةِ والتعظيمِ لها ولأهْلِها؛ منهِيٌّ عنه، قال تعالى: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، وأما النَّظرُ إلى المخلوقاتِ العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ على وجهِ التفَكُّرِ والاعتبارِ؛ فمأمورٌ به، مندوبٌ إليه

.

2- لا ينبغي العَجَبُ بأموالِ المُنافقينَ والكافرينَ، ولا بأولادِهم ولا بسائِرِ نِعَمِ اللهِ عليهم؛ قال الله تعالى: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ

 

.

3-وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ في هذه الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ اختلافَ الخُلُقِ مانِعٌ من المُواصلةِ والمُوافَقةِ

.

 

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- النِّفاقُ جالِبٌ لجميعِ الآفاتِ في الدِّينِ والدُّنيا، ومُبْطِلٌ لجَميعِ الخَيراتِ في الدِّينِ والدُّنيا؛ فإنَّ الله تَعالى لَمَّا بيَّن قَبائحَ أفعالِهم، وفَضائحَ أعْمالِهم؛ بيَّن ما لهم في الآخِرةِ مِنَ العذابِ الشَّديدِ، وما لهم في الدُّنيا مِنْ وُجوِهِ المِحْنةِ والبَليَّةِ، ثُمَّ بيَّن بَعْدَ ذلك أنَّ ما يَفْعلونَه مِنْ أعمالِ البِرِّ لا يَنْتفِعونَ بِهِ يومَ القِيامةِ البتَّةَ، ثم بَيَّن أنَّ ما يَظنُّونَ أنَّهُ مِنْ مَنافِعِ الدُّنيا فهو في الحَقيقةِ سببٌ لعَذابِهم وبَلائِهم، وتَشديدِ المِحْنةِ عليهم، وجاء بيان ذلك مُرتَّبًا على أَحْسَنِ الوُجوهِ، ولا يُمْكِنُ تَرتيبُ الكلامِ على وَجْهٍ أَحْسَنَ مِن هذا

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي: كالفَرَسِ الجَموحِ، لا يردُّهم شَيءٌ، وهذا الوصفُ من أبلغِ مُبالغةِ القرآنِ في تصويرِ الحقائِقِ التي لا تتجَلَّى للفَهمِ والعِبرةِ بِدونِها، فتُصَوِّر شُخوصَهم وهم يَعْدُونَ بغير نظامٍ، يَلهثونَ كما تلهَثُ الكِلابُ، يتسابَقونَ إلى تلك الملاجِئِ مِن مغاراتٍ ومُدَّخَلات، فيتسَلَّقونَ إليها، أو يندَسُّون فيها، فكذلك كان تصَوُّرُهم عندما سَمِعوا الآيةَ في وَصْفِهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ

قولُه: أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فيه تقديمُ الأموالِ على الأولادِ؛ لأنَّها كانتْ أَعْلَقَ بقُلوبِهم، ونُفوسُهم أميلُ إليها؛ فإنَّهم كانوا يَقْتلونَ أولادَهم خَشيةَ ذَهابِ أموالِهم

.

قولُه تعالى: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ معطوف على لِيُعَذِّبَهُمْ والمعنى: ليعذِّبَهم بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ونبَّه على عَذابِ الآخِرةِ بعِلَّتِهِ، وهو زُهوقُ أَنْفُسِهم على الكُفْرِ؛ لأنَّ مَنْ مات كافرًا عُذِّبَ في الآخِرةِ لا محالةَ، وزُهوقُ النَّفْسِ هُنا كنايةٌ عَنِ الموتِ .

2- وبنِاءُ قولِه: مُدَّخَلًا بِناءُ تأكيدٍ ومُبالَغةٍ؛ إذ أَصْلُه (مُدْتَخَل)، مُفْتَعَلٌ مِنِ (ادَّخَلَ) .

والتَّعبيرُ بصِيغةِ المُضارِعِ في قولِه: وَيَحْلِفُونَ وقولِه: يَفْرَقُونَ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ، وأنَّ ذلك دَأْبُهُم

 

.

3- قوله: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ اسْتِئنافٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما سَبَقَ مِنْ أنَّهم ليسوا مِنَ المُسلِمينَ، وأنَّ التِجاءَهم إلى الانْتِماءِ إليهم إنَّما هو للتَّقيَّةِ اضْطرارًا

.

قولُه: لَوْ يَجِدُونَ فيه إيثارُ صِيغةِ الاسْتِقبالِ في الشَّرْطِ، وإنْ كان المعنى على المُضيِّ؛ لإفادةِ اسْتِمرارِ عَدَمِ الوِجدانِ؛ فإنَّ المُضارِعَ المَنفيَّ الواقِعَ مَوقِعَ الماضي ليس نَصًّا في إفادةِ انْتِفاءِ اسْتِمرارِ الفِعْلِ، كما هو الظَّاهرُ، بل قَدْ يُفيدُ اسْتِمرارَ انْتِفائهِ أيضًا حَسَبما يَقْتضيهِ المَقامُ .

===========================

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (58-60)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات:

 

يَلْمِزُكَ: أي: يَعيبُك، ويطعَنُ عليك، وأصلُ (لمز): يدلُّ على العَيْبِ

.

الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ: قومٌ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتألَّفُهم على الإسلامِ بما يُعطيهم، وأصلُ (ألف): يدلُّ على انضمامِ الشَّيءِ إلى الشَّيءِ .

الْغَارِمِينَ: أي: الذينَ لَزِمَهم الدَّينُ، فلا يَجِدونَ القَضاءَ، والغُرْمُ: ما ينوبُ الإنسانَ في مالِه مِن ضَررٍ، لِغَيرِ جِنايةٍ منه، أو خِيانةٍ، وأصلُ (غرم): يدلُّ على المُلازَمةِ .

وَابْنِ السَّبِيلِ: أي: المُنقَطِعِ بالطَّريقِ يُريد بلدًا آخَرَ، وأصلُ (سبل): يدلُّ على امتدادِ شَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

ومِن المُنافِقينَ مَن يَعيبُك- يا مُحمَّدُ- في قِسمَتِك لأموالِ الزَّكاةِ لِمُستَحقِّيها، فإنْ أُعطُوا منها مِقدارَ ما يُريدونَ، رَضُوا وسَكَتوا عنك، وإنْ لم يُعطَوا ما يُرضِيهم، غَضِبوا عليك وعابُوك، ولو أنَّهم رَضُوا بما أعطاهم اللهُ، وقَسَمَه لهم رَسُولُه، وقالوا: حَسْبُنا اللهُ، سيُعطينا اللهُ مِن فَضْلِه، وسيَقْسِمُ لنا رسولُه، إنَّا نرغَبُ إلى اللهَ وَحدَه في أن يُوسِّعَ علينا، ويُغنِيَنا من فَضْلِه- لكان خيرًا لهم في دينِهم ودُنياهم.

إنَّما أموالُ الزَّكاةِ مُستحَقَّةٌ للفُقراءِ، والمساكينِ، والعاملينِ عليها- الذين يَجمَعونَها ويُوزِّعونَها على مُستَحقِّيها- ولِمَن يُرادُ تأليفُ قُلوبِهم على الإسلامِ، وفي عِتقِ الرَّقيقِ، والمدِينينَ، وفي الإنفاقِ لِنُصرةِ دِينِ اللهِ تعالى، وللمُسافِرِ المجتازِ مِن بلدٍ إلى بلدٍ، ليس معه ما يستعينُ به على سفرِه، فريضةً مِن اللهِ، واللهُ عليمٌ حكيمٌ.

تفسير الآيات:

 

وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّها شَرحٌ لِنَوعٍ آخَرَ مِن قبائِحِ المُنافِقينَ وفَضائِحِهم، وهو طَعْنُهم في الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ بسبَبِ أخْذِ الصَّدَقاتِ مِن الأغنياءِ، ويقولونَ: إنَّه يُؤثِرُ بها مَن يَشاءُ مِن أقارِبِه وأهلِ مَودَّتِه، ويَنسُبونَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أنَّه لا يُراعي العَدلَ

.

وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ.

أي: ومِن المُنافِقينَ مَن يَعيبُك ويتَّهِمُك وينتقِدُكَ- يا محمَّدُ- طاعِنًا على قِسمَتِك، وتَوزيعِك أموالَ الزَّكاةِ على مُستحِقِّيها .

عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((بَيْنا نحن عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يقسِمُ قَسمًا، أتاه ذو الخُوَيصِرةِ، وهو رجلٌ مِن بني تميمٍ، فقال: يا رسولَ اللهِ، اعدِلْ، قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَيلَك! ومَن يَعدِلُ إنْ لم أعدِلْ؟! قد خِبْتَ وخِسرْتَ إنْ لم أعدِلْ، فقال عمرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنه: يا رسولَ اللهِ، ائذَنْ لي فيه أضرِبْ عُنُقَه، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعْه؛ فإنَّ له أصحابًا يَحقِرُ أحدُكم صَلاتَه مع صَلاتِهم، وصِيامَه مع صِيامِهم، يَقرَؤونَ القُرآنَ، لا يُجاوِزُ تَراقِيَهم ؛ يَمرُقونَ مِن الإسلامِ كما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّميَّةِ ، يُنظَرُ إلى نَصْلِه ، فلا يوجَدُ فيه شيءٌ، ثم يُنظَرُ إلى رِصافِه فلا يُوجَدُ فيه شيءٌ، ثمَّ يُنظَرُ إلى نَضِيِّه فلا يوجَدُ فيه شيءٌ- وهو القِدْحُ- ثم يُنظَرُ إلى قُذَذِه فلا يُوجَدُ فيه شيءٌ، سَبَقَ الفَرْثَ والدَّمَ ، آيَتُهم رجلٌ أسوَدُ، إحدى عَضُدَيه مثلُ ثَدْيِ المرأةِ، أو مِثلُ البَضعةِ تتَدردَرُ ، يَخرجونَ على حينِ فُرقةٍ مِن النَّاسِ. قال أبو سعيدٍ: فأشهَدُ أنِّي سمِعْتُ هذا مِن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأشهَدُ أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه قاتَلَهم وأنا معه، فأمر بذلك الرَّجُلِ، فالتُمِسَ فوُجِدَ، فأُتيَ به حتى نَظَرْتُ إليه، على نَعْتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي نَعَتَ! )) .

فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ.

أي: فإنْ أعْطَيتَ المُنافِقينَ- يا مُحمَّدُ- من الصَّدَقاتِ قَدْرَ ما يرُيدونَ، رَضُوا وسَكَتوا عنك .

وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ.

أي: وإنْ لم تُعطِ المُنافِقينَ- يا مُحمَّدُ- ما يُرضيهم مِن الصَّدَقاتِ، غَضِبوا عليك، وعابُوك !

وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ (59).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا أخبَرَ الله تعالى عن حالِ المُنافِقينَ السَّيئِ الدَّنيءِ، الذي لا يُجدِيهم في الدُّنيا، ويُهلِكُهم في الأُخرى- نَبَّهَهم على ما هو الأصلَحُ لهم؛ مِن الحالِ الشَّريفِ السَّنِيِّ، فقال تعالى :

وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ.

أي: ولو أنَّ أولئك المُنافِقينَ قَنَعوا بما أعْطاهم اللهُ، وقَسَمَه لهم رَسولُه .

وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ.

أي: ولو أن المُنافِقين قالوا: كافِينا اللهُ وَحدَه .

سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ.

أي: سيُعطينا اللهُ مِن فَضلِه العَظيمِ، وسيَقسِمُ لنا رسولُه الكريمُ .

إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ.

أي: وقالوا: إنَّا نرغَبُ إلى اللهِ تعالى وَحدَه، ونتضَرَّعُ إليه دونَ مَن سِواه، أن يُغنِيَنا مِن فَضْلِه، ويَرزُقَنا في الدُّنيا والآخرةِ، لو أنَّهم فعلوا ذلك لكان خيرًا لهم في دينِهم ودُنياهم .

عن أبي وائلٍ، عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّ مُكاتَبًا جاءه، فقال: ((إنِّي قد عَجَزتُ عن مُكاتَبَتي فأعِنِّي، قال: ألَا أُعَلِّمُك كَلِماتٍ عَلَّمَنيهنَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لو كان عليك مِثلُ جَبلِ صِيرٍ دَينًا، أدَّاه اللهُ عنك؟! قل: اللهُمَّ اكفِنِي بحلالِك عن حَرامِك، وأغنِني بفَضلِك عمَّن سِواك )) .

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذَكَر اللَّهُ تَعالَى اعْتِراضَ المنافِقينَ الجهلَةِ على النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم، ولَمْزَهم إيَّاه في قَسْمِ الصَّدقاتِ، بَيَّنَ تعالَى أنَّه هو الَّذي قَسَمها وبَيَّنَ حُكْمَها، وتَوَلَّى أمرَها بنَفْسِه، ولم يَكِلْ قَسْمَها إِلى أحدٍ غيرِه، فجَزَّأَها لهؤلاء المذكورينَ .

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ.

أي: إنَّما أموالُ الزَّكاةِ مُستحَقَّةٌ للفُقَراءِ وللمساكينِ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ليس المِسكينُ الذي يطوفُ على النَّاسِ تَرُدُّه اللُّقمةُ واللُّقمَتانِ، والتَّمرةُ والتَّمرتانِ، ولكِنِ المِسكينُ الذي لا يَجِدُ غِنًى يُغنيه، ولا يُفطَنُ به فيُتصَدَّقُ عليه، ولا يقومُ فيَسألُ النَّاسَ )) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَحِلُّ الصَّدَقةُ لغَنيٍّ، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ )) .

وعن عُبيدِ الله بن عَدِيِّ بنِ الخِيارِ، ((أنَّ رَجُلَينِ أخبَراه أنَّهما أتيَا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يسألانِه مِن الصَّدقةِ، فقلَّبَ فيهما البَصَرَ، ورآهما جَلْدَينِ، فقال: إن شِئتُما أعطيتُكما، ولا حظَّ فيها لغَنيٍّ، ولا لِقَويٍّ مُكتَسِبٍ )) .

وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا.

أي: ولِلعامِلينَ على الزَّكاةِ، الذين يَجمَعونَها ممَن وجَبَت عليهم، ويُوزِّعونَها على مُستحِقِّيها .

وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ.

أي: ولِمَن يُرادُ تأليفُ قُلوبِهم على الإسلامِ .

عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((بَعث عليٌّ رَضِيَ الله عنه وهو باليمَنِ بذَهَبةٍ في تُربَتِها إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقَسَمَها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين أربعةِ نَفَرٍ: الأقرَعِ بنِ حابسٍ الحَنظليِّ، وعُيَينةَ بنِ بَدرٍ الفَزاريِّ، وعَلقمةَ بنِ عُلاثةَ العامريِّ، وزيدِ الخيرِ الطَّائيِّ، فغَضِبَت قريشٌ، فقالوا: أتُعطي صناديدَ نَجدٍ وتَدَعُنا؟! فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنِّي إنَّما فعَلْتُ ذلك؛ لِأتَألَّفَهم )) .

وعن أنسٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنِّي أُعطِي قُريشًا أتألَّفُهم؛ لأنَّهم حديثُ عَهدٍ بجاهليَّةٍ )) .

وَفِي الرِّقَابِ.

أي: وفي عِتقِ الرَّقيقِ، فيُشترى العبيدُ والإماءُ مِن الزكاةِ ويُحرَّرونَ، ويُعانُ المُكاتَبونَ على أداءِ مالِ المُكاتَبةِ، ويُفتَدى الأَسرى .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور: 33] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من أعتَقَ رَقَبةً مُسلِمةً، أعتَقَ اللهُ بكُلِّ عُضوٍ منه عُضوًا مِن النَّارِ، حتى فَرْجَه بِفَرْجِه)) .

وعن البَراءِ بن عازبٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، عَلِّمْني عمَلًا يُدخِلُني الجنَّةَ، فقال: لَئِن كنتَ أقصَرْتَ الخُطبةَ، لقد أعرَضْتَ المسألةَ! أعتِقِ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرَّقبةَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أولَيسَتا بواحدةٍ؟! قال: لا؛ إنَّ عِتقَ النَّسَمةِ أن تَفَرَّدَ بعِتقِها، وفكَّ الرَّقبةِ أن تُعينَ في عِتقِها)) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثلاثةٌ حقٌّ على الله عَونُهم: المجاهِدُ في سبيلِ اللهِ، والمُكاتَبُ الذي يُريدُ الأداءَ، والنَّاكِحُ الذي يريدُ العَفافَ)) .

وَالْغَارِمِينَ.

أي: والمَدِينينَ الذين استَدانُوا في غيرِ مَعصيةٍ، وليس لديهم ما يُوَفُّونَ به دينَهم، أو تحمَّلوا مالًا للإصلاحِ بين النَّاس، فيُعطَونَ مِن الزَّكاةِ .

عن قَبيصةَ بنِ مُخارِقٍ الهِلاليِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((تحمَّلْتُ حَمالةً ، فأتيتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أسألُه فيها، فقال: أقِمْ حتى تأتِيَنا الصَّدَقةُ، فنأمُرَ لك بها، قال: يا قَبيصةُ، إنَّ المسألةَ لا تَحِلُّ إلَّا لأحدِ ثَلاثةٍ: رَجُلٍ تحمَّلَ حَمالةً، فحَلَّت له المسألةُ حتى يُصيبَها، ثم يُمسِك، ورجلٍ أصابَتْه جائِحةٌ اجتاحَتْ مالَه، فحَلَّت له المسألةُ حتى يصيبَ قِوامًا مِن عَيشٍ- أو قال: سِدادًا مِن عَيشٍ -، ورجُلٍ أصابَتْه فاقةٌ حتى يقومَ ثلاثةٌ مِن ذَوي الحِجَا مِن قَومِه: لقد أصابَتْ فلانًا فاقةٌ، فحَلَّت له المسألةُ حتى يصيبَ قِوامًا مِن عَيشٍ- أو قال: سِدادًا مِن عيشٍ- فما سواهُنَّ مِن المسألةِ يا قَبيصةُ، سُحتًا يأكُلُها صاحِبُها، سُحتًا)) .

وَفِي سَبِيلِ اللّهِ.

أي: وفي النَّفَقةِ لنُصرةِ دِينِ اللهِ، فيُعطَى المُجاهِدونَ مِن الزَّكاةِ ما يُعينُهم على قِتالِ الكُفَّارِ .

وَابْنِ السَّبِيلِ.

أي: وللمُسافِرِ، المجتازِ مِن بلدٍ إلى بلدٍ، ليس معه ما يستعينُ به على سفرِه، فيُعطَى مِن الزَّكاةِ ما يَستعينُ به على سَفَرِه .

كما قال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء: 26].

فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ.

أي: فرَضَ اللهُ هذه الصَّدَقاتِ فريضةً على الأغنياءِ في أموالِهم، وقَسَمَها بنَفسِه لأهلِ تلك الأصنافِ، المُستَحِقِّينَ لها دونَ غَيرِهم .

وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

أي: واللهُ عليمٌ بمصالِحِ خَلْقِه، لا يخفى عليه شَيءٌ من ظواهِرِ الأمورِ وبواطِنِها، حكيمٌ في قَولِه وفِعْلِه، وفي خَلْقِه وشَرْعِه، يضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به، ولا يَدخُلُ في تدبيرِه خَلَلٌ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ الآيةُ تدلُّ على أنَّ مَن طلَبَ الدُّنيا وحدَها، آلَ أمْرُه في الدِّينِ إلى النِّفاقِ، وأمَّا من طلَبَ الدُّنيا بقَدرِ ما أَذِنَ اللهُ فيه، وكان غَرَضُه من الدُّنيا أن يتوسَّلَ إلى مصالِحِ الدِّينِ، فهذا هو الطَّريقُ الحَقُّ، والأصلُ في هذا البابِ أن يكونَ راضيًا بِقَضاءِ اللهِ

.

2- قال اللهُ تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ الآيتانِ تَهديانِ المؤمِنَ إلى القناعةِ بكَسْبِه، وما ينالُه بحَقٍّ مِن صدَقةٍ ونَحوِها، ثمَّ بأنْ يُوَجِّهَ قلبَه إلى ربِّه، ولا يرغَبَ إلَّا إليه في شَيءٍ مِن رغائِبِه التي وراءَ كَسْبِه وحُقوقِه الشَّرعيَّةِ، لا إلى الرَّسولِ، ولا إلى مَن دُونَه فضلًا وعَدلًا وقُربًا مِن اللهِ تعالى بالأَوْلى !

3- لا ينبغي للعَبدِ أن يكونَ رضاه وغَضَبُه، تابعًا لِهَوى نفسِه الدُّنيويِّ وغَرَضِه الفاسِدِ، بل الذي ينبغي أن يكونَ هواه تَبعًا لِمرضاةِ رَبِّه؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ .

4- قال الله تعالى: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ فَرِضاهم لِغَيرِ اللهِ، وسَخَطُهم لغيرِ اللهِ، وهكذا حالُ مَن كان مُتعلِّقًا برئاسةٍ أو بصورةٍ ونحوِ ذلك مِن أهواءِ نَفسِه؛ إن حصَلَ له رَضِيَ، وإن لم يحصُلْ له سَخِطَ، فهذا عبدُ ما يَهواه مِن ذلك، وهو رقيقٌ له؛ إذِ الرِّقُّ والعُبوديَّةُ في الحقيقةِ، هو رِقُّ القَلبِ وعبوديَّتُه، فما استَرَقَّ القَلبَ واستعبَدَه، فهو عَبدُه .

5- قَولُه تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ يتضمَّنُ الأمرَ بالرِّضا والتوكُّلِ، والرِّضا والتوكُّلُ يكتَنِفانِ المَقدورَ، فالتوكُّلُ قبل وقوعِه، والرِّضا بعد وُقوعِه .

6- قال اللهُ تعالى: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ بيَّنَ الله تعالى أنَّ سخَطَهم ورِضاهم مَنُوطانِ بمَصلَحتِهم الخاصَّةِ؛ إذا أُعطُوا شيئًا رَضُوا وفَرِحوا، وإذا لم يُعطَوْا شيئًا غَضِبوا وسَخِطوا، وهذه ليست حالةَ مَن يريدُ وَجهَ اللهِ، ولا المصلحةَ العامَّةَ

 

.

 

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ قال أهل المعاني: إنَّ هذه الآيةَ تدلُّ على رَكاكةِ أخلاقِ المُنافقينَ ودَناءةِ طِباعِهم؛ وذلك لأنَّه لشدَّةِ شَرَهِهم إلى أخْذِ الصَّدَقاتِ عابُوا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونَسَبوه إلى الجَورِ في القِسمةِ، مع أنَّه كان أبعَدَ خَلقِ اللهِ تعالى عن المَيلِ إلى الدُّنيا

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ عبَّرَ عن رضاهم بصيغةِ الماضي؛ للدَّلالةِ على أنَّه كان يكونُ لأجلِ العطاءِ في وَقتِه وينقضي، فلا يَعُدُّونَه نعمةً، يتمنَّونَ دوامَ الإسلامِ لِدَوامِها .

3- في قَولِه تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ دلالةٌ على أنَّ كلَّ مَن لَمَزَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كان من المُنافِقينَ؛ لأنَّ (مَنْ) اسمٌ مَوصولٌ، وهو من صِيَغِ العُمومِ، والآيةُ وإنْ كانت نزَلَت بسببِ لَمْزِ قومٍ؛ فحكمُها عامٌّ كسائرِ الآياتِ اللَّواتي نزلْنَ على أسبابٍ، فهي تعُمُّ الشَّخصَ الذي نزَلَت بسبَبِه، وتعُمُّ مَن كان حالُه كحالِه، وإذا كان اللَّفظُ أعمَّ مِن السبَّبِ، فالجمهورُ على أنَّه يجِبُ الأخذُ بعمومِ القَولِ، ما لم يقُمْ دليلٌ يُوجِبُ القصرَ على السببِ، ويُقال ذلك أيضًا في قولِه تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ... فـ (الَّذِينَ) اسمٌ موصولٌ، وهو مِن صيغِ العمومِ .

4- قَولُ الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ دلَّت (إذا) الفُجائيَّةُ على أنَّ سَخَطَهم أمرٌ يفاجِئُ العاقِلَ حين يَشهَدُه؛ لأنَّه يكونُ في غيرِ مَظِنَّةِ سَخَطٍ، وشأنُ الأمورِ المُفاجئةِ أن تكونَ غريبةً في بابِها .

5- في قَولِه تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ بيانُ أنَّ اللهَ وحدَه هو الكافي؛ حيث جعل اللهُ تعالى الإيتاءَ لله ولِرَسولِه؛ وأمَّا الحَسْبُ فله وَحْدَه، فلم يقُلْ: (وقالوا حسبُنا اللهُ ورسولُه) بل جعلَه خالصَ حقِّه، كما قال تعالى: إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ولم يقُلْ: (إلى اللهِ راغبونَ وإلى رَسولِه)، بل جعَلَ الرَّغبةَ إليه وحدَه .

6- جعَلَ اللهُ تعالى في الآيةِ الكريمةِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الإيتاءَ أيضًا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ الرَّسولَ هو الواسِطةُ بيننا وبينَ اللهِ في تبليغِ أمْرِه ونَهْيِه، وتحليلِه وتَحريمِه، ووعدِه ووعيدِه؛ فالحلالُ ما حلَّله اللهُ ورسولُه، والحرامُ ما حرَّمه اللهُ ورسولُه، والدِّينُ ما شرعَه اللهُ ورسولُه .

7- كان سُفيانُ بنُ عُيَينةَ يَقولُ في قَولِه عَزَّ وجَلَّ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال: 41] : (نسَبَ المغنَمَ إلى نفسِه تعالى؛ لأنَّه أشرَفُ الكَسْبِ، ولم يَقُلْ ذلك في الصَّدَقةِ، فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَراءِ، ولم يَقُل: لِلَّه وللفقراءِ؛ لأنَّها أوساخُ النَّاسِ، واكتسابُها مَكروهٌ إلَّا للمُضطَرِّ إليها) .

8- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ لعلَّ السَّبَبَ في وقوعِ هذه الآيةِ في تضاعيفِ ذِكرِ المُنافِقينَ ومَكائِدِهم؛ أنَّه دلَّ بِكَونِ هذه الأوصافِ مَصارِفَ الصَّدَقاتِ خاصَّةً دونَ غَيرِهم، على أنَّهم لَيسُوا منهم؛ حَسْمًا لأطماعِهم، وأنَّهم بُعَداءُ عنها وعن مصارِفِها، فما لهم ولها، وما سَلَّطَهم على الكلامِ لها ولِمَن قاسَمَها ؟!

9- قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ التَّرتيبُ في هذه الأصنافِ؛ لبيانِ الأحَقِّ فالأحَقِّ للصَّدَقاتِ، على القاعدةِ الغالبةِ عند فُصَحاءِ العَرَبِ في تقديمِ الأهَمِّ فالأهَمِّ، على ما دُونَه في الموضوعِ، وإن كانَت الواوُ لا تفيدُ التَّرتيبَ في معطوفاتِها؛ فالفُقَراءُ والمساكينُ أحَقُّ مِن غَيرِهم بهذه الصَّدَقاتِ؛ لأنَّهم المقصودونَ بها أوَّلًا وبالذَّاتِ، بدليلِ: ((تُؤخَذُ من أغنيائِهم فتُرَدُّ في فُقَرائِهم )) ، ويليهم العامِلونَ عليها؛ لأنَّهم هم الذين يقومونَ بِجَمعِها وحِفْظِها، ويَليهم المؤلَّفةُ قُلوبُهم عند الحاجةِ إليهم، وهم يُعطَونَ مِن الغنائِمِ أيضًا، فالحاجةُ إليهم عارِضةٌ، لا كالعاملينَ على الصَّدَقاتِ، ويليهم مصلحةُ فَكِّ الرِّقابِ والعِتقِ، وهي مِن المصالِحِ الاجتماعيَّةِ الكماليَّةِ لا الضَّروريَّةِ؛ فإنَّ تأخيرَها لا يُرهِقُ مُعْوِزًا كالفَقيرِ، ولا يُضَيِّعُ مصلحةً تشَتَدُّ الحاجةُ إليها، كتأليفِ القُلوبِ، ويليها مُساعَدةُ الغارمِ على الخُروجِ مِن غُرمِه؛ فهو دونَ مُساعَدةِ الرَّقيقِ على الخُروجِ مِن رِقِّه، ويليهم المصلحةُ العامَّةُ المعَبَّرُ عنها بسبيل اللهِ ، فهي من قبيلِ العامِّ الذي يُرادُ به ما وراءَ ذلك الخاصِّ ممَّا قَبلَها، الذي تكثُرُ الحاجةُ إليه، وأمَّا ابنُ السَّبيلِ فهو دونَ جَميعِ ما قَبلَه؛ لِنُدرةِ وُجودِه .

10- قال اللهُ تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إنَّما قَدَّمَ الفُقَراءَ هاهنا؛ لأنَّهم أحوَجُ مِن البقيَّةِ على المشهورِ، لِشدَّةِ فاقَتِهم وحاجَتِهم .

11- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ فيه بيانُ مَصرِفِ الزَّكاةِ، وأنَّها لهذه الثَّمانِيةِ، لا يستحِقُّها غَيرُهم .

12- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ استدَلَّ بعمومِه مَن جَوَّزَ نقْلَ الصَّدَقةِ .

13- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ دلَّ على أنَّ هذه الزكاةَ يتولَّى أخْذَها وتَفرِقَتَها الإمامُ، ومَن يلي مِن قِبَلِه، والدَّليلُ عليه أنَّ الله تعالى جعَلَ للعامِلينَ سَهمًا فيها، وذلك يدلُّ على أنَّه لا بدَّ في أداء هذه الزَّكواتِ مِن عامِلٍ، والعامِلُ هو الذي نصَبَه الإمامُ لأخذِ الزَّكواتِ، فدلَّ هذا النصُّ على أنَّ الإمامَ هو الذي يأخُذُ هذه الزَّكواتِ .

14- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْعَامِلِينَ عَلْيَهَا يدلُّ على مسألةٍ بَديعةٍ، وهي أنَّ ما كان مِن فُروضِ الكفاياتِ، فالقائِمُ به يجوزُ له أخذُ الأُجرةِ عليه ، فيجوزُ أخْذُ الأجرةِ لكُلِّ مَن اشتغَلَ بشيءٍ مِن أعمالِ المُسلِمينَ، وأيضًا جوازُ أخْذِ القُضاةِ الرِّزقَ .

15- قَولُ الله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ استدَلَّ بعمومِه مَن قال: يُعطَونَ مع الغِنى، ومَن قال: يُصرَفُ منه في كلِّ ما يتعلَّقُ بالجهادِ؛ مِن مُصالحةِ عَدُوٍّ، وبناءِ حِصنٍ، وحَفرِ خَندقٍ، واتِّخاذِ سلاحٍ وعُدَدٍ، وإعطاءِ جواسِيسَ لنا، ولو كانوا نَصارى .

16- قَولُ الله تعالى: وَابْنِ السَّبِيلِ استدَلَّ بعُمومِه من قال: يُعطى، وإن كان له مالٌ ببَلَدِه .

17- استُدلَّ بقولِه تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ على أنَّ هذه الأصنافَ مواضعُ للصدقاتِ؛ لا أنَّهم مشتركونَ فيها؛ حتى يكونَ توزيعُها على جميعِهم فرضًا لا يُجْزِئُ غيرُه، أَلَا تراه سبحانه يقولُ: وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فغَيَّرَ لفظَ النسقِ والعطفِ على لامِ (الفقراء)؛ وليس يُعْرَفُ في معنى الاشتراكِ أنْ يقالَ: (هذا لفلانٍ وفلانٍ، وفي كذا). ومما يزيدُه تأكيدًا قولُه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ فأخبر أنَّ هؤلاء اللَّامِزينَ ليسوا موضعًا للصدقةِ؛ ولكنَّ مواضعَها كذا وكذا- واللهُ أعلم- فقال: إنَّما الصدقاتُ هذه مواضعُها

 

.

 

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ

قولُه: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ فيه مَجيءٌ جوابِ هَذينِ الشَّرطينِ على أَحْسَنِ الوُجوهِ؛ لأنَّ الأوَّلَ لا يَلْزَمُ أنْ يُقارِنَه ولا أنْ يَعْتَقِبَه، بَل قد يُجوزُ أنْ يتأخَّرَ، نَحْوَ: إنْ أَسْلَمتَ دَخْلتَ الجَنَّةَ، فإنَّما يَقْتضِي مُطْلَقَ التَّرتُّبِ، وأمَّا جوابُ الشَّرطِ الثَّاني فجاء بـ(إذا) الفُجَائيَّةِ، وأنَّه إذا لم يُعْطَوا فاجأَ سَخَطُهم، ولم يُمْكِنْ تَأخُّرُه؛ لِما جُبِلوا عليه من مَحبَّةِ الدُّنيا، والشَّرَهِ في تَحْصيلِها

.

2- قَولُه تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ

في قولِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ تَرْتيبٌ حَسَنٌ، حيثُ أَتَى أوَّلًا بمَقامِ الرِّضا بقولِه: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، والرِّضا فِعْلٌ قلبيٌّ يَصْدُرُ عَمَّنْ عَلِمَ أنَّه تعالى مُنزَّهٌ عَنِ العَتبِ والخَطأِ، عليمٌ بالعواقبِ؛ فكلُّ قضائهِ صوابٌ وحقٌّ، لا اعْتِراضَ عليهِ، ثُمَّ ثنَّى بإظهارِ آثارِ الوَصْفِ القَلْبيِّ، وهو الإقرارُ باللِّسانِ، بقولِهِ: وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ فحَسْبُنا ما رَضِيَ بِه، ثُمَّ أتَى ثالثًا بأنَّه تعالى- ما داموا في الحياةِ الدُّنيا- مادٌّ لهم بنِعَمِه وإحسانِه، بقولِه: سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ فهو إخبارٌ حَسَنٌ؛ إذْ ما مِنْ مؤمنٍ إلَّا ونِعَمُ اللهِ مُترادِفةٌ عليه حالًا ومآلًا، إمَّا في الدُّنيا، وإمَّا في الآخِرةِ، ثُمَّ أتى رَابِعًا بالجُمْلةِ المُقتضيةِ الالتِجاءَ إلى اللهِ لا إلى غيرِه، والرَّغبةَ إليهِ، بقولِهِ: إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ فلا يُطْلَبُ بالإيمانِ أَخْذُ الأموالِ، والرِّئاسةُ في الدُّنيا، ولَمَّا كانتِ الجُملتانِ مُتغايرتَينِ- وهما ما تَضمَّنَ الرِّضا بالقلبِ، وما تَضمَّن الإقرارَ باللِّسانِ- تَعاطَفتَا، ولَمَّا كانتِ الجُمْلتانِ الأخيرتانِ مِنْ آثارِ قَولِهم: حَسْبُنَا اللَّهُ، لَمْ تَتَعاطَفا؛ إذْ هُما كالشَّرحِ لقولِهم: حَسْبُنَا اللَّهُ، فلا تَغايُرَ بينهما .

وجُمْلةُ: إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ تعليليَّةٌ لِما قَبْلَها، أي: لأنَّنا راغبونَ فَضْلَه، وتَقديمُ المجرورِ إِلَى اللَّهِ؛ لإفادةِ القَصْرِ، أي: إلى اللهِ راغِبونَ لا إلى غيرِه .

3- قَولُه تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

قولُه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ... اعْتِراضٌ بين جُمْلةِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ وجُمْلَةِ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ، وهو اسْتِطرادٌ نَشَأ عَنْ ذِكْرِ اللَّمْزِ في الصَّدقاتِ أُدْمِجَ فيه تَبيينُ مَصارِفِ الصَّدقاتِ .

والمقصودُ مِنْ أداةِ الحَصْرِ إِنَّمَا أنْ ليس شيءٌ مِنَ الصَّدقاتِ بمُسْتَحَقٍّ للذين لَمَزوا في الصَّدقاتِ، وحَصْرُ الصَّدقاتِ في كونِها مُسْتحقَّةً للأصنافِ المذكورةِ في هذه الآيةِ؛ فهو قَصْرٌ إضافيٌّ، أي: الصَّدقاتُ لهؤلاء لا لكم .

وفي هذه الآيةِ مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ أضاف فيها الصَّدقاتِ إلى الأصنافِ الأربعةِ الأُولى بلامِ المِلْكِ، فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وأضافَها إلى الأربعةِ الأخيرةِ بـ «في» الظَّرفيةِ، فقال: وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ؛ لأنَّ الأصنافَ الأربعةَ الأوائلَ يَأخُذونَ ما يُدفَعُ إليهم مِلكًا، فكان دُخولُ اللَّامِ لائقًا بهم، وأمَّا الأربعةُ الأواخرُ فلا يَمْلِكونَ ما يُصْرَفُ نَحوَهم، بلُ ولا يُصْرَفُ إليهم، ولكِنْ في مصالِحَ تتعلَّقُ بهم؛ فالمالُ الذي يُصْرَفُ في الرِّقابِ إنَّما يَتناوَلُه السَّادةُ المُكاتَبونَ والبائعونَ، فليس نَصيبُهم مصروفًا إلى أيديهم حتَّى يُعبَّرَ عَنْ ذلك باللَّامِ المُشْعِرةِ بتَملُّكِهِم لِما يُصْرَفُ نَحْوهم، وإنَّما هم مَحالُّ لهذا الصَّرْفِ والمَصْلحةِ المُتعلِّقةِ به، وكذلك الغارِمونَ إنَّما يُصْرَفُ نَصيبُهم لأربابِ دُيونِهم؛ تَخليصًا لذِمَمِهم لا لَهم، وأمَّا سبيلُ اللهِ فواضِحٌ فيه ذلك، وأمَّا ابنُ السبيلِ فكأنَّه كان مُنْدرِجًا في سبيلِ اللهِ؛ وإنَّما أُفْرِدَ بالذِّكْرِ تنبيهًا على خُصوصيَّتِهِ، مَعَ أنَّه مُجرَّدٌ مِنَ الحَرْفينِ جَميعًا، وعَطْفُه على المَجْرورِ باللَّامِ مُمْكِنٌ، ولكِنَّهُ على القريبِ منه أَقْربُ .

وقيل: عُدِلَ عنِ اللَّامِ إلى (في) في الأربعةِ الأخيرةِ؛ للإيذانِ بأنَّهُمْ أَرْسَخُ في اسْتِحقاقِ التَّصدُّقِ عليهم ممَّنْ سَبَقَ ذِكْرُه؛ لأنَّ (في) للوِعاءِ، فنبَّهَ على أنَّهُمْ أحِقَّاءُ بأنْ تُوضَعَ فيهم الصَّدقاتُ، ويُجْعلوا مَظِنَّةً لها ومَصبًّا؛ وذلك لِما في فَكِّ الرِّقابِ مِنَ الكتابةِ أو الرِّقِّ أو الأَسْرِ، وفي فَكِّ الغارِمينَ مِنَ الغُرْمِ مِنَ التَّخليصِ والإنقاذِ، وتَكريرُ (في) في قولِهِ: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فيه فَضْلُ تَرجيحٍ لهذَينِ على الرِّقابِ والغارمينَ، وللإيذانِ بزيادةِ فَضْلِهما في الاسْتِحقاقِ .

واختيارُ حَرفِ (على) في قَولِه تعالى: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِما يُشعِرُ به أصلُ معناه مِن التمكُّنِ، أي: العاملينَ لأجْلِها عملًا قويًّا؛ لأنَّ السُّعاةَ يتجَشَّمونَ مَشقَّةً وعمَلًا عظيمًا، ولعلَّ الإشعارَ بذلك لِقَصدِ الإيماءِ إلى أنَّ عِلَّةَ استحقاقِهم مُركَّبةٌ من أمرينِ: كَونِ عَمَلِهم لفائدةِ الصَّدقةِ، وكونِه شاقًّا .

======

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (61-63)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ

غريب الكلمات:

 

هُوَ أُذُنٌ: أي: يقبَلُ كُلَّ ما قيلَ له، ويسمعُ مِن كلِّ أحدٍ

.

يُحَادِدِ: أَي: يُخالِفْ ويحارِبْ ويُعادِ؛ يُقالُ: حادَّ فُلانٌ فُلانًا، أي: صار في حَدٍّ غَيرِ حَدِّه، وأصلُ (حدد): يدلُّ على طَرَفِ الشَّيءِ؛ وذلك لأنَّ المُحادَّ يكون فِي حَدٍّ، وَاللهُ ورَسولُه فِي حَدٍّ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ مِن المُنافِقينَ طائفةً يُؤذونَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويقولونَ عنه: هو أذُنٌ سامِعةٌ لكل ما يُقال له ويُصدِّقه، فأمَرَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: إنَّه أذنُ خَيرٍ لهم؛ يؤمِنُ باللهِ تعالى وَحْدَه، ويصَدِّقُ المؤمنينَ فيما يُخبِرونَه به، لا أهلَ النِّفاقِ والكُفرِ، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رحمةٌ للمُؤمِنينَ الصَّادقينَ منهم، وأمَّا الذينَ يُؤذونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلهم عذابٌ مُوجِعٌ مُؤلِمٌ.

ويُخبِرُ تعالى أنَّ المُنافِقينَ يَحلِفونَ باللهِ للذينَ آمنوا، يبتغونَ رِضاهم، وبيَّنَ أنَّ اللهَ ورَسولَه أحَقُّ بالإرضاءِ مِن المؤمنينَ، إن كانوا حقًّا مُؤمنينَ كما يدَّعونَ.

ألم يعلَمْ هؤلاء المُنافِقونَ أنَّه مَن يخالِفِ اللهَ ورسولَه ويُعادِهِما ويُحارِبْهما؛ فأنَّ له نارَ جهنَّمَ ماكثًا فيها أبدًا، ذلك هو الهوانُ والذلُّ الكبيرُ.

تفسير الآيات:

 

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذا نوعٌ آخَرُ مِن جَهالاتِ المُنافِقينَ، وهو أنَّهم كانوا يقولونَ في رسولِ اللهِ: إنَّه أُذُنٌ، على وجهِ الطَّعنِ والذَّمِّ

.

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ.

أي: ومِن المُنافِقينَ جماعةٌ يؤذونَ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَعيبونَه ويقولونَ عنه: هو أُذُنٌ سامعةٌ؛ فمن قال له شيئًا صَدَّقَه، ومن حدَّثَه فينا صدَّقَه، فإذا جِئْنا وحَلَفْنا له بالكَذِبِ مُعتَذرينَ عمَّا بلَغَه منا، صَدَّقَنا .

قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ.

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُنافِقينَ: النبيُّ مُصغٍ للخَيرِ، لا مستمِعٌ للشَّرِّ، وإن سَمِعَ ما يبلُغُه عنكم لم يؤاخِذْكم به؛ لِسَعةِ صَدرِه، ويسمَعُ مَعاذيرَكم، ويقبَلُها منكم؛ لِحُسنِ خُلُقِه .

يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ.

أي: والنبيُّ يؤمِنُ بالله تعالى وَحْدَه وبما أوحى إليه- ومِن ذلك ما أمَرَه به من العَفوِ عن النَّاسِ، وأمرِهم بالمعروفِ، والإعراضِ عن الجاهِلينَ مِنهم- وهو يُصدِّقُ المؤمنينَ فيما يُخبِرونَه به، لا أهْلَ النِّفاقِ والكُفرِ بالله تعالى .

وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ.

أي: والنَّبيُّ رحمةٌ للمُؤمِنينَ منكم، الصَّادقينَ في إيمانِهم؛ لأنَّه سبَبُ إيمانِهم وهِدايَتِهم إلى ما فيه سَعادتُهم في دنياهم وآخِرتِهم .

كما قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] .

وقال سبحانه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] .

وعن سَهلِ بنِ حُنَيفٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأتي ضُعَفاءَ المُسلِمينَ، ويَزورُهم، ويعودُ مَرضاهم، ويَشهَدُ جَنائِزَهم)) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اللهمَّ إنَّما أنا بشَرٌ، فأيُّما رجُلٍ مِن المُسلِمينَ سَبَبتُه، أو لَعَنْتُه، أو جَلَدْتُه، فاجعَلْها له زكاةً ورَحمةً )) .

وفي روايةٍ ((اللهُمَّ إنَّما محمَّدٌ بَشَرٌ، يغضَبُ كما يغضَبُ البشَرُ، وإنِّي قد اتَّخَذتُ عندك عهدًا لن تُخلِفَنِيه؛ فأيُّما مُؤمِنٍ آذيتُه، أو سبَبتُه، أو جَلَدتُه، فاجعَلْها له كفَّارةً، وقُربةً تُقَرِّبُه بها إليك يومَ القيامةِ )) .

وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

أي: والذين يُؤذونَ رَسولَ اللهِ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأقوالِهم أو أفعالِهم؛ لهم عذابٌ مُوجعٌ في الدُّنيا والآخرةِ .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب: 57] .

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذا نوعٌ آخَرُ مِن قبائِحِ أفعالِ المُنافِقينَ، وهو: إقدامُهم على اليَمينِ الكاذبةِ، فهم يؤذونَ النبيَّ، ويُسيئونَ القَولَ فيه، ثمَّ يَحلِفونَ لكم .

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ.

أي: يحلِفُ المُنافِقونَ باللهِ لكم كَذِبًا- أيُّها المؤمِنونَ- فيتبَرَّؤونَ مِن أذاهم لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويؤكِّدونَ لكم أنَّهم على دِينِكم؛ يبتغونَ بذلك رِضاكم .

عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، أنَّ ابنَ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما حدَّثَه، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، في ظِلِّ حُجرةٍ مِن حُجَرِه، وعنده نَفَرٌ من المُسلِمينَ، قد كاد يَقلِصُ عنهم الظِّلُّ، قال: فقال: إنَّه سيأتيكم إنسانٌ ينظُرُ إليكم بعَينَي شَيطانٍ، فإذا أتاكم فلا تُكَلِّموه، قال: فجاء رجلٌ أزرَقُ، فدعاه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكلَّمه، قال: علامَ تَشتِمُني أنت وفلانٌ وفلانٌ- نفَرٌ دَعاهم بأسمائِهم؟ قال: فذهَبَ الرَّجُلُ فدعاهم، فحَلَفوا باللهِ واعتَذَروا إليه، قال: فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ... الآية)) .

وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ.

أي: واللهُ ورسولُه أحقُّ بالإرضاءِ منكم- أيُّها المؤمِنونَ- إن كان هؤلاءِ المُنافِقونَ مُؤمِنينَ باللهِ ورَسولِه حقًّا كما يدَّعونَ .

أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ تعالى أنَّ حَلِفَ المُنافِقينَ إنَّما هو لِكَراهةِ الخِزيِ عند المُؤمِنينَ، وبَّيَن مَن هو الأحَقُّ بأن يُرضُوه؛ أقام الدَّليلَ على ذلك في استفهامِ إنكارٍ وتَوبيخٍ، مُبَيِّنًا أنَّهم فَرُّوا من خزيٍ مُنقَضٍ، فسَقَطوا في خِزيٍ دائِمٍ، فقال تعالى :

أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا.

أي: ألم يعلَمِ المُنافقونَ أنَّه مَن يُخالِفِ اللهَ ورَسولَه، ويُعادِهما ويُحارِبْهما؛ فأنَّ له نارَ جهنَّمَ في الآخرةِ، ماكِثًا فيها أبدًا إلى غيرِ نِهايةٍ ؟!

ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ.

أي: دخولُ نارِ جَهنَّمَ والخلودُ فيها، هو الهوانُ والذُّلُّ الكَبيرُ

 

.

كما قال تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: 192] .

وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة: 5] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ [المجادلة: 20] .

الفوائد التربوية:

 

المؤمِنُ لا يُقدِّمُ شَيئًا على رِضا ربِّه، ورِضا رَسولِه؛ نَستفيدُ ذلك مِن قَولِه تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- جَرَت العادةُ باستقراءِ القُرآنِ أنَّه إذا كان الإيمانُ باللهِ عدَّاه بالباءِ، كأن يَقولَ: آمَنُوا بِاللَّهِ [النساء: 152] ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 114] ؛ لأنَّه من باب الإقرارِ به تعالى، وإذا كان الإيمانُ معناه تصديقُ مَخلوقٍ، فإنَّه يُعَدِّيه باللامِ دائِمًا؛ ولذا قال تعالى هنا: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ معناه: ويُصَدِّقُ المُؤمنينَ. ولا يكادُ هذا التَّصديقُ المتعَلِّقُ بالآدميِّينَ يُوجَدُ في القرآنِ إلَّا مَجرورًا باللَّامِ، كقوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] ، وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا

[يوسف:17] .

2- قد يُشكِلُ على بعضِهم قَولُ الله تعالى هنا: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فقيَّد كَونَه رَحمةً للذين آمنوا، وفي سورةِ الأنبياءِ قال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] فلم يقَيِّدْ كونَه رحمةً بالإيمان، بل قال لجميعِ العالَمينَ، والجوابُ عن ذلك: أنَّ اللهَ جلَّ وعلا أرسَلَه صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه؛ رحمةً لجميعِ الخلائِقِ، إلَّا أنَّ بَعضَهم قَبِلَ مِن الله التفَضُّلَ بتلك الرَّحمةِ فحازها، فخصَّ في قَولِه: وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وبعضُهم لم يقبَلْها ولم يَحُزْها، ولا ينافي ذلك أنَّ الله أعطاه تلك الرَّحمةَ، إلَّا أنَّه لم يقبَلْها ولم يَحُزْها .

3- قَولُ اللهِ تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ تضمَّنَ قَبولَ يَمينِ الحالِفِ، وإن لم يَلزَمِ المحلوفَ له الرِّضا، واليمينُ حقٌّ للمُدَّعي .

4- مِن عادةِ المُنافِقينَ، والكاذبينَ مِن عُصاةِ المُؤمِنينَ وغَيرِهم، أن يُكثِروا الحَلِفَ لِيُصَدَّقوا؛ لأنَّهم لعِلْمِهم بكَذِبِهم يظنُّونَ أو يَعلَمونَ أنَّهم مُتَّهَمونَ في أقوالِهم وأعمالِهم، فيَحلِفونَ لإزالةِ التُّهمةِ، وهذا معلومٌ في كلِّ زَمانٍ؛ قال الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ .

5- قَولُ الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ تضمَّنَ أن يكونَ اليمينُ باللهِ عزَّ وجلَّ .

6- قَولُ الله تعالى: إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فيه دَلالةٌ على أنَّ رضا اللهِ لا يحصُلُ بإظهارِ الإيمانِ، ما لم يقتَرِنْ به التَّصديقُ بالقَلبِ والأعمال، فيَبطُلُ بذلك قولُ الكرَّاميَّةِ الذين يزعُمونَ أنَّ الإيمانَ ليس إلَّا القَولَ باللِّسانِ .

7- قَولُ الله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ حسُنَ قَولُه: أَلَمْ يَعْلَمُوا لأنَّه طال مُكثُ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معهم، وكثُرَت نهاياتُه للتَّحذيرِ عن معصيةِ الله والتَّرغيبِ في طاعتِه، وقد قال أهلُ المعاني: قول: (ألم تعلَمْ) خطابٌ لِمَن حاول الإنسانُ تعليمَه مُدَّةً، وبالغَ في ذلك التعليمِ، ثمَّ إنَّه لم يعلَمْ، فيقالُ له: ألم تعلَمْ بعد هذه السَّاعاتِ الطويلةِ والمدَّةِ المَديدةِ ؟!

8- أذى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُحادَّةٌ لله ولِرَسولِه؛ لأنَّه قال هذه الآيةَ عَقِبَ قَولِه تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ثم قال: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فلو لم يكونوا بهذا الأذى مُحادِّينَ، لم يَحسُنْ أن يُوعَدوا بأنَّ للمُحادِّ نارَ جَهنَّمَ .

9- في قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وكذا قَولُه تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَه بيانُ تلازُمِ الحَقَّيْن: حقِّ اللهِ وحقِّ رسولِه؛ وأنَّ جهةَ حُرمةِ اللهِ تعالى وحُرمةِ رسولِه جهةٌ واحدةٌ، فمَن آذى الرسولَ فقد آذى اللهَ، ومَن أطاعَه فقد أطاعَ الله؛ لأنَّ الأمَّةَ لا يَصِلونَ ما بينهم وبين ربِّهم إلَّا بواسطةِ الرَّسولِ، ليس لأحدٍ منهم طريقٌ غيرُه، ولا سبَبٌ سواه، وقد أقامه اللهُ مقامَ نفسِه في أمْرِه ونهيِه، وإخبارِه وبيانِه، فلا يجوزُ أنْ يُفرَّقَ بين الله ورسولِه في شيءٍ من هذه الأمورِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

قولُه: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ التَّعبيرُ بالنبيِّ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لأنَّ قَبْلَه وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ، فكان مُقْتضى الظاهِرِ أنْ يُقالَ: (ومِنْهُمْ الذين يُؤذونَكَ)، فعُدِلَ عَنِ الإضمارِ إلى إظهارِ وَصْفِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ للإيذانِ بشَناعةِ قولِهِمْ، ولزِيادةِ تَنْزيهِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالثَّناءِ عليه بوَصْفِ النُّبوةِ، بحيثُ لا تُحْكَى مَقالتُهم فيه إلَّا بَعْدَ تقديمِ ما يُشيرُ إلى تَنْزيهِه، والتَّعريضِ بجُرْمِهم فيما قالوه

.

قولُه: هُوَ أُذُنٌ مِنْ صِيغِ التَّشبيهِ البَليغِ، يَعْنونَ: أنَّهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كالأُذُنِ في تلقِّي المسموعاتِ لا يَرُدُّ مِنْها شيئًا، وهو كِنايةٌ عَنْ تصديقِهِ بكُلِّ ما يَسْمَعُ مِنْ دونِ تَمييزٍ بين المقبولِ والمردودِ .

وفي تَسمِيَتِهم إيَّاه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بالجارِحةِ أُذُنٌ: مُبالغةٌ، كأنَّه مِن فَرطِ استماعِه، صار جُملَتُه آلةً للسَّماعِ،كما يُسمَّى الجاسوسُ عَينًا .

قولُه: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ فيه دَلالةٌ على المُبالَغةِ في الجَودةِ والصَّلاحِ، كأنَّهُ قيل: نَعَمْ هو أُذُنٌ، ولكِنْ نِعْمَ الأذُنُ، وهو مِن قَبيلِ قَولِهم: رَجُلُ صِدْقٍ .

وأيضًا قولُه: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ مِن بابِ أُسلوبِ الحَكيمِ ؛ فهو في أوَّلِه يُوافِقُهم على قَولِهم: هُوَ أُذُنٌ، ثمَّ يُتبِعُه ما يَنقُضُه عليهم حتَّى يُنقَضَ على رؤوسِهم، مِن قَبيلِ القَولِ بِموجَبِ العِلَّةِ ، فلا شيءَ أبلَغُ مِن الرَّدِّ عليهم بهذا الوَجهِ؛ لأنَّه في الأوَّلِ إطماعٌ لهم بالموافَقةِ، ثمَّ كَرَّ على طَمَعِهم بالحَسمِ، وأعقَبَهم في تنقُّصِه باليأسِ منه .

قولُه: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ عُدِّي فِعْلُ الإيمانِ إلى اللهِ تعالى بالباءِ، وإلى المؤمنينَ باللَّامِ؛ وذلك لأنَّهُ قُصِدَ التَّصديقُ والإقرارُ باللهِ الذي هو نَقيضُ الكُفْرِ فعُدِّي بالباءِ بِاللَّهِ، وقُصِدَ الاسْتِماعُ للمؤمنينَ، وأنْ يُسَلِّمَ لهم ما يقولونَ ويُصدِّقَه؛ لكونِهم صادقينَ عِنده، فعُدِّي باللَّامِ لِلْمُؤْمِنِينَ .

وقولُه: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه تَخصيصُ المؤمنينَ بالذِّكْرِ- وإنْ كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَحْمةً للعالَمينَ-؛ لأنَّ ما حَصَل لهم بالإيمانِ بسَببِ الرَّسولِ لم يَحْصُلْ لغيرِهم، وخُصُّوا هنا بالذِّكْرِ وإنْ كانوا قد دَخَلوا في العالَمِينَ؛ لحصولِ مَزيَّتِهم .

قولُه: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ عَطْفٌ على أُذُنُ خَيْرٍ، أي: وهو رَحْمةٌ، بطريقِ إطلاقِ المصدرِ على الفاعِلِ؛ للمُبالَغةِ .

قولُه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اعْتِراضٌ مسوقٌ مِنْ قِبَلِه عزَّ وجلَّ على نَهْجِ الوعيدِ غيرُ داخلٍ تَحْتَ الخِطابِ، وفي تَكريرِ الإسنادِ بإثباتِ العذابِ الأليمِ لهم، ثُمَّ جَعْلِ الجُملةِ خبرًا للموصولِ، ما لا يَخفَى مِنَ المُبالَغةِ .

وفي قولِه: رَسُولَ اللَّهِ إيرادُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعُنوانِ الرِّسالةِ مُضافًا إلى الاسْمِ الجليلِ؛ لغايةِ التَّعظيمِ، والتَّنبيهِ على أنْ أَذِيَّتَهُ راجعةٌ إلى جَنابِه عزَّ وجلَّ، مُوجِبةٌ لِكَمالِ السَّخَطِ والغَضَبِ ، وأيضًا أبْرَز اسْمَ الرَّسولِ ولم يأتِ به ضميرًا على نَسَقِ يُؤْمِنُ بلَفْظِ الرَّسولِ؛ تَعظيمًا لشَأنِهِ، وجَمْعًا له في الآيةِ بينَ الرُّتبتَينِ العَظيمتينِ مِنَ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ، وإضافتُه إليه زيادةٌ في تشريفِهِ .

2- قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ

قولُه تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ فيه عدولٌ عن أسلوبِ الحِكايةِ عنهم، بكَلِمةِ وَمِنْهُمْ؛ لأنَّ ما حُكِيَ هنا حالٌ مِن أحوالِ جَميعِهم .

قولُه: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ فيه إفرادُ الضَّميرِ في يُرْضُوهُ مَعَ أنَّ المذكورَ رِضا اللهِ تعالى ورِضا رَسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه لا تَفاوُتَ بين رِضا اللهِ ورِضا رسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فكانَا في حُكْمِ مُرْضًى واحدٍ، فإرضاءُ الله إرضاءٌ للرسولِ، وإرضاءُ الرسولِ إرضاءٌ لله تعالى؛ قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] ، فلمَّا تلازما صارا كأنهما شيءٌ واحدٌ، أو للإيذانِ بأنَّ رِضاهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنْدرِجٌ تَحتَ رِضاهُ سُبْحانَه، وذَهَب غيرُ واحدٍ من علماءِ العربيةِ وعلماءِ التفسيرِ إلى أن رجوعَ الضميرِ على أحدِ المتعاطفينِ اكتفاءً به؛ لأَنَّ الآخَرَ مفهومٌ منه، أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، كثيرٌ في القرآنِ العظيمِ، وفي كلامِ العربِ .

قولُه: إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فيه حَذْفُ الجوابِ؛ تعويلًا على دَلالةِ ما سَبَقَ عليه، والتَّقديرُ: إنْ كانوا مُؤمنينَ فلْيُرْضوا اللهَ ورسولَه بما ذُكِرَ؛ فإنَّهما أَحَقُّ بالإرضاءِ .

3- قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ

قولُه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ هذه الجُملةُ تَتَنزَّلُ مِنْ جُملةِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ مَنْزلةَ التَّعليلِ؛ لأنَّ العاقِلَ لا يَرْضَى لنَفْسِه عملًا يَؤولُ به إلى مِثْلِ هذا العذابِ، فلا يُقدِمُ على ذلك إلَّا مَنْ لا يَعْلَمُ أنَّ مَنْ يُحادِدِ اللهَ ورَسولَه يَصِرْ إلى هذا المصيرِ السَّيِّئِ .

والاسْتِفهامُ في أَلَمْ.. مُسْتَعْمَلٌ في الإنكارِ والتَّوبيخِ والتَّشنيعِ؛ لأنَّ عَدَمَ عِلْمِهم بذلك مُحقَّقٌ بضَرورةِ أنَّهم كافِرونَ بالرَّسولِ، وبأنَّ رِضا اللهِ عِنْدَ رِضاه، ولكِنْ لَمَّا كان عَدَمُ عِلْمِهم بذلك غريبًا- لوجودِ الدَّلائلِ المُقْتضيةِ أنَّهُ ممَّا يَحِقُّ أنْ يَعْلموهُ- كان حالُ عَدَمِ العِلْمِ به حالًا مُنْكرًا .

وقولُه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ... ... فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ فيه تَكريرٌ لـ(أنَّ)؛ للتَّأكيدِ، حيثُ أُعيدتْ (أنَّ) في الجوابِ لتَوكيدِ (أنَّ) المذكورةِ قَبْلَ الشَّرطِ تَوكيدًا لفظيًّا، فإنَّها لَمَّا دَخَلتْ على ضَميرِ الشَّأنِ وكانتْ جُمْلةُ الشَّرطِ وجوابِهِ تفسيرًا لضميرِ الشَّأنِ، كان حُكْمُ (أنَّ) ساريًا في الجُمْلتينِ، بحيثُ لو لَمْ تُذْكَرْ في الجوابِ لعُلِمَ أنَّ فيه مَعْناها، فلَمَّا ذُكِرتْ كان ذِكْرُها توكيدًا لها .

والهاء في (أنَّه) ضميرُ الأمرِ والشَّأنِ، والمعنى: أنَّ الأمرَ والشَّأنَ كذا وكذا. والفائدةُ في هذا الضَّميرِ هو أنَّه لو ذُكِرَ بعد كلمة (أنَّ) ذلك المبتدأ والخبَر، لم يكن له كثيرُ وَقْعٍ، فأمَّا إذا قلتَ: الأمرُ والشأنُ كذا وكذا، أوجبَ مَزيدِ تَعظيمٍ وتهويلٍ لذلك الكلامِ . وفيه وجهٌ آخر: أنَّه لَمَّا كان ذِكرُ الشَّيءِ مُبهمًا ثمَّ مُفَسَّرًا أضخَمَ، أضمَرَ للشَّأنِ، فقال: أَنَّهُ أي الشَّأن العَظيم مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ .

وجُملةُ: ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ تَذييلٌ لِما سَبَقَ؛ فالخزيُ: الذُّلُّ والهوانُ المُقارِنُ للفَضيحةِ والنَّدامةِ، وهي ثَمراتُ نِفاقِهم حيثُ يُفْتَضَحونَ على رُؤوسِ الأشهادِ بظُهورِها ولُحوقِ العذابِ الخالدِ بهم، والإشارةُ بـ ذَلِكَ إلى ما ذُكِرَ مِنَ العذابِ الخالدِ بذلك؛ إيذانًا ببُعدِ دَرجتِه في الهولِ والفَظاعةِ .

=======

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (64-66)

ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ

غريب الكلمات:

 

نَخُوضُ: أي: نَلهُو بالحديثِ، وأصلُ الخوضِ: هو الشُّروعُ في الماءِ والمرورُ فيه، وتخاوَضُوا في الحَديثِ والأمرِ، أي: تَفاوَضُوا، وتداخَلَ كلامُهم، ويُستعملُ الخوضُ في كلِّ دخولٍ فيه تلويثٌ وأذًى، وأكثرُ ما ورَدَ الخوضُ في القرآنِ فيما يُذَمُّ الشُّروعُ فيه، وأصل (خوض): توسُّطُ شيءٍ، ودخولٌ

.

مُجْرِمينَ: أي: مُذنبين أو كافِرينَ، والجُرمُ بِالضَّمِّ: لا يُطلقُ إِلَّا على الذَّنبِ الغليظِ، وأصل الجَرْم: القطعُ، والجَرْم: قطع الثَّمرةِ عن الشَّجرِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالَى: يَخشَى المُنافِقونَ أن يُنَزِّلَ اللهُ في شَأنِهم سورةً تُخبِرُهم بما يُخفونَه في قُلوبِهم من الكُفرِ والنِّفاقِ، ثم يأمرُ نبيَّه أن يقولَ لهم: استَمِرُّوا على ما أنتم عليه منَ الاستهزاءِ؛ إنَّ اللهَ مُظهِرٌ ما تَخشَونَ ظُهورَه.

ولَئِن سألتَ المُنافِقينَ- يا مُحمَّدُ- عمَّا قالوا من الطَّعنِ في أصحابِك ودينِك، ليقولُنَّ: إنَّما كنَّا ندخُلُ في الباطِلِ، ونلعَبُ بذلك الحديثِ، ولم نقصِدْ به الطَّعنَ في الإسلامِ والمُسلِمينَ، قل لهم- يا مُحمَّدُ-: أباللهِ سُبحانه وآياتِه ورَسولِه كُنتُم تستخِفُّون وتَسخَرونَ؟! لا تعتَذِروا- أيُّها المُنافِقونَ- قد كَفَرتُم بعد أنْ كُنتُم مُؤمِنينَ، إنْ نَعْفُ عن جماعةٍ منكم لِحُسنِ تَوبتِهم، نُعَذِّبْ جماعةً أُخرَى منهم؛ لأنَّهم كانوا مُجرِمينَ.

تفسير الآيات:

 

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64).

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم.

أي: يَخشى المُنافِقونَ أن يُنزِّلَ الله عزَّ وجلَّ في شأنِهم سُورةً تُخبِرُهم بما يُخفونَه في قُلوبِهم، مِن الكُفرِ والنِّفاقِ

فيَعلَم المؤمنونَ أسرارَهم .

قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ.

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- للمُنافِقينَ: استمِرُّوا على ما أنتم عليه مِن الاستهزاءِ؛ إنَّ اللهَ مُظهِرٌ للمُؤمِنينَ- بما يُنَزِّلُ من القُرآنِ- ما تَخشَونَ ظُهورَه .

كما قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 29-31] .

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65).

سَبَبُ النُّزولِ:

عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((قال رجلٌ في غزوةِ تَبوكَ في مجلسٍ يومًا: ما رأيتُ مِثلَ قُرَّائِنا هؤلاء، لا أرغَبَ بُطونًا، ولا أكذَبَ ألسِنةً، ولا أجبَنَ عند اللِّقاءِ! فقال رجلٌ في المجلِسِ: كذَبْتَ، ولكنَّك مُنافِقٌ، لأُخبِرنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبلغ ذلك النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونزل القرآنُ، قال عبدُ الله: فأنا رأيتُه مُتعلِّقًا بِحَقَبِ ناقةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَنكُبُه الحِجارةُ ، وهو يقولُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنَّا نخوضُ ونَلعَبُ، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)) .

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ.

أي: ولَئِن سألتَ المُنافقينَ- يا مُحمَّدُ- عمَّا قالوه في خَلَواتِهم من الطَّعنِ في أصحابِك ودينِك، ليَقولُنَّ لك: إنَّما كنَّا ندخُلُ في الباطِلِ، ونلعَبُ بذلك الحديثِ، ولم نقصِدْ به الطَّعنَ في المسلمينَ والإسلامِ .

قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ.

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- للمُنافقين: أباللهِ سُبحانه وآياتِ كِتابِه ورَسولِه مُحمَّدٍ، كنتُم تستخِفُّونَ وتَسخَرونَ؟! كيف تُقدِمونَ على إيقاعِ ذلك ؟!

لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كشَفَ اللهُ أمْرَ استهزائِهم، أردَفَه بإظهارِ قِلَّةِ جدوى اعتذارِهم؛ إذ قد تلبَّسوا بما هو أشنَعُ وأكبَرُ ممَّا اعتَذَروا عنه، وهو الْتباسُهم بالكُفرِ بعد إظهارِ الإيمانِ، فإنَّ الله لَمَّا أظهر نِفاقَهم، كان ما يصدُرُ عنهم من الاستهزاءِ أهوَنَ .

لاَ تَعْتَذِرُواْ.

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- للمُنافقينَ: لا تَذكُروا أعذارًا؛ فإنَّها لن تنفَعَكم .

قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ.

أي: قد أظهرتُم الكفرَ باستهزائِكم بدينِ الله بعدَ أن كنتُم تُظهرونَ الإيمانَ .

وقيل: المعنى: قد كفَرْتُم باستهزائِكم باللهِ وآياتِه ورسولِه، بعد أنْ كنتُم مُؤمنينَ .

إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ.

أي: إن نعفُ عن جماعةٍ منكم لِتَوبتِهم الصَّادقةِ، نُعذِّبْ جماعةً أخرى منهم؛ بسببِ أنَّهم كانوا مُقيمين على كفرِهم، مُصِرِّينَ على نفاقِهم، وطَعْنِهم في رَسولِ اللَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم مِن غيرِ توبةٍ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ مَن أسَرَّ سريرةً- خُصوصًا السَّريرةَ التي يَمكُرُ فيها بدينِ اللهِ تعالى، ويَستهزِئُ به وبآياتِه ورسولِه- فإنَّ الله تعالى يُظهِرُها ويفضَحُ صاحِبَها، ويُعاقِبُه أشَدَّ العقوبةِ

.

2- قال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ دلَّت الآيةُ على أنَّ الاستهزاءَ بالدِّينِ- كيف كان- كُفرٌ باللهِ؛ وذلك لأنَّ الاستهزاءَ يدُلُّ على الاستخفافِ، والعُمدةُ الكُبرى في الإيمانِ تَعظيمُ اللهِ تعالى بأقصى الإمكانِ، والجمعُ بينهما مُحالٌ .

3- التوبةُ مَقبولةٌ مِن كلِّ ذَنبٍ، وإن كان عظيمًا؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ إن قيل: المُنافِقُ كافِرٌ، فكيف يَحذَرُ نُزولَ الوَحيِ على الرَّسولِ؟ فالجوابُ أنَّ في ذلك وجوهًا:

الأول: أنَّ القَومَ وإن كانوا كافرينَ بِدينِ الرَّسولِ، إلَّا أنَّهم شاهَدُوا أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يُخبِرُهم بما يُضمِرونَه ويَكتمونَه؛ فلهذه التَّجربةِ وقَعَ الحَذَرُ والخَوفُ في قلوبِهم.

الثاني: أنَّهم كانوا يَعرفونَ كَونَه رَسولًا صادقًا مِن عند الله تعالى، إلَّا أنَّهم كفَروا به؛ حسَدًا وعِنادًا.

الثالث: أنَّهم كانوا شاكِّينَ في صِحَّةِ نبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما كانوا قاطعينَ بفَسادِها. والشاكُّ خائِفٌ؛ فلهذا السَّبَبِ خافوا أن يُنزَّلَ عليه في أمْرِهم ما يفضَحُهم.

الرابع: هذا حذَرٌ أظهَرَه المُنافِقونَ على وجهِ الاستهزاءِ، حين رأوُا الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يذكُرُ كُلَّ شَيءٍ، ويُخبِرُ أنَّه عن الوَحيِ، وكان المُنافِقونَ يُكَذِّبونَ بذلك فيما بينهم، فأخبَرَ اللهُ رسولَه بذلك، وأمَرَه أن يُعلِمَهم أنَّه يُظهِرُ سِرَّهم الذي حَذِروا ظُهورَه، وفي قوله: اسْتَهْزِئوا دَلالةٌ عليه.

الخامس: معنى الحَذَرِ الأمرُ بالحَذَرِ، أي: لِيحذَرِ المُنافِقونَ ذلك

.

2- قَولُ الله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ إن قيل: كيف قال عَلَيْهِمْ، مع أنَّ إنزالَ السُّورةِ إنَّما هو على النبيِّ، لا عليهم؟ فالجوابُ: أنَّ (على) هنا بمعنى (في)، كما في قَولِه تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة: 102] ، أو أنَّ الإنزالَ هنا بمعنى القراءةِ عليهم .

3- إن قيل في قَولِه تعالى: تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ: إنَّ هذا تحصيلُ الحاصِلِ؛ لأنهم عالِمون به. قيل: تنبِّئُهم بأسرارِهم وما كَتَموه، شائعةً ذائعةً، وتفضَحُهم بظهورِ ما اعتَقَدوا أنَّه لا يَعرِفُه غيرُهم .

4- قَولُ الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فيه دلالةٌ على أنَّ اللَّاعِبَ والجادَّ سواءٌ في إظهارِ كَلِمةِ الكُفرِ، وأنَّ الاستهزاءَ بآياتِ اللهِ كُفرٌ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ يدلُّ على أنَّ كَلِمةَ (إنما) تفيدُ الحَصرَ؛ إذ لو لم يكُنْ ذلك، لم يلزَمْ مِن كونِهم لاعبينَ ألَّا يكونوا مُستَهزِئينَ، فحينئذٍ لا يتِمُّ هذا العُذرُ .

6- قولُ الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يدلُّ على بُطلانِ قَولِ مَن يَقولُ: الكُفرُ لا يدخُلُ إلَّا في أفعالِ القُلوبِ .

7- قَولُ الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يدلُّ على أنَّ قَولَهم الذي صدَر منهم، كُفرٌ في الحقيقةِ، وإن كانوا مُنافِقينَ مِن قَبلُ، وأنَّ الكُفرَ يُمكِنُ أن يتجَدَّدَ مِن الكافرِ حالًا فحالًا .

8- قال اللهُ تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا يخلو أن يكونَ ما قالوه من ذلك جِدًّا أو هَزْلًا، وهو كيفما كان، كُفرٌ؛ فإنَّ الهَزْلَ بالكُفرِ كُفرٌ، لا خُلفَ فيه بين الأمَّةِ؛ لأنَّ أصلَ الدِّينِ مبنيٌّ على تعظيمِ اللهِ وتعظيمِ دينِه ورُسُلِه، والاستهزاءُ بِشَيءٍ من ذلك مُنافٍ لهذا الأصلِ، ومُناقِضٌ له أشَدَّ المناقَضةِ .

9- قَولُه تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ يدلُّ على أنَّ الاستهزاءَ باللهِ كُفرٌ، وبالرَّسولِ أيضًا كُفرٌ؛ وذلك من جهةِ أنَّ الاستهزاءَ باللهِ وَحدَه كُفرٌ بالضَّرورةِ، فلم يكُن ذِكرُ الآياتِ والرَّسولِ شَرطًا، فعُلِمَ أنَّ الاستهزاءَ بالرَّسولِ كُفرٌ، وإلَّا لم يكُن لذِكْرِه فائِدةٌ، وكذلك الآياتُ، وأيضًا مِن جِهةِ أنَّ الاستهزاءَ بهذه الأمورِ مُتلازمٌ .

10- قَولُ الله تعالى: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إن قيل: ظاهِرُ هذا أنَّهم كانوا مُؤمِنينَ فكفروا بهذا الاستهزاءِ الذي سَمَّوه خوضًا ولَعِبًا، وظاهِرُ السياقِ أنَّ الكُفرَ الذي يُسِرُّونَه، هو سبَبُ الاستهزاءِ الذي يُعلِنونَه. قيل: كِلاهما حقٌّ، ولكُلٍّ منهما وجهٌ؛ فالأولُ: بيانٌ لحُكمِ الشَّرعِ، وهو أنَّهم كانوا مؤمنينَ حُكمًا، فإنَّهم ادَّعَوا الإيمانَ، فجَرَت عليهم أحكامُ الإسلامِ، وهي إنَّما تُبنى على الظَّواهِرِ، والاستهزاءُ بما ذُكِرَ عمَلٌ ظاهِرٌ، يقطَعُ الإسلامَ ويَقتضي الكُفرَ، فبه صارُوا كافرينَ حُكمًا، بعد أن كانوا مُؤمِنينَ حُكمًا. والثاني: وهو ما دلَّ عليه السِّياقُ، هو الواقِعُ بالفِعلِ وذلك على أحدِ وجْهَي التأويلِ للآيةِ.

دلَّ قولُه تعالى: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ في حقِّ المُستَهزئينَ: أنَّهم كفَّارٌ بالقَولِ، مع أنَّهم لم يعتَقِدوا صِحَّتَه، وهذا بابٌ واسعٌ، وفِقهُه: أنَّ التَّصديقَ بالقَلبِ يَمنعُ إرادةَ التكلُّمِ، وإرادةَ فِعْلٍ فيه استهانةٌ واستخفافٌ بالله سُبحانه وتعالى، كما أنَّه يُوجِبُ المحبَّةَ والتَّعظيمَ .

11- قال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ الآيةُ نَصٌّ صريحٌ في أنَّ الخَوضَ في كتابِ اللهِ وفي رسولِه، وفي صفاتِ اللهِ تعالى ووَعْدِه ووَعيدِه، وجَعْلها موضوعًا للَّعِبِ والهُزُؤِ؛ كلُّ ذلك مِن الكُفرِ الحقيقيِّ الذي يَخرُجُ به المُسلِمُ مِن المِلَّة، وتَجري عليه به أحكامُ الرِّدَّةِ، إلَّا أن يتوبَ ويُجدِّدَ إسلامَه .

12- إذا تكلَّمَ المَرءُ بكَلِمةِ الكُفرِ طَوعًا، فقد شرَحَ بها صدرًا وهي كُفرٌ، وقد دلَّ على ذلك قولُه تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فقد أخبَرَ أنَّهم كفروا بعد إيمانِهم مع قولِهم: إنَّا تكلَّمْنا بالكفرِ مِن غَيرِ اعتقادٍ له، بل كنَّا نَخوضُ ونَلعَبُ، وبيَّنَ أنَّ الاستهزاءَ بآياتِ اللهِ كُفرٌ، ولا يكون هذا إلَّا ممَّن شرَحَ صَدرَه بهذا الكلامِ، ولو كان الإيمانُ في قَلبِه، منَعَه أن يتكَلَّمَ بهذا الكلامِ .

13- قال الله تعالى: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فكيف حكَمَ عليهم بالكُفرِ، ومع ذلك لم يُقِم عليهم الحَدَّ؟!

والجوابُ: لأنَّه كان في تَرْكِ قَتلِهم في حياةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَصلحةٌ تتضَمَّنُ تأليفَ القلوبِ على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجَمْعَ كلمةِ النَّاسِ عليه، وكان في قَتْلِهم تنفيرٌ، والإسلامُ بعدُ في غُربةٍ، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحرَصُ شَيءٍ على تأليفِ النَّاسِ، وأترَكُ شَيءٍ لِما يُنفِّرُهم عن الدُّخولِ في طاعَتِه، وهذا أمرٌ كان يختَصُّ بحالِ حياتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، وقيل غيرُ ذلك .

14- قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فاعتَرَفوا واعتَذَروا؛ ولهذا قيل: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ فدلَّ على أنَّهم لم يكونوا عند أنفُسِهم قد أتَوْا كُفرًا، بل ظَنُّوا أنَّ ذلك ليس بكُفرٍ، فبيَّنَ أنَّ الاستهزاءَ باللهِ وآياتِه ورسولِه، كُفرٌ يَكفُرُ به صاحِبُه بعد إيمانِه، فدلَّ على أنَّه كان عندهم إيمانٌ ضَعيفٌ، ففعلوا هذا المحرَّمَ الذي عَرَفوا أنَّه مُحرَّمٌ، ولكِنْ لم يظنُّوه كُفرًا، وكان كُفرًا كفروا به، فإنَّهم لم يعتَقِدوا جوازَه ، وذلك على أحدِ وجهي التأويلِ للآيةِ.

15- دلَّ قولُه تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً على أنَّ الكافرَ بعد إيمانِه قد يُعفَى عنه وقد يُعذَّبُ، وإنَّما يُعفى عنه إذا تاب، فعُلِمَ أنَّ توبتَه مَقبولةٌ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ

قولُه: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ فيه التَّعبيرُ بصِيغةِ المُضارِعِ يَحْذَرُ؛ لِمَا تُشْعِرُ به مِنِ اسْتِحضارِ الحالةِ

.

وقولُه: أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ التَّعبيرُ بالتَّنبئةِ فيه مُبالَغةٌ في كونِ السُّورةِ مُشْتَمِلةً على أسرارِهم، كأنَّها تَعْلَمُ مِنْ أحوالِهم الباطنةِ ما لا يَعْلمونَه، فتُنبِّئهم بها، وتَنْعَى عليهم قبائحَهم .

قولُه: قُلِ اسْتَهْزِئُوا الأمرُ بالاسْتِهزاءِ أمْرُ تَهديدٍ ووعيدٍ .

قولُه: إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ فيه العُدولُ إلى التَّعبيرِ بالموصولِ مَا تَحْذَرونَ دونَ أنْ يُقالَ مَثلًا: (إنَّ اللهَ مُخْرجٌ سُورةً تُنبِّئكُمْ بما في قلوبِكُمْ)؛ لأنَّ الأهمَّ مِنْ تَهديدِهم هو إظهارُ سَرائرِهم لا إنزالُ السُّورةِ؛ فذِكْرُ الصِّلَةِ وافٍ بالأمرينِ: إظهارُ سرائرِهم، وكونُه في سُورةٍ تَنْزِلُ، وهو أنْكَى لهم، ففيه إيجازٌ بديعٌ . مَعَ ما فيه مِنَ التَّأكيدِ بـ(إنَّ) واسْميَّةِ الجُملةِ.

2- قولُه تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ

قولُه: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فيه قَصْرٌ بـإِنَّمَا، وهو هنا للتَّعيينِ، أي: ما تَحدَّثْنا إلَّا في خَوضٍ ولَعِبٍ دونَ ما ظَنَنتَهُ بِنا مِنَ الطَّعْنِ والأذى .

قولُه: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ الاسْتِفهامُ فيه إنكاريٌّ توبيخيٌّ، وهو تَقريرٌ على اسْتِهزائِهم، وضَمَّنَه الوَعيدَ، ولم يَعْبأْ باعْتِذارِهم؛ لأنَّهم كانوا كاذبينَ فيه، فجُعِلوا كأنَّهم مُعْترِفونَ باسْتِهزائهم، وبأنَّه مَوجودٌ مِنهم، حتَّى وُبِّخوا بإخطائِهم مَوضِعَ الاسْتِهزاءِ، حيثُ جُعِلَ المُستَهزَأُ به يلي حَرْفَ التَّقريرِ، وذلك إنَّما يَستقيمُ بَعْدَ وقوعِ الاسْتِهزاءِ .

وتقديمُ المعمولِ أَبِاللَّهِ على فِعْلِه العاملِ فيهِ تَسْتَهْزِؤُونَ؛ لقَصْدِ قَصْرِ التَّعيينِ؛ لأنَّهم لَمَّا أتوا في اعْتِذارِهِمْ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ بصيغةِ قَصْرِ تَعيينٍ، جِيءَ في الرَّدِّ عليهم بصِيغةِ قَصْرِ تَعيينٍ؛ لإبطالِ مُغالَطتِهِمْ في الجوابِ، فأَعلَمَهم بأنَّ لَعِبَهم الذي اعْتَرَفوا به ما كان إلَّا اسْتِهزاءً باللهِ وآياتِهِ ورَسولِهِ، لا بغيرِ أولئك .

3- قوله تعالى: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ

وقولُه: لَا تَعْتَذِرُوا فيه تَوكيدٌ لمضمونِ جُمْلةِ: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، مع زيادةِ ارْتِقاءٍ في التَّوبيخِ، وارْتِقاءٍ في مَثالِبِهم بأنَّهم تَلبَّسوا بما هو أشدُّ، وهو الكُفْرُ؛ فلذلك فُصِلتِ الجُمْلةُ عن التي قَبْلَها، أي: لم تُعْطَفْ عليها .

قولُه: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ تَعليلٌ لقولِه: لَا تَعْتَذِرُوا وهو نهيٌ مُسْتَعْمَلٌ في التَّسويةِ وعدمِ الجَدْوى .

=======

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيات (67-70)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ

غريب الكلمات:

 

وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ: أي: يُمسِكونَها عن الصَّدَقةِ والخَيرِ، وأصلُ (قبض): يدلُّ على شيءٍ مأخوذٍ، وتجمُّعٍ في شَيءٍ

.

بِخَلَاقِهِمْ: أي: بنَصيبِهم في الدُّنيا، والخَلاقُ: النَّصيبُ والحظُّ من الخَيرِ .

وَخُضْتُمْ: أي: دَخَلْتُم في الباطِلِ .

وَالْمُؤْتَفِكَاتِ: أي: مَدائِنِ قَومِ لُوطٍ؛ ائتَفَكَت بهم، أي: انقَلَبَت، وأصلُ (أفك): يدلُّ على قلبِ الشَّيءِ، وصَرفِه عن جِهَتِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ هم صِنفٌ واحِدٌ مُتشابِهونَ في كُفرِهم ونِفاقِهم؛ يأمرونَ بالمُنكَرِ، وينهَوْنَ عن المعروفِ، ويُمسِكونَ أيديَهم عن إخراجِ ما يجِبُ عليهم من النَّفَقات، نَسُوا ذِكرَ اللهِ، فتَرَك هدايتَهم ورَحمتَهم، وأهمَلَهم وتخلَّى عنهم، ويترُكُهم مخلَّدِينَ في عذابِ جهنَّمَ في الآخرةِ، إنَّ المُنافقينَ هم الفاسِقونَ.

وعَدَ اللهُ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ والكُفَّارَ نارَ جهنَّمَ، ماكثينَ فيها أبدًا، هي كافيةٌ لِعقابِهم، وأبعَدَهم اللهُ مِن رَحمتِه، ولهم عذابٌ دائِمٌ غيرُ مُنقطِعٍ.

ثمَّ وجَّه تعالى الخِطابَ للمُنافِقينَ والكُفَّارِ، فقال لهم: أنتم تعمَلونَ مثلَ أعمالِ مَن قَبلَكم مِن الأمَمِ، الذين كانوا أقوَى مِنكم، وأكثَرَ أموالًا وأولادًا منكم، فتمتَّعوا بنَصيبِهم المقَدَّرِ من الدُّنيا، مُؤْثِرينَ له على نعيمِ الآخرةِ، فتمَتَّعتُم أنتم بنَصيبِكم من الدُّنيا، وأعرَضْتُم عن الآخرةِ، كما فعَلَ الذين كَفَروا من قَبلِكم، وخُضتُم في الذي خاضُوا فيه، أولئك بطَلَت أعمالُهم في الدُّنيا والآخرةِ، وأولئك هم الخاسِرونَ.

ألمْ يأتِ هؤلاءِ المُنافِقينَ والكُفَّارَ خَبَرُ إهلاكِ اللهِ الأمَمَ الماضيةَ؛ قومِ نوحٍ وعادٍ، وثمودَ، وقَومِ صالحٍ، وأهلِ مَدينَ، وقَومِ لوطٍ الذين انقلبت بهم أرضُهم، فصار أعلاها أسفلَها، جاءتهم رسُلُهم بالمُعجِزاتِ الواضِحةِ، فكَذَّبوا الرُّسُلَ فأهلَكَهم اللهُ، فما كان اللهُ ليَظلِمَهم، ولكِنَّهم كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم بالكُفرِ والعِصيانِ وتكذيبِ الرُّسُلِ، فاستحقُّوا العُقوبةَ.

تفسير الآيات:

 

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّها شَرحٌ لِنَوعٍ آخَرَ مِن أنواعِ فضائِحِ المنافقين وقبائِحِهم، والمقصودُ بيانُ أنَّ إناثَهم كذُكورِهم في تلك الأعمالِ المُنكَرةِ والأفعالِ الخَبيثةِ

.

وأيضًا فهذه الآيةُ احتراسٌ عن أن يظُنَّ المنافِقونَ أنَّ العَفوَ المفروضَ لطائفةٍ منهم، هو عفوٌ يَنالُ فريقًا منهم باقينَ على نفاقِهم؛ فعَقَّبَ ذلك ببيانِ أنَّ النِّفاقَ حالةٌ واحدةٌ، وأنَّ أصحابَه سواءٌ؛ ليُعلَمَ بذلك أنَّ افتراقَ أحوالِهم بين عَفوٍ وعذابٍ، لا يكونُ إلَّا إذا اختلَفَت أحوالُهم بالإيمانِ، والبقاءِ على النِّفاقِ .

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ.

أي: المُنافِقونَ والمُنافِقات، الذين يُظهِرونَ للمُسلِمينَ الإيمانَ بألسِنَتِهم، ويُبطِنونَ الكُفرَ في قلوبِهم؛ هم صِنفٌ واحدٌ مُتشابِهونَ في كُفرِهم ونِفاقِهم، وأخلاقِهم وأغراضِهم، وبعضُهم أولياءُ بعضٍ .

يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ .

أي: المُنافِقونَ والمُنافِقاتُ يأمرونَ بما يُبغِضُه اللهُ ويُنكِرُه؛ من الكُفرِ والمعاصي، ويَنهونَ عن المعروفِ الذي يحِبُّه الله ويأمُرُ به؛ من الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ .

وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ.

أي: ويُمسِكُ المُنافِقونَ والمُنافِقاتُ أيديَهم عن إخراجِ زكاةِ أموالِهم، وعن كلِّ ما وجَبَ عليهم من النَّفَقاتِ، ومن ذلك الإنفاقُ في الجِهادِ .

نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ.

أي: نَسِيَ المُنافِقونَ ذِكرَ اللهِ وتَرَكوا طاعَتَه، فتَرَك اللهُ هدايتَهم ورَحمَتَهم، وأهمَلَهم وتخلَّى عنهم، ويترُكُهم مخلَّدِينَ في عذابِ جهنَّمَ في الآخرةِ .

كما قال تعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية: 34] .

وقال سبحانه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19] .

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.

أي: إنَّ المُنافِقين هم الخارِجونَ عن طاعةِ اللهِ، والإيمانِ به سُبحانَه .

وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى في المُنافِقين والمُنافِقاتِ أنَّه نَسِيَهم، أي: جازاهم على تَرْكِهم التمسُّكَ بطاعةِ الله؛ أكَّدَ هذا الوعيدَ، وضَمَّ المُنافِقين إلى الكُفَّارِ فيه، فقال تعالى :

وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا.

أي: وعَدَ اللهُ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ وجميعَ الكُفَّارِ أنْ يُدخِلَهم نارَ جَهنَّمَ، ماكثينَ فيها أبدًا .

هِيَ حَسْبُهُمْ.

أي: نارُ جهنَّمَ كافيةٌ لعقابِ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ والكُفَّارِ؛ جزاءً على نفاقِهم وكُفرِهم .

وَلَعَنَهُمُ اللّهُ.

أي: وأبعَدَ اللهُ المُنافِقينَ والكُفَّارَ، وطَرَدَهم مِن رَحمتِه .

كما قال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ [الأحزاب: 60-61] .

وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الأحزاب: 64-65] .

وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ.

أي: ولأهلِ النِّفاقِ والكُفرِ عذابٌ دائِمٌ لا ينقطِعُ .

كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان حالُ المُنافِقينَ في الإقبالِ على العاجلةِ؛ لِكَونِها حاصلةً، والإعراضِ عن العاقِبةَ؛ لأنَّها غائبةٌ- مُشابِهًا لحالِ من كان قَبْلَهم من الأُمَمِ الخاليةِ، والقُرونِ الماضية؛ بيَّنَ لهم ذلك، وختَمَ ببيانِ سُوءِ أحوالِهم وقُبحِ مآلِهم، بتلاشي أعمالِهم، فقال تعالى :

كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا.

أي: فعَلْتُم - أيُّها المُنافِقونَ والكفَّارُ- كفعلِ الذين مِنْ قبلِكم، فسَينزِلُ بكم مِن العُقوباتِ مثلُ ما نَزَلَ بهم، وقد كانُوا أقوى منكم، وأكثرَ منكم أموالًا وأولادًا .

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم: 9] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [غافر: 21-22] .

فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ.

أي: فتمتَّع كُفَّارُ الأمَمِ الماضيةِ بنَصيبِهم المقدَّرِ لهم من الدُّنيا وشَهَواتِها، مُؤثِرينَ له على نَعيمِ الآخرةِ، فتمتَّعتُم- أيُّها المُنافِقونَ والكفَّارُ- بنَصيبِكم من شَهَواتِ الدُّنيا، وأعرَضْتُم عن الآخِرةِ كذلك، كما تمتَّعَ الكُفَّارُ الذين مِن قَبلِكم بنَصِيبِهم .

وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ.

مُناسَبَتُها لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ تعالى مُشابهةَ هؤلاءِ المُنافِقينَ لأولئك المتقَدِّمينَ في طلَبِ الدُّنيا، وفي الإعراضِ عن طلَبِ الآخرةِ؛ بَيَّنَ حُصولَ المُشابَهةِ بين الفَريقَينِ، في تكذيبِ الأنبياءِ، وفي المَكرِ والخديعةِ والغَدرِ بهم، فقال تعالى :

وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ.

أي: وخضتُم- أيُّها المُنافِقونَ والكُفَّارُ- في الكُفرِ والكَذِبِ، والباطِلِ والشُّبُهاتِ، والاستهزاءِ باللهِ وآياتِه ورَسولِه؛ مثلَ الخَوضِ الذي خاضَتْه الأمَمُ قَبلَكم .

أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ.

أي: أولئك الذين تمتَّعوا بشَهَواتِ الدُّنيا، وخاضوا في الباطِلِ؛ بطَلَت أعمالُهم في الدُّنيا والآخرةِ، فلا يَقبَلُها اللهُ تعالى منهم، ولا يُثيبُهم عليها .

وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.

أي: وأولئك هم المَغبونونَ بحِرمانِ الخَيرِ العاجِلِ والآجِلِ، وحُصولِ العِقابِ في الدُّنيا والآخرةِ .

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا شَبَّه اللهُ تعالى المُنافِقينَ بالكُفَّارِ المتقَدِّمينَ، في الرَّغبةِ في الدُّنيا، وتكذيبِ الأنبياءِ، وكان لفظُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فيه إبهامٌ- نَصَّ على طوائِفَ بأعيانِها سِتَّةٍ؛ لأنَّهم كان عندهم شَيءٌ مِن أنبائِهم، وكانت بلادُهم قريبةً مِن بلادِ العَربِ، وكانوا أكثَرَ الأمَمِ عَددًا، وأنبياؤُهم أعظَمَ الأنبياءِ .

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.

أي: ألَمْ يَسمَعِ المُنافِقونَ والكُفَّارُ خَبَرَ إهلاكِنا الأمَمَ الكافِرةَ الماضيةَ ؟!

ثمَّ بيَّن جلَّ ثناؤُه مَنْ أولئك الأممُ ، فقال:

قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ.

أي: قَومِ نُوحٍ، وعادٍ- قَومِ هُودٍ- وثمودَ- قَومِ صالحٍ- وقَومِ إبراهيمَ، وأهلِ مَدينَ- قَومِ شُعيبٍ- وأهلِ قُرى قَومِ لوطٍ، التي انقلَبَت بهم فصار أعلاها أسفَلَها ؟!

أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ.

أي: جاءَت تلك الأممَ رسُلُ اللهِ بالمُعجِزاتِ الواضِحاتِ، فكذَّبوا الرُّسُلَ، فأهلكَهم اللهُ .

كما قال تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [إبراهيم: 9] .

وقال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: 12 - 14] .

فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

أي: فما كان اللهُ ليظلِمَ تلك الأممَ المكَذِّبةَ، بإهلاكِهم قبلَ إقامةِ الحُجَّةِ عليهم، ولكِن كانوا يظلِمونَ أنفُسَهم، بالكُفرِ باللهِ وعِصيانِه، وتكذيبِ رُسُلِه، فاستحَقُّوا عِقابَه

 

.

كما قال سُبحانه: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131] .

وقال تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لأنَّهم اشتَرَكوا في النِّفاق، فاشتَرَكوا في تولِّي بَعضِهم بعضًا، وفي هذا قَطعٌ للمُؤمِنينَ مِن وَلايَتِهم

 

2- قَولُه تعالى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ ووَخُضْتُمْ خبرٌ عن وقوعِ ذلك في الماضي، وهو ذَمٌّ لِمن يفعَلُه، إلى يومِ القيامةِ، كسائِرِ ما أخبَرَ اللهُ به عن الكفَّار والمُنافِقين، عند مبعَثِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّه ذَمٌّ لِمَن حالُه كحالِهم، إلى يومِ القيامةِ، فيكونُ كُلُّ مَن حصل منه هذا الاستمتاعُ والخَوضُ مُخاطَبًا بِقَولِه: فَاسْتَمْتَعْتُمْ ووَخُضْتُمْ

3- قال الله تعالى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا فَسادُ الدِّينِ إمَّا أن يقَعَ بالاعتقادِ الباطِلِ والتكَلُّمِ به، وهو (الخَوض)، أو يقَعَ في العمَلِ بخلافِ الحَقِّ والصَّوابِ، وهو (الاستمتاعُ بالخَلاقِ). فالأوَّلُ البِدَعُ، والثاني اتِّباعُ الهوى، وهذان هما أصلُ كُلِّ شَرٍّ وفِتنةٍ وبلاءٍ، وبهما كُذِّبَت الرُّسُلُ، وعُصِيَ الرَّبُّ، ودُخِلَت النَّارُ، وحَلَّت العُقوباتُ، فالأوَّلُ مِن جهةِ الشُّبُهات، والثاني من جهةِ الشَّهواتِ؛ ولهذا كان السَّلَفُ يقولونَ: احذَروا من النَّاسِ صِنفَينِ: صاحِبَ هَوًى، فِتنَتُه هَواه، وصاحِبَ دُنيا، أعجَبَتْه دُنياه، وكانوا يقولونَ: احذَروا فتنةَ العالِمِ الفاجِرِ، والعابِدِ الجاهِلِ؛ فإنَّ فِتنَتَهما فتنةٌ لكُلِّ مفتونٍ، فهذا يُشبِهُ المغضوبَ عليهم، الذين يعلمونَ الحَقَّ ويَعملونَ بخلافِه، وهذا يُشبِهُ الضَّالِّينَ الذين يعملونَ بغيرِ عِلمٍ، فقولُه تعالى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ إشارةٌ إلى اتِّباعِ الشَّهواتِ، وهو داءُ العُصاةِ، وقَولُه: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا إشارةٌ إلى الشُّبُهاتِ، وهو داءُ الْمُبتَدعةِ، وأهلِ الأهواءِ والخُصُوماتِ، وكثيرًا ما يجتمعانِ، فقَلَّ مَن تجِدُه فاسِدَ الاعتقادِ، إلَّا وفَسادُ اعتقادِه يظهَرُ في عَمَلِه، والمقصودُ أنَّ الله أخبَرَ أنَّ في هذه الأمَّةِ مَن يستمتِعُ بخَلاقِه، كما استمتَعَ الذين مِن قَبلِه بخَلاقِهم، ويخوضُ كَخَوضِهم، وأنَّهم لهم من الذَّمِّ والوعيدِ كما للَّذين مِن قَبلِهم

4- عاقب اللهُ سبحانه مَن نَسِيَه عُقوبَتينِ: إحداهما: أنَّه سُبحانه يَنساه، كما في قولِه تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ، والثَّانية: أنَّه يُنسيه نفسَه، كما في قولِه تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر: 19] ، ونسيانُه سبحانَه للعبدِ: إهمالُه، وتركُه، وتخلِّيه عنه، وأمَّا إنساؤُه نفسَه، فهو: إنساؤُه لِحُظوظِها العاليةِ، وأسبابِ سعادتِها وفلاحِها وما تَكْمُلُ به؛ فلا يسعَى إليها، وكذا نسيانُ عُيوبِ نَفسِه ونَقصِها وآفاتِها، فلا يخطُرُ ببالِه إزالتُها، وأيضًا يُنسيه أمراضَ نفسِه وقلبِه وآلامَها، فلا يخطُرُ بِقَلبِه مُداواتُها، ولا السعيُ في إزالةِ عِلَلِها وأمراضِها التي تَؤُولُ بها إلى الفَسادِ والهلاكِ، فهو مريضٌ مُثخَنٌ بالمَرَض، ومَرَضُه مُتَرامٍ به إلى التَّلَفِ، ولا يشعرُ بمَرضِه، ولا يخطرُ ببالِه مُداواتُه

 

 

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وصَفَ اللهُ سُبحانَه المُنافِقينَ بأنَّ بَعضَهم مِن بَعضٍ، وقال في المؤمنينَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] ؛ وذلك لأنَّ المُنافِقينَ تشابهَت قلوبُهم وأعمالُهم، وهم مع ذلك تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: 14] فليست قلوبُهم مُتوادَّةً مُتوالِيةً، إلَّا ما دام الغَرَضُ الذي يَؤُمُّونَه مُشترِكًا بينهم، ثم يتخَلَّى بعضُهم عن بعضٍ، بخلافِ المؤمِن، فإنَّه يُحِبُّ المؤمِنَ وينصُرُه بظَهرِ الغيبِ، وإن تناءَت بهم الدِّيارُ، وتباعَدَ الزَّمانُ

، ودلَّ قولُه: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ على أنَّ نِفاقَ الأتباعِ كالأمرِ المتفَرِّعِ على نفاقِ الأسلافِ، والأمرُ في نفسِه كذلك؛ لأنَّ نِفاقَ الأتباعِ وكُفرَهم حصَلَ بسبَبِ التَّقليدِ لأولئك الأكابِرِ، وبسببِ مُقتضى الهَوى والطَّبيعةِ والعادةِ، أمَّا المُوافَقةُ الحاصِلةُ بين المؤمنينَ، فإنَّما حصَلَت لا بسبَبِ المَيلِ والعادةِ، بل بسبَبِ المُشاركةِ في الاستدلالِ والتَّوفيقِ والهِدايةِ، اللُّحْمةُ الجامعةُ بينهم هي ولايةُ الإسلامِ، فهم فيها على السَّواءِ، ليس واحدٌ منهم مقلِّدًا للآخَرِ ولا تابعًا له على غيرِ بَصيرةٍ؛ لِما في معنى الولايةِ مِن الإشعارِ بالإخلاصِ والتَّناصُرِ، بخلافِ المُنافِقينَ، فكأنَّ بَعضَهم ناشئٌ مِن بعضٍ في مَذامِّهم؛ فلهذا السَّبَبِ قال تعالى في المُنافقين: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وقال في المؤمنين: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ .

2- قَولُ الله تعالى: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ اقتصَرَ مِن مُنكَراتِ المُنافِقينَ الفعليَّةِ على هذا؛ لأنَّه شَرُّها وأضَرُّها، وأقواها دَلالةً على النِّفاقِ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ أخَّرَ ذِكرَ الكُفَّارِ في مقامِ الوعيدِ؛ للإيذانِ بأنَّ الْمُنافِقينَ- وإن أظهَروا الإيمانَ وعَمِلوا أعمالَ الإسلامِ- شَرٌّ مِن الكفَّارِ الصُّرَحاءِ، ولا سيَّما المتدَيِّنونَ منهم بأديانٍ باطلةٍ مِن الأصلِ، أو مُحرَّفةٍ ومَنسوخةٍ كأهلِ الكِتابِ .

4- في قَولِه تعالى: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا تَوبيخٌ مِن اللهِ لِمَن تشَبَّه بأهلِ الشَّرِّ- مِثل أهلِ الكُفرِ والفُسوقِ والعِصيانِ- في شيءٍ مِن قبائِحهم .

5- قولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ لعلَّه خَصَّ هؤلاءِ بالذِّكرِ مِن بينِ بقيَّةِ الأمَمِ؛ لِمَا عند العَرَبِ مِن أخبارِهم، وقُربِ ديارِهم مِن ديارِهم، مع أنَّهم كانوا أكثَرَ الأُمَم عددًا، وأنبياؤُهم أعظَمَ الأنبياءِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

قولُه: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ زِيدَ في هذه الآيةِ ذِكْرُ المُنافقاتِ؛ وذلك للتَّنصيصِ على تَسويةِ الأحكامِ لجَميعِ المُتَّصفينَ بالنِّفاقِ ذُكورِهم وإناثِهم؛ كيلا يَخْطُرَ بالبالِ أنَّ العفوَ يُصادِفُ نِساءَهم، وأنَّ المؤاخذةَ خاصَّةٌ بذُكرانِهم؛ ليَعلَمَ النَّاسُ أنَّ لنِساءِ المُنافِقينَ حَظًّا مِنْ مُشاركةِ رِجالِهِنَّ في النِّفاقِ فيَحذَروهنَّ

، والتَّعرضُ لأحوالِ الإناثِ أيضًا؛ للإيذانِ بكمالِ عراقتِهم في الكُفْرِ والنِّفاقِ .

قولُه: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ على القَولِ بأنَّه اسْتِئنافٌ، فهو مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما سَبَق، ومُفْصِحٌ عن مُضادَّةِ حالِهم لحالِ المؤمنينَ .

قولُه: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ قَبْضُ اليدِ كِنايةٌ عَنِ البُخْلِ والشُّحِّ، والأصْلُ في هذه الكِنايةِ أنَّ المُعطي يَمُدُّ يدَهُ، ويَبْسُطُها بالعَطاءِ، فقيل لِمَنْ مَنَعَ وبَخِلَ: قد قَبَضَ يَدَه .

قولُه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ، أي: تَركُوهُ حين تَرَكوا نبيَّهُ وشِرْعتَه، فتَرَكَهم حين لم يَهْدِهم، ولا كَفاهم عذابَ النَّارِ؛ ففيهِ التَّعبيرُ عَنِ التَّرْكِ بالنِّسيانِ؛ وإنَّما يُعبَّرُ بالنِّسيانِ عَنِ التَّركِ مُبالغةً؛ إذ أبلَغُ وجوهِ التَّرْكِ الوَجْهُ الذي يَقْتَرِنُ به نِسيانٌ، أو مُبالَغةً في أنَّه لا يَخْطُرُ ذلك ببالٍ .

قولُه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيثُ لم يَقُلْ: (إنَّهم)-؛ لزِيادةِ تَقريرِهم في الذِّهْنِ لهذا الحُكْمِ، ولِتكونَ الجُمْلةُ مُسْتَقِلَّةً حتَّى تكونَ كالمَثَلِ .

وقولُه: هُمُ الْفَاسِقُونَ صِيغةُ قَصْرٍ، أي: هم الكامِلونَ في الفِسْقِ، وهو قَصْرٌ ادِّعائيٌّ للمُبالَغةِ؛ لأنَّهُمْ لَمَّا بَلَغوا النِّهايةَ في الفُسوقِ جُعِلَ غيرُهم كمَنْ ليس بفاسِقٍ ، فحَصَرَ الفِسقَ فيهم؛ لأنَّ فِسقَهم أعظَمُ مِن فِسقِ غَيرِهم؛ بدليل ِأنَّ عَذابَهم أشَدُّ مِن عذابِ غَيرِهم، وأنَّ المُؤمِنينَ قد ابتُلُوا بهم؛ إذ كانوا بين أظهُرِهم، والاحترازُ منهم شديدٌ .

2- قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ

جُمْلةُ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ اسْتِئنافٌ بيانيٌّ ناشِئٌ عَنْ قولِه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، أو مُبيِّنةٌ لجُملةِ فَنَسِيَهُمْ؛ لأنَّ الخُلودَ في جَهنَّمَ واللَّعنَ بَيانٌ للمرادِ مِنْ نِسيانِ اللهِ إيَّاهم .

وفي قولِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيثُ لم يَقُلْ: (وَعَدَهُمُ اللهُ)-؛ لتقريرِ المحكومِ عليه في ذِهْنِ السَّامِعِ حتَّى يتمكَّنَ اتِّصافُهم بالحُكْمِ. وزيادةُ ذِكْرِ الكُفِّارِ هنا؛ للدَّلالةِ على أنَّ المُنافِقين ليسوا بأهونَ حالًا مِنَ المشركينَ؛ إذْ قَدْ جَمَعَ الكُفْرُ الفريقينِ .

وعبَّر بصيغةِ الماضي وَعَدَ؛ للإخبارِ عَنْ وعيدٍ تَقدَّمَ، وَعَدَهُ اللهُ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ تذكيرًا بِهِ؛ لزيادةِ تَحقيقِهِ، أو لصَوغِ الوعيدِ في الصِّيغةِ التي تَنشأُ بِها العُقودُ، مِثْلَ: (بِعْتُ ووَهَبْتُ)؛ إشعارًا بأنَّهُ وعيدٌ لا يتخلَّفُ مِثْلَ العَقْدِ والالْتِزامِ .

قوله: هِيَ حَسْبُهُمْ فيه مُبالَغةٌ في عِظَمِ عذابِها، وأنَّهُ لا شيءَ أبْلَغَ مِنه، وأنَّهُ بحيثُ لا يُزادُ عليه .

قولُه: وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ فيه إظهارُ الاسْمِ الجليلِ (الله)؛ للإيذانِ بشِدَّةِ السَّخَطِ عليهم .

3- قوله تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

قولُه: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً فيه الْتِفاتٌ عن ضمائرِ الغَيبةِ الرَّاجِعةِ إلى المُنافِقينَ، إلى خِطابِهم؛ لقَصْدِ التَّقريعِ والتَّهديدِ بالمَوعظةِ، والتَّذكيرِ عَنِ الغُرورِ بما هم فيه مِنْ نِعْمةِ الإمهالِ بأنَّ آخِرَ ذلك حَبطُ الأعمالِ في الدُّنيا والآخِرةِ، وأنْ يَحِقَّ عليهم الخُسرانُ .

وقولُه: كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا تَفْسيرٌ وبيانٌ لِشَبَهِهم بهم، وتمثيلٌ لحالِهم بحالِهم .

قولُه: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا فيه مِنْ محاسِنِ البلاغةِ: أنَّه لَمَّا ذَكَرَ تَشبيهَهم بمَنْ قَبْلَهم، وذَكَر ما كانوا فيه مِنَ شِدَّةِ القُوَّةِ، وكَثْرةِ الأولادِ، واسْتِمتاعِهم بما قُدِّرَ لهم مِنَ الأنصباءِ، أي: الحُظوظِ، شَبَّهَ اسْتِمتاعَ المُنافِقينَ باسْتِمتاعِ الذين مِنْ قَبْلِهم، وأبْرَزَهم بالاسمِ الظَّاهِرِ فقال: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ، ولَمْ يَكُنِ التَّركيبُ (كما اسْتَمْتَعوا بخلاقِهِمْ)، فأوْقَع الظَّاهِرَ مَوقِعَ المُضْمَرِ؛ ليَدُلَّ بذلك على التَّحقيرِ لهم؛ لأنَّهُ كما يَدُلُّ بإعادةِ الظاهِرِ مَكانَ المُضْمَرِ على التَّفخيمِ والتَّعظيمِ، كذلك يَدلُّ بإعادتِهِ على التَّحقيرِ والتَّصغيرِ لشأنِ المذكورِ؛ كما في قولِهِ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم: 44] .

قولُه: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ في صِيغةِ الاسْتِفعالِ فَاسْتَمْتَعُوا ما ليس في صِيغةِ التَّفعُّلِ (تَمتَّعوا) مِنَ الاسْتِزادةِ والاسْتِدامةِ في التَّمتُّعِ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ فيه للمُبالَغةِ في قُوَّةِ التَّمتُّعِ .

وقولُه: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ فيه التَّكريرُ في تَرديدِ فِعْلِ الاسْتِمتاعِ؛ ذلك أنَّهُ شَبَّهَ حالَهم بحالِ الأوَّلينَ؛ ففي التَّكريرِ تأكيدٌ ومُبالَغةٌ في ذَمَّ المُخاطَبينَ، وتَقبيحُ حالِهم، واسْتِهجانُ أَمْرِهم .

قولُه: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ فيه إعادةُ اسْمِ الإشارةِ أُولئِك؛ للاهْتِمامِ بتَمييزِ المُتحَدَّثِ عنهم؛ لزِيادةِ تَقريرِ أحوالِهم في ذِهْنِ السَّامِعِ ، وللإشعارِ بعِليَّةِ الأوصافِ المُشارِ إليها للحُبوطِ والخُسْرانِ .

وفي الالتفاتِ إلى مَقامِ الخِطابِ في قَولِ اللهِ تعالى: وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ إشارةٌ إلى تحذيرِ كُلِّ سامِعٍ عَن مِثلِ هذه المقالةِ .

4- قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

قولُه: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... اسْتِفهامٌ للتَّقريرِ والتَّحذيرِ .

قولُه: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ اسْتئنافٌ بيانيٌّ نَشَأ عَنْ قولِه: نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي: أتتْهُم رُسُلُهم بدَلائلِ الصِّدقِ والحَقِّ .

قولُه: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فيه حذْفٌ بَيْنَ قولِه: بِالْبَيِّنَاتِ وقولِه: فَمَا كَانَ، والتَّقديرُ: فكذَّبوا فأهْلَكَهمُ اللهُ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ؛ فتَفريعُ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ على قوله: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ إيجازُ حذْفٍ بديعٌ؛ لأنَّ مَجيءَ الرُّسلِ بالبيِّناتِ يَقتضي تصديقًا وتكذيبًا، فلمَّا فرَّعَ عليه أنَّهم ظَلموا أنفُسَهم، عُلِمَ أنَّهم كذَّبوا الرُّسُلَ، وأنَّ اللهَ جازاهم على هذا بأنْ عاقَبَهم عِقابًا لو كان لغيرِ جُرمٍ لشابَهَ الظُّلمَ؛ فجُعِلَ مِن مجموع نفْيِ ظُلمِ الله إيَّاهم، ومِن إثباتِ ظُلمِهم أنفُسَهم، مَعرفةُ أنَّهم كذَّبوا الرُّسُلَ وعانَدوهم، وحَلَّ بهم ما هو معلومٌ مِن مُشاهدةِ دِيارِهم، وتَناقُل أخبارِهم .

والتعبيرُ بقولِه: فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فيه مُبالَغةٌ في تَنزيهِ اللهِ سُبْحانَه عن الظُّلْمِ، أي: ما صَحَّ وما اسْتقامَ له أنْ يَظْلِمَهم، ولكِنَّهم ظَلَموا أَنْفُسَهم .

قولُه: وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فيه الجَمعُ بينَ صِيغَتِي الماضي والمُسْتقبلِ؛ للدَّلالةِ على اسْتِمرارِ ظُلْمِهم، حيثُ لم يَزالوا يُعَرِّضونَها للعقابِ بالكُفْرِ والتَّكذيبِ .

وفيه تقديمُ المفعولِ أَنْفُسَهُمْ على الفِعْلِ يَظْلِمُونَ؛ للاهْتِمامِ به، مع مُراعاةِ الفاصِلةِ .

=====

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيتان (71-72)

ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ

غريب الكلمات:

 

عَدْنٍ: أي: إِقامَةٍ وخُلدٍ، واستقرارٍ وثباتٍ، يُقال: عَدَن بالمكانِ، يَعْدِنُ عَدْنًا، إذا لَزِمه، ولم يبْرَح منه، وأصلُ (عدن): يدلُّ على الإقامةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّ المُؤمِنينَ والمؤمناتِ بَعضُهم أنصارُ بَعضٍ؛ يأمرونَ بالمعروفِ، وينهَونَ عن المُنكَرِ، ويؤدُّونَ الصَّلاةَ المفروضةَ كما يجِبُ، ويُعطونَ الزَّكاةَ لِمُستحقِّيها، ويُطيعونَ الله ورسولَه، أولئك سيرحَمُهم الله تعالى؛ إنَّ اللهَ عزيزٌ حَكيمٌ.

ويخبِرُ تعالى أنَّه وَعَدَهم جناتٍ تَجري من تحتِ أشجارِها الأنهارُ، ماكثينَ فيها أبدًا، ووَعَدَهم أن يُسكِنَهم منازِلَ حَسَنةً، لا عيبَ فيها، في جناتِ إقامةٍ دائمةٍ، لا يُخرجونَ منها، ورِضوانٌ منه تعالى عن المؤمنينِ والمؤمِناتِ أعظَمُ مِن نعيمِ الجنَّةِ، ذلك الذي وعَدَ اللهُ به المؤمنينَ والمؤمناتِ هو الفَوزُ العظيمُ.

تفسير الآيتين:

 

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا وصَف الله تعالى المُنافقين بالأعمالِ الفاسِدة، والأفعالِ الخَبيثةِ، ثمَّ ذكَرَ عَقيبَه أنواعَ الوَعيدِ في حقِّهم في الدُّنيا والآخرةِ؛ ذكَرَ بعدَه- في هذه الآيةِ- كَونَ المُؤمِنينَ مَوصوفينَ بصِفاتِ الخَيرِ، وأعمالِ البِرِّ، على ضِدِّ صِفاتِ المُنافِقينَ

.

وأيضًا لَمَّا بيَّنَ سبحانَه أنَّ المُنافِقينَ بَعضُهم من بعضٍ، وما توعَّدَهم به وما استَتبَعَه مِن تهديدِهم بإهلاكِ مَن شابَهوه، وختَمَ بما سبَّبَ هلاكَهم من إصرارِهم وعدَمِ اعتبارِهم- عطَفَ ببيانِ حالِ المؤمنينَ؛ ترغيبًا في التوبةِ، طَمَعًا في مِثلِ حالِهم ، فقال:

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ.

أي: وأمَّا المؤمِنونَ والمؤمناتُ فبَعضُهم أنصارُ بعضٍ، متحابُّونَ في اللهِ، مُتعاطِفونَ، غيرُ مُتفَرِّقينَ .

عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المؤمِنُ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ؛ يشُدُّ بعضُه بعضًا )) .

وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثَلُ الجَسَدِ؛ إذا اشتكى منه عُضوٌ تداعى له سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى )) .

ثمَّ بيَّن أوصافَهم الحميدةَ، كما بيَّن أوصافَ مَن قبلَهم مِن المنافقينَ، فقال :

يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ.

أي: المؤمنونَ والمؤمِناتُ يأمُرونَ النَّاسَ بكُلِّ خَيرٍ يُحبُّه اللهُ، مِن الإيمانِ والعَملِ الصَّالحِ، ويَنهونَهم عن كلِّ شَرٍّ يُبغِضُه اللهُ، مِن الكُفرِ والشِّركِ والمعاصي .

كما قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104] .

وقال سبحانه: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 112] .

وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ.

أي: ويؤدُّونَ الصَّلواتِ المفروضةَ بِشُروطِها وأركانِها وواجباتِها، ويُعطونَ زكاةَ أموالِهم لِمُستحِقِّيها .

وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ.

أي: ويُلازِمونَ طاعةَ اللهِ تعالى فيما أمَرَهم به أو نهاهم عنه، ويُلازِمونَ طاعةَ رَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما أمَرَهم به، أو نهاهم عنه .

أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ.

أي: هؤلاءِ الذينَ هذه صفتُهم سيرحَمُهم اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ .

إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

أي: إنَّ الله تعالى ذو عزَّةٍ، فمن أطاعه أعَزَّه، ومن عَصاه وكفَرَ به فإنَّه ينتقِمُ منه، لا يمنَعُه منه مانِعٌ، ولا ينصُرُه منه ناصِرٌ، فهو قَوِيٌّ قاهِرٌ، حكيمٌ في انتقامِه منهم، وفي جميعِ ما يفعَلُه، فيضَعُ كُلَّ شَيءٍ في موضِعِه اللَّائقِ به .

وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الوَعدَ في الآيةِ الأُولَى على سبيلِ الإجمالِ؛ ذكَرَه في هذه الآيةِ على سبيلِ التَّفصيلِ؛ وذلك لأنَّه تعالى وعَدَ بالرَّحمةِ، ثمَّ بَيَّن في هذه الآيةِ أنَّ تلك الرحمةَ هي هذه الأشياءُ .

وأيضًا لَمَّا أعقَبَ المُنافِقينَ بذِكرِ ما وعَدَهم به من نارِ جهنَّمَ، أعقَبَ المؤمنينَ بذِكرِ ما وعَدَهم به من نعيمِ الجِنانِ .

وأيضًا لما ذكَرَ الله تعالى كَونَ المُؤمِنينَ مَوصوفينَ بصِفاتِ الخَيرِ، وأعمالِ البِرِّ؛ ذكَرَ بَعدَه أنواعَ ما أعَدَّ الله لهم من الثَّوابِ الدَّائمِ، والنَّعيمِ المُقيمِ .

وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا.

أي: وعَدَ اللهُ المُؤمِنينَ والمؤمِناتِ بَساتينَ تجري من تحتِ أشجارِها أنهارُ الجنَّةِ، ماكثينَ فيها أبدًا .

كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء: 57] .

وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ.

أي: ووعَد اللهُ المؤمنينَ والمؤمِناتِ أن يُسْكِنَهم منازِلَ حَسَنةً، لا عَيبَ فيها ، مبنيَّةً في بساتينِ إقامةٍ دائمةٍ، لا يُخرَجونَ منها .

عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((جنَّتانِ مِن فِضَّةٍ آنيَتُهما وما فيهما، وجنَّتانِ مِن ذَهَبٍ آنيتُهما وما فيهما، وما بين القَومِ وبين أن ينظُروا إلى ربِّهم إلَّا رِداءُ الكِبرِ على وَجهِه، في جنَّةِ عَدْنٍ )) .

وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ للمُؤمِنِ في الجنَّةِ لَخَيمةً مِن لؤلؤةٍ واحدةٍ مُجَوَّفةٍ، طُولها سِتُّون مِيلًا، للمُؤمِنِ فيها أهلُونَ، يطوفُ عليهم المؤمِنُ، فلا يرى بعضُهم بعضًا )) .

وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ.

أي: ورضا الله تعالى عن المؤمِنينَ والمؤمناتِ أعظمُ وأفضَلُ ممَّا هم فيه مِن نَعيمِ الجنَّةِ .

عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيقولون: لبَّيك ربنا وسَعدَيك، والخَيرُ في يَدَيك، فيقولُ: هل رَضِيتُم؟ فيقولونَ: وما لنا لا نرضَى يا رَبِّ، وقد أعطَيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا مِن خَلْقِك؟! فيقولُ: ألَا أعطِيكم أفضَلَ مِن ذلك؟ فيقولونَ: يا ربِّ، وأيُّ شَيءٍ أفضَلُ من ذلك؟! فيقولُ: أُحِلُّ عليكم رِضواني، فلا أسخَطُ عليكم بعده أبدًا )) .

وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا دخلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، يقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: هل تَشتَهونَ شَيئًا فأزيدَكم؟ فيقولونَ: ربَّنا، وما فوقَ ما أعطيتَنا؟! يقول: رِضواني أكبَرُ )) .

ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

أي: ما وعدَ اللهُ تعالى به المؤمنينَ والمُؤمِناتِ مِن النَّعيمِ والرِّضوانِ في الآخرةِ، هو النَّجاةُ العظيمةُ، والظَّفَر الكبيرُ الذي لا أكبَرَ ولا أعظَمَ منه

 

.

كما قال تعالى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة: 119] .

وقال عزَّ وجلَّ: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد: 12] .

وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة: 7-8] .

الفوائد التربوية:

 

1- دلَّ قولُه تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ أنَّ المؤمنَ يحبُّ المؤمنَ، وينصُرُه بظَهرِ الغَيبِ، وإنْ تناءَت بهم الدِّيارُ، وتباعدَ الزَّمانُ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هذه الأمورُ الخَمسةُ بها يتميَّزُ المؤمِنُ مِن المنافِقِ، فالمنافِقُ- على ما وصَفَه اللهُ تعالى في الآيةِ المتقَدِّمة- يأمرُ بالمنكَرِ، وينهى عن المعروفِ، والمؤمِنُ بالضِّدِّ منه. والمنافِقُ لا يقومُ إلى الصَّلاةِ إلَّا مع نوعٍ مِن الكسَلِ، والمؤمِنُ بالضِّدِّ منه. والمنافِقُ يبخَلُ بالزكاة وسائِرِ الواجباتِ، والمؤمنونَ يُؤتونَ الزَّكاةَ. والمنافِقُ إذا أمَرَه الله ورسولُه بالمسارعةِ إلى الجهادِ، فإنَّه يتخلَّفُ بنَفسِه، ويثَبِّطُ غَيرَه، والمؤمنونَ بالضدِّ منهم .

3- في قولِه تعالى: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ دلالةٌ على أنَّ دخولَ المؤمنين الجنةَ إنَّما هو برحمتِه سبحانه لا بأعمالِهم؛ لأنَّه- تبارك وتعالى- بعدَ ما وصفَهم به مِن كثرةِ الأعمالِ، وَعَدَهم الرحمةَ قبلَ الجنةِ، حتى يكونَ دخولُهم إيَّاها برحمتِه لا بأعمالِهم؛ إِذْ أعمالُهم لو قِيْسَتْ ببعضِ النِّعَمِ لاستفرغَتْها؛ فلا يحصلُ لهم إلَّا رحمتُه، فلمَّا تغمدتْهم وأدخلَتْهم دارَ كرامتِه؛ عَطَفَ عليهم بفضلٍ جديدٍ، ونعمةٍ مثناةٍ .

4- اللهُ تعالى جعلَ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ، فَرْقَ ما بين المؤمِنينَ والمُنافِقينَ؛ لأنَّه قال: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة: 67] وقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فثَبَت بذلك أنَّ أخَصَّ أوصافِ المُؤمِنينَ وأقواها دَلالةً على صِحَّةِ عَقْدِهم، وسلامةِ سَريرتِهم، هو الأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المُنكَر، وهاتان الصِّفتانِ هما سِياجُ حِفظِ الفَضائِلِ، ومَنعِ فشُوِّ الرذائلِ، وقد فضَّلَ الله تعالى بهما أمَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على سائرِ الأمَمِ في قَولِه تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] .

5- قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ هؤلاء الآمِرونَ بالمَعروفِ، والنَّاهونَ عن المُنكَرِ أطبَّاءُ الأديانِ، الذين تشفَى بهم القلوبُ المريضةُ، وتهتدي بهم القُلوبُ الضالَّةُ، وتَرشُدُ بهم القلوبُ الغاويةُ، وتستقيمُ بهم القُلوبُ الزائغةُ، وهم أعلامُ الهدى ومصابيحُ الدُّجى .

6- قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ مَنْ كان مُؤْمِنًا وجَبَتْ مُوالاتُه مِن أيِّ صِنْفٍ كان، ومَنْ كان كافِرًا وَجَبَتْ مُعاداتُه مِن أيِّ صِنْفٍ كان، ومَن كان فيه إيمانٌ وفيه فجورٌ، أُعطِيَ مِن المُوالاةِ بحسَبِ إيمانِه، ومِن البُغضِ بحسَبِ فُجورِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ في هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ وظيفةَ الأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ ليست خاصةً بالرِّجالِ، بل حتى النِّساءُ عليهنَّ أن يأمُرنَ بالمعروفِ، ويَنهَينَ عن المُنكَر، ليس في مجامِعِ الرِّجالِ، وفي أسواقِ الرِّجالِ، لكنْ في حقولِ النِّساءِ، ومُجتَمَعاتِ النِّساءِ

.

2- قَولُه تبارك وتعالى: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: في سائِرِ الأمورِ، في مُقابلةِ وَصْفِ المنافقينَ بكَمالِ الفِسقِ، والخُروجِ عن الطَّاعةِ .

3- لا يُشرَعُ اجتماعُ طائفةٍ وتحزُّبُهم على التَّناصُرِ المُطلَق، بحيث ينصُرُ بعضُهم بعضًا في الحقِّ والباطلِ، بل الواجبُ على كلِّ أحدٍ اتِّباعُ كتابِ الله وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمؤمنونَ إخوةٌ يجِبُ موالاةُ بعضِهم بعضًا وتناصرُهم، وتعاونُهم على البِرِّ والتَّقوى، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ الآيةُ نَصٌّ في مساواةِ النِّساءِ للرِّجالِ في نعيمِ الآخرةِ كُلِّه حتى أعلاه، بالتَّبَعِ؛ لِمُساهَمتِهنَّ لهم في التَّكليفِ ووَلايةِ الإيمان، إلَّا ما خَصَّهنَّ الشَّرعُ به لِضَعفِهنَّ، وانفِرادِهنَّ بوظائفِهنَّ الخاصَّةِ بهنَّ؛ إذ حَطَّ عنهنَّ وُجوبَ القتالِ، والصَّلاةَ والصِّيامَ في بعضِ الأحوالِ، وهذا من المعلومِ بالضَّرورةِ مِن أحكامِ الإسلام، وإنْ جَهِلَه أو تجاهَلَه أعداؤُه الطَّغام .

5- رِضا اللهِ عن العبدِ أكبَرُ مِن الجنَّةِ وما فيها؛ لأنَّ الرِّضا صفةُ اللهِ، والجنَّةُ خَلْقُه؛ قال الله تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ بعد قولِه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وهذا الرِّضا جزاءٌ على رِضاهم عنه في الدُّنيا، ولَمَّا كان هذا الجزاءُ أفضَلَ الجزاءِ، كان سبَبُه أفضَلَ الأعمالِ .

6- قال الله تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ قولُه: أَكْبَرُ تفضيلٌ لم يُذكَرْ معه المفضَّلُ عليه؛ لظهورِه مِن المقامِ، أي: أكبَرُ مِن الجنَّاتِ؛ لأنَّ رِضوانَ الله أصلٌ لجميعِ الخَيراتِ، وفيه دليلٌ على أنَّ السَّعاداتِ الرُّوحانيَّةَ أعلى وأشرَفُ مِن الجُثمانيَّة

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

قولُه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ عَبَّر عَنْ نِسبةِ المؤمنينَ بعْضِهم إلى بعضٍ بالوَلايةِ، وعن نِسْبةِ المُنافِقينَ بـمِنْ الاتِّصاليَّةِ؛ للإيذانِ بأنَّ نِسْبةَ هؤلاءِ-أي: المُؤمنِينَ- بطَريقِ القَرابةِ الدِّينيَّةِ، المبنيَّةِ على المُعاقَدةِ، المُسْتتبِعَةِ للآثارِ مِنَ المعونةِ والنُّصْرةِ وغيرِ ذلك، وأنَّ نِسْبةَ أولئكَ-أي: المُنافِقينَ- بمُقْتضَى الطَّبيعةِ والعادةِ

؛ فقولُه في المُؤمنِينَ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ مُقابِلُ قولِه في الْمُنَافِقِينَ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وعَبَّرَ في جانِبِ المؤمنينَ والمؤمناتِ بأنَّهُمْ أولياءُ بَعْضٍ؛ للإشارةِ إلى أنَّ اللُّحْمةَ الجامعةَ بَيْنَهُمْ هي وَلايةُ الإسلامِ؛ فهم فيها على السَّواءِ، ليس واحدٌ مِنْهم مُقلِّدًا للآخَرِ، ولا تابعًا له على غيرِ بصيرةٍ؛ لِما في مَعْنى الوَلايةِ مِنَ الإشعارِ بالإخلاصِ والتَّناصُرِ، بخِلافِ المنافقينَ، فكأنَّ بَعْضَهم ناشئٌ مِنْ بَعْضٍ في مَذامِّهِم .

قولُه: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَمَّا وَصَفَ المؤمنينَ بقولِه: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ذَكَرَ بَعْدَه ما يجرِي كالتَّفسيرِ والشَّرْحِ له، وهي الخَمسةُ التي يُميَّزُ بها المؤمِنُ على المنافِقِ؛ فالمُنافِقُ يَأْمُرُ بالمُنْكَرِ، ويَنْهَى عَنِ المعروفِ، ولا يَقومُ إلى الصَّلاةِ إلَّا وهو كَسْلانُ، ويَبْخَلُ بالزَّكاةِ، ويَتخلَّفُ بنَفْسِهِ عَنِ الجِهادِ، وإذا أمَرَه اللهُ تَثبَّطَ وثَبَّطَ غيرَه، والمؤمنُ بضِدِّ ذلك كُلِّه .

وزِيدَ في وَصْفِ المؤمنينَ هُنا: وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ تَنويهًا بأنَّ الصَّلاةَ هي أعظمُ المعروفِ ، ومُقابلةً لِمَا سَبَقَ مِنْ قولِهِ تَعالى: نَسُوا اللَّهَ .

قال اللهُ تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ خصَّصَ إقامةَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ بالذِّكرِ مِن جملةِ العباداتِ؛ لِكَونِهما الرُّكنَينِ العَظيمَينِ فيما يتعلَّقُ بالأبدانِ والأموالِ .

قولُه: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ فيه الإتيانُ بالسِّينِ التي تَدُلُّ على اسْتِقبالِ الفِعْلِ؛ لأنَّ الرَّحْمةَ هنا عِبارةٌ عمَّا يَترتَّبُ على تِلْكَ الأعمالِ الصَّالِحةِ مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ في الآخِرةِ ، وهذه السِّينُ تفيدُ تَأكيدَ حُصولِ الرَّحمةِ في المُسْتَقْبَلِ؛ فحَرْفُ الاسْتِقبالِ يُفيدُ مَعَ المُضارِعِ ما تُفيدُ (قَدْ) مَعَ الماضي .

واسْمُ الإشارةِ أُولئِكَ للدَّلالةِ على أنَّ ما سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الإشارةِ صاروا أَحْرياءَ به مِنْ أجْلِ الأوصافِ المذكورةِ قَبْلَ اسْمِ الإشارةِ .

وجُملةُ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تعليلٌ لجُمْلةِ: سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ، أي: إنَّهُ تعالى لِعزَّتِهِ يَنْفَعُ أولياءَه، وإنَّهُ لِحَكْمتِه يَضَعُ الجزاءَ لِمُسْتَحِقِّه . وقيل: هي تَعليلٌ للوَعْدِ اللَّاحِقَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ... .

وقيل: لأنَّه لا يرحمُ إلا مَن ليس فوقَه أحدُ يردُّ عليه حُكمَه، وهو العزيزُ؛ لأنَّ العزيزَ في صفاتِ الله هو الغالبُ، ووصف بالحكيم أيضًا؛ لأنَّ الحكيمَ مَن يضعُ الشيءَ في محلِّه، فالله تعالى كذلك، إلَّا أنَّه قد يُخفي وجهَ الحكمةِ في بعضِ أفعالِه، فيتوهمُ الضعفاءُ أنَّه خارجٌ عن الحكمةِ، فكان في الوصفِ بالحكيمِ احتراسٌ حسنٌ .

وقيل: ختَم الآيةَ بوصفِ العزةِ والحكمةِ؛ ليناسبَ افتتاحَها بالموالاةِ، وتعقيبَها بآيةِ الجهادِ .

وقيل: إنَّ قولَه: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يوجبُ المبالغةَ في الترغيبِ والترهيبِ؛ لأنَّه عزيزٌ لا يمنعُ مِن مرادِه في عبادِه مِن رحمةٍ أو عقوبةٍ، وحكيمٌ يدبرُ أمرَ عبادِه على ما يقتضيه العدلُ والصوابُ .

ولولا أنَّ الوعدَ هنا للمُقابلةِ بالوعيدِ الَّذي قبلَه، لكانَ المناسِبُ أنْ يُقالَ: (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .

2- قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

قولُه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ تَفصيلٌ لآثارِ رَحْمتِهِ الأخرويَّةِ إِثْرَ ذِكْرِ رَحْمتِهِ الدُّنيويَّةِ، وفيه إظهارٌ في مَوقِعِ الإضمارِ- حيثُ لم يَقُلْ: وَعَدَهم اللهُ-؛ لزِيادةِ التَّقريرِ، والإشعارِ بعِلِّيَّةِ وَصْفِ الإيمانِ لحُصولِ ما تَعلَّقَ به الوَعْدُ، وعَدَمُ التَّعرُّضِ لذِكْرِ ما مَرَّ مِن الأمرِ بالمعروفِ وغيرِ ذلك؛ للإيذانِ بأنَّهُ مِنْ لوازِمِه ومُسْتَتْبعاتِه .

قولُه: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ..... ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فيه تفصيلٌ للوعدِ الإجماليِّ الذي في قولِه: سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ؛ تَنْبيهًا على أنَّ تِلْكَ الرَّحْمةَ هي هذه الأشياءُ .

قولُه: وَرِضْوانٌ مُنَكَّرٌ للتَّنويعِ، يَدُلُّ على جِنْسِ الرِّضوانِ، وإنَّما لَمْ يُقْرَنْ بلامِ تَعريفِ الجِنْسِ؛ ليُتوسَّلَ بالتَّنكيرِ إلى الإشعارِ بالتَّعظيمِ؛ فإنَّ رِضوانَ اللهِ تعالى عظيمٌ ، وتأمَّلْ كيف جاء بالرِّضوانِ مُبتدأً مُنكَّرًا في سِياقِ الإثباتِ، مُخبَرًا عنه بأنَّه أكبَرُ مِن كُلِّ ما وُعِدوا به فأيُّ شَيءٍ كان مِن رضاه عن عَبدِه، وأيسَرُ شَيءٍ مِن رضوانِه؛ أكبَرُ مِن الجنَّاتِ وما فيها مِن المساكِنِ الطَّيِّبةِ وما حَوَتْه ، وعَدَمُ نَظْمِه في سِلكِ الوَعْدِ مع عِزَّتِه في نَفْسِه؛ لأنَّه مُتحقِّقٌ في ضِمْنِ كُلِّ موعودٍ، ولأنَّه مُسْتَمِرٌّ في الدَّارينِ .

قولُه: ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فيه التعبيرُ باسْمِ الإشارةِ ذَلِكَ وما فيه مِنْ معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ ببُعْدِ دَرَجتِهِ في العِظَمِ والفخامةِ .

وفيه التأكيدُ بضميرِ الفَصلِ هُوَ وبالجملةِ الاسميَّةِ، والوصفِ بـ العَظِيمُ المفيدِ للأهميَّة، وكذلك أُتِي بضمير الفصل هُوَ لتخصيصِ الفوزِ بالفضلِ المشارِ إليه، وهو قصرٌ لإفادةِ معنى الكمالِ، كأنَّه لا فوزَ غَيرُه ، ودخولُ ضميرِ الفصلِ هُوَ أيضًا فيه تَنْبِيهٌ على عِظَمِ شَأنِ الْمَذْكُورِ .

======

 

سورةُ التَّوبةِ

الآيتان (73-74)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ

غريب الكلمات:

 

وَاغْلُظْ: أي: اشْدُدْ، وأصلُ (غلظ): يدلُّ على ضِدِّ الرِّقَّةِ

.

ومَأْوَاهُمُ: أي: ومصيرُهم، ومثواهم ومقامُهم، ومسكنُهم ومكثُهم، أو مرجعُهم الذي يَعُودون إليه، والمَأْوى: مَكَانُ كلِّ شَيْءٍ ومرجعُه الَّذي يعودُ إليه ليلًا أو نهارًا؛ يُقال: أَوَى إلى كذا، أي: انضمَّ إليه، وأصْلُه: التَّجمُّع .

نَقَمُوا: أي: كَرِهوا وأنكَروا، وأصلُ (نقم): يدلُّ على إنكارِ شَيءٍ وعَيبِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمُرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يجاهِدَ الكفَّارَ والمُنافِقينَ، وأن يَشدُدَ عليهم بالقَولِ والفِعلِ، ومصيرُهم في الآخرةِ نارُ جهنَّم، وبِئس المكانُ الذي صاروا إليه.

ويخبِرُ تعالى أنَّ المُنافِقينَ يَحلِفونَ باللهِ كَذِبًا على أنَّهم لم يتفوَّهوا بكلمةِ الكُفرِ، ولم يَقولوها، ولقد قالوها، وكَفَروا بعد إسلامِهم، وهمُّوا بما لم يستطيعوا الوصولَ إليه، وما عابُوا وما أنكَروا إلَّا أنْ أغناهم اللهُ ورسولُه مِن فَضلِه، فإن يتوبوا من نفاقِهم وكُفرِهم، يكُن ذلك خيرًا لهم، وإن يُعرِضوا عن الإيمانِ والتَّوبةِ يُعذِّبْهم اللهُ عذابًا مُوجِعًا في الدُّنيا والآخرةِ، وما لهم من وليٍّ يُحصِّلُ لهم الخيرَ، ولا نصيرٍ يدفَعُ عنهم الشرَّ.

تفسير الآيتين:

 

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ثبَتَت مُوالاةُ المُؤمِنينَ ومُقاطَعتُهم للمُنافِقينَ والكافرينَ، وكان ما مضى من التَّرغيبِ والتَّرهيبِ كافيًا في الإنابةِ، وكان مَن لم يرجِعْ بذلك عظيمَ الطُّغيانِ، غَريقًا في الكُفرانِ- أتبَعَ ذلك الأمرَ بجِهادِهم بما يليقُ بعِنادِهم

.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ.

أي: يا أيُّها النبيُّ جاهدِ الكُفَّارَ المُحاربينَ، بالسِّلاحِ، وجاهِدْ غيرَ المحاربينَ مِنهم بالحُجَّةِ، وجاهِدِ المنافقينَ بالسِّلاحِ إنْ أظهَروا نفاقَهم، وبالحُجَّةِ لِرَدِّ شُبُهاتِهم، وبإقامةِ الحُدودِ على من يقَعُ فيها منهم .

كما قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 193] .

وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ [الأنفال: 65] .

وقال عز وجل: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52] .

وقال تبارك وتعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب: 60-61] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما مِن نبيٍّ بعَثَه اللهُ في أمَّةٍ قبلي إلَّا كان له مِن أمَّتِه حواريُّونَ وأصحابٌ، يأخُذونَ بسُنَّتِه، ويَقتَدونَ بأمْرِه، ثمَّ إنَّها تَخلُفُ مِن بعدِهم خُلوفٌ ، يقولونَ ما لا يَفعلونَ، ويَفعلونَ ما لا يُؤمَرونَ، فمن جاهَدَهم بِيَدِه فهو مؤمِنٌ، ومن جاهَدَهم بلسانِه فهو مؤمِنٌ، ومن جاهَدَهم بقَلبِه فهو مُؤمِنٌ، وليس وراءَ ذلك من الإيمانِ حَبَّةُ خَردلٍ )) .

وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.

أي: واشدُدْ- يا محمَّدُ- بالقَولِ والفِعلِ على الكفَّارِ والمُنافِقينَ .

كما قال تعالى: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4] .

وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ يهوديًّا رضَّ رأسَ جاريةٍ بين حَجَرين،ِ فقيل لها: مَن فعلَ بك هذا؟ أفلانٌ أو فلانٌ، حتى سُمِّيَ اليهوديُّ، فأُتيَ به النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يزَلْ به حتى أقَرَّ به، فرَضَّ رأسَه بالحِجارةِ)) .

وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قَدِمَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نفَرٌ مِن عُكْلٍ، فأسلَموا، فاجتَوَوُا المدينةَ ، فأمَرَهم أن يأتوا إبِلَ الصَّدَقةِ، فيَشرَبوا مِن أبوالِها وألبانِها، ففَعَلوا فصَحُّوا، فارتَدُّوا وقَتَلوا رُعاتَها، واسْتاقُوا الإبِلَ، فبعَثَ في آثارِهم، فأُتيَ بهم، فقطَعَ أيديَهم وأرجُلَهم، وسَمَلَ أعيُنَهم ، ثمَّ لم يَحسِمْهم حتى ماتوا )) .

وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

مناسبتُها لما قبلَها:

لَمَّا ذكر اللهُ تعالى عذابَهم في الدُّنيا بالجهادِ والغِلظةِ؛ ذكَرَ عذابَهم في الآخرةِ، فقال :

وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

أي: ومَقَرُّ الكفَّارِ والمُنافِقينَ في الآخرةِ نارُ جهنَّمَ لا يَخرُجونَ منها، وبِئسَ المكانُ الذي صاروا إليه .

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 66] .

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74).

مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذه الآيةَ بيانٌ للسَّبَبِ المقتَضي لجهادِ المُنافِقينَ كالكُفَّار، وهو أنَّهم أظهَروا الكُفرَ بالقَولِ، وهمُّوا بشَرِّ ما يُغري به مِن الفِعلِ، وهو الفَتكُ برَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

وأيضًا لَمَّا كان معظَمُ ما أُخِذَ على المُنافِقينَ هو كَلِماتٍ دالَّةً على الطَّعنِ في الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونحو ذلك من دلائِلِ الكُفرِ، وكانوا إذا نُقِلَ ذلك عنهم تنصَّلوا منه بالأيمانِ الكاذبةِ- عُقِّبَت آيةُ الأمرِ بجِهادِهم بالتَّنبيهِ على أنَّ ما يتنَصَّلونَ به تَنصُّلٌ كاذِبٌ، وأنْ لا ثِقةَ بحَلِفِهم، وعلى إثباتِ أنَّهم قالوا ما هو صريحٌ في كُفرِهم .

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ.

أي: يحلِفُ المنافِقونَ بالله كَذِبًا على أنَّهم لم يتفوَّهوا بكَلِمةِ الكُفرِ، كسَبِّ النبيِّ، والطَّعنِ في الدِّينِ، ولقَدْ نطَقوا بكلمةِ الكُفرِ التي يُنكِرونَ قَولَها .

عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ظِلِّ حُجرةٍ مِن حُجَرِه وعنده نفَرٌ من المسلمين، قد كاد يَقلِصُ عنهم الظِّلُّ، فقال: إنَّه سيأتيكم إنسانٌ ينظُرُ إليكم بِعَينَي شَيطانٍ، فإذا أتاكم فلا تكَلِّموه، فجاء رجلٌ أزرَقُ، فدعاه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكلَّمَه، قال: علامَ تَشتِمني أنت وفلانٌ وفلانٌ- نفَرٌ دعاهم بأسمائِهم- قال: فذهَبَ الرَّجُلُ فدعاهم فحَلَفوا بالله واعتَذَروا إليه، قال: فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [المجادلة: 18] )) .

وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ.

أي: وأظهَرَ المُنافِقونَ كُفرَهم بما قالوه من الكُفرِ، بعد أن كانوا يُظهِرونَ الإسلامَ .

وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ.

أي: وهمَّ المُنافِقونَ أن يفعلوا من الشَّرِّ والفَتْكِ برَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين رجَعَ مِن غزوةِ تَبوكَ، ما لم يستطيعوا الوصولَ إليه؛ إذ عصَمَه اللهُ تعالى منهم .

وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ.

أي: والحالُ أنَّ المُنافِقينَ ما عابُوا وما أنكَرُوا إلَّا ما هو جديرٌ حقًّا بالمَدحِ والشُّكرِ والثَّناءِ، وهو إغناءُ اللهِ لهم مِن فَضلِه بسبَبِ رَسولِه، وبركةِ رسالَتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد أن كانوا فُقَراءَ !

عن عبدِ اللهِ بنِ زَيدِ بنِ عاصمٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((لَمَّا أفاء اللهُ على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ حُنَينٍ، قسَمَ في النَّاسِ؛ في المؤلَّفةِ قُلوبُهم، ولم يُعطِ الأنصارَ شَيئًا، فكأنَّهم وجَدوا إذ لم يُصِبْهم ما أصابَ النَّاس، فخَطَبَهم فقال: يا معشَرَ الأنصارِ، ألَمْ أجِدْكم ضُلَّالًا فهداكم اللهُ بي، وكُنتُم متفرِّقينَ فألَّفَكم اللهُ بي، وعالةً فأغناكم اللهُ بي؟! )) .

فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ.

أي: فإن يتُبِ المُنافِقونَ مِن نِفاقِهم وكُفرِهم، يكُنْ رُجوعُهم إلى الحَقِّ خَيرًا لهم في دينِهم ودُنياهم وآخِرتِهم .

كما قال تعالى: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد: 21] .

وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

أي: وإن يُعرِضِ المُنافِقونَ عن الإيمانِ والتَّوبةِ، ويستَمِرُّوا على النِّفاقِ؛ يعذِّبْهم اللهُ عذابًا مُؤلِمًا في الدُّنيا- بالهَمِّ والحُزنِ والخِزيِ، وبالقَتلِ إن أظهَروا نِفاقَهم- ويُعَذِّبْهم في الآخرةِ بعذابِ النَّارِ .

وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ.

أي: وما للمُنافِقينَ في الأرضِ كُلِّها أيُّ ولِيٍّ يتولَّاهم، ويُحصِّلُ لهم الخيرَ، ولا أيُّ نَصيرٍ ينصُرُهم ويدفَعُ عنهم الشَّرَّ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- كلُّ من وُقِفَ منه على فسادٍ في العقائدِ، فحُكمُه أن يُجاهَدَ بالحُجَّةِ، ويُستعمَلَ معه الغِلَظُ ما أمكَنَ؛ نَستفيدُ ذلك مِن قَولِ الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ

[التوبة: 73] .

2- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فالحجَّةُ على المنافِقِ جِهادٌ لهم، وعلى هذا، فالاحتجاجُ على المُنافِقينَ والمُلحِدينَ، والرَّادِّينَ للكِتابِ والسنَّةِ، والمُخالفينَ لهما؛ من الجِهادِ .

3- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ جِهادُ المنافقينَ أصعَبُ مِن جهادِ الكفَّارِ، وهو جهادُ خواصِّ الأمَّةِ، ووَرَثةِ الرُّسُلِ، والقائِمونَ به أفرادٌ في العالَم، والمُشارِكونَ فيه والمُعاونون عليه، وإن كانوا هم الأقلِّينَ عددًا، فهم الأعظَمونَ عند اللهِ قَدْرًا .

4- قَولُه تعالى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ هذه الغِلْظةُ الإراديَّةُ (أي غيرُ الطَّبيعيَّةِ) تربيةٌ للمُنافِقينَ وعقوبةٌ، يُرجى أن تكونَ سببًا لهدايةِ مَن لم يُطبَعِ الكُفرُ على قَلبِه، وتُحِطْ به خطايا نفاقِه .

5- التوبةُ أصلٌ لسَعادةِ الدُّنيا والآخرةِ؛ قال اللهُ تعالى: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ .

6- مَن خذَلَه اللهُ تعالى وآذَنَه بحَربٍ منه، لا يَقدِر أحَدٌ أن يُجيرَه منه؛ يُبيِّنُ ذلك قَولُه تعالى: وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ قرَنَ المُنافقينَ هنا بالكُفَّار؛ تنبيهًا على أنَّ سبَبَ الأمرِ بجِهادِ الكُفَّارِ قد تحقَّقَ في المُنافِقينَ، فجِهادُهم كجِهادِ الكفَّارِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ استدَلَّ به من قال بقَتلِ المُنافِقينَ .

3- قَولُ الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا أي: ما وقَعَ منهم قَولٌ، فقصَرَ الفِعلَ تَعميمًا للمَفعول؛ِ إعلامًا بأنَّهم مهما عُنِّفُوا على قولٍ كائنًا ما كان، بادَرُوا إلى الحَلِف على نَفيِه كذِبًا؛ لأنَّهم مَرَدوا على النِّفاقِ، فتطَبَّعوا بأعلى الكَذِبِ .

4- قَولُ الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ فيه أنَّ الاستهزاءَ بآياتِ اللهِ كُفرٌ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ التكفيرَ يقَعُ بما يدُلُّ على الكُفرِ مِن قائِلِه أو فاعِلِه، دَلالةً بيِّنةً، وإنْ لم يكُن أعلَنَ الكُفرَ .

6- قَولُه تعالى: وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ فقال: بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ ولم يقُل: (بعد إيمانهم) لأنَّ ذلك لم يتجاوَزْ ألسِنَتَهم .

7- قيل للبَجليِّ : أتجِدُ في كتابِ اللهِ تعالى (اتَّقِ شَرَّ مَن أحسَنْتَ إليه؟) قال نعم: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ .

8- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ عُطِفَ الرَّسولُ على اسمِ الجلالةِ في فِعلِ الإغناءِ؛ لأنَّه السَّببُ الظَّاهِرُ المُباشِرُ .

9- قَولُ الله تعالى: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فيه دليلٌ على قَبولِ تَوبةِ الزِّنديقِ المُسِرِّ للكُفرِ المُظهِر للإيمانِ ، وقَبولِ تَوبةِ مَن كفَرَ بعد إسلامِه

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

قولُه: وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جُمْلةٌ مُسْتأنَفةٌ لبيانِ آجِلِ أَمْرِهم إِثْرَ بيانِ عاجِلِه

.

وقولُه: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تذييلٌ لِمَا قَبْلَه .

2- قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ اسْتِئنافٌ لبيانِ ما صَدَرَ عنهم مِنَ الجرائمِ المُوجِبةِ لِمَّا مَرَّ مِنَ الأمرِ بالجِهادِ والغِلْظةِ عليهم، ودُخولِ جَهنَّمَ .

وإيثارُ صيغةِ الاسْتِقبالِ يَحْلِفُونَ؛ لاسْتِحضارِ الصُّورةِ، أو للدَّلالةِ على تَكريرِ الحَلِفَ، وإيثارُ صِيغةِ الجَمْعِ في قَالُوا مَعَ أنَّ القائلَ هو بعضُهم؛ للإيذانِ بأنَّ بَقِيَّتَهم برِضاهُم صَارُوا بمَنْزلةِ القائلِ .

وأكَّدَ صُدورَ كَلِمةِ الكُفْرِ منهم بصِيغةِ القَسَمِ وَلَقَدْ قَالُوا في مُقابَلةِ تأكيدِهم نَفْيَ صُدورِها؛ ليكونَ تَكذيبُ قولِهم مُساويًا لقولِهم في التَّأكيدِ .

قولُه: إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ اسْتِثناءٌ تَهكُّميٌّ، وهو مِنْ تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّهُ، ونُكْتَتُه أنَّ المُتكلِّمَ يَظْهَرُ كأنَّه يَبْحَثُ عَنْ شيءٍ يَنْقُضُ حُكْمَه الخَبَريَّ ونَحْوَه، فيَذْكُرُ شيئًا هو مِنْ مؤكِّدات الحُكْمِ؛ للإشارةِ إلى أنَّه اسْتَقصى فلم يَجِدْ ما يَنْقُضُه .

قولُه: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ ... فيه مجِيءُ الفِعْلِ يَكُ في جَوابِ الشَّرطِ دَونَ أنْ يُقالَ: (فإنْ يَتوبوا فهو خَيرٌ لَهُمْ)؛ لتَأكيدِ وقوعِ الخيرِ عِنْدَ التَّوبةِ، والإيماءِ إلى أنَّه لا يَحْصُلُ الخيرُ إلَّا عِنْدَ التَّوبةِ؛ لأنَّ فِعْلَ التَّكوينِ مُؤذِنٌ بذلك .

وقَولُ اللهِ تعالى: وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ خصَّصَ الأرضَ بالذِّكرِ، مع أنَّهم لا ولِيَّ لهم في الأرضِ ولا في السَّماءِ، ولا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ؛ لأنَّهم لَمَّا كانوا لا يعتَقِدونَ الوحدانيَّةَ، ولا يصَدِّقونَ بالآخرةِ، كان اعتقادُهم وجودَ الوَليِّ والنَّصيرِ مقصورًا على الدُّنيا، فعبَّرَ عنها بـ فِي الْأَرْضِ، أو أراد بالأرضِ أرضَ الدُّنيا والآخرةِ .

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...