شرح المطلع على متن إيساغوجي
شرح المطلع على متن إيساغوجي
شرح المطلع على متن إيساغوجي -1-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -2-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -3-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -4-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -5-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -6-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -7-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -8-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -9-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -10-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -11-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -12-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -13-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -14-
شرح المطلع على متن إيساغوجي -15-
==============
شرح المطلع على متن إيساغوجي
ـ[شرح المطلع على متن إيساغوجي]ـ
المؤلف: أحمد بن عمر الحازمي
مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشيخ الحازمي
http://alhazme.net
[ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 15 درسا]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ:
فنشرُع في هذه الليلة: ليلة الأحد العاشر من شهر ربيع الأول من عام 1432هـ في شرح كتابٍ يتعلق بعلم المنطق.
وعلم المنطق يُعدُّ عند بعض أهل العلم من علوم الآلة، وإن لم يكن آلةً مباشرة للكتاب والسنة، كما هو الشأن في علم اللغة العربية أو علم أصول الفقه أنه علمٌ يُعتبرا علمي آلة، لكنهما مباشرة يعني: يعتمد فهم الكتاب والسنة على علوم اللغة مباشرة، ويعتمد الاستنباط من الكتاب والسنة على أصول الفقه مباشرة.
وأما فن المنطق كما هو معلوم فيه شيءٌ من الخلاف من حيث الجواز وعدمُه، من حيث الإقبال عليه وتركُه. إلا أنه لو لم يُترجم -كما سيأتي في كلام الشيخ الأمين رحمه الله تعالى- لكان المسلمون في غُنيةٍ عنه، ولكن احتاجه أهل العلم في بيان بعض المصطلحات التي دخلت علوم الآلة أو علوم الشريعة.
وكذلك فيما اعتمد عليه المخالفون، وهذا أهم من الأول؛ لأن المخالفين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتردية وغيرهم الذين خالفوا أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بذات الخالق جل وعلا، إنما اعتمدوا على عقولهم واحتجوا بما يرونه مناسباً من هذه القواعد، لذلك المنطق يُعتبر قواعد تفكير إن صح التعبير، أو قواعد الاستدلال الذي يكون مناطه العقل، ليس الاستدلال الذي يكون مناطُه الشرع إنما الاستدلال العقلي.
حينئذٍ لما اعتمد المخالفون على هذه الاستدلالات أو هذه القواعد المنطقية تعيَّن في الرد عليهم أن يكون من يرد عليهم من أهل العلم متشبعاً بعلم الشريعة، وأن يكون كذلك مُلماً بأدلتهم؛ لأن من كان معتمداً على دليل وهذا الدليل ليس هو دليل الكتاب والسنة. يعني: لم يعتمد على الوحيين، فحينئذٍ من لم يكن ذا علمٍ بما سوى الوحيين قد يضعف في الرد عليه، فلا بد من معرفة ما استدل به المخالفون من أجل إبطال حُجج هؤلاء المخالفين فتعيّن حينئذٍ تلمُّس هذا العلم، وخاصة طلبة العلم الذين يجدون من أنفسهم مكانة للعلم، وأنه قد يبلغ مبلغاً يفيدون فيه الأمة مستقبلاً بإذن الله تعالى في صون الشريعة وفي الذب عنها.
ولذلك الشيخ الأمين رحمه الله تعالى يعتبر من علماء أهل السنة والجماعة؛ لأن تزكية هذا الفن إن جاءت من المخالف قد يكون فيها شيءٌ من الشبهة، لكن الشيخ الأمين رحمه الله تعالى كما هو معلوم من أهل السنة والجماعة، بل هو إمامٌ في علوم الشريعة، وإمامٌ في علوم الآلة كذلك، ولا إشكال فيه ولا تردد في هذا الحكم عليه رحمه الله تعالى، وقد صنَّف كتاباً أسماه آداب البحث والمناظرة، وقدَّم له مقدمة، هذه المقدمة مقدمة منطقية اشتملت على الخالص من هذا العلم كما سيأتي في كلامه، ونذكره رحمه الله تعالى (يعني: كلامه) من أجل معرفة ما اشتمل عليه.
وننُبه بأن هذا الفن إذا أقدم عليه الطالب وهو عنده شيءٌ من التردد في الإقبال عليه وأهميته ونحو ذلك، فحينئذٍ لن يستفيد، فالشيء الذي يتردد فيه الطالب سواء كان في المنطق أو غيره من العلوم، حينئذٍ لن يتمَّه، وإذا أتمه لن يفهمه على الوجه؛ لأن كل من لم يعلم قيمة العلم فحينئذٍ لن تتوجه إليه النفس، فإذا وقع شيء من النزاع بين طلاب العلم: هل يُدرس المنطق أو لا؟ يقرأ أو لا؟ هل نحضر أو لا؟
فحينئذٍ نقول: كلام أهل العلم في هذا واضحٌ بيِّن، وكلام من عمَّم في ذم علم المنطق، هذا مفصَّل.
كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لا يؤخذ على تراكيبه من حيث المبتدأ والخبر، أو الجملة الإسنادية .. ونحو ذلك، وإنما يُنظر بحاله هو عليه رحمة الله، فهو قد رد على الأشاعرة كما هو معلوم، رد عليهم بماذا؟
يخطئ من يقول بأنه رد عليهم بالكتاب والسنة، هذا ليس بصحيح، وإنما في جملة ما رد عليهم قد يكون يذكر بعض الآيات أو بعض الأحاديث، لكن أصل ردِّه إنما هو معتمدٌ على نقض ما قد اعتمدوه من أدلة، قد يكون القياس صحيحاً في نفسه. يعني: لا يلزم من كون أهل البدعة قد أخطئوا في استخدام الأقيسة والحُجج المنطقية، حينئذٍ يكون الرد عليهم بإبطال القياس وبإبطال المنطق لا.
ولذلك نقول دائماً بأن القياس الذي هو رابع الأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
القياس الصحيح وليس كل قياس، حينئذٍ إذا أخطأ من أخطأ من الفقهاء أو تشعَّبت معهم الأمور في الإكثار من القياس حتى صار القياس تُردُّ به بعض النصوص، فيقال: هذا الحديث مخالفٌ للقياس، صار فيه شيءٌ من الغلو من حيثُ الإثبات.
حينئذٍ ماذا نصنع؟
هل نرجع إلى الأصل فننقضه، أم نقول: هذه الفروع ليست على الجادة؟
لا شك أنه الثاني، حينئذٍ لا نرجع إلى الأصل الذي هو القياس ونقول: القياس باطل؛ لأن أكثر المتأخرين من الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة قد اعتمدوا هذا القياس حتى ردوا به بعض الأحاديث الصحيحة؛ لكونها مخالفة للقياس، بهذه الحجة الفاسدة.
حينئذٍ هل نرجع إلى القياس فنبطله من أصله، نقول: القياس ليس بدليلٍ شرعي؟
الجواب: لا، وإنما ننظر في هذه الأقيِسة التي اعتمدوا عليها، وظنوا أنها مخالفةٌ للشرع، أو أن الشرع جاء مخالفاً لهذه الأقيسة، فنبطلها من حيث هي.
كذلك الإجماع، الإجماع كما قال الشوكاني رحمه الله تعالى لا هيبة له عند المتأخرين؛ لكثرة من يدَّعيه، الإجماع المتيقَّن لا شك أنه دليلٌ شرعي: الكتاب، والسنة، والإجماع. والمقصود به إجماع الصحابة كما هو معلومٌ في محله.
حينئذٍ إذا أكثر المتأخرون من دعوى الإجماع في مسائل معلومة الخلاف، نقول: هذه الادعاءات للإجماعات باطلة في نفسها؛ لأنها لخلاف ثابت، أو لأنها مخالفة لإجماع الصحابة .. ونحو ذلك.
فوجود بعض الإجماعات المدَّعاة التي ليس لها مستند شرعي صحيح نقول: ولو صارت هذه الادعاءات كثيرة لا نرجع إلى الأصل فننقضُه، وإنما نحترم الأصل ونحفظ الأصل وهو الإجماع، ونبيِّن المراد به، ثم إذا وقع شيءٌ من الخلل في دعوى الإجماع نردُّ هذا الفرع ونحفظ الأصل.
وكذلك الشأن في القياس نحفظ الأصل، وهو مجمعٌ على إثباته عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وما وقع من نزاعٍ عند المتأخرين نقف معها ونردها ونفندها، وكذلك المنطق.
حينئذٍ نقول: المنطق الذي خلَّصه أهل الإسلام مما شابه من شُبه الفلاسفة الكفرية ونحوها في قواعده في الجملة صحيحة، لكن استخدمها من استخدمها على وجهٍ منحرف، فحينئذٍ نقول: نردُّ عليهم هذا الاستخدام وهذا الاستعمال، ونبقي الأصل محفوظاً على بابه.
يقول الشيخ الأمين رحمه الله تعالى: ومن المعلوم أن المقدمات التي تتركب منها الأدلة التي يحتج بها كل واحدٍ من المتناظرَين إنما تُوجه الحجة بها منتظمةً على صورة القياس المنطقي.
ومن أجل ذلك كان فنُّ آداب البحث والمناظرة ..
وهذا من العلوم المهجورة -آداب البحث والمناظرة-، لها أصولها، يعني: فنٌ مستقلٌ بنفسه.
ومن أجل ذلك كان فن آداب البحث والمناظرة يتوقف فهمه كما ينبغي على فهم ما لابد منه من فن المنطق؛ لأنَّ توجيه السائل المنعَ على المقدمة الصغرى أو الكبرى مثلاً.
يعني: السائل المعترض، يقول: أمنع المقدمة الصغرى وأمنع المقدمة الكبرى، فإذا كان لا يعرف المقدمة الصغرى من الكبرى فحينئذٍ كيف يتجِّه إليه السؤال؟
أو القدحَ في الدليل بعدم تَكرار الحد الأوسط أو باختلال شرطٍ من شروط الإنتاج ونحو ذلك لا يفهمه (أي: هذا الفن المعتمِد على مثل هذه المسائل) لا يفهمه من لا إلمام له بفن المنطق.
لا بد من فَهم هذا الفن من أجل إتقان فنِّ آداب البحث والمناظرة؛ لأن الاستعمال إنما يكون لهذه المصطلحات وهي غريبة، لأنها مصطلحات.
يعني: لا نرجع إلى المعنى اللغوي (المقدمة الصغرى، والمقدمة الكبرى، والحد الأوسط، والتكرار .. ونحو ذلك) لا نرجع إلى المعاني اللغوية، وإنما ننظر في المعاني الاصطلاحية.
ولا عجب؛ لأن المعاني الاصطلاحية هي المقدَّمة في كل فن، ولذلك نقول: هذا عامٌ وهذا خاص، هذا ناسخ وهذا منسوخ، هذا مقيَّد وهذا مطلق، والإجماع والقياس .. كل هذه اصطلاحات لها معانيها، حقائق عرفية عند أصحابها.
كذلك آدابُ البحث والمناظرة يعتمد على هذا الفن، وهذه الاصطلاحات توجد فيه (مقدمة صغرى امنعها؟ لا، أرتضيها .. نقضٌ للمقدمة الكبرى، الحد الأوسط لم يتكرر .. ) حينئذٍ كيف يجيب؟ بل كيف يقرأ؟
دعك من الدخول في المناظرات، كيف يقرأ ما كتبه المتقدمون؟ كيف يقرأ ما كتبه من كتَب في هذا الفن؟
قال رحمه الله تعالى: وكانت الجامعةُ قد أسندتْ إلينا تدريس فن آداب البحث والمناظرة، وكان لا بد من وضع مذكرةٍ تُمكِّن طلاّب الفن من مقصودهم فوضعنا هذه المذكرة وبدأناها بإيضاح القواعد التي لا بد منها من فن المنطق لآداب البحث والمناظرة.
واقتصرنا فيها على المهم الذي لا بد منه للمناظرة، وجئنا بتلك الأصول المنطقية ..
هذا انتبه له من هذا الإمام الجليل.
وجئنا بتلك الأصول المنطقية خالصة (يعني: غير شائبة، الخلوص والشوب متقابلان) خالصة من شوائب الشُّبه الفلسفية.
انظر هنا النفي إنما هو مسلَّط من أجل أن يفهم طالب العلم ما يذكره أهل العلم.
(1/3)
________________________________________
النفي هنا مسلَّط على الشبه الفلسفية؛ لأنه قد يأتي معنا أن علم المنطق هل هو مقدِّمة لعلم الفلسفة أم جزءٌ منها؟ فيه خلاف.
هل هو علمٌ مستقلٌ بذاته، أم أنه مقدمة لغيره؟
هل هو علمٌ مستقل، أم أنه آلةٌ؟ فيه خلافٌ بينهم.
حينئذٍ إذا كان مقدمةً لعلم الفلسفة، حينئذٍ لا بد فيه شيءٌ من الفلسفة، وهذا لا بد منه .. لا ينفك عنه.
وإذا كان جزءاً من الفلسفة واضح الكلام، لا نحتاج إلى تعليق.
على القولين: أنه مقدمةٌ للفلسفة، جزءٌ من الفلسفة. لا بد وأن يكون فيه شيءٌ من مسائل الفلسفة.
حينئذٍ إذا كان الأمر كذلك فمن أين جاء التخليص؟
نقول: التخليص إنما جاء ليس لكون هذه المسألة فلسفية أو لا، وإنما هل فيها شبهةٌ كفرية أو بدعية، لا يلزم أنها كفر ..
هل فيها شبهةٌ تتعلق بباب المعتقد أو لا؟
حينئذٍ علم الفلسفة على نوعين: منه ما يتعلق بعلم الاعتقاد كالإلهيات وغيرها، وهذا لا شك أنه باطل ولا يوجد في كتب المتأخرين كالإيساغُوجي ونحوه.
وثَم قسمٌ لا يتعلق بالاعتقاد، وإنما بالتفكير والنظر والنفس .. ونحو ذلك، وما يتعلق بالأقيسة والحجج بأنواعها والبراهين.
هذا وإن كان يُطلق عليه في بعضه أنه من مسائل الفلسفة إلا أنه ليس بمحرَّمٍ؛ لأن علم الفلسفة لم يحرِّمه أهل السنة والجماعة لكونه علم فلسفة فقط هكذا لا، نقول: الأصل في العلوم ما هو؟ الإباحة .. الأصل في العلوم الإباحة. هذا الأصل فيها، كما هو الأصل في الأشياء الطيبات ونحوها الأصل فيها الإباحة.
حينئذٍ إذا وُجد فيها أو تعلَّق بها أو تضمنت ما يُخل بالشريعة، أو بباب المعتقد، أو بذات الباري جل وعلا، حينئذٍ مُنعت، وما عداه يبقى على الأصل.
فحينئذٍ ما خلَّصه علماء الإسلام من علوم الفلسفة نقول: خلَّصوه من الشبه التي تتعلق بباب الاعتقاد، حينئذٍ لا يرد الاعتراض على أئمة السنة الذين قالوا بأن هذه كتب كالذي بين يدينا هذا أنه مُخلَّصٌ من علوم الفلسفة.
نقول: أنَّى لنا ذلك .. يَعترض المعترض.
نقول: المراد به أنه خُلِّص من شُبَه الفلاسفة، فليس فيه شيءٌ محرَّم، فمن اعترض على كون المنطق أنه جزءٌ من الفلسفة، أو مقدمةٌ للفلسفة، وأنه يلزم منه التحريم أخطأ؛ لأنه ليس كل علم الفلسفة محرّم.
ولذلك علم الحساب علمٌ فلسفي، علم الهيئة والهندسة علمٌ فلسفي، إذا قلنا الفلسفة بأنواعها السبعة المعلومة –العلوم- أنها محرّمة حرَّمنا جميع هذه العلوم، لكن لا هذا غلط افتراء على الله عز وجل.
فنقول: الفلسفة يُفصَّل فيها، فإذا كان كذلك فلو سُلِّم بأن هذه المسائل التي بين أيدينا من علم الفلسفة فالأصل فيها الإباحة، حتى يثبت أن هذه المسألة تتعلق بذات الباري جل وعلا، وأنها خطأٌ في باب المعتقد، حينئذٍ تُنزع ويُنظر فيها.
إذاً: قوله هنا: وجئنا بتلك الأصول المنطقية خالصة من شوائب الشبه الفلسفية. يعني: ليست خالصة من المسائل الفلسفية؛ لأن المنطق لا يمكن أن ينفك عن الفلسفة، هو مقدمةٌ لها أو أنه جزءٌ منها، وإنما الذي اعتنى به أهل الإسلام هو: تخليص هذه المسائل من الشبه المتعلقة بباب الاعتقاد.
فيها النفع الذي لا يُخالطه ضرر البتة. توكيد هذا، المعنى الذي ذكرتُه.
(1/4)
________________________________________
"فيها" أي: في هذه الأصول الخالصة من شُبه الفلسفة، فيها النفع الذي لا يخالطه ضرر البتة.
يعني: الضرر هنا من جهة المعتقد.
لأنها من الذي خلَّصه علماء الإسلام من شوائب الفلسفة كما قال العلاّمة شيخ مشايخنا وابن عمنا المختار بن بونة ... إلى أن قال في منظومته في علم المنطق:
فَإِنْ تَقُلْ حَرَّمَهُ النَّوَاوِيْ
قُلْتُ نَرَى الأَقْوَالَ ذِي المُخَالِفَةْ
أَمَّا الَّذِي خَلَّصَهُ مَنْ أَسْلَمَا ... وَابْنُ الصَّلاَحِ وَالسِّيُوطِي الرَّاوِيْ
مَحَلُّهَا مَا صَنَّفَ الْفَلاَسِفَةْ
لاَ بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ عِنْدَ الْعُلَمَا
هذا توجيهٌ لما اشتهر عند بعض أهل العلم من أن المنطق محرّم ولا يجوز دراسته ولا تدريسه، ولا تعلُّمُه ولا تعليمُه.
نقول: المراد فيمن حرَّمه أنه المختلِط بشُبه الفلاسفة، قال: لا. كذلك الذي لا يختلط.
نقول: هذا قولٌ ويُعرض على الكتاب والسنة، والأصل فيه الإباحة.
إذاً: يُوجَّه على جهتين:
إما أن نقول: بأن من حرَّم دراسة علم المنطق مراده المنطق المشوب بشبَه الفلاسفة. وهذا لا إشكال فيه، إلا لمن كانت عنده أهلية النظر فحينئذٍ ينظر، الأصل في النظر في كتب أهل البدع الأصل المنع، إلا إذا كان يستطيع أن يميِّز بين الحق والباطل.
وأمّا قول الأخضري في سُلَّمِه:
وَالخُلْفُ فِي جَوَازِ الاِشْتِغَالِ
فَابْنُ الصَّلاَحِ وَالنَّوَاوِي حَرَّمَا
وَالقَوْلَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحِيحَهْ
مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ ... بِهِ عَلَى ثَلاَثَةٍ أَقْوَالِ
وَقَالَ قَوْمٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَا
جَوَازُهُ لِكَامِلِ القَرِيحَهْ
لِيَهْتَدِي بِهِ إِلَى الصَّوَابِ
ججج
ج
فهذه الأبيات اشتهرت في بيان ما يتعلق بحُكم المنطق، فصلٌ في جواز الاشتغال به، هذا ذكره صاحب السُلَّم في محله.
(وَالخُلْفُ) يعني: الاختلاف.
وَالخُلْفُ فِي جَوَازِ الاِشْتِغَالِ
فَابْنُ الصَّلاَحِ وَالنَّوَاوِي حَرَّمَا ... بِهِ عَلَى ثَلاَثَةٍ أَقْوَالِ
...........................
يعني: (حَرَّمَا) الاشتغال بعلم المنطق.
(وَقَالَ قَوْمٌ) كالغزالي أبي حامد: (يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَا)
اختُلف في (يَنْبَغِي) قيل: واجبٌ على الكفاية، وقيل: مستحبٌ.
وَالقَوْلَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحِيحَهْ ... جَوَازُهُ لِكَامِلِ القَرِيحَهْ
جج
يعني: المختلِط، هذا الذي يُحمل عليه كلام صاحب السُلَّم أن المراد به المختلِط.
وَالقَوْلَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحِيحَهْ ... جَوَازُهُ لِكَامِلِ القَرِيحَهْ
يعني الذكي الألمعي الذي يستطيع أن يميّز بين الغث والسمين، بين الحق والباطل.
مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ ... لِيَهْتَدِي بِهِ إِلَى الصَّوَابِ
ج
قال الشيخ هنا: أما قول الأخضري (هذا الذي ذكرناه) فمحلُّه: المنطق المشوب بكلام الفلاسفة الباطل ..
يعني: هذا أخطأ الأخضري في ذكر هذه المسألة في هذا الكتاب؛ لأن كتابه إنما هو نظمٌ لإيساغوجي على المشهور، وإن لم يذكر ذلك في مقدمته، وإن زاد فيه بعض الأبواب.
فنظَمَ إيساغوجي، وإيساغوجي معلومٌ أنه (الذي شرحه زكريا الأنصاري هنا) أنه من (الَّذِي خَلَّصَهُ مَنْ أَسْلَمَا) يعني: الخالص من شُبه الفلاسفة.
(1/5)
________________________________________
حينئذٍ كيف تأتي بهذا الخلاف الذي هو ليس في هذا الموطن، فيُذكر فيما خلَّصه العلماء؟ هذا فيه شيءٌ من الخطأ.
وحينئذٍ نقول: هذا محله في المنطق المشوب بشبه الفلاسفة.
قال رحمه الله تعالى -الشيخ الأمين-: ومن المعلوم أنّ فن المنطق منذ تُرجِم من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في أيام المأمون كانت جميع المؤلفات توجد فيها عبارات واصطلاحات منطقية.
وهذا توجيه في أن أهل العلم الشرعي، لماذا يدرسُون علم المنطق؟ هو علمٌ دخيل، لا شك أنه دخيل ومُسلَّمٌ بهذا، لكن لماذا ندرُسه، ولماذا نشتغل به؟
لا لذاته وإنما لما يترتب عليه من فوائد.
قال: كانت جميع المؤلفات (يعني: كثير من المؤلفات) توجد فيها عبارات واصطلاحات منطقية لا يفهمها إلاَّ من له إلمامٌ به.
وهذا موجود في علوم الآلة على جهة الخصوص، النحو أُدخل فيه كثيرٌ من الاصطلاحات، وكذلك الصرف أُدخل فيه كثير من الاصطلاحات، وكذلك البيان والبلاغة، وأهمها علم أصول الفقه فقد خُلِط بهذا الفن.
وأما علوم اللغة فهي أخف، ويمكن الاستغناء عن كثير من الكتب التي اشتملت على شيءٍ من المنطق بغيرها، يعني: الانفكاك أمرٌ سهل في علوم اللغة، وأما في أصول الفقه لا يكاد أن يسلم الناظر في هذا العلم، بل لا يكاد أن يتمكن، بل لن يتمكن إلا إذا نظر في هذه الكتب على وجه الخصوص.
لو نظرت في شروح جمع الجوامع وغيرها، والمستصفى والبرهان، لا بد أنه اشتمل على شيءٍ من ذلك. بل جعلوا مقدمات منطقية، حينئذٍ كيف يفهمها طالب العلم الذي لا بد أن يعلم هذا الفن وهو أصول الفقه؟
لأن عديم النظر في كتب أصول الفقه هذا عديمٌ في علم الشرع، لا شك في ذلك؛ لأن الشريعة إنما هي استنباط يعني: استنباط أحكام شرعية من الوحيين، وهذا معتمدُه علم أصول الفقه، ولن يتمكن الطالب في هذا الفن إلا بالنظر في هذه المطولات، وكلها مشتملة على هذه الاصطلاحات، كيف يفهمها؟
إذا ادعى مدعٍ بأنه قد فهم وهو لم يدرس المنطق، هذا لا تُقبل دعواه؛ لأنه قد يكون له شيءٌ من الفهم، لكن الفهم الذي ينبغي لا، لا يمكن أن يتصور المسائل على الوجه الذي أراده الكاتب –المصنِّف- إلا إذا عرف المصطلح الذي تكلم به، وهذا المصطلح إنما هو فن المنطق.
ولذلك نقول: المنطق من أوله إلى آخره كله مصطلحات (قواعد)، حينئذٍ لا بد للناظر في علوم الآلة، وأصول الفقه على جهة الخصوص من النظر في هذا الفن وإتقانه، لا بد من إتقانه من أجل أن يُتقن أصول الفقه.
قال هنا: فيها عبارات واصطلاحات منطقية لا يفهمها إلا من له إلمامٌ به (بهذا الفن)، ولا يفهم الرد على المنطقيين فيما جاءوا به من الباطل إلاّ من له إلمامٌ بفن المنطق.
وهذه فائدة أخرى وهي: أن من درس المنطق ليسوا كلهم على مرتبة واحدة من الحق والباطل، قد يدرس المنطق ويستفيد منه فيما يستفاد في الحق، وفي الذب عن الشريعة، وقد يدرس المنطق من أجل تأصيل المسائل البدعية كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة .. كل هؤلاء دينهم، وعقيدتهم مبناه على الأمور العقلية، وهي مستنبطة أو معتمدة على هذه القواعد، هنا سيأتي السؤال الكبير: كيف ترد عليهم؟
(1/6)
________________________________________
هل تأخذ كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وتردده من غير فهمٍ، وخاصةً إذا كان الذي يرُد ليس كتابة الذي يرد بالمناظرة والمجادلة، وحينئذٍ كيف يرُد؟
هذا لا يمكن ولا يتأتى له إلا إذا نظر في هذا الفن.
لأنه أولاً: يفهم عقيدة المخالف بناها على أي شيء؟
ثم بعد ذلك ينقض هذه العقيدة.
فثَم أمران: الأمر الأول: يفهم دليل المستدل؛ لأنك إذا أردت أن ترُد باطلاً فلا بد أن تفهم هذا الباطل، كيف استوى؟ على أي ساق، على أي دليل، على أي وِجهة؟ لا بد أن تفهمه، أم ترد هكذا؟ نقول: لا. لا بد أن تفهم أولاً القول الباطل، فكيف تفهمه وهو قد استند إلى هذا الفن؟
إذاً: لا يمكن أن يُعرف ما عند المنطقيين والمتكلمين من الباطل إلا بمعرفة هذا الفن، ولا يمكن أن يُفهم ما عندهم من استدلالات إلا بفهم هذا الفن.
ثم ثالثاً: لا يمكن أن ننسف ما عندهم من باطل إلا بفهم هذا الفن، ولو قلنا بأن الرد واجب فحينئذٍ نقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولكن هذا لا يكون مطلقاً لكل أحد وإنما لمن كانت عنده أهلية النظر في الشرع.
إذاً: قال: ولا يفهم الردَّ على المنطقيين فيما جاءوا به من الباطل إلاّ من له إلمامٌ بفن المنطق.
ثم قال: وقد يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية.
"وقد يعين" قد للتحقيق هنا يعني: ليست للقلة، قد إذا دخلت على المضارع أفادت -في المشهور- التكثير أو التقليل، هذا المشهور عند النحاة. ولا تأتي للتحقيق إلا إذا دخلت على الماضي .. إذا دخلت على الماضي أفادت التحقيق أو التقريب.
التحقيق: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1]، التقريب: قد قامت الصلاة .. قد غربت الشمس.
وعند جماهير النحاة لا تأتي للتحقيق، وهذا ليس بسديد بل الصواب أنها قد تأتي للتحقيق إذا دخلت على الفعل المضارع، قال تعالى: ((قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ)) [الأحزاب:18] هنا نحملها على التكثير أو التقليل؟ لا هذا ولا ذاك، وإنما على التحقيق.
التحقيق المراد به: وقوع ما بعده. يعني: متحقَّقُ الوقوع، الحدث الذي بعد قد متحقق الوقوع ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] إذاً: الفلاح متحقق أو لا؟ متحقق.
ولذلك تُعد قد من المؤكِّدات عند البيانيين؛ لأنها تؤكِّد وقوع الحدث.
كذلك ((قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ)) [الأحزاب:18]، ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ)) [الحجر:97] كل هذه نقول: قد هنا للتحقيق، خلافاً لما اشتهر على ألسنة النحاة بأنها لا تكون إلا للتقليل والتكثير.
إذاً: "قد يعين" للتحقيق هنا.
قد يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية. فزعموا أنَّ العقل يمنع بسببها كثيراً من صفات الله الثابتة في الكتاب والسنة.
نفوا كثيراً إن لم يكن جميع الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، والتي الأصل فيها التسليم على ما جاء به قول الباري جل وعلا وقول نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتماداً على الأصل في باب الأسماء والصفات.
نفوا كثيراً من مدلولات هذه الأسماء والصفات، بناءً على أقيسةٍ، والأقيسةُ هذه سيأتي أنه الطريق الموصل إلى التصديق.
إذاً: على شيءٍ من فن المنطق.
(1/7)
________________________________________
هذه الأقيسة حقة أم باطلة؟ نقول: باطلة، كيف نفهم بطلانها؟ بهذا الفن، كيف نردُّ عليهم؟ بهذا الفن.
لماذا؟
لأن المعتمِد على النفي إنما اعتمد على أقيسةٍ باطلة ولا يمكن ردُّها إلا بفهم هذا الأصل عندهم.
قال هنا: لأنَّ أكبرَ سبب لإفحام المبطِل أن تكون الحجةُ عليه من جنس ما يُحتج به.
وهو كذلك.
لأنَّ أكبر سبب لإفحام المبطِل أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتَج به. فالجهمي في باب الأسماء والصفات لا يؤمن بقرآن ولا بسنة قطعاً، وإنما يؤمن بعقله المقدّس، وعقله المقدّس هذا كالكتاب المقدّس يعني .. من جنس واحد.
فحينئذٍ لا يبني ما عنده إلا على هذه الأقيسة التي ظن أنها حقٌ، فحينئذٍ كيف يُنظر فيما عنده؟ نقول: لا بد من هذا الفن.
قال: لأنَّ أكبر سبب لإفحام المبطل أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتج به.
فالرد على الجهمي إنما يكون بالأقيسة الصحيحة الحقة، والرد على المعتزلي كذلك وغيره من أهل البدع.
وأن تكون مركبة من مقدمات على الهيئة التي يعترف الخصم المبطل بصحة إنتاجها.
قال رحمه الله: ولا شك أنَّ المنطق لو لم يُترجَم إلى العربية ولم يتعلمه المسلمون لكان دينُهم وعقيدتُهم في غنىً عنه كما استغنى عنه سلفهم الصالح.
وهذه مُسلَّمة ولا إشكال فيها، ونحن نتكلم عن واقع لا نتكلم عن شيءٍ في الذهن.
يعني: نتكلم عن واقع بمعنى أن العقيدة الآن -كتب المعتقد- قد خالطها شيءٌ من المنطق.
إذاً لا بد الكلام أو الفتوى أو النظر يكون باعتبار الواقع لا باعتبار شيءٍ في الذهن، وما ذكره الشيخ هنا شيءٌ واقعي أم ذهني؟ لو لم تُترجم لكنا في غنى، هل استغنينا؟ نقول: لا. لم نستغني، لماذا؟ لأنها تُرجمت. العكس.
حينئذٍ لو لم تُترجم كتب المنطق لكنا في غنى كما استغنى السلف الصالح، لكن لم نكن في غنى؛ لأنها تُرجِمت ودخلت في علوم الشريعة.
إذاً: نتكلم عن شيءٍ واقعي ولا نتكلم عن شيءٍ في الذهن.
لكان دينُهم وعقيدتُهم في غنىً عنه كما استغنى عنه سلفهم الصالح.
ولكنه لمّا تُرجم وتُعُلِّم وصارت أقيسته هي الطريقةَ الوحيدة لنفي بعض صفات الله الثابتة بالوحيين، كان ينبغي لعلماء المسلمين أن يتعلموه وينظروا فيه؛ ليردوا حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به على نفيهم لبعض الصفات.
كان ينبغي لعلماء الإسلام أن يتعلموا هذا الفن؛ من أجل الذب عن الشريعة، وباب المعتقد على جهة الخصوص.
لأنّ إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم وإلزامهم الحق.
ثم قال رحمه الله تعالى: واعلم أنّ نفس القياس المنطقي في حد ذاته صحيح النتائج إنْ رُكِّبت مقدماتُه على الوجه الصحيح صورةً ومادة.
يعني: القياس في نفسه صحيح وحق، كما أن الإجماع في نفسه صحيحٌ وحق، كما أن القياس (الدليل الرابع) في نفسه صحيحٌ وحق كذلك.
لكن قد يُردُّ القياس لكونه لم يأت على الصورة الصحيحة، قد يُرد الإجماع لكونه لم يستوفِ الشروط.
حينئذٍ إذا كثُرت الإجماعات ورُدَّت لا نرجع إلى الأصل فنرده من أصله، وكذلك الشأن في القياسات.
هنا الشيخ يشهد -رحمه الله تعالى- على أن القياس المنطقي في أصله صحيح وحق، بل يرى أنه قطعي، لكن متى؟ إنْ رُكِّبت المقدِّمات على الوجه الصحيح من حيث الصورة ومن حيث المادة.
(1/8)
________________________________________
يعني: إن استوفى الشروط، كما أن القياس في باب الشرعيات إذا استوفى الشروط فهو حق كذلك الشأن هنا.
إذاً: لا يُنظر في المنطق من حيث ما رتَّب عليه أهل البدع فحسب، هذه نظرة قاصرة، وهذا الذي أودى ببعض الطلاب هنا إلى مسألة التذبذب في تعَلُّم هذا الفن .. ندرُس أو لا ندرس؟
حينئذٍ نقول: النظر هنا في القواعد من حيث أصلُها، والنظر في استعمال هذه القواعد، حينئذٍ إذا استعمله المبتدئ على وجهٍ مخالف نرد عليه ببيان وجه المخالفة، وأما الأصل فيبقى على أصله.
ولذلك قال هنا: واعلم أن نفس القياس المنطقي في حد ذاته صحيحُ النتائج إن رُكِّبت مقدماته على الوجه الصحيح صورةً ومادة، مع شروط إنتاجه فهو قطعي الصحة (ليس ظني)، وإنما يعتريه الخلل من جهة الناظر فيه فيغلط، فيظُن هذا الأمر لازماً لهذا مثلاً. هذا يلزم من كذا وقد يخطئ، قد يظن أن هذا لازم وهذا ملزوم، وليس بينهما ملازمة، يمكن أو لا؟ يمكن.
قد يظن أن المقدمة الصغرى صحيحة وهي باطلة، أو العكس- الكبرى- .. ونحو ذلك.
فيستدل بنفي ذلك اللازم في زعمه على نفي ذلك الملزوم مع أنه لا ملازمة بينهما في نفس الأمر البتة.
إذاً: يقع الغلط والخطأ من حيث الاستعمال لا من حيث الأصل، فإنه قطعيٌ كما قال الشيخ هنا.
قال: ومن أجل غلطه في ذلك تخرج النتيجة مخالفة للوحي الصحيح لغلط المستدل. ولو كان استعماله للقياس المنطقي على الوجه الصحيح لكانت نتيجته مطابقة للوحي بلا شك؛ لأنّ العقل الصحيح لا يخالف النقل الصريح إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
إذاً: هذه الجملة نفيسة من كلام الشيخ الأمين رحمه الله تعالى ذكرها في مقدمة كتابه الذي يسمى بالمقدمة المنطقية أو آداب البحث والمناظرة، وجعلَ في القسم الأول قواعد المنطق، بيَّن فيه أنه ينبغي أن يدرُس أهل العلم الذين يتصدون للرد على المخالفين .. أن يدرسوا هذا الفن من أجل الرد على المخالفين، وعلى شبه هؤلاء المبتدعة.
ثم في نفسه كطالب العلم أن ينظر فيه ليفهم كما سيأتي في كلام الشوكاني رحمه الله تعالى .. أن يفهم مصطلحات هذا الفن من أجل أن يفهم كثيراً من كتب أصول الفقه، وما تعلق به من علوم اللغة.
وأصبح دراسة المنطق مطلوبةً عند بعض المتأخرين لدراسة بعض العلوم كالأصول. كما ذكرنا.
لأن كثيراً من مؤلفاتها الصيغة في قالبٍ منطقي فتعذر التمكن فيها إلا بدراسته.
نعم تعذَّر؛ لأنها في جُلِّها إن لم تكن كلها مبنيةٌ على هذا العلم، فلن يتمكن فيه طالب العلم إلا بالتمكن في هذا الفن.
وقد قرر ذلك جماعةٌ من أهل العلم.
قال ابن القاسم العبَّادي في حاشيته على تحفة المحتاج: قال في الإمداد: بل هو (أي: المنطق) أعلاها أي: العلوم الآلية.
وهذا من الغلو، كما هو الشأن في بعض من يغلو في باب القياس الشرعي (الذي هو رابع الأدلة)، هنا كذلك بعضهم يغلو في باب المنطق، حتى قال الغزالي: من لا علم له بالمنطق لا ثقة في علمه. يعني: علمُه هباءً منثوراً. هذا كلام فاسد لا يعوَّل عليه، لماذا؟
(1/9)
________________________________________
لأنه يُعتبر الأصل من حيث الإثبات ثم لا نزيد ولا ننقِص .. لا نقول: كل شيء حرام محرَّم من أصله، ولا نأتي نرفعه نقول: هو أعلى وأجل علوم الآلة، ومن لا معرفة له لا يوثق بعلمه! نقول: لا. هذا يُعتبر من الغلو.
قال: بل هو (أي: المنطق) أعلاها (أي: العلوم الآلية).
ثم قال: وإفتاء النووي كابن الصلاح بجواز الاستنجاء به.
والله أعلم بهذه الفتوى، لكن بناءً على ما كان مشوباً. يعني: فيه شيءٌ مما يخالف الشريعة جوَّزوا الاستنجاء به.
قال: يُحمل على ما كان في زمنهما من خلطٍ كثير من كُتبِه بالقوانين الفلسفية المنابذةِ للشرائع، بخلاف الموجود اليوم فإنه ليس فيه شيءٌ من ذلك ولا مما يؤدي إليه فكان محترَماً.
على كلٍ: الأصل فيه الإباحة، ما كان خالصاً من شُبه الفلسفة الأصل فيه الإباحة، وما كان خليطاً فيُنظر في الناظر، بناءً على أن الأصل في النظر في هذه الكتب الأصل فيه المنع.
فحينئذٍ إذا كان الناظر يستطيع أن يميز بين الحق والباطل (مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ) كما مضى في قول الأخضري، فحينئذٍ يجوز له النظر وما عداه فالأصل فيه التحريم.
إذاً نقول: الأصل في دراسة علم المنطق غير المشوب بالفلسفة الإباحة؛ لأننا إذا قسَّمنا كتب المنطق إلى قسمين: مشوب وغير مشوب، جاء بعضهم قال: رحمك الله، غير المشوب هذا هو من علم الفلسفة. نقول: ومن الذي قال بأن علم الفلسفة كله حرام؟ وإلا لحرّمنا الحساب والهيئة والهندسة .. ونحوها، كلها صارت محرَّمة، لماذا؟ لأنها علومٌ فلسفية.
فحينئذٍ لا نعترض بكون هذا العلم مباحاً أنه جزءٌ من الفلسفة، نقول: جزءٌ من الفلسفة غير المحرَّمة التي الأصل فيها الإباحة.
ثانياً: الأصل الاستغناء كما ذكرنا عن هذا الفن، لولا أنه أُدخل على العلوم الشرعية ولهج به كثيرٌ من العلماء، فصارت مصنفاتُهم في كثيرٍ من الفنون مشوبةً بهذه الاصطلاحات المنطقية، لا سيما علم أصول الفقه.
وكلام الشيخ فيما مضى واضحٌ بيِّن.
ثالثاً: إذا عرفنا أنه لا بد منه، ليس المراد من هذا أن طالب العلم يقرأ فيه كما يقرأ في كتب الحديث، كل كتاب معتمد لأئمة الحديث أو شرحاً لبعض الأحاديث أنه يقرأه أو يقتنيه، أو الشأن في كتب التفسير الأصل فيها أنه يقرأ ما شاء. وإنما يأخذ ما يحتاجه، يعني: ليس المراد هنا أن يقرأ مائة كتاب ومائة حاشية، أو يحفظ ألفية أو ألفيتين، أو أزود من ذلك، وإنما نقول: نحتاج إلى شيءٍ تكون به القِوامة، وما عدى ذلك يُترك، لماذا؟ لأننا كما ذكرنا الأصل فهم الاصطلاحات.
ثانياً: إذا كانت معك الأصول .. لأنه علمٌ محصور .. علم المنطق محصور، وإنما الثرثرة الكثيرة عند المتأخرين هي التي أطالت هذا الفن، وإلا هو علم اصطلاحات من أوله إلى آخره أشبه ما يكون بقاموس تعاريف.
حينئذٍ ما يحتاجه طالب العلم هو الذي ينبغي التنبيه عليه؛ لنجمع بين الأمرين نقول: الأصل فيه الإباحة، ونحث وبقوة طلاب العلم أن يعتنوا بضبط هذا الفن، وبضبط ما يتعلق بباب المعتقد.
ثم ننبِّه: ليس المراد به أن يقرأ كل ما شاء أو يقرأ ما شاء، أو يحفظ كل شيء لا، إنما يأخذ ما يحتاجه، ولا بد من النظر فيما قاله أهل العلم.
(1/10)
________________________________________
المبتدئ في هذا الفن عليه أن يتدرج في تعلمه، وبعضهم اشترط هنا أن يكون عنده شيءٌ من علم المعتقد، لكن هذا ليس بشرط؛ لأننا قلنا هذا الباب مخلَّص فليس فيه شُبه، وخاصةً إذا قرأه على من هو من أهل السنة والجماعة؛ لأنه يرد الإشكال في بعض الأمثلة.
كل من كتَب في علم المنطق إما أشعري وإما ماترودي .. متأخرون، فحينئذٍ يأتي بعض الأمثلة تتعلق بباب المعتقَد، فالذي لا يعرف ولا يميِّز أو لا يقرأ على من يميِّز له ذلك، فحينئذٍ قد يقع في الإشكال.
فإذا كان لا يقرأ على مُعلِّمٍ من أهل السنة والجماعة، أو يقرأ بنفسه، أو يقرأ على أشعري إن جاز له ذلك. فحينئذٍ نقول: لا بد أن يكون عنده شيءٌ من باب المعتقد؛ ليسلم من الخلط.
من تحركت همته لنيل حظٍ من هذا الفن فعليه قبل الولوج فيه أن يأخذ حظاً من علم الكتاب والسنة دراسةً تأصلية. للأمر الذي ذكرناه.
رابعاً: المبتدئ في هذا الفن عليه أن يتدرج في تعلُّمه، فيأخذَه شيئاً فشيئاً على أهله (يعني: على ما يفهمه)، يشرع أولاً (على المشهور عند أهل العلم) في حفظ متن السلَّم المنورق. وهذا كما ذكرنا أنه نظمٌ لإيساغوجي، وإيساغوجي نثر، وبعضهم يقدِّم النثر فلا بأس، وبعضهم يقدِّم النظم ولا بأس. وكلاهما على خير.
من يحب حفظ النثر فليحفظ إيساغوجي، ومن يحب حفظ المنظومات فليحفظ السلَّم المنورق. هذه الكتب ليست توقيفية يعني: ليست مبناها على التوقيف من خرج عنها فقد وقع في محظورٍ.
فيحفظ متن السلَّم المنورق للأخضري، وهو مختصر مفيد وعليه شروح عديدة لأهل العلم وهو سهل العبارة, واضح الإشارة.
قيل: إنه نظمٌ لإيساغوجي وإن لم ينصَّ الناظم على ذلك, وعليه شروح كثيرة, من أحسنها وأجودها شرح الإيضاح -إيضاح المبهم- لأحمد الدمنهوري، وهو شرح جيد ومفيد جديد في هذا الفن؛ لأنه أشبه ما يكون بكتابٍ عصري. ثم يقرأ بعد إتقانه وإجادته شرح السلَّم المنورق كذلك لأحمد المَلَّوي. وهذا جيد ويفيد كمرحلة ثانية.
وهذا يكتفي به فيما يتعلق بشروح السلَّم، إذا أراد أن يكتفي بواحدٍ منهما فحينئذٍ ينظر في الدمنهوري (إيضاح المبهم)، والأحسن من ذلك أن يدرس أولاً إيضاح المبهم ثم بعد ذلك يضيف إليه شرح أحمد الملَّوي، وعليه حاشية للصبَّان، وهي كذلك حاشية نفيسة في هذا الباب.
ثم إذا أتقن هذا الجانب -الذي هو الأخضري- يرتقي إلى الشمسية وتهذيبِها، إما هذا أو ذاك، تهذيب الشمسية لسعد الدين التفتازاني، وعليه شرح للخبيصي، وعليه حاشية للعطار، والشمسية وشروحُها مشهورةٌ كذلك وعليها شرحٌ للتفتازاني.
ثم يقرأ الطالب بعد ذلك تهذيب الشمسية لسعد الدين مسعود التفتازاني، وعليه شروح أشهرها (التذهيب شرح التهذيب) للعلامة الخبيصي (مطبوع).
وكتبَ على التذهيب أبو السعادات حسن العطَّار حاشية نفيسة محررة. يعني: بالنسبة لفن المنطق، كما هي عادتُه في حواشِيه.
العطَّار له حواشي من أنفس ما يكتبه المحشُّون؛ لأن أكثر المحشِّين قد يعيشون فراغاً. يعني: يريد أن يلتمس حُجةً على صاحب الكتاب، ويذهبون بالصفحة والصفحتين في إعراب وتوجيه كلمات .. إلى آخره.
(1/11)
________________________________________
لكن بعض الحواشي لا، فيها فوائد وفيها درر، كحاشية الخضري على ابن عقيل، وحاشية الصبَّان على الأشموني. حاشيتان في النحو لا مثيل لهما.
كذلك حاشية العطَّار على جمع الجوامع -المحلي- لا مثيل لها، وهي أقوى وأنفس من حاشية البنَّاني.
هنا في باب المنطق شرْحُ زكريا الأنصاري عليه حاشية حسن العطَّار وهي أنفس من عُليِّش الذي معنا.
وكذلك في التذهيب له حاشية وهي حاشيةٌ نفيسة كذلك.
فإذا أتقن الطالب هذين الكتابين يكتفي، ثم تأتي الممارسة والملكة.
الممارسة والملكة لا تأتي بحفظ المصطلحات فقط، وإنما تأتي بماذا؟
الملكة كيف يُنشئها طالب العمل في نفسه؟ إنما يُنشئها بممارسة الفنِّ، ليس بالنظر في الفن.
فأنت لو كنت تحفظ ألفية ابن مالك، تحفظ فقط وتراجع كل يوم وتجرُد ابن عقيل كل أسبوع لن تكون نحوياً، لست معدوداً من النحاة أصلاً.
متى تكون نحوياً؟ عند الممارسة.
إذا مارستَ النحو يعني: نطقتَ وتكلمت وأعربت، ونظرت في الآيات وأعربت، واستخرجت واستنبطتَ .. إلى غير ذلك. حينئذٍ تتدرج في فن النحو، وإذا استمر طالب العلم في ذلك حينئذٍ يصل إلى الملكة -ملكات الفنون-، وهذه لا تكون إلا بالممارسات.
وفي علوم الشريعة تأتي كذلك بالجرد، وأما هنا فالمراد به أن يمارس والممارسة إنما تأتي فيما لو نظرتَ في كتب الأصوليين، تقف مع بعض المصطلحات، أو كتب النحو التي قلنا فيما سبق أنها مشوبةٌ باصطلاحات وعبارات منطقية، فتنظر في كل موضعٍ على جهة التطبيق لهذا الفن.
كما تنظر فيما لو حفظت ألفية ابن مالك في الإعرابات في القرآن، ماذا أُعرِب؟ أُعرب الألفية نفسها مثلاً، أو تنظر في إعراب القرآن فتمارس النحو، كذلك الصرف، كذلك البيان، كذلك المصطلح تدرسه ثم تمارس في التخريج ونحو ذلك.
هنا تدرسه ماذا تصنع تقف؟ لا، وإنما تمارس هذا الفن بالنظر فيما كتبه أهل الأصول من مقدمات أو فيما يتعلق بالمسائل، أو كذلك أهل النحو أونحو ذلك.
ثم فيما يتعلق بالرد تنظر فيما كتبه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في إبطال ما ادَّعاه من ادعى في كون عقيدته على قياسٍ صحيح، حينئذٍ بعد ذلك تستمر في هذا النوع، فتمارس الفن فتتكون عندك الملكة.
حينئذٍ إذا أتقنت ما ذكرتُه لك، حينئذٍ لا يُشكل عليك شيءٌ من مصطلحات القوم ولا من قواعدهم، بل فيما يظهر والله أعلم أنك تكون مشاركاً لهم؛ لأن أكثر ما ذُكر في الشمسية وفي السلّم إنما هو الذي يدندن به من يدندن في باب المعتقد من الأقيسة ونحوها.
ثم اعلم أن هذا الفن مسائله النثرية يصعب بقاؤها في الذهن كغيرها من العلوم، كالفرائض .. الفرائض ما تبقى، لكن لو حفظ طالب العلم نظماً سلساً، أو نظماً مطولاً، حينئذٍ يبقى معه شيءٌ من العلم.
(1/12)
________________________________________
ولذلك ننصح في هذا المقام وإن كان فيما سبق يحفظون الشمسية، لكن نقول: لا تحفظون الشمسية؛ لأنها من ضياع الأوقات تعتبر، وإنما تحفظ نظماً، وهذا النظم كما هو معلوم يُعتبر من نوع الرَّجز، ونوع الرجز هذا مستعذبٌ في اللسان وفي الآذان، وإذا حفظه الإنسان يستطيع أن يكرره خاصةً إذا كان النظم سلساً، حينئذٍ إما أن يحفظ السلَّم وهذا لا يكفيه فيما سبق، السلَّم لا يعتبر، كالآجرومية لا تكفيك في باب النحو، وإنما ينظر فيما زاد على ذلك.
فيحفظ السلّم أولاً، ثم بعد ذلك إما الشمسية (نظم الشمسية) وإما التوشيح، الشمسية هذه لبشير الغَزِّي تقع في (235) يعني رُبع ألفية .. قريباً من ذلك.
يقول فيها:
وَهَذِهِ أُرْجُوْزَةٌ سَنِيَّهْ
أنِيقَةُ الأَلفَاظِ وَالمَعانِي ... ضَمَّنتُها مَسَائِلَ الشَّمْسِيَّةْ
تَعْذُبُ فِي الآذَانِ وَالأَذْهَانِ
وليس لها شرحٌ للأسف الشديد، وهذا الذي يجعلنا نعزف عنها، ففيها خمسة أبيات فيها إشكالات وفيها رموز، قرأتُها على أحد المشائخ لكنه فيها أعوازٌ كبير وشيءٌ من الغموض.
ثانياً: توشيح عبد السلام على متن السلم المنورق المسمَّى بالاحمرار, هذا يقع في (440) بيتاً يعني: نصف ألفية تقريباً.
جمع فيه كثيراً من المسائل التي تركها صاحب السلم فألحقها به من عدة شروح يقول في خاتمتها:
نَظَمتُهُ لِلْمُبْتَدِيْنَ تَبْصِرَهْ
مُعْتَمَدِي فِي نَقْلِهِ قَصَّارَهْ
وَأَصْلُه بَنَّانِي ذُوْ التِّبْيَانِ
وَرُبَّمَا زِدْتُ مِنَ المُخْتَصَرهْ
فَجَاءَ نَظْمَاً جَامِعَاً مُبِيْنَا ... وَلِلشُّيُوخِ المُنْتَهِيْنَ تَذْكِرَهْ
جَمِّ المَعَانِي وَاضِحِ الْعِبَارَهْ
وَشَرْحُ قَدُّوْرَةِ ذِي الاِتْقَانِ
وَشَرْحِهَا مَسْأَلَةً مُحَرَّرَهْ
عَلَى مُهِمِّ فَنِّهِ مُعِيْنَا
وهذا أجود، ولو اعتكف عليه طالب العلم وحفظه وفهمه حق الفهم كفاه.
السلّم موجودٌ فيه بلفظه. يعني: من عنده قدرة أن يبدأ في المطولات، وهذا لا يُنصح به، لكن قد يكون شذوذ من قواعد، من شذ واستطاع أن يصبر على المتن فيبدأ به ابتداءً وانتهاءً، يكون هذا الكتاب الذي تبتدئ به، وهو الذي تتوسط به، وهو الذي تنتهي به. لكن يحتاج إلى شرح، فيه شرحٌ لبعض المعاصرين، لكن فيه إعوازٌ، ويحتاج إلى شرح.
وقد شرح التوشيح بعض المعاصرين ولكن فيه إعوازٌ كثير.
وأشملُ النظمين وأوسعها وأسهلها هو التوشيح.
إن يسَّر الله عز وجل نشرحه صوتياً وسيكون قريباً إن شاء الله تعالى، لكن موسَّعاً.
يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: وينبغي للطالب أن يطَّلع على مختصرات المنطق، ويأخذه عن شيوخه ويفهم معانيه بعد أن يفهم النحو؛ ليفهم ما يبتدئ به من كتبه ليستعين بذلك على فهم ما يورده المصنفون من مطولات كتب النحو ومتوسطاتها من المباحث النحوية.
"ينبغي" هذه إما على جهة الإيجاب وإما على جهة الاستحباب "ينبغي"، وإن كانت في الشرع تأتي للتحريم المشدد ((وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ)) [مريم:92] وأما في استعمال الفقهاء فقد يعنون بها: ينبغي المستحب، المرادفة عند بعضهم للمستحب.
لكن في مثل هذه المواضع التي ليست في مصاف المسائل الفقهية قد يُحمل على الانبغاء بمعنى الإيجاب أو بمعنى الاستحباب.
(1/13)
________________________________________
قال: ينبغي للطالب أن يطَّلع على مختصرات المنطق ويأخذه عن شيوخه ويفهم معانيه بعد "بعد" تدل على الترتيب- بعد أن يفهم النحو.
وهذا يدل على أن أولئك الأقوام إنما ساروا على الجادة يعني: يأخذوا النحو، ثم إذا أراد أن يرتقي إلى كتب المتوسطين، ومعلومٌ أن عبارات في اصطلاحات المنطقة التي يستعملها النحاة الذين يشرحون الكتب إنما ليست في كتب المبتدئين، لا يوجد في شروح الآجرومية مثلاً (إلا في شرحه الأعلى) .. لا يوجد في شروح الآجرومية مصطلحات المناطقة: تَصَوُّر وتصديق ... إلى آخره، لا يوجد والله أعلم.
وإنما يوجد في القطر وما بعده، حينئذٍ يأخذ ما يحتاجه المبتدئ، ثم قبل الولوج في المتوسطات من كتب النحو يقول: تأخذ شيئاً من مختصرات المنطق؛ لأن العلوم يخدم بعضها بعضاً، ليس عندنا طريق واحد تشقه وتمشي لا، وإنما العلم له شعب، وكل شُعبةٍ تخدم الشعبة الأخرى، بينهما تعاون.
حينئذٍ إذا أراد الطالب أن ينظر في علمٍ ما ويجد مشقة في فهم بعض الاصطلاحات فلا بد أن يقدّم قبل أن يلج هذه الكتب المتوسطة أو المطولة لا بد أن يأخذ شيئاً من العلم الآخر ليعينه.
الطالب الذي يقرأ في الفقه مثلاً، أخَذَ المسألة وحكمَها، ثم إذا أراد أن ينتقل قد لا يحتاج في هذه المرحلة إلى علم أصول الفقه، إذا كان ستُلقَى عليه المسألة تصويراً فقط، بيان الحكم والدليل قد لا يحتاج إلى أصول الفقه، لكن إذا أراد أن يرتقي إلى القولين فحينئذٍ يقع تضارب: حرام، جائز، مكروه .. إلى آخره.
فكيف يميّز بين هذا وذاك؟ كيف يفهم ما يرِد على هذا القول والقول الآخر؟
فلا بد أنه قبل أن يلج في المرحلة المتوسطة أن يأخذ شيئاً من أصول الفقه، كذلك هنا كلام الشوكاني رحمه الله تعالى.
قال: بعد أن يفهم النحو.
النحو مقدّم، وهو أول علوم الآلة التي ينبغي العناية بها، يدرس علم النحو؛ ليفهم ما يبتدئ به من كتبه ليستعين بذلك على فهم ما يورده المصنفون في مطولات كتب النحو ومتوسطاتها من المباحث النحوية.
قال: ويكفيه في ذلك مثل: المختصر المعروف بإيساغوجي -كتابنا-، أو تهذيب السعد وشرحٍ من شروحهما.
يعني: إما إيساغوجي وإما تهذيب السعد للشمسية. إما هذا وإما ذاك.
وليس المراد هنا (بدراسة هذين الكتابين) إلا الاستعانة بمعرفة مباحث التصورات والتصديقات إجمالاً.
يعني: كمرحلة أولية فقط.
لئلا يعثُر على بحث من مباحث العربية من: نحو أو صرف أبو بيان قد سلك فيه صاحب الكتاب مسلكاً على النمط الذي سلكه أهل المنطق فلا يفهمه.
يعني: لئلا يقع في حرج؛ لأنه قد تأتي عليه مسألةٌ فيها اصطلاحٌ للمناطقة، أو مسألة مبناها على قاعدة من قواعد المنطق، فكيف يفهمها؟ لا بد أنه يستعين بذلك يعني: الفن المختصر قبل الولوج في هذه الكتب.
قال: لئلا يعثر على بحث من مباحث العربية من نحو أو صرف أو بيان قد سلك فيه صاحب الكتاب مسلكاً على النمط الذي سلكه أهل المنطق فلا يفهمه، كما يقع كثيراً من الحدود والإلزامات فإن أهل العربية يتكلمون في ذلك بكلام المناطقة، فإذا كان الطالب عاطلاً عن علم المنطق بالمرة لم يفهم تلك المباحث كما ينبغي.
(1/14)
________________________________________
إذاً قد يفهمها لكن لا يصل إلى الدرجة القصوى، ومن هنا نأتي نرُد على من يقول بأنه قد فهم الأصول مثلاً على وجهه دون أن ينظر في علم المنطق.
نقول: لا. كذبتَ وإنما صار عندك شيءٌ من الفهم لكن ليس على وجه التمام، ومن يدَّعي بأنه فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مناقشات الأشاعرة ونحوها، حينئذٍ نقول: هل درستَ علم المنطق؟ يقال: لا. وفهمتُ كلام ابن تيمية! نقول: لا. لا يسلَّم، وإنما فهمتَ بعضاً من كلام ابن تيمية، فهمتَ فهماً عاماً من كلام ابن تيمية، أما الفهم القوي الصحيح المتعمق فهذا لا يمكن؛ لأنه سيأتي بعبارات ويأتي بجمل ويأتي بأصول، وقد اعتمدها المناطقة، فإذا لم تفهم هذه الأصول على وجهها كيف تفهم الرَّد؟ كما ذكرناه فيما سبق.
فإذا كان الطالب عاطلاً عن علم المنطق بالمرة لم يفهم تلك المباحث كما ينبغي.
ثم قال: ثم يشتغل بعلم المنطق فيحفظ مختصراً من مختصراته كالتهذيب أو الشمسية، ثم يأخذ في سماع شروحهما على أهل الفن، فإن العلم بهذا الفن على الوجه الذي ينبغي يستفيد به الطالب مزيد إدراك.
لأنه أشبه ما يكون بالقواعد التي يدندن حولها المعاصرون .. قواعد التفكير، هي من علم المنطق، علم البرمجة العصبية هذا نظرتُ فيه أكثرُه من علم المنطق، وبعضهم يحرِّم المنطق ويزهِّد فيه وهو يعطي دورات في البرمجة العصبية. هذا نسميه تناقضاً؛ لأنه ما درى علم المنطق، فلما جاء هذا العلم ظنه لأنه بأسلوب عصري ومترجم .. إلى آخره، فظن أنه علمٌ يتعلق بالتفكير، وكيف تفهم الآخرين .. إلى آخره.
وكله قواعد منطقية، هو مستقى من فن المنطق لكن بأسلوب عصري فقط، فالعلم هو بعينه.
على الوجه الذي ينبغي يستفيدُ به الطالب مزيد إدراك، وكمال استعداد عند ورود الحُجج العقلية عليه، وأقل الأحوال أن يكون على بصيرة عند وقوفه على المباحث التي يوردها المؤلفون في علوم الاجتهاد من المباحث المنطقية كما يفعله كثير من المؤلفين في الأصول والبيان والنحو.
على ما ذكره الشيخ الأمين رحمه الله تعالى.
يقول رحمه الله تعالى. يعني بعد أن تفهم علم المنطق لا ينبغي للإنسان أن يتكلم في شيءٍ إلا وهو يتقنه، وأنا قدَّمت بهذه المقدمة من أجل أن تكون على بصيرة؛ لأن بعض العلوم أو بعض المسائل قد يتكلم فيها الإنسان أو الطالب على جهة التقليد، ثم من كان مقلداً الأصل أنه يكتفي بنفسه لا يُلزِم غيره؛ لأنه لا يجوز أن يُحتج لأحدٍ إلا بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا تبنَّى قول من يرى التحريم أو التزهيد، أو لا يدرسه إلا الفارغون، أو نحو ذلك من العبارات التي قد تروج على بعض الطلاب. نقول: هذا اكتفي به في نفسك، إن أردت تأصيل المسألة فحينئذٍ لا بد أن تعلم أولاً ما هو المنطق، تدرُسه ثم بعد ذلك تنظر في هل يُقبل أو لا يُقبل.
تدرس المجاز أولاً وتعرف المجاز بتفاصيله وتمارسه ثم بعد ذلك تقول في مجاز أو ما في مجاز، أما أن تأتي هكذا وتقول: لا مجاز لا في اللغة ولا في القرآن نقول: لا.
أولاً تدرس هذا إذا أردت أن تتكلم بعلم، مقلِّد قل: أنا مقلِّد، لا إشكال فيه، يعني: نسلِّم لك إذا كنت مقلداً تقول: أنا مقلّد ونكتفي ولا نناقشك.
(1/15)
________________________________________
أما إذا أراد أن يناقش وأن يُنكر على غيره فحينئذٍ لا بد أن يكون أولاً يفهم هذا العلم أو يفهم هذه المسألة أو هذا الباب على الوجه الذي ينبغي، ليس سطحياً هكذا يأخذ كتاب معاصر ويقرأ، ثم يقول: لا مجاز، أو لا يُدرس المنطق ونحوه.
الشوكاني رحمه الله تعالى يقول (لعله وجد شيئاً من ذلك) يقول: وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم، ويجري على لسانه الطعن في علمٍ من العلوم لا يدري به ولا يعرفه ولا يعرف موضوعه ولا غايته ولا فائدته، ولا يتصوره بوجهٍ من الوجوه. يعني: لا يدري عنه شيء البتة، هذا طيب إذا عرف أن ثم علماً، ولعله عرف باسمه فقط، وأنكره البعض فأخذ يُنكر معهم.
فحينئذٍ يقول رحمه الله تعالى: وقد رأينا كثيراً ممن عاصرنا ورأيناه يشتغل بالعلم وينصف في مسائل الشرع ويقتدي بالدليل.
يعني: في المسائل الشرعية حلال وحرام يأتي بالدليل لا إشكال فيه، وهذا موجودٌ حتى في عصرنا، يعني: هذه سلسلة (علمٌ متوارث) يأتي في مسائل الفقه فإذا به يقف بين مالكٍ والشافعي ويطالب بالدليل، بل يقف بين الصحابة، بين أبي بكرٍ وعمر ويطالب بالدليل. وهذا حسن إذا كان على وجه الإنصاف ومعرفة الأدلة والأصول، ومع الأدب والاحترام والتقدير. نقول: هذا لا إشكال فيه.
لكن إذا جاءت في بعض المسائل وخاصة في إنكار العلوم فإذا به يدندن حول ما يدندنه غيره ممن ينكر الفن، فيرى هنا الشوكاني رحمه الله تعالى أن بعض أهل العلم ممن له مكانة ويُنصف في المسائل الشرعية، إذا أراد أن يتكلم فإذا به يطالب بالدليل على وجهه، إذا جاء في بعض العلوم أنكرها على وجه العموم فلا ينظر فيها.
يقول هنا: وقد رأينا كثيراً ممن عاصرنا ورأيناه يشتغل بالعلم وينصف في مسائل الشرع ويقتدي به بالدليل. فإذا سمع مسألة من فنٍ من الفنون التي لا يعرفها كعلم المنطق والكلام والهيئة ونحو ذلك نفر منه طبعُه.
لأنه ما يعرفه، جاهل أول ما يسمع شيئاً يجهلُه تنفر منه طبعُه.
ونفَّر عنه غيره وهو لا يدري ما تلك المسألة ولا يعقلها قط، ولا يفهم شيئا منها. فما أحق من كان هكذا بالسكوت، والاعتراف بالقصور، والوقوف حيث أوقفه الله تعالى، والتمسك في الجواب إذا سُئل عن ذلك بقوله: لا أدري.
هل أدرسُ المنطق أو لا -وأنت ما درستَ-؟ تقول: لا أدري.
إن كنت مقلداً قل: قال فلان، وانقل قوله ولا إشكال فيه، تكون ناقلاً للعلم، وناقل العلم ليس من أهل العلم.
ولذلك نقل ابن عبد البر رحمه الله تعالى الإجماع على أن المقلِّد ليس من أهل العلم؛ لأنه إما عامّي وهذا قطعاً، وإما أنه متشبه بأهل العلم يعني: درس وتعلم إلى آخره، لكنه رأى أنه يجب تقليد إمام من الأئمة. هذا ليس من أهل العلم ولا يُعتد به لا بخلافه ولا بوجوده.
وحينئذٍ نقول: هذا يُعتبر من العوام.
قال هنا: والتمسك في الجواب إذا سُئل عن ذلك بقوله: لا أدري.
وإن كان ناقلاً نقل عن غيره، ولا يجعلها مسألة. يعني: يكون عليها ولاء وبراء، إما أن توافق وإما .. إلى آخره.
قال: فإن كان ولا بد متكلماً ومادحاً أو قادحاً فلا يكون متكلماً بالجهل وعائباً لما لا يفهمه، بل يُقدِّم بين يدي ذلك الاشتغال بذلك الفن حتى يعرفه حق المعرفة ثم يقول بعد ذلك ما شاء.
(1/16)
________________________________________
يعني: لو درست علم المنطق أو درست المجاز وفهمته على وجهه ثم قلت: لا مجاز لا إشكال فيه، لكن لا تقل: لا مجاز وأنت ما تعرف المجاز من الحقيقة، وإنما تقلِّد غيرك. تقول: لا. قل: أنا مقلّدٌ.
وأما إذا أردت أن تحكم حكماً ابتدائياً يعني: منشَأً من عندك، فلا بد أن تعلم أولاً ما هو المجاز وتدرسه، ما تأخذ التعريف فقط لا، تعرف أنواع المجاز المرسل والاستعارة المكنية، وتجرب وتمارس .. إلى آخره، وتتلذذ بالآيات الواردة فيها، ثم بعد ذلك إذا ما طابت نفسك لهذا القول تقول: لا مجاز، ولا إشكال فيه والمسألة خلافية.
وأما ابتداءً هكذا تقول: لا مجاز. نقول: لا. وإنما تكون مقلِّداً.
المنطق كذلك دراستُه يزهِّد بعض الناس نقول: هذا إن كان عن علمٍ بالفن لا إشكال فيه، الخلاف معه لفظيٌ، وأما إن كان عن جهلٍ بالعلم وإنما قلَّد غيره، فهذا لا يُلتفت إليه.
إيساغوجي -الذي معنا في المنطق- متن إيساغوجي في المنطق يرجع هذا الاسم على شهرة هذا الكتاب ومكانته عند أهل العلم؛ لذلك كثرت شروحه وحواشيه.
يرجع هذا الاسم إلى منطقيٍ إغريقي قيل اسمه: فرفريوس. من أهالي مدينة صُوْر الساحلية الواقعة في جنوب لبنان. يعني: قبل الميلاد.
قيل: توفي سنة 233هـ ألَّف كتاباً اسمه إيساغوجي .. إيساغوجي بهذا الاسم، وهي كلمة يونانية تعني الكليات الخمس: جنس، فصل، عرَضٌ، نوعٌ، وخاص.
وَالكُلِّيَّاتُ خَمْسَةٌ دُونَ انْتِقاصْ ... جِنْسٌ وَفَصْلٌ عَرَضٌ نَوْعٌ وَخاصْ
هذه إيساغوجي معناها الكليات الخمس؛ لأن بحث المنطق في الكليات .. المنطق كله من أوله إلى آخره مختصر في الكليات، وهذه الكليات ليست مطلقاً لأنها عقلية كما سيأتي، وإنما من حيث الإيصال إلى مجهول تصوري أو مجهول تصديقي.
إذاً: إيساغُوجي: هي كلمة يونانية في الأصل معناها -على المشهور-: الكليات الخمس وقيل غير ذلك، قيل: مقدِّمة المنطق، وقيل: المدخل إلى العلم، وقيل غير ذلك كما سيأتي في الشرح.
وقيل: إن كتاب فرفريوس هذا نقلَه إلى العربية أبو عثمان الدمشقي.
إذاً: القول الأول أن الكتاب لصاحبه.
والقول الثاني: قيل: إن كتاب فرفريوس هذا نقله إلى العربية أبو عثمان الدمشقي في القرن التاسع الميلادي، ثم اختصره جماعةٌ واشتهر منهم: اختصارُ أثير الدين الأبهري -صاحبنا هذا.
إذاً: هل هو كتاب مرتجَل ابتداءً أم أنه مختصرٌ من غيره؟ فيه قولان.
واشتهر منهم اختصارُ أثير الدين الأبهري، وقيل: هما كتابان متغايران. فكتاب الأبهري غير كتاب فرفريوس اليوناني.
وهذا أو ذاك نحن لا نلتزم بتحقيق هذه المسائل، أصحاب المصنفات والكتب إلى آخره، الأسماء .. متى مات .. متى وُلد؟
نقول: هذه لا تعني طلاب العلم بالاشتغال بها، وإنما النظر في الكتاب نفسه، ولو كان صاحبه مجهولاً غير معروف.
كتاب المقصود هذا في الصرف، هذا من أنفَس ما كُتب للمبتدئين، هو أولى الاشتغال به من اللامية لابن مالك رحمه الله تعالى، لكن صاحبه غير معروف.
(1/17)
________________________________________
حينئذٍ هل لكون صاحبه مجهولاً نستغني عن الكتاب؟ نقول: لا؛ لأن المراد هذه المعلومات الموجودة صحيحة أم لا؟ إن كانت صحيحة الحمد لله كُفِينا، إن كان فيها خلْط فحينئذٍ ألحقناه بصاحبه، فلا يُلتفت إليها، لكن إذا صحَّت حينئذٍ لا يلتفت إلى المصنف.
ومتن إيساغوجي متنٌ جامعٌ لمهمات المسائل المنطقية، تلقاه العلماء بالقبول واعتمدوه إقراراً وشرحاً ونظماً منذ عهد مؤلفه، ولا يزال عمدةً إلى يومنا هذا.
لكن قد يُشتغل به في بعض البلاد دون بعض، وهذا موجودٌ وشهير وكثير أيضاً، ولذلك من نظر في كتاب أدب الطلب للشوكاني رحمه الله تعالى وهو إمام في علوم الآلة وعلوم المقاصد، تجد بوناً شاسعاً بين ما نقرأه نحن شمال الجزيرة، وبين ما يقرأه اليمنيون في الجنوب.
هم يقرءون في النحو الكافية، لا يعرفون الألفية، ولذلك هو نصَّ لما جاء متن الألفية قال: لا نعرفها ولم نشتغل بها، ونحن عندنا الاشتغال بالألفية والكافية لا نعرفها، قد نقرأ فيها مطالعات أو رجوع، لكن الكتاب المعتمد الذي يُحفظ هو الألفية.
فهذه المسائل دائماً نقول: ليست توقيفية، بعض الطلاب يقع بينهم نزاع وقد يقع هجر، وقد يستحقر الآخر لأنه ما حفظ كتاب كذا نقول: لا. هذا خطأ.
الأصل المعتمد: أن تحفظ، لا بد من هذا.
الأصل الثاني: أن تقرأ على شيخ.
هذان أصلان من حيث الإجمال متفقٌ عليهما بين أهل العلم، لكن ماذا تقرأ؟ هذا مختلف فيه، ولذلك يُعتمد الإقناع مختصر الخرقي، ثم يذهب ويأتي المقنع، ثم يذهب ويأتي اختصار .. تبدَّلت وتغيرت.
اعتمد الناس الخرقي وشرحوه وصار هو الكتاب المعتمد، أراد الله عز وجل أن ينصرف الناس عن الخرقي وُجد المقنع، فشُرح إلى آخره وهو الذي كان يُحفظ، ثم اختُصر فاعتكف الناس على المختصر.
إذاً: المسألة ليست توقيفية، فلا نجعل الاشتغال: نحفظ هذا أو نحفظ كذا الزاد، الدليل، عمدة الفقه .. هذا عبث واشتغال بما لا يعود بالفائدة على الطالب.
نعم هي على مراتب ولا شك، فالأفضل أن ينتقل الطالب إلى أعلى الدرجة، لكن إذا ما استطاع ينزل إلى ما هو دونه.
قال هنا: وهو الذي يُشتغل به في بعض البلدان إلى يومنا. هذا طبع طبعات لا تحصى كثرة، وعليه شروحٌ متعددة، فأولها شرح مؤلفه نفسه الأبهري سمَّاه: قال أقول. هذا اسم كتاب -قال أقول-، تسمى الفنقلة ذكرها صاحب البلبل في أول شرحه، الفنقلة: فإن قلتَ قلنا .. قال أقول.
قيل: طُبع سنة 1293هـ ثم وضع حاشيةً على هذا الشرح سماها مغني الطلاب في المنطق، كذلك طُبعت قديماً سنة 1260هـ
ثم توالت الشروح والحواشي على هذا الشرح.
إذاً: أول من شرح إيساغوجي هو صاحبُه، والقاعدة أو المعلومة والمطرد عند أهل العلم أن من شرح كتابه ضاع شرحُه، يبقى المتن ولكن يذهب، نستثني دائماً النخبة لابن حجر رحمه الله تعالى شرحَها فبقيَت، أما من عداه فالغالب أنه لا يُلتفت إليه. وهذه سُنة؛ لأنه إذا جاء يشرح متن غيره يأتي بالملقاط. يعني: يحاول أن يحصْحِص ويقلِّب العبارة باللوازم، وأما إذا جاء هو يفهم المراد فيشرح يختصر.
(1/18)
________________________________________
ولذلك الكافية لابن الحاجب شرحَها هو بنفسه، لكنه ما اشتهر طُبع موجود ويصوَّر، لكنه ما اشتهر إنما اشتهر شرح الرضي لأنه عقَّب كما يقول البعض: بالملقاط.
وابن مالك رحمه الله تعالى في كشف الظنون أنه أوَّل من شرح ألفيته .. ابن مالك صاحب الألفية، الكثير لا يدري أنه شرح الألفية، أين الشرح؟ مع أن المتن محفوظ وباقي، وأما الشرح فلم يبق.
هكذا كثير؛ لأنهم على ما ذكرنا سابقاً لا يلتفتون إلى الألفاظ وتقليب الجمل إلى آخره؛ لأنهم يفهمون المراد .. صاحب البيت أدرى بما فيه، وأما غيره فلا، يحصحص معه، يحاول أن يستقيم معه في العبارة ويشدد معه أحياناً، حينئذٍ لا بد من التقليب.
ومن شروح إيساغوجي شرحُ حسام الدين حسن الكاتي توفي سنة 760هـ وعلى هذا الشرح حواشي كذلك، نحن لا نشتغل كما ذكرنا فيما سبق بالحواشي كثيرة على هذا المتن.
ومن الشروح شرح زكريا الأنصاري توفي 910هـ سمّاه المطلَع أو المُطلِع ضُبط بالوجهين: مطْلَع مفْعَل، أو مُطلِع كما سيأتي، فرغ منه سنة 875هـ طُبع في بولاق سنة 1283هـ ثم بالحسينية سنة 1328هـ، ثم طُبع مراراً بعدها. وهذا يُعتبر أنفس شرحٍ لإيساغوجي وهو مختصر، اثنا عشر يوماً قد تكون كثيرة عليه، لكن نحاول ..
وقد كُتب على هذا الشرح عدة حواشي منها حاشية لشهاب الدين أحمد الغُنيمي سماها كشف اللثام عن شرح شيخ الإسلام، هذا مخطوطٌ بالأزهرية.
وحاشية العلامة الخُرشي المالكي توفي سنة 1101هـ ثم الشيخ أحمد بن علي المصري سماها المَجمَع أو المُجمِع لحل ألفاظ إيساغوجي وشرحِه المْطلَع أو المُطلِع على الضبط الذي ذكرناه.
وحاشية يوسف الحفناوي، هذه مطبوعة توفي سنة 1178هـ طُبعت في مطبعة بولاق سنة 1283هـ ثم بالمطبعة الشرفية بالقاهرة سنة 1302هـ، ثم تكرر الطبع، مطبوعة وموجودة.
وحاشية الشيخ حسن العطار شيخ جامع الأزهر كتبها 1250هـ وفرغ منها سنة 1236هـ وطُبعت في المطبعة العثمانية بالقاهرة سنة 1311هـ ثم بالميمينة سنة 1321هـ وكذلك موجود الآن، هذه غير موجودة، طبعتها مطبعة مصطفى الحلبي سنة 1347هـ ورق أصفر موجودة كذلك، وهي أنفسُ حاشيةٍ على شرح زكريا الأنصاري.
وكذا الشيخ عُلَيِّش أو عِلَيِّش أو عُلَيْش المالكي توفي سنة 1299هـ فرغ منها سنة 1283هـ وطبعت في المطبعة الوهبية بالقاهرة 1284هـ إلى غير ذلك من الشروح.
إيساغوجي إن اعتنى به المعتني فينظر في شرح زكريا الأنصاري من حيث الشروح ومن حيث الحواشي حاشية حسن العطَّار فيكتفي بذلك.
وإن نظر في السلَّم المنورق فيكتفي بما ذكرناه سابقاً ولا يحتاج إلى هذه الكتب، كثرة النظر في هذه الكتب كما ذكرنا فيما سبق ليس هو المراد في الذب -إن صح التعبير- عن دراسة هذا العلم، وإنما المراد أن يعرف ويقف على المصطلحات، ويكتفي بما يمكن الاكتفاء به، فإن وَجد من يتقن السلَّم وشروحه اكتفى به، ثم بعد ذلك التوشيح، وإن وَجد إيساغوجي فكذلك فيكتفي به على السلَّم وهكذا.
وليس المراد أن الطالب يتوسع فيه يقرأ صباح مساء أو نحو ذلك، فهذا ليس هو المطلوب.
(1/19)
________________________________________
قيل: نظمه الشيخ عبد الرحمن الأخضري وسمّاه السلَّم المنورق، اشتهر وعليه شروحٌ كثيرةٌ جداً، وشروح السُلَّم من حيث الفهم أوعب للطالب من شروح إيساغوجي. يعني: الذي يريد أن يفهم أكثر فشروحات السلَّم أوضح، ولذلك شرح القويسني سهل جداً، كذلك شرح الأخضري نفسه، وكذلك شرح الدمنهوري، كذلك شرح الملّوي المختصر .. كلها سهلة.
لكن زكريا الأنصاري فيه شيءٌ من الغموض وإن كان هذا محسوبٌ عليه هو في تصانيفه، أنه عنده شيءٌ من الغموض.
هذا ما يتعلق بمقدمة تتعلق بفن المنطق من حيث الحكم على جهة الإجمال ويأتي في موضعه سيذكر المصنف مقدمة العلم من حيث المبادئ العشرة الآتي ذكرها.
نقف على هذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!
(1/20)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح المطلع على متن إيساغوجي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ:
قال المصنف رحمه الله تعالى: قال رحمه الله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ) أي: أبتدئُ.
قال المصنف: (قال رحمه الله) هذا فيه إشارة، وهذا نشير إليه لأنه كثُر تغيير هذه العبارة بحجة أنها أبلغ وأفصح، قال: فلانٌ يرحمه الله. عُدولاً عن رحمه الله، الصواب أن يقال: أن رحمه الله أفصح.
يعني: إذا كان يراد بأن يرحمه الله فعلٌ مضارع أفصح من الفعل الماضي هذا غلط ليس بصحيح، بل الصواب أن يقال: هذه الجملة خبرية اللفظ إنشائية المعنى، يراد بها الدعاء، وأهل العلم قديماً وحديثاً -ولذلك تجد حتى في الحواشي- لا يعترضون هذا التركيب؛ لأنه موافقٌ على مقتضى البلاغة، وموافقٌ للفصيح من كلام العرب.
حينئذٍ تُطلق هذه الجملة ويراد بها الدعاء، فهي خبرية لفظاً إنشائية معنى، وليس المراد القطع بكون الرحمة حاصلة، لا يُفهم هذا. وإنما يُعبِّر بالفعل الماضي من باب حسن الظن بالباري جل وعلا .. أن الرحمة حاصلة، وإلا القطع بأنها حاصلة بدلالة الفعل الماضي ليس هذا المراد.
ولذلك نقول: هذه الجملة كغيرها من الجمل، هي خبرية لفظاً إنشائية معنى؛ لأن المراد بها: اللهم ارحمه.
حينئذٍ ليس ثم نكتة في العدول عن الفعل الماضي إلى الفعل المضارع.
ليس ثم نكتة يعني: فائدة في العدول عن الفعل الماضي إلى الفعل المضارع، يشهد لهذا: أن أئمة اللغة وغيرهم أجمعوا على هذا التعبير: ما من مصنَّفٍ إلا ويُذكر فيه: رحمه الله.
حينئذٍ نقول: هذا يُعتبر هو المقدَّم.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ) قال الشارح: (أي: أَبتدئُ).
(أي) هذه حرف تفسيري. يعني: ما بعده مفسِّرٌ لما قبله، وليس هذا المراد هنا، وإنما المراد تفسير المتعلَّق؛ لأن البسملة هنا: الباء حرف جر، وما بعده مجرور بحرف الجر الأصلي، وحرف الجر الأصلي لا بد أن يكون له متعلَّق، القاعدة:
لَا بُدَّ لِلجَارِ مِنَ التَّعَلُّقِ ... بِفِعْلٍ اَوْ مَعْنَاهُ نَحْوُ مُرْتَقِي
يعني: بالمشتقات العشرة المشهورة عند الصرفيين ليست عند النحاة، حينئذٍ كل جار ومجرور وإن كان الجار حرفاً أصلياً لا بد له من متعلَّق.
الباء هنا أصلية على الصحيح ومعناها الاستعانة، حينئذٍ إذا قلت: بسم الله الرحمن الرحيم. أين المتعلَّق؟
(بسم) هذا متعلِّق بكسر اللام، أين المتعلَّق؟ نقول: مقدَّر محذوف، ولذلك أراد المصنف هنا أن يفسِّره .. يبيّن هذا المتعلَّق.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ) (أي) هذا حرف تفسير وليس بحرف عطف خلافاً للكوفيين.
ولذلك تقول: اشتريتُ عسجداً أي: ذهباً. فيُعرب ما بعد أي على أنه بدل كل من كل، أو عطف بيان. ولا يُعرب على أنه معطوف ومعطوف عليه مثل: جاء زيدٌ وعمرٌ، هذا مذهب الكوفيين، لكنه مذهبٌ مرجوح، الصواب أن يقال: بأن (أي) حرف تفسير، ويُعرب ما بعده بدلاً مما قبله. وهذا مذهب البصريين.
(2/1)
________________________________________
لكن (أي) يؤتى بها في التفسير في المفردات: اشتريتُ عسجداً أي: ذهباً ولا تقل: يعني ذهباً، وإنما: أي ذهباً.
وأما إذا أُريد التفسير للمعاني فيؤتى بالعناية. يعني المصنِّف كذا، إذا أُريد المفهوم التركيب وليس المراد تفسير لفظ بعينه يؤتى بلفظ العناية تقول: يعني المصنف كذا، وأما (أي) الأصل فيها أنها لتفسير المفردات.
هذا هو الأصل وهو الغالب في استعمال أرباب الحواشي والمصنَّفات، لكن قد يحصل تغاير فيؤتى بأي في المعاني الكبار المركبات، ويؤتى بأعني في المفردات، وهذا موجود.
(أبتدئ) هنا بيانٌ لمتعلَّق الجار والمجرور، قدَّره المصنف هنا فعلاً بناءً على الأصل، ما هو الأصل في العمل؟ نقول: للفعل.
فالأصل هنا أن يقدِّره فعلاً؛ لأن الأصل في العمل للأفعال، وقدَّره مؤخراً، ما قال: أبتدئ أي: باسم الله، أو باسم الله وقدَّم الفعل عليه نقول: لا، وإنما يؤخَّر لما سيأتي.
ومؤخراً لإفادة الحصر، وكان الأولى تقديره خاصاً كـ: أؤلف .. بسم الله الرحمن الرحيم أي: أؤلف، أكتُب.
لأن كل شارع في شيء أو حَدثٍ يُضمر ما جُعلت التسمية مبدأً له.
حينئذٍ قوله: (أي أبتدئ) هذا صحيحٌ من وجهين:
الوجه الأول: أنه قدَّره فعلاً، وافق الأصل أو لا؟ نقول: نعم وافق الأصل، يُسلَّم له .. التقدير هنا كونه فعلاً هذا مسلَّمٌ له؛ لأن المتعلَّق عاملٌ في المتعلِّق، والأصل في العمل أن يكون للأفعال، يؤيد ذلك أنه جاء مصرَّحاً به لقوله: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) [العلق:1].
((اقْرَأْ بِاسْمِ)) باسم هذا متعلِّق باقرأ وهو فعلٌ، كذلك: {باسمك ربي وضعتُ جنبي} الحديث، وضعتُ باسمك، وضعتُ هذا فعل.
إذاً: جاء مصرَّحاً به في موضعين: في القرآن وفي السنة.
فحينئذٍ القاعدة هنا: أن كل شيءٍ احتمَل وجهين وجاء مصرحاً في بعض المواضع فما احتمل الوجهين يُحمل على المصرَّح، فإذا صرَّح ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)) حينئذٍ نقول: كل متعلَّقٍ للجار والمجرور فالأصل أن يكون فعلاً للقاعدة النحوية: أن الأصل في العمل إنما يكون للأفعال، وعمل الأسماء هذا يعتبر فرعاً.
ثانياً التصريح به، ولذلك كل (ما) في القرآن فهي حجازية لا تميمية، كل لفظ ((مَا)) في القرآن فهي حجازية لا تميمية؛ لأنه جاء مصرَّحاً به في موضعين: ((مَا هَذَا بَشَرًا)) [يوسف:31]، ((مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ)) [المجادلة:2].
حينئذٍ ((وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ)) [البقرة:74] يحتمِل أنها تميمية والأصل فيها عدم العمل، والباء هذه زائدة للتوكيد، ويحتمل أنها حجازية ودخلت الباء كما دخلت في قوله: ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)) [التين:8].
حينئذٍ نقول: ما احتمَل كقوله: ((وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ)) [البقرة:74] نقول: (ما) هنا حجازية؛ لأنه جاء إعمالها في مواضع أُخر، وهي قوله: ((مَا هَذَا بَشَرًا)) [يوسف:31]، ((مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ)) [المجادلة:2] فما احتمَل يُحمل على المصرَّح، كذلك الوضع هنا.
مؤخراً يُسلَّم له؟ المصنَّف قدَّره مؤخراً نقول: نعم يسلَّم له.
(2/2)
________________________________________
لماذا مؤخراً؟ قالوا: لفائدتين، ذَكر إحدى الفائدتين وهي الحصر، والحصر هو: إثبات الحكم في المذكور ونفيُه عما عداه، هذا مهمٌ حتى في قواعد التفسير.
حينئذٍ ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] قدَّم ما حقُّه التأخير فأفاد القصر والحصر ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5].
((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] ما وجهُ الحصر هنا؟ في تقديم ما حقّه التأخير، ما هو الذي حقه التأخير هنا؟ المفعول وهو إيَّاك .. إيَّا والكاف هذا حرف خطاب.
فالمعنى حينئذٍ يكون: لا نعبدُ إلا إيَّاك. إثبات ونفي، حصرنا ونفينا، حصرنا العبادة في الباري جل وعلا، ونفينا العبادة عن كل ما سوى الباري جل وعلا، هذا يسمى حصراً.
هنا كذلك قال: بسم الله الرحمن الرحيم أبتدئ. على ما ذكره المصنف، حينئذٍ باسم الله لا باسم غيره، هذا فيه تحقيق للاستعانة، وإن شئت قل: توحيد الاستعانة لأن الباء هنا للاستعانة، هذا معنى لطيف يستحضره من يُبسمل بأنه يقدِّر في نفسه ما جعل البسملةَ مبدأً له وأنه مؤخَّر، وأن الاستعانة هنا محصورة في الباري جل وعلا، ومنفية عمَّا سواه ولذلك قال: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5].
إذاً: بسم الله الرحمن الرحيم مثل: إيَّاك نستعين. إيّاك نستعين .. نستعينُك، (إيَّاكَ) أي: لا نستعين إلا بك، وهنا لا نستعين إلا بالله تعالى؛ لأن الباء هنا للاستعانة.
الأمر الثاني الذي يُزاد: بأن التقديم قد لا يكون للحصر وإنما يكون للاهتمام بالشيء؛ لئلا يتقدم عليه لفظٌ آخر، وهنا كذلك لئلا يتقدم على اسم الباري جل وعلا شيء قدَّمه، فحينئذٍ تكون للفائدتين.
وَقَدْ يُفِيدُ فِي الجَمِيعِ الاِهْتِمَامْ
تَقْدِيرُ مَا عُلِّقَ بِاسْمِ اللهِ بِهْ ... بِهِ وَمِنْ ثَمَّ الصَّوَابُ فِي المقَامْ
مُؤَخَّرًا ........................
هذا ذكره السيوطي في عقود الجمان.
يعني: من فوائد تأخير متعلَّق الجار والمجرور هنا في البسملة أنه يفيد الاهتمام.
وَقَدْ يُفِيدُ فِي الجَمِيعِ الاِهْتِمَامْ
تَقْدِيرُ مَا عُلِّقَ بِاسْمِ اللهِ بِهْ
تَقْدِيمُهُ فِي سُورَةِ اقْرَا ..... ... بِهِ وَمِنْ ثَمَّ الصَّوَابُ فِي المقَامْ
مُؤَخَّرًا، فَإِنْ يَرِدْ بِسَبَبِهْ
((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)) [العلق:1] لماذا قُدِّم؟
نقول: لأن القراءة هنا هي الأهم، وإذا كان كذلك فحينئذٍ بلاغةُ الكلام أن تطابِق مقتضى الحال، فمقتضى الحال هنا جبريل عندما جاء "كما جاء في سبب النزول" إنما أراد ابتداءً ليس أن يحقق الاستعانة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما المراد أن يقرأ {اقرأ، ما أنا بقارئ .. } إلى آخره.
إذاً:
..........................
تَقْدِيرُ مَا عُلِّقَ بِاسْمِ اللهِ بِهْ
تَقْدِيمُهُ فِي سُورَةِ اقْرَا فَهُنَا ... .. وَمِنْ ثَمَّ الصَّوَابُ فِي المقَامْ
مُؤَخَّرًا، فَإِنْ يَرِدْ بِسَبَبِهْ
كَانَ القِرَاءَةُ الأَهَمَّ المُعْتَنَى
إذاً: لهذين السببين نقول: يتعيَّن أن نجعل المتعلَّق "متعلق الجار والمجرور" مؤخراً لا مقدماً.
(2/3)
________________________________________
بقي شيءٍ واحد وهو الذي يُعترض به على المصنَّف وهو أنه عامٌ لا خاص، والأصح أن يُقدَّر خاصاً لا عاماً؛ لأن ابتدئ .. الابتداء هذا يصدق على كل حدث: يصدق على شرب الماء، ويصدق على الأكل، ويصدق على النوم، وعلى القراءة، وعلى الكتابة والتصنيف، والخروج والدخول ..
أبتدئ، أبتدئ ماذا؟ فيحتاج إلى تعيين.
حينئذٍ الأفصح والأولى أن يُجعل خاصاً: بسم الله الرحمن الرحيم أؤلف.
والحجة هنا: أن يقال: كل من تلبَّس بحدثٍ فلا بد أن يستحضر في قلبه ما جعل البسملة مبدأً له، ولا يمكن أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم وهو يريد الشرب ويستحضر في قلبه أنه يأكل. يمكن؟ لا يمكن، إلا إذا سمَّى الشرب أكلاً.
فحينئذٍ إذا أراد أن يأكل واستحضر في قلبه الأكل لا يمكن أن يقدّر ابتدَأَ أو أيبتدئُ أو نحو ذلك، وإنما يقدَّر الفعل الخاص الذي تلبّس به. وهذا أفصح.
إذاً: لَا بُدَّ لِلجَارِ مِنَ التَّعَلُّقِ.
أن يكون فعلاً لا اسماً، أن يكون مؤخَّراً لا متقدِّماً، أن يكون خاصاً لا عاماً.
قال: (أي أبتدئ).
قال رحمه الله: (وابتدأَ بالبسملة).
يعني: المصنّف ابتدأ كتابه المحقَّق "يعني: الموجود" إن كانت الخطبة لاحقةً أو المقدَّر إن كانت سابقة. فلسفة يعني: ابتدأ المصنف كتابه بالبسملة.
أيّ كتاب؟
هو الآن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ويشرع في المقدمة، طيب الكتاب قد لا يكون موجوداً، فيقول: ابتدأ كتابه المحقَّق إن كان موجوداً، والمقدَّر إن كان غير موجوداً.
ابتدأ بالبسملة، البسملة هذا مصدر لبسمل يبسمل بسملة، والبسملة هذا قياسي، وإنما بسمل هو الذي وقع فيه النزاع هل هو قياسي أم لا؟
قال: (عملاً بكتابه العزيز) ولو قال: اقتداءً لكان أحسن؛ لأن العمل إنما يكون في الأقوال يعني: يأتي أمر فيحتاج إلى امتثال فيقال: عملاً يعني: امتَثل، ولذلك في قوله: كل أمرٍ ذي بال الأولى أن يقال: وعملاً بخبَرِ كل أمرٍ ذي بال، وأما التأسي والاقتداء هذا لا يكون في الأقوال وإنما يكون في الأفعال.
حينئذٍ الأولى أن يقال: عملاً بكتابه "يعني: اقتداءً" بكتابه العزيز؛ لأنه ابتدأ بالبسملة ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:1 - 2] أول القرآن البسملة.
(وبخبر كل أمرٍ ذي بالٍ) يعني: وعملاً.
عملاً هذا مفعولٌ لأجله أو حال من فاعل ابتدأ .. ابتدأ بالبسملة حال كونه عاملاً، أو مفعولاً لأجله يعني: لأجل العمل بكتابه العزيز، وبخبر، وهو مضاف وكلِّ على الإضافة.
(وبخبر كلِّ أمرٍ) يعني: شيء (ذي) يعني: صاحب (بالٍ) يعني: شرف.
(كل أمرٍ ذي بال) يعني: كل شيءٍ يُهتم به شرعاً.
(لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم) أي: بهذا اللفظ، هنا بباءين: ببسم الله. أي: بهذا اللفظ.
(وفي روايةٍ باسم الله) هل يتعين اللفظ؟ على الرواية الثانية باسم الله. لا يتعين اللفظ، لو قال: الرحمن كفى، لو قال: الجبّار العزيز كفى، ولذلك رواية الباءين أصح، وعليه يكون المراد به عين اللفظ.
أي: بهذا اللفظ، وفي روايةٍ (بسم الله) بباءٍ واحدةٍ أي: بأي اسمٍ من أسمائه.
قال: (كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم. أي: مقطوع البركة).
(2/4)
________________________________________
أجذمُ بالذال المعجمة، وهو في اللغة مقطوع الأنف يسمى أجذم.
والكلام من باب التشبيه البليغ أو استعارةٌ على مذهب السعدي في نحو: زيدٌ أسد، فهو أجذم يعني: فهو كالأجذم، التشبيه البليغ يحذف ذات التشبيه، حينئذٍ فهو أجذم أي: فهو كالأجذم هذا التشبيه.
أو استعارة مثل: زيدٌ أسدٌ.
وقوله: (أي: مقطوع البركة) بيانٌ لما آل إليه المعنى؛ لأن قوله: (فهو أجذم) هذا مقطوع الأنف، وهو ليس مقطوع الأنف وإنما المراد به التشبيه.
ما المراد هنا؟
(كل أمرٍ ذي بالٍ) الذي لا يبدأ بالبسملة ما شأن هذا الأمر الذي هو ذو بال؟ نقول: ما شأنه؟ أنه ناقص البركة، مقطوع البركة.
ولذلك قال: وهو وإن تم حساً إلا أنه ناقصٌ من جهة المعنى. يعني: لا يكون فيه بركة، إذا لم يكن فيه بركة يكون عنه الانصراف، فلا يشتغل به الناس.
إذاً: مقطوع البركة هذا تفسيرٌ من المصنِّف، ولذلك قال: (أي) لأنه فسَّر لفظاً مفرداًً (أجذم. أي: مقطوع البركة).
ويحتمل أنه فسَّر مركباً؛ لأنا قلنا: (فهو أجذم) تشبيه بليغ هنا إلى أي شيءٍ يئول؟ إلى كونه ناقص البركة، وحينئذٍ يحتمل الوجهين، وقلنا بعضهم يتوسع في (أي).
إذاً: قوله: (أي: مقطوع البركة) هذا بيانٌ لما آل إليه المعنى.
وفي روايةٍ أخرى للحديث السابق: (بحمد الله) يعني: كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه بحمد الله، وفي رواية: (بالحمدُ لله) بالرفع. رواه أبو داود وغيره وحسَّنه ابن الصلاح وغيره.
والحديثان ضعيفان كما هو معلومٌ في محله، قوله: حسَّنه ابن الصلاح وهو لا يرى التصحيح قيل: نقَل تحسينه، وقيل: إنما يمنع التصحيح دون التحسين.
هذا أو ذاك غلقُ باب التحسين والتصحيح هذا غير مسلَّم عند أهل العلم، سواء حسّنه ابن الصلاح أو غيره فالحديث فيه ضعف.
لكن العمل بهما من حيث المعنى من أدلة أخرى ثابت، لا يلزم أنه إذا ضعف الحديث قلنا: حديث ضعيف، أن مدلول الحديث الضعيف ألا يكون ثابتاً بحديثٍ صحيح.
ولذلك جاء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في صحيح البخاري: {بسم الله الرحمن الرحيم إلى هرقل عظيم الروم .. }.
بدأ رسالته بالبسملة، وبدأ في خطبة النكاح بالحمدلة، وكذلك جرى عليه الصحابة والتابعون والأئمة .. إلى آخره، بل قال الشافعي: يستحب لكل دارسٍ ومدرسٍ وخطيبٍ وخاطبٍ .. إلى آخره أن يبدأ بالحمدلة، دل ذلك على أن الحكم ثابت، ولكن هم يتوسعون في العمل بالحديث الضعيف، أنه في مقام الأعمال التي هي ليست بإيجابٍ ولا تحريم، والعمل بالحديث الضعيف في مثل هذا مقبولٌ عندهم، الصواب المنع منه.
قال: (نَحْمَدُ اللهَ) بعدما بدأ بالبسملة ثنى بالحمدلة.
قلنا: تُورد في مقدمات الكتب ثمانية أشياء .. مقدمة الكتاب تشتمل على ثمانية أشياء:
أربعة واجبة وهي: البسملة، والحمدلة، والشهادتان، والصلاة والسلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأربعة مستحبة: أما بعد، تسمية نفسِه، تسمية كتابِه، براعة الاستهلال. هذه أربعة.
(2/5)
________________________________________
إن أتى بها خاصةً الواجبة لأنه يُلام في تركها فعلى ما جاء به، وإن لم يأت بها فحينئذٍ نعتذر عنه نقول: لعله أتى بها لفظاً؛ لأن النص هنا {كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه} فيه عموم، قال: {لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم} هذا يحتمل الكتابة ويحتمل النطق.
إذاً: لو بدأ كتابه ونطق بالبسملة لا مانع منه؛ لأنه أطلق النص، وأنت إذا قيّدته في الكتابة دون النطق حينئذٍ صار تقييد بغير مقيِّد، فيحتاج إلى دليل ولا دليل. إذاً: فيه عموم.
قال: (نَحْمَدُ اللهَ) (أي: نثني عليه بصفاته).
يعني: فسّر الجملة الفعلية "نحمدُ" بنثني عليه "على الباري جل وعلا" بصفاته.
صفاته الذاتية وصفاته الفعلية على الصحيح، هو لم يرد ذلك، بصفاته أي: بصفات الباري جل وعلا.
الذاتية والفعلية، المتعدية واللازمة.
اشتهر عندهم أن الحمد في العرف: فعلٌ ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعمٌ على الحامد أو غيره. "من حيث إنه منعم" هذه حيث هنا للتقييد.
حيث تأتي في الكلام لثلاثة أشياء: تأتي للتقييد، وتأتي للتعليل، وتأتي للإطلاق. ثلاثةٌ لا رابع لها.
من حيث ُكذا.
الإنسان من حيث هو إنسان. هذا للإطلاق.
من حيث إنه منعِمٌ. هذه تكون للتقييد.
حينئذٍ من حيثُ نقول: له مفهوم، من حيث إنه منعمٌ.
إذاً: من جهة الإنعام يعني: الصفات المتعدية، وأما الصفات غير المتعدية هذه ليست داخلة في الحد، وهذا سبب الخلل في هذا التعريف من كونه غير مقبول عند أهل السنة والجماعة: فعلٌ ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعمٌ، إذا لم ينعم لا يُحمد؟ نعم لا يُحمد، وإنما يُمدح أو شيءٌ آخر.
ولذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: الحمدُ هو ذكرُ محاسن المحمود، مع حبه وتعظيمه وإجلاله.
شيخ الإسلام لا يسير على الطريقة المعهودة: الجنس وإلى آخره وفصل، وإنما يبيِّن ما دل عليه الكتاب والسنة.
"ذكر محاسن المحمود" الذكر قد يكون باللسان وقد يكون فالفعل.
"محاسن المحمود" أطلق رحمه الله تعالى وهو الصحيح، فيشمل حينئذٍ الصفات الذاتية كالكبرياء، هل يُحمد الله تعالى على كبريائة؟ نعم، هل هو متعدي؟ لا.
هل يُحمد على استوائه على العرش؟ نعم يُحمد.
هل يُحمد على إنعامه؟ نعم يُحمد وهذا محل وفاق، لكن تقييد الحمد أنه يكون في مقابل الإنعام فقط، هذا ليس بصواب.
إذاً: نُثني عليه بصفاته.
(إذْ الحمد هو الثناء) إذ هذا للتعليل، يعني: لماذا فسَّرت؟ هو يعلل لنفسه، لماذا قلت: (نَحْمَدُ اللهَ) (أي: نثني عليه) لماذا فسَّرت الحمدَ بالثناء؟
والثناء معلومٌ أنه الذكر بالخير على قول الجمهور أنه يختص بالخير، يعني: إذا قال: يثني زيدٌ على عمرٍ هكذا أثنى، ولم يقيده بخيرٍ ولا شر يُحمل على الخير. يعني: ذكره بخير؛ لأن الثناء محصورٌ في الذكر بالخير، لكن ذهب بعضهم إلى أنه ليس خاصاً، وإن كان أكثر الاستعمال إنما يكون الثناء في الخير، استدل على ذلك بحديث: {مُرَّ بجنازةٍ فأثنَوا عليها خيراً، قال: وجبت .. فأثنوا عليها شراً} هذا الشاهد {أثنوا عليها خيراً}، {أثنوا عليها شراً} إذاً الثناء يكون في الخير ويكون في الشر، وهذا مذهب ابن عبد السلام رحمه الله تعالى.
(إذ الحمدُ هو الثناء باللسان) وهذا في اللغة، الثناء عرفنا المراد.
(2/6)
________________________________________
(باللسان) المراد به الحمد هنا حمد المخلوق، وإذا كان كذلك فالثناء إنما يكون باللسان، واللسان هو آلة النطق المعهودة.
إذا كان الثناء لا يكون إلا باللسان حينئذٍ يكون قوله: (باللسان) هذا قيدٌ لبيان الواقع. يعني: كالصفة الكاشفة.
الصفة الكاشفة التي يؤتى بها لتأكيد المعنى فقط، أو لتوضيح المعنى لا للاحتراز، فإذا لم يكن إلا زيدٌ العالم، إذا قلت: جاء زيدٌ العالم. ليس احترازاً ليس عندنا زيد آخر ليس بعالم، فحينئذٍ صارت للكشف والإيضاح ليس للاحتراز.
لكن لو عندنا زيد عالم وزيود جهلاء، وقلت: جاء زيدٌ العالم. صارت للاحتراز.
إذاً: زيدٌ العالم لا غيرَه، زيدٌ الجاهل لم يأتِ.
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) [البقرة:21] ((الَّذِي)) نعت ((رَبَّكُمُ)) هذه صفة كاشفة.
لو قلت: للاحتراز. جاءت مصيبة.
((رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) إذاً: ربَّك الذي لم يخلقك لا تعبده، يكون فيه إثباتٍ لربٍ ليس بخالق! لا ليس هذا المراد، وإنما المراد به للكشف فقط والإيضاح والتأكيد.
إذاً: باللسان يكون للتوكيد .. يكون لبيان الواقع.
(الثناء باللسان على الجميل الاختياري) على هنا للتعليل، وعلى تأتي للتعليل كاللام أي: لأجل فعل الجميل. "فعلى" بمعنى لام التعليل.
وقوله: (على الجميل الاختياري) أي: حقيقة.
قال العطّار: أي حقيقة كأفعالنا الصادرة عنَّا، وأفعالِه تعالى الصادرةِ عنه.
(أو حُكماً كحمده تعالى على صفاته الذاتية، فإنها كانت منشأ أفعالٍ اختيارية نُزِّلت مُنزلتها) هذا جئنا في المحذور.
أنه جَعلَ حمد الباري جل وعلا يعني: حمد المخلوق للباري. جعله منصبّاً ابتداءً حقيقة على الصفات المتعدية، وأما الصفات غير المتعدية فهذه لأنها منشأ للصفات المتعدية، حينئذٍ صار حمدُها تبعاً لا أصالة، ولذلك يقول: (أو حكماً) يعني: لا حقيقة.
(كحمده تعالى على صفاته الذاتية، فإنها) تعليل (كانت منشأ أفعالٍ اختيارية نُزّلت منزلتها) والأفعال الاختيارية يقصد بها هنا المتعدية كالإنعام ونحوه.
(على الجميل الاختياري) احترز به عن الجميل الاضطراري كالجمال، فإذا أثنيت على زيدٍ بكونه جميلاً أو طويل القامة أو نحو ذلك، هذا لا يسمى حمداً وإنما يسمى مدحاً؛ لأنه ليس له فِعلٌ فيه.
الذي يُثنى ويُنسب للعبد هو الفعل الاختياري له الذي فعَله وصنَعه هو الذي يُثنى عليه، وأما الشيء الذي يكون بفعل غيرِه كفعل الباري جل وعلا بأنْ خلقَه جميلاً مثلاً أو طويلاً، أو كان طوله محموداً فحينئذٍ إذا أثنى عليه بذلك يسمى مدحاً لا حمداً.
إذاً: (الاختياري) احترازاً عن الاضطراري والقهري.
(على جهة التبجيل والتعظيم) والتعظيم هذا عطف تفسير، لأن التبجيل هو عينُه التعظيم يعني: نفسّره به، ما معنى التبجيل؟ هو التعظيم.
قال: (على جهة التبجيل والتعظيم).
هذا القيد قوله: (على جهة التبجيل) ليس مِن ماهيِّة الحمد. يعني: ليس داخلاً في الماهيّة، بل شرطٌ إما لتحقُّقه أو للاعتداد به .. إما ليتحقق وإما ليُعتدَّ به.
والجار والمجرور حال من الثناء أي: حالة كون ذلك الثناء واقعاً على جهة التبجيل، وعلى للاستعلاء المجازي.
(2/7)
________________________________________
قال: (سواءٌ تعلَّق بالفضائِل أم بالفواضل) هذا بيانٌ لمتعلَّق الحمد.
تصريحٌ بمتعلَّق الحمد، وإلا فالتعريف تصويرٌ لماهيّة المحدود لا بيانُ عمومه، فيكون هذا خارجاً عن التعريف، وسواء هنا بمعنى الاستواء.
(سواءٌ تعلَّق بالفضائل) تعلَّق ما هو الذي تعلّق؟ الثناء.
(سواءٌ تعلَّق) الثناء على الوجه المذكور السابق بالقيود السابقة (بالفضائل).
قال هنا: أي وقعَ الثناء على جميلٍ من الفضائل، وقوله: الفضائل جمع فضيلة أي: الصفة التي يتوقف إثباتُها للمتصف بها على ظهور أثرها في غيره.
هي التي لا يتوقف إثباتها للمتصف بها على ظهور أثرها في غيره كالعلم والتقوى؛ فإنها لازمةٌ في الأصل، هذه غير متعدية، ولذلك قال: لا يتوقف.
(أم بالفواضِل) جمع فضيلة أي: الصفة التي يتوقف "عكس السابقة" إثباتُها لموصوفها على ظهور أثرها في غيره كالشجاعة، الشجاعة هذه ما يكون شجاع وهو في بيته أغلق الباب، لو ادَّعى الشجاعة ما يُقبل منه؛ لأنه لا بد من دليل. هذه دعوى فلا بد أن يثبتها بالقول أو بالفعل.
قال: (كالشجاعة والكرم والعفو والحِلم) هذه كلها صفاتٌ متعدية.
إذاً: (الفضائل) المزايا الغير متعدية كالعلم والقدرة، (والفواضل) عكسها: المزايا المتعدية.
بمعنى أن النسبة إلى الغير مأخوذةٌ في مفهومها كالإنعام.
إذاً: عرَّف المصنف الحمد هنا -الحمد اللغوي- بقوله: (الثناء باللسان على الجميل الاختياري) إلى هنا انتهى الحد.
(على جهة التبجيل والتعظيم) هذا قلنا ليس من ماهيِّة الحمد، وإنما هو بيان شرطٍ إما للاعتداد به أو لتحقُّقه.
(سواءٌ تعلَّق .. ) إلى آخره، هذا بيانٌ وتصريحٌ بمتعلَّق الحمد.
وسواءٌ هنا قيل مرفوعٌ على الخبرية للفعل المذكور بعده، كأنه قال: تعلُّقُه بالفضائل وتعلقه بالفواضل سواءٌ، وهو خبرٌ مُقدَّم وما بعده ..
قال هنا: (وابتدأ ثانياً بالحمد لما مرَّ).
ما هو الذي مر؟ ابتداءً بالقرآن وعملاً بالحديث .. السنة، جمَع بينهما.
(وجمع بين الابتدائين عملاً بالروايتين السابقتين).
جمعَ المصنِّف بين الابتدائين. يعني: ابتدأ بالبسملة وابتدأ بالحمدلة. لماذا؟
(عملاً بالروايتين السابقتين) يعني: الجمع بين الحديثين أولى من أن يَعمَل بأحدهما ويَهجُر الآخر.
(وإشارةً إلى أنه لا تعارض بينهما) نعم لا تعارض بينهما؛ لأنه متى ما أمكن .. هذا بناءً على التسليم بصحة الحديث وإلا ما جاء في القرآن يكفي ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ)) [الفاتحة:1 - 2] وجرى على ذلك أهل العلم وهو محل إجماعٍ عملي.
ولذلك ذكر ابن حجر في الفتح قال: وقد استقر عمل الأئمة المصنِّفين على افتتاح كتب العلم بالتسمية، وهذا محل وفاق ولا إشكال فيه، لكن الكلام في الحديث.
قال: (وإشارةً إلى أنه لا تعارض بينهما) يعني: بين الحديثين.
(إذْ) للتعليل (الابتداء نوعان: ابتداءٌ حقيقي وابتداءٌ إضافي).
ابتداءٌ حقيقي هو الذي لم يُسبَق بشيء البتة ولا حرف. (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ) هل سبقه شيء؟ لا.
(2/8)
________________________________________
الابتداء الإضافي يعني: بالإضافة إلى ما بعده، بالنسبة إلى ما بعده، حينئذٍ الابتداء الإضافي هو الذي لم يُسبَق بشيءٍ من المقصود، وقد يسبقه شيءٌ من غير المقصود، فإذا قال: ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ)) [الفاتحة:1 - 2].
((الْحَمْدُ لِلَّهِ)) هل سبقها شيءٌ مما يتعلق بشرح الكتاب أو المنطق؟ لا لم يسبقه شيء، لكن هل سبقه شيءٌ آخر غير المقصود؟ نعم.
هذا يسمى ابتداءً إضافياً يعني: بالنسبة إلى ما بعده.
إذْ الابتداء حقيقي وإضافي، فالحقيقي حصل بالبسملة، والإضافي بالحمدلة جمعاً بين النصين.
(وقدَّم البسملة) هذا سؤال أو اعتراض، إذا أمكن الجمع بين النصين.
قلنا كلٌ منهما يصح الابتداء به، لماذا قدَّم البسملة وأخّر الحمدلة، لم لا يعكس؟ ما دام هذا ابتداءٌ حقيقي وهذا ابتداءٌ إضافي لماذا لا يعكس؟ يقول: الحمد لله رب العالمين، بسم الله الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله. يصح أو لا يصح؟
من حيث الجواز لا إشكال فيه، لكن من حيث الترتيب الشرعي الذي هو المستحب فيقدِّم البسملة ثم الحمدلة؛ اقتداءً بالكتاب، لأننا وجدنا الكتاب العزيز الذي هو القرآن جمعَ بين الابتدائين: الابتداء بالبسملة والابتداء بالحمدلة، وقدَّم البسملة على الحمدلة، وهذا محل وفاق.
قال: (وقدَّم البسملة عملاً بالكتاب والإجماع) لو قال: اقتداءً بالكتاب لكان أولى أو تأسياً بالكتاب "يعني: بالقرآن" حيث بدأ أول الكتاب بالبسملة ثم ثنَّى بالحمد ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2] أول آية في الفاتحة.
قال هنا: (واختار الجملية الفعلية على الاسمية هنا وفيما يأتي قصداً لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها على وجه الثبات والدوام).
قال: (نَحْمَدُ اللهَ) جاء بالجملة الفعلية، ولم يأت بالجملية الاسمية.
قال: (واختارَ الجملية الفعلية).
اختار يعني: قدَّم.
يعني: يجُوز الوجه الآخر وهو الجملة الاسمية، لكن اختارَ يعني: قدّم.
قدّم الجملية الفعلية يعني: المبدوءة بالفعل وهي: (نَحْمَدُ اللهَ) على الاسمية وهي: الحمد لله، وإن كانت هي الصيغة الشائعة، ولذلك جاء في القرآن دائماً في أول الآيات وفي خواتمها يأتي: والحمدُ لله رب العالمين، الحمدُ لله رب العالمين. يأتي بالجملة الاسمية.
لكن قد يُعدَل عن الجملة الاسمية إلى الجملة الفعلية لنكتة، ولذلك جمع بينهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبة الحاجة: إنَّ الحمدَ لله. هذه جملة اسمية.
"إنَّ" إذا دخلت على المبتدأ لا تخرجه عن أصله.
"إن الحمد لله" جملة اسمية، "نحمده" جملةٌ فعلية.
إذاً: لو كانت الجملة الفعلية هي عين الجملة الاسمية في المعنى والدلالة لكان هذا حشواً، إذاً: لا بد من الفرق بينهما، وإلا لقلتَ بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد زاد جملة هنا وهو أفصح البشر عليه الصلاة والسلام، فحينئذٍ نحكم عليه بكونها حشواً لأنها لا فائدة فيها، ولذلك نقول: الجملة الفعلية تغاير الجملة الاسمية.
الجملة الاسمية قالوا تدل بالوضع على مطلق الثبوت، والمراد بالثبوت الحصول.
لو قلت: زيدٌ قائم. دلت الجملة الاسمية على ثبوت قيام زيد، وعرفنا كيف أخذنا ثبوت قيام زيد.
(2/9)
________________________________________
زيدٌ قائمٌ: ثبوت قيام زيد. دلَّت على الحصول يعني: وُجد.
تَفهَم من هذا التركيب: زيدٌ قائمٌ. أنَّ زيداً لم يكن قائماً ثم قام، حينئذٍ نقول: دلَّت الجملة الاسمية على مطلق الثبوت والمراد به الحصول يعني: الإيجاد.
هل تدل على الاستمرار؟
الجواب: لا. لا تدل على الاستمرار.
اتَّصف زيدٌ بالقيام فقط، هل قيامه مستمر إلى زمن التكلُّم أو ما بعده؟ الجملة لا تدل على ذلك، هل هذا القيام مقيَّد بزمن؟ الجواب: لا. ليس مقيداً بزمن وإنما قائم إذا أردنا النظر فيه على حد ذاته فهو اسم فاعل ويدل على الحال فقط، قائمٌ يعني: في وقت، هـ قائمٌ هو زيدٌ، زيدٌ قائمٌ هو.
إذاً: الجملة الاسمية لا تدل على الزمن ولا تدل على التجدُّد، وإنما تدل على حصول الشيء بعد أن لم يكن .. اتصف زيدٌ بالقيام بعد أن لم يكن.
زاد هنا -كما قال هنا-: (على وجه الثبات والدوام) ولذلك لعله يمر بك أن الجملة الاسمية تدل على الدوام، الدوام هذا كيف نأخذه؟
يعني: زيدٌ متصفٌ بالقيام على جهة الدوام. أحدُ احتمالين:
إما أن يؤخذ هذا الدوام والثبات أن القيام استقر لزيد حتى يأتي دليل آخر يدل على أن زيد تركَ القيام، هذا المراد بالدوام هنا.
زيدٌ قائمٌ. إذاً: ثبت له القيام، فنحتاج إلى دليل آخر يدل على عدم القيام؛ على أنه تركَ القيام، من أين نأخذه؟
قالوا: من غلبة الاستعمال. يعني: أكثرُ استعمال العرب الجملة الاسمية للدلالة على الثبوت والدوام، الدلالة على الثبوت هذا لازمٌ لأنه في أصل الوضع. يعني: الحصول.
لكن بقرينة خارجية وهي غلبةُ الاستعمال نقول: تدل على الدوام، فحينئذٍ (الحمدُ لله) نقول: الحمد دائمٌ ما دام الله تعالى موجود وهو باقٍ. إذاً: الحمد هنا رُكِّب هنا وعُلِّق على لفظ الجلالة، الحمدُ هذا يُعتبر محمولاً وللهِ يُعتبر موضوعاً.
ولما كانت الذات مستمرة باقية أبد الآباد بصفاته جل وعلا وأسمائه ناسب أن يأتي بما يدل على الثبوت والدوام، لكن الثبوت والدوام ليس من أصل وضعِ الجملة الاسمية وإنما هو بغلبة الاستعمال.
والغالب عند أهل البلاغة يقولون: الجملة الفعلية أصلٌ للجملة الاسمية. يعني: الجملة الاسمية معدولة يعني: حُوِّلت الجملة الفعلية فصارت جملة اسمية، كيف؟
قالوا: أصلُ "الحمدُ لله": حمدتُ حمداً لله، حُذِف الفعل اكتفاءً بدلالة المصدر .. حُذف الفعل استغناءً عنه واكتفاءً بدلالة المصدر؛ لأنهما متحدان من حيث الدلالة، صار: حمداً لله.
النصب هنا يُشعر بوجود الفعل ونحن نريد أن يكون الفعل نسياً منسياً .. ذهب في خبر كان، إذاً: ماذا نصنع؟
قالوا: إذاً نعدل عن النصب إلى الرفع للدلالة على الدوام، فقيل: حمدٌ لله، ثم دخلتْ أل المعرِّفة فقيل: الحمدُ لله، هذا إذا صح أن يُقدَّر بهذه السهولة في هذه الجملة، لكن العشرات بل مئات الجمل لا يمكن أن تأتي بالجملة الاسمية وتكون معدولة عن الجملة الفعلية.
وإنما نقول الصواب -فراراً من التكلُّف والتعسّف-: أن الجملة الاسمية تدل بالوضع على مطلق الثبوت الذي هو الحصول وتدل على الدوام لكن من جهة غلبة الاستعمال، أما العدول هذا وإن أكثر منه البيانيون إلا أن فيه تكلفاً واضحاً بيِّن.
الجملة الفعلية تدل على التجدد والاستمرار.
(2/10)
________________________________________
أي جملة هذه؟ جملة فعلية يعني: مبدوءة بفعل، ومعلوم أن الفعل إما ماضي وإما مضارع؛ لأنه هو الذي يدل على الحدوث، أما صلِ لم يكن هو في المستقبل، قم هذا ليس الحدث موجوداً، إنما الذي يدل على وجود الحدث هو الفعل الماضي والفعل المضارع.
"قام زيد" ماذا تفهم لو قيل لك: قام زيدٌ، صلى عمروٌ؟
حدوث القيام، قام زيدٌ حدَث القيام، حدث بعد أن لم يكن .. نتركُ الزمن.
حدث بعد أن لم يكن، لم يكن قائماً ثم قام.
إذاً: هذا تجدُّد أو لا؟ تجدد. بمعنى أن زيداً لم يكن متصفاً بالقيام ثم كان.
فنقول: حدث له قيامٌ لم يكن، وهنا نقف نرجع إلى درس أمس قلنا: أنواع العلم الحادث.
الحادث قالوا: هذا احترازاً عن علم الله عز وجل، وهذا خطأ.
هل يَلزم من كون الشيء حادثاً أن يكون مخلوقاً؟ الجواب: لا.
حتى في اللغة حدث حادث المرور مثلاً تقول: شيءٌ لم يكن ثم كان، يسمونه حادث، سواء كان في الأرض أو في الجو .. حدث حادث يعني: لم يكن ثم كان، هذا معناه اللغوي والاصطلاحي.
هل يدل على أنه مخلوق؟ الجواب: لا؛ لأننا قد نصفُ بعض صفات الباري جل وعلا بأنها لم تكن ثم كانت، وهذا هو المعنى: لم يكن القيام ثم قام.
"قام زيدٌ" لم يكن متصفاً بالقيام ثم قام، هذا تغيُّر، قد يوجد هذا المعنى في صفات الباري جل وعلا، في صفات المخلوق، الحدوث هذا مخلوق لم يكن ثم كان، قيام فعلٌ له وهو حادث إذاً مخلوق.
لم يكن مستوياً ثم استوى. حدَث؟ حدث نعم، لم يكن ثم كان.
الآن نجزِم ونحن هنا بأن الباري لم ينزل النزول اللائق به جل وعلا في ثُلث كل ليلة، الآن نعتقد عدم النزول أو النزول؟ نعتقد عقيدة ما فيه شك لم ينزل، إذا جاء ثلث الليل الأخير نزل، إذاً لم يكن ثم كان .. لم يكن النزول ثم كان.
إذاً: العالم متغيِّر، وكل متغيرٍ حادث فالعالم حادث هذا فيه نظر، ليس بصحيح.
فقولهم: احترازاً عن علم الله عز وجل. نقول: هذا ليس مسلَّماً؛ لأن مرادهم أن الحدوث ملازمٌ للخلق والإيجاد، فكل حادثٍ فهو مخلوق.
ولذلك يقال: سبحانه الذي لا يتغيَّر. ويلتقطها بعض عوام أهل السنة .. سبحان الذي لا يتغير نقول: لا. هذا غلط، هذا على عقيدة الأشاعرة وليس على عقيدة أهل السنة والجماعة.
"قام زيدٌ" قلنا هذا فيه تجدُّد وهو عدم القيام ثم كان.
يقوم زيدٌ. ماذا تفهم منه؟ ثبوت القيام، وباعتبار التجدُّد: لم يكن القيام ثم كان.
إذاً: يتحد الفعل الماضي والفعل المضارع في الدلالة على التجدُّد بمعنى واحد وهو لم يكن ثم كان، ثم يزيد الفعل المضارع بالدلالة على الاستمرار، وهو الذي يُعنَى به بأن الجملة المضارعية تدل على التجدد والاستمرار، ومرادهم بالتجدد ليس هو التجدد الذي يدل عليه الفعل الماضي، الفعل الماضي كذلك يدل على التجدد لكن بمعنى: لم يكن ثم كان. وهذا القدر مشترك مع الفعل المضارع كذلك ولكن يزيد على الماضي بكونه يقع مرة بعد أخرى، فرْقٌ بين النوعين.
ولذلك قال: إن الحمد لله نحمده، حَمِد أولاً بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام لتعليق الحمد بالذات الدائمة المستمرة، ونحمده المراد هنا بالحمد المتعلق بالإنعام المتجدد مرةً بعد مرة، فحصل الفرق بين الجملتين.
(2/11)
________________________________________
هنا قال: (واختار الجملة الفعلية على الاسمية هنا) يعني: في الحمد وفيما يأتي، قوله: نصلي ونسأله لكن ليس بظاهر، الصواب أنه مخصوصٌ هنا، وأما نصلي ونحوه فهذا الأولى أن يقال بأنه للمُشاكلة فقط، لو أسقطه لكان أولى، والأولى في توجيه الاختيار فيها بمُشاكلته جملة الحمد لتناسُق الجُمل، ويحسن العطف.
قال هنا: (قصداً لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها على وجه الثبات والدوام).
والدوام هذا قيل: تفسيرٌ للثبات.
يعني: لماذا لم يأت بالجملة الاسمية؟ وهذا فيه تكلُّف وإلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الحمد لله، والصحابة يحمَدون الله تعالى، والتابعون كذلك، والقرآن أوله ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2] ففيه تعليمٌ للناس أن يقولوا: الحمدُ لله رب العالمين.
ولذلك قدَّر بعضهم في أول الفاتحة: قولوا: الحمد لله رب العالمين، والجملة في محل النصب.
إذاً لا إشكال فيه، لكن هذا التعسُّف من أجل الاعتذار عن المصنف.
قال: (قصداً) العدول هذا قصداً (لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها) لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام، فإذا حمِد وأثنى على الله تعالى بهذه الجملة هو عاجز لا يستطيع أن يُثني على الباري جل وعلا بما دلت عليه هذه الجملة، فعَدل عنها إلى ما يفيد التجدد تارة بعد أخرى، فقد يقع منه حمدٌ ثم يقف، ثم يقع منه حمدٌ ثم يقف .. إلى آخره.
لكن نقول: هذا فيه شيءٌ من التعسُّف لأنه مخالفٌ للسنة أصلاً، ومخالفٌ لتعليم القرآن.
(قصداً لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها على وجه الثبات والدوام).
وأتى بنون العظمة: نحمد، النون هذه تدل على المتكلم ومعه غيرُه إما حقيقة وإما ادعاءً، وهنا يحتمل أنه تكلم واستشعر معه غيرَه، من باب التواضع والانكسار، وأنه لا يستطيع بنفسه أن يحمَد الله تعالى، وإنما يُشرِّك معه غيره.
فنقول: لو شَرَّكت معك غيرك هل أعطيت الباري جل وعلا حقه من التعظيم والتبجيل؟ إذاً: فيه شيءٌ من التكلف.
قال: (إظهاراً لملزومها) الذي هو العظمة.
(الذي هو نعمة من تعظيم الله تعالى له بتأهيله للعلم امتثالاً).
يعني: ليس المراد هنا أن معه غيرَه، وإنما فيه شيءٌ من التعظيم: عظَّم نحمد الله، يعني: فيه إشارة إلى تعظيم نفسه، لماذا تعظيم نفسه؟
لأن الله تعالى هو الذي عظَّمه، عظّمه بأن جعله من أهل العلم، وقال تعالى: ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) [الضحى:11] ولذلك قال: (إظهاراً) أي: قصداً لإظهار ملزومِها الذي هو التعظيم.
ولا شك أن تعظيم الله تعالى للعبد بتأهُّله للعلم من أجل النعم، فيكون التعظيم من أفراد النعم. ففيه إشارة إلى هذا المعنى.
(إظهاراً لملزومها الذي هو نعمة من تعظيم الله تعالى).
من تعظيم. هذا بيانٌ للملزوم، فتكون العظمة لازمة والتعظيم ملزوم.
امتثالاً لقوله تعالى: ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) [الضحى:11].
ثم قال: (أي: نحمده حمداً بليغاً) أعاد نحمده لطول الفصل.
(نحمَده) يعني: نحمد الله تعالى أي: نُثني عليه الثناء اللائق به جل وعلا.
(2/12)
________________________________________
(حمداً بليغاً) أي: بالغاً غاية الكمال؛ حيث صدر عن كمال الحضور القلبي بحسب الظن يعني: حسن الظن بالمصنِّف، مع ما أفادته الجملة الفعلية التجدُّد والحدوث.
(عَلَى تَوْفِيقِهِ) ومر معنا التوفيق كلام ابن القيم رحمه الله تعالى: أن لا يكلك الله إلى نفسك. يعني: أن لا يُخلي بينك وبين نفسك؛ لأنه لو خُلِّي بينك وبين نفسك فإن النفس لأمّارة بالسوء.
والخذلان عكسُه: أن يكلك الله تعالى إلى نفسك، فيُخلي بينك وبينها. فحينئذٍ النفس تكون هي الآمرة والناهية، فإذا كان كذلك هلك الإنسان.
قال هنا: (أي خلقِه قدرة الطاعة فينا عكسُ) يعني: ضد "خلاف" (الخذلان، فإنه خلق قدرة المعصية).
وهذا بناءً على طريقة الأشاعرة، وهو المراد بالكسب، لذا قال هنا: أي الكسب المقارِن لها.
الاستطاعة والطاقة والقدرُ والوسعُ هذه ألفاظٌ متقاربة. يعني: إذا تكلَّم أهل السنة في هذا المقام قالوا: الاستطاعة مرادهم القُدرة، ومرادهم كذلك الطاقة، ومرادهم كذلك الوُسع.
فإذا جاء اللفظ في الكتاب والسنة بالوسع والقدرة .. كلها بمعنى واحد.
وتنقسم الاستطاعة -أي: القدرة- إلى قسمين عند أهل السنة والجماعة، وهو قول عامة أهل السنة والجماعة، أشار إلى ذلك التفصيل الطحاوي رحمه الله تعالى في قوله: والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق، الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به تكون مع الفعل.
وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكُّن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، إذاً: المسلم عنده استطاعتان: استطاعة مع الفعل لا يكون الفعل إلا بها، وهذه التي عناها المصنف وينفُون ما قبلها، واستطاعة قبل الفعل وهي كونُه أهلاً بالتكليف.
حينئذٍ عنده من سلامة الآلات ما يُقبِل على الصلاة، ما يُقبل على الحج ونحو ذلك.
هذه تسمى استطاعة أو لا؟ تسمى استطاعة، عند بعضهم لا تسمى استطاعة وهو الذي قدَّمه المصنف هنا.
قال هنا: وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)) [البقرة:286] يعني: ما في وسعها، والذي في وسعها هو الذي تقدِر على التلبُّس به.
فالعبد له قدرةٌ هي مناط الأمر والنهي، وهذه قد تكون قبله، لا يجب أن تكون معه، والقدرة التي بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرةٍ معدومة، وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع والتمكُّن وسلامة الآلات فهذه قد تتقدم الأفعال، وهذه القدرة هي المذكورة في قوله تعالى: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)) [آل عمران:97] إلى آخر الكلام الذي ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية فليُرجَع إليه.
والمراد هنا التشويش على المصنف فقط، ليس المراد تحقيق المسألة.
أي: (خلقِه قدرة الطاعة فينا عكس الخذلان، فإنه خلق القدرة المعصية) هذا تفسير الكسب عند الأشعرية.
قال: (وإنما حمِد الله على التوفيق أي: في مقابلته لا مطلقاً).
يعني: الحمد هنا مقيَّد أو مطلق؟ مقيّد (نَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى عَلَى تَوْفِيقِهِ) إذاً قيَّده.
أيهما أفضل الحمد المطلق أو الحمد المقيّد؟ قولان: منهم من قدّم المقيد، ومنهم من قدّم المطلق.
(2/13)
________________________________________
لكن ظاهر الكتاب والسنة التقييد كثير فيه .. في القرآن أكثر الحمد مقيّد.
قال هنا: (وإنما حمد الله على التوفيق أي: في مقابلته لا مطلقاً؛ لأن الأول واجب) يعني: المقيَّد (والثاني مندوب).
(الأول واجب) أي: اعتقاد كون النعمة من الله تعالى واجب.
(والثاني مندوبٌ) أي: يثاب عليه ثواب المندوب.
فقد ظهر أن الحمد المقيَّد أفضل من المطلق، ولأنه أكثرُ ما ورد في القرآن والسنة، وقيل: المطلق أفضل لصِدقه على جميع المحامد كلها معلومِها وغير معلومها. والحمد المطلق أن لا يلاحِظ شيئاً من النعم، والحمد المقيّد بأن يلاحظ نعمة معيّنة.
قال هنا: (وَنَسْأَلُهُ طَرِيقةً هَادِيةً) أي: دالّة على الطريق المستقيم.
(نَسْأَلُهُ) هذا الذي قال هناك، هنا وفيما يأتي نسأله، داء بالنون الدالة على العظمة، لماذا؟ للعلة السابقة، لكن الصواب أن يقال هنا: من باب المشاكلة يعني: ليوافق العطف. يعني: يعطف جملة فعلية مضارعية مبدوءة بالنون على سابقتها.
(نَسْأَلُهُ طَرِيقةً هَادِيةً) أي: دالةً لنا على الطريق، هذا بيان لمتعلَّقها لا تفسيرٌ لكلمة طريق في كلام المصنف.
قال: وفي نسخة (وَنَسْأَلُهُ هِدَايَةَ طَرِيقِهِ) وهذه أحسن لأنها مراعاة للسجع (عَلَى تَوْفِيقِهِ.
وَنَسْأَلُهُ هِدَايَةَ طَرِيقِهِ).
توفيقه .. طريقه. فهي أولى.
قال: (وَنُصَلَّي) كذلك جاء بالنون الدالة على العظمة للمشاكلة.
(عَلَى مُحَمَّدٍ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلنا: هذا علمٌ شخصي منقولٌ من حُمِّد المضاعف.
قال: (من الصلاة عليه) يعني: نصلي ليست الصلاة التي هي الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، وإنما المراد من الصلاة عليه المأمور بها في خبر {أَمرنا الله أن نصلي عليك. فكيف نصلي عليك؟
فقال: قولوا: اللهم صل على محمدٍ .. } إلى آخره.
(وَنُصَلَّي عَلَى مُحَمَّدٍ).
قال: (من الصلاة) يعني: مأخوذةٌ من الصلاة، وقيّد بالظرف (من الصلاة)؛ لإخراج الصلاة بمعنى الأقوال والأفعال، ولإخراج الصلاة بمعنى الرحمة.
وقوله: (المأمور بها في قوله كذا) نقول: قبل ذلك قوله تعالى: ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [الأحزاب:56] فحينئذٍ نقول: صلَّوا. هذا أمرٌ، وجاء النص في الخبر المذكور الذي ذكره المصنّف، فحينئذٍ امتثالاً لهذين الأمرين في الكتاب والسنة نقول: نصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولذلك قدَّمه المصنف وهو يعتبر من الأمور الواجبات في مقدمة الكتب كما مر معنا.
قال: {فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمدٍ .. } إلى آخره.
قال المحشي هنا: وهو كما في رواية ابن سعدٍ رضي الله عنه قلت: {يا رسول الله! أَمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فسكت ثم قال .. } الحديث.
وفي رواية: {عرفنا كيف نسلِّم عليك فكيف نصلي؟}.
هذا أخذ منه بعض أهل العلم أن الصلاة كما تكون في التشهد الأخير تكون كذلك في التشهد الأول؛ لأنه هنا ليس فيه تفصيل قال: {إذا نحن صلينا} إذاً: ما قيَّد، هل الصلاة تكون في التشهد الأول أو تكون في التشهد الثاني؟
(2/14)
________________________________________
حينئذٍ جاء الاحتمال، الاحتمال قائم والسؤال وارد، وتركَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاستفسار، هذا يُحمل على العموم.
وَنَزِلَنَّ تَرْكَ الاِسْتِفْصَالِ ... مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ
حينئذٍ يعم النص يعني: يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأول بعد السلام، ويصلي في التشهد الأخير. وهذا مذهب بعض أهل الحديث وهو اختيار الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى وكذلك الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، وهو ظاهر النص أنه يُصلَّى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأول والثاني.
وأما أنه {كأنه قاعدٌ على جمرٍ} الحديث ضعيف هذا، ثم لو صحَّ لا يدل على أنه لا يُصلَّى وإنما يُكتفى بالسلام، وإنما يدل على الخفَّة كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في ركعتي الفجر: {لا أدري هل قرأ بأم الكتاب أم لا} هل معنى ذلك أنه لا يقرأ بالفاتحة في ركعتي الفجر السنة؟ يعني: تقول: لا أدري هل قرأ بالفاتحة أم لا؟
يدل ذلك على الخفَّة فقط "السرعة يعني" تكون خفيفة، كذلك لو صلى في التشهد الأول يكون خفيفاً إذا صحَّحنا الحديث.
قال: (وهي من الله رحمةٌ).
(وهي) يعني: الصلاة.
(من الله رحمةٌ) لعبده.
(ومن الملائكة استغفار، ومن الآدميين تضرعٌ ودعاء) دعاء هذا عطف وتفسير، وهذا هو المشهور وهو ما حكاه الجوهري عن أئمة اللغة، ولكن ذكر أبو العالية معلَّقاً في البخاري {صلاةُ الله تعالى على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى}.
ولابن القيم رحمه الله تعالى كلامٌ كثير في هذه المسألة.
(وَعلى عِتْرتِهِ) عِتْرتِهِ بالمثناة فوق.
(أي: أهلُ بيته لخبرٍ وردَ به).
يعني: يُفسّر عِتْرتِهِ –العترة- بأهل بيته، قال: (هم عليٌ وفاطمة والحسن والحسين، أمهات المؤمنين، وقدّم هذا لوروده في الحديث.
وقيل: أزواجُه وذريته، وقيل: أهله وعشريته الأدنَيْن، وقيل: نسله ورهطه الأدنين. وعليه اقتصر الجوهري).
على كلٍ المسألة فيما يتعلق بالعِترة مسألة فقهية يتعلق بها مسألة الزكاة وغيرها، وذكر أقوالاً هنا.
قال هنا: (الأدنين) هذا قيدٌ لإخراج الأباعد (أهله وعشريته الأدنين) الأدنين هذا جمع أدنى، ذكره في الحاشية في التصنيف.
(وقيل: نسلُه ورهطه الأدنين) كذلك فيه احتراز عن الأباعد.
قال: (أَجْمَعِينَ) تأكيد.
(أَمَّا بَعْدُ) هذا من المستحبات، وذكرناها في مقدمات الكتب.
(يؤتى بها للانتقال من أسلوبٍ إلى آخر).
يعني معناها الذي يؤتى به لأجله هو: أنه يُنتقل بها من أسلوبٍ إلى أسلوبٍ آخر، أُسلوب بضم الهمزة يعني: نوعاً من الكلام، وليس المراد هنا أسلوب المدح أو الأمر إلى أسلوب النهي أو العكس، أو العام إلى الخاص لا، ليس هذا مرادهم.
وإنما مرادهم أنه ينتقل من المقدمة إلى الشروع في المقصود، وعملُهم جارٍ على هذا .. أنه يؤتى بها في ذكر أو الانتقال من المقدمة يعني: انتهت المقدمة (أَمَّا بَعْدُ) فحينئذٍ تشرع في المقصود بعد ذكر (أَمَّا بَعْدُ).
وهذا أسلوب في المقدمة، لها أسلوب، وكذلك المقصود له أسلوبٌ خاص، فحينئذٍ لا إشكال في أن كلاً منهما أسلوب.
هذا أسلوبٌ يعني: نوعٌ من الكلام وهذا أسلوبٌ يعني: نوعٌ من الكلام، فلا إشكال فيه ولا اعتراض.
(2/15)
________________________________________
قال: (يؤتى بها) يعني: بلفظ (أَمَّا بَعْدُ) وهي السنة، وإن اشتهر: (وَبَعْدُ).
وهي سنة يعني: مستحبة عند المصنفين، وهي سنة كذلك نُقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(للانتقال من أسلوبٍ إلى آخر) يعني: من أسلوب المقدمة إلى أسلوب الشروع في المقصود، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي بها في خُطبه يعني: على ما هي عليه (أَمَّا بَعْدُ) فصارت سنّة من جهتين: شرعية وسنّة اصطلاحية.
قال: (والتقدير: مهما يكن من شيءٍ بعد البسملة وما بعدها).
(أَمَّا) هذا حرف شرطٍ وتفصيل، لكن التفصيل ليس لازماً لها في جميع أحوالها واستعمالاتِها، فهي هنا لمجرد التأكيد وهو تحقُّق وجود ما بعد الفاء لا محالة؛ لأنه عُلِّق على محقق الوقوع سواء جُعل بَعْدُ من متعلقات الشرط أو الجزاء، هذا أمّا، وهي ضُمِّنت معنى الشرط. ولذلك لزمها الفاء في الجواب.
(أَمَّا بَعْدُ. فَهذِهِ) الفاء هذه واقعة في جواب الشرط، أين الشرط؟
نقول: أمَّا مضمنة معنى الشرط؛ لأنها نائبةٌ عن: (مهما يكن من شيء) مهما، يكن، من شيء. هذه ثلاثة أشياء.
حُذِفت مهما، مهما هذا اسم شرط، وحُذف فعل الشرط، وحُذف ما تعلَّق به وهو قوله: من شيء.
وأُنيبت أمَّا مُنابها، ولذلك قال ابن مالك: أَمَّا كَمَهْمَا. أما مثل مهما ليست مثلها في الاسمية، أمّا هذا حرفٌ باتفاق، ومهما فيه خلاف والصحيح أنه اسم.
إذاً: أَمَّا كَمَهْمَا يعني: مثلها في الشرط.
قال هنا: (والتقدير: مهما يكن من شيءٍ بعد البسملة وما بعدها) من الصلاة، والسلام .. ونحو ذلك.
(فَهذِهِ) الفاء واقعة في جواب الشرط.
هنا المصنّف فيما مضى -ما نبّهنا عليه- قال: نصلي ولم نقل ونسلّم، والمشهور عند كثير من المتأخرين أن إفراد الصلاة عن السلام مكروه والعكس بالعكس، فهل وقع في المكروه؟ نقول: الجواب: لا؛ لأن الصحيح أنه لا يُكرَه إفراد الصلاة عن السلام، يصح أن نقول: صَلَّى اللَّهُ على محمد. يصح وبدون كراهة، ولا إشكال فيه.
ويصح أن نقول: سلَّم الله على محمد، سلّم تسليماً. لا إشكال فيه، لا نقول بالكراهة.
وأما ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا)) [الأحزاب:56] نقول: هنا جمع بين أمرين، كما قال: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) [النور:56] فالمراد هنا المقارنة في الذكر كما قال: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) [النور:56] الواو دلَّت على المقارنة في الذكر يعني: ذُكِرا معاً.
كذلك ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا)) [الأحزاب:56] يعني: اجمع بين الأمرين.
ولا تعرُّض هنا لكراهة ولا غيرها، إن جَمع بينهما لا شك أنه كمال الامتثال، لو ترك أحدهما حينئذٍ نقول: لا إشكال فيه ولا نقول بالكراهة؛ لأن الكراهة هذه نهيٌ خاص. أين دليل النهي؟ من أين أخذتَه؟
إن أخذه من الجمع من الواو نقول: هذه دلالة اقتران، ودلالة الاقتران في الأصل أنها ضعيفة، لكن ليس مطلقاً.
(2/16)
________________________________________
دلالة الاقتران ضعيفة في الأصل، لكن قد يحتف بها قرينة فيُعمل بها كما إذا وقع على المقترِنين خبر موحَّد .. إذا جمعت بين متعاطفات وحكمت عليها بخبر واحد، الأصل فيها دلالة الاقتران معتبرة، ولذلك ((إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ)) [المائدة:90] رجسٌ هذا خبر الخمر، وما عُطف عليه داخلٌ تحته.
الأصل في مقتضى اللغة وكذلك في الشرع أنه إذا حُكم على متعددٍ بحكمٍ واحد الأصل فيه الاستواء.
على كلٍ المراد هنا: التنبيه إلى أن دلالة الاقتران لا تؤخذ من هذا النص ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا)) [الأحزاب:56] فيقال بكراهة إفراد أحدهما على الآخر؛ لأن دلالة الاقتران ضعيفة في الجملة "يعني: في الأصل" وقد يحتف بها قرينة فيُعمل بها، وذلك فيما إذا حُكم على المقترِنات بحكمٍ واحد.
قال: (والتقدير: مهما يكن من شيءٍ بعد البسملة وما بعدها).
(فَهذِهِ) اسم الإشارة هنا قال: (المؤلفة الحاضرة ذهناً) يعني: الألفاظ الذهنية.
وإذا كان كذلك فحينئذٍ اسم الإشارة يكون مجازاً؛ لاستعماله في المعقول، والأصل أن يُستعمل في المحسوس، نقول: هذا زيدٌ، هذا الأصل في وضع الإشارة. يعني: لا يُستعمل في المعقولات، فإن استُعمل في المعقولات حينئذٍ نقول: هذا من قبيل المجاز.
(فَهذِهِ) (المؤلفة الحاضرة ذهناً، إن أُلِّفت بعد الخطبة، وخارجاً أيضاً) أي: كما أنها موجودة ذهناً فاسم الإشارة حقيقة حينئذٍ إن أُلِّفت قبلها.
هذا في التفصيل على المشهور.
والصحيح: أن المشار إليه ما في الذهن مطلقاً تقدَّمت الديباجة أو تأخرت؛ إذ لا حضور للألفاظ المرتبة ولا لمعانيها في الخارج.
إذا قيل: وجود ذهني ليس المراد أن هذه الألفاظ موجودة بذاتها في الذهن، وإنما المراد بها الملاحظة والاعتبار.
فالوجود الذهني عند بعض الحكماء: أنه يوجد لكل شيء مرسوم في الذهن "محسوس" وليس الأمر كذلك، وإنما المراد به: معانٍ قامت بالذهن -يعني: في الذهن- والمراد الملاحظة.
وإذا كان كذلك فلا إشكال في تسميته وجوداً ذهنياً.
قال: (فَهذِهِ رِسَالَةٌ) مبتدأ وخبر.
(رِسَالَةٌ) بكسر الراء مشتقةٌ من الرَسْلِ بفتح الراء وسكون السين، وهو الانبعاث على تُؤدَة يقال: ناقتٌ رَسْلٌ أي: سهلة السير.
(ففيه إشارة واضحةٌ إلى سهولة هذا المؤلَّف وقلّته كماً وإن عظُم كيفاً) لأن الرسالة في عُرف أصحاب التدوين: اسمٌ لأوراقٍ قليلة تحتوي على مسائل من العلم، لكنها من أنفس ما يُصنَّف في العلم، ومن أشد ما يزهد فيه طلاب العلم الآن ..
الرسائل المختصرات هذه من أنفس ما يُعتنى به؛ لأنها تشتمل على جمهور المسائل العلمية التي يكثر استعمالها. يعني: لو نظرت في الآجرومية أكثر ما يحتاجه الناطق المتكلم مما يتكلم به الكثير: مبتدأ وخبر وفعل وفاعل، ومتعلَّقات الجميع. تجدها كلها مفصَّلة في الآجرومية
وما قلَّ كالتنازع والاشتغال ما تجده؛ لأن التنازع قد يبقى الإنسان أيام هذا إن درى أنه قد تنازع عنده فعلان أو أكثر، حينئذٍ نقول: هذا قليل. فلا يحتاجه الإنسان.
(2/17)
________________________________________
ولكن هذه المؤلفات الصغيرة كالورقات، والآجرومية، والرحبية، والرسالة التي معنا .. هذه من يعتني بها عناية فائقة، يستحضرها استحضاراً. هذا ينطلق في العلم انطلاق كبير جداً، بخلاف الموجود الآن، يريدون العكس: فتح الباري، والمطولات، والألفية قبل أن يتقن الآجرومية، ويستعجل الآجرومية ومباشرة الألفية، لا بد من واسطة أو لا. على كلٍ تشويش .. الذهن مشوش عندهم.
فأقول: هذه الرسائل وإن صغُرت لكنها عظيمة لما اشتملت عليه من المسائل، فيحتاج الطالب أن يقرأها مرة ومرتين وثلاث وأربع .. حتى يضبطها حفظاً وفهماً، الفهم ليس بالهيّن.
يعني: لا يظن الظان أنك الآن تسمع هذا الكلام تفهمه مباشرة وانتهيت لا، بعض الفهوم تحتاج إلى تدرج يعني: قد تفهم فهماً عاماً ابتداءً، لكن الفهم العميق والغوص في المعاني هذا ما يأتيك، كمبتدئ تحلم إذا أردت أن تفهم كالمتكلم.
يعني: كتاب درسه المعلِّم قبل ثلاثين سنة ويعيده ويكرره تأتي أنت أول مرة تجلس وتريد تفهم مثله؟ يعني: لو نظرنا بمسألة عقلية هكذا صحيح؟ يعني: يدرس الآجرومية ويدرّسها عشرات السنين ثم تأتي أنت مباشرة ورِجل على رِجل وتريد .. ما فهمت الدرس، فيغضب ويمشي إلى آخره، أو يتكلم، هذا خطأ هذا غفلة.
لا يمكن أنك تفهم ابتداءً من أول مرَّة كفهم المتكلم، فهم المتكلم هذا طبَخ واحترق عنده. فمع السنين، ومع النظر، ومع التدريس، ومع التأليف، ومع الكتابة والإعادة، والنظر والمراجعة، والسؤال والنقاش نضجت المعلومات، ما تأتي هكذا في يوم وليلة.
فهذه الرسائل انتبهوا لا تزهدوا فيها يا إخوة، وأكثر ما ضيّع الطلاب الآن هو هذا: العزوف عن الرسائل، ما يريد ورقات يريد مراقي وكوكب .. مباشرة، ما فيه بأس صحيح. الهمّة لا بد أن تكون متعلقة بمعالي الأمور.
لكن هناك سلَّم، هناك طريقة لأهل العلم لا يمكن أن يصلوا إلى هذه المطوَّلات إلا بعد إتقان، لو نظرت في أول الحاشية التي بين يديك يقول: كتبتها للمبتدئين، وأنا كنت أريد أن أعلِّق عليها لكن الوقت.
كتبتها للمبتدئين، هذه الحاشية للمبتدئين، ونحن تركنا كل الحاشية، أحاول أني ما أطالع حتى لا أقرأ؛ لأن فيها تشتيت، المبتدئون السابقون يختلفون عن المبتدئين الحاضرين، بل لعل المتصدِّرين الآن كالمبتدئين السابقين، ما هو بعيد؛ لأنك تجد الآن بعض المتون المختصرات تُشرَح بشروح مطولات.
يعني: لو وجدت مثلاً الورقات. العبَّادي شرحها في مجلدين وحققها أربعة.
كذلك حاشية النفحات للجاوَى من أصعب ما يُقرأ، ومع ذلك تعتبر للمبتدئين.
حواشي إيساغوجي الموجود: العطَّار والذي معنا، هذا يُعتبر للمبتدئين؛ لأن المبتدئ في السابق ليس كالمبتدئ الحاضر، كان يترقى في دراسة المتن مرة ومرتين، وشرح وشرحين .. ثم إذا قرأ الحواشي هذه من أسهل ما يكون عنده، فإذا وصل إلى المطولات من أسهل ما يكون عنده.
(2/18)
________________________________________
ولذلك لو رجعتم إلى السير والتراجم تجدون أنهم كانوا يبرزون قبل العشرين، نحن نبدأ بعد العشرين، هم يبرزون ويتصدرون قبل العشرين يعني: العقلية مهما كانت هذا أمر فطري .. العقلية مهما كانت ابن عشرين هذا فيه شيءٌ من القصور، لكن مع ذلك بفضل الله عز وجل أولاً وآخراً عليهم، ثم بطريقتهم المثلى في التعلُّم استطاعوا أن ينتجوا.
السيوطي يقول في الأشباه: وكتبتُ رسالة في إعراب البسملة ومعانيها. وعمرُه تسع سنين، بلاستيشن يلعب تسع سنين عندنا.
خمسة عشر سنة الآن يعتبر نفسه صغير، يبتدئ العلم عمره ثمانية عشر سنة يقول: بدأت العلم وأنا صغير، كيف صغير؟ خلاص.
قال: (رِسَالَةٌ) وهي في عرف أصحاب التدوين: اسمٌ لأوراقٍ قليلة تحتوي على مسائل من العلم.
(لطيفة) رسالةٌ لطيفة يعني: حسنَة .. حسنةُ الوضع، بديعةُ الصنع.
(فِي المَنْطِقِ) في علم المنطق.
هذا تقييدٌ لموضوع الرسالة، في أي فن؟ قال: في علم المنطق.
هذا شروعٌ من المصنف -رحمه الله تعالى- فيما يتعلق بذكر بعض المبادئ العشرة، سيذكر التعريف والموضوع، وأظنه ذكر الثمرة، هذه مجموعة في قول الصبَّان:
إِنَّ مَبَادِي كُلِّ فَنٍّ عَشَرَةْ ... الحَدُّ وَالمَوْضُوعُ ثُمَّ الثَّمَرَةْ
وَفَضْلُهُ وَنِسْبَةٌ وَالْوَاضِعْ ... وَالاِسْمُ الاِسْتِمْدَادُ حُكْمُ الشَّارِعْ
مَسَائِلٌ وَالْبَعْضُ بِالْبَعْضِ اكْتَفَى ... وَمَنْ دَرَى الجَمِيعَ حَازَ الشَّرفَا
وهذه كذلك من الأشياء التي يُفرَّط فيها الآن، يعني يظن أن هذا تحصيل حاصل، اتركنا منه ندخل في الكتاب مباشرة! وهذا غلط، لماذا؟
لأنه مهما أُوتي الإنسان من ذكاء إذا لم يضبط -على جهة العموم- الفن الذي سيدرسه وفائدة الفن لن يمشي فيه، لن يستمر.
ولذلك من الأسباب أن الطالب يبدأ ويرجع، يبدأ ويرجع، يبدأ وينقطع .. إلى آخره، من الأسباب أنه لا يدري ماذا يطلب، فلا يعرف النحو، قد يدرس الآجرومية وينتهي قل له: ما هو النحو؟ صوِّر لي النحو؟ ما يستطيع أن يعبّر.
ما الفائدة؟ لا يستطيع أن يعبِّر.
كيف تطلب علم وتنتهي وتقرأ وتحفظ وأنت ما تعرف الفائدة المرجوَّة من هذا الفن، ما هي الثمرة.
الذي ينبغي أن يُعتنى في كل فنٍ أن يكون لك دراسة معيَّنة في كل فنٍ تدرسه على نمط هذه المسائل العشرة.
"إِنَّ مَبَادِي كُلِّ فَنٍّ عَشَرَةْ" والتي يسمونها مقدمة العلم، وما مضى الثمانية الأمور .. الأربعة المستحبات هذه مقدمة كتاب، وأما مقدمة العلم فيذكرون فيه الحد والموضوع.
قال: (في علم المنطق).
المنطق على وزن مَفْعِل.
قال في الإيضاح في شرح السلَّم: مصدر ميمي، وتلقاه البعض على أنه مصدرٌ ميمي.
وهذا فيه إشكال عندي، كيف يكون مصدراً ميمياً وفعلُه ينطق؟ منطِق مفعِل، كيف يكون مصدراً ميمياً وفعلُه المضارع على وزن يَفْعِل.
((هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ)) [الجاثية:29]، ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)) [النجم:3] إذاً من باب يَفْعِل، وباب يفْعِلُ -بكسر العين- المصدر الميمي منه على وزن مفْعَل ليس على وزن مفعِل؛ لأنك تقول: يفعُل يفعَل يفعِل. ثلاثة أبواب.
(2/19)
________________________________________
المصدر الميمي في الجميع مفْعَل، يفعُل المصدر الميمي مفْعَل، يفعَل المصدر الميمي مفعَل بالفتح، يفعِل كينْطِق المصدر الميمي منه مفْعَل، وهذا محل وفاق.
بقي اسما الزمان والمكان، اسم الزمان واسم المكان من يفعُل على وزن مفعَل كالمصدر الميمي.
وكذلك اسم الزمان والمكان من يفْعَل مفْعَل إذاً اتحدت.
إذاً القاعدة هكذا رتَّبها حتى تكون مرتَّب: يفعُل وهو أول الأبواب، المصدر الميمي واسم الزمان واسم المكان على وزن مفْعَل، لا فرْق، الثلاثة.
الباب التالي: يفعَل وهو متأخر، يفْعَل المصدر الميمي واسم الزمان واسم المكان على وزن مفْعل.
إذاً: اتحد البابان في الثلاثة الأبواب.
الإشكال في يفْعِل كينْطِق، المصدر الميمي كسابقه: مفعَل، الذي اختلف هو اسم الزمان واسم المكان على وزن مفْعِل.
إذاً: نطَق ينطِق مفعَل مصدرٌ ميمي، مفعِل هذا اسم مكان أو اسم الزمان، ولذلك الأولى أن نقول: منْطِق هذا اسم مكان وليس بمصدرٍ ميمي، وإن شاع كثير يقال: مصدر ميمي، لكن فيه إشكال الذي ذكرتُه.
إذاً الأولى أن يقال: إنه اسم مكانٍ؛ لأن المنطق يقال بالاشتراك في اللغة عندهم على ثلاثة أمور.
"بالاشتراك" يعني: يُطلق تارة على الأول، ويطلق تارة على المعنى الثاني الآتي، وتارة على المعنى الثالث.
لأن المنطق يقال بالاشتراك في اللغة عندهم على ثلاثة أمور:
الأول: يُطلق على الإدراكات الكلِّية كثيرة أي: على نفس الإدراكات.
الثاني: على القوة العاقلة التي هي محل صدور الإدراكات، ومر معنا هذا بالأمس قلنا: وآلتها العقل. ولا إشكال فيه .. القوة العاقلة التي هي النفس.
وقلنا الإدراك هو: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، ما معنى النفس؟ هي القوّة العاقلة التي هي محل الإدراكات، وآلتُها العقل.
حينئذٍ محلُ الإدراك غير العقل والعقل آلة ولا إشكال، تقول: زيدٌ يمشي. وصفتَ زيد كله ذاته بيمشي، صح الوصف أو لا؟ صح الوصف، لكن يمشي بيديه؟ برجليه.
إذاً آلة المشي الرجلان، ووصفتَ زيداً بكونه يمشي. إذاً لا إشكال فيه .. زيدٌ يمشي وآلة المشي الرجلان لا إشكال فيه.
النَّفس تدرك -التي هي النفس العاقلة- وآلتُها العقل، كما أن زيداً يمشي وآلة المشي الرجلان لا إشكال فيه، تأمل هذا المثال.
النوع الثالث أو الإطلاق الثلاث: على النطق والتلفظ؛ لأن الإدراكات هذه أمور معنوية داخلية، فإذا أراد الإنسان أن يكتفي بدلالة الألفاظ أو بما يسمعه أو بما يفكِّر فيه هو لنفسه لا يحتاج إلى تلفُّظ، وإنما يحتاج إلى تلفُّظ إذا أراد أن يخبر غيره، ولذلك اللفظ ومباحث الألفاظ هذه تعتبر متممة؛ لأن بحث المنطق في المعقولات، ولا يُشترط في المعقولات في إثباتها أن يحدِّث بها غيرَه وإنما هي ثابتة في نفسها، إذا أراد أن يعلِّم غيره فحينئذٍ لا بد من لفظٍ، فصار اللفظ وسيلة، ليس مقصوداً لذاته وإنما هو وسيلة.
ولذلك كل بابٍ في علم المنطق يتعلق بالبحث في الألفاظ وما يدور حولها، فهو بحثٌ في وسائل ليس بحثاً في المقاصد؛ لأن اللفظ غير المعقول، المعقول محله النفس فحينئذٍ لا يحتاج إلى اللفظ.
(2/20)
________________________________________
ولذلك نحن نقول -فيما مضى ويأتي إن شاء الله تعالى-: أن الإنسان إذا نظر حينئذٍ رتَّب أمرين فأكثر ليصل بهذين الأمرين المعلومين إلى مجهولٍ تصوري أو تصديقي، هذا لا يحتاج إلى لفظ، قد يحتاجه في نفسه ليرتب الأمرين، ثم يصل نتيجة ويكتفي بها، لكن إذا أراد أن يخبر لا بد من لفظٍ.
إذاً: المعنى الثالث: على النطق والتلفظ؛ لأن هذه الإدراكات إنما تبرز وتظهر بالنطق والتلفظ، فالتلفظ هو الذي يُظهِر هذه الإدراكات لأنك تدرك الأمر في نفسك أولاً ما الذي أدرانا أنك أدركت؟ عندما تُخبر باللفظ، فصار اللفظ وسيلة إليه.
قال هنا: (على الثاني والثالث يمكن اعتبار أن يكون المنطق اسم مكان).
إذا أطلقنا المنطق وأردنا به النَّفس العاقلة أو القوة العاقلة. منْطِق مفْعِل اسم مكان، وهذا لا إشكال فيه واضح.
(على النطق والتلفظ محلُّه) إذاً اسم مكان لا إشكال فيه، أما على الأول فلا؛ لأن الإدراك هو نفسُه المصدر الميمي.
ولذلك قال هنا -في الحاشية-: (المنطق يُطلق في الأصل على النطق اللساني، وعلى إدراك المعقولات.
وهذا العلم يقوِّي هذين المعنيين ويسلك بهما سبيل السداد، فلذا سُمِّي منطقاً).
هذا باعتبار المعنى اللغوي، أما في الاصطلاح عندهم فاختلفوا في حدِّه بناءً على اختلافهم في المنطق، هل هو علمٌ في نفسه أو أنه آلة لغيره؟
فاختَلف أهل التعريف بناءً على هذا الاختلاف، فإذا مر بك حينئذٍ تنظر: هل صدَّره بعلم أو صدَّره بآلة، بناءً على هذا الخلاف.
إذاً: هذا التعبير والاختلاف في التعبير من كونه عِلماً أو آلة هذا مبنيٌ على خلافٍ آخر وهو: هل المنطق علمٌ في نفسه أم أنه آلةٌ لغيره، ونحن نقول: لا خلاف بينهما، فقد يكون العلم آلة وهو علمٌ في نفسه.
ولذلك النحو مثلاً -باعتبار طالب العلم الشرعي-: وسيلة إلى الشرع، وهو علمٌ في نفسه مستقلٌ بكتبه وتعاريفه .. إلى آخره، وحينئذٍ كونه آلة لا ينفي كونه عِلماً بنفسه، كذلك هنا المنْطِق هو وسيلةٌ إلى الحكمة أو جزءٌ منها، ولا يلزم ألا يكون عِلماً في نفسه.
قال: (بناءً على اختلافهم في المنْطِق هل هو علمٌ في نفسه أم آلةٌ لغيره؟) هذا فيه نزاع.
(من قال: إنه علمٌ في نفسه عرَّفه بأنه: عِلمٌ يُبحث فيه).
صدّره بعِلمٍ، ثَم خلافٌ بماذا يُفسّر لفظ العلم في الحدود؟ هل يُفسَّر بالإدراك أو يفسّر بالقواعد والمسائل، أو المسائل التي هي القواعد والأصول، أو يفسَّر بالملكة؟
منهم من يحمله على الثلاثة المعاني، ومنهم من يحمله على الإدراك، ولكن إذا أردنا التخصيص حملُه على الثلاثة لا إشكال فيه؛ لأنه صار العلم يُطلق على الإدراك ويسمى علماً، وعلى القواعد ويسمى علماً، وعلى الملَكة وتسمى علماً. لكن إذا أردنا التخصيص فتقييده بالقواعد والأصول أولى.
(علمٌ) يعني: قواعد (يُبحثُ).
قال: (علمٌ يُبحثُ فيه) أي: في هذا العلم (عن المعلومات التصورية والتصديقية).
المعلومات التصورية نسبة للتصور يعني: المفردات.
والمعلومات التصديقية يعني: المُركَّبات، والمراد بالمركبات هنا التامة يعني: الجملة الاسمية والجملة الفعلية.
هذه معلومة يعني: موجودة عندك حاضرة في الذهن في القوة.
(2/21)
________________________________________
(عن المعلومات التصورية) يعني: المفردات التي معانيها قائمة بالنفس عندك.
والمعلومات التصديقية يعني: التراكيب، الجملة الاسمية والجملة الفعلية التي معانيها ومضامينها قائمة بالنفس، فلا إشكال فيها، ليس البحث في هذا، وإنما هذه وسيلة للوصول إلى شيءٍ آخر.
إذاً: نبحث في المعلومات التصورية والمعلومات التصديقية من أي جهة؟
قال: (من حيثُ) وهذا تقييد.
(من حيث إنها تُوصِل إلى مجهولٍ تصوري أو تصديقي).
وهذا سيأتي معنا إن شاء الله تعالى أن الذي يوصل إلى المجهول التصوري هو المعرِّفات وهو مر معنا كذلك بالأمس.
والذي يوصل إلى المجهول التصديقي هو الحُجة أو القياس أو البراهين. كلها بمعنى واحد.
البحث في هذين البابين هو بحث المناطقة، مُعرِّفات ولها مبادئ، وكذلك الأقيِسة لها مبادئ.
فكل ما يُذكر غير هذين البابين فهي متممة لهذين البابين، والبحث عنها يكون عن أحوالها الذاتية.
إذاً: ما هو المنْطِق من حيث كونُه علماً؟
(علمٌ) يعني: قواعد وأصول، (يُبحث فيه عن المعلومات التصورية) يعني: المفردات التي معانيها قائمة بالنفس.
(والمعلومات التصديقية) يعني: الجمل والتراكيب التي معانيها قائمة بالنفس ولا إشكال فيها، من أي جهة؟ من أنها موجودة؟ من أين أخذتَها؟ هل بينها ترابط؟ لا. ليست من هذه الحيثية.
من حيث إنها توصل إلى مجهول تصوري أو مجهولٍ تصديقي. يعني: نستفيد من هذه المفردات المعلومة التصديقية ومن هذه المركبات المعلومة التصديقية أن نصل بها على جهة معيّنة إلى استخراج معانٍ لمفردات مجهولة لا نعرفها، ونصل بها إلى مركباتٍ كذلك مجهولةٍ إلينا.
حينئذٍ المفردات على نوعين: مفردٌ معلومٌ عندك، ومفردٌ مجهول لديك. المركبات منها ما هو معلومٌ عندك، منه ما هو مجهولٌ لديك.
فحينئذٍ المعلوم من النوعين على تركيبٍ معيَّن تدرسه في باب المعرِّفات والأقيسة، تصل بهما إلى المجهول في المفردات والمجهول في التصديقات.
وقيل "تعريف آخر": المنْطِق علمٌ تُعرَف به كيفية الانتقال من أمورٍ حاصلةٍ في الذهن إلى أمورٍ مستحصلة. هو بعينه السابق.
علمٌ "يعني: قواعد" تعرِف بهذا القواعد ماذا؟
كيفية الانتقال من أمورٍ حاصلةٍ "يعني: معلومة" والأمور المراد بها هنا المعلومات التصورية والمعلومات التصديقية.
حاصلةٍ في الذهن "موجودة عندك" لن تتعب في إيجادها، إلى أمورٍ مستحصلة يعني: مطلوبة الحصول، ومطلوب الحصول والإيجاد لئلا يكون من باب تحصيل الحاصل يُشترط فيه أن يكون غير معلوم وإلا صار من قبيل تحصيل الحاصل وهو محال.
وهو معنى التعريف السابق لكن بعبارة أُخرى.
وأما باعتبار كونه آلةً "وهو الذي قدَّمه المصنف هنا" فيقال: المنْطِق آلةٌ قانونية تعصِم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ في الفكر.
آلة قانونية، والآلة ما يكون واسطةً بين الفاعل ومنفعله. قالوا: كالمنشار للنجار.
(2/22)
________________________________________
عندنا فاعل وهو النجار، وعندنا منفعل وهو الخشب نفسُه والآلة، إذاً: الآلة التي هي المنشار واسطة بين الفاعل وبين المنفعل الذي يَقبل، والمراد بالمنفعل هنا المراد به: معنى المطاوعة وهو ما يقبل الأثر، كما تقول: كسرتُ الزجاج بالحجر فانكسر الزجاجُ يعني: قَبِل الانكسار "رحَّب به" لكن بواسطة الحجر. فكلما كان الحجر حجراً كان الانكسار مقبولاً.
قال هنا: كالمنشار للنجار، ومعنى المنفعل هو معنى المطاوعة وهو ما يقبل الأثر، والفاعل هو الذي أحدث الحدث، والمنفعل هو الذي قبل الأثر كالزجاج بالنسبة للانكسار.
وعلم المنْطِق كيف يكون واسطة؟
يكون واسطة بين النفس العاقلة وبين المجهولات .. المطالب الكسبية، هذه القواعد واسطة، كما أن النجار يأتي إلى المنشار فيمسك، لا بد أن تكون المسكة لها طريقة ليس يمسك أي مسكة لا، لا بد أن يكون ماسكاً بطريقته المعروفة عنده، حينئذٍ صار المنشار واسطةً بين الفاعل وبين المنفعل.
طيب المنْطِق: قواعد وأصول، يكون واسطة بين النفس العاقلة وبين المجهولات، حينئذٍ لا بد للماسك أن يكون ماسكاً.
قال: وعلم المنْطِق كيف يكون واسطة؟ نقول: يكون واسطةً بين النفس العاقلة التي هي محلٌ للتفكير وبين المطالب الكسبية وهي الأمور المجهولة التصورية والتصديقية، التي نريد أن نصل إلى العلم بها، والنفس هي محل صدور الإدراكات، وتلك المجهولات نريد أن نصل إليها ونخرجَها إلى المعلومات.
والواسطة في ذلك هو فن المنْطِق، قواعد وأصول وقوانين تُطبَّق "يعني: تطبقها النفس" لتصل إلى إخراج هذا الأمر المجهول التصوري أو التصديقي من الجهل إلى العلم.
إذاً: لماذا سُمّي المنْطِق آلة؟ لأنه واسطةٌ بين النفس العاقلة وبين المطالب الكسبية.
آلةٌ قانونية؛ نسبةً إلى القانون، والقانون المراد به القاعدة، هو لفظٌ يوناني، لكن المراد به هنا القانون القاعدة والضابط والأصل هذه ألفاظ في الاصطلاح مترادفة، تصدق على شيءٍ واحد وهو قضيةٌ كليّة يُتعرَّف بها أحكام جزئيات موضوعها ..
(قضية) يعني: مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل.
(كليّةٌ) يعني: ليست جزئية.
(يُتعرّف بها) يعني: بواسطتها، (أحكام جزئيات موضوعها)، وهذا شأن القواعد كما هو معلوم.
إذا قلت: الفاعل مرفوع "كمثال" هذه قضية مبتدأ وخبر، الفاعل مرفوع.
كُلّيّة لأنها غير مختصة يعني: ليس مختصة بزيد أو عمرو أو بكر لا، وإنما الفاعل كل من أحدث فعلاً.
(يُتعرَّف بها أحكام جزئيات موضوعها) يعني: بواسطة هذه القضية الكُلّيّة إذا جعلناها مقدمة كبرى في قياسٍ مقدمتُه الصغرى الفرد الخاص، فإذا قلت: خالد أو زيد .. زيدٌ من الناس.
زيدٌ من قولك: جاء زيدٌ فاعل، هذه مقدمة صغرى هكذا التركيب: زيدٌ من قولك جاء زيدٌ فاعلٌ. كيف نثبت بأن زيداً من قولنا جاء زيدٌ فاعل؟ هذا يحتاج إلى دليل.
ما دليل المقدمة الصغرى؟ حدُّ الفاعل، تعريف الفاعل ينطبق عليه أو لا؟ تقول: جاء زيدٌ، زيدٌ اسم مرفوعٌ بعد الفعل، اختصاراً.
حينئذٍ نقول: إذاً زيدٌ من قولنا: جاء زيدٌ فاعل؛ لأنه ينطبق عليه حد الفاعل .. صدق عليه.
إذاً: دخل في حد الفاعل، إذاً: زيدٌ من قولنا جاء زيدٌ فاعل. هذا دليلها.
وكل فاعلٍ مرفوع أو الفاعل مرفوع.
(2/23)
________________________________________
إذاً: زيدٌ مرفوع، زيدٌ مرفوع هذه شخصية مخصوصة يعني: آحاد، تدخل تحت الفاعل مرفوع أو كل فاعل مرفوع.
إذاً: كل فاعل مرفوع هذا يسمى قاعدة كُلِّيّة ولها جزئيات، الجزئيات هي أفراد الموضوع المحكوم عليه، كذلك مطلق الأمر للوجوب .. إلى آخر ما يُذكر من قواعد.
قال: (تعصم) يعني: هذه القواعد.
والعصمة في اللغة: الحفظ فتحفظ الذهن عن الخطأ في الفكر.
والفكر في اللغة: حركة النفس في المعقولات، هو عبَّر بالذهن وإلا الأولى التعبير بالفكر.
وفي الاصطلاح: ترتيب أمرين معلومين يُتوصل بهما إلى أمرٍ مجهولٍ تصوري أو تصديقي، هذا مر معنا .. ترتيب أمرين معلومين.
كيف ترتِّب؟ هو الذي سيأتينا في باب المعرِّفات وفي باب القياس، الترتيب الذي سيذكره المناطقة، (بين أمرين معلومين) إما تصور وإما تصديق.
(يتوصل بهما إلى أمرٍ مجهول تصوري أو تصديقي) هذا الترتيب قد يكون صحيحاً وقد يكون خطأ فاسداً.
فإن رتَّبته على ما وضعه المناطقة من قواعد وأصول حينئذٍ تصل إلى النتيجة الصحيحة، وهو الذي مر معنا من كلام الشيخ الأمين رحمه الله تعالى: أن القياس في نفسه صحيح النتائج، بل قال: قطعي. لكن متى؟ إن رُكِّبت نتائجُه مستوفيةً لشروط الإنتاج على الوجه الصحيح. حينئذٍ يُنتج الفكر الصحيح.
وإن حصل فيه خلطٌ بتقديم وتأخير أو عدم استيفاء بعض شروط الإنتاج حصل الخلل في النتيجة، فصار فكراً فاسداً قطعاً.
إذاً: في نفسه هو صحيح، ولكن الخطأ إنما يعتريه من جهة المستعمل له لا من جهة نفسه أما نفسه فهو منتج.
فحينئذٍ تصل إلى النتيجة الصحيحة وإن لم ترتِّب تلك المعلومات على الترتيب المعهود عنده فحينئذٍ يكون الفكر ليس صحيحاً بل فاسداً.
ولذلك قال: (تعصم) يعني: تحفظ هذه القواعد الذهن والفكر عن الوقوع في الخطأ؛ لأن الفكر يحتمل الصحة ويحتمل الخطأ، ولذلك اختُصر حد علم المنْطِق فقيل: (علمٌ يُعرَف به الفكر الصحيح من فاسده) هذا سهل حتى في حفظه.
(علمٌ) يعني: قواعد وأصول.
(يُعرف به) يعني: بواسطة هذا العلم وهي القواعد والأصول.
(الفكر الصحيح من الفاسد).
إذاً: الفكر فكران: فكرٌ صحيح وفكرٌ فاسد، الذي يستوفي الشروط هو الصحيح والذي يخالف هو الفاسد.
قال هنا: (وهو آلةٌ قانونية) عرَفنا المراد، (تعصمُ) زاد قيداً وهو لا بد من زيادته وقد نبهنا عليه فيما مضى.
(تعصم) يعني: تحفظ.
(مراعاتُها) أي: تلك القواعد أو الآلة (الذهن عن الخطأ في الفكر).
زاد المراعاة؛ لأن العلم إذا لم تكن معه مراعاة "يعني: علم رعاية" حينئذٍ لا فائدة فيه، كما قلنا فيما لو حفظ الألفية ولا يُحسن الإعراب "سلامٌ عليكم" هذا لا يستفيد شيئاً؛ لأنه لم يمارِس النحو.
كذلك القواعد المنطقية لا فائدة منها من حيث أنك تحفظ دون أن تمارس، فحينئذٍ لا بد من مراعاتها بمعنى: أن تكون النفس قد مارست هذا الفن بحيث صار لها ملكة، هذه الملكة حينئذٍ يستوفي بها استعمال القواعد في مظانِّها دون تكلُّف، ولذلك ابتداءً الذي يُعرِب في الفاعل يَرفع مرة ويَنصب أخرى، وجار ومجرور .. ولكنه إذا اعتاد بعد ذلك حينئذٍ يستقيم لسانه، أما في البداية فيتعب قليلاً، ثم بعد ذلك يستريح.
(2/24)
________________________________________
كذلك القواعد المنطقية عند مراعاتها في التفكير ونحوه، أو النظر فيما كتبه أهل العلم من حيث تطبيق القواعد قد يتعب أولاً ثم بعد ذلك يستريح.
(تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ) قال في الحاشية: فصلٌ مخرجٌ ما عدا المنْطِقَ.
ومعنى تعصم: تحفظ.
مراعاتها: إشارة إلى أن نفس المنْطِق لا يعصم الذهن عن الخطأ، وإلا لم يقع من منطقي خطأٌ أصلاً، واللازم باطل.
فكثيراً ما أخطأ من لم يراعِ المنْطِق وهو عالمٌ به وحافظٌ لقواعده.
قوله: (الذهن) أي: القوَّة المهيئِة للنفس لمعرفة المجهولات التصورية والتصديقية.
قال: (وموضوعُه المعلومات التصورية والتصديقية).
وهذا فيه شيءٌ من الخلل؛ لأن موضوع المعلومات التصورية والتصديقية فقط هكذا لا، هي مقيَّدة: من حيث صحة إيصالها إلى مجهولٍ تصوري أو تصديقي، لا بد من زيادة هذا القيد.
(المعلومات التصورية والتصديقية) زِد عليه: من حيث إنها توصل إلى المجهول، أو يكون لها نفعٌ في ذلك الإيصال.
(فن المنْطِق يبحث عن صحة الإيصال لا مطلق الإيصال) مطلق الإيصال بأي استعمال استعملتَ القياس وصلت "هذا مطلق إيصال"، سواءٌ استعملت المنْطِق على الوجه الصحيح أو على الوجه الخطأ بقطع النظر عن النتيجة صائبة أم خاطئة.
حينئذٍ نقول: هذا مطلق إيصال. وليس هذا المراد، وإنما المراد صحة الإيصال ليس مطلق الإيصال، يعني: أن تصل تركِّب هكذا من عندك لا، وإنما صحة الإيصال. إذاً: هذا قيدٌ لا بد منه.
قال: (فن المنْطِق يبحث عن صحة الإيصال لا مطلق الإيصال).
(لأن الخطأ في الفكر هو وصولٌ) من أخطأ في الفكر كذلك وَصَل، رتَّب مقدِّمات ظن أنها موصلة، حينئذٍ وصل، لكن وصل بصحة أو خطأ؟ خطأ، والمنْطِق لا يبحث عن هذا، وإنما يبحث عن صحة الإيصال لا مطلق الإيصال، فإن من ركَّب تركيبات أوصلته إلى خطأ في النتيجة ولو ظن صحتها وأخطأ في النتيجة، المنْطِق لا يبحث عن هذا، وإنما يبحث عن صحة الإيصال بحيث أنه يلزم من ترتيب هذه المقدمات هذه النتيجة الصحيحة، فإن أخطأتَ فحينئذٍ نقول: لم تستعمِل القواعد المنطقية على وجهها الصحيح فقد أخطأتَ في الاستعمال.
(لأن الخطأ في الفكر هو وصولٌ) لكنه وصولٌ من جهة ترتيبٍ لمقدِّمات لم تقع على الوضع السليم، حينئذٍ هو وصولٌ، احترازاً من هذا نقول: موضوع فن المنْطِق المعلومات التصورية والتصديقية من حيث صحة الوصول إلى مجهول تصوري أو تصديقي.
والذي يُوصل إلى المجهول التصوري هو المعرِّفات، وليس له طريق إلا هذا عن المناطقة، والذي يوصل إلى المجهول التصديقي هو الأقيسة والبرهان. وليس لهم إلا هذا الطريق فقط.
قال هنا: (وفائدته الاحتراز عن الخطأ) هذا واضع من التعريفات السابقة.
(وفائدته الاحتراز عن الخطأ في الفكر).
فَيَعْصِمُ الأَفْكَارَ عَنْ غَيِّ الخَطَا ... وَعَنْ دَقِيقِ الفَهْمِ يَكْشِفُ الغِطَا
نزيد بعض المواضع، قال: (وفضلُه) هل له فضلٌ أم لا؟
يقولون -وأنا حاكي-: (كونه عام النفع تتوقف عليه سائر العلوم) هذا فيه شيءٌ من الغلو، لذلك سمَّاه الغزالي معيار العلوم يعني: الميزان الذي يُعرف به صحيح العلم من فاسده هو فن المنْطِق. وهذا لا يُسلَّم.
(2/25)
________________________________________
ولذلك قال في الكلمة الجائرة: من لا علم له بالمنطق لا ثقة في علمه. وهذا ليس بصحيح، هذا غلو.
سمَّاه: معيار العلوم وميزان العلوم، وكل علمٍ سواءٌ كان من الوحيين -من الكتاب والسنة- والعقيدة والنحو وأصول الفقه .. وغيرها، كلها متوقفةٌ على هذا الفن، لذلك عظَّموه أكبر من حجمه، وهذا التعظيم لا يُسلَّم، وإذا عظَّموه وأخطئوا نترك المنْطِق ونمشي ولا ندرسه؟ نقول: لا.
ندرُسه ونحترز عن هذا الخطأ وهو: أنه قد رُفِع فوق شأنه، وإنما نستفيد منه بالفائدتين المذكورتين السابقتين.
(نسبتُه لسائر العلوم: أعم مطلقاً، فكلُّ فنٍ داخلٌ تحت فن المنْطِق).
نعم هذا صحيح (كل فنٍ فهو داخلٌ تحت فن المنْطِق). كيف؟ كل علم يبحث في تصوُّرات وتصديقات، يبحث في معنى العام، معنى الخاص، معنى الناسخ .. ثم يُثبت لها أحكام.
البحث في التعاريف هذا يسمى تصورات، البحث في إثبات الأحكام لهذه التعاريف تصديقات.
إذاً: كل علمٍ فهو مشتمل على تصورات وتصديقات، لكنها تصوراتٌ خاصة وتصديقات خاصة، وكذلك عند النحاة والفقهاء والمحدِّثين كلهم يبحثون في التصورات لكنها خاصة، وفي التصديقات لكنها خاصة.
بحثُ المنْطِق يبحث في مطلق التصور من حيث هو، ومطلق التصديق من حيث هو. إذاً: صار أعم، فكل فنٍ صار داخلاً تحته؛ لأنه إذا جاء يعرِّف هناك لا بد أن يعرِّف على طريقة المناطقة.
وإذا أراد أن يثبت على أنها قاعدة كليَّة مطّردة لا بد أن يُثبت على طريقة المناطقة، فدخل كل فنٍ تحت المنْطِق.
من هذه الحيثية لا إشكال فيه ولا نزاع، ولكن كونه يفتقر إليه من حيث القواعد والتطبيق هذا فيه إشكال.
قالوا: لأن بحث الأصولي مثلاً يبحث عن الشيء الذي يتعلق به فن أصول الفقه، والعلم نوعان لا ثالث لهما: إما تصورٌ وإما تصديق.
فبحث الأصولي في التصورات والتصديقات هل هو من جهة الإطلاق أو من جهة ما يتعلق بفنه؟ الثاني.
فحينئذٍ صار كل تصورٍ أصولي داخلاً تحت التصور المنطقي، فبحثُ الأصولي في التصور الخاص، وبحثُ المنطقي في مطلق التصور.
بحثُ الأصولي في التصديقات الخاصة، وبحث المنطقي في مطلق التصديقات، ولذلك دخل تحته.
وَاشْتَهَرَتْ بِنِسْبَةِ العُمُومِ ... نِسْبَتُهُ لِسَائِرِ العُلُومِ
(الواضعُ) هذه فائدة هكذا، من هو واضع المنْطِق؟
قالوا: الفيلسوف اليوناني إِرَسَطَاطَاليس قيل: وُجد قبل المسيح بثلاثمائة سنة، وهو واضع هذا الفن.
قال عبد السلام:
أَوَّلُ مَنْ وَضَعَهُ اليُونَانِي ... فِي الكُفْرِ قَبْلَ مَبْعَثِ العَدْنَانِ
ثم جاء إِرَسَطُو -بكسر الهمزة وفتح الراء والسين وضم الطاء إِرَسَطُو هكذا وليس أُرُسْطُو-.
وهو يونانيٌ أيضاً؛ لأن الفنون أول ما توضع توضع عشوائية، ثم لا بد من ترتيبٍ وتفصيلٍ وتهذيبٍ وتحقيقٍ .. ونحو ذلك.
وجاء إِرَسَطُو هذَّب وعدَّل، ولذلك يسمى المعلم الأول. هذا في عهد اليونان، ثم بعد ذلك لما تُرجم في عهد المأمون هارون الرشيد ونُقل إلى العربية قيل: أول من وضعه في الإسلام الفارابي: محمد أبو نصر الفارابي.
ثُمَّتَ فِي الإِسْلاَمِ لِلْفَارَابِي ... حَكِيْمِ الاَتْرَاكِ أَخِي الإِغْرَابِ
(2/26)
________________________________________
وهذا الذي يُذكَر في هذا الباب، ثم الفارابي كتُبه قالوا ذهبت احترقت، وجد الآن من كتاب أو كتابين طُبعت.
فجاء الرئيس فأحيا الفتنة وأججها، ذهبت كتب الفارابي فأحياها .. سَن سُنة سيئة، حينئذٍ إذا أُطلق عندهم الشيخ انصرف إلى ابن سينا، وإذا أُطلق الرئيس انصرف إلى ابن سينا، وكثيراً ما يذكرونه باسمه لعله إجلالاً له إنما يقال: قال الرئيس، وهذا ما اختاره الرئيس، قال الشيخ .. إلى آخره.
قال هنا: فتبنى أبو علي حسين بن عبد الله بن علي البخاري المعروف بابن سينا المسمى بالرئيس، فإذا أُطلق الشيخ عند المناطقة هكذا: قال الشيخ فاعلم أنه ابن سينا، وابن سينا أعاد الفتنة فأجج كتب الفارابي فردها كما كانت توفي سنة 428هـ .. إلى آخر ما ذكره.
اسمه كما مر معنا المنْطِق.
ثُمْ اسْمُهُ يَدْعُونَهُ بِالمَنْطِقِ ... وَبِاسْمِ مِعْيَارِ العُلُومِ يَرْتَقِي
الاستمداد من العقل.
قال هنا: (أَوْرَدْنَا فِيهَا مَا يَجِبُ اسْتِحْضَارُهُ لِمَنْ يَبْتَدِئُ فِي شَيءٍ مِنَ الْعُلُومِ).
(أَوْرَدْنَا) أي: ذكرنا.
(فِيهَا) يعني: في هذه الرسالة، هو قال: (فَهذِهِ رِسَالَةٌ فِي فَنِّ المَنْطِقِ) وذكر المصنف الشارح بعض ما يتعلق بمبادئ العلم.
(أَوْرَدْنَا) أي: ذكرنا، والظرفية من ظرفية المدلول في الدال.
(فِيهَا) يعني: في هذه الرسالة.
و (أَوْرَدْنَا) هذه الجملة يحتمل أنها نعت للرسالة.
(مَا يَجِبُ) يعني: معاني.
(مَا) هنا اسم موصول بمعنى الذي يصدق على المعاني.
(يَجِبُ) اصطلاحاً يعني: لا شرعاً وهو كذلك، يجب اصطلاحاً يعني: لا شرعاً.
يعني: بحيث يوبَّخ إذا أخطأ أو لم يأت بها فحينئذٍ يوبَّخ .. يُعاتب، فإذا كان كذلك قالوا: يجب اصطلاحاً.
(اسْتِحْضَارُهُ) هذا فاعل (يَجِبُ).
(يَجِبُ اسْتِحْضَارُهُ) يعني: معرفتُه وملاحظته، والضمير عائد على (مَا).
(لِمَنْ يَبْتَدِئُ) يعني: يشرع.
أي: الشخص الذي أراد أو يبتدئ أو يشرع.
(فِي شَيءٍ مِنَ الْعُلُومِ) هل كل العلوم؟ هو ظاهر كلامه أنه كل العلوم، جميع العلوم حتى العقيدة، يجب وجوباً أن يشرع في فن المنْطِق (لِمَنْ يَبْتَدِئُ فِي شَيءٍ مِنَ الْعُلُومِ).
حينئذٍ "أل" هنا للاستغراق يعني: كل علم سواءٌ كان عقيدة أو غيره من الفنون.
ولكن بعضهم ذهب إلى أن المراد بأل هنا العهدية، والمراد بالعلوم هنا العلوم الحِكمية يعني: الحِكمة، إذا أراد الحِكمة فلا بد أن يُقدِّم، لكن هذا ليس هو، هذا مسلك العطَّار هكذا، وبَّخ من حمل "أل" هنا للاستغراق وقال: هذا غلط في الفهم، وإنما المراد بها العلوم الحِكمية، لكن هذا ليس بوارد.
لأن المصنف وصاحب الأصل ومن كتب من المتأخرين في المنْطِق إنما أرادوا ما يُستعمل في العلوم الشرعية، لم يريدوا بها علوم الحِكمة؛ لأن الأصل فيها قالوا التحريم، والخلاف الوارد إنما هو في تلك لا في هذا النوع. حينئذٍ كيف يُصرف العلوم هنا إلى الحكمة؟ هذا فيه شيءٌ من البُعد.
نحن ما نحمله على المتن، لو حملناه على المتن أشياء كثيرة خرجت، لكن باعتبار الشرح، باعتبار الشرح نقول: لا، مراد المصنف هنا إنما شرح ما يسلكه صاحب الأصل فيما يخدم الشريعة، ليس على العموم.
(2/27)
________________________________________
وإلا لو أردنا أنه على جهة الاستقلال، لو شرحنا متن إيساغوجي فقط، والماتن ليس له خبرة في الشرعيات لا إشكال فيه، لكن توجيه العطَّار كثير أنا أُثني على حواشيه ودائماً أنصح الطلاب بالنظر فيها وخاصةً في المنْطِق، لكن عنده شيءٌ من الجمود، وعنده أمر ثاني: أنه يقدِّس المناطقة الأصول: ابن سينا، والفارابي .. إلى آخره.
فيحمِل على من يسعى في تعديل وتطوير بعض المصطلحات المنطقية بأنهم خالفوا الأصول.
يعني: من أنت تخالف ابن سينا مثلاً إذا أراد أن يخصِّص، فكثيراً ما يتحامل على الشُرّاح وعلى المحشِّين بأنه جهلٌ، وما تأملوا، وما فكّروا.!! إلى آخره؛ بناءً على أنهم قد خالفوا ما اشتهر، حتى أنهم يسلكون مسلك متقدمين ومتأخرين، المنْطِق موجود المتقدم والمتأخر.
فإذا جاء المتأخر وخالف المتقدم، هناك من المتأخرين من يشن حملة على بعض المتأخرين لمخالفة المتقدمين كما هو الشأن في المصطلح الآن. هذا موجود والعطَّار منهم، يشن حملة كبيرة على من يخالف المتقدمين، حتى يُخَطئ التفتازاني أحياناً يقول: لا. هذا خالف المتقدمين، وهذا فيه شيءٌ من النظر.
قال هنا: (أَوْرَدْنَا فِيهَا) يعني: في هذه الرسالة.
(مَا يَجِبُ) وجوباً اصطلاحياً، عرفنا المراد بالاصطلاح هنا، بحيث يُحكم بإصابة من قام به وخطأ من لم يقم به، وفاعل (يَجِبُ): (اسْتِحْضَارُهُ) أي: معرفتُه وملاحظته والهاء عائدٌ على ما.
وذكَّره مراعاة للفظه وتنازَع (يَجِبُ) و (اسْتِحْضَار) في قوله: (لِمَنْ) .. يجب لمن - استحضار لمن، من باب التنازع.
حينئذٍ قدَّر للأول وحذَفه، وجعَل الثاني متعلقاً بالمتأخر.
فقد قال "تعليل هذا" عِلَّةٌ لقوله: (يَجِبُ اسْتِحْضَارُهُ) يعني: يجب استحضاره ما الدليل؟ قال الغزالي "يعني: أبو حامد" الملقَّب بحجة الإسلام وليس بحجَّة.
قال الغزالي: من لا معرفة له بالمنطق لا ثقة بعلمه.
إن كان المراد به العلم الشرعي الصحيح الصافي هذا كلام فاسد، إن كان المراد به ما دوَّنه المتأخرون الذين جعلوا المنْطِق في كثيرٍ من فنون العلم فحينئذٍ قد يقال بأنه على وجه التمام على ما ينبغي، نعم قد يقال بهذا، لكن ليس هذا مراده.
ولذلك اعتُرض عليه بالعقيدة والصحابة ونحوها، فقال: أولئك الأقوام كان علم المنْطِق لهم سجية وطبيعة، هذا يدل على أنه ما أراد المتأخرين، وإنما أراد عموم البشرية.
ولذلك قال بعضهم: من أُوتي علم الشريعة دون منطقٍ فهو من خوارق العادات.
نعم. من تعلم علم الشريعة يعني: الإمام أحمد من خوارق العادات، لماذا؟ لأنه بدون منطق، كذلك أبو هريرة وابن عباس حَبر الأمة في التفسير هذا أُوتي علم الشريعة ولا شك، هذا من خوارق العادات؛ لأنه استطاع أن يصل إلى النتيجة بدون واسطة "بدون آلة" كمن وُلِد له بدون زواج هذا مثلُه، فلا فرق بينهما! كله كلام فاسد لا نؤيده.
فقد قال الغزالي: من لا معرفة له بالمنطق لا ثقة بعلمه، وسمَّاه معيار العلوم أي: ميزانها التي تُعرَف بها الأفكار الصحيحة من الفاسدة؛ لعرضِها على قواعده، فما وافقها فصحيح وإلا ففاسد.
(2/28)
________________________________________
قال الشارح: (وحصرَ المصنف) يعني: الأبهري (المقصود في رسالته) المقصود في الرسالة من علم المنْطِق أو ما أراده من الرسالة .. من التأليف؟ الثاني.
يعني: (المقصود في رسالته) ليس هو المقصود من علم المنْطِق؛ لأن المقصود من علم المنْطِق هو اثنان –بابان-: المعرِّفات والأقيسة، وهو قد زاد على هذين البابين.
إذاً: لم يعتنِ بمقاصد علم المنْطِق.
فالمراد هنا: (المقصود في رسالته) لا يلزم من كونه مقصوداً من الرسالة أن يكون مقصوداً من العلم، فإن مباحث الألفاظ ليست من مقاصد علم المنْطِق، فقد جعلها المصنف هنا في أول بحثه، بل وجعلها مقصودة من الرسالة.
ولأن المراد بالمقصود من الرسالة ما عدا الديباجة، وبالمقصود من العلم مسائلُه كما قيل: إن حقيقة كل علم مسائلُ ذاك العلم. فخرجت المبادئ فإنها ليست مقصودةً بالذات، بل مما يَتوقف عليه المقصود، ومباحث الألفاظ ملحقةٌ بالمبادئ.
إذاً: كل بابٍ ليس هو المعرِّفات ولا الأقيسة فليس من مقاصد الفن البتة، إما أنه يتوقف عليه مباشرة أو بواسطة.
في خمسة أبحاث: بحثِ الألفاظ أولُّها، والدلالة كذلك.
والبحث أصله التفتيش في الأرض بنحو عودٍ ثم نُقِل إلى المسألة الخفية لعلاقة المجاورَة، والبحث في اللغة: الفصح والتفتيش.
والمراد هنا: إثبات النسبة الإيجابية والسَّلبية بطريق الاستدلال، فالمراد بالأبحاث المسائل مجازٌ من إطلاق اسم الحال وإرادة المحل؛ لأن المسائل والقضايا محلٌ لذلك الإثبات.
إذاً: المبحث الأول: بحثُ الألفاظ ومعه الدلالة.
الثاني: بحث الكُلِّيّات الخمس.
الثالث: بحث التصورات. ومراده به هنا المعرِّفات.
الرابع: بحث القضايا، ويتبعها التناقض والعكس .. وما سيأتي.
الخامس: بحثُ القياس.
هذه خمسة أبحاث.
(مُسْتَعِينًا بِاللهِ تَعَالى) (أي: طالباً منه المعونة على إكمالها) أي: إكمال الرسالة.
(مُسْتَعِينًا) حالٌ من فاعل (أَوْرَدْنًا).
(طالباً منه) يعني: من الله تعالى.
(المعونة) يعني: الإعانة.
(على إكمالها) أي: الرسالة.
خصَّه الشارح لقرينة المقام والاهتمام بما هو بصدده وإن كان حذفُ المعمول يفيد العموم.
(مُسْتَعِينًا بِاللهِ تَعَالى) على ماذا؟ ما قيَّده.
لكن قال: (على إكمالها) يعني: إكمال الرسالة فقيَّده بقرينة المقام، والأولى العموم.
(إِنَّهُ) هذا تعليل، لماذا استعنت بالله؟ (إِنَّهُ) أي: لأنه.
"إنَّ" بعد الخبر تُحمل على التعليل.
(إِنَّهُ) أي: إن الباري جل وعلا.
(مُفِيضُ) أي: معطي عطاءً كثيراً.
(مُفِيضُ) اسم فاعل أصله: مُفْيِض مُفعِل، أي: معطي عطاءً كثيراً.
(الْخَيْر وَالجَودِ) أي: العطاء على عباده.
(الْخَيْر) أي: ما فيه نفع.
(وَالجَودِ) أي: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي على وجهٍ ينبغي، عطفٌ خاصٍ على عام. يعني: عطَف الجود على الخير من عطْف الخاص على العام.
لعدم تخصيص الخير بما ينبغي، أما الجود فهذا بما ينبغي، لكن هذا لا يقال في شأن الباري جل وعلا.
أي: العطاء على عباده.
هذا (إِيسَاغُوجِي) هكذا قال المصنف أول ما قال: (إِيسَاغُوجِي).
وقدَّر له المصنف هنا مبتدأ محذوفاً: (هذا إيساغوجي)، (إِيسَاغُوجِي) هذا خبر لمبتدأ محذوف.
(2/29)
________________________________________
هو لفظٌ يوناني معناه الكُلِّيّات الخمس وهذا مر معنا: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام. هذه خمس هي الكُلِّيّات الخمس.
وهي من مبادئ المعرِّفات يعني: تُدرس قبل المعرِّفات؛ لأن التعريف يشتمل على كليٍّ، واحدٍ أو اثنين من هذه المذكورات.
هذا القول الأول: أن معنى إيساغوجي الكُلِّيّات الخمس، وهذا هو المشهور.
وقيل معناه: المَدخل أي: مكانُ الدخول في المنْطِق، وهذا وجهٌ كذلك مشهور .. القول الأول والثاني يعني: مقدِّمة.
(سُمي ذلك به) هذا قولٌ ثالث، كأن المصنف جعله تعبيراً أو تعليلاً لما سبق، لكن هو قولٌ ثالث.
(سُمي به باسم الحكيم الذي استخرجه ودوَّنه) يعني: هذا قولٌ ثالث.
وقيل: باسم متعلمٍ كان يخاطبه معلّمه في كل مسألة بقوله: يا إِيسَاغُوجِي! الحال كذا وكذا.
وذلك أن حكيماً استخرج الكليات الخمس وجعلها عند رجلٍ اسمه إيساغوجي -هذا كله قبل اليونان .. قديم يعني-، فطالعها فلم يفهمها، فلما رجع الحكيم قرأها عليه فصار يقول له: يا إيساغوجي الحال كذا وكذا، فسُمِّيت باسمه للمناسبة بينهما في الجملة. هذا هو المشهور.
أربعة أقوال وما عداها فهو تعسُّف، كونه مشتق من إيسا وأنا وأُغُوجي .. إلى آخره، كل هذا كلام لا أصل له.
قال هنا: (وفي نُسخ هذا الكتاب اختلافٌ كثير).
يعني: المتن قد اختُلف في نقله، ففيه تصحيفات وفيه خلاف، فإذا وَجدت في هذا الموضع -الكتاب- شيئاً يخالف متناً آخر أو شارحاً آخر لا تقُل: قد أخطأ زكريا الأنصاري، إنما تقول: هذه النسخة التي شَرح عليها.
ولذلك قال: (وفي نُسخ هذا الكتاب) يعني: متن إيساغوجي (اختلافٌ) وليس اختلافاً فحسب، بل (اختلافٌ كثير).
فإذا وَقفتَ على خلافٍ بين النُّسخ وبين الشُرَّاح فلا تقل: هذا أخطأ .. إلى آخره، وإنما تقول: لعله وقف على نُسخةٍ وشرح عليها، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!
(2/30)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح المطلع على متن إيساغوجي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ:
فنشرع هذه الليلة في التعليق على شرح زكريا الأنصاري في ما كتبه على متن إيساغوجي، وقد عرفنا في الدرس الماضي من اللقاء السابق ما يتعلق بأهمية النظر في هذا الفن، وأنه إذا نظر الطالب في بعض المتون مع شروحها، فحينئذٍ يُكتفى بها.
وهذا الشرح وإن كان صغير الحجم إلا أنه مشحونٌ بكثرة المسائل. يعني: مسائله كثيرة، مع أنه صغير، وإذا كان كذلك فحينئذٍ نحاول أن نقف مع الألفاظ؛ بحيث ندرس الكتاب دراسة نصيَّة، دراسة نصيّة بمعنى أنه يُنظر في كل لفظٍ على حدة.
وما كتبه المحشِّي هنا يُنظر فيه من حيث الانتقاء. يعني: بعض المسائل شرحُها يكون من الحاشية، وكذلك ما كتبه حسن العطّار في بعض المسائل وفي بعض المواضع، لا بد من ذِكره.
قال هنا في المقدمة، النسخة التي معكم فيها مقدمة من الناسخ وليست من صاحب الكتاب (قال سيدنا ومولانا العالم .. ) إلى قوله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ).
هذه الجمل إنما هي ثناءٌ من الناسخ أو من بعض الطلاب ونحو ذلك، وليست من الشيخ.
وهذا الكتاب كما هو معلوم ونص عليه هنا لأبي يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري الخزرجي السُنَيكي الشافعي، ولد سنة 824هـ وقيل: سنة 826هـ يعني: فيه خلاف يسير هل هو في سنة 824هـ أو 826هـ على خلافٍ يسير لهم.
والشارح معروفٌ عند الشافعية على جهة الخصوص، كما قال الشوكاني رحمه الله تعالى في ترجمته: له شرحٌ ومختصرات في كل فنٍ من الفنون.
يعني: ما ترك فناً إلا وألَّف فيه.
وهذه سمةٌ لجميع أهل العلم السابقين أنه يكون مشاركاً في جميع العلوم؛ لأن العلوم الشرعية يخدم بعضها بعضاً، ولا يُتصور في الواقع انفكاك العلوم الشرعية بعضها عن بعض، فالمفسِّر لا بد أن يكون محدِّثاً، والمحدث لا بد أن يكون مفسراً، والفقيه لا بد أن يكون أصولياً، والأصولي لا بد أن يكون نحوياً .. إلى آخره، فهي متلازمة بعضها يخدم بعض.
أكبر دليل يدل على ذلك: مثل هذه المصنفات، تجد شيخ الإسلام هنا -إن صح التعبير وهذا فيه نظر سنأتي علي- أنه ألّف في المنْطِق، وألّف في أصول الفقه، وألّف في التفسير، وألّف في الحديث .. وإلى آخره، يدل ذلك على أنه قد نظر في جميع الفنون.
له شرحٌ ومختصرات في كل فنٍ من الفنون توفي سنة 926هـ
من ضمن المسائل التي ذكرها هنا المقدم قال: (قال سيدنا ومولانا العالم العامل العلّامة، الحبر البحر الفهّامة، حُجّة المناظرين وحُلّة الطالبين، وقدوة العارفين ومربي السالكين، شيخ الإسلام والمسلمين، ذو التصانيف الحميدة والفتاوى المفيدة، والتآليف الجامعة النافعة، والأبحاث الساطعة القاطعة، زين المحافل فخر الأماثل، أبو الفضائل والفواضل أبو يحيى .. ) إلى آخره.
(أمتع الله بوجوده ونفع بعلمه وجُوده. آمين).
هذه الأوصاف كما ذكرنا ليست من نفس المؤلف رحمه الله تعالى؛ لأنه يُعتبر من تزكية النفس وهو بعيدٌ عن ذلك.
(3/1)
________________________________________
لكن يبقى النظر فيما يُطلق عليه أنه شيخ الإسلام، شيخ الإسلام والمسلمين هذا وصفٌ عام، بمعنى أنه يُطلق على من جمع بين علمي المنقول والمعقول، لكن يُشترط فيه أن يكون صحيح العقيدة، كما يقال: إمام. هذه يُشترط فيها أن يكون صحيح العقيدة بمعنى أن تكون عقيدته سلفية في باب الأسماء والصفات، في باب الألوهية وفي باب الربوبية؛ لأن هذا الوصف على إطلاق.
بمعنى أنه لا يشاركه فيه غيره، وبمعنى أنه يكون قدوةً للمسلمين، فإذا كان كذلك فلا بد أن يكون صحيح المعتقد وصحيح العمل، جمَع بين الأمرين.
وأما من كان متلبساً بعقيدة منحرفة فالأصح أنه لا يقال بأنه شيخ الإسلام ولا يقال فيه أنه إمام، إمام يعني: مؤتمٌ به يعني: يُقتدى به، وهذا إذا كان كذلك فلا بد أن يُقيَّد بأنه لا يُطلق هذا الوصف ولا يُتوسَّع فيه بأن يقال إمام إلا إذا كان صحيح المعتقد، وإن لم يكن كذلك فحينئذٍ لا يُطلق عليه.
قال: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ).
هذا الكلام من أبي يحيى زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى، وبدأ بالبسملة والحمدلة، والصلاة والسلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنهم يسيرون على أدبٍ معلوم في باب التصانيف، ولا بد أن يجمع بين أمورٍ ثمان: أربعة واجبة وأربعة مستحبة.
الواجبة: البسملة، والحمدلة، والشهادتان، والصلاة والسلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذه أربعة عندهم واجبة.
والمراد بالإيجاب هنا أو الوجوب الاصطناعي يعني: يُعاتَب أنه لم يذكر واحداً من هذه الأربعة.
الأربعة الأخرى مستحبة، كذلك استحباب اصطناعي بمعنى أنه على جهة الأولوية أن يأتي بها وهي: أما بعد. وهي سنة ثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبراعة الاستهلال، وبراعة الاستهلال أن يذكُر شيئاً في المقدمة تُشعر بالمقصود كما سيأتي في قوله: سبيل التصور والتصديق.
والثالث: تسمية نفسه.
والرابع: تسمية كتابه.
هذه ثمانية أمور ينبغي العناية بها في التصانيف، أربعةٌ على جهة الإيجاب وأربعة على جهة الاستحباب:
البسملة، والحمدلة، والشهادتان، والصلاة والسلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذه أربعةٌ واجبة اصطناعياً.
وأما بعد، وتسمية نفسه، وكتابه، وبراعة الاستهلال. هذه أربعةٌ على جهة الاستحباب.
و (بسم الله الرحمن الرحيم) تكلم كما ترون المحشِّي هنا كغيره ممن صنّف في علم المنْطِق، يتكلمون عليها من جهة ما يتعلق بها من قواعد منطقية؛ لأن القاعدة عندهم: أنه ينبغي لكل متكلمٍ في فنٍ من الفنون أن يتبرَّك بذكر طرفٍ مما يتعلق بالبسملة في ذلك الفن، وتركُ ذلك يُعتبر قصوراً أو تقصيراً .. قصوراً في العلم أو تقصيراً في العمل بالعلم، ولا بد أن يذكر شيئاً مما يتعلق بالقواعد المنطقية.
ذكرُ شيءٍ يتعلق بالبسملة من علم النحو، ومن علم الصرف، ومن علم البيان لا شك فيه أنه ظاهر وهو واضحٌ بيِّن.
وأما من جهة علم المنْطِق فليس فيه أدنى مناسبة، فحينئذٍ الخوض في هذه المسألة على جهة ما قرره المحشّي هنا خوضٌ ليس فيه إلا التكلُّف والتعسُّف.
ولذلك قال العطَّار: التكلُّم عن البسملة من فن المنْطِق غير ظاهر المناسبة.
(3/2)
________________________________________
بمعنى أنه يقال بأن الباء هنا أصلية ومعناها للاستعانة فهي جزئيٌ، وكذلك لفظ الجلالة جزئيٌ، والرحمن عام والمعنى الكلي، وإذا قلنا بأنه عَلمٌ صار جزئياً .. إلى آخر ما يُذكر في الألفاظ المنطقية، تُطبق على هذه المفردات.
حينئذٍ هل ثَم مناسبة بين مفردات البسملة مع القواعد المنطقية؟
نقول: هم حاولوا أن يذكروا شيئاً من تلك القواعد على هذه البسملة، الظاهر أنه ليس بينهما مناسبة البتة.
فحينئذٍ كل خوضٍ يتعلق بالقواعد المنطقية تطبيقاً على البسملة فليس بظاهر البيان.
وبيانه: أن معنى التكلم على شيءٍ بعلمٍ من العلوم هو إجراء ذلك الشيء على قواعد ذلك العلم، وتطبيق قواعده عليه، وإنما يتم إذا كان المتكَلَّم عليه داخلاً تحت موضوع العلم المتكلَّم به.
وموضوع فن المنْطِق -كما سيأتي-: المعلومات التصورية والمعلومات التصديقية من حيث صحة الإيصال إلى مجهولٍ تصوري ومجهولٍ تصديقي، وهذا لو نظرنا فيه كما سيأتي حينئذٍ لا يتأتى الخوض في البسملة على هذا الوجه، فلا تدخل البسملة تحت موضوع المنْطِق؛ لأن علم المنْطِق مبناه على الإيصال، بل صحة الإيصال، ليس كل إيصال وإنما هو صحة الإيصال.
أن يصل بالمعلومات التصورية والتصديقية إلى مجهولات تصورية وتصديقية، أين هو من حيث البسملة؟ لا وجود له.
والبسملة أجزاؤها والنظر فيها إما أن يكون جزئياً يعني: ليس من المعاني الكُلّيّة ولا بحث للمنطقي في الجزئيات.
المنْطِقي الذي ينظر في الكُلِّيّات كما سيأتي إنما بحثه في الكُلِّيّات فحسب، وأما الجزئيات فلا يَنظر فيها إلا على جهة الاستطراد، بمعنى أنها تخدِم النظر في الكُلِّيّات.
إذاً: انتهينا من هذا الجانب.
فكل ما يتعلق بالبسملة من جهة الجزئيات فليس من بحث المنْطِقي، بقي الكُلِّيّات فحينئذٍ نقول: الكُلِّيّات هذه لها نظران: إما كُلِّيّات مطلقة لا بالنظر إلى صحة الإيصال إلى مجاهيل تصورية وتصديقية، أو بهذا القيد.
فحينئذٍ نقول: البسملة وما وُجد فيها من بعض الكلمات التي يقال بأنها كُلِّيّات نقول: ليست بهذا المعنى، بمعنى أنها لا تُستخدم هذه الكُلِّيّات للوصول إلى مجهولات تصورية أو تصديقية، حينئذٍ لا يمكن دخول البسملة تحت موضوع علم المنْطِق.
قال هنا: (وموضوع علم المنْطِق هو المعلومات التصورية والتصديقية من حيث إنها توصل إلى مجهولٍ تصوري أو تصديقي، فلا بحث للمنطقي عن المعاني الجزئية إلا استطراداً، ولا عن المعاني الكُلّيّة مطلقاً، بل من حيث الإيصال).
يعني: لفظٌ أو معلومٌ تصوري ومعلومٌ تصديقي، بالنظر فيه على ترتيبٍ معيّن، يصل به الناظر إلى مجهولٍ تصوري أو مجهولٍ تصديقي.
فحينئذٍ النظر في البسملة لا يكون إلا على هذا الوجه، ولا يتأتى فيه، لا يمكن إجراء القواعد المنطقية على البسملة، وبعضهم يرى أنها إذا كانت آية حينئذٍ يُمنَع للخلاف -إن صح الخلاف- في فن المنْطِق، حينئذٍ لو صح تطبيق بعض القواعد المنطقية على البسملة فالبسملة آية من القرآن، وحينئذٍ لا يصح إجراء القواعد المنطقية على الآيات القرآنية.
(3/3)
________________________________________
والصواب أنه يقال: فيه نظر. بمعنى أنه إذا صح الحُكم بكون المنْطِق علماً مباحاً في أصله، حينئذٍ نقول: لا بأس إجراء بعض القواعد المنطقية على الآيات، فنقول: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) [آل عمران:185] هذه كُلّيّة لا بأس أن نقول بأنها كُلّيّة، والكُلّيّة بمعنى أنه لا يخرج فردٌ من أفرد الموضوع عن تنزيل الحُكم الذي هو المحمول على كل فردٍ فرد، كما سيأتي في كلام المصنف عن العام.
قال: (وحينئذٍ فالبسملة بعضُ معاني ألفاظها جزئي، ثم مجرد كون المعنى كُلِّيّاً لا يكون موضوع المنْطِق لانتقاء قيد الحيثية المذكور) يعني: من حيث الإيصال. وسيأتي في كلام المصنف ما يتعلق بتعريف المنْطِق وموضوعه وفائدته.
إذاً: ما حشَّى به المحشِّي هنا من النظر فيما يتعلق بالبسملة من جهة كونها جزئيات أو كُلِّيّات، نقول: هذا غير ظاهر المناسبة؛ لأنه لا مناسبة بين المعاني المذكورة وبين فن المنْطِق؛ لأن الموضوع -موضوع فن المنْطِق- إنما هو في معلومٍ تصوري أو تصديقي مقيَّد. ليس مطلقاً.
والنظر هنا إما في جزئي ولا بحث للمنطقي في الجزئيات، أو في كُلِّي لا بهذا القيد، فحينئذٍ خرج عن فن المنْطِق.
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد البسملة، وسيأتي لماذا بدأ في كلام صاحب المتن بالبسملة والحمدلة .. ونحو ذلك.
قال: (الحمد لله الذي منح أحبته باللطف والتوفيق، ويسَّر لهم سلوك سبيل التصور والتصديق.
والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمدٍ الهادي إلى سواء الطريق، وعلى آله وصحبه الحائزين للصدق والتحقيق).
هذا ذكَر فيه البسملة والحمدلة، وذكَر كذلك الصلاة والسلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك الشهادتين.
قد يقال: يُعتذر في مثل هذه أنه قد أتى بهما لفظاً. يعني: لم يَكتب تلك الشهادتين وإنما نَطق بهما.
وقوله: (ويسَّر لهم سلوك سبيل التصور والتصديق).
هذا فيه براعة استهلال، وهو أن يَذكر في المقدمة شيئاً مما يتعلق بالمقصود، والمقصود هنا هو التأليف أو التصنيف في فن المنْطِق، والبحث في التصور والتصديق إنما هو في هذا الفن.
وقوله: (وبعدُ) هذا من المستحبات، وسيأتي بحثه.
(الحمد لله) إذاً ثنّى بعد البسملة بالحملة لما سيأتي ذكره في الشرح، وسيأتي معنى الحمدِ في اللغة والعُرف.
(الحمد لله الذي منح) منح بمعنى أعطى، والذي هنا اسم موصول جاء به ليكون وُصلة، معلومٌ أن القاعدة عند النحاة: أن الجمل بعد المعارف أحوال، وبعد النكرات صفات.
إذاً: إذا جاءت الجملة بعد المعرفة فهي حال، إذا أراد أن يصف بالجملة ويخرجها عن كونها حالاً جاء باسم الموصول؛ ليَتوصل بأن يصف ما قبلها "يعني: الذي" بما بعدها.
لأنه لو قال: الحمد لله منح أحبته، قلنا: منح أحبته الجملة في محل نصب حال، لكنه لم يرد ذلك، وإنما أراد أن يصف ما قبل الذي بما بعده، وفرقٌ بين الوصف والحال.
إذاً: الذي يُتوصل بذكر الموصول إلى وصف المعارف بالجمل؛ لأنه لو لم نأت بالاسم الموصول لكانت الجملة التي هي صلة الموصول حالاً لا نعتاً، وليس هذا المراد ولذلك جاء بالذي.
(3/4)
________________________________________
كما يتوصل بلفظ أي لنداء ما فيه أل ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) [البقرة:104]، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) [البقرة:21] يا الناس هل يصح؟ لا يصح؛ لأنه لا يصح نداء ما فيه أل، فلا بد من وُصلة –توصيلة-: شيءٌ يجوِّز دخول يا على الاسم المحلى بأل، فحينئذٍ جيء بأي قيل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ)) [البقرة:104]، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) [البقرة:21].
حينئذٍ على المشهور أن الناس هو المنادَى، وقيل: أيُّ، وحينئذٍ جيء بأي هنا ليُتوصل بكون "يا" داخلةً على الاسم المنادَى وهو محل بأل.
كذلك ذي: مررت برجلٍ ذي مال، رجل مال لا يصح أن يقع مال نعتاً لرجل، وإنما يتوصل بذي بمعنى صاحب؛ لأن مال هذا اسم جنس، ولذلك يُشترط في ذي التي هي من الأسماء الستة أن تضاف إلى اسم جنسٍ ظاهر غير مُضمر؛ لأن الأصل في المجيء بها ليَتمكن المتكلم من أن يصف ما قبلها بما بعدها؛ لأن الصفات إنما تكون مشتقات.
وَانْعَتْ بِمُشْتَقَ كَصَعْبٍ وَذَرِبْ ... وَشِبْهِهِ كَذَا وَذِيْ وَالمُنْتَسِب
حينئذٍ ما فيه معنى المشتق كذي لأنها تُفسَّر بمعنى صاحب، نقول: جيء بها لأجل أن يُتمَكن من وصف ما قبلها بما بعدها، فلو لم يؤتَ بها لما صحَّ أن يوصف بالمضاف إليه تبعاً لأصلها.
ومعلومٌ أن الموصول مع صلته في قوة المشتق، كما هو القاعدة عند البيانيين.
ولذلك يصح أن يقال في مثل هذا التركيب: الحمدُ لله المانحِ، المانح هذا اسم فاعل يصح أو لا يصح؟ نقول: نعم يصح؛ لأنه من حيث المعنى والمدلول لا فرق بين المانح والذي منح، وإنما يُعدَل عن المانح إلى الذي منح لعدم وروده وجَعْلِه عَلماً على الباري جل وعلا، وهذا بناءً على أنه يصح أن يُخبَر عن الباري جل وعلا بلفظٍ لو لم يَرد في الكتاب والسنة، وأما إذا قُيِّد بأنه لا بد أن يكون وارداً فحينئذٍ لا بد من النظر في كل لفظٍ على حِدة.
فالأصل فيه: الحمد لله المانح، فحُذِف المانح لعدم وروده وجيء بصيغة تدل على الخبرية لا على العلَمية، فقيل: الذي منح.
إذاً القاعدة: أن الموصول (الذي) مع صلته (منح) في قوة المشتق، كيف في قوة المشتق؟
يعني: يصح أن تحذف الموصول مع صلته وتأتي باسم مشتق: اسم فاعل، أو اسم مفعول .. أو نحو ذلك، فيصح المعنى ويستويان من حيث الدلالة.
ومعلومٌ أن الموصول مع صلته في قوة المشتق أي: المانح، ولم يُعبِّر به لعدم وروده؛ لأنه إذا كان كذلك فهو اسمٌ، والأسماء معلومٌ أنها توقيفية، والصفات كذلك توقيفية، وإنما يُتوسع في باب الإخبار.
ولذلك يقال: بابُ الصفات أوسع من باب الأسماء، لماذا؟
لأن الاسم لا بد أن يأتي بلفظه ومعناه في الكتاب والسنة، فلا يؤخذ من الفعل ولا يؤخذ من المصدر.
وأما الصفات فتؤخذ من الأسماء، ويزيد عليها الفعلُ ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5]، الاستواء، كذلك المصدر ((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ)) [المنافقون:8]، ((إِنَّ بَطْشَ)) [البروج:12].
(3/5)
________________________________________
فحينئذٍ نقول: هذه زاد على مدلول الأسماء، فصار باب الصفات أوسع من باب الأسماء، وباب الإخبار أوسع من البابين، لماذا؟ لأنه قد يكون بما جاء في الكتاب والسنة وقد يَزيد عليه بما لم يرد وصح معناه، يزيد عليه بما جاء في الكتاب والسنة، فتقول: الصانع تُخبر عن الله عز وجل بأنه الصانع، من أين الصانع؟ ما جاء اللفظ هكذا الصانع وإنما جاء ((صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)) [النمل:88] فلو قال: الصانع صح أو لا؟ صح، لكنه لا يكون عَلماً وإنما يكون من باب الإخبار.
كذلك لو قال المتقن ((الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)) [النمل:88] فقال: المتقن. صح أو لا؟ صح.
إذا لم يرد في الكتاب والسنة كلفظ القديم، وأراد به معنى الأزلي صح أو لا؟
على اختيار شيخ الإسلام يصح، وكذلك ابن القيم رحمه الله تعالى، لكن في هذا المقام وهذا النوع الأولى أن يقال: بأن التوقُّف هو الأصل؛ لأن الأصل فيما يُطلق على الباري جل وعلا ما جاء به الكتاب والسنة لفظاً ومعنًى.
فما جاء به اللفظ فحينئذٍ لا إشكال فيه ويكون التصرف فيه من حيث القواعد اللغوية كالمستوِي، نزَل، ينزِل، فهو نازل .. إلى آخره.
يكون هذا واردٌ من حيث القواعد اللغوية لا من حيث ما نطق به الشارع.
وأما ما لم يرد كالقديم بمعنى الأزلي نقول: لفظ القديم ما جاء القِدَم في الكتاب والسنة، فالأصل فيه المنع أو التوقف. وأما جواز إطلاقه فهذا يحتاج إلى دليل.
إذاً: (الحمد لله الذي منحَ) لماذا عدل عن المانح إلى الذي المنح؟ لعدم وُروده .. لأنه لم يرد في الكتاب والسنة، والأسماء توقيفية كما أن الصفات توقيفية.
قال: (الذي منح) منح يعني: أعطى، يتعدى لاثنين بنفسه تارة، تقول: منحته درهماً، وتارة يتعدى للثاني بالباء كما عدَّاه الشارح هنا (الذي منح) هو (أحبته) هذا مفعول أول.
قال: (باللطف) هذا مفعولٌ ثاني، عدَّاه بالباء، وهذا واردٌ في لسان العرب.
سمَّيتُه "يعني: ولدي" زيداً، سمّيتُه بزيدٍ يصح أو لا؟ يصح.
"سميتُه" الضمير الأول تام نصبَه بنفسه، أو سميتُ ابني زيداً، فحينئذٍ زيداً بزيدٍ نقول: يجوز فيه الوجهان؛ لأن من الأفعال ما يتعدى إلى اثنين ويجوز أن تدخل الباء على الثاني ومنه منح، منحتُه درهماً وكما قال الشارح هنا وعدَّاه بالباء: (منح أحبته باللطف) يعني منح أحبته اللطفَ، فيجوز فيه الوجهان.
فلا حاجة حينئذٍ لتضمينه معنى خصَّ أو أَكرم، ما دام أن النوع هذا يتعدى بنفسه تارة وبالباء تارة أخرى، فيُحمل على القواعد اللغوية أولى من التضمين.
(الذي منح أحبته) أحبته، قال هنا في الحاشية: جمع حبيب .. فعيل بمعنى محبوب أو مُحِب.
أحبة أصله أفعِلة، أحبِبةٌ أفعِلةٌ، وأفعِلةٌ هذه من أوزان القلَّة.
أَفْعِلَةٌ أَفْعُلُ ثُمَّ فِعْلَهْ ... ثُمَّتَ أَفْعَالٌ جُمُوْعُ قِلَّةْ
وحينئذٍ أحبة نقول: هذا جمعُ قلّة أصله: أَحبِبةٌ، جمعُ حبيب، وحبيب يأتي بمعنى فاعل ويأتي بمعنى مفعول.
لكن على النوعين فاعل ومفعول يأتي على وزن مُحِب أو مُحَب خلاف ما ذكره المحشِّي، مُحِب بكسر الحاء ومُحَب بفتح الحاء، لماذا؟
لأن المشهور في هذه المادة أَحب، ويأتي لغة حَب.
حينئذٍ أحب يُحب فهو مُحِبٌ ومُحَبٌ، وحَب فهو حَابٌ ومحبوبٌ.
(3/6)
________________________________________
إذاً: فعيل بمعنى محبوب أو مُحِب، هذا جَمعَ بين اللغتين:
إما أن يقال: مُحِب مُحَب من أحب. وهذا المشهور وهو الفصيح.
وإما أن يقال: حابٌ فاعلٌ حابِبٌ أو محبوب، فيكون من الثلاثي الذي هو حَبَّ وهذا واضحٌ بيّن.
أحباب الله إما أن يراد بهم مطلق المؤمنين، كل مؤمن ويحبه الله تعالى، أو يراد به خواص المؤمنين، لكن الأول هو الذي يكون ظاهراً.
قال هنا: وأحبّه جمع حبيب، فعيل بمعنى مفعول أو فاعل أي: مُحِب أو مُحَب بفتح الحاء أو كسرها، فهو من الثلاثي المزيد يعني: أَحَبَّ.
أو حابٌ ومحبوبٌ إن كان من الثلاثي المجرد أعني: حبَّ، وهي لغةٌ في أحبَّ.
(منح أحبته باللطف) وهو الرأفة والرفق (والتوفيق) عطَفه عليه عطف مغايرة وهو كذلك.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد أجمع العارفون بالله على أن الخذلان أن يكلك الله إلى نفسك ويُخلّيَ بينك وبينها.
والتوفيق يقابله .. أن لا يكلك الله إلى نفسك، وإنما تكون الهداية هداية الإرشاد وهداية التوفيق.
قال: (ويسَّر لهم سلوك سبيل التصور والتصديق).
يسّر يعني: سهَّل، هذا تفعيلٌ من اليُسر وهو ضد العسر.
(يسَّر لهم) لمن؟ للأحبّة المذكورين، مطلق المؤمنين أو خواصهم.
(سلوك سبيل التصور) سلوك المراد به المرور والدخول، يقال: سلكتُ الشيء في الشيء سلكاً فانسلك أي: أدخلتُه فيه فدخل فيه، هذا على المشهور.
وفيه لغة أخرى: سلكتُه سلوكاً.
(سبيل التصور) سبيل يعني: طريق، والسبيل يُذكَّر ويؤنَّث، ومنه ((وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ)) [الأنعام:55] قراءتان والشاهد الذي معنا: ((وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ)) [الأنعام:55] القراءة المشهورة.
تستبينَ سبيلُ، سبيلُ هذا فاعل، تستبينَ أنتَ سبيلُ، قد يظن الظان هكذا لا، ليس هذا المراد، التاء هذه تاء التأنيث -تأنيث الفاعل- مثل: تضربُ هندٌ زيداً، "وَتَاءُ تَأْنِيْثٍ تَلِي الْمَاضِي"، وإذا كانت في المضارع تأتي أولاً: تضربُ هندٌ زيداً، تضربُ لماذا جاء بالتاء هنا؟ نقول: هذه التاء تاء التأنيث؛ لأن الفاعل مؤنث، ولا يصح أن يقال: يضربُ هندٌ إنما يقال: تضربُ هندٌ.
هنا الفاعل جاء مؤنثاً: تستبين سبيلُ الفاعل هنا مؤنث وهو مجازي التأنيث، حينئذٍ أنَّث الفعلَ قال: تستبينُ بالرفع، سبيلُ يعني: تظهر سبيل المجرمين. فلا يشكل كيف جاء تستبينُ والظاهر أنه للمخاطب وليس المخاطب به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه القراءة.
إذاً: "السبيل" الطريق يُذكَّر ويؤنث، ويُجمع المذكَّر على سُبُل بضمتين، والمؤنث على سُبُول.
قال هنا: (ويسّر لهم سلوك سبيل التصور والتصديق) هذا قلنا فيه براعة استهلال، براعة الاستهلال أن يأتي بشيءٍ مما يدل على المقصود، يعني يأتي بعبارة، يأتي بمصطلح في فن المنْطِق فيَذكُره في المقدمة ليُشير للقارئ ابتداءً أن هذا الكتاب في فن المنْطِق. وهو واضحٌ بيّن.
هنا المصنف لعله أراد أن يشير بالتصور والتصديق إلى كون المصنف "إيساغوجي" في كتابه لم يذكر باباً يُعتبر مقدمة مهمة في علم المنْطِق ابتداءً، هو ليس داخلاً في الموضوع لكنه لا بد منه، وهو ما يتعلق بتقسيم العِلْم إلى تصور وتصديق.
(3/7)
________________________________________
ولذلك عيَّن هذين اللفظين مع كون المناسب أن يَذكر مصطلحاً قد ذكره المصنّف، المناسب إذا أراد أن يأتي بما يشير إلى المقصود أن يأتي بلفظٍ أو مصطلح قد ذكره المصنَّف فيما يأتي، لكنه جاء بلفظٍ الذي هو يُعتبر تقسيماً للعلم ولم يَذكره المصنّف، لعله فيه فُسحةً للشارحين أن يذكروا هذا الباب في هذا المقام، وهذا الذي سنسلكه.
يعني: قوله: (سلوكَ سبيل التصور والتصديق) نقول: هذا فيه إشارةٌ إلى بابٍ يُعنوِن له المناطقة في كتبهم: بابُ أنواع العلم الحادث، كما عنوَن له في السُلَّم.
فيذكرون حدَّ العلم، ثم يذكرون تقسيم العلم إلى تصور وتصديق، ثم يقسِّمون هذين القسمين إلى النظري والضروري، ثم يذكرون طريق كل واحدٍ منهما.
فهذه ثلاثة مسائل: حدُّ العلم أولاً.
ثم يُقسَّم العلم باعتبار ما يتعلق به الإدراك إلى تصور وتصديق.
ثم ثالثاً يُقسَّم العلم باعتبار الطريق إليه وهو كونه نظرياً أو ضرورياً.
ولذلك يقول: أنواع العِلم. لماذا أنواع العلم؟ لأن العمل أنواع أربعة؛ لأنه إما تصوَّر وإما تصديق، وكلٌ منهما إما نظري أو ضروري. تصور نظري تصور ضروري، تصديقٌ نظري تصديقٌ ضروري. هذه أربع، ولذلك يقول: أنواع.
بعضهم يجعل هذا التركيب وهو موجودٌ في كتب المناطقة يقول: أنواع العلم احترازاً عن علم الله تعالى فإنه لا يتنوع. وهذا لا يُسلَّم .. القول بأن علم الله تعالى لا يتنوَّع هذا ليس على طريقة أهل السنة والجماعة، وإنما قد يقال على وجهٍ ما بقولهم: العلم الحادث احترازاً من علم الله تعالى؛ لأن البحث في هذا النوع بكونه ينقسم إلى أربعة أقسام إنما هو في علم المخلوقين؛ لأن الذي يوصف بكونه تصوراً أو تصديقاً أو نظرياً أو ضرورياً نقول: هذه الأوصاف الأربعة لا يوصف بها علم الباري جل وعلا، لماذا لا يوصف بها؟ أولاً: لم يرِد، هذا التعليل الأكبر.
لأن الأصل فيما يُوصف الله تعالى به أو يُسمى هو الاعتماد على ما جاء به الوحيان: كتاب وسنة. هذا الأصل .. أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إثباتاً أو نفياً.
وهذه الألفاظ لم يرِد واحدٌ منها، لم يرد في القرآن وإنما جاء وصف العلم مطلقاً، فلم يقيَّد بكونه تصورياً ولا تصديقياً، ولا نظرياً ولا ضرورياً.
إذاً: هذه الأوصاف الأربعة إنما تختص بعلم المخلوقين، وأما علم الباري جل وعلا فلا يُوصف بواحدٍ منها البتة؛ لأنه لم يرد.
ثم بعضها يُوهم النقص بل فيه نقص، كالنظري مثلاً المراد به العلوم الكسبية يعني: التي تُستحصَل، لم يكن معلوماً ثم علِمه، هذا لا يمكن أن يقال في حق الباري جل وعلا، ولذلك قال هناك في التوشيح:
عِلْمُ الإِلَهِ لاَ يُقَالُ نَظَرِي
وَلَيْسَ كَسْبِيَّاً فَكُلُّ مُوْهِمِ ... وَلاَ ضَرُورِيٌّ وَلاَ تَصَوُّرِي
يُمْنَعُ فِي حَقِّ الْكَرِيْمِ المُنْعِمِ
لكن التعليل هذا ليس على إطلاقه، (فَكُلُّ مُوْهِمِ يُمْنَعُ) يعني: كلُّ ما أوهَم نقصاً وعيباً وتشبُّهاً بالمخلوقين (يُمْنَعُ فِي حَقِّ الْكَرِيْمِ المُنْعِمِ) هذا بناءً على قولهم:
وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا ... أَوِّلْهُ أَو فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهَا
(3/8)
________________________________________
نقول: لا، ليست هذه العِلَّة، نعم قد يكون في بعضها أنها موهِمة النقص، وحينئذٍ تنفى، ولكن الأصل العظيم المطرد هنا هو عدم الورود، فحينئذٍ لا نصف الله تعالى بهذه الأوصاف أو واحدٍ منها لأنه لم يرِد لا في الكتاب ولا في السنة.
إذاً: قوله: (سبيلَ التصور والتصديق) أشار به إلى هذا الباب.
قلنا: العلم اختُلِف فيه هل يُحد أو لا يُحد، والصحيح أنه يُحد يعني: يُعرَّف؛ لأنه حقيقةٌ من الحقائق كغيرها، كما يُعرَّف العام ويعرّف الخاص، ويعرَّف التصور والتصديق، كذلك يعرَّف العلم الذي هو أصلٌ وجنسٌ لهما.
المناطقة لهم حدٌ خاصٌ في العلم لا يَختلط معك بالحدود التي يذكرها الأصوليون أو يذكرها غيرهم من أهل اللغة.
فحينئذٍ ما المراد بالعلم عند المناطقة؟
يطلَق العلم ويراد به مطلق الإدراك، أو إن شئت قلت: الإدراك مطلقاً [العِلْمُ إِدْرَاكُ المَعَانِي مُطْلَقَاً] أو إن شئت عبِّر بقولك: مطلق الإدراك.
عندنا كلمتان: مُطلق الإدراك. ما هو الإدراك؟
الإدراك هذا مصدر من باب الإفعال، أَدرك يُدرك إدراكاً.
معناه في الاصطلاح: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، يزيد بعضهم: من نسبةٍ أو غيرها.
وصول النفس، عبَّر بالوصول لأنه هو المعنى اللغوي، ما العلاقة بين المعاني الاصطلاحية والمعاني اللغوية، والمعاني اللغوية لا بد أن تؤخذ جنساً في المعاني الاصطلاحية.
قوله: وصول النفس؛ لأن الإدراك هو وصول .. الإدراك في اللغة هو: بلوغ الشيء غايتَه ومنتهاه.
ولذلك يقال: أدركت الثمرة إذا نضجت، كمُلت .. إلى آخره.
وأدرك الصبيُ إذا بلغ يعني: وصل الحدَّ الذي يُكلَّف به شرعاً.
فحينئذٍ المعنى هذا لا بد أن يؤخذ جنساً في حد الإدراك في الاصطلاح، فقالوا: وصول النفس. ما المراد بالنفس؟
هذه عبارة مختصَّة يعني: اصطلاحٌ خاصٌ عند المناطقة.
يُطلق لفظ النفس ويراد به القوَّة العاقلة التي هي محل الإدراك؛ لأن الإنسان يُدرِك بمعنى أنه تستقر عنده المعاني، أين تستقر؟
عبَّر المناطقة عن محل الإدراك ومحل استقرار المعاني، ومحل نشوء المعاني بالنفْس، وهل هي العقل أو غيره؟
هذا محل خلافٍ عندهم، لكنهم يُعبّرون على المشهور عندهم بأن النفس هي القوة العاقلة التي هل محل الإدراك، وآلتُها العقل. فالعقل وسيلة وآلة وليس هو محلاً للإدراك، ففرْقٌ بين النفس والعقل.
"وصول النفس إلى المعنى بتمامه" المعنى كما هو معروفٌ عند أهل اللغة: ما يُقصد من اللفظ، فكل ما يُقصد من اللفظ يسمى معنى سواء كان هذا المعنى مفرداً أو كان هذا المعنى مركباً، متقابلان .. إما أن يكون مفرداً وإما أن يكون مركباً.
فالذي يُفهَم ويُدرَك من لفظ زيد نقول: هذا مفرد. وصول النفس إلى المعنى.
معنى زيد، ماذا يراد بلفظ زيد؟ ما الذي تفهمه من لفظ زيد؟ ما مدلول لفظ زيد؟
نقول: هذا يسمى معنى، فالمدلول والمعنى والمفهوم والمسمى بمعنى واحد، فزيدٌ المراد به الذات المشخَّصة، كذلك لفظ سماء، لفظ أرض له مدلولٌ .. له معنى .. له مفهوم.
إدراكُك بمعنى فهمِك، لمعنى هذا اللفظ يسمى إدراكاً.
النوع الثاني من المعاني: المعاني المركبة، وهذا المركب على نوعين: إما مركب مرادف لمعنى الكلام عند النحاة، أو لا يكون مرادفاً. من أجل التعميم.
(3/9)
________________________________________
فما كان مرادفاً لمعنى الكلام عند النحاة فهو الجملة الاسمية والجملة الفعلية، حينئذٍ إذا قيل: زيدٌ قائمٌ. دل على ثبوت القيام لزيد، هذا معنى جزئي أو مركب؟ معنى مركب؛ لأنه استُفيد وأُخذ ودُل عليه، وفُهم من مركب وهو جملة اسمية وهو قولك: زيدٌ قائمٌ.
إذاً: مدلول هذا التركيب -التركيب الإسنادي التام- زيدٌ قائمٌ يسمى معنى، وصول النفس إلى المعنى المركب الذي دل عليه هذا اللفظ يسمى إدراكاً.
قوله: "بتمامه" المراد به أن النفس قد تصل إلى بعض المعنى، وهذا كما يقع من الشاك، أو في المتردد في هذا المعنى.
إذا قيل: خندريس قد يتوارد إلى الذهن معنًى ما .. لعله ولعله ولعله، نقول: هذا المعنى ليس هو الوارد من حيث إطلاق اللفظ في لغة العرب، لكن قد يصل إلى كون هذا اللفظ يراد به معنى الخمر، لكنه لا على جهة الجزم. حينئذٍ نقول: هذا وَصَل إلى المعنى لا بتمامه وهذا لا يسمى إدراكاً وإنما يسمى شعوراً عند المناطقة.
إذاً: لا بد أن يستوفي هذه الأركان: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، فحينئذٍ يسمى إدراكاً.
"من نسبةٍ أو غيرها" هذا تفصيلٌ للمعنى؛ لأن الذي يُدرك من المركَّبات إما أحدُ جزئي المركب، وإما الارتباط والعلاقة بين الجزأين، وإما دلالة المركب.
إما أحدُ جزئي المركب، وإما النسبة والارتباط بينهما، وإما الدلالة التركيبية.
فإذا قلت: زيدٌ قائمٌ، إدراكُك لمعنى زيد هذا إدراكٌ لمفرد، قائم إدراكُك معنى قائم، يعني: ماذا فهمتَ من لفظ قائم؟ ثبوت القيام مثلاً. هذا إدراك أحدُ الجزأين، بقي العلاقة والارتباط بينهما الذي يسمى النسبة عند المناطقة، هذا الثالث.
الرابع: إدراك الجزأين مع النسبة على جهة الوقوع والإيجاد في الخارج، وهذا الذي سيأتي أنه هو التصديق.
إذاً: "وصول النفس إلى المعنى بتمامه من نسبةٍ فقط أو غيرها" يعني: غير النسبة "كإدراك الموضوع والمحمول، أو إدراك الموضوع فقط، أو إدراك المحمول فقط، أو الموضوع دون النسبة، أو المحمول دون النسبة". كما سيأتي.
إذاً: (العلم هو إدراك المعاني مطلقاً) فهو مطلقُ الإدراك، وعرفنا المراد بحد الإدراك: وصول النفس إلى المعنى بتمامه. زاد بعضهم: من نسبةٍ أو غيرها.
والنفس: هي القوة العاقلة للمعنى.
والمعنى هنا يشمل المفرد الذي هو التصور، ويشمل كذلك المعنى المركَّب الذي هو التصديق.
(من نسبةٍ أو غيرها) منْ بيانية، والنسبة هي النسبة الحُكمِية الخارجية، وهذا التصديق وسيأتي.
(أو التقييدية) وهذا تصور.
(أو غيرها) أي: أو غير النسبة، كإدراك الموضوع وحده، أو إدراك المحمول وحده، أو إدراك الموضوع والمحمول معاً دون النسبة، هذا مراده بغير النسبة.
(فالإدراك: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، فإن وَصَلَتَ إليه لا بتمامه يسمى عندهم في الاصطلاح شعوراً وليس إدراكاً؛ -لأن أول مراتب الطلب عندهم الشعور- ثم التصوُّر، ثم إن طلبه وبقي في حافظته سُمِّي حفظاً والطلب تذكُّر والوجدان ذِكرٌ).
الخلاصة: أن العِلم عند المناطقة هو إدراك المعاني مطلقاً، شمِل هذا الحد نوعي العلم: الذي يسمى بالتصور، والذي يسمى بالتصديق.
(3/10)
________________________________________
حينئذٍ صار العلم منقسِماً إلى هذين النوعين، فما كان المعنى فيه مفرداً فهو التصور، وما كان فيه المعنى مركباً إسنادياً تاماً فهو التصديق. والإدراك مر معنا.
ومطلق الإدراك هنا إدراك المعاني مطلقاً، هل قيَّده بكونه جازماً أو لا؟ نقول: لا لم يقيِّده، هل قيّده بكونه مطابقاً للواقع أو لا؟ نقول: لا. لم يقيِّده.
ينتج من ذلك: أن العلم عند المناطقة يَدخل فيه الظن، ويدخل فيه الجهل المركَّب، ويشمل كذلك ما يسمى بالنسبة المشكوك فيها، ويدخل فيه كذلك ما يسمى بالنسبة المتوهَّمة. أربعة أشياء.
فكل إدراك عند المناطقة يسمى علماً، ولذلك الجهل البسيط ليس بواردٍ هنا؛ لأنه عدمُ الإدراك، ونحن قلنا العلم هنا إدراك. إذاً: لا بد أن يكون فيه إدراك، وأطلق الإدراك سواءٌ كان على وجه الجزم الذي يسمى عِلماً ويُخص به عند الأصوليين، أو لا على وجه الجزم فدخل الظن؛ لأن الظن ما هو؟ إدراك الشيء إدراكاً غير جازمٍ.
إذاً: هو إدراكٌ للشيء لكنه غير جازم؛ لأنه يحتمِل النقيض فدخل الظن.
كذلك الجهل المركب دخل معنا أو لا؟ نقول: نعم دخل في حد العلم عند المناطقة على جهة الخصوص؛ لأنه إدراك الشيء. إذاً: فيه إدراك، فكلُّ ما كان إدراكاً فهو نوعٌ من أنواع العِلم عند المناطقة .. إدراك الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع.
بقي النسبة المشكوك فيها، هذا إذا أدرك الطرفين وشكَّ في الإيقاع وعدمه. يعني: لو أدرك زيد قائم وشك: هل بالفعل زيدٌ قائمٌ أم لا؟ الارتباط والعلاقة بين المحمول والموضوع هنا المبتدأ والخبر مشكوك فيها وقع أو لم يقع؟
زيدٌ مسافر، يأتيك خبرٌ زيدٌ مسافر فتشك: هل سافر بالفعل أو لا؟
هذه نسبة مشكوكة، تسمى عِلماً عند المناطقة؛ لأن الإدراك قد حصل، إدراك النسبة هنا والتعلق والارتباط بين الموضوع والمحمول قد وُجد.
النسبة المتوهَّمَة قيل: ما إذا رأى شبَحاً على بُعد قال: هذا أسد، فلما قرُب فإذا به زيد.
قوله: هذا أَسدٌ أَدرك الموضوع وأدرك المحمول وأدرك النسبة بينهما. هل هو بالفعل مطابق للواقع؟ الجواب: لا؛ لأنه ليس بأسد.
يسمى هذا عند المناطقة بالنسبة المتوهمة، يظن أن هذا زيد وإذا قرب منه قال: هذا عمروٌ ليس بزيد. نقول: هذه نسبة متوهمة.
هي نوعٌ من العِلم، إذاً: العلم عند المناطقة وإن كان يختص على جهة العموم بالتصديق والتصور إلا أنه يشمل كذلك الظن، ويشمل الجهل المركب، ويشمل النسبة المشكوك فيها، والنسبة المتوهَّمة .. هذه كلها أنواع من أنواع العلم، كل واحدٍ منها نوع ويسمى عِلماً، بخلاف الأصوليين الذين جعلوا إدراك النسبة التصديقية هو العلم، أو -خصَّ بعضهم-: إدراك النسبة التصديقية على وجه الجزم أخص؛ لأن العِلم يُطلق ويراد به التصور والتصديق، وهذا مصطلح المناطقة.
يعني: يُطلق ويراد به إدراك المفردات، فإذا فهمت معنى المراد بلفظ زيد أو سماء أو أرض أو صلاة يسمى عِلماً، لكن عند الأصوليين لا يسمى علماً؛ لأنه ليس فيه حكم.
يُطلق عند المناطقة ويراد به التصديق يعني: الجُمل التركيبية، هذه الجمل قد تكون جازمة أو غير جازمة، قد تكون مطابِقة للواقع أو غير مطابقة للواقع. هذه أربعة أقسام دخلت كلها تحت التصديق.
(3/11)
________________________________________
عند الأصوليين بعضهم خص العلم بالإدراك التصديقي فأَخرج الإدراك التصوري فلا يُسمى علماً. وهذا هو المشهور.
ومنهم من جعل التصديق على نوعين: جازم وغير جازم، فخَص العلم بالجازم. وهذا المشهور عند الأصوليين على جهة الخصوص وهو ما عرَّفه به الفخر الرازي في كتبه وتبعه كثير من الأصوليين، فحينئذٍ ثم فرقٌ بين التعريفين.
يرِد السؤال هنا: الظن هل هو نوعٌ من العِلم عند الأصوليين أو مقابِلٌ له؟
مقابلٌ له؛ لأنه ليس بجازم، وعند المناطقة نوعٌ من العلم.
الجهل المركب عند الأصوليين هل هو نوعٌ من العلم أو مقابلٌ له؟
مقابلٌ له.
وعند المناطقة نوعٌ من العِلم.
إذاً: الذي يجمع هذه الأقسام كلها -وقل ما شئت، التَّعداد أكثر مما ذكرنا- هو أن نقول: العِلم هو إدراك المعاني مطلقاً.
ولذلك في بعض كتب الأصوليين كمختصر التحرير يقول: يُطلق العلم ويرادف المعرفة، ويطلق العلم ويشمل التصور، ويطلق العلم على التصديق الظني، ويطلق العلم ويراد به التصديق الجازم. يعني له استعمالات، فكأنهم خصَّوا لفظ العلم بالتصديق الجازم ثم قالوا: يطلق على التصور أنه علم ويطلق على التصديق غير الجازم أنه علم.
وهذا يؤكد أن مذهب المناطقة ما اختاروه في تعريف العلم هو الأصح، وهو المرادف لمعنى العلم عند أهل اللغة، وهذه التقسيمات التي ذكرها الأصوليون إنما هي اجتهادات شخصية بمعنى أنها اصطلاحات.
فالعلم من حيث كونه إدراكاً جازماً. نقول: هذا اصطلاح الأصوليين وليس هو المعنى اللغوي، وإنما جاء في لسان العرب وفي القرآن وفي السنة إطلاق العلم هكذا، حينئذٍ يُنظر في القرائن هل المراد به التصور؟ هل المراد به التصديق الظني؟ هل المراد به التصديق الجزم أو لا؟ فننظر في كل تركيبٍ على حِدة.
وأما المعنى اللغوي الصحيح للعلم فهو إدراك المعاني مطلقاً، فالتصور في لسان العرب يسمى عِلماً حقيقة لا مجازاً كما هو الشأن عند الأصوليين، والظن يسمى عِلماً، وكذلك التصديق الجازم يسمى عِلماً، والتصديق الظني يسمى علماً.
يؤكِّد هذا: أن الأصوليين خصَّوا اللفظ بمعنى ثم قالوا: يطلق العلم ويراد به الظن، يُطلق العلم ويراد به التصديق الظني .. إلى آخره.
نقول: هذه الإطلاقات تدل على ماذا؟ لأنهم يستدلون عليها بلسان العرب، ويأتون بآيات ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)) [الممتحنة:10] قالوا: المراد به الظن هنا، طيب هذا لسان العرب .. هذا قرآن، فأطلق العلم وأراد به الظن، إذاً: الظن نوعٌ من العلم.
وهذا يتحدد على تعريف المناطقة لا تعريف الأصوليين، إذاً: أصاب المناطقة في هذا الموضع.
إذاً: مطلق الإدراك هنا يشمل الجازم وغير الجازم، ويشمل المطابق للواقع وغير المطابق للواقع، فشمل حدُّ العلم هنا الظن، والجهل المركب، والنسبة المشكوك فيها، والنسبةَ المتوهمة. إذاً: هذا تعريف العلم عند المناطقة.
ينقسم العلم عند المناطقة إلى نوعين على جهة الإجمال، وما مضى يدخل تحته، حينئذٍ نقول: العلم إما تصورٌ وإما تصديقٌ.
التصور عند المناطقة له استعمالان .. لفظ التصور؛ لأنه قد يطلِق بعضهم التصور بمعنى عام، ويطلق بعضهم التصور بمعنى خاص.
(3/12)
________________________________________
يُطلق التصور بالمعنى الأعم ويراد به حصول صورة الشيء في النفس "حصول يعني: وجود" أياً كان ذاك الشيء، وأشبه ما يكون بالشيء هنا ما يراد به المعنى، وحينئذٍ لا يختص لا بمفرد ولا بمركب.
حصول صورة الشيء في النفس يعني: القوة العاقلة، حصول صورة الشيء كزيد، هذا مفرد؟ حصول صورة الشيء كزيد. مدلول زيد حصل في النفس مفرد؟ مفرد.
إذاً: دخل في هذا الحد الذي هو التصور ولا إشكال فيه.
حصول صورة الشيء كـ: زيدٌ قائمٌ وهو ثبوت القيام لزيد، أو كقام زيدٌ وهو ثبوت القيام لزيد، حصل في النفس؟ حصل في النفس، يدخل تحت قوله: حصول صورة الشيء؟ نعم يدخل تحته.
إذاً: شمِل إدراك المفرد، وشمِل إدراك المركب.
سؤال: ما الفرق بين قولنا: العلم إدراك المعاني مطلقا، وبين قولنا: التصور حصول صورة الشيء في النفس، ما الفرق بينهما؟
لا فرق؛ لأن الأول شمِل "دعك من الألفاظ"، الأول شمِل التصور والتصديق يعني: إدراك المفردات وإدراك المركبات، والثاني شمل كذلك إدراك المفردات وإدراك المركبات.
إذاً: التصور يُطلق في بعض الاستعمالات ويرادف العلم، يكون مرادفاً للعِلم لكن ليس بالمعنى الأخص وإنما بالمعنى الأعم، فشمِل التصور هنا التصديق .. دخل فيه التصديق، سواء كان نظرياً أو ضرورياً، جازماً أو غير جازم، مطابقاً أو غير مطابق.
إذاً: دخل التصور بأنواعه، ودخل التصديق بأنواعه تحت الحد.
حينئذٍ نقول: هنا المراد به مطلق التصور، هل هذا هو الذي يكون قسيماً للتصديق؟ الجواب: لا، وإنما المراد به الذي يكون قسيماً للتصديق وأحد نوعي العلم وليس مرادفاً للعلم هو أن يعرَّف التصور بأنه إدراك المفرد، وهو الذي يعبِّر عنه بعضهم بأنه التصور المقيد بعدم الحكم.
بمعنى أنه يَتصور المفرد يعني: يُدرِك معنى المفرد، وما أكثر المفردات التي يتصورها الإنسان ويدرك معانيها دون أن يحكم عليها بشيء، فتتصور معنى زيد مثلاً ولا تحكم عليه لا بقائم ولا بعالم ولا بجاهل .. إلى آخره.
نقول: إدراك وفهم معنى زيد دون أن تُثبِت له شيء أو تنفي عنه شيء يسمى تصَوراً، فهو إدراك مفرد ليس إدراك مركَّب إسنادي.
ثم هو إدراكٌ لمفرد وهذا الإدراك لم يَنصب معه على المفرد حُكمٌ لا بالإثبات ولا بالنفي، فقلت: زيد. وعرفتَ المراد بزيد.
وهذا يجري في سائر الفنون، ولذلك في أول العلوم يقال: الفاعل هو الاسم المرفوع المذكور قبله فعلُه، هذا يسمى حد، لكن يسمى بالذي معنى هنا تصوراً؛ لأنك عرَفْت كلمة الفاعل كما لو عرَفت كلمة زيد، ما المراد بزيد؟ الذات المشخَّصة.
الفاعل، ما هو الفاعل؟ الاسم المرفوع، ما هو المفعول به؟ ما هو التمييز؟ ما هو الحال؟ ما هو العام؟ ما هو الخاص؟ ما هو الناسخ؟ .. إلى آخره.
فجميع التعاريف في جميع الفنون هي مثالٌ للتصورات النظرية، فهي إدراك لمفردٍ، فإذا فهِمت المراد بالفاعل حينئذٍ تحكُم عليه بأنه مرفوع، وهو الاسم المرفوع المذكور قبله فعله ..
مرفوع قالوا: هذا غلط، لماذا؟ لأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فأنت بيّن لنا أولاً ما هو الفاعل ثم احكم عليه، أما تبيّن الفاعل وتذكر الحكم معه ونحن نريد التصور هذا غلط .. تناقض.
(3/13)
________________________________________
وَعِنْدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ المَرْدُوْدِ ... أَنْ تُدْخَلَ الأَحْكَامُ فِي الحُدُوْدِ
لماذا؟
لأن التصور إنما يفيد كشف المعنى الذي ينطوي تحت اللفظ فحسب. ما المراد بالفاعل، ما المراد بالعام، ما المراد بالخاص، ما المراد بالناسخ، المنسوخ .. إلى آخره.
فتبين المعنى المراد بهذا اللفظ، ثم بعد ذلك تحكم عليه بما شئت.
فهذا يسمى تصوراً، لكنه تصور بالمعنى الأخص أو بالمعنى الأعم؟ بالمعنى الأخص الذي هو إدراك المفرد "يعني: إدراك معنى المفرد" من غير تعرُّضٍ له بإثبات شيءٍ ولا بنفي؛ لأن الحكم دائرٌ بين أمرين: إما إيجاب وإما سلب، تتصور معنى زيد فقط، وتتصور معنى قائم دون أن تثبت القيام لزيد، يسمى تصوراً وهو إدراكٌ المفردات.
قال هنا: (التصور المطلق) إذا: التصور له استعمالان، هذه كلها ستأتي معنا من أول الكتاب إلى آخره، التصور والتصديق والموضوع والمحمول والمقدم والتالي .. كلها، فهي أساس هنا، لا بد من فهمها.
(التصور المطلق هو حصول صورة الشيء في النفس).
يقابل التصور المطلق هذا: التصور بالمعنى الأخص، يسميه بعض أرباب المنْطِق بالتصور الساذَج بفتح الذال وهي معرَّبة –ساذَج-، يسمى بالتصور الساذَج يعني: من السذاجة التي ليس معها شيء، يقال: إنسان ساذج يعني ليس عنده شيء.
هنا اللفظ المفرد ليس معه شيء ساذج، بمعنى أنه لم يترتب عليه حكمٌ لا بالإيجاب ولا بالسلب.
وهو التصور المقيد بعدم الحكم.
والنفس هي القوة العاقلة أو القوة المدرِكة التي هي محل الإدراكات، وبعضهم يطلق عليها العقل تجوُّزاً .. يسمي النفس العقل.
والمشهور الفصل بين العقل والنفس، فتُجعَل النفس هي محلٌ للإدراكات، والعقل آلتها.
والتصور تفعُّلٌ من الصورة "يعني: وزنُه" لأن المدرِك لحقائق الماهيات تنطبع صورتُها في مرآة ذهنه. يعني: لماذا سُمي تصور؟ هذا من باب فلسفة اللفظ: