الأحد، 21 يناير 2024

شرح المطلع على متن إيساغوجي

 شرح المطلع على متن إيساغوجي

شرح المطلع على متن إيساغوجي

شرح المطلع على متن إيساغوجي -1-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -2-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -3-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -4-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -5-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -6-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -7-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -8-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -9-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -10-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -11-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -12-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -13-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -14-

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي -15-

 

==============

شرح المطلع على متن إيساغوجي

ـ[شرح المطلع على متن إيساغوجي]ـ

المؤلف: أحمد بن عمر الحازمي

مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشيخ الحازمي

http://alhazme.net

[ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 15 درسا]

  بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

 

فنشرُع في هذه الليلة: ليلة الأحد العاشر من شهر ربيع الأول من عام 1432هـ في شرح كتابٍ يتعلق بعلم المنطق.

وعلم المنطق يُعدُّ عند بعض أهل العلم من علوم الآلة، وإن لم يكن آلةً مباشرة للكتاب والسنة، كما هو الشأن في علم اللغة العربية أو علم أصول الفقه أنه علمٌ يُعتبرا علمي آلة، لكنهما مباشرة يعني: يعتمد فهم الكتاب والسنة على علوم اللغة مباشرة، ويعتمد الاستنباط من الكتاب والسنة على أصول الفقه مباشرة.

وأما فن المنطق كما هو معلوم فيه شيءٌ من الخلاف من حيث الجواز وعدمُه، من حيث الإقبال عليه وتركُه. إلا أنه لو لم يُترجم -كما سيأتي في كلام الشيخ الأمين رحمه الله تعالى- لكان المسلمون في غُنيةٍ عنه، ولكن احتاجه أهل العلم في بيان بعض المصطلحات التي دخلت علوم الآلة أو علوم الشريعة.

وكذلك فيما اعتمد عليه المخالفون، وهذا أهم من الأول؛ لأن المخالفين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتردية وغيرهم الذين خالفوا أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بذات الخالق جل وعلا، إنما اعتمدوا على عقولهم واحتجوا بما يرونه مناسباً من هذه القواعد، لذلك المنطق يُعتبر قواعد تفكير إن صح التعبير، أو قواعد الاستدلال الذي يكون مناطه العقل، ليس الاستدلال الذي يكون مناطُه الشرع إنما الاستدلال العقلي.

حينئذٍ لما اعتمد المخالفون على هذه الاستدلالات أو هذه القواعد المنطقية تعيَّن في الرد عليهم أن يكون من يرد عليهم من أهل العلم متشبعاً بعلم الشريعة، وأن يكون كذلك مُلماً بأدلتهم؛ لأن من كان معتمداً على دليل وهذا الدليل ليس هو دليل الكتاب والسنة. يعني: لم يعتمد على الوحيين، فحينئذٍ من لم يكن ذا علمٍ بما سوى الوحيين قد يضعف في الرد عليه، فلا بد من معرفة ما استدل به المخالفون من أجل إبطال حُجج هؤلاء المخالفين فتعيّن حينئذٍ تلمُّس هذا العلم، وخاصة طلبة العلم الذين يجدون من أنفسهم مكانة للعلم، وأنه قد يبلغ مبلغاً يفيدون فيه الأمة مستقبلاً بإذن الله تعالى في صون الشريعة وفي الذب عنها.

ولذلك الشيخ الأمين رحمه الله تعالى يعتبر من علماء أهل السنة والجماعة؛ لأن تزكية هذا الفن إن جاءت من المخالف قد يكون فيها شيءٌ من الشبهة، لكن الشيخ الأمين رحمه الله تعالى كما هو معلوم من أهل السنة والجماعة، بل هو إمامٌ في علوم الشريعة، وإمامٌ في علوم الآلة كذلك، ولا إشكال فيه ولا تردد في هذا الحكم عليه رحمه الله تعالى، وقد صنَّف كتاباً أسماه آداب البحث والمناظرة، وقدَّم له مقدمة، هذه المقدمة مقدمة منطقية اشتملت على الخالص من هذا العلم كما سيأتي في كلامه، ونذكره رحمه الله تعالى (يعني: كلامه) من أجل معرفة ما اشتمل عليه.

  وننُبه بأن هذا الفن إذا أقدم عليه الطالب وهو عنده شيءٌ من التردد في الإقبال عليه وأهميته ونحو ذلك، فحينئذٍ لن يستفيد، فالشيء الذي يتردد فيه الطالب سواء كان في المنطق أو غيره من العلوم، حينئذٍ لن يتمَّه، وإذا أتمه لن يفهمه على الوجه؛ لأن كل من لم يعلم قيمة العلم فحينئذٍ لن تتوجه إليه النفس، فإذا وقع شيء من النزاع بين طلاب العلم: هل يُدرس المنطق أو لا؟ يقرأ أو لا؟ هل نحضر أو لا؟

فحينئذٍ نقول: كلام أهل العلم في هذا واضحٌ بيِّن، وكلام من عمَّم في ذم علم المنطق، هذا مفصَّل.

كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لا يؤخذ على تراكيبه من حيث المبتدأ والخبر، أو الجملة الإسنادية .. ونحو ذلك، وإنما يُنظر بحاله هو عليه رحمة الله، فهو قد رد على الأشاعرة كما هو معلوم، رد عليهم بماذا؟

يخطئ من يقول بأنه رد عليهم بالكتاب والسنة، هذا ليس بصحيح، وإنما في جملة ما رد عليهم قد يكون يذكر بعض الآيات أو بعض الأحاديث، لكن أصل ردِّه إنما هو معتمدٌ على نقض ما قد اعتمدوه من أدلة، قد يكون القياس صحيحاً في نفسه. يعني: لا يلزم من كون أهل البدعة قد أخطئوا في استخدام الأقيسة والحُجج المنطقية، حينئذٍ يكون الرد عليهم بإبطال القياس وبإبطال المنطق لا.

ولذلك نقول دائماً بأن القياس الذي هو رابع الأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

القياس الصحيح وليس كل قياس، حينئذٍ إذا أخطأ من أخطأ من الفقهاء أو تشعَّبت معهم الأمور في الإكثار من القياس حتى صار القياس تُردُّ به بعض النصوص، فيقال: هذا الحديث مخالفٌ للقياس، صار فيه شيءٌ من الغلو من حيثُ الإثبات.

حينئذٍ ماذا نصنع؟

هل نرجع إلى الأصل فننقضه، أم نقول: هذه الفروع ليست على الجادة؟

لا شك أنه الثاني، حينئذٍ لا نرجع إلى الأصل الذي هو القياس ونقول: القياس باطل؛ لأن أكثر المتأخرين من الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة قد اعتمدوا هذا القياس حتى ردوا به بعض الأحاديث الصحيحة؛ لكونها مخالفة للقياس، بهذه الحجة الفاسدة.

حينئذٍ هل نرجع إلى القياس فنبطله من أصله، نقول: القياس ليس بدليلٍ شرعي؟

الجواب: لا، وإنما ننظر في هذه الأقيِسة التي اعتمدوا عليها، وظنوا أنها مخالفةٌ للشرع، أو أن الشرع جاء مخالفاً لهذه الأقيسة، فنبطلها من حيث هي.

كذلك الإجماع، الإجماع كما قال الشوكاني رحمه الله تعالى لا هيبة له عند المتأخرين؛ لكثرة من يدَّعيه، الإجماع المتيقَّن لا شك أنه دليلٌ شرعي: الكتاب، والسنة، والإجماع. والمقصود به إجماع الصحابة كما هو معلومٌ في محله.

حينئذٍ إذا أكثر المتأخرون من دعوى الإجماع في مسائل معلومة الخلاف، نقول: هذه الادعاءات للإجماعات باطلة في نفسها؛ لأنها لخلاف ثابت، أو لأنها مخالفة لإجماع الصحابة .. ونحو ذلك.

فوجود بعض الإجماعات المدَّعاة التي ليس لها مستند شرعي صحيح نقول: ولو صارت هذه الادعاءات كثيرة لا نرجع إلى الأصل فننقضُه، وإنما نحترم الأصل ونحفظ الأصل وهو الإجماع، ونبيِّن المراد به، ثم إذا وقع شيءٌ من الخلل في دعوى الإجماع نردُّ هذا الفرع ونحفظ الأصل.

  وكذلك الشأن في القياس نحفظ الأصل، وهو مجمعٌ على إثباته عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وما وقع من نزاعٍ عند المتأخرين نقف معها ونردها ونفندها، وكذلك المنطق.

حينئذٍ نقول: المنطق الذي خلَّصه أهل الإسلام مما شابه من شُبه الفلاسفة الكفرية ونحوها في قواعده في الجملة صحيحة، لكن استخدمها من استخدمها على وجهٍ منحرف، فحينئذٍ نقول: نردُّ عليهم هذا الاستخدام وهذا الاستعمال، ونبقي الأصل محفوظاً على بابه.

يقول الشيخ الأمين رحمه الله تعالى: ومن المعلوم أن المقدمات التي تتركب منها الأدلة التي يحتج بها كل واحدٍ من المتناظرَين إنما تُوجه الحجة بها منتظمةً على صورة القياس المنطقي.

ومن أجل ذلك كان فنُّ آداب البحث والمناظرة ..

وهذا من العلوم المهجورة -آداب البحث والمناظرة-، لها أصولها، يعني: فنٌ مستقلٌ بنفسه.

ومن أجل ذلك كان فن آداب البحث والمناظرة يتوقف فهمه كما ينبغي على فهم ما لابد منه من فن المنطق؛ لأنَّ توجيه السائل المنعَ على المقدمة الصغرى أو الكبرى مثلاً.

يعني: السائل المعترض، يقول: أمنع المقدمة الصغرى وأمنع المقدمة الكبرى، فإذا كان لا يعرف المقدمة الصغرى من الكبرى فحينئذٍ كيف يتجِّه إليه السؤال؟

أو القدحَ في الدليل بعدم تَكرار الحد الأوسط أو باختلال شرطٍ من شروط الإنتاج ونحو ذلك لا يفهمه (أي: هذا الفن المعتمِد على مثل هذه المسائل) لا يفهمه من لا إلمام له بفن المنطق.

لا بد من فَهم هذا الفن من أجل إتقان فنِّ آداب البحث والمناظرة؛ لأن الاستعمال إنما يكون لهذه المصطلحات وهي غريبة، لأنها مصطلحات.

يعني: لا نرجع إلى المعنى اللغوي (المقدمة الصغرى، والمقدمة الكبرى، والحد الأوسط، والتكرار .. ونحو ذلك) لا نرجع إلى المعاني اللغوية، وإنما ننظر في المعاني الاصطلاحية.

ولا عجب؛ لأن المعاني الاصطلاحية هي المقدَّمة في كل فن، ولذلك نقول: هذا عامٌ وهذا خاص، هذا ناسخ وهذا منسوخ، هذا مقيَّد وهذا مطلق، والإجماع والقياس .. كل هذه اصطلاحات لها معانيها، حقائق عرفية عند أصحابها.

كذلك آدابُ البحث والمناظرة يعتمد على هذا الفن، وهذه الاصطلاحات توجد فيه (مقدمة صغرى امنعها؟ لا، أرتضيها .. نقضٌ للمقدمة الكبرى، الحد الأوسط لم يتكرر .. ) حينئذٍ كيف يجيب؟ بل كيف يقرأ؟

دعك من الدخول في المناظرات، كيف يقرأ ما كتبه المتقدمون؟ كيف يقرأ ما كتبه من كتَب في هذا الفن؟

قال رحمه الله تعالى: وكانت الجامعةُ قد أسندتْ إلينا تدريس فن آداب البحث والمناظرة، وكان لا بد من وضع مذكرةٍ تُمكِّن طلاّب الفن من مقصودهم فوضعنا هذه المذكرة وبدأناها بإيضاح القواعد التي لا بد منها من فن المنطق لآداب البحث والمناظرة.

واقتصرنا فيها على المهم الذي لا بد منه للمناظرة، وجئنا بتلك الأصول المنطقية ..

هذا انتبه له من هذا الإمام الجليل.

وجئنا بتلك الأصول المنطقية خالصة (يعني: غير شائبة، الخلوص والشوب متقابلان) خالصة من شوائب الشُّبه الفلسفية.

انظر هنا النفي إنما هو مسلَّط من أجل أن يفهم طالب العلم ما يذكره أهل العلم.

(1/3)

________________________________________

النفي هنا مسلَّط على الشبه الفلسفية؛ لأنه قد يأتي معنا أن علم المنطق هل هو مقدِّمة لعلم الفلسفة أم جزءٌ منها؟ فيه خلاف.

هل هو علمٌ مستقلٌ بذاته، أم أنه مقدمة لغيره؟

هل هو علمٌ مستقل، أم أنه آلةٌ؟ فيه خلافٌ بينهم.

حينئذٍ إذا كان مقدمةً لعلم الفلسفة، حينئذٍ لا بد فيه شيءٌ من الفلسفة، وهذا لا بد منه .. لا ينفك عنه.

وإذا كان جزءاً من الفلسفة واضح الكلام، لا نحتاج إلى تعليق.

على القولين: أنه مقدمةٌ للفلسفة، جزءٌ من الفلسفة. لا بد وأن يكون فيه شيءٌ من مسائل الفلسفة.

حينئذٍ إذا كان الأمر كذلك فمن أين جاء التخليص؟

نقول: التخليص إنما جاء ليس لكون هذه المسألة فلسفية أو لا، وإنما هل فيها شبهةٌ كفرية أو بدعية، لا يلزم أنها كفر ..

هل فيها شبهةٌ تتعلق بباب المعتقد أو لا؟

حينئذٍ علم الفلسفة على نوعين: منه ما يتعلق بعلم الاعتقاد كالإلهيات وغيرها، وهذا لا شك أنه باطل ولا يوجد في كتب المتأخرين كالإيساغُوجي ونحوه.

وثَم قسمٌ لا يتعلق بالاعتقاد، وإنما بالتفكير والنظر والنفس .. ونحو ذلك، وما يتعلق بالأقيسة والحجج بأنواعها والبراهين.

هذا وإن كان يُطلق عليه في بعضه أنه من مسائل الفلسفة إلا أنه ليس بمحرَّمٍ؛ لأن علم الفلسفة لم يحرِّمه أهل السنة والجماعة لكونه علم فلسفة فقط هكذا لا، نقول: الأصل في العلوم ما هو؟ الإباحة .. الأصل في العلوم الإباحة. هذا الأصل فيها، كما هو الأصل في الأشياء الطيبات ونحوها الأصل فيها الإباحة.

حينئذٍ إذا وُجد فيها أو تعلَّق بها أو تضمنت ما يُخل بالشريعة، أو بباب المعتقد، أو بذات الباري جل وعلا، حينئذٍ مُنعت، وما عداه يبقى على الأصل.

فحينئذٍ ما خلَّصه علماء الإسلام من علوم الفلسفة نقول: خلَّصوه من الشبه التي تتعلق بباب الاعتقاد، حينئذٍ لا يرد الاعتراض على أئمة السنة الذين قالوا بأن هذه كتب كالذي بين يدينا هذا أنه مُخلَّصٌ من علوم الفلسفة.

نقول: أنَّى لنا ذلك .. يَعترض المعترض.

نقول: المراد به أنه خُلِّص من شُبَه الفلاسفة، فليس فيه شيءٌ محرَّم، فمن اعترض على كون المنطق أنه جزءٌ من الفلسفة، أو مقدمةٌ للفلسفة، وأنه يلزم منه التحريم أخطأ؛ لأنه ليس كل علم الفلسفة محرّم.

ولذلك علم الحساب علمٌ فلسفي، علم الهيئة والهندسة علمٌ فلسفي، إذا قلنا الفلسفة بأنواعها السبعة المعلومة –العلوم- أنها محرّمة حرَّمنا جميع هذه العلوم، لكن لا هذا غلط افتراء على الله عز وجل.

فنقول: الفلسفة يُفصَّل فيها، فإذا كان كذلك فلو سُلِّم بأن هذه المسائل التي بين أيدينا من علم الفلسفة فالأصل فيها الإباحة، حتى يثبت أن هذه المسألة تتعلق بذات الباري جل وعلا، وأنها خطأٌ في باب المعتقد، حينئذٍ تُنزع ويُنظر فيها.

إذاً: قوله هنا: وجئنا بتلك الأصول المنطقية خالصة من شوائب الشبه الفلسفية. يعني: ليست خالصة من المسائل الفلسفية؛ لأن المنطق لا يمكن أن ينفك عن الفلسفة، هو مقدمةٌ لها أو أنه جزءٌ منها، وإنما الذي اعتنى به أهل الإسلام هو: تخليص هذه المسائل من الشبه المتعلقة بباب الاعتقاد.

فيها النفع الذي لا يُخالطه ضرر البتة. توكيد هذا، المعنى الذي ذكرتُه.

(1/4)

________________________________________

"فيها" أي: في هذه الأصول الخالصة من شُبه الفلسفة، فيها النفع الذي لا يخالطه ضرر البتة.

يعني: الضرر هنا من جهة المعتقد.

لأنها من الذي خلَّصه علماء الإسلام من شوائب الفلسفة كما قال العلاّمة شيخ مشايخنا وابن عمنا المختار بن بونة ... إلى أن قال في منظومته في علم المنطق:

فَإِنْ تَقُلْ حَرَّمَهُ النَّوَاوِيْ

قُلْتُ نَرَى الأَقْوَالَ ذِي المُخَالِفَةْ

أَمَّا الَّذِي خَلَّصَهُ مَنْ أَسْلَمَا ... وَابْنُ الصَّلاَحِ وَالسِّيُوطِي الرَّاوِيْ

مَحَلُّهَا مَا صَنَّفَ الْفَلاَسِفَةْ

لاَ بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ عِنْدَ الْعُلَمَا

 

هذا توجيهٌ لما اشتهر عند بعض أهل العلم من أن المنطق محرّم ولا يجوز دراسته ولا تدريسه، ولا تعلُّمُه ولا تعليمُه.

نقول: المراد فيمن حرَّمه أنه المختلِط بشُبه الفلاسفة، قال: لا. كذلك الذي لا يختلط.

نقول: هذا قولٌ ويُعرض على الكتاب والسنة، والأصل فيه الإباحة.

إذاً: يُوجَّه على جهتين:

إما أن نقول: بأن من حرَّم دراسة علم المنطق مراده المنطق المشوب بشبَه الفلاسفة. وهذا لا إشكال فيه، إلا لمن كانت عنده أهلية النظر فحينئذٍ ينظر، الأصل في النظر في كتب أهل البدع الأصل المنع، إلا إذا كان يستطيع أن يميِّز بين الحق والباطل.

وأمّا قول الأخضري في سُلَّمِه:

وَالخُلْفُ فِي جَوَازِ الاِشْتِغَالِ

فَابْنُ الصَّلاَحِ وَالنَّوَاوِي حَرَّمَا

وَالقَوْلَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحِيحَهْ

مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ ... بِهِ عَلَى ثَلاَثَةٍ أَقْوَالِ

وَقَالَ قَوْمٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَا

جَوَازُهُ لِكَامِلِ القَرِيحَهْ

لِيَهْتَدِي بِهِ إِلَى الصَّوَابِ

 

ججج

ج

فهذه الأبيات اشتهرت في بيان ما يتعلق بحُكم المنطق، فصلٌ في جواز الاشتغال به، هذا ذكره صاحب السُلَّم في محله.

(وَالخُلْفُ) يعني: الاختلاف.

وَالخُلْفُ فِي جَوَازِ الاِشْتِغَالِ

فَابْنُ الصَّلاَحِ وَالنَّوَاوِي حَرَّمَا ... بِهِ عَلَى ثَلاَثَةٍ أَقْوَالِ

...........................

 

يعني: (حَرَّمَا) الاشتغال بعلم المنطق.

(وَقَالَ قَوْمٌ) كالغزالي أبي حامد: (يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَا)

اختُلف في (يَنْبَغِي) قيل: واجبٌ على الكفاية، وقيل: مستحبٌ.

وَالقَوْلَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحِيحَهْ ... جَوَازُهُ لِكَامِلِ القَرِيحَهْ

 

جج

يعني: المختلِط، هذا الذي يُحمل عليه كلام صاحب السُلَّم أن المراد به المختلِط.

وَالقَوْلَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحِيحَهْ ... جَوَازُهُ لِكَامِلِ القَرِيحَهْ

 

يعني الذكي الألمعي الذي يستطيع أن يميّز بين الغث والسمين، بين الحق والباطل.

مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ ... لِيَهْتَدِي بِهِ إِلَى الصَّوَابِ

 

ج

قال الشيخ هنا: أما قول الأخضري (هذا الذي ذكرناه) فمحلُّه: المنطق المشوب بكلام الفلاسفة الباطل ..

يعني: هذا أخطأ الأخضري في ذكر هذه المسألة في هذا الكتاب؛ لأن كتابه إنما هو نظمٌ لإيساغوجي على المشهور، وإن لم يذكر ذلك في مقدمته، وإن زاد فيه بعض الأبواب.

فنظَمَ إيساغوجي، وإيساغوجي معلومٌ أنه (الذي شرحه زكريا الأنصاري هنا) أنه من (الَّذِي خَلَّصَهُ مَنْ أَسْلَمَا) يعني: الخالص من شُبه الفلاسفة.

(1/5)

________________________________________

حينئذٍ كيف تأتي بهذا الخلاف الذي هو ليس في هذا الموطن، فيُذكر فيما خلَّصه العلماء؟ هذا فيه شيءٌ من الخطأ.

وحينئذٍ نقول: هذا محله في المنطق المشوب بشبه الفلاسفة.

قال رحمه الله تعالى -الشيخ الأمين-: ومن المعلوم أنّ فن المنطق منذ تُرجِم من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في أيام المأمون كانت جميع المؤلفات توجد فيها عبارات واصطلاحات منطقية.

وهذا توجيه في أن أهل العلم الشرعي، لماذا يدرسُون علم المنطق؟ هو علمٌ دخيل، لا شك أنه دخيل ومُسلَّمٌ بهذا، لكن لماذا ندرُسه، ولماذا نشتغل به؟

لا لذاته وإنما لما يترتب عليه من فوائد.

قال: كانت جميع المؤلفات (يعني: كثير من المؤلفات) توجد فيها عبارات واصطلاحات منطقية لا يفهمها إلاَّ من له إلمامٌ به.

وهذا موجود في علوم الآلة على جهة الخصوص، النحو أُدخل فيه كثيرٌ من الاصطلاحات، وكذلك الصرف أُدخل فيه كثير من الاصطلاحات، وكذلك البيان والبلاغة، وأهمها علم أصول الفقه فقد خُلِط بهذا الفن.

وأما علوم اللغة فهي أخف، ويمكن الاستغناء عن كثير من الكتب التي اشتملت على شيءٍ من المنطق بغيرها، يعني: الانفكاك أمرٌ سهل في علوم اللغة، وأما في أصول الفقه لا يكاد أن يسلم الناظر في هذا العلم، بل لا يكاد أن يتمكن، بل لن يتمكن إلا إذا نظر في هذه الكتب على وجه الخصوص.

لو نظرت في شروح جمع الجوامع وغيرها، والمستصفى والبرهان، لا بد أنه اشتمل على شيءٍ من ذلك. بل جعلوا مقدمات منطقية، حينئذٍ كيف يفهمها طالب العلم الذي لا بد أن يعلم هذا الفن وهو أصول الفقه؟

لأن عديم النظر في كتب أصول الفقه هذا عديمٌ في علم الشرع، لا شك في ذلك؛ لأن الشريعة إنما هي استنباط يعني: استنباط أحكام شرعية من الوحيين، وهذا معتمدُه علم أصول الفقه، ولن يتمكن الطالب في هذا الفن إلا بالنظر في هذه المطولات، وكلها مشتملة على هذه الاصطلاحات، كيف يفهمها؟

إذا ادعى مدعٍ بأنه قد فهم وهو لم يدرس المنطق، هذا لا تُقبل دعواه؛ لأنه قد يكون له شيءٌ من الفهم، لكن الفهم الذي ينبغي لا، لا يمكن أن يتصور المسائل على الوجه الذي أراده الكاتب –المصنِّف- إلا إذا عرف المصطلح الذي تكلم به، وهذا المصطلح إنما هو فن المنطق.

ولذلك نقول: المنطق من أوله إلى آخره كله مصطلحات (قواعد)، حينئذٍ لا بد للناظر في علوم الآلة، وأصول الفقه على جهة الخصوص من النظر في هذا الفن وإتقانه، لا بد من إتقانه من أجل أن يُتقن أصول الفقه.

قال هنا: فيها عبارات واصطلاحات منطقية لا يفهمها إلا من له إلمامٌ به (بهذا الفن)، ولا يفهم الرد على المنطقيين فيما جاءوا به من الباطل إلاّ من له إلمامٌ بفن المنطق.

وهذه فائدة أخرى وهي: أن من درس المنطق ليسوا كلهم على مرتبة واحدة من الحق والباطل، قد يدرس المنطق ويستفيد منه فيما يستفاد في الحق، وفي الذب عن الشريعة، وقد يدرس المنطق من أجل تأصيل المسائل البدعية كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة .. كل هؤلاء دينهم، وعقيدتهم مبناه على الأمور العقلية، وهي مستنبطة أو معتمدة على هذه القواعد، هنا سيأتي السؤال الكبير: كيف ترد عليهم؟

(1/6)

________________________________________

هل تأخذ كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وتردده من غير فهمٍ، وخاصةً إذا كان الذي يرُد ليس كتابة الذي يرد بالمناظرة والمجادلة، وحينئذٍ كيف يرُد؟

هذا لا يمكن ولا يتأتى له إلا إذا نظر في هذا الفن.

لأنه أولاً: يفهم عقيدة المخالف بناها على أي شيء؟

ثم بعد ذلك ينقض هذه العقيدة.

فثَم أمران: الأمر الأول: يفهم دليل المستدل؛ لأنك إذا أردت أن ترُد باطلاً فلا بد أن تفهم هذا الباطل، كيف استوى؟ على أي ساق، على أي دليل، على أي وِجهة؟ لا بد أن تفهمه، أم ترد هكذا؟ نقول: لا. لا بد أن تفهم أولاً القول الباطل، فكيف تفهمه وهو قد استند إلى هذا الفن؟

إذاً: لا يمكن أن يُعرف ما عند المنطقيين والمتكلمين من الباطل إلا بمعرفة هذا الفن، ولا يمكن أن يُفهم ما عندهم من استدلالات إلا بفهم هذا الفن.

ثم ثالثاً: لا يمكن أن ننسف ما عندهم من باطل إلا بفهم هذا الفن، ولو قلنا بأن الرد واجب فحينئذٍ نقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولكن هذا لا يكون مطلقاً لكل أحد وإنما لمن كانت عنده أهلية النظر في الشرع.

إذاً: قال: ولا يفهم الردَّ على المنطقيين فيما جاءوا به من الباطل إلاّ من له إلمامٌ بفن المنطق.

ثم قال: وقد يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية.

"وقد يعين" قد للتحقيق هنا يعني: ليست للقلة، قد إذا دخلت على المضارع أفادت -في المشهور- التكثير أو التقليل، هذا المشهور عند النحاة. ولا تأتي للتحقيق إلا إذا دخلت على الماضي .. إذا دخلت على الماضي أفادت التحقيق أو التقريب.

التحقيق: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1]، التقريب: قد قامت الصلاة .. قد غربت الشمس.

وعند جماهير النحاة لا تأتي للتحقيق، وهذا ليس بسديد بل الصواب أنها قد تأتي للتحقيق إذا دخلت على الفعل المضارع، قال تعالى: ((قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ)) [الأحزاب:18] هنا نحملها على التكثير أو التقليل؟ لا هذا ولا ذاك، وإنما على التحقيق.

التحقيق المراد به: وقوع ما بعده. يعني: متحقَّقُ الوقوع، الحدث الذي بعد قد متحقق الوقوع ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] إذاً: الفلاح متحقق أو لا؟ متحقق.

ولذلك تُعد قد من المؤكِّدات عند البيانيين؛ لأنها تؤكِّد وقوع الحدث.

كذلك ((قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ)) [الأحزاب:18]، ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ)) [الحجر:97] كل هذه نقول: قد هنا للتحقيق، خلافاً لما اشتهر على ألسنة النحاة بأنها لا تكون إلا للتقليل والتكثير.

إذاً: "قد يعين" للتحقيق هنا.

قد يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية. فزعموا أنَّ العقل يمنع بسببها كثيراً من صفات الله الثابتة في الكتاب والسنة.

نفوا كثيراً إن لم يكن جميع الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، والتي الأصل فيها التسليم على ما جاء به قول الباري جل وعلا وقول نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتماداً على الأصل في باب الأسماء والصفات.

نفوا كثيراً من مدلولات هذه الأسماء والصفات، بناءً على أقيسةٍ، والأقيسةُ هذه سيأتي أنه الطريق الموصل إلى التصديق.

إذاً: على شيءٍ من فن المنطق.

(1/7)

________________________________________

هذه الأقيسة حقة أم باطلة؟ نقول: باطلة، كيف نفهم بطلانها؟ بهذا الفن، كيف نردُّ عليهم؟ بهذا الفن.

لماذا؟

لأن المعتمِد على النفي إنما اعتمد على أقيسةٍ باطلة ولا يمكن ردُّها إلا بفهم هذا الأصل عندهم.

قال هنا: لأنَّ أكبرَ سبب لإفحام المبطِل أن تكون الحجةُ عليه من جنس ما يُحتج به.

وهو كذلك.

لأنَّ أكبر سبب لإفحام المبطِل أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتَج به. فالجهمي في باب الأسماء والصفات لا يؤمن بقرآن ولا بسنة قطعاً، وإنما يؤمن بعقله المقدّس، وعقله المقدّس هذا كالكتاب المقدّس يعني .. من جنس واحد.

فحينئذٍ لا يبني ما عنده إلا على هذه الأقيسة التي ظن أنها حقٌ، فحينئذٍ كيف يُنظر فيما عنده؟ نقول: لا بد من هذا الفن.

قال: لأنَّ أكبر سبب لإفحام المبطل أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتج به.

فالرد على الجهمي إنما يكون بالأقيسة الصحيحة الحقة، والرد على المعتزلي كذلك وغيره من أهل البدع.

وأن تكون مركبة من مقدمات على الهيئة التي يعترف الخصم المبطل بصحة إنتاجها.

قال رحمه الله: ولا شك أنَّ المنطق لو لم يُترجَم إلى العربية ولم يتعلمه المسلمون لكان دينُهم وعقيدتُهم في غنىً عنه كما استغنى عنه سلفهم الصالح.

وهذه مُسلَّمة ولا إشكال فيها، ونحن نتكلم عن واقع لا نتكلم عن شيءٍ في الذهن.

يعني: نتكلم عن واقع بمعنى أن العقيدة الآن -كتب المعتقد- قد خالطها شيءٌ من المنطق.

إذاً لا بد الكلام أو الفتوى أو النظر يكون باعتبار الواقع لا باعتبار شيءٍ في الذهن، وما ذكره الشيخ هنا شيءٌ واقعي أم ذهني؟ لو لم تُترجم لكنا في غنى، هل استغنينا؟ نقول: لا. لم نستغني، لماذا؟ لأنها تُرجمت. العكس.

حينئذٍ لو لم تُترجم كتب المنطق لكنا في غنى كما استغنى السلف الصالح، لكن لم نكن في غنى؛ لأنها تُرجِمت ودخلت في علوم الشريعة.

إذاً: نتكلم عن شيءٍ واقعي ولا نتكلم عن شيءٍ في الذهن.

لكان دينُهم وعقيدتُهم في غنىً عنه كما استغنى عنه سلفهم الصالح.

ولكنه لمّا تُرجم وتُعُلِّم وصارت أقيسته هي الطريقةَ الوحيدة لنفي بعض صفات الله الثابتة بالوحيين، كان ينبغي لعلماء المسلمين أن يتعلموه وينظروا فيه؛ ليردوا حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به على نفيهم لبعض الصفات.

كان ينبغي لعلماء الإسلام أن يتعلموا هذا الفن؛ من أجل الذب عن الشريعة، وباب المعتقد على جهة الخصوص.

لأنّ إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم وإلزامهم الحق.

ثم قال رحمه الله تعالى: واعلم أنّ نفس القياس المنطقي في حد ذاته صحيح النتائج إنْ رُكِّبت مقدماتُه على الوجه الصحيح صورةً ومادة.

يعني: القياس في نفسه صحيح وحق، كما أن الإجماع في نفسه صحيحٌ وحق، كما أن القياس (الدليل الرابع) في نفسه صحيحٌ وحق كذلك.

لكن قد يُردُّ القياس لكونه لم يأت على الصورة الصحيحة، قد يُرد الإجماع لكونه لم يستوفِ الشروط.

حينئذٍ إذا كثُرت الإجماعات ورُدَّت لا نرجع إلى الأصل فنرده من أصله، وكذلك الشأن في القياسات.

هنا الشيخ يشهد -رحمه الله تعالى- على أن القياس المنطقي في أصله صحيح وحق، بل يرى أنه قطعي، لكن متى؟ إنْ رُكِّبت المقدِّمات على الوجه الصحيح من حيث الصورة ومن حيث المادة.

(1/8)

________________________________________

يعني: إن استوفى الشروط، كما أن القياس في باب الشرعيات إذا استوفى الشروط فهو حق كذلك الشأن هنا.

إذاً: لا يُنظر في المنطق من حيث ما رتَّب عليه أهل البدع فحسب، هذه نظرة قاصرة، وهذا الذي أودى ببعض الطلاب هنا إلى مسألة التذبذب في تعَلُّم هذا الفن .. ندرُس أو لا ندرس؟

حينئذٍ نقول: النظر هنا في القواعد من حيث أصلُها، والنظر في استعمال هذه القواعد، حينئذٍ إذا استعمله المبتدئ على وجهٍ مخالف نرد عليه ببيان وجه المخالفة، وأما الأصل فيبقى على أصله.

ولذلك قال هنا: واعلم أن نفس القياس المنطقي في حد ذاته صحيحُ النتائج إن رُكِّبت مقدماته على الوجه الصحيح صورةً ومادة، مع شروط إنتاجه فهو قطعي الصحة (ليس ظني)، وإنما يعتريه الخلل من جهة الناظر فيه فيغلط، فيظُن هذا الأمر لازماً لهذا مثلاً. هذا يلزم من كذا وقد يخطئ، قد يظن أن هذا لازم وهذا ملزوم، وليس بينهما ملازمة، يمكن أو لا؟ يمكن.

قد يظن أن المقدمة الصغرى صحيحة وهي باطلة، أو العكس- الكبرى- .. ونحو ذلك.

فيستدل بنفي ذلك اللازم في زعمه على نفي ذلك الملزوم مع أنه لا ملازمة بينهما في نفس الأمر البتة.

إذاً: يقع الغلط والخطأ من حيث الاستعمال لا من حيث الأصل، فإنه قطعيٌ كما قال الشيخ هنا.

قال: ومن أجل غلطه في ذلك تخرج النتيجة مخالفة للوحي الصحيح لغلط المستدل. ولو كان استعماله للقياس المنطقي على الوجه الصحيح لكانت نتيجته مطابقة للوحي بلا شك؛ لأنّ العقل الصحيح لا يخالف النقل الصريح إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

إذاً: هذه الجملة نفيسة من كلام الشيخ الأمين رحمه الله تعالى ذكرها في مقدمة كتابه الذي يسمى بالمقدمة المنطقية أو آداب البحث والمناظرة، وجعلَ في القسم الأول قواعد المنطق، بيَّن فيه أنه ينبغي أن يدرُس أهل العلم الذين يتصدون للرد على المخالفين .. أن يدرسوا هذا الفن من أجل الرد على المخالفين، وعلى شبه هؤلاء المبتدعة.

ثم في نفسه كطالب العلم أن ينظر فيه ليفهم كما سيأتي في كلام الشوكاني رحمه الله تعالى .. أن يفهم مصطلحات هذا الفن من أجل أن يفهم كثيراً من كتب أصول الفقه، وما تعلق به من علوم اللغة.

وأصبح دراسة المنطق مطلوبةً عند بعض المتأخرين لدراسة بعض العلوم كالأصول. كما ذكرنا.

لأن كثيراً من مؤلفاتها الصيغة في قالبٍ منطقي فتعذر التمكن فيها إلا بدراسته.

نعم تعذَّر؛ لأنها في جُلِّها إن لم تكن كلها مبنيةٌ على هذا العلم، فلن يتمكن فيه طالب العلم إلا بالتمكن في هذا الفن.

وقد قرر ذلك جماعةٌ من أهل العلم.

قال ابن القاسم العبَّادي في حاشيته على تحفة المحتاج: قال في الإمداد: بل هو (أي: المنطق) أعلاها أي: العلوم الآلية.

وهذا من الغلو، كما هو الشأن في بعض من يغلو في باب القياس الشرعي (الذي هو رابع الأدلة)، هنا كذلك بعضهم يغلو في باب المنطق، حتى قال الغزالي: من لا علم له بالمنطق لا ثقة في علمه. يعني: علمُه هباءً منثوراً. هذا كلام فاسد لا يعوَّل عليه، لماذا؟

(1/9)

________________________________________

لأنه يُعتبر الأصل من حيث الإثبات ثم لا نزيد ولا ننقِص .. لا نقول: كل شيء حرام محرَّم من أصله، ولا نأتي نرفعه نقول: هو أعلى وأجل علوم الآلة، ومن لا معرفة له لا يوثق بعلمه! نقول: لا. هذا يُعتبر من الغلو.

قال: بل هو (أي: المنطق) أعلاها (أي: العلوم الآلية).

ثم قال: وإفتاء النووي كابن الصلاح بجواز الاستنجاء به.

والله أعلم بهذه الفتوى، لكن بناءً على ما كان مشوباً. يعني: فيه شيءٌ مما يخالف الشريعة جوَّزوا الاستنجاء به.

قال: يُحمل على ما كان في زمنهما من خلطٍ كثير من كُتبِه بالقوانين الفلسفية المنابذةِ للشرائع، بخلاف الموجود اليوم فإنه ليس فيه شيءٌ من ذلك ولا مما يؤدي إليه فكان محترَماً.

على كلٍ: الأصل فيه الإباحة، ما كان خالصاً من شُبه الفلسفة الأصل فيه الإباحة، وما كان خليطاً فيُنظر في الناظر، بناءً على أن الأصل في النظر في هذه الكتب الأصل فيه المنع.

فحينئذٍ إذا كان الناظر يستطيع أن يميز بين الحق والباطل (مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ) كما مضى في قول الأخضري، فحينئذٍ يجوز له النظر وما عداه فالأصل فيه التحريم.

إذاً نقول: الأصل في دراسة علم المنطق غير المشوب بالفلسفة الإباحة؛ لأننا إذا قسَّمنا كتب المنطق إلى قسمين: مشوب وغير مشوب، جاء بعضهم قال: رحمك الله، غير المشوب هذا هو من علم الفلسفة. نقول: ومن الذي قال بأن علم الفلسفة كله حرام؟ وإلا لحرّمنا الحساب والهيئة والهندسة .. ونحوها، كلها صارت محرَّمة، لماذا؟ لأنها علومٌ فلسفية.

فحينئذٍ لا نعترض بكون هذا العلم مباحاً أنه جزءٌ من الفلسفة، نقول: جزءٌ من الفلسفة غير المحرَّمة التي الأصل فيها الإباحة.

ثانياً: الأصل الاستغناء كما ذكرنا عن هذا الفن، لولا أنه أُدخل على العلوم الشرعية ولهج به كثيرٌ من العلماء، فصارت مصنفاتُهم في كثيرٍ من الفنون مشوبةً بهذه الاصطلاحات المنطقية، لا سيما علم أصول الفقه.

وكلام الشيخ فيما مضى واضحٌ بيِّن.

ثالثاً: إذا عرفنا أنه لا بد منه، ليس المراد من هذا أن طالب العلم يقرأ فيه كما يقرأ في كتب الحديث، كل كتاب معتمد لأئمة الحديث أو شرحاً لبعض الأحاديث أنه يقرأه أو يقتنيه، أو الشأن في كتب التفسير الأصل فيها أنه يقرأ ما شاء. وإنما يأخذ ما يحتاجه، يعني: ليس المراد هنا أن يقرأ مائة كتاب ومائة حاشية، أو يحفظ ألفية أو ألفيتين، أو أزود من ذلك، وإنما نقول: نحتاج إلى شيءٍ تكون به القِوامة، وما عدى ذلك يُترك، لماذا؟ لأننا كما ذكرنا الأصل فهم الاصطلاحات.

ثانياً: إذا كانت معك الأصول .. لأنه علمٌ محصور .. علم المنطق محصور، وإنما الثرثرة الكثيرة عند المتأخرين هي التي أطالت هذا الفن، وإلا هو علم اصطلاحات من أوله إلى آخره أشبه ما يكون بقاموس تعاريف.

حينئذٍ ما يحتاجه طالب العلم هو الذي ينبغي التنبيه عليه؛ لنجمع بين الأمرين نقول: الأصل فيه الإباحة، ونحث وبقوة طلاب العلم أن يعتنوا بضبط هذا الفن، وبضبط ما يتعلق بباب المعتقد.

ثم ننبِّه: ليس المراد به أن يقرأ كل ما شاء أو يقرأ ما شاء، أو يحفظ كل شيء لا، إنما يأخذ ما يحتاجه، ولا بد من النظر فيما قاله أهل العلم.

(1/10)

________________________________________

المبتدئ في هذا الفن عليه أن يتدرج في تعلمه، وبعضهم اشترط هنا أن يكون عنده شيءٌ من علم المعتقد، لكن هذا ليس بشرط؛ لأننا قلنا هذا الباب مخلَّص فليس فيه شُبه، وخاصةً إذا قرأه على من هو من أهل السنة والجماعة؛ لأنه يرد الإشكال في بعض الأمثلة.

كل من كتَب في علم المنطق إما أشعري وإما ماترودي .. متأخرون، فحينئذٍ يأتي بعض الأمثلة تتعلق بباب المعتقَد، فالذي لا يعرف ولا يميِّز أو لا يقرأ على من يميِّز له ذلك، فحينئذٍ قد يقع في الإشكال.

فإذا كان لا يقرأ على مُعلِّمٍ من أهل السنة والجماعة، أو يقرأ بنفسه، أو يقرأ على أشعري إن جاز له ذلك. فحينئذٍ نقول: لا بد أن يكون عنده شيءٌ من باب المعتقد؛ ليسلم من الخلط.

من تحركت همته لنيل حظٍ من هذا الفن فعليه قبل الولوج فيه أن يأخذ حظاً من علم الكتاب والسنة دراسةً تأصلية. للأمر الذي ذكرناه.

رابعاً: المبتدئ في هذا الفن عليه أن يتدرج في تعلُّمه، فيأخذَه شيئاً فشيئاً على أهله (يعني: على ما يفهمه)، يشرع أولاً (على المشهور عند أهل العلم) في حفظ متن السلَّم المنورق. وهذا كما ذكرنا أنه نظمٌ لإيساغوجي، وإيساغوجي نثر، وبعضهم يقدِّم النثر فلا بأس، وبعضهم يقدِّم النظم ولا بأس. وكلاهما على خير.

من يحب حفظ النثر فليحفظ إيساغوجي، ومن يحب حفظ المنظومات فليحفظ السلَّم المنورق. هذه الكتب ليست توقيفية يعني: ليست مبناها على التوقيف من خرج عنها فقد وقع في محظورٍ.

فيحفظ متن السلَّم المنورق للأخضري، وهو مختصر مفيد وعليه شروح عديدة لأهل العلم وهو سهل العبارة, واضح الإشارة.

قيل: إنه نظمٌ لإيساغوجي وإن لم ينصَّ الناظم على ذلك, وعليه شروح كثيرة, من أحسنها وأجودها شرح الإيضاح -إيضاح المبهم- لأحمد الدمنهوري، وهو شرح جيد ومفيد جديد في هذا الفن؛ لأنه أشبه ما يكون بكتابٍ عصري. ثم يقرأ بعد إتقانه وإجادته شرح السلَّم المنورق كذلك لأحمد المَلَّوي. وهذا جيد ويفيد كمرحلة ثانية.

وهذا يكتفي به فيما يتعلق بشروح السلَّم، إذا أراد أن يكتفي بواحدٍ منهما فحينئذٍ ينظر في الدمنهوري (إيضاح المبهم)، والأحسن من ذلك أن يدرس أولاً إيضاح المبهم ثم بعد ذلك يضيف إليه شرح أحمد الملَّوي، وعليه حاشية للصبَّان، وهي كذلك حاشية نفيسة في هذا الباب.

ثم إذا أتقن هذا الجانب -الذي هو الأخضري- يرتقي إلى الشمسية وتهذيبِها، إما هذا أو ذاك، تهذيب الشمسية لسعد الدين التفتازاني، وعليه شرح للخبيصي، وعليه حاشية للعطار، والشمسية وشروحُها مشهورةٌ كذلك وعليها شرحٌ للتفتازاني.

ثم يقرأ الطالب بعد ذلك تهذيب الشمسية لسعد الدين مسعود التفتازاني، وعليه شروح أشهرها (التذهيب شرح التهذيب) للعلامة الخبيصي (مطبوع).

وكتبَ على التذهيب أبو السعادات حسن العطَّار حاشية نفيسة محررة. يعني: بالنسبة لفن المنطق، كما هي عادتُه في حواشِيه.

العطَّار له حواشي من أنفس ما يكتبه المحشُّون؛ لأن أكثر المحشِّين قد يعيشون فراغاً. يعني: يريد أن يلتمس حُجةً على صاحب الكتاب، ويذهبون بالصفحة والصفحتين في إعراب وتوجيه كلمات .. إلى آخره.

(1/11)

________________________________________

لكن بعض الحواشي لا، فيها فوائد وفيها درر، كحاشية الخضري على ابن عقيل، وحاشية الصبَّان على الأشموني. حاشيتان في النحو لا مثيل لهما.

كذلك حاشية العطَّار على جمع الجوامع -المحلي- لا مثيل لها، وهي أقوى وأنفس من حاشية البنَّاني.

هنا في باب المنطق شرْحُ زكريا الأنصاري عليه حاشية حسن العطَّار وهي أنفس من عُليِّش الذي معنا.

وكذلك في التذهيب له حاشية وهي حاشيةٌ نفيسة كذلك.

فإذا أتقن الطالب هذين الكتابين يكتفي، ثم تأتي الممارسة والملكة.

الممارسة والملكة لا تأتي بحفظ المصطلحات فقط، وإنما تأتي بماذا؟

الملكة كيف يُنشئها طالب العمل في نفسه؟ إنما يُنشئها بممارسة الفنِّ، ليس بالنظر في الفن.

فأنت لو كنت تحفظ ألفية ابن مالك، تحفظ فقط وتراجع كل يوم وتجرُد ابن عقيل كل أسبوع لن تكون نحوياً، لست معدوداً من النحاة أصلاً.

متى تكون نحوياً؟ عند الممارسة.

إذا مارستَ النحو يعني: نطقتَ وتكلمت وأعربت، ونظرت في الآيات وأعربت، واستخرجت واستنبطتَ .. إلى غير ذلك. حينئذٍ تتدرج في فن النحو، وإذا استمر طالب العلم في ذلك حينئذٍ يصل إلى الملكة -ملكات الفنون-، وهذه لا تكون إلا بالممارسات.

وفي علوم الشريعة تأتي كذلك بالجرد، وأما هنا فالمراد به أن يمارس والممارسة إنما تأتي فيما لو نظرتَ في كتب الأصوليين، تقف مع بعض المصطلحات، أو كتب النحو التي قلنا فيما سبق أنها مشوبةٌ باصطلاحات وعبارات منطقية، فتنظر في كل موضعٍ على جهة التطبيق لهذا الفن.

كما تنظر فيما لو حفظت ألفية ابن مالك في الإعرابات في القرآن، ماذا أُعرِب؟ أُعرب الألفية نفسها مثلاً، أو تنظر في إعراب القرآن فتمارس النحو، كذلك الصرف، كذلك البيان، كذلك المصطلح تدرسه ثم تمارس في التخريج ونحو ذلك.

هنا تدرسه ماذا تصنع تقف؟ لا، وإنما تمارس هذا الفن بالنظر فيما كتبه أهل الأصول من مقدمات أو فيما يتعلق بالمسائل، أو كذلك أهل النحو أونحو ذلك.

ثم فيما يتعلق بالرد تنظر فيما كتبه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في إبطال ما ادَّعاه من ادعى في كون عقيدته على قياسٍ صحيح، حينئذٍ بعد ذلك تستمر في هذا النوع، فتمارس الفن فتتكون عندك الملكة.

حينئذٍ إذا أتقنت ما ذكرتُه لك، حينئذٍ لا يُشكل عليك شيءٌ من مصطلحات القوم ولا من قواعدهم، بل فيما يظهر والله أعلم أنك تكون مشاركاً لهم؛ لأن أكثر ما ذُكر في الشمسية وفي السلّم إنما هو الذي يدندن به من يدندن في باب المعتقد من الأقيسة ونحوها.

ثم اعلم أن هذا الفن مسائله النثرية يصعب بقاؤها في الذهن كغيرها من العلوم، كالفرائض .. الفرائض ما تبقى، لكن لو حفظ طالب العلم نظماً سلساً، أو نظماً مطولاً، حينئذٍ يبقى معه شيءٌ من العلم.

(1/12)

________________________________________

ولذلك ننصح في هذا المقام وإن كان فيما سبق يحفظون الشمسية، لكن نقول: لا تحفظون الشمسية؛ لأنها من ضياع الأوقات تعتبر، وإنما تحفظ نظماً، وهذا النظم كما هو معلوم يُعتبر من نوع الرَّجز، ونوع الرجز هذا مستعذبٌ في اللسان وفي الآذان، وإذا حفظه الإنسان يستطيع أن يكرره خاصةً إذا كان النظم سلساً، حينئذٍ إما أن يحفظ السلَّم وهذا لا يكفيه فيما سبق، السلَّم لا يعتبر، كالآجرومية لا تكفيك في باب النحو، وإنما ينظر فيما زاد على ذلك.

فيحفظ السلّم أولاً، ثم بعد ذلك إما الشمسية (نظم الشمسية) وإما التوشيح، الشمسية هذه لبشير الغَزِّي تقع في (235) يعني رُبع ألفية .. قريباً من ذلك.

يقول فيها:

وَهَذِهِ أُرْجُوْزَةٌ سَنِيَّهْ

أنِيقَةُ الأَلفَاظِ وَالمَعانِي ... ضَمَّنتُها مَسَائِلَ الشَّمْسِيَّةْ

تَعْذُبُ فِي الآذَانِ وَالأَذْهَانِ

 

وليس لها شرحٌ للأسف الشديد، وهذا الذي يجعلنا نعزف عنها، ففيها خمسة أبيات فيها إشكالات وفيها رموز، قرأتُها على أحد المشائخ لكنه فيها أعوازٌ كبير وشيءٌ من الغموض.

ثانياً: توشيح عبد السلام على متن السلم المنورق المسمَّى بالاحمرار, هذا يقع في (440) بيتاً يعني: نصف ألفية تقريباً.

جمع فيه كثيراً من المسائل التي تركها صاحب السلم فألحقها به من عدة شروح يقول في خاتمتها:

نَظَمتُهُ لِلْمُبْتَدِيْنَ تَبْصِرَهْ

مُعْتَمَدِي فِي نَقْلِهِ قَصَّارَهْ

وَأَصْلُه بَنَّانِي ذُوْ التِّبْيَانِ

وَرُبَّمَا زِدْتُ مِنَ المُخْتَصَرهْ

فَجَاءَ نَظْمَاً جَامِعَاً مُبِيْنَا ... وَلِلشُّيُوخِ المُنْتَهِيْنَ تَذْكِرَهْ

جَمِّ المَعَانِي وَاضِحِ الْعِبَارَهْ

وَشَرْحُ قَدُّوْرَةِ ذِي الاِتْقَانِ

وَشَرْحِهَا مَسْأَلَةً مُحَرَّرَهْ

عَلَى مُهِمِّ فَنِّهِ مُعِيْنَا

 

وهذا أجود، ولو اعتكف عليه طالب العلم وحفظه وفهمه حق الفهم كفاه.

السلّم موجودٌ فيه بلفظه. يعني: من عنده قدرة أن يبدأ في المطولات، وهذا لا يُنصح به، لكن قد يكون شذوذ من قواعد، من شذ واستطاع أن يصبر على المتن فيبدأ به ابتداءً وانتهاءً، يكون هذا الكتاب الذي تبتدئ به، وهو الذي تتوسط به، وهو الذي تنتهي به. لكن يحتاج إلى شرح، فيه شرحٌ لبعض المعاصرين، لكن فيه إعوازٌ، ويحتاج إلى شرح.

وقد شرح التوشيح بعض المعاصرين ولكن فيه إعوازٌ كثير.

وأشملُ النظمين وأوسعها وأسهلها هو التوشيح.

إن يسَّر الله عز وجل نشرحه صوتياً وسيكون قريباً إن شاء الله تعالى، لكن موسَّعاً.

يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: وينبغي للطالب أن يطَّلع على مختصرات المنطق، ويأخذه عن شيوخه ويفهم معانيه بعد أن يفهم النحو؛ ليفهم ما يبتدئ به من كتبه ليستعين بذلك على فهم ما يورده المصنفون من مطولات كتب النحو ومتوسطاتها من المباحث النحوية.

"ينبغي" هذه إما على جهة الإيجاب وإما على جهة الاستحباب "ينبغي"، وإن كانت في الشرع تأتي للتحريم المشدد ((وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ)) [مريم:92] وأما في استعمال الفقهاء فقد يعنون بها: ينبغي المستحب، المرادفة عند بعضهم للمستحب.

لكن في مثل هذه المواضع التي ليست في مصاف المسائل الفقهية قد يُحمل على الانبغاء بمعنى الإيجاب أو بمعنى الاستحباب.

(1/13)

________________________________________

قال: ينبغي للطالب أن يطَّلع على مختصرات المنطق ويأخذه عن شيوخه ويفهم معانيه بعد "بعد" تدل على الترتيب- بعد أن يفهم النحو.

وهذا يدل على أن أولئك الأقوام إنما ساروا على الجادة يعني: يأخذوا النحو، ثم إذا أراد أن يرتقي إلى كتب المتوسطين، ومعلومٌ أن عبارات في اصطلاحات المنطقة التي يستعملها النحاة الذين يشرحون الكتب إنما ليست في كتب المبتدئين، لا يوجد في شروح الآجرومية مثلاً (إلا في شرحه الأعلى) .. لا يوجد في شروح الآجرومية مصطلحات المناطقة: تَصَوُّر وتصديق ... إلى آخره، لا يوجد والله أعلم.

وإنما يوجد في القطر وما بعده، حينئذٍ يأخذ ما يحتاجه المبتدئ، ثم قبل الولوج في المتوسطات من كتب النحو يقول: تأخذ شيئاً من مختصرات المنطق؛ لأن العلوم يخدم بعضها بعضاً، ليس عندنا طريق واحد تشقه وتمشي لا، وإنما العلم له شعب، وكل شُعبةٍ تخدم الشعبة الأخرى، بينهما تعاون.

حينئذٍ إذا أراد الطالب أن ينظر في علمٍ ما ويجد مشقة في فهم بعض الاصطلاحات فلا بد أن يقدّم قبل أن يلج هذه الكتب المتوسطة أو المطولة لا بد أن يأخذ شيئاً من العلم الآخر ليعينه.

الطالب الذي يقرأ في الفقه مثلاً، أخَذَ المسألة وحكمَها، ثم إذا أراد أن ينتقل قد لا يحتاج في هذه المرحلة إلى علم أصول الفقه، إذا كان ستُلقَى عليه المسألة تصويراً فقط، بيان الحكم والدليل قد لا يحتاج إلى أصول الفقه، لكن إذا أراد أن يرتقي إلى القولين فحينئذٍ يقع تضارب: حرام، جائز، مكروه .. إلى آخره.

فكيف يميّز بين هذا وذاك؟ كيف يفهم ما يرِد على هذا القول والقول الآخر؟

فلا بد أنه قبل أن يلج في المرحلة المتوسطة أن يأخذ شيئاً من أصول الفقه، كذلك هنا كلام الشوكاني رحمه الله تعالى.

قال: بعد أن يفهم النحو.

النحو مقدّم، وهو أول علوم الآلة التي ينبغي العناية بها، يدرس علم النحو؛ ليفهم ما يبتدئ به من كتبه ليستعين بذلك على فهم ما يورده المصنفون في مطولات كتب النحو ومتوسطاتها من المباحث النحوية.

قال: ويكفيه في ذلك مثل: المختصر المعروف بإيساغوجي -كتابنا-، أو تهذيب السعد وشرحٍ من شروحهما.

يعني: إما إيساغوجي وإما تهذيب السعد للشمسية. إما هذا وإما ذاك.

وليس المراد هنا (بدراسة هذين الكتابين) إلا الاستعانة بمعرفة مباحث التصورات والتصديقات إجمالاً.

يعني: كمرحلة أولية فقط.

لئلا يعثُر على بحث من مباحث العربية من: نحو أو صرف أبو بيان قد سلك فيه صاحب الكتاب مسلكاً على النمط الذي سلكه أهل المنطق فلا يفهمه.

يعني: لئلا يقع في حرج؛ لأنه قد تأتي عليه مسألةٌ فيها اصطلاحٌ للمناطقة، أو مسألة مبناها على قاعدة من قواعد المنطق، فكيف يفهمها؟ لا بد أنه يستعين بذلك يعني: الفن المختصر قبل الولوج في هذه الكتب.

قال: لئلا يعثر على بحث من مباحث العربية من نحو أو صرف أو بيان قد سلك فيه صاحب الكتاب مسلكاً على النمط الذي سلكه أهل المنطق فلا يفهمه، كما يقع كثيراً من الحدود والإلزامات فإن أهل العربية يتكلمون في ذلك بكلام المناطقة، فإذا كان الطالب عاطلاً عن علم المنطق بالمرة لم يفهم تلك المباحث كما ينبغي.

(1/14)

________________________________________

إذاً قد يفهمها لكن لا يصل إلى الدرجة القصوى، ومن هنا نأتي نرُد على من يقول بأنه قد فهم الأصول مثلاً على وجهه دون أن ينظر في علم المنطق.

نقول: لا. كذبتَ وإنما صار عندك شيءٌ من الفهم لكن ليس على وجه التمام، ومن يدَّعي بأنه فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مناقشات الأشاعرة ونحوها، حينئذٍ نقول: هل درستَ علم المنطق؟ يقال: لا. وفهمتُ كلام ابن تيمية! نقول: لا. لا يسلَّم، وإنما فهمتَ بعضاً من كلام ابن تيمية، فهمتَ فهماً عاماً من كلام ابن تيمية، أما الفهم القوي الصحيح المتعمق فهذا لا يمكن؛ لأنه سيأتي بعبارات ويأتي بجمل ويأتي بأصول، وقد اعتمدها المناطقة، فإذا لم تفهم هذه الأصول على وجهها كيف تفهم الرَّد؟ كما ذكرناه فيما سبق.

فإذا كان الطالب عاطلاً عن علم المنطق بالمرة لم يفهم تلك المباحث كما ينبغي.

ثم قال: ثم يشتغل بعلم المنطق فيحفظ مختصراً من مختصراته كالتهذيب أو الشمسية، ثم يأخذ في سماع شروحهما على أهل الفن، فإن العلم بهذا الفن على الوجه الذي ينبغي يستفيد به الطالب مزيد إدراك.

لأنه أشبه ما يكون بالقواعد التي يدندن حولها المعاصرون .. قواعد التفكير، هي من علم المنطق، علم البرمجة العصبية هذا نظرتُ فيه أكثرُه من علم المنطق، وبعضهم يحرِّم المنطق ويزهِّد فيه وهو يعطي دورات في البرمجة العصبية. هذا نسميه تناقضاً؛ لأنه ما درى علم المنطق، فلما جاء هذا العلم ظنه لأنه بأسلوب عصري ومترجم .. إلى آخره، فظن أنه علمٌ يتعلق بالتفكير، وكيف تفهم الآخرين .. إلى آخره.

وكله قواعد منطقية، هو مستقى من فن المنطق لكن بأسلوب عصري فقط، فالعلم هو بعينه.

على الوجه الذي ينبغي يستفيدُ به الطالب مزيد إدراك، وكمال استعداد عند ورود الحُجج العقلية عليه، وأقل الأحوال أن يكون على بصيرة عند وقوفه على المباحث التي يوردها المؤلفون في علوم الاجتهاد من المباحث المنطقية كما يفعله كثير من المؤلفين في الأصول والبيان والنحو.

على ما ذكره الشيخ الأمين رحمه الله تعالى.

يقول رحمه الله تعالى. يعني بعد أن تفهم علم المنطق لا ينبغي للإنسان أن يتكلم في شيءٍ إلا وهو يتقنه، وأنا قدَّمت بهذه المقدمة من أجل أن تكون على بصيرة؛ لأن بعض العلوم أو بعض المسائل قد يتكلم فيها الإنسان أو الطالب على جهة التقليد، ثم من كان مقلداً الأصل أنه يكتفي بنفسه لا يُلزِم غيره؛ لأنه لا يجوز أن يُحتج لأحدٍ إلا بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فإذا تبنَّى قول من يرى التحريم أو التزهيد، أو لا يدرسه إلا الفارغون، أو نحو ذلك من العبارات التي قد تروج على بعض الطلاب. نقول: هذا اكتفي به في نفسك، إن أردت تأصيل المسألة فحينئذٍ لا بد أن تعلم أولاً ما هو المنطق، تدرُسه ثم بعد ذلك تنظر في هل يُقبل أو لا يُقبل.

تدرس المجاز أولاً وتعرف المجاز بتفاصيله وتمارسه ثم بعد ذلك تقول في مجاز أو ما في مجاز، أما أن تأتي هكذا وتقول: لا مجاز لا في اللغة ولا في القرآن نقول: لا.

أولاً تدرس هذا إذا أردت أن تتكلم بعلم، مقلِّد قل: أنا مقلِّد، لا إشكال فيه، يعني: نسلِّم لك إذا كنت مقلداً تقول: أنا مقلّد ونكتفي ولا نناقشك.

(1/15)

________________________________________

أما إذا أراد أن يناقش وأن يُنكر على غيره فحينئذٍ لا بد أن يكون أولاً يفهم هذا العلم أو يفهم هذه المسألة أو هذا الباب على الوجه الذي ينبغي، ليس سطحياً هكذا يأخذ كتاب معاصر ويقرأ، ثم يقول: لا مجاز، أو لا يُدرس المنطق ونحوه.

الشوكاني رحمه الله تعالى يقول (لعله وجد شيئاً من ذلك) يقول: وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم، ويجري على لسانه الطعن في علمٍ من العلوم لا يدري به ولا يعرفه ولا يعرف موضوعه ولا غايته ولا فائدته، ولا يتصوره بوجهٍ من الوجوه. يعني: لا يدري عنه شيء البتة، هذا طيب إذا عرف أن ثم علماً، ولعله عرف باسمه فقط، وأنكره البعض فأخذ يُنكر معهم.

فحينئذٍ يقول رحمه الله تعالى: وقد رأينا كثيراً ممن عاصرنا ورأيناه يشتغل بالعلم وينصف في مسائل الشرع ويقتدي بالدليل.

يعني: في المسائل الشرعية حلال وحرام يأتي بالدليل لا إشكال فيه، وهذا موجودٌ حتى في عصرنا، يعني: هذه سلسلة (علمٌ متوارث) يأتي في مسائل الفقه فإذا به يقف بين مالكٍ والشافعي ويطالب بالدليل، بل يقف بين الصحابة، بين أبي بكرٍ وعمر ويطالب بالدليل. وهذا حسن إذا كان على وجه الإنصاف ومعرفة الأدلة والأصول، ومع الأدب والاحترام والتقدير. نقول: هذا لا إشكال فيه.

لكن إذا جاءت في بعض المسائل وخاصة في إنكار العلوم فإذا به يدندن حول ما يدندنه غيره ممن ينكر الفن، فيرى هنا الشوكاني رحمه الله تعالى أن بعض أهل العلم ممن له مكانة ويُنصف في المسائل الشرعية، إذا أراد أن يتكلم فإذا به يطالب بالدليل على وجهه، إذا جاء في بعض العلوم أنكرها على وجه العموم فلا ينظر فيها.

يقول هنا: وقد رأينا كثيراً ممن عاصرنا ورأيناه يشتغل بالعلم وينصف في مسائل الشرع ويقتدي به بالدليل. فإذا سمع مسألة من فنٍ من الفنون التي لا يعرفها كعلم المنطق والكلام والهيئة ونحو ذلك نفر منه طبعُه.

لأنه ما يعرفه، جاهل أول ما يسمع شيئاً يجهلُه تنفر منه طبعُه.

ونفَّر عنه غيره وهو لا يدري ما تلك المسألة ولا يعقلها قط، ولا يفهم شيئا منها. فما أحق من كان هكذا بالسكوت، والاعتراف بالقصور، والوقوف حيث أوقفه الله تعالى، والتمسك في الجواب إذا سُئل عن ذلك بقوله: لا أدري.

هل أدرسُ المنطق أو لا -وأنت ما درستَ-؟ تقول: لا أدري.

إن كنت مقلداً قل: قال فلان، وانقل قوله ولا إشكال فيه، تكون ناقلاً للعلم، وناقل العلم ليس من أهل العلم.

ولذلك نقل ابن عبد البر رحمه الله تعالى الإجماع على أن المقلِّد ليس من أهل العلم؛ لأنه إما عامّي وهذا قطعاً، وإما أنه متشبه بأهل العلم يعني: درس وتعلم إلى آخره، لكنه رأى أنه يجب تقليد إمام من الأئمة. هذا ليس من أهل العلم ولا يُعتد به لا بخلافه ولا بوجوده.

وحينئذٍ نقول: هذا يُعتبر من العوام.

قال هنا: والتمسك في الجواب إذا سُئل عن ذلك بقوله: لا أدري.

وإن كان ناقلاً نقل عن غيره، ولا يجعلها مسألة. يعني: يكون عليها ولاء وبراء، إما أن توافق وإما .. إلى آخره.

قال: فإن كان ولا بد متكلماً ومادحاً أو قادحاً فلا يكون متكلماً بالجهل وعائباً لما لا يفهمه، بل يُقدِّم بين يدي ذلك الاشتغال بذلك الفن حتى يعرفه حق المعرفة ثم يقول بعد ذلك ما شاء.

(1/16)

________________________________________

يعني: لو درست علم المنطق أو درست المجاز وفهمته على وجهه ثم قلت: لا مجاز لا إشكال فيه، لكن لا تقل: لا مجاز وأنت ما تعرف المجاز من الحقيقة، وإنما تقلِّد غيرك. تقول: لا. قل: أنا مقلّدٌ.

وأما إذا أردت أن تحكم حكماً ابتدائياً يعني: منشَأً من عندك، فلا بد أن تعلم أولاً ما هو المجاز وتدرسه، ما تأخذ التعريف فقط لا، تعرف أنواع المجاز المرسل والاستعارة المكنية، وتجرب وتمارس .. إلى آخره، وتتلذذ بالآيات الواردة فيها، ثم بعد ذلك إذا ما طابت نفسك لهذا القول تقول: لا مجاز، ولا إشكال فيه والمسألة خلافية.

وأما ابتداءً هكذا تقول: لا مجاز. نقول: لا. وإنما تكون مقلِّداً.

المنطق كذلك دراستُه يزهِّد بعض الناس نقول: هذا إن كان عن علمٍ بالفن لا إشكال فيه، الخلاف معه لفظيٌ، وأما إن كان عن جهلٍ بالعلم وإنما قلَّد غيره، فهذا لا يُلتفت إليه.

إيساغوجي -الذي معنا في المنطق- متن إيساغوجي في المنطق يرجع هذا الاسم على شهرة هذا الكتاب ومكانته عند أهل العلم؛ لذلك كثرت شروحه وحواشيه.

يرجع هذا الاسم إلى منطقيٍ إغريقي قيل اسمه: فرفريوس. من أهالي مدينة صُوْر الساحلية الواقعة في جنوب لبنان. يعني: قبل الميلاد.

قيل: توفي سنة 233هـ ألَّف كتاباً اسمه إيساغوجي .. إيساغوجي بهذا الاسم، وهي كلمة يونانية تعني الكليات الخمس: جنس، فصل، عرَضٌ، نوعٌ، وخاص.

وَالكُلِّيَّاتُ خَمْسَةٌ دُونَ انْتِقاصْ ... جِنْسٌ وَفَصْلٌ عَرَضٌ نَوْعٌ وَخاصْ

 

هذه إيساغوجي معناها الكليات الخمس؛ لأن بحث المنطق في الكليات .. المنطق كله من أوله إلى آخره مختصر في الكليات، وهذه الكليات ليست مطلقاً لأنها عقلية كما سيأتي، وإنما من حيث الإيصال إلى مجهول تصوري أو مجهول تصديقي.

إذاً: إيساغُوجي: هي كلمة يونانية في الأصل معناها -على المشهور-: الكليات الخمس وقيل غير ذلك، قيل: مقدِّمة المنطق، وقيل: المدخل إلى العلم، وقيل غير ذلك كما سيأتي في الشرح.

وقيل: إن كتاب فرفريوس هذا نقلَه إلى العربية أبو عثمان الدمشقي.

إذاً: القول الأول أن الكتاب لصاحبه.

والقول الثاني: قيل: إن كتاب فرفريوس هذا نقله إلى العربية أبو عثمان الدمشقي في القرن التاسع الميلادي، ثم اختصره جماعةٌ واشتهر منهم: اختصارُ أثير الدين الأبهري -صاحبنا هذا.

إذاً: هل هو كتاب مرتجَل ابتداءً أم أنه مختصرٌ من غيره؟ فيه قولان.

واشتهر منهم اختصارُ أثير الدين الأبهري، وقيل: هما كتابان متغايران. فكتاب الأبهري غير كتاب فرفريوس اليوناني.

وهذا أو ذاك نحن لا نلتزم بتحقيق هذه المسائل، أصحاب المصنفات والكتب إلى آخره، الأسماء .. متى مات .. متى وُلد؟

نقول: هذه لا تعني طلاب العلم بالاشتغال بها، وإنما النظر في الكتاب نفسه، ولو كان صاحبه مجهولاً غير معروف.

كتاب المقصود هذا في الصرف، هذا من أنفَس ما كُتب للمبتدئين، هو أولى الاشتغال به من اللامية لابن مالك رحمه الله تعالى، لكن صاحبه غير معروف.

(1/17)

________________________________________

حينئذٍ هل لكون صاحبه مجهولاً نستغني عن الكتاب؟ نقول: لا؛ لأن المراد هذه المعلومات الموجودة صحيحة أم لا؟ إن كانت صحيحة الحمد لله كُفِينا، إن كان فيها خلْط فحينئذٍ ألحقناه بصاحبه، فلا يُلتفت إليها، لكن إذا صحَّت حينئذٍ لا يلتفت إلى المصنف.

ومتن إيساغوجي متنٌ جامعٌ لمهمات المسائل المنطقية، تلقاه العلماء بالقبول واعتمدوه إقراراً وشرحاً ونظماً منذ عهد مؤلفه، ولا يزال عمدةً إلى يومنا هذا.

لكن قد يُشتغل به في بعض البلاد دون بعض، وهذا موجودٌ وشهير وكثير أيضاً، ولذلك من نظر في كتاب أدب الطلب للشوكاني رحمه الله تعالى وهو إمام في علوم الآلة وعلوم المقاصد، تجد بوناً شاسعاً بين ما نقرأه نحن شمال الجزيرة، وبين ما يقرأه اليمنيون في الجنوب.

هم يقرءون في النحو الكافية، لا يعرفون الألفية، ولذلك هو نصَّ لما جاء متن الألفية قال: لا نعرفها ولم نشتغل بها، ونحن عندنا الاشتغال بالألفية والكافية لا نعرفها، قد نقرأ فيها مطالعات أو رجوع، لكن الكتاب المعتمد الذي يُحفظ هو الألفية.

فهذه المسائل دائماً نقول: ليست توقيفية، بعض الطلاب يقع بينهم نزاع وقد يقع هجر، وقد يستحقر الآخر لأنه ما حفظ كتاب كذا نقول: لا. هذا خطأ.

الأصل المعتمد: أن تحفظ، لا بد من هذا.

الأصل الثاني: أن تقرأ على شيخ.

هذان أصلان من حيث الإجمال متفقٌ عليهما بين أهل العلم، لكن ماذا تقرأ؟ هذا مختلف فيه، ولذلك يُعتمد الإقناع مختصر الخرقي، ثم يذهب ويأتي المقنع، ثم يذهب ويأتي اختصار .. تبدَّلت وتغيرت.

اعتمد الناس الخرقي وشرحوه وصار هو الكتاب المعتمد، أراد الله عز وجل أن ينصرف الناس عن الخرقي وُجد المقنع، فشُرح إلى آخره وهو الذي كان يُحفظ، ثم اختُصر فاعتكف الناس على المختصر.

إذاً: المسألة ليست توقيفية، فلا نجعل الاشتغال: نحفظ هذا أو نحفظ كذا الزاد، الدليل، عمدة الفقه .. هذا عبث واشتغال بما لا يعود بالفائدة على الطالب.

نعم هي على مراتب ولا شك، فالأفضل أن ينتقل الطالب إلى أعلى الدرجة، لكن إذا ما استطاع ينزل إلى ما هو دونه.

قال هنا: وهو الذي يُشتغل به في بعض البلدان إلى يومنا. هذا طبع طبعات لا تحصى كثرة، وعليه شروحٌ متعددة، فأولها شرح مؤلفه نفسه الأبهري سمَّاه: قال أقول. هذا اسم كتاب -قال أقول-، تسمى الفنقلة ذكرها صاحب البلبل في أول شرحه، الفنقلة: فإن قلتَ قلنا .. قال أقول.

قيل: طُبع سنة 1293هـ ثم وضع حاشيةً على هذا الشرح سماها مغني الطلاب في المنطق، كذلك طُبعت قديماً سنة 1260هـ

ثم توالت الشروح والحواشي على هذا الشرح.

إذاً: أول من شرح إيساغوجي هو صاحبُه، والقاعدة أو المعلومة والمطرد عند أهل العلم أن من شرح كتابه ضاع شرحُه، يبقى المتن ولكن يذهب، نستثني دائماً النخبة لابن حجر رحمه الله تعالى شرحَها فبقيَت، أما من عداه فالغالب أنه لا يُلتفت إليه. وهذه سُنة؛ لأنه إذا جاء يشرح متن غيره يأتي بالملقاط. يعني: يحاول أن يحصْحِص ويقلِّب العبارة باللوازم، وأما إذا جاء هو يفهم المراد فيشرح يختصر.

(1/18)

________________________________________

ولذلك الكافية لابن الحاجب شرحَها هو بنفسه، لكنه ما اشتهر طُبع موجود ويصوَّر، لكنه ما اشتهر إنما اشتهر شرح الرضي لأنه عقَّب كما يقول البعض: بالملقاط.

وابن مالك رحمه الله تعالى في كشف الظنون أنه أوَّل من شرح ألفيته .. ابن مالك صاحب الألفية، الكثير لا يدري أنه شرح الألفية، أين الشرح؟ مع أن المتن محفوظ وباقي، وأما الشرح فلم يبق.

هكذا كثير؛ لأنهم على ما ذكرنا سابقاً لا يلتفتون إلى الألفاظ وتقليب الجمل إلى آخره؛ لأنهم يفهمون المراد .. صاحب البيت أدرى بما فيه، وأما غيره فلا، يحصحص معه، يحاول أن يستقيم معه في العبارة ويشدد معه أحياناً، حينئذٍ لا بد من التقليب.

ومن شروح إيساغوجي شرحُ حسام الدين حسن الكاتي توفي سنة 760هـ وعلى هذا الشرح حواشي كذلك، نحن لا نشتغل كما ذكرنا فيما سبق بالحواشي كثيرة على هذا المتن.

ومن الشروح شرح زكريا الأنصاري توفي 910هـ سمّاه المطلَع أو المُطلِع ضُبط بالوجهين: مطْلَع مفْعَل، أو مُطلِع كما سيأتي، فرغ منه سنة 875هـ طُبع في بولاق سنة 1283هـ ثم بالحسينية سنة 1328هـ، ثم طُبع مراراً بعدها. وهذا يُعتبر أنفس شرحٍ لإيساغوجي وهو مختصر، اثنا عشر يوماً قد تكون كثيرة عليه، لكن نحاول ..

وقد كُتب على هذا الشرح عدة حواشي منها حاشية لشهاب الدين أحمد الغُنيمي سماها كشف اللثام عن شرح شيخ الإسلام، هذا مخطوطٌ بالأزهرية.

وحاشية العلامة الخُرشي المالكي توفي سنة 1101هـ ثم الشيخ أحمد بن علي المصري سماها المَجمَع أو المُجمِع لحل ألفاظ إيساغوجي وشرحِه المْطلَع أو المُطلِع على الضبط الذي ذكرناه.

وحاشية يوسف الحفناوي، هذه مطبوعة توفي سنة 1178هـ طُبعت في مطبعة بولاق سنة 1283هـ ثم بالمطبعة الشرفية بالقاهرة سنة 1302هـ، ثم تكرر الطبع، مطبوعة وموجودة.

وحاشية الشيخ حسن العطار شيخ جامع الأزهر كتبها 1250هـ وفرغ منها سنة 1236هـ وطُبعت في المطبعة العثمانية بالقاهرة سنة 1311هـ ثم بالميمينة سنة 1321هـ وكذلك موجود الآن، هذه غير موجودة، طبعتها مطبعة مصطفى الحلبي سنة 1347هـ ورق أصفر موجودة كذلك، وهي أنفسُ حاشيةٍ على شرح زكريا الأنصاري.

وكذا الشيخ عُلَيِّش أو عِلَيِّش أو عُلَيْش المالكي توفي سنة 1299هـ فرغ منها سنة 1283هـ وطبعت في المطبعة الوهبية بالقاهرة 1284هـ إلى غير ذلك من الشروح.

إيساغوجي إن اعتنى به المعتني فينظر في شرح زكريا الأنصاري من حيث الشروح ومن حيث الحواشي حاشية حسن العطَّار فيكتفي بذلك.

وإن نظر في السلَّم المنورق فيكتفي بما ذكرناه سابقاً ولا يحتاج إلى هذه الكتب، كثرة النظر في هذه الكتب كما ذكرنا فيما سبق ليس هو المراد في الذب -إن صح التعبير- عن دراسة هذا العلم، وإنما المراد أن يعرف ويقف على المصطلحات، ويكتفي بما يمكن الاكتفاء به، فإن وَجد من يتقن السلَّم وشروحه اكتفى به، ثم بعد ذلك التوشيح، وإن وَجد إيساغوجي فكذلك فيكتفي به على السلَّم وهكذا.

وليس المراد أن الطالب يتوسع فيه يقرأ صباح مساء أو نحو ذلك، فهذا ليس هو المطلوب.

(1/19)

________________________________________

قيل: نظمه الشيخ عبد الرحمن الأخضري وسمّاه السلَّم المنورق، اشتهر وعليه شروحٌ كثيرةٌ جداً، وشروح السُلَّم من حيث الفهم أوعب للطالب من شروح إيساغوجي. يعني: الذي يريد أن يفهم أكثر فشروحات السلَّم أوضح، ولذلك شرح القويسني سهل جداً، كذلك شرح الأخضري نفسه، وكذلك شرح الدمنهوري، كذلك شرح الملّوي المختصر .. كلها سهلة.

لكن زكريا الأنصاري فيه شيءٌ من الغموض وإن كان هذا محسوبٌ عليه هو في تصانيفه، أنه عنده شيءٌ من الغموض.

هذا ما يتعلق بمقدمة تتعلق بفن المنطق من حيث الحكم على جهة الإجمال ويأتي في موضعه سيذكر المصنف مقدمة العلم من حيث المبادئ العشرة الآتي ذكرها.

نقف على هذا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!

(1/20)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

قال المصنف رحمه الله تعالى: قال رحمه الله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ) أي: أبتدئُ.

قال المصنف: (قال رحمه الله) هذا فيه إشارة، وهذا نشير إليه لأنه كثُر تغيير هذه العبارة بحجة أنها أبلغ وأفصح، قال: فلانٌ يرحمه الله. عُدولاً عن رحمه الله، الصواب أن يقال: أن رحمه الله أفصح.

يعني: إذا كان يراد بأن يرحمه الله فعلٌ مضارع أفصح من الفعل الماضي هذا غلط ليس بصحيح، بل الصواب أن يقال: هذه الجملة خبرية اللفظ إنشائية المعنى، يراد بها الدعاء، وأهل العلم قديماً وحديثاً -ولذلك تجد حتى في الحواشي- لا يعترضون هذا التركيب؛ لأنه موافقٌ على مقتضى البلاغة، وموافقٌ للفصيح من كلام العرب.

حينئذٍ تُطلق هذه الجملة ويراد بها الدعاء، فهي خبرية لفظاً إنشائية معنى، وليس المراد القطع بكون الرحمة حاصلة، لا يُفهم هذا. وإنما يُعبِّر بالفعل الماضي من باب حسن الظن بالباري جل وعلا .. أن الرحمة حاصلة، وإلا القطع بأنها حاصلة بدلالة الفعل الماضي ليس هذا المراد.

ولذلك نقول: هذه الجملة كغيرها من الجمل، هي خبرية لفظاً إنشائية معنى؛ لأن المراد بها: اللهم ارحمه.

حينئذٍ ليس ثم نكتة في العدول عن الفعل الماضي إلى الفعل المضارع.

ليس ثم نكتة يعني: فائدة في العدول عن الفعل الماضي إلى الفعل المضارع، يشهد لهذا: أن أئمة اللغة وغيرهم أجمعوا على هذا التعبير: ما من مصنَّفٍ إلا ويُذكر فيه: رحمه الله.

حينئذٍ نقول: هذا يُعتبر هو المقدَّم.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ) قال الشارح: (أي: أَبتدئُ).

(أي) هذه حرف تفسيري. يعني: ما بعده مفسِّرٌ لما قبله، وليس هذا المراد هنا، وإنما المراد تفسير المتعلَّق؛ لأن البسملة هنا: الباء حرف جر، وما بعده مجرور بحرف الجر الأصلي، وحرف الجر الأصلي لا بد أن يكون له متعلَّق، القاعدة:

لَا بُدَّ لِلجَارِ مِنَ التَّعَلُّقِ ... بِفِعْلٍ اَوْ مَعْنَاهُ نَحْوُ مُرْتَقِي

 

يعني: بالمشتقات العشرة المشهورة عند الصرفيين ليست عند النحاة، حينئذٍ كل جار ومجرور وإن كان الجار حرفاً أصلياً لا بد له من متعلَّق.

الباء هنا أصلية على الصحيح ومعناها الاستعانة، حينئذٍ إذا قلت: بسم الله الرحمن الرحيم. أين المتعلَّق؟

(بسم) هذا متعلِّق بكسر اللام، أين المتعلَّق؟ نقول: مقدَّر محذوف، ولذلك أراد المصنف هنا أن يفسِّره .. يبيّن هذا المتعلَّق.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ) (أي) هذا حرف تفسير وليس بحرف عطف خلافاً للكوفيين.

ولذلك تقول: اشتريتُ عسجداً أي: ذهباً. فيُعرب ما بعد أي على أنه بدل كل من كل، أو عطف بيان. ولا يُعرب على أنه معطوف ومعطوف عليه مثل: جاء زيدٌ وعمرٌ، هذا مذهب الكوفيين، لكنه مذهبٌ مرجوح، الصواب أن يقال: بأن (أي) حرف تفسير، ويُعرب ما بعده بدلاً مما قبله. وهذا مذهب البصريين.

(2/1)

________________________________________

لكن (أي) يؤتى بها في التفسير في المفردات: اشتريتُ عسجداً أي: ذهباً ولا تقل: يعني ذهباً، وإنما: أي ذهباً.

وأما إذا أُريد التفسير للمعاني فيؤتى بالعناية. يعني المصنِّف كذا، إذا أُريد المفهوم التركيب وليس المراد تفسير لفظ بعينه يؤتى بلفظ العناية تقول: يعني المصنف كذا، وأما (أي) الأصل فيها أنها لتفسير المفردات.

هذا هو الأصل وهو الغالب في استعمال أرباب الحواشي والمصنَّفات، لكن قد يحصل تغاير فيؤتى بأي في المعاني الكبار المركبات، ويؤتى بأعني في المفردات، وهذا موجود.

(أبتدئ) هنا بيانٌ لمتعلَّق الجار والمجرور، قدَّره المصنف هنا فعلاً بناءً على الأصل، ما هو الأصل في العمل؟ نقول: للفعل.

فالأصل هنا أن يقدِّره فعلاً؛ لأن الأصل في العمل للأفعال، وقدَّره مؤخراً، ما قال: أبتدئ أي: باسم الله، أو باسم الله وقدَّم الفعل عليه نقول: لا، وإنما يؤخَّر لما سيأتي.

ومؤخراً لإفادة الحصر، وكان الأولى تقديره خاصاً كـ: أؤلف .. بسم الله الرحمن الرحيم أي: أؤلف، أكتُب.

لأن كل شارع في شيء أو حَدثٍ يُضمر ما جُعلت التسمية مبدأً له.

حينئذٍ قوله: (أي أبتدئ) هذا صحيحٌ من وجهين:

الوجه الأول: أنه قدَّره فعلاً، وافق الأصل أو لا؟ نقول: نعم وافق الأصل، يُسلَّم له .. التقدير هنا كونه فعلاً هذا مسلَّمٌ له؛ لأن المتعلَّق عاملٌ في المتعلِّق، والأصل في العمل أن يكون للأفعال، يؤيد ذلك أنه جاء مصرَّحاً به لقوله: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) [العلق:1].

((اقْرَأْ بِاسْمِ)) باسم هذا متعلِّق باقرأ وهو فعلٌ، كذلك: {باسمك ربي وضعتُ جنبي} الحديث، وضعتُ باسمك، وضعتُ هذا فعل.

إذاً: جاء مصرَّحاً به في موضعين: في القرآن وفي السنة.

فحينئذٍ القاعدة هنا: أن كل شيءٍ احتمَل وجهين وجاء مصرحاً في بعض المواضع فما احتمل الوجهين يُحمل على المصرَّح، فإذا صرَّح ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)) حينئذٍ نقول: كل متعلَّقٍ للجار والمجرور فالأصل أن يكون فعلاً للقاعدة النحوية: أن الأصل في العمل إنما يكون للأفعال، وعمل الأسماء هذا يعتبر فرعاً.

ثانياً التصريح به، ولذلك كل (ما) في القرآن فهي حجازية لا تميمية، كل لفظ ((مَا)) في القرآن فهي حجازية لا تميمية؛ لأنه جاء مصرَّحاً به في موضعين: ((مَا هَذَا بَشَرًا)) [يوسف:31]، ((مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ)) [المجادلة:2].

حينئذٍ ((وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ)) [البقرة:74] يحتمِل أنها تميمية والأصل فيها عدم العمل، والباء هذه زائدة للتوكيد، ويحتمل أنها حجازية ودخلت الباء كما دخلت في قوله: ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)) [التين:8].

حينئذٍ نقول: ما احتمَل كقوله: ((وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ)) [البقرة:74] نقول: (ما) هنا حجازية؛ لأنه جاء إعمالها في مواضع أُخر، وهي قوله: ((مَا هَذَا بَشَرًا)) [يوسف:31]، ((مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ)) [المجادلة:2] فما احتمَل يُحمل على المصرَّح، كذلك الوضع هنا.

مؤخراً يُسلَّم له؟ المصنَّف قدَّره مؤخراً نقول: نعم يسلَّم له.

(2/2)

________________________________________

لماذا مؤخراً؟ قالوا: لفائدتين، ذَكر إحدى الفائدتين وهي الحصر، والحصر هو: إثبات الحكم في المذكور ونفيُه عما عداه، هذا مهمٌ حتى في قواعد التفسير.

حينئذٍ ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] قدَّم ما حقُّه التأخير فأفاد القصر والحصر ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5].

((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] ما وجهُ الحصر هنا؟ في تقديم ما حقّه التأخير، ما هو الذي حقه التأخير هنا؟ المفعول وهو إيَّاك .. إيَّا والكاف هذا حرف خطاب.

فالمعنى حينئذٍ يكون: لا نعبدُ إلا إيَّاك. إثبات ونفي، حصرنا ونفينا، حصرنا العبادة في الباري جل وعلا، ونفينا العبادة عن كل ما سوى الباري جل وعلا، هذا يسمى حصراً.

هنا كذلك قال: بسم الله الرحمن الرحيم أبتدئ. على ما ذكره المصنف، حينئذٍ باسم الله لا باسم غيره، هذا فيه تحقيق للاستعانة، وإن شئت قل: توحيد الاستعانة لأن الباء هنا للاستعانة، هذا معنى لطيف يستحضره من يُبسمل بأنه يقدِّر في نفسه ما جعل البسملةَ مبدأً له وأنه مؤخَّر، وأن الاستعانة هنا محصورة في الباري جل وعلا، ومنفية عمَّا سواه ولذلك قال: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5].

إذاً: بسم الله الرحمن الرحيم مثل: إيَّاك نستعين. إيّاك نستعين .. نستعينُك، (إيَّاكَ) أي: لا نستعين إلا بك، وهنا لا نستعين إلا بالله تعالى؛ لأن الباء هنا للاستعانة.

الأمر الثاني الذي يُزاد: بأن التقديم قد لا يكون للحصر وإنما يكون للاهتمام بالشيء؛ لئلا يتقدم عليه لفظٌ آخر، وهنا كذلك لئلا يتقدم على اسم الباري جل وعلا شيء قدَّمه، فحينئذٍ تكون للفائدتين.

وَقَدْ يُفِيدُ فِي الجَمِيعِ الاِهْتِمَامْ

تَقْدِيرُ مَا عُلِّقَ بِاسْمِ اللهِ بِهْ ... بِهِ وَمِنْ ثَمَّ الصَّوَابُ فِي المقَامْ

مُؤَخَّرًا ........................

 

هذا ذكره السيوطي في عقود الجمان.

يعني: من فوائد تأخير متعلَّق الجار والمجرور هنا في البسملة أنه يفيد الاهتمام.

وَقَدْ يُفِيدُ فِي الجَمِيعِ الاِهْتِمَامْ

تَقْدِيرُ مَا عُلِّقَ بِاسْمِ اللهِ بِهْ

تَقْدِيمُهُ فِي سُورَةِ اقْرَا ..... ... بِهِ وَمِنْ ثَمَّ الصَّوَابُ فِي المقَامْ

مُؤَخَّرًا، فَإِنْ يَرِدْ بِسَبَبِهْ

 

((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)) [العلق:1] لماذا قُدِّم؟

نقول: لأن القراءة هنا هي الأهم، وإذا كان كذلك فحينئذٍ بلاغةُ الكلام أن تطابِق مقتضى الحال، فمقتضى الحال هنا جبريل عندما جاء "كما جاء في سبب النزول" إنما أراد ابتداءً ليس أن يحقق الاستعانة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما المراد أن يقرأ {اقرأ، ما أنا بقارئ .. } إلى آخره.

إذاً:

..........................

تَقْدِيرُ مَا عُلِّقَ بِاسْمِ اللهِ بِهْ

تَقْدِيمُهُ فِي سُورَةِ اقْرَا فَهُنَا ... .. وَمِنْ ثَمَّ الصَّوَابُ فِي المقَامْ

مُؤَخَّرًا، فَإِنْ يَرِدْ بِسَبَبِهْ

كَانَ القِرَاءَةُ الأَهَمَّ المُعْتَنَى

 

إذاً: لهذين السببين نقول: يتعيَّن أن نجعل المتعلَّق "متعلق الجار والمجرور" مؤخراً لا مقدماً.

(2/3)

________________________________________

بقي شيءٍ واحد وهو الذي يُعترض به على المصنَّف وهو أنه عامٌ لا خاص، والأصح أن يُقدَّر خاصاً لا عاماً؛ لأن ابتدئ .. الابتداء هذا يصدق على كل حدث: يصدق على شرب الماء، ويصدق على الأكل، ويصدق على النوم، وعلى القراءة، وعلى الكتابة والتصنيف، والخروج والدخول ..

أبتدئ، أبتدئ ماذا؟ فيحتاج إلى تعيين.

حينئذٍ الأفصح والأولى أن يُجعل خاصاً: بسم الله الرحمن الرحيم أؤلف.

والحجة هنا: أن يقال: كل من تلبَّس بحدثٍ فلا بد أن يستحضر في قلبه ما جعل البسملة مبدأً له، ولا يمكن أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم وهو يريد الشرب ويستحضر في قلبه أنه يأكل. يمكن؟ لا يمكن، إلا إذا سمَّى الشرب أكلاً.

فحينئذٍ إذا أراد أن يأكل واستحضر في قلبه الأكل لا يمكن أن يقدّر ابتدَأَ أو أيبتدئُ أو نحو ذلك، وإنما يقدَّر الفعل الخاص الذي تلبّس به. وهذا أفصح.

إذاً: لَا بُدَّ لِلجَارِ مِنَ التَّعَلُّقِ.

أن يكون فعلاً لا اسماً، أن يكون مؤخَّراً لا متقدِّماً، أن يكون خاصاً لا عاماً.

قال: (أي أبتدئ).

قال رحمه الله: (وابتدأَ بالبسملة).

يعني: المصنّف ابتدأ كتابه المحقَّق "يعني: الموجود" إن كانت الخطبة لاحقةً أو المقدَّر إن كانت سابقة. فلسفة يعني: ابتدأ المصنف كتابه بالبسملة.

أيّ كتاب؟

هو الآن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ويشرع في المقدمة، طيب الكتاب قد لا يكون موجوداً، فيقول: ابتدأ كتابه المحقَّق إن كان موجوداً، والمقدَّر إن كان غير موجوداً.

ابتدأ بالبسملة، البسملة هذا مصدر لبسمل يبسمل بسملة، والبسملة هذا قياسي، وإنما بسمل هو الذي وقع فيه النزاع هل هو قياسي أم لا؟

قال: (عملاً بكتابه العزيز) ولو قال: اقتداءً لكان أحسن؛ لأن العمل إنما يكون في الأقوال يعني: يأتي أمر فيحتاج إلى امتثال فيقال: عملاً يعني: امتَثل، ولذلك في قوله: كل أمرٍ ذي بال الأولى أن يقال: وعملاً بخبَرِ كل أمرٍ ذي بال، وأما التأسي والاقتداء هذا لا يكون في الأقوال وإنما يكون في الأفعال.

حينئذٍ الأولى أن يقال: عملاً بكتابه "يعني: اقتداءً" بكتابه العزيز؛ لأنه ابتدأ بالبسملة ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:1 - 2] أول القرآن البسملة.

(وبخبر كل أمرٍ ذي بالٍ) يعني: وعملاً.

عملاً هذا مفعولٌ لأجله أو حال من فاعل ابتدأ .. ابتدأ بالبسملة حال كونه عاملاً، أو مفعولاً لأجله يعني: لأجل العمل بكتابه العزيز، وبخبر، وهو مضاف وكلِّ على الإضافة.

(وبخبر كلِّ أمرٍ) يعني: شيء (ذي) يعني: صاحب (بالٍ) يعني: شرف.

(كل أمرٍ ذي بال) يعني: كل شيءٍ يُهتم به شرعاً.

(لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم) أي: بهذا اللفظ، هنا بباءين: ببسم الله. أي: بهذا اللفظ.

(وفي روايةٍ باسم الله) هل يتعين اللفظ؟ على الرواية الثانية باسم الله. لا يتعين اللفظ، لو قال: الرحمن كفى، لو قال: الجبّار العزيز كفى، ولذلك رواية الباءين أصح، وعليه يكون المراد به عين اللفظ.

أي: بهذا اللفظ، وفي روايةٍ (بسم الله) بباءٍ واحدةٍ أي: بأي اسمٍ من أسمائه.

قال: (كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم. أي: مقطوع البركة).

(2/4)

________________________________________

أجذمُ بالذال المعجمة، وهو في اللغة مقطوع الأنف يسمى أجذم.

والكلام من باب التشبيه البليغ أو استعارةٌ على مذهب السعدي في نحو: زيدٌ أسد، فهو أجذم يعني: فهو كالأجذم، التشبيه البليغ يحذف ذات التشبيه، حينئذٍ فهو أجذم أي: فهو كالأجذم هذا التشبيه.

أو استعارة مثل: زيدٌ أسدٌ.

وقوله: (أي: مقطوع البركة) بيانٌ لما آل إليه المعنى؛ لأن قوله: (فهو أجذم) هذا مقطوع الأنف، وهو ليس مقطوع الأنف وإنما المراد به التشبيه.

ما المراد هنا؟

(كل أمرٍ ذي بالٍ) الذي لا يبدأ بالبسملة ما شأن هذا الأمر الذي هو ذو بال؟ نقول: ما شأنه؟ أنه ناقص البركة، مقطوع البركة.

ولذلك قال: وهو وإن تم حساً إلا أنه ناقصٌ من جهة المعنى. يعني: لا يكون فيه بركة، إذا لم يكن فيه بركة يكون عنه الانصراف، فلا يشتغل به الناس.

إذاً: مقطوع البركة هذا تفسيرٌ من المصنِّف، ولذلك قال: (أي) لأنه فسَّر لفظاً مفرداًً (أجذم. أي: مقطوع البركة).

ويحتمل أنه فسَّر مركباً؛ لأنا قلنا: (فهو أجذم) تشبيه بليغ هنا إلى أي شيءٍ يئول؟ إلى كونه ناقص البركة، وحينئذٍ يحتمل الوجهين، وقلنا بعضهم يتوسع في (أي).

إذاً: قوله: (أي: مقطوع البركة) هذا بيانٌ لما آل إليه المعنى.

وفي روايةٍ أخرى للحديث السابق: (بحمد الله) يعني: كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه بحمد الله، وفي رواية: (بالحمدُ لله) بالرفع. رواه أبو داود وغيره وحسَّنه ابن الصلاح وغيره.

والحديثان ضعيفان كما هو معلومٌ في محله، قوله: حسَّنه ابن الصلاح وهو لا يرى التصحيح قيل: نقَل تحسينه، وقيل: إنما يمنع التصحيح دون التحسين.

هذا أو ذاك غلقُ باب التحسين والتصحيح هذا غير مسلَّم عند أهل العلم، سواء حسّنه ابن الصلاح أو غيره فالحديث فيه ضعف.

لكن العمل بهما من حيث المعنى من أدلة أخرى ثابت، لا يلزم أنه إذا ضعف الحديث قلنا: حديث ضعيف، أن مدلول الحديث الضعيف ألا يكون ثابتاً بحديثٍ صحيح.

ولذلك جاء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في صحيح البخاري: {بسم الله الرحمن الرحيم إلى هرقل عظيم الروم .. }.

بدأ رسالته بالبسملة، وبدأ في خطبة النكاح بالحمدلة، وكذلك جرى عليه الصحابة والتابعون والأئمة .. إلى آخره، بل قال الشافعي: يستحب لكل دارسٍ ومدرسٍ وخطيبٍ وخاطبٍ .. إلى آخره أن يبدأ بالحمدلة، دل ذلك على أن الحكم ثابت، ولكن هم يتوسعون في العمل بالحديث الضعيف، أنه في مقام الأعمال التي هي ليست بإيجابٍ ولا تحريم، والعمل بالحديث الضعيف في مثل هذا مقبولٌ عندهم، الصواب المنع منه.

قال: (نَحْمَدُ اللهَ) بعدما بدأ بالبسملة ثنى بالحمدلة.

قلنا: تُورد في مقدمات الكتب ثمانية أشياء .. مقدمة الكتاب تشتمل على ثمانية أشياء:

أربعة واجبة وهي: البسملة، والحمدلة، والشهادتان، والصلاة والسلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وأربعة مستحبة: أما بعد، تسمية نفسِه، تسمية كتابِه، براعة الاستهلال. هذه أربعة.

(2/5)

________________________________________

إن أتى بها خاصةً الواجبة لأنه يُلام في تركها فعلى ما جاء به، وإن لم يأت بها فحينئذٍ نعتذر عنه نقول: لعله أتى بها لفظاً؛ لأن النص هنا {كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه} فيه عموم، قال: {لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم} هذا يحتمل الكتابة ويحتمل النطق.

إذاً: لو بدأ كتابه ونطق بالبسملة لا مانع منه؛ لأنه أطلق النص، وأنت إذا قيّدته في الكتابة دون النطق حينئذٍ صار تقييد بغير مقيِّد، فيحتاج إلى دليل ولا دليل. إذاً: فيه عموم.

قال: (نَحْمَدُ اللهَ) (أي: نثني عليه بصفاته).

يعني: فسّر الجملة الفعلية "نحمدُ" بنثني عليه "على الباري جل وعلا" بصفاته.

صفاته الذاتية وصفاته الفعلية على الصحيح، هو لم يرد ذلك، بصفاته أي: بصفات الباري جل وعلا.

الذاتية والفعلية، المتعدية واللازمة.

اشتهر عندهم أن الحمد في العرف: فعلٌ ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعمٌ على الحامد أو غيره. "من حيث إنه منعم" هذه حيث هنا للتقييد.

حيث تأتي في الكلام لثلاثة أشياء: تأتي للتقييد، وتأتي للتعليل، وتأتي للإطلاق. ثلاثةٌ لا رابع لها.

من حيث ُكذا.

الإنسان من حيث هو إنسان. هذا للإطلاق.

من حيث إنه منعِمٌ. هذه تكون للتقييد.

حينئذٍ من حيثُ نقول: له مفهوم، من حيث إنه منعمٌ.

إذاً: من جهة الإنعام يعني: الصفات المتعدية، وأما الصفات غير المتعدية هذه ليست داخلة في الحد، وهذا سبب الخلل في هذا التعريف من كونه غير مقبول عند أهل السنة والجماعة: فعلٌ ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعمٌ، إذا لم ينعم لا يُحمد؟ نعم لا يُحمد، وإنما يُمدح أو شيءٌ آخر.

ولذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: الحمدُ هو ذكرُ محاسن المحمود، مع حبه وتعظيمه وإجلاله.

شيخ الإسلام لا يسير على الطريقة المعهودة: الجنس وإلى آخره وفصل، وإنما يبيِّن ما دل عليه الكتاب والسنة.

"ذكر محاسن المحمود" الذكر قد يكون باللسان وقد يكون فالفعل.

"محاسن المحمود" أطلق رحمه الله تعالى وهو الصحيح، فيشمل حينئذٍ الصفات الذاتية كالكبرياء، هل يُحمد الله تعالى على كبريائة؟ نعم، هل هو متعدي؟ لا.

هل يُحمد على استوائه على العرش؟ نعم يُحمد.

هل يُحمد على إنعامه؟ نعم يُحمد وهذا محل وفاق، لكن تقييد الحمد أنه يكون في مقابل الإنعام فقط، هذا ليس بصواب.

إذاً: نُثني عليه بصفاته.

(إذْ الحمد هو الثناء) إذ هذا للتعليل، يعني: لماذا فسَّرت؟ هو يعلل لنفسه، لماذا قلت: (نَحْمَدُ اللهَ) (أي: نثني عليه) لماذا فسَّرت الحمدَ بالثناء؟

والثناء معلومٌ أنه الذكر بالخير على قول الجمهور أنه يختص بالخير، يعني: إذا قال: يثني زيدٌ على عمرٍ هكذا أثنى، ولم يقيده بخيرٍ ولا شر يُحمل على الخير. يعني: ذكره بخير؛ لأن الثناء محصورٌ في الذكر بالخير، لكن ذهب بعضهم إلى أنه ليس خاصاً، وإن كان أكثر الاستعمال إنما يكون الثناء في الخير، استدل على ذلك بحديث: {مُرَّ بجنازةٍ فأثنَوا عليها خيراً، قال: وجبت .. فأثنوا عليها شراً} هذا الشاهد {أثنوا عليها خيراً}، {أثنوا عليها شراً} إذاً الثناء يكون في الخير ويكون في الشر، وهذا مذهب ابن عبد السلام رحمه الله تعالى.

(إذ الحمدُ هو الثناء باللسان) وهذا في اللغة، الثناء عرفنا المراد.

(2/6)

________________________________________

(باللسان) المراد به الحمد هنا حمد المخلوق، وإذا كان كذلك فالثناء إنما يكون باللسان، واللسان هو آلة النطق المعهودة.

إذا كان الثناء لا يكون إلا باللسان حينئذٍ يكون قوله: (باللسان) هذا قيدٌ لبيان الواقع. يعني: كالصفة الكاشفة.

الصفة الكاشفة التي يؤتى بها لتأكيد المعنى فقط، أو لتوضيح المعنى لا للاحتراز، فإذا لم يكن إلا زيدٌ العالم، إذا قلت: جاء زيدٌ العالم. ليس احترازاً ليس عندنا زيد آخر ليس بعالم، فحينئذٍ صارت للكشف والإيضاح ليس للاحتراز.

لكن لو عندنا زيد عالم وزيود جهلاء، وقلت: جاء زيدٌ العالم. صارت للاحتراز.

إذاً: زيدٌ العالم لا غيرَه، زيدٌ الجاهل لم يأتِ.

((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) [البقرة:21] ((الَّذِي)) نعت ((رَبَّكُمُ)) هذه صفة كاشفة.

لو قلت: للاحتراز. جاءت مصيبة.

((رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) إذاً: ربَّك الذي لم يخلقك لا تعبده، يكون فيه إثباتٍ لربٍ ليس بخالق! لا ليس هذا المراد، وإنما المراد به للكشف فقط والإيضاح والتأكيد.

إذاً: باللسان يكون للتوكيد .. يكون لبيان الواقع.

(الثناء باللسان على الجميل الاختياري) على هنا للتعليل، وعلى تأتي للتعليل كاللام أي: لأجل فعل الجميل. "فعلى" بمعنى لام التعليل.

وقوله: (على الجميل الاختياري) أي: حقيقة.

قال العطّار: أي حقيقة كأفعالنا الصادرة عنَّا، وأفعالِه تعالى الصادرةِ عنه.

(أو حُكماً كحمده تعالى على صفاته الذاتية، فإنها كانت منشأ أفعالٍ اختيارية نُزِّلت مُنزلتها) هذا جئنا في المحذور.

أنه جَعلَ حمد الباري جل وعلا يعني: حمد المخلوق للباري. جعله منصبّاً ابتداءً حقيقة على الصفات المتعدية، وأما الصفات غير المتعدية فهذه لأنها منشأ للصفات المتعدية، حينئذٍ صار حمدُها تبعاً لا أصالة، ولذلك يقول: (أو حكماً) يعني: لا حقيقة.

(كحمده تعالى على صفاته الذاتية، فإنها) تعليل (كانت منشأ أفعالٍ اختيارية نُزّلت منزلتها) والأفعال الاختيارية يقصد بها هنا المتعدية كالإنعام ونحوه.

(على الجميل الاختياري) احترز به عن الجميل الاضطراري كالجمال، فإذا أثنيت على زيدٍ بكونه جميلاً أو طويل القامة أو نحو ذلك، هذا لا يسمى حمداً وإنما يسمى مدحاً؛ لأنه ليس له فِعلٌ فيه.

الذي يُثنى ويُنسب للعبد هو الفعل الاختياري له الذي فعَله وصنَعه هو الذي يُثنى عليه، وأما الشيء الذي يكون بفعل غيرِه كفعل الباري جل وعلا بأنْ خلقَه جميلاً مثلاً أو طويلاً، أو كان طوله محموداً فحينئذٍ إذا أثنى عليه بذلك يسمى مدحاً لا حمداً.

إذاً: (الاختياري) احترازاً عن الاضطراري والقهري.

(على جهة التبجيل والتعظيم) والتعظيم هذا عطف تفسير، لأن التبجيل هو عينُه التعظيم يعني: نفسّره به، ما معنى التبجيل؟ هو التعظيم.

قال: (على جهة التبجيل والتعظيم).

هذا القيد قوله: (على جهة التبجيل) ليس مِن ماهيِّة الحمد. يعني: ليس داخلاً في الماهيّة، بل شرطٌ إما لتحقُّقه أو للاعتداد به .. إما ليتحقق وإما ليُعتدَّ به.

والجار والمجرور حال من الثناء أي: حالة كون ذلك الثناء واقعاً على جهة التبجيل، وعلى للاستعلاء المجازي.

(2/7)

________________________________________

قال: (سواءٌ تعلَّق بالفضائِل أم بالفواضل) هذا بيانٌ لمتعلَّق الحمد.

تصريحٌ بمتعلَّق الحمد، وإلا فالتعريف تصويرٌ لماهيّة المحدود لا بيانُ عمومه، فيكون هذا خارجاً عن التعريف، وسواء هنا بمعنى الاستواء.

(سواءٌ تعلَّق بالفضائل) تعلَّق ما هو الذي تعلّق؟ الثناء.

(سواءٌ تعلَّق) الثناء على الوجه المذكور السابق بالقيود السابقة (بالفضائل).

قال هنا: أي وقعَ الثناء على جميلٍ من الفضائل، وقوله: الفضائل جمع فضيلة أي: الصفة التي يتوقف إثباتُها للمتصف بها على ظهور أثرها في غيره.

هي التي لا يتوقف إثباتها للمتصف بها على ظهور أثرها في غيره كالعلم والتقوى؛ فإنها لازمةٌ في الأصل، هذه غير متعدية، ولذلك قال: لا يتوقف.

(أم بالفواضِل) جمع فضيلة أي: الصفة التي يتوقف "عكس السابقة" إثباتُها لموصوفها على ظهور أثرها في غيره كالشجاعة، الشجاعة هذه ما يكون شجاع وهو في بيته أغلق الباب، لو ادَّعى الشجاعة ما يُقبل منه؛ لأنه لا بد من دليل. هذه دعوى فلا بد أن يثبتها بالقول أو بالفعل.

قال: (كالشجاعة والكرم والعفو والحِلم) هذه كلها صفاتٌ متعدية.

إذاً: (الفضائل) المزايا الغير متعدية كالعلم والقدرة، (والفواضل) عكسها: المزايا المتعدية.

بمعنى أن النسبة إلى الغير مأخوذةٌ في مفهومها كالإنعام.

إذاً: عرَّف المصنف الحمد هنا -الحمد اللغوي- بقوله: (الثناء باللسان على الجميل الاختياري) إلى هنا انتهى الحد.

(على جهة التبجيل والتعظيم) هذا قلنا ليس من ماهيِّة الحمد، وإنما هو بيان شرطٍ إما للاعتداد به أو لتحقُّقه.

(سواءٌ تعلَّق .. ) إلى آخره، هذا بيانٌ وتصريحٌ بمتعلَّق الحمد.

وسواءٌ هنا قيل مرفوعٌ على الخبرية للفعل المذكور بعده، كأنه قال: تعلُّقُه بالفضائل وتعلقه بالفواضل سواءٌ، وهو خبرٌ مُقدَّم وما بعده ..

قال هنا: (وابتدأ ثانياً بالحمد لما مرَّ).

ما هو الذي مر؟ ابتداءً بالقرآن وعملاً بالحديث .. السنة، جمَع بينهما.

(وجمع بين الابتدائين عملاً بالروايتين السابقتين).

جمعَ المصنِّف بين الابتدائين. يعني: ابتدأ بالبسملة وابتدأ بالحمدلة. لماذا؟

(عملاً بالروايتين السابقتين) يعني: الجمع بين الحديثين أولى من أن يَعمَل بأحدهما ويَهجُر الآخر.

(وإشارةً إلى أنه لا تعارض بينهما) نعم لا تعارض بينهما؛ لأنه متى ما أمكن .. هذا بناءً على التسليم بصحة الحديث وإلا ما جاء في القرآن يكفي ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ)) [الفاتحة:1 - 2] وجرى على ذلك أهل العلم وهو محل إجماعٍ عملي.

ولذلك ذكر ابن حجر في الفتح قال: وقد استقر عمل الأئمة المصنِّفين على افتتاح كتب العلم بالتسمية، وهذا محل وفاق ولا إشكال فيه، لكن الكلام في الحديث.

قال: (وإشارةً إلى أنه لا تعارض بينهما) يعني: بين الحديثين.

(إذْ) للتعليل (الابتداء نوعان: ابتداءٌ حقيقي وابتداءٌ إضافي).

ابتداءٌ حقيقي هو الذي لم يُسبَق بشيء البتة ولا حرف. (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ) هل سبقه شيء؟ لا.

(2/8)

________________________________________

الابتداء الإضافي يعني: بالإضافة إلى ما بعده، بالنسبة إلى ما بعده، حينئذٍ الابتداء الإضافي هو الذي لم يُسبَق بشيءٍ من المقصود، وقد يسبقه شيءٌ من غير المقصود، فإذا قال: ((بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ)) [الفاتحة:1 - 2].

((الْحَمْدُ لِلَّهِ)) هل سبقها شيءٌ مما يتعلق بشرح الكتاب أو المنطق؟ لا لم يسبقه شيء، لكن هل سبقه شيءٌ آخر غير المقصود؟ نعم.

هذا يسمى ابتداءً إضافياً يعني: بالنسبة إلى ما بعده.

إذْ الابتداء حقيقي وإضافي، فالحقيقي حصل بالبسملة، والإضافي بالحمدلة جمعاً بين النصين.

(وقدَّم البسملة) هذا سؤال أو اعتراض، إذا أمكن الجمع بين النصين.

قلنا كلٌ منهما يصح الابتداء به، لماذا قدَّم البسملة وأخّر الحمدلة، لم لا يعكس؟ ما دام هذا ابتداءٌ حقيقي وهذا ابتداءٌ إضافي لماذا لا يعكس؟ يقول: الحمد لله رب العالمين، بسم الله الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله. يصح أو لا يصح؟

من حيث الجواز لا إشكال فيه، لكن من حيث الترتيب الشرعي الذي هو المستحب فيقدِّم البسملة ثم الحمدلة؛ اقتداءً بالكتاب، لأننا وجدنا الكتاب العزيز الذي هو القرآن جمعَ بين الابتدائين: الابتداء بالبسملة والابتداء بالحمدلة، وقدَّم البسملة على الحمدلة، وهذا محل وفاق.

قال: (وقدَّم البسملة عملاً بالكتاب والإجماع) لو قال: اقتداءً بالكتاب لكان أولى أو تأسياً بالكتاب "يعني: بالقرآن" حيث بدأ أول الكتاب بالبسملة ثم ثنَّى بالحمد ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2] أول آية في الفاتحة.

قال هنا: (واختار الجملية الفعلية على الاسمية هنا وفيما يأتي قصداً لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها على وجه الثبات والدوام).

قال: (نَحْمَدُ اللهَ) جاء بالجملة الفعلية، ولم يأت بالجملية الاسمية.

قال: (واختارَ الجملية الفعلية).

اختار يعني: قدَّم.

يعني: يجُوز الوجه الآخر وهو الجملة الاسمية، لكن اختارَ يعني: قدّم.

قدّم الجملية الفعلية يعني: المبدوءة بالفعل وهي: (نَحْمَدُ اللهَ) على الاسمية وهي: الحمد لله، وإن كانت هي الصيغة الشائعة، ولذلك جاء في القرآن دائماً في أول الآيات وفي خواتمها يأتي: والحمدُ لله رب العالمين، الحمدُ لله رب العالمين. يأتي بالجملة الاسمية.

لكن قد يُعدَل عن الجملة الاسمية إلى الجملة الفعلية لنكتة، ولذلك جمع بينهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبة الحاجة: إنَّ الحمدَ لله. هذه جملة اسمية.

"إنَّ" إذا دخلت على المبتدأ لا تخرجه عن أصله.

"إن الحمد لله" جملة اسمية، "نحمده" جملةٌ فعلية.

إذاً: لو كانت الجملة الفعلية هي عين الجملة الاسمية في المعنى والدلالة لكان هذا حشواً، إذاً: لا بد من الفرق بينهما، وإلا لقلتَ بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد زاد جملة هنا وهو أفصح البشر عليه الصلاة والسلام، فحينئذٍ نحكم عليه بكونها حشواً لأنها لا فائدة فيها، ولذلك نقول: الجملة الفعلية تغاير الجملة الاسمية.

الجملة الاسمية قالوا تدل بالوضع على مطلق الثبوت، والمراد بالثبوت الحصول.

لو قلت: زيدٌ قائم. دلت الجملة الاسمية على ثبوت قيام زيد، وعرفنا كيف أخذنا ثبوت قيام زيد.

(2/9)

________________________________________

زيدٌ قائمٌ: ثبوت قيام زيد. دلَّت على الحصول يعني: وُجد.

تَفهَم من هذا التركيب: زيدٌ قائمٌ. أنَّ زيداً لم يكن قائماً ثم قام، حينئذٍ نقول: دلَّت الجملة الاسمية على مطلق الثبوت والمراد به الحصول يعني: الإيجاد.

هل تدل على الاستمرار؟

الجواب: لا. لا تدل على الاستمرار.

اتَّصف زيدٌ بالقيام فقط، هل قيامه مستمر إلى زمن التكلُّم أو ما بعده؟ الجملة لا تدل على ذلك، هل هذا القيام مقيَّد بزمن؟ الجواب: لا. ليس مقيداً بزمن وإنما قائم إذا أردنا النظر فيه على حد ذاته فهو اسم فاعل ويدل على الحال فقط، قائمٌ يعني: في وقت، هـ قائمٌ هو زيدٌ، زيدٌ قائمٌ هو.

إذاً: الجملة الاسمية لا تدل على الزمن ولا تدل على التجدُّد، وإنما تدل على حصول الشيء بعد أن لم يكن .. اتصف زيدٌ بالقيام بعد أن لم يكن.

زاد هنا -كما قال هنا-: (على وجه الثبات والدوام) ولذلك لعله يمر بك أن الجملة الاسمية تدل على الدوام، الدوام هذا كيف نأخذه؟

يعني: زيدٌ متصفٌ بالقيام على جهة الدوام. أحدُ احتمالين:

إما أن يؤخذ هذا الدوام والثبات أن القيام استقر لزيد حتى يأتي دليل آخر يدل على أن زيد تركَ القيام، هذا المراد بالدوام هنا.

زيدٌ قائمٌ. إذاً: ثبت له القيام، فنحتاج إلى دليل آخر يدل على عدم القيام؛ على أنه تركَ القيام، من أين نأخذه؟

قالوا: من غلبة الاستعمال. يعني: أكثرُ استعمال العرب الجملة الاسمية للدلالة على الثبوت والدوام، الدلالة على الثبوت هذا لازمٌ لأنه في أصل الوضع. يعني: الحصول.

لكن بقرينة خارجية وهي غلبةُ الاستعمال نقول: تدل على الدوام، فحينئذٍ (الحمدُ لله) نقول: الحمد دائمٌ ما دام الله تعالى موجود وهو باقٍ. إذاً: الحمد هنا رُكِّب هنا وعُلِّق على لفظ الجلالة، الحمدُ هذا يُعتبر محمولاً وللهِ يُعتبر موضوعاً.

ولما كانت الذات مستمرة باقية أبد الآباد بصفاته جل وعلا وأسمائه ناسب أن يأتي بما يدل على الثبوت والدوام، لكن الثبوت والدوام ليس من أصل وضعِ الجملة الاسمية وإنما هو بغلبة الاستعمال.

والغالب عند أهل البلاغة يقولون: الجملة الفعلية أصلٌ للجملة الاسمية. يعني: الجملة الاسمية معدولة يعني: حُوِّلت الجملة الفعلية فصارت جملة اسمية، كيف؟

قالوا: أصلُ "الحمدُ لله": حمدتُ حمداً لله، حُذِف الفعل اكتفاءً بدلالة المصدر .. حُذف الفعل استغناءً عنه واكتفاءً بدلالة المصدر؛ لأنهما متحدان من حيث الدلالة، صار: حمداً لله.

النصب هنا يُشعر بوجود الفعل ونحن نريد أن يكون الفعل نسياً منسياً .. ذهب في خبر كان، إذاً: ماذا نصنع؟

قالوا: إذاً نعدل عن النصب إلى الرفع للدلالة على الدوام، فقيل: حمدٌ لله، ثم دخلتْ أل المعرِّفة فقيل: الحمدُ لله، هذا إذا صح أن يُقدَّر بهذه السهولة في هذه الجملة، لكن العشرات بل مئات الجمل لا يمكن أن تأتي بالجملة الاسمية وتكون معدولة عن الجملة الفعلية.

وإنما نقول الصواب -فراراً من التكلُّف والتعسّف-: أن الجملة الاسمية تدل بالوضع على مطلق الثبوت الذي هو الحصول وتدل على الدوام لكن من جهة غلبة الاستعمال، أما العدول هذا وإن أكثر منه البيانيون إلا أن فيه تكلفاً واضحاً بيِّن.

الجملة الفعلية تدل على التجدد والاستمرار.

(2/10)

________________________________________

أي جملة هذه؟ جملة فعلية يعني: مبدوءة بفعل، ومعلوم أن الفعل إما ماضي وإما مضارع؛ لأنه هو الذي يدل على الحدوث، أما صلِ لم يكن هو في المستقبل، قم هذا ليس الحدث موجوداً، إنما الذي يدل على وجود الحدث هو الفعل الماضي والفعل المضارع.

"قام زيد" ماذا تفهم لو قيل لك: قام زيدٌ، صلى عمروٌ؟

حدوث القيام، قام زيدٌ حدَث القيام، حدث بعد أن لم يكن .. نتركُ الزمن.

حدث بعد أن لم يكن، لم يكن قائماً ثم قام.

إذاً: هذا تجدُّد أو لا؟ تجدد. بمعنى أن زيداً لم يكن متصفاً بالقيام ثم كان.

فنقول: حدث له قيامٌ لم يكن، وهنا نقف نرجع إلى درس أمس قلنا: أنواع العلم الحادث.

الحادث قالوا: هذا احترازاً عن علم الله عز وجل، وهذا خطأ.

هل يَلزم من كون الشيء حادثاً أن يكون مخلوقاً؟ الجواب: لا.

حتى في اللغة حدث حادث المرور مثلاً تقول: شيءٌ لم يكن ثم كان، يسمونه حادث، سواء كان في الأرض أو في الجو .. حدث حادث يعني: لم يكن ثم كان، هذا معناه اللغوي والاصطلاحي.

هل يدل على أنه مخلوق؟ الجواب: لا؛ لأننا قد نصفُ بعض صفات الباري جل وعلا بأنها لم تكن ثم كانت، وهذا هو المعنى: لم يكن القيام ثم قام.

"قام زيدٌ" لم يكن متصفاً بالقيام ثم قام، هذا تغيُّر، قد يوجد هذا المعنى في صفات الباري جل وعلا، في صفات المخلوق، الحدوث هذا مخلوق لم يكن ثم كان، قيام فعلٌ له وهو حادث إذاً مخلوق.

لم يكن مستوياً ثم استوى. حدَث؟ حدث نعم، لم يكن ثم كان.

الآن نجزِم ونحن هنا بأن الباري لم ينزل النزول اللائق به جل وعلا في ثُلث كل ليلة، الآن نعتقد عدم النزول أو النزول؟ نعتقد عقيدة ما فيه شك لم ينزل، إذا جاء ثلث الليل الأخير نزل، إذاً لم يكن ثم كان .. لم يكن النزول ثم كان.

إذاً: العالم متغيِّر، وكل متغيرٍ حادث فالعالم حادث هذا فيه نظر، ليس بصحيح.

فقولهم: احترازاً عن علم الله عز وجل. نقول: هذا ليس مسلَّماً؛ لأن مرادهم أن الحدوث ملازمٌ للخلق والإيجاد، فكل حادثٍ فهو مخلوق.

ولذلك يقال: سبحانه الذي لا يتغيَّر. ويلتقطها بعض عوام أهل السنة .. سبحان الذي لا يتغير نقول: لا. هذا غلط، هذا على عقيدة الأشاعرة وليس على عقيدة أهل السنة والجماعة.

"قام زيدٌ" قلنا هذا فيه تجدُّد وهو عدم القيام ثم كان.

يقوم زيدٌ. ماذا تفهم منه؟ ثبوت القيام، وباعتبار التجدُّد: لم يكن القيام ثم كان.

إذاً: يتحد الفعل الماضي والفعل المضارع في الدلالة على التجدُّد بمعنى واحد وهو لم يكن ثم كان، ثم يزيد الفعل المضارع بالدلالة على الاستمرار، وهو الذي يُعنَى به بأن الجملة المضارعية تدل على التجدد والاستمرار، ومرادهم بالتجدد ليس هو التجدد الذي يدل عليه الفعل الماضي، الفعل الماضي كذلك يدل على التجدد لكن بمعنى: لم يكن ثم كان. وهذا القدر مشترك مع الفعل المضارع كذلك ولكن يزيد على الماضي بكونه يقع مرة بعد أخرى، فرْقٌ بين النوعين.

ولذلك قال: إن الحمد لله نحمده، حَمِد أولاً بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام لتعليق الحمد بالذات الدائمة المستمرة، ونحمده المراد هنا بالحمد المتعلق بالإنعام المتجدد مرةً بعد مرة، فحصل الفرق بين الجملتين.

(2/11)

________________________________________

هنا قال: (واختار الجملة الفعلية على الاسمية هنا) يعني: في الحمد وفيما يأتي، قوله: نصلي ونسأله لكن ليس بظاهر، الصواب أنه مخصوصٌ هنا، وأما نصلي ونحوه فهذا الأولى أن يقال بأنه للمُشاكلة فقط، لو أسقطه لكان أولى، والأولى في توجيه الاختيار فيها بمُشاكلته جملة الحمد لتناسُق الجُمل، ويحسن العطف.

قال هنا: (قصداً لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها على وجه الثبات والدوام).

والدوام هذا قيل: تفسيرٌ للثبات.

يعني: لماذا لم يأت بالجملة الاسمية؟ وهذا فيه تكلُّف وإلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الحمد لله، والصحابة يحمَدون الله تعالى، والتابعون كذلك، والقرآن أوله ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2] ففيه تعليمٌ للناس أن يقولوا: الحمدُ لله رب العالمين.

ولذلك قدَّر بعضهم في أول الفاتحة: قولوا: الحمد لله رب العالمين، والجملة في محل النصب.

إذاً لا إشكال فيه، لكن هذا التعسُّف من أجل الاعتذار عن المصنف.

قال: (قصداً) العدول هذا قصداً (لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها) لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام، فإذا حمِد وأثنى على الله تعالى بهذه الجملة هو عاجز لا يستطيع أن يُثني على الباري جل وعلا بما دلت عليه هذه الجملة، فعَدل عنها إلى ما يفيد التجدد تارة بعد أخرى، فقد يقع منه حمدٌ ثم يقف، ثم يقع منه حمدٌ ثم يقف .. إلى آخره.

لكن نقول: هذا فيه شيءٌ من التعسُّف لأنه مخالفٌ للسنة أصلاً، ومخالفٌ لتعليم القرآن.

(قصداً لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها على وجه الثبات والدوام).

وأتى بنون العظمة: نحمد، النون هذه تدل على المتكلم ومعه غيرُه إما حقيقة وإما ادعاءً، وهنا يحتمل أنه تكلم واستشعر معه غيرَه، من باب التواضع والانكسار، وأنه لا يستطيع بنفسه أن يحمَد الله تعالى، وإنما يُشرِّك معه غيره.

فنقول: لو شَرَّكت معك غيرك هل أعطيت الباري جل وعلا حقه من التعظيم والتبجيل؟ إذاً: فيه شيءٌ من التكلف.

قال: (إظهاراً لملزومها) الذي هو العظمة.

(الذي هو نعمة من تعظيم الله تعالى له بتأهيله للعلم امتثالاً).

يعني: ليس المراد هنا أن معه غيرَه، وإنما فيه شيءٌ من التعظيم: عظَّم نحمد الله، يعني: فيه إشارة إلى تعظيم نفسه، لماذا تعظيم نفسه؟

لأن الله تعالى هو الذي عظَّمه، عظّمه بأن جعله من أهل العلم، وقال تعالى: ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) [الضحى:11] ولذلك قال: (إظهاراً) أي: قصداً لإظهار ملزومِها الذي هو التعظيم.

ولا شك أن تعظيم الله تعالى للعبد بتأهُّله للعلم من أجل النعم، فيكون التعظيم من أفراد النعم. ففيه إشارة إلى هذا المعنى.

(إظهاراً لملزومها الذي هو نعمة من تعظيم الله تعالى).

من تعظيم. هذا بيانٌ للملزوم، فتكون العظمة لازمة والتعظيم ملزوم.

امتثالاً لقوله تعالى: ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) [الضحى:11].

ثم قال: (أي: نحمده حمداً بليغاً) أعاد نحمده لطول الفصل.

(نحمَده) يعني: نحمد الله تعالى أي: نُثني عليه الثناء اللائق به جل وعلا.

(2/12)

________________________________________

(حمداً بليغاً) أي: بالغاً غاية الكمال؛ حيث صدر عن كمال الحضور القلبي بحسب الظن يعني: حسن الظن بالمصنِّف، مع ما أفادته الجملة الفعلية التجدُّد والحدوث.

(عَلَى تَوْفِيقِهِ) ومر معنا التوفيق كلام ابن القيم رحمه الله تعالى: أن لا يكلك الله إلى نفسك. يعني: أن لا يُخلي بينك وبين نفسك؛ لأنه لو خُلِّي بينك وبين نفسك فإن النفس لأمّارة بالسوء.

والخذلان عكسُه: أن يكلك الله تعالى إلى نفسك، فيُخلي بينك وبينها. فحينئذٍ النفس تكون هي الآمرة والناهية، فإذا كان كذلك هلك الإنسان.

قال هنا: (أي خلقِه قدرة الطاعة فينا عكسُ) يعني: ضد "خلاف" (الخذلان، فإنه خلق قدرة المعصية).

وهذا بناءً على طريقة الأشاعرة، وهو المراد بالكسب، لذا قال هنا: أي الكسب المقارِن لها.

الاستطاعة والطاقة والقدرُ والوسعُ هذه ألفاظٌ متقاربة. يعني: إذا تكلَّم أهل السنة في هذا المقام قالوا: الاستطاعة مرادهم القُدرة، ومرادهم كذلك الطاقة، ومرادهم كذلك الوُسع.

فإذا جاء اللفظ في الكتاب والسنة بالوسع والقدرة .. كلها بمعنى واحد.

وتنقسم الاستطاعة -أي: القدرة- إلى قسمين عند أهل السنة والجماعة، وهو قول عامة أهل السنة والجماعة، أشار إلى ذلك التفصيل الطحاوي رحمه الله تعالى في قوله: والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق، الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به تكون مع الفعل.

وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكُّن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، إذاً: المسلم عنده استطاعتان: استطاعة مع الفعل لا يكون الفعل إلا بها، وهذه التي عناها المصنف وينفُون ما قبلها، واستطاعة قبل الفعل وهي كونُه أهلاً بالتكليف.

حينئذٍ عنده من سلامة الآلات ما يُقبِل على الصلاة، ما يُقبل على الحج ونحو ذلك.

هذه تسمى استطاعة أو لا؟ تسمى استطاعة، عند بعضهم لا تسمى استطاعة وهو الذي قدَّمه المصنف هنا.

قال هنا: وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)) [البقرة:286] يعني: ما في وسعها، والذي في وسعها هو الذي تقدِر على التلبُّس به.

فالعبد له قدرةٌ هي مناط الأمر والنهي، وهذه قد تكون قبله، لا يجب أن تكون معه، والقدرة التي بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرةٍ معدومة، وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع والتمكُّن وسلامة الآلات فهذه قد تتقدم الأفعال، وهذه القدرة هي المذكورة في قوله تعالى: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)) [آل عمران:97] إلى آخر الكلام الذي ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية فليُرجَع إليه.

والمراد هنا التشويش على المصنف فقط، ليس المراد تحقيق المسألة.

أي: (خلقِه قدرة الطاعة فينا عكس الخذلان، فإنه خلق القدرة المعصية) هذا تفسير الكسب عند الأشعرية.

قال: (وإنما حمِد الله على التوفيق أي: في مقابلته لا مطلقاً).

يعني: الحمد هنا مقيَّد أو مطلق؟ مقيّد (نَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى عَلَى تَوْفِيقِهِ) إذاً قيَّده.

أيهما أفضل الحمد المطلق أو الحمد المقيّد؟ قولان: منهم من قدّم المقيد، ومنهم من قدّم المطلق.

(2/13)

________________________________________

لكن ظاهر الكتاب والسنة التقييد كثير فيه .. في القرآن أكثر الحمد مقيّد.

قال هنا: (وإنما حمد الله على التوفيق أي: في مقابلته لا مطلقاً؛ لأن الأول واجب) يعني: المقيَّد (والثاني مندوب).

(الأول واجب) أي: اعتقاد كون النعمة من الله تعالى واجب.

(والثاني مندوبٌ) أي: يثاب عليه ثواب المندوب.

فقد ظهر أن الحمد المقيَّد أفضل من المطلق، ولأنه أكثرُ ما ورد في القرآن والسنة، وقيل: المطلق أفضل لصِدقه على جميع المحامد كلها معلومِها وغير معلومها. والحمد المطلق أن لا يلاحِظ شيئاً من النعم، والحمد المقيّد بأن يلاحظ نعمة معيّنة.

قال هنا: (وَنَسْأَلُهُ طَرِيقةً هَادِيةً) أي: دالّة على الطريق المستقيم.

(نَسْأَلُهُ) هذا الذي قال هناك، هنا وفيما يأتي نسأله، داء بالنون الدالة على العظمة، لماذا؟ للعلة السابقة، لكن الصواب أن يقال هنا: من باب المشاكلة يعني: ليوافق العطف. يعني: يعطف جملة فعلية مضارعية مبدوءة بالنون على سابقتها.

(نَسْأَلُهُ طَرِيقةً هَادِيةً) أي: دالةً لنا على الطريق، هذا بيان لمتعلَّقها لا تفسيرٌ لكلمة طريق في كلام المصنف.

قال: وفي نسخة (وَنَسْأَلُهُ هِدَايَةَ طَرِيقِهِ) وهذه أحسن لأنها مراعاة للسجع (عَلَى تَوْفِيقِهِ.

وَنَسْأَلُهُ هِدَايَةَ طَرِيقِهِ).

توفيقه .. طريقه. فهي أولى.

قال: (وَنُصَلَّي) كذلك جاء بالنون الدالة على العظمة للمشاكلة.

(عَلَى مُحَمَّدٍ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلنا: هذا علمٌ شخصي منقولٌ من حُمِّد المضاعف.

قال: (من الصلاة عليه) يعني: نصلي ليست الصلاة التي هي الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، وإنما المراد من الصلاة عليه المأمور بها في خبر {أَمرنا الله أن نصلي عليك. فكيف نصلي عليك؟

فقال: قولوا: اللهم صل على محمدٍ .. } إلى آخره.

(وَنُصَلَّي عَلَى مُحَمَّدٍ).

قال: (من الصلاة) يعني: مأخوذةٌ من الصلاة، وقيّد بالظرف (من الصلاة)؛ لإخراج الصلاة بمعنى الأقوال والأفعال، ولإخراج الصلاة بمعنى الرحمة.

وقوله: (المأمور بها في قوله كذا) نقول: قبل ذلك قوله تعالى: ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [الأحزاب:56] فحينئذٍ نقول: صلَّوا. هذا أمرٌ، وجاء النص في الخبر المذكور الذي ذكره المصنّف، فحينئذٍ امتثالاً لهذين الأمرين في الكتاب والسنة نقول: نصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولذلك قدَّمه المصنف وهو يعتبر من الأمور الواجبات في مقدمة الكتب كما مر معنا.

قال: {فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمدٍ .. } إلى آخره.

قال المحشي هنا: وهو كما في رواية ابن سعدٍ رضي الله عنه قلت: {يا رسول الله! أَمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فسكت ثم قال .. } الحديث.

وفي رواية: {عرفنا كيف نسلِّم عليك فكيف نصلي؟}.

هذا أخذ منه بعض أهل العلم أن الصلاة كما تكون في التشهد الأخير تكون كذلك في التشهد الأول؛ لأنه هنا ليس فيه تفصيل قال: {إذا نحن صلينا} إذاً: ما قيَّد، هل الصلاة تكون في التشهد الأول أو تكون في التشهد الثاني؟

(2/14)

________________________________________

حينئذٍ جاء الاحتمال، الاحتمال قائم والسؤال وارد، وتركَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاستفسار، هذا يُحمل على العموم.

وَنَزِلَنَّ تَرْكَ الاِسْتِفْصَالِ ... مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ

 

حينئذٍ يعم النص يعني: يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأول بعد السلام، ويصلي في التشهد الأخير. وهذا مذهب بعض أهل الحديث وهو اختيار الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى وكذلك الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، وهو ظاهر النص أنه يُصلَّى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأول والثاني.

وأما أنه {كأنه قاعدٌ على جمرٍ} الحديث ضعيف هذا، ثم لو صحَّ لا يدل على أنه لا يُصلَّى وإنما يُكتفى بالسلام، وإنما يدل على الخفَّة كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في ركعتي الفجر: {لا أدري هل قرأ بأم الكتاب أم لا} هل معنى ذلك أنه لا يقرأ بالفاتحة في ركعتي الفجر السنة؟ يعني: تقول: لا أدري هل قرأ بالفاتحة أم لا؟

يدل ذلك على الخفَّة فقط "السرعة يعني" تكون خفيفة، كذلك لو صلى في التشهد الأول يكون خفيفاً إذا صحَّحنا الحديث.

قال: (وهي من الله رحمةٌ).

(وهي) يعني: الصلاة.

(من الله رحمةٌ) لعبده.

(ومن الملائكة استغفار، ومن الآدميين تضرعٌ ودعاء) دعاء هذا عطف وتفسير، وهذا هو المشهور وهو ما حكاه الجوهري عن أئمة اللغة، ولكن ذكر أبو العالية معلَّقاً في البخاري {صلاةُ الله تعالى على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى}.

ولابن القيم رحمه الله تعالى كلامٌ كثير في هذه المسألة.

(وَعلى عِتْرتِهِ) عِتْرتِهِ بالمثناة فوق.

(أي: أهلُ بيته لخبرٍ وردَ به).

يعني: يُفسّر عِتْرتِهِ –العترة- بأهل بيته، قال: (هم عليٌ وفاطمة والحسن والحسين، أمهات المؤمنين، وقدّم هذا لوروده في الحديث.

وقيل: أزواجُه وذريته، وقيل: أهله وعشريته الأدنَيْن، وقيل: نسله ورهطه الأدنين. وعليه اقتصر الجوهري).

على كلٍ المسألة فيما يتعلق بالعِترة مسألة فقهية يتعلق بها مسألة الزكاة وغيرها، وذكر أقوالاً هنا.

قال هنا: (الأدنين) هذا قيدٌ لإخراج الأباعد (أهله وعشريته الأدنين) الأدنين هذا جمع أدنى، ذكره في الحاشية في التصنيف.

(وقيل: نسلُه ورهطه الأدنين) كذلك فيه احتراز عن الأباعد.

قال: (أَجْمَعِينَ) تأكيد.

(أَمَّا بَعْدُ) هذا من المستحبات، وذكرناها في مقدمات الكتب.

(يؤتى بها للانتقال من أسلوبٍ إلى آخر).

يعني معناها الذي يؤتى به لأجله هو: أنه يُنتقل بها من أسلوبٍ إلى أسلوبٍ آخر، أُسلوب بضم الهمزة يعني: نوعاً من الكلام، وليس المراد هنا أسلوب المدح أو الأمر إلى أسلوب النهي أو العكس، أو العام إلى الخاص لا، ليس هذا مرادهم.

وإنما مرادهم أنه ينتقل من المقدمة إلى الشروع في المقصود، وعملُهم جارٍ على هذا .. أنه يؤتى بها في ذكر أو الانتقال من المقدمة يعني: انتهت المقدمة (أَمَّا بَعْدُ) فحينئذٍ تشرع في المقصود بعد ذكر (أَمَّا بَعْدُ).

وهذا أسلوب في المقدمة، لها أسلوب، وكذلك المقصود له أسلوبٌ خاص، فحينئذٍ لا إشكال في أن كلاً منهما أسلوب.

هذا أسلوبٌ يعني: نوعٌ من الكلام وهذا أسلوبٌ يعني: نوعٌ من الكلام، فلا إشكال فيه ولا اعتراض.

(2/15)

________________________________________

قال: (يؤتى بها) يعني: بلفظ (أَمَّا بَعْدُ) وهي السنة، وإن اشتهر: (وَبَعْدُ).

وهي سنة يعني: مستحبة عند المصنفين، وهي سنة كذلك نُقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(للانتقال من أسلوبٍ إلى آخر) يعني: من أسلوب المقدمة إلى أسلوب الشروع في المقصود، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي بها في خُطبه يعني: على ما هي عليه (أَمَّا بَعْدُ) فصارت سنّة من جهتين: شرعية وسنّة اصطلاحية.

قال: (والتقدير: مهما يكن من شيءٍ بعد البسملة وما بعدها).

(أَمَّا) هذا حرف شرطٍ وتفصيل، لكن التفصيل ليس لازماً لها في جميع أحوالها واستعمالاتِها، فهي هنا لمجرد التأكيد وهو تحقُّق وجود ما بعد الفاء لا محالة؛ لأنه عُلِّق على محقق الوقوع سواء جُعل بَعْدُ من متعلقات الشرط أو الجزاء، هذا أمّا، وهي ضُمِّنت معنى الشرط. ولذلك لزمها الفاء في الجواب.

(أَمَّا بَعْدُ. فَهذِهِ) الفاء هذه واقعة في جواب الشرط، أين الشرط؟

نقول: أمَّا مضمنة معنى الشرط؛ لأنها نائبةٌ عن: (مهما يكن من شيء) مهما، يكن، من شيء. هذه ثلاثة أشياء.

حُذِفت مهما، مهما هذا اسم شرط، وحُذف فعل الشرط، وحُذف ما تعلَّق به وهو قوله: من شيء.

وأُنيبت أمَّا مُنابها، ولذلك قال ابن مالك: أَمَّا كَمَهْمَا. أما مثل مهما ليست مثلها في الاسمية، أمّا هذا حرفٌ باتفاق، ومهما فيه خلاف والصحيح أنه اسم.

إذاً: أَمَّا كَمَهْمَا يعني: مثلها في الشرط.

قال هنا: (والتقدير: مهما يكن من شيءٍ بعد البسملة وما بعدها) من الصلاة، والسلام .. ونحو ذلك.

(فَهذِهِ) الفاء واقعة في جواب الشرط.

هنا المصنّف فيما مضى -ما نبّهنا عليه- قال: نصلي ولم نقل ونسلّم، والمشهور عند كثير من المتأخرين أن إفراد الصلاة عن السلام مكروه والعكس بالعكس، فهل وقع في المكروه؟ نقول: الجواب: لا؛ لأن الصحيح أنه لا يُكرَه إفراد الصلاة عن السلام، يصح أن نقول: صَلَّى اللَّهُ على محمد. يصح وبدون كراهة، ولا إشكال فيه.

ويصح أن نقول: سلَّم الله على محمد، سلّم تسليماً. لا إشكال فيه، لا نقول بالكراهة.

وأما ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا)) [الأحزاب:56] نقول: هنا جمع بين أمرين، كما قال: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) [النور:56] فالمراد هنا المقارنة في الذكر كما قال: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) [النور:56] الواو دلَّت على المقارنة في الذكر يعني: ذُكِرا معاً.

كذلك ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا)) [الأحزاب:56] يعني: اجمع بين الأمرين.

ولا تعرُّض هنا لكراهة ولا غيرها، إن جَمع بينهما لا شك أنه كمال الامتثال، لو ترك أحدهما حينئذٍ نقول: لا إشكال فيه ولا نقول بالكراهة؛ لأن الكراهة هذه نهيٌ خاص. أين دليل النهي؟ من أين أخذتَه؟

إن أخذه من الجمع من الواو نقول: هذه دلالة اقتران، ودلالة الاقتران في الأصل أنها ضعيفة، لكن ليس مطلقاً.

(2/16)

________________________________________

دلالة الاقتران ضعيفة في الأصل، لكن قد يحتف بها قرينة فيُعمل بها كما إذا وقع على المقترِنين خبر موحَّد .. إذا جمعت بين متعاطفات وحكمت عليها بخبر واحد، الأصل فيها دلالة الاقتران معتبرة، ولذلك ((إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ)) [المائدة:90] رجسٌ هذا خبر الخمر، وما عُطف عليه داخلٌ تحته.

الأصل في مقتضى اللغة وكذلك في الشرع أنه إذا حُكم على متعددٍ بحكمٍ واحد الأصل فيه الاستواء.

على كلٍ المراد هنا: التنبيه إلى أن دلالة الاقتران لا تؤخذ من هذا النص ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا)) [الأحزاب:56] فيقال بكراهة إفراد أحدهما على الآخر؛ لأن دلالة الاقتران ضعيفة في الجملة "يعني: في الأصل" وقد يحتف بها قرينة فيُعمل بها، وذلك فيما إذا حُكم على المقترِنات بحكمٍ واحد.

قال: (والتقدير: مهما يكن من شيءٍ بعد البسملة وما بعدها).

(فَهذِهِ) اسم الإشارة هنا قال: (المؤلفة الحاضرة ذهناً) يعني: الألفاظ الذهنية.

وإذا كان كذلك فحينئذٍ اسم الإشارة يكون مجازاً؛ لاستعماله في المعقول، والأصل أن يُستعمل في المحسوس، نقول: هذا زيدٌ، هذا الأصل في وضع الإشارة. يعني: لا يُستعمل في المعقولات، فإن استُعمل في المعقولات حينئذٍ نقول: هذا من قبيل المجاز.

(فَهذِهِ) (المؤلفة الحاضرة ذهناً، إن أُلِّفت بعد الخطبة، وخارجاً أيضاً) أي: كما أنها موجودة ذهناً فاسم الإشارة حقيقة حينئذٍ إن أُلِّفت قبلها.

هذا في التفصيل على المشهور.

والصحيح: أن المشار إليه ما في الذهن مطلقاً تقدَّمت الديباجة أو تأخرت؛ إذ لا حضور للألفاظ المرتبة ولا لمعانيها في الخارج.

إذا قيل: وجود ذهني ليس المراد أن هذه الألفاظ موجودة بذاتها في الذهن، وإنما المراد بها الملاحظة والاعتبار.

فالوجود الذهني عند بعض الحكماء: أنه يوجد لكل شيء مرسوم في الذهن "محسوس" وليس الأمر كذلك، وإنما المراد به: معانٍ قامت بالذهن -يعني: في الذهن- والمراد الملاحظة.

وإذا كان كذلك فلا إشكال في تسميته وجوداً ذهنياً.

قال: (فَهذِهِ رِسَالَةٌ) مبتدأ وخبر.

(رِسَالَةٌ) بكسر الراء مشتقةٌ من الرَسْلِ بفتح الراء وسكون السين، وهو الانبعاث على تُؤدَة يقال: ناقتٌ رَسْلٌ أي: سهلة السير.

(ففيه إشارة واضحةٌ إلى سهولة هذا المؤلَّف وقلّته كماً وإن عظُم كيفاً) لأن الرسالة في عُرف أصحاب التدوين: اسمٌ لأوراقٍ قليلة تحتوي على مسائل من العلم، لكنها من أنفس ما يُصنَّف في العلم، ومن أشد ما يزهد فيه طلاب العلم الآن ..

الرسائل المختصرات هذه من أنفس ما يُعتنى به؛ لأنها تشتمل على جمهور المسائل العلمية التي يكثر استعمالها. يعني: لو نظرت في الآجرومية أكثر ما يحتاجه الناطق المتكلم مما يتكلم به الكثير: مبتدأ وخبر وفعل وفاعل، ومتعلَّقات الجميع. تجدها كلها مفصَّلة في الآجرومية

وما قلَّ كالتنازع والاشتغال ما تجده؛ لأن التنازع قد يبقى الإنسان أيام هذا إن درى أنه قد تنازع عنده فعلان أو أكثر، حينئذٍ نقول: هذا قليل. فلا يحتاجه الإنسان.

(2/17)

________________________________________

ولكن هذه المؤلفات الصغيرة كالورقات، والآجرومية، والرحبية، والرسالة التي معنا .. هذه من يعتني بها عناية فائقة، يستحضرها استحضاراً. هذا ينطلق في العلم انطلاق كبير جداً، بخلاف الموجود الآن، يريدون العكس: فتح الباري، والمطولات، والألفية قبل أن يتقن الآجرومية، ويستعجل الآجرومية ومباشرة الألفية، لا بد من واسطة أو لا. على كلٍ تشويش .. الذهن مشوش عندهم.

فأقول: هذه الرسائل وإن صغُرت لكنها عظيمة لما اشتملت عليه من المسائل، فيحتاج الطالب أن يقرأها مرة ومرتين وثلاث وأربع .. حتى يضبطها حفظاً وفهماً، الفهم ليس بالهيّن.

يعني: لا يظن الظان أنك الآن تسمع هذا الكلام تفهمه مباشرة وانتهيت لا، بعض الفهوم تحتاج إلى تدرج يعني: قد تفهم فهماً عاماً ابتداءً، لكن الفهم العميق والغوص في المعاني هذا ما يأتيك، كمبتدئ تحلم إذا أردت أن تفهم كالمتكلم.

يعني: كتاب درسه المعلِّم قبل ثلاثين سنة ويعيده ويكرره تأتي أنت أول مرة تجلس وتريد تفهم مثله؟ يعني: لو نظرنا بمسألة عقلية هكذا صحيح؟ يعني: يدرس الآجرومية ويدرّسها عشرات السنين ثم تأتي أنت مباشرة ورِجل على رِجل وتريد .. ما فهمت الدرس، فيغضب ويمشي إلى آخره، أو يتكلم، هذا خطأ هذا غفلة.

لا يمكن أنك تفهم ابتداءً من أول مرَّة كفهم المتكلم، فهم المتكلم هذا طبَخ واحترق عنده. فمع السنين، ومع النظر، ومع التدريس، ومع التأليف، ومع الكتابة والإعادة، والنظر والمراجعة، والسؤال والنقاش نضجت المعلومات، ما تأتي هكذا في يوم وليلة.

فهذه الرسائل انتبهوا لا تزهدوا فيها يا إخوة، وأكثر ما ضيّع الطلاب الآن هو هذا: العزوف عن الرسائل، ما يريد ورقات يريد مراقي وكوكب .. مباشرة، ما فيه بأس صحيح. الهمّة لا بد أن تكون متعلقة بمعالي الأمور.

لكن هناك سلَّم، هناك طريقة لأهل العلم لا يمكن أن يصلوا إلى هذه المطوَّلات إلا بعد إتقان، لو نظرت في أول الحاشية التي بين يديك يقول: كتبتها للمبتدئين، وأنا كنت أريد أن أعلِّق عليها لكن الوقت.

كتبتها للمبتدئين، هذه الحاشية للمبتدئين، ونحن تركنا كل الحاشية، أحاول أني ما أطالع حتى لا أقرأ؛ لأن فيها تشتيت، المبتدئون السابقون يختلفون عن المبتدئين الحاضرين، بل لعل المتصدِّرين الآن كالمبتدئين السابقين، ما هو بعيد؛ لأنك تجد الآن بعض المتون المختصرات تُشرَح بشروح مطولات.

يعني: لو وجدت مثلاً الورقات. العبَّادي شرحها في مجلدين وحققها أربعة.

كذلك حاشية النفحات للجاوَى من أصعب ما يُقرأ، ومع ذلك تعتبر للمبتدئين.

حواشي إيساغوجي الموجود: العطَّار والذي معنا، هذا يُعتبر للمبتدئين؛ لأن المبتدئ في السابق ليس كالمبتدئ الحاضر، كان يترقى في دراسة المتن مرة ومرتين، وشرح وشرحين .. ثم إذا قرأ الحواشي هذه من أسهل ما يكون عنده، فإذا وصل إلى المطولات من أسهل ما يكون عنده.

(2/18)

________________________________________

ولذلك لو رجعتم إلى السير والتراجم تجدون أنهم كانوا يبرزون قبل العشرين، نحن نبدأ بعد العشرين، هم يبرزون ويتصدرون قبل العشرين يعني: العقلية مهما كانت هذا أمر فطري .. العقلية مهما كانت ابن عشرين هذا فيه شيءٌ من القصور، لكن مع ذلك بفضل الله عز وجل أولاً وآخراً عليهم، ثم بطريقتهم المثلى في التعلُّم استطاعوا أن ينتجوا.

السيوطي يقول في الأشباه: وكتبتُ رسالة في إعراب البسملة ومعانيها. وعمرُه تسع سنين، بلاستيشن يلعب تسع سنين عندنا.

خمسة عشر سنة الآن يعتبر نفسه صغير، يبتدئ العلم عمره ثمانية عشر سنة يقول: بدأت العلم وأنا صغير، كيف صغير؟ خلاص.

قال: (رِسَالَةٌ) وهي في عرف أصحاب التدوين: اسمٌ لأوراقٍ قليلة تحتوي على مسائل من العلم.

(لطيفة) رسالةٌ لطيفة يعني: حسنَة .. حسنةُ الوضع، بديعةُ الصنع.

(فِي المَنْطِقِ) في علم المنطق.

هذا تقييدٌ لموضوع الرسالة، في أي فن؟ قال: في علم المنطق.

هذا شروعٌ من المصنف -رحمه الله تعالى- فيما يتعلق بذكر بعض المبادئ العشرة، سيذكر التعريف والموضوع، وأظنه ذكر الثمرة، هذه مجموعة في قول الصبَّان:

إِنَّ مَبَادِي كُلِّ فَنٍّ عَشَرَةْ ... الحَدُّ وَالمَوْضُوعُ ثُمَّ الثَّمَرَةْ

وَفَضْلُهُ وَنِسْبَةٌ وَالْوَاضِعْ ... وَالاِسْمُ الاِسْتِمْدَادُ حُكْمُ الشَّارِعْ

مَسَائِلٌ وَالْبَعْضُ بِالْبَعْضِ اكْتَفَى ... وَمَنْ دَرَى الجَمِيعَ حَازَ الشَّرفَا

 

وهذه كذلك من الأشياء التي يُفرَّط فيها الآن، يعني يظن أن هذا تحصيل حاصل، اتركنا منه ندخل في الكتاب مباشرة! وهذا غلط، لماذا؟

لأنه مهما أُوتي الإنسان من ذكاء إذا لم يضبط -على جهة العموم- الفن الذي سيدرسه وفائدة الفن لن يمشي فيه، لن يستمر.

ولذلك من الأسباب أن الطالب يبدأ ويرجع، يبدأ ويرجع، يبدأ وينقطع .. إلى آخره، من الأسباب أنه لا يدري ماذا يطلب، فلا يعرف النحو، قد يدرس الآجرومية وينتهي قل له: ما هو النحو؟ صوِّر لي النحو؟ ما يستطيع أن يعبّر.

ما الفائدة؟ لا يستطيع أن يعبِّر.

كيف تطلب علم وتنتهي وتقرأ وتحفظ وأنت ما تعرف الفائدة المرجوَّة من هذا الفن، ما هي الثمرة.

الذي ينبغي أن يُعتنى في كل فنٍ أن يكون لك دراسة معيَّنة في كل فنٍ تدرسه على نمط هذه المسائل العشرة.

"إِنَّ مَبَادِي كُلِّ فَنٍّ عَشَرَةْ" والتي يسمونها مقدمة العلم، وما مضى الثمانية الأمور .. الأربعة المستحبات هذه مقدمة كتاب، وأما مقدمة العلم فيذكرون فيه الحد والموضوع.

قال: (في علم المنطق).

المنطق على وزن مَفْعِل.

قال في الإيضاح في شرح السلَّم: مصدر ميمي، وتلقاه البعض على أنه مصدرٌ ميمي.

وهذا فيه إشكال عندي، كيف يكون مصدراً ميمياً وفعلُه ينطق؟ منطِق مفعِل، كيف يكون مصدراً ميمياً وفعلُه المضارع على وزن يَفْعِل.

((هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ)) [الجاثية:29]، ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)) [النجم:3] إذاً من باب يَفْعِل، وباب يفْعِلُ -بكسر العين- المصدر الميمي منه على وزن مفْعَل ليس على وزن مفعِل؛ لأنك تقول: يفعُل يفعَل يفعِل. ثلاثة أبواب.

(2/19)

________________________________________

المصدر الميمي في الجميع مفْعَل، يفعُل المصدر الميمي مفْعَل، يفعَل المصدر الميمي مفعَل بالفتح، يفعِل كينْطِق المصدر الميمي منه مفْعَل، وهذا محل وفاق.

بقي اسما الزمان والمكان، اسم الزمان واسم المكان من يفعُل على وزن مفعَل كالمصدر الميمي.

وكذلك اسم الزمان والمكان من يفْعَل مفْعَل إذاً اتحدت.

إذاً القاعدة هكذا رتَّبها حتى تكون مرتَّب: يفعُل وهو أول الأبواب، المصدر الميمي واسم الزمان واسم المكان على وزن مفْعَل، لا فرْق، الثلاثة.

الباب التالي: يفعَل وهو متأخر، يفْعَل المصدر الميمي واسم الزمان واسم المكان على وزن مفْعل.

إذاً: اتحد البابان في الثلاثة الأبواب.

الإشكال في يفْعِل كينْطِق، المصدر الميمي كسابقه: مفعَل، الذي اختلف هو اسم الزمان واسم المكان على وزن مفْعِل.

إذاً: نطَق ينطِق مفعَل مصدرٌ ميمي، مفعِل هذا اسم مكان أو اسم الزمان، ولذلك الأولى أن نقول: منْطِق هذا اسم مكان وليس بمصدرٍ ميمي، وإن شاع كثير يقال: مصدر ميمي، لكن فيه إشكال الذي ذكرتُه.

إذاً الأولى أن يقال: إنه اسم مكانٍ؛ لأن المنطق يقال بالاشتراك في اللغة عندهم على ثلاثة أمور.

"بالاشتراك" يعني: يُطلق تارة على الأول، ويطلق تارة على المعنى الثاني الآتي، وتارة على المعنى الثالث.

لأن المنطق يقال بالاشتراك في اللغة عندهم على ثلاثة أمور:

الأول: يُطلق على الإدراكات الكلِّية كثيرة أي: على نفس الإدراكات.

الثاني: على القوة العاقلة التي هي محل صدور الإدراكات، ومر معنا هذا بالأمس قلنا: وآلتها العقل. ولا إشكال فيه .. القوة العاقلة التي هي النفس.

وقلنا الإدراك هو: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، ما معنى النفس؟ هي القوّة العاقلة التي هي محل الإدراكات، وآلتُها العقل.

حينئذٍ محلُ الإدراك غير العقل والعقل آلة ولا إشكال، تقول: زيدٌ يمشي. وصفتَ زيد كله ذاته بيمشي، صح الوصف أو لا؟ صح الوصف، لكن يمشي بيديه؟ برجليه.

إذاً آلة المشي الرجلان، ووصفتَ زيداً بكونه يمشي. إذاً لا إشكال فيه .. زيدٌ يمشي وآلة المشي الرجلان لا إشكال فيه.

النَّفس تدرك -التي هي النفس العاقلة- وآلتُها العقل، كما أن زيداً يمشي وآلة المشي الرجلان لا إشكال فيه، تأمل هذا المثال.

النوع الثالث أو الإطلاق الثلاث: على النطق والتلفظ؛ لأن الإدراكات هذه أمور معنوية داخلية، فإذا أراد الإنسان أن يكتفي بدلالة الألفاظ أو بما يسمعه أو بما يفكِّر فيه هو لنفسه لا يحتاج إلى تلفُّظ، وإنما يحتاج إلى تلفُّظ إذا أراد أن يخبر غيره، ولذلك اللفظ ومباحث الألفاظ هذه تعتبر متممة؛ لأن بحث المنطق في المعقولات، ولا يُشترط في المعقولات في إثباتها أن يحدِّث بها غيرَه وإنما هي ثابتة في نفسها، إذا أراد أن يعلِّم غيره فحينئذٍ لا بد من لفظٍ، فصار اللفظ وسيلة، ليس مقصوداً لذاته وإنما هو وسيلة.

ولذلك كل بابٍ في علم المنطق يتعلق بالبحث في الألفاظ وما يدور حولها، فهو بحثٌ في وسائل ليس بحثاً في المقاصد؛ لأن اللفظ غير المعقول، المعقول محله النفس فحينئذٍ لا يحتاج إلى اللفظ.

(2/20)

________________________________________

ولذلك نحن نقول -فيما مضى ويأتي إن شاء الله تعالى-: أن الإنسان إذا نظر حينئذٍ رتَّب أمرين فأكثر ليصل بهذين الأمرين المعلومين إلى مجهولٍ تصوري أو تصديقي، هذا لا يحتاج إلى لفظ، قد يحتاجه في نفسه ليرتب الأمرين، ثم يصل نتيجة ويكتفي بها، لكن إذا أراد أن يخبر لا بد من لفظٍ.

إذاً: المعنى الثالث: على النطق والتلفظ؛ لأن هذه الإدراكات إنما تبرز وتظهر بالنطق والتلفظ، فالتلفظ هو الذي يُظهِر هذه الإدراكات لأنك تدرك الأمر في نفسك أولاً ما الذي أدرانا أنك أدركت؟ عندما تُخبر باللفظ، فصار اللفظ وسيلة إليه.

قال هنا: (على الثاني والثالث يمكن اعتبار أن يكون المنطق اسم مكان).

إذا أطلقنا المنطق وأردنا به النَّفس العاقلة أو القوة العاقلة. منْطِق مفْعِل اسم مكان، وهذا لا إشكال فيه واضح.

(على النطق والتلفظ محلُّه) إذاً اسم مكان لا إشكال فيه، أما على الأول فلا؛ لأن الإدراك هو نفسُه المصدر الميمي.

ولذلك قال هنا -في الحاشية-: (المنطق يُطلق في الأصل على النطق اللساني، وعلى إدراك المعقولات.

وهذا العلم يقوِّي هذين المعنيين ويسلك بهما سبيل السداد، فلذا سُمِّي منطقاً).

هذا باعتبار المعنى اللغوي، أما في الاصطلاح عندهم فاختلفوا في حدِّه بناءً على اختلافهم في المنطق، هل هو علمٌ في نفسه أو أنه آلة لغيره؟

فاختَلف أهل التعريف بناءً على هذا الاختلاف، فإذا مر بك حينئذٍ تنظر: هل صدَّره بعلم أو صدَّره بآلة، بناءً على هذا الخلاف.

إذاً: هذا التعبير والاختلاف في التعبير من كونه عِلماً أو آلة هذا مبنيٌ على خلافٍ آخر وهو: هل المنطق علمٌ في نفسه أم أنه آلةٌ لغيره، ونحن نقول: لا خلاف بينهما، فقد يكون العلم آلة وهو علمٌ في نفسه.

ولذلك النحو مثلاً -باعتبار طالب العلم الشرعي-: وسيلة إلى الشرع، وهو علمٌ في نفسه مستقلٌ بكتبه وتعاريفه .. إلى آخره، وحينئذٍ كونه آلة لا ينفي كونه عِلماً بنفسه، كذلك هنا المنْطِق هو وسيلةٌ إلى الحكمة أو جزءٌ منها، ولا يلزم ألا يكون عِلماً في نفسه.

قال: (بناءً على اختلافهم في المنْطِق هل هو علمٌ في نفسه أم آلةٌ لغيره؟) هذا فيه نزاع.

(من قال: إنه علمٌ في نفسه عرَّفه بأنه: عِلمٌ يُبحث فيه).

صدّره بعِلمٍ، ثَم خلافٌ بماذا يُفسّر لفظ العلم في الحدود؟ هل يُفسَّر بالإدراك أو يفسّر بالقواعد والمسائل، أو المسائل التي هي القواعد والأصول، أو يفسَّر بالملكة؟

منهم من يحمله على الثلاثة المعاني، ومنهم من يحمله على الإدراك، ولكن إذا أردنا التخصيص حملُه على الثلاثة لا إشكال فيه؛ لأنه صار العلم يُطلق على الإدراك ويسمى علماً، وعلى القواعد ويسمى علماً، وعلى الملَكة وتسمى علماً. لكن إذا أردنا التخصيص فتقييده بالقواعد والأصول أولى.

(علمٌ) يعني: قواعد (يُبحثُ).

قال: (علمٌ يُبحثُ فيه) أي: في هذا العلم (عن المعلومات التصورية والتصديقية).

المعلومات التصورية نسبة للتصور يعني: المفردات.

والمعلومات التصديقية يعني: المُركَّبات، والمراد بالمركبات هنا التامة يعني: الجملة الاسمية والجملة الفعلية.

هذه معلومة يعني: موجودة عندك حاضرة في الذهن في القوة.

(2/21)

________________________________________

(عن المعلومات التصورية) يعني: المفردات التي معانيها قائمة بالنفس عندك.

والمعلومات التصديقية يعني: التراكيب، الجملة الاسمية والجملة الفعلية التي معانيها ومضامينها قائمة بالنفس، فلا إشكال فيها، ليس البحث في هذا، وإنما هذه وسيلة للوصول إلى شيءٍ آخر.

إذاً: نبحث في المعلومات التصورية والمعلومات التصديقية من أي جهة؟

قال: (من حيثُ) وهذا تقييد.

(من حيث إنها تُوصِل إلى مجهولٍ تصوري أو تصديقي).

وهذا سيأتي معنا إن شاء الله تعالى أن الذي يوصل إلى المجهول التصوري هو المعرِّفات وهو مر معنا كذلك بالأمس.

والذي يوصل إلى المجهول التصديقي هو الحُجة أو القياس أو البراهين. كلها بمعنى واحد.

البحث في هذين البابين هو بحث المناطقة، مُعرِّفات ولها مبادئ، وكذلك الأقيِسة لها مبادئ.

فكل ما يُذكر غير هذين البابين فهي متممة لهذين البابين، والبحث عنها يكون عن أحوالها الذاتية.

إذاً: ما هو المنْطِق من حيث كونُه علماً؟

(علمٌ) يعني: قواعد وأصول، (يُبحث فيه عن المعلومات التصورية) يعني: المفردات التي معانيها قائمة بالنفس.

(والمعلومات التصديقية) يعني: الجمل والتراكيب التي معانيها قائمة بالنفس ولا إشكال فيها، من أي جهة؟ من أنها موجودة؟ من أين أخذتَها؟ هل بينها ترابط؟ لا. ليست من هذه الحيثية.

من حيث إنها توصل إلى مجهول تصوري أو مجهولٍ تصديقي. يعني: نستفيد من هذه المفردات المعلومة التصديقية ومن هذه المركبات المعلومة التصديقية أن نصل بها على جهة معيّنة إلى استخراج معانٍ لمفردات مجهولة لا نعرفها، ونصل بها إلى مركباتٍ كذلك مجهولةٍ إلينا.

حينئذٍ المفردات على نوعين: مفردٌ معلومٌ عندك، ومفردٌ مجهول لديك. المركبات منها ما هو معلومٌ عندك، منه ما هو مجهولٌ لديك.

فحينئذٍ المعلوم من النوعين على تركيبٍ معيَّن تدرسه في باب المعرِّفات والأقيسة، تصل بهما إلى المجهول في المفردات والمجهول في التصديقات.

وقيل "تعريف آخر": المنْطِق علمٌ تُعرَف به كيفية الانتقال من أمورٍ حاصلةٍ في الذهن إلى أمورٍ مستحصلة. هو بعينه السابق.

علمٌ "يعني: قواعد" تعرِف بهذا القواعد ماذا؟

كيفية الانتقال من أمورٍ حاصلةٍ "يعني: معلومة" والأمور المراد بها هنا المعلومات التصورية والمعلومات التصديقية.

حاصلةٍ في الذهن "موجودة عندك" لن تتعب في إيجادها، إلى أمورٍ مستحصلة يعني: مطلوبة الحصول، ومطلوب الحصول والإيجاد لئلا يكون من باب تحصيل الحاصل يُشترط فيه أن يكون غير معلوم وإلا صار من قبيل تحصيل الحاصل وهو محال.

وهو معنى التعريف السابق لكن بعبارة أُخرى.

وأما باعتبار كونه آلةً "وهو الذي قدَّمه المصنف هنا" فيقال: المنْطِق آلةٌ قانونية تعصِم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ في الفكر.

آلة قانونية، والآلة ما يكون واسطةً بين الفاعل ومنفعله. قالوا: كالمنشار للنجار.

(2/22)

________________________________________

عندنا فاعل وهو النجار، وعندنا منفعل وهو الخشب نفسُه والآلة، إذاً: الآلة التي هي المنشار واسطة بين الفاعل وبين المنفعل الذي يَقبل، والمراد بالمنفعل هنا المراد به: معنى المطاوعة وهو ما يقبل الأثر، كما تقول: كسرتُ الزجاج بالحجر فانكسر الزجاجُ يعني: قَبِل الانكسار "رحَّب به" لكن بواسطة الحجر. فكلما كان الحجر حجراً كان الانكسار مقبولاً.

قال هنا: كالمنشار للنجار، ومعنى المنفعل هو معنى المطاوعة وهو ما يقبل الأثر، والفاعل هو الذي أحدث الحدث، والمنفعل هو الذي قبل الأثر كالزجاج بالنسبة للانكسار.

وعلم المنْطِق كيف يكون واسطة؟

يكون واسطة بين النفس العاقلة وبين المجهولات .. المطالب الكسبية، هذه القواعد واسطة، كما أن النجار يأتي إلى المنشار فيمسك، لا بد أن تكون المسكة لها طريقة ليس يمسك أي مسكة لا، لا بد أن يكون ماسكاً بطريقته المعروفة عنده، حينئذٍ صار المنشار واسطةً بين الفاعل وبين المنفعل.

طيب المنْطِق: قواعد وأصول، يكون واسطة بين النفس العاقلة وبين المجهولات، حينئذٍ لا بد للماسك أن يكون ماسكاً.

قال: وعلم المنْطِق كيف يكون واسطة؟ نقول: يكون واسطةً بين النفس العاقلة التي هي محلٌ للتفكير وبين المطالب الكسبية وهي الأمور المجهولة التصورية والتصديقية، التي نريد أن نصل إلى العلم بها، والنفس هي محل صدور الإدراكات، وتلك المجهولات نريد أن نصل إليها ونخرجَها إلى المعلومات.

والواسطة في ذلك هو فن المنْطِق، قواعد وأصول وقوانين تُطبَّق "يعني: تطبقها النفس" لتصل إلى إخراج هذا الأمر المجهول التصوري أو التصديقي من الجهل إلى العلم.

إذاً: لماذا سُمّي المنْطِق آلة؟ لأنه واسطةٌ بين النفس العاقلة وبين المطالب الكسبية.

آلةٌ قانونية؛ نسبةً إلى القانون، والقانون المراد به القاعدة، هو لفظٌ يوناني، لكن المراد به هنا القانون القاعدة والضابط والأصل هذه ألفاظ في الاصطلاح مترادفة، تصدق على شيءٍ واحد وهو قضيةٌ كليّة يُتعرَّف بها أحكام جزئيات موضوعها ..

(قضية) يعني: مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل.

(كليّةٌ) يعني: ليست جزئية.

(يُتعرّف بها) يعني: بواسطتها، (أحكام جزئيات موضوعها)، وهذا شأن القواعد كما هو معلوم.

إذا قلت: الفاعل مرفوع "كمثال" هذه قضية مبتدأ وخبر، الفاعل مرفوع.

كُلّيّة لأنها غير مختصة يعني: ليس مختصة بزيد أو عمرو أو بكر لا، وإنما الفاعل كل من أحدث فعلاً.

(يُتعرَّف بها أحكام جزئيات موضوعها) يعني: بواسطة هذه القضية الكُلّيّة إذا جعلناها مقدمة كبرى في قياسٍ مقدمتُه الصغرى الفرد الخاص، فإذا قلت: خالد أو زيد .. زيدٌ من الناس.

زيدٌ من قولك: جاء زيدٌ فاعل، هذه مقدمة صغرى هكذا التركيب: زيدٌ من قولك جاء زيدٌ فاعلٌ. كيف نثبت بأن زيداً من قولنا جاء زيدٌ فاعل؟ هذا يحتاج إلى دليل.

ما دليل المقدمة الصغرى؟ حدُّ الفاعل، تعريف الفاعل ينطبق عليه أو لا؟ تقول: جاء زيدٌ، زيدٌ اسم مرفوعٌ بعد الفعل، اختصاراً.

حينئذٍ نقول: إذاً زيدٌ من قولنا: جاء زيدٌ فاعل؛ لأنه ينطبق عليه حد الفاعل .. صدق عليه.

إذاً: دخل في حد الفاعل، إذاً: زيدٌ من قولنا جاء زيدٌ فاعل. هذا دليلها.

وكل فاعلٍ مرفوع أو الفاعل مرفوع.

(2/23)

________________________________________

إذاً: زيدٌ مرفوع، زيدٌ مرفوع هذه شخصية مخصوصة يعني: آحاد، تدخل تحت الفاعل مرفوع أو كل فاعل مرفوع.

إذاً: كل فاعل مرفوع هذا يسمى قاعدة كُلِّيّة ولها جزئيات، الجزئيات هي أفراد الموضوع المحكوم عليه، كذلك مطلق الأمر للوجوب .. إلى آخر ما يُذكر من قواعد.

قال: (تعصم) يعني: هذه القواعد.

والعصمة في اللغة: الحفظ فتحفظ الذهن عن الخطأ في الفكر.

والفكر في اللغة: حركة النفس في المعقولات، هو عبَّر بالذهن وإلا الأولى التعبير بالفكر.

وفي الاصطلاح: ترتيب أمرين معلومين يُتوصل بهما إلى أمرٍ مجهولٍ تصوري أو تصديقي، هذا مر معنا .. ترتيب أمرين معلومين.

كيف ترتِّب؟ هو الذي سيأتينا في باب المعرِّفات وفي باب القياس، الترتيب الذي سيذكره المناطقة، (بين أمرين معلومين) إما تصور وإما تصديق.

(يتوصل بهما إلى أمرٍ مجهول تصوري أو تصديقي) هذا الترتيب قد يكون صحيحاً وقد يكون خطأ فاسداً.

فإن رتَّبته على ما وضعه المناطقة من قواعد وأصول حينئذٍ تصل إلى النتيجة الصحيحة، وهو الذي مر معنا من كلام الشيخ الأمين رحمه الله تعالى: أن القياس في نفسه صحيح النتائج، بل قال: قطعي. لكن متى؟ إن رُكِّبت نتائجُه مستوفيةً لشروط الإنتاج على الوجه الصحيح. حينئذٍ يُنتج الفكر الصحيح.

وإن حصل فيه خلطٌ بتقديم وتأخير أو عدم استيفاء بعض شروط الإنتاج حصل الخلل في النتيجة، فصار فكراً فاسداً قطعاً.

إذاً: في نفسه هو صحيح، ولكن الخطأ إنما يعتريه من جهة المستعمل له لا من جهة نفسه أما نفسه فهو منتج.

فحينئذٍ تصل إلى النتيجة الصحيحة وإن لم ترتِّب تلك المعلومات على الترتيب المعهود عنده فحينئذٍ يكون الفكر ليس صحيحاً بل فاسداً.

ولذلك قال: (تعصم) يعني: تحفظ هذه القواعد الذهن والفكر عن الوقوع في الخطأ؛ لأن الفكر يحتمل الصحة ويحتمل الخطأ، ولذلك اختُصر حد علم المنْطِق فقيل: (علمٌ يُعرَف به الفكر الصحيح من فاسده) هذا سهل حتى في حفظه.

(علمٌ) يعني: قواعد وأصول.

(يُعرف به) يعني: بواسطة هذا العلم وهي القواعد والأصول.

(الفكر الصحيح من الفاسد).

إذاً: الفكر فكران: فكرٌ صحيح وفكرٌ فاسد، الذي يستوفي الشروط هو الصحيح والذي يخالف هو الفاسد.

قال هنا: (وهو آلةٌ قانونية) عرَفنا المراد، (تعصمُ) زاد قيداً وهو لا بد من زيادته وقد نبهنا عليه فيما مضى.

(تعصم) يعني: تحفظ.

(مراعاتُها) أي: تلك القواعد أو الآلة (الذهن عن الخطأ في الفكر).

زاد المراعاة؛ لأن العلم إذا لم تكن معه مراعاة "يعني: علم رعاية" حينئذٍ لا فائدة فيه، كما قلنا فيما لو حفظ الألفية ولا يُحسن الإعراب "سلامٌ عليكم" هذا لا يستفيد شيئاً؛ لأنه لم يمارِس النحو.

كذلك القواعد المنطقية لا فائدة منها من حيث أنك تحفظ دون أن تمارس، فحينئذٍ لا بد من مراعاتها بمعنى: أن تكون النفس قد مارست هذا الفن بحيث صار لها ملكة، هذه الملكة حينئذٍ يستوفي بها استعمال القواعد في مظانِّها دون تكلُّف، ولذلك ابتداءً الذي يُعرِب في الفاعل يَرفع مرة ويَنصب أخرى، وجار ومجرور .. ولكنه إذا اعتاد بعد ذلك حينئذٍ يستقيم لسانه، أما في البداية فيتعب قليلاً، ثم بعد ذلك يستريح.

(2/24)

________________________________________

كذلك القواعد المنطقية عند مراعاتها في التفكير ونحوه، أو النظر فيما كتبه أهل العلم من حيث تطبيق القواعد قد يتعب أولاً ثم بعد ذلك يستريح.

(تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ) قال في الحاشية: فصلٌ مخرجٌ ما عدا المنْطِقَ.

ومعنى تعصم: تحفظ.

مراعاتها: إشارة إلى أن نفس المنْطِق لا يعصم الذهن عن الخطأ، وإلا لم يقع من منطقي خطأٌ أصلاً، واللازم باطل.

فكثيراً ما أخطأ من لم يراعِ المنْطِق وهو عالمٌ به وحافظٌ لقواعده.

قوله: (الذهن) أي: القوَّة المهيئِة للنفس لمعرفة المجهولات التصورية والتصديقية.

قال: (وموضوعُه المعلومات التصورية والتصديقية).

وهذا فيه شيءٌ من الخلل؛ لأن موضوع المعلومات التصورية والتصديقية فقط هكذا لا، هي مقيَّدة: من حيث صحة إيصالها إلى مجهولٍ تصوري أو تصديقي، لا بد من زيادة هذا القيد.

(المعلومات التصورية والتصديقية) زِد عليه: من حيث إنها توصل إلى المجهول، أو يكون لها نفعٌ في ذلك الإيصال.

(فن المنْطِق يبحث عن صحة الإيصال لا مطلق الإيصال) مطلق الإيصال بأي استعمال استعملتَ القياس وصلت "هذا مطلق إيصال"، سواءٌ استعملت المنْطِق على الوجه الصحيح أو على الوجه الخطأ بقطع النظر عن النتيجة صائبة أم خاطئة.

حينئذٍ نقول: هذا مطلق إيصال. وليس هذا المراد، وإنما المراد صحة الإيصال ليس مطلق الإيصال، يعني: أن تصل تركِّب هكذا من عندك لا، وإنما صحة الإيصال. إذاً: هذا قيدٌ لا بد منه.

قال: (فن المنْطِق يبحث عن صحة الإيصال لا مطلق الإيصال).

(لأن الخطأ في الفكر هو وصولٌ) من أخطأ في الفكر كذلك وَصَل، رتَّب مقدِّمات ظن أنها موصلة، حينئذٍ وصل، لكن وصل بصحة أو خطأ؟ خطأ، والمنْطِق لا يبحث عن هذا، وإنما يبحث عن صحة الإيصال لا مطلق الإيصال، فإن من ركَّب تركيبات أوصلته إلى خطأ في النتيجة ولو ظن صحتها وأخطأ في النتيجة، المنْطِق لا يبحث عن هذا، وإنما يبحث عن صحة الإيصال بحيث أنه يلزم من ترتيب هذه المقدمات هذه النتيجة الصحيحة، فإن أخطأتَ فحينئذٍ نقول: لم تستعمِل القواعد المنطقية على وجهها الصحيح فقد أخطأتَ في الاستعمال.

(لأن الخطأ في الفكر هو وصولٌ) لكنه وصولٌ من جهة ترتيبٍ لمقدِّمات لم تقع على الوضع السليم، حينئذٍ هو وصولٌ، احترازاً من هذا نقول: موضوع فن المنْطِق المعلومات التصورية والتصديقية من حيث صحة الوصول إلى مجهول تصوري أو تصديقي.

والذي يُوصل إلى المجهول التصوري هو المعرِّفات، وليس له طريق إلا هذا عن المناطقة، والذي يوصل إلى المجهول التصديقي هو الأقيسة والبرهان. وليس لهم إلا هذا الطريق فقط.

قال هنا: (وفائدته الاحتراز عن الخطأ) هذا واضع من التعريفات السابقة.

(وفائدته الاحتراز عن الخطأ في الفكر).

فَيَعْصِمُ الأَفْكَارَ عَنْ غَيِّ الخَطَا ... وَعَنْ دَقِيقِ الفَهْمِ يَكْشِفُ الغِطَا

 

نزيد بعض المواضع، قال: (وفضلُه) هل له فضلٌ أم لا؟

يقولون -وأنا حاكي-: (كونه عام النفع تتوقف عليه سائر العلوم) هذا فيه شيءٌ من الغلو، لذلك سمَّاه الغزالي معيار العلوم يعني: الميزان الذي يُعرف به صحيح العلم من فاسده هو فن المنْطِق. وهذا لا يُسلَّم.

(2/25)

________________________________________

ولذلك قال في الكلمة الجائرة: من لا علم له بالمنطق لا ثقة في علمه. وهذا ليس بصحيح، هذا غلو.

سمَّاه: معيار العلوم وميزان العلوم، وكل علمٍ سواءٌ كان من الوحيين -من الكتاب والسنة- والعقيدة والنحو وأصول الفقه .. وغيرها، كلها متوقفةٌ على هذا الفن، لذلك عظَّموه أكبر من حجمه، وهذا التعظيم لا يُسلَّم، وإذا عظَّموه وأخطئوا نترك المنْطِق ونمشي ولا ندرسه؟ نقول: لا.

ندرُسه ونحترز عن هذا الخطأ وهو: أنه قد رُفِع فوق شأنه، وإنما نستفيد منه بالفائدتين المذكورتين السابقتين.

(نسبتُه لسائر العلوم: أعم مطلقاً، فكلُّ فنٍ داخلٌ تحت فن المنْطِق).

نعم هذا صحيح (كل فنٍ فهو داخلٌ تحت فن المنْطِق). كيف؟ كل علم يبحث في تصوُّرات وتصديقات، يبحث في معنى العام، معنى الخاص، معنى الناسخ .. ثم يُثبت لها أحكام.

البحث في التعاريف هذا يسمى تصورات، البحث في إثبات الأحكام لهذه التعاريف تصديقات.

إذاً: كل علمٍ فهو مشتمل على تصورات وتصديقات، لكنها تصوراتٌ خاصة وتصديقات خاصة، وكذلك عند النحاة والفقهاء والمحدِّثين كلهم يبحثون في التصورات لكنها خاصة، وفي التصديقات لكنها خاصة.

بحثُ المنْطِق يبحث في مطلق التصور من حيث هو، ومطلق التصديق من حيث هو. إذاً: صار أعم، فكل فنٍ صار داخلاً تحته؛ لأنه إذا جاء يعرِّف هناك لا بد أن يعرِّف على طريقة المناطقة.

وإذا أراد أن يثبت على أنها قاعدة كليَّة مطّردة لا بد أن يُثبت على طريقة المناطقة، فدخل كل فنٍ تحت المنْطِق.

من هذه الحيثية لا إشكال فيه ولا نزاع، ولكن كونه يفتقر إليه من حيث القواعد والتطبيق هذا فيه إشكال.

قالوا: لأن بحث الأصولي مثلاً يبحث عن الشيء الذي يتعلق به فن أصول الفقه، والعلم نوعان لا ثالث لهما: إما تصورٌ وإما تصديق.

فبحث الأصولي في التصورات والتصديقات هل هو من جهة الإطلاق أو من جهة ما يتعلق بفنه؟ الثاني.

فحينئذٍ صار كل تصورٍ أصولي داخلاً تحت التصور المنطقي، فبحثُ الأصولي في التصور الخاص، وبحثُ المنطقي في مطلق التصور.

بحثُ الأصولي في التصديقات الخاصة، وبحث المنطقي في مطلق التصديقات، ولذلك دخل تحته.

وَاشْتَهَرَتْ بِنِسْبَةِ العُمُومِ ... نِسْبَتُهُ لِسَائِرِ العُلُومِ

 

(الواضعُ) هذه فائدة هكذا، من هو واضع المنْطِق؟

قالوا: الفيلسوف اليوناني إِرَسَطَاطَاليس قيل: وُجد قبل المسيح بثلاثمائة سنة، وهو واضع هذا الفن.

قال عبد السلام:

أَوَّلُ مَنْ وَضَعَهُ اليُونَانِي ... فِي الكُفْرِ قَبْلَ مَبْعَثِ العَدْنَانِ

 

ثم جاء إِرَسَطُو -بكسر الهمزة وفتح الراء والسين وضم الطاء إِرَسَطُو هكذا وليس أُرُسْطُو-.

وهو يونانيٌ أيضاً؛ لأن الفنون أول ما توضع توضع عشوائية، ثم لا بد من ترتيبٍ وتفصيلٍ وتهذيبٍ وتحقيقٍ .. ونحو ذلك.

وجاء إِرَسَطُو هذَّب وعدَّل، ولذلك يسمى المعلم الأول. هذا في عهد اليونان، ثم بعد ذلك لما تُرجم في عهد المأمون هارون الرشيد ونُقل إلى العربية قيل: أول من وضعه في الإسلام الفارابي: محمد أبو نصر الفارابي.

ثُمَّتَ فِي الإِسْلاَمِ لِلْفَارَابِي ... حَكِيْمِ الاَتْرَاكِ أَخِي الإِغْرَابِ

(2/26)

________________________________________

وهذا الذي يُذكَر في هذا الباب، ثم الفارابي كتُبه قالوا ذهبت احترقت، وجد الآن من كتاب أو كتابين طُبعت.

فجاء الرئيس فأحيا الفتنة وأججها، ذهبت كتب الفارابي فأحياها .. سَن سُنة سيئة، حينئذٍ إذا أُطلق عندهم الشيخ انصرف إلى ابن سينا، وإذا أُطلق الرئيس انصرف إلى ابن سينا، وكثيراً ما يذكرونه باسمه لعله إجلالاً له إنما يقال: قال الرئيس، وهذا ما اختاره الرئيس، قال الشيخ .. إلى آخره.

قال هنا: فتبنى أبو علي حسين بن عبد الله بن علي البخاري المعروف بابن سينا المسمى بالرئيس، فإذا أُطلق الشيخ عند المناطقة هكذا: قال الشيخ فاعلم أنه ابن سينا، وابن سينا أعاد الفتنة فأجج كتب الفارابي فردها كما كانت توفي سنة 428هـ .. إلى آخر ما ذكره.

اسمه كما مر معنا المنْطِق.

ثُمْ اسْمُهُ يَدْعُونَهُ بِالمَنْطِقِ ... وَبِاسْمِ مِعْيَارِ العُلُومِ يَرْتَقِي

 

الاستمداد من العقل.

قال هنا: (أَوْرَدْنَا فِيهَا مَا يَجِبُ اسْتِحْضَارُهُ لِمَنْ يَبْتَدِئُ فِي شَيءٍ مِنَ الْعُلُومِ).

(أَوْرَدْنَا) أي: ذكرنا.

(فِيهَا) يعني: في هذه الرسالة، هو قال: (فَهذِهِ رِسَالَةٌ فِي فَنِّ المَنْطِقِ) وذكر المصنف الشارح بعض ما يتعلق بمبادئ العلم.

(أَوْرَدْنَا) أي: ذكرنا، والظرفية من ظرفية المدلول في الدال.

(فِيهَا) يعني: في هذه الرسالة.

و (أَوْرَدْنَا) هذه الجملة يحتمل أنها نعت للرسالة.

(مَا يَجِبُ) يعني: معاني.

(مَا) هنا اسم موصول بمعنى الذي يصدق على المعاني.

(يَجِبُ) اصطلاحاً يعني: لا شرعاً وهو كذلك، يجب اصطلاحاً يعني: لا شرعاً.

يعني: بحيث يوبَّخ إذا أخطأ أو لم يأت بها فحينئذٍ يوبَّخ .. يُعاتب، فإذا كان كذلك قالوا: يجب اصطلاحاً.

(اسْتِحْضَارُهُ) هذا فاعل (يَجِبُ).

(يَجِبُ اسْتِحْضَارُهُ) يعني: معرفتُه وملاحظته، والضمير عائد على (مَا).

(لِمَنْ يَبْتَدِئُ) يعني: يشرع.

أي: الشخص الذي أراد أو يبتدئ أو يشرع.

(فِي شَيءٍ مِنَ الْعُلُومِ) هل كل العلوم؟ هو ظاهر كلامه أنه كل العلوم، جميع العلوم حتى العقيدة، يجب وجوباً أن يشرع في فن المنْطِق (لِمَنْ يَبْتَدِئُ فِي شَيءٍ مِنَ الْعُلُومِ).

حينئذٍ "أل" هنا للاستغراق يعني: كل علم سواءٌ كان عقيدة أو غيره من الفنون.

ولكن بعضهم ذهب إلى أن المراد بأل هنا العهدية، والمراد بالعلوم هنا العلوم الحِكمية يعني: الحِكمة، إذا أراد الحِكمة فلا بد أن يُقدِّم، لكن هذا ليس هو، هذا مسلك العطَّار هكذا، وبَّخ من حمل "أل" هنا للاستغراق وقال: هذا غلط في الفهم، وإنما المراد بها العلوم الحِكمية، لكن هذا ليس بوارد.

لأن المصنف وصاحب الأصل ومن كتب من المتأخرين في المنْطِق إنما أرادوا ما يُستعمل في العلوم الشرعية، لم يريدوا بها علوم الحِكمة؛ لأن الأصل فيها قالوا التحريم، والخلاف الوارد إنما هو في تلك لا في هذا النوع. حينئذٍ كيف يُصرف العلوم هنا إلى الحكمة؟ هذا فيه شيءٌ من البُعد.

نحن ما نحمله على المتن، لو حملناه على المتن أشياء كثيرة خرجت، لكن باعتبار الشرح، باعتبار الشرح نقول: لا، مراد المصنف هنا إنما شرح ما يسلكه صاحب الأصل فيما يخدم الشريعة، ليس على العموم.

(2/27)

________________________________________

وإلا لو أردنا أنه على جهة الاستقلال، لو شرحنا متن إيساغوجي فقط، والماتن ليس له خبرة في الشرعيات لا إشكال فيه، لكن توجيه العطَّار كثير أنا أُثني على حواشيه ودائماً أنصح الطلاب بالنظر فيها وخاصةً في المنْطِق، لكن عنده شيءٌ من الجمود، وعنده أمر ثاني: أنه يقدِّس المناطقة الأصول: ابن سينا، والفارابي .. إلى آخره.

فيحمِل على من يسعى في تعديل وتطوير بعض المصطلحات المنطقية بأنهم خالفوا الأصول.

يعني: من أنت تخالف ابن سينا مثلاً إذا أراد أن يخصِّص، فكثيراً ما يتحامل على الشُرّاح وعلى المحشِّين بأنه جهلٌ، وما تأملوا، وما فكّروا.!! إلى آخره؛ بناءً على أنهم قد خالفوا ما اشتهر، حتى أنهم يسلكون مسلك متقدمين ومتأخرين، المنْطِق موجود المتقدم والمتأخر.

فإذا جاء المتأخر وخالف المتقدم، هناك من المتأخرين من يشن حملة على بعض المتأخرين لمخالفة المتقدمين كما هو الشأن في المصطلح الآن. هذا موجود والعطَّار منهم، يشن حملة كبيرة على من يخالف المتقدمين، حتى يُخَطئ التفتازاني أحياناً يقول: لا. هذا خالف المتقدمين، وهذا فيه شيءٌ من النظر.

قال هنا: (أَوْرَدْنَا فِيهَا) يعني: في هذه الرسالة.

(مَا يَجِبُ) وجوباً اصطلاحياً، عرفنا المراد بالاصطلاح هنا، بحيث يُحكم بإصابة من قام به وخطأ من لم يقم به، وفاعل (يَجِبُ): (اسْتِحْضَارُهُ) أي: معرفتُه وملاحظته والهاء عائدٌ على ما.

وذكَّره مراعاة للفظه وتنازَع (يَجِبُ) و (اسْتِحْضَار) في قوله: (لِمَنْ) .. يجب لمن - استحضار لمن، من باب التنازع.

حينئذٍ قدَّر للأول وحذَفه، وجعَل الثاني متعلقاً بالمتأخر.

فقد قال "تعليل هذا" عِلَّةٌ لقوله: (يَجِبُ اسْتِحْضَارُهُ) يعني: يجب استحضاره ما الدليل؟ قال الغزالي "يعني: أبو حامد" الملقَّب بحجة الإسلام وليس بحجَّة.

قال الغزالي: من لا معرفة له بالمنطق لا ثقة بعلمه.

إن كان المراد به العلم الشرعي الصحيح الصافي هذا كلام فاسد، إن كان المراد به ما دوَّنه المتأخرون الذين جعلوا المنْطِق في كثيرٍ من فنون العلم فحينئذٍ قد يقال بأنه على وجه التمام على ما ينبغي، نعم قد يقال بهذا، لكن ليس هذا مراده.

ولذلك اعتُرض عليه بالعقيدة والصحابة ونحوها، فقال: أولئك الأقوام كان علم المنْطِق لهم سجية وطبيعة، هذا يدل على أنه ما أراد المتأخرين، وإنما أراد عموم البشرية.

ولذلك قال بعضهم: من أُوتي علم الشريعة دون منطقٍ فهو من خوارق العادات.

نعم. من تعلم علم الشريعة يعني: الإمام أحمد من خوارق العادات، لماذا؟ لأنه بدون منطق، كذلك أبو هريرة وابن عباس حَبر الأمة في التفسير هذا أُوتي علم الشريعة ولا شك، هذا من خوارق العادات؛ لأنه استطاع أن يصل إلى النتيجة بدون واسطة "بدون آلة" كمن وُلِد له بدون زواج هذا مثلُه، فلا فرق بينهما! كله كلام فاسد لا نؤيده.

فقد قال الغزالي: من لا معرفة له بالمنطق لا ثقة بعلمه، وسمَّاه معيار العلوم أي: ميزانها التي تُعرَف بها الأفكار الصحيحة من الفاسدة؛ لعرضِها على قواعده، فما وافقها فصحيح وإلا ففاسد.

(2/28)

________________________________________

قال الشارح: (وحصرَ المصنف) يعني: الأبهري (المقصود في رسالته) المقصود في الرسالة من علم المنْطِق أو ما أراده من الرسالة .. من التأليف؟ الثاني.

يعني: (المقصود في رسالته) ليس هو المقصود من علم المنْطِق؛ لأن المقصود من علم المنْطِق هو اثنان –بابان-: المعرِّفات والأقيسة، وهو قد زاد على هذين البابين.

إذاً: لم يعتنِ بمقاصد علم المنْطِق.

فالمراد هنا: (المقصود في رسالته) لا يلزم من كونه مقصوداً من الرسالة أن يكون مقصوداً من العلم، فإن مباحث الألفاظ ليست من مقاصد علم المنْطِق، فقد جعلها المصنف هنا في أول بحثه، بل وجعلها مقصودة من الرسالة.

ولأن المراد بالمقصود من الرسالة ما عدا الديباجة، وبالمقصود من العلم مسائلُه كما قيل: إن حقيقة كل علم مسائلُ ذاك العلم. فخرجت المبادئ فإنها ليست مقصودةً بالذات، بل مما يَتوقف عليه المقصود، ومباحث الألفاظ ملحقةٌ بالمبادئ.

إذاً: كل بابٍ ليس هو المعرِّفات ولا الأقيسة فليس من مقاصد الفن البتة، إما أنه يتوقف عليه مباشرة أو بواسطة.

في خمسة أبحاث: بحثِ الألفاظ أولُّها، والدلالة كذلك.

والبحث أصله التفتيش في الأرض بنحو عودٍ ثم نُقِل إلى المسألة الخفية لعلاقة المجاورَة، والبحث في اللغة: الفصح والتفتيش.

والمراد هنا: إثبات النسبة الإيجابية والسَّلبية بطريق الاستدلال، فالمراد بالأبحاث المسائل مجازٌ من إطلاق اسم الحال وإرادة المحل؛ لأن المسائل والقضايا محلٌ لذلك الإثبات.

إذاً: المبحث الأول: بحثُ الألفاظ ومعه الدلالة.

الثاني: بحث الكُلِّيّات الخمس.

الثالث: بحث التصورات. ومراده به هنا المعرِّفات.

الرابع: بحث القضايا، ويتبعها التناقض والعكس .. وما سيأتي.

الخامس: بحثُ القياس.

هذه خمسة أبحاث.

(مُسْتَعِينًا بِاللهِ تَعَالى) (أي: طالباً منه المعونة على إكمالها) أي: إكمال الرسالة.

(مُسْتَعِينًا) حالٌ من فاعل (أَوْرَدْنًا).

(طالباً منه) يعني: من الله تعالى.

(المعونة) يعني: الإعانة.

(على إكمالها) أي: الرسالة.

خصَّه الشارح لقرينة المقام والاهتمام بما هو بصدده وإن كان حذفُ المعمول يفيد العموم.

(مُسْتَعِينًا بِاللهِ تَعَالى) على ماذا؟ ما قيَّده.

لكن قال: (على إكمالها) يعني: إكمال الرسالة فقيَّده بقرينة المقام، والأولى العموم.

(إِنَّهُ) هذا تعليل، لماذا استعنت بالله؟ (إِنَّهُ) أي: لأنه.

"إنَّ" بعد الخبر تُحمل على التعليل.

(إِنَّهُ) أي: إن الباري جل وعلا.

(مُفِيضُ) أي: معطي عطاءً كثيراً.

(مُفِيضُ) اسم فاعل أصله: مُفْيِض مُفعِل، أي: معطي عطاءً كثيراً.

(الْخَيْر وَالجَودِ) أي: العطاء على عباده.

(الْخَيْر) أي: ما فيه نفع.

(وَالجَودِ) أي: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي على وجهٍ ينبغي، عطفٌ خاصٍ على عام. يعني: عطَف الجود على الخير من عطْف الخاص على العام.

لعدم تخصيص الخير بما ينبغي، أما الجود فهذا بما ينبغي، لكن هذا لا يقال في شأن الباري جل وعلا.

أي: العطاء على عباده.

هذا (إِيسَاغُوجِي) هكذا قال المصنف أول ما قال: (إِيسَاغُوجِي).

وقدَّر له المصنف هنا مبتدأ محذوفاً: (هذا إيساغوجي)، (إِيسَاغُوجِي) هذا خبر لمبتدأ محذوف.

(2/29)

________________________________________

هو لفظٌ يوناني معناه الكُلِّيّات الخمس وهذا مر معنا: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام. هذه خمس هي الكُلِّيّات الخمس.

وهي من مبادئ المعرِّفات يعني: تُدرس قبل المعرِّفات؛ لأن التعريف يشتمل على كليٍّ، واحدٍ أو اثنين من هذه المذكورات.

هذا القول الأول: أن معنى إيساغوجي الكُلِّيّات الخمس، وهذا هو المشهور.

وقيل معناه: المَدخل أي: مكانُ الدخول في المنْطِق، وهذا وجهٌ كذلك مشهور .. القول الأول والثاني يعني: مقدِّمة.

(سُمي ذلك به) هذا قولٌ ثالث، كأن المصنف جعله تعبيراً أو تعليلاً لما سبق، لكن هو قولٌ ثالث.

(سُمي به باسم الحكيم الذي استخرجه ودوَّنه) يعني: هذا قولٌ ثالث.

وقيل: باسم متعلمٍ كان يخاطبه معلّمه في كل مسألة بقوله: يا إِيسَاغُوجِي! الحال كذا وكذا.

وذلك أن حكيماً استخرج الكليات الخمس وجعلها عند رجلٍ اسمه إيساغوجي -هذا كله قبل اليونان .. قديم يعني-، فطالعها فلم يفهمها، فلما رجع الحكيم قرأها عليه فصار يقول له: يا إيساغوجي الحال كذا وكذا، فسُمِّيت باسمه للمناسبة بينهما في الجملة. هذا هو المشهور.

أربعة أقوال وما عداها فهو تعسُّف، كونه مشتق من إيسا وأنا وأُغُوجي .. إلى آخره، كل هذا كلام لا أصل له.

قال هنا: (وفي نُسخ هذا الكتاب اختلافٌ كثير).

يعني: المتن قد اختُلف في نقله، ففيه تصحيفات وفيه خلاف، فإذا وَجدت في هذا الموضع -الكتاب- شيئاً يخالف متناً آخر أو شارحاً آخر لا تقُل: قد أخطأ زكريا الأنصاري، إنما تقول: هذه النسخة التي شَرح عليها.

ولذلك قال: (وفي نُسخ هذا الكتاب) يعني: متن إيساغوجي (اختلافٌ) وليس اختلافاً فحسب، بل (اختلافٌ كثير).

فإذا وَقفتَ على خلافٍ بين النُّسخ وبين الشُرَّاح فلا تقل: هذا أخطأ .. إلى آخره، وإنما تقول: لعله وقف على نُسخةٍ وشرح عليها، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!

(2/30)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

فنشرع هذه الليلة في التعليق على شرح زكريا الأنصاري في ما كتبه على متن إيساغوجي، وقد عرفنا في الدرس الماضي من اللقاء السابق ما يتعلق بأهمية النظر في هذا الفن، وأنه إذا نظر الطالب في بعض المتون مع شروحها، فحينئذٍ يُكتفى بها.

وهذا الشرح وإن كان صغير الحجم إلا أنه مشحونٌ بكثرة المسائل. يعني: مسائله كثيرة، مع أنه صغير، وإذا كان كذلك فحينئذٍ نحاول أن نقف مع الألفاظ؛ بحيث ندرس الكتاب دراسة نصيَّة، دراسة نصيّة بمعنى أنه يُنظر في كل لفظٍ على حدة.

وما كتبه المحشِّي هنا يُنظر فيه من حيث الانتقاء. يعني: بعض المسائل شرحُها يكون من الحاشية، وكذلك ما كتبه حسن العطّار في بعض المسائل وفي بعض المواضع، لا بد من ذِكره.

قال هنا في المقدمة، النسخة التي معكم فيها مقدمة من الناسخ وليست من صاحب الكتاب (قال سيدنا ومولانا العالم .. ) إلى قوله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ).

هذه الجمل إنما هي ثناءٌ من الناسخ أو من بعض الطلاب ونحو ذلك، وليست من الشيخ.

وهذا الكتاب كما هو معلوم ونص عليه هنا لأبي يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري الخزرجي السُنَيكي الشافعي، ولد سنة 824هـ وقيل: سنة 826هـ يعني: فيه خلاف يسير هل هو في سنة 824هـ أو 826هـ على خلافٍ يسير لهم.

والشارح معروفٌ عند الشافعية على جهة الخصوص، كما قال الشوكاني رحمه الله تعالى في ترجمته: له شرحٌ ومختصرات في كل فنٍ من الفنون.

يعني: ما ترك فناً إلا وألَّف فيه.

وهذه سمةٌ لجميع أهل العلم السابقين أنه يكون مشاركاً في جميع العلوم؛ لأن العلوم الشرعية يخدم بعضها بعضاً، ولا يُتصور في الواقع انفكاك العلوم الشرعية بعضها عن بعض، فالمفسِّر لا بد أن يكون محدِّثاً، والمحدث لا بد أن يكون مفسراً، والفقيه لا بد أن يكون أصولياً، والأصولي لا بد أن يكون نحوياً .. إلى آخره، فهي متلازمة بعضها يخدم بعض.

أكبر دليل يدل على ذلك: مثل هذه المصنفات، تجد شيخ الإسلام هنا -إن صح التعبير وهذا فيه نظر سنأتي علي- أنه ألّف في المنْطِق، وألّف في أصول الفقه، وألّف في التفسير، وألّف في الحديث .. وإلى آخره، يدل ذلك على أنه قد نظر في جميع الفنون.

له شرحٌ ومختصرات في كل فنٍ من الفنون توفي سنة 926هـ

من ضمن المسائل التي ذكرها هنا المقدم قال: (قال سيدنا ومولانا العالم العامل العلّامة، الحبر البحر الفهّامة، حُجّة المناظرين وحُلّة الطالبين، وقدوة العارفين ومربي السالكين، شيخ الإسلام والمسلمين، ذو التصانيف الحميدة والفتاوى المفيدة، والتآليف الجامعة النافعة، والأبحاث الساطعة القاطعة، زين المحافل فخر الأماثل، أبو الفضائل والفواضل أبو يحيى .. ) إلى آخره.

(أمتع الله بوجوده ونفع بعلمه وجُوده. آمين).

هذه الأوصاف كما ذكرنا ليست من نفس المؤلف رحمه الله تعالى؛ لأنه يُعتبر من تزكية النفس وهو بعيدٌ عن ذلك.

(3/1)

________________________________________

لكن يبقى النظر فيما يُطلق عليه أنه شيخ الإسلام، شيخ الإسلام والمسلمين هذا وصفٌ عام، بمعنى أنه يُطلق على من جمع بين علمي المنقول والمعقول، لكن يُشترط فيه أن يكون صحيح العقيدة، كما يقال: إمام. هذه يُشترط فيها أن يكون صحيح العقيدة بمعنى أن تكون عقيدته سلفية في باب الأسماء والصفات، في باب الألوهية وفي باب الربوبية؛ لأن هذا الوصف على إطلاق.

بمعنى أنه لا يشاركه فيه غيره، وبمعنى أنه يكون قدوةً للمسلمين، فإذا كان كذلك فلا بد أن يكون صحيح المعتقد وصحيح العمل، جمَع بين الأمرين.

وأما من كان متلبساً بعقيدة منحرفة فالأصح أنه لا يقال بأنه شيخ الإسلام ولا يقال فيه أنه إمام، إمام يعني: مؤتمٌ به يعني: يُقتدى به، وهذا إذا كان كذلك فلا بد أن يُقيَّد بأنه لا يُطلق هذا الوصف ولا يُتوسَّع فيه بأن يقال إمام إلا إذا كان صحيح المعتقد، وإن لم يكن كذلك فحينئذٍ لا يُطلق عليه.

قال: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ).

هذا الكلام من أبي يحيى زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى، وبدأ بالبسملة والحمدلة، والصلاة والسلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنهم يسيرون على أدبٍ معلوم في باب التصانيف، ولا بد أن يجمع بين أمورٍ ثمان: أربعة واجبة وأربعة مستحبة.

الواجبة: البسملة، والحمدلة، والشهادتان، والصلاة والسلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذه أربعة عندهم واجبة.

والمراد بالإيجاب هنا أو الوجوب الاصطناعي يعني: يُعاتَب أنه لم يذكر واحداً من هذه الأربعة.

الأربعة الأخرى مستحبة، كذلك استحباب اصطناعي بمعنى أنه على جهة الأولوية أن يأتي بها وهي: أما بعد. وهي سنة ثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وبراعة الاستهلال، وبراعة الاستهلال أن يذكُر شيئاً في المقدمة تُشعر بالمقصود كما سيأتي في قوله: سبيل التصور والتصديق.

والثالث: تسمية نفسه.

والرابع: تسمية كتابه.

هذه ثمانية أمور ينبغي العناية بها في التصانيف، أربعةٌ على جهة الإيجاب وأربعة على جهة الاستحباب:

البسملة، والحمدلة، والشهادتان، والصلاة والسلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذه أربعةٌ واجبة اصطناعياً.

وأما بعد، وتسمية نفسه، وكتابه، وبراعة الاستهلال. هذه أربعةٌ على جهة الاستحباب.

و (بسم الله الرحمن الرحيم) تكلم كما ترون المحشِّي هنا كغيره ممن صنّف في علم المنْطِق، يتكلمون عليها من جهة ما يتعلق بها من قواعد منطقية؛ لأن القاعدة عندهم: أنه ينبغي لكل متكلمٍ في فنٍ من الفنون أن يتبرَّك بذكر طرفٍ مما يتعلق بالبسملة في ذلك الفن، وتركُ ذلك يُعتبر قصوراً أو تقصيراً .. قصوراً في العلم أو تقصيراً في العمل بالعلم، ولا بد أن يذكر شيئاً مما يتعلق بالقواعد المنطقية.

ذكرُ شيءٍ يتعلق بالبسملة من علم النحو، ومن علم الصرف، ومن علم البيان لا شك فيه أنه ظاهر وهو واضحٌ بيِّن.

وأما من جهة علم المنْطِق فليس فيه أدنى مناسبة، فحينئذٍ الخوض في هذه المسألة على جهة ما قرره المحشّي هنا خوضٌ ليس فيه إلا التكلُّف والتعسُّف.

ولذلك قال العطَّار: التكلُّم عن البسملة من فن المنْطِق غير ظاهر المناسبة.

(3/2)

________________________________________

بمعنى أنه يقال بأن الباء هنا أصلية ومعناها للاستعانة فهي جزئيٌ، وكذلك لفظ الجلالة جزئيٌ، والرحمن عام والمعنى الكلي، وإذا قلنا بأنه عَلمٌ صار جزئياً .. إلى آخر ما يُذكر في الألفاظ المنطقية، تُطبق على هذه المفردات.

حينئذٍ هل ثَم مناسبة بين مفردات البسملة مع القواعد المنطقية؟

نقول: هم حاولوا أن يذكروا شيئاً من تلك القواعد على هذه البسملة، الظاهر أنه ليس بينهما مناسبة البتة.

فحينئذٍ كل خوضٍ يتعلق بالقواعد المنطقية تطبيقاً على البسملة فليس بظاهر البيان.

وبيانه: أن معنى التكلم على شيءٍ بعلمٍ من العلوم هو إجراء ذلك الشيء على قواعد ذلك العلم، وتطبيق قواعده عليه، وإنما يتم إذا كان المتكَلَّم عليه داخلاً تحت موضوع العلم المتكلَّم به.

وموضوع فن المنْطِق -كما سيأتي-: المعلومات التصورية والمعلومات التصديقية من حيث صحة الإيصال إلى مجهولٍ تصوري ومجهولٍ تصديقي، وهذا لو نظرنا فيه كما سيأتي حينئذٍ لا يتأتى الخوض في البسملة على هذا الوجه، فلا تدخل البسملة تحت موضوع المنْطِق؛ لأن علم المنْطِق مبناه على الإيصال، بل صحة الإيصال، ليس كل إيصال وإنما هو صحة الإيصال.

أن يصل بالمعلومات التصورية والتصديقية إلى مجهولات تصورية وتصديقية، أين هو من حيث البسملة؟ لا وجود له.

والبسملة أجزاؤها والنظر فيها إما أن يكون جزئياً يعني: ليس من المعاني الكُلّيّة ولا بحث للمنطقي في الجزئيات.

المنْطِقي الذي ينظر في الكُلِّيّات كما سيأتي إنما بحثه في الكُلِّيّات فحسب، وأما الجزئيات فلا يَنظر فيها إلا على جهة الاستطراد، بمعنى أنها تخدِم النظر في الكُلِّيّات.

إذاً: انتهينا من هذا الجانب.

فكل ما يتعلق بالبسملة من جهة الجزئيات فليس من بحث المنْطِقي، بقي الكُلِّيّات فحينئذٍ نقول: الكُلِّيّات هذه لها نظران: إما كُلِّيّات مطلقة لا بالنظر إلى صحة الإيصال إلى مجاهيل تصورية وتصديقية، أو بهذا القيد.

فحينئذٍ نقول: البسملة وما وُجد فيها من بعض الكلمات التي يقال بأنها كُلِّيّات نقول: ليست بهذا المعنى، بمعنى أنها لا تُستخدم هذه الكُلِّيّات للوصول إلى مجهولات تصورية أو تصديقية، حينئذٍ لا يمكن دخول البسملة تحت موضوع علم المنْطِق.

قال هنا: (وموضوع علم المنْطِق هو المعلومات التصورية والتصديقية من حيث إنها توصل إلى مجهولٍ تصوري أو تصديقي، فلا بحث للمنطقي عن المعاني الجزئية إلا استطراداً، ولا عن المعاني الكُلّيّة مطلقاً، بل من حيث الإيصال).

يعني: لفظٌ أو معلومٌ تصوري ومعلومٌ تصديقي، بالنظر فيه على ترتيبٍ معيّن، يصل به الناظر إلى مجهولٍ تصوري أو مجهولٍ تصديقي.

فحينئذٍ النظر في البسملة لا يكون إلا على هذا الوجه، ولا يتأتى فيه، لا يمكن إجراء القواعد المنطقية على البسملة، وبعضهم يرى أنها إذا كانت آية حينئذٍ يُمنَع للخلاف -إن صح الخلاف- في فن المنْطِق، حينئذٍ لو صح تطبيق بعض القواعد المنطقية على البسملة فالبسملة آية من القرآن، وحينئذٍ لا يصح إجراء القواعد المنطقية على الآيات القرآنية.

(3/3)

________________________________________

والصواب أنه يقال: فيه نظر. بمعنى أنه إذا صح الحُكم بكون المنْطِق علماً مباحاً في أصله، حينئذٍ نقول: لا بأس إجراء بعض القواعد المنطقية على الآيات، فنقول: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) [آل عمران:185] هذه كُلّيّة لا بأس أن نقول بأنها كُلّيّة، والكُلّيّة بمعنى أنه لا يخرج فردٌ من أفرد الموضوع عن تنزيل الحُكم الذي هو المحمول على كل فردٍ فرد، كما سيأتي في كلام المصنف عن العام.

قال: (وحينئذٍ فالبسملة بعضُ معاني ألفاظها جزئي، ثم مجرد كون المعنى كُلِّيّاً لا يكون موضوع المنْطِق لانتقاء قيد الحيثية المذكور) يعني: من حيث الإيصال. وسيأتي في كلام المصنف ما يتعلق بتعريف المنْطِق وموضوعه وفائدته.

إذاً: ما حشَّى به المحشِّي هنا من النظر فيما يتعلق بالبسملة من جهة كونها جزئيات أو كُلِّيّات، نقول: هذا غير ظاهر المناسبة؛ لأنه لا مناسبة بين المعاني المذكورة وبين فن المنْطِق؛ لأن الموضوع -موضوع فن المنْطِق- إنما هو في معلومٍ تصوري أو تصديقي مقيَّد. ليس مطلقاً.

والنظر هنا إما في جزئي ولا بحث للمنطقي في الجزئيات، أو في كُلِّي لا بهذا القيد، فحينئذٍ خرج عن فن المنْطِق.

قال المصنف رحمه الله تعالى بعد البسملة، وسيأتي لماذا بدأ في كلام صاحب المتن بالبسملة والحمدلة .. ونحو ذلك.

قال: (الحمد لله الذي منح أحبته باللطف والتوفيق، ويسَّر لهم سلوك سبيل التصور والتصديق.

والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمدٍ الهادي إلى سواء الطريق، وعلى آله وصحبه الحائزين للصدق والتحقيق).

هذا ذكَر فيه البسملة والحمدلة، وذكَر كذلك الصلاة والسلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك الشهادتين.

قد يقال: يُعتذر في مثل هذه أنه قد أتى بهما لفظاً. يعني: لم يَكتب تلك الشهادتين وإنما نَطق بهما.

وقوله: (ويسَّر لهم سلوك سبيل التصور والتصديق).

هذا فيه براعة استهلال، وهو أن يَذكر في المقدمة شيئاً مما يتعلق بالمقصود، والمقصود هنا هو التأليف أو التصنيف في فن المنْطِق، والبحث في التصور والتصديق إنما هو في هذا الفن.

وقوله: (وبعدُ) هذا من المستحبات، وسيأتي بحثه.

(الحمد لله) إذاً ثنّى بعد البسملة بالحملة لما سيأتي ذكره في الشرح، وسيأتي معنى الحمدِ في اللغة والعُرف.

(الحمد لله الذي منح) منح بمعنى أعطى، والذي هنا اسم موصول جاء به ليكون وُصلة، معلومٌ أن القاعدة عند النحاة: أن الجمل بعد المعارف أحوال، وبعد النكرات صفات.

إذاً: إذا جاءت الجملة بعد المعرفة فهي حال، إذا أراد أن يصف بالجملة ويخرجها عن كونها حالاً جاء باسم الموصول؛ ليَتوصل بأن يصف ما قبلها "يعني: الذي" بما بعدها.

لأنه لو قال: الحمد لله منح أحبته، قلنا: منح أحبته الجملة في محل نصب حال، لكنه لم يرد ذلك، وإنما أراد أن يصف ما قبل الذي بما بعده، وفرقٌ بين الوصف والحال.

إذاً: الذي يُتوصل بذكر الموصول إلى وصف المعارف بالجمل؛ لأنه لو لم نأت بالاسم الموصول لكانت الجملة التي هي صلة الموصول حالاً لا نعتاً، وليس هذا المراد ولذلك جاء بالذي.

(3/4)

________________________________________

كما يتوصل بلفظ أي لنداء ما فيه أل ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) [البقرة:104]، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) [البقرة:21] يا الناس هل يصح؟ لا يصح؛ لأنه لا يصح نداء ما فيه أل، فلا بد من وُصلة –توصيلة-: شيءٌ يجوِّز دخول يا على الاسم المحلى بأل، فحينئذٍ جيء بأي قيل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ)) [البقرة:104]، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) [البقرة:21].

حينئذٍ على المشهور أن الناس هو المنادَى، وقيل: أيُّ، وحينئذٍ جيء بأي هنا ليُتوصل بكون "يا" داخلةً على الاسم المنادَى وهو محل بأل.

كذلك ذي: مررت برجلٍ ذي مال، رجل مال لا يصح أن يقع مال نعتاً لرجل، وإنما يتوصل بذي بمعنى صاحب؛ لأن مال هذا اسم جنس، ولذلك يُشترط في ذي التي هي من الأسماء الستة أن تضاف إلى اسم جنسٍ ظاهر غير مُضمر؛ لأن الأصل في المجيء بها ليَتمكن المتكلم من أن يصف ما قبلها بما بعدها؛ لأن الصفات إنما تكون مشتقات.

وَانْعَتْ بِمُشْتَقَ كَصَعْبٍ وَذَرِبْ ... وَشِبْهِهِ كَذَا وَذِيْ وَالمُنْتَسِب

 

حينئذٍ ما فيه معنى المشتق كذي لأنها تُفسَّر بمعنى صاحب، نقول: جيء بها لأجل أن يُتمَكن من وصف ما قبلها بما بعدها، فلو لم يؤتَ بها لما صحَّ أن يوصف بالمضاف إليه تبعاً لأصلها.

ومعلومٌ أن الموصول مع صلته في قوة المشتق، كما هو القاعدة عند البيانيين.

ولذلك يصح أن يقال في مثل هذا التركيب: الحمدُ لله المانحِ، المانح هذا اسم فاعل يصح أو لا يصح؟ نقول: نعم يصح؛ لأنه من حيث المعنى والمدلول لا فرق بين المانح والذي منح، وإنما يُعدَل عن المانح إلى الذي منح لعدم وروده وجَعْلِه عَلماً على الباري جل وعلا، وهذا بناءً على أنه يصح أن يُخبَر عن الباري جل وعلا بلفظٍ لو لم يَرد في الكتاب والسنة، وأما إذا قُيِّد بأنه لا بد أن يكون وارداً فحينئذٍ لا بد من النظر في كل لفظٍ على حِدة.

فالأصل فيه: الحمد لله المانح، فحُذِف المانح لعدم وروده وجيء بصيغة تدل على الخبرية لا على العلَمية، فقيل: الذي منح.

إذاً القاعدة: أن الموصول (الذي) مع صلته (منح) في قوة المشتق، كيف في قوة المشتق؟

يعني: يصح أن تحذف الموصول مع صلته وتأتي باسم مشتق: اسم فاعل، أو اسم مفعول .. أو نحو ذلك، فيصح المعنى ويستويان من حيث الدلالة.

ومعلومٌ أن الموصول مع صلته في قوة المشتق أي: المانح، ولم يُعبِّر به لعدم وروده؛ لأنه إذا كان كذلك فهو اسمٌ، والأسماء معلومٌ أنها توقيفية، والصفات كذلك توقيفية، وإنما يُتوسع في باب الإخبار.

ولذلك يقال: بابُ الصفات أوسع من باب الأسماء، لماذا؟

لأن الاسم لا بد أن يأتي بلفظه ومعناه في الكتاب والسنة، فلا يؤخذ من الفعل ولا يؤخذ من المصدر.

وأما الصفات فتؤخذ من الأسماء، ويزيد عليها الفعلُ ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5]، الاستواء، كذلك المصدر ((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ)) [المنافقون:8]، ((إِنَّ بَطْشَ)) [البروج:12].

(3/5)

________________________________________

فحينئذٍ نقول: هذه زاد على مدلول الأسماء، فصار باب الصفات أوسع من باب الأسماء، وباب الإخبار أوسع من البابين، لماذا؟ لأنه قد يكون بما جاء في الكتاب والسنة وقد يَزيد عليه بما لم يرد وصح معناه، يزيد عليه بما جاء في الكتاب والسنة، فتقول: الصانع تُخبر عن الله عز وجل بأنه الصانع، من أين الصانع؟ ما جاء اللفظ هكذا الصانع وإنما جاء ((صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)) [النمل:88] فلو قال: الصانع صح أو لا؟ صح، لكنه لا يكون عَلماً وإنما يكون من باب الإخبار.

كذلك لو قال المتقن ((الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)) [النمل:88] فقال: المتقن. صح أو لا؟ صح.

إذا لم يرد في الكتاب والسنة كلفظ القديم، وأراد به معنى الأزلي صح أو لا؟

على اختيار شيخ الإسلام يصح، وكذلك ابن القيم رحمه الله تعالى، لكن في هذا المقام وهذا النوع الأولى أن يقال: بأن التوقُّف هو الأصل؛ لأن الأصل فيما يُطلق على الباري جل وعلا ما جاء به الكتاب والسنة لفظاً ومعنًى.

فما جاء به اللفظ فحينئذٍ لا إشكال فيه ويكون التصرف فيه من حيث القواعد اللغوية كالمستوِي، نزَل، ينزِل، فهو نازل .. إلى آخره.

يكون هذا واردٌ من حيث القواعد اللغوية لا من حيث ما نطق به الشارع.

وأما ما لم يرد كالقديم بمعنى الأزلي نقول: لفظ القديم ما جاء القِدَم في الكتاب والسنة، فالأصل فيه المنع أو التوقف. وأما جواز إطلاقه فهذا يحتاج إلى دليل.

إذاً: (الحمد لله الذي منحَ) لماذا عدل عن المانح إلى الذي المنح؟ لعدم وُروده .. لأنه لم يرد في الكتاب والسنة، والأسماء توقيفية كما أن الصفات توقيفية.

قال: (الذي منح) منح يعني: أعطى، يتعدى لاثنين بنفسه تارة، تقول: منحته درهماً، وتارة يتعدى للثاني بالباء كما عدَّاه الشارح هنا (الذي منح) هو (أحبته) هذا مفعول أول.

قال: (باللطف) هذا مفعولٌ ثاني، عدَّاه بالباء، وهذا واردٌ في لسان العرب.

سمَّيتُه "يعني: ولدي" زيداً، سمّيتُه بزيدٍ يصح أو لا؟ يصح.

"سميتُه" الضمير الأول تام نصبَه بنفسه، أو سميتُ ابني زيداً، فحينئذٍ زيداً بزيدٍ نقول: يجوز فيه الوجهان؛ لأن من الأفعال ما يتعدى إلى اثنين ويجوز أن تدخل الباء على الثاني ومنه منح، منحتُه درهماً وكما قال الشارح هنا وعدَّاه بالباء: (منح أحبته باللطف) يعني منح أحبته اللطفَ، فيجوز فيه الوجهان.

فلا حاجة حينئذٍ لتضمينه معنى خصَّ أو أَكرم، ما دام أن النوع هذا يتعدى بنفسه تارة وبالباء تارة أخرى، فيُحمل على القواعد اللغوية أولى من التضمين.

(الذي منح أحبته) أحبته، قال هنا في الحاشية: جمع حبيب .. فعيل بمعنى محبوب أو مُحِب.

أحبة أصله أفعِلة، أحبِبةٌ أفعِلةٌ، وأفعِلةٌ هذه من أوزان القلَّة.

أَفْعِلَةٌ أَفْعُلُ ثُمَّ فِعْلَهْ ... ثُمَّتَ أَفْعَالٌ جُمُوْعُ قِلَّةْ

 

وحينئذٍ أحبة نقول: هذا جمعُ قلّة أصله: أَحبِبةٌ، جمعُ حبيب، وحبيب يأتي بمعنى فاعل ويأتي بمعنى مفعول.

لكن على النوعين فاعل ومفعول يأتي على وزن مُحِب أو مُحَب خلاف ما ذكره المحشِّي، مُحِب بكسر الحاء ومُحَب بفتح الحاء، لماذا؟

لأن المشهور في هذه المادة أَحب، ويأتي لغة حَب.

حينئذٍ أحب يُحب فهو مُحِبٌ ومُحَبٌ، وحَب فهو حَابٌ ومحبوبٌ.

(3/6)

________________________________________

إذاً: فعيل بمعنى محبوب أو مُحِب، هذا جَمعَ بين اللغتين:

إما أن يقال: مُحِب مُحَب من أحب. وهذا المشهور وهو الفصيح.

وإما أن يقال: حابٌ فاعلٌ حابِبٌ أو محبوب، فيكون من الثلاثي الذي هو حَبَّ وهذا واضحٌ بيّن.

أحباب الله إما أن يراد بهم مطلق المؤمنين، كل مؤمن ويحبه الله تعالى، أو يراد به خواص المؤمنين، لكن الأول هو الذي يكون ظاهراً.

قال هنا: وأحبّه جمع حبيب، فعيل بمعنى مفعول أو فاعل أي: مُحِب أو مُحَب بفتح الحاء أو كسرها، فهو من الثلاثي المزيد يعني: أَحَبَّ.

أو حابٌ ومحبوبٌ إن كان من الثلاثي المجرد أعني: حبَّ، وهي لغةٌ في أحبَّ.

(منح أحبته باللطف) وهو الرأفة والرفق (والتوفيق) عطَفه عليه عطف مغايرة وهو كذلك.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد أجمع العارفون بالله على أن الخذلان أن يكلك الله إلى نفسك ويُخلّيَ بينك وبينها.

والتوفيق يقابله .. أن لا يكلك الله إلى نفسك، وإنما تكون الهداية هداية الإرشاد وهداية التوفيق.

قال: (ويسَّر لهم سلوك سبيل التصور والتصديق).

يسّر يعني: سهَّل، هذا تفعيلٌ من اليُسر وهو ضد العسر.

(يسَّر لهم) لمن؟ للأحبّة المذكورين، مطلق المؤمنين أو خواصهم.

(سلوك سبيل التصور) سلوك المراد به المرور والدخول، يقال: سلكتُ الشيء في الشيء سلكاً فانسلك أي: أدخلتُه فيه فدخل فيه، هذا على المشهور.

وفيه لغة أخرى: سلكتُه سلوكاً.

(سبيل التصور) سبيل يعني: طريق، والسبيل يُذكَّر ويؤنَّث، ومنه ((وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ)) [الأنعام:55] قراءتان والشاهد الذي معنا: ((وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ)) [الأنعام:55] القراءة المشهورة.

تستبينَ سبيلُ، سبيلُ هذا فاعل، تستبينَ أنتَ سبيلُ، قد يظن الظان هكذا لا، ليس هذا المراد، التاء هذه تاء التأنيث -تأنيث الفاعل- مثل: تضربُ هندٌ زيداً، "وَتَاءُ تَأْنِيْثٍ تَلِي الْمَاضِي"، وإذا كانت في المضارع تأتي أولاً: تضربُ هندٌ زيداً، تضربُ لماذا جاء بالتاء هنا؟ نقول: هذه التاء تاء التأنيث؛ لأن الفاعل مؤنث، ولا يصح أن يقال: يضربُ هندٌ إنما يقال: تضربُ هندٌ.

هنا الفاعل جاء مؤنثاً: تستبين سبيلُ الفاعل هنا مؤنث وهو مجازي التأنيث، حينئذٍ أنَّث الفعلَ قال: تستبينُ بالرفع، سبيلُ يعني: تظهر سبيل المجرمين. فلا يشكل كيف جاء تستبينُ والظاهر أنه للمخاطب وليس المخاطب به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه القراءة.

إذاً: "السبيل" الطريق يُذكَّر ويؤنث، ويُجمع المذكَّر على سُبُل بضمتين، والمؤنث على سُبُول.

قال هنا: (ويسّر لهم سلوك سبيل التصور والتصديق) هذا قلنا فيه براعة استهلال، براعة الاستهلال أن يأتي بشيءٍ مما يدل على المقصود، يعني يأتي بعبارة، يأتي بمصطلح في فن المنْطِق فيَذكُره في المقدمة ليُشير للقارئ ابتداءً أن هذا الكتاب في فن المنْطِق. وهو واضحٌ بيّن.

هنا المصنف لعله أراد أن يشير بالتصور والتصديق إلى كون المصنف "إيساغوجي" في كتابه لم يذكر باباً يُعتبر مقدمة مهمة في علم المنْطِق ابتداءً، هو ليس داخلاً في الموضوع لكنه لا بد منه، وهو ما يتعلق بتقسيم العِلْم إلى تصور وتصديق.

(3/7)

________________________________________

ولذلك عيَّن هذين اللفظين مع كون المناسب أن يَذكر مصطلحاً قد ذكره المصنّف، المناسب إذا أراد أن يأتي بما يشير إلى المقصود أن يأتي بلفظٍ أو مصطلح قد ذكره المصنَّف فيما يأتي، لكنه جاء بلفظٍ الذي هو يُعتبر تقسيماً للعلم ولم يَذكره المصنّف، لعله فيه فُسحةً للشارحين أن يذكروا هذا الباب في هذا المقام، وهذا الذي سنسلكه.

يعني: قوله: (سلوكَ سبيل التصور والتصديق) نقول: هذا فيه إشارةٌ إلى بابٍ يُعنوِن له المناطقة في كتبهم: بابُ أنواع العلم الحادث، كما عنوَن له في السُلَّم.

فيذكرون حدَّ العلم، ثم يذكرون تقسيم العلم إلى تصور وتصديق، ثم يقسِّمون هذين القسمين إلى النظري والضروري، ثم يذكرون طريق كل واحدٍ منهما.

فهذه ثلاثة مسائل: حدُّ العلم أولاً.

ثم يُقسَّم العلم باعتبار ما يتعلق به الإدراك إلى تصور وتصديق.

ثم ثالثاً يُقسَّم العلم باعتبار الطريق إليه وهو كونه نظرياً أو ضرورياً.

ولذلك يقول: أنواع العِلم. لماذا أنواع العلم؟ لأن العمل أنواع أربعة؛ لأنه إما تصوَّر وإما تصديق، وكلٌ منهما إما نظري أو ضروري. تصور نظري تصور ضروري، تصديقٌ نظري تصديقٌ ضروري. هذه أربع، ولذلك يقول: أنواع.

بعضهم يجعل هذا التركيب وهو موجودٌ في كتب المناطقة يقول: أنواع العلم احترازاً عن علم الله تعالى فإنه لا يتنوع. وهذا لا يُسلَّم .. القول بأن علم الله تعالى لا يتنوَّع هذا ليس على طريقة أهل السنة والجماعة، وإنما قد يقال على وجهٍ ما بقولهم: العلم الحادث احترازاً من علم الله تعالى؛ لأن البحث في هذا النوع بكونه ينقسم إلى أربعة أقسام إنما هو في علم المخلوقين؛ لأن الذي يوصف بكونه تصوراً أو تصديقاً أو نظرياً أو ضرورياً نقول: هذه الأوصاف الأربعة لا يوصف بها علم الباري جل وعلا، لماذا لا يوصف بها؟ أولاً: لم يرِد، هذا التعليل الأكبر.

لأن الأصل فيما يُوصف الله تعالى به أو يُسمى هو الاعتماد على ما جاء به الوحيان: كتاب وسنة. هذا الأصل .. أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إثباتاً أو نفياً.

وهذه الألفاظ لم يرِد واحدٌ منها، لم يرد في القرآن وإنما جاء وصف العلم مطلقاً، فلم يقيَّد بكونه تصورياً ولا تصديقياً، ولا نظرياً ولا ضرورياً.

إذاً: هذه الأوصاف الأربعة إنما تختص بعلم المخلوقين، وأما علم الباري جل وعلا فلا يُوصف بواحدٍ منها البتة؛ لأنه لم يرد.

ثم بعضها يُوهم النقص بل فيه نقص، كالنظري مثلاً المراد به العلوم الكسبية يعني: التي تُستحصَل، لم يكن معلوماً ثم علِمه، هذا لا يمكن أن يقال في حق الباري جل وعلا، ولذلك قال هناك في التوشيح:

عِلْمُ الإِلَهِ لاَ يُقَالُ نَظَرِي

وَلَيْسَ كَسْبِيَّاً فَكُلُّ مُوْهِمِ ... وَلاَ ضَرُورِيٌّ وَلاَ تَصَوُّرِي

يُمْنَعُ فِي حَقِّ الْكَرِيْمِ المُنْعِمِ

 

لكن التعليل هذا ليس على إطلاقه، (فَكُلُّ مُوْهِمِ يُمْنَعُ) يعني: كلُّ ما أوهَم نقصاً وعيباً وتشبُّهاً بالمخلوقين (يُمْنَعُ فِي حَقِّ الْكَرِيْمِ المُنْعِمِ) هذا بناءً على قولهم:

وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا ... أَوِّلْهُ أَو فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهَا

(3/8)

________________________________________

نقول: لا، ليست هذه العِلَّة، نعم قد يكون في بعضها أنها موهِمة النقص، وحينئذٍ تنفى، ولكن الأصل العظيم المطرد هنا هو عدم الورود، فحينئذٍ لا نصف الله تعالى بهذه الأوصاف أو واحدٍ منها لأنه لم يرِد لا في الكتاب ولا في السنة.

إذاً: قوله: (سبيلَ التصور والتصديق) أشار به إلى هذا الباب.

قلنا: العلم اختُلِف فيه هل يُحد أو لا يُحد، والصحيح أنه يُحد يعني: يُعرَّف؛ لأنه حقيقةٌ من الحقائق كغيرها، كما يُعرَّف العام ويعرّف الخاص، ويعرَّف التصور والتصديق، كذلك يعرَّف العلم الذي هو أصلٌ وجنسٌ لهما.

المناطقة لهم حدٌ خاصٌ في العلم لا يَختلط معك بالحدود التي يذكرها الأصوليون أو يذكرها غيرهم من أهل اللغة.

فحينئذٍ ما المراد بالعلم عند المناطقة؟

يطلَق العلم ويراد به مطلق الإدراك، أو إن شئت قلت: الإدراك مطلقاً [العِلْمُ إِدْرَاكُ المَعَانِي مُطْلَقَاً] أو إن شئت عبِّر بقولك: مطلق الإدراك.

عندنا كلمتان: مُطلق الإدراك. ما هو الإدراك؟

الإدراك هذا مصدر من باب الإفعال، أَدرك يُدرك إدراكاً.

معناه في الاصطلاح: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، يزيد بعضهم: من نسبةٍ أو غيرها.

وصول النفس، عبَّر بالوصول لأنه هو المعنى اللغوي، ما العلاقة بين المعاني الاصطلاحية والمعاني اللغوية، والمعاني اللغوية لا بد أن تؤخذ جنساً في المعاني الاصطلاحية.

قوله: وصول النفس؛ لأن الإدراك هو وصول .. الإدراك في اللغة هو: بلوغ الشيء غايتَه ومنتهاه.

ولذلك يقال: أدركت الثمرة إذا نضجت، كمُلت .. إلى آخره.

وأدرك الصبيُ إذا بلغ يعني: وصل الحدَّ الذي يُكلَّف به شرعاً.

فحينئذٍ المعنى هذا لا بد أن يؤخذ جنساً في حد الإدراك في الاصطلاح، فقالوا: وصول النفس. ما المراد بالنفس؟

هذه عبارة مختصَّة يعني: اصطلاحٌ خاصٌ عند المناطقة.

يُطلق لفظ النفس ويراد به القوَّة العاقلة التي هي محل الإدراك؛ لأن الإنسان يُدرِك بمعنى أنه تستقر عنده المعاني، أين تستقر؟

عبَّر المناطقة عن محل الإدراك ومحل استقرار المعاني، ومحل نشوء المعاني بالنفْس، وهل هي العقل أو غيره؟

هذا محل خلافٍ عندهم، لكنهم يُعبّرون على المشهور عندهم بأن النفس هي القوة العاقلة التي هل محل الإدراك، وآلتُها العقل. فالعقل وسيلة وآلة وليس هو محلاً للإدراك، ففرْقٌ بين النفس والعقل.

"وصول النفس إلى المعنى بتمامه" المعنى كما هو معروفٌ عند أهل اللغة: ما يُقصد من اللفظ، فكل ما يُقصد من اللفظ يسمى معنى سواء كان هذا المعنى مفرداً أو كان هذا المعنى مركباً، متقابلان .. إما أن يكون مفرداً وإما أن يكون مركباً.

فالذي يُفهَم ويُدرَك من لفظ زيد نقول: هذا مفرد. وصول النفس إلى المعنى.

معنى زيد، ماذا يراد بلفظ زيد؟ ما الذي تفهمه من لفظ زيد؟ ما مدلول لفظ زيد؟

نقول: هذا يسمى معنى، فالمدلول والمعنى والمفهوم والمسمى بمعنى واحد، فزيدٌ المراد به الذات المشخَّصة، كذلك لفظ سماء، لفظ أرض له مدلولٌ .. له معنى .. له مفهوم.

إدراكُك بمعنى فهمِك، لمعنى هذا اللفظ يسمى إدراكاً.

النوع الثاني من المعاني: المعاني المركبة، وهذا المركب على نوعين: إما مركب مرادف لمعنى الكلام عند النحاة، أو لا يكون مرادفاً. من أجل التعميم.

(3/9)

________________________________________

فما كان مرادفاً لمعنى الكلام عند النحاة فهو الجملة الاسمية والجملة الفعلية، حينئذٍ إذا قيل: زيدٌ قائمٌ. دل على ثبوت القيام لزيد، هذا معنى جزئي أو مركب؟ معنى مركب؛ لأنه استُفيد وأُخذ ودُل عليه، وفُهم من مركب وهو جملة اسمية وهو قولك: زيدٌ قائمٌ.

إذاً: مدلول هذا التركيب -التركيب الإسنادي التام- زيدٌ قائمٌ يسمى معنى، وصول النفس إلى المعنى المركب الذي دل عليه هذا اللفظ يسمى إدراكاً.

قوله: "بتمامه" المراد به أن النفس قد تصل إلى بعض المعنى، وهذا كما يقع من الشاك، أو في المتردد في هذا المعنى.

إذا قيل: خندريس قد يتوارد إلى الذهن معنًى ما .. لعله ولعله ولعله، نقول: هذا المعنى ليس هو الوارد من حيث إطلاق اللفظ في لغة العرب، لكن قد يصل إلى كون هذا اللفظ يراد به معنى الخمر، لكنه لا على جهة الجزم. حينئذٍ نقول: هذا وَصَل إلى المعنى لا بتمامه وهذا لا يسمى إدراكاً وإنما يسمى شعوراً عند المناطقة.

إذاً: لا بد أن يستوفي هذه الأركان: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، فحينئذٍ يسمى إدراكاً.

"من نسبةٍ أو غيرها" هذا تفصيلٌ للمعنى؛ لأن الذي يُدرك من المركَّبات إما أحدُ جزئي المركب، وإما الارتباط والعلاقة بين الجزأين، وإما دلالة المركب.

إما أحدُ جزئي المركب، وإما النسبة والارتباط بينهما، وإما الدلالة التركيبية.

فإذا قلت: زيدٌ قائمٌ، إدراكُك لمعنى زيد هذا إدراكٌ لمفرد، قائم إدراكُك معنى قائم، يعني: ماذا فهمتَ من لفظ قائم؟ ثبوت القيام مثلاً. هذا إدراك أحدُ الجزأين، بقي العلاقة والارتباط بينهما الذي يسمى النسبة عند المناطقة، هذا الثالث.

الرابع: إدراك الجزأين مع النسبة على جهة الوقوع والإيجاد في الخارج، وهذا الذي سيأتي أنه هو التصديق.

إذاً: "وصول النفس إلى المعنى بتمامه من نسبةٍ فقط أو غيرها" يعني: غير النسبة "كإدراك الموضوع والمحمول، أو إدراك الموضوع فقط، أو إدراك المحمول فقط، أو الموضوع دون النسبة، أو المحمول دون النسبة". كما سيأتي.

إذاً: (العلم هو إدراك المعاني مطلقاً) فهو مطلقُ الإدراك، وعرفنا المراد بحد الإدراك: وصول النفس إلى المعنى بتمامه. زاد بعضهم: من نسبةٍ أو غيرها.

والنفس: هي القوة العاقلة للمعنى.

والمعنى هنا يشمل المفرد الذي هو التصور، ويشمل كذلك المعنى المركَّب الذي هو التصديق.

(من نسبةٍ أو غيرها) منْ بيانية، والنسبة هي النسبة الحُكمِية الخارجية، وهذا التصديق وسيأتي.

(أو التقييدية) وهذا تصور.

(أو غيرها) أي: أو غير النسبة، كإدراك الموضوع وحده، أو إدراك المحمول وحده، أو إدراك الموضوع والمحمول معاً دون النسبة، هذا مراده بغير النسبة.

(فالإدراك: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، فإن وَصَلَتَ إليه لا بتمامه يسمى عندهم في الاصطلاح شعوراً وليس إدراكاً؛ -لأن أول مراتب الطلب عندهم الشعور- ثم التصوُّر، ثم إن طلبه وبقي في حافظته سُمِّي حفظاً والطلب تذكُّر والوجدان ذِكرٌ).

الخلاصة: أن العِلم عند المناطقة هو إدراك المعاني مطلقاً، شمِل هذا الحد نوعي العلم: الذي يسمى بالتصور، والذي يسمى بالتصديق.

(3/10)

________________________________________

حينئذٍ صار العلم منقسِماً إلى هذين النوعين، فما كان المعنى فيه مفرداً فهو التصور، وما كان فيه المعنى مركباً إسنادياً تاماً فهو التصديق. والإدراك مر معنا.

ومطلق الإدراك هنا إدراك المعاني مطلقاً، هل قيَّده بكونه جازماً أو لا؟ نقول: لا لم يقيِّده، هل قيّده بكونه مطابقاً للواقع أو لا؟ نقول: لا. لم يقيِّده.

ينتج من ذلك: أن العلم عند المناطقة يَدخل فيه الظن، ويدخل فيه الجهل المركَّب، ويشمل كذلك ما يسمى بالنسبة المشكوك فيها، ويدخل فيه كذلك ما يسمى بالنسبة المتوهَّمة. أربعة أشياء.

فكل إدراك عند المناطقة يسمى علماً، ولذلك الجهل البسيط ليس بواردٍ هنا؛ لأنه عدمُ الإدراك، ونحن قلنا العلم هنا إدراك. إذاً: لا بد أن يكون فيه إدراك، وأطلق الإدراك سواءٌ كان على وجه الجزم الذي يسمى عِلماً ويُخص به عند الأصوليين، أو لا على وجه الجزم فدخل الظن؛ لأن الظن ما هو؟ إدراك الشيء إدراكاً غير جازمٍ.

إذاً: هو إدراكٌ للشيء لكنه غير جازم؛ لأنه يحتمِل النقيض فدخل الظن.

كذلك الجهل المركب دخل معنا أو لا؟ نقول: نعم دخل في حد العلم عند المناطقة على جهة الخصوص؛ لأنه إدراك الشيء. إذاً: فيه إدراك، فكلُّ ما كان إدراكاً فهو نوعٌ من أنواع العِلم عند المناطقة .. إدراك الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع.

بقي النسبة المشكوك فيها، هذا إذا أدرك الطرفين وشكَّ في الإيقاع وعدمه. يعني: لو أدرك زيد قائم وشك: هل بالفعل زيدٌ قائمٌ أم لا؟ الارتباط والعلاقة بين المحمول والموضوع هنا المبتدأ والخبر مشكوك فيها وقع أو لم يقع؟

زيدٌ مسافر، يأتيك خبرٌ زيدٌ مسافر فتشك: هل سافر بالفعل أو لا؟

هذه نسبة مشكوكة، تسمى عِلماً عند المناطقة؛ لأن الإدراك قد حصل، إدراك النسبة هنا والتعلق والارتباط بين الموضوع والمحمول قد وُجد.

النسبة المتوهَّمَة قيل: ما إذا رأى شبَحاً على بُعد قال: هذا أسد، فلما قرُب فإذا به زيد.

قوله: هذا أَسدٌ أَدرك الموضوع وأدرك المحمول وأدرك النسبة بينهما. هل هو بالفعل مطابق للواقع؟ الجواب: لا؛ لأنه ليس بأسد.

يسمى هذا عند المناطقة بالنسبة المتوهمة، يظن أن هذا زيد وإذا قرب منه قال: هذا عمروٌ ليس بزيد. نقول: هذه نسبة متوهمة.

هي نوعٌ من العِلم، إذاً: العلم عند المناطقة وإن كان يختص على جهة العموم بالتصديق والتصور إلا أنه يشمل كذلك الظن، ويشمل الجهل المركب، ويشمل النسبة المشكوك فيها، والنسبة المتوهَّمة .. هذه كلها أنواع من أنواع العلم، كل واحدٍ منها نوع ويسمى عِلماً، بخلاف الأصوليين الذين جعلوا إدراك النسبة التصديقية هو العلم، أو -خصَّ بعضهم-: إدراك النسبة التصديقية على وجه الجزم أخص؛ لأن العِلم يُطلق ويراد به التصور والتصديق، وهذا مصطلح المناطقة.

يعني: يُطلق ويراد به إدراك المفردات، فإذا فهمت معنى المراد بلفظ زيد أو سماء أو أرض أو صلاة يسمى عِلماً، لكن عند الأصوليين لا يسمى علماً؛ لأنه ليس فيه حكم.

يُطلق عند المناطقة ويراد به التصديق يعني: الجُمل التركيبية، هذه الجمل قد تكون جازمة أو غير جازمة، قد تكون مطابِقة للواقع أو غير مطابقة للواقع. هذه أربعة أقسام دخلت كلها تحت التصديق.

(3/11)

________________________________________

عند الأصوليين بعضهم خص العلم بالإدراك التصديقي فأَخرج الإدراك التصوري فلا يُسمى علماً. وهذا هو المشهور.

ومنهم من جعل التصديق على نوعين: جازم وغير جازم، فخَص العلم بالجازم. وهذا المشهور عند الأصوليين على جهة الخصوص وهو ما عرَّفه به الفخر الرازي في كتبه وتبعه كثير من الأصوليين، فحينئذٍ ثم فرقٌ بين التعريفين.

يرِد السؤال هنا: الظن هل هو نوعٌ من العِلم عند الأصوليين أو مقابِلٌ له؟

مقابلٌ له؛ لأنه ليس بجازم، وعند المناطقة نوعٌ من العلم.

الجهل المركب عند الأصوليين هل هو نوعٌ من العلم أو مقابلٌ له؟

مقابلٌ له.

وعند المناطقة نوعٌ من العِلم.

إذاً: الذي يجمع هذه الأقسام كلها -وقل ما شئت، التَّعداد أكثر مما ذكرنا- هو أن نقول: العِلم هو إدراك المعاني مطلقاً.

ولذلك في بعض كتب الأصوليين كمختصر التحرير يقول: يُطلق العلم ويرادف المعرفة، ويطلق العلم ويشمل التصور، ويطلق العلم على التصديق الظني، ويطلق العلم ويراد به التصديق الجازم. يعني له استعمالات، فكأنهم خصَّوا لفظ العلم بالتصديق الجازم ثم قالوا: يطلق على التصور أنه علم ويطلق على التصديق غير الجازم أنه علم.

وهذا يؤكد أن مذهب المناطقة ما اختاروه في تعريف العلم هو الأصح، وهو المرادف لمعنى العلم عند أهل اللغة، وهذه التقسيمات التي ذكرها الأصوليون إنما هي اجتهادات شخصية بمعنى أنها اصطلاحات.

فالعلم من حيث كونه إدراكاً جازماً. نقول: هذا اصطلاح الأصوليين وليس هو المعنى اللغوي، وإنما جاء في لسان العرب وفي القرآن وفي السنة إطلاق العلم هكذا، حينئذٍ يُنظر في القرائن هل المراد به التصور؟ هل المراد به التصديق الظني؟ هل المراد به التصديق الجزم أو لا؟ فننظر في كل تركيبٍ على حِدة.

وأما المعنى اللغوي الصحيح للعلم فهو إدراك المعاني مطلقاً، فالتصور في لسان العرب يسمى عِلماً حقيقة لا مجازاً كما هو الشأن عند الأصوليين، والظن يسمى عِلماً، وكذلك التصديق الجازم يسمى عِلماً، والتصديق الظني يسمى علماً.

يؤكِّد هذا: أن الأصوليين خصَّوا اللفظ بمعنى ثم قالوا: يطلق العلم ويراد به الظن، يُطلق العلم ويراد به التصديق الظني .. إلى آخره.

نقول: هذه الإطلاقات تدل على ماذا؟ لأنهم يستدلون عليها بلسان العرب، ويأتون بآيات ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)) [الممتحنة:10] قالوا: المراد به الظن هنا، طيب هذا لسان العرب .. هذا قرآن، فأطلق العلم وأراد به الظن، إذاً: الظن نوعٌ من العلم.

وهذا يتحدد على تعريف المناطقة لا تعريف الأصوليين، إذاً: أصاب المناطقة في هذا الموضع.

إذاً: مطلق الإدراك هنا يشمل الجازم وغير الجازم، ويشمل المطابق للواقع وغير المطابق للواقع، فشمل حدُّ العلم هنا الظن، والجهل المركب، والنسبة المشكوك فيها، والنسبةَ المتوهمة. إذاً: هذا تعريف العلم عند المناطقة.

ينقسم العلم عند المناطقة إلى نوعين على جهة الإجمال، وما مضى يدخل تحته، حينئذٍ نقول: العلم إما تصورٌ وإما تصديقٌ.

التصور عند المناطقة له استعمالان .. لفظ التصور؛ لأنه قد يطلِق بعضهم التصور بمعنى عام، ويطلق بعضهم التصور بمعنى خاص.

(3/12)

________________________________________

يُطلق التصور بالمعنى الأعم ويراد به حصول صورة الشيء في النفس "حصول يعني: وجود" أياً كان ذاك الشيء، وأشبه ما يكون بالشيء هنا ما يراد به المعنى، وحينئذٍ لا يختص لا بمفرد ولا بمركب.

حصول صورة الشيء في النفس يعني: القوة العاقلة، حصول صورة الشيء كزيد، هذا مفرد؟ حصول صورة الشيء كزيد. مدلول زيد حصل في النفس مفرد؟ مفرد.

إذاً: دخل في هذا الحد الذي هو التصور ولا إشكال فيه.

حصول صورة الشيء كـ: زيدٌ قائمٌ وهو ثبوت القيام لزيد، أو كقام زيدٌ وهو ثبوت القيام لزيد، حصل في النفس؟ حصل في النفس، يدخل تحت قوله: حصول صورة الشيء؟ نعم يدخل تحته.

إذاً: شمِل إدراك المفرد، وشمِل إدراك المركب.

سؤال: ما الفرق بين قولنا: العلم إدراك المعاني مطلقا، وبين قولنا: التصور حصول صورة الشيء في النفس، ما الفرق بينهما؟

لا فرق؛ لأن الأول شمِل "دعك من الألفاظ"، الأول شمِل التصور والتصديق يعني: إدراك المفردات وإدراك المركبات، والثاني شمل كذلك إدراك المفردات وإدراك المركبات.

إذاً: التصور يُطلق في بعض الاستعمالات ويرادف العلم، يكون مرادفاً للعِلم لكن ليس بالمعنى الأخص وإنما بالمعنى الأعم، فشمِل التصور هنا التصديق .. دخل فيه التصديق، سواء كان نظرياً أو ضرورياً، جازماً أو غير جازم، مطابقاً أو غير مطابق.

إذاً: دخل التصور بأنواعه، ودخل التصديق بأنواعه تحت الحد.

حينئذٍ نقول: هنا المراد به مطلق التصور، هل هذا هو الذي يكون قسيماً للتصديق؟ الجواب: لا، وإنما المراد به الذي يكون قسيماً للتصديق وأحد نوعي العلم وليس مرادفاً للعلم هو أن يعرَّف التصور بأنه إدراك المفرد، وهو الذي يعبِّر عنه بعضهم بأنه التصور المقيد بعدم الحكم.

بمعنى أنه يَتصور المفرد يعني: يُدرِك معنى المفرد، وما أكثر المفردات التي يتصورها الإنسان ويدرك معانيها دون أن يحكم عليها بشيء، فتتصور معنى زيد مثلاً ولا تحكم عليه لا بقائم ولا بعالم ولا بجاهل .. إلى آخره.

نقول: إدراك وفهم معنى زيد دون أن تُثبِت له شيء أو تنفي عنه شيء يسمى تصَوراً، فهو إدراك مفرد ليس إدراك مركَّب إسنادي.

ثم هو إدراكٌ لمفرد وهذا الإدراك لم يَنصب معه على المفرد حُكمٌ لا بالإثبات ولا بالنفي، فقلت: زيد. وعرفتَ المراد بزيد.

وهذا يجري في سائر الفنون، ولذلك في أول العلوم يقال: الفاعل هو الاسم المرفوع المذكور قبله فعلُه، هذا يسمى حد، لكن يسمى بالذي معنى هنا تصوراً؛ لأنك عرَفْت كلمة الفاعل كما لو عرَفت كلمة زيد، ما المراد بزيد؟ الذات المشخَّصة.

الفاعل، ما هو الفاعل؟ الاسم المرفوع، ما هو المفعول به؟ ما هو التمييز؟ ما هو الحال؟ ما هو العام؟ ما هو الخاص؟ ما هو الناسخ؟ .. إلى آخره.

فجميع التعاريف في جميع الفنون هي مثالٌ للتصورات النظرية، فهي إدراك لمفردٍ، فإذا فهِمت المراد بالفاعل حينئذٍ تحكُم عليه بأنه مرفوع، وهو الاسم المرفوع المذكور قبله فعله ..

مرفوع قالوا: هذا غلط، لماذا؟ لأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فأنت بيّن لنا أولاً ما هو الفاعل ثم احكم عليه، أما تبيّن الفاعل وتذكر الحكم معه ونحن نريد التصور هذا غلط .. تناقض.

(3/13)

________________________________________

وَعِنْدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ المَرْدُوْدِ ... أَنْ تُدْخَلَ الأَحْكَامُ فِي الحُدُوْدِ

 

لماذا؟

لأن التصور إنما يفيد كشف المعنى الذي ينطوي تحت اللفظ فحسب. ما المراد بالفاعل، ما المراد بالعام، ما المراد بالخاص، ما المراد بالناسخ، المنسوخ .. إلى آخره.

فتبين المعنى المراد بهذا اللفظ، ثم بعد ذلك تحكم عليه بما شئت.

فهذا يسمى تصوراً، لكنه تصور بالمعنى الأخص أو بالمعنى الأعم؟ بالمعنى الأخص الذي هو إدراك المفرد "يعني: إدراك معنى المفرد" من غير تعرُّضٍ له بإثبات شيءٍ ولا بنفي؛ لأن الحكم دائرٌ بين أمرين: إما إيجاب وإما سلب، تتصور معنى زيد فقط، وتتصور معنى قائم دون أن تثبت القيام لزيد، يسمى تصوراً وهو إدراكٌ المفردات.

قال هنا: (التصور المطلق) إذا: التصور له استعمالان، هذه كلها ستأتي معنا من أول الكتاب إلى آخره، التصور والتصديق والموضوع والمحمول والمقدم والتالي .. كلها، فهي أساس هنا، لا بد من فهمها.

(التصور المطلق هو حصول صورة الشيء في النفس).

يقابل التصور المطلق هذا: التصور بالمعنى الأخص، يسميه بعض أرباب المنْطِق بالتصور الساذَج بفتح الذال وهي معرَّبة –ساذَج-، يسمى بالتصور الساذَج يعني: من السذاجة التي ليس معها شيء، يقال: إنسان ساذج يعني ليس عنده شيء.

هنا اللفظ المفرد ليس معه شيء ساذج، بمعنى أنه لم يترتب عليه حكمٌ لا بالإيجاب ولا بالسلب.

وهو التصور المقيد بعدم الحكم.

والنفس هي القوة العاقلة أو القوة المدرِكة التي هي محل الإدراكات، وبعضهم يطلق عليها العقل تجوُّزاً .. يسمي النفس العقل.

والمشهور الفصل بين العقل والنفس، فتُجعَل النفس هي محلٌ للإدراكات، والعقل آلتها.

والتصور تفعُّلٌ من الصورة "يعني: وزنُه" لأن المدرِك لحقائق الماهيات تنطبع صورتُها في مرآة ذهنه. يعني: لماذا سُمي تصور؟ هذا من باب فلسفة اللفظ: لماذا سُمي تصور؟

قال: تفعُّل من الصورة، ما هي الصورة؟ الصورة التي هي المثال .. الصورة في اللغة المثال، هكذا قال في القاموس.

أكثر أهل اللغة على ذلك، الصورة هي المثال، والمثال عُرِّف كذلك بالصورة، حينئذٍ صورة الشيء "يعني مثالُه" ينطبع في الذهن.

كما أن الصورة المحسوسة تنطبع في المرآة الحسية كذلك الذهن يُعتبر مرآة معنوية للمعاني فتنطبع فيها المعاني كما تنطبع صورتك في المرآة الحسية. هذا معنى صحيح.

فالمرآة نوعان: مرآة حسيَّة وهي المحسوسات، ومرآة معنوية وهي للمعقولات.

فلذلك سُمِّي تصوراً تفعُّلاً من الصورة؛ لأن المعنى كأنه صار صورة محسوسة ينطبع كما أنك ترى صورتك في المرآة المحسوسة كما هي لا تزيد ولا تنقص، كذلك المعنى ينطبع في الذهن لا يزيد ولا ينقُص. وهذا تشبيهٌ جميل.

والتصور المطلق مرادفٌ للعِلم عند المناطقة، وعليه فينقسم هذا التصور إلى نوعين: تصور ساذَج وتصديق.

إذاً: العلم ينقسم إلى نوعين: تصور وتصديق، لمَّا ذكرنا التصور لا بد أن نذكر له استعمالاً آخر وهو أن التصور يُستعمل مرادفاً للعلم عند النحاة، وهل هذا هو المراد في التقسيم؟ الجواب: لا، وإنما المراد به التصور المقيَّد بعدم الحكم.

الذي يقابله يسمى تصديقاً؛ لأن إدراك المعاني إما أن تُدرِك معنًى مفرداً أو تدرك معنى مركباً.

(3/14)

________________________________________

نأتي نفصِّل في الإفراد والتركيب هنا:

التركيب المراد به: الجملة الاسمية والجملة الفعلية.

يعني: الكلام عند النحاة، ما هو الكلام عند النحاة؟

لفظٌ مُركب مفيد بالوضع، أحسن تعريف تعريف ابن آجروم، [كَلامُنَا لَفْظٌ مُفِيدٌ كاسْتَقِمْ] هذا فيه شيءٌ من الخلل.

"اللفظ المركب المفيد بالوضع" لا بد أن يشتمل على هذه الأربعة الأركان. جملة اسمية وجملة فعلية، هل كل مركَّب كلام؟ الجواب: لا. متى يكون المركب كلاماً؟ إذا أفاد فائدة تامة.

إذاً: بعض المركبات ليس بكلام، التصديق مختصٌ بالمركبات التامة.

إذاً: المركبات غير التامة أين نضعها؟ في التصور.

إذاً: معنى المفرد هنا ليس هو المفرد عند النحاة، معنى المفرد هنا عندما نقول: التصور هو إدراك المفرد [إِدْراكُ مُفْرَدٍ تَصَوُّراً عُلِمْ] ما المراد بالمفرد هنا؟

نقول: ما يقابل المركب تركيباً إسنادياً تاماً. يعني: ما يقابل الجملة الاسمية والجملة الفعلية عند النحاة وهو الكلام بنوعيه.

حينئذٍ ما لم يستوفِ شرطَ الكلام يكون داخلاً في المفرد.

إذا: أدركتُ معنى غلام زيد. تصور أم تصديق؟ إذاً: يُعتبر مفرداً في باب المفرد التصور والتصديق عند المناطقة.

حينئذٍ نقول: غلام زيدٍ نقول: هذا يُعتبر مفرداً هنا؛ لأنه ليس مركباً تركيباً إسنادياً.

إن جاء زيدُ بنُ عمروٍ العالمُ الجليل، هذا تصور أم تصديق؟

تصور، مع كونه مركباً، لكنه يعتبر كَلِماً لا كلاماً.

إذاً: بعضُ الكلِم داخلٌ في المفرد.

إذاً: العِلم قسمان: تصورٌ وتصديقٌ.

التصور له استعمالان: استعمالٌ بالمعنى الأعم: حصول صورة الشيء في النفس، وهو مرادفٌ للعِلم وليس مراداً هنا.

التصور بالمعنى الأخص وهو التصور المقيَّد بعدم الحُكم، وهذا واضح ويعبَّر عنه بأنه إدراك المفرد، والمراد بالمفرد هنا ما ليس مركباً تركيباً إسنادياً، يقابله التصديق -النوع الثاني-، والمراد به: إدراك المعنى المركَّب الذي دلَّت عليه الجملة الاسمية أو الجملة الفعلية، فما دل عليه مركبٌ ولم يكن إسناداً تاماً حينئذٍ لا يسمى تصديقاً وإنما يسمى تصوراً.

إِدْراكُ مُفْرَدٍ تَصَوُّراً عُلِمْ ... وَدَرْكُ نِسْبَةٍ بِتَصْديقٍ وُسِمْ

 

لكن المراد هنا في هذا المقام أن يقال: الإدراك الذي يسمى تصديقاً ليس المراد به إدراك مفهوم الجملة فحسب؛ لأن إدراك مفهوم الجملة .. الجملة مركبة من مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل، هذه عندنا فيها أربعة تصورات، ولذلك اختلفوا في التصديق هل هو مركبٌ أم بسيط؟

عندنا أربعة تصورات: خذ مثلاً زيدٌ قائم، زيدٌ قائم هذا مبتدأ وخبر.

الجزء الأول: زيد، الجزء الثاني: قائم.

هذا عند النحاة يسمى الأول مبتدأ "زيد" والثاني "قائم" يسمى خبراً.

عند المناطقة الأول يسمى موضوعاً، والثاني محمولاً.

عند البيانيين -أهل البلاغة- يسمى الأول: مسنداً إليه، ويسمى الثاني: مسنداً.

عند الأصوليين وبعض المناطقة يسمي الأول: محكوماً عليه، والثاني: محكوماً به.

إذاً: أربعة اصطلاحات مختلِفة في اللفظ لكنها في الحقائق متفقة.

زيدٌ مبتدأ موضوعٌ مسندٌ إليه .. ما تعرب هكذا وإنما من باب الإيضاح. زيدٌ مبتدأٌ محكومٌ عليه، موضوعٌ مسندٌ إليه.

قائمٌ خبرٌ محمولٌ مسندٌ محكومٌ به، هذه ألفاظ أربعة.

(3/15)

________________________________________

فزيدٌ قائمٌ هذه جملة اسمية، كل تصديق يستلزم التصور ولا عكس .. كل تصديقٍ تصورٌ ولا عكس؛ لأن كل تصديقٍ يتضمن ثلاثة تصورات سابقة، فإذا قلت: زيدٌ قائمٌ لا يمكن أن تحكُم بإيقاع ثبوتِ قيام زيد أو عدمِه إلا بعد أمورٍ ثلاثة:

أولاً: تَعرِف معنى زيد. يعني: إدراك الموضوع، ما المراد بزيد؟

يعني: زيد فقط، يسمى الموضوع فقط، يسمى تصوراً هذا.

الثاني: إدراك قائم فقط معناه ما المراد به، يسمى تصوراً فقط.

إذاً: عندنا تصوران:

أولاً: تصور الموضوع .. إدراك المفرد زيد.

ثانياً: تصور المحمول وهو قائم هنا.

الثالث: ما يسمى بتصور النسبة، والمراد بالنسبة هنا عند المناطقة: العَلاقة والارتباط والتعلُّق بين الموضوع والمحمول.

يعني: كون الموضوع متصفاً في المعنى بالمحمول، ولذلك اشترط بعض النحاة "الكلام في الإسناد هنا" اشترط أن يكون ثَم أُلفة، ولذلك ابن مالك قال: باب الكلام وما يتألف منه، لم يقل: وما يتركب منه؛ احترازاً عن تركيبٍ لا أُلفة بينهما، فلا يسمى كلاماً على شرطه يعني: لو قال قائل: الجدار طار، لو قال: مشى الجدار أو صام أو صلى الجدار.

لو جئنا على ظاهرية النحاة نقول: صلى الجدار، صلى فعلٌ ماضي والجدارُ فاعل. إذا جئنا وطبقنا القواعد هكذا: صلى فعلٌ ماضي والجدار فاعل، لكن هل بينهما أُلفة؟ هل يُتصور في العقل أن الجدار يتصف بهذا الوصف وهو الصلاة؟ الجواب: لا.

إذاً: ما الذي انتفى؟ هل يسمى كلاماً؟

إذا اشترطنا الأُلفة بين المسند والمسند إليه، بين المبتدأ والخبر قلنا: لا يسمى كلاماً لاِنتفاء الشرط، وإذا لم نشترط سميناه كلاماً.

حينئذٍ النسبة بين الموضوع والمحمول هو أن يُجيز العقل، أن يَتصور العقل إمكان اتصاف الموضوع بالمحمول.

هذه عند المناطقة يمكن إدراكهُا دون الموضوع والمحمول، وهذا فيه شيءٌ من التكلُّف، لكن نسميه نحن بأنه إدراكٌ اعتباري.

يعني: هل يمكن أن يَتصور العقل نسبة بين زيد وقائم دون أن يَتصور زيد ولا قائم؟ لا يمكن، هذا إذا قلنا بأنه ينفك انفكاكاً كلياً عن الموضوع والمحمول، أما مع الملاحظة فيمكن.

فيَتصور نسبةَ القيام إلى زيد دون أن ينصبَّ التفكير على زيدٍ وحده أو على قائم وحده، كما تنظر إليَّ أنت الآن وأنت تلحظ ما ورائي، أنت لحظته لكنك لم تصب نظرك عليه، حينئذٍ نقول: هذا ملحوظ.

كذلك هنا الذي معنا نقول: يمكن أن تُلحَظ النسبة وينصب عليها الذهن من حيث إدراك المعنى، دون أن يكون الانصباب على الموضوع أو على المحمول. وهذا ممكن، لكن يسمى إدراكاً اعتبارياً.

وعليه يمكن أن يقال بأنه يدرَك الموضوع مع النسبة دون المحمول، أو النسبة مع المحمول دون الموضوع؛ لأن الاحتمالات ثلاث هنا.

أولاً: الموضوع مع النسبة، باعتبار الكلام على النسبة ليس ما سبق.

النسبة مع المحمول.

إدراك النسبة فقط دون الموضوع والمحمول. ثلاثة إدراكات وكلها اعتبارية، لأنه لا يمكن أن ينفك المحمول عن الموضوع، ولا يمكن أن ينفك الموضوع عن المحمول وإنما هو تجويز عقليٌ فحسب.

إذاً: إذا قيل: زيدٌ قائمٌ حينئذٍ يَتصور أولاً العقل معنى زيد، ثم بعد ذلك يتصور العقل -يعني: يُدرِك- معنى قائم، ثم العلاقة بينهما وهو إمكان اتصاف زيدٍ بالقيام.

(3/16)

________________________________________

بقي التصور الرابع: هل وقع بالفعل في الخارج قيام زيد أو لا؟

إدراك الرابع هذا يسمى تصديقاً، فزيدٌ قائمٌ يمكن أن يقول قائل: زيدٌ مسافرٌ وهو معنا الآن، حينئذٍ نقول: إدراك عدم سفر زيد نقول: هذا يسمى تصديقاً، ولو لم يكن مطابقاً للواقع.

إدراك ثبوتِ سفر زيدٍ في الواقع "يعني: بالفعل" فحينئذٍ نقول: هذا يسمى تصديقاً.

هذه النسبة تسمى النسبة الخارجية التي هي مورِد الإيجاب والسلب.

والفائدة اللغوية: أن الجملة لها مدلول: لها معنى ولها حُكم، إذا قلت: زيدٌ قائمٌ فحينئذٍ زيدٌ قائم مبتدأ وخبر، تصورت أولاً الموضوع .. المعنى بزيد المراد، تصورت قائم، تصورت العَلاقة بينهما، فحينئذٍ بقي مدلول الجملة.

كيف نأتي بمدلول الجملة؟

إذا كنت أنت تسمع فلا تحتاج إلى التعبير، وإنما إذا أردت أن تصف لغيرك فحينئذٍ لا بد من التركيب.

الضابط عند النحاة: أنك إذا أردت أن تعبِّر عن مضمون الجملة يعني: معنى الجملة كيف نعبِّر عنه؟ ما الذي نقول أدركناه من الجملة؟

نقول: زيدٌ قائمٌ، المحمول إما أن يكون مشتقاً أو جامداً، إذا قيل: الاشتقاق يقابله الجمود.

فحينئذٍ إذا كان المحمول مشتقاً يعني له مصدر، والمشتقات سبعة كما هو المشهور عند النحاة.

فحينئذٍ تأتي بمصدر ذلك المشتق .. تتصيده من نفس المشتق، قائمٌ مصدره قيام، حينئذٍ تأتي بالقيام الذي هو مصدر المحمول، وتُضيف إليه المحكوم عليه "الذي هو الموضوع" فتقول: قيامُ زيدٍ، كيف جاء قيامُ زيدٍ؟

نقول: قيام زيدٍ نظرتَ إلى المحمول فإذا به مشتق، فأخذتَ المصدر وأضفتَه إلى الموضوع فقلتَ: قيامُ زيد.

هذا يسمى مضمون ومدلول ومعنى ومفهوم الجملة، هذا إن كان مشتقاً.

فإن كان جامداً كقولك: زيدٌ أسدٌ. كيف تأتي بمضمون الجملة؟ أسد هذا ليس بمشتق، إذاً: ليس عندنا مصدر.

قالوا نأتي بالكون، الكون الذي هو مصدر كان الناقصة "وَكَونُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ" إذاً لها مصدر.

بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ فِي قَوْمِهِ الْفَتَى ... وَكَونُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ

 

إذاً: كان الناقصة لها مصدر.

قالوا: نأتي بالكون نُضيفه إلى الموضوع، ونأتي بالمحمول منصوباً على أنه خبرٌ لكان، تقول: كونُ زيدٍ، مثل قيامُ زيد، لكن لم تأتِ بقيام لأنه ليس عندنا مصدر.

إذاً: زيد في الموضعين يكون مضافاً إليه، سواء كان للمصدر في باب الاشتقاق أو للكون في باب الجمود إذا كان المحمول جامداً، فتقول: كونُ زيدٍ أسداً. جئت بأسد على أنه منصوب؛ لأن كان وما اشتُق منها تعمل عمل الأصل.

وَغَيْرُ مَاضٍ مِثْلَهُ قَدْ عَمِلاَ ... إِنْ كَانَ غَيْرُ الْمَاضِ مِنْهُ اسْتُعْمِلاَ

 

فحينئذٍ: كونُ زيدٍ أسداً، هذا هو المشهور عند كثير من النحاة ومن المناطقة.

بعضهم يرى أنك تأتي بالمصدر الصناعي وهو أن تنظر إلى الجامد هذا أسد مثلاً، وتضيف إليه ياء مشددة وتاء التأنيث تقول: أسديّةُ زيدٍ.

إذاً: مضمون "زيدٌ أسدٌ" أسديّةُ زيدٍ، أو: كونُ زيدٍ أسداً.

مضمون "زيدٌ قائم" قيامُ زيد.

"زيدٌ عالم" علمُ زيدٍ .. وهكذا، هذا يسمى مضمون.

(3/17)

________________________________________

قولك: قيام زيد، أسديّةُ زيد، كون زيدٍ أسداً .. هذا ليس فيه إثبات ولا نفي، الحكم هو إيجابٌ أو سلْبٌ إما إثبات وإما نفي "هذا هو الحكم"، حرام ليس بحرام، حرام إثبات واجب إثبات، لا يجب لا يحرُم هذا نفي، تارة يكون بالإثبات وتارة يكون بالنفي.

إذا قلت: قيامُ زيد هذا مضمون الجملة ليس فيه إثبات ولا نفي، إذاً ما هو حكم الجملة؟

حكم الجملة هو الثبوت المضاف لمضمون الجملة، أو السلبُ المضاف إلى مضمون الجملة، فحينئذٍ عندنا أمران متغايران كما بين السماء والأرض الذي هو المضمون "مضمون الجملة" لأنه يشتبه على الطلاب هذا، يظنها مسألة واحدة لا.

مضمون الجملة يعني: ما دلت عليه الجملة، ولكن الثبوت والنفي هذا شيءٌ زائدٌ عليها.

ولذلك الأصل في الجُمَل الإيجاب، والنفي هذا فرعٌ؛ لأنه يحتاج إلى قرينة، إذا قلتَ: ما قام زيدٌ، قام زيدٌ إيجاب .. ثبوت، قام زيدٌ فيه ثبوت. ما الدليل؟

الأصل في الجمَل الإثبات، بدليل أنه لو أُريد النفي لسُلِّط عليه إما حرفٌ أو فعلٌ، ليس زيدٌ قائماً فعلٌ، ما قام زيد هذا حرفٌ، لن يقوم زيد هذا حرف.

فإذا سُلِّط عليه، فما احتاج إلى قرينة فرعٌ عما لا يحتاج، كما نقول في المجاز والحقيقة، لا نقول هذا مجاز إلا إذا دلَّت القرينة، إذا لم توجد قرينة رجعنا إلى الأصل، ما هو الأصل؟ الحقيقة، متى نقول مجاز؟ إذا استُعمل اللفظ في غير موضعه لقرينة، إذا وُجدت قرينة حينئذٍ حُمل عليه.

وَحَيْثُمَا اسْتَحَالَ الاَصْلُ يُنْتَقَلْ ... إِلَى المَجَازِ أَوْ لأَقْرَبٍ حَصَلْ

 

إن لم يكن رجعنا إلى الأصل، فإذا اختُلف في اللفظ هل هو حقيقة أو مجاز رجعنا إلى الأصل وهو أنه حقيقة؛ لأنه لو كان مجازاً لأثبت أو أقام عليه قرينة تدل على أن اللفظ استُعمل في غير ما وضع له ابتداءً.

كذلك هنا لو أراد النفي لقدَّم على الجملة إما حرف يدل على السلب أو فعلاً يدل على السلب يعني: أداة السلبي، فلما انتفت رجعنا إلى الأصل وهو أنها موجَبة يعني: مثبَتة.

حينئذٍ ما هو حكم الجملة، كيف نصيغه؟

نقول: نأتي بالثبوت أو النفي مضافاً إلى مضمون الجملة، "قيام زيد" ثبوت قيام زيد، ما زيدٌ قائمٌ نقول: نفيُ أو عدم قيام زيد. إذاً: فرقٌ بين النوعين.

التصور والتصديق عرفنا أن التصور إدراك المفرد، والتصديق إدراك المركَّب، والمراد بالمركَّب -هكذا لأن المركب هذا مجمل- المراد بالمركب هنا المركب الإسنادي التام الذي ينقسم إلى الجملة الاسمية والجملة الفعلية.

ما المراد بالإدراك المتعلِّق بالجملة الاسمية؟

نقول: المراد هنا إدراك النسبة الخارجية التي هي يعبِّر عنها المناطقة بالوقوع واللاوقوع، كون الشيء واقعاً بالفعل في الخارج.

الآن المضمون وحكم الجملة كلها في الذهن، إذا قلت: مضمون الجملة. هذا أمرٌ ذهني، حكم الجملة أمر ذهني، ثبوت قيام زيد .. أنت تدَّعي ثبوت قيام زيد لكن في الخارج هل بالفعل زيدٌ قائم؟

إن كان بالفعل زيدٌ قائم فحينئذٍ إدراكُك لوقوع ثبوت قيام زيد هذا يسمى تصديقاً، وما قبل ذلك يسمى تصوراً.

(3/18)

________________________________________

حينئذٍ كل تصديقٍ يتضمن ثلاثةَ تصورات: تصور الموضوع وحده، وتصور المحمول وحده، وتصور النسبة. ثم إن كانت هذه النسبة التي هي النسبة الخارجية التي هي مورِد الإيجاب والسلب، إن حُكم عليها أو أدرك العقل وقوعها بالفعل في الخارج، أو عدمَ وقوعها بالفعل في الخارج يسمى تصديقاً.

فكل تصديقٍ لا بد أن يتقدمه ثلاثة تصورات، ومن هنا اختلفوا هل التصديق بسيط أو مُركَّب؟

الحكماء المناطقة الفلاسفة على أنه بسيط، بمعنى أن الإدراك الرابع الذي هو الوقوع واللاوقوع، أو الذي يُعبَّر عنه بالانتزاع والإيقاع يسمى تصديقاً، وما قبله شروطٌ، وخالف الرازي في ذلك فقال: بل التصديق مركَّب من أربعة أركان.

فتصور الموضوع ركنٌ وجزءٌ في التصديق لا ينفك عنه، وكذلك تصور المحمول ركنٌ وجزءٌ من التصديق لا ينفك عنه.

وكذلك تصور النسبة الكلامية التي هي ارتباط بين الاثنين .. الجزأين، كذلك ركنٌ وجزء، والإدراك الرابع كذلك ركنٌ وجزء.

حينئذٍ اتفقا واختلفا -يعني: طائفتان- اتفقوا على أن التصور الرابع لا يمكن أن يوجد إلا بثلاث تصورات، هذا متفق عليه.

لكن الخلاف: هل توقف ماهيّة التصور الرابع -يعني: وجودها حقيقتُها- هل هو من توقف الماهيَّة على شرطها أو على ركنها؟ هذا محل النزاع.

[وَالرُّكْنُ جُزْءُ الذَّاتِ وَالشَّرْطُ خَرَجْ] يعني: الركن ما كان داخلاً في الماهيّة كقراءة الفاتحة في الصلاة، وكذلك الركوع والسجود .. هذه داخلة في الماهيَّة.

إذاً: لا تنفك الصلاة عن ركنها، وأما الطهارة بالنسبة للصلاة فهي خارجة عنها، لكنها متوقفةٌ عليها، كذلك التصور الرابع هنا منفكٌ عند الجمهور لكن الماهيّة لا توجد إلا بوجود هذه الشروط الثلاثة.

إذاً يرِد السؤال هنا: هل التصديق بسيط أو مركب؟

نقول: فيه مذهبان:

جمهور الحكماء على أنه بسيط، بمعنى أن الإدراك الرابع الوقوع واللاوقوع هو المسمى بالتصديق، وما قبله شروطٌ له على الصحيح.

وأما على مذهب الرازي فهي أربعة، بمعنى أن توقُّف الماهيّة على أركانها .. على أجزائها. حينئذٍ كل واحدٍ من هذه الأربعة يُعتبر ركناً وجزءً في التصديق، يعني: لا يحصل بدونه.

وَالرُّكْنُ جُزْءُ الذَّاتِ وَالشَّرْطُ خَرَجْ ... وَصِيْغَةٌ دَلِيْلُهَا فِي المُنْتَهَجْ

 

النسبة تسمى بالمفهوم وبالمدلول وبالمعنى، النسبة الكلامية الحُكمية: هي ثبوت المحمول للموضوع على وجه الإثبات أو على وجه النفي، هذا على ما ذكرناه سابقاً.

النسبة الخارجية: وقوع ذلك الثبوت أو عدم وقوعه.

يعني: النسبة نسبتان، ولذلك قد يمر معكم قول صاحب السلَّم:

.............................. ... وَدَرْكُ نِسْبَةٍ بِتَصْديقٍ وُسِمْ

 

حينئذٍ يرد السؤال (دَرْكُ نِسْبَةٍ) يعني: إدراك النسبة، سمَّاه تصديقاً.

ما المراد بالنسبة؟

إن قلنا المراد به النسبة الخارجية، فحينئذٍ (دَرْكُ نِسْبَةٍ) أي: إدراك النسبة الخارجية التي هي الوقوع أو اللاوقوع هي التصديق.

وإن فُسِّرت النسبة هنا بالنسبة الكلامية ارتباط بين الجزأين التي هي التصور الثالث، إن فُسِّرت النسبة فحينئذٍ لا بد من مضاف، وهو: ودركُ وقوعِ نسبةٍ. أكثر الشُرَّاح هكذا في السلَّم هناك.

(3/19)

________________________________________

دركُ وقوع نسبة يعني: دركُ أو إدراك وقوع النسبة الكلامية؛ لأن النسبة الكلامية إدراكُها من باب التصور لا من باب التصديق، وأما وقوعها في الخارج بالفعل، ثبوت القيام لزيد، هذا تصور، ثبوت قيام زيد نقول: هذا تصور وليس بتصديق، وقوعُه بالفعل في الخارج، وافق ما في الباطن نقول: هذا يُعتبر تصديقاً، إدراك الوقوع واللاوقوع يسمى تصديقاً.

حينئذٍ (دَرْكُ نِسْبَةٍ) إن فُسِّرت النسبة بالخارجية فلا نحتاج إلى مضاف؛ لأن إدراكها مباشرة يسمى تصديقاً، وأما إن كان المراد بالنسبة الكلامية هنا .. النسبة الكلامية التي هي ثبوت القيام لزيد، أو قيام زيد سواءٌ مع الحكم أو دونه فحينئذٍ نقول: لا بد من تقدير مضاف: دركُ وقوع نسبةٍ بتصديقٍ وُسِم.

ثم إن كلاً من التصور والتصديق ينقسم إلى ضروري ونظري، والضروري هو ما لا يحتاج إلى التأمل، والنظري ما يحتاج إلى التأمل.

وَالنَّظَرِيْ مَا احْتَاجَ لِلتَّأَمُّلِ ... وَعَكْسُهُ هُوَ الضَّرُورِيُّ الجَلِي

 

هذا واضح، إذاً: كلٌ منهما إدراك، لكن هناك إدراك يحتاج إلى تأمُّل وتفكُّر وبحث ونظر، هذا يسمى علوماً نظرياً.

وهناك إدراك لا يحتاج إلى تأمل كإدراك أن الكل أكبر من الجزء لا يحتاج إلى إثبات ولا يحتاج إلى تأمل، ولا إلى بحث. هذا يسمى بالعلوم الضرورية.

ولذلك هذا التقسيم هو من تقسيم العِلم كذلك، عندنا تقسيمان:

تقسيم العلم إلى تصور وتصديق، هذا باعتبار الإدراك وما يتعلق به؛ لأنا قلنا: الإدراك هو وصول النفس إلى المعنى بتمامه، إذاً: النفس تعلَّقت بالمعنى الذي دل عليه المفرد أو المركب.

فعندنا متعلِّق ومتعلَّقٌ به، ما هو المتعلِّق؟ النفس، والمتعلَّق به المعنى مفرداً كان أو مركباً.

هنا التقسيم باعتبار الطريق الموصِل إلى العلم، قد يكون بكسبٍ وقد يكون بلا كسبٍ، حينئذٍ ما كان بكسبٍ يسمى نظرياً، وما كان بدون كسبٍ يسمى ضرورياً.

وعليه كما نقول هناك: العلوم أو المعلومات تصورية وتصديقية، هنا نقول: علومٌ نظرية أو معلوماتٌ نظرية، وعلومٌ ضرورية أو معلومات ضرورية.

قال هنا: (والتصديقات النظرية تستفاد من التصديقات الضرورية) هذه قاعدة.

التصديقات النظرية هي بكسب وتأمل وبحث، تؤخذ من أين؟ من التصديقات الضرورية.

والتصورات النظرية تستفاد من التصورات الضرورية كأصلها.

إذاً: أيهما أصل وأيهما فرع، العلم الضروري أم النظري؟ الضروري أصل؛ لأن النظري سواءٌ كان تصوراً أو تصديقاً إنما يستفاد من الضروري تصوراً أو تصديقاً.

(وتلك الاستفادة إنما تكون بالنظر والفكر وهو) أي: النظر والفكر (ترتيبُ أمورٍ حاصلة ليُتوصلَ بها إلى تحصيل غير الحاصل).

النظر الذي هو حدٌ أو مأخوذٌ في حد العلم النظري، ترتيب أمورٍ حاصلة؛ ليتوصل بها إلى تحصيل ما لم يحصل. وهذا ما مر معنا في بيان موضوع الفن، أنه معلومات موجودة سواءٌ كانت هذه المعلومات تصورية أو تصديقية بترتيبٍ معيَّن، وهو ما يُعرف في المعرِّفات: تقديم الجنس على الفصل ونحو ذلك، أو في الأقيسة: المقدِّمات الصغرى والتَّكرار، بترتيبٍ معيَّن سيُذكر، يُتوصل بهذا الترتيب إلى معرفة المجهولات.

(3/20)

________________________________________

فحينئذٍ لا بد أن تكون هذه المعلومات حاصلة في النفس نظريةً أو ضرورية؛ يُتوصل بها إلى معرفة المجهولات سواء كانت تصديقات أو تصورات.

وحينئذٍ يكون لكل واحدٍ من القِسمين طريقٌ خاصٌ، فالطريق الموصل إلى التصديقات النظرية الأقيسة، والطريق الموصل إلى التصورات النظرية التعريفات.

ولذلك انحصر موضوع الفن في المعرِّفات والأقيسة.

موضوع الفن كلُّه في المعرِّفات وما يوصل إليها، المقدمات المعتبرة لها كالكُلِّيّات الخمس، وما تُوصل هي به إلى التصور، والأقيسة وما يتعلق بها من مقدمات كالقضايا وأحكامها، وما توصل هي إلى مجهولات تصديقية.

وحينئذٍ فيراد بكلام المصنف هنا: (ويسَّر لهم سلوك سبيل التصور والتصديق).

يُراد حينئذٍ بكلام المصنف هنا: (سبيل التصور) المعرِّفات، و (بسبيل التصديق) الأقيسة.

ويصير معنى كلام الشارح: ويسَّر لأهل محبته الوصول بأفكارهم في الطريق الموصل إلى التصور، والطريق الموصل إلى التصديق، وفيه استعارةٌ تصريحية أصلية بتشبيه المعرِّفات والأقيسة بالسبيل، وذِكر التصور والتصديق قرينة.

وهذا إن فُسِّر السبيل بالطريق، وإن فُسِّر بالسبب فالكلام على حقيقته إذ يصير معناه: وسهّل لهم أسباب التصورات والتصديقات، ويراد السبب حينئذٍ السبب بالمعنى اللغوي حتى لا يرِد أن يقال: إن الأفكار ليست أسباباً، بل هي من قبيل المُعِدَّات كما قُرِّرَ في محله.

قال رحمه الله تعالى: (ويسَّر لهم سلوك سبيل التصور والتصديق).

عرفنا خلاصة ما يذكره المناطقة هنا في هذا الباب، وهو يُعتبر مقدمةً لما سيأتي ذكره في المعرِّفات وفي الأقيسة، ولا بد من ذكره؛ لأنه يفوت به العلم بحقيقة الموضوع، والمحمول، وإدراك الأول مع الثاني، والنسبة، وتمييز التصور عن التصديق، والعكس كذلك، ثم معرفة التصور أنه يُطلق بمعنى أعم مرادف للعلم، وأنواع العلم .. هذه لا بد من وجودها أولاً.

قال رحمه الله تعالى -ننتهي من مقدمة المصنف-: (والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمدٍ الهادي).

(والصلاة والسلام) هذا سيأتي تفسير الصلاة في كلام الماتن، قال: (والسلام) أنه بالتَّحِية أو اسم الباري جل وعلا، أو بالمعنى اللغوي السلامة من العيوب والنقائص.

(على أشرف) هذا متعلِّق بالسلام، تنازع فيه الصلاة والسلام .. الصلاة على أشرف والسلام على أشرف، حُذِف من الأول [وَالثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَهْ] فأُعمل الثاني –السلام- وحُذف من الأول.

(على أشرف خلقه) الشرف هو العلو والمكان العالي والمجد.

(خلقِه) هذا مفرد مضاف، نكرة مضاف فيعم يعني: خلقِه فَعْل، لفظٌ بمعنى ملفوظ، ((هَذَا خَلْقُ اللَّهِ)) [لقمان:11] يعني: مخلوقات الله، خلقِه يعني: مخلوقاته؛ لأن الخلق إذا كان مصدراً المراد به فعل الباري جل وعلا، وهذا لا تمييز فيه هنا .. ليس بوارد، وإنما المراد أثرُ الصفة، الخلق .. الصفة ليست مرادة.

(والصلاة والسلام على أشرف خلقه) ليست صفته الباري جل وعلا، وإنما مخلوقاته فهو عام.

ولما كان فيه شيءٌ من العموم قال: (محمدٍ) عطف بيان أو بدل.

(محمدٍ) وهو اسمه .. اسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلمٌ شخصي منقولٌ من اسم مفعول "حُمِّدَ" المضاعف.

(الهادي) أي: الدال.

(3/21)

________________________________________

(إلى سواء الطريق) هذا من إضافة الصفة للموصول أي: الطريق المستقيم.

سواء هنا بمعنى مستقيم.

(وعلى آله) أي: أتباعه على دينه. يراد بهم أتقياء أمته للوصف بعده، وأضافه إلى الضمير بناءً على الصحيح أنه يجوز إضافته إلى الضمير، وإن منع منه الكسائي.

(آله) سيأتي في كلام المصنف فيما يتعلق بالمعاني الأخرى.

(وصحبه) اسم جمع صاحب وليس جمع تكسير، صاحب لم يُجمع جمع تكسير على فَعْل، وإذا كان كذلك فحينئذٍ نقول: هذا اسم جمعٍ وإن كان له مفرد، اسم الجمع ليس له واحدٌ من لفظه، هذا الأصل. لكن قد يقال بأنه يوجد له على قلَّة من لفظه، وهذا مثال له: صَحْب فعْل، واحدُه صاحب.

كيف نقول بأنه اسم جمع، واسم جمع لا واحد له من لفظه كنساء، نساء اسم جمع له واحدٌ من معناه وهو امرأة، لكن ليس له واحدٌ من لفظه.

فحينئذٍ نقول: هذه هي القاعدة، هذا هو الأصل أنه لا واحد له من لفظه، لكن قد يقال بأن له واحدٌ من لفظه ومثاله ما ذُكِر: صحْب، صحْب اسم جمع صاحب والصحابي معلوم أنه من اجتمع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمناً به.

(الحائزِين) جمع حائز، اسم فاعل من الحيازة وهي الضم والجمع، وهم المنتصفين.

(للصدق والتحقيق) الصدق ما يقابل الكذب، وهو مطابقة النسبة الكلامية للنسبة الواقعية، الصدق مطابقة، يعني: الذي نقول بأن إدراكه هو التصديق.

(والتحقيق) تفعيلٌ مِن حقَّ الشيء، والمراد به الإتيان بالشيء على الوجه الحق أو إثباتُه بدليله.

إثبات الشيء بالدليل يسمى تحقيقاً، فحينئذٍ لا نحتاج إلى تمييز العلماء بأن هذا محقِّق أو غير محقِّق، إلا إذا كان مقلِّداً، فيُميَّز الذي يتَّبع الدليل عن المقلِّدة بكون ذاك محقِّقاً، وأما في فرز العلماء الذين يتَّبعون الدليل بأن هذا محقِّق وهذا غير محقق. هذا ليس بوارد؛ لأن التحقيق هو إثبات المسألة بدليلها.

لأنا نجد بعض الناس إذا أراد أن يقوِّي قوله قال: وقال بعض المحققين. يعني: كأنه انتهى الأمر، يعني: لا تَبحث ولا تناقِش، ولذلك أنا أقول: هذه كلمة إرهابية، إذا أراد أن يُرهِب المخالف قال: قال بعض المحققين، وقد يعني به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لأنه موافقٌ له في هذه المسألة.

يأتي في مسألة أخرى يقول: قال المحققين وهو ما اختاره المحققون، وأخرج ابن تيمية منهم. أنت أدخلته فيما سبق وأخرجته هنا، وتارة يُدخل الشوكاني وتارة يُخرجه، وتارة يريد به فلان .. إلى آخره، فصار هذا المصطلح ألعوبة .. تارة يُخرِج وتارة يُدخل.

ولذلك نقول: المحقق المراد به كل من يُثبت المسألة بدليلها يعني: ما يسمى بالمتحرِّر عن التقليد المذهبي، فحينئذٍ يكون محقِّقاً، ينظر بنفسه ويستعمل القواعد المعلومة ويُفرز الأقوال، وما وافق الدليل قبِله هذا هو المحقِّق.

فحينئذٍ لا نحتاج إذا أردنا أن نقويَ أقوالنا نقول: قال المحققون. نقول: هذا كلام فاسد.

إذاً: (للصدق والتحقيق) قال: تفعيلٌ من حقَّ الشيءُ وثبت، المراد به هنا إتقان الأمور وإحكامِها.

(وبعدُ) أي: بعدما ذُكر، وسيأتي الكلام فيها في الشرح إن شاء الله تعالى.

قال: (وبعدُ فهذا) أي: المشار إليه هنا ما في الذهن.

(3/22)

________________________________________

(هذا) الأصل في وضع اسم الإشارة أن يكون لمحسوس، وهنا المشار إليه أمرٌ معنوي، حينئذٍ نقول: نزَّل المعقول منزّلة المحسوس لقربه، هذا على المشهور إذا كان قبل الكتاب. يعني: كتب المقدمة أولاً ثم الكتاب بعدُ ما وُلد، حينئذٍ نقول: الإشارة هنا أشار إلى شيءٍ في الذهن، وإن كانت المقدمة بعد الكتاب .. ألَّف الكتاب ثم قال: فهذا حينئذٍ يكون لمحسوس على بابه. هذا هو المشهور، وثم تفصيلٌ آخر.

قال هنا: (فهذا) المشار إليه ما في الذهن تقدَّمت الخطبة أو تأخرت.

هذا هو الصحيح، وإن اشتهر التفصيل على ما ذكرناه عن الجمهور فيما سبق، وفيه استعارةٌ تصريحية لتنزيل المعقول منزَّلة المحسوس.

(فهذا شرحٌ) مصدرٌ باقٍ على مصدريته للمبالغة كقوله: زيدٌ عدلٌ. أو بمعنى اسم الفاعل على طريق الإسناد المجازي.

والشرحُ لغة: الكشفُ والإيضاح.

وعُرفاً: ألفاظٌ مخصوصةٌ دالة على معاني مخصوصة.

(شرحٌ لطيفٌ لكتاب) لطيف يعني: مختصر أو حسن.

(لكتابِ العلاَّمة أثير الدين) كتاب .. سمَّاه كتاب، مصدر بمعنى اسم المفعول.

سمّاه المصنف نفسه صاحب المتن أثير الدين: رسالة، قيل: من باب التواضع سمَّاه رسالة، وسمّاه الشارح كتاباً؛ لأن الكتاب أعظم، من باب الأدب مع أهل العلم، فسمّاه صاحبه رسالة تواضعاً وسمَّاه الشارح هنا كتاباً من باب الأدب مع المصنف.

قال: (كتاب العلامة) العلاَّمة صيغة مبالغة، وتاؤه لتوكيدها أي: كثير العلم.

قال: (العلامة أثير الدين الأبهري رحمه الله).

أَثِيْر بفتح الهمزة وكسر الثاء وسكون الياء وآخره راء، المراد به المختار.

وهو على حذف مضاف أي: مختار أهل الدين والإضافة على معنى من أو اللام.

(أثير الدين) أثير يعني: مختار، والدين: المراد به ما يُدان به يعني: العمل، يُطلق الدين ويراد به العمل.

والأبهري نسبةً إلى أبهر، وهي مدينة مشهورة بين قزوين وزِنجان وهمَدان من نواحي الجبل .. هناك في فارس.

(أثير الدين الأبهري) وهذا اسمه: أثير الدين المفضَّل بن عمر بن المفضل الأبهري السمرقندي الحكيم المنطقي الفلكي الرياضي الفيلسوف، وليس له عِلمٌ بالشريعة.

والأبهري نسبةٌ إلى أبهر وهي مدينة فارسيةٌ قديمة بين قزوين وزِنجان.

من كتبه: هدايةُ الحكمة، وهو مختصرٌ في علم الهيئة، وتنزيل الأفكار في تعديل الأسرار في المنْطِق، وجامعُ الدقائق في كشف الحقائق كذلك في المنْطِق، ومتن إيساغوجي وهو كتابنا.

توفي أثير الدين الأبهري سنة 663هـ.

قال: (المسمى) وهذا نعتٌ للكتاب، المسمى الكتاب هو (بإيساغوجي) وسيأتي بحثه ومر معنا أن المراد به: المدخل إلى المنْطِق "يعني: مكان الدخول" أو المقدمة وهو الكُلِّيّات الخمس.

قال هنا: (في علم المنْطِق).

المؤلف كما قال العطّار صنَّف الكتاب وجعله على قسمين على ما هو الشائع عند من ألّف في الحكمة.

يعني: يأتي بالكتاب على قسمين: قِسمٌ هو مقدمة، وقسمٌ هو المقصود.

المقصود هذا يتعلق بالإلهيات لأنه علم الفلسفة، ويُجعَل المنْطِق مقدمةً له.

(3/23)

________________________________________

حينئذٍ قُسِم الكتاب قسمين، هو في أصله على قسمين، قُسِم قسمين، ففُصِل المنْطِق عن الفلسفة وشُرح وحُشِّي عليه، وبقي الأصل وكذلك خُدم ذاك الكتاب لكن ليس لنا فيه حاجة، وإنما المراد هنا فيما يتعلق بالمنطق.

ولذلك قال العطَّار: المصنّف ألَّف كتابه هذا وجعله على قسمين: الأول في فن المنْطِق، والثاني في الطبيعي والإلهي؛ جرياً على طريقة الحكماء بناءً على أن المنْطِق مقدمةٌ لعلم الحكمة أو جزءٌ منها على اختلاف البراهين، وشرَح كل قسمٍ من الكتاب كثير.

قال هنا: (في علم المنْطِق) أي: المهم منه، ليس في كل المسائل لأنه مختصر.

قال: (يحُل ألفاظه ويبيّن مراده، ويفتح مغلقَه، ويقيِّد مطلقَه على وجهٍ لطيف) هذه أربع صفات، وهي من وظيفة الشارح.

(يحُل) بضم الحاء يعني: يفُك.

(ألفاظه) يعني: ألفاظ الكتاب .. المتن نفسه، والذي يُحل ماذا؟ الضمير هنا يعود إلى الشرح وليس الشارح، قال: (فهذا شرحٌ لطيف يحُل) أي: هذا الشرح.

يحل ماذا؟ (ألفاظَه) يعني: ألفاظ الكتاب؛ لأن بعض الألفاظ تحتاج إلى فكٍ، وهذا الأصل فيه.

(يحُل ألفاظه) بمعنى يفك ألفاظه.

(ويبيِّن مرادَه) يبيِّن الشرح مرادَ من؟

الإرادة من صفات المخلوقِين على الأصل الشائع ((جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ)) [الكهف:77] هذا نستثنيه نقول: هذا جاء به النص. يعني: لا نَنفي الإرادة عن الجمادات. قال الكثير بأن ((جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ)) [الكهف:77] هذا مجاز وتشبيه واستعارة .. إلى آخر ما يقال.

والصواب: لا. ما الداعي إلى القول بأن هذا مجاز؟ هل العقل يمنع أن يريد الجدار؟ لا يمنع العقل، واختصاص أن الإنسان أو المخلوق هو الذي يريد نقول: هذا من جهة العقل "عقلِك أنت" لكن أخبرك الباري جل وعلا أن الجدار يريد كما قال: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)) [الإسراء:44] ((مِنْ شَيْءٍ)) هذا أعلى درجة العموم، وشيء هذا يصدُق على الحي وعلى غير الحي.

فدخل فيه الجمادات والسماوات والأرض .. إلى آخره.

((قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)) [فصلت:11] ((قَالَتَا)) القول هو اللفظ الدال على معنى "على بابِه" لا نؤول، لا نقول: هذا مجاز، وإنما نقول: ما جاء النص في إثباته للجمادات يبقى على ظاهره وهو الحقيقة.

هنا قال: (يبيِّن مراده) يعني: مراد مؤلفه.

(يبيِّن) أي: هذا الشرح مراد مؤلفه؛ لأن المراد قد لا يظهر، قد تلتبس العبارة .. تتداخل حينئذٍ نحتاج إلى فَصلٍ.

(ويفتح مغلقَه) أي: يوضح غامضه هذا الأصل.

(ويقيِّد) هذا مقابل للإطلاق، يقيِّد ماذا؟ يقيّد الشرح (مطلقه) يعني: ما أطلقه المصنف.

(على وجهٍ لطيف) أي: طريقٍ وهو ظرفٌ تعلَّق به الأفعال الأربعة:

يحُلُّ ألفاظه على وجهٍ لطيف، يبيِّن مراده على وجهٍ لطيف، يفتح مغلقَه على وجهٍ لطيف، يقيِّد مطلقه على وجه لطيف.

فتعلَّق بالأخير يعني: من باب التنازع، وحُذف من الأول والثاني والثالث.

إِنْ عَامِلاَنِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ ... .....................................

 

عاملان فأكثر

إِنْ عَامِلاَنِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ

وَالْثَّانِ أَوْلَى .............. ... قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَمَلْ

...........................

(3/24)

________________________________________

[وَالْثَّانِ أَوْلَى] يعني: الأخير سواءٌ كان ثانياً أو ثالثاً أو رابعاً.

وَالْثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَهْ ... وَاخْتَار عَكْسَاً غَيْرُهُمْ ذَا أسْرَهْ

 

يعني: الكوفيون.

إذاً: (على وجهٍ لطيف) أي: على طريقٍ لطيف، هذا يُعتبر متعلِّقاً بقوله: (يقيِّد) وما قبله يقدَّر له، أو يُجعل (على وجهٍ لطيف) متعلِّقاً بمحذوف نعت لكتاب: كائنٌ ما ذُكر، شرحٌ لكتاب، شرحٌ على وجهٍ لطيف، شرحٌ كائنٌ على وجهٍ لطيف .. يجوز.

(ومنهجٍ) أي: طريقٍ واضح (منيف) عالٍ شريف.

قال: (وسمَّيتُه المَطْلَع) ويجوز ضبطه المُطلِع كما قال هنا العطَّار: أو بضم الميم وكسر اللام اسم فاعل من أطلع يُطلع فهو مُطلِع.

أي: يجعل القارئ مُطْلِعاً على المعاني معاني المتن.

قال هنا: وقوله المَطلَع بفتح الميم واللام أي: مكان الطلوع، فشبَّه شرحَه بمطلع الشمس في أن كلاً محلٌ لطلوع مُزِيل للظلمة.

الشمس تطلع فتزيل الظلمة، كذلك هذا الشرح يزيل الإشكال، يزيل المعنى الخفي الذي يكون في الأذهان.

(مزيل الظلمة والخفاء .. ) إلى آخر كلامه.

قال: (والله أسأل أن ينفع به وهو حسبي ونعم الوكيل).

(والله أسأل) يعني: أسأل الله لا غيرَه. من أين أخذنا لا غيره؟ من تقديم المفعول ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] إذا قُدِّم ما حقُّه التأخير أفاد القصرَ والحصر "إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه".

اللهَ أسأل لا أسألُ غيرَه، ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] لا غيرَه.

(والله أسأل) تقديم المعمول لإفادة الاختصاص أي: أسأل الله لا غيره.

(واللهَ أسأل) والسؤال هو الطلب.

(أن ينفع) أنْ وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول به لأسأل يعني: أسأل النفع.

(أن ينفع به) أن ينفع الله به أي: بهذا الشرح، قلنا: (أن ينفع) في تأويل مصدر مفعولٌ ثاني لأسأل. أي: أسأل الله النفع.

وحقيقةُ النفع ما يستعان به في الوصول إلى الخير، وكل ما يُتوصل به إلى الخير فهو خير، وحذَف مفعول أن ينفع به من؟ كل أحد، حذَف المتعلق هنا أو المفعول للدلالة على العموم .. لإفادة العموم.

وحذَف مفعول (ينفع) إيذاناً بالعموم أي: كل أحدٍ سعى في تحصيله.

(وهو حسبي) أي: كافيِّ عن الطلب للعون، والتوفيق من غيره.

(ونِعم الوكيل) نِعْم بكسرٍ فسكون فعلٌ لإنشاء المدح فاعلُه الوكيل، والمخصوص بالمدح مقدَّر أي: الله تبارك وتعالى.

حينئذٍ يكون معطوفاً إما على حسبي وإما على جملة: (وهو حسبي) على تقدير أقول، على خلافٍ بينهم في هل يُعطَف الإنشاء على الخبر أو بالعكس؟ محلُه كتب البيان، ثم شرع المصنف في حل عبارة المصنف وسيأتي بحثُه، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!

(3/25)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

قال المصنف رحمه الله تعالى بعدما ذكر ما يتعلق بالدلالة.

وعرفنا أن الدلالة ومباحث الألفاظ إنما يذكرها المنطقي تبعاً لا استقلالاً يعني: الأصل أنه لا يَبحث في الألفاظ ولا في الدلالات؛ لأن بحثَهم إنما هو في المعقولات "يعني: في المعاني"، إذا كان كذلك فحينئذٍ كل ما يُفيد في إظهار المعنى حينئذٍ يُبحث فيه تبعاً لا استقلالاً. هذه قاعدة.

كل فصلٍ، كل بابٍ، كل مسألة تتعلق بالألفاظ في علم المنْطِق إنما هي تبعاً لا استقلالاً، وهو يريد أن يمهِّد للوصول إلى الكُلِّيّات، ما المراد بالكُلِّيّات، إذا أراد أن يفسِّر معنى الجنس، ومعنى الفصل .. وهذه تعتبر من مبادئ التصورات، نحن عندنا مبادئ ومقاصد.

مبادئ التصورات الكُلِّيّات الخمس: الجنس، والفصل، والنوع، والخاصة، والعرض العام. هذه خمسة.

والمقاصد التي هي المعرِّفات -التعريفات .. الحدود-، هل يمكن أن نصل إلى معرفة الجنس وحقيقة الجنس دون أن نعبِّر عنه بلفظ؟ الجواب: لا.

إذاً: لا بد أن نبحث في كيفية التعبير عن الكُلِّيّات الخمس، ثم إذا كان البحث في لسان العرب لا شك أنه محصور، لا بد له من ضوابط: متى نقول هذا اللفظ كُلّي ومتى نقول هذا اللفظ جزئي.

وحينئذٍ التمييز هذا عن ذاك يُعتبر من مباحث علم المنْطِق لكن تبعاً لا استقلالاً، ليس هو استطرادي بمعنى أنه يُذكر الشيء لا لفائدة أو يُذكر لِذكرِ الشيء الآخر لا، إنما يُذكر قصداً لكن لا يُذكر من جهة أن المقاصد تتعلق به.

قال هنا: (ثُمَّ اللَّفْظُ).

ثم هنا للترتيب الإخباري أو الرُتْبي باعتبار أن وصف اللفظ بالإفراد والتركيب متأخِّرٌ في الرتبة عن الدلالة لأنه فرعٌ عنها.

ولذلك قدَّموا باب أنواع الدلالات على باب مباحث الألفاظ.

(ثُمَّ اللَّفْظُ) وهذا كما ذكرنا شروعٌ منه في مباحث الألفاظ، والنظر هنا في هذا الباب في جزئيتين أو إن شئت قل: مسألتين.

يعني: يُنظر فيه من حيثيتين: من حيث الإفراد والتركيب.

مُسْتَعْمَلُ الأَلْفَاظِ حَيْثُ يُوْجَدُ ... إِمَّا مُرَكَّبٌ وَإِمَّا مُفْرَدُ

 

(ثم المفرد) .. المركب هذا لا بحث لهم فيه؛ لأنه ليس المجال فيه، وإن كان التقسيم واردٌ عليه كما هو واردٌ على المفرد، حينئذٍ مفرد مركب من حيث الإفراد والتركيب، ثم دلالة المفرد من حيث الكُلّيّة والجزئية.

إذاً هكذا: الدلالة؛ لنعرف كيف نستدل باللفظ أو ماذا يُفهم من اللفظ، ثم بعد ذلك تقسيم اللفظ إلى: مركب ومفرد، نُخرِج المركب، ثم يأتي المفرد وينقسم إلى: كلي وجزئي، نخرج الجزئي يبقى الكلي.

ثم ننظر في الكلي "الكُلِّيّات الخمس" ثم ننتهي من المبادئ ونشرَع في المعرفات.

إذاً: هذا التدرج مقصود.

وكل شيءٍ يُترك ذكره في هذا المقام "يعني: في كتب المنْطِق" كالتركيب مثلاً، أو البحث فيما يتعلق بالجزئيات على جهة التفصيل الموسع، يُترك لكونه لا علاقة للمنطقي بهذا البحث.

(5/1)

________________________________________

إذاً: مبحث الألفاظ من حيثيتين:

أولاً: من حيث الإفراد والتركيب.

ثانياً: من حيث الكُلّيّة والجزئية، إلا أن إطلاق الإفراد والتركيب على الألفاظ حقيقي. تقول: هذا لفظٌ مفرد وهذا لفظٌ مركب، هذا إطلاقٌ حقيقي.

وعلى المعاني مجازٌ، عرفنا بالأمس أن التركيب والإفراد باعتبار النوعين: لفظٌ مفرد ولفظ مركب، معنًى مفرد ومعنًى مركب. كلاهما استعمالٌ حقيقي؟ الجواب: لا، وإنما يكون استعمالاً حقيقياً في وصفِ اللفظ بالإفراد والتركيب، نقول: هذا لفظٌ مفرد وهذا لفظٌ مركّب.

وأما المعنى يصح أن يوصف فيقال: هذا المعنى مفرد، والمناطقة على ذلك والنحاة على ذلك، فيقال: هذا معنى مفرد وهذا معنى مركب، إلا أنه على جهة المجاز يعني: لا حقيقة. إذاً هكذا: لفظٌ ومعنى.

يوصف اللفظ بالإفراد والتركيب حقيقة، ويوصف المعنى بالإفراد والتركيب مجازاً.

(من إطلاق ما لِلدال على المدلول) الدال هو اللفظ، وهو الذي يُوصَف بالإفراد والتركيب، من باب إطلاق ما للدال يعني: الذي يُطلق على الدال أصالةً يُطلق على المدلول، وحينئذٍ نقول: هذا مجاز.

والكُلّيّة والجزئية بالعكس يعني: يُوصَف بهما المعنى حقيقة واللفظ مجازاً .. العكس الكُلّيّة والجزئية يوصف بهما المعنى فيقال: هذا معنى كلي، وهذا معنى جزئي على جهة الحقيقة.

وأما وصف اللفظ بأن هذا اللفظ كلي وهذا اللفظ جزئي، هو مستعمل للمناطقة، هذا يُعتبر مجازاً من إطلاق ما للمدلول على الدال .. عكس الأول؛ لأن الأصل هو وصف المدلول بالكُلّيّة والجزئية، هذا الأصل فيه.

ثم من باب إطلاق ما للمدلول على الدال استُعمل لفظ الكُلّيّة والجزئية في اللفظ، لكن على جهة المجاز.

إذاً: (يوصف اللفظ بالإفراد والتركيب، وبالكلية والجزئية) لكن وصفُه بالإفراد والتركيب حقيقي، وبالكلية والجزئية هذا مجازي.

ويوصف المعنى كذلك بالإفراد والتركيب والكُلِّيّة والجزئية إلا أن الإفراد والتركيب هذا مجازي، والكُلّيّة والجزئية هذا حقيقي.

واللفظ المستعمل له عدة تقسيمات منها بحسب دلالته الإفرادية والتركيبية، فينقسم إلى مفرد ومركب، وهو الذي قدّمه المصنف هنا ابتداءً.

قال: (ثُمَّ اللَّفْظُ) ثم قلنا للترتيب الإخباري، أو الرُّتبي باعتبار أن وصف اللفظ بالإفراد والتركيب متأخرٌ في الرتبة عن الدلالة لأنه فرعٌ عنها.

قال: (ثُمَّ اللَّفْظُ) وصفَه الشارح هنا بالدال .. وصَف اللفظ بالدال، هو عين اللفظ الذي مر معنا .. اللفظ نفسُه الذي قسَّمه فيما سبق إلى: دلالة تضمن، ودلالة مطابقة، ودلالة التزام. هو عينُه.

ولذلك أعاد المعرفة معرفة، والمعرفة إذا أُعيدت عينُها معرفة حينئذٍ الثاني عينُ الأول.

(ثم اللفظ الدال) وصف اللفظ بالدال مأخوذٌ من إعادة اللفظ معرفة، وقد قال فيما سبق: اللفظ الدال بالوضع.

فأل هنا تسمى: للعهد الذكري. أي: اللفظ المذكور سابقاً؛ لأن المعرفة إذا أُعيدت معرفة كانت عين الأُولى ما لم تقم قرينة على خلافه، ولا قرينة هنا.

والمراد بالدال هنا الدال بالمطابقة لا التضمن ولا الالتزام، إذاً: نقيِّده: اللفظ الدال أي: بالمطابقة، لا بالتضمن ولا بالالتزام.

قال: (إِمَا مُفْرَدٌ) إما هذا للتفصيل.

(5/2)

________________________________________

(وَهُوَ الَّذِي لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دَلاَلَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ).

إما مفردٌ وإما مركب يعني يقابله.

قال: (إِمَا مُفْرَدٌ) وأراد أن يفسِّره بتفسيرٍ يختص بهذا العلم؛ إذ المفرد من المصطلحات التي شاع استعمالها عند النحاة وغيرهم كالمناطقة.

فحينئذٍ كل فنٍ له اصطلاحٌ خاصٌ به وهنا في فن المنْطِق أراد أن يفسِّر المفرد بالمعنى المراد عند المناطقة، يعني: هو حقيقة عرفية خاصة، ومعلوم أن الحقائق العرفية منها ما هو عام ومنها ما هو خاص، والخاص هذا يتنوع باختلاف الفنون والعلوم، فالخاص عند الأصوليين ليس كالخاص عند النحاة .. وهكذا.

إذاً: المفرد هنا: حقيقةٌ عرفيةٌ خاصة عند المناطقة، وهذا نَفْهم منه أنه لا يفسَّر المفرد عند النحاة بهذا التعريف الذي سنذكره، وإنما يُفسَّر النحاة عندهم بالنوع الخاص به.

وإذا كان كذلك فقد يوجد في الفن الواحد المصطلح الواحد وله عدة اصطلاحات في مواضع مختلفة كما هو الشأن في المفرد هنا معنا في باب التصور وفي هذا المحل يختلفان.

كما أن المفرد في باب الإعراب وفي باب اسم لا والمناداى، هذا مختلف، في باب المبتدأ ليس هو المفرد في باب الإعراب، مع كونه مصطلحاً واحداً.

إذاً: تختلف المصطلحات من فنٍ إلى فن، بل قد يختلف الفن الواحد باستعمال المصطلح في عدة مواضع، في عدة أبواب، يختلفون في لفظٍ واحد على اصطلاحات متعددة. ولا إشكال في هذا، لا مشاحة في الاصطلاح.

قال: (إِمَا مُفْرَدٌ: وَهُوَ).

(أي: حقيقةُ المفرد اللفظ الدال بالوضع) (الَّذِي) يعني: الذي هذا صفةٌ لموصوف محذوف؛ لأنه أراد كما قلنا: (إِمَا مُفْرَدٌ) هذا تقسيمٌ "وإن شئت قل: تعريف" لقوله: (اللفظ الدال) واللفظ الدال المراد به اللفظ الدال بالوضع فيما سبق بيانه فيما يتعلق بالدلالات.

إذاً: (وَهُوَ) (أي: حقيقةُ المفرد اللفظ الدال بالوضع).

(الَّذِي لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دِلاَلَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ) الذي هذا يصدق على المفرد والمركب، يعني: اسم موصول يعتبر جنساً في الحد؛ لأن هذا تعريف يُعتبر جنساً.

قوله: (لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دَلاَلَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ) إن جعلناه فصلاً كاملاً أَخرج المركب، فاختص حينئذٍ الحدُّ بالمفرد؛ لأنهما حقيقتان: إما مفرد وإما مركب، فإذا كان كذلك فحينئذٍ قوله: (الَّذِي) اسم موصول وهو عامٌ "هو جنس في التعريف" يشمل المفرد والمركب.

قال: (الذي جنسٌ شمل المفرد والمركب) والمصنف لم يقل: مركب، وإنما قال: مؤلَّف؛ لأنه يرى الترادف بين المؤلَّف والمركب، ولا إشكال فيه كما سيأتي.

(الَّذِي لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دَلاَلَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ).

قال المحشِّي: (الَّذِي) واقعٌ على لفظ، فهو جنسٌ شاملٌ للمفرد والمؤلف.

وقوله: (لاَ يُرُادُ) فصلٌ مخرجٌ للمؤلَّف؛ لأن المؤلَّف يراد وهذا لا يراد .. متقابلان: هذا عدم وهذا ملَكَة.

(لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ) المراد بالجزء هنا: ما صار به اللفظ مركباً، يحتمل هو .. يحتمل أن يراد به ما صار اللفظ به مركباً.

(5/3)

________________________________________

يعني: الجزء الذي هو كالمبتدأ مع الجزء الآخر الذي هو الخبر: زيدٌ قائمٌ، زيدٌ جزءٌ، وقائمٌ هذا جزءٌ آخر، لا إشكال، هذا اعتبار، واعتبره العطّار بل جعلَ الحد في هذا النوع لكن ليس على إطلاقه، بل الصواب أنه يعُم.

قد يكون جزءاً في الإسناد التام نحو: زيدٌ قائمٌ، فزيدٌ جزءٌ وقائم ٌهذا جزء.

وكذلك شاع عندهم بل أطبقوا على أن (ز، ي، د) هذه أجزاء لزيد، فيذكرون من أنواع المفرد ما له جزءٌ لا معنى له، ويمثِّلون لزيد يقول: (ز)، (ز) هذا جزءٌ من زيد لأنه تألَّف منه، تركَّب من ثلاثة أحرف (ز، ي، د) حينئذٍ (ز) هذا جزء، و (ي) جزءٌ و (د) هذا جزءٌ.

إذاً: يُحمل الجزء هنا على ما يُراد بالحرف الذي يكون جزءاً من الكلمة الذي يسمى حرف مبنى، ويُحمل كذلك على ما ذكره العطّار من كون الجزء المراد به هنا: الجزء الذي يُبنى عليه الحكم أو يكون هو الحكم الذي بني على غيره. يعني: كالموضوعي والمحمول.

لذلك قال: المراد بالجزء إن كان مرادُه بالمراد أنه محصورٌ فيه ففيه نظر، لكن إن كان أنه داخلٌ فلا إشكال فيه "يعني: يشمل هذا ويشمل ذاك فلا إشكال فيه" أما الحصر فلا.

فالجزء ليس خاصاً بالكلمات "مفردات" وإنما يُحمَل كذلك الجزء على حروف المباني مثل: (ز، ي، د).

المراد بالجزء ما صار به اللفظ مركباً كزيدٌ قائمٌ، والزاي ونحوُها لم يصر به المركب مُركَّباً، فلا يصدُق الجزء عليها.

وهذا فيه إشكال، بل الصواب أنه يُحمل على ذا وذاك، ولذلك أورد الجزء معرفاً بأل العهدية أي: الجزءُ المعهودُ الذي حصل به التركيب.

يُرَد على هذا الكلام –التخصيص-: أن المركب أو المؤلَّف هنا فيما يقابل المفرد لا يختص بالإسناد التام، وإنما يدخل فيه النسبة التقييدية التي هي المركب التوصيفي والمركب الإضافي، فيشمل المركب في هذا المقام ثلاثةَ أشياء:

المركب الإسنادي التام يعني: الجملة الاسمية والجملة الفعلية، وكذلك المركب الإضافي كغلامِ زيد، وكذلك المركب التوصيفي، المركب التوصيفي نحو: حيوانٌ ناطق، ما هو الإنسان؟ حيوانٌ ناطق، يعني الموصوف مع صفته يسمى مركباً تقييدياً، وبعضهم يسميه مركباً توصيفياً، وهذا واضح أن بينهما نسبة وهو استلزام الصفة للموصوف.

قال هنا: (وَهُوَ الَّذِي لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دَلاَلَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ).

قوله: (دَلاَلَهٌ) بالرفع ما إعرابه؟ نائب فاعل ليراد.

إذاً الترتيب: (الذي لا يُراد دلالة على جزء معناه بالجزء منه) لا يراد دلالة؛ لأن (عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ) متعلق بدلالة، (بِالجُزْءِ مِنْهُ) هذا يكون متأخراً.

إذاً: فسَّر لنا الجملة، كلام الشارح ترجع إلى هذا التعريف فتفهمه على وجهه.

قال: (بأن) الباء هذه ما نوعها؟ للتصوير، ما معنى التصوير؟

يعني: صوَّر لك المسألة يعني: ذكر لك محالَّها أو مصدَقَها.

ولذلك إذا جائت الباء وأُريد بها التصوير فحينئذٍ ما بعد الباء يكون هو تفسيراً لما سبق، فبماذا تفسِّر: بأن (لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دِلاَلَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ)؟ تفسِّره بما بعد الباء.

قال هنا: (بألا يكون له جزءٌ) يعني: هذا المفرد أن لا يكون له جزءٌ.

(كقِي علماً) وهمزة الاستفهام أوضح، هو عدل عن المشهور.

(5/4)

________________________________________

يعني: المفرد النوع الأول منه الذي لا يدل جزءه ما لا جزء له "ما ليس له جزء" بمعنى أنه لم يتألف من حرفين فأكثر بل هو حرفٌ واحد، همزة الاستفهام لها جزء؟ لا. ليست لها جزء؛ لأنه إذا قيل لها جزء معناه: جزءٌ آخر وتركبت منه، وهو ليس كذلك، وإنما هي بنفسها جزءٌ واحد، همزة الاستفهام، ولام الجر، وباء الجر كذلك .. هذه أحرف مؤلفة من حرفٍ واحد.

حينئذٍ هل لها جزء؟ نقول: لا جزء لها.

(قي) أصله وقَى يقِي قِي، قال: (عَلماً) هذا احترازاً، لأنه لو كان قي المراد به فعل الأمر صار جملةً فعلية، فحينئذٍ صار مركباً مثل زيدٌ قائمٌ وليس مراداً، لكن لما قال: (علماً) علمنا أنه أراد الحرف فقط يعني: نُقل، صار علماً بالنقل.

حينئذٍ (قي) حرفٌ واحد، له جزء؟ لا جزء له؛ لأنه هو جزءٌ واحد، إذا قلت: له جزء إذاً ثم جزءٌ آخر تركَّب معه فصار قي وليس كذلك.

(بألا يكون له جزءٌ كقِي علماً) إذاً: قيّده بالعلَمية (احترازاً عن كونه فعل أمرٍ).

وإن كان فعلُ الأمر إذا كان على حرفٍ واحد فالأفصح أن يقال: (قِهْ) بهاء السكت، يعني: يمكن أن يقال بأنه لو قال: قِه لقيل: فعل أمر، لكن لما قال: قي فحينئذٍ هو محتمِل.

(احترازاً عن كونه فعل أمرٍ؛ لأنه إذا كان كذلك كان للفظه جزءٌ فهو مركبٌ من فعلٍ وفاعل فليس من قبيل المفرد، بل من قبيل المركب).

هذا النوع الأول: بأن لا يكون له جزء.

(أو) هذا للتنويع.

(أو يكونَ له جزءٌ لا معنى له) يعني: مؤلَّف، كلمة مؤلفة من أحرف، وهذه الأحرف تسمى حروف مبنى مثل: زيد الذي ذكرناه.

فحينئذٍ قي هذا لا جزء له؛ لأنه حرف واحد، قد يكون من حرفين فأكثر، له جزء أم لا؟ نقول: نعم له جزء.

زيد له أجزاء ثلاثة (ز، ي، د) إنسان له أجزاء (الهمزة، والنون، والسين، والألف، والنون) حينئذٍ نقول: هذا له جزءٌ.

لكن لو فصَلت وفكَكْت الجزء هذا هل له معنى؟ ليس له معنى. "ز" هل له معنى؟ ليس له معنى.

(أو يكون له جزءٌ لا معنى له) يعني: غير موضوع لمعنى، ما وضعتَه العرب لمعنى، وإنما هو حرف مبنى يؤلَّف منه الكلام.

(كَالإِنْسَانِ) كالإنسان هذا له أجزاء، كل حرفٍ منها يسمى جزءاً ولكن ليس له معنى.

قال: (كَالإِنْسَانِ) (أو له جزءٌ ذو معنى) أي: في وضعه الأصلي.

(لكن لا يدل عليه) يعني: على المعنى.

(كعبدِ الله عَلماً) عبدُ الله عَلماً قبل جعلِه علماً هو مركب إضافي، المقصود هنا المركب الإضافي إذا نُقل "وَشَاعَ فِي الأَعْلاَمِ ذُو الإِضَافَهْ".

إذاً عبدُ الله أصله: عبدُ اللهِ مضاف ومضاف إليه كغلام زيد.

إذاً: عبد هذا جزء، ولفظ الجلالة هذا جزء.

حينئذٍ هذا له معنى، عبد له معنى، وهو عبد للإيجاد، ولفظ الجلالة له معنى.

(لما نُقل فصار علماً صارت دلالة الأجزاء على معانيها نسياً منسياً) نحن نشرح كلام المناطقة هنا.

فحينئذٍ إذا اعتبرنا -على كلام العطّار- عبد جزء ولفظ الجلالة جزء، حينئذٍ عبد لا معنى له؛ لأنه مثل "ز" من زيد لا معنى له، وإذا اعتبرنا كل جزء منه "ع ب د" .. إلى آخره، فحينئذٍ هذا واضح لا إشكال فيه، أنه ليس له معنى.

(5/5)

________________________________________

لكن أحدُ التوجيهين في هذا المقام أن يقال: المعنى الذي كان قبل النقل وهو المعنى الإضافي: كل جزءٍ يدل على معناه، هذا صار نسياً منسياً بعد النقل والعلَمية. هذا وجه.

هنا قال: (أو له جزءٌ ذو معنىً، لكن لا يدل عليه) لا يدل عليه على ماذا؟ على مفهوم عبد الله عَلماً؛ لأنك لو نظرت زيد له مفهوم، يدل على ذات مشخَّصة، فتقول: هذا زيد.

عبد الله يدل على ذاتٍ مشخَّصة، إذاً: الذات المشخَّصة هي مسمى عبدِ الله، والذات المشخَّصة المعيَّنة المشاهدَة في الخارج هي المسماة زيد.

إذا قلت (ز) لا يد على معنى، بمعنى: أنه لا يدل على معنى في نفسه، ويستلزم ذلك ألا يدل على معنى مما دل عليه كلمة زيد، لا يشاركه.

كذلك عبد الله، عبد جزءٌ له معنى قبل العلمية، لكن العبودية أو الإيجاد هذا أو ذاك هل هي من مفهوم عبد الله عَلماً؟ ليست داخلة في مفهومه، لا تُفسَّر به؛ لأن مفهومه شيءٌ واحد وهو الذات المشخَّصة.

إذاً: الذات المشخَّصة لا يلزم منها أن توصف بالعبودية أو بمسمى لفظ الجلالة، هذا قطعاً لا إشكال فيه، فحينئذٍ نقول: هذا جزءٌ ولا يدل "هذا الجزء" على شيءٍ مما دل عليه لفظ عبد الله عَلماً، كذلك لفظ الجلالة -إن صح التعبير- جزءٌ وله معنى، لكن ليس داخلاً في مفهوم عبد الله.

إذاً: له معنى ولكنه ليس هذا المعنى داخلاً في مفهوم ما دل عليه اللفظ قبل التجزئة.

إذاً: عبد الله نقول: هذا مركَّبٌ إضافي.

قبل جعله عَلماً لكل جزءٍ له معنى يختص به، ثم لما نُقل إلى العلمية يرِد السؤال: هل المعاني قبل النقل باقيةٌ؟

المعاني التي دل عليه عبدُ ولفظ الجلالة، هل بعد النقل المعاني موجودة؟ لا. ليست موجودة، سواء اعتبرناها موجودة في ذاتها عند الانفكاك، أو قلنا: صارت نسياً منسياً؛ لأن لها توجيهين عند المناطقة هنا، بعضهم يرى أنه لا معنى لها الأصل، وبعضهم يرى أن المعاني باقية لكنها ليست داخلةً فهي غير مقصودة، وهذا تعليل الشيخ الأمين في المقدمة.

إذاً قال: (أوْ لَه) يعني: اللفظ المفرد .. الذي نُعبِّر عنه بأنه مفرد.

(له جزءٌ ذو معنى) صاحب معنى. يعني: وُضِع له معنًى لسان العرب.

(لكن) حرف استدراك.

(لا يدل) نفيٌ للدلالة بالمطابقة.

(لا يدل عليه) على المعنى.

(كعبد الله عَلماً لإنسانٍ) لماذا؟

قال: (لأن المراد) يعني: من عبد الله علماً. المراد ماذا؟

(ذاتُه، لا العبودية والذات الواجب الوجود) ليس هذا المراد، وإنما المراد أنه صار عَلماً، وأما بعد كونِه عَلماً المعاني السابقة كلها صارت نسياً منسياً.

فليس المراد العبودية ولا الذات الواجب الوجود.

(أوْ) للتنويع، هذا النوع الرابع.

(أو له جزءٌ ذو معنى دالٌ عليه، لكن لا يكون مراداً. كالحيوان الناطق عَلماً لإنسان).

كالكلام السابق، لكن الكلام السابق: العبودية ومدلول لفظ الدلالة ليست داخلة في المسمى، مع وجود المعنى، هذا بناءً على القول بأن "عبد" له معنى لكنه غير مقصود.

يعني: لا يدل على شيءٍ مما دل عليه عبد الله.

هنا حيوانٌ ناطق "مركب توصيفي ليس إضافي" حيوانٌ ناطق سُمِّي زيد من الناس، حينئذٍ نقول: هذا حيوانٌ ناطق التي هي الذات المشخَّصة.

الاسم: حيوانٌ ناطق، المسمَّى: الذات المشخَّصة.

(5/6)

________________________________________

حيوان جزء له معنى، هل المسمى "الذات المشخَّصة" دخل مفهومُ الحيوان فيها أم لا؟ زيد من الناس هل هو حيوان أم لا؟

حيوان؛ لأن الإنسان حيوانٌ ناطق، فإذا قلت: زيدٌ اسمه حيوان ناطق.

إذاً: كما قلنا في عبد الله لما نُقل: هل المعاني التي دل عليها المضاف والمضاف إليه موجودة تحت مسمى عبد الله عَلماً أم لا؟ ليست موجودة، فزيدٌ من الناس ليس عبد وليس هو مفهوم الجلالة -اسم الله-.

هنا حيوانٌ ناطق لا، المعنى موجود، فإذا قلت: زيدٌ من الناس أو شخصٌ ما اسمه حيوانٌ ناطق، الجزء الأول حيوان وله مفهوم، هل هو داخلٌ في المسمى؟ نعم داخل قطعاً، ناطق هل هو داخلٌ في المسمى؟ نعم.

إذاً: هو جزءٌ من المعنى، لكنه هل هو مقصودٌ بالأصالة؟ الجواب: لا.

إذاً: يُشترط هنا أن يكون الجزء قد دل على بعض معنى المفرد لكن بالأصالة، يعني: يكون مقصوداً، وهنا ما قُصِد بحيوان ناطق أن يبيّن بأن هذا المسمى -الذات المشخَّصة- بأنها متصفة بهذين الوصفين، وإنما قُصد العلَمية، والمراد بالعلَمية التشخيص فقط، ما معنى التشخيص؟ يعني: التعيين.

هذه الوظيفة، سمَّيت هذا زيد يعني: ميَّزته عن غيره، بقطع النظر عن المعاني التي يدل عليها اللفظ فقط، ولذلك باتفاق عند النحاة وغيرهم أن الأسماء المشتقة في المخلوقِين -واختُلف في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُستثنى- في المخلوقين أنها لا تدل على معاني.

لو سُمِّي صالح قد يكون طالحاً، إذاً: صالح هل يلزم منه أن يكون المسمى فيه شيءٌ من الصلاح؟ الجواب: لا، بخلاف أسماء الباري جل وعلا فهي أعلامٌ وأوصاف، أما صفات المخلوقين عدا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والملائكة ففيهم خلاف ..

عدا الباري جل وعلا من المخلوقِين عدا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والملائكة، نقول: كل من سُمِّي باسمٍ مشتق فهو جامد لا يدل على ذات وصفة.

الرحمن دل على ذات وصفة، ذات متصفة بصفة.

الرحيم دل على ذات وصفة، العليم .. وقل ما شئت.

أما في شأن البشر لو سُمِّي محمود لا يلزم أن يكون محمود، محمد لا يلزم أن يكون محمد، قد يكون مذموم، هذا في غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

حينئذٍ نقول: لا يلزم، إذا سُمِّي الشخص باسم مشتق أن يدل على الوصف؛ لأنه جامد، لماذا؟

لأنه قُصد بالعلَم "علم الشخص" تمييزه عن غيره فحسب، لا للدلالة على وصفٍ البتة.

هنا إذا قيل: سُمِّي به حيوانٌ ناطق -بهذا التركيب-، حينئذٍ نقول: المقصود به العلمية الشخصية، بأن يكون هذا الاسم معيِّناً له ومشخصِّاً له عن غيره، أما كون حيوان يدل على معنى والمسمى له حظٌ من هذا المعنى. فهذا غير مقصود، فإذا كان غير مقصودٍ فحينئذٍ لا يكون مركباً، وإنما هو مفرد.

قال هنا: (أو له جزءٌ ذو معنى دالٌ عليه، لكن لا يكون مراداً) يعني: لا يكون جزء المعنى مراداً من جزء اللفظ كالحيوان الناطق علماً لإنسان.

قال هنا: (الفرق بين عبد الله عَلماً يدل جزءه على جزء معناه، لكن تلك الدلالة سُلبت حالة العلمية) هذا وجه.

(وحيوانٌ ناطقٌ علماً يدل جزءه على جزء معناه، لكن تلك الدلالة ليست مرادة) هي داخلة لكنها ليست مرادة، هذه أربعة أنواع للمفرد.

(5/7)

________________________________________

إذاً: المفرد هو الذي لا يراد بالجزء منه، إذاً: ليس له جزءٌ أو له جزء.

(لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دِلاَلَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ).

يعني: لا يدل جزءه على جزء معناه؛ لأن معنى اللفظ .. عندنا لفظٌ وعندنا معنى، حينئذٍ إذا كان جزء اللفظ يدل على بعض المعنى، حينئذٍ نقول: هذا مركّب، وإذا كان لا يدل حينئذٍ صار مفرداً.

قوله: (دِلاَلَهٌ) أورده منكَّراً إشارة إلى اعتبار عموم سلب الدلالة في تعريف المفرد بأي دلالة كانت، سواءٌ كانت مطابقة أو تضمناً أو التزاماً.

قال هنا: لكن لا يدل عليه. أي: بعد نقله وجعله عَلماً لصيرورة كلمتيه اللتين تركب منهما كحرفي هجاءٍ كزاي زيدٍ ويائه. هذا قول.

استدراكٌ على قوله: ذو معنى لِرفع إيهامه دلالتَه عليه.

قال الشيخ في الشفاء "إذا أطلق الشيخ المراد به ابن سينا": إنه لا يصدُق على عبد الله علماً أنه يدل جزءه على معنى، صارت نسياً منسياً، بل كل جزءٍ من أجزائه عند قصد معناه العلَمي بمنزلة زاي زيد.

يعني: صار المعنى السابق نسياً منسياً .. عبد الله عَلماً عبدُ مثل زاي زيد لا معنى لها، هذا قولٌ.

وقولٌ آخر: أن المعنى مراد موجود كما هو، لكنه غير مقصود.

وهذا توجيه الشيخ الأمين رحمه الله تعالى في المقدمة.

قال: (كالحيوان الناطق علماً لإنسان؛ لأن المراد ذاتُه لا الحيوانيةُ والمناطقيةُ) يعني: لم تُقصَد بالذات، مع أنه حيوان ٌناطق، لو سُمِّي أي شخصٍ من بني آدم حيوان ناطق لا بد أن يكون حيواناً ناطقاً لأنه إنسان، وإلا لخرج عن كونه إنساناً، لكنه لم يُقصَد أن يوصف بهذه المعاني، وإنما قُصِد علم الشخص.

هذا التعريف أخذه بعض النحاة، جاءت العدوى عند بعض النحاة، فعرَّف به المفرد في باب الإعراب، قال: المفرد هو ما لا يدل جزءه على جزء معناه، هذا التعريف موجود في قطر الندى وفي غيره .. ما لا يدل جزءه على جزء معناه يعني: ليس له جزء أو له جزءٌ ليس له معنى، أو له جزءٌ وله معنى، ولكنه لا يدل على جزء معنى اللفظ المفرد.

يعني: زيد هذا لفظ مفرد، له معنى أو لا؟ له معنى، هل جزءه يدل على شيءٍ مما دل عليه اللفظ؟ لا، حينئذٍ نقول: هذا مفرد.

لكن التعبير بكونه لا يدل جزءُه على جزء معناه، محل الخلاف هنا في: عبد الله عَلماً ونحوه. يعني: في المركبات الإضافية أو التوصيفية أو الجمل إذا نُقلت فصارت أعلاماً.

عبدُ الله علماً "وَشَاعَ فِي الأَعْلاَمِ ذُو الإِضَافَهْ" إذاً: عندنا عَلمٌ ذو إضافة، إذا قلنا: صار نسياً منسياً ما صار مضافاً.

إذاً: القول بأن المفرد في باب الإعراب هناك عند النحاة: ما لا يدل جزءُه على جزء معنا، نقول: هذا من تداخل الحدود وهو حد فاسد، وقد نص غير واحد على ذلك.

الصبّان في حاشيته على الأشموني والبيجوري في شرح نظم الآجرومية للعمريطي، وكذلك الفُتوحي في مقدمة أول شرح المختصر، وابن اللَّحام في مختصر أصول الفقه، وياسين في حاشيته على مجيب الندا قالوا: هذا خطأ، نُغلِّطه لا نقول خلاف سائغ .. لا. غلط من أصله؛ لأن عبد الله هذا مؤلف من كلمتين، عبد الله وهو مضاف ومضاف إليه.

ولذلك حتى السيوطي وافقهم في هذا "وافق المناطقة هنا" في همع الهوامع، وكذلك الأشموني في شرح الألفية وهو غَلَط.

(5/8)

________________________________________

قالوا: هذا يُعتبر كأنه كلمةٌ تقديراً، كيف يكون كلمة والإعراب يكون في وسَطِه؟ إذا قلت: جاء عبد الله قالوا: هذا كلمة واحدة مفرد، عند المناطقة كزيد، زيد وعبد الله لا فرق بينهما.

طيب. إذاً نقول: عبدُ الله، رأيت عبدَ الله، مررت بعبدِ الله؟ أين ظاهر الإعراب؟ والإعراب ما هو؟

أثرٌ ظاهرٌ أو مقدَّرٌ يجلبه العامل في آخِر، آخر المراد به محل الإعراب، عبد الله أين ظهر الإعراب؟ ظهر في محلين .. عندنا إعرابان هنا: الدال من عبد، والهاء من لفظ الجلالة، فكيف يقال بأنه مفرد .. كلمة واحدة؟ هذا يُعتبر غلطاً.

وإنما النحاة لهم اصطلاحٌ خاص في المفرد وهو اللفظ الواحد، أو التلفظ بالكلمة الواحدة عُرفاً، أو كما قال ابن اللحام في المختصر: الكلمة الواحدة، أو اللفظة الواحدة.

إذاً: هذا الذي يُراد به عند النحاة.

زيدٌ كلمة واحدة، عبدُ الله كلمتان. فالنُّطق فيه إخراجُ كلمتين، فحينئذٍ نقول: هذا يُعتبر مركباً ولا يُعتبر مفرداً، وإن كان مفرداً عند المناطقة، ونحن ليس بحثَنا في فن النحو.

إذاً: (ثُمَّ اللَّفْظُ.

إِمَا مُفْرَدٌ: وَهُوَ الَّذِي لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دِلاَلَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ).

وهذا قلنا دخل تحته أربعة أنواع، إذاً: المفرد أربعة أنواع: إما أن لا يكون له جزءٌ، أو له جزءٌ لا معنى له، أو له جزءٌ وله معنى لكنه غير مراد، أو له جزء وله معنى ويدل على جزء المعنى لكنه غير مقصود. فهذه أربعة أنواع.

والفرق بين عبد الله عَلماً وحيوان ناطق فرقٌ دقيق.

قال هنا: (وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ) وهذا يقابل: (إِمَا مُفْرَدٌ)، (وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ) النوع الثاني.

والمشهور عند كثير من المناطقة التعبير بالتركيب: إما مؤلَّف وإما مركَّب؛ لأن الذي يقابل المفرد هو المركب.

(وَإِمَّا) بكسر الهمزة.

(مُؤَلَّفٌ) مثقَّلاً، زِنة اسم المفعول.

قال: (وَهُوَ) أي: المؤلَّف، حقيقتُه: اللفظ الدال بالوضع.

(الَّذِي) هذا قلنا جنس يشمل المفرد والمؤلَّف كسابِقه.

(لاَ يَكُونُ كَذلِكَ) هذا تعريف (الَّذِي لاَ يَكُونُ كَذلِكَ).

الكذلكة هنا إشارة إلى: ما لا يدل جزءه على جزء معناه يعني: يدل جزءه على جزء معناه، عكسُه .. هناك نفي وهنا إثبات.

إذا قلت المفرد: لا يدل جزءه على جزء معناه، ما هو المركب والمؤلَّف؟ احذف "لا" فقط قل: ما دل أو يدل جزءه على جزء معناه.

إذاً: له جزءٌ ولهذا الجزء معنى، وهذا المعنى جزءٌ من معنى اللفظ. هذا المراد هنا.

له جزءٌ وهذا الجزء له معنى وُضع له في لسان العرب، ثم هذا المعنى داخلٌ في مفهوم اللفظ العام، أما إذا كان خارج لا يكون مركباً.

(وَهُوَ الَّذِي لاَ يَكُونُ كَذلِكَ) المشار إليه: قول المصنف في تعريف المفرد: (لا يراد بجزئه .. ) إلى آخره.

فهذا النفي منفي، ونفيُ النفي إثبات.

قال: (لاَ يَكُونُ كَذلِكَ) انتبه: لا يكون، كذلك هذا مردُّه ومرجِعُه إلى (لا يدل).

إذاً نفيُ النفي إثبات.

وقول الشارح: بأن يراد بالجزء منه دلالة على جزء معناه. هو العكس السابق.

(بيانٌ لما تئول إليه عبارة المصنف وحاصلُه: أن القيود المنفية في تعريف المفرد) هو قيْدٌ واحد، لكن قيود باعتبار التوسِعة.

(5/9)

________________________________________

(وحاصلُه: أن القيود المنفية في تعريف المفرد ثابتة للمركب، كما هو تعريف الأمور المقابِلة.

وتلك القيود: هي أن يكون للفظ جزءٌ، وللمعنى جزءٌ، ويدل جزء اللفظ على جزء المعنى دلالةً مقصودة).

التعبير واضح بيِّن.

(أن يكن للفظ جزءٌ، وللمعنى جزء، ويدل جزءُ اللفظ على جزء المعنى دلالة مقصودة) ولذلك قال هنا: (كَرامِي الْحِجَارَةِ).

وصوَّر لنا حدَّ المؤلَّف بقوله: (بأن يُراد بالجزء منه) أي: بهذا المؤلَّف .. الذي نحكُم عليه بأنه مؤلَّف.

(دَلاَلَهٌ) هذا نائب فاعل (يُرُادُ).

(عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ) إذاً: له معنى وهذا المعنى له جزء, يعني: يتبعَّض.

(كَرامِي الْحِجَارَةِ) رامي الحجارة يعني: مضاف ومضاف إليه، أو عبد الله قبل جعلِه عَلماً، أو حيوانٌ ناطق قبل جعله عَلماً. هنا له جزءٌ، وهذا الجزء له معنى، والمعنى له جزءٌ -معنى اللفظ-، ثم هذا اللفظ الذي هو جزءٌ له معنى هو جزءٌ من ذلك المعنى، هذا يسمى مؤلَّفاً .. يسمى مركَّباً.

قال: (كَرامِي الْحِجَارَةِ) (لأن الرامي مراد الدلالة على ذاتٍ ثبت لها الرمي) وفي نسخةٍ (ثبتَ له).

رامي الحجارة. رامي اسم فاعل دل على ذات متصفة بصفة الرمي.

والحجارة اسمٌ مسماه الحجر المعلوم أو الشخص المعيَّن.

حينئذٍ كل منهما مراد، وهو داخلٌ تحت مفهومه، رامي الحجارة هذا معناه: شخصٌ متّصفٌ برميٍ لشيءٍ معيَّن، إذا قلت: رامي. دل على الرمي، هل هو جزءٌ من ذلك المعنى العام الذي دل عليه رامي الحجارة؟ نعم جزءٌ منه.

كذلك الحجارة دلَّت على الشيء المعين المعلوم، حينئذٍ لها معنى، ثم هذا المعنى هو جزءٌ من المعنى العام لرامي الحجارة، هذا يسمى مؤلَّفاً.

إذاً: يُشترط في المركب أن يكون المعنى له جزء، وأن هذا الجزء له معنى وهو داخلٌ تحت المعنى العام، حينئذٍ يتحقق أنه مؤلَّف وإلا فلا.

قال: (لأن الرامي مراد الدلالة على ذاتٍ ثبت لها الرمي) لأنه اسم فاعل.

(والحجارة مرادة الدلالة على جسمٍ معيّن).

قال هنا: (كَرامِي الْحِجَارَةِ) (أي: مركباً إضافياً لا عَلماً) لو كان عَلماً لرجعنا إلى عبد الله.

قال: (وإلا فهو مفرد) يعني: لو كان علماً كما تقدم.

فلفظ رامي يدل على ذاتٍ وقع منها رميٌ .. دلالة مرادة، ولفظ الحجارة دل على الجسم المخصوص كذلك.

(ومجموع المعنيين معنى رامي الحجارة) مجموع المعنيين من المضاف والمضاف إليه (معنى رامي الحجارة.

فيتوقف التركيب على كون اللفظ له جزءٌ) هذا أولاً.

(وكون جزئه له معنى) هذا ثانياً.

(وكون معناه جزء معنى المركب) ثالثاً.

(وكونه دالاً عليه دلالة مقصودة) فشروطه أربعة لتحقُّق المؤلَّف.

قول الشارح هنا: الأولى حذف أل لأن جزء المركب رامي بدون أل؛ لتمثيل المصنف برامي الحجارة للمؤلَّف.

قوله: (له) أي: لذات وذكَّر ضميره لأن الذات مُذكَّر، وتاءه ليست للتأنيث ولذا أُطلق على الله جل ثناؤه، هذا فيه تفصيل.

إذاً: عرفنا أن اللفظ إما مفرد وإما مركب، على التفصيل الذي ذكره المصنف، وهذه التعاريف كما قلنا أنها خاصةٌ بهذا الفن.

قال: (وقدّم المفرد على المؤلَّف) لماذا قدَّم المفرد على المؤلَّف؟

قال: (لأنه مقدمٌ طبعاً فقُدِّم وضعاً ليوافق الوضع الطبع).

(5/10)

________________________________________

قال: (ضابطُ التقدم بالطبع: أن يكون المتقدِّم بحيث يوجد بدون المتأخر، ولا عكس).

قالوا: كالواحد للاثنين، الواحد متقدم على الاثنين (أن يكون المتقدم بحيث يوجد بدون المتأخر) والواحد يوجد دون الاثنين.

قال: (ولا عكس) الاثنين لا توجد دون الواحد.

(ولا يكفي في وجود المتأخر -الاثنين- وجود المتقدم، ولا يكون المتقدم عِلَّةً تامة لوجود المتأخر كتقدم الواحد على الاثنين، والجزء على كله. ويسمى تقدماً بالذات أيضاً).

إذاً: قدَّم المفرد على المؤلَّف لأنه مقدّمٌ طبعاً.

(فقُدِّم وضعاً) يعني: في الذِّكر، ولذلك دائماً تكون التصورات مقدَّمة على التصديقات؛ لأن التصورات مفردات، والتصديقات كُلِّيّات فحينئذٍ الجزء مقدمٌ على الكل.

وَقُدِّمَ الأَوَّلُ عِنْدَ الوَضْعِ ... لأَنَّهُ مُقَّدَّمٌ بِالطَّبْعِ

 

كذلك المفرد مقدَّمٌ على المركب؛ لأن المؤلَّف يتركب من المفردات.

(فقُدِّم وضعاً ليوافِق الوضع الطبع).

قال هنا المحشِّي: تقدم المفرد على المركب باعتبار ذاته أي: أفراده التي يصدُق عليها؛ لأنه جزءه، وأما بحسب المفهوم فإنه مؤَّخرٌ عن المركب.

يعني: التقدم الذي ذكره المحشّي هنا يُعتبر باعتبار الأفراد، ونحن هنا لا ننظر إلى الأفراد وإنما ننظر إلى المفاهيم. يعني: مفهوم المفرد بقطع النظر عن أفراده، لا نتكلم عن زيد وقام وإلى، وإنما ننظر إلى مفهوم "يعني: معنى" المصطلح هذا المفرد.

وكذلك مصطلح المؤلَّف ما المراد به.

إذا كان البحث في المفاهيم فحينئذٍ لا يتأتى أن نقول بأن المفرد مقدّم على المؤلَّف؛ لأن المفرد سلبٌ "سلبُ شيء"، والمؤلف إثباتٌ. وأيهما أولى بالتقديم؟ عندما نقول: لا يدل جزءه، هذا سلْبٌ، يُثبَت الشيء أولاً ثم بعد ذلك يُسلب. هذا المراد يعني: ملَكَة وما يقابلها.

قال هنا: تقدّم المفرد على المركب باعتبار ذاته أي: أفراده التي يصدُق عليها؛ لأنه جزءه. وهذا لا إشكال فيه، باعتبار الأجزاء نقول: المفردات مقدَّمة على المركبات؛ لأنك أولاً قبل أن تقول: زيدٌ قائمٌ لا بد من استحضار زيد واستحضار قائم، وبعد ذلك تركِّب بين المفردين.

إذاً: الفرد "زيد" والفرد "قائم" تقدما في الوجود على المركب، لا إشكال فيه، هذا باعتبار الأفراد والمَصْدَقَات.

وأما بحسب المفهوم "يعني: التعريف والذي يُتصور في الذهن من أجل أن تعرِفه"، وأما بحسب المفهوم فإنه مؤخَّرٌ عن المركب؛ لأن التقابل بينهما تقابُل العدمِ والملَكَة.

العدم النفي، والملكة الوجود، والأعدام إنما تُعرَف بملكاتها، ولذلك قدَّم أكثر المناطقة تعريف المركب على تعريف المفرد، العكس هو الأولى مما صنعه المصنف.

قال والحاصل: أن ذات المركب "أي: مصدوقه" كزيدٌ قائمٌ ونحوه متأخرٌ عما صدق المفرد عليه كزيد وعمرو .. ونحوهما.

ومفهوم المركب وهو ما دل جزءه على جزء معناه متقدِّمٌ على مفهوم المفرد وهو ما لا يدل جزءه ... إلى آخره.

لأن الثاني سلْبٌ للأول، وسلب الشيء فرعٌ عن وجوده، والكلام هاهنا في الثاني دون الأول.

إذاً: البحث في المفاهيم لا في الأفراد والمصدَقات، لو كنا في الأفراد والمصدقات قلنا: المفرد مقدَّمٌ على المركب؛ لأن معرفة الجزء مقدَّمةٌ على معرفة الكل، ولكن البحث في المفاهيم.

(5/11)

________________________________________

حينئذٍ مفهوم المفرد سلبٌ ومفهوم المركب إثباتٌ، والإثبات مقدّمٌ على السلب؛ لأنه لا يمكن أن يسلب شيئاً إلا بعد معرفته، فيكون العكس هو أولى.

قال هنا: (مقدّمٌ طبعاً فقُدّم وضعاً ليوافق الوضعُ الطبعَ).

قال -هذا تعليلٌ آخر-: (ولأن قيوده عدمية والعدم مقدمٌ على الوجود).

قيود ماذا؟ المفرد، إذاً: قدَّم المفرد على المركب لأن قيوده عدَمية.

(والعدم مقدم على الوجود) هذا لا يُسلَّم كذلك؛ لأن هذا إنما هو في العدم المطلق، وليس مما نحن فيه بل العدم هنا إضافي؛ لأنه عدم ملكة ليس سلباً مطلقاً، ليس نفياً مطلقاً وإنما مقيد.

(بل العدم هنا إضافيٌ لأنه عدم ملَكَة وهو متأخرٌ في التعقُّلِ عن الملكة).

إذاً: الأصل فيما ذكره المصنف أنه قدَّم المفرد على المركب للعلتين المذكورتين، والصواب أن المركب هو الذي يقدَّم على المفرد.

قال هنا: قوله (ولأن قيوده) أُورد عليه أن المتقدم قيد واحد لا يدل أو لا يُراد.

وأُجيب بأنه في قوة قيودٍ، وبأن الجمع للتعظيم.

قال: (وأراد بالمؤلَّف المركب، فالقسمة ثنائية) أراد المصنف هنا بالمؤلَّف المركّب؛ جرياً على المشهور بين المناطقة من أنه لا فرق بين التأليف والتركيب.

(فالقِسمة) الفاء للتفريع.

(ثنائية) يعني: القسمة للفظ ثنائية: إما مركَّب، وإما مفردٌ.

وبعضهم يقول: إما مركب، وإما مؤلَّف، وإما مفرد .. القسمة عنده ثلاثية، لكن المشهور بين المناطقة هو أن التأليف والتركيب بمعنى واحد هما مترادفان، ولذلك قال في الحاشية: جرياً على المشهور بين المناطقة من أنه لا فرق بين التأليف والتركيب.

قال: (وذهب بعض المناطقة وأهل العربية إلى أن التأليف أخص من التركيب) فكل مؤلَّف مركب من غير عكس، إذا قيل: أخص حينئذٍ يجتمعان وينفردان، إذا كان بينهما عموم وخصوص وجهي.

(إلى أن التأليف أخصُّ من التركيب لاشتراطهم في التأليف الأُلفة والمناسبة دون التركيب).

هذا ما ذكرناه في ما ذُكر على تبويب ابن مالك رحمه الله تعالى: باب الكلام وما يتألف منه، قيل: ابن مالك رحمه الله يرى التفرقة بين التأليف والتركيب، فالتأليف يُشترط أن يكون ثَم أُلفة ومناسبة بين الجزأين، وأما التركيب فلا يُشترط.

إذاً: التركيب قد يكون مع ألفة ودونها فهو أعم، والتأليف لا يكون إلا مع الألفة والمناسبة فهو أخص، فكل مؤلَّف مركب ولا عكس.

قال هنا: (فالقسمة ثنائية، ومن أراد به ما هو أخص منه فالقسمة عنده ثلاثية).

(ومن أراد به) أي: المؤلَّف.

(ما) أي: معنى.

(هو) أي: المعنى المراد من المؤلَّف.

(أخص منه) أي: من المركب.

فالقسمة حينئذٍ ثلاثية مفرد، ومركب، ومؤلَّف.

والفرق بين عبدِ الله علماً وحيوانٍ ناطق عَلماً، هذا الذي هو محل إشكال، عبدُ الله عَلماً صار نسياً منسياً، فالمعنى لو سُلِّم به ليس داخلاً في المفهوم، وأما حيوانٌ ناطق فهو داخلٌ في المفهوم، فمن فرَّق جعل القسمة ثلاثية، ومن سوَّى جعل القسمة ثنائية.

ولذلك قال هنا -أراد التعريف على التقسيم الثلاثي-: (فالقسمة عنده ثلاثية: مفردٌ) هذا بيان الأقسام الثلاثة، بدل بعض من كل.

(وهو) أي: المفرد على هذا الوجه.

(ما لا يدل جزءه على شيء كزيد) خصَّه بنوعٍ واحد.

(5/12)

________________________________________

(ما لا يدل جزءه على شيء) دخل فيه نوعان: ما ليس له جزء، أو له جزء ولا معنى له. اختص هذا النوع بهذا التعريف فهو المفرد.

(ومركَّب وهو ما لجزئه دلالةٌ على غير المعنى المقصود كعبدِ الله علماً) عبد له معنى، ولفظ الجلالة له معنى. لكنه ليس داخلاً تحت عبد الله علماً.

(ومؤلَّف وهو ما دل جزءه على جزء معناه) يعني "بالمعنى السابق": أن يكون له جزء، وهذا الجزء له معنى، ثم اللفظ له جزء معنى كذلك ويدل هذا الجزء على جزء معنى اللفظ، فيصدُق على ما سبق.

فحينئذٍ اختُص عبدُ الله علماً بكونه "على هذا التعريف أو هذا التقسيم" بكونه مركّباً لا مؤلَّفاً.

قال هنا: (وإذا تأملت في التعريفين الآتيين وجدتهما متباينين) هو يقول: من أراد به ما هو أخص منه، جعَلَ بينهما علاقة يعني: بين المركب والمؤلَّف، لكن إذا نظرت في التعريفين وجدت بينهما تباين.

(لأنه اعتبر في المركب دلالة الجزء على غير المعنى المقصود، وفي المؤلَّف دلالة الجزء على جزء المعنى المقصود).

ولعل المراد بالأخصية هنا قلة الأفراد "يعني: اعتذار عنه" إذ المؤلَّف على هذا القول أقل أفراداً من المركب؛ إذ المركب صادقٌ بصورتين كما سيأتي، والمؤلف خاصٌ بصورة واحدة.

على كلٍ الصحيح: أنه لا فرق بين المركب والمؤلَّف، كلاهما سيّان.

سواءٌ كان له معنى وهذا المعنى غير مقصودٍ أو لا، نقول: هذا لا يسمى مركباً وإنما يسمى مفرداً على اصطلاح المناطقة.

فعبد الله علماً يسمى مفرداً سواء كان له معنى سلّمنا له أو قلنا صار نسياً منسياً، حيوانٌ ناطق له معنى نعم لكنه غير مقصود باللفظ، فهو كذلك مفردٌ غير مركّب.

قال هنا: (والمراد بالإرادة الإرادة الجارية على قانون اللغة).

أين الإرادة (المراد بالإرادة)؟ الذي تضمنها قوله: يراد، لا يراد. في التعريف.

ما المراد بالإرادة؟ يعني: كل واحد يريد من عنده فيجعل للَّفظ معنًى وأجزاءً أم أنه لا بد أن يجري على قانون اللغة؟ لا بد أن يجري على قانون اللغة، فلا يدَّعي مدَّعٍ بأن زيد (ز) لها معنى عنده هو، ثم دل جزءه على جزء المعنى.

فأراده، إرادتُك هذه نقول لا قيمة لها؛ لأن العبرة بقانون اللغة، هذا المراد هنا.

(والمراد بالإرادة) يعني: في الحد السابق.

(الإرادةُ الجاريةُ على قانون اللغة) أي: القواعد المأخوذة من تتبع كلام أهلها -العرب يعني- (وهي الإرادة الجارية على مقتضى تلك القواعد).

لكن ليس المراد هنا اللغة العربية على جهة الخصوص؛ لأن المنْطِق ليس خاصاً باللغة العربية، وإنما كل لغة على حسب ما عندهم من قواعد، ولذلك قال العطّار: أي: قواعدها وما يقتضيها اصطلاحُها.

وليس المراد هنا باللغة خصوصَ اللغة العربية، بل المراد عموم اللغات؛ إذ بحث المنْطِق عن اللفظ ليس مختصاً بلغة من اللغات بل عام.

(حتى لو أراد أحدٌ بألف الإنسان) لو أَسقط "أل" لكان أو لى (مثلاً معنىً، لا يلزم أن يكون مؤلَّفاً) صحيح؟

لو أراد أحدٌ أن يجعل إنسان إنسان، الألف قال: لها معنى عندي، وأنه دالٌ على جزء المعنى الذي دل عليه إنسان، الألف هذه أكني بها عن حيوان، وهو داخلٌ تحت معنى إنسان، يُقبل؟ لا يُقبل؛ لأن هذه ألف حرف مبنى، وكل حرف مبنى لا معنى له.

إذاً: إرادتُه غير معتبرة.

(5/13)

________________________________________

قال: (حتى لو أراد أحدٌ بألف الإنسان) قلنا الأولى إسقاط حرف التعريف.

(مثلاً معنىً، لا يلزم أن يكون مؤلَّفاً؛ لأنها ليست جارية على قانون اللغة).

ثم استطرد المصنف وأراد أن يبيِّن الألفاظ الجارية المشهورة على الألسنة وفيها معنى الضم "ضم شيءٍ إلى شيءٍ آخر" الذي هو التركيب، والتأليف .. ونحوها.

(والألفاظ الموضوعة للدلالة على ضم شيءٍ إلى آخر ثلاثة) مشهورة يعني، هي أكثر من ذلك، لكن المشهورة الكثير الاستعمال الدائر على الألسنة ثلاثة:

(التركيب، والتأليف، والترتيب) أراد أن يبيّن علاقة ومعاني كلٍ.

(فالتركيب ضم الأشياء مؤتلفةً كانت أو لا، مرتبةً الوضع أو لا).

التركيب ضم الأشياء، المراد بالجمع ما فوق الواحد يعني: شيئين فأكثر، لو قلتَ: على ظاهره، لا بد أن يكون من ثلاثة وليس مراداً.

(فالتركيب ضمُّ الأشياء) شيئين فأكثر.

(مؤتلفة كانت) يعني: بينهما ألفة وجرت على قواعد اللغة نحو: قام زيدٌ، وزيدٌ قائم. مؤتلفة أو لا؟ مؤتلفة، ضمُّ أشياء وهي مؤتلفة.

إذاً: قام زيدٌ نقول: هذا تركيب، زيدٌ قائمٌ هذا تركيب، وحيوانٌ ناطق هذا تركيب .. وكل هذه الأمثلة مؤتلفة بين الجزأين.

قال: (مؤتلفة كانت أو لا) نحو: إنسان، لا إنسان. هذا سيأتي في المقدمات إنسان لا إنسان، هل بينهما ألفة؟ لا. إنسان إثبات، والثاني لا إنسان يعني: نفى عنه الإنسانية. وهذا أثبتَها، إذاً: ليس بينهما ألفة.

ولذلك قال: (مؤتلفة كانت أو لا) نحو: إنسان، لا إنسان. فإنهما نقيضان لا أُلفة بينهما. هذا التركيب.

قال: (مرتبة الوضع أو لا) مرتبة الوضع يقصد به إذا كان ثم قواعد كالتعاريف مثلاً، حيوانٌ ناطق جنسٌ ثم فصْل، مرتَّبة أو لا؟ مرتبة: حيوان ناطق، ناطق حيوان؟ غير مرتّبة، بينهما ألفة؟ نعم بينهما ألفة، في الموضعين: حيوانٌ ناطق، ناطق حيوان .. بينهما ألفة، لكن الأول على الترتيب -حيوانٌ ناطق- والثاني لا على الترتيب.

يعني: خالف الترتيب، الأصل تقديم الجنس على الفصل.

إذاً: (مرتبة الوضع) نحو: حيوان ناطق فإن الجنس رتبتُه متقدمة على الفصل (أو لا) نحو ناطقٌ حيوان.

قال: (فهو أعم من الأخيرين مطلقاً) ما هما الأخيران؟ التأليف والترتيب.

(مطلقاً) يعني: غير مقيّد، وبينهما عموم وخصوص مطلق يعني: لا وجهي.

والمطلق هذا يحتاج إلى مادتين فقط. يعني: مادة الاجتماع ومادة الانفراد، ما الذي ينفرد؟ الأعم ينفرد عن الأخص بصورة، وهل الأخص ينفرد عن الأعم بصورة؟ الجواب: لا.

إذاً: العموم والخصوص المطلق نحتاج فيه إلى مادتين يعني: مثالين: مثال الاجتماع، ومثال انفراد الأعم عن الأخص، وأما الأخص فلا ينفرد. ولعله يأتي معنا.

قال: (والتأليف ضمُّها) أي: ضم الأشياء، شيئين فأكثر.

(مؤتلفةً) هذا شرط، ما قال سواء كان مؤتلفة أو لا، لا بد أن يكون بينهما أُلفة كزيدٌ قائمٌ قام زيدٌ، حيوان ناطق .. وما سبق من الأمثلة.

سواء كانت مرتبة الوضع -حيوانٌ ناطق- كما في الترتيب.

(وهو) أي: الترتيب (جعلُها بحيث يُطلَق عليها اسمُ الواحد) أين اسمُ الواحد؟

يعني: إنسان، حيوانٌ ناطق هذه بينهما ألفة ومرتبة، الترتيب هنا جاء على وفق القواعد، فحينئذٍ يُطلق عليها اسمُ الواحد وهو إنسان.

(5/14)

________________________________________

إذاً: إنسان أُطلِق على: حيوانٌ ناطق، هذا يسمى ترتيباً.

(وهو) أي: الترتيب.

(جعلُها بحيث يُطلق عليها اسم الواحد، ويكون لبعضها نسبةٌ إلى بعضٍ بالتقدم والتأخر في الرتبة العقلية) وهذا ما يتعلق بالقواعد التي يذكرها المناطقة في باب الحدود وكذلك في الأقيسة، من حيث التقديم والتأخير.

قال هنا: (بحيث يُطلق عليها اسم الواحد) هذه حيثية تقييد، والباء للملابسة أي: جعلِها ملتبسة بحالة تقتضي تلك الحالة أن يُطلَق عليها اسم مخصوصٌ من غير أسمائها الموضوعة لمفرداتها.

كحيوانٍ ناطق فإنه يُطلَق عليه أنه تعريفٌ واحد، وكقولنا: العالم متغيِّر، الإطلاق هنا لكونه يسمى تعريفاً لا أنه إنسان.

وكقولنا: العالَمُ متغيِّر، وكل متغيِّرٍ حادِث فإنه يُطلَق عليه اسم القياس والدليل -هذا ترتيب- ونحو ذلك، فعُلِم أن تلك الحالة هي عُروض الجزء الصوري للجزء المادي.

إذاً: (وهو) أي: الترتيب.

(جعلُها بحيث يُطلق عليها اسم الواحد) وهذا خاصٌ هنا في فن المنْطِق.

(ويكون لبعضها نسبةٌ إلى بعضٍ بالتقدم والتأخر في الرتبة العقلية).

قوله: (بالتقدم) متعلِّق بالنسبة، وفي الرتبة العقلية متعلقٌ بها أيضاً، وذلك كحيوانٍ ناطق مثلاً، فإن الترتيب العقلي يقتضي تقدم الحيوان لأنه جنس، كما سيأتي.

وتأخُّر الناطق لأنه فصْل، فيقدَّم الجنس على الفصل.

قال: (وإن لم تكن مؤتلفةً كإنسان لا إنسان) هذا في الترتيب أو لا؟

(فإنه يُطلق على مجموعهما لفظٌ مركّب، ولبعضهما نسبةٌ إلى البعض بالتقدم والتأخُّر، فإن ثبوت الشيء مقدَّمٌ على نفيِه).

إذاً: وهو جعلُها بحيث يُطلق عليها اسمُ الواحد ويكون لبعضها نسبةٌ إلى بعضٍ بالتقدم والتأخر في الرتبة العقلية.

قوله: (وإن لم تكن مؤتلفةً) هذا عائدٌ إلى الترتيب.

(وإن لم تكن مؤتلفة) يعني: ليس بينهما أُلفة، فالترتيب لا يُشترَط فيه الائتلاف.

"إنسان لا إنسان" مركَّب وترتيب، لكنه لا أُلفة بينهما هذا نفي وهذا إثبات.

(ولبعضهما نسبةٌ إلى البعض بالتقدم والتأخر، فإن ثبوت الشيء مقدّمٌ على نفيه) فيه ترتيب (كذا قالوا.

ولعل الأنسب: أن المراد باسم الواحد نقيضان) اسم الواحد هنا في هذا المقام نقيضان: إنسان لا إنسان نقيضان.

على كلٍ سُمِّي مركباً أو سُمّي نقضيان المراد اسمٌ واحد.

(فإن المراد باسم الواحد هو الاسم المخصوص بذلك المركب الذي عرَض له الترتيب، وقولنا: لفظٌ مركّب ليس مختصاً به، بل يشمله وغيرهَ).

(أم لا) هذا عائدٌ للتأليف: ضمُّها مؤتلفة سواءٌ كانت مرتبة الوضع أم لا، فهو مرتبطٌ بقوله السابق في تعريف التأليف: سواء كانت مرتبة الوضع أم لا، وما بينهما اعتراضٌ. وهذا الذي شوَّش.

مثاله: ناطقٌ حيوان، فإن بينهما ألفة، هل بينهما ترتيب؟ الجواب: لا.

إذاً: (أم لا) يعني: بينهما ألفة لا ترتيب، ناطقٌ حيوان بينهما ألفة، لكن ليس بينهما ترتيب؛ لأن فيه تقدُّم وتأخُّر.

(فهو أعم) فهو أي: التأليف، أعم من الترتيب من وجهٍ.

(لأنه اعتُبر في التأليف وجود الألفة وفي الترتيب وضعُ كل شيءٍ في مرتبته، فيجتمعان في ضم أشياء مؤتلفة مرتبة كحيوانٍ ناطق وينفرد التأليف فيما لا ترتيب فيه كناطق حيوان، والترتيب بما لا أُلفة فيه كإنسان لا إنسان).

(5/15)

________________________________________

قال هنا: (وأخص من التركيب) أخص يعني: التأليف من التركيب.

هذا أعاده يعني: مفهومٌ مما سبق، ولذلك قال: لا حاجة إليه لنصه عليه فيما سبق.

(وأخص من التركيب) أي: خصوصاً مطلقاً.

(فيجتمعان في نحو حيوانٍ ناطق أو ناطقٌ حيوان، وينفرد التركيب عن التأليف في إنسان لا إنسان، والنسبة بين التركيب والترتيب كذلك، فالترتيب أخص منه مطلقاً، ويجتمعان في نحو حيوانٌ ناطق، وينفرد التركيب في نحو: ناطقٌ حيوان).

قال: (وبعضهم جعل الترتيب أخص مطلقاً من التأليف) على ما ذكرناه سابقاً أيضاً.

(وبعضهم جعلهما مترادِفَينِ) يعني: بعض أرباب التصنيف، هذا البحث ليس خاصاً بالمناطقة، هو عام يذكرُه النحاة وغيرهم.

(وبعضهم جعل الترتيب أخص مطلقاً من التأليف) أي: لاعتباره فيه الأُلفة، ووضع كل شيءٍ في مرتبته اللائقة به.

(من التأليف) أي: لاعتباره فيه الألفةَ أيضاً.

أي: كما هو أخص من التركيب.

(وبعضهم جعلهما) أي: التأليف والترتيب (مترادفين).

على كلٍ هذا بحثٌ استطرادي المراد به أن ثَم ألفاظ وضعها الواضع من باب التعارف، وقد يكون لبعضها شيءٌ من المعاني اللغوية تدل على ضم شيءٍ إلى شيءٍ آخر، سواء كان بينهما ألفة أو لا، ترتيب وضعي .. إلى آخره، هذه كلها تُعتبر بما ذُكر سابقاً.

قال: (وَالمُفْرَدُ) أيُّ مفرد هذا؟ (إِمَا مُفْرَدٌ، وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ) قال: (وَالمُفْرَدُ) أعاد النكرة معرفة فهي عينُها، إذا أُعيدت النكرة معرفة فهي عينُها. حينئذٍ تكون أل للعهد الذكري.

ثم أربعة مواضع ذكرناها مراراً.

(والمفرد بالنظر إلى معناه) أراد أن يقسِّم المفرد هنا إلى كُلّي وجزئي، انظر: أولاً قسّم اللفظ إلى مفرد ومؤلَّف، مؤلَّف ومركب كل الأبحاث التي مرت لا عناية للمنطق بها، استطراداً تُذكر.

بقي معنا: المفرد، المفرد إما كُلّي وإما جزئي.

قال: (والمفرد إما كُلّي أو جزئي).

قال: قوله: (بالنظر إلى معناه) أراد أن يقيده المصنف هنا.

(وَالمُفْرَدُ: إِمَّا كُلِّىٌّ، وَإِمَّا جُزْئِيٌ) قيل: لا وجهَ لتخصيص المفرد بهذا التقسيم.

يعني: التقسيم هنا -الكُلّيّة والجزئية- هل هي خاصةٌ بالمفرد، أم أن المركب كذلك كُلّي وجزئي؟ كذلك المركب كُلّي وجزئي.

لكن لماذا المصنف هنا ذكَر المفرد فقط؟ هذا محل البحث إذاً، لا اعتراض .. يعترض لماذا؟ ليس بحث المنطقي في المركبات، وإنما بحثه في المفردات.

فينظر في المفرد من أجل أن يصل إلى معرفة الكلي من الجزئي؛ لأنا نريد أن نستنبط هذه الكُلِّيّات لنجعلها مواداً للحدود.

حينئذٍ البحث في المركب هذا استطرادي.

(قيل: لا وجه لتخصيص المفرد بهذا التقسيم، فإن المركب ينقسم إلى جزئي كـ: زيدٌ كاتب، وكُلِّي كـ: حيوان ناطق.

ووُجِّه بأنه لكون الكلام هنا في بيان الكُلِّيّات الخمس وهي مفردات).

وهذا واضحٌ بيّن، أما المركب فهذا لا بحث له هنا البتة.

قوله: (وَالمُفْرَدُ: إِمَّا كُلِّىٌّ) هنا جعل مورِد القسمة المفرد.

جعل مورد القسمة "يعني: محل القسمة" المفرد، والمفرد عند النحاة: إما اسم وإما فعل وإما حرف، يعني: يقسَّم بما تُقسَّم به الكلمة، الكلمة هي لفظٌ مفرد.

حينئذٍ ما أقسام المفرد عند النحاة؟ إما اسم، وإما فعلٌ، وإما حرفٌ.

(5/16)

________________________________________

هنا المفرد عند المناطقة: إما اسم، وإما كلمة، وإما أداة. هذا التقسيم عند المناطقة.

الاسم هنا كالاسم هناك، يعني نعرِّفه في الاصطلاح: ما دل على معنى ولم يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة وضعاً.

نقول: هذا يسمى اسماً عند المناطقة وعند النحاة، الفعل واضح عند النحاة، الكلمة عند المناطقة: ما دلَّت على معنى واقترنت بأحد الأزمنة الثلاثة وضعاً.

والكلمة عند المناطقة أخص من مطلق الفعل عند النحاة. يعني: الفعل عند النحاة ثلاثة أنواع.

لو أخرجنا الأمر لأنه لا يدل على الخبر من حيث الإيجاد، بقي معنا الماضي والمضارع، حينئذٍ الماضي هذا فعلٌ وكلمة؛ لأنه كلمة دلّت على معنى واقترنت بأحد الأزمنة الثلاثة، ثم هو مفرد؛ لأن ضرب مثل زيد (ض، ر، ب).

إذاً: له جزءٌ لا معنى له، هو مفرد، وله جزء (ض) له معنى؟ ليس له معنى، إذاً: هو مفرد. إذاً: اشتركا في ضربَ وأكل وشرب .. الفعل الماضي.

بقي الفعل المضارع، الفعل المضارع عند النحاة مفرد، وهذا من الخلط .. ترجع إلى التعريف السابق تعرف أن المسألة فيها خلط.

وعند المناطقة الفعل المضارع مركب وليس مفرد؛ لأنه مؤلَّف من كلمتين، وهذا باتفاق النحاة والمناطقة أنه مؤلَّف من كلمتين.

فـ: أضرِبُ وتضرب ونضرب هذه مؤلفة من كلمتين، حرف المضارعة وهو حرف معنى ليس حرف مبنى، إذاً: له معنى.

وضرب في الأصل كذلك له معنى، إذاً هو مؤلَّف من كلمتين، فأضرب يعني: متكلمٌ أو أتكلم بإخبار إيقاع الضرب مني.

إذاً: "أَضرِب" الهمزة جزءٌ له معنى، هل دل على جزء معنى أضرب؟ نعم دل. ما معنى أضرب؟ هذا فعل مضارع، أضرب زيداً يعني: أنا المتكلم.

من أين أخذنا أنا المتكلم؟ من همزة المتكلم، أما نقول: الهمزة للمتكلم والنون لمن معه .. إلى آخره؟ نقول: همزة المتكلم دلّت على أن الضرب وقع مني، فمعنى: أضرب. أنا المتكلم أُوقِع ضرباً.

إذاً: الهمزة دلت على جزء المعنى، وضرب دلّت على جزء المعنى، هذا يسمى مركباً ولا يسمى مفرداً. إذاً: خرج هذا النوع.

فحينئذٍ صارت الكلمة التي هي عند النحاة أخص من مطلق الفعل عند النحاة؛ لأن النحاة عندهم الفعل يشمل المضارع فهو مفردٌ عندهم، وعند المناطقة لا.

النحاة نظروا إلى وظيفتهم، وهنا نظروا إلى وظيفتهم .. كلٌ ينظر إلى مصلحته في النظر إلى الألفاظ.

النحاة قالوا: العبرة بالعمل، نحن نتكلم عن عاملٍ ومعمول وما يقتضيه، وجدنا أن العامل يدخل على أضرب ويؤثر في الفعل، فإذا قلت: لم أضربْ -بإسكان الباء-.

فحينئذٍ السكون هذا ما الذي أحدثه؟ "لم" وهي حرف، وأضرب الهمزة حرف، لو اعتبرتَ أن أضرب مؤلَّف من حرفٍ وفعلٍ لدخل الحرف على الحرف ولم يدخل على الفعل، لكن لما أثَّر في آخر الكلمة علِمنا أن لم دخلت على فعل.

إذاً: كيف ننظر إلى الهمزة مع الفعل؟ نقول: صارت كالجزء، كما أن أل إذا دخلت على الاسم صارت كالجزء فتخطَّاها العامل، هكذا يقولون.

(5/17)

________________________________________

"مررت بالرجل" أل حرف معنى، وإذا دخلت على رجل صارت الرجل، الرجل هذا مؤلَّف من كلمتين هذا قطعاً مؤلَّف من كلمتين، لكن هذه الكلمة الأولى مُزِجت يعني: صارت كالأصل، والدليل على ذلك: أن العامل إذا دخل ما دخل على أل، وإلا قلنا أل اسمٌ وليست بحرف لدخول حرف الجر عليها وليس كذلك، وإنما نقول: نُزِّلت مُنزلة الجزء من الكلمة، ولذلك تخطاها العامل.

فلما نظروا إلى العامل أنه تخطَّى هذه الحروف قالوا: إذاً هي ليست حروفاً مستقلة، وإن كان لها أثر في المعنى بدليل تخطي العامل فحينئذٍ نقول: صارت كالجزء من الكلمة، المناطقة أبوا ذلك؛ لأنهم لا يلتفتون إلى العمل، إنما ينظرون إلى الأصل .. مركب، وهذا مسلَّم أنه مؤلَّف من كلمتين، ولكلٍ وجهة هو مولّيها.

إذاً: الكلمة عند المناطقة أخص من مطلق الفعل عند النحاة، فيشتركان في ضرَبَ ونحوه، وينفرد الفعل النحوي في بِأضرب ونحوه.

فهذا فعلٌ لا كلمة؛ لأنه مركبٌ عندهم لا مفرد.

الأداة هي: ما يقابِل الحرف، هكذا قيل: ما يقابل الحرف، بل هي أعم.

لو قيل: الأداة ما ليست اسماً ولا كلمة لكان أولى؛ لأنه سيأتي أن الروابط في القضايا أنها تسمى أداة، ومنها ضمير فصل.

إذاً: الأداة ما يقابل الحرف عند النحاة، والأولى أن يقال: غير الاسم والكلمة أداةٌ.

قال: (وَالمُفْرَدُ: إِمَّا كُلِّىٌّ، وَإِمَّا جُزْئِيٌ).

عرفنا أن المفرد يصدُق على: الاسم، والكلمة، والأداة.

المفرد، وأطلق المصنف هنا كعادة غيره، وقسَّم هذا المفرد إلى كُلّي وجزئي، هل دخل الفعل والحرف فينقسم إلى كُلّي وجزئي، أم المراد بعض المفرد؟ المراد بعض المفرد.

يعني: ليس المفرد هنا دخل فيه الأنواع الثلاثة: اسم وكلمة وأدة، لأن الأداة لا تنقسم إلى كُلّي وجزئي، والفعل لا ينقسم إلى كُلّي وجزئي على المشهور، وسيأتي كلام آخر، فحينئذٍ المراد هنا بالمفرد: الاسم، والاسم نوعان: اسمٌ اتحد معناه، واسمٌ تعدد معناه، المراد بالثاني "من باب الاحتراز": المشترَك اللفظي، المشترك اللفظ تعدَّد معناه، اتحد في اللفظ: عَين عين عين، هذه عين هذا عين، الشمس عين، القمر عين، المسجد عين، أنت عين ..

إذاً: اللفظ واحد والمعنى متعدِّد، هل هذا المعنى ينقسم إلى كُلّي وجزئي لا، إذاً بعض الاسم خرج كما خرج الفعل وكما خرج الحرف، أو إن شئت قل: الأداة.

إذاً: قوله: (المُفْرَدُ) ليس على إطلاقه؛ لئلا يهِم الناظر بأن كل ما يصدُق عليه لفظ المفرد أنه منقسِم إلى كُلّي وجزئي لا، بل المنقسم في الاستعمال عندهم والذي عليه العمل هو الاسم، وليس كل الاسم وإنما بعض الاسم؛ لأن الاسم على مرتبتين: منه ما اتحد معناه كرَجل وإنسان اتحد المعنى.

الإنسان الذي تقول: زيدٌ إنسان، عمروٌ إنسان، بكرٌ إنسان .. اتحد المعنى، المعنى هو نفسه، لكن إذا قلت: هذا عين، وهذا عين، وهذا عين، والعين باصرة والشمس عين، معاني متحدة؟ ليست متحدة، هذا يسمى لفظاً، أو اشتراكاً لفظياً. ليس مراداً هنا.

قال هنا: (جعلُ مورِد القسمةِ المفرد يعم الاسم والفعل والحرف).

(5/18)

________________________________________

يعني على ظاهر كلامه "هذا إيراد": (جعلُ مورد القسمة المفرد يعم الاسم والفعل والحرف) وليس المراد أن كل واحد من الثلاثة فيه قسمان، ليس مراداً أن الفعل كُلّي وجزئي، والحرف كُلّي وجزئي، والاسم مطلقاً دون تفصيل كُلّي وجزئي، وإنما المراد بعضُ الاسم.

وليس المراد أن كل واحدٍ من الثلاثة فيه قسمان، بل المراد أن المفرد من حيث هو قِسمان، فإذا قيل: من حيث هو يعني: الصادق بالبعض.

إذا قلت: المفرد من حيث هو، حينئذٍ يُفسَّر بماذا؟ لا يفسّر بأنه صدق على مجموع ما يصدُق عليه لفظ المفرد وإنما في بعض الأحوال، كما تقول في الجملة وبالجملة.

بالجملة يعني: في جميع الصور، وفي الجملة يعني: في بعضها.

إذا قلنا: المفرد من حيث هو قسمان يعني: المفرد في بعض ما يصدُق عليه أنه مفرد، ثم نأتي ونفصِّل.

(المراد أن المفرد من حيث هو قسمان أما الاسمُ فيوجدان فيه) يعني: الكلي والجزئي، لكن نقيِّده: بما اتحد معناه، أما ما تعدد معناه فلا.

وأما الفعلُ، الفعل قيل: كل فعلٍ كُلّي، المشهور أنها كُلِّيّات الأفعال. يعني: لا توصف إلا بالكلي؛ لأنها تقع محمولاً، وكل محمول "قد يأتينا" كل محمول لا يكون إلا كلياً.

محمول يعني: خبر، وإذا كان كذلك فلا يكون إلا كلياً.

إذاً: الفعل لا يكون إلا كُلّيّا، لأنه لا يقع محكوماً عليه وإنما يقع محكوماً به، وأما الفعل فهو كُلّي، ثَم تفصيلٌ عند العطار قال: باعتبار الحدَث الواقع في أحد الأزمنة، وهو لا يمنع نفسُ تصوُّرِه من صدقِه على كثيرين، ولذا صح اتصاف أي فاعلٍ كان بذلك الحدث. وهذا صحيح.

قام دل على القيام، تصوُّر معنى القيام في الذهن هل يمنع الشرِكة؟ هل يختص بواحد دون آخر؟ ما يصدر القيام إلا من زيد وسائر زيد لا يقوم؟ لا، إذا تصورتَ معنى القيام تصورت معنى الشركة فيه، إذاً: يقبل الشركة. هذا كُلّي أو لا؟ صدَق عليهم معنى الكلِّي؛ لأن الكلِّي هو ما أفهم اشتراكاً، كل ما يُفهم اشتراكاً بين أفراده نقول: هذا يسمى كلياً.

قام دل على القيام، القيام صادق على الجميع، هذا هو معنى الكلِّي، ولذلك قال هنا: وأما الفعل فهو كُلّيٌ باعتبار الحدث الواقع في أحد الأزمنة، وهو لا يمنع نفسُ تصوره من صِدقِه على كثيرين، ولذا صح اتصاف أي فاعلٍ كان بذلك الحدث "قام زيدٌ، قام عمروٌ" مشترَك، لا يختص بزيد دون آخر.

وجزئي باعتبار دلالته على نسبةٍ معيَّنة لذلك الحدث إلى فاعل مخصوص، وهذه النسبة غيرُ مقصودة بالذات، بل هي بيْن الفعل وفاعِله تابعةٌ في القصد لهما، فيكون كمعنى الحرف.

الخلاصة: فالفعل كُلّيٌ باعتبار دلالته على الحدث وجزئي باعتبار دلالته على هذه النسبة.

إذا قلت: قام زيدٌ، ثَم نسبة بين الفعل والفاعل، هذه النسبة جزئية؛ لأنها تكون بعد الإسناد، ولذلك عند بعض من يحرِّر العبارة: قام زيدٌ مؤلفٌ من ثلاثة أجزاء، وهذا يذكرونه في قولهم: أصول الفقه مركَّب من جزأين، اعترض بعضهم قال: لا. بل هي ثلاثة.

الجزء الأول: قام، الجزء الثاني: زيدٌ، الجزء الثالث: أمرٌ عقلي وهي النسبة .. نسبة الإضافية بين قام وبين زيد.

(5/19)

________________________________________

هذه جزئية وليست كُلّيّة؛ لأنها هنا مقيَّدة بزيد، كذلك إذا قلت: أصول الفقه. هنا ثلاثة أجزاء التي هي: أصول، والفقه، ثم النسبة التقييدية.

ولذلك نعرِّف الإضافة في باب الإضافة في النحو: نسبةٌ تقييدية.

ما المراد بالنسبة التقييدية؟ هو تقييد الأول بالثاني، هذه أمرٌ عقلي يعني: لها صورة لكنها صورة عقلية، وأما الذي يُلفَظ هو الجزء الأول والجزء الثاني.

إذاً: الفعل له جهتان: جهة يوصف بكونه كُلياً. وهذا هو المشهور وهو الذي يُطلقه أكثر المناطقة.

وجهة يوصف بكونها جزئي وهو باعتبار النسبة إلى فاعل مخصوص.

وأما باعتبار الحدث بقطع النظر عن الفاعل المخصوص فهو كُلِّي، ولذلك تقول: ضرب، وأكل .. وإلى آخره، هذا لا يختص به زيد دون عمرو، وإنما يتصور العقل وقوع الشرِكة فيه.

وأما الحرفُ، فالحقُّ "مع وجود الخلاف فيه" أنه جزئي لا غير؛ لأنه موضوعٌ وضعاً عاماً لمعنى مخصوص.

فـ: مِن دالةٌ على ابتداءٍ معيّن هو ابتداء المتكلِّم السير من البصرة. إذا قيل: "مِن" مِن حرف ابتداء. ابتداء ماذا لماذا؟ البصرة إلى الكوفة، مكة إلى جدة .. إلى آخره، نقول: هل المسافة أو الابتداء ابتداءً وانتهاءً هل هو مقصودٌ مخصوص أم أنه مطلق؟

لا يظهر الابتداء إلا بعد الاستعمال، إذا كان كذلك فحينئذٍ صار مخصوصاً؛ لأن الابتداء لا يتعين تقول: ابتداء ولا يُلتفت أصلاً إلى الحرف إلا بعد التركيب، وإذا كان كذلك فنظراً إلى كونه لا يُستعمل إلا جزئياً حُكِم عليه بكونه جزئياً.

وأما باعتبار الوضع فقد قيل أنه كُلّي، ولذلك قال: أنه مطلق عام لأي ابتداء يعني: صالح لأي ابتداء .. لا يختص به.

فإذا استُعمل من البصرة إلى الكوفة معناه أنه لا نستعمل من ابتداءً إلى كذا في غير البصرة إلى الكوفة أم أنه يُستعمل؟ نقول: يستعمل، هذا معنى الكُلّيّة باعتبار الأصل والوضع.

كل متكلم إذا أراد الابتداء (من، إلى) يأتي بلفظ مِن، ويُراد بها الابتداء الزماني أو المكاني، لكن إذا استعملها صارت جزئياً، وأما قبل ذلك فهي قابلةٌ للاشتراك.

وأما الحرف فالحق فيه أنه جزئي لا غير؛ لأنه موضوع "هنا باعتبار الوضع لا باعتبار الاستعمال" موضوع وضعاً عاماً لمعنًى مخصوص، فمِن دالةٌ على ابتداء معيّن هو ابتداء المتكلم السير من البصرة، وجُعِل آلةً لتُعرَف حالهما فهو غير مستقل بالمفهومية، ولذا لم يصح الإخبار به ولا عنه، والتُزِم أن يُذكر معه متعلَّقُه ومجرورُه، وهذا الابتداء المعنى الذي هو معنى مِن مثلاً ممتنع صدقُه على كثيرين. فهو جزئي وهو كذلك.

إذا قيل: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ)) [الإسراء:1] هذا ابتداءٌ معيَّن، خاصٌ ولا بد له من جار ومجرور، ولا بد له من متعلَّق.

فحينئذٍ نقول: هذا لا يحتمل الشرِكة، هل يحتمل الشركة؟ لا يقبل، ما أَفهم اشتراكاً الكلُّي، والذي لا يُفهم اشتراكاً هو الجزئي، وهذا لا يُفهم اشتراكاً لأنه اختص بالاستعمال.

فهل النظر "هنا محل الخلاف" هل النظر إلى الوضع فقط، أو الاستعمال فقط، أو لهما معاً؟

فمن نظر إلى الوضع فقط قال: الحروف كُلّيّة، وقد قيل به.

(5/20)

________________________________________

ومن نظر إلى الاستعمال فقط قال: جزئية فقط ولا تأتي كُلّيّة؛ لأن الوضع هذا شيءٌ مهجور .. أمر عقلي اعتباري فقط.

ومن نظر إلى النوعين قال: هي كُلّيّةٌ وضعاً جزئيةٌ استعمالاً، والخلاف لا ينبني عليه شيء.

إذاً: (وَالمُفْرَدُ) عرَفنا المراد به.

قال: (بالنظر إلى معناه) هذا فيه إشارة إلى ما ذكرناه سابقاً: أن الكُلّيّة والجزئية وصفان للمعنى حقيقةً، ووصفُ اللفظ بهما مجازٌ من وصفِ الدال بصفة مدلوله، وهذا واضح من حيثُ .. (بالنظر إلى معناه) لا بالنظر إلى لفظه وإنما بالنظر إلى معناه.

ينقسم من جهة المعنى إلى: كُلّي وجزئي.

إذاً: الكلِّي وصفٌ للمعنى، والجزئي وصْفٌ للمعنى.

قيل: أُورِد على قوله: (بالنظر إلى معناه) أن معنى المفرد ما لا يدل جزءه على جزء معناه بالإرادة. وهذا كُلّي، مفهومُ المفرد كُلِّي أو جزئي؟ كلِّي، فكيف ينقسم إلى الكلي إلى كلي؟ هو كلي كيف ينقسم إلى كُلِّيٍّ وجزئي؟

قال: فكيف يقسِّمه إلى كُلِّيٍّ وجزئيٍّ؟ وأُجيب بأن المراد بالمفرد مصدقُه -كإنسان وزيد- لا لفظُه ولا مفهومُه.

ليس التقسيم للمفهوم هنا، وإنما التقسيم باعتبار المصدَق يعني: الآحاد والأفراد هي التي يُحكَم عليها بكونها كُلّيّة أو جزئية.

قال رحمه الله تعالى: (وَالمُفْرَدُ: إِمَّا كُلِّىٌّ، وَإِمَّا جُزْئِيٌ) وجهُ التسمية بالكلي والجزئي.

قيل: الكلِّي كالحيوان مثلاً منسوبٌ إلى الكلِّي الذي هو الإنسان مثلاً، والجزءُ كزيدٍ منسوبٌ إلى جزئه الذي هو الإنسان أو الحيوان، فمصدوقُ الكلِّي جزءٌ إليه ينسب الجزئي، ومصدوق الجزئي كلٌ نُسِب إليه الكلِّي.

هذا المراد به "الكلِّي" الياء هذه هل هي ياء النسبة أو لا؟ فيها خلاف.

هل هي أصلية كياء الكرسي، أم أنها زائدة للنسبة؟ محل نزاع.

من قال بأنها للنسبة ذكَر ما ذكرتُه سابقاً وهو قول العطار.

من قال بأنها ليست للنسبة كما قال المحشِّي هنا: الظاهر أن الياء فيهما ليست للنسَب، وأنها من حروف الاسم الأصلية كياء الكرسي.

ورَدَّ على الكلام السابق.

قال: (إِمَّا كُلِّىٌّ) وعرَّف هذا الكلِّي قال: (وَهُوَ الَّذِي لاَ يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ وَقَوعِ الشَّركَةِ فِيهِ. كَالْإِنْسَانِ).

ما لا يمنع تعقُّلُه من وقوع الشَّرِكة فيه، من حيث المعنى إذا تصوره العقل يعني: فَهِم المعنى، فهم المدلول لا يمتنع في العقل أن يصدُق على أفراد، وأقل الأفراد اثنان فصاعداً.

ولذلك بعضهم يعرِّف الجنس بأنه ما عم شيئين فصاعداً، أقل ما يُضم شيء إلى شيء اثنان، أقل الجمع في هذا الموضع عند المناطقة على جهة الخصوص اثنان.

إذاً: ما لا يمنع تصوُّر مفهومه (وَهُوَ) أي: الكلِّي.

حقيقتُه (الَّذِي) هنا جنس يشمل الكلِّي والجزئي.

(لاَ يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ) نفس هنا بمعنى الذات، لا يمنع ذاتُ تصوُّرِ يعني: فَهْمِ.

(مَفْهُومِهِ) يعني: مدلوله، إضافة بيانية، والمراد بتصور المفهوم حصولُه في الذهن.

(5/21)

________________________________________

أي: ارتسامُ المعنى فيه، فإن التصور -كما مر معنا-: هو حصول صُورة الشيء في النفس (لاَ يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ) إذا تصوَّرَه العاقل -النفس العاقلة- تصوَّر مفهوم هذا المفرد (وَقَوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ) بحيث يصح حملُه على كل فردٍ من أفراده حمْلَ مواطئة.

ما معنى مواطئة؟ يعني: موافقة، احترازاً عن حمل الإضافة والاشتقاق.

فعندنا ضابطان: إما أن يُنظر إلى المعنى، وإما أن يُنظر إلى الاستعمال. إذا أردتَ أن تحكم على الشيء بأنه كُلّي أو لا، وضابطها ما أسهلهما.

الأول: أن تنظر في المعنى. هذا المعنى: حيوان ناطق، هل هو يختص بواحدٍ من الأفراد أم العدد؟

إن كان الثاني فهو الكلِّي، العقل لا يمنع أن يتعدد فيه، أن لا يختص هذا المعنى بفردٍ دون سائر الأفراد.

النوع الثاني "في الحُكم على الكلِّي بأنه كُلّي": أنه يصح أن تنظر إلى الأفراد وتخبِر عنه باللفظ، فإن صح فهو كُلّي وإلا فلا.

إذا قلتَ مثلاً: إنسان. لو نظرنا إلى المعنى السابق: ما لا يمنع تعقُّل مدلوله من وقوع الشرِكة فيه.

إنسان معناه: حيوان ناطق، حيوان ناطق هذا لا يختص بزيد ولا عمرو، بل كل ما هو فردٌ تحت هذا اللفظ، حينئذٍ يصدُق عليه أنه إنسان.

عند الاستعمال ماذا تقول؟ تقول: أفراد زيد، وعمرو، وبكر .. إلى آخره.

فتأتي بالآحاد فتجعلُه موضوعاً –مبتدأً-، وتأتي باللفظ الذي تريد أن تحكم عليه بأنه كُلّي تجعله خبراً. فتقول: زيدٌ إنسانٌ، عمروٌ إنسانٌ، بكرٌ إنسانٌ .. إلى الصباح، صح أو لا؟ صح.

حينئذٍ إذا صحَّ نقول: هذا كُلّيٌّ، وهذا الذي عناه: (بحيث يصح حملُه) حَمْل الكلِّي (لفظاً) من حيث اللفظ (على كل فردٍ من أفراده حملَ) مواطئة يعني: بدون واسطة .. مباشرة؛ احترازاً عن الاشتقاق أو الإضافة.

قالوا: عِلْم ... تصور العلم في الذهن لا يمنع الشرِكة، وحينئذٍ تقول: النحوُ علمٌ، والتفسير علمٌ، والحديث عِلمٌ، والطب علم، والهندسة علم .. إلى ما شاء الله.

إذاً: كُلِّي؟ كُلّي. لماذا؟ لا يمنع تعقله من وقوع الشركة فيه، لكن: مالِك "الإمام مالك رحمه الله تعالى" عِلمٌ؟ ماذا تقول؟ عالم، جئتَ بالاشتقاق، جئت بمادة عِلم الذي هو المصدر واشتققتَ منه اسم فاعل وقلت: عالم.

أو تقول: مالكٌ ذو علمٍ بالإضافة، هنا صح الحملُ أو لا؟ صح الحمل، حملتَ العلم على مالك وقلتَ: مالكٌ عالم، أبو حنيفة عالم، أحمد عالم .. إلى آخره.

أو مالكٌ ذو علمٍ، أبو حنيفة ذو علم .. إلى آخره، صح الحمل، كما صح: النحو علم، والتفسير علم .. إلى آخره.

لكن عِلمٌ صح حملُه على التفسير ونحوه -الذي هو الفنون- مباشرة، هذا يسمى حمل مواطئة، وأما على الأشخاص فلم يصح مباشرة إلا بواسطة إما الاشتقاق كعالِم أو بالإضافة كذي علم.

حينئذٍ عِلم باعتبار الفنون كُلِّي، وباعتبار الأشخاص جزئي لانتفاء الشرط؛ لأن الشرط هنا الذي يتحقق في الحكم عليه بكونه كلياً أن يُحمَل عليه مباشرة دون واسطة اشتقاق ولا إضافة.

وأما مالكٌ عالم أو ذو علمٍ لم يُحمل مباشرة وإنما حُمِل بواسطة إما الاشتقاق وإما الإضافة، وحينئذٍ نقول: باعتبار الأشخاص هو جزئيٌ وباعتبار الفنون هو كُلِّيٌ.

(5/22)

________________________________________

(وَهُوَ الَّذِي لاَ يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ) (نَفْسُ) قلنا: ذات، (تَصَوُّرِ) يعني: فَهْم.

(مَفْهُومِهِ) أي: مدلوله.

قوله: (من حيث إنه متصوَّر) دفَعَ به ما أورد من أن قابل الاشتراك المفهوم الكلِّي المتصوَّر، لا تصوره .. تصوُّر مُتصوَّر.

التصور فعل الفاعل .. أنت، فعلُك جزئي لأنك أنت جزئي، ومن قام بالجزئي جزء.

والذي يَمنع نفسُ تصور مفهوم وقوع الشركة فيه هو المعنَى، هو المتصوَّر لا فِعل الفاعل.

فعل الفاعل وما قام به جزئيٌ، ولذلك قيَّده هنا قال: (من حيثُ) هذه للتقييد.

(من حيث إنه متصوَّر) يعني: باعتبار ما تُصوِّر لا باعتبار التصور نفسِه أو المتصوِّر فإنه جزئيٌ في الحالين، وأما المتصوَّر هو الذي عليه الحُكم، ولذلك قيَّده.

قال هنا: (دَفَع به ما أُورد من أن قابل الاشتراك) الذي يقبل الاشتراك الذي هو معنى الكلِّي (المفهوم الكلِّي المتصوَّر) اسم مفعول بالفتح.

(لا تصوُّره) تصوره هذا فعلُك أنت .. فعل الفاعل وهو جزئي، كل حدثٍ يقع منك فهو جزئي؛ لأنه صادرٌ عن جزئي.

فإنه جزئي لا يقبل الاشتراك لقيامه بالنفس الجزئية، وجزئية المحل تستلزم جزئية الحالّ.

وحاصل الجواب: أن المراد لا يمنع مفهومُه من حيثُ تصورُه.

يعني: العبرة بالمتصوَّر لا بالتصوُّرِ.

قال: وقوع الشرِكة فيه بحيث يصح حملُه على كل فردٍ من أفراده.

قال: (والمعتبر هنا في الحمل هو الاتحاد في الخارج، وهذا لا ينافي التغاير في العقل، بل لا بد له من التغاير فإن الحملَ هو اتحاد المتغايرَين ذهناً في الخارج محقَّقاً أو موهُوماً).

(بحيث يصح حملُه) أي: الكلِّي، تصويرٌ للشرِكة فيه، على كل فردٍ من أفراده بأن تقول: زيدٌ إنسان، وعمروٌ إنسان، وبكرٌ إنسان.

قال: (فإن مفهومه) يعني: مفهوم الإنسان (إذا تُصوِّر) يعني: تُعقِّل في العقل، عُرِف المراد به، ومعناه ومدلوله (لم يمنع من صدقه على كثيرين) يعني متعدِّد: اثنان فأكثر، ولا يستلزم أن يكون ثم عدد لا نهاية له.

قال: (سواءٌ وُجِدت أفرادُه في الخارج وتناهت كالكواكب أم لم تتناهى).

(سواءٌ) هذا راجعٌ لقول المصنف: (الكلِّي) وليس لقوله: (فإن مفهومه).

يعني: أراد هنا أن يشرَع في تقسيم الكلِّي إلى ستة أنواع، لا تقسيم المفهوم وإنما في تقسيم الكلِّي، فيقال: الكلِّي له تقسيمات باعتبارات مختلفة، وهنا التقسيم باعتبار أفراده.

قال: (سواءٌ) راجِعٌ لقول المصنف: الكلِّي، وليس لقوله: فإن مفهومه .. إلى آخره، كما قد يتوهم، وإلا لزم تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره.

(سواءٌ وُجدت أفرادُه) أي: الكلِّي.

قال: أراد به تقسيم الكلِّي ستة أقسام. على المشهور عند المتأخرين.

وذلك أن المتقدمين قسَّمُوه إلى ثلاثة أقسام، المتقدمين يعني: من المناطقة، والمتأخرون خالفُوهم.

يعني: فصَّلوا ما أجملوه، هذا المراد.

قسَّموه إلى ثلاثة أقسام على جهة الإجمال، وجاء المتأخرون فصَّلوا فجعلوا كل قسمٍ قسمين فصارت ستة.

وذلك أن المتقدمين قسّموه إلى ثلاثة أقسام:

ما وُجد له أفراد .. كُلّي له أفراد.

وما وُجد له فردٌ. يعني: كُلّيٌ له فردٌ واحد فقط.

(5/23)

________________________________________

وُجد له فرد ليس في الذهن، الذهن اتفقنا على أنه متعدد، وإنما الكلام في الخارج، الآن عندنا داخل وخارج، داخل يعني: في الذهن، هذا محل اتفاق، ما أفهم اشتراك اثنين فصاعداً .. له أفراد في الذهن.

لكن: هل في الخارج طابَق ما في الذهن أو لا؟ هذا البحث.

إذا قيل: أفراد آحاد يعني: باعتبار الخارج، فهل تطابقا أم لا؟ هذا محلُ الإيراد هنا.

لأنه قد يوجد كُلّي له أفراد ولا وجود له في الخارج، أين هو؟ في الذهن فقط، هذا مركزُه ومحله، أما في الخارج لا وجود له البتة.

إذاً: إذا قيل: أفراد آحاد فالمراد به في الخارج، هل تطابقا أم لا؟ هذا المراد.

ما وُجد له أفراد: كُلّي له أفراد، وما وُجد له فرد: كُلّيٌ له فرد -واحد يعني-، وما لم يوجد له فردٌ.

له أفراد .. له فردٌ .. لا فرد له. هذه ثلاثة.

(فقسَّم المتأخرون كل قسمٍ منها قسمين فصارت ستة، فقسَّموا ما له أفراد إلى ما لم تتناهى أفرادُه).

يعني: جاءوا للقسم الأول: ما له أفراد، فقالوا: الأفراد هذه قد تتناهى .. تنتهي .. تتقلص، وبعضُها لا، يبقى .. لا نهاية له، فقسَّموه إلى قسمين: ما له أفراد إلى ما لم تتناهى أفرادُه كشيء وموجود.

وإلى ما تناهت أفرادُه كحيوان وإنسان ورَجل. حيوان له أفراد لكن تتناهى، وكذلك إنسان له أفراد لكنها تتناهى، ورجل .. إلى آخره.

(وما له فردٌ إلى ما قام البرهان على امتناع غيرِه كإله) يعني: ما له إلا فردٌ واحد في الخارج، وهذا على نوعين: منه ما يمتنع وجودُ فردٍ آخر .. ماله فردٌ هذا على مرتبتين: له فرد يمتنع وجود فردٍ آخر .. دل العقل على امتناع وجود فردٍ آخر مثل: إله .. الإله الحق.

النوع الثاني: ما له فردٌ ولا يمنعُ العقل وجود فردٍ آخر كشمس، شمس هذا نكرة والعقل يقبل التعدُّد، لا يمنع العقل أن يكون شمسان، ثلاثة، أربعة .. إلى آخره، لكن في الخارج ما وُجد إلا شمس واحدة، أين الثانية؟ ما أراد الله. لو شاء الله لكان، فحصل تآلف بين الشمسين، لكن نقول: ما شاء الله.

فحينئذٍ هل يمنع العقلُ وجود شمسٍ ثانية؟ الجواب: لا.

إذاً: له فردٌ واحد وهو على قسمين: ما دل العقل على امتناع فردٍ آخر، وما جوَّز العقل وجود فردٍ آخر لكنه لم يوجَد.

قال: (إلى ما قام البرهان على امتناع غيره كإله، وإلى ما لم يقم البرهان على ذلك كشمس.

وما لم يوجد له فردٌ إلى ما استحال وجودُ فرده كجمع ضدين أو نقيضين، أو عدم وملكة.

وإلى ما يمكن وُجد فرده كبحرٍ من لبنٍ، وجبلٍ من سُكَّر).

قال هنا: (سواءٌ وُجدت أفرادُه في الخارج وتناهَتْ) هو سيذكرها على طريقة المتأخرين.

(سواءٌ وُجدت أفرادُه في الخارج وتناهت) أي: وقَفَت عند حدٍ وانحصَرَت في عددٍ معلوم، هذا المراد بالتناهي: أنها معلومة العدّ.

(كالكواكب) كالكواكب مثال غلط هذا، وإنما الأصل: ككوكبٍ، الكواكب هي الأفراد، لأن المثال يكون بالكلي لا بالأفراد، الكواكب جزئيات هذه، وإنما المثال الصحيح: ككوكب، كوكب هذا كُلّي لا يمنع العقل وقوع الشركة فيه.

ووُجِد في الخارج، وله أفراد متناهية، ولذلك قال: (كالكواكب) مثالٌ للأفراد لا للكل المتناهي الأفراد، فإن مثاله كوكب، والمراد بالكواكب السيارة وغيرها.

(5/24)

________________________________________

(أم لم تتناهى) أي وُجدت ولكن بدون تناهٍي، لم تتناهى يعني: غير محصورة، لم تقف عند حدٍّ.

قال: (كنعمةِ الله) نعمةُ الله تعالى لا تتناهى يعني: لا تنتهي في المستقبل، ولا يُعلم عدها ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)) [إبراهيم:34] هذا في الدنيا، وكذلك في الآخرة لا نهاية لها.

إذاً: ذكَر في هذا الشطر نوعين من الكلِّي: له أفراد في الخارج تناهت ككوكب، لم تتناهى كنعمة الله. وكلٌ منهما له أفراد.

قال: (أم لم توجد فيه لامتناعها في الخارج) يعني: كُلّيٌ لم توجد فيه، لم توجد في الخارج يعني .. كُلّيٌ لا فرد له.

(لامتناعها في الخارج كالجمع بين الضدين، أو لعدم وجودِها وإن كانت ممكِنة).

إذاً: ما لا فرد له على مرتبتين:

المرتبة الأولى: (لامتناعها في الخارج) يعني: يمتنع وجودُها في الخارج.

(كالجمع بين الضدين) مثل القيام والجلوس، الجمع بين الضدين اللفظ التركيب هذا كُلّي، له أفرادٌ في الخارج لكن لا يجتمعان.

يعني: "قائم جالس" هذان نقيضان أو ضدان، هل يجتمعان في صورة واحدة؟ لا يجتمعان.

إذاً: لا مثال له في الخارج، وإنما يمنع العقل الجمعَ بين الضدين، كيف يَقبل الاشتراك؟

نقول: نعم. يقبل الاشتراك في قيام وقعود، نزول وطلوع، النوم والاستيقاظ .. هذا أفراد، كل ما يتقابل الشيئين فيه نقول: هذا متقابلان إما تقابُل ضد أو نقيض.

حينئذٍ نقول: هذا فردٌ، فالتقابل بين القيام والجلوس فرد، والتقابَل بين الصعود والنزول هذا فرد، والتقابل بين الحياة والموت هذا فرد. إذاً: أفراد.

العقل لا يمنع هذه الأفراد، وأما في الخارج هذا لا يمكن تصوُّر عدة أمثلة في موضع واحد.

(أم لم توجد فيه) يعني: في الخارج (لامتناعها في الخارج) هنا في الخارج أعادَه من باب الإيضاح يعني: أظهر في مقام الإضمار (كالجمع بين الضدين).

(أو لعدم وجودِها وإن كانت ممكنة) يعني: يتصور العقل وقوع الشرِكة فيها، ولكن في الخارج لا وجود لها قالوا: كجبلٍ من ياقوت، وبحرٍ من زئبق.

"بحر من زئبق" العقل يتصوَّر .. بحر من زئبق يجري، لو قالوا: بحر من عسل في الدنيا نقول: يتصور العقل هذا، بحرٌ في الجزيرة، بحرٌ في الشام، بحرٌ في مصر .. إلى آخره.

هذه أبحُر تجري، العقل لا يمنع وجود بحر من عسل يجري، لكن في الواقع ما وُجد.

هل يمتنع؟ لا يمتنع، لكن ما أراده الله تعالى، هنا ننفي "هم لا يذكروا هذا" نَنفي لنفي الإرادة. يعني: ما أراده الله عز وجل إرادة كونية؛ إذ لو أراده لكان، فلمَّا لم يكن لم يُرِدْه.

هنا جاء التقابل بالنفي: لو أراده لكان، لكنه لم يكن إذاً: لم يرِده.

إذاً نقول: ما أراده الله تعالى؛ إذْ لو أراده لكان.

(كالجمع بين الضدين، أو لعدم وجودها وإن كانت ممكنة كجبلٍ من ياقوت وبحرٍ من زئبق).

هذه الأمثلة: الجمع بين الضدين، وبحرٌ من زئبق، وجبلٌ من ياقوت من قبيل المفرد المقيَّد لا من قبيل المركّب؛ إذ المقصود هو البحر فقط بقيد: أن يكون من كذا، لا البحرية والزئبقية حتى يكون مركباً.

قال هنا: (أم وُجِد منها فردٌ واحدٌ سواءٌ امتنع وجودُ غيره كالإله) أي: المعبود بحق (إذْ الدليل الخارجي قَطَعَ عِرْقَ الشركة عنه، لكنه عند العقل).

هذا المثال نشرحه ثم نأتي لكلامه.

(5/25)

________________________________________

قال: (كُلِّي وُجِد منه فردٌ) أولاً: ما معنى كُلِّي؟ يعني: العقل لا يمنع الاشتراك، في الخارج وُجد منه فردٌ واحد لم يوجد الثاني لماذا؟ الدليل، إذاً من خارج لا من عقل.

الدليل -يعني: البرهان الساطع- قطَعَ وجود الثاني، إذاً يمتنع.

مثَّلوا بإله، حينئذٍ يرِد الإشكال في أولاً: قلتَ "إله" الذي قيَّدتَه بالحق، أنه لا يوجد في الخارج إلا في فردٍ واحد.

حينئذٍ وَصْفُ غير الباري بالأُلوهية يكون شِركاً، يكون شِركاً من جهة الدليل لا من جهة العقل، وعليه: العقل لا يدل على منع الشرك؛ لأنه لم يمنع التعدُّد في الخارج لمنعِه في العقل، وإنما العقل جوَّز وجود إله، قالوا: هذا كُلِّي لا يمنع الشركة، وأما في الخارج لا يوجد منه إلا واحد.

إذاً: دلالة التحريم على الشرك إنما هي من جهة الشرع فقط لا من جهة العقل، ولذلك استدلوا على أن المشركين قد وقعوا في الشرك فيما سبق: لو كان العقل يدل على قُبْح الشرك لما وقعوا فيه، وهذا غلط، بل الصواب: أن الشرك محرَّمٌ عقلاً وشرعاً، وأن القول بأن الإله يمتنع وجودُه متعدِّداً في الخارج هذا هو محل النظر، كلمة "إله" صحيح أنها كُلِّيّة، بمعنى أن العقل لا يمنع التعدد، في الخارج الإله متعدِّد.

لكن الإله بقيْد (الحق) غير مطلق الإله، فهل البحث في الإله بالقيد أو قبل القيد؟ قبل القيد.

إذاً: كونُه كُلياً قبل أن يُقيَّد بكونه حقاً، وأما البحث في كونه حقاً نقول: نعم لم يوجد إلا الإله الحق، لكن هذه المعبودات التي تسمى آلهة نقول: تُسمى آلهة حقيقة، فحينئذٍ الإله في الخارج على نوعين: إلهٌ بحق، وإلهٌ بباطل. وإلا لو قلنا: لا يوجد إله إلا مقيَّد بالحق في الخارج، "لا إله" نفَتْ ماذا؟ نفَتْ الآلهة الباطلة، وأنت تقول: لا يوجد إله أصلاً في الخارج، فكيف نفت "لا إله" الآلهة الباطلة؟ هذا تناقض.

بل الصواب نقول هكذا: أن لفظ إله كُلِّي لا يمنع تعقُّل مدلولِه من وقوع الشرِكة فيه، وهو لفظ "إله" بدون قيد، وفي الخارج له أفراد كثيرة بلا نهاية، تختلف من زمن إلى زمن ومن بلد إلى بلد.

فحينئذٍ نقول: فيصدُق على الإله الحق أنه إله، ويصدُق على الأصنام أنها آلهةٌ بنص القرآن والسنة النبوية.

لكن إذا أردنا التفصيل بين الحق والباطل نقول: لا إله حقٌ إلا الباري جل وعلا، ولذلك: "لا إله إلا الله" نَفَت الأُلوهية عما سوى الله، وأثبتَتْها للباري جل وعلا.

فقولُهم هنا: (أم وُجد منها فردٌ واحدٌ سواءٌ امتنع وجودُ غيره كالإله) أولاً تعريفُه بـ"أل" خطأ كإله يأتي نكرة، أما الإله لا.

(أي: المعبود) لو أَطلق هكذا قلنا: هذا عام، كلُّ صنمٍ عُبد من دون الله فهو معبود، ((أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ)) [الصافات:86] سمَّاها آلهة، والأصل فيها أنه حقيقة أو مجاز؟ حقيقة، فحينئذٍ يُحمَل عليها.

((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً)) [الأنعام:74] سمّاها آلهة إذاً: هي آلهة، بمعنى أنها معبودة، ولا يلزم أن يكون كل معبود أن يكون بحق.

(5/26)

________________________________________

((وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ)) [يس:74] فإله في الخارج لا يُقيَّد بالحق، وإنما قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً، والذي سُلِّطتْ عليه لا النافية للجنس هو الإله بقيد البطلان.

فقوله هنا: (كالإله) فيه نظر، والصواب أن نقول: كإله بالنكرة.

(أي: المعبود) وقوله: (بحق) غلط، التقييد هنا ليس بصواب.

(إذْ الدليل الخارجي) يَقصِد به النص القرآني .. دليل التمانع.

(قطَعَ عِرقَ الشرِكةِ عنه) والعقل يجوِّزه؛ لأنه لا يمنع الشركة، وأما الدليل الخارجي -خارج العقل- هو الذي جاء بقطع الشركة، وهذا باطل، بل الصواب أن العقل يمنع أن تُصرف العبادة لغير الباري جل وعلا.

(لكنه عند العقل لم يمتنع صدقُه على كثيرين) هذا غلط، ليس بصواب.

قال: (وإلا لم يفتقر إلى دليل إثباتِ الوحدانية) وهذا كذلك، نقول: العقل دل على تحريم الشِّرْك.

(أم أمكن) هذا معطوفٌ على ماذا؟ (أم وُجِد منها فردٌ واحدٌ سواءٌ امتنع وجودُهُ أم أمكن).

(كالشمس) كشمسٍ.

أي: الكوكب النهاري المضيء؛ (إذ الموجود منها واحد، ويمكن أن يوجد منها شموسٌ كثيرة) لكن ما وُجدت كالنجوم.

حتى تتشعشع الأرض بكَثرة الضوء تشعشعاً لا يمكن معه التصرف عادة، ويحترق معه كل شيء، فعدم إيجاد غير هذا الفرد لُطفٌ ونعمة عظمى من الله سبحانه وتعالى.

وقد يكون بينهما تناسب ما الذي أدراك؟ قد توجد شمسٌ وشمسٌ آخَرة ثانية وثالثة، ويجعل الله عز وجل بينهما مناسبة لا يلزم أن يكون تتشعشعُ الأرض بالنار وتحترق .. لا يلزم، هذا شيءٌ عقلي فقط.

قال هنا: (إذْ الموجود منها واحدٌ ويمكن أن يوجد منها شُموسٌ كثيرة).

ثم قال: (ثُم الكلِّي) إذاً: هذه ستةُ أنواع على طريقة المتأخرين.

(ثم الكلِّي إن استوى معناه في أفراده) نقف على هذا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!

(5/27)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

مر معنا أن المصنف رحمه الله تعالى شرَع فيما يتعلق بمباحث الألفاظ قال: (ثُمَّ اللَّفْظُ: إِمَا مُفْرَدٌ، وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ).

واللفظ المراد به: اللفظ الدال بالوضع.

وبعضهم يعبِّر عن هذا باللفظ المستعمل "مُسْتَعْمَلُ الأَلْفَاظِ حَيْثُ يُوْجَدُ" يعني: اللفظ المستعمل، وهو الذي عناه المصنف هنا؛ إذ اللفظ المهم لا ينقسم إلى مفرد وكُلِّي.

ويكون مفرداً كديز، أما هل يكون مركباً؟ هذا فيه خلاف. منهم من أثبته ومنهم من نفاه، لكن البحث هنا في مستعمل الألفاظ يعني: اللفظ المستعمل.

وأما اللفظ المهمل سواء قيل بأنه مفرد أو ينقسم إلى مفرد ومركب هذا لا ينبني عليه كبير علم.

(ثُمَّ اللَّفْظُ: إِمَا مُفْرَدٌ، وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ).

والمفرد عرّفه المصنف هنا بقوله: (وَهُوَ الَّذِي لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دَلاَلَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ) يعني: ما لا يدل جزءه على جزء معناه، هكذا اشتهر.

وقلنا: هذا يدخل تحته أربعة أشياء: إما أن يكون المفرد الذي يصدق عليه أنه مفرد ما لا جزء له أصلاً. كباء الجر ولامِه، وما كان على حرفٍ واحد، حينئذٍ نقول: هذا ليس له جزءٌ. وهذا واضح.

الثاني: ما له جزءٌ ولكن لا معنى له، يعني: لم يوضع له معنًى في لسان العرب. كحروف المباني، فكل حرف مبنى في لسان العرب في المفردات، هذا يُعتبر حرفاً لم يوضع لمعنى من المعاني البتة فـ (ز) من زيد، و (ي) من زيد و (د) من زيد .. كل حرفٍ منها هذا جزءٌ ولا شك؛ لأنه ينفك عن الكل الذي هو زيد، لكن (ز) هل له معنى؟ الجواب: لا. ليس له معنى، هذا النوع الثاني.

النوع الثالث: أن يكون له معنًى لكنه سُلب المعنى بعد نقلِه إلى العلمية، ويعنُون به ما كان على وِزان عبد الله ونحوه.

يعني: قبل جعلِه عَلماً هو مضاف ومضاف إليه .. عبد الله، جاء عبد الله وتعني به عبد الله كغلام زيد، فحينئذٍ لو نُقل وجُعل علماً صار مسماه غير مسمى عبد الله مركباً إضافياً؛ لأن المركب الإضافي كما مر معنا أنه مؤلَّف من ثلاثة أجزاء: معنى المضاف، ومعنى المضاف إليه، والنسبة التقييدية بين المضاف والمضاف إليه.

هذا المعنى صار منسياً، فإذا قلت: جاء عبد الله علماً حينئذٍ نقول: عبد الله مدلوله كمدلول زيد وهو ذات مشخَّصة، لا يلاحظ فيه معنى العبودية ولا يلاحظ فيه معنى لفظ الجلالة. هذا قول لبعضهم، أنه صار نسياً منسياً.

وبعضهم يرى أن المعنى قبل العلَمية باقٍ، لكنه لمَّا كانت الدلالة غير مقصودة حينئذٍ صار مفرداً، ويُشترط في المركب أن تكون الدلالة مقصودة.

النوع الرابع: أن يكون له جزءٌ وهذا الجزء له معنى، وهو جزء معنى اللفظ المستعمل أو اللفظ المفرد.

وهذا مثّلوا له بحيوان ناطق، حيوان ناطق عَلماً، قبل جعله علماً هو مركب توصيفي تقييدي، الثاني وصفٌ للأول .. الثاني يستلزم الأول. إذاً: بينهما نسبةٌ تقييدية.

(6/1)

________________________________________

فحينئذٍ إذا جُعل عَلماً المعنى السابق سواءً قلت صار نسياً منسياً أو لا، هو موجودٌ في مسماه "هو جزء المعنى"، حينئذٍ إذا سُمّي به الذات المشخَّصة قلنا: هذا حيوانٌ ناطق.

طيب. الجزء الأول حيوان، الجزء الثاني ناطق، حينئذٍ هل معنى الحيوان هو جزء معنى حيوان ناطق؟ نقول: نعم هو جزءه، لكنه هل هو مراد؟ غير مراد.

ثَم نوع خامس يمكن أن يُجعَل في ضمن عبد الله، لكن يُذكر من باب إتمام الفائدة وهو أنه قد يكون لكل جزءٍ معنى، لكن هذا المعنى غير المعنى الذي يصدق عليه اللفظ المفرد. يعني: له جزءٌ وهذا الجزء له معنى، لكنه مغاير تماماً لمعنى اللفظ الكامل.

نحو: أبكم "مثَّل الشيخ الأمين بأبْكم"، أبكم معلومٌ أنه معناه: العاجز عن الكلام، له جزءان: أب، وكم.

"أب" هذا يدل على ذات متصفة بالأبوة، وكم إما أنه استفهام أو إخبارية، إما سؤالٌ .. استفهام عن عدد، وإما إخبارٌ عن عدد كثير. وكلٌ من المعنيين غير مراد أصلاً، ليس داخل تحت المعنى الذي هو الكلِّي الذي هو العاجز عن الكلام.

هذا يمكن أن يُجعل تحت عبد الله وإن كان يُجعل مستقلاً ولا إشكال في ذلك، ولذلك الشيخ الأمين رحمه الله تعالى جعل الاحتراز عن عبد الله عَلماً جعله بزيادة لفظٍ لم يذكره المصنف هنا، هو اعتمد قولاً يعرِّف المفرد بأنه: ما لا يدل جزءه على جزء معناه دلالةً مقصودة خالصة.

دلالة مقصودة هذا واضح أنه غير مقصود خَرَج.

خالصةً، جعَل له مثال عبد الله، عبد الله قال: له معنى، عبد ولفظ الجلالة له معنى وهو باقي لم تُسلب، لكن هل الدلالة هنا خالصة من شائبة العلمية أم شابها شيءٌ من العلَمية؟ شابها شيءٌ من العلمية. والذي يكون مركباً هو ما كانت الدلالة فيه دلالة خالصة عن أي شيءٍ آخر، وهذا يمكن أن يُجعل داخلاً فيما سبق ويمكن أن ينفرد.

إذاً: ما هو المفرد؟ ما لا يدل جزءه على جزء معناه، المؤلَّف عكسه ولذلك قال: (وَهُوَ الَّذِي لاَ يَكُونُ كَذلِكَ) يعني: ما يدل جزءه على جزء معناه.

وقلنا: هذا يشتمل على أربعة أشياء، يتوقف التركيب على: كونِ اللفظِ له جزءٌ، وكونِ جزئِه له معنى، وكونِ معناه جزءَ معنى المركب، وكونِه دالاً عليه دلالةً مقصودة.

إذاً: ما دل عليه دلالة غير مقصودة ليس بداخل، ما استوفى هذه الشروط الأربعة يسمى مؤلَّفاً ومركباً على الصحيح، ولا إشكال في التسمية بالمؤلَّف والمركب.

حينئذٍ يدخل تحت المركب ثلاثة أشياء على المشهور:

الأول: الإسناد الخبري التام. يعني: الذي نسميه، قلنا المفرد يصدق بأربعة أشياء في علم المنْطِق.

المركب يصدق بثلاثة أشياء على المشهور، قد يزاد أشياء غير مشهورة:

أولاً: المركب الإسنادي الخبري التام. يعني: الذي يسمى في الاصطلاح عند النحاة كلاماً، جملةً اسمية أو جملةً فعلية.

النوع الثاني الذي يصدق عليه أنه مركب هنا: المركب الإضافي كغلام زيد.

النوع الثالث: المركب التوصيفي أو إن شئت قل: المركب التقييدي كحيوان ناطق.

يعني: الصفة مع الموصوف، هذه ثلاثة:

الإسنادي التام الخبري، قام زيدٌ، زيدٌ قائم. هذا مركب ولا إشكال فيه، ويدل جزءه على جزء معناه.

(6/2)

________________________________________

غلام زيدٍ هذا دل جزءه على جزء معناه فهو مركب، إذا دل الجزء على جزء المعنى، على بعض المعنى الذي دل عليه غلام زيد، فحينئذٍ نسميه مركباً، نسمي الجزء أم غلام زيد؟ غلام زيد هو المركب، الجزء لا اعتبار له.

فنقول: معنى غلام زيد هو غلامٌ منسوبٌ لزيد هكذا، طيب غلام وحدها تدل على الذات المشخَّصة، هل هو جزءُ: غلامٌ منسوبٌ لزيد؟

"غلام زيدٍ" ما حقيقة المركب هنا في المنْطِق؟ ما يدل جزءه على جزء معناه.

يعني: له جزءٌ، هذا الجزء له معنى، هذا المعنى بعض ما دل عليه المركب.

طبِّق معي: غلام زيدٍ، نريد أن نعرف هل هو مركب أم لا؟

نقول: غلام زيدٍ له جزءان: غلام وزيد.

ما معنى غلام زيد، ماذا نفهم منه، يدل على ماذا؟

غلامٌ منسوبٌ لزيد.

هذا المعنى التركيبي الذي دل عليه المركب الإضافي.

خُذ غلام وحدها "هي جزءٌ انفكت" لها معنى؟ نعم لها معنى، هذا المعنى ما علاقته بالمعنى الكلِّي الذي دل عليه غلامُ زيد، جزءه؟ جزءه نعم.

كذلك زيد له معنى؟ نعم له معنى، ما علاقة هذا المعنى بالمعنى الكلِّي الذي دل عليه غلام زيد؟ جزءه، نسميه مركباً.

كذلك حيوانٌ ناطق القول فيه كالقول في المركب الإضافي.

إذاً: ثلاثة أشياء تسمى بالمركب عند المناطقة، الإسنادي الخبري التام -الجملة الاسمية والجملة الخبرية-، والمركب الإضافي والمركب التوصيفي، وإن شئت قل: التقييدي لا إشكال فيه.

يرد إشكال هنا وهو محل السؤال هنا: مر معنا أن العِلم إما تصور وإما تصديق، ما حقيقة التصور؟ إدراك مفردٍ، ما حقيقة التصديق؟ إدراك نسبةٍ خارجة "وَدَرْكُ نِسْبَةٍ بِتَصْديقٍ وُسِمْ" حينئذٍ يرد السؤال: ما ضابط المركب؟

قلنا: ضابط المركب كل إسنادٍ خبري تام، هذا الذي يتعلَّق به الإدراك فنسميه تصديقاً، هذا الذي تعلَّق به الإدراك فسميناه تصديقاً، ما علاقتُه بالمركب معنا هنا؟ هل تعلَّق بجميع أنواع المركّب أم ببعضه؟ ببعضه وهو الإسناد الخبري التام، ماذا بقي؟

الإضافي والتقييدي، إذاً: الإضافي والتقييدي إن تعلَّق به الإدراك لا يسمى تصديقاً .. المركب الإضافي والمركب التوصيفي إن تعلَّق به الإدراك لا يسمى تصديقاً، إذاً: ليس بمركب؛ لأنه سيتعلق به الإدراك فيكون تصوراً، والتصور ما هو؟ إدراك المفرد.

إذاً النتيجة: أن المفرد في باب أنواع العِلم غيرُه في باب تقسيم اللفظ هنا إلى مفرد ومركب. هناك ما ليس بمركبٍ إسنادي، أو كل ما ليس بخبر إسنادي تام نسميه مفرداً.

فحينئذٍ تعلُّق الإدراك بالمركب الإضافي نقول: هذا تصور وليس بتصديق؛ لأن التصور إدراك المفرد، وغلام زيد هناك يسمى مفرداً، وحيوانٌ ناطق هناك يسمى مفرداً؛ لأنه ليس بإسنادٍ خبري تام.

فكل ما ليس بجملة اسمية ولا جملة فعلية تعلُّقُ الإدراك به يسمى مفرداً، حينئذٍ تكون النتيجة أنه تصوُّر.

هنا قلنا: المركب ثلاثة أشياء: الإسنادي التام، والمركب الإضافي، والتقييدي. لا إشكال فيه.

المفرد هناك يشمل المركب الإضافي والتقييدي، وهنا لا يشمل المركب الإضافي والتقييدي لا إشكال فيه، كما هو شأن المفرد في باب النحو، قد يشمل في بعض المواضع شيء وقد يختلف عنه في بعض المواضع.

(6/3)

________________________________________

ولذلك المفرد يختلف في باب الإعراب، في باب المبتدأ والخبر، في باب خبر لا .. إلى آخره.

وأما المفرد هنا فله اصطلاحان متعددان مختلفان، هناك في باب التصورات والتصديقات له اصطلاحٌ خاص، فالمفرد كل ما ليس بإسنادٍ خبري تام، فدخل فيه المركبات بسائر أنواعها ما عدا هذا النوع، وهنا دخل المركب الإضافي والتوصيفي في النوع الثاني وهو المركب وليس بمفردٍ.

إذاً: إما مفرد وإما مركب، هو عبّر بالتأليف بناءً على أنه لا فرق بين التأليف والتركيب وهو الصحيح، وما ذكره المصنف من التفرقة هذه أمور مستطردة "الأمر استطرادي"، فلا يُشكل عليكم ضبطُها أمرها يسير إن شاء الله تعالى.

قسَّم بعد ذلك المفرد إلى نوعين: إلى كُلّي وجزئي.

(المُفْرَدُ: إِمَّا كُلِّىٌّ، وَإِمَّا جُزْئِيٌ) قلنا أيّ مفرد هذا؟ قلنا: المفرد أنواع .. المفرد عند النحاة: اسمٌ وفعلٌ وحرف، وهنا اسمٌ وكلمة وأداة.

ماذا أراد هنا بالمفرد؟ بعض الاسم. إذاً: لا الفعل لأن الفعل كُلّي على المشهور؛ لأنه يقع محمول يعني: يُخبَر به، ولا يُخبَر إلا بالكُلّيّة، لذلك حكموا في الغالب .. يحكمون "دون التفصيل الذي ذكره العطار بالأمس" يحكُمُون بأن الفعل كُلّيٌ مطلقاً؛ لأنه يقع محمولاً، عندنا موضوع ومحمول يعني: يُخبَر به، ولا يُحمَل إلا كُلّيٌ.

إذاً: الفعل صار كلياً.

والحرف ثلاثة أقوال: كُلّيٌ باعتبار أصل وضعِه لصلاحية استعمالِه في كل تركيب.

ثانياً: جزئيٌ مطلقاً؛ لكونه لا يُستعمل إلا في معيَّن.

ثالثاً: التفصيل. كُلّيٌ وضْعاً، جزئيٌ استعمالاً.

إذاً: خرَج الحرف والفعل.

بقي الاسم، قلنا الاسم على نوعين: ما اتحد معناه، ما تعدد معناه.

اتحد معناه كإنسان ورجل، وأنثى وامرأة .. إلى آخره، المعنى واحد: الإنسانية التي في زيد هي عينُها التي في عمرو.

النوع الثاني: ما تعدَّد معناه ولو اتحد لفظه، هذا يسمى المشترَك اللفظي، المشترك عندنا نوعان: مشترك معنوي، واشتراكٌ لفظي.

هذا يسمى المشترك اللفظ وهو: ما تعدد معناه واتحد لفظُه. والوضع كذلك متعدد.

فحينئذٍ عين هذا مشترك يُطلق على الذهب، والعين الباصرة، والفضة، والشمس .. عدَّها إلى ثلاثين والله أعلم، بل جوَّز بعضهم كل جامدٍ يجوز أن يقال بأنه عين، حينئذٍ ليس له نهاية.

فإذا كان كذلك فاللفظ واحد: هذا عين، هذا عين، هذا عين.

والأسماء المسمَّيات، الأسماء عين.

المسمى مختلف متعدد، فهذا مسمى مختلف في الحقيقة عن هذا وهكذا.

فحينئذٍ نقول: هذا لا ينقسم إلى كُلّي وجزئي، وإنما الذي ينقسم: ما اتحد معناه.

إذاً: ليس كل اسمٍ يتنوّع إلى الكلِّي والجزئي وإنما بعضُه، ولذلك نقول: المفرد وإن أطلقه المصنف هنا فنحمله على بعض أنواع الاسم وهو ما اتحد معناه، وأما ما تعدد معناه فلا ينقسم إلى كُلّي وجزئي.

وعرّف الكلِّي بأنه ما (لاَ يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ وَقَوعِ الشَّركَةِ فِيهِ) يعني: إذا تصوره العقل هذه التعاريف يمكن أخذها ببساطة، فنقول: ما تصوره يعني: فهِمه العقل، وجوَّز وقوع الشركة فيه. حينئذٍ نسميه كُلّياً، بمعنى أن كل فردٍ يصدق عليه هذا الكلِّي.

(6/4)

________________________________________

ولذلك ضابطه كما قال: (بحيث يصح حمله على كل فردٍ من أفراده) قلنا: لا بد من تقييده: مواطئة؛ بحيث يصح حملُه حملَ مواطئةٍ على كل فردٍ من أفراده.

كيف نحمله حمل مواطئة؟

بأن نقول: زيدٌ إنسان، عمروٌ إنسان هذا تواطؤ.

(بحيث يصح حمله على كل فردٍ من أفراده) يعني: يُخبَر به، حمل مواطئة يعني: مباشرة بلا واسطةِ اشتقاقٍ ولا إضافة، فنقول: زيدٌ إنسان، عمروٌ إنسان، بكرٌ إنسان، هندٌ إنسان، فاطمةٌ إنسان .. إلى ما لا نهاية.

إذاً: له –الكلِّي- معنى وهو ما لا يمنع تعقُّل مدلوله من وقوع الشرِكة فيه. يعني: إذا تعقّله العقل وفهمه المتأمل والناظر، حينئذٍ مدلولُه ومعناه ومفهومُه لا يمنع العقل بأن يشترك فيه اثنان فأكثر .. ليس المراد ملايين، اثنان فأكثر، فيصدق حينئذٍ نقول: هذا كُلّي.

إنسان معناه حيوانٌ ناطق، فيشترك فيه زيد وعمرو .. إلى آخره، نقول: هذا كُلّي؛ لأن العقل لا يمنع أن تقع الشرِكة في هذا المفهوم، لا يختص به زيد دون عمرو، فلا يقول -رجل مثلاً-: زيدٌ رجلٌ، وعمروٌ رجلٌ، وخالدٌ رجلٌ. فلا يقول: أنا رجل فقط وغيري لا، نقول: لا. هذا معنى مشترك، فيستوي في أفراده.

ولذلك قال هنا: (بحيث يصح حمله على كل فردٍ من أفراده).

قال العطار: (فيه تنبيه على أن جميع الكُلِّيّات متساويةٌ باعتبار نفس التصور، حتى أنه ما من كُلّيٍ إلا وهو صادق على أفراد متكاثرة بهذا الاعتبار، وإن لم تكن موجودة، بل وإن استحال وجودُها).

إذاً: هذا قدرٌ مشترك بين سائر الكُلِّيّات.

ضابطُه من حيث العمل، من حيث الألفاظ والتراكيب تقول: صحةُ حملِه حملَ مواطئةٍ على أفراده، وحمل المواطئة المراد به أن لا يكون ثَم اشتقاق ولا إضافة.

حمل مواطئةٍ ..

عِلْم هذا كلي أم جزئي؟

هذا له أفراد، مفهومه إذا تعَقَّلَه مُتعقِّل لا يمنع الشرِكة فيه فيدخل تحته أي عِلم، سواءٌ علماً دينياً أو دنيوياً.

هذا من حيث العِلم والفن، حينئذٍ يكون كلياً، من حيث المعنى عرفنا أنه لا يَمنع، من حيث المثال وحملُه حملَ مواطئة تقول: الفقه عِلمٌ والتفسير عِلمٌ والطب علمٌ والهندسةُ عِلمٌ .. وهكذا ..

حملُه على الأشخاص: مالكٌ ذو علمٍ أو عالمٌ، إذاً: العِلم فيه تفصيل، لماذا؟ لأنه إذا حُمل على الأشخاص لا يُحمَل مباشرة، ولا بد من تحويله إما أن يُشتَق من المصدر اسم فاعل، وإما أن يضاف إلى "ذو" نقول: مالكٌ ذو علمٍ وأحمد ذو علم، سفيان ذو علمٍ .. إلى آخره، أو تقول: عالمٌ عالمٌ عالمٌ.

حينئذٍ توصلنا إلى كونه محمولاً على الأشخاص بواسطة لا بنفسه عِلم، هذا يسمى جزئياً، يعني: باعتبار الأشخاص هو جزئي، وباعتبار الفنون هو كُلّي.

قال: (كالإنسان).

(وَهُوَ الَّذِي لاَ يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ وَقَوعِ الشَّركَةِ فِيهِ) (كالإنسان).

ثم قلنا: ينقسم الكلِّي باعتبار وجود أفراده في الخارج، وعدمِ وجودِها إلى ثلاثة أنواع:

والتقسيم الثلاثي هذا باعتبار المتقدمين: ما وُجد له أفراد، وما وُجد له فرد، وما لم يوجد له فرد.

ما وُجد له أفراد متعددة، ما وُجد له فردٌ واحد، ما لم يوجد له فردٌ البتة.

(6/5)

________________________________________

ما لم يوجد له فردٌ. قلنا: هذا قسمان؛ لأن عدم وجود الفرد في الخارج، قلنا الأفراد البحث السابق بحث ذهني، متى نُثبِت أن هذا اللفظ كُلّي؟ عرفنا الضابط السابق.

الآن باعتبار وجودِه في الخارج، طبعاً الكلِّي لا يوجد هكذا، وإنما يوجد في ضمن أفرادِه. نقول مثلاً: الإنسان، الإنسان حيوانٌ ناطق. هذا حيوان ناطق المعنى أنت تدركه، اللفظ إنسان والمعنى حيوان ناطق.

فحينئذٍ حيوان ناطق أين يوجد؟ في الذهن، لا وجود له في الخارج، إذا أردت إثباته فتقول: عندنا حيوانٌ ناطق لا زيد ولا عمرو ولا بكر.

يمكن يشار إليه تقول: هذا حيوان ناطق وليس بزيد ولا عمرو؟ لا. وإنما يوجد في ضمن أفراده، فحينئذٍ يتحقق وصفُ الإنسان في ضمن يعني: يوجد في أفراده، وأما هو منعزل منفك عن أفراده لا وجود له في الخارج البتة، وإنما وجودُه وجود ذهني.

ونبّهنا فيما سبق: أن المراد بالوجود هنا الملاحظة، فليس المراد بالذهن مفتوح غرفة وفيها شيء اسمه حيوان ناطق لا، إنما المراد الملاحظة "ملاحظة المعاني" وحقيقتُها على وجهها الله أعلم بها، قد يكون العلم وصل إلى شيءٍ ما لا ندري، لكن هذا الموجود وهذا الذي يشعر به الإنسان.

إذاً: ما لم يوجد له فرد. قلنا هذا نوعان.

ما استحال وجودُ فرد مثل: إله.

ليس له فرد، عدم وجود الفرد إما للامتناع، إما للجواز مع عدم الوجود. هذان حالان فقط، هو تحته قسمان، هذه الثلاثة كل واحد تحتها قسمان، أنا بدأت بالأخير.

ما لا فرد له .. ليس له فرد وإنما وجوده في الذهن، هذا قد يكون المانع من وجود الفرد استحالة وجوده كالجمع بين الضدين، قلنا: هذا يستحيل وجوده، لا يمكن أن يوجد.

الجمع بين الضدين قلنا: هذا معنى كُلّي وجوده في الذهن في الخارج لا يوجد، قائم جالس، صاعد نازل لا، نائم مستيقظ في وقت واحد!

نقول: هذان ضدان لا يجتمعان، إذاً: لا وجود له، لماذا؟ للامتناع.

النوع الثاني: لما لا فرد له في الخارج، أنه يجوز لكن ما وُجد، وما وجد هنا نضبطه بما أراده الله تعالى مثل بحر من زئبق، بحر من سكر أو جبل من ياقوت .. إلى آخره.

نقول: هذه ما وُجدت في الخارج، هل العقل يمنع؟ العقل لا يمنع، بل يتصور وجود بحار وأنهار وعيون من لبنٍ؛ بدليل وجودها في الجنة.

فعدم وجودها في الدنيا في الخارج نقول: هذا ليس لكونها مستحيلة، وإنما لعدم تعلُّق مشيئة الباري جل وعلا وإرادته الكونية بها؛ إذ لو أرادها لكانت، فلمَّا لم تكن قلنا: ما أرادها .. لو أرادها لكانت .. لوُجِدتْ، فلما لم تكن حينئذٍ استدللنا بعدم وجودها بأنه ما أرادها الله عز وجل؛ لأن الإرادة الكونية لا تتخلف ((إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) [النحل:40] الفاء للتعقيب.

هذا النوع الأول ينقسم إلى قسمين.

النوع الثاني: ما وُجد له أفراد، قلنا: هذا قسمان: ما تناهت أفرادُه، ما لا تتناهى أفراده.

الأول كالإنسان، تناهت أفرادُه يعني: محصور .. يمكن عدُّه، يمكن نهايتُه، له وقتٌ ينتهي .. إلى آخره، ما لا يتناهى كنِعَم الله عز وجل.

الثالث: ما وُجد له فردٌ في الخارج، قلنا: هذا نوعان: ما وُجد له فرد ولا يوجد غيرُه لامتناعِه، ومثّلوا له بالإله الحق وعرفنا ما فيه.

(6/6)

________________________________________

المثال هذا قلنا غلط، حينئذٍ يبقى هذا بدون مثال، أنا ما وجدتُ له مثال؛ لأنه ليس عندهم إلا هذا المثال .. فردٌ في الخارج لا ثاني له، لماذا؟ لأن العقل يمنع، مثَّلوا بالإله الحق.

فحينئذٍ قلنا: هذا المثال لا يصلح.

طيب. مثال صحيح؟ ما عندنا مثال صحيح، فيبقى هذا هكذا فراغ حتى ييسر الله عز وجل من يأتي بمثال.

الثاني: له فردٌ واحد ويمتنع الثاني، يمتنع؟

لا يمتنع، وإنما لم يوجد، مثل ماذا؟

كشمس، شمس هذا كوكبٌ نهاريٌ إذا ظهر أضاء الدنيا وذهب الليل، هكذا يعرِّفونه.

حينئذٍ ما وُجدت إلا شمس واحدة، العقل يجوِّز شمساً، وشمسين، وثلاث، وأربع، عشر .. إلى ما لا نهاية، العقل لا يمنع.

فحينئذٍ ما وُجدت إلا واحدة في الخارج.

الثاني: ما وُجد، لماذا؟ يمتنع؟ لا يمتنع، ما أراده الله، لو أراده لكان ولكان تناسب بين الشمسين وكانت مشت الأمور مع الناس، لا نقول كما يقول المناطقة هنا: لو وُجدت شموس لاحترقت الأرض .. إلى آخره.

نقول: لا. إذا خلَق الشمس الثانية خلَقَها بحكمة فتكون موافقة للشمس الأولى، ولا إشكال في هذا.

إذاً: هذه ستة أنواع.

قال رحمه الله تعالى: (ثُم الكلِّيُ) هنا أراد أن يقسِّم لنا الكلِّي باعتبار آخر، التقسيم السابق باعتبار ماذا؟ الكلِّي ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو ستة أقسام باعتبار وجود أفراده في الخارج وعدمِها، فينقسم إلى ستة أقسام، له تقسيم باعتبار آخر وهو: استواءُه في أفراده.

الأصل في الكلِّي -في معناه- أن يستوي فيه الأفراد، هذا هو الأصل، لكن قد يخرج لما سيذكره.

(ثم الكلِّي).

قال: (إن استوى معناه في أفراده) هذا فيه قلْب.

استوى معناه في أفراده، أو استوت أفرادُه في معناه؟ العكس، استوى الأفراد في المعنى؛ لأنه قوة وضعفاً، شدة ودونها أو تقدُّماً وتأخُّراً، هذا باعتبار الأفراد لا باعتبار المعنى نفسه، قلنا: إنسان حيوانٌ ناطق، الأصل زيد وعمرو .. إلى آخره يستوون في الحيوانية الناطقية؛ لأن الأصل كما ذكرنا فيما سبق عن العطار بحيث يصح حملُه على كل فردٍ من أفراده يدل على أن الأصل في معنى الكلِّي استواءُ الأفراد، هذا الأصل فيه.

فالحيوانية الناطقية التي في زيد هي عينُها التي في بكر ولا يزيد عنه ولا ينقص؛ لأن المعنى الكلِّي يجب أن يوجد في ضمن أفراده على جهة السواء، لكن هنا خرج عن الأصل.

قال: (إن استوى معناه في أفراده فمتواطئ) وهذا هو الأصل، قلنا فيه قلب أي: استوى أفراده في معناه.

فالإنسانية مثلاً قدرٌ متحقِّقٌ في سائر الأفراد، لا اختلاف بينها فيه، وإن اختلفا في آثار تلك الحقيقة كالذكاء والبلادة وغيرها.

يعني: الإنسانية هي التي وُجدت في زيد بعينها في عمرو، وأما التشخُّصات الأخرى فهذه عارضة. يعني: طولُه ولونه وسمِنُه إلى آخره، نقول: هذه ليست داخلة في الحيوانية الناطقية وإنما هذه أعراض، فحينئذٍ لا يُنظر إلى الأفراد في كونها مختلفة، في الإنسانية لاختلاف هذه الأعراض.

تقول: لا. هذه أمور مشخِّصة وهي أعراض عامة أو خاصة، فحينئذٍ نقول: الأصل هو الإنسانية .. الحيوانية الناطقية.

قال: (إن استوى معناه في أفراده) ماذا يسمى؟

(6/7)

________________________________________

(فمتواطئ) يعني: فهو متواطئ. الفاء هذه واقعة في جواب الشرط، (متواطئ) هذا خبر مبتدأ محذوف لأنه لا يقع مفرد جملةَ الجواب، وإنما لا بد من جملة اسمية، تعلَّقت أو اتصلت الفاء هنا لكون الجواب جملة اسمية لا يصلح أن يكون بنفسه جواباً للشرط.

(إن استوى معناه في أفراده) يعني: أفرادُه في معناه.

(فمتواطئ) كالإنسان.

(وإن تفاوت فيها) أي: تفاوت الكلِّي في تلك الأفراد وفيه قلبٌ أيضاً.

وبيّن التفاوت هنا بالشدة والتقدم.

(وإن تفاوت فيها) يعني: تفاوت على كلامه.

(تفاوَت معناه فيها) يعني: في أفراده، والأصح أن يقال تفاوَت الأفراد في المعنى الكلِّي.

(بالشدة أو التقدم فمشكِّك) يعني: فهو مشككٌ.

ولا نقدِّر فيسمى، هو يصح لو قال: فمشكِّكاً يعني: فيسمى مشككاً، لكن رفَعَه حينئذٍ نبقى على الأصل.

إذاً: تفاوَت الأفراد في هذا المعنى بالشدة أو التقدم، سيذكر المثالين للشدة والتقدم.

(فمشكِّك) بصيغة اسم الفاعل.

سُمِّي بذلك لأنه يشكِّك الناظر فيه، فلا يدري أهو من المتواطئ نظراً لاتحاد الحقيقة، أم من المشترَك نظراً للاختلاف الذي بين الأفراد في الحق.

يعني: يبقى الناظر فيه متشككاً؛ لأنه بالتواطئ يعني: الاتفاق والتساوي في أصل المعنى، هذا يجعلُه من المتواطئ فيبقى في القسم السابق.

وكونه مختلفاً نوع اختلاف، حينئذٍ هل هو مثل عين يُطلق على الباصر والجاسوس فوقع فيه شك.

إما أن يُفهم منه أنه متواطئ للاستواء في الأصل، وإما أن ينظر إلى نوع الاختلاف الواقع فيه فيظن أن الحقائق مختلفة وإن كان اللفظ متحداً، فحينئذٍ صار من المشترَك اللفظي.

أو فمشككٌ قال: (كالبياض) مثَّل بالبياض.

(فإن معناه في الثلج أشد منه في العاج) هكذا البياض يختلف، البياض هذا معنًى كُلّي، حينئذٍ وجوده في أفراده يختلف شدةً وضعفاً.

فوجودُه في بعض المواضع قد يكون البياض في اللبن ليس كالبياض في الثوب، في اللبن أشد وفي الثوب أخف وهو أبيض وأبيض.

حينئذٍ الناظر إليه ينظر هذا الاختلاف يردِّده: هل هذا الاختلاف في الحقائق فهو مشترك أم أن الاختلاف هذا غير معتبر وإنما هو طارئ فيبقى على أصله وهو التواطؤ؟ يبقى متشككاً، لكن سينتهي إلى أنه إما هذا وإما ذاك، لكن يسمى مشكِّكاً.

قال: (كالبياض فإن معناه في الثلج أشد منه في العاج).

طبعاً البياض هذا مثالٌ للشدة قال: (فيها بالشدة أو التقدم) الشدة مثالُه البياض فإنه يختلف، هكذا الألوان تختلف.

أو النوع الثاني: (والوجود) هذا بالتقدُّم.

(فإن معناه في الواجب قَبلَه في الممكن، وأشد منه فيه)

(فإن معناه في الواجب) يعني: الواجب الوجود وهو الله عز وجل.

وكذلك هو في الممكِنات، حينئذٍ نقول: الإنسان موجود والباري جل وعلا موجود، الوجود واحد؟ في اللفظ والقدر المشترَك نعم .. في اللفظ وجود لا إشكال فيه، هذا موجود وهذا موجود تخبر عنه، الباري موجود والإنسان موجود، وكل مخلوقٍ خُلِق موجود.

حينئذٍ اللفظ واحد، والقدر المشترك هذا متَّحِد؛ لأن القدر المشترك مكانُه في الذهن لا في الوجود، إنما يتميَّز ويحصل التمايز بين النوعين بالإضافة.

(6/8)

________________________________________

إذا قلتَ: وجود الباري انفصل تمام الانفصال عن وجود المخلوق، وهذا من قواعد التدمرية التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

فالمعنى الكلِّي موجودٌ في الذهن كالعِلم مثلاً، وهو مطلق الإدراك موجودٌ في الذهن، حينئذٍ يوصف الباري بالعِلم، والمخلوق يوصف بالعلم، لكن كيف هذا تشبيه؟ نقول: لا. ليس بتشبيه وإن اتفق اللفظ بالإخبار عن الباري بأنه يعلم، والمخلوق بأنه يعلم كما أخبر عن نفسه ((وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) [آل عمران:29] نقول: اللفظ متحد، ولا يلزم من اتفاق الألفاظ اتحاد الحقائق، هذا لا إشكال فيه.

يبقى القدر المشترَك؛ لأن المعنى هنا خُوطبنا بلغة العرب، فحينئذٍ نرجع إلى تفسير العِلم في لغة العرب، ونرجع إلى تفسير الرحمة في لغة العرب .. وهكذا سائر الصفات.

فننظر فيها: المعنى الذي يُذكر في كتب أهل اللغة، بعضُها قد لا يحتاج إلى لفظٍ كالمحبة والرحمة، هذه مدرَكة ضرورة لا نحتاج أن نعبِّر .. فسِّر ليَ الرحمة، الرحمة هي الرحمة.

ابن القيم لما ذكر المحبة في مدارج السالكين ذكر أظن أكثر من عشرة تعاريف، ثم قال: والمحبة تعريفُها هي المحبة، كلٌّ يُدرِك من نفسه معنى المحبة، فلا يحتاج إلى تعريف الكل يعرف.

حينئذٍ نقول: اللفظ مشترك ونرجع في معناه إن احتجنا إلى أن نعرِف معناه نرجع إلى لسان العرب؛ لأن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب ولم يستثنِ يعني: لم يقل: هذه الأحكام الشرعية فسِّروها قولوا: الصلاة لغةً، والصلاة لها حقيقة شرعية.

وإذا جئنا عند الاستواء، وعند اليد، وعند النفس قلنا: هذه الله أعلم بها، كيف الله أعلم بها؟ كيف نفصِّل بين ما استوى ذِكْرُه في الكتاب والسنة، ولم يرِد حرفٌ واحد بأن نميز هذا عن ذاك، أعطني دليل؟ الكتاب واحد، وأعظم ما فيه ما يتعلق بذات الباري جل وعلا، أعظم من الصلاة، وأعظم من الزكاة، وأعظم من سائر الأمور المتعلقة بالأحكام الشرعية.

فكيف تأتي إلى هذه المسائل وتقول: الصلاة في اللغة كذا، ومعناها في الاصطلاح كذا، وخاطَبَنا الله تعالى بما نعلم، ثم تأتي بدلالة المطابقة والتضمُّن والالتزام، وتُجري قواعد لغة العرب على سائر الآيات التي تتعلق بالأحكام الشرعية.

وإذا جاءت الآيات الدالة على ما يتعلق بالباري جل وعلا، حينئذٍ انتفض؛ لأنه يقول: هذا ظاهره تشبيه، وإذا كان كذلك الله أعلم. فنأتي إلى تعليلات وأصول ما أنزل الله بها من سلطان.

إذاً "نرجع إلى مسألتنا" الوجود: له معنى في اللغة، فحينئذٍ له قدْرٌ مشترك في الذهن، هذان القَدران متحدان باعتبار الخالق والمخلوق، ولا إشكال فيه؛ لأن الذي أخبر عن نفسه بهذه الألفاظ هو الباري جل وعلا، وهنا هنا التسليم .. هنا التسليم أن تتكلم بما تكلم به الباري، وأن تُضيف إلى نفسه ما أضافه لنفسه. هذه هي الجرأة وهذا هو القبول، وهذا هو التسليم، وهذا هو الطاعة المطلقة.

وأما الدخول بالعقل وردّ ما قاله الله تعالى، هذا انحراف يعتبر، يعتبر ضلالاً.

القدر المشترك واللفظ لا إشكال فيه، ثم إذا أردنا الميْز والفصل .. إذا قلنا: وجود الله إذاً: امتاز وانفصل عن وجود المخلوق، بأي شيء؟ نقول: بالإضافة.

(6/9)

________________________________________

"وجودُ الله" عندنا مضاف ومضاف إليه وعندنا نسبة تقييدية، وجودُ زيدٍ عندنا مضاف ومضاف إليه ونسبة تقييدية.

لما حصلت الإضافة لأنه انتقل من الذهن إلى الخارج بالإضافة، أما وجود هكذا .. ليس عندنا معنى شيء نقول: هذا وجود، لا يتعلق بالباري، ولا بزيد ولا بعمرو، ولا ببيت، ولا بمسجد .. ولا غيره، ليس عندنا وجود؛ لأنه معنى كُلّي موجود في الذهن.

فحينئذٍ قبْلَ أن يضاف فمحلُه الذهن، باعتبار الأفراد في الخارج -خارج الذهن-، فحينئذٍ بالإضافة يمتاز كلٌ منهما عن الآخر.

إذاً: المراد هنا المشكك: أن اللفظ هو كُلّي وله معنًى، لا يمنع العقل من الاشتراك فيه، لكن أفرادُه لم تستوي، بل اختلفت بالشدة تارة كالبياض وسائر الألوان، وبالتقدُّم.

حينئذٍ الوجود .. واجب الوجود متقدَّم: كان الله ولم يكن شيءٌ ثَم معه، ووجود المخلوق هذا متأخر.

إذاً: وجودٌ ووجود، والمعنى الكلِّي موجودٌ في الذهن، وإنما انفرد في الخارج، ثم أحدُهما متقدم وهو وجود الباري جل وعلا مطلقاً، والوجود الممكن هذا متأخر.

قال: (وَإِمَّا جُزْئِيٌ) هذا يقال ماذا؟

(إِمَّا كُلِّىٌّ، وَإِمَّا جُزْئِيٌ) يعني: هذا النوع الثاني من نوعي المفرد.

الأول: الكلِّي، وذكَر له تقسيمين باعتبارين:

الأول: باعتبار أفراده ووجودِها في الخارج وعدمِها.

والثاني: باعتبار الاستواء في أفراده وعدمِه.

انتقل إلى الجزئي قال: (وَإِمَّا جُزْئِيٌ).

قال في الحاشية: (أي: حقيقيٌ، بقرينة مقابلته بالكلي؛ لأن الجزئي قد يكون إضافياً "سيذكره الشارح" بالنسبة إلى أعم منه، مع كونه كُلِّياً بالنسبة إلى أخص منه كالحيوان فإنه جزئي "يعني: إضافي" بالنسبة إلى الجسم النامي، كُلّيٌ بالنسبة إلى الإنسان) هذا سيأتي ذكره.

(وذلك) أي: الجزئي (كعَلَم الشخص، والمعرَّف بأل) هذا نأتي به بعد أن نعرِّفه أحسن.

(وَإِمَّا جُزْئِيٌ) قال: (وَهُوَ) أي: الجزئي.

(وَهُوَ) أي: حقيقةُ الجزئي المفرد.

(الَّذِي) يعني: جنس، هذا شامل للجزئي والكلي.

(يَمْنَعُ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ ذلِكَ) المشار إليه هو قوع الشركة.

إذاً: ما يمنع تصوُّره وقوع الشركة، هذا نسميه جزئي.

ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. هذا يسمى كلياً.

إذاً: هما متقابلان: يمنع لا يمنع.

(وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ نَفْسُ تَصَوُّرِ) يعني: ذات التصور، التصور هو المفهوم .. مفهوم الكلمة ومدلولها.

(يَمْنَعُ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ) تصور مفهومه يعني: مدلولِه.

(ذلِكَ) أي: وقوع الشركة فيه.

(بمعنى: أن الجزئي إذا تُصوِّر معناه وحصلت صورتُه في العقل، فإن تلك الصورة الحاصلة في العقل لا يصح فرض صِدقِها على كثيرين) بل لا تصدق إلا على واحد.

(فإنه يحصل مِن تعقُّلِ كل واحدٍ من الجزئيات صورةٌ مغايِرة للصورة المتعلقة من جزء آخر) وهو كذلك.

فإذا تصورتَ زيداً من الناس وقع في نفسك الذات التي سُمّيت بهذا، إذا تصورت معنى عمرو، حينئذٍ نقول: وقعَ في الذهن ذاتٌ مغايرةٌ لتلك الذات، ولذلك يختص الاسم بمسماه.

حينئذٍ نقول: اختص الاسم بمسماه، فلا يدخل تحت ذلك الاسم غيرُه البتة؛ لأنك لو جوَّزت كونه يدخل تحته لجوَّزت أن الذات تدخل في الذات. وهذا فاسد.

(6/10)

________________________________________

(هذا الاسم للمسمى) إذاً: المسمى محدود معيّن لا يشاركه غيره، فإذا أُطلق الاسم حينئذٍ انصرف إلى هذا الشخص دون غيره، إذا جوَّزت صدقه على آخرين حينئذٍ اتحدت الذوات؛ لأن المسمى -مسمى زيد- شيءٌ واحد، وهذا باطلٌ ولا وجود له البتة.

إذاً: (بمعنى: أن الجزئي إذا تُصوِّر معناه وحصلت صورتُه في العقل، فإن تلك الصورةَ الحاصلةَ في العقل لا يصح فرض صِدقِها على كثيرين، فإنه يحصل مِن تعقُّل كل واحدٍ من الجزئيات صورةٌ مغايرة للصورة المتعلقة من جزء آخر).

(كَزَيْدٍ) مثال (عَلَمًا) وهل هذا احتراز عَلماً؟ زيد: زاد يزيد زَيْداً، مصدر وإذا كان مصدر فهو كُلّي، ولذلك قال: (كَزَيْدٍ عَلَمًا) احترازاً من زيدٍ مصدراً، فإنه كُلّيٌ مثل عِلم، عِلم هذا مصدر وهو كُلّي، ضَرْب هذا مصدر وهو كُلّي.

إذاً: (كَزَيْدٍ) أي: كمثال زيد، أو وذلك كزيد يعني: جعْلُه خبراً لمبتدأ محذوف: وذلك كزيدٍ، والكاف هذه تمثيلية لا استقصائية، ما الفرق بين الاستقصائية والتمثيلية؟ من اسمها.

مثال، والمثال ليس محصوراً فيما ذُكر، والاستقصائية ما بعدها محصور، ولذلك قد يقال: بأن الخليلين -بالنسبة للباري جل وعلا- كإبراهيم ومحمد، الكاف هذه تمثيلية؟ إذا قلت: تمثيلية معناه: ثَم من هو خليلٌ للباري جل وعلا غير هذين، وإذا قلت: استقصائية بمعنى أنه لا يوجد إلا هذين.

فحينئذٍ تقول: الخليلان كإبراهيم ومحمد. الكاف هذه استقصائية.

أفضلُ الرسل على الإطلاق كمحمدٍ. يصح التعبير لا إشكال فيه.

فحينئذٍ "كمحمدٍ" لو قلنا: مثلَ محمدٍ الكاف تمثيلية، فحينئذٍ وقعنا في غلط وهو: أن ثَم مساوٍ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا ليس بصحيح، فحينئذٍ تكون الكاف هنا استقصائية.

إذا كان ما بعدها محصوراً ولا يوجد مثال إلا المذكور فهي استقصائية، وإن كان ثم مثال آخر فهي تمثيلية.

هنا تمثيلية أو استقصائية؟ تمثيلية.

(كَزَيْدٍ عَلَمًا) قال: (لا مصدر لِزَاد فهو كُلّيٌ).

(فإن مفهومَه من حيث وضعُه له إذا تُصوِّر منَع ذلك).

(فإن مفهومه) أي: مفهوم لفظ زيد علماً، ومراد الشارح بمفهوم زيد حال كونه عَلماً، وهو ليس إلا الذات المشخَّصة. وهو كذلك.

فالمحدَّث عنه هو زيدٌ العلَم، وإضافة مفهوم للضمير (فإن مفهومه) إضافة مفهوم للضمير عهدية أي: مفهومه المعهود وهو الشخص.

يعني: ليس كونه ثلاثياً، أو مركباً من ثلاثة أحرف (ز، ي، د) وأنواع هذه الحروف، أو أنه على وزن فَعْل. ليس هذا المراد، إنما المراد من حيث المعنى ودلالتُه على شخصه وهو الذات المشخَّصة المعيَّنة المشاهَدة في الخارج. هذا المراد.

(فإن مفهومه) أي: ما يُعقل من اللفظ عند تصوره.

(من حيث) هذا تقييد.

(من حيث وضعُه) الضمير يعود إلى لفظ زيد.

(من حيث وضعه) يعني: وَضْع لفظ زيد.

(له) أي: لذلك المفهوم.

(إذا تُصوِّر) ذلك المعنى (منعَ ذلك) يعني: منعَ المشارَكة.

(ولا عبرة لما يعرِض له من اشتراكٍ لفظي) لأنك تقول: كم من زيد عندنا! كثير، فزيد وزيد وزيد، هل هذا كُلِّي؟ يصدُق على كثيرين.

هذا ويد، وهذا زيد، وهذا زيد. صدَق على كثيرين!

نقول: لا. المراد ما يمنع وقوع الشركة، ولذلك هناك في السلَّم قال: ما أفهم اشتراكاً الكُلّيٌ.

(6/11)

________________________________________

ما أفهم اشتراكاً. الاشتراك نوعان: اشتراكٌ لفظي واشتراكٌ معنوي.

الاشتراك اللفظي هو: ما اتحد لفظاً وتعدَّد وضعاً ومعنى.

والاشتراك المعنوي: ما اتحد في الثلاث .. ما اتحد لفظاً ووضعاً ومعنًى.

الذي يُعتبر قيداً في مفهوم الكلِّي أو الجزئي إثباتاً نفياً هو الاشتراك المعنوي، وأما الاشتراك اللفظي لا؛ لأن الاشتراك المعنوي اتحد وضعُه ومعناه، وأما الاشتراك اللفظي فتعدَّد وضعه. حينئذٍ لا يقال بأن زيد وزيد وزيد. هذه كلمة واحدة لا، هذه ثلاث كلمات، بخلاف: زيدٌ إنسان، عمروٌ إنسان، بكرٌ إنسان. اللفظ واحد؛ لأنه لم يتعدد الوضع.

المعنى واحد متحد، ووُضِع إنسان مرة واحدة وضْعاً واحداً، ثم حُمِل على أفراده.

إذاً: هل تعدد؟ ليس عندنا تعدد لا في المعنى .. المعنى هو عينه، واللفظ واحد لم يتعدد.

إذاً: اتحد معناه، ووضعُه، ولفظه.

أما المشترك مثل: زيد وزيد وزيد. أولاً الذوات المعاني متحدة أو مختلفة؟ مختلفة.

ثانياً: الاشتراك اللفظي على الصحيح: أن لكل معنًى وضعاً خاصاً.

فوضع للذهب لفظ عين، ثم وضع مرة ثانية ليس هو عينٌ استعمل في غير معنى أو صار مجازاً، ثم وُضع مرة ثانية للذهب فسُمّيت عين، ثم وضع وضعاً ثالثاً .. إلى آخره.

إذاً: المعنى غير متحد، والوضع متعدِّد.

حينئذٍ إذا قيل: زيدٌ عَلماً. هذا جزئيٌ، يرِد إيراد بأن زيد متكرر في الأسماء: زيد وزيد وزيد نقول: لا. هذا اشتراكٌ لفظي، والاشتراك الذي يُعتبر هنا في أنه كُلّي هو الاشتراك المعنوي، وهذا منتفٍ في زيد.

الاشتراك الذي يكون في حقيقة الكلِّي هو الاشتراك المعنوي، لا بد أن يتحد المعنى والوضع لا يتعدد، بل هو واحد واللفظ واحد.

وهنا اتحد اللفظ نعم، لكن انتفى أمران وهو المعنى مختلف والوضع مختلف. إذاً: لا إيراد، ولذلك قال: (ولا عبرة لما يعرِض له) له الضمير هنا يعود لزيد.

(من اشتراكٍ لفظي) فلا يظن الظان أنه اشتراكٌ معنوي فيجعله في قبيل الكلِّي لا الجزئي، لا، بل هو جزئيٌ.

"نرجع إلى الحاشية" قال هنا: (وذلك كعلم الشخص) أراد أن يمثِّل هو مثَّل بزيد وهو علمٌ شخصي.

يعني: أمثلة للجزئيات التي تحكم عليه بأنه جزئيٌ.

(كعلم الشخص، والمعرَّف بأل التي للعهد الخارجي) يعني: لا الاستغراقية (والضمير، واسم الإشارة، والموصول بناءً على تحقيق السيد تبعاً للعضُد من أنها موضوعةٌ للجزئيات المستحضَرة بملاحظة كُلّيٍ يعمها).

(موضوعةٌ للجزئيات المستحضرة بملاحظة كُلّيٍ يعمها) يعني: هي في الأصل جزئية.

(أو ما يُعبّر عنها بأنها جزئيات وضعاً واستعمالاً) على القول الثاني ذكرناه فيما سبق، في الحرف، قلنا الحرف فيه ثلاثة أقوال، كذلك هذه المسائل كلها مختلفٌ فيها هل هي كُلِّيّات أم لا، وهي واسطة بين أمرين.

بعض المسائل أجمعوا على أنها كُلِّيّات، وبعضها أجمعوا على أنها جزئيات، وبعضها مختلفٌ فيها، والمذكور هنا مختلَف فيه.

والخلاف إما أن يُنظر إلى الأصل أو أنه يُنظر للاستعمال، والخلاف لفظي يعني: لا ينبني عليه شيء، ولكن نتفق على أن بعضها كالموصولات وغيرها أنها من قبيل العام، وله وجهٌ عند الأصوليين، لكن يبقى هل هي باعتبار الأصل؛ لأنها تصلح لكل شيء.

(6/12)

________________________________________

"الذي" ما قيَّدته، "الذي جاء أبوه" قيّدته، قبل التقييد "الذي" صالحٌ لكل شيء.

إذاً: هذا معنى الكلِّي، يعني: العقل لا يمنع أن نقول: جاء الذي مات أبوه، جاء الذي قام أبوه، جاء الذي سافر أخوه. ممكن.

إذاً: له أفراد فيُقيَّد بها؛ لأن الموصول يُعرَّف بصلته، حينئذٍ نقول: قبل الاستعمال قد يقال بأنها كُلّيّة، لكن إذا قيل: جاء الذي ضربتُه تعيّن هنا؛ لأن معناه جاء الشخص المعهود الذي أوقعتُ الضرب عليه، هذا صار جزئياً.

فالنظر هنا .. الخلاف ليس بخلافٍ له ثمرة "والله أعلم" هل هي جزئيات أم كُلِّيّات؟ لكن الموصولات باعتبار اللفظ العام هناك لها بحثُها عند الأصوليين.

قال: (على تحقيق السيد تبعاً للعضد من أنها موضوعة للجزئيات المستحضرة بملاحظة كُلّيٍ يعمها.

وأما المعرَّف بغير أل التي للعهد فكليٌ بأل التي ليست للعهد).

ومراده المعرَّف بغير أل التي للعهد المعرَّف بلام الاستغراق -هي من صيغ العموم-، والمعرّف بلام الحقيقة، والمعرّف بأل التي للعهد الذهني. هذه ثلاثة حكَم عليها بأنها كُلِّيّات؛ لأنه قال: (وأما المعرَّف بغير أل العهدية) أما أل العهدية فهي جزئي.

المعرَّف بغير أل العهدية ذكَر العطار ثلاثة أنواع:

أولاً: الاستغراقية.

ثانياً: المعرَّف بلام الحقيقة.

استغراق فحينئذٍ تكون كُلّيّة.

والمعرَّف بلام الحقيقة "الرجل خيرٌ من المرأة" الرجل يصدق على زيد، عمرو .. إلى آخره، وإن قُصِد حقيقته.

الثالث: المعرَّف بأل التي للعهد الذهني. يعني: يصدق على الكل، إلا إذا كان ثم معهودٌ .. إذا كان ثم معهود فحينئذٍ تكون عهدية "اذهب إلى السوق" فحينئذٍ هذا صار معرَّفاً، لكن أل هنا وإن كانت للذهن إلا أنها منصرفة إلى المعهود. أيَّ سوق؟ الذي تعرِفه أنت .. وهكذا.

قال هنا: (وأما المعرَّف بغير أل التي للعهد فكليٌ. كاسم الجنس) هذا كأسد اسم الجنس (والنكرة رجل وأُنثى وإنسان، وعَلم الجنس كأسامة. لوضع الطرفين للحقيقة).

(لوضع الطرفين) أي طرفين؟ اسم الجنس وعلم الجنس، والنكرة وسطٌ.

(لوضع الطرفين للحقيقة من حيث تعيُّنها في علم الجنس دون اسمه، والنكرة للفرد المنتشر).

إذاً الخلاصة: فيما يُحكَم عليه بأنه جزئيٌ نقول: يُنظر إلى المعنى، وأما الاستعمال فلا يكاد أن يكون هذه المذكورات إلا وهي مستعملة في الجزئيات، إلا ما استثناه من أل وما تدل عليه الموصولات من العموم.

قال هنا: (جزئياتٌ وضعاً واستعمالاً، وعلى ما ذهب إليه السعد تبعاً للمتقدمين: هي كُلِّيّات وضعاً، جزئيات استعمالاً).

يعني: عكْس ما ذهب إليه العضُد (جزئيات وضعاً واستعمالاً) ليس عكس، بل هو وافقه في الاستعمال، وخالفه في الوضع.

والشُّبْهة أو العِلَّة: لصلاحيته لكل شيء، فحينئذٍ هذا معنًى كُلّي، هل تقول: هو جزئي لأنه لا يُستعمل إلا في جزئي، وهذه الصلاحية ليست مراداً؟ يحتمل هذا وذاك.

قال هنا: (وقدَّم الكلِّي على الجزئي؛ لأن قيوده -أي: الكلِّي- عدمية).

قيود .. ليس عندي إلا قيد واحد: ما لا يمنع، ولذلك قال هنا: لأن قيوده "أي: الكلِّي" أي جنسُها الصادق بواحدٍ وهو المراد.

قال العطار: أراد بالقيود مطلق النفي في قوله: (لا يمنع .. ) إلى آخره.

(6/13)

________________________________________

(من النفس، والتصور، والمفهوم) هذا فيه تكلُّف لأن الجملة واحدة: ما لا يمنع نفس تصور مفهوم .. قال: القيود هنا باعتبار النفس، والتصور، والمفهوم.

نقول: لا. ليس لوحدها النفس ولا التصور ولا المفهوم، وإنما المراد به أن قيوده الكُلّي هذا جمعٌ أو جنسُها الصادق بواحدٍ منها فقط.

قال هنا: (فباعتبار تسلُّط النفي على أمور متعددة كان كل واحدٍ منها قيدٌ، وإلا فعدم المنع قيدٌ واحد، والمراد بكونه عدمية: أن العدم هو معتبر في مفهومها وضمير قيوده يعود للكلي).

إذاً: لأن قيوده أو قيْدَه عدميٌ؛ لأنه لا يمنع بخلاف غيره.

قال: (نظير ما مر) أين؟ هناك في المفرد والمركب (لأن قيوده عدمية) أي: مشتملة على النفي.

(نظير ما مر) ما سبق في المفرد والمؤلَّف.

أي: في توجيه تقديم المفرد على المؤلَّف.

(ولأنه) العِلَّة الثانية أي: الكلِّي.

(ولأنه المقصود بالذات عند المنطقي) هو هذا الأصل أنه مقصودٌ بالذات عند المنطقي؛ لأننا قلنا: قسَّم التقسيم الكلِّي السابق اللفظ: إما مفرد وإما مؤلَّف، ثم قسَّم المفرد إلى كُلّي وجزئي، ثم سيقسِّم الكلِّي إلى ذاتي وعرضي، ثم يقسّم الكلِّي بهذين الاعتبارين إلى الكُلِّيّات الخمس.

إذاً: النتيجة هي الكُلِّيّات الخمس، وكل ما يخدِم ويكون وسيلة للوصول إلى حقائق الكُلِّيّات الخمس فهو داخل، وما عدا ذلك فهو خارج.

إذاً: الكلِّي هو المقصود وليس غيره.

ولذلك قال: (ولأنه) أي الكلي (المقصود بالذات عند المنطقي).

(لأنه) يعني: الكلِّي (مادة الحدود) يعني: التعاريف.

(والبراهين) يعني: الحُجة.

(والمطالِب) يعني: النتائج.

قال العطّار: لأن الحدود تتركب منه، وكذا الأقيِسة لأنها تتركب من القضايا، والمحمول في القضايا الحمْلية لا بد وأن يكون كُلّياً على نزاعٍ في ذلك، فهو مادةٌ للحدود حقيقة، وجزء مادة في الأقيِسة، والمطالب هي النتائج وهو جزءٌ حقيقةً فيها، بناءً على أن المحمول لا يكون إلا كُلّياً.

وهذا فيه خلاف، لكن هذا المشهور عند المناطقة.

إذاً: قدَّم هنا الكلِّي على الجزئي لهذين الأمرين:

أولاً -ليتَه قدَّمه-: لأنه هو المقصود بالذات في هذا الموضع.

ثانياً: لأن قيوده عدمية.

ثم قسّم الكلِّي باعتبار أنه داخلٌ في الذات "في الماهية" أو لا، إلى: ذاتي وعرضي.

قال: (وَالْكُلِّىُّ: إِمَّا ذَاتِيٌّ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ.

وَإِمَّا عَرَضِيٌّ).

(إِمَّا ذَاتِيٌّ، وَإِمَّا عَرَضِيٌّ).

(الذاتي منسوبٌ إلى الذات بمعنى الحقيقة لا بمعنى صاحبَ).

تأتي ذات مؤنث ذو بمعنى: صاحبة، لكن المراد هنا الحقيقة.

(الذاتي منسوبٌ إلى الذات بمعنى الحقيقة لا بمعنى صاحب، ولذلك أُدخلت عليها أل وأُفردت عن الإضافة) قيل: الذات (واستعمالها بهذا المعنى واردٌ في كلام العرب.

قال خبيب: وَذَلكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ، وَإِن يَشَأْ .. ) إلى آخره يعني: في جنب.

(وفي القاموس قوله تعالى: ((ذَاتَ بَيْنِكُمْ)) [الأنفال:1] أي: حقيقة وصلِكم، وبه فسَّرها الواحدي).

((ذَاتَ بَيْنِكُمْ)) [الأنفال:1] أي: حقيقة وصلِكم إذاً: فسرها بالحقيقة.

(لكن قوله في النسب: ذاتيٌ) (وَالْكُلِّىُّ: إِمَّا ذَاتِيٌّ) هذا فيه إشكال.

(6/14)

________________________________________

(لا يجري على القياس إلا إن جُعِلت التاء أصلة وهو خلاف الظاهر) إن جُعلت أصلية يعني: لا للتأنيث صح، وإلا هو خلاف الظاهر.

(ومقتضى صنيع القاموس أنها زائدةٌ، وعليه فالقياس أن يقال: ذوَوِيٌ) بِرَد المحذوف، ذات مؤنث ذو. وإذا كان كذلك فحينئذٍ يرجع الأصل يقال: فتَوِيٌ، كذلك تقول هنا: ذوويٌ.

(وَالْكُلِّىُّ: إِمَّا ذَاتِيٌّ).

قال هنا صاحبنا المحشِّي: (اعلم أن الكلِّي إذا نُسِب إلى ما تحته من جزئياته فإما: أن يكون تمام ماهيتها كالإنسان، أو داخلاً فيها).

تمام الماهيّة هذا الذي يسمى بالنوع.

(أو داخلاً فيها كالحيوان والناطق) يعني: كالجنس والفصل.

(أو خارجاً عنها كالضاحك والماشي. والأوَّلان ذاتيان) الذي هو ماذا؟

هو ذكر ثلاثة أشياء: (فإما: أن يكون تمام ماهيتها كالإنسان) هذا أولاً.

(أو داخلاً فيه) هذا الثاني، دعك من الأمثلة.

(أو خارجاً عنها) ثلاثة أشياء.

(الأولان) يعني: تمام الماهيّة وهو النوع، والداخل فيها وهو الجنس والفصل قال: (ذاتيان).

(والثالث) الذي هو خارجٌ عنها (عرضيٌ).

وعلى هذا فالذاتي ما ليس بخارجٍ، والعرضي الخارج، فتدخل الماهيّة في الذات وهو أحد اصطلاحاتٍ ثلاثةٍ للمناطقة، وسيأتي بقيتُه.

قال: (الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ) (كالحيوان الناطق).

تركنا كلمة فيما سبق قوله: (لأنه مادة الحدود والبراهين والمطالب بخلاف الجزئي، فإن قيوده ليست عدمية؛ ولأنه ليس مقصوداً بالذات عند المنطقي).

(بخلاف الجزئي) خبر مبتدأ محذوف.

(أي: وهو أن الكلِّي ملتبسٌ بخلاف الجزئي أي: بمخالفته في هذه الأمور من جهة أن قيوده وجودية، وأنه ليس مقصوداً بالذات، وأنه ليس مادة الحدود والبراهين، فهو ليس من مباحث هذا الفن أصلاً، وإنما تعرَّضوا لتعريفه؛ لأن مفهومه ملكة، ومفهوم الكلي عدمٌ يتوقف تصوره على تصورها).

قال: (وَهُوَ) أي: الذاتي .. الكلِّي الذاتي (الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ).

(يَدْخُلُ) هنا نص على أن الداخل في حقيقة الجزئيات يسمى ذاتياً.

قوله: (فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ) الجزئيات المراد بها هنا: الأنواع. بخلافها في النوع كما سيأتي، لأن المراد بها الأفراد.

(فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ) (المراد بها الأنواع. بدليل التمثيل وهو جزئياتٌ إضافية، فإن الجزئي كما يُطلق على المعنى السابق) ما يمنع .. إلى آخره (يُطلق على كل أخص تحت أعم).

يعني: الذي يسمى الجزئي الإضافي، هو كُلّيٌ باعتبار ما تحته كالإنسان مثلاً، الإنسان يصدق على الذكر والأنثى، والذكر زيد، وعمرو .. إلى آخره، والأنثى هندٌ، وفاطمة .. إلى آخره.

هذا يُعتبر كُلّياً الإنسان، لكن باعتبار الحيوان فهو جزئيٌ، باعتبار الأفراد تحت الإنسان الأفراد نقول: هو كُلّيٌ. وهو جزئيٌ باعتبار دخوله تحت أعم .. هو أخص تحت أعم، يُطلق على كل أخص تحت أعم.

قال: (الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ) وهذا إنما يشمل الفصل والجنس فقط؛ لأنه هو الذي يدخل.

(6/15)

________________________________________

أما النوع فلا يدخل، النوع هو تمام الماهيّة يعني: الحيوان الناطق مركّبة هكذا نسميه نوعاً، تمام الماهيَّة .. كمالُ الماهيّة، فهو ليس بداخل ولا بخارج هذا هو الصحيح فيه. النوع ليس بذاتي ولا بعرضي؛ لأن الذاتي الداخل، والعرضي الخارج.

فحينئذٍ النوع ما حقيقته؟ باتفاق عندهم أنه تمام الماهيَّة يعني: كمالُها المركَّبة والمؤلَّفة من الحيوان الناطق. هل هو داخل؟ لا؛ لأنه ليس هو بالحيوان وليس هو بالناطق، هل هو خارجٌ؟ الجواب: لا. إذاً: ما ليس بداخلٍ ولا بخارجٍ هذا لا يقال بأنه ذاتيٌ ولا عرضي.

وهذا هو الصحيح في النوع، وهو الذي يوافق العقل والنظر هنا .. أنه يقال بأنه لا ذاتيٌ ولا عرضي، لكن بعضهم أدخله في الذاتي على تأويلٍ، وبعضهم أدخله في العرضي على تأويل، فالأقوال في النوع ثلاثة، وإلا باتفاق أن الجنس .. قال الشيخ الأمين رحمه الله تعالى: الجنس والفصل ذاتيان بلا خلاف، والخاصة والعرَض العام عرَضِيان بلا خلاف.

هي الكُلِّيّات خمسةٌ .. هي خمسة. إذاً: أربعة مجمعٌ عليها: الجنس والفصل ذاتيان بلا خلاف، والخاصة والعرَض العام عرَضيان بلا خلاف.

بقي النوع، وفيه ثلاثة مذاهب: أنه ذاتيٌ بناءً على أن كل ما ليس بخارجٍ عن الذاتي فهو ذاتي.

يعني: أحدَثوا تعريفاً للذاتي من أجل إدخاله، قالوا: بناءً على أن كل ما ليس بخارجٍ عن الذاتي فهو ذاتي.

لو أردنا أن نعرّف الذاتي قلنا: الذاتي ما ليس بخارجٍ. بهذا اللفظ: ما ليس بخارجٍ، ماذا يشمل؟

الجنس، والفصل، والنوع.

دخل فيه النوع؛ لأن النوع ليس بخارج، والجنس والفصل واضحان.

النوع ليس بخارج وهو قطعاً ليس بخارج.

إذاً: إذا أردنا أن نجعل النوع ذاتياً فحينئذٍ نقول: الذاتي ما ليس بخارج.

فحينئذٍ ما ليس بخارجٍ يدخل تحته النوع والجنس والفصل؛ لأن النوع ليس بخارج.

ولذلك قال: (إنه ذاتيٌ؛ بناءً على أن كل ما ليس بخارجٍ عن الذات فهو ذاتي).

(القول الثاني: أنه عرضيٌ؛ بناءً على أن كل ما لم يدخل في الذاتي فهو عرضي).

وتمام الماهيّة لم يدخل في الذاتي فهو عرضي.

إذاً: ما تعريف العرَضي؟ ما ليس داخلاً في الذات.

إذاً: شمِل الخاص، والعرض العام، والنوع؛ لأنه ليس داخلاً في الذاتي.

(الثالث) قال: (وهو أقربها إلى الواقع أنه ليس بذاتيٍ ولا عرضيٍ لأنه تمام الماهيّة، فليس جزءاً منها حتى يكون داخلاً فيها.

ومعلومٌ أن الماهيّة لا يمكن خروجه عنها حتى يكون عرضياً) وهو كذلك.

إذاً: قوله هنا: (الَّذِي يَدْخُلُ) هذا نفهم منه أن النوع ليس بذاتي.

قال: (الَّذِي يَدْخُلُ) (هذا إنما يشمل الفصل والجنس؛ لأنهما يدخلان في حقيقة ما تحتهما من الأفراد، فلم يشمل كلامُه النوعَ كالإنسان مثلاً، لأنه حقيقتُه ما تحته من الأفراد).

(لأنه) يعني: الحال والشأن.

حقيقةُ النوع (ما تحته من الأفراد.

فلم يوصَف بكونه داخلاً إلا بنوع تكلف) يعني: من أدخله في الذاتي لا بد أن يتكلَّف على التعاريف السابقة. يقول: العرضي ما ليس بخارجٍ، إذا: الذاتي ما ليس بداخل وما كان تمام الماهيّة، من باب نوع تكلُّف.

(بأن يراد بالدخول عدم الخروج، فبقي داخلا في تعريف العرضي وهو ما لا يدخل .. ) إلى آخره.

(6/16)

________________________________________

(فيكون النوع على هذا عرضياً، كما سيقول الشارح فيخالفُه ما سيأتي للمصنف من تقسيمه الذاتي إليه وإلى الجنس، ولعل الأحسن في الجواب أن يقال: إنه جرَى على الاصطلاحين).

يعني: هنا المصنف -صاحب المتن الذي قال-: (الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ) في ظاهر كلامه أن النوع ليس بذاتي، بل هذا الظاهر، وسيأتي أنه يقسِّمه -الكُلّي الذاتي- يقسّمه إلى جنس وفصل ونوع، كيف أدخَله وكيف أخرَجه؟

جرى على الاصطلاحين. يعني: لا يلتفت إلى كونه ذاتياً أو عرضياً؛ لأنه لا ينبني عليه شيء، فجرى على اصطلاحٍ في موضع عند تعريف الذاتي، وأخرَج النوع، ولما جاء يقسِّم الكلِّي الذاتي قسّمه إلى النوعي، كيف أنت أخرجتَه ثم قسّمته؟ هذا تعارُض.

الجواب: أنه لا يُحرَّر في هذه المسألة؛ لأنه لا ينبني عليه كبير علمٍ بما يتعلق بما سيأتي، فقد يجري على اصطلاح في موضع ويجري على اصطلاح آخر في موضع آخر كما هو الشأن في المفرد الذي سبق معنا.

قال: (كَالحَيَوَانِ بِالنَّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ) (فإنه داخلٌ فيهما).

(كَالحَيَوَانِ بِالنَّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ) (فإنه) أي: الحيوان.

(داخلٌ فيهما) أي: الإنسان والفرس. لماذاظ

(لتركُّبِ الإنسان من الحيوان والناطق) فنقول الإنسان حيوان ناطق.

إذاً: حيوان هذا كُلّي ذاتي وهو جنس؛ لأنه يدخل في حقيقة جزئياته، كيف نقول إذا أردنا الإنسان ما تعريفه؟ حيوانٌ ناطق. إذاً: دخل .. صار جزءاً؛ لأن الإنسان ليس هو الحيوان فقط، وليس هو الناطق فقط وإنما هو حيوانٌ ناطق. إذاً: جزءه الذي تألّف وتركب منه هو الحيوان.

(فإنه داخلٌ فيهما لتركُّبِ الإنسان من الحيوان والناطق، والفرس من الحيوان والصاهل) ما هو الفرس؟ تقول: الحيوان الصاهل. إذاً: الحيوان هذا يعتبر كُلّياً.

ثم هو كُلّيٌ ذاتي؛ لأنه يدخل في الماهيّة .. في الحقيقة فيكون جزءاً منها.

قال: (وَإِمَّا عَرَضِيٌّ: وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُهُ) أي: يخالف الذاتي.

(أي: لا يدخل في حقيقة جزئياته) الأول هو الذي يدخل، والثاني يخالفه يعني: الذي لا يدخل.

(أي: لا يدخل في حقيقة جزئياته، فهو من إطلاق الأعم وهي المخالَفة على الأخص وهي المناقَضة بقرينة المقابلة.

واصطلاحُ المناطقة: أن المخالِف ما يمكن اجتماعُه مع مقابله كالضحك والقيام، وما لا يمكن اجتماعه معه لا يسمونه مخالفاً بل مناقضاً، فكان الأولى للمصنف أن يقول: ما يناقضه) بدل أن يقول: (وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُهُ) والذي يناقضه.

(وَإِمَّا عَرَضِيٌّ: وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُهُ) (أي: لا يدخل في حقيقة جزئياته) يعني: ليس داخلاً في الماهيّة. مثل ماذا؟

(كَالضَّاحِكِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ) يعني: الإنسان لم يتألف من القوة التي تصدُر عنها الضحك.

حينئذٍ نقول: الضاحك والماشي وأيُّ صفة تتعلق بالإنسان يختص بها ليست داخلة في الأصل في ماهيته وحقيقته.

فكل ما لم يكن داخلاً فهو عرضي، فالطول والعرض والسِمَن واللون .. كل هذه تسمى أعراضاً وليست داخلة في الماهيّة.

(6/17)

________________________________________

ولذلك اختلافُها لا يؤثر في الحقيقة، فنقول: الإنسان زيدٌ إنسان، وبكرٌ إنسان. نقول: الحقيقة واحدة، كيف الحقيقة واحدة وهذا طويل وهذا قصير؟

الحقيقة واحدة وهي كونه حيواناً ناطقاً، لا يختلفان هي بعينها، لكن هذه الأشياء الزوائد هذه تعتبر مشخِّصات .. تعتبر من الأمور العرَضية فهي خارجة عن الأصل، ولذلك الطويل يعيش والقصير كذلك يعيش.

(كَالضَّاحِكِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ) (لِما مر أنه مركبٌ من الحيوان والناطق).

(لما مر) من أنه يعني .. يعني الإنسان.

(مركبٌ من الحيوان والناطق) عرَفنا الحقيقة والماهية التي يتألف منها الإنسان، وليس منها الضحك مؤلَّفٌ لما مر أنه مركبٌ -يعني: حقيقتُه وماهيته- مؤلفاً من جزأين لا ثالث لهما، وكل جزء هو جزء الماهيّة داخلٌ فيها.

فالماهية تألفت من جزأين اثنين فقط: حيوانٌ ناطق. هل بينها ضحك؟ لا.

إذاً: يوجد الحيوان الناطق دون هذا الوصف، وهذا من أهم الفوارق بين الذاتي والعرَضي: أن الذاتي لا ينفك، لا يوجد إلا بوجود جزئياته الذاتية، وأما العرَضي فلا، يمكن أن يوجد أن يكون ضاحكاً، ولذلك قد يولد أخرس، قد يولَد أعمى، قد يولد مسلوب العقل. وهو إنسان؟ وهو إنسان، ناقصٌ في إنسانيته عن ذاك الذي يرى ويبصر ويفكِّر؟ لا. ليس ناقصاً، الحقيقة هي بعينها نفسِها.

لكن هذه أعراض بمعنى أنه يوجد دون أن يُبصر، يوجد دون أن يكون معه عقل .. إلى آخره.

قال: (لما مر أنه مركب من الحيوان والناطق، فالضاحك خارجٌ عنه) عن الإنسان.

(وعلى هذا) يعني: الذي تقرَّر .. قول المصنف: الذاتي هو الذي يدخل، والعرضي هو الذي يخالفه.

(فالماهية عرَضية) ما المقصود بالماهية؟ يعني: تمام الماهيّة، لو قال: تمام الماهيّة لكان أولى.

(فالماهية) يعني: تمام الماهيّة وهو النوع.

(فالماهية عرَضية) أي: الحقيقة النوعية (عرضية).

(وقد يُطلق الذاتي على ما ليس بعرضي).

(فالماهية عرضية) عرفنا الخلاف الذي أوردناه فيما سبق من كلام الشيخ الأمين رحمه الله تعالى.

ثم قال: (وقد يُطلَق الذاتي على ما ليس بعرضي) قال العطار: هذا مختار الشيخ الرئيس، جمَع بين وصفين: الشيخ الرئيس.

فالذاتي عنده ما ليس بعرضي ..

أنا قلت لكم فيما سبق: العطَّار حواشيه جيدة، لكن عنده تعظيم للمتقدمين، والأولى أن يقال: بأن المنْطِق ما دام أنه استُعمل في الشرعيات لو تُصرِّف في بعض المصطلحات لا إشكال فيه. يعني: أسْلَمَةُ المنْطِق لا إشكال فيها.

فإذا عُدِّلت بعض المصطلحات لا إشكال فيها، لا نقول: لماذا خالفت الرئيس.

انتبهوا لهذا؛ لأني أحياناً أُثني على بعض الكتب فيأخذها الطالب على عماها هكذا، نقول: لا. انتبه يعني، هو فيه تحقيقات وفيه نقول وفيه أشياء جيدة، لكن عنده هذه الميزة في جميع حواشيه .. عنده شيءٌ من التعصب للمتقدمين.

ولذلك يشن حملة على المتأخرين يقول: ما فهموا، هذا من قلة الفهم، من قلة العقل، عمى البصيرة، خبط خبط عشواء .. عنده هذه الألفاظ كابن حزم هناك رحمه الله.

قال: (وقد يُطلق الذاتي على ما ليس بعرضي فتكون الماهيّة ذاتية).

قال العطّار: هذا مختار الشيخ الرئيس. يعني: يُطلق الذاتي على ما ليس بعرضي، ما هو الذاتي؟ ما ليس بعرضي.

(6/18)

________________________________________

وعليه ينبني إذا قيل: الذاتي ما ليس بعرَضي يعني: ما ليس بخارج، هذا التعبير لو قال: ما ليس بخارج لكان أولى، ولذلك أظن علَّق عليه.

الأولى بخارجٍ وهو المشهور يعني: الذاتي تعريفُه ما هو؟ على ما ليس بعرضي يعني: ما ليس بخارج، وما ليس بخارجٍ دخَل النوع في الذاتي.

قال: هذا مختار الشيخ الرئيس -يعني: النوع يكون ذاتياً- فالذاتي عنده ما ليس بعرضي.

وبقي قولٌ ثالث: (وَالذَّاتيُّ) (الذاتي جزءُ الماهيّة، والعرضي الخارج عنها) وحينئذٍ تكون قِسمة الكلي مثلَّثة، وأما على رأي الشيخ في الشفاء فمثناةٌ.

قال: (واعتُرض بأن الذاتي منسوبٌ إلى الذات، فلو كانت ذاتية لزم نسبة الشيء إلى نفسه) يعني: كيف يقال: تمام الماهيّة بأنها ذاتية؟ يعني اعتراضٌ على التعريف الأخير بكون النوع ذاتياً.

قال: (واعتُرض بأن الذاتي منسوبٌ إلى الذات).

قال العطَّار: أصلُه يعني: هذا الاعتراض للشيخ الرئيس، فإنه قال في الشفاء: هاهنا موضعُ نظرٍ، فإن الذاتي ما له نسبةٌ إلى ذات الشيء، ولذلك قلنا: ذاتيٌ نسبة إلى الذات فيما سبق وهذا لا إشكال فيه، لكن الذات بمعنى الحقيقة لا بمعنى صاحبَ.

(وذات الشيء لا يكون منسوباً إلى ذات الشيء) يعني: لا ينسب إلى نفسه، وإنما يُنسب إلى غيره، فإذا قلت: النوع ذاتي، وهي تدل على الحقيقة.

فحينئذٍ إذا قلت: ذاتيٌ نسبتَه إلى نفسه.

قال: (وذاتُ الشيء لا يكون منسوباً إلى ذات الشيء، بل إنما يُنسب إلى الشيء ما ليس هو، وأجاب: بأن الذاتي وإن دل على النسبة بحسب اللغة، لكن لا كلام فيه).

يعني: ذاتيٌ كونك أخذت بأنه منسوبٌ إلى الذات هذا من جهة اللغة، ونحن نبحث في اصطلاحات، سمّيناه ذاتياً، عرضياً .. لا إشكال، أنت نظرت إلى النسبة فقلت: ذاتيٌ منسوبٌ إلى الذات، أنت رجعت إلى اللغة، ونحن نبحث في المصطلحات وفي معاني المصطلحات، فلا دخل للغة في ذلك البتة.

ولذلك قال: (وأجاب: بأن الذاتي وإن دل على النسبة بحسب اللغة، لكن لا كلام فيه، وإنما الكلام فيما وقع عليه الاصطلاح وهو لا يشتمل على النسبة أصلاً).

يعني: ذاتيٌ هكذا كما قال المحشي فيما سبق: كُلّيٌ. الياء ليست زائدة وإنما هي كياء الكرسي.

هنا ذاتيٌ على كلامه في الجواب أنها تعتبر أصلاً، لكن في أصل استعمالها هي منسوبة، لكن هذا مجرد اصطلاح.

إذاً: اعتُرض بأن الذاتي "بياء النسبة" منسوبٌ إلى الذات.

(فلو كانت ذاتية لزم نسبة الشيء إلى نفسه، وأُجيبَ: بأن هذه التسمية اصطلاحية لا لغوية) والبحث السابق لغوي.

(وأُجيبَ) جواب آخر (بأن الذات كما تُطلق على الحقيقة تُطلق على مصدَقها ويمكن نسبة الحقيقة إلى مصدقها) يعني: كما تُطلق الذات على الحقيقة تُطلق على الأفراد، وقد تنسِبها إلى الحقيقة وقد تنسِبها إلى الأفراد ولا إشكال فيه، قد تكون النسبة باعتبار المصدَق يعني: ما تصدق عليه وهو الأفراد.

وقد تكون باعتبار الحقيقة، ولذلك قالوا بأن الذات كما تُطلق على الحقيقة.

قال العطّار: الجواب الأول "يعني قوله: بأن هذه التسمية اصطلاحية لا لغوية" هذه مَنَعَ تحقُّق النسبة.

يعني: منع أولاً ثم سلَّم، على الطريقة المعهودة، أمنع .. إن سلَّمتُ.

(6/19)

________________________________________

حينئذٍ: بأن هذه التسمية اصطلاحية لا لغوية أمنع النسبة، ولذلك قال: منع تحقق النسبة.

(وهذا الجواب -وبأن الذات لو سلَّمنا بأن النسبة موجودة- وهذا الجواب بتسليمها وتحقيق وجود المنسوب والمنسوب إليه، كما تُطلق على الحقيقة تُطلق على مصدقِها) يعني: الأفراد والجزئيات التي تصدق الماهيّة عليها.

قوله: (مصدقها) هذه مؤلفة ومركبة من (ما صدق) اسم موصول وفعل ماضي صَدَق.

قوله: (على مصدقِها) تصرَّف المناطقة في هذا، فجعلوا اللفظين بمنزلة كلمة واحدة، وأدخلوا الجار عليه وجرُّوه به، وأصله مركب من ما الموصولة، وصدَق فعلٌ ماضي.

ما صَدَق عليه اللفظ، هذا أصل التركيب.

"زيدٌ وعمرٌ وبكرٌ" ما صدق عليه لفظ إنسان يعني: الذي حُمِل عليها، فالصدق هنا المراد به الحملُ، فإذا قلت: إنسان يصدُق على زيد وعمرو، كأنك قلت: يُحمل على زيد وعمرو .. يصدق على زيد وعمرو.

بل يصدق أولى؛ لأن الصِّدق هنا المراد به: ما يُحمِل حملَ مواطئةٍ.

ولذلك يُستنكَر إذا قيل بأن يُحمَل على أفراده، هذه كلمة فيها شيءٌ من السَّعة؛ لأنك إذا قلت: يُحمل. دخل معنا الحمْل بنفسه وبالاشتقاق وبالإضافة.

لكن إذا أردت التحرير وأردت أن المراد هنا حمل المواطئة قل: صَدَق؛ لأنه ما صدق على أفراده يعني: حُمِل عليه حمل مواطئة، ولا يدخل معنا هنا الاشتقاق والإضافة فهو أولى.

قال: (وأصلُه مركب من ما الموصولة، وصدَق فعلٌ ماضي أي: ما صدق عليه الماهيّة) يعني: من الأفراد.

(والصدقُ بمعنى الحمل) على التفصيل الذي ذكرناه.

(فمصدوق الموصول على صلته الأفراد، فإن تلك الأفراد تُحمل على الماهيّة كزيدٍ وعمرو .. إلى آخره.

فإنه يقال: زيدٌ إنسان، وعمروٌ إنسان .. إلى آخره.

فعلى هذا تُفتح القاف في صدقَ) في "ما صدق"، ونحن نختصرها "المصدق" نقول، سمعتُها من مشايخ هكذا، وإلا الأصل نقول: ما صَدَق على أنه ماضي، لكن إذا تصرفوا فيه وركَّبوه جعلوه كلمة واحدة، إذاً: نُجري عليه الأحكام يعني: نجرُّه بحرف الجر، ثم ما صدقِ نأتي بالكسرة، وقد قيل به -والله أعلم- فيما أذكره.

لكن على كلٍ أصله هذا، والمراد بها: ما يُحمَل على الأفراد، جرَرْتَها أم أبقيتُها لا إشكال فيه، لكن هي منقولة. يعني أصلها مركَّب، أصلها كلمتان: (ما) و (صدق)، ثم مُزِجت وجُعلت كلمة واحدة، لك أن تعتبر الأصل في الإعراب ولك أن تعتبر ما آل إليه الوضع بعد ذلك.

تقول: على الما صدقِ.

إن قلنا بكلام العطار أنه تُفتح القاف دائماً على الما صدقَ، فكيف أدخلت على؟ أنت جعلتها كلمة واحدة، فإذا أدخلت (على) معناه أنك تصرفت في الكلمة تصرف المفرد.

إذاً: جُرها بالكسرة، ولا إشكال فيه. على كلٍ خلافٌ لفظي.

(كما تُطلق على الحقيقة تُطلق على مصدقِها، ويمكن نسبة الحقيقة إلى مصدقها) يعني: إلى الأفراد والجزئيات التي تصدق الماهيّة عليها.

إذاً: الكلِّي إما ذاتي وإما عرضي.

الذاتي دخل فيه الجنس والفصل؛ لأنه حدَّ ذاتي بالذي يدخل في جزئياته .. داخل، والعرضي بخلافه: ما ليس بداخل.

وحينئذٍ شمِل الخاصَّ والعرض العام، بقي النوع على الخلاف المذكور.

والصواب أن نقول: لا ذاتيٌ ولا عرضيٌ. والله أعلم.

(6/20)

________________________________________

قال رحمه الله تعالى: (ثم أَخذ في بيان الكُلِّيّات الخمس، وبدأ بالذاتي منها) الكُلِّيّات الخمس وعرفناها على جهة الإجمال.

قال الشيخ الأمين رحمه الله تعالى: الكُلّي إما أن يكون تمام الماهيّة أو ليس بتمامها. ما كان تمام الماهيّة فهو النوع.

فإن كان تمام الماهيّة فهو النوع، وإن كان غير تمامها فهو إما داخلٌ فيها وإما خارجٌ عنها.

إذاً: إما تمام الماهيّة أو ليس بتمامها.

الأول: النوع.

ثم إن كان غير تمامها "الذي هو الثاني" إما داخلٌ فيها وإما خارجٌ عنها.

فإن كان داخلاً فيها فلا يخلو: إما أن يكون أعم منها -وهذا شأن الجنس-.

وإما أن يكون مساوياً لها.

فالأول الجنس، والثاني الفصلُ.

وإن كان خارجاً عنها فلا يخلو أيضاً: من أن يكون أعم منها أو مساوياً لها، -الأعم هو العرض العام-.

فإن كان أعم منها فهو العرض العام، وإن كان مساوياً لها فهو الخاصةُ. هذا ذكره في بيان وجه الحصرِ في هذه الخمسة.

قال العطار: وجه الحصر بأن الكلِّي إما أن يكون ذاتياً أو عرَضياً. يعني: جاء باعتبار التصنيف الذي ذكره المصنف.

فإن كان ذاتياً فإما أن يدل على الماهيّة أو لا يدل.

فإن كان دالاً على الماهيّة المشتركة فهو جنس، وإن كان دالاً على الماهيّة المختصة فهو نوع، وإن لم يدل على الماهيّة فلا يجوز أن يكون أعم الذاتيات المشتركة، وإلا لدل على الماهيّة المشتركة، فتكون أخص منه فهو فصْلٌ صالحٌ للتميز عن بعض المشارِكات في أعم الذاتيات.

وإن كان عرضياً فإما أن لا يكون مشترَكاً فيه فهو الخاصة، أو يكون فهو العرَض العام، كلام الشيخ الأمين أوضح من هذا.

قال: (ثم أخذ في بيان الكُلِّيّات الخمس، وبدأ بالذاتي منها). لماذا؟ (لأنه العمدة منها فكان الأنسب أن يقدِّم النوع أو يؤخِّرَه) بناءً على أن النوع ذاتي.

(ويقارِن بين الجنس والفصل) لأنه فصَل بينهما، لم يرتب على الترتيب المشهور عند المناطقة.

(فكان الأنسب أن يقدِّم النوع أو يؤخَّرَه، ويقارن بين الجنس والفصل، كما فعل غيره للمناسبة بينهما من حيث إنهما جزءان) يعني: الجنس والفصل.

(ولكنه اعتبر مناسبة أخرى بين الجنس والنوع) لأنه قدَّم الجنس ثم النوع، ثم بعد ذلك ذكر الفصل، أيهما أولى؟ أن يجمع بين الذاتي والذاتي، خاصة إذا قلنا: إجماع على أن الجنس ذاتي والفصل ذاتيٌ، إذاً: التوالي بينهما مطلوب .. هو الأنسب، يأتي بالجنس ثم بعد ذلك الفصل. هو لا جاء بالجنس ثم النوع ثم الفصل.

إذاً: فصَل بينهما، ولذلك كان الأنسب أن يقدم النوع أو يؤخره.

(ويقارن بين الجنس والفصل كما فعل غيرُه للمناسبة بينهما من حيث إنهما جزءان، ولكنه اعتبر مناسبةً أخرى بين الجنس والنوع وهي المقُولة على كثيرين دون الفصل) لأن الجنس يُحمَل على كثيرين حقائقُهم مختلفة.

والنوع يُحمَل على كثيرين حقائقُهم متحدة أومتفقة.

والفصل لا يحمل على كثيرين، لهذه المناسبة جمع بين الجنس والنوع .. مناسبة لا بأس بها.

(ولما كان المختلِف في العدد والحقائق وهو الجنس: أولى باسم الكثرة من المختلف في العدد فقط، قُدِّم عليه، وأتى بالفصل بعد النوع؛ لتقدُّم الجنس على الفصل من حيث إن الجنس أعم).

(6/21)

________________________________________

وبدأ بالذاتي منها فقال: (وَالذَّاتيُّ: إِمَا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ).

(قوله: الذاتي) قال المحشِّي هنا: (إن قلتَ: لم عدَل عن الضمير والمقامُ له؟).

الأصل أن يقول: وهو. لكن قال: وبدأ بالذاتي منها فقال: (وَالذَّاتيُّ) هو يتكلم في السابق على الذاتي والعرَضي ثم قال: (وَالذَّاتيُّ).

(إن قلتَ: لم عدم عن الضمير والمقام له لتقدِّم مرجعه في قوله: إِمَّا ذَاتِيٌّ؟ قلتُ: للتنبيه على أن الذاتي هنا غير الذاتي فيما تقدم، فإنه هنا أعمُّ من المتقدم؛ إذْ الظاهر أن المتقدم لا يشمل النوعَ).

ولذلك قلنا: اختلف في اصطلاح المصنف، قلنا في السابق عرَّف الذاتي بالداخل في الجزئيات "الذي يدخل" قلنا: خرج النوع.

وهنا أراد أن يقسِّم الكُلِّيّات الذاتية فأَدخل النوع، كيف أدخله وأخرجه؟ حينئذٍ الذاتي هنا أعاده بلفظه ولم يأت بالضمير ليبيِّن أن ثم اصطلاحٌ آخر، فالذاتي هنا غير الذاتي هناك.

وهذا مما دلت القرينة على أنه إذا أُعيدت المعرفة معرفة فالأصل فيها أنها عينُها، ولكن هنا لا ليست عينها، وإنما هي مغايِرة.

قال: (قلت: للتنبيه على أن الذاتي هنا غير الذاتي فيما تقدم، فإنه هنا أعم من المتقدِّم؛ إذ الظاهر أن المتقدم لا يشمل النوع.

وما هنا شاملٌ له بقرينة ذكره في أقسامه، ولدفع توهُّم عودِه للعرضي) (إِمَّا ذَاتِيٌّ، وَإِمَّا عَرَضِيٌّ: وَهُوَ) يحتمل أنه يعود إلى العرضي، فدفْعاً لهذا الوهم قال: (وَالذَّاتيُّ).

(لأقربيتيه قبل التأمل في باقي الكلام، ففي كلامه شِبه استخدامٍ).

قال رحمه الله: (وَالذَّاتيُّ: إِمَا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ).

(مَقُولٌ) يعني: محمول.

هنا قال: (أي: صالحٌ لأن يُحمل حَمْلَ مواطئة لا حمل اشتقاق، وإلا لزم كون البياض جنساً للإنسان).

إذاً: (مَقُولٌ) (أي: صالحٌ لأن يُحمَل حَمْلَ مواطئة) يعني تحقق فيه معنى الكلِّي .. مقول يعني: محمول حملَ مواطئة.

(فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّركَةِ المَحْضَةِ) أي: الخالِصة من شائبةِ الخصوصية كما في النوع المقابِل له؛ لأنه سيذكر في النوع الشركة والخصوصية معاً.

وهنا قال: (فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّركَةِ المَحْضَةِ) أي: الخالصة، في بعض النسخ "الشركة" فقط.

قال بعضهم: هذا القيد لا بد منه؛ لإخراج النوع فإنه يقال بحسب الشركة والخصوصية معاً. وسيأتي ذكره.

فيُعلم أن الجنس يقال بحسب الشركة لا الخصوصية؛ ليتحقق التقابل بينهما، أو يقال المراد بالشركة المحضة الشرِكة التي بين الحقائق لا التي بين الأفراد، لكن المراد أنه مقابِلٌ للنوع؛ لأن النوع يصدُق على شخصٍ واحد، يقال: ما زيدٌ؟ يقال: إنسان، وأما الجنس هنا فيتعين أن يكون في الشركة لكن في الخصوصية وإن كان يصح أن يقال به، لكنه في الحقيقة لا.

وحينئذٍ قوله هنا: (بحسب الشركة المحضة ليقابِل النوع) وسيأتي الكلام في النوع.

قال: (كالحيوان بالنسبة إلى أنواعه نحو: الإنسان والفرس).

(كالحيوان) هذا ذاتيٌ (مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّركَةِ المَحْضَةِ) يعني: التي تكون بين الأفراد لا بالنظر إلى شيءٍ آخر.

(6/22)

________________________________________

ولذلك قال العطار: الخالصةِ من شائبةِ الخصوصية كما في النوع المقابِل له. وهذا الكلام أسهل من كلام المحشِّي.

قال: (كالحيوان بالنسبة إلى أنواعه) أنواع الحيوان كثيرة.

قال: (نحو الإنسان والفرس) لو قيل: ما الإنسان وما الفرسُ؟ ما القدر المشترك بينهما؟

القدر المشترك بينهما أن تقول: حيوان، حينئذٍ حيوان هذا نقول يسمى كلياً لأنه باعتبار المفهوم لا يمنع التعدُّد.

ثانياً: ذاتي لأنه جزءٌ من الماهيّة، ثم يصدق عليه أنه يقع في جواب ما هو، إذا كان السؤال عن متعددٍ، وهذا المتعدد وإن اختلفت حقائقُه إلا أنه متحدٌ من حيث معنى الكلِّي الذي هو الحيوانية.

حينئذٍ إذا قيل: ما الإنسان وما الفرس، وما الحمار وما البقرة؟ ما القدر المشترك بين هذه الأربعة؟ حيوان، هذا المراد.

ولذلك يقال: بمفردِه -حيوان فقط- إذا أردتَ الجواب عن هذه الأربعة كما سيأتي في أنواع الأسئلة هنا.

(إلى أنواعه نحو الإنسان والفرس وهو الجنس) هذا هو ضابط الجنس.

(لأنه إذا سُئل عن الإنسان والفرس بما هما؟)

يعني: ما الفرس والإنسان؟ أو ما هو الفرس وما هو الإنسان؟ سواء كان سؤالاً واحداً أو منفصلاً لا إشكال فيه.

قال هنا: (بما هما؟ كان الحيوان جواباً عنهما).

قال: لأنه إذا سُئل عن الإنسان والفرس ظاهره بما هما؟) سُئل سؤالاً واحداً.

(كان الحيوان جواباً عنهما) عن السؤالين؛ لأنه لو قال: ما الإنسان والفرس؟ هذا في قوة سؤالين، فالجواب بالحيوان وقع عن الجواب عن السؤالين، فهو سؤالٌ في الظاهر لكنه متضمن لسؤالين، لو قلتَ: ما الإنسان والفرس والحيوان والبقر؟ هذه أربعة أسئلة؛ لأن الأصل أن تُسلَّط ما على كل فردٍ: ما هو الإنسان؟ وما هو البقر؟ وما هو الحمار؟ .. إلى آخره.

فيقال: الإنسان حيوان، وكذا .. إلى آخره.

أو تأتي بقدرٍ مشترك بين هذه الأربعة فتقول: حيوان.

ولذلك قال: (كان الحيوان جواباً عنهما) أي: عن السؤالين أي: الإنسان والفرس.

(ولو قال: عنه أي: السؤال المعلوم المفهوم من سُئل) لأنه ذَكَره "سُئل" ما ذَكَر إذا أتى بسؤالين.

(ولو قال: عنه أي: السؤالِ المعلوم – يعني المفهوم- من سُئل كان أولى، إلا أن يقال: أتى بضمير التثنية لتضمن السؤال عنهما سؤالين وإن وقع بلفظٍ واحد في قول السائل: ما الإنسان والفرس؟) وهو كذلك.

أتى بـ: عنهما لأنه في قوة السؤالين، بدلاً من أن يكرِّر: ما الإنسان وما الفرس .. إلى آخره؟ قال: ما الإنسان والفرس اختصاراً ولا إشكال فيه.

قال: (كان الحيوان جواباً عنهما؛ لأنه تمامُ ماهيتهما المشتركة بينهما).

قال العطار: ماهيّة الشيء وحقيقتُه شيءٌ واحد.

ماهيةُ الشيء وحقيقةُ الشيء يعني: هذا تعبير وهذا تعبير، المؤدَّى واحد وهما شيءٌ واحد وإن كان له اصطلاح عندهم.

(ماهيّة الشيء وحقيقتُه) يعني: حقيقة الشيء شيءٌ واحد، (وهو ما به الشيء هو هو) يعني: ما يقوم به الشيء.

هذا الأصل فيها: الاستواء في الماهيّة والحقيقة .. ما يقوم به الشيء.

(وقد تختص الحقيقة بالموجودات دون الماهيّة، فتشمل المعدومات) فحينئذٍ الحقيقة قد تُستعمَل مراداً بها الموجود، فلا تشمل المعدوم بخلاف الماهيّة.

(6/23)

________________________________________

ولذلك نقول: الإنسان له ماهيّة في الذهن، لها وجود لكن ليس هو الوجود الخارجي، إنما هو وجودٌ ذهني وجود اعتباري، ليس بشيءٍ محسوس، لكن هذا موجود؟ نعم موجود، وجود محسوس، لكن وجود معنى الإنسان في الذهن وجودٌ اعتباري، ولذلك بعضهم أنكره، لكن الصواب أن له وجوداً لكن هذا الوجود ليس المراد أنه شيءٌ يكون داخل الذهن متحيزاً لا، وإنما المراد به الملاحظات.

قال هنا: (دون الماهيّة فتشمل المعدومات، وهي مأخوذة من ما هو).

يعني: أصل ما الاستفهامية هو الضمير.

(والمراد بها ما يقع جواباً عن ذلك السؤال.

قيل: إنها نسبةٌ إلى ما) وهذا هو المشهور: ماهيّة نسبة إلى ما.

(وذلك لأنه لما كانت ما يُسأل بها عن الحقيقة نُسِبت الحقيقة إليها، بمعنى: أنها تقال في جوابها، فيقال للحقيقة: إنها ماهيّة أي: مقولة في جواب ما أو مطلوبة بها، وإن شئت أبدَلت الهمزة هاءً) أين هذه؟ أو العكس: أبدلت الهاء همزةً ما مائيّة يُنظر فيها ويتأمل.

(وقيل: للماهية معنيان: الأول: ما به يجاب عن السؤال بما هو) هذا الذي سبق.

(والثاني: ما به الشيء هو هو، والحق أن لفظة الماهيّة مشتقة من هاتين العبارتين، ومعناها) يعني: معناها الحقيقي (هو الأمر المعقول أي: الحاصل في العقل من غير اعتبار الوجود الخارجي) الأمر المعقول يعني: الشيء الحاصل في الذهن من غير اعتبار شيء في الخارج.

ولذلك قلنا: هذا الوجود الذهني.

قال هنا: (وإذا سُئل عن كلٍ منهما) يعني: الإنسان والفرس، كل واحدٍ منهما أي: وحده.

(لم يصح أن يكون الحيوان جواباً عنه) هذا قلنا الشركة، يقابل خصوصية هناك، الإنسان يصح أن يُسأل عن كل واحد منهما، ما زيدٌ؟ تقول: إنسان.

قال هنا: (وإذا سُئل عن كلٍ منهما) يعني: وحدَه .. عن الفرس فقط، وعن الإنسان فقط.

(لم يصح أن يكون جواباً عنه) لم يصح أن يكون الحيوان جواباً عنه .. عن السؤال.

(لأنه ليس بتمام ماهيته فلا يجاب به، بل بتمامِها وتمامُها في الأول الحيوانُ الناطق).

يعني: فرقٌ بين أن يقول: ما هو الإنسان والفرس والبقر؟ فيقول: حيوان، قدرٌ مشترك.

وبين أن يقول: ما الإنسان؟ إذا قال: ما الإنسان؟ لا يجيبه بالحيوان، وإنما يجيبه بالتعريف .. بالحد، فيقول: حيوانٌ ناطق، لا يأتي بجزء الماهيّة الذي هو الجنس وإنما يأتي بتمامها، ولذلك قال هناك في التعريف: (فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّركَةِ المَحْضَةِ) هذه مقابلة للخصوصية هناك .. بأن النوع يُجاب به في الشركة والخصوصية معاً، سواء كان مجتمِعَين أو مفرداً، ما زيدٌ؟ تقول: إنسان، ما زيدٌ وبكرٌ وعمروٌ؟ إنسان.

إذاً: استويا، لكن الجنس لا، وإنما يأتي إذا كان ثَم أفراد متعددة .. حقائق مختلفة، ما الفرس والبقر والحمار؟ تقول: حيوان، أما إذا قيل: ما الفرس؟ تقول: حيوانٌ صاهل .. تأتي بالحد.

إذاً: (وإذا سُئل عن كل منهما -عن الإنسان والفرس وحده- لم يصح عند المناطقة أن يكون الحيوان جواباً عنه -عن السؤال-؛ لأنه -أي: الحيوان- ليس بتمام ماهيته بل هو جزء من الماهيّة، فلا يجاب به -بالحيوان الذي هو جنس- بل بتمامِها، وتمامُها في الأول -يعني: الإنسان- الحيوان الناطق، وفي الثاني -يعني: الفرس- الحيوان الصاهل).

(6/24)

________________________________________

وهذا معنى قوله: (بِحَسَبِ الشَّركَةِ المَحْضَةِ).

قال العطَّار: أي الخالصة من شائبة الخصوصية كما في النوع المقابِل له.

الخصوصية بأن يُسأل عن واحدٍ فقط، هذا المراد بالخصوصية، فالنوع تارة يُجاب به فيما إذا سُئل بشيءٍ مُشترَك، وتارة يجاب به إذا سُئل عن واحد، الجنس لا. لا يأتي عن واحد وإنما نعدل إلى التعريف، وأما المشترك فهو الذي يُجاب به.

قال رحمه الله تعالى مبيِّناً قاعدة: (والمسئول عنه بما) يعني: بلفظ ما.

(منحصرٌ في أربعة:

الأول: في واحدٍ كُلّيٍ نحو: ما الإنسان؟) هنا المسئول عنه، الكلام عن ما بعد ما.

ما متحدة في الأربعة الأقسام، لكن ما بعد ما قال: (واحدٍ كُلّي) واحد يعني: غير متعدد، وإنما سَأل عن لفظٍ واحد، ليس عندنا تعدُّد أفراد وإنما عن شيءٍ واحد.

(واحد كُلّي نحو: ما الإنسان؟) هذا الأول.

(الثاني: وواحدٍ جزئيٍ نحو: ما زيدٌ؟) "ما" كقوله: ما الإنسان؟ ما زيدٌ؟ اتحد ما، لكن الخلاف أن ما بعد ما في: ما الإنسان كُلّي، والثاني جزئي زيد.

(الثالث: أن يكون ما بعد ما المسئول عنه: كثيرٍ) بالجرّ.

في واحدٍ، وواحدٍ جزئي، وكثيرٍ.

(متماثل الحقيقة). أراد به النوع، هذا نوع.

(نحو: ما زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ؟) هذا كثير يعني: ليس واحداً.

(متماثِل الحقيقة) يعني: أفرادُه متّحدة، هذا خاصٌ بالأفراد؛ إذ لا توجد حقيقتان متماثلتان (متماثل الحقيقة) الحقيقة التي هي: حيوان ناطق. هذا المراد بها، أما الأفراد فلا.

(نحو: ما زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ؟).

(الرابع: وكثيرٍ مختلفِها) يعني: مختلف الحقيقة.

(نحو: ما الإنسان، والفرس، والشاة؟).

هذه أربعة أشياء: الأول أن يكون المسئول عنه ما بعد .. ما يُسأل بها عن أربعة أشياء، أن يكون ما بعدها واحدٌ كُلّي نحو: ما الإنسان؟ الإنسان واحد كُلّي ليس متعدداً.

الثاني: واحدٌ جزئي ما زيدٌ، ليس عندنا تعدد زيدٌ عمروٌ لا، واحد فقط.

الثالث: كثير، لكنه متماثل في الحقيقة .. حقيقته واحدة حيوان ناطق، مثل: ما زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ؛ لأنه قد يُسأل مع اختلاف الحقائق، مثلاً تقول: ما زيدٌ والفرس؟ هذا نوع سيأتي إشارة إليه، لكنه هنا قال: (متماثل الحقيقة) يعني: حيوانٌ ناطق. زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ متعدِّد.

رابعاً: (كثيرٍ مختلفِها) أي: مختلف الحقيقة.

قال هنا: (نحو: ما الإنسان والفرس والشاة؟

والجوب عن الأربعة منحصرٌ في ثلاثة أجوبةٍ؛ لاشتراك الثاني والثالث) الثاني: ما زيد، والثالث: الذي هو ما زيدٌ وبكرٌ وعمروٌ (في جواب واحد).

قال المحشِّي: فيجاب عن الأول وهو الواحد الكلِّي بحدِّه التام.

لو قال لك: ما الإنسان؟ ما تقول: حيوان كما ذكرنا في السابق؛ لأن الجنس لا يقع جواباً عن واحد ولو كان كُلّياً، وإنما يقع عن متعدد.

إذاً: يجاب عن الأول وهو الواحد الكلِّي بحدِّه التام كـ: حيوانٌ ناطق.

وعن الثاني وهو الواحد الجزئي، وعن الثالث وهو الكثير المتماثل في الحقيقة بجواب واحد وهو النوع.

ما زيدٌ؟ تقول: إنسان.

ما زيدٌ وبكرٌ وعمروٌ؟ متعدد .. إنسان.

اتحدا يجاب بالنوع؛ لأنه تمام ماهيّتها المشترَكة بينها، ولا عبرة بالمشخِّصات المختلفة. ما هي المشخِّصات؟

الأعراض.

الأعراض: الطول والقصر، البياض والسواد .. إلى آخره، هذه أعراض.

(6/25)

________________________________________

قد يقول قائل: ما زيدٌ وبكرٌ وعمروٌ، إذا قلتَ: إنسان أين الحقيقة المتحدة؟ ليس عندنا حقيقة متحدة ولا مفترِقة.

إذا كان الأول لونُه أبيض والثاني أسود، والثالث طويل والأول قصير. إذاً: مختلفون هؤلاء. نقول: لا. هذا الاختلاف لا أثر له في التشخُّص؛ لأنه باعتبار التشخص، وأما الحقيقة فهي متَّحِدة. هذا الذي عناه.

(ولا عبرة بالمشخِّصات) يعني: الأعراض العامة.

التي يمتاز بها زيدٌ عن بكر، لا شك أنهما يمتازان، ولذلك الأُنثى تمتاز عن الذكر، والذكر عن الأنثى، ويصدُق عليهما لفظ إنسان، لكن هذه مشخِّصات وهذه مشخِّصات، وأما الحيوانية الناطقية فهي متحدة في الذكر والأنثى. وهذا أنسب في المشخِّصات؛ لأنها عرضيات.

وعن الرابع وهو الكثير المختلف الحقيقة في الجنس القريب كحيوان.

إذاً: المسئول عنه بما محصورٌ في أربعة أشياء.

يجاب عنها بثلاثة أشياء: إما بالحد، وإما بالنوع، وإما بالجنس.

قال العطار: وجهُ الحصر أن الجواب إما أن يكون بالحد وهو الأول "واحد الكلِّي" أو بالنوع وهو الثاني، أو بالجنس وهو الثالث "يعني: الجواب".

والحاصل: أن الأسئلة بما هو وإن كثُرت فجوابها منحصرٌ في ثلاثة أقسام:

جوابٌ لا يكون إلا إذا كان السؤال عن واحدٍ كُلّي، ولا يكون حالة التعدد وهو الجواب بالحد.

وجوابٌ لا يكون إلا عند السؤال عن متعددٍ كليين مختلفي الحقيقة، أو شخصين، أو شخصٍ وكُلِّيٍ كذلك، ولا يكون عن مفردٍ وهو الجواب بالجنس. على ما ذكره الشارح هنا.

وجوابٌ يكون عن السؤال عن مفردٌ شخصٍ أو أشخاص متحدة الحقيقة، أو صنفٍ أو أصنافٍ كذلك وحدَها.

أو مع الشخص أو الأشخاص المتفقِ جميعِها في حقيقة واحدة وهو الجواب بالنوع الحقيقي. يعني: لا الإضافي.

قال: (وَيُرْسَمُ) يعني: يُعرَّف أو يُحدّ.

وهو بينهم خلاف سيأتي: لماذا عبَّر يُرسم ولم يقل: يُحد، هل أن هذه لا تحد؟ لأن الحد لا يكون إلا بالذاتيات، والرسم يكون بغير الذاتيات أو ببعضها ليس بتمامها.

قال: (وَيُرْسَمُ) (الجنس) يعني: يُعرَّف.

(بِأَنَّهُ كُلِّىٌّ) الباء هذه -يُرسم بأنه كُلّيٌ- متعلِّقة بيُرسم.

(أَنَّهُ) أي: أن الحال والشأن، أو (أَنَّهُ) يعني: الجنس؟

الجنس .. الضمير يعود على الجنس؛ لأنه موجود مذكور، إذا كان مذكوراً ما نفسِّره بضمير القصة ولا الشأن، إنما نرجع الضمير إلى ما سبق.

(وَيُرْسَمُ الجْنْسُ بِأَنَّهُ كُلِّىٌّ).

(مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) هو معنى الكلِّي، كُلّيٌ هو مقولٌ على كثيرين.

(كُلِّىٌّ) اللفظ هذا، قلنا ضابط الكلِّي هو أن يُحمل على كثيرين.

إذاً: من لفظ "كُلّي" نفهم أنه (مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) لأنه هذا حقيقة الكلِّي.

ولذلك بحيثُ يُحمل على كل فردٍ من أفراده.

قال في التعريف: (كُلِّىٌّ مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ).

إذاً: إذا كان الكلِّي لا يُفهم منه إلا أنه مقولٌ على كثيرين، لماذا تنُص على ذلك؟

(قيل: لا حاجة إليه -لقوله: كُلّي- لإغناء مقولٍ على كثيرين عنه. ورُدَّ).

هو ما دام أنه قاله لا بد أن يكون هو الصواب عنده.

(ورُدَّ بأن المتأخر لا يُغنِي عن المتقدِّم) لأن الاعتراض هنا جاء بمتأخر عن متقدم، وهذا غريب يعني، لكن هكذا أمِرُّوها كما جاءتْ.

(6/26)

________________________________________

قال: (لأن المتأخر لا يُغني عن المتقدم) لكن عندنا تعاريف، فلا بد أن يكون التعريف منضبط بمعنى أنه إذا تأمله لا بد أن يكون عندنا جنس وعندنا فصل، هذا إدخال وهذا إخراج. فكيف نقول: يذكُر قيداً أولاً ثم يذكر قيداً ثاني بمعناه، ثم نقول: لا يُعترض على الأول بالثاني؟ هذا فيه نظر.

(ورُدَّ بأن المتأخر لا يُغني عن المتقدم لوقوعه في مركَزه "محله" لأن فيه الاعتراض باللاحق على السابق وهو غير مرضيٍ؛ لأن السابق وقع في مركزه).

هذا يمكن أن يقال: إن سُلِّم -اعتذاراً عن أهل العلم- إن قيل في غير التعاريف، وأما في التعاريف فلا، يعتبر تَكراراً ولا إشكال فيه.

قال: (وبأنه -الجواب الثاني- محتاجٌ إليه ليُجري الوصف عليه).

(مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ).

(مُخْتَلفِين) هذا الوصف، لكن إذا كان سيعرِّف الجنس بأنه مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلفِين في الحقائق، حذَفَ لفظ كُلّي.

إما هذا وإما ذاك، إذا كان يُذكَر مَقُول عَلَى كَثِيرِينَ من أجل الوصف تمهيداً له؛ ليتعلق به لا إشكال فيه، لكن يُحذف لفظ كُلّي. على كلٍ الخطْب سهل.

قال: (بِأَنَّهُ كُلِّىٌّ) يعني: الجنس كُلّي، ولا شك أنه كُلّي.

فقوله: (كُلِّىٌّ) دخل فيه سائر الكُلِّيّات، انظر عاملوه معاملة الجنس، أنه تعريف ولا بد أن يكون الجنس مشتملاً على سائر الأقسام؛ لأن القسمة خماسية هنا، فلا بد أن يَدخل جميع الأقسام.

(دخل فيه سائرُ) أي: جميع، لا بقية، لأن سائر تأتي بمعنى البقية وتأتي بمعنى الجميع.

(دخل فيه سائر الكُلِّيّات) يعني: الخمسة.

(مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ).

(مَقُولٌ) أي: محمولٌ حملَ مواطئَة، والمرادُ: صالِحٌ لأن يقال ويُحمَل، لا أنه مقولٌ بالفعل.

إذا قيل: هذا مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ. لا بد أنك تأتي وفي كلِّ كلي تقول: زيدٌ إنسانٌ، وبكرٌ إنسان. تأتي بالفعل، أم يكفي بالقوة؟

الوصفُ -وصفُ الشيء- هذا سيأتي معنا كثيراً، قد يكون بالفعل وقد يكون بالقوة.

فالضاحك -كما سيأتي في أمثلته- قد يكون ضاحكاً بالفعل يعني: يضحك، إن قلنا: الضحك هو المراد به هذا، وبعضهم يحمِلُه على معنى آخر وسيأتي.

إن قلنا: بالقوة يعني: هو عنده قابلية لأن يضحك، لكن هو الآن ليس بضاحك.

أنت الآن ماشي؛ لأنك صالح لأن تمشي، أنت الآن مستلقي، يعني: الخبر هذا إذا قيل: أنت الآن تمشي، أو أنت الآن ماشي .. اسم فاعل، هذا ما تستطيع أن تكذِّبه وتقول: كذِب، لا. ماذا تعني؟

هل تعني بالفعل؟ فكذِب هذا، تعني بالقوة؟ فحينئذٍ لا إشكال فيه، هذا صحيح.

فكلُّ وصفٍ بالفعل بالوجود بالحصول بالثبوت يعني: ثابتٌ، بالقوة يعني: يمكن أن يفعلَه لكنه غير موجود الآن.

فكلُّ وصفٍ يتعلق بالإنسان مِن ضحكِ، أو بكاء، أو نوم، أو آكل، أو شارب. أنت الآن تأكل لكن بالقوة، يعني: مآلك أنك تذهب وتأكل، أنت تشرب قد يشرب بالفعل نقول: هذا شاربٌ بالفعل، لكن بالقوة إذا تَرَك .. وهكذا.

حينئذٍ قولُه: (لأن يقال ويُحمَل، لا أنه مقولٌ بالفِعْل) يعني: نقول: الكلِّي من ضوابطه أنه مقولٌ على كثيرين بأن يُحمَل حمل مواطئة يعني: بالقوة، يعني: يكون صالحاً وجاهزاً لأن يُحمل على أفراده.

ولا يلزم من ذلك أنك تأتي وتُلزِم أفرادَه بالخبرية به.

(6/27)

________________________________________

(وكذا يقال في بقية التعاريف) يعني: فيما سيأتي.

(فإن الكلِّي المنقسِم إلى هذه الأقسام عامٌ يشمل ما لا أفراد له خارجاً، وما له أفراد، وما له فردٌ واحدٌ إلى آخر التقسيمات السابقة).

التقسيمات السابقة .. الستة الأنواع كلها تدخل هنا، وليست خاصة بنوع دون نوع.

قال هنا المحشِّي: (مقولٍ أي: صالح باعتبار معناه لأن يُحمَل حملَ هَو هو، ويسمى حمْلَ مواطئة لا حمل اشتقاق) كما مر معنا.

(عَلَى كَثِيرِينَ) المرد بالكثيرين في تعريف الجنس: الأنواع؛ لأن الجنس تحته أنواع، هذا الأصل، فالمراد بالكثيرين هنا في تعريف الجنس الأنواع، وفي تعريف النوع (مَقُول عَلَى كَثِيرِينَ) يعني الأشخاص .. أفراد، فرقٌ بين الاصطلاحين.

قيل: (كَثِيرِينَ) جمع كثير على زِنة فعيل، وحينئذٍ فلا وجه للجمع، وهذا الجمع ليس بصحيح من جهة اللغة (كَثِيرِينَ) وإنما هو من مُسامحَات أهل هذا الفن. هم أصلهم عجم، فلمَّا عُرِّب بقيت بعض الألفاظ، ولذلك "مَصْدَق" هذه لا وجود لها في العربية.

الماهيّة .. التركيب هذا لا وجود له، وإنما هذه من تكلُّفَاتِ القوم.

كذلك هنا هذا يُعتبر مثلُه (كَثِيرِينَ).

وإنما اختاروا جمع الكثير، كثير يكفي ما يحتاج أنه يُجمع، لأنا نقول: أقل ما يصدُق عليه الجنس اثنان فصاعداً، وإذاً: يكفي هذا.

(وإنما اختاروا جمع الكثير تنبيهاً على أن جميع الكُلِّيّات متساويةٌ باعتبار نفس التصور، حتى أنه ما من كُلّي إلا وهو صادقٌ على ذوي عقول متكثرِّة بهذا الاعتبار، وإن كان مُبايناً لها بحسب نفس الأمر، وأما اختيارُ صيغة المذكر على صيغة المؤنث فلكونه أشرف).

إذاً: (مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) يعني: صالحٌ لاعتباره أن يُحمَل حملَ مواطئة على كثيرين، والمراد بالكثيرين هنا في حدِّ الجنس: الأنواع لا الأشخاص.

قال: (مُخْتَلفِين) هذا نعتٌ لكثيرين.

(مُخْتَلفِين بِالحقائِقِ) أي: كالحيوان المقول على الإنسان والفرس والحمار.

وحقيقة الأول -الذي هو الإنسان-: حيوانٌ ناطق.

والثاني -الذي هو الفرس-: حيوانٌ صاهِل.

والثالث -الذي هو حمار-: حيوانٌ ناهِق.

إذاً: مختلفين بالحقائق، حقيقةُ الإنسان غير حقيقة حمار، فإذا اجتمعا وقيل: ما الإنسان وما الحمار؟ قلتَ: حيوانٌ. إذاً: صحَّ.

محمولٌ على كثيرين فتقول: الإنسان حيوانٌ، والحمار حيوان، والبقرة حيوان .. وهكذا.

إذاً: حقائقُهم مختلفة، ومع ذلك صح حملُ اللفظ على كل نوعٍ على الأصح.

إذاً: (عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلفِين بِالحقائِقِ) خرَج به النوع؛ لأنه مقولٌ على كثيرين متَّفقِين بالحقائق، ما زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ؟ حقيقتُهم واحدة.

حقيقةُ الأفراد –النوع- واحدة .. مُتَّحِدة، زيدٌ وبكرٌ وعمروٌ حقيقتُهم واحدة. حيوانٌ ناطق.

وأما حقيقة الإنسان والفرس والحمار. هذه مختلفة، كلُّ واحدٍ منها له تعريفٌ خاص، وأما بكرٌ وعمر هذا له تعريفٌ واحد، هذا المراد بالاختلاف.

قال: (فِي جَوَابِ مَا هُوَ) هذا فَصلٌ مُخرِجٌ للعرض العام؛ لأنه لا يقال في جواب، العرض العام في الاصطلاح عنده، وهو يقع في الجواب، كيف زيدٌ؟ مريض.

مريض هذا يعني: ما لا يختص بالإنسان، المرض خاص بالإنسان؟ لا.

(6/28)

________________________________________

الضاحك -على المشهور- خاصٌ بالإنسان، النطق خاصٌ بالإنسان، طيب المرض؟

المرض عرض عام.

ضاحك هذا عرضٌ خاص، خاصة يسمى، هذا خاصٌ بالإنسان.

يقع في جواب؟ نعم يقع في جواب، يعني: يُسأل عنه، وأما العرض العام قالوا: لا يقع في جواب، هذا ليس في اللغة فانتبه لهذا؛ لأنك تقول: كيف زيد؟ قل: دنِف يعني: مريض.

فحينئذٍ صح، والمرض هذا وصفٌ عام. يعني: الإنسان يمرض، والطير يمرض، والحمار يمرض، والدجاجة تمرض، والشاة تمرض .. إذاً: وصفٌ عام، هذا يسمى عرضاً عام.

ولذلك المشي هذا عرضٌ عام ليس خاصاً بالإنسان؛ لأن الحيوانات تمشي ((فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ)) [النور:45] هذا كله يسمى مشياً.

إذاً: الوصفُ العام في الاصطلاح عندهم لا يقع في جواب، لكنه قد يقع، ولذلك استثناه العطار في بعض المواضع.

إذاً: قوله: (فِي جَوَابِ) خرَج بالمضاف العرضُ العام.

(مَا هُوَ) خرَج به ما سيذكره المصنف.

قال: (خرج به) يعني: بهذا القيد.

(مقولٌ في جواب) (فِي جَوَابِ) متعلِّق بقوله: مقولٌ (فِي جَوَابِ مَا هُوَ).

(خرَج به) يعني: بهذا القيد (فِي جَوَابِ مَا هُوَ) (الفصلُ، والخاصةُ، والعرضُ العام) ثلاثة أشياء.

ما وجه الخروج؟

قال: (إذْ الأولان الفصل، والخاصة) إذْ للتعليل.

(إذ الأوَّلان: الفصل، والخاصة. إنما يقالان في جواب أي شيءٍ هو) لأن السؤال محصورٌ في نوعين عند المناطقة (ما وأي) فقط، لا سؤال إلا بهذين .. اصطلاح.

ما وأي، الخاصة والفصلُ لا يكون السؤال عنهما بما، وإنما: أيُّ شيءٌ هو؟

إما في ذاته، وإما في عرضه .. كما سيأتي تفصيله.

إذاً: (إذ الأولان: الفصل، والخاصة. إنما يقالان في جواب أيُّ شيءٍ هو.

والثالث -وهو العرض العام-: لا يقال في جوابٍ أصلاً) على المشهور عندهم.

(لا يقال في جوابٍ أصلاً) يعني: لا يُسأل عنه؛ لأنه لا يفيد، لا يحصل به تمييز.

الذي يحصل به التمييز كالضحك مثلاً ونحوه هو الذي يقع في الجواب، وأما ما كان وصفاً عاماً "عرضاً عاماً" فهذا لا يستفيد منه شيء.

قال: (والثالث -وهو العرض العام-: لا يقال في الجواب أصلاً).

إذاً: نرجع إلى قوله: (فِي جَوَابِ مَا هُوَ).

قوله: (فِي جَوَابِ) بالمضاف خرج العرض العام.

وبقوله: (مَا هُوَ) خرَج به الفصل والخاصة؛ لأنه أيُّ شيءٍ هو .. يُسأل عنهما بأي شيء.

قال: (والثالث: لا يقال في الجواب أصلاً؛ لأنه ليس ماهيّةً لما هو عرضٌ له حتى يقال في جواب ما هو، ولا مميِّزاً له حتى يقال: في جواب أيُّ شيءٍ هو).

يعني: نفَوا عنه الفائدة في باب الاستفادة هنا، في بناء ما يتعلق به من حيث التعاريف؛ لأن الكُلِّيّات هذه كلها ستدخل في التعاريف؛ لأنها مادة المعرِّفات وهي مبادئ وتلك مقاصد .. تصورات، التصورات لها مبادئ ولها مقاصد.

مبادئُها: الكُلِّيّات الخمس، وهو الذي يقع به التمييز. إذاً: العرض العام لا يصلح مميِّزاً، ليس بذات ماهيّة لا داخلاً ولا كذلك يكون مميِّزاً لماهيّة عن ماهيّة أخرى.

(6/29)

________________________________________

ولذلك قال: (لأنه ليس ماهيّة لما هو عرضٌ له حتى يقال في جواب ما هو) وإنما يقع في جواب ما هو ما كان في الماهيّة الذي هو الجنس والنوع، والعرَض العام ليس من الماهيّة فلا يقع في جواب ما هو.

(ولا مميزاً له حتى يقال: في جواب أيُّ شيءٍ هو) إذاً: كأنه يقول -على ما ذكره الشيخ الأمين-: أن الأسئلة محصورة في نوعين.

(مَا هُوَ) أيُّ شيءٍ هو، (مَا هُوَ) يُسأل عن الذاتيات ويجاب بالذاتيات، والعرض العام ليس منها إذاً: انتفى السؤال عنه (مَا هُوَ).

طيب "أي شيءٍ هو" هذا مميِّز، الفصلُ والخاصة. إذاً: هو ليس مميزاً، لا نستفيد منه شيء، إذاً انتفى عنه.

إذا انتفى عن هذا وذاك إذاً: لا يُسأل عنه. هذا مرادُه (حتى يقال في جواب أيُّ شيءٍ هو).

قال: (وأما الجزئي فلم يدخل في الكلِّي حتى يُحتاج إلى إخراجه بمقولٍ على كثيرين كما زعَمه جماعة).

يعني: (مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) هل شمِل الجزئي؟ هذا محل خلاف، ولذلك قال: (كما زعمه جماعة) يعني: بعضهُم يرى أن الجزئي يمكن أن يقال على كثيرين.

ومنهم من قال: لا. المشهور هو ما ذكره هذا، وإلا قلنا في ضابط الكلِّي ما هو؟ أن يُحمَل حملَ مواطئة، إذاً: الجزئي لا يُحمل، وما ذكرناه من أنواع الجزئي: العلم الشخصي، والعلم الجنسي، وأل، والضمير .. هذه خاصة، لا تُستعمل إلا خاصة فكيف يُحمَل على غيره؟ وهذا فيه شيءٌ من التكلُّف.

ولذلك من قال بأنه يُحمل جعل له اعتبار، وإذا جعل له اعتبار هذا الباب مفتوح يعني: أي شيء تجعل له اعتبار آخر يعني: اعتبار ذهني، هو باعتبار كذا يُحمل، وباعتبار كذا لا يُحمل، كما قيل في الفعل: كُلّيٌ باعتبار الحدث، جزئيٌ باعتبار النَّسبة.

إذاً: باعتبار النسبة هذه لا إشكال فيها.

إذاً: (وأما الجزئي فلم يدخل في الكلِّي حتى يُحتاج إلى إخراجه بمقولٍ على كثيرين كما زعمه جماعة).

قال العطار: وأما الجزئي فلم يدخل في الكلِّي .. إلى آخره.

أي: لو فُرِض دخوله في الكلِّي خرج بقوله: (مَقُولٌ) بناءً على أنه الجزئي لا يُحمل.

على كلامه قوله: الكلِّي، وهذا على كلام العطّار.

كُلّي هل شمل الجزئي؟ هو لا يتأتى أن يدخل فيه الجزئي، لكن نقول: لو فُرض، لو هذه بابٌ واسع .. لو فُرض "عقلاً وجداً" دخوله في الكلِّي خرج بقوله: (مَقُولٌ) بناءً على أن الجزئي لا يُحمل، وإنما الذي يُحمل الكُلِّيّات.

وهذا القول هو المشهور عند المناطقة: أن الذي يُحمل هو الكلِّي.

ولذلك هذا مما قد يُجعل أنه ضابط يعني: في المعنى الكلِّي وفي حملِه حملَ مواطئة، وفي كونه إذا وقع بالفعل، الأول قلنا ولو بالقوة .. مقول على كثير بالقوة، لكن لو وقع بالفعل أنه محمولٌ تحكُم عليه بأنه كُلّي؛ لأنه لا يُحمل إلا الكُلِّيّات.

قال: (على أن الجزئي لا يُحمل، وهو مختار السيد الشريف معلِّلاً له: بأن حمْلَه على نفسه لا يُتصور قطعاً؛ إذْ لا بد في الحمل الذي هو النسبة من أمرين متغايرَين، وحملُه على غيره ممتنع.

واختار الدَّواني صحةَ حملِ الجزئي.

فقال في التعريف -يعني: في الشرح-: (المقول -أي: المحمول- وهو شاملٌ للكلي والجزئي؛ فإن الحمل يجري فيهما معاً على الصحيح -يعني: في الجزئي والكل- على ما صرّح به الفارابي والشيخ في الشفا.

(6/30)

________________________________________

وأجاب عما ذكَره السيد بأنه يجوز حمله على جزئيٍ مغايرٍ له بحسب الاعتبار).

هذا إشكال، جزئيٌ على جزئي، ثُم يعتبِر أن هذا الجزئي مغايرٌ للجزئي يعني: بين المحمول والمحمول عليه. قلت لكم: الاعتبار هذا أمرٌ ذهني، فاعتبر ما شئت، لكن العبرة بالأذهان وما يوافقها في الخارج. هذا الذي يُعتمَد.

قال: (بأنه يجوز حملُه على جزئيٍ مغايرٍ له بحسب الاعتبار، مُتحدٍ معه بحسب الذات كما في: هذا الكاتبُ، وهذا الضاحكُ. فإنهما مختلفان بحسب المفهوم ومتحدان بحسب الذات؛ فإن ذاتَهما زيدٌ بعينه مثلاً وكذا يجوز حملُه على كُلّيٍ انحصَر في جُزْئِيِّهِ كما في قولِ: بعضُ الإنسان زيدٌ .. ) إلى آخره.

على كلٍ هذا قِلّة ممن قال به، أنه يُحمل الجزئي، والمشهور أنه لا يُحمَل إلا الكلِّي.

قال رحمه الله تعالى: (والجنسُ أربعةُ أقسام) بعد أن بيَّن لنا حدَّه أراد أن يبيّن لنا أقسامَه.

قال: (أربعة أقسام) لأنه إما أن يكون فوقَه وتحتَه جنس، هذا الأصل.

إما أن يكون فوقَه وتحته جنس.

أو لا يكون فوقَه ولا تحته جنس.

أو يكون تحته ولا يكون فوقَه جنس.

وبالعكس.

أربعة أقسام .. عقلية يعني: الحصر هنا عقلي.

(والجنسُ أربعة أقسامٍ: عالٍ) ما إعرابُ عالٍ؟ بدل.

(والجنس) مبتدأ مرفوع.

(أربعة) هذا خبر مرفوع، وهو مضاف و (أقسامٍ) مضاف إليه.

(عالٍ) هذه كَسْرة، هل يختلف لو جعلناه بدلاً من أربعة أو من أقسام في النطق؟

في النطق لا يختلِف.

في النطق لا يختلف نعم، هو هذا المراد.

سواءٌ جعلته من أربعة أو من أقسام لا يختلِف، لماذا؟ لأنه "عالٍ" في الرفع وفي الخفض حُذِفَت ياءُه؛ لأنه منقوص والمنقوصُ إذا نوِّن حُذفت ياءُه لأنه نكرة.

(عالٍ) سواء كان مرفوعاً أو مخفوضاً النُّطقُ واحد، وإنما يختلِف في النصب فقط.

(عالٍ) أي: ويسمى بعيداً.

وَنَوِّنِ المُنَكَّرَ المَنقُوصَا

تَقُولُ هَذَا مُشْتَرٍ مُخَادِعُ ... فِي رَفعِهِ وَجَرِّهِ خُصُوصَا

وَافْزَعْ إِلى حَامٍ حِمَاهُ مَانِعُ

 

ج

(ويسمى بعيداً وجنسَ الأجناس أيضاً) يعني: العالي يسمى جنساً بعيداً وجنس الأجناس أيضاً.

قال: (عالٍ وهو الذي تحتَه جنس وليس فوقَه جنس) أعلى الأجناس.

تحتَه جنس بل أجناس، وفوقَه؟ ليس فوقه جنس، هذا مختلف فيه موجود أو لا، لكن المراد التقسيم عقلي فقط.

قال: (كالجوهر على القول بجنسِيته) ليس على القول بجنسِيته .. هو جِنس، لكن على القول بأنه جنسُ الأجناس، وإلا هو جنسٌ قطعاً الجوهر.

(على القول بجنسيته) ظاهر كلامه أنه قد قيل بأنه ليس بجنس، لا ليس هذا المراد.

قال العطار: أي: بكونه جنساً عالياً، "أو" أي: بكونه جنساً للجسم والعقل المطلق، لا أنه عرَضٌ عام خارجٌ عن حقيقتهما.

قال العطار: واعلم أن للحُكماء في تحقيق الأجناس العاليةِ اضطراباً. كثيراً اضطربوا.

لماذا اضطربوا؟ لأن الكلام هنا في عقليات، وكل واحد له عقلٌ، وكل واحدٍ مُعجَبٌ بعقله، فما يراه يظن أنه هو الصواب، هذا يقول: الأجناس العالية اثنين، وهذا يقول: ثلاثة، وأوصلها: عشرة ..

يجتمع كثير على قولٍ، وكلها أشياء ذهنية، والغالب فيها أنها لا تُسمِن ولا تغني من جوع.

(6/31)

________________________________________

قال هنا: واعلم أن للحكماء في تحقيق الأجناس العالية اضطراباً. فقيل: جنسُ الأجناس واحدٌ وهو الوجود.

يعني: أعلى الأجناس ولا جنس فوقه قيل: الوجود.

وقيل: الأجناسُ العاليةُ اثنان: الجوهرُ والعرض.

وقيل: إنها أربعةٌ: الجوهر، والكَمُّ، والكيفُ، والمضاف.

قال العطار: وذهب المحقِّقُون منهم كإِرِسِطُو إلى أنها عشرة، وهي المسماة بالمقولات العشر.

المقولات العشر معروفة لها نظمٌ ولها شروحات.

وليس لهم برهانٌ على الحصر .. ليس عندهم برهان، بل عوَّلوا على الاستقراء.

إذاً: هذا تقرءوه هكذا.

إذاً: جنس الأجناس -على هذا القول- هو الجوهر، تحته جنس وليس فوقه جنس، على القول بأنه هو جنس الأجناس، بجنسيته يعني: الجوهر.

قال: ومتوسطٌ "وهو النوع الثاني": وهو الذي فوقَه جنسٌ وتحته جنس، كالجسم النامي .. كالجسم فوقَه الجوهر وتحتَه الجسم النامي، أيهما أعم؟ الجسم فقط؛ لأنه يشمل ما ينمو وما لا، هذا جسم، لكنه لا ينمو.

فالجسم يدخل تحتَه ما ينمو وما لا ينمو، الذي ينمو: الذي يتدرج في النمو.

إذاً: الجوهر فوق الجسم وهو جِنسٌ له، والجسم تحتَه النامي، والنامي تحتَه النبات والإنسان .. ونحوه.

ولذلك قال في الحاشية: (متوسطٌ) أي: كالجسم (فإن فوقَه الجوهر وتحته الجسم النامي، وكالجسم النامي إذ فوقه الجسم المطلق وتحته الحسَّاس والمتحرك بالإرادة).

قال: (وسافلٌ) هذا الثالث وهو الذي فوقه جنسٌ وليس تحته جنس كالحيوان؛ لأن الذي تحته أنواع .. تحت الحيوان أنواع، لا أجناس.

(ومنفردٌ) هذا الرابع: الجنس المنفرد، وهو الذي ليس فوقَه جنسٌ وليس تحته جنسٌ. قالوا: ولم يوجد له مثال.

إذاً: تصوير عقلي، القسمة عقلية وأما الأمثلة هذه قد يوجد عند بعضهم دون بعض، المنفرد الذي ليس فوقه جنس وليس تحته جنس، قالوا: ولم يوجد له مثال.

أي: ومثَّل له بعضهم بالعقل بناءً على أن الجوهر ليس جنساً له بل عرَضٌ عام.

قال: (وَإِمَّا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ وَالخُصُوصِيَّةِ مَعًا.

كَالْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَفْرَادِهِ نَحْوُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُوَ النَّوْعُ).

نقف على هذا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!

(6/32)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

عرفنا فيما مضى أن المصنف رحمه الله تعالى قسَّم المفرد إلى كُلّي وجزئي، هذا بالنظر إلى معناه.

وعرفنا أن المراد بالمفرد بعض أنواع الاسم، وهو ما اتحد معناه احترازاً مما تعدد معناه.

(إِمَّا كُلِّىٌّ) وعرَّفه.

(وَإِمَّا جُزْئِيٌ) وعرَّفه.

ثم قسَّم الكلِّي قبل تعريف الجزئي باعتبار وجود أفراده في الخارج أو عدمِها إلى ستة أنواع، ثم قسّمه باعتبار استواء أفراده في معناه إلى نوعين: متواطئ ومشكِّك.

ثم قسَّم الكلِّي تقسيماً آخر هو ألصق بالكُلِّيّات الخمس. قال: (إِمَّا ذَاتِيٌّ، وَإِمَّا عَرَضِيٌّ).

(إِمَّا ذَاتِيٌّ) وعرَّفه بأنه (الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ).

هنا اختص بالجنس والفصل، وهو الذي يدخل في حقيقة الجنس.

(وَإِمَّا عَرَضِيٌّ: وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُهُ) أي: لا يدخل في حقيقة جزئياته، وهذا إذا دخل فيه الخاصة والعرض العام.

بقي النوع، قلنا فيه ثلاثة مذاهب: ذاتي فقط، عرضي فقط، لا عرضي ولا ذاتي. والثالث هذا هو الأنسب.

والخلاف هنا خلافٌ ليس له أثر، يعني الخلاف في الاصطلاح فقط: هل يسمى النوع ذاتياً أو عرضياً؟ ولذلك المصنف أخرَجه ثم أدخَلَه.

يعني: استخدم الاصطلاحين، جعَلَه من العرضي، ولذلك قال: (وعلى هذا فالماهية عرضية) الماهيّة يقصد بها النوع.

وفي موضعٍ جعلَه ذاتياً.

ثم قال: (وَالذَّاتيُّ) أراد أن يبيّن الكُلِّيّات الخمس وهي محصورة في هذا العدد وعرَفنا كيفية الحصر.

قال: (وَالذَّاتيُّ: إِمَا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ المَحْضَةِ).

عرفنا أن المحضة المراد بها: الخالصة من شائبة الخصوصية، كما في النوع المقابل له (مَقُولٌ) أي: محمولٌ، ولا يُشترط أن يكون بالفعل وإنما المراد به محمولٌ بالقوة.

(فِي جَوَابِ مَا هُوَ) قلنا السؤال في المنْطِق هنا محصورٌ في أداتين وهما: "ما وأيُّ".

"ما" قلنا يُسأل بها عن أربع: واحد كُلّي، واحد جزئي، كثيرٌ متفِّق الحقائق، كثيرٌ مختلِف الحقائق.

"واحدٌ كُلِّي" يجاب بماذا؟ مثل: ما الإنسان؟

قلنا: الجواب محصور في ثلاثة: إما بالحد، وإما بالنوع، وإما بالجنس.

فالأول -الذي هو الواحد الكلِّي- ما الإنسان؟ يجاب بالحد.

والثاني -الذي هو واحد جزئي-: ما زيدٌ؟ يجاب بالنوع.

والثالث: كثيرٌ متحد الحقائق نحو: ما زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ؟ أو ما زيدٌ، وما بكرٌ، وما عمرو؟ يجاب بالنوع؛ لأنه متفق الحقائق.

الرابع: أن يكون كثيراً مختلف الحقائق كقولك: ما الإنسان والفرس والبغل .. ونحوها؟ هذه مختلفة الحقائق، يجاب بالجنس.

إذاً: في اثنين يجاب بالنوع، وفي واحدٍ بالجنس، وواحدٍ يجاب بالحد.

وعرَّفه (بِأَنَّهُ كُلِّىٌّ مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلفِين بِالحقائِقِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ) عرفنا ما يتعلق بهذا الحد على جهة التفصيل.

ثم قسَّمه إلى أربعة أقسام:

(7/1)

________________________________________

عالٍ: وهو الذي تحته جنس وليس فوقه جنس.

ومتوسط: وهو الذي فوقه جنس وتحته جنس.

وسافل: وهو الذي فوقه جنس وليس تحته جنس.

ومنفرد: وهو الذي ليس فوقه جنس وليس تحته جنس.

هذا ما يتعلق بالنوع الأول من الكُلِّيّات الخمس وهو: الجنس.

قال: (وَإِمَّا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ وَالخُصُوصِيَّةِ مَعًا.

كَالْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَفْرَادِهِ نَحْوُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُوَ النَّوْعُ).

(وَإِمَّا مَقُولٌ) يقال في مقولٍ هنا ما قيل في (مَقُول عَلَى كَثِيرِينَ) فيما سبق، ولذلك قلنا المصنف هنا ثنَّى بالنوع بعد الجنس، وإن كان الجنس جزءً من الماهيّة، والنوع ليس جنساً من الماهيّة، والفصل جنسٌ من الماهيّة. أيهما أولى؟ باعتبار كونه داخلاً وهو أقرب إلى الكلِّي الذاتي أن يثنِّي بالفصل بعد الجنس، هذا الأَولى.

لكن لاحَظَ أمراً آخر وهو أن كلاً من الجنس والنوع مقُولٌ على كثيرين، فلهذا القدر المشترك حينئذٍ ثنَّى بالنوع بعد الجنس.

(مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) ما نص على كثيرين؛ لأنه معلومٌ مما سبق.

قلنا: (مَقُولٌ) أي: محمولٌ حملَ مواطَئةٍ، والمراد: صالحٌ لأن يقال ويُحمَل لا أنه مقولٌ بالفعل، وكذا يقال في بقية التعاريف كما مر معنا.

والمراد بالكثرة في حدِّ الجنس قلنا: الأنواع، والمراد بالكثرة -وليت المصنف زاد القيد هذا- في حد النوع: الأشخاص .. الأفراد أو الآحاد.

ففرقٌ بين الكثرة في النوعين (مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) لعلَّه يأتي في التعريف.

قال: (مَقُولٌ) أي: محمولٌ (فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ وَالخُصُوصِيَّةِ مَعًا).

قال في الحاشية: أي يُحمَل تارة على جملة من أفراده المتماثِلة، إذا سُئل عنها بأن قيل: ما زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ؟ فيجاب بإنسان. هذا الشرِكة.

وهذا هو المراد بقوله: (بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ) لأنه تمام الماهيّة المشترَكة بينهم.

وتارة -وهو المعني بقوله: (وَالخُصُوصِيَّةِ) - وتارة يُحمل على فردٍ واحدٍ نحو: ما زيدٌ؟ كما قلنا في السؤال بما هناك، قد يُسأل عن واحدٍ جزئيٍ يقال: ما زيدٌ؟ فيجاب عنه بالنوع.

إذاً: النوع تارة يُجاب به سؤالٌ عن كثرة، وتارة يُجاب به سؤالٌ عن واحد. بخلاف الجنس؛ فإنه لا يقال ما الفرس؟ ويقال حينئذٍ: حيوان، أو ما الإنسان؟ فيقال: حيوان. هذا غلط عندهم، وإن كان في اللغة قد يكون له وجْه، لكن في الاصطلاح عندهم هذا ممنوع؛ لأن الجنس لا يقال إلا في مقابَلة عدد، وهذا العدد كثير .. اثنان فأكثر، ومختلفةٌ حقائقُهم، وأما إذا جاء مفرداً واحداً فيجاب حينئذٍ بالحد، فإذا قيل: ما الإنسان؟ تقول: الحيوان الناطق. ما الفرس؟ الحيوان الصاهل. ما الحمار؟ الحيوان الناهق .. وهكذا.

وحينئذٍ يجاب بالحد، هذا إذا سُئل عن فردٍ واحدٍ خاصٍّ وكان نوعاً: ما الإنسان؟ فحينئذٍ تجيب بالحد .. ما تجيب بالجنس، وأما في النوع فيجتمع فيه الأمران سواء كان في مقابِل كثرة أو في مقابل فرد.

ولذلك قال: (بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ وَالخُصُوصِيَّةِ) أي: يُحمَل تارة على جملة من أفراده المتماثلة إذا سُئل عنها بسؤالٍ واحد، أو في سياق واحد، أو في كلام واحد.

(7/2)

________________________________________

فإن قيل: ما زيدٌ وعمروٌ وبكرٌ؟ زيد هذا فرد، وعمروٌ هذا فردٌ وبكرٌ هذا فرد، وكلٌ منها فردٌ من لفظ إنسان، فيجاب بإنسان الذي هو النوع.

وهذا هو المراد بقوله: (بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ) بأنه تمام الماهيّة المشترَكةِ بينهم.

وتارة يُحمَل على فردٍ واحد نحو: ما زيدٌ؟ فإن جوابَه إنسانٌ، وهذا هو المراد بقوله: (وَالخُصُوصِيَّةِ).

وهذا الذي أطبق عليه المحقِّقُون من شُرَّاح هذا الكتاب. يعني: ثَم خلافٌ في تفسير كلام المصنف.

قال العطار هنا في قوله: (بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ وَالخُصُوصِيَّةِ مَعًا) أي: يصحُّ أن يكون جواباً عن الشيء حالة الإفراد أو حالة الجمع .. حالة الإفراد في قوله: (الخُصُوصِيَّةِ)، وحالة الجمع في قوله: (الشَّرِكَةِ).

(كَالْإِنْسَانِ) فإنه إذا سُئل عن زيدٌ –مثلاً- بما هو؟ يصح أن يقال: الإنسان، ولو سُئل عن زيدٍ وعمروٍ وبكرٍ فكذا يصح أن يقال: الإنسان. كما سبق.

فظهَر أن المراد "هذا محل الشاهد هنا" فظهَر أن المراد بالمعيّة. أين المعيّة؟

قوله: (مَعًا) هل هو في وقتٍ واحد؟ لا ليس في وقتٍ واحد، إنما في حالة، هذا المراد فلا يلتبس.

فظهر أن المراد بالمعية هو الصلاحية للجواب بحسبِهما - (الشَّرِكَةِ وَالخُصُوصِيَّةِ) - وليس المراد المعيّة الزمانية في زمنٍ واحد - (الشَّرِكَةِ وَالخُصُوصِيَّةِ) -.

وفائدة الإتيان بـ: معاً هنا: دَفْعُ توهُّمِ حمل الواو على معنى أو، فإنه كثيرٌ شائع.

قال: (بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ وَالخُصُوصِيَّةِ) لو قال: بحسب الشركة والخصوصية. الظاهر أنهما متقابلان فلا يجتمعان، فحينئذٍ تُفسَّر الواو هنا بمعنى "أو" .. بحسب الشركة أو الخصوصية.

فدَفَع هذا الوهم الذي قد يرد على الناظر والقارئ المتعلم .. دفعَه بقوله: (مَعًا).

إذاً: الواو على بابها؛ لأنها تفيد الجمع، هذا الأصل: مطلق الجمع، فحينئذٍ الواو على بابها.

وفائدة الإتيان بـ: معاً: دفعُ توهُّمِ حملِ الواو على معنى "أو" فإنه كثيرٌ شائع، لا سيما مما يتراءى من منافاة الشركة والخصوصية الظاهرة. بينهما منافاة.

فإنها تدعو إلى ذلك الحمل وهو غيرُ مراد، فزيد لفظ "معاً" دفعاً لذلك. هذا المراد على ما ذكره المحشي فيما سبق.

إذاً: (مَقُولٌ) أي: محمولٌ.

(عَلَى كَثِيرِينَ) .. (فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ وَالخُصُوْصِيَّةِ مَعًا) فتارةً يقع جواباً مشترَكاً بين مسئول عنه، وتارة يقع جواباً على فردٍ واحد.

قال: (كَالْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَفْرَادِهِ نَحْوُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُوَ النَّوْعُ).

يقال: زيدٌ إنسان، وعمروٌ إنسان. هذا مقُولٌ.

أو يقال: ما زيدٌ؟ فيقال: إنسان، أو: ما عمروٌ؟ فيقال: إنسان.

أو: ما زيدٌ وعمروٌ؟ فيقال: إنسان.

يعني: المثال هذا تجعَله للشركة والخصوصية (نَحْوُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو).

(نَحْوُ زَيْدٍ) يعني: ما زيدٌ؟ هذا مفرد .. خصوصية، فحينئذٍ تقول: إنسان.

"عمروٍ" ما عمروٌ؟ تقول: إنسان، هذا على جهة الخصوصية.

مثال على جهة الشركة تقول: ما زيدٌ وعمروٌ؟ تقول: إنسان. إذاً: جاء مثالٌ صالحاً لهما.

(وَهُوَ النَّوْعُ) يعني: هذا الكلِّي يسمى بالنوع عند المناطقة.

(7/3)

________________________________________

(لأنه إذا سُئل عن زيدٍ وعمروٍ بـ: ما هما؟ كان الإنسان جواباً عنهما؛ لأنه تمام ماهيّتِهما المشترِكة).

(لأنه تمام ماهيّتهما) أي: زيدٍ وعمروٍ (المشترِكة بينهما).

قال العطار: يُقرأ بصيغة اسم المفعول على الحذف والإيصال أي: المشترَك فيها.

فالمشترِك بصيغة اسم الفاعل وهو أفراد النوع: مشترَك مشترِك، مشترَك فيها الماهيّة، والمشترِك هو الأفراد.

المشترِك بصيغة اسم الفاعل أفراد. إذاً: يكون الأولى بالفتح "مشترَكَة" التي اشتُرك فيها.

إذاً: يُقرأ بصيغة اسم المفعول على الحذف والإيصال أي: المشتَرَك فيها، المشترِك بصيغة اسم الفاعل وهو أفراد النوع، وهي الأشخاص الجزئية؛ لأن الاشتراك إنما يكون بين متعدد، والماهية شيءٌ واحد، والاشتراك يكون باعتبار التعدد.

ثم معنى: اشتراك الأفراد في الماهيّة أن كل فردٍ إذا جُرِّد عن مشخَّصاتِه الخارجية كان غير الحقيقة الإنسانية؛ إذْ الكُلِّيّات تُنتَزَع من جزئياتها، قلنا فيما سبق: الكلِّي وجودُه ذهني، فحينئذٍ لا وجود له في الخارج إلا في ضمن أفرادِه.

(وإذا سُئل عن كلِّ واحدٍ منهما) يعني: وحده .. ما زيدٌ؟ فقط، ما عمروٌ؟ (كان الجواب ذلك أي: إنسان. أيضاً كما كان جواباً عن المشترك؛ لأنه) أي: إنسان (تمامُ ماهيتِه المختصة به).

(به) أي: الفرد.

لأنه -يعني: لفظ إنسان- تمام ماهيته -ماهيّة الفرد- المختصة به. يعني: الفرد.

يعني: هو الذي يتميز به عن غيره، يتميز به عن الفرس والحمار والبقر وغيره .. بكونه حيواناً ناطق.

تمام الماهيّة هذا مختصٌ بالإنسان، حينئذٍ لا يشترِك معه غيرُه البتة من أفراد الجنس، فلا يشترك معه الفرس ولا غيرُه.

(لأنه تمامُ ماهيته المختصةِ به).

قال العطار: معنى الاختصاص: أن الحقيقة الكُلّيّة لما شُخِّصت بتلك العوارض المخصوصة القائمة بزيدٍ مثلاً كانت مختصة به بهذا الاعتبار، وهذا لا يستلزم كون المشخِّصات من الماهيّة؛ لأنها من قبيل العرَض دون الذاتي.

قال المحشِّي هنا: قولُه: (تمام ماهيته المختصة به) أي: الفرد.

إن قلتَ: لا نسلِّم أنه تمام الماهيّة الخاصة به؛ لأن الإنسان حيوانٌ ناطق، وماهية زيدٌ حيوان ناطق متشخَّصٌ لإنسان، وهو ماهيّة مشتركة بين أفراده لا مختصة ببعضها.

أُجيبَ: بأن المشخّصات عوارض الماهيّة .. هو كلام العطار السابق.

قال: (وَيُرْسَمُ) أي: يُعرَّف النوع.

(بِأَنَّهُ كُلِّىٌّ) دَخَل فيه سائر الكُلِّيّات، هو يجري على أمرٍ هنا.

أولاً: يذكُر التقسيم، ثم يعرِّفه.

يعني: الآن عندنا تقسيم وتعريف؛ لأنه قال: الكلِّي الذاتي إما مقولٌ على كثيرين فهو الجنس ويُرسَم بكذا ..

يعني: أشبه ما يكون بقوله: طويُرسم كذا" جملةٌ معترضة بين الأقسام. فالكليُّ ذاتيٌ.

ثم قال: إما مقولٌ على كثيرين مختلفة حقائقُها في جواب ما هو كفرس وإنسان وهو الجنس.

(وَإِمَّا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ) هذا النوع، وتأتي جملة عارضة بين التقسيمات بالتعاريف، وإلا يقال بأنه كيف ذَكَر أولاً التقسيم ثم ذكر التعريف؟

(7/4)

________________________________________

لا. مقصودُه ابتداءً هو التقسيم، قسَّم لك ويُفهَم من التقسيم حدُّ الجنس أو النوع، ولذلك فهِمْتَ أنت من قوله: (وَإِمَّا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ .. ) إلى آخره، ما المراد بالنوع؟

إذاً: قوله: (وَيُرْسَمُ) هذا جملة اعتراضية يريد بها أن يُحِد هذا النوع الذي يسمى بالنوع.

(وَيُرْسَمُ) يعني: يعرَّف النوع.

(بِأَنَّهُ) أي: النوع (كُلِّىٌّ) عرفنا المراد بكلي.

"النوع كليٌ" هذا جنس دخل فيه سائر الكُلِّيّات.

(كُلِّىٌّ مَقُولٌ) عرفنا المراد بمقول أي: محمولٌ حملَ مواطئة بالقوة لا بالفعل.

(عَلَى كَثِيرِينَ) قلنا المراد بالكثيرين هنا وإن كان الجمع ليس على سنن القواعد اللغوية "لغة العرب"، لكن المراد بالكثيرين هنا في النوع الأشخاص والأفراد، وفي حد الجنس هناك المراد بالكثيرين: الأنواع. فرقٌ بين النوعين.

(مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) أي: أفرادٍ.

(مُخْتَلِفِينَ بِالْعَدَدِ) أي: تعدُّد الذوات، هذا أحسن ما يقال في قوله: (مُخْتَلِفِينَ بِالْعَدَدِ دُونَ الحَقِيقَةِ).

العدد يعني: تعدُّد الذوات، وأما الحقيقة فهي معلومة يعني: الماهيّة.

إذاً: الكثرة مقولٌ على كثيرين، فحينئذٍ إما أن تكون هذه الكثرة متحدة في الحقيقة أو مختلفة.

إن كانت مختلفة فهو الجنس، وإن كانت متحدة فهو النوع. يعني: لو كان عندك إنسان وعندك جَمَل وعندك بقر. هذه ثلاثة حقائق مختلفة، هيئةُ وحقيقةُ وبنية الإنسان غير هيئة وبنية الجمَل .. مختلفان، وكذلك البقر، وكذلك القط .. ونحوها.

حينئذٍ نقول: هذه مختلفة الحقائق وهي متعددة، لكن زيدٌ وعمرو وبكر وخالد وهند وفاطمة .. هذه كلها متحدة الحقائق، والخلاف إنما هو في الأعراض العامة أو المشخِّصات.

إذاً: (عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالْعَدَدِ دُونَ الحَقِيقَةِ) يعني: الحقيقة واحدة والاختلاف إنما يكون في العدد. يعني: تعدُّد الذوات.

(دُونَ الحَقِيقَةِ) يعني: دون تعدُّد الحقيقة، فهي واحدةٌ مشترَكة بينهم.

هذا فصْلٌ مخرج الجنس، ولذلك قال هنا: خرج به الجنس (بِالْعَدَدِ دُونَ الحَقِيقَةِ).

قوله: (مُخْتَلِفِينَ بِالْعَدَدِ) هنا لم يَخرج الجنس؛ لأن الجنس كذلك مختلف كثرة بالعدد، وأما اتفاق الحقيقة واتحاد الحقيقة هذا خاصٌ بالنوع، ولذلك قال: (دُونَ الحَقِيقَةِ) يعني: دون تعدد الحقيقة، بل هي واحد.

(فحينئذٍ خرَج به) أي: بهذا القيد الأخير وهو الحقيقة (خرَج به الجنس).

(فِي جَوَابِ) مقولٌ في جواب، في جواب هذا متعلِّق بقوله: (مَقُولٌ).

(جَوَابِ مَا) جواب مضاف وما مضاف إليه.

حينئذٍ (جَوَابِ) خرَج به العرض العام، (مَا هُوَ) خرَج به ما يجاب بأي، وهو الفصل والخاصة؛ لأن السؤال محصورٌ في اثنين: ما وأيّ .. (مَا هُوَ) أيُّ شيءٍ هو؟ في ذاته، في عرضه .. هذا يأتي تفصيله.

حينئذٍ ما يقع جواباً لأي هو الفصل والخاصة، وما يقع جواباً لما هو الجنس والنوع.

هنا قال: (فِي جَوَابِ) إذاً: ما لا يقع في جوابٍ أصلاً لا يدخل معناه، بل خرج بهذا القيد وهو العرَض العام.

(فِي جَوَابِ مَا هُوَ).

قال المصنف هنا: (خرَج به الفصلُ، والخاصةُ، والعرَض العام).

(7/5)

________________________________________

لكن قوله: "العرض العام" هنا أخَّره، لو قدَّمه لكان أحسن؛ لأنه إذا أراد الترتيب (جَوَابِ مَا) إذاً يقول: خرج به -أي: بهذا القيد .. (جَوَابِ مَا) - العرضُ العام، والفصل، والخاصة. على الترتيب.

(وخرج به الفصل، والخاصة، والعرض العام).

قال هنا: خرَج بقوله: (فِي جَوَابِ) الفصلُ والخاصة خرجا بإضافة جواب لـ (مَا هُوَ) الحاشية.

والعرض العام خرج بقوله: (فِي جَوَابِ) يعني: العرض خرج بالمضاف، والفصل والخاصة خرجا بالمضاف إليه. وهذا يؤكِّد لك أن المضاف قيد والمضاف إليه قيد، حتى في استعماله.

"غلام زيدٍ" إذاً: غلام قيد، وزيد قيد. كلٌ منهما قيَّد الآخر.

ولذلك قولٌ ثالث في المسألة: أيهما المضاف والمضاف إليه؟

قيل: المضاف هو غلام، وزيد مضافٌ إليه، وقيل: بالعكس. هذا قول موجود حكاه السيوطي في الأشباه.

قيل: العكس، غلام مضافٌ إليه وزيد مضاف، وقيل: كلٌ منهما مضاف ومضاف إليه؛ لأن كلاً منهما قيْد.

سمَّيته مضاف .. إلى آخره، النتيجة ماذا؟ ماذا تفْهم من مدلول هذا التركيب الإضافي؟

تفهم أن غلام قيدٌ في زيد، وأن زيداً قيدٌ في غلام. سمّيته مضاف ومضاف إليه، لا إشكال فيه، لكن الجمهور على أن الأول مضاف والثاني مضاف إليه.

قال هنا: (مع أن الثالث يخرج بما خرج به الجنس أيضاً).

ما هو الثالث؟ العرَض العام، ولذلك قال: (خرج به الفصل، والخاصة، والعرض العام.

مع أن الثالث) يعني: العرض العام (يخرج بما خرج به الجنس أيضاً).

يعني: العرض العام على ظاهر كلامه -وإن كان ليس مراداً- أن له فصلين، خرج بما خرج به الجنس وخرج الجنس بقوله: حقيقة (دُونَ الحَقِيقَةِ).

وخرج بهذا القيد الذي هو (جَوَابِ) كذلك العرض العام.

لأن قوله: "ماشٍ" هذا عرض عام،"ماشٍ" هل هو خاصٌ بالإنسان؟ الجواب: لا، الإنسان يمشي والفرس يمشي، والدجاجة تمشي، والوِزَّة تمشي، الحمامة تمشي ..

إذاً (عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ) في الحقائق، حينئذٍ يمكن أن يُخرَج بهذا القيد –الحقيقة- الجنس، وكذلك العرَض العام.

قال العطار: أي: كما خرج بما خرج به الفصل والخاصة.

(يخرج بما خرج به الجنس أيضاً) أي: كما خرج بما يخرُج به الفصل والخاصة.

(أيضاً) ما إعرابها؟ مفعول مطلق، إذا قيل: ما إعرابُها؟ لا تأتي بالمصدر .. آض يئيض أيضاً هذا مصدر، فهو مفعولٌ مطلق، واجبُ النصب بفعلٍ محذوف واجب الحذف، وهو آض يئيض رَجَع رُجوعاً لما سبق.

أي: كما خرج بما يخرُج به الفصل والخاصة.

قال العطار: وقد يقال: إنه إذا خرج بالقيد الأول "يعني: الحقيقة" لا يحتاج إلى إخراجه بهذا القيد وهو كذلك، وهذا الأصل.

يعني: لماذا لم تخرجه ابتداءً؟ ما دام أن العرض العام يخرج بالحقيقة، إذاً قل: خرج به الجنس والعرض العام، لماذا تؤخِّره؟

فإذا دخل في الأول وأمكن إخراجه أخرجناه، هذا الأصل.

إلا أن يقال: إن قولَه: (يخرُج بما خرج به الجنس .. ) إلى آخره أي: هو صالحٌ لأن يخرُج به لا أنه خرَج بالفعل حتى يلزَم تحصيلُ الحاصل.

لأنه إذا خرَج بما سبق بالحقيقة، كيف تُخرجه مرة ثانية؟ المُخرَج لا يخرُج، الجالس لا يجلس .. لا يمكن أن تطلب منه اجلس.

(7/6)

________________________________________

ولذلك عند الأصوليين يشترطون في المكلَّف به: أن يكون معدوماً، لماذا؟ لأنه لو صلى انقطع الخطاب، لو كُلِّفت بصلاة العصر وأنت قد صليت لكان من باب تحصيل الحاصل؛ لأنها صلاة واحدة هي التي في ذمتك.

فلا بد أن يتعلق الخطاب بشيءٍ لم يوجد، اجلس. كيف اجلس وأنت جالس؟ لا يمكن أن تَمتثِل، محال هذا؛ لأن الجالس لا يجلس، كما أن القائم لا يقوم.

كذلك هنا قال: (لا أنه خرج بالفعل حتى يلزم تحصيل الحاصل).

لو خرج بقيد (الحَقِيقَةِ)، وأخرجناه كذلك بقيد (مَا هُوَ)، أو بقيد (جَوَابِ) حينئذٍ نقول: هذا من باب تحصيل الحاصل. هو خرج فكيف نُخرِجه؟

قال هنا: قولُه: (بما خَرَج به الجنس) أي: قولُه: دون الحقيقة.

أي: لأنه يقال على المختلفين بالحقيقة، كما يقال على المتفقين فيها نحو: زيدٌ وعمرو وبكر ماشون.

يعني: ماشٍ، هذا عرض عام، المقصود بالعرض العام: الذي لا يَختص.

الضحك مثلاً هذا عرض خاص يعني: لا يُوصَف به إلا الإنسان، فهو عرضٌ خاص، سيأتي تفصيله.

وأما العرض العام فهو المشترَك الذي يكون في الإنسان وفي غيره.

إذاً: إذا كان في الإنسان وفي غيره إذاً: شمِل الإنسان فزيدٌ وبكرٌ وعمروٌ وخالد .. إلى ما شاء الله ماشون، يعني: كلٌ منهما يقبل المشي لا بالفعل.

وكذلك: الفرس والبقر والدجاج يمشي.

إذاً: صدَق على متفقين في الحقيقة وهو النوع، وصدَق على مختلفين في الحقيقة.

قال: (لكن الأنسب) قال في الحاشية: شاذٌ قياساً؛ لأنه من ناسب.

ما وجهُ الشذوذ هنا "الأنسب"؟

أَفْعَلّ لا يأتي إلا من ثلاثي، وأما الرباعي فنحتاج إلى أشدِدْ أو أَشَدَّ، أشدَّ مناسبةً ونحوها.

شاذٌ قياساً لأنه من ناسَب.

قال هنا: (لكن الأنسب إخراجُه بما خرجت به الخاصة؛ لتشارُكِهِما في العرَضية).

خاصة يقسِّم البعض العرض إلى نوعين: عرض عام، وعرض خاص.

إذا عرَفت العرض بأنه ما ليس داخل الماهيّة وهو خارجٌ عنها، ثم هو قسمان:

القسم الأول: العرض العام .. ما لا يختص بفئة.

الثاني: العرض الخاص، وهو الخاص بالإنسان مثلاً، الخاص بالفرس ونحوه.

العرض الخاص هذا يسمى في الاصطلاح عندهم: الخاصة.

ولذلك قال هنا: (الأنسب إخراجُه) يعني: العرض العام (بما خرَجت به الخاصة) لماذا؟

(لتشارُكهما) العرض العام والخاصة (في العرَضية) بل الخاصة هي عرضٌ خاص.

قال: (والنوع قسمان: إضافيٌّ وهو المندرج تحت جنسٍ.

وحقيقيٌ).

(قسمان: إضافيٌ) بدل بعض من كل.

(وهو) أي: الإضافي.

(المندرِجُ) يعني: الداخل.

(تحت جنسٍ) وحينئذٍ يسمى إضافياً.

(وحقيقيٌ وهو ما ليس تحتَه جنسٌ).

حقيقي ويقال له: نوع الأنواع أيضاً، وهذا أحد الكُلِّيّات الخمس على التعيين بخلاف النوع الإضافي فليس أحدُهما على التعيين.

يعني: النوع قسمان: نوعٌ إضافيٌ، ونوع حقيقيٌ.

فالذي يراد هنا هو النوع الحقيقي الذي هو أحدُ أنواع الكُلِّيّات الخمس، وأما النوع الإضافي فهو جنس باعتبار ما فوقه أو باعتبار ما تحته.

ولذلك قال: (وهو المندرج تحت جنسٍ) إذاً: فوقه جنس.

فحينئذٍ نقول: هذا إضافي.

قال هنا: (وحقيقيٌ وهو ما ليس تحته جنسٌ).

أي: بل أفراد أو أصناف.

(7/7)

________________________________________

بقرينة كون الكلام في النوع الحقيقي، لكن الأَولى ما ليس تحته نوعٌ، لِصِدْق كلامه بالجنس السافل وليس نوعاً حقيقياً.

قال: (كالإنسان فبينهما عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ).

(بينهما) يعني: بين النوع الإضافي والنوع الحقيقي.

(عمومٌ وخصوصٌ من وجه) قلنا: هذا النوع يحتاج إلى ثلاث مواد: مادة الاجتماع، ومادة انفراد كل واحد منهما عن الآخر .. ثلاث مواد.

العموم والخصوص الوجهي يحتاج إلى مادة الاجتماع يعني: مثال يجتمعان فيه.

ومثال ينفرد أحدُهما عن الآخر.

ومثال ثالث ينفرد الآخر عن السابق. هذا الذي يحتاج.

قال: (فيجتمعان في نحو الإنسان) فالإنسان نوعٌ إضافي ونوعٌ حقيقي، ليس في وقتٍ واحد وإنما باعتبارين.

(فإنه نوعٌ إضافي لاندراجِه تحت جنسٍ وهو الحيوان) وهو كذلك.

(وحقيقي إذ ليس تحته جنسٌ) حينئذٍ اجتمع النوع الإضافي والنوع الحقيقي في الإنسان.

أولاً: كونُه إضافياً لاِندراجه تحته جنس وهو الحيوان.

كونُه حقيقياً ليس تحته جنسٌ.

قال: (وينفرد الإضافي بنحو الجسم النامي، فإن فوقه جنس وهو الجسم المطلق، وتحته جنس وهو الحيوان) فوقه جنس وتحته جنس.

إذاً: هو باعتبار ما فوقه يعتبر نوعاً، وباعتبار ما تحته يعتبر جنساً. هذا المراد.

(وينفرد الحقيقي بالماهية البسيطة كالعقل المطلق عند الحكماء على القول بنفي جنسيةِ الجوهر).

يعني: إذا قيل: الجوهر ليس هو بجنس الأجناس قالوا -على قولٍ-: العقل المطلق. يعني: غير المقيَّد، والعقول عندهم عشرة.

قال هنا: (وينفرد الحقيقي بالماهية البسيطة كالعقل المطلقِ عند الحكماء على القول بنفي جنسية الجوهر.

وأما على القول بأن الجوهر جنس له فلا ينفرد فيه النوع الحقيقي؛ لاندراجه تحت جنسٍ فهو إضافيٌ أيضاً).

قال هنا العطار: على القول بنفي جنسيةِ الجوهر وإلا لم يكن ماهيّةً بسيطة.

أي: وعلى اعتبار أن العقول العشرةَ أفرادٌ لا أنواعٌ، وإلا لكان نوعاً إضافياً أيضاً.

ثُم لا تنافي بين التمثيل بالعقل للجنس المنفرد وللنوع الحقيقي.

الجنس المنفرد فيما سبق، على قولٍ يعني.

مر معنا أن المنفرد لا مثال له .. على ما اختاره المصنف هنا ليس له مثال، لكن مثّل بعضهم بالعقل.

وللنوع الحقيقي الذي ليس فوقه جنس؛ لأن هذه أمورٌ فرضية. يعني: أمورٌ اعتبارية ذهنية.

قد يتصور البعض الفوقية والتحتية ولا يتصورها الآخر، فحينئذٍ لا مشاحَّة في هذه المسائل.

قال رحمه الله: (وَإِمَّا غَيْرُ مَقُولٍ).

(إِمَّا مَقُول) (وَإِمَّا غَيْرُ مَقُولٍ) تقابلا.

(وَإِمَّا غَيْرُ مَقُولٍ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بَلْ مَقُولٌ فِي جَوَابِ أَيُ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ).

أي: حقيقتِه، والجار "في ذاتِه" حال من هو.

(أَيُ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ) كيف إعراب (فِي ذَاتِهِ)؟ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من قوله: (هُوَ).

على التأويل أو بدونه، على الخلاف في وقوع الحال عن المبتدأ (أَيُّ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ).

قال هنا: (وَإِمَّا غَيْرُ مَقُولٍ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بَلْ مَقُولٌ فِي جَوَابِ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ) يعني: لا يريد النفي أنه لا يُحمل لا، يُحمَل وإنما يُحمل في غير جواب ما هو، بل في جواب آخر وهو (أَيُّ شَيْءٍ هُوَ).

(7/8)

________________________________________

(فِي جَوَابِ أَيُ شَيْءٍ) قال العطّار: يُطلَب بأي شيءٍ ما يميِّز الشيء عن غيره.

(مَا هُوَ) يُطلَب به ما كان جزءاً من الماهيّة، هذا الأصل فيه، جزءاً من الماهيّة.

يُطلب بأي شيء ليس مطلقاً كجزء الماهيّة، إنما هو شأن الجنس وأما النوع ليس جزءاً من الماهيّة.

(بأي شيءٍ ما يميّز الشيء عن غيره بشرط: أن لا يكون تمام الماهيّة المختصة والمشترَكة، فإن قُيّد) بـ (فِي ذَاتِهِ) (أَيُ شَيْءٍ هُوَ) هذه ثلاث استعمالات.

(أَيُ شَيْءٍ) -كما يذكره المحشّي- لها ثلاث استعمالات: أيُّ شيءٍ هو؟ مطلقاً، أي شيءٍ في ذاته؟ أي شيءٍ في عرضه؟

هذه ثلاثة أسئلة عند المناطقة، أو ثلاث صور للسؤال بـ: أي شيء: إما مطلقاً "أيُّ شيءٍ هو"، وإما مقيَّداً بقوله: في ذاته، وإما مقيداً بقوله: في عرَضه.

ولذلك على جهة الإطلاق قال: يُطلب بأي شيءٍ ما يميز الشيء عن غيره بشرط: أن لا يكون تمام الماهيّة المختصة والمشترَكة.

فإن قُيّد بـ (فِي ذَاتِهِ) أو في جوهره، أو ما يجري مجراهما كان طلباً للمعيِّن الذاتي.

إما عن جميع الأغيار –المخالَفات- أو عن بعضها وهو الفصل القريب والبعيد، فيتعيَّن في الجواب أحد الفصول.

وإن قُيّشد بـ: في عرَضه كان طلباً للمعيِّن العرضي إما عن جميع الأغيار أو عن بعضها، وهو الخاصَّة المطلقة والإضافية.

فيتعين في الجواب إحدى الخواص، وإن أُطلق كان طلباً للميِّز كيفما كان فيقع في الجواب إما الفصول وإما الخواص.

حينئذٍ (أَيُ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ) يقع الجواب بالفصل القريب أو البعيد، الواحد أو المتعدد؟ على خلاف.

أيُ شيءٍ هو في عرضه؟ حينئذٍ الجواب يكون بالخاصة.

أيُ شيءٍ هو؟ أطلق هنا لم يحدد في ذاته فيطلُب الفصلَ، ولا في عرضه فيطلب الخاصة. فحينئذٍ أجب بما شئت: إما بالفصل وإما بالعرض .. إما بالفصل وإما بالخاصة.

إذاً: السؤال بـ: أي شيء له ثلاث صور: إما مطلقاً (أَيُ شَيْءٍ هُوَ) فيجاب: إما بالفصول وإما بالخواص لا إشكال؛ لأنه لم يُعيَّن.

أيُ شيءٍ في ذاته؟ حدَّد هنا، في ذاته يعني: داخلاً في الماهيّة، هذا يجاب بالفصل لا بالجنس؛ لأن الجنس يقع في جواب ما هو.

حينئذٍ (أَيُ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ) يجاب بالفصل.

أيُ شيءٍ هو في عرضه؟ يجاب بالخاصة. على هذا التفصيل.

قال هنا في الحاشية: اعلم أن السائل بـ: أي لم يَسأل عن تمام الماهيّة المشترَكة بين شيئين أو أكثر، وإنما يَسأل بها عن مميِّزها عما يشاركها.

هو لم يسأل عن تمام الماهيّة المشترَكة بين شيئين، الذي هو النوع إذاً، لا يكون السؤال بهذا.

أو أكثر، وإنما يسأل بها عن مميِّزها عما يشاركها، فيما يُضاف إليه لفظ أي.

فإذا قيل: الإنسان أيُّ حيوان هو؟ كان سؤالاً عن المشارِكات في الحيوان.

وإذا قيل: أيُّ موجود هو؟ كان سؤالاً عن مشارِكاتِه في الوجود.

والسؤال بأيٍّ ثلاثة أقسام:

أحدُها: ألا يزاد على (أَيُ شَيْءٍ) -يجوز أيُّ أيِّ يعني: تحكيها وتُعرِبُها- على (أَيُ شَيْءٍ هُوَ).

ثانيها: أن يزاد قوله: (فِي ذَاتِهِ).

ثالثها: أن يزاد قوله: في عرضه.

(7/9)

________________________________________

فإن كان الأول -أن لا يزاد على (أَيُ شَيْءٍ هُوَ) - فالجواب: ما يميِّز المسئولَ عنه مطلقاً فصلاً قريباً أو بعيداً أو خاصة .. يجاب بالفصل أو الخاصة.

وإن كان الثاني - (أَيُ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ) - فالجواب بالفصل وحدَه.

وإن كان الثالث -الذي هو: أي شيءٍ في عرضه- فالجواب: الخاصة وحدها.

فقول المصنف: (فِي ذَاتِهِ) لبيان أن السؤال عن الفصل الذي الكلام فيه يُقيَّد به؛ لأنه قال: (فِي ذَاتِهِ) إذاً: السؤال هنا عن أي شيء؟ عن الفصل.

قال هنا: (فِي جَوَابِ أَيُ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ) فسّره المصنف بقوله: (أي: في جوهره).

والجوهر المراد به هنا الحقيقة، في جوهره أي: ذاتِه .. أي: حقيقته .. أي ماهيته.

(وَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ الشَّيْءَ) ولو في الجملة.

(عمَّا يُشَارِكُهُ فِي الجْنْسِ) ولو بعيداً.

(كَالنَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإنْسَانِ، وَهُوَ) أي: المقول في جواب ذلك (الْفَصْلُ).

(وذلك لأنه إذا سُئل عن الإنسان بأي شيءٍ هو في ذاته كان الناطق جواباً عنه؛ لأنه يميِّزه عما يشاركه في الجنس) كالفرس والحمار ونحوها.

إذاً: (وَإِمَّا غَيْرُ مَقُولٍ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بَلْ مَقُولٌ فِي جَوَابِ أَيُ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ) أي: حقيقيتِه، أي: جوهرِه، أي: ماهيتِه.

(وَهُوَ) أي: هذا المذكور.

(الَّذِي يُمَيِّزُ الشَّيْءَ) ولو في الجملة.

إشارة إلى أنه لا فرق في المميِّز الذاتي بين كونه مميِّزاً للشيء عن جميع ما عداه كالناطق للإنسان، أو عن بعض من عداه كالحسَّاس والنامي له، فالحساس يميّزه عن النبات ولا يميّزه عن الحيوان، والنامي ميَّزَه عن مطلق الجسم ولم يميّزه عن النبات.

يعني: قد يُلحظ فيه من جهة دون جهة، فيكون باعتبارٍ هو مميِّز، وباعتبارٍ آخر غير مميِّز.

قال هنا: (ولو في الجملة) يعني: في بعض الأحوال.

إذا قيل: في الجملة .. بالجملة. فرقٌ بينهما.

بالجملة يعني: في جميع الصور.

في الجملة يعني: في بعضها.

(عمَّا يُشَاركُهُ فِي الجْنْسِ) (ولو بعيداً).

(كَالنَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإنْسَانِ) (فإنه مميّزٌ له عما يشارِكه) يشارك ماذا؟

يشارك الإنسان أو جنس الإنسان؟ الجنس؛ لأن الإنسان يشاركه غيرُه تحت جنسه وهو الحيوان، الحيوان جنس تحتَه أنواع: الإنسان، والفرس، والبغل.

ما الذي يميِّز الإنسان عما شارَكه تحت جنسه؟ الفصل، وأما الحيوان فهو قدرٌ مشترَك.

ولذلك لا يصح التعريف، لو أراد حداً: ما الإنسان؟ قال: حيوانٌ. لا يصح، هل هو جامع؟ نعم جامِع لكنه غير مانع.

هو جامعٌ قطعاً لا يخرُج عنه فردٌ من أفراد الإنسان، لكنه غيرُ مانعٍ من دخول غير الإنسان فيه فدخل الفرس، فكيف يقال: الإنسان هو الحيوان؟ نقول: هذا التعريف فاسد؛ لأنه يُشترط في التعريف أن يكون جامعاً مانعاً، يجمع جميع الأفراد وتحقَّقَ الشرط هنا، فلا يخرج فرد من أفراد الإنسان، لكن هل هو مانع؟ الجواب: لا؛ لأنه لا يمنع غيرَه.

قال هنا: (كَالنَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإنْسَانِ، وَهُوَ) (أي: المقولُ في جواب ذلك) (الْفَصْلُ).

(وذلك) تعليلٌ لما سبق (لأنه إذا سُئل عن الإنسان: بأي شيءٍ هو في ذاته؟) جاء السؤال هكذا.

(7/10)

________________________________________

(كان الناطق الذي هو الفصل جواباً عنه؛ لأنه) أي: الناطق (يميّزه) أي: يميِّز الإنسان (عما يشاركه في الجنس) كالبغل ونحوها.

قال: (وأراد بالنطق الصفةَ المستلزِمةَ صحةَ التمييز العقلي، والنظرَ اليقيني، والتصورَ الخيالي فهو فصلٌ للإنسان).

قيل: فقط يميزه عن الملائكة، ومن قال بأن الملائكة تنطق بهذا الاعتبار، فحينئذٍ لا يميِّزه وإنما يميّزه عن سائر البشر "يعني: غير الملائكة" إن كان المراد الموجودات فحينئذٍ إذا كانت الملائكة تنطق والجن كذلك توصف بالنطق فحينئذٍ لا يكون مميِّزاً، لكن إذا كان المراد غير الملائكة وغير الجن، فحينئذٍ صار مميزاً.

(لأنه يميزه عما يشاركه في الجنس).

قال هنا: وتبِعَ في اقتصاره في الجنس المتقدِّمِين (عمَّا يُشَاركُهُ فِي الجْنْسِ) هذا قولُ صاحب المتن، عبارتُه (وَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ الشَّيْءَ عمَّا يُشَاركُهُ فِي الجْنْسِ) ما قال: أو في الوجود، قال: في الجنس فقط، اقتصر على هذه الجملة يعني لم يقل: أو في الوجود كما هو شأن المتأخرين.

(وتبِعَ) يعني الشارح لأنه هو الذي يقول: وتبِع.

(تبعَ) الماتن (في اقتصاره) واكتفائه (على قوله) في التعريف السابق (في الجنس المتقدِّمين) تبع المتقدمين.

(بناءً على أن كل ماهيّة لها فصلٌ فلها جنس) صحيح، كل ماهيّة لها فصلٌ فلها جنس؛ لأن الفصل يأتي كالمفسِّر الكاشف، فتقول: الإنسان حيوان، طيب حيوان هذا فيه إبهام يحتاج إلى كاشف، يحتاج إلى مميِّز، يحتاج إلى مفسِّر وإن كان سيسميه المصنف مفسِّراً، حينئذٍ نقول: يحتاج إلى مفسِّر، فإذا كان كذلك فحينئذٍ لا يوجد فصلٌ لماهيةٍ إلا ولها جنس.

(بناءً على أن كل ماهيّةٍ لها فصلٌ فلها جنسٌ.

وذهب المتأخِّرون) انظر! المتقدمون والمتأخرون، هذا في كل فن، ولا إشكال في هذا ولا غضاضة، وإنما ينظر الناظر في المذهبين وينظر في أدلة كلٍ منهما ويختار، لا نُكَوِّن حَمْلَة للمتأخِّرين على المتقدمين ولا العكس.

لا يأتي أنصار للمتقدمين فيرُدُّون على المتأخرين، ولا يأتي المتأخرون يردون على المتقدمين، هذا شأن العلوم، ما عدا ذلك فهو خلَل في الفن، خلل في صاحبه أنه ما أدرك العلم، لو كان مدرِكاً للعِلم لعلِم أن كل فنٍ حتى في المنْطِق هنا معنا، كم مرة مرت معنا المتقدمون والمتأخرون؟ كثير. وهذا تجده في التفسير، وتجده في الفقه، في المذاهب يقسِّمون أتباع المذاهب، بل الترجيحات المذهب كله يتغربل، المتقدمون يُفتُون على فتوى ثم يأتي المتأخِّرون يُغربَل المذهب فيُخَالَف.

فيقال: هذا حرام في المذهب القديم، وهذا حرامٌ في الجديد، ومذهب الإمام أحمد، ومتقدمون ومتوسطون ومتأخرون.

إذاً: أمر طبيعي، الذي لا يعتبره أمراً طبيعياً هذا عنده خلل في تصوُّرِه للفن يعني: فساد في التصور، هذه مشكلة، فساد التصور معناه أنه ليس من أهل العلم .. الفساد إذا وقع في التصور معناه أن الموضوعات التي حكَم عليها فاسدة، فكيف يكون من أهل العلم؟ انتبهوا لهذا لا يلتبس عليكم.

(7/11)

________________________________________

لأنه قد تأتي دعوات في المصطلح: المتقدمون والمتأخرون، وأحياناً نسمع حتى في التفسير تجديد التفسير، تسمع كذلك في الأصول تجديد أصول الفقه. ماذا بقي؟ كلُّ عِلمٍ يحتاج إلى تجديد، لماذا؟ لأن المتأخرين خالفوا المتقدمين. طيب ما الشأن؟ فكان ماذا؟

فانظر في قول المتقدمين وانظر في دليلهم، ليسوا معصومين لا المتقدمين ولا المتأخرين، فتنظر في دليل كل واحدٍ منهما وحينئذٍ تحصُل النتيجة.

قد يقال في المصطلح مثلاً -على جهة الخصوص- يقال: المتقدمون هم أهل الفن، نقول: نعم هم أهل الفن، ولا شك أن كلمتهم معتبرَة ومقدَّمة، لكن ما قالوه وما اصطلحوا عليه على مرتبتين، وهذا يدركه صغير طلاب العلم: أن المصطلحات التي قالها أحمد وسفيان ووكيع ويحيى وابن المبارك -إن عُدَّ منهم- حينئذٍ نقول: المصطلحات إما قد اتفقوا عليها، وإما قد اختلفوا فيها.

ما اتفقوا عليه من أندَرِ النادر أن تجد المتأخرين خالفوهم فيه .. المجمع عليه، إذا اتفقوا على شيءٍ ما، لا يكاد أن تجد مثالاً واحداً وقد يكون في النادر، وإما سبق قلم وإما فساد في التصور .. مسألة خاصة عند زيدٍ من الناس أو عند عالمٍ من الناس.

النوع الثاني: أن يكون قد اختلفوا، إذا اختلفوا حينئذٍ المتأخر ماذا يصنع؟ ينظر في الخلاف فيختار، فيعتمدُه في كتابه، إذا اعتمد في كتابه قولاً قد قال به من سبق، وخالفه غيرُه في تعريف الشاذ وتعريف المنكر، في تقسيم الحديث صحيح وحسن أو ضعيف، الحسن داخل في الصحيح أو في الضعيف .. كلها مسائل مختلف فيها.

إذا رجَّح المتأخر قولاً ما، حينئذٍ لا غضاضة في ذلك، هذا مذهبُه، رُدَّ عليه بدليل، أما تقول: لماذا خالف المتقدمين؟ أين المتقدمون هنا؟ في ذهنك أنت؛ لأنك تصورت أنهم قد اتفقوا ولم يتفقوا، وهذا شأنه.

ولذلك قيل في الاختيارات الشرعية -الحلال والحرام-: إذا اختلف الصحابة، ماذا يصنع التابعون؟ قالوا: يجب "ولا يجوز التقليد" يجب أن يُنظر في أقوالهم وتُعرض على الكتاب والسنة. هذا من؟ الصحابة، إذا اختلف أبو بكر وعمر في مسألة لا نقلِّد أبا بكر هكذا ولا نقلِّد عمر هكذا، وإنما ننظر في مستند كل منهما فنعرضه على الكتاب والسنة، فما وافق قبلناه؛ لأنهم اختلفوا.

حينئذٍ المصطلح منه ما هو متفقٌ عليه، ومنه ما هو مختلفٌ فيه، إن وقع الاتفاق هذا لا يخالِف فيه أحد؛ لأنه لا يجوز الخلاف وليس له وجود والله أعلم، لا أجزم لكن إن وُجِد فهو قليل نادر ولا يُنسب لمذهب معيَّن أو لطائفة المتأخرين، وإنما يختص بفلان دون غيره، أما منهج عام فلا .. لا يوجد.

وأما ما اختلفوا فيه فالحمد لله، من الذي يمنع الاختيار؟ لا أحد يمنع، إذا عرَّف الشافعي الشاذ بكذا وعرَّفه فلان بكذا، وهذا له استعمال خاص، وهذا له استعمال خاص فلا إشكال فيه.

ولذلك هم اختلفوا في تقسيم الحديث: مقبول ومردود، صحيح وحسن، ثم الحسن لذاته والحسن لغيره، والترمذي عندهم من المتقدمين، وما كلامُه في الحسن، هذا يدل على ماذا؟

(7/12)

________________________________________

مقدِّمة الإمام مسلم تدل على أنَّ بينهم خلافاً في شروط الصحيح، وإن حُكِي الإجماع مع البخاري إذا قيل: بأنه ردَّ على البخاري أو على شيخه، إذاً: فيه خلاف .. الخلاف موجود، لماذا نقول: متقدمون ومتأخرون ونجعل المسألة فصل ومعارك، ووصل إلى تبديع ونحن كذا؟ هذا كله غلط، وهذا يدل على عدم تمكُّنِه في العِلم، هذا الذي أريده.

هذا يدل على عدم تمكنه في العلم، ولو كان يدَّعي أنه متخصص في الحديث مثلاً، ثم يقول: متقدمون ومتأخرون، وهذا يجب حرقُ الكتاب ولا يُنظر في كتب ابن حجر أو الذهبي .. ! هذا يدل على أنه ما فهم المصطلح أصلاً، فلا يُحسَب على هذا الفن إلا عند الأغبياء والحمقى، وإلا من أَدرك وعلم حقيقة العِلم، ما هو العِلم؟

جميع الفنون، جميع المسائل، الحلال والحرام وغيرها، المصطلحات العُرْفية وغيرها، منه ما هو متفق عليه ومنه ما هو مختلف فيه.

أنت تنظر إلى المسألة بهذا الاعتبار، إذا قيل: ابن حجر خالَف، أول سؤال: خالَف مَن؟ خالف إجماعاً أم خالَف خِلافاً؟ ما موقفُه من الخلاف؟ انتبهوا لهذه المسألة.

هنا يقول: المتقدمون والمتأخرون. هذا سبب الخروج.

ولذلك صار عند الطلاب يقول لك: النُّخبَة مشروحة على مَنْ؟ وبعضُهم يقول: ما نقرأ النخبة، وبعضهم: ما نقرأ المُوقِظة.

وبعضهم من أنصار المتقدمين ويشرح النخبة ما أدري هل هو تلبيس أو نسف أو رد .. كيف؟ حتى ما عندهم كتب للمتقدمين، ما عندهم إلا ابن رجب العِلل فقط، فأين التصنيف وأين .. ؟

المشاريع التي تُطلَب الآن بأن يُفصَل المتأخر عن المتقدم ويُرجَع بالمصطلح إلى المتقدم، ماذا نصنع الآن؟ يعني: فساد التصور، طيب ماذا نصنع؟

معناه إذا قيل بأن المصطلح انحرَف معناه يجب أن نتوقَّف؛ لأنه ما يجوز، كيف نحكُم أن هذا القول للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله وهو ما قاله؟ معناه يجب علينا أن نقِف، فماذا نصنع؟ مشاريع ومؤتمرات واجتماعات ثُم ما رأينا شيئاً منها.

منذ عشرات السنين ما رأينا شيئاً منها، وإنما هي قُطافات تُكتب ورسائل .. إلى آخره.

هذا يدل على أن عندهم انحراف في فهم الفن أصلاً، وإلا هذا لا يقوله إنسان عقَلَ الفن بوجهه أن هذا الخلل يصادَم بمثل هذه الحرب العشواء، وإنما يُنظر في كل مسألة على حِدَة ولا يُلتبس عليك، ولذلك هجروا العراقي، والسيوطي، وابن حجر .. إلى آخره.

حتى بعضهم سمعته يقول: لا تقرأ التهذيب، ولا تهذيب التهذيب، ولا تنظر في النُّزهة، ولا في التدريب. عليك بتاريخ البخاري.

حتى لو جئنا لهذه المسألة، حثّ الطالب الذي يريد أن يدرس الحديث إلى أن يقرأ كتب المتقدمين، هذا ما يستطيع الطالب .. ما يستطيع أن يقرأ، لا بد أن يكون ثَم وسيلة.

يعني: يقرأ على ما عليه المتأخرون، وفي جملة ما اختاروه حق ولا إشكال فيه، وليس ثَم معارَضة كبرى للمتقدمين، ثم إذا برز وتكوَّن وصارت عنده أهلية أن ينظُر ويقارن بين الأقوال، فحينئذٍ يقرأ في أي كتاب، لا يقال: هذا متقدِّم وهذا متأخِّر.

(7/13)

________________________________________

قد تستنير بأقوال المتأخرين فيما يُشكِل عليك بأقوال المتقدمين، أناس بذلوا أوقاتَهم في العلم .. إلى آخره، وخاصة فن الحديث يحتاج إلى بذل عُمُر وإفناء الوقت كله في هذا الفن، ولا يستطيع أن يخلُص بقاعدة إلا إذا كان متبحِّراً في الفن. وجدنا الذهبي، وجدنا الِمزِّي، وجدنا كلام ابن تيمية، وجدنا ابن حجر، السيوطي، والسخاوي .. ومن بعدَهم، وجدنا لهم كلاماً يعني: يوافق ما عليه المتقدِّمون، وليس ثَم الخلاف ذاك الجوهري بينهم، وإنما هو في المصطلحات، الشاذ المنكر .. إلى آخره.

نقول: الشاذ والمنكر كلاهما ضعيف انتهينا، سميتُه شاذاً وأنت سمّيتَه منكراً هذا خلاف لفظي ليس خلافاً .. ، إذا قلت: شاذ أو منكر اختلفنا فيه، ما الذي ينبني عليه؟ قبول الحديث وردُّه؟ ما ينبني عليه، إذاً: مقبولٌ ومردود .. الحديث هكذا: إما مقبول وإما مردود.

حينئذٍ هنا يبقى النزاع فيه، فما اتفق عليه المتقدمون لا يجوز خلافه؛ لأنهم أهل الفن وهم الذين أنشئوا العلم، فيجب الوقوف عند حدِّهم.

على كلٍ هنا قال: (تبعَ في اقتصاره على قوله: في الجنس للمتقدِّمين.

بناءً على أن كل ماهيّة لها فصْلٌ فلها جنس، وذهب المتأخرون إلى زيادة: أو في الوجود).

في الجنس أو في الوجود.

قال العطار: القدماء جعلوا الفصل مميِّزاً عن المشارَكة في الجنس، حتى أن كل ما يكون له فصلٌ يكون له جنس؛ إذْ المشاركة في الوجود لا تفتقر إلى التمييز بالفصل، وإلا لزم التسلسُل؛ لأن الفصل أيضاً موجود فالتمييز عنه يحتاج لفصلٍ آخر. هذه عِلَّة المتقدمين .. أنهم اقتصروا على: في الجنس .. مشارك في الجنس، أما في الوجود فلا اعتبار له؛ لأن فَصْل كذلك موجود وحينئذٍ يحتاج الفصل إلى فصلٍ آخر فيلزم التسلسل؛ لأنه موجود فيحتاج إلى فصل آخر ليميزه عن الوجود.

إذاً: كل موجود يحتاج إلى تمييز، وهذا يلزم منه التسلسل.

لأن الفصل أيضاً موجود فالتمييز عنه يحتاج لفصلٍ آخر .. وهكذا.

(لكن لما لم يتم البرهان على انحصار الذاتي في الجنس والفصلِ بهذا المعنى، عدَل عنه الشيخ في الإشارات وتبِعَه المتأخرون) تبعه يعني: ليس هناك برهان يعني: ما اشتمل على مقدمات، الدليل موجود لكن ليس برهاناً يعني: لم يشتمل على مقدِّمات يقينية.

(على انحصار الذاتي في الجنس والفصل) قالوا: الذاتيات منحصرة في الجنس والفصل، ما دليله؟ ليس عندهم برهان، حينئذٍ يمكن الخلاف، فخالف المتأخِّرون المتقدمين.

ولذلك قال: (لكن لما لم يتم البرهان على انحصار الذاتي في الجنس والفصل بهذا المعنى، عدَل عنه الشيخ في الإشارات وتبِعَهُ المتأخِّرون).

ولذلك قال: (وذهب المتأخرون إلى زيادة: أو في الوجود) ومبنى الخلاف: أو في الوجود.

(أي: في تعريف الفصل عقِب في الجنس ليصير التعريفُ جامعاً، ومبنى الخلاف على جواز تركُّبِ الماهيّة من أمرين متساويين وعدمِه.

فمن جوَّز تركُّبَها من ذلك زاد ما ذُكِر) يعني: في الوجود (ومن لا فلا) فلا يزيد.

حينئذٍ المتقدِّمون يجوّزون أو لا؟ لا يجوِّزون، تركُّب الماهيّة من أمرين متساويين.

(على جواز تركيب يفيد أن الخلاف في الجواز العقلي، مع الاتفاق على عدم وجود ذلك).

(7/14)

________________________________________

يعني: هل جائزٌ عقلاً أم لا؟ حينئذٍ المسألة عقلية بحتة، يعني: لا وجود لها في الخارج. جواز تركُّب الماهيّة من أمرين متساويين، ولا شك أن الجنس لا يساوي الفصل، قطعاً هذا لا يتساويان. إذا: مختلفان.

حينئذٍ هل يجوز تركُّب الماهيّة من شيئين متساويين؟ هذا محل خلاف.

(فمن جوَّز تركُّبَها من ذلك زاد ما ذُكِر) وهم المتأخِّرون .. جوَّزوا تركُّب الماهيّة من أمرين متساويين (ومن منع فلا).

قال هنا: (وعدمِه) احتج عليه المتقدمون .. على ماذا؟ (وعدمِه على عدم تركب الماهيّة من أمرين متساويين، ومن جوّز تركبها من ذلك زاد) وهم المتأخرون (ومن لا) يعني: منَع وهم المتقدمون، احتج عليه المتقدمون -على المنع- من تركُّب الماهيّة من أمرين متساويين قالوا: لو تركَّبت من متساويين فإما أن يحتاج كلٌ منهما للآخر فيلزمه الدور، أو أحدِهما فقط فيلزم الترجيح بلا مرجِّح، أو لا يحتاج كلٌ للآخر فيلزم المحال وهو قيام الماهيّة بدون بعض أجزائها.

وأجاب المتأخرون: بأن هذه المُحالات إنما هي في الماهيّة الخارجية، أما الذهنية فلا؛ لأنها من الأمور الاعتبارية، والكلام في الثاني لا الأول.

سلّمنا مجيئه فيها "يعني: الذهنية" لكن نمنع أن هذا دورٌ رتبي، لم لا يجوز أن يكون دوراً معيّاً وهو غير محال كتوقف الجِرم عن العرض وعكسِه، والدور هذا يأتي معنا إن شاء الله.

قال هنا: (وَيُرْسَمُ) يعني: يُعرُّف الفصل (بِأَنَّهُ) أي: الفصل (كَلِّىٌّ) دخَل فيه سائر الكُلِّيّات الخمسة.

(يُقَالُ) يعني: يُحمَل.

(عَلَى الشَّيْءِ فِي جَوَابِ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ) لك قراءتان: في جواب أيِّ .. جواب أيُّ. أيُّ على الحكاية لا بأس به يجوز، ولو جرَرته لا بأس.

(يُقَالُ عَلَى الشَّيْءِ) إنما قال: (عَلَى الشَّيْءِ) ما قال على أفراده أو على كثيرين، قال: (عَلَى الشَّيْءِ).

(إنما قال: على الشيء ليشمل الأفراد المتفقة الحقيقة كالفصل القريب، والمختلفة الحقيقة كالفصل البعيد) ولذلك قال: على الشيء.

(وإنما قال: يُقال دون مقُولٍ) هنا عدم، في السابق في الجنس والنوع قال: مقول، وهنا قال: يُقال.

(وإنما قال: يُقال دون مقول كما في سائر الكُلِّيّات لأنهم ذكروا أن الفصل عِلَّة لحِصة النوع من الجنس، فكان مظِنة أن يُتوهم أن الفصل لا يُحمَل عليه؛ لامتناع حمل العِلَّة على المعلول فصرَّح بيقال لإزالة هذا التوهُّم).

(فِي جَوَابِ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ).

(خرَج به الجنس والنوع؛ لأنهما يقالان في جواب ما هو؟).

(خرج به) أي: بالقيد الأخير.

(الجنس والنوع؛ لأنهما يقالان في جواب ما هو؟) كما مر معنا.

قال هنا: (والعرض العام لأنه لا يقال في الجواب أصلاً كما مر).

قال: (والخاصة) يعني: خرج الخاصةُ بالرفع عطفاً على قوله: (الجنس).

خرج به الجنس، والنوع، والعرض العام، والخاصةُ. هذه أربعة أشياء، فتعيَّن الحد أن يكون للفصل.

قال: (والخاصة لأنها إنما تُميِّز الشيء في عرضه لا في ذاته).

إذاً: أورد المخرَجات على جهة الترتيب على حسب ما ذكره في النص قال: (فِي جَوَابِ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ) خرجت هذه الأربعة الأمور.

(7/15)

________________________________________

قوله: (الجنس والنوع) خرج بماذا؟ بقوله: (أَيُّ شَيْءٍ) بالمضاف إليه؛ لأن الجنس والنوع يقال في جواب ما هو.

طيب. العرض العام خرَج بقوله: (جَوَابِ).

الخاصة خرجت بقوله: (فِي ذَاتِهِ) لأن الخاصة يُسأل عن: أيُّ شيء هو في عرَضه؟

إذاً: أربعة أشياء خرجت.

قوله: (لا يقال في الجواب أصلاً).

قال العطار: العرَض العام من حيث إنه عرضٌ عام لا تمييز له أصلاً، ومن حيث إنه خاصة إضافية يميِّز الماهيّةَ في الجملة.

يعني: إن قلت: إنسان ماشٍ لا شك أنه حصل تمييز، إذاً: وصفت الإنسان بكونه قابلاً للمشي.

إذاً: غير الماشي خرج، هذا فيه احتراز، لكن في الاصطلاح عندهم .. ولذلك قلت لكم فيما مضى: أنه في اللغة يقع جواباً، كيف زيدٌ؟ تقول: مريض. إذاً: يقع بالجواب، إذاً: هذا مجرد اصطلاح فقط.

قال: (والفصل قسمان: قريب وهو ما يميز الشيء عن جنسه القريب) أي: عن صاحب جنسه القريب .. على حذف المضاف أي: عن صاحب جنسه القريب. وهو المشارك له فيه، وكذا يقال فيما بعده.

قال: (ما يميِّز الشيء عن جنسه القريب كالناطق بالنسبة إلى الإنسان، وبعيد يعني: فصلٌ بعيد، وهو ما يميِّز الشيء في الجملة عن جنسه البعيد)، (في الجملة) أي: عن بعض المشارِكات.

يعني: تشاركه أفراد ونأتي بفصل ميَّز هذا المقيَّد عن بعض الأفراد دون البعض الآخر، هذا مراده بقوله: (في الجملة).

(عن جنسه البعيد كالحساس بالنسبة إلى الإنسان) هنا ميَّزه عن الجماد، لكن غير الجماد: الحيوان .. الفرس؟ حسَّاس.

إذاً: حصل به التمييز "هذا فصلٌ بعيد" حصل به التمييز عن بعض الأفراد ولو في الجملة في بعض الصور، وبعض الأفراد لا يحصل عنه التمييز. هذا مرادُه.

(كالحساس بالنسبة إلى الإنسان) فإنه ميَّزه عن الجماد، فالجماد غير حسَّاس.

وأما الفرس فلم يحصل به التمييز.

(فإن قلتَ: يلزم أن يكون الجنس فصلاً لأنه يميِّز هذا التمييز قلتُ –الشارح-: لا بُعد فيه) يعني: كون الجنس فصلاً.

(إن أتى به) أو (أُتي به) لا إشكال في ضبطهما.

(إن أَتى به) أو (أُتي به في جواب أي شيء هو في ذاته، بخلاف ما إذا أَتى به) يعني: بالجنس (في جواب ما هو فلَه اعتباران بحسب السؤال) هذا بحثٌ انفرد به المصنف، أنه يمكن أن يؤتى بالجنس ويُعامَل معاملة الفصل، حينئذٍ يكون في المعنى مساوياً للفصل، فيصير –نتيجة- يصير الجنس فصلاً، ولذلك قال: (فإن قلتَ: يلزم أن يكون الجنس فصلاً لأنه يميِّز هذا التمييز) ما دام أن فائدته هذه الفائدة إذاً: الجنس يكون فصلاً قال: (لا بُعد فيه) فليكن .. ما المانع؟

قال العطار: منشأ هذا السؤال (فإن قلتَ .. ) زيادةُ قيد في الجملة؛ لأنه قال: ما يميِّز الشيء في الجملة يعني: في بعض الأفراد دون بعض.

إذاً: جوَّزت خُلُوَّه عن بعض الأفراد "هنا محل الإشكال" جوَّزت خُلُوَّه عن بعض الأفراد فبعض الأفراد تخرُج وبعض الأفراد لا تخرُج.

منشأ هذا السؤال زيادة قيد في الجملة، وهذا الكلام للقطب في شرح الشمسية، فإنه قال: فإن قلتَ: السائلُ بأي شيءٍ هو؟ الذي يسأل: بأي شيءٍ هو؟

إن طلب مميزاً لشيءٍ عن جميع الأغيار بالجملة "يعني: لا في الجملة" بالجملة عن جميع الأغيار.

(7/16)

________________________________________

قال: لا يكون مثل الحساس فصلاً للإنسان؛ لأنه لا يميزه عن جميع الأغيار أو عن بعضها.

قال: (فالجنس). هنا الجملة معترِضة هذه.

إن طلب مميِّزاً لشيءٍ عن جميع الأغيار فالجنس مميزٌ للشيء عن بعضها، فيجب أن يكون صالحاً للجواب: أيُّ شيءٍ هو في ذاته؟ هذا سؤال.

فالجواب: فلا يخرُج عن الحد. يعني: عن حد الفصل.

قلتُ: لا يكفي في جواب أيُّ شيءٍ هو في جوهره "يعني: في ذاته" التمييز في الجملة. لا يكفي التمييز في الجملة.

هنا وقع خلط عند المصنف، أخذ أنه ولو في الجملة على أنها تكفي، فأخذ بعض الكلام وترك بعضاً.

قلتُ: لا يكفي في جواب أيُّ شيءٍ هو في جوهره التمييز في الجملة، بل لا بد معه من ألا يكون معه تمام المشترِك بين الشيء ونوعٍ آخر، فالجنس خارجٌ عن التعريف.

بل لا بد معه -في التمييز- من أن لا يكون معه تمام المشترك بين الشيء ونوعٍ آخر، وهذا هو الجنس. فالجنس خارجٌ عن التعريف.

قال العطار: والشارح تصرَّف في كلامه. يعني: أراد أن يختصر فحصل فيه شيءٌ من الخلط، واختار الشق الثاني من الترديد، وبنا عليه زيادة قوله سابقاً: ولو في الجملة.

واعترف بكون الجنس فصلاً في بعض الصور، ولا يتم له ذلك. لا يُسلَّم يعني: ليس بصحيح أن يكون الجنس في بعض الصور فصلاً.

إلا إذا اقتصروا على قصد التمييز في الجملة ولم يعتبروا زيادة على ذلك، مع أنهم اعتبروا كما أشار إلى ذلك القطب الرازي بقوله: بل لا بد. يعني: يكون تمام الماهيَّة.

وأشار إليه الدَّوَاني بقوله: بشرط أن لا يكون تمام الماهيّة -المختصة والمشترِكة-، فإن زيادة ذلك لإخراج النوع والجنس، فالجنس غير داخلٍ في التعريف.

إذاً: الحاصل أن كلامه هنا غير مسلَّم بأن الجنس قد يؤدي وظيفة الفصل فيكون الجنس فصلاً، لا يُسلَّم له ذلك.

ولذلك قوله هنا قال: (يلزم أن يكون الجنس فصلاً لأنه يميّز هذا التمييز قلت: لا بُعد فيه) يعني: كون الجنس فصلاً.

(إن أتى به أو أُتي به) يعني: بالجنس (فِي جَوَابِ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ) كيف أيُّ شيءٍ هو؟ الجنس أصلاً لا يقع في هذا الجواب، وإنما يقع في جواب ما هو، وهذا تقرَّر عند عامة المناطقة.

(فِي ذَاتِهِ) بخلاف ما إذا أتى به في جواب ما هو، لو أتى به في جواب ما هو تعيَّن أن يكون جنساً، وإذا أتى به في جواب أيُّ شيءٍ هو، فحينئذٍ قال: يحتمِل أن يكون فصلاً وأن يكون جنساً، فيأتي الجنس.

فله اعتباران بحسب السؤال، ثم ثنَّى بالعرَضي فقال: (وَأَمَّا الْعَرَضِيَّ)، يأتينا بعد الصلاة إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!

(7/17)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

وقفنا عند قول المصنف رحمه الله تعالى: (ثم ثنَّى) يعني: المصنف.

أي: أتى به ثانياً بعد إتيانه بالذاتي أولاً، (بالعرضي) المراد به المنسوب لما عرض للذات .. خارجاً عنها.

وهذا اصطلاح أهل الميزان لا المنسوب للعرض المقابل للجوهر كما هو اصطلاح المتكلمين يعني: هذا قدرٌ مشترك بين فنين.

العرض عند المناطقة هو الخارج عن الذات، والعرض عند المتكلمين هو ما لا يقوم بذاته كاللون ونحوه. وحينئذٍ فرقٌ بين الاصطلاحين.

قال: (وَأَمَّا الْعَرَضِيَّ).

قال العطار: مقابل قوله: (أما) محذوفٌ أي: أما الذاتي فقد علمتَ تقسيمه .. إلى آخره.

ثم قال: (والعرضي نسبةٌ للعرَض بمعنى: ما يعرض للماهية من الأمور الخارجية عنها، المحمولة عليها) فإن العرض عند المتكلمين: ما قام بغيره.

فالأبيض عرضيٌ بالمعنى الأول -عند المناطقة- لا بالثاني؛ لأن العرَض نفس البياض لا الأبيض.

حينئذٍ الأبيض عرضٌ بالمعنى الأول لا بالثاني. يعني: عند المتكلمين الأبيض لا يسمى عرَضاً؛ لأن الأبيض معناه ذاتٌ متصفة بالبياض، البياض نفسُه هذا عرَضٌ عند المتكلمين، أبيض عند المناطقة هذا يسمى عرَضاً، فرقٌ بين الاصطلاحين، وحينئذٍ العرَضي عند المناطقة هو الخارج عن الذات، وأما عند المتكلمين فهو ما لا يقوم بنفسه بل ما قام بغيره.

قال هنا: (وَأَمَّا الْعَرَضِيُّ:

فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ انْفِكَاكُهُ عَنِ المَاهِيَّةِ، وَهُوَ الْعَرَضُ الَّلاَزِمُ).

(فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ انْفِكَاكُهُ عَنِ المَاهِيَّةِ).

قال في الحاشية: (أي: من حيث وجودُها ذهناً، بمعنى أنها يمتنع إدراكها دون إدراكه).

وهذا كما علمنا أنه البحث في الكُلِّيّات، وإنما يكون الانفكاك وعدمُه في الذهن، هذا هو الأصل فيه؛ لأن البحث في الكُلِّيّات.

أي: من حيث وجودها ذهناً، بمعنى أنها يمتنع إدراكُها "أي: إدراك الذات" دون إدراكه يعني العرَض أو اللازم.

كفردية الثلاثة، لا تُدرِك الثلاثة إلا بإدراك أنها فرد، وكذلك زوجية الأربعة لا تدرك الأربعة إلا بأنها زوج وهكذا، ويسمى هذا لازمَ الذهنِ.

(أو من حيث الوجود الخارجي بمعنى أنها يمتنع وجودُها في الخارج منفكة عنه) وهذا باعتبار الأفراد لا باعتبار حقيقة الكلِّي.

(كسواد الغراب ويسمى لازم الوجود) أو من حيث هي بمعنى: أنه يمتنع وجودُها في الذهن أو الخارج هذا بناءً على التقسيم اللازم الذي مر معنا: لازم في الذهن فقط، لازم في الخارج فقط، لازم في الذهن والخارج.

يعني: كأنه أعاد ما سبق.

(أو من حيث هي بمعنى أنه يمتنع وجودُها في الذهن أو في الخارج منفكَّة عنه، بل أينما وُجِدت اتَّصَفَتْ به ككون زوايا المثلث الثلاثة مساوية للقائمتين، ويسمى هذا لازم الماهيّة).

(8/1)

________________________________________

إذاً: (فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ انْفِكَاكُهُ عَنِ المَاهِيَّةِ) عن الحقيقة (وَهُوَ الْعَرَضُ الَّلاَزِمُ) كالضاحك بالقوة بالنسبة إلى الإنسان.

الضاحك بالقوة يعني: احترازاً عن "بالفعل"؛ لأنه ينفك، ومر معنا أن الوصف من حيث هو وصف إما أن يكو بالفعل وإما أن يكون بالقوة، بالقوة يعني: بالإمكان، وبالفعل يعني بالإيجاد والحصول والثبوت بمعنى: واقعة، وأنت جالِسٌ الآن بالفعل، وقد تكون قائماً فنقول: أنت جالسٌ بالقوة يعني: عندك قابلية للاتصاف بهذا الوصف. هذا المراد بالفعل والقوة.

الضاحك بالقوة هذا لازم لكل إنسان لا ينفك عنه، لكن الضاحك بالفعل هذا مفارِق .. هذه خاصة مفارِقة، وهي التي لا يقع بها التمييز.

(كَالضَّاحِكِ بِالْقُوَّةِ) بالنسبة إلى الإنسان.

قال هنا: المراد بالضحك عند المناطقة انفعالٌ نفسي عند إدراك الأمور الغريبة.

وبعضهم فسَّره بالضحك المعروف: انبساط الوجه وانكشاف المقدم الأسنان.

(كَالضَّاحِكِ بِالْقُوَّةِ).

قال: (القوة إمكان الشيء حال عدمه) وهذا اصطلاح ٌعلمي.

(إمكان الشيء حال عدمه، ويقابلها الفعل وهو التحقق والحصول والثبوت، فإن كان الضحك بالقوة) يعني: إمكان وجودِه لكنه معدوم ويمكن أن يوجد.

الضحك بالفعل يعني: متحقق الحصول والثبوت.

(أو لا يمتنع) يعني: العرضي.

(فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ) العرضي (انْفِكَاكُهُ عَنِ المَاهِيَّةِ).

(أو لا يمتنع انفكاكه عنها. وهو العرَض المفارق كالضاحك بالفعل بالنسبة إلى الإنسان).

أحدهما يمكن انفكاكه والآخر لا يمكن انفكاكه يعني: يمتنع انفكاكه.

ما الذي يمتنع انفكاكه؟ الضحك بالقوة، لا يمكن أن يوجد إنسان غير متصف بالضحك بالقوة، هو لازمٌ له.

وأما الضاحك بالفعل فهذا ينفك عنه يعني: يكون غير ضاحكٍ بالفعل.

قال: (وهو العرَض المفارق أي: الذي تُمكِن مفارقته وإن لم يفارق بالفعل.

كالفقر الدائم لمن لا يمكن غناه عادة، وكفراق الزبَّال محبوبَه السلطان، والفرق بين هذا وبين لازم الوجود كسواد الغراب: أنَّ هذا ممكن الزوال عادة، وذلك ليس ممكن الزوال عادة).

هذا أورده العطار وأبطله بشيءٍ لا يُحكَى فيُرجَع إليه.

قال: (وهو العرض المفارق) كالضاحك بالفعل بالنسبة إلى الإنسان، وكل واحدٍ منهما "الضمير يعود إلى الممتنع وغير الممتنع" إما أن يختصَّ بحقيقة واحدة وهو الخاصة كالضاحك بالقوة والفعل بالنسبة إلى الإنسان؛ لأنه بالقوة لازمٌ لماهية الإنسان مختصٌ بها، وبالفعل مفارقٌ لها مختصٌ بها. وهذا مذهب المتأخرين.

يعني: هنا دخلت الخاصة اللازمة والخاصة المفارقة .. على هذا المعنى دخلت الخاصة اللازمة والخاصة المفارقة.

قال: صريحٌ في أن أقسام العرضي أربعة، وإذا ضُمَّت للجنس والنوع والفصل بلغت سبعة، وهذا مخالِفٌ لما مر من أنها خمسة، هو قرر أن الكُلِّيّات خمسة، وأُجيب: بأنَّ تقسيم العرضي إلى لازم ومفارِق تقسيمٌ ثانوي كتقسيم الجنس والنوع والفصل.

كما نقول: الجنس عالٍ ومتوسط، ما زدنا أربعة وقلنا هي خمسة، هنا كذلك إذاً: لا اعتراض، كما نقول: الفصل قريب وبعيد، والنوع إضافي وحقيقي.

وحينئذٍ لا يُعترَض بهذا التعداد إلى أنه قد أخطأ أو قال خمسة ولم يوفِّ.

(8/2)

________________________________________

قال: (وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أي: الممتنع وغير الممتنع.

(إِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ) فلا يتعداها أي: بأفرادها.

كما قال المحشِّي هنا: لأن الخاصة لا تلزم الماهيّة من حيث هي "يعني: ليست داخلة في الماهيّة" نوعيّة كانت كالضاحك، أو جنسية كالماشي والمتنفِّس.

المتنفِّس هذا ليس خاصاً بالإنسان كالماشي، الماشي ليس خاصاً بالإنسان سواءٌ كان بالفعل أو بالقوة، كذلك المتنفِّس ليس خاصاً بالإنسان، وحينئذٍ تكون جنسية.

نوعية كانت كالضاحك، هذه نوعية يعني: تصدُق على زيدٌ وعمرو وبكر.

أو جنسية كالماشي تصدُق على الإنسان وعلى الفرس وعلى البقر .. ونحوه.

والمتنفس كذلك.

إذاً: هي قد تكون نوعية وقد تكون جنسية.

قال هنا: (وَهُوَ الخَاصَّةُ).

يعني: أن يَختص بحقيقة واحدة (وَهُوَ الخَاصَّةُ) بأن يكون قاصراً عليها ولا يعرِض لغيرها، قدَّمها لتمييزها الماهيّة، وكونِها مادة للرسم. يعني: داخلةٌ في حد الرسم؛ لأن الرسم يتألف منها كما سيأتي، وهو نوعٌ من أنواع التعريفات.

(كَالضَّاحِكِ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ) بالنسبة إلى الإنسان.

(لأنه -أي: الضحك- بالقوة لازمٌ لماهية الإنسان) لأنه الضمير يعود إلى الضحك

(مختصٌ بها، وبالفعل مفارقٌ لها مختصٌ بها) سواءٌ هذا أو ذاك، سواءٌ كان بالفعل أو بالقوة، الضحك خاصةٌ لازمةٌ، لكن سُميت لازمة الأُولى لأنها لا تفارِق، والمفارِقة لأنها قد تفارِق، توجد في بعض الأحوال دون بعض.

(وهذا مذهب المتأخرين) أي: تقسيم الخاصة إلى لازمة ومفارقة.

(هذا) أي: المذكور السابق من تقسيم الخاص إلى لازمة ومفارقة.

مثال اللازمة: ضاحكٌ بالقوة، مثال المفارقة: ضاحكٌ بالفعل.

يعني: تأتي بالمفارق بالفعل، واللازم بالقوة. تأتي بالقسمة المذكورة.

(وهذا مذهب المتأخرين، وأما المتقدمون فشرطوا أن تكون الخاصة لازمةً غير مفارقة؛ لأنها التي يُعرَّف بها).

إذاً: على طريقة المتقدمين لا تكون الخاصة المفارقة مما يعتبر في الرسوم ولا في غيرها، لا تدخل في الرسم، وإنما شرطوا أن تكون الخاصة لازمة، وأما غير اللازمة –المفارِقة- لا تصلح بخلاف ما عليه المتأخرون.

(لأنها التي يُعرَّف بها).

قال هنا العطار: لأنها التي يُعرَّف بها لاشتراطهم التساوي بين المعرِّف والمعرَّف.

يعني: عند المتقدمين يُشترط المساواة بين المعرِّف والمعرَّف، والمتأخرون جروا على هذا، يعني: لا يكون التعريف أعم ولا يكون أخص، لو كان أعم دخل فيه ما ليس منه، ولو كان أخص لخرج عنه ما هو منه.

وحينئذٍ لا بد أن يكون ثم تساوٍ، هكذا علَّله العطار وإن كان هذا يقول به المتأخرون.

على كلٍ: هذا التفريق بين المتقدمين والمتأخرين.

قال العطار: (الخاصة قسمان: حقيقية ويقال لها: مطلَقَة أي: لم تُقيَّد بشيءٍ دون شيء، وذلك كالضحك للإنسان.

وإضافية ويقال لها: غير مطلَقَة وهي التي تكون بالنسبة إلى شيءٍ دون شيءٍ آخر. كالمشي بالنسبة إلى الإنسان حالةَ كونه مقابلاً لِلحَجَر) الإنسان إذا أُضيف إلى الحجَر فحينئذٍ صار ماشياً والحجر غيرَ ماشياً.

فالمشي خاصّةٌ له -هنا في هذا المثال- لا مُطلقاً، بل بالنظر إلى الحجَر، لكن ليس هو إحدى الكُلِّيّات الخمس. هذه غير المطلقة.

(8/3)

________________________________________

(وإحداها إنما هو الخاصة المطلقة).

إذاً: الخاصة إما مطلقة وإما مقيَّدة.

(إما) مطلقة يعني: باعتبار كلِّ ما يقابلها، الحجَر وغيرُه، (وإما مقيَّدة) يعني: باعتبار مثال واحد.

فحينئذٍ المشي باعتبار الإنسان مقابلةً بالحجر يُعتبر خاصةً، لكن ليس مطلقاً وإنما في هذا المثال -في مقابلة الحجر-، هذه خاصة غير مطلقة بل هي مقيَّدة.

حينئذٍ هذا النوع الثاني ليس هو إحدى الكُلِّيّات الخمس، وإنما الأول هو الذي يعتبر إحدى الكُلِّيّات الخمس.

إذاً: ليس كل ما سُمّي كُلّياً فهو من الكُلِّيّات الخمس، ليس كل ما كان كلياً هو من الكُلِّيّات الخمس.

ولذلك مر معنا في أول الكتاب: أن بحث المنْطِقي في البسملة، قلنا البسملة إما جزئي وإما معنى كُلّي، لكن الجزئي لا بحث للمنطقي فيه، والكلي لا مطلقاً، لا يبحث المناطقة في كل كُلّيٍ، وإنما كُلّيٍ خاص بالحدود التي يريدونها وهي الكُلِّيّات الخمس، الموصلة إلى مجهولٍ تصوُّري.

قال هنا: (وإحداها إنما هو الخاصة المطلقة، كذا في الحاشية) وهذا مسلَّمٌ به، لا إشكال فيه، لكنه اعترضه.

(فمُفادُها) يعني: ينبني عليه.

(أنها ليست داخلة في التعريف فصار التعريف غير جامع) كونها معتبرة أو غير معتبرة هذه مسألة، داخلة في التعريف أو غير داخلة في التعريف هذه مسألة أخرى.

أما اعتبار ما سبق على التفصيل السابق: الخاصة غير المطلقة، هذه ليست إحدى الكُلِّيّات الخمس، والخاصة المطلقة هي من الكُلِّيّات الخمس هذا لا إشكال فيه.

لكن هل التعريف شمِل غير المطلقة أو لا؟

يقول: (مفادُه) مفاد هذا التفصيل: أن الحد لا يصدق على غير المطلقة، وإنما هو خاصٌ بالمطلق؛ لأنه أراد أن يعرِّف الكلِّي الذي هو إحدى الكُلِّيّات الخمس.

فحينئذٍ لما قلنا: الكُلّيّة المقيّدة غير المطلقة، ليست من الكُلِّيّات الخمس. إذاً: التعريف لا يشملها.

نقول: (مفادُها أنها ليست داخلة في التعريف فصار التعريف غير جامع، والحق أنها من أفراد الخاصة المعرَّفة هنا) يعني: داخلةٌ في التعريف.

(ولذلك فالماشي من حيث إنه شاملٌ لحقائق مختلفة عن الإنسان وغيره عرَضٌ عام، ومن حيث إنه مختصٌ بحقيقة الحيوان خاصةٌ له).

يعني: الماشي له جهتان: (من حيث إنه شاملٌ لحقائق مختلفة عن الإنسان وغيرَه عرضٌ عام) باعتبار الأفراد التي تدخل تحته هذا عرَضٌ عام؛ لأنها حقائق مختلفة.

ومر معنا هناك "دون الحقيقة" أنه يمكن إخراج العرَض العام. يعني: الاتحاد في الحقيقة هذا يمكن إخراج به العرض العام لأنه يصدق على حقائق مختلفة وحقائق متفِقة، فزيدٌ وبكرٌ وعمرٌ وخالدٌ ماشون، إذاً: صدق على حقائق متفقة.

البغل والحمار وو .. إلى آخره والإنسان ماشون، صدق على حقائق مختلفة، وهناك صدق على حقائق متفقة. هذا العرض العام.

فحينئذٍ الماشي (من حيث إنه شاملٌ لحقائق مختلفة عن الإنسان وغيره عرضٌ عام) وهذا واضح.

(ومن حيث إنه مختصٌ بحقيقة الحيوان خاصةٌ له) صحيح؛ لأنه إذا قلت: الحيوان ماشٍ إذاً الجماد لا يمشي، وهذا واضح.

إذاً: قد يُنظَر في العرض العام باعتبارين: باعتبار أنه عرضٌ عام، وباعتبار أنه خاصةٌ له.

(8/4)

________________________________________

حينئذٍ على هذا التقرير يمكن إدخال الخاصة غير المطلقة وهي مقيَّدة في الحد، لكن باعتبار الإضافة لا مطلقاً.

قال: (وَتُرْسَمُ) يعني: الخاصة. يعني: تُعرَّف.

تُرسم الخاصة (بِأَنَّهَا) أي: الخاصة.

(كُلِّيَةٌ) (دخل فيها سائر الكُلِّيّات) قال فيما سبق: كلِّي، هنا قال: كُلّيّةٌ بالتاء لأنه مؤنث.

(دخل فيها سائر الكُلِّيّات)

(تُقَالُ) يعني: تُحمل.

(عَلَى مَا تَحْتَ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ) يعني: تقال على ما، "ما" هنا صادقةٌ على أفراد.

(تُحمل على ما) أي: أفراد.

(تَحْتَ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ) (من الأفراد) مِنْ هذه بيانية كما قال المحشّي هنا.

(منْ الأفراد) قال: بيانٌ لما. يعني: مِنْ بيانية هنا، ففسَّر بها ما.

إذاً: كأنه قال: تقال على أفرادٍ تحت حقيقة واحدة فقط.

قال: (قَوْلاً عَرَضِيًا).

(خرج به الجنس، والعرض العام؛ لأنهما يقالان) يُحمَلان (على حقائق).

وهنا على حقيقة واحدة، إذاً: ليس عندنا كثيرين، مر معنا في حد الجنس (مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) إذاً: كثير هذا قيْد لا على واحد.

كذلك النوع: (مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ) هو قال: العرض الجنس، والعرض العام.

كذلك العرَض العام يُحمَل على كثيرين.

(لأنهما يقالان) أي: يُحمَلان (على حقائق).

(أي: ما تحتها من الأفراد، لكن في غير الجواب) يعني: في العرض العام.

(فلا ينافي ما تقدم أن العرض لا يقال في الجواب مطلقاً، وأفاد التعليل: أن خروجَهما بقوله: عَلَى مَا تَحْتَ حَقِيقَةٍ) وهو واضح.

(والنوعُ والفصلُ) والنوعُ بالرفع عطفٌ على قوله: الجنس خرج به "أي: بما سبق" الجنس والعرض العام.

قال: (والنوع والفصل) هذان خرجا.

(لأن قولهما) أي: حمْلَهُما.

(على ما تحتهما ذاتيٌ لا عرَضي) هذا النوع والفصل.

(لأن قولهما على ما تحتهما) من أفراد (ذاتيٌ لا عرضي).

إذاً: (كُلِّيَةٌ) هذا واضح أنها جنس.

(كُلِّيَةٌ تُقَالُ) أي: تُحمل.

(عَلَى مَا تَحْتَ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ) هنا ما ذكر الجواب، قدَّره في الشرح عُلَيِّش هنا: يقال أي: يُحمل أو تحمل في الجواب فصْلٌ مخرجٌ لعرض عام.

(تُقَالُ) أي: تُحمل في الجواب، لو قدَّرنا في الجواب أخرجنا بقولنا: المقدَّر هذا العرَض العام.

(عَلَى مَا) أي: جزئيات أو أفراد.

(تَحْتَ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ) فصلٌ مُخرِج للجنس.

حينئذٍ الجنس خرج بقوله: (فَقَطْ).

والعرض العام خرج بقوله: جواب المقدَّر. فصلٌ مخرج الجنس.

(قَوْلاً عَرَضِيًا) فصلٌ مخرجٌ النوع والفصل؛ لأن حملهما ذاتيٌ لا عرضي.

هذا إن قُيِّد قوله: بكونه في جواب. يعني: قُيِّد قوله: في جواب.

وإن لم يُقيَّد به فالعرَض خرج بقوله: (فَقَطْ) .. العرض العام خرج بقوله: (فَقَطْ).

إذاً: العرَض العام هو محل إشكال، خرج بماذا؟

إما أن تقول: بـ (فَقَطْ) كالجنس، وهذا ظاهر المتن؛ لأنه ما ذكر جواب، وإما أن تقدِّر له: يقال: في جواب.

إذا: ما لا يقال في جواب خرج وهو العرض العام.

قال: (لأن قولَه: على ما تحتهما أفاد أن خروجَها بقوله: قَوْلاً عَرَضِيًا).

قال: (ولا حاجة إلى قوله: فَقَطْ بعد: وَاحِدَةٍ).

(8/5)

________________________________________

(ولا حاجة لقوله: فَقَطْ) بُحِث فيه بأن الجنس والعرَض العام يُقالان عَلَى مَا تَحْتَ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وعلى ما تحت حقائق نحو: زيدٌ وعمروٌ حيوان أو ماشيان، ونحو: الإنسان والفرس حيوان أو ماشيان. فأخرَجَهُما ماشيان فهما داخلان في قولِه: تُقالُ على ما تحت حصة واحدة، فأخرَهما بقوله: فقط.

فيكون حينئذٍ قوله: فقط هو الفصل بالحقيقة.

(ولا حاجة إلى قوله: فَقَطْ. بعد وَاحِدَةٍ) لأنه قال: (وَاحِدَةٍ) فدل على قوله: فقط، لكنه من باب التأكيد: لا غير فقط، فقط هو مدلول لا غير، ولا غير هو مدلول فقط. إذاً: لا حاجة لقوله: فقط؛ لأنه خرج بواحدة، لكنه قد يقال من باب التوكيد، لكن التوكيد لا يدخل في الحدود .. يكون من باب الحشو.

قال: (والخاصة قد تكون للجنس كاللون للجسم، وقد تكون للنوع كالضاحك للإنسان، وكلُّ خاصةٍ لنوعٍ خاصةٌ لجنسه ولا ينعكس).

(الخاصة) قال في الحاشية: قد تكون للجنس لما قدَّم المصنف أن الخاصة مختصّة بحقيقة واحدة "يعني: حقيقة الحيوان مثلاً" وكان ظاهرُه أنها لا تكون للجنس، أفاد الشارح أنها تكون له أيضاً، فهذا في قوة الاستدراك على كلام المتن برفع ما أوهمه ظاهرُه وبيان أن مراده بالحقيقة ما يشمل النوعية والجنسية.

لأنا قلنا الحقيقة لو المراد بها النوعية فقط، هذا يهِم؛ لأن المراد بالحقيقة تمام الماهيّة، المراد بالحقيقة أكثر ما يُستعمل مراداً به النوع.

فحينئذٍ (مَا تَحْتَ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ) قد يوهِم بأن الخاصة إنما تكون للنوع فقط لا للجنس. وليس مراداً.

ولذلك كشف الشارح أو دفَع هذا الوهَم: بأن ظاهر المتن إنما هو خاصٌ بأن الخاصة إنما تكون وصفاً للنوع فقط دون الجنس، هو الشارح بيَّن أن الخاصة قد تكون للجنس وقد تكون للنوع.

يعني: يأتي بعرَضٍ يختص به الجنس، أو يأتي بعرَضٍ يختص به النوع. هذا واردٌ وهذا وارد، لكن الحد في ظاهره أنه خاصٌ بالنوع.

ولذلك قال: (والخاصةُ قد تكون للجنس كاللون للجسم) المراد بالجسم هنا الجسم الكثيف فإنه المُلوَّن لا الشَّفَّاف، هكذا قال العطار: المراد بالجسم هنا الجسم الكثيف فإنه الملون لا الشفاف.

(وقد تكون للنوع كالضاحك للإنسان) الضاحك هذه خاصة للإنسان وهو نوعٌ تحته أفراد.

اللون تكون للجسم، هو الذي يقبل، أما غير الجسم فلا يقبل اللون.

إذاً: هذه الخاصة صارت خاصة لجنسٍ.

(وكل خاصة لنوعٍ خاصةٌ لجنسه) يستلزمه؛ لأن النوع داخلٌ تحت الجنس، فإذا اختص النوع بخاصة لزِم أن يكون الجنس كذلك.

(ولا ينعكس) أي: عكساً لغوياً بأن يقال: كل خاصة لجنسٍ خاصةٌ لنوعه لبطلانه؛ فإن المتنفِّس مثلاً خاصة للحيوان وليس خاصةً للإنسان.

كل ما كان خاصةً لنوعٍ فهو خاص لجنسه، وقد يقال بأن المصنف هنا لهذه القاعدة ما أشار للجنس.

ظاهر كلام المصنف قلنا: (مَا تَحْتَ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ) يعني: النوع.

إذاً: إذا كان كل خاصة لنوعٍ فهي خاصةٌ لجنسه، لا يحتاج التنصيص على أنه للجنس، قلنا فيما سبق: قال المصنف هناك: (وقد تكون للجنس) يعني: الخاصة (كاللون للجسم) لأن ظاهر تعبيره - (مَا تَحْتَ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ) - ظاهرُ تعبيره: أن الخاصة خاصةٌ بالنوع. فوَرَد عليه إيهام أن الجنس كذلك تكون له خاصة.

(8/6)

________________________________________

إذاً نجيب: بأن كل خاصة لنوعٍ تستلزم خاصةً للجنس من غير عكس.

إذاً: لا اعتراض على المصنف، ولذلك قال: (ولا ينعكس).

قال هنا: (فخاصة الإنسان كالضاحك خاصةٌ للحيوان، بمعنى: أنها لا تتجاوزه إلى غيره.

وخاصة الحيوان كالحياة ليست خاصة للإنسان، بل تتجاوزه إلى غيره من أنواع الحيوان)

قال: (وَإِمَّا أَنْ يَعُمَّ) ما هو الذي يعُمّ؟

فسَّره: (كلٌ من العرَض اللازم والمفارِق) (إِمَّا أَنْ يَعُمَّ) يعني: لا يختص بحقيقةٍ.

قال هنا: (وَأَمَّا الْعَرَضِيَّ:

فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ انْفِكَاكُهُ عَنِ المَاهِيَّةِ).

(وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ)، (وَإِمَّا أَنْ يَعُمَّ) هذا مقابل لقوله: (إِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ).

(وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) يعني: المفارِق والملازِم.

(إِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الخَاصَّةُ)، (وَإِمَّا أَنْ يَعُمَّ) كلٌ من العرَض اللازِم والمفارِق.

(حَقَائِقَ فَوْقَ حَقِيْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهْوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ.

كَالمُتَنَفِّسِ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ لْلإِنْسَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الحَيَوانَاتِ).

يعني: متنفِّس هذا عرَضٌ عام.

فحينئذٍ بالقوة أو بالفعل هل هو من خصائص الإنسان؟ الجواب: لا. بل هو شاملٌ لجميع الحيوان، هذا يسمى عرضاً عاماً.

إذاً: لا يختص بحقيقة دون حقيقة أخرى كما هو الشأن فيما مضى في الخاصة.

(وَإِمَّا أَنْ يَعُمَّ حَقَائِقَ فَوْقَ وَاحِدَةٍ).

قال هنا في الحاشية: ثم إن كانت الحقائق أجناساً كان عرَضاً عاماً للجنس؛ لتجاوزه إلى غيره كالسواد للحيوان وغيره.

وإن كانت أنواعاً فهو عرضٌ عامٌ للنوع لشموله غيره من أنواع جنسه، وخاصةٌ لجنسه باعتبار عدم تجاوزه إلى غيره كالآكل والشارب.

إذاً: مرادُه أنه هنا قد تكون متعلِّقاً بالجنس أو كذلك بالنوع، فليس خاصاً بالجنس دون النوع ولا العكس.

(وَإِمَّا أَنْ يَعُمَّ حَقَائِقَ فَوْقَ حَقِيْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهْوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ.

كَالمُتَنَفِّسِ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ لْلإِنْسَانَ).

يعني: سواءٌ قلنا متنفِّس بالفعل أو قلنا متنفِّس بالقوة، فحينئذٍ ليس خاصاً بالإنسان.

(وَغَيْرِهِ) يعني: يشمل غيرَه (مِنَ الحَيَوانَاتِ) لماذا؟

لأنه بالقوة لازمٌ لماهيّات الحيوانات، بالقوة لازمٌ وهو خاصة ولا إشكال فيه.

وبالفعل مفارِقٌ لها، وعلى التقديرين هو غير مختصٍ بواحدة منها.

قال: (وَيُرسَمُ بِأَنَّهُ كُلِّىٌّ) ما هو الذي يُرسَم؟ العرَض العام.

(كُلِّىٌّ) دخَل فيه سائر الكُلِّيّات.

قال هنا: (حَقَائِقَ فَوْقَ أي: زائدةٍ على حقيقة واحدة وَهْوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ.

كَالمُتَنَفِّسِ بِالْقُوَّةِ أي: أو الفعل بالنسبة للإنسان وغيرِه من أنواع الحيوان).

قال: (وَيُرسَمُ) يعني: يعرَّف.

(بِأَنَّهُ كُلِّىٌّ) دخل فيه سائر الكُلِّيّات.

(يُقَالُ) يعني: يُحمَل.

(عَلَى مَا) أفراد.

(تَحْتَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ قَوْلاً عَرَضِيًا).

خرج به الجنس .. خرج بماذا؟ (قَوْلاً عَرَضِيًا) خرج به الجنس.

ولذلك قال هنا: (تَحْتَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ. فصلٌ مخرج النوع والفصل والخاصة.

(8/7)

________________________________________

(قَوْلاً عَرَضِيًا. فصلٌ مخرجٌ الجنس).

إذاً: خرج به يعني: بقوله: (قَوْلاً عَرَضِيًا) لأن الجنس يُحمَل على حقائق مختلفة.

إذاً: شاركه هنا .. اشتركا العرَض العام والجنس في كون كلٍ منهما يُحمل على حقائق مختلفة، لكن الجنس يختص بالحقائق المختلفة، ولا يصدُق على المتفقة بخلاف العرض العام، فإنه يصدُق كذلك على الحقائق المتفقة مع صِدْقه على الحقائق المختلفة.

(خرج به الجنس لأن قوله: على ما تحته ذاتيٌ لا عرضيٌ).

(لأن قوله: على ما تحته) يقصد به الذاتي (لا عرضي)، ولو قال ما ذكرناه لكان أحسن.

(والنوعُ) بالرفع عطفٌ على الجنس: والنوعُ والفصلُ والخاصة. هذا خرَج بقوله: (حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ).

(لأنها لا تقال إلا على حقيقة واحدة).

قال هنا في الشرح: (يقال في غير الجواب على ما أي: جزئيات.

تَحْتَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ. فصلٌ مخرجٌ النوع والفصل والخاصة.

قَوْلاً عَرَضِيًا. فصلٌ مخرجٌ الجنس).

إذاً: ثَم شَراكة بين الجنس والعرض العام، وثَم فرقٌ بينهما، لكنه -على التفصيل الذي ذكرناه سابقاً- لا يقع جواباً أصلاً، وحينئذٍ لا يكون جواباً لـ"ما هو"، ولا لـ"أيُّ شيءٍ هو" لا في ذاته ولا في عرَضه.

أيُّ شيءٍ هو في ذاته؟ أيُّ شيءٍ هو في عرَضه .. ما هو؟

حينئذٍ لا يقع جواباً لواحدٍ من هذه الأمور.

إذاً: بهذا الكلام انتهى ما يتعلق بالكُلِّيّات الخمس من حيثُ الضوابط العامة والتعاريف.

فائدتُها: أنك تحكم على اللفظ بعد أن تحكم عليه أنه كُلّي، متى تحكم عليه بأنه كُلّي؟ متى تقول: هذا اللفظ كُلّي أو جزئي؟ إذا أَفهم اشتراكاً.

تأتي للقاعدة السابقة إذاً: ما أفهم اشتراكاً كُلّيٌ، إذا تعقَّلَه الإنسان ولم يمنع الشرِكة فيه نقول: هذا كُلّي.

ثم بعد الحُكم عليه بكونه كُلّياً نأتي: هل هو جنس أم لا؟ فلا تأتي تُعبِّر عن اللفظ بأنه هل هو جنس أو نوع، دون أن تُثبت أنه كُلّي لا، أولاً: أثبت الأصل –العرش-، فحينئذٍ تقول: هو كُلّيٌ لأنه يصدُق على متعدد أو على أفرادٍ ويُحمل عليها حمل مواطئة. إذا أردت ما هو في الخارج، وإن أردتَ في الذهن تقول: يقبل الاشتراك.

ثم بعد ذلك: هل هو جنس؟ هل هو فصل؟ هل هو نوع؟ هل هو خاصة؟ .. إلى آخره، فيأتي التعريفات السابقة، فتحكم عليه أولاً: هل هو جزئي أم كُلّي، فإن حكَمت عليه بأنه جزئي استرحت، لا تقول: هذا جنس وهذا يحتمل، وتقع في إشكالات.

ثم بعد ذلك إذا أثبتَّ أنه كُلّي رجعت إلى هذه الضوابط: تُثبت أنه جنس أو فصل أو غيرها مما ذُكر؛ لأنه يأتي أن الحد التام لا يتألف إلا من جنس وفصل مثلاً، إذاً: لا بد أن تعرف ما هو الجنس؟ وما هو الفصل؟ وما فائدة الجنس؟ وعلى أي شيءٍ يصدُق الجنس؟ وإذا قيل: هذا جنس ما معناه؟ ولا إشكال فيه، هذا يُستعمل حتى في باب المعتَقد.

ولذلك المراد بالجنس: ما أفهم اشتراكاً.

حينئذٍ قول أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان: أنه قولٌ واعتقاد وعملُ الجوارح، ما المراد بعمل الجوارح؟ قالوا: الجنس، ما المراد بالجنس؟ أن ثَم قدراً مشتركاً بين أعمال الظاهر، بعضُها هل هو مبهم أو معيَّن؟ هذا محل نزاع، إن أثبتنا الخلاف هو الذي يكون داخلاً في حد الإيمان.

(8/8)

________________________________________

حينئذٍ بعض أعمال الجوارح داخلة قطعاً، ما هو المعيَّن هذا؟ معيَّن أو غير معيَّن؟ هو شائع في الأركان الخمسة مثلاً، فلا بد أن يوجد ممن يدعي الإيمان يوجد منه إما صلاة وإما صيام وإما زكاة وإما حج، بعضهم حصرها في هذه الأركان الخمسة "أركان الإسلام" {بُني الإسلام على خمس} وهذا واضح، أن غيرَها لا يُبنى عليها.

فحينئذٍ يأتي السؤال: ما هو هذا البعض؟

دل الدليل الخارجي على أن البعض محصورٌ في الصلاة؛ لأنه بإجماع الصحابة .. محلُ إجماع، الخلاف هذا خلافٌ حادَث لا يُلتفَت إليه، وإن كان أكثر أهل العلم المتأخرين على أن الصلاة فيها خلاف ويحكون .. إلى آخره قال مالك .. قال، مع تقديرنا لأهل العلم واحترامنا وكذا إلا أن هذا الخلاف خلافٌ حادِث.

لأنك لو طبَّقت ما ذكره الأصوليون، ومما يدَّعيه كثير من الفقهاء الذين لا يُكفِّرون تارك الصلاة لوجدنا أن ضابطة إجماع ظُهُورُه في تكفير تارك الصلاة أظهر من ظهوره في أشياء أخرى ادعوا فيها الإجماع، ولذلك عشرات بل مئات المسائل قال به ابن عمر ولا يُعرَف له مخالف فقط، وهنا عندنا عشرة بل أكثر، صحَّت الأسانيد على أنهم نصوا على أن من لم يصل فهو كافر. بهذا التعبير.

بل قال عمر رضي الله تعالى عنه فيما صح عنه حتى البخاري يصحِّح يقول: لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة .. لا حظ له في الإسلام.

قال بعضهم: لا حظ كامل، هذا كذب على عمر رضي الله تعالى عنه، هذا ليس باجتهاد هذا كذب، لماذا؟ لأن هذه التأويلات ومعرفة ما يُنزَّل عليه النفي تُعَامل بها نصوص الوحيين، ليس في كلام عمر ولا أبي بكر؛ لأنه يحتمل، ما نقول: لازم الحق حق ..

هو في ذاته حقٌ أم لا؟ هذا محل نزاع، هل هو حُجة أم لا؟

لكن هنا نُقل عن عمرو بن العاص، ونُقِل عن عبد الله بن عمرو وابن عمر ومعاذ وغيرهم، وحكى ابن حزم إجماع الصحابة على ذلك.

فحينئذٍ نقول: هذا الجنس يدل على بعض، وهذا البعض معيّن وقد أجمع عليه الصحابة فيتعيّن، حينئذٍ قولٌ باللسان، اعتقادٌ بالقلب أو عملٌ بالقلب مع الصلاة.

بعضهم يُنكر "هذا الشاهد هنا" يقول: الجنس هذا ما قال به الصحابة، نحن لم ندخله في التعريف، يعني: حرِّك ذهنك قليلاً، الأمور ما تحتاج إلى غباء.

نقول: نحن ما أدخلناه في التعريف، هل شرحُ الصلاةِ توقيفي؟ هل شرح الإيمان توقيفي؟ هل شرح أعمال ما يكون في الآخرة توقيفي؟ لا. ليس توقيفي.

عندنا أصول نذكرها كما هي، ثم إذا أردنا أن نعبِّر فنعبِّر بما يوافق الشرع، ثم التعبيرات الألفاظ هذه لا يُشترط فيها التوقيف، قلنا جنس، قلنا بعض مبهم، قلنا شيء غير معيَّن. هذا أو ذاك لا إشكال فيه.

فالوقوف مع هذه المسألة أنَّ السلف لم يعبِّروا بالجنس، ثم ماذا يقولون؟ يقولون: شرط كمال، نقول: السلف ما قالوا شرط كمال.

هذا يقول شرط كمال! من أين جئتم بالجنس هذا؟ هذا من الأمور الدخيلة من المتكلمين، ثم يقول: شرط كمال! من قال: شرط كمال؟ تقلِب عليهم الدليل.

إذاً: القول بأنه جنس تفهَم ما المراد به، أنه قدرٌ مشترك موجود في الأمور الحياتية .. الإنسان مع غيره، في أمور العلم، في الشرعيات. لا إشكال فيه.

(8/9)

________________________________________

ثم قدرٌ مشترك موجودٌ ولا يُنكره إلا إنسان مكابر، عبَّرت عنه بالجنس أو بغيره لا إشكال فيه، ولذلك نقول: إجماع الصحابة على أن أعمال الجوارح داخلةٌ في مسمى الإيمان، والقول بأنه شرط كمال هذا قول المرجئة "مرجئة الفقهاء" وإلا ماذا أنكر السلف على أبي حنيفة؟ أنكروا عليه هذا.

ولذلك أبو حنيفة يرى أن أعمال القلوب داخلة عنده، وإلا صاروا من المرجئة الغلاة، وبالأمس كان واحد يقول لي: الإيمان هو التصديق، هذا ليس صحيح، كيف الإيمان هو التصديق؟ هذا رأي الجهم.

على كلٍ يُنظر فيها بهذه الاعتبارات، يعني: استعمالها لا إشكال فيه ولو في الشرعيات، وإنما وقع في التعريف .. الشُّبهة هنا يقول لك: السلف ما قال: جنس.

طيب. السلف ما قال: صفات ذاتية، وصفات معنوية، وصفات منفكة، وصفات لازمة .. ما قالوا هذا الكلام.

وإنما نأتي بهذه التعبيرات من أجل إيصال الحق فقط، وحينئذٍ نقول: لا يُشترط أن نعبِّر بما عبّر به السلف في الشرح.

وأما في ضبط الحقائق والتعاريف هنا إجماعٌ على هذه الصيغة.

قال رحمه الله تعالى: (وإنما كانت هذه التعريفات) ..

لما انتهى مما يتعلَّق بقضية تعريفات، قال: (وإنما كانت هذه التعريفات رسوماً للكُلِّيّات؛ لجواز أن يكون لها ماهيّات وراء تلك المفهوم).

يعني: محل الخلاف هنا: لماذا قلت: (وَيُرسَمُ) لماذا لم تقل: يُحدُّ؟

لأن الحد يتعلق بالذاتيات، والرسم يتعلق بشيءٍ خارج عن الذاتيات .. بالأثر.

هل قولك: (يُرسَمُ) فراراً عن كون هذه الكُلِّيّات لا تُحد أم لا؟ هذا محل النزاع.

هل لها حدود أم لا؟

هو وافق كثير من المناطقة يقول: يرسم، ويرسم .. إلى آخره.

إذاً: ما قلت: يُحد، لو كان يُحد بالذاتيات بالجنس والفصل، إذاً: الذي مر معنا ليس جنس وفصل، لا يقال: هذا جنس وهذا فصلٌ؛ لأن هذا حقيقة الحد وإنما قال: يُرسم يعني: كلها خواص أو فصول.

هنا قال العطار: هذا شروعٌ في توجيه قول المصنف كغيره من المناطقة في تعريف الكُلِّيّات: وَيُرسَمُ بكذا، أو الاعتذار عن ذلك.

التوجيه أو الاعتذار، إن أخطأ نعتذر، على القاعدة عندهم لا يمكن أن تقول: هذا أخطأ، لا بد أن توجِّه، الأَولى كذا .. إلى آخره، هذا نمَط لهم.

قال: أو الاعتذار عن ذلك، وتزييف هذا الاعتذار، فليس الإتيان بقيل للتضعيف بل للنقل.

(قيل: وإنما كانت هذه التعريفات) هل قيل هنا للنقل عن غيره أم للتضعيف؟

يقول: لا. ليس للتضعيف، بل هي للنقل، أراد أن ينقل عن غيره فعبَّر بقيل.

لأن هذا الكلام شهيرٌ بينهم في هذا المقام، بعد أن يذكروا هذه التعريفات يأتون بهذه المسألة: هل هذه التعريفات حدود أو رسوم؟

حينئذٍ قوله: قيل ليس تضعيفاً، إنما هو لبيان شيءٍ اشتهر عند المناطقة.

قال الإمام في الملخَّص "هو الذي وصفه بالإمام" قال الإمام في الملخَّص: اختلفوا في أن هذه التعريفات حدودٌ أو رسوم؟

والمشهور أنها رسوم.

فإنهم يقولون: الجنس يُرسَم بكذا، والنوع بكذا، لكن الحق أنها حدود ..

هذا قول الإمام، إذا قيل الإمام المراد به: الرازي.

لكن الحق أنها حدود؛ إذ لا ماهيّة للجنس وراء هذا القدر.

(8/10)

________________________________________

ليس له ماهيّة إلا هذا المذكور، لو قلت: هذا تعبير ثُم ثَمَّ شيءٌ آخر وراء هذا التعريف لقيل: ثَم مفهوم وثَم حقيقة .. ماهيّة. فهل يصدق المفهوم على هذه الحقيقة؟ نعم.

لكن هو يقول: لا. ليس عندنا الجنس إلا هذا المذكور، فحينئذٍ صار حداً، لو كان هذا المفهوم والمذكور عندنا مقول ٌعلى كثيرين، هذا المفهوم شيءٌ آخر غير الماهيّة، فحينئذٍ صح أن يقال: بأن هذا رسم وليس بحقيقة، لكن هو عينه. وإذا كان كذلك فهو حدٌ لا رسم.

يقول: (اختلفوا في أن هذه التعاريف حدود أو رسوم، والمشهور أنها رسوم.

فإنهم يقولون: الجنس يُرسم بكذا، والنوع بكذا.

لكن الحق أنها حدود؛ إذ لا ماهيّة للجنس وراء هذا القدر، ضرورةَ أنا لا نعني بكون الحيوان جنساً إلا كونَه مقَولاً على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو).

هذا هو المراد: كونَه جنس، عندما تقول: الحيوان جنس ما المراد بالجنس؟

ليس عندنا حقيقة إلا كونُه مقولاً على كثيرين .. إلى آخر التعريف.

إذاً: صارت هذه الحقائق هي المعنِيَّة في التعاريف، فصار حداً لا رسماً، لو قلنا رسم لادَّعينا ثَم ماهيّة ونختلِف فيها، أين هذه الماهيّة، ما حقيقتها؟

إذاً: صارت هذه الألفاظ كالاسم مع المسمى، فهذه التعاريف كلها كالاسم إذاً: أين المسمى؟ هذا يحتاج إلى بحث، وهذا لا وجود له وإنما عينُ الجنس كونُه مقولاً على كذا.

ولذلك قال: (ضرورةَ أنا لا نعني بكون الحيوان جنساً إلا كونه مقولاً على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو. واعترَضه الكاتبي) اعترض كلام الإمام هنا.

(واعترضه الكاتبي بأنا لا نسلِّم أنه لا ماهيّة للجنس وراء هذا القدر) يعني: هذا مفهوم، وثَم ماهيّة.

(لِم لا يجوز أن تكون المقولية الموصوفة بالصفات المذكورة عارضةً لمفهومٍ وراءها وهو الجنس؟) أين هو؟ هذا جوازٌ عقلي فقط، أما في الوجود فلا وجود له، هذا تجويزٌ عقليٌ فقط.

(وأجيب -بما ذكره الشارح هنا-: بأن الكُلِّيّات أمورٌ اعتبارية حُصِّلت -أو حصلت لا إشكال فيه- ووضعت أسماؤها بإزائها، فليس لها معانٍ وراء تلك المفهومات) ليس لها معنًى إلا هذا المفهوم.

(على أن عدم العلم بالحد لا يوجب الرسمية).

يعني: هذا تسليمٌ آخر، إذا ما علمت الحد وما عرفت أن تحد الجنس ولا النوع. لا يلزم منه أن يكون المذكور رسمي؛ لأنك إذا ما علمت تقول: ما أدري ما الحدُّ، يلزم له حدٌ لكن لا أدري ما هو.

نرجع إلى كلام المصنف قال: (وإنما قيل).

قلنا: (قيل) ليس للتضعيف وإنما للنقل؛ لشهرة الكلام في هذا الموضع.

(قيل: وإنما كانت هذه التعريفات) أي المتقدمة: للجنس والنوع والفصل والخاص والعرَض العام.

(رسوماً للكُلِّيّات) أي: كما صرَّح به المصنف في قوله: في جميعها ويُرسم. في الحاشية.

(للكُلِّيّات) يعني: الخمس، تنازَع فيه التعريفات ورسوماً.

(لجواز أن يكون لها ماهيّات) ماهيّات فاعل يكون، "لها" للكُلِّيّات .. الضمير يعود للكُلِّيّات.

(أن يكون ماهيّات) يعني: حقائق.

(لها وراء تلك المفهومات) المعاني التي ذكرها المصنف، جائز أو لا؟ قال: يجوز.

إذاً: الذي معنا التعريفات السابقة قال: يُرسم. هذه مفاهيم .. مدلُولات.

(8/11)

________________________________________

مدلولات لأي شيء؟ لحقائق وراء ذلك المفهوم. فنحن لم نذكر تلك الحقيقة والماهية "حقيقة الجنس" وإنما ذكَرنا مفهوماً يدُلنا على الجنس، فرقٌ بين المسألتين.

قال: (لجواز) إذا قيل: لجواز المراد به العقلي فقط، دائماً "يجوز ولجواز" عند الأصوليين والمناطقة قولاً واحداً.

فإذا استُعمل في الخارج يكون عنده خلل في الاستعمال، وإلا إذا قيل: يجوز ولجواز المراد به الجواز العقلي، لا يلزم أن يكون في الخارج.

ولأن بحث الكُلِّيّات إنما هو في العقلي، هذا وجهٌ آخر.

(لجواز أن يكون لها ماهيّات) "لها" الكُلِّيّات، ماهيات أي: حقائق.

(وراء) أي: غيرَ.

(تلك المفهومات) أي: المعاني التي فُهِمت من التعريفات، التي ذكرها المصنف.

(وراء تلك المفهومات التي ذكرناها) يعني: في التعريفات.

(ملزوماتٌ مساوياتٌ لها).

(ملزومات) هذا نعت لماهِيّات.

(لها) أي: المفهومات.

(ملزومات لها دفَعَ بهما ما يقال إذا كان لها ماهيّات وراء تلك المفهومات، فتعريفُها بتلك المفهومات فاسدٌ وليس حداً ولا رسماً).

وإنما دُفِع لكونه قال: ذُكِر اللازم، وإذا ذُكِر اللازم وله ملزومٌ حينئذٍ لا يقال بأنه فاسد؛ إذ ذِكْرُ اللازم يستلزم الملزوم، هذا العكس .. هذا هو الأصل.

ذكرُ اللازم يستلزم الملزوم.

إذاً: ذكَرَ اللازم فهو يدل على الملزوم.

(لجواز أن يكون لها ماهيَّات وراء تلك المفهومات) التي ذكرناها (ملزوماتٌ) هذا نعت مفهومات.

(مساوياتٌ لها) لأي شيء؟ أي: المفهومات.

إذاً: (قيل: وإنما كانت هذه التعريفات) يعني: المتقدمة.

(رسوماً للكُلِّيّات الخمس لجواز أن يكون لها ماهيّات) يعني: حقائق.

(وراء) يعني: غيرَ.

(تلك المفهومات) يعني: المعاني التي ذكرناها في التعريفات.

(ملزومات) هذا نعتٌ لماهيّات.

(مساوياتٌ لها) للمفهومات.

قال هنا: (دَفَع بهما) يعني: ملزوماتٌ مساوياتٌ لها (دَفع بهما ما يقال) إذا كان لها ماهيّات وراء تلك المفهومات إذاً: لا يكون حداً ولا رسماً، يكون هذا فاسد.

ما العلاقة بين المفهوم والحقيقة؟ لا علاقة بينهما.

هو يقول: لتكون هذه المفهومات ملزومات، حينئذٍ ذكر اللازم ذِكرٌ للملزوم.

إذاً: ثَم علاقة كلٌ منهما يلزم الآخر، فإذا ذُكرت المفهومات كأنه ذَكَر تلك الحقائق، فلذلك قال: (دفع بهما ما يقال إذا كان لها ماهيّات غير تلك المفهومات فتعريفُها بتلك المفهومات فاسدٌ) لا يكون حداً ولا رسماً، لكنه قال: ملزوماتٌ مساوياتٌ لها.

فحيث لم تتحقق الماهيّات أطلق -يعني: المصنف- على تلك المفهومات الرسوم. هذا فاسد.

قال العلامة الرازي: وهذا بمَعْزلٍ.

"وهذا" أي: القيل.

"بمعزلٍ" أي: مكانٍ منعزل.

"عن التحقيق" على ما ذكره فيما سبق عن الإمام الرازي الذي ذكره العطار.

قال العلامة الرازي: وهذا بمعزلٍ عن التحقيق.

هناك قال: الإمام وهنا قال: العلّامة.

(لأن الكُلِّيّات) وهذا الجواب الصحيح (أمورٌ اعتبارية).

يعني: اعتبرها الذهن.

(حُصِّلت مفهوماتُها) يعني: ماهيّات تلك الماهيّات هي الكُلِّيّات، على ما ذكرها الشارح هنا.

(حُصِّلت) أي: اعتُبرت.

(مفهوماتها) أي: ماهيّاتٌ هي الكُلِّيّات.

إذا: لا فرق بين المفهوم والحقيقة هنا.

(8/12)

________________________________________

فالمفهوم: الذي اعتُبر في حد الجنس والنوع والخاصة هو عينُه الحقيقة، ليس عندنا مفهوم وعندنا حقيقة مغايرة، بل المفهوم هو عينُه، وإنما هي أمور اعتبارية اعتبرها المناطقة.

(أمورٌ اعتبارية حُصِّلت) يعني: اعتُبرت.

(مفهوماتُها) يعني: ماهيّاتٌ هي الكُلِّيّات -كما قال المحشّي هنا بإضافته للبيان- (ووضعت أسماؤها) الجنس والنوع .. إلى آخره (بإزائها) يعني: مقابل تلك المفهومات المحصَّلة.

(فليس لها) يعني: أسماء الكُلِّيّات.

(معان غيرُ تلك المفهومات، فتكون هي حدوداً) وهذا هو الصحيح أنها حدود، وإلا ليس عندنا ماهيّة إلا كونُها تقال على كثيرين.

قال هنا: (حُصِّلت مفهوماتُها).

قال العطار: يعني: أن الواضع حصَّل مفهوماتِها ثم وضَعَ الأسماء بإزائها.

على ما قيل في لفظ السماء وزيد .. إلى آخره، والمعنى واحد.

كما تقول: زيدٌ وضع لمسماه الذات المشخَّصة، هنا الجنس وضع لمسماه وهو مقُول على كثيرين لا فرق بينهما.

فلم يوضَع لشيءٍ ثُم ثَم شيءٌ آخر وراء ذلك وهو حقيقة لا، ليس هذا مراداً.

(فتكون هي حدوداً على أن عدم العِلم) هذا إشارة إلى اعتراضٍ آخر ..

إشارة إلى اعتراضٍ آخر هو: أن عدم العلم بأنها حدود لا ينتج الرسمية، وإنما يُنتج العلم بعدم الحدِّية.

(على أن عدم العلم بأنها حدٌ لا يوجب العلم بأنها رسوم، فكان المناسب ذكرُ التعريف الذي هو أعم).

يعني: يقول: ويُعرَّف بكذا، ولو قال: يُحدُّ لكان أدَق؛ لأن البحث هل هو حدٌ أو رسمٌ؟ والتعريف هذا يعُم الحد والرسم، فحينئذٍ رجعنا إلى البداية، فقوله: (فكان المناسب ذكرُ التعريف الذي هو أعم) هذا إذا أراد أن يسلَم من الاعتراض، فلا يُدرَى هل قوله: يُعرَّف بكذا هل هو حدٌ أو رسمٌ؟ لكن إذا صحَّحنا أنه حدٌ فالأصل أن يقال: يُحدُّ بكذا.

قال: (واعلم أن غرَض المنْطِقي) يعني: مقصودُه.

والمنطقي أي: بوضعِ علم المنْطِق وتدوينه.

(معرفةُ ما يوصِل إلى التصور) المجهول أو المعلوم؟ المجهول، لو قيَّده كان أجود.

(معرفةُ ما يوصل إلى التصور وهو: الْقَوْلُ الشَّارِحُ).

(ما يُوصل) يعني: الذي يوصلُ (إلى التصور وهو: الْقَوْلُ الشَّارِحُ).

(أو إلى التصديق) يعني: التصديق المجهول يعني: ما يوصل إلى التصديق المجهول (وهو الحُجة).

(ولكلٍ منهما) يعني: القول الشارح، والحجة.

(مقدَّمةٌ) أي: شيءٌ يتقدَّم عليه تمهيدٌ له، ومقدِّمة القول الشارح الكُلِّيّات الخمس، تسمى مبادئ .. تصورات.

ومقاصد التصورات هي المعرِّفات .. القول الشارح.

ومقدمة الحُجة القضايا، الحجة يعنُون به القياس، وبعضهم يقول: البرهان .. مقدمتُها القضايا.

ولذلك حُصِر فن المنْطِق في هذه الأبحاث الأربعة: باب الكُلِّيّات الخمس وما يتعلق بها من مقدماتها؛ لأنها مبادئ تصوُّرات، ثم يتلوها باب المعرِّفات لأنها مقاصد التصورات.

هذان بابان يتعلقان بالقسم الذي هو علم تصوُّر، ثم القسم الثاني علم تصديق له مبادئ وهي القضايا، وأنواعها وما يتعلق بها: التناقض والقياس .. إلى آخره.

ثم المقاصد "مقاصد التصديقات" وهي الحجة.

فهي أربعة أبواب؛ لأن العِلم محصورٌ في تصدِيق أو تصوُّر، وكلٌ منهما له مبادئ وله مقاصد.

(8/13)

________________________________________

قال هنا: (واعلم أن غرض المنْطِقي معرفةُ ما يوصل إلى التصور وهو: الْقَوْلُ الشَّارِحُ، أو إلى التصديق وهو الحُجة، ولكلٍ منهما مقدِّمة.

ولما فرغ من مقدمة الأول) يعني: القول الشارح الذي هو الكُلِّيّات الخمس.

(أخذ في بيانه) يعني: بيان القول الشارح.

فقال: (الْقَوْلُ الشَّارِحُ).

قوله: (مقدِّمة).

قال العطار: لفظ المقدِّمة يستعمله أرباب التدوين في مقدِّمة العلم ومقدِّمة الكتاب.

وإنما الذي شاع هنا أن يقال: مبادئ، هذا الشائع عند المناطقة، لا يُعبِّرون بالمقدمة، وإنما يقولون: مقدمة علم ومقدمة كتاب.

مقدمة العلم التي هي المبادئ العشرة، مقدمة كتاب الأمور الثمانية: أربع واجبة وأربع مستحبة.

وليس شيئاً من هذين المعنيين هنا. لا مقدِّمة الكتاب ولا العِلم.

إلا أن الشارح أطلق على كلٍ من هذين المعنيين لفظ مقدمة؛ لتحقق معنى التقدم فيهما، واستحقاقِهما له فإن الكُلِّيّات الخمس أجزاءٌ للقول الشارح، ولا شك أن الجزء مقدمٌ على الكل.

والجزء مقدمٌ على الكل طبعاً فقُدِّم وضعاً، وكذلك القضايا أجزاء الحجة، والجزء مقدمٌ على الكل طبعاً فقُدِّم وضعاً.

وغير الشارح يُعبِّر عن كلٍ منهما بالمبادئ؛ لكونهما في مقابلة المقاصد. وهو كذلك.

وليست هي مبادئ حقيقية؛ إذ مبادئ العلم خارجة عن العِلم وهي المسائل.

يعني: من باب الاصطلاح، المنازعة هنا في اصطلاحٍ وإلا أرادوا بالمبادئ ما يكون جزءاً منها، وإذا كان كذلك فلا اعتراض.

لكن هو يقول: مبادئ العلم المسائل الخارجة عنه وليست داخلة في العلم، فلو عبَّر بالمبادئ قد يوهم أنها ليست داخلة في علم التصور وليس الأمر كذلك، بل هي داخلة.

قال هنا: (وغير الشارح يعبّر عن كل منهما بالمبادئ؛ لكونهما في مقابلة المقاصد، وليست هي مبادئ حقيقية؛ إذ مبادئ العِلم خارجة عن العِلم وهي المسائل.

وكان الشارح استسهل إطلاق لفظ مقدِّمة عليها) يجوز اللفظان: مقدِّمة ومقدَّمة.

(لفظ مقدِّمة عليها عن إطلاق لفظ المبادئ لإيهامها خروجَهما عن العِلم).

هذا من باب الاعتذار فقط، وإلا الأصل أن يقول: مبادئ وهو أولى، ويراد به أنه جزءٌ من العِلم لا خارجٌ عن العلم.

وأما إذا قيل: مبادئ العلم -إنَّ مبادئ كل فنٍ عشرة- خارجةٌ عن العلم، هذا بقرينة السياق وبقرينة الكلام أنها سابقة عن العلم تُبيِّن معنى الحد والموضوع والفائدة والثمرة، فإذا أُطلق في أثناء الكتاب هنا -مبادئ- لا يُتصور أنها خارجةٌ كما أن الحد والموضوع خارجة، بل هي جزءٌ منها، فلا اعتراض على ما اشتَهر وشاع عند المناطقة.

قال: (الْقَوْلُ الشَّارِحُ).

وهذا نريد أن يكون الحديث متصلاً به، نقف على هذا والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!

(8/14)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

قال المصنف رحمه الله تعالى: (الْقَوْلُ الشَّارِحُ).

ولذلك قدَّم له المصنف هنا بقوله: (واعلم أن غرض المنْطِقي معرفة ما يوصل إلى التصور وهو القول الشارح، أو للتصديق وهو الحُجة، ولكلٍ منهما مقدِّمةٌ.

ولما فرغ من مقدمة الأول أخذ في بيانه فقال .. ).

كما عرفنا فيما سبق أن العِلم نوعان: عِلم تصوُّر، وعِلم تصديق.

والتصور له مبادئ وله مقاصد، مبادئه: الكُلِّيّات الخمس، وقد انتهينا منها. ومقاصده: المعرِّفات أو التعريفات أو القول الشارح.

وكذلك الشأن في العِلم الثاني "علم التصديق" له مبادئ وله مقاصد.

مبادئه: القضايا وأحكامُها، ومقاصدُه: القياس أو الحُجة أو البرهان.

قال هنا: (لما فرغ من مقدمة الأول) يعني: القول الشارح الذي هو علم التصور (أخذ في بيانه فقال: القول الشارح).

(الْقَوْلُ الشَّارِحُ) أي: هذا بابُ بيان أقسام القول الشارح، فهو عنوان أو ترجمة.

(الْقَوْلُ الشَّارِحُ) ويرادفُه المعرِّف بكسر الراء، المعرِّف والقول الشارح مرادفٌ له.

وقوله: (الْقَوْلُ الشَّارِحُ) هذا مركَّب توصيفي.

(الْقَوْلُ) يُطلق على الملفوظ والمعقول. يعني: المعقولات تُطلَق عليها أنها قول، كذلك الملفوظات، الملفوظات واضح وهو بحثٌ لغوي.

وعند المناطقة يُطلق على المعقول أنه لفظ.

(ولا بد أن يكون مركَّباً).

(الْقَوْلُ الشَّارِحُ) القول لا بد أن يكون مركباً.

(لأنهم) يعني: المناطقة.

(رفضوا التعريف بالمفرد، بل قيل: إنه غير صحيح.

وذكر السيد تبعاً للقُطب أن الحق هو: أن التعريف بالمعاني المفردة جائزٌ عقلاً، إلا أنه لما لم ينضبط انضباط التعريف بالمعاني المركبة ولم يكن أيضاً للصناعة فيه مدخلٌ لم يلتفتوا إليه).

قال: (وهذا هو تحقيق ما نُقِل عن ابن سينا) يعني مَنْعه التعريف بالمفرد.

إذاً: التعريف بالمعاني المركَّبة هذا هو الأصل، والعملُ على هذا.

أما هل يُعرَّف بالمعاني المفردة؟ فهذا من حيث الجواز العقلي هو الذي وقع فيه، منهم من أثبت ومنهم من نفى، لكن هل يقع في الخارج لكونه لا ينضبط كانضباط القول المركَّب؟ حينئذٍ لا يُلتَفت إليه، وإنما يُلتفت إلى المعاني المركبة.

إذاً: (الْقَوْلُ) المراد به المركَّب سواء كان القول يُطلق ويراد به الملفوظ أو المعقول.

حينئذٍ مركَّبٌ ملفوظ ومركَّبٌ معقول، صارت القسمة ثنائية: مركَّب معقول ومركَّب ملفوظ.

(الْقَوْلُ الشَّارِحُ) الشارح هذا نعتٌ له، إذا جعلناه على ظاهره.

قال: (الشَّارِحُ) (سُمّي به لشرْحِه الماهيّة).

هكذا في نسخة: (سُمّي به لشرحه الماهيّة).

(وفي نسخة) وهي التي عليها الحاشية هنا الظاهر: (سُمّي شارحاً لشرحِه الماهيّة).

على هذه النسخة (سُمّي شارحاً لشرحه الماهيّة) لا اعتراض؛ لأن هذا التعليل لا لكونه قولاً وإنما لكونه شارحاً.

(9/1)

________________________________________

عندنا مركَّب توصيفي (الْقَوْلُ الشَّارِحُ) قوله: (سُمّي به) الضمير يعود إلى أي شيء؟ هذا محل الإشكال.

هل المراد (سُمّي به) يعني: بـ (الْقَوْل الشَّارِحُ) أو أنه للمقيِّد أو القيد الذي هو الشارح؟ لا شك أنه للثاني ليس للأول.

يعني: سُمّي به يعني: بالشارح لا بالقول، ولذلك الحاشية عندكم على النسخة الثانية (سُمّي شارحاً لشرحه الماهيّة) هذا لا اعتراض .. لا إشكال فيه واضح. يعني: التعليل إنما هو وقع للقيد الثاني لا للموصوف.

(في نسخةٍ سُمّي شارحاً لشرحه الماهيّة) فلا اعتراض؛ لأنه ظاهر وهو واضحٌ بيِّن.

لأن ظاهر قوله في هذه النسخة: أن ذلك عِلَّة لمجموع قوله: الْقَوْلُ الشَّارِحُ.

(سُمّي به) يعني: بالقول الشارح، هذا ظاهرُه.

لأن ظاهر قوله في هذه النسخة -لشرحه الماهيّة-: أن ذلك عِلَّة لمجموع قوله: الْقَوْلُ الشَّارِحُ. وليس كذلك بل لقوله: الشَّارِح فقط.

ويمكن أن يقال -على تسليم صحة هذه النسخة-: إنه تفسيرٌ لقوله: الشَّارِحُ. فقط أيضاً فتوافقت النسختان.

لأن القول يُطلق على المركَّب الملفوظ والمعقول، فشهرتُه في الاصطلاح تُغني عن ذكره.

يعني: لا يحتاج أن يبيّن لنا القول لأنه مشهور، اشتهر في اصطلاح المناطقة مما لا يحتاج إلى ذِكْر أن القول إنما يُستعمل في المركَّب المعقول والملفوظ.

إذاً: الذي يحتاج إلى بيان وإيضاح هو قوله: (الشَّارِحُ) وأما (الْقَوْلُ) فلا يحتاج إلى بيان.

ولذلك قيل: (سُمّي به) يعني: الشارح، طيب الضمير يحتمل أنه يعود إلى القول الشارح نقول: لا. ليس مراداً القول؛ لأنه لا يحتاج إلى إيضاح، بل اشتهر عندهم أن المراد به القول المعقول أو الملفوظ.

إذاً: قولُه سُمي به أي: الشارح.

(سُمّي به لشرحه الماهيّة بتبيينها ولو في الجملة) والشرح هو الإيضاح كما مر معنا في أول الكتاب: هذا شرحٌ لطيف.

الشرح هو الإيضاح والكشف.

(بتبيينها ولو في الجملة، أو تمييزها) فشمِل الحد تاماً وناقصاً، والرسم كذلك، وسُمِّي قولاً لتركيبه والقول عند المناطقة هو المركَّب، زاد بعضهم: تركيباً تاماً. وهذا سيأتي أن فيه خلافاً: هل القول يدخل تحته التركيب الناقص أو لا؟ الشارح عمَّم كما سيأتي.

إذاً: (سُمِّي به) أي: بالشارح (لشرحِه الماهيّة) لشرحه وكشفه وإيضاحه الماهيّة يعني: ماهيّة الشيء المعرَّف ولو في الجملة أو تمييزها.

وحينئذٍ دخل: الحد التام، والحد الناقص، والرسم التام، والرسم الناقص.

يعني: شمِل أنواع التعريف الأربعة.

قال: (ويقال له) يعني: يُسمَّى (التعريف).

أصله مصدر عرَّف المضاعف أي: التبيين، نُقِل إلى المعرِّف بالكسر لعلاقة التعلُّق الاشتقاقي والمناسب زيادة أيضاً والمعرِّف.

يعني: يقال له القول الشارح، والمعرِّف، والتعريف. كلها أسماء والمسمى واحد.

(الْقَوْلُ الشَّارِحُ) وهذا اصطلاح المناطقة.

والتعريف والمعرِّف. هذا قد يشترك معهم غيرهم.

قال: (ومعرِّف الشيء) أراد أن يبيّن لنا حقيقة القول الشارح.

(ومعرِّف الشيء: ما تستلزم معرفتُه معرفتَه).

معرِّف الشيء بالكسر، معرِّف اسم فاعل، إضافته لامية يعني: معرِّفٌ للشيء.

إضافة لامية على معنى اللام يعني، معرِّفٌ للشيء أي: ماهيتِه وحقيقته. والشيء المراد به: الماهيّة.

(9/2)

________________________________________

معرِّف الشيء يعني: الكاشف للماهية والحقيقة، المراد به المعرَّف.

قال: (ما تستلزم معرفتُه معرفتَه) معرفتُه بالرفع على أنه فاعل، ومعرفتَه بالنصب على أنه مفعولٌ به.

قال العطار: لفظ المعرفة يُطلق على أمرين: أحدها: اتضاح أمرٍ للعقل بعد أن كان مجهولاً له.

لفظ المعرفة كثير في الاصطلاحات يفرِّقون بينها وبين العلم، وإن كان المعنى اللغوي الظاهر التساوي بينهما "اتحاد اللفظين" العلم بمعنى المعرفة والمعرفة بمعنى العلم.

على كلٍ هنا قال: تُطلق، وقد يقال بأنه استعمالٌ لغوي في بعض المواضع، وقد يقال بأنه اصطلاح في بعض الفنون، ولا مشاحة في الاصطلاح.

خاصة إذا جُعل للعلم معنًى خاصاً يعني: اصطلاحاً، حينئذٍ لا مانع أن يقال بأن ثم معنى يتعلق به بالمعرفة وهو اصطلاحٌ كذلك.

قال: لفظ المعرفة يُطلق على أمرين: أحدِهما: اتضاح أمرٍ للعقل بعد أن كان مجهولاً له. وهذا أشبه ما يكون بالإدراك، أدرك المعنى فاتضح له، سواء كان المعنى مفرداً أو كان المعنى مركباً.

الثاني: خطور أمرٍ للعقل. يعني: خَطَر، وقد يكون عن غفلة أو سهوٍ فخطر يسمى معرفة.

إذاً: ما يزال به الجهل واتضاح الأمر بعد أن كان مجهولاً يسمى معرفة، إذا كان ثم غفلة أو سهوٌ وحصل خُطور للمفرد أو المركب بالبال يسمى معرفة .. يُطلق ويراد به هذا المعنى ويُطلق ويراد به المعنى الثاني.

قال: ولفظ المعرفة وقع في التعريف ثلاث مرت: معرِّف الشيء، معرفتُه، معرفتَه. ثلاث مرات وقع لفظ المعرفة.

ولفظ المعرفة وقع في التعريف ثلاث مرت: أحدُها: قوله: المعرِّف فإنه مشتقٌ من لفظ المعرفة.

الثاني والثالث: قوله: ما تستلزم معرفتُه معرفتَه. هذه ثلاث مواضع.

إذاً: وعندنا المعرفة بمعنيين، ما المراد؟ معرِّف الشيء، معرفتُه، معرفتَه .. ما المراد؟ هل المراد التحصيل، أو اتضاح الشيء بعد أن كان مجهولاً؟ هل المراد خطور الشيء بالبال؟

قال: فالمعرِّف أولاً -معرِّف الشيء- بمعنى المحصِّلِ لما كان مجهولاً عند العقل. هذا واضح من كونه باسم الفاعل معرِّف، إذاً: محصِّل.

محصِّل لأي شيء؟ لما كان مجهولاً عند العقل.

والثاني -الذي هو الفاعل .. معرفتُه- بمعنى الخطور بالبال. خَطَر بالبال.

والثالث بالمعنى الأول: الذي هو: اتضاح أمرٍ للعقل بعد أن كان مجهولاً له، لماذا؟ لأن الثاني هو النتيجة .. معرِّف الشيء: ما تستلزم معرفتُه معرفتَه، معرفتَه هذا المفعول به لا بد أن يكون منكشِفاً ومتضحاً بعد أن كان مجهولاً.

إذاً: لئلا يلزم الدور، حينئذٍ لا بد أن نجعل معرفتُه الذي هو فاعل بمعنًى مغاير، وإلا الشيء لا يُحصِّل نفْسَه، وإلا كيف يكون ضرب زيدٌ زيداً؟ هل يصح هو الضارب نفسه ضرب زيدٌ زيداً؟ لا يصح، كيف معرفتُه معرفتَه؟ إذاً: لا بد أن نفْصِل.

فنجعل معرفتُه -التي هي الفاعل- بمعنى الخطور بالبال، ومعرفتَه -التي هي المفعول به- بمعنى اتضاح الشيء بعد أن كان مجهولاً.

والمعرِّف بمعنى المحصِّل ولا إشكال، إذاً: لا اعتراض.

(فالمعرِّف إذا ذُكر للسامع كان مقصوداً منه: أن هذه الأجزاء اشتمل عليها المعرِّف، وكانت معلومة عند السامع تُذكر لتخطُر بباله، ويؤتى بها محمولة على المعرَّف فيحصل له بسبب ذلك ما كان مجهولاً عنده).

(9/3)

________________________________________

لأنه يقول: ما الإنسان؟ حيوانٌ ناطق.

بالنسبة للسامع ما الذي يجهله من هذا التركيب؟

أنا سألتكم: ما الإنسان؟

قلتم: حيوانٌ ناطق.

هل أنا أجهل حيوان ناطق؟ لا. وإلا ما حصل التعريف، أنت تأتي بكلمات معلومة عندي أنا السائل.

إذاً: الذي وقع عنه السؤال وقع جهلي به هو معنى مفردة الإنسان، فسألتُ: ما الإنسان؟ حينئذٍ تأتي بالتعريف أنت فتقول: حيوانٌ ناطق. إذاً: لما قلت: حيوان ناطق حصل عندي انكشاف بسبب هذه المعلومات التي هي مستقرة عندي، وهذا الذي يُعنى به، ولذلك قال: (فالمعرِّف) حيوانٌ ناطق (إذا ذُكر للسامع كان مقصوداً منه: أن هذه الأجزاء) حيوان ناطق (اشتمل عليها المعرِّف، وكانت معلومة عند السامع) لا بد أن تكون معلومة، وإلا لا يُرفع المجهول بالمجهول. الإنسان مجهولٌ عندي فتأتي بلفظٍ مجهول حيوان وأنا لا أدري معنى حيوان، وحينئذٍ يلزم أسألك؟

ما الإنسان؟ حيوانٌ ناطق، طيب ما الحيوان الناطق؟ فتأتي بكلمات، إذاً: مجهولة عندي ونبدأ إلى الصباح، لا بد أن يكون اللفظ الذي يقع جواباً في المعرِّفات أن يكون معلوماً عند السامع فيحصل به الانكشاف.

ولذلك قال العطار: (فالمعرِّف إذا ذُكر للسامع كان مقصوداً منه: أن هذه الأجزاء) حيوان ناطق مثلاً (اشتمل عليها المعرِّف، وكانت معلومة عند السامع تُذكَر لتخطرَ بباله) لأنها ستُحرِّك ما عنده، لا بد أن يصل بالمعلوم عنده إلى المجهول فتنتهي المسألة.

قال: (ويؤتى بها محمولة على المعرَّف).

الإنسان حيوانٌ ناطق، فجئت بالحيوان الناطق، المعلوم عند السامع جعلتَه محمولاً على المعرَّف الذي هو الإنسان، لا بد من هذه النسبة، وإلا ما يحصل عند السامع الانتباه إلى أن ثم ارتباط بين المعرِّف والمعرَّف.

قال: (ويؤتى بها محمولةً على المعرَّف فيحصل له بسبب ذلك ما كان مجهولاً عنده، وهو كونُ تلك المعقولات التي كانت معلومةً عنده، وأُخطِرت الآن بباله جملتُها هي: حقيقةُ المعرَّف).

فيعرف معنى الحيوان ويعرف معنى الناطق، وقد يُدرِك النسبة بينهما، لكن لا يدري أن هذه حقيقة الإنسان، فالمعرِّف يجعل عنده شِبْه انتقال وترتيب فقط، وإلا لا يأتي بشيءٍ جديد خارج عنه إلا إذا احتاج إلى تفسير لفظٍ فحينئذٍ يكون خارجاً عن الحد.

وإلا إذا قال له: حيوانٌ ناطق كأنه قال له: انتبه! كلمة حيوان معلومة عندك، وكون ناطق معلومة عندك، لكن أنت اربط بينهما واجعل بينهما نسبة، واجعلها محمولاً "يعني: محكوماً به" على الذي عندك –المجهول- فينكشف الحال، وهذا المراد بالتعريف.

(فيحصل له بسبب ذلك ما كان مجهولاً عنده، وهو كون تلك المعقولات التي كانت معلومة عنده، وأُخطرت الآن بباله جملتُها هي: حقيقة المعرَّف التي كانت مجهولة عنده، هذا هو معنى كلامه) هكذا قال العطار وهو واضحٌ بيّن.

قال: (ومعرِّف الشيء ما تستلزم معرفتُه معرفتَه) معرفتُه أي: المعرِّف بالكسر، معرفتَه أي: الشيء المعرَّف بالفتح.

قال: (فلفظ ما جنس واقعٌ على قولٍ أو أمرٍ).

وقوله: (تستلزم .. إلى آخره، فصلٌ لتحقيق ماهيّة المعرِّف وإخراج غيره).

بقي إشكال: "ما تستلزم معرفتُه معرفتَه" هل هذا الحد يشمل الحد الناقص والرسم بنوعيه أو لا؟

(9/4)

________________________________________

قال المحشي: (بُحث فيه) يعني: في هذا التعريف.

هل المراد بالمعرفة بالكُنْه أو بوجهٍ ما؟

بالكُنه يعني: بالحقيقة على الوجه التام، إذا قيل: على الوجه التام فحينئذٍ يُحمَل التعريف على الحد التام؛ لأنه هو الذي يكون بالذاتيات، وما عداه الذي هو الرسم وغيرُه، وقد يكون كذلك الحد الناقص يكون خرج، إن قلنا بوجهٍ ما يعني: معرفةٍ ما ولو ببعض الذاتيات، فيدخل فيها من بابٍ أولى جميعُ الذاتيات.

هل المراد بالمعرفة من كل وجه؟ أقصاها وهي التي تحصل بالذاتيات، فيكون الحد هنا خاصاً بالحد التام، أو المعرفة بوجهٍ ما؟ هذا محل النزاع.

(وبُحث فيه بأنه إن أُريد بالمعرفة بالكنه) يعني: بالحقيقة، وهذه إنما تكون بالذاتيات يعني: حد التام.

(لم يشمل الرسم) بالذاتيات على كلامه (لم يشمل الرسم) يعني: بالذاتيات ولو ببعضها.

(وإن أُريد المعرفة بوجهٍ ما لم يشمل الحد) خرجت يعني.

(فالمناسب زيادة) على ما اشتهر عند صاحب الشمسية وغيره.

(أو امتيازه) يعني: تمييزه عن غيره؛ لأن الرسم لا يحصل به تمييز الحقيقة؛ لأنه لا يكون بالذاتيات .. الرسم لا يكون بالذاتيات، وإنما الحد هو الذي يكون بالذاتيات.

"تامة" فالحد التام، أو بعضها فالحد الناقص.

إذاً: ما عداه الذي يكون بالعرَضيات هذا هو الرسم، حينئذٍ لا يحصل به.

ولذلك قال: (أو امتيازُه) يعني: تمييزه عن غيره.

كما يقال: ما الإنسان؟ يقال: الضاحك، الضاحك هذا ليس داخلاً في مفهوم الإنسان، وإنما هو خاصة له يعني: عرَض، ومر معنا أنه عرضٌ خاص يعني: خاصةٌ أو لازمة.

فحينئذٍ نقول: الضاحك هذا ليس داخلاً في الماهيّة؛ لأن ماهيّة الإنسان مؤلَّفة من جزأين اثنين فقط: حيوان، ناطق.

والضاحك هذا منفكٌ عنه، والمراد بالضحك هنا الضحك بالقوة.

فحينئذٍ هل هذا داخلٌ في الحد: معرفتُه معرفتَه؟ الظاهر لا. ولا بد من إدخاله، فنقول: (أو امتيازُه).

إلا إذا حملنا "معرفتُه معرفتَه" ولو بوجهٍ ما، حينئذٍ دخل ما يحصل به التمييز، وعلى هذا المعنى حمله العطار قال: لا نحتاج إلى امتيازه.

إذاً: هل الزيادة نحتاجها أو لا؟ مبنيٌ على تفسير المعرفة، هل المراد بالمعرفة بالكُنه بالحقيقة الواقعة بالذاتيات؟ فيشمل الحد بنوعيه على ظاهر كلام المحشي: التام والناقص، أو المراد بالمعرفة ولو بوجهٍ ما؟ فلا يُشترط حينئذٍ أن يكون بالذاتيات بل ولو بالعرضيات. هذا محل نزاع والأمر واضح بيّن.

قال: (فالمناسب زيادة: أو امتيازُه.

فالحد التام تستلزم معرفتُه المعرفة، والحد الناقص والرسم مطلقاً تستلزم معرفتُه التميُّز) فحينئذٍ يمتاز أو يتميّز بالآثار والعرَضيات التي تكون مميزةً له، وأما الذاتيات فلا.

قال هنا في الشمسية في تعريف المعرِّف: (معرِّف الشيء ما تستلزم معرفتُه معرفتَه أو امتيازَهُ) بالنصب، أو امتيازَهُ يعني: ما تستلزم معرفتُه امتيازَه.

(أو امتيازَهُ عن كل ما عداه).

وفي شرحها للقطب (إنما قلنا: أو امتيازه إلى آخره ليتناول الحد الناقص) بخلاف أول كلام المحشي (ليتناول الحد الناقص والرسم).

لأنه إذا قيل: "معرفتُه معرفتَه" حُمل على الكمال وهو أن يقع بالذتيات على جهة الكمال، فلا يكون كذلك إلا في الحد التام.

(9/5)

________________________________________

(ليتناول الحد الناقص والرسم، فإن تصوراتها لا تستلزم تصور حقيقة الشيء دون امتيازه عن جميع أغياره).

إذاً: معرِّف الشيء ما تستلزم معرفتُه معرفتَه.

قال هنا العطار: (ويرِد على هذا التعريف أمور:

الأول: أن لفظ المعرفة إن كان حقيقة فيهما، لزم اشتمالُ التعريف على المشترَك) يعني: في المعنيين السابقين، قلنا: يأتي بمعنى الإيضاح وبمعنى خطور البال.

حملنا الأول على الأول والثاني على الثاني، أو حملنا الأول على الثاني والثاني على الأول.

الأول: هو اتضاح الشيء بعد أن كان مجهولاً عنده، وهذا فسَّرنا به المفعول به: معرفتَه.

أو المعنى الثاني: خطور الشيء بالبال عن غفلة أو سهو.

حينئذٍ حملنا المعنى الأول -معرفتُه الذي هو الفاعل- عليه. إذاً: المعرفة تُستعمل بهذين المعنيين، هل هو مشترَك لفظي أو أنه حقيقةٌ في النوع الأول ويكون مجازاً في الثاني أو بالعكس؟ ويلزم منه ماذا؟

وقوعُ المشترَك اللفظي في التعريف، وهو ممنوعٌ عند الجماهير.

والثاني: استعمالُ المجاز في التعريف، وهو ممنوعٌ عند الجماهير. إذاً وقعنا في إشكال، هذا أو ذاك.

الأول: أن لفظ المعرفة إن كان حقيقة فيهما "المعنيين السابقين" لزم اشتمال التعريف على المشترك وهو ممنوع، أو حقيقة ومجاز لزم دخول المجاز في التعريف وهو ممنوع.

وإن كان الصواب ما ذهب إليه الغزالي -أبو حامد-: أنه يجوز دخول المجاز في التعريف، لكن إذا وُجدت قرينة ظاهرة واضحة بيّنة، وكذلك المشترَك يجوز دخوله في التعريف لكن بشرط: أن يكون ثَم قرينة، فكل ما وُجدت فيه قرينة جاز؛ لأنه مُنِع من المشترك، ومُنع من المجاز لئلا يرد الوهم بأن غير المحدود –مثلاً- يكون داخلاً في الحد.

فإذا أمكن دَفْعُه بلفظٍ، بوصفٌ، بقرينة حينئذٍ لا إشكال فيه، فيستعمل اللفظ المشترك لكن بقرينة، ويُستعمل المجاز لكن بقرينة.

قال هنا: (فأُجيب عنه) يعني: أجاب بعضهم .. لا يرتضيه العطار.

أجاب بعضهم (بأنا نختار الثاني) أنه مجاز لا مشترَك.

(وقرينة المجاز) أين القرينة؟

قال: (قرينة معنوية، وهي امتناع تعريف المجهول بالمجهول).

هذه قرينة ليست ظاهرة "خفية" ولا يُعدل إلى القرائن الخفية، لا بد تكون قرينة واضحة بيّنة ظاهرة، كل من يقرأ التعريف يقف على القرينة، فإذا كان كذلك فحينئذٍ لا يُستعمل المجاز.

إذاً القول بأنا نختار الثاني وهو أنه مجاز، فأين القرينة؟ قالوا: معنوية ليست لفظية، ما هي هذه القرينة؟

قال: (امتناع تعريف المجهول بالمجهول).

صحيح يمتنع تعريف المجهول بالمجهول، ولذلك قلت لكم: إذا كان يجهل معنى الحيوان الناطق فلا يمكن أن يرفع به جهله بالإنسان، لا بد أن يكون معلوماً، هذا حق.

لكن كيف نصل إلى هذه القرينة؟ هذه القرينة بعيدة.

قال: (وهذا الجواب ضعيف؛ لأن هذه القرينة خفيّة، فالأحسن الجواب بمنع الاشتراك والحقيقة والمجاز).

لا نقول: مشترَك، ولا نقول: حقيقة ولا مجاز، وإنما نقول: هو من قبيل المتواطئ.

(9/6)

________________________________________

فيُستعمل في معنييه؛ لأنك لو تأملت التفرقة بين المعنيين هذه تفرقة اعتبارية، خطُورُهُ بالبال بعد أن لم يكن، إذاً: حصل فيه انكشاف، وإن كان في الأول رَفعَ به جهلاً، والثاني لم يرفع به جهلاً وإنما كشف الغفلة التي عمَّت على الشيء المعلوم عنده.

يعلمه هو، لم يكن جاهلاً به، لكنه مثلاً نسيه أو غفل عنه، فيأتي هذا المعرِّف فيرفع عنه ذلك الشأن.

إذاً: بينهما فرقٌ اعتباريٌ فقط وإلا متقاربان.

قال: (والأحسن الجواب بمنع الاشتراك والحقيقة والمجاز، والمصير إلى ما اختاره البعض من إطلاق المعرفة على المعنيين من قبيل المتواطئ).

ومر معنا المتواطئ، هو نوعٌ من أنواع الكلِّي.

قلنا ينقسم الكلِّي إلى قسمين باعتبار استواء أفرادِه في معناه وعدمها، فإن استوى الأفراد في المعنى فهو المتواطئ، وإن اختلفا بالشدة أو التقدُّم قلنا هذا المشكِّك.

جعَلَه هنا العطّار من قبيل المتواطئ.

(فهي بمعنى تصور الشيء الذي هو قدرٌ مشترَك بين ما كان عن جهلٍ أو غفلة).

يقول: (من قبيل المتواطئ فهي بمعنى تصور الشيء) إذاً: ما هي المعرفة في النوعين؟ تصور الشيء.

إذاً: حصل في المعنى الأول تصور، وحصل في المعنى الثاني تصور. إذاً: هذا قدرٌ مشترك.

(تصور الشيء الذي هو قدرٌ مشترك بين ما كان عن جهلٍ) وهو المعنى الأول (أو غفلة).

(عن جهلٍ أو غفلة) ولا فرق من حيث الجهل والغفلة فيما يترتب عليهما من أحكام.

(الثاني) الاعتراض الثاني (أن قوله: ما يستلزم معرفتُه معرفتَه يقتضي أن مجرّد تصور المعرِّف يكفي في تصور الحقيقة، وليس كذلك.

بل السبب مجموعُ أمرين: التصور المذكور، وحملُ المعرِّف على الحقيقة).

يعني: لا بد أن يكون عندنا محكوم ومحكوم عليه، ما الإنسان؟ تقول: حيوانٌ ناطق الجواب. حيوان ناطق هذا لا بد أن تجعله محمولاً، أين الموضوع؟ الإنسان.

إذاً: لا بد من ربط، أما التصور المفرد هذا لا يكفي، لكن هذا معلوم، هذا لا يحتاج إلى تنصيص.

قال: (أن قوله: ما يستلزم معرفتُه معرفتَه يقتضي أن مجرَّد تصور المعرِّف يكفي في تصور الحقيقة، وليس كذلك.

بل السبب مجموع أمرين: التصور المذكور، وحملُ المعرِّف على الحقيقة، ولذا قال في التهذيب: معرِّف الشيء ما يقال عليه).

الحيوان والإنسان معرِّف الإنسان، ما يُحمل عليه .. على من؟ على الإنسان.

(معرِّف الشيء) يعني: كمعرِّف الإنسان حيوان ناطق (ما يقال عليه) يعني: ما يُحمل عليه، لا بد من هذه النسبة.

وأما تصور المفردات هذا لا يكفي.

قال: (ما يقال عليه لإفادة تصوره.

وقد يجاب) يعني: عن هذا الاعتراض، أن ظاهره لا يستلزم الحمل لا.

نقول: (يجاب عن هذا بأنه: لما كان أمر الحمل شهيراً لم يتعرض له) هذا لا بد منه. يعني: أمر أشبه ما يكون بأنه فطري لا يحتاج إلى تنصيص؛ لأنه يسأل: ما الإنسان؟ تقول له: حيوان ناطق.

إذاً: يُدرِك العقل ببداهة النظر أن الجواب هذا واقعٌ على المسئول عنه، فيكفي هذا.

ولذلك قال: (بأنه: لما كان أمر الحمل شهيراً لم يتعرض له؛ إذ المعرِّف لا بد وأن يُحمل على المعرَّف، وبه يندفع الاعتراض.

قال القطب: معرِّف الشيء ما يكون تصوره سبباً لتصور الشيء).

(9/7)

________________________________________

تصوره كالحيوان الناطق سبباً لتصور الإنسان، ولا بد أن يكون تصور الشيء الأول هذا معلومٌ عند السامع.

(والمراد بتصور الشيء التصور بوجهٍ ما) أراد هنا أن يرجع إلى قضية المعرفة (بوجهٍ ما) هذا كلام العطّار.

(أعم من أن يكون بحسب الحقيقة) بالكُنه، الذي عبَّر عنه المحشي هنا: المعرفة بالكنه. يعني: بالحقيقة بذاتِها يعني: الذاتيات.

(أو بأمرٍ صادق عليه؛ ليتناول التعريف الحد والرسم معاً).

وهنا في الشرح: أراد الشارح (يُراد بالمعرفة بوجهٍ ما)، إذاً: قوله: (بوجهٍ ما) هذا تفسير من العطار لتعريف الشارح هنا (ليشمل الرسمَ).

وإن جعلناه على وجه التمام ولم نجعله بوجهٍ ما لا بد من زيادة: "أو امتيازه عن غيره" ليدخل الرسم.

قال رحمه الله تعالى: (ومُعرِّف الشيء ما تستلزم معرفتُه معرفتَه، والتعريفُ إما حدٌ أو رسمٌ، وكلٌ منهما إما تامٌ أو ناقص).

كم هذه؟ اثنين × اثنين= أربعة.

إذاً: [حدٌ تام، حدٌ ناقص] .. [رسمٌ تام، رسمٌ ناقص] هذه أربعة.

قال: (ودليل حصرِه) يعني: التعريف؛ لأنه قال: (والتعريف إما حدٌ أو رسمٌ).

(ودليل حصره) يعني: التعريف في الأربعة التي هي: الحد التام، والناقص، والرسم التام، والرسم الناقص.

(أنه) أي: الحد أو التعريف.

(إما أن يكون بجميع الذاتيات فهو الحد التام).

(إما أن يكون بجميع الذاتيات) يعني: الذات المركّبة، هنا قلنا: لا بد التعريف ما يكون إلا في المركّبات، لا بد أن يكون عندنا تركيب، قلنا: القول المراد به المركّب، واشتهر ذلك عندهم وأُطلق لأن التعريف بالمفردات "المعاني المفردة" لا يقع، يجوز عقلاً لكنه لا يوجد لعدم انضباطه.

إذاً: لا بد أن يكون مركَّباً.

إذا قيل: الإنسان الحيوان هذا جزءٌ، الناطق هذا جزء.

إذاً: لا بد أن يتألف من جزأين.

هنا الجزءان كلٌ منهما ذاتيٌ؛ لأن الحيوان جنس وهو نوعٌ من أنواع الكلِّي الذاتي، والحيوان الناطق هذا فصلٌ وهو كُلّيٌ ذاتيٌ.

إذاً: حصل هنا التعريف بالذاتيات، هل ثم جزءٌ ثالثٌ يُحقق حقيقة الإنسان غير ما ذُكِر؟ لا. إذاً: جاء الحد هنا أو التعريف بجميع الذاتيات، ليس عندنا شيءٍ ناقص البتة.

لو قال: الإنسان الحيوان فقط ببعض الذاتيات، بقطع النظر عن صحة التعريف، نقول: جاء ببعض الذاتيات، لو قال: الإنسان الناطق. جاء ببعض الذاتيات لا بجميعها.

إذاً: متى يكون الحد تاماً؟

نقول: يكون الحد تاماً إذا جاء في التعريف بجميع الذاتيات، لم يترك ذاتياً أو جزءاً واحداً منها.

إذاً: (إما أن يكون بجميع الذاتيات فهو) أي: هذا التعريف (الحد التام) يعني: المسمى في الاصطلاح بالحد التام.

(أو) للتنويع (ببعضها) أي: ببعض الذاتيات.

قيَّده في الحاشية العطّار (من غير انضمام عرَضٍ إليها).

(ببعضها) واضح أنه الذاتيات.

(من غير انضمام عرضٍ إليها) لأنه لو انضم عرضٌ إليها قد يكون رسماً، والمراد هنا النوع الثاني من نوعي الحد وهو الناقص، ولذلك قال المحشي هنا: (ببعضها صادقٌ بالجنس وحدَه قريباً أو بعيداً، وبالفصل البعيد).

فيأتي بالفصل البعيد ويأتي بالجنس وحده، هذا يسمى الحد الناقص، ولذلك قال: (فالحد الناقص) وهو ما كان ببعض الذاتيات من غير انضمام عرضٍ إليها.

(أو) للتنويع.

(9/8)

________________________________________

(بالجنس القريب والخاصة) الجنس القريب هذا ذاتي، والخاصة هذا عرَضي.

إذاً: جمَع بين كُلّيٍ ذاتي، وكُلِّيٍ عرضيٍ. إذاً: زاد على الذاتيات، لم يختص الحد بالذاتيات، ولم ينقص عن الذاتيات فيُكتفى بالذاتيات، بل جاء ببعض الذاتيات وزاد عليه بعض العرضيات.

(أو بالجنس القريب والخاصة فالرسم) يعني: فهو الرسم .. يسمى.

(الرسم التام، أو بغير ذلك فالرسم الناقص).

(بغير ذلك) يعني: غير ما ذُكِر.

غير الذاتيات: جميع الذاتيات، وغير بعض الذاتيات، وغير الجنس القريب والخاصة. سم ما شئت، أوصلها بعضهم إلى الستين وبعضهم إلى الثلاثين.

ما عدا المذكور فيسمى رسماً ناقصاً على تفصيلٍ يأتي.

قال هنا: (أو بغير ذلك فالرسم الناقص) فالرسم يعني: فهو الرسم (الناقص).

قال: (فعلى هذا العرَض العام مع الفصل أو الخاصة، والفصل مع الخاصة، أو الجنس البعيد مع الخاصة كلها رسومٌ ناقصة) لأن هذا كله ليس مذكوراً فيما سبق؛ لأنه قال: العرض العام. ما ذُكر في الذاتيات الحد التام ولا الحد الناقص ولا الرسم التام.

الرسم التام يكون بالجنس القريب والخاصة، إذاً: لو عرّفنا بالعرَض العام مع الفصل هذا رسمٌ ناقص، أو العرض العام مع الخاصة هذا رسمٌ ناقص، أو الفصل مع الخاصة هذا رسمٌ ناقص، أو الجنس البعيد مع الخاصة هذا يسمى رسماً ناقصاً.

قال: (فالرسم الناقص).

قال السيد هنا: الصواب أن المركّب من عرض العام .. بعضها فيها خلاف عندهم تسمى حداً ناقصاً أو رسماً ناقصاً، هل هذا أو ذاك؟

(قال هنا السيد: الصواب أن المركَّب من عرض العام والخاصة رسمٌ ناقص، لكنه أقوى من الخاصة وحدها، وأن المركَّب منه ومن الفصل حدٌ ناقص، وهو أكمل من الفصل وحده، وكذا المركّب من الفصل والخاصة حدٌ ناقص، وهو أكمل من العرض العام والفصل.

وقولُهم: لا حاجة إلى ضم الخاصة إليه مدفوعٌ بأن التمييز الحاصل بهما أقوى من التمييز بالفصل وحدَه، فإن أُريد الأقوى احتِيج إلى ضم الخاصة إلى الفصل).

على كلٍ: المراد هنا أن بعض المسائل وقع فيها نزاع: هل هي من الحد الناقص أو من الرسم الناقص؟

قال: (وبقي خامسٌ) أي: من أقسام التعريف.

مُعَرِّفٌ إِلى ثَلاثَةٍ قُسِمْ ... حَدٌّ وَرَسْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ عُلِمْ

 

ج

"حدٌ ورسميٌ" كلٌ منهما اثنان، "ولفظيٌ" إذاً: هذا الخامس، ولذلك قال: (بقي) يعني: من أقسام الحد.

(خامسٌ، وهو التعريف اللفظي، وهو ما أنبأ عن الشيء بلفظٍ أظهر مرادفٌ مثلُ: العُقارُ الخمرُ).

(وبقي خامسٌ) المصنف فيما سبق قال: أربعة .. (ودليلُ حصره في الأربعة).

ما معنى حصر؟ يعني: ما عدا المذكور منفي.

الحصر: هو إثباتُ الحكم في المذكور ونفيُه عما عداه.

إذاً: حصرْنا عدَد التعريف في أربعة، وما عداه منفي، كيف تقول: (ودليلُ حصرِه في الأربعة) والأربعة عدد له مفهوم هنا، ثم تقول: (وبقي خامس) هل هذا نقْضٌ أم لا؟

قال العطار: (هذا نقضٌ للحصر السابق).

(هذا) يعني: قوله: (وبقي خامسٌ).

(نقضٌ للحصر السابق، لكنه مبنيٌ على أن التعريف اللفظي) هل هو من المطالب التصورية أم التصديقية؟ هذا بينهم خلاف.

(9/9)

________________________________________

على القول بأنه من المطالب التصورية، هل التعريف اللفظي يُعتبر نقضاً هنا؟ نعم؛ لأن الحد التام والناقص، والرسم التام والناقص. هذا من قبيل التصورات أم التصديقات؟ التصورات.

وإذا زدنا التعريف اللفظي بأنه من التصورات صار نقضاً .. نُسلِّم، وإذا قيل بأنه من التصديقات هل يُعتبر نقضاً؟ لا؛ لأن بحثنا في التصورات.

إذاً: يقول: (هذا نقضٌ للحصر السابق، لكنه) استدراك (مبنيٌ على أن التعريف اللفظي من المطالب التصورية، وهو ما اختاره السعد).

(وحقق السيد: أنه من المطالب التصديقية) وليس من المطالب التصورية، وعليه: ظاهر صنيع الشارح هنا أنه يرى ما يراه السيد، وهو أنه من المطالب التصديقية، فحينئذٍ لا يُعتبر نقضاً وإلا كيف يقول: (ودليل حصره في الأربعة) ثم يقول: (وبقي خامسٌ)؟ هذا تعارض .. تناقض هذا.

حينئذٍ نقول: لا. هو يميل بظاهر كلامه بدليل حصَرَ التعريف الأقسام في الأربعة، ثم قال: (وبقي خامس) ثم أشار إلى أنه يرى أنه من التصديقات لا من التصورات.

قال: (وحقق السيد: أنه من المطالب التصديقية؛ فإنه قال: المقصود منه) يعني: التعريف اللفظي.

(الإشارةُ إلى صورة حاصلة، وتعيينُها من بين الصور الحاصلة).

صورة حاصلة: البُر القمح، والقمح البر. أشار إلى صورة حاصلة يعني: موجودة، وتعيينُها عن غيرها.

(ليُعلم أن اللفظ المذكور موضوعٌ بإزاء الصورة المشار إليها، فمآلُه إلى التصديق والحُكم بأن هذا اللفظَ موضوعٌ بإزاء ذلك المعنى.

فلذلك كان قابلاً للمنع، فيُحتاج إلى النقل من أصحاب اللغة والاصطلاح).

وهذا وإن كان فيه شيءٌ من التكلُّف والتعسف، لكنه محتمِل؛ لأنه قال: مثلاً –كالمثال- (العُقارُ الخمر) لو سُئل ما العُقَار؟ قال: الخمر.

إذاً: ماذا يُستفاد؟

يستفاد بأن العُقار هذا اللفظُ وُضع بإزاء المعنى الذي وُضع له الخمر، هذا فيه حُكمٌ، لكن هل هو من المقاصد، هل هو من المطالب؟

من رأى أنه من المطالب يُسلَّم بأن هذا الكلام في محله، ومن رأى أنه ليس من المطالب -المقاصد- التي يُعتنى بها حينئذٍ قد يقال فيه شيءٌ من التعسف، فجعْلُه من التصورات أقرب من جعلِه من التصديقات؛ لأنه إنما يكون من التصديقات على وجه التكلّف، بأن هذا اللفظ وضع بإزاء هذا المعنى. طيب جميع الألفاظ وضعت بإزاء المعاني، هل هناك لفظٌ لم يوضع بإزاء معنى؟ ما الفائدة؟ وإنما تكشِف هذا اللفظ الذي هو العُقار بأنك ما تدري ما هو، تكشفه بما دل عليه لفظ الخمر.

حينئذٍ هما مصدقهُما واحد: العُقار الخمر، والخمر هو العُقار، فجهِل العُقار حينئذٍ فسَّره بالخمر، إذاً: ليس مراداً ابتداءً بأن هذا اللفظ وُضع لهذا المعنى، وإنما هذا اللفظ مرادف لهذا اللفظ.

ثم إذا حَكم بأنهما مرادفان لا شك أنه عنده سيكون انتقال من كون هذا اللفظ وُضع بإزاء ذلك المعنى. على كلٍ المعنى محتمِل.

قال هنا: (وفي كلام الشارح ما يقتضي الميل لكلام السيد؛ حيث قال: وهو ما أنبأ؛ إذ الإِنباء الإخبار، ولا يكون إلا في التصديقات).

"الإخبار" لا بد من محمول وموضوع، ففيه إيماء لعدم وُروده على الحصر.

إذاً: الشاهد من هذا: أن قول المصنف: (ودليلُ حصرِه في الأربعة) ليس منتقضاً بقوله: (بقي خامسٌ) لماذا؟

(9/10)

________________________________________

لأنه يميل في ظاهر عبارته إلى ما حققه السيد من كون المعرِّف المرادف اللفظي هذا ليس من قبيل التصورات وإنما من قبيل التصديقات، على الوجه المذكور، ونحن نقول: الأولى أن يُجعل من قبيل التصورات والله أعلم.

قال هنا: (وبقي خامسٌ، وهو التعريف اللفظي، وهو ما أنبأ) أنبأ يعني: أخبر أو دل.

(عن الشيء) يعني: عن المعنى والمفهوم والمدلول.

(بلفظٍ أظهر) منه (مرادفٌ) مرادِفٌ لأي شيء؟ للشيء.

(ما أنبأ عن الشيء بلفظٍ) يعني: بسبب لفظٍ، الباء سببية.

(أظهَرَ منه مرادفٌ) أظهر منه: من الشيء، مرادفٌ له يعني: للشيء. فالشيء يكون مجهولاً كالعُقار.

فنأتي بلفظٍ مرادفٍ للعُقار يكون أظهر عند السائل أو السامع، أظهر من ماذا؟ نأتي بلفظٍ "الذي هو الخمر" مرادفٍ للعُقار الذي عند السائل مثلاً.

(مثل العقارُ الخمر) العُقار قال في القاموس: وبالضم الخمرُ، العَقار العُقَار.

قال: وبالضم –العُقار- الخمرُ.

(لمعاقرتها أي: لملازمتها الدَّنّ أو لعقْرِها شاربَها عن المشي) تعقِرُه .. ليس كل إنسان تعقره.

إذاً العُقار المراد به الخمر.

قال هنا –فائدة-: (جعلُ المثال والتقسيم من قبيل المعرِّفات) بعضهم زاد المثال، وبعضهم زاد التقسيم أنها من المعرِّفات، فعرَّف الكلمة، ما هي الكلمة؟

قال: إما اسمٌ، وإما فعلٌ، وإما حرفٌ.

ما هو الاسم؟

قال: كزيدٍ، ولذلك جرى على ذلك سيبويه قال: الاسم كزيد، عرَّف الاسم بالمثال.

الفعل كقام، الحرف كـ: إلى .. وهلم جرَّا.

(جعلُ المثال والتقسيم من قبيل المعرِّفات، وأنهما رسمان تساهلٌ).

(نعم التقاسيم تتضمن التعاريف، لا أن نفس التقسيم تعريف؛ لأن الغرض من كل منهما مختلف؛ إذ الغرض من التقسيم تحصيل الأقسام، ومن التعريف تصور المعرَّف.

فمن ثَم تراهم دائماً -يعني: العلماء- يقدمون تعريف الشيء على تقسيمه؛ لأن الشيء تُعرف حقيقته -يعني: أولاً- ثم يُقسَّم بعد ذلك إلى أقسام). هذا واضح بيّن.

تُعرف ما معنى الكلمة أولاً، ثم بعد ذلك اذكر أقسامها، أما الكلمة إما اسم وإما فعل وإما حرف هذا نقول: يتضمن التعريف لكنه ليس هو بتعريف.

قال: وأما المثال فليس مما يورَد في مقام التصورات، بل التصديقات؛ لأنه ليس من قبيل التصورات بل التصديقات.

يدل عليه قولهم -يعني: في المثال-: أنه جزئيٌ يُذكر لإيضاح القاعدة، هذا المثال.

والشاهد: جزئيٌ يُذكَر لإثبات القاعدة، عندما تقول: هذا شاهد وهذا مثال، هذا في النحو يكثر، تأتي بمثال وتأتي بشاهد.

طيب: الشاهد ما علاقته بالقاعدة؟ لإثباتها، وأما المثال لا، وإنما لإيضاح القاعدة وشرْحِها، تقول: الفاعل مرفوع كقام زيدٌ، المبتدأ مرفوع كزيدٌ قائم.

والشاهد يُشترط فيه أن يكون مسموعاً بشرطِه يعني: مما نطقت به العرب، وأما المثال فلا، ممكن تصطنع مثالاً من عندك أنت ويصلُح لإيضاح القاعدة.

إذاً: المثال جزئيٌ يُذكر لإيضاح القاعدة، فحينئذٍ صار من باب التصديقات لا من باب التصورات.

إذاً: التقسيم والمثال ليسا نوعين من أنواع المعرِّف على ما ذُكِر.

(9/11)

________________________________________

إذاً: عرفنا تعريف (الْقَوْلُ الشَّارِحُ) ثم بيّن أقسامَه يعني: أقسامه ليست على جهة التعاريف وإنما على جهة كونها تنقسم إلى أربعة أقسام، فعرفنا أن المعرِّف باللفظ المرادف أو التعريف اللفظي عند المصنف ليس داخلاً في المعرّفات؛ لأنه من قبيل التصديقات.

أما المثال والتقاسيم التي زادها بعضهم، والظاهر على ما ذكره هنا العطار أنها ليست من التصورات.

قال: (وقد أخذ في بيان الأربعة).

(أَخذ) يعني: شَرع المصنف في بيان هذه الأربعة التي هي: الحد التام، والناقص، والرسم التام، والناقص.

فقال: (الحَدُّ: قَوْلٌ دَالٌّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ.

وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ.

كَـ: الحَيَوانُ النَّاطِقِ) أو كالحيوانِ الناطق، هذه دائماً تقرأها على الجر لا بأس، وإن شئت قرأتها على الحكاية ولا إشكال فيه، يجوز فيها الوجهان.

الحكاية لا بد أن يكون مذكوراً فيما سبق، هذه مذكورة من أول الكتاب.

(كَالحَيَوانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبةِ إِلَى الْإِنْسَانِ).

(الحَدُّ) هل المراد به الحد التام أو الحد الناقص هنا؟ أطلق المصنف، يكون المراد به الحد التام، كيف عرفنا؟

قال: (وَهْوَ الحَدُّ التَّامُّ) هو نص على ذلك، بعدما قال: (كَالحَيَوانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبةِ إِلَى الْإِنْسَانِ.

وَهْوَ) أي: الذي يتركب مما ذُكر (الحَدُّ التَّامُّ).

إذاً: هذا التعريف خاصٌ بالتام، ولا يدخل فيه الناقص.

(الحَدُّ)، قال: (قَوْلٌ) هذا جنس يشمل الحد التام والحد الناقص، والرسم التام والرسم الناقص؛ لأنه جنس فلا بد أن يكون شاملاً لكل ما يدخل تحت أنواع المعرِّف وأقسامِه.

(قَوْلٌ دَالٌّ) عرفنا المراد بالقول أنه: المراد به المركَّب.

(لفظياً كان أو عقلياً) هذا الأصل فيه، لكن هنا قال: (دَالٌّ) نقيِّدها بـ: المطابَقة.

إذاً: صار القول المراد به القول اللفظي، (دَالٌّ) بالمطابقة.

حينئذٍ كما سيأتي أنه يُختص بالحد اللفظي لا العقلي.

قال: (قَوْلٌ) مركَّبٌ.

(دَالٌّ) أي: بالمطابقة.

يرِد على الحد التام، إذا قيَّدناه بالمطابقة إيرادٌ.

(فإن قلتَ: الدال بالمطابقة لا يكون إلا لفظاً) وهو كذلك: الدال بالمطابقة لا يكون إلا لفظاً (فيلزم أن يكون التعريف للحد اللفظي مع أنه سلَف أن القول يُطلق على الملفوظ والمعقول).

(قَوْلٌ) قلنا يُطلق على المعقول والملفوظ.

(دَالٌّ) قلنا بالمطابقة، هذا فيه شيءٌ من التعارض، القول يشمل المعقول والملفوظ، (دَالٌّ) خاصٌ بالملفوظ.

(فيلزم خروج القول المعقول، فلا يكون الحد المعقول داخلاً في التعريف مع وجوب شموله له).

إذاً: الحد يكون له لفظ، ويكون له معقول. إذاً: له جهتان:

الذي نعنيه هنا هل هو الحد اللفظي دون المعقول، أو المعقول دون اللفظي، أو هما؟

يجب أن يكون الحد شاملاً لمعنييه: الملفوظ والمعقول، جاء بجنس الذي هو القول شمِل النوعين، جاء بفصلٍ أخرج المعقول.

إذاً: وقع شيءٌ من التعارض.

الجواب: (إنما تعرّضوا للحد اللفظي؛ لأن الحدود إنما تُذكر للجاهل بحقيقة الشيء، فلا بد من اللفظ حينئذٍ ضرورة الإفهام والتفهيم).

(9/12)

________________________________________

وإلا الأصل أن الحد يشمل النوعين: المعقول والملفوظ، لكن لما أنَّ الحدود إنما تقع لرفع الجهل عن السائل، يسأل: ما المراد بالفاعل؟ ما المراد بالتمييز؟ ما المراد بالحال؟ إلى آخره.

فتجيبه. إذاً: إذا كان معقول بمعقول كيف تجيبُه؟ إذا كان الشيء المعقول يمْكن أنَّ الإنسان في نفسه لا يحتاج إلى لفظ، ولذلك حاجة المنْطِقي إلى مباحث الألفاظ كلها ليست لنفسه، وإنما الحاجة لغيره، وأما في نفسه يستطيع أن يرتِّب المعلومات والنظر والفْكْر، وينتج القياسات .. إلى آخره، ولا يحتاج أن يتلفظ، هو في نفسه أمور .. إدراكات، لكن إذا أراد أن يُخبر غيره كيف يخبرهم؟ لا بد من واسطة، وهي اللفظ هنا.

إذاً: لضرورة الإفهام والتفهيم اختص الحد هنا باللفظ، وإلا الأصل أنه شاملٌ للمعقول.

قال: (ولك أن تقول: إن التعريف شاملٌ للعقلي أيضاً.

بمعنى أنه لو ذُكر اللفظ الدال عليه لكان دالاً بالمطابقة على المحدود).

هذا من باب التجويز فقط، وإلا الأصل أنه خاصٌ باللفظ.

(الحَدُّ: قَوْلٌ) الحد المراد به قلنا التام هنا، وإن كان اسم الحد في الأصل يقع بالاشتراك اللفظي على التام الدال عليها بالمطابقة، والناقص الدال عليها لا بالمطابقة، بل بالالتزام.

فإن أُطلق هذا الاسم الذي هو (الحَدُّ) فالواجب أن يُحمل على التام الذي هو الحد الحقيقي وحدَه. هكذا قرره العطار.

(قَوْلٌ دَالٌّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ) أي: حقيقتِه الذاتية.

فسَّر الماهيّة بالحقيقة، ومر معنا أن الماهيّة والحقيقة بمعنى واحد، إلا أنه قد تُطلَق الماهيّة على المعدومات، وتختص الحقيقة بالموجودات، هذا سوَّغه العطار.

قال هنا: (عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ. إضافةُ ماهيّة إلى الشيء للعهد كما هو الأصل في وضع الإضافة أي: الماهيّة المعهودة، وهي جميع أجزاء المحدود).

إذا قيل: على ماهيّة الشيء يعني: على جميع أجزاء المحدود.

ويدل له قول المصنف: (وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ).

إذاً: تُحمل الماهيّة على الكمال، وهذا الذي يكون في شأن الحد، أنه يؤتى بكمال الماهيّة.

(قَوْلٌ دَالٌّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ) أي: حقيقتُه الذاتية، وإنما فسَّر الشارح الماهيّة بالحقيقة لأن الماهيّة -كما سبقت- تشمل المعدومات.

والذاتية -قيْدُ الذاتية-: أي المنسوبةُ إلى الذات بمعنى الأفراد، فاندفع هنا قول المحشّي: "الأَولى حقيقتُه وذاتُه" كلامُه ليس بجيد هنا.

قال: (وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ) يعني: المعرَّف (وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ).

(وَهْوَ) عائدٌ على الحد التام.

(الَّذِي يَتَرَكَّبُ) لأنه لا حد إلا بتركُّب، لا بد من التركيب وإلا ما صار حداً، وأما المعاني المفردة فلا تقع حداً وإن جاز عقلاً.

(مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ) يعني: المعرَّف كالإنسان المسئول عنه، جنس الشيء يعني: الشيء المعرَّف.

(وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ) يعني: الجنس القريب والفصل القريب.

(كَالحَيَوانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبةِ إِلَى الْإِنْسَانِ).

(9/13)

________________________________________

لأنك إذا قلت: ما الإنسان؟ أنت تجهل الإنسان، ومر معنا أن السؤال هنا بما، إذا كان ما بعده واحدٌ كُلّي، إذا قيل: ما الإنسان؟ الإنسان كُلّي أو جزئي؟ كُلّي.

إذاً: جاء بعده واحدٌ كُلّي يعني: غير متعدد، ما الإنسان؟ الجواب يكون عنه بالحد.

لأنك إذا قلت: ما الإنسان؟ فيقال: الحيوان الناطق، والحيوان هذا كُلّي ذاتي وهو جنسٌ قريب، والناطق هذا كُلّي ذاتي وهو فصلٌ قريب، فرُكِّب منهما -الجنس القريب والفصل القريب- ماهيّة، هذه الماهيّة هي التي يصدُق عليها لفظُ الإنسان، فإذا قيل: الإنسان ما مُسَماه؟ تقول: هذه الماهيّة- ماهيّة الشيء- وهي مركَّبة من جزأين، فكلٌ منهما ذاتيٌ.

قال: (وكالجنس القريب حدُّه) حده كالجنس القريب، كالجنس هذا متعلق محذوف خبر مقدم، "وحدُّه" بالرفع على مبتدأ مؤخر.

حدُّ ماذا؟ الجنس القريب.

يعني: حيوانٌ ناطق، مِثلُه يساويه لو سألت: ما معنى حيوان، ما الحيوان؟ عرّفته، فجئت بدل كون الحيوان -اللفظ هذا- جئت بتعريفه فقلتَ: الناطق، مساوٍ له؟

قال الشارح: (وكالجنس القريب حدُّه) أي: في أن المركَّب منه، ومن الفصل القريب حدٌّ تام.

كقولك في حد الإنسان: هو الجسم النامي الحسَّاس المتحرك بالإرادة الناطقُ، ما قال: حيوانٌ ناطق، حذَف الحيوان وجاء بتعريف الحيوان.

إذاً: إما أن تأتي بالجنس القريب وإما أن تأتي بتعريف الجنس القريب؛ لأنه لو قيل لك: ما الحيوان؟ ستقول: الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة، هذا تعريف الحيوان.

ولذلك قال: (كالجنس القريب) مثلُه، الجنس القريب مثلُه (حدُّه) يعني: تعريفه.

فإما أن تعبِّر بالجنس القريب بلفظه: حيوان ناطق، وإما أن تأتي بتعريف الجنس القريب مع الفصل القريب، فهما سيّان.

قال: (وَهْوَ) أي: الحد التام.

(وَهْوَ) (أي: الذي يتركب مما ذُكر) من الجنس القريب والفصل القريب، أو حد الجنس القريب والفصل القريب (الحَدُّ التَّامُّ).

يعني: المعروف عند المناطقة بهذا التعبير.

(أما كونُه حداً) يعني: سُمي حداً (فلأن الحد لغة المنع) وهو كذلك، الحداد سُمّي حداداً لمنعه غير الداخل من الدخول، فسُمي الحد حداً لأنه يَمنع.

(وهو مانعٌ من دخول الغير فيه، ومن خروج بعض أفراده) يمنع من الدخول ومن الخروج.

يمنع من الدخول -من غير الأفراد أن يدخل-، ويمنع من الداخل أن يخرج، كشأن البواب يُسمى حداداً يمنع الداخل أن يخرج والعكس بالعكس.

قوله: (مانع) فيه إشارة إلى أن تسميته حداً من تسمية اسم الفاعل بالمصدر للتعلق والاشتقاق.

هذا كونه حداً، لماذا سُمي حداً؟ للمنع من الجهتين، وأما كونه تاماً -يعني: لماذا سُمي حداً تاماً بهذا القيد من التمام- فلِذِكْرِ جميع الذاتيات فيه.

جميع الذاتيات: الجنس والفصل، وهذا واضح.

(وخرج بذكر ماهيّة الشيء الرسمُ) لأنه قال: على ماهيّة الشيء أي: حقيقتِه الذاتية، ما كان كُلّياً ذاتياً، فخرج ما كان عرَضياً، والرسم إنما يكون بالعرَضيات في الجملة، حينئذٍ خرج بقوله: ماهيّة الشيء، ولكن ما ذكَر الحد الناقص هنا.

(9/14)

________________________________________

نحن حملنا على ماهيّة الشيء يعني: الكاملة من كل وجه، وهذا إنما يختص بالحد التام، ولذلك زاد العطار منكِّتاً عليه قال: (وخرج بذكر ماهيّة الشيء الرسمُ والحد الناقص) لا بد نزيد: والحد والناقص، لأنه خرج؛ لأنه لا بجميع الذاتيات بل ببعضها.

(وخرج بذكر ماهيّة الشيء الرسمُ) أي: تاماً كان أو ناقصاً.

قال المحشِّي: (واقتصارُه على إخراج الرسم يفيد أن التعريف للحد تاماً كان أو ناقصاً، بجعل الإضافة لجنسه كما تقدم).

هذا غريب جداً، هذا فيه سهو؛ لأنه هو يقول: (وَهْوَ الحَدُّ التَّامُّ).

يقول: قوله: اقتصاره على الرسم دل على أن الحد يشمل التام والناقص.

اقتصارُه على أنه خرج بالماهيّة -ماهيّة الشيء- .. ماهيّة الشيء المراد: الجنس، الإضافة هنا الجنسية ليس العهدية، فيصدُق بالبعض، فدخل الحد الناقص، لكن الرجل يقول: (وَهْوَ الحَدُّ التَّامُّ) فكيف يقول: دخل الناقص؟ هذا فيه إشكال، ليس بصحيح.

بل الصواب: التنكيت عليه، فيقال: خرج الرسم والحد الناقص أيضاً؛ من أجل التسوية، وأما مجرد دائماً اعتذارات اعتذارات، وعدم التخطِئة هذا ليس بجيد.

قال: (وخرج بِذكْر ماهيّة الشيء الرسمُ، فإنه إنما يدل على آثاره) كما سيأتي.

(وكلامُه يدل على تخصيص الحد بذوات الماهيّات المركّبات، فتخرج البسائط) على ما سبق بيانه.

(وكلامه يدل على تخصيص الحد) أي: حيث عبّر بالتركيب مما ذُكر، لأنه قال: (وهو الذي يتركب مما ذُكر).

(وكما يدل على ذلك يدل على تخصيصه أيضاً بغير الماهيّة المركّبة من أمرين متساويين. على القول بجواز ذلك؛ إذ لا جنس لها).

وهذا مر معنا الخلاف بين المتقدمين والمتأخرين (وكلامُه يدل على تخصيص الحد بذوات الماهيّات المركّبات، وأما البسائط فلا تُحد، فتخرج البسائط فإنها إنما تُعرَّف بالرسوم لا بالحدود) لا تُحد وإنما تعرَّ ف بالرسوم لا بالحدود.

قال في شرح المطالع: (الحقيقة إما بسيطةٌ وهي التي لا جزء لها، أو مركَّبة وهي التي لها جزء.

وكلٌ منهما إما أن يتركب عنها غيرُها أو لا).

(يتركب عنها) يعني: تكون جزءاً لغيرها.

(أو لا) يعني: لا تكون جزءاً لغيرها.

(فهذه أربعة أقسام: أولها: بسيط لا يتركب عنه غيرُه فلا يُحد) بسيط لا يتركب عنه غيره يعني: لا يكون جزءاً لشيء فلا يُحدُّ.

(لعدم تركيبه، ولا يُحد به؛ لكونه ليس جزءاً لغيره.

الثاني: بسيطٌ يتركب عنه غيرُه، وهو البسيط الذي يتحلَّل وينتهي إليه المركَّب بالتحليل، فيُحدُّ به لكونه جزءاً لغيره، ولا يُحدُّ لعدم تركيبه كالجوهر.

الثالث: مركَّبٌ لا يتركب عنه غيرُه يُحدُّ لكونه ذا أجزاء، ولا يُحدُّ به لكونه ليس جزءاً لغيره كإنسان.

الرابع: مركَّبٌ يتركب منه غيره فيُحدُّ ويُحدُّ به كحيوان، وظهَر أن الحدَّ لا يكون إلا لمركب).

هذه القاعدة الأخيرة: ظهر أن الحد لا يكون إلا لمركب، وأما البسائط فلا تُحد وإنما تُعرَّف بالرسوم أي: الناقصة كأن تُعرَّف بخاصة فقط -على القول بجوازه كما سيأتي-، أو بجملة خواص. وإنما الحدود تكون خاصة بالمركبات.

قال الشارح: (ويُعتبر في الحد) أي: يُشترط أو يجب على قول العطار.

"يُعتبر" الكثير في الاستعمال إذا قيل: يُعتبر كذا يعني: يُشترط هذا في الغالب.

(9/15)

________________________________________

(ويُعتبر في الحد) أي: يُشترَط.

لكن على كلام العطار فيما يأتي: ويجب. والوجوب لا يستلزم الشرطية، الوجوب حتى في الشرع إذا قيل: يجب. لا يستلزم الشرطية إلا على وجه آخر بتأويل.

ولذلك اختلفوا فيه عند النجاسة، يجب إزالتها، دل الدليل على وجوب إزالتها، لكن كونها شرطاً هذا يحتاج، ولذلك نازع الشوكاني ونازع ابن حزم في هذه المسألة، لكن لهم وجه آخر وهو أن المأمور به منهيٌ عنه، فتوقَّفَتْ عليه الماهيّة، وإذا توقفت الماهيّة معناه توقفها على الشرط لا على الركن؛ لأنها خارجة عنها، فبهذا الوجه يمكن أن يقال بأنها شرط والجمهور على هذا.

على كلٍ "يُعتبر" يعني قال: يُشترط.

(ويُعتبر في الحد التام تقديمُ الجنس على الفصل) قوله: (في الحد التام) هل هذا خاصٌ بالحد التام أو نقول: يشمل كذلك الحد الناقص؟ نقول: يشمله.

يعني قوله: (ويُعتبر في الحد التام) نقول: والناقص أيضاً.

ماذا يُعتبر؟ يُعتبر تقديم الجنس على الفصل. يعني: يُشترط أن يُقدَّم الحيوان على الناطق، فإذا قلت: "ناطق حيوان "عند الكثير من المتأخرين لا يكون حداً تاماً، يكون ناقصاً .. نزل يعني: لا ينتفي عنه الحدية يعني: لا يكون تاماً وإنما يكون ناقصاً.

ولذلك قال: (ويُعتبر في الحد التام –يعني يُشتَرط- تقديمُ الجنس على الفصل؛ لأن الفصل مفسِّرٌ له) للجنس.

(ومفسِّر الشيء متأخرٌ عنه) إذاً: الفصل كالمفسِّر، كالصفة مع الموصوف، وشأن الصفة التأخر عن موصوفها، وهنا المفسِّر شأنُه التأخير عن مفسَّره، فحينئذٍ يجب أن يكون متأخراً.

فلو قُدِّم نقول: هذا لا يكون حداً تاماً وإنما يكون حداً ناقصاً كما لو قال الناطق: ناطقٌ حيوان.

قال هنا: (لأن الفصل مفسِّر له) وهذا تعليل أي: مخصِّص قال هنا.

(الفصل مفسِّر له) أي: مخصِّص له.

قال العطار: (مراد الشارح بالتفسير) وإن كان المحشِّي فسره بالتخصيص له معنى آخر.

(مراد الشارح بالتفسير: أنه عِلَّة لرفع الإبهام، إلا أنه تسمَّح في تسمية الفصل مفسِّراً) من باب التجوُّز.

(فهو عِلَّةٌ لرفع الإبهام، والعِلَّة ليست من المفسِّر في شيءٍ حقيقةً، لكن لما زال بها الإبهام صارت كالمفسَر) يعني: إذا قيل: ما الإنسان؟ قال: حيوان، فيه إبهام أو لا؟ فيه إبهام ما عيَّن.

هل المراد به ما يقع على حقيقة الفرس، أو على حقيقة الحمار، أو حقيقة الحيوان الناطق .. إلى آخره.

ففيه إبهام، فجاء الناطق كالمفسِّر، وهو سمّاه عِلَّةً لرفع الإبهام.

(وقوله: مفسِّر الشيء متأخرٌ عنه. أي: ما هو مفسِّر حقيقة، وهذا لا يقتضي أن الفصل متأخرٌ في الوجود عن الجنس) وهو كذلك.

(لأنهما مجعولان معاً، بحسب تعقُّل الجنس مبهماً ثم إزالةُ الفصل للإبهام يكون التأخر بحسب التعقُّل) وهو كذلك.

يعني: إذا قيل بأنه يكون متأخراً عنه، متأخراً عنه في التعقُّل، تَفهم معنى الجنس ثم يقع إبهام، ما المراد بهذه الحقيقة؟ ثم يأتي الفصل إذاً: تأخر عنه، فتتعقَّل معنى الفصل، حينئذٍ يزول الإبهام الذي في الجنس السابق.

أما في الوجود لا يمكن أن يوجد الجنسية ثم يوجد بعد ذلك الناطقية لا، هما موجودان معاً، الإنسان يولد بإنسانيته كاملاً هذا المراد.

قال هنا: (المراد أن الصورة الجنسية مبهمةٌ في العقل).

(9/16)

________________________________________

(الصورة الجنسية) يعني: مدلول لفظ الحيوان (مبهمةٌ في العقل يصح أن تكون أشياء كثيرة) تصدق على الفرس، وعلى البغل .. إلى آخره.

(وهي عينُ كل واحد منها في الوجود، وغير متحصِّلة بنفسها لا تُطابق تمام ماهيتها المتحصلة، فإذا انضاف إليها الصورة الفصلية عيّنَتها وحصّلَتها أي: جعلتها مطابقة للماهية التامة، فهي عِلَّة لرفع الإبهام والتحصيل والعلية بهذا المعنى لا يمكن إنكارُها) ولا إشكال فيه.

على كلٍ الخلاف هنا سمّاه مفسِّراً أو عِلَّة الخلاف لفظي، لكن المراد أن الجنس فيه إبهام، فجاء الفصل كاشفاً معيِّناً. سمِّه عِلَّة، سمه تفسيراً لا إشكال فيه.

قال هنا: (قيل: لا يمكن تعريفُ شيء).

إذاً: المسألة السابقة: يُشترط تقدُّم الجنس على الفصل، هذا هو المشهور.

وقيل: لا يجب. لا يجب في الحد التام، فإذا قلت: "حيوانٌ ناطق، ناطق حيوان" حدٌّ تام، لكن هذا خلاف المشهور.

وقيل: (لا يجب تقديم الجنس، فناطقٌ حيوان حدٌّ تام، إلا أن الأَولى تقديم الأعم لشدته وظهوره. نعم لا بد من تقييد أحدهما بالآخر، حتى يحصِّل صورة مطابقة للمحدود، ولذا قال الشارح: ويُعتبر دون يجب للإشارة إلى أن الوجوب ليس متفقاً عليه) لا، هذا كلام العطار، ويحتمل أنه عبّر بيُعتبَر يعني: يُشترط ورجَّحه.

لماذا تجزم بأنه قال: يُعتبر دون يُشترط؟ نقول: الغالب في استعمال الشُرَّاح والمصنفين أنَّ يعتبر مراداً به الاشتراط، فحملُه على الوجوب خلافُ الظاهر.

ثم نحمل أنه قد رجَّح أنه يُشترط، حينئذٍ لا يصح أن يسمى ناطقٌ حيوان حداً تاماً.

(قيل: لا يمكن تعريف الحد لئلا يلزم التسلسل) تعريف الحد الذي هو السابق، لو قيل: ما الحد؟ ما تستلزم معرفتُه معرفتَه أو امتيازه عنه، هذا التعريف صحيح أم لا؟ قال بعضهم: لا يمكن أن نعرِّف الحد كما قال الجويني وغيره في العِلم، محال عند بعضهم، وبعضهم ضرورة أن يُعرِّف العلم يعني: العلم لا يتعرَّف، لو عرّفته يحتاج إلى تعريف وهكذا.

هنا قيل ما قيل في العلم: أن الحد لا يمكن تعريفه.

قال: (قيل) يعني: قال قائلٌ.

(لا يمكن تعريفُ الحد) قال المحشي: (مثلُه الرسم والمعرِّف والقولُ الشارح، فالأَولى إبدال الحد بالتعريف) هو هذا .. المراد التعريف السابق.

(لئلا يلزم التسلسل) يعني: على تعريف التعريف التسلسل.

كيف بيانُه؟ أنه يلزم من احتياج التعريف لتعريف احتياجُ تعريفِ التعريف لتعريف .. وهكذا إلى ما لا نهاية. وهذا فاسد، الأصل ليس بوارد كما سيأتي.

إذاً: قالوا: لا يمكن تعريفه؛ لأنك لو عرَّفته لاحتاج التعريف إلى تعريف، ولو عرّفت التعريف لاحتاج تعريف التعريف إلى تعريف .. وهكذا، هذا يسمى التسلسل.

(لئلا يلزم التسلسل) قال: (بيانُه: أنه يلزم من احتياج التعريف لتعريف احتياجُ تعريف التعريف لتعريف .. وهكذا إلى غير نهاية).

قال هنا: (وأُجيب) يلزم التسلسل قال العطار هنا: (لأن تعريف الحد حدٌ له، فلو احتاج الحد إلى حد هكذا للزم التسلسل).

(وأُجيب بمنع لزومِه) يعني: التسلسل (بمنع لزومه) يعني: ليس بلازم. لماذا؟

قال: (لأن حد الحد نفسُ الحد) وإذا كان كذلك حينئذٍ كالشاة من الأربعين تُزكِّي نفسَها وغيرَها فلا تحتاج إلى حد.

(9/17)

________________________________________

(حد الحد نفس الحد، كما أن وجود الوجود نفس الوجود.

بمعنى: أن حد الحد من حيث إنه حدٌ مندرجٌ في الحد وإن امتاز عنه بإضافته إليه).

قال: (لأن حد الحد نفسُ الحد).

قال المحشِّي: (أي: حدٌ فهو فردٌ وجزئيٌ للحد المعرَّف، فعُرِفت حقيقتُه وانشرحت ماهيته بنفسِه، فلا يحتاج لحدٍ آخر).

إذا عرّفت الحد نقول: هذا الحد لا يحتاج إلى حدٍ آخر؛ لأنه هو منكشف بنفسه، والمنكشف المعلوم لا يحتاج إلى إيضاح، وإنما الذي يحتاج إلى إيضاح هو المجهول، حينئذٍ لا يحتاج إلى حد، نمنع أن يكون ثَم احتياجٌ لحد الحد.

(فلا يحتاج لحدٍ آخر حتى يلزم التسلسل، فهو كقول الفقهاء: في الشاة من الأربعين إنها تزكي نفسَها وغيرها) وهو واضحٌ بيِّن.

(لأن حد الحد نفسُ الحد).

قال: (ضرورة أن المعرِّف عين المعرَّف، ولكن هذا من حيث مفهومُ الحد وقطع النظر عن عروض الإضافة لحده، فإن نُظر إليها فحد الحد أخص من الحد).

"حد الحد حدٌ" مطلق الحد، فرقٌ بين مطلق الحد وبين حد الحد، مطلق الحد هذا بقطع النظر عن الإضافة، حد الحد هذا بالنظر إلى الإضافة.

حدُّ الحد هذا أخص من مطلق الحد.

قال: (كما أن وجود الوجود نفسُ الوجود) قال: كذا في النسخة الصحيحة (وجود الوجود نفسُ الوجود في الموضعين، ولعل الصواب فيهما الموجود.

أي: فليس الموجود صفة زائدة على موصوفها كالعلم والقدرة، حتى يُحتاج إلى وجودٍ، ووجودها إلى وجود .. وهكذا فيلزم التسلسل المحال).

لا، الظاهر أن النسخة كما هي ليست "الموجود" وإنما الوجود؛ لأن الوجود إذا قيل: الوجود نفسُه لذات الشيء حينئذٍ نقول: الوجود عينُه، هل هو وصفٌ زائدٌ عليه؟ نقول: لا، وإنما وُجد بنفسه بذاته، كذلك الحد.

فحينئذٍ نقول: حد الحد وُجد بنفسه متضحاً منكشفاً فلا يحتاج إلى غيره، فليس هو قدر زائد عليه حتى يحتاج إلى بيان وإيضاح، وإنما هو معلومٌ، كذلك الوجود عينُ الموجود فلا يحتاج إلى شيءٍ زائدٍ عنه، هذا المراد هنا.

قال العطار: (الوجود كون الشيء في الخارج أو في الذهن) يعني: وجود خارجي ووجودٌ ذهني.

(ومن البديهي أن الكون أمرٌ إضافي مغايرٌ للمضاف إليه).

كون الشيء، لا شك أن كون مضافٌ للشيء، والمضاف والمضاف إليه في الأصل التغاير بينهما، ولذلك قيل: لا يضاف اللفظ إلى نفسه.

وَلاَ يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ ... مَعْنىً وَأَوِّلْ مُوْهِمَاً إذَا وَرَدْ

 

لا بد من تأويله.

قال: (ومن البديهي أن الكون أمرٌ إضافي مغايرٌ للمضاف إليه، فكيف يكون غير الوجود موجوداً في الخارج؟

والجواب: أن مراد من قال: إن الوجود موجودٌ، وأنه منشأ الآثار والأحكام يقول: كل شيءٍ يغاير الوجود يكون موجوداً بالوجود كالشمس يكون مضيئاً بالضوء؛ فإنه مضيءٌ بذاته لا بأمرٍ زائدٍ على نفسه، فكذا الوجود موجودٌ بذاته).

هذا يمكن أن يقال في بعض المخلوقات، لكن الكلام لا ينزَّل على الذات الإلهية، فلا يقال بأنه: يُبصر بذاته لا بقدرٍ زائد على الذات، ويعلمُ بذاته لا بقدرٍ زائد على الذات، هذا مذهب المعتزلة، يرون أن الصفات .. يُنكرونها من حيث أنها قدرٌ زائد على الذات، المعتزلة وغيرهم بعضهم وافقهم.

(9/18)

________________________________________

فحينئذٍ إذا قيل: بأن الله تعالى يعلم، والله تعالى يُبصر، والله تعالى يسمع. فحينئذٍ نقول: السمع هل هو بذاته أم بقدرٍ زائد على الذات؟

مذهب أهل السنة الثاني، وإلا ما أثبت صفة، لو قلت: يسمع بذاته. الذات هذه متفق عليها حتى إبليس يثبتها، لكن إذا قيل: يسمع أو يُبصر ماذا تعني؟

ولذلك ليس كل من أثبت صفة يكون على وفق أهل السنة والجماعة، ولذلك نحن نقول: الأشاعرة ليسوا من أهل السنة والجماعة، يقولون: هم قريبون منا لأنهم أثبتوا سبع صفات!

نقول: تعال: كيف أثبتوا هذه الصفات؟

أولاً: هل أثبتوها بالنقل؟ لا، أثبتوها بالعقل.

إذاً: الأساس فاسد عندهم، ما أثبتوها بالنقل وإنما أثبتوها بالعقل، وهذا كيفية الاستنباط أو أخذ الصفات والأسماء من الكتاب والسنة هذا أصلٌ شرعي، المخالِف فيه يُبدَّع.

حينئذٍ إذا جعَل مصدراً غير الكتاب والسنة في الأسماء والصفات هذا ليس من أهل السنة والجماعة، ثم إذا كانت النتيجة أثبتَ بالعقل الكلام.

طيب. ما معنى الكلام عند الأشعري؟ القول النفسي أو الكلام النفسي، هل هو مذهب أهل السنة والجماعة؟

إذاً: أثبتَه بطريقٍ مخالف لطريق أهل السنة والجماعة، ثم المعنى ليس هو المعنى، ما بقي إلا كلمة الكلام فقط التي أثبتَها، ما أثبتوا إلا لفظ الكلام، ولفظ السمع، ولفظ البصر .. إل آخره.

حينئذٍ نقول: مذهب أهل السنة والجماعة هو إثبات الصفات وأن الصفة قدرٌ زائدٌ على مجرد الذات، وليست هي عين الذات، فلا نقول: يسمع بذاته، يُبصر بذاته، يعلم بذاته .. فردَدْنا كل شيء إلى الذات.

لأن عندهم الصفة إذا أُثبِتت بقدرٍ زائد على الذات قالوا: تعدُّد القدماء .. هذا يلزم منه تعدد القُدماء! هذا في عقولكم الفاسدة وإلا لا يلزم منه شيء.

هذا الكلام الذي يقول هنا العطار: أن الشمس تضيء بذاتها لا بقدرٍ زائد على الذات، يقال: الشمس الله أعلم بحالها، لكن هذا الكلام لا نأخذه ونطبقه في باب المعتقد، هذا الذي أعنيه. يعني: إذا سلمتُ به هنا أو سكتُ عنه لا يلزم منه أن نأخذه ونطبِّقه في باب المعتقد، باب المعتقد منقولٌ كاملاً لا نحتاج إلى عقل لا جويني ولا الفخر ولا غيره، بعقول الصحابة وفهم الكتاب والسنة أمرٌ واضح، بل هو من أوضح الواضحات، وإنما الإشكال يقع في فساد العقول فقط، وإلا الأصل أنه واضح.

بل ذكر ابن القيم أن آيات الصفات والأسماء ليست من المحكم فحسب، بل هي من أحكم المحكم. والمحكم أعلاه الواضح المتضح، المتشابه: الذي لم يتضح.

وهؤلاء يدّعون أنه من المتشابه، هذا باطل فاسد.

نقول: هو من المحكم، بل من أحكم المحكم، ولذلك لم يرد عن الصحابة أنهم سألوا عن آية واحدة، لا لكونهم كما يقولون: إنهم فوَّضوا المعنى لا، ولكن لكونهم قد فهموا المراد.

يعني: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) جاء قبلها: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11].

(9/19)

________________________________________

الذي عنده مِسكة عقل يفهم أن إثبات السمع والبصر لا يستلزم المماثلة، ثم نحمل هذه القاعدة على جميع القرآن من أوله إلى آخره وأحاديث الصفات. لا إشكال فيه، الذي سلِمت نفسه وكانت على الفطرة ما عنده أي إشكال، ولذلك نقول: عدم سؤال الصحابة لا لكونهم جهلوا ففوَّضوا كما يدَّعيه من يدَّعي، وإنما نقول: لكونهم علموا وفهموا المراد، وعرفوا أن إدراك الكُنه لمثل هذه المسائل مما لا يُسأل عنه، فتأدبوا مع الله تعالى ومع رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يسألوا عن حرفٍ واحد.

قال هنا: (بمعنى: أن حد الحد من حيث إنه حدٌ).

يقول العطار: (حد الحد هذا تصويرٌ لكون حد الحد نفس الحد، ومعناه: أن حد الحد بقطع النظر عن عروض الإضافة).

"حد الحد بقطع النظر عن الإضافة" عندنا مضاف ومضاف إليه هنا.

(حد الحد بقطع النظر عن عروض الإضافة داخلٌ في مفهوم الحد، فهو من هذه الحيثية صادقٌ على نفسه وصادقٌ على غيره.

كصِدْق قولنا في تعريف الخبر: هو ما احتمل الصدق والكذب).

ما هو الخبر؟ ما احتمل الصدق والكذب.

طيب. جملة: ما احتمل الصدق والكذب؟ هو عينُه المذكور .. واضحة لا تحتاج إلى تعريف. ما احتمل الصدق والكذب، طيب: "جملة ما احتمل الصدق والكذب"؟ هذه داخلة لا نحتاج إليها بل هي هي عينُها، ولذلك قال: (داخلٌ في مفهوم الحد) فهذه الجملة "ما احتمل الصدق والكذب" داخلةٌ في هذا الحد، هي نفس الحد لا نحتاج إلى شيءٍ خارجٍ عنها.

(صادقٌ على نفسه كصدق قولنا في تعريف الخبر: هو ما احتمل الصدق والكذب على هذه الجملة، وله نظائر كثيرة.

وليس معناه: أن حد الحد فردٌ من أفراد مطلق الحد) وهو الذي ذكره فيما سبق أي: حدٌ فهو فردٌ جزئي، هذا ذكره المحشي، وإن سكتنا عنه لأنه مما يسوغ فيه الخلاف هذه المسألة، ليس فيها تحديد.

(وليس معناه: أن حد الحد فردٌ من أفراد مطلق الحد كما فهمه البعض، فإنه ذهولٌ عن قول الشارح من حيث إنه حدٌ، فإن هذه حيثيةُ إطلاق.

وأما كونه فرداً فإنما هو باعتبار عروض الإضافة، والنظر مقطوعٌ عنها من هذه الحيثية، ولذلك قال الشارح بعد ذلك: وإن امتاز عنه بإضافته إليه) يعني: انفصل عنه.

(فأما ما قيل: إنه مندرجٌ في الحدِّ أي: فيما يُطلق عليه اللفظُ، بمعنى: أن هذا اللفظ كما يُطلق على نفس الحد يُطلق على حده فتكلُّفٌ يأباه لفظ الاندراج، فإنه يكون في الأمور الكُلّيّة لا في الاصطلاحات أو الإطلاقات اللفظية).

قال بعضهم بعد تقرير السؤال والجواب عن هذه المسألة التي ذكرناها وتحتاج إلى تأمل منكم.

(قال بعضهم بعد تقرير السؤال والجواب المذكورين في الشرح: إن هذا لا يتخيل ورودَه من له أدنى شعور).

هذه من الفلسفة، ومن التدقيقات التي قد لا يفهمُها صاحبُها.

قال: (لأن حد الحد إن أُريد به مصدوقُه فالتسلسل إنما يلزم لو كان يُعرَّف).

يعني: ما يصدق عليه تعريفات: الإنسان حيوانٌ ناطق. الفاعل اسم مرفوع .. إن كان المقصود؟ هذا ليس مقصوداً، نحن لا نعرِّف الحد باعتبار المصدوقات يعني: الأفراد، ما نقول: الإنسان له أفراد؟ الإنسان حيوان، حيوان ناطق أين وجوده في الذهن؟ له أفراد ومصدوقات؟ له مصدوقات.

إذاً: كل واحد ينطبق عليها.

(9/20)

________________________________________

حد الحد ما حقيقته التي تكون في الذهن .. المعنى الكلِّي؟ ما تستلزم معرفتُه معرفتَه.

إذاً: نحن نعرّف التعريف باعتبار المصدوق، وهذا يصدق على تعريف الفاعل إلى ما لا نهاية، هل نعرّف الفاعل وو .. إلى آخره في تعريفٍ واحد، أم نأتي بالمفهومات فقط الذي هو مفهوم المعرِّف؟ الثاني.

حينئذٍ الثاني هذا لا يحتاج إلى تعريف.

قال: (إن أُريد به مصدوقُه فالتسلسل إنما يلزم لو كان يُعرَّف) ولا يُعرَّف، إنما نعرّف الحد والتعريف باعتبار مفهومه العام الذي هو المعنى الكلِّي يكون في الذهن، لا باعتبار المصدوق، هذا لا يمكن تعريفُه باعتبار المصدوقات؛ لأنه يحتاج ماذا؟ كل ما يمكن تعريفه تأتي به.

(ولكن ليس هو الذي يُعنَى بالتعريف، وإن أُريد مفهومُه) وهو مقصودنا هنا (فلا شك أنه لا يلزم تسلسلٌ في تعريفه كما لا يلزم في سائر المفهومات).

إذاً: التسلسل ليس بوارد من أصله.

قال رحمه الله تعالى: (وَالحَدُّ النَّاقِصُ) هذا النوع الثاني.

(وَالحَدُّ النَّاقِصُ: وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ الْبَعِيدِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبِ.

كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ).

(الحدُّ) هذا مبتدأ، (الناقص) هذا نعت .. صفة، (الحد الناقص) مبتدأ، الخبر؟

(وَالحَدُّ النَّاقِصُ، كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ).

(وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ الْبَعِيدِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبِ) هذه جملة معترِضة، ولذلك وقفتُ مع إعرابها؛ لأنها قد تلتبس.

إذاً: (كَالْجِسْمِ) جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، (وَالحَدُّ النَّاقِصُ. كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ).

وقوله: (وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ .. ) إلى آخره. جملة اعتراضية بيَّن بها حال المبتدأ.

هناك قال: الحد وسكت، وهنا قال: الناقص، فاحتاج أن يبيِّن، ولذلك جاءت هذه الجملة الاعتراضية.

فقوله: (وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ) هذا أراد أن يبيّن به الناقص.

(وَهْوَ) يعني: القول.

(الَّذِي) هذا جنس شامل كل معرِّف.

(يَتَرَكَّبُ) إذاً: التركيب .. كالسابق يعني.

(مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ) المعرَّف.

(الْبَعِيدِ) لا القريب ولا المتوسط، وقيل يدخل المتوسط هنا؛ لأنه أراد بالبعيد مقابل القريب، فيحتمل حينئذٍ .. الاحتمال وارد، ولذلك في شرح السلَّم على هذا يجرون.

(وَفَصْلِهِ) أي: المعرَّف.

(الْقَرِيبِ. كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ).

إذا قيل: ما الإنسان؟ فقال: الجسم الناطق.

هنا ماذا جاء، ركَّب الحد هنا من ماذا؟ الجسم وهو جنس، لكنه جنسٌ بعيد؛ لأن تحته الجسم النامي، وتحته الحيوان. إذاً: هو جسمٌ بعيد.

(النَّاطِقِ) هذا فصلٌ قريب.

قال: (أما كونه حداً فلِما مر) ما هو الذي مر؟ أنه في اللغة بمعنى المنع، فهو مانعٌ من الدخول ومن الخروج على ما سبق، هذا (أما كونُه حداً فلِما مر)، (وأما كونُه ناقصاً فلعدم ذكر جميع الذاتيات فيه).

هذا التعبير تأخذ به وتؤكِّد هناك على أن معنى ماهيّة الشيء -أي: حقيقته الذاتية- المراد بها جميع الذاتيات، حينئذٍ قولُه: فخرج الرسم تقول: (وَالحَدُّ النَّاقِصُ) يتأكد ما مضى.

(9/21)

________________________________________

قال: (وَالرَّسْمُ التَّامُّ وَهْوَ) يعني: وهو القول.

(الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ وَخَوَاصِّهِ الَّلاَزِمَةِ لَهُ كَالحَيَوانِ الضَّاحِكِ) يعني: بالقوة (فِي تَعْرِيْفِ الْإِنْسَانِ).

قلنا: بالقوة لا بد من تقييده لأنه لا يعرَّف بالفعل.

قال هنا: (وَخَوَاصِّهِ الَّلاَزِمَةِ) إذاً: الجنس جنس الشيء قال: القريب يعني: لا البعيد.

(وَخَوَاصِّهِ الَّلاَزِمَةِ) هنا إضافتُه جنسية. يعني: لا يُشترط الخواص، وإنما المراد به ما يتعلق به، إضافة جنسية فأبطلت معنى الجمعية؛ إذ لا يُشترط في تمام الرسم تعدُّد الخاصة. وهو كذلك.

والتعبير المشهور عند المناطقة الخاصة .. يأتون بخواصه بالإضافة، نقول: إضافة جنسية فأبطلت معنى الجمعية فيصدُق بالواحدة .. الخاصة.

(خواصِّه) قيَّد هنا الخواص باللازمة؛ احترازاً عن المفارِقة.

(قيَّد باللازمة لامتناع التعريف بالخاصة المفارِقة كالضاحك والكاتب بالفعل، فلا يقال: الضاحك أو الكاتب بالفعل في تعريف الإنسان؛ لكونها أخص من ذي الخاصة، والتعريف بالأخص غير جائز.

وإن كان هذا غير متفقٍ عليه لا سيما في الرسوم) يعني: التعريف بالأخص.

على كلٍ: لا يؤتى بالخاصة المفارِقة، وإنما يؤتى بالخاصة اللازمة؛ لأنها هي التي يحصل بها التمييز.

قال: (وَخَوَاصِّهِ الَّلاَزِمَةِ لَهُ كَالحَيَوانِ الضَّاحِكِ فِي تَعْرِيْفِ الْإِنْسَانِ).

ما الإنسان؟ قال: الحيوان الضاحك. الحيوان هذا جنس قريب، ولذلك قيَّده الشارح، صاحب المتن قال: (جِنْسِ الشَّيْءِ)، قيَّده: القريب، أَخَذه من المثال، قلنا: أي القريب (جِنْسِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ).

انظر هذا الشارح ذكر القريب، من أين أخذ هذا القيد الكاشف؟

أخذه من المثال؛ لأنه ذكَر الحيوان والحيوان جنسٌ قريب.

إذاً: ما الإنسان؟ قال: الحيوان الضاحك. إذاً: جمَع بين الجنس وبين الخاصة اللازمة، وإذا أُطلِقت لا يحتاج أن تقول في الحد: الضاحك بالقوة، ما يحتاج لفظ بالقوة؛ لأن بالفعل لا ترِد أصلاً، أنت تخاطب من يعرِف، فحينئذٍ لا يحتاج إلى التقييد. هذا يسمى رسماً تاماً.

(أما كونُه رسماً فلأن رسمَ الدار أثرُها) يعني: الرسم هو الآثار.

(ولما كان التعريف بالخاصة اللازمة التي هي من آثار الشيء، كان تعريفاً بالأثر) هذا فيه قلب يعني، ولذلك في الحاشية التعبير أحسن.

قال: (المناسب: ولما كانت الخاصة من آثار الماهيَّة سُمِّي التعريف بها رسماً) هذا المراد.

يعني: لماذا سُمِّي رسماً؟ لأن التعريف بالخاصة، وهي أثر (لما كانت الخاصة من آثار الماهيّة) هي ليست داخلة في الماهيّة، بل هي خارجة لأنها عرَض.

(سُمّي التعريف بها رسماً) وهي أوضح من كلام المصنف هنا.

قال: (ولما كان التعريف بالخاصة اللازمة التي هي من آثار الشيء، كان تعريفاً بالأثر) عبارته صحيحة لكن فيها شيءٌ من الغموض.

(وأما كونه تاماً فلمشابهته) يعني: الرسم التام (الحد التام).

ما وجه المشابهة؟

(من حيث إنه وُضع فيه) يعني: قُدِّم فيه (الجنس القريب وقُيِّد بأمرٍ يختص بالشيء).

وهو كذلك: ما الإنسان؟ تقول: حيوانٌ ناطق، هذا ما نوعه؟ حدٌ تام.

(9/22)

________________________________________

ما الإنسان؟ حيوانٌ ضاحك. رسمٌ تام، متشابهان: حيوان حيوان، قيّدت الحيوان في الأول بناطق وهو من اختصاصاته، وقيّدت الثاني –حيوان- بضاحك وهو من خصائصه كذلك. إذاً: فيه شيءٌ من المشابهة.

(وُضع فيه الجنس القريب) يعني: قُدِّم.

(وقُيِّد بأمرٍ يختص بالشيء.

والحد التام لاشتماله على الذاتيات أقوى في المنع، وأبعدُ عن الشبهة والاحتمال. فخُصَّ بذلك اصطلاحاً، مع ما في الرسم التام من مناسبة التخصيص باسم الرسم).

إذاً: هذا وجه التسمية هنا بالرسم التام، أما الرسم فلكون ما يُذكر من الخاصة أثراً من آثار الماهيّة، والتام لكونه أشبَهَ الحدَّ التام فيما ذُكر.

قال هنا: (وَالرَّسْمُ النَّاقِصُ وَهَوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ عَرَضِيَّاتٍ) يعني: من كُلِّيّات.

(عرضيات أفاد بالجمع أنه لا تكفي خاصةٌ واحدة، وهذا مذهب المتقدمين المانعين التعريف بالمفرد).

(وَهَوَ) أي: القول (الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ عَرَضِيَّاتٍ تَخْتَصُّ جُمْلَتُهَا) أي: مجموعها، وإن لم يختص كلٌ منها.

يعني: المجموع جاء بخمس صفات، هذه الخمس الصفات لا توجد إلا في الإنسان، أما بعضُها فيوجد في الإنسان وفي غيره، هذا المراد بعرَضيات .. صفات مجموعها تختص بالإنسان، لكن بعضها مشترَك.

ولذلك قال: (وإن لم يختص كلٌ منها).

قال: (تَخْتَصُّ جُمْلَتُهَا) أي: مجموعُها.

(وإن لم يختص كلٌ منها) (بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ) سواءٌ اختص كلٌ منها بها أو بعضِها، أو لم يختص شيءٌ منها بها.

قال: (كَقَوْلِنَا فِي تَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ) سنأتي على المفردات.

ما هو الإنسان؟ قال: (إِنَّهُ مَاشٍ عَلَى قَدَمَيْهِ، عِرِيضُ الْأَظْفَارِ، بَادِي الْبَشَرَةِ، مُسْتَقِيمُ الْقَامَةِ، ضَحَّاكٌ بِالطَّبْعِ) خمس صفات، هذا تعريف للإنسان بعرَضيات، مجموعُها كلها لا يكون إلا في الإنسان، وأما بعضها فيصدق على الإنسان وعلى غيره.

ولذلك قال هنا: (مَاشٍ عَلَى قَدَمَيْهِ. هذا شاملٌ للدجاج والعصفور ونحوها.

عِرِيضُ الْأَظْفَارِ. هذا شاملٌ للبغل والحمار والفرس.

بَادِي "أي: ظاهر" الْبَشَرَةِ. هذا شاملٌ للثعبان ونحوه.

مُسْتَقِيمُ الْقَامَةِ. هذا شاملٌ لآدمي البحر.

ضَحَّاكٌ بِالطَّبْعِ. هذا شاملٌ للنسناس) هكذا يقول، أنت خذ المثال فقط.

وَالشَّأنُ لاَ يُعْتَرَضُ المِثَالُ ... إِذْ قَدْ كَفَى الفَرْضُ وَالاِحْتِمَالُ

 

قال: (مَاشٍ عَلَى قَدَمَيْهِ. أخرج الماشي على أربع أو أكثر كالدود والماشي على بطنه).

إذاً: وصف (مَاشٍ عَلَى قَدَمَيْهِ) هل هو خاصٌ بالإنسان؟ لا ليس خاصاً.

(عِرِيضُ الْأَظْفَارِ) أخرج مُدَوَّرَها كالطير.

(بَادِي الْبَشَرَةِ) أي: ظاهر الجِلدة، أخرج مستورَها بوبر أو صوف أو شعر أو شوك.

(مُسْتَقِيمُ الْقَامَةِ) أخرج غير مستقيمها.

فكل صفةٍ) هذا الشاهد.

(من هذه الصفات لا تختص بالإنسان؛ لحصول الأول في الدجاج، والثاني لنحو البقر، والثالث لنحو الحية، والرابع لنحو الشجر. وأما مجموعها فمختصٌ به).

(ضَحَّاكٌ بِالطَّبْعِ) أي: بالقوة، هذا مختصٌ بالإنسان.

(9/23)

________________________________________

إذاً: الرسم الناقص يتركب من عرَضيات، هذه العرضيات تختص جملتُها مجموعُها بحقيقة واحدة، وإن لم يختص كلٌ منها بهذه الحقيقة كالمثال المذكور الذي ذكره المصنف.

قال هنا: قوله: (تَخْتَصُّ جُمْلَتُهَا. أفاد أن العرَض العام لا يُعرَّ به) يعني: لا يقع وحده معرِّفاً.

(ولو تعدَّد؛ إذ لا يختص بحقيقة واحدة كتعريف الإنسان بأنه ماشٍ متنفِّس).

لو قيل: ما الإنسان؟ قال: ماشٍ متنفس، ما نوع ماشٍ؟ عرَض عام، متنفس؟ عرض عام، ولو تعدَّد؟ ولو تعدد. لا يقع التعريف به.

قال العطار: (لم يعتبره) يعني: العرَض العام.

(لم يعتبره المتأخرون من المناطقة) يكاد يكون عندهم إطباق المتأخرون: أن العرض العام لا يقع التعريف به.

(وحينئذٍ فإيراده في مباحث الكُلِّيّات على اصطلاحهم إنما هو بالعرضي على سبيل الاستطراد.

وأما على مذهب من اعتبره وهم المتقدمون فلا) إذاً: اعتبره المتقدمون والمتأخرون لم يعتبروه.

(وقد اعتبره المعتبرون في الرسوم الناقصة).

ثم قال: (وأما النوع فغير معتبرٍ في التعريفات عندهم مطلقاً).

الكلام هنا في الجنس والفصل .. إلى آخره، والنوع هل يُعتبر في التعريفات؟

قال: (وأما النوع فغير معتبرٍ في التعريفات عندهم مطلقاً، فذِكرُه في مباحث الكُلِّيّات استطراديٌ اتفاقاً) من باب الاستطراد.

(وأما قولهم في تعريف الصنف كما يقال: الرومي إنسانٌ في بلاد الروم، فهو تعريفٌ اسميٌ لماهيّة اعتبارية، وذكرُ النوع فيه إنما هو من حيث إنه جنسٌ اسميٌ لا من حيث إنه نوعٌ حقيقي).

جنس اسميٌ يعني: لا باعتبار الاصطلاحات المنطقية، وإنما هو وصفٌ خارجٌ عنه يعني: مصطلحٌ خاص.

إذاً: النوع لا يُعتبر مطلقاً، ولا يقع في الحد.

قال هنا: (أما كونُه رسماً فلما مر) من كونها أثر عنه.

(وأما كونُه ناقصاً فلعدم ذكر جميع أجزاء الرسم التام).

الرسم التام قلنا مؤلفٌ من جنسٍ قريب وخاصةٍ لازمة، لو ذكر هنا خواص متعددة ولم يذكر الجنس حينئذٍ لا يكون رسماً تاماً وإنما يكون ناقصاً.

قال رحمه الله تعالى: (وبقيتْ أشياء مختلفٌ فيها) أي: بقيت أشياء من صور التعريف مختلفٌ فيها.

(وبُحِث فيه بأنه يقتضي أن قول المصنف: وهو الذي يتركب من عرَضيات الشيء ليس من المختلف فيه).

قال في الرسم الناقص: (وَهَوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ عَرَضِيَّاتٍ) ثم بعد أن انتهى من شرح الرسم الناقص قال: (وبقيت أشياء مختلفٌ فيها) مفهومُه: أن ما سبق متفقٌ عليه. وليس الأمر كذلك، بل قوله: "المؤلَّف من عرضيات" مما اختُلف فيه. هذا تنكيت.

قال: (وبُحث فيه بأنه يقتضي) يعني قولُه هذا (أن قول المصنف: وهو الذي يتركب من عرضيات الشيء ليس من المختلف فيه، والشارح جعلَه منه.

وأُجيب عنه) يعني: صاحب المتن الأصل.

(والشارح جعلَه منه، وأُجيب عنه: بأنه لا يلزَم من ذكر المصنف له أنه ليس من المختلف فيه، وبأنه يقتضي أن المصنف لم يتعرض لشيءٍ منها مع أنه تعرض لبعضها بقوله: وهو الذي تركَّب .. إلى آخره كما علمتَ.

وأُجيب عنه: بأن المراد لم يتعرض لجميعها، فلا ينافي أنه تعرَّض لبعضها).

قال هنا: (اختُلف فيها منها) أي: من المختلف فيه.

(التعريف بالعرَض العام مع الفصل) هل يقع التعريف به أو لا؟

(9/24)

________________________________________

(كالماشي الناطق) ما الإنسان؟ قال: الماشي الناطق، بماذا وقع التعريف هنا؟ الماشي هذا عرَض عام، والناطق هذا فصلٌ.

إذاً: تألف أو رُكِّب هنا من عرَض عام وفصل، هذا مختلَف فيها.

(كالماشي الناطق بالنسبة للإنسان.

أو بالفصل وحدَه) ما الإنسان؟ قال: الناطق، هذا مختلفٌ فيه.

(أو مع الخاصة كالناطق) مثل: الناطق الضاحك، ما الإنسان؟ قال: الناطق الضاحك.

قال: (أو بالفصل وحده أو مع الخاصة كالناطق، هذا مثالٌ للفصل وحده، أو الناطق الضاحك هذا مثالٌ للفصل مع الخاصة بالنسبة للإنسان).

هذه ثلاث صور: الإنسان ماشٍ ناطق، ناطقٌ فقط، ناطق ضاحكٌ فقط. هذه ثلاث صور من المختلف فيه.

قال العطار: (ذهب قومٌ من المناطقة إلى عدم اعتبار العرَضي مع الفصل، أو مع الخاصة، وعدم اعتبار تركُّب الفصل مع الخاصة؛ لأن الغرض من التعريف شرحُ الماهيّة أو تمييزُها، والعرض العام لا يفيد شيئاً منهما؛ لكونه ليس ذاتياً ولا مميِّزاً، ولأن الفصل يفيد ما تفيده الخاصة من التمييز وزيادة، فلا فائدة لتركُّبه معها.

قال السعد: وفيه نظر.

لأنا لا نُسلِّم أن كل قيدٍ فهو إما للتمييز أو للاطلاع على الذات، بل ربما يفيد اجتماعُ العوارض زيادةَ إيضاحٍ للماهية وسهولة الاطلاع على حقيقتها، وكثيراً ما يضعون الأعراض العامة مواضع الأجناس).

يعني: أنه إذا اجتمعت العرَضيات العامة يمكن أن يحصل بها رفعٌ وكشفٌ للمعرَّف، وإذا كان كذلك يقول: يصلح أن يكون تعريفاً.

ولذلك قلنا: هذه مسألة فيها خلاف.

قال: (والأكثرون على أن كلاً منها حدٌ ناقص) يعني: الأشياء المذكورة السابقة: العرض العام مع الفصل، أو الفصل وحدَه، أو الفصل مع الخاصة.

الأكثرون -يعني: من المناطقة- على أن كلاً منها حدٌ ناقص.

وقال الأقل: إنها رسوم ناقصة، وقيل: غير معتبرة في التعريف. ثلاثة أقوال.

القول الثالث يعني: نادر القائل به، وإنما الخلاف هل هو رسمٌ ناقص أو حد ناقص، منهم من رأى أنها حدود ناقصة ومنهم من رأى أنها رسومٌ ناقصة.

قال العطار: (والأكثرون على أن كلاً منها حدٌ ناقص) يعني: في الثلاثة المذكورة.

قال الآمدي: إن التعريف بالعرَض العام مع الفصل كقولنا في تعريف الإنسان: هو الماشي الناطق) كالذي معنا.

(أو بالفصل مع الخاصة كقولنا: هو الناطق الضاحك، عدَّهما جماعة من المناطقة من الحد الناقص وهم الأكثر.

ومفهوم كلام الخوَنجي في الكشف: أنهما من الرسم الناقص، لا من الحد الناقص.

وأشار الفخر في الملخص لأولهما) يعني: العرض العام مع الفصل (وقال: ليس له اسمٌ مخصوص) أنه غير معتبر يعني.

(وممن صرَّح بثانيهما) يعني: الفصل مع الخاصة (سراج الدين الأرموي وسمّاه رسماً ناقصاً، والتعريف بالعرَض العام مع الخاصة رسمٌ ناقصٌ عند قوم).

إذاً: هذه الثلاث الصور مختلفٌ فيها: معرِّفة أو لا؟ قيل: أنها ليست معرِّفة، لكن الخلاف الأشهر: هل هي حدٌ ناقص أم رسمٌ ناقص؟ العرَض العام مع الفصل، الفصل وحده، أو الفصل مع الخاصة.

والصحيح الذي عليه الأكثر: أنها حدودٌ ناقصة.

قال العطار: (وأيضاً الفصل البعيد مع الفصل القريب، أو مع الخاصة خارجٌ عما ذُكر، مع أنه يفيد الاطلاع على الذاتي).

قال هنا: (ومنها) أي: مما اختُلف فيه.

(9/25)

________________________________________

(التعريف بالعرض العام مع الخاصة كالماشي الضاحك بالنسبة للإنسان).

فيما سبق: الفصل مع الخاصة، أو العرَض العام مع الفصل.

هنا: العرَض العام مع الخاصة كالماشي الضاحك بالنسبة للإنسان.

(أو بالخاصة وحدَها) الضاحك، لكن بشرط.

قال: (المساويةِ للمرسوم) يعني: هاتان الصورتان.

(والأكثرون من المناطقة على أن كلاً منهما رسمٌ ناقص) كلٌ منهما يعني: العرَض العام مع الخاصة، والخاصة وحدَها المساوية للمرسوم.

الأكثرون على أن كلاً منهما رسمٌ خاص.

قال العطار: (في هذا القسم قولان) هنا يأتي الخلاف في عدم الاعتبار، ليس كالسابق.

(في هذا القسم قولان: أحدُهما: أنها غير مُعتبرة.

وثانيهما: رسومٌ ناقصة).

إذاً: الخلاف ليس كالسابق، السابق حدٌ ناقص أو رسمٌ ناقص، هنا رسومٌ ناقصة أو أَنزل .. ليست برسوم أصلاً .. ليست بمعرِّفات.

(أنها غير مُعتبرة.

وثانيهما: رسومٌ ناقصة.

هذا وقد أشار الجلال الدواني إلى ضابطه وهي) هذا الضابط مهم جداً ويضبط لك المسائل كلها.

قال: (مدار الحَدَّية) يعني: متى تحكم على أنه حدٌ أو رسمٌ.

(مدار الحدّية على كون المميِّز ذاتياً، والرسمية على كونه عرضياً) متقابلان.

هنا حد رَسْم، طيب التمام والنقص؟

(ومدار التمام فيهما على الاشتمال على الجنس القريب، فالفصل القريب مع الجنس القريب حدٌ تام) كما ذكَره هنا صاحب المتن.

(وبدونه حدٌ ناقص، سواءٌ كان مع الجنس البعيد أو لم يكن مع شيءٍ، والخاصة مع الجنس القريب رسمٌ تام) كما ذكره الأصل.

(وبدونه رسمٌ ناقص، سواءٌ كان مع الجنس البعيد أو لم يكن مع شيء .. ) إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

قال هنا: (واعتُرِض بأن التعريف بالرسم ممتنع؛ لأن الخارج إنما يُعرِّف الشيء إذا عُرِف اختصاصُه به، وفيه دور).

يعني: لا يمكن أن يؤتى بالخاصة؛ لأن الخاصة تستلزم أن تعرِف أنها خاصةٌ لازمة، لا بد أن تكون لازمة.

أنت سُئلتَ: ما الإنسان؟ وتجهل معنى الإنسان، فكيف تفسِّر له شيئاً يعتقد أنه يجهله، ثم تبين له لازم؟ لأنه لا يمكن أن يَفهم اللازم إلا إذا فَهم الأصل، وهو يجهل الأصل.

حينئذٍ لا بد أن يكون كلٌ منهما مرتباً على الآخر.

قال هنا: (واعتُرض) على ماذا اعتُرض؟

قال: أي: ما تقدَّم من أن المعرِّف ينقسم إلى حدٍ ورسم .. الرسم يعني.

قال: (واعتُرض بأن التعريف بالرسم) المناسب أن يقول: بالخاصة، والاعتراض هنا على الخاصة.

(ممتنع للدور) يعني: لتأديته للدور.

لماذا .. ما التعليل؟

قال: (لأن الخارج) يعني: الخاصة.

(إنما يُعرِّف الشيء إذا عُرِف اختصاصُه به) فلا بد أن يعرِف أنه مختصٌ به.

(وفيه دور لتوقُّف معرفةِ كلٍ منهما حينئذٍ على معرِفة الآخر).

(وفيه دور) المناسب: ففي التعريف به دورٌ يعني: بالخاصة.

(منهما) أي: المعرَّف بالفتح، وخاصَّتُه المعرِّفة.

(على معرفة الآخر) أي: المعرَّف بالفتح.

(فتتوقف معرفتَه على معرفة الخاصة من حيث كونُها تعريفاً، والخاصة تتوقف معرفة اختصاصها على معرفة المعرَّف بها) كلٌ منهما يلزم من معرِفة الآخر، أنت تدّعي أنه خاصةٌ له إذاً: لا بد أن يتوقف فهم الخاصة على معرفة المعرَّف، ثم إذا عرَفت المعرَّف لا بد أن تُثبت أنه خاصةٌ لهما، فكلٌ منهما متوقفٌ على الآخر.

(9/26)

________________________________________

قال هنا: (وأُجيب بمنعِ الحصْر).

قال: (أعني قولَه: لأن الخارج إنما يُعرِّف) هذا حصْر.

وأُجيب بمنع الحصر) المذكور (أعني قولَه: لأن الخارج إنما يُعرِّف .. إلى آخره.

وقوله: لجواز. هذا مستنَدٌ لذلك المنع.

وحاصلُه: أن التعريف إنما يتوقف على وجود الاختصاص في نفس الأمر لا على العِلم به).

الاختصاص واللزوم الذي يتعلق بالخاصة أن يكون ملازماً له في نفس الأمر -في الواقع- لا على العلم به. واضح هذا الفرق بينهما.

(أن تكون الخاصة لازمةٌ في نفس الأمر، لا على العلم به) فرقٌ بين مسألتين.

(سلَّمنا توقُّفَه على العلم باختصاصه بها، الموقوفِ على معرفتها ومعرفة غيرها، لكن لا دورَ؛ لأنه يكفي في ذلك الشعورُ من وجهٍ كما نرى جِرْماً في حيّزٍ فنعلم اختصاصه به، وسلبُ ذلك الحيّز عن غيره من الأجْرَام وإن لم نعلم منه ومن غيره إلا الجِرْمِية).

يعني: لو رأيت في حَيّز ما، رأيت جِرماً لا تدري ما حقيقة الجرم، حينئذٍ تعرِف اختصاصه به كيف؟ يحصل عندك شعور بأن هذا الحيّز الذي أخذَه الجرم إنما هو مختصٌ به، وتنفيه عما عداه؛ لأنك لا تدرك بالبصر إلا هذا.

حينئذٍ نقول: هذا الجِرم هل يُدرَك منه شيءٌ غير ذلك؟ الجواب: لا. هذا الذي يُعنى هنا.

قال: (وأُجيب بمنع الحصر المذكور لجواز أن يكون بين الشيء ولازمه ملازمةٌ بيِّنة) مر معنا أن اللازم نوعان: بيّنٌ وغير بيّن، والبيّن أعم وأخص.

اللازم البيّن هو الذي لا يحتاج إلى دليل، إذاً: قد يكون بين اللازم والملزوم ما لا يحتاج إلى دليل ولا إشكال فيه.

(أن يكون بين الشيء ولازمِه ملازمةٌ بيّنة؛ بحيث ينتقل الذهن منه إليه).

(منه) أي: من اللازم.

(إليه) أي: الشيء الملزوم.

(لتحقق اختصاصه به في الواقع وإن لم يُعرَف).

هذا قلنا: فرقٌ بين العلم بكون الشيء لازماً في نفس الأمر، أو على -تعبير صحيح-: بكون الشيء لازماً في نفس الأمر وبين العلم به.

والذي ينبغي اعتباره هنا: كونُه في نفس الأمر، وأما العلم به فهذا شيءٌ أشبه ما يسمى بالشعوري وهو انتقال من شيءٍ إلى شيءٍ آخر فقط على مدار الملازمة البيّنة التي لا تحتاج إلى دليل.

قال: (وبما تقرر -ما سبق- عُلِم أن التعريف لا يكون بغير القول).

ولذلك قال قول .. أليس كذلك؟ الحد التام هو القول الدال، قلنا أراد به التعريف اللفظي.

إذاً: القول احترز به عن الإشارة والكتابة، فلا يكون الحد بها البتة. وهو كذلك.

وأما الألفاظ التي تُكتب، قلنا النقوش هذه دالة على الألفاظ، والألفاظ دالةٌ على المعاني فلا إشكال فيه.

قال: (وبما تقرر عُلم -أي: في مبحثي الكُلِّيّات والمعرِّفات-: أن التعريف لا يكون بغير القول كالإشارة والخط).

ثم أخذ في بيان الحُجة ومقدماتِها مبتَدِءً بمقدماتها فقال: (الْقَضَايَا).

بهذا البحث "المعرِّفات" نكون قد انتهينا من نصف العلم.

العلم نوعان: تصور وتصديق، التصور قلنا: له مبادئ وهو الكُلِّيّات الخمس، ومقاصد وهو القول الشارح. انتهينا منهما .. الكُلِّيّات الخمس والقول الشارح.

نشرع إن شاء الله تعالى في علم التصديقات "القسم الثاني" علم التصديقات الذي كذلك يتألف من مبادئ ومقاصد.

مبادئ علم التصديقات: القضايا وأحكامُها يعني: وما يتعلق بها.

(9/27)

________________________________________

ثم يأتينا في الخاتمة -إن شاء الله تعالى- ما يتعلق بالقياس .. مبادئ ومقاصد، وغداً إن شاء الله تعالى نبدأ في القضايا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!

(9/28)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

قال المصنف رحمه الله تعالى: (الْقَضَايَا) بعدما انتهى من الكلام على ما يتعلق بالتصورات بالمبادئ والمقاصد، أخذ في بيان الحجة ومقدماتها مبتدِءً بمقدماتها وهي القضايا فقال: (الْقَضَايَا).

القضايا جمع قضية، سُمِّيت بهذا لأنه قُضِي وحُكم فيها؛ لأن القضاء هو الحكم.

قضى بكذا يعني: حكم بكذا، فهي قضية لأنه مقضيٌ فيها أو محكومٌ.

فهي فعلية بمعنى مفعولة جمعُ قضيةٍ.

قال: (ويُعبَّر عنها) يعني عن معناها (بألفاظ منها: الخبر).

أي: من حيث احتمالها الصدق والكذب، تسمى حينئذٍ خبراً، فالقول المحتمِل للكذب لذاته يسمى خبراً من حيث احتمالُه ذلك، ويسمى قضية من حيث اشتمالُه على الحكم، ويسمى مقدمةً من حيث كونُه جزء قياس، ومطلوباً من حيث طلبُه بالدليل، ونتيجة من حيث إنتاجُه القياس، ومسألة من حيث السؤالُ عنه.

واللفظ واحد يعني: قضيةٌ مؤلفةٌ من مسندٍ ومسندٍ إليه، وتختلف الإطلاقات باختلاف الاستعمال، قد تكون خبراً إذا أُريد بها وقُصد بها ما يحتمل الصدق والكذب لذاته، قد تكون نتيجة، قد تكون مقدمة.

فحينئذٍ الأسماء متعددة والمسمى شيءٌ واحد، وإنما اختلفت الأسماء باختلاف الاعتبارات.

إذاً: (يُعبّر عنها بالخبر) ليس المراد أنه لا يُعبّر عنها إلا بالخبر لا، قد تسمى غبر خير، لكن إذا أُطلقت فالشائع ما يسمى بالخبر والقضية، يعني: هذان الاسمان -القضية والخبر- يعتبران من أشهر ما تسمى به الجملة الاسمية والجملة الفعلية.

ثم أراد أن يعرِّفها فقال: (الْقَضِيَّةُ:

قَوْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ إِنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ).

هذا المتن (الْقَضِيَّةُ) حقيقتُها، تعريفُها، ما هيتُها: (قَوْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ إِنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ) عدَل عن التعريف المشهور: وهو ما احتمل الصدق والكذب لذاته.

مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكِذْبِ الخَبَرْ ... وَغَيْرُهُ الاِنْشَا وَلاَ ثَالِثَ قَرّ

 

ج

لما سيأتي من اعتبارٍ معيّن فيه.

(الْقَضِيَّةُ: قَوْلٌ) هذا جنس شمِل القضية وغيرَها يعني: يشمل الأقوال التامة والناقصة كما صرَّح بذلك قال: (دخل فيه) كيف دخل فيه؟ لأنه جنس، فاعتبره جنساً ثم عمَّمه، هذا شأن الأجناس خاصةً في الحدود.

(دخل فيه لكونه جنساً الأقوالُ التامة والناقصة) بناءً على أن القول لا يختص بالمركب التام. وعند بعضهم: أن القول مرادفٌ للمركب التام، ولذلك قال بعضهم: (قَوْلٌ) أي: مركبٌ مفيدٌ فائدة تامة.

وهذان احتمالان على حسب اصطلاح من ينظُر، هو محتمِلٌ، لكن الشائع عندهم أن القول هو المركّب، ولذلك مر معنا (الْقَوْلُ الشَّارِحُ)، ولا شك أن (الْقَوْلُ الشَّارِحُ) ليس بمركب مركباً تاماً، وإنما هو مركبٌ ناقص، لذلك هو مركبٌ توصيفي.

(10/1)

________________________________________

"حيوانٌ ناطق" هذا مركَّب توصيفي وليس بمركب تام، ولذلك قلنا: لا يصح التعريف إلا أن يُعتَقد حمله على المعرَّف: الإنسان حيوانٌ ناطق "ما يستلزم معرفتُه معرفتَه" قلنا: لا بد من قيد؛ لأن هذا ظاهرُه أن التصور يكفي في حصول التعريف، وليس الأمر كذلك، بل لا بد من اعتقاد حملِ المعرِّف على المعرَّف، بمعنى أنه مسنَد ومسنَد إليه، محكومٌ ومحكوم عليه.

حينئذٍ القول هناك صدضق على المركَّب الناقص، وهذا شائع عند كثير من المناطقة وإن خصَّه بعضهم بالمركب التام.

ولذلك قال هنا: (وصرَّح القطب في شرح الشمسية بأن القول موضوعٌ للمركب التام) على قول.

(دخل فيه الأقوال التامة والناقصة).

القول كما مر معنا أنه قد يكون ملفوظاً وقد يكون معقولاً، ولذلك القول المركَّب يدخل هنا في هذا القيد (قَوْلٌ) يدخل فيه القول المركّب سواءٌ كان ملفوظاً أو معقولاً، هذا في الأصل.

(فهو مشترَكٌ لفظي أو حقيقة في المعقول مجازٌ في الملفوظ) هذان قولان.

مشترَك لفظي لأنه يُحمل على المعقول ويُحمل على الملفوظ، أو نقول: باعتبار الفن أن بحثَه في الأصل هو في المعقولات، فحينئذٍ يكون حقيقة في المعقول مجازاً في الملفوظ؟ الثاني أوجَه وأوفَق كما قال العطار.

قال: (فهو مشتركٌ لفظي أو حقيقةُ في المعقول مجازٌ في الملفوظ. تسميةً للدال باسم المدلول، والثاني) وهو كونه حقيقة في المعقول مجازاً في الملفوظ.

(والثاني أنسبُ بنظر الفن وأوفق بقاعدة الأصول.

وكذا القول في القضية أي: إطلاق لفظ القضية على المعقول والملفوظ، فإن كان المقصود تعريفَ القضية المعقولة -كما هو الظاهر- يُحمل القول على المعقول) قضية معقولة قضية ملفوظة، قلنا الأصل هو المعقولات، ولا نحتاج إلى الألفاظ إلا في التعبير لما وقع في النفس.

يعني: الإِفهام والتفهيم كما مر معنا، وأما الإنسان في نفسه إذا رتّب أمرين معلومين أراد أن يصل إلى النتائج بالمجهولات، هذا لا يحتاج إلى لفظ. حينئذٍ القضية تكون عنده -المسند والمسند إليه- تكون معقولة، أمر يستحضره في نفسه ويُنتج وانتهى الأمر، فلا يحتاج إلى لفظ.

حينئذٍ ما دام أن أصل بحث المناطقة في المعقولات، فحينئذٍ صار الأصل في القول هو المعقول، وصار الأصل في القضية هو المعقول.

فاستعمال القضية في الملفوظ فرع، واستعمال القول في الملفوظ يعتبر فرعاً، هذا الذي قرره هنا.

(يُحمل القول على المعقول، وإن كان المقصود تعريف القضية الملفوظة يُحمل على القول الملفوظ، وحينئذٍ فالمعرَّف هاهنا إما القضية المعقولة أو القضية الملفوظة.

وتعريف أحدهما يُغني عن تعريف الآخر؛ لأن المعقول مدلولةً للملفوظة فتعريفُها تعريفُها) لكن الظاهر أنه أراد به الملفوظ؛ لأنه قال: (يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ) يعني: المتكلم به.

إذاً: خرج عن كونه معقولاً فصار ملفوظاً.

فالمراد بالقضية: الملفوظة، وبالقول: المركّب الملفوظ. لكن يكون مجازاً.

قال: (قولٌ دخل فيه الأقوال التامة والناقصة).

(10/2)

________________________________________

الأقوال التامة يعني بها: المسند والمسند إليه، يعني: الجملة الاسمية والجملة الفعلية. يعني: ما يسمى كلاماً في اصطلاح النحاة: اللفظ المركّب المفيد بالوضع، المسند والمسند إليه، أو إن شئت قل: الإسناد الخبري التام.

والأقوال الناقصة المراد بها: كل ما لم يكن إسناداً خبرياً تاماً، فحينئذٍ يدخل فيه الناقص الذي هو الكلِم -بعض الكلام-، ويدخل فيه المركَّب التوصيفي، والإضافي .. ونحو ذلك.

هذه مركّبات لكنها مركّبات ناقصة؛ لأنها غير محمولة على موضوعات، وإنما هي مركباتٌ في أنفسها.

قال: (يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ) يعني: المتكلم به.

(إِنَّهُ) أي: قائله.

(صَادِقٌ فِيهِ) يعني: في القول (أَوْ كَاذِبٌ) فيه. على الحذف والإيصال، محذوف هو لكن نقدِّره.

(صَادِقٌ فِيهِ) أي: في القول (أَوْ كَاذِبٌ) يعني: فيه.

(أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ) اللام في قوله: (لِقَائِلهِ) بمعنى عن يعني: يقال عن قائله، لا يلزم أن يقال لقائله مباشرة تباشِره، فإذا لم تباشره حينئذٍ لا يصح لا، المراد عن قائله سواء باشرته أم لا هذا المراد هنا.

(صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ).

قال هنا: (الصدق والكذب صفتا القضية، واشتهرا بمطابقة الخبر).

(اشتهرا) يعني: الصدق والكذب.

(بمطابقة الخبر للواقع) وهذا في الصدق (وعدم مطابقة الخبر للواقع) هذا في الكذب.

(وصادق وكاذب صفتان للمتكلم).

الإخبار عن الشيء على ما هو عليه هذا صادق، والإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه هذا كاذب.

قال هنا: (قوله: يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ. فصلٌ مخرجٌ الأقوالَ الإنشائية) كما صرّح المصنف هنا.

(خرج به) أي: بهذا القيد الذي هو: (يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ إِنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ) هذا قيد.

(قَوْلٌ يَصِحُّ) هذان قيدان: الأول جنس، والثاني يعتبر فصلاً وليست هي فصول متعددة.

إذاً: (قَوْلٌ يَصِحُّ) هذا قيدٌ.

(خرج به) يعني: بقوله: (يَصِحُّ).

(الأقوال الناقصة) لأن قوله: (يُقَالَ لِقَائِلهِ إِنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ) هذا إنما يكون جواباً للإسناد الخبري التام. إذاً خرج به الأقوال الناقصة.

(والإنشائيات) كالأمر وما عُطف عليه؛ لأنه لا يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب، وهذا الميزُ بين الأمرين.

الكلام إما خبرٌ وإما إنشاء، فالخبر: ما صح أن يقال لقائله إنه صادق أو كاذب، أو إن شئت قل: محتملٌ للصدق والكذب لذاته. يعني: يقال صِدق ويقال كذِب.

والصدق المراد به: مطابقة الخبر للواقع.

والكذب المراد به: عدم مطابقة الخبر للواقع.

الإنشاء: ما لم يكن كذلك، كالأمر مثلاً فإنه لا يقال لقائله: صدقت أو كذبت، أو يقال إنه صدق أو كذِب؛ لأنه لم يقع أصلاً.

"قُم" مدلولُه طلبُ حدثٍ في المستقبل، وإنما يوجَّه الصدق والكذب لشيء وقع وحصل، ولذلك من أبرز ما يميَّز به الخبر والإنشاء أن يقال: الخبر عن شيءٍ مضى .. وقع وحصل، وأما الإنشاء فلم يكن.

فيُنظر في مدلول الجملة هل وقع الحدث أم لا؟ إن وقع الحدث حينئذٍ يكون خبراً، وإن لم يقع كما هو الشأن في الاستفهام، والتمني، والتعجب .. ونحوها. فنقول: هذا يسمى إنشاءً.

ولذلك قال: (خرج به الأقوال الناقصة والإنشائيات).

(10/3)

________________________________________

قال: (قوله: يَصِحُّ. فصلٌ مخرج الأقوال الإنشائية.

وبُحِث فيه بأنه يخرج عن الحد القضايا التي لا يصح أن يقال لقائلها ذلك -صادق أو كاذب- لعصمته من الكذب) يعني: لقول الباري جل وعلا، وكذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه حق قول الباري، هذا لا يحتمل إلا الصدق، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما صح عنه وثبت لا يحتمل إلا الصدق.

إذاً: لا يقال لقائله: إنه صادقٌ فيه أو كاذب.

(أو لموافقة قوله الواقع، أو للقطع بكذبه، ومخالفة قوله للواقع فصار التعريف غير جامع.

والصواب: إسقاطٌ "لقائله" وإبداله بقيد لذاته).

إذاً: "محتمِل الصدق والكذب" إلى هنا نقول: خرج عنه ما لا يحتمل إلا الصدق، وخرج عنه ما لا يحتمل إلا الكذب.

(لذاته) يعني: لذات اللفظ، لذات التركيب دون نظرٍ إلى قائله. هذا الأصح.

(لذاته) هذا للإدخال، وجعلَه بعضهم للإخراج كذلك، فحينئذٍ للإدخال؛ لأن هناك ما لا يحتمل إلا الصدق، فلا بد من إدخاله؛ لأنه يسمى خبراً.

كذلك: ما لا يحتمل إلا الكذب، باعتبار ذاته بقطع النظر عن المتكلم به، هذا نقول: يحتمل الصدق والكذب، لكن لما نُسِب إلى القائل، حينئذٍ نقول: هذا لا يحتمل إلا الكذب، فرْقٌ بين الأمرين.

ومن هنا نقول: الخبر الموجود .. كتاب الله تعالى إما إخبارٌ وإما إنشائيات.

إذاً: الخبر يحتمل الصدق والكذب، بهذه المسألة وهذه لا يخالِف فيها أحد، نستدل بهذا على أنه لا غضاضة أن يقال بأن في القرآن مجاز ويصح نفيه، لماذا؟ لأنك قلت: يصح نفيه لا باعتبار كونه قرآناً، وإنما باعتبار المعنى الحقيقي وليس هو المراد ظاهراً من القرآن، المراد المعنى المجازي، وأما المعنى الحقيقي فليس مراداً فلا تنسِبه إلى الله عز وجل.

حينئذٍ صح أن يقال "لذاته" أنه يجوز نفيه، وإذا جاز نفيه فحينئذٍ نقول: إذا قيل: أنه لا يجوز أن يقال في كلام الله تعالى ما يجوز نفيه نقول: أنت سلّمت بأن في القرآن ما هو خبر، والخبر يجوز تكذيبه، هذا الأصل بقطع النظر عن قائله يجوز، فأنت جوّزت ما هو أعظم من النفي، ولا شك أن التكذيب أعظم من النفي.

فحينئذٍ كيف يقال بالتفرقة بين الأمرين؟

فيُستدل بكون الخبر ما يحتمل الصدق والكذب لذاته بأنه في القرآن على أنه لا بأس أن يقال في القرآن باعتبار ذاته أنه ما يحتمل الصدق والكذب.

إذاً: لا غضاضة في الرد على من يقول بالمجاز: بأنه يجوز نفيه وكيف يقال بأن القرآن يجوز نفيه؟

أولاً: لا يجوز نفيه من حيث اعتبار المعنى المجازي، وهو الذي يُنسب للقرآن، حينئذٍ ((جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ)) [الكهف:77] لو سلّمنا بأنه مجاز. ظاهر القرآن أنه ما أراد الإرادة الحقيقية، وهو الذي يجوز نفيُه، أما الأمر الظاهر الذي هو المجاز لا يجوز نفيه، حينئذٍ ما نُفي.

فحينئذٍ على كلام المحشي هنا: أنه لا بد من إبدال قوله: لقائله أن يقال: لذاته.

لأنه في ظاهر اللفظ أنه لا يدخل معنا قول المعصوم .. النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك القرآن.

ولذلك قال العطار هناك: (المشهور تعريف القضية باحتمالها الصدق والكذب اللذين هما صفتان للفظ) هذا هو المشهور.

(10/4)

________________________________________

(والمصنف عدل عنه إلى تعريفها باعتبار الصدق والكذب اللذين هما صفتا المتكلم، مع أن تعريف الشيء بحال نفسه أولى من تعريفه بحال متعلَّقه).

بحال نفسه يعني: الخبر وهو كذلك، وهو أولى وهذا مسلَّم، وإن كان هو يعترضه لكن هذا هو الأولى؛ لأنا نحن نعرِّف القضية باعتبارها هي لا باعتبار المتكلم، نحن لا نبحث في المتكلم وإنما نبحث في كلام المتكلم، إذا كان كذلك فحينئذٍ نعرِّف القضية باعتبار نفسها لا باعتبار متعلَّقها الذي تعلقت به وهو المتكلم.

قال: (مع أن تعريف الشيء بحال نفسه أولى من تعريفه بحال متعلَّقه).

قال: (والمشهور أحط من المذكور).

ما معنى المشهور أحط من المذكور؟

(المشهور) يعني: ما احتمل الصدق والكذب لذاته.

(أحطُّ) يعني: أنزلُ درجة.

(من المذكور) الذي معنا (يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ إِنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ).

يعني: يرجِّح هذا التعريف على التعريف المشهور، وهذا الترجيح فيه نظر؛ لأن القضية من حيث هي، نقول: التعريف لها باعتبار ذاتها لا باعتبار متعلَّقها، وهذا الذي ينبغي اعتمادُه.

ولو قيل: ثم دورٌ أو ثم أشياء أخرى تتعلق بتعريف القضية من حيث ذاتها، نقول: هذا يمكن تقييده ويمكن الجواب عنه.

لكن ابتداءً الأصل: إنما نعرِّف القضية لا نعرِّف القائل.

القضية .. قال هنا: (قَوْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ) نقول: لا. الصدق والكذب هذان وصفان للقضية، كون الصدق مطابقة النسبة الكلامية للواقع أو عدم مطابقتها للواقع. إذاً: هذا باعتبار اللفظ نفسه.

وأما باعتبار القائل فلا نظر فيه البتة، فنخالف هنا العطار.

قال: (والمشهور أحط من المذكور؛ لظهور توجه لزوم الدور على التعريف المشهور، لاشتهار تعريف الصدق والكذب اللذين هما صفتا القضية لمطابقة الخبر للواقع، وعدم مطابقة الخبر للواقع.

بخلاف اعتبار صدق المتكلم في التعريف فإنه: الإخبار عن الشيء على ما هو به.

واعتبار كذِبه فيه فإنه: الإخبار عن شيء على خلاف ما هو به) وهذا الذي ينبغي اعتماده: أن يقدَّم الصدق على الصادق، وأن يقدَّم الكذب على الكاذب؛ لأنه أصلاً لا يُعرَف الصادق إلا بمعرفة الصدق، ولا يُعرف الكاذب إلا بمعرفة الكذب.

فحينئذٍ كيف يقال بأن الدور يتوجه إلى التعريف المشهور؟ بل هنا نحتاج إلى تعريف الصدق أولاً، ثم بعد ذلك نعرِف الفرع وهو الصادق، ثم نحتاج إلى معرفة الكذب، ثم معرفة الكاذب.

(وبهذا ظهر أن قوله: لقائله ليس مستدركاً كما تُوهِم، وأن التعريف المذكور لا يرِد عليه الدور كما قيل به هنا، إنما يرِد على التعريف المشهور.

والمعرَّف هنا هي القضايا المستعملة في الأقيسة، فلم يدخل خبر الله تعالى وخبر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن كل واحدٍ منهما دليل على حِدَته، على ما قُرر في الأصول، وهي أدلة نقلية، وكلامنا هنا في الأدلة العقلية وموادها وهي: القضايا العقلية).

يعني: جمودٌ على ما ذكره المتقدمون، لا يريد أن يُجعَل في المنْطِق والأقيِسة ما يمكن أن يُتوسَع فيه ويُجعل الدليل النقلي معتمداً فيه.

(10/5)

________________________________________

وهذا كما ذكرت لكم فيما سبق: الأولى أننا إذا جعلنا هذا الفن داخلاً في العلوم الشرعية لا بد أن نتوسع في المصطلحات، لا بد أن نُغيِّر لا بأس.

إذا كان اللفظ عندهم عاماً نخصصه، إن كان عندهم خاص عمَّمناه، استدركنا على بعض المسائل، جعلوه ثلاثة أقسام جعلناه خمسة، جعلوه خمسة أقسام جعلناه ثلاثة لا بأس، بل هذا الذي ينبغي اعتمادُه.

وأما الوقوف على ما ذكروه هم، ثم إذا أُريد استعماله في بعض الكتب الشرعية على ما وُجد فنأتي بالاعتراض أنه هذا فنُّهم، وأن هذا أصلاً وضعُه في المعقول ولا ترِد الأدلة النقلية نقول: لا.

ولذلك الأصوليين يقولون: هذا أمرٌ ومطلق الأمر للوجوب، إذاً: هذا للوجوب، هذا دليل شرعي.

مطلق الأمر للوجوب هذه قاعدة أصولية، فتعتبر دليلاً شرعياً.

ما هو الأصول؟ قواعد وأدلة، وهذه الأدلة لا بد أن تكون معتمَدة في الشرع يعني: دل عليها دليلٌ شرعي.

إذاً: هذا نقول: قياس فاشل لأنه ليس في المعقولات بل هو في المنقولات؟ ليس بصحيح، هذا التوسع أو الجمود الذي عليه العطار هذا فيه نظر، يُنتبه له.

إذاً: (يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ إِنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ) فاعتراض المحشي هنا أولى مما قرره العطار.

قال: (خرج به الأقوال الناقصة) كالمركب الإضافي، والتوصيفي، والمزجي، وجملة الشرط وحدَها، وجملة القسم كذلك .. هذه كلها مركّبات ناقصة.

قال: (والإنشائيات) وإن كانت أقوالاً تامة.

أقوال تامة أو لا؟ نقول: نعم هي أقوال تامة.

يعني: فعل الأمر، التعجب، الجملة .. ؛ لأنها لا تحتمل صدقاً ولا كذباً، وهي من قبيل التصور الخالي عن الحُكم.

قال هنا: (والإنشائيات من الأمر، والنهي، والاستفهام) الأمر والنهي والاستفهام معلومة من مواضِعها.

(وغيرِها كالتخصيص، والعرض، والترجي، والتمني، والدعاء، والنداء) هذه كلها تعتبر من الإنشائيات.

قال: (والمراد بالقول هنا) أي: في تعريف القضية.

(المركَّب تركيباً لفظياً في القضية العقلية أو) هذا ليس للجمع، هذا أو ذاك (عقلياً في القضية العقلية).

قال العطار: (لا يفيد أن القول مشترَكٌ بين القضية المعقولة والملفوظة) لا يرد هذا كما مر معنا هناك.

(وأنه أُريد به كلا المعنيين، فإن العطف بأو يأبى ذلك) يعني: لا يقال بأن اللفظ مشترَك بين القضية اللفظية والقضية العقلية، ولا يقال بأن كلا المعنيين مرادٌ.

(فإن العطف بأو يأبى ذلك) يعني: الذي يمنع هو العطف بأو؛ لأنها لأحد الشيئين أو الأشياء. كما هو مشهورٌ في محله.

(يأبى ذلك، بل معناه: أن المعرَّف) هنا (قَوْلٌ).

(إما القضية المعقولة فيُراد بالقول المركّب العقلي، أو الملفوظة فيُراد به المركّب اللفظي) يعني: هذا أو ذاك.

(وتعريفُ واحدٍ منهما تعريفٌ للآخر) لأن اللفظ مدلولُه المعقول يعني: لا إشكال، فالبحث هنا صِرف لفظي .. من باب تحرير المصطلحات فقط.

حينئذٍ إذا عرَّف اللفظية لا شك أن مدلول اللفظية المعقول، وإذا عرَّف المعقولة لا شك أن دالّها لفظيٌ .. وهكذا، لا نحمِله على اللفظ المشترك ولا نقول: أراد المعنيين معاً، بل الأصل فيه أن يُراد واحدٌ منهما إما العقلي وإما اللفظي.

(10/6)

________________________________________

(وإنما قدَّم احتمال القضية اللفظية) لأنه قال هنا: (والمراد بالقول هنا: المركّب تركيباً لفظياً أو عقلياً).

طيب. إذا كان الأصل العقلي كان هو الأولى بالتقديم، لماذا قدَّمه؟

قال: (وإنما قدَّم احتمال القضية اللفظية مع أنه مرجوح؛ لأنه المناسب لقوله: يُقَالَ لِقَائِلهِ).

(قَوْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ) إذاً: المراد اللفظية.

ولذلك الشارح قدَّم قال: (والمراد بالقول هنا: المركّب تركيباً لفظياً) فقدَّم اللفظي على العقلي؛ لأنه المناسب لقوله: (يُقَالَ لِقَائِلهِ).

(لأن القول هو اللفظ، ويصدق على المعقول أنه يقال لقائله على حذْف مضاف أي: يقال لقائل دالِّه، والكلامُ فيه سهلٌ) كما ذكرناه سابقاً؛ لأن كلاًّ منهما لازمٌ للآخر.

المعقولة هذه مدلول لفظي، واللفظي هو دال المعقول.

حينئذٍ إذا حملناه على المعقول نأتي بالتقدير على أنه على حذْف مضاف أي: يقال لقائل دالِّه. والكلام فيه سهلٌ.

بعدما عرَّف القضية أراد أن يقسِّمها التقسيم المشهور عند المناطقة قال: (وَهِيَ) أي: القضية.

(إِمَّا حَمْلِيَّهٌ، وَإِمَّا شَرطِيَّةٌ) هذان قِسمان: القضية إما حملية وإما شرطية.

(وقدَّم الحملية على الشرطية لأن الحملية جزء الشرطية) الشرطية مؤلفة من حملِيَّتين.

إذاً: الجزء مقدَّمٌ على الكل، فالعِلم بالجزئيات مقدمٌ على العلم بالكُلِّيّات، ولذلك قدّم الحملية على الشرطية.

(والحملي) هكذا بالياء، نسبةً للحمل، ما هو الحمل؟ الذي هو الإخبار، أن تقصِد الإخبار، هو أمرٌ معنوي، لكن يدل عليه التركيب اللفظي: "زيد" عندك كلمة زيدٌ وعندك كلمة قائم، فتنوي أن تُخبر عن زيد بمضمون قائم، فتجمع بينهما، تجعل الأول زيد موضوعاً أو مسنداً إليه أو مبتدأ، وتجعل محمولاً هذا خبراً أو محمولاً.

وحينئذٍ النسبة بينهما تكون أمراً اعتبارياً في الذهن، وهي النسبة الكلامية، ثم حُكم الجملة، ثم ما يتعلق به من حيث الإيقاع والانتزاع على ما مر في باب التصورات.

إذاً: إما حملية وإما شرطية.

(وحملية نسبة للحمل؛ لاشتمالها على حمل المحمول على الموضوع).

ما هي الحملية؟

قال: (وهي) أي: القضية الحملية.

(التي) صفةٌ للقضية المحذوف؛ للعلم به جنسٌ شامل الحملية والشرطية، والصلة فصلٌ مخرجٌ الشرطية.

يعني: إذا كان عندنا قسمان وعرَّفنا أحد القسمين، حينئذٍ نأتي بجنس ونأتي بفصل يُخرج القسم الثاني، أمر واضح اعتباري.

فقوله: (وهي التي) التي هذه صف لموصوف محذوف، دائماً هكذا يأتيك في التعريفات .. كلما مر معنا قدَّرنا: هي التي، ما هي التي؟

هي هذه خارجة عن التعريف، التعريف يبدأ من قوله: التي. التي هذه صفة لموصوفٍ محذوف.

يعني: القضية التي كما نقول: الاسم هو كلمة دلَّت على، لا بد أن نأتي بالمقسوم، ما هو المقسوم؟ الكلمة.

فحينئذٍ تنقسم إلى ثلاثة أقسام: اسم، وفعل، وحرف.

إذا جئت تعرِّف أي واحد من هذه الثلاثة لا بد أن تأتي بالمقسوم فتقول:

الاسم: كلمة دلت على معنى في نفسها.

الفعل: كلمة دلت ..

هنا قال: القضية تنقسم إلى نوعين: حملية وشرطية، ما هي الحملية؟ هي القضية، لا بد أن تأتي بالقِسم.

فالقضية شاملة النوعين: الشرطية والحملية.

(10/7)

________________________________________

قوله: (التي يكون طرفاها .. ) إلى آخره، هذا فصلٌ أخرج الشرطية؛ لأنه ليس عندنا إلا نوعان.

(وهي التي) يعني: القضية التي.

(يكون طرفاها) الحملية هنا .. البحث يكون في الموضوع والمحمول (يكون طرفاها) لها طرفان: المسنَد والمسنَد إليه، ويسمى هنا الموضوع والمحمول (طرفاها) أي: موضوعُها ومحمولها.

(أن يكون طرفاها مفردين) خبر يكون (بالفعل أو بالقوة).

(مفردين بالفعل) أي: لفظاً ومعنًى نحو: زيدٌ كاتبٌ، زيدٌ مبتدأ موضوع، وكاتبٌ خبر محمول. كلٌ منهما مفرد.

(والمراد بالمفرد هنا مقابل القضية) فيشمل المركّب الناقص .. مقابل القضية التي هي الإسناد الخبري التام.

المراد بالقضية هنا: الإسناد الخبري التام، ولذلك قال هنا: (والمراد بالمفرد هنا مقابل القضية).

إذاً: ما ليس إسنادياً خبرياً تاماً، فدخل فيه المركَّب الناقص.

حينئذٍ المركَّب لك أن تقول نوعان: مركبٌ هو الكلام، في الاصطلاح عند النحاة، مركَّبٌ ما عداه.

الكلام هو القضية، ما عداه هو المراد هنا بالمفرد. فدخل فيه المركّب الناقص يعني: الإضافي، والمزجي، والتوصيفي .. ونحو ذلك.

(أو) للتنويع: إما ذاك أو آخر.

(أو بالقوة) أي: ما يمكن التعبير في محله بلفظٍ مفرد.

(بالقوة) يعني: في ظاهره أنه جملة اسمية أو جملة فعلية، لكن تئول هذه الجملة إلى مفرد، ولذلك عند النحاة يقولون في الخبر:

وَمُفْرَدَاً يَأتِي وَيَأتِي جُمْلَهْ ... حَاوِيَةً مَعْنَى الَّذِي سِيْقَتْ لَهْ

 

(وَمُفْرَدَاً يَأتِي، وَيَأتِي جُمْلَهْ) .. (وَأخبَرُوا بِظَرفٍ أو بِحَرفِ جَرّ) هذا الثالث.

لكن في حقيقة الأمر عندهم: أن الجملة مردُّها إلى المفرد، وكذلك الظرف والجار والمجرور متعلِّق بمفرد، حينئذٍ يردُّونه إلى المفرد.

فالجملة مع كونها تقع في الظاهر جملة خبراً، لكنها مؤولة بالمفرد؛ لأن الأصل في الخبر إنما يكون للمفرد.

فإذا قيل: زيدٌ قام أبوه كأنه قال: زيدٌ قائمُ الأبِ .. كأنه هذا في قوته.

إذاً المراد هنا: يمكن أن نأخذ من الجملة مفرداً، فإذا أمكن فحينئذٍ هذا الذي عناه المصنف هنا، فقال: أصلها جملة لكنها تنحل إلى مفرد .. جُملتان.

قال هنا: (أي: ما يمكن التعبير في محلّه وهو قضية بلفظٍ مفرد نحو: زيدٌ عالمٌ نقيضُه زيدٌ ليس بعالم) لو تكلم متكلم وقال: زيدٌ عالم نقيضُه زيدٌ ليس بعالم.

(إذ يمكن أن يقال في محلهما: هذا نقيض هذا) فزيدٌ عالم جاء مكانه مفرد وهو هذا، وزيدٌ ليس بعالم جاء مكانه مفرد ونقيض كما هي.

حينئذٍ الجملة هنا آلت إلى مفردٍ، بالفعل أم بالقوة؟ نقول: بالقوة.

إذاً: زيدٌ عالمٌ نقيض زيدٌ ليس بعالمٍ هذه حملية، الكلام ليس في هذا نقيض هذا، هذا مثل زيدٌ كاتب .. البحث ليس في هذا نقيض هذا؛ لأن هذا في وزان زيدٌ كاتب، البحث في: زيدٌ عالمٌ نقيض زيدٌ ليس بعالم. هذه نقول: حملية.

حملية طيب ليست بمفرد، لو فكَكتها: زيدٌ عالمٌ، ثم نقيض، ثم زيدٌ ليس بعالم. وهذه مركّبات هذا لو فككتها، إذاً: لم تنحَل إلى مفردين نقول: لا. تنحل إلى مفردين بالقوة؛ لأنَّ: زيدٌ عالمٌ في قوة: هذا نقيض هذا .. وهكذا.

(إذ يمكن أن يقال في محلهما: هذا نقيض هذا.

(10/8)

________________________________________

ونحو الحيوان الناطق ينتقل بنقل قدميه؛ إذ يمكن في محله: الإنسان منتقلٌ بنقل قدميه.

ونحو: كل إنسانٍ حيوان، عكسُه بعض الحيوان إنسان؛ إذ يمكن في محله: هذا عكسُ هذا).

هذا يسمى انحلالاً بالقوة؛ لأن ضابط الحملية أن تنحل إلى مفردين: زيدٌ كاتبٌ إذا أردت أن تعرف هل هذه حملية أم لا انظر إلى الجزأين: زيدٌ فككته، كاتبٌ فككته، انفك.

إذاً: هذا زيدٌ كان جزءاً في: زيدٌ كاتب، وكاتبٌ كان جزءاً في: زيدٌ كاتبٌ. هذا واضح أنه مفرد بالفعل.

مفرد بالقوة: أن لا يكون الانحلال بالجزء الذي هو الموضوع يكون جملة، لكنه في قوة المفرد، فزيدٌ عالمٌ هذا موضع قُصِد لفظه هو مبتدأ نقيض زيدٌ ليس بعالمٍ.

نقيض هذا الخبر هو المحمول، وزيدٌ ليس بعالم هذا في محل جر مضاف إليه لنقيض، حينئذٍ نقول: هذه في قوة المفردين، وإن كان الأول مركَّب والثاني مركَّب. هذا الذي تُضبط به الحملية.

(ويُزاد عليه: أن الحكم فيها ليس معلَّقاً على شيء).

ولذلك قال الشيخ الأمين رحمه الله تعالى في المقدمة: ضابط القضية الحملية أمران لا بد منهما، إن وُجد أحدهما دون الآخر انتفت:

الأول: أن ينحل طرفاها إلى مفردين أو ما في قوة المفردين.

الثاني: أن الحكم فيها ليس معلقاً على شيء.

لأنه سيأتي اعتراض في الشرطية أنها قد تنحل إلى مفردين، إذاً: هي الحملية نقول: لا.

الشرطية فيها حكمٌ معلَّقٌ على شيء، والحملية ليس فيها تعليق: كلما كانت الشمس طالعةً فالنهار موجود.

كانت الشمس طالعة هذه جملة، والنهار موجود هذه جملة.

حينئذٍ نقول: هذه شرطية فيها معنى التعليق، الثاني معلَّقٌ على الأول، لكن الحملية زيدٌ كاتبٌ، زيدٌ عالمٌ نقيض زيدٌ ليس بعالم. ليس فيها تعليق، هذا المراد بالثاني: أن الحكم فيها ليس معلَّقاً على شيء.

ثم قال رحمه الله تعالى -موضِّحاً ما في القوة-: (وما في قوة المفرد ثلاثة أقسام:

الأول: أن يكون الموضوع مفرداً، والمحمول جملة في قوة المفرد).

يعني: إذا أردت التقسيم العقلي إما أن يكون كلٌ منهما مفرد ومفرد، انتهينا هذا .. زيدٌ كاتب، ما في القوة إما أن يكون الأول مفرد بالفعل، والثاني مفرد بالقوة. أو العكس.

أن يكون الأول مفردٌ بالقوة، والثاني مفردٌ بالفعل، أو كلٌ منهما مفردٌ بالقوة. هذا المراد فهي ثلاثة أقسام.

(الأول: أن يكون الموضوع مفرداً) يعني: بالفعل.

(والمحمول جملة في قوة المفرد نحو) مثَّل بمثال قد يقال بأن فيه اعتراض لكن

وَالشَّأنُ لاَ يُعْتَرَضُ المِثَالُ ... إِذْ قَدْ كَفَى الفَرْضُ وَالاِحْتِمَالُ

 

(زيدٌ قائمٌ أبوه) زيدٌ مبتدأ، قائمٌ هذا خبره، أبوه فاعل الخبر، والعامل فيه قائم لأنه اسم فاعل.

هل هذا يسمى جملة؟

قال: (زيدٌ قائمٌ أبوه؛ لأنَّ: قائمٌ أبوه في قوة قائم الأب) قائم الأب يعتبر مفرد؛ لأن المفرد هنا يشمل المركّبات الناقصة.

قال: قائم أبوه. هذا يرى الشيخ أنه جملة في قوة قائم الأب، وقائم الأب هذا مركَّب إضافي وهو مفرد؛ لأن المفرد هنا ما يقابل المركّب التام، فيدخل فيه المركّبات الناقصة.

ومثال -وهو أوضح- قولهم: خيرُ الكلام لا إله إلا الله.

خيرُ الكلام مبتدأ، لا إله إلا الله خبر.

(الأول: مفرد بالفعل) "خير الكلام" مضاف ومضاف إليه، وهو مفرد هنا.

(10/9)

________________________________________

لا إله إلا الله هذه جملة.

إذاً: هو في قوة قول: خيرُ الكلام كلمةُ لا إله إلا الله، فصار مضاف ومضاف إليه. فإنه في قوة خير الكلام كلمة لا إله إلا الله.

المراد هنا: أن يكون الأول –الموضوع- مفرداً بالفعل، والثاني يكون جملة، ولو قلت: زيدٌ قام أبوه واضح هذاك زيدٌ موضوع، وقام أبوه جملة هنا وقع خبر ومحمول وهو في قوة: قائم الأب. وهو أوضح مما ذُكِر.

(الثاني: عكسُه، وهو أن يكون الموضوع جملةً في قوة المفرد والمحمول مفرداً يعني: بالفعل نحو: لا حول ولا قوة إلا بالله كنزٌ من كنوز الجنة).

لا حول ولا قوة إلا بالله هذا موضوع مبتدأ، وحينئذٍ "كنزٌ" هذا خبر أي: كلمةُ لا حول ولا قوة إلا بالله، أو هذا اللفظُ.

(الثالث: أن يكون كلٌ من الموضوع والمحمول جملة في قوة المفرد نحو: زيدٌ عالمٌ نقيض زيدٌ ليس بعالم) هذا نقيض هذا؛ لأنه في قوة قولك: قضيةُ زيدٌ عالمٌ نقيض قضية زيدٌ ليس بعالم، أو هذا نقيض هذا. ولا إشكال فيه.

فتحصَّل أن الأقسام ثلاثة، وباعتبار السابق أربعة يعني: مفردان بالفعل، مع الثلاثة هذه تكون أربعة.

قال: (وهي التي يكون طرفاها مفردين بالفعل، أو بالقوة موجبةً كانت أو سالبة).

يعني: باعتبار النسبة قد تكون موجَبة وقد تكون سالبة.

يعني: الحملية باعتبار الإيجاب والسلب قِسمان: حمليةٌ موجَبة. زيدٌ كاتب، حمليةٌ سالبة زيدٌ ليس بكاتب أو ليس زيدٌ كاتباً.

قال: (موجَبة كانت هي كقولنا: زيدٌ كاتبٌ) هنا إيجاب، ما الدليل على أنه إيجاب؟

عدم وجودِ حرف السلب أو أداةُ السلب؛ لأن الأصل هو الإيجاب والثبوت، والنفي هذا فرعٌ، والدليل على أنه فرع أنك لا تحكُم عليه إلا إذا وجدتَ حرفاً أو اسماً أو فعلاً دالاً على السلْب، فإذا لم يكن رجعتَ إلى الأصل وهو الثبوت.

وما احتاج إلى قرينة فرعٌ عما لا يحتاج إلى قرينة.

ما احتاج إلى قرينة الذي هو حرف السلب، في الحكم على كون الجملة سالبة هذا نقول: فرعٌ؛ لأننا لا نحكم على الجملة بكونها سالبة إلا بقرينة وهي أداة السلب.

إذاً: ما احتاج إلى قرينة فرعٌ عما لا يحتاج إلى قرينة، ومنه قلنا: المجاز فرعٌ عن الحقيقة؛ لأن الحقيقة لا تحتاج، الأصل حمل اللفظ على مدلوله، فإذا قلنا بأنه مجاز يعني: استعمال اللفظ في غير ما وُضع له ابتداءً، حينئذٍ نقول: هذا يحتاج إلى قرينة، فإن وُجدت القرينة حُمل على المجاز وإلا رجعنا إلى الأصل، فدل على أن الأصل هو الحقيقة.

قال: (موجَبة كانت كقولنا: زيدٌ كاتبٌ) ثبوت كتابة زيدٍ.

(أو سالبةً كقولنا: زيدٌ ليس بكاتب) نفيٌ، نُفِي مضمون المحمول عن الموضوع.

الأول: كاتبٌ فيه ثبوت مضمون المحمول للموضوع؛ لأنك تثبت للموضوع مضمون المحمول يعني: إن شئت قلت: مدلول المحمول أو مفهوم المحمول، لا لفظه وإنما ما دل عليه وهو ثبوت الكتابة.

(أو سالبة كقولنا: زيدٌ ليس بكاتب.

وسُمّيت حملية باعتبار طرفِها الأخير) أي: في المعنى، طرفِها الأخير الذي هو المحمول .. باعتبار المحمول، والأَولى أن يقال نسبةً للحمل، لاشتماله على حمل المحمول على الموضوع.

(باعتبار طرفها الأخير) قال هنا: (أي: في المعنى وإن تقدَّم لفظاً وهو المحمول).

لأن المحمول مرادف للخبر، وليس كل خبرٍ متأخر).

(10/10)

________________________________________

(وَالأَصْلُ فِي الأَخْبَارِ أَنْ تُؤَخَّرَا) هذا الأصل فيه، لكن قد يتقدم الخبر.

إذاً: إذا تقدم الخبر هل يرتفع عنه وصف الخبرية؟ لا.

كذلك المحمول هو عينُ الخبر، والأصل أنه متأخر، حينئذٍ لو تقدَّم لا يرتفع عنه وصف المحمولية.

ولذلك قال: (وسُمّيت حملية باعتبار طرفها الأخير) الذي هو المحمول.

(أي: في المعنى وإن تقدَّم لفظاً وهو المحمول).

قال: (وظاهر هذا أن الحملية نسبةٌ للمحمول وليس كذلك، بل هي نسبةٌ للحمل والنسبة للمحمول محمولية.

فالمناسب حينئذٍ للتعليل لاشتمالها على الحمل أي: الإسنادي والحُكمي) وهو كذلك، هذا هو المناسب.

قال: (وسُمّيت حملية باعتبار طرفها الأخير).

قال العطار: (أي: المتأخر في الترتيب الطبيعي، وإن تقدم ذِكراً في نحو: عندي درهمٌ) درهمٌ عندي (وَنَحْوُ عِنْدِي دِرْهَمٌ وَلِيَ وَطَرْ) (عِنْدِي دِرْهَمٌ) درهم هذا مبتدأ مؤخر، وعندي هذا خبر مقدم.

إذاً: هنا تقدَّم المحمول على الموضوع، هل بتقدُّمه ارتفع عنه وصف التأخير؟ الجواب: لا. هو متأخر، وإن تقدم في اللفظ إلا أنه متأخرٌ في الرتبة، ورتبته التأخير.

ولذلك قال: (أي: المتأخر في الترتيب الطبيعي، وإن تقدم ذكراً في نحو: عندي درهمٌ.

وإنما نُسب إليه دون الموضوع) فقالوا: حملية ما قالوا وضعية.

(لأن المحمول هو محط الفائدة.

أو سُمّيت بذلك لما فيها من الحمل المعنوي، ثم وجهُ التسمية ظاهرٌ في الموجَبة) موجبة واضح أنه فيه إثبات، لكن السالبة فيه نفي "فيه عدم" فحينئذٍ كيف سُمّيت حملية؟ ليس فيه حمل.

(وأما السالبة فلا حمْل فيها، ولكن تسمى حملية أيضاً لأن الأعدام قد تُلحَق بالملَكَات في بعض أحكامها).

يعني: لا يُتصور النفي إلا بعد استحضار الإثبات، فهي محمولةٌ على الملَكات.

ومنه تعريف المفعول به: أنه ما وقع عليه فعل الفاعل.

(وَإِمَّا شَرطِيَّةٌ) هذا النوع الثاني نسبةً إلى الشرط.

(وهي) أي: القضية.

(التي لا يكون طرفاها مفردين) مقابل لما سبق.

(لا يكون طرفاها مفردين) أي: لا بالفعل ولا بالقوة، حينئذٍ خرَجت الحمْلية بنوعيها أو بأقسامها الأربعة إن شئت.

(لا يكون طرفاها) أي: مقدَّمُها وتاليها.

(مفردين) أي: لا بالفعل ولا بالقوة، فصلٌ مخرجٌ الحملية.

قال هنا: (ويرِد قولُنا: إن كانت الشمس طالعةً فالنهار موجودٌ، فإن طرفيها مفردان بالقوة).

(إن كانت الشمس طالعةً فالنهار موجودٌ) هذه شرطية.

(إن كانت الشمس طالعة) هذا المقدَّم.

(فالنهار موجود) هذا التالي، والأول يستلزم التالي .. المقدم يستلزم التالي.

وإن هنا حرف شرط إذاً: هي شرطية، وفيها تعليق.

(وتنحل إلى مفردين) الجواب يمكن أن يُعرَف مما سبق: أن الحملية يُشترط فيها أمران، ليس الانحلال فقط، إنما فيه معنى التعليق.

هنا وُجد التعليق، إذاً: إذا وُجد الانحلال إلى مفردين مع وجود التعليق لا تكون حملية؛ لأن وجود التعليق ينافي الحملية، الحملية لا تعليق فيها. وعدمُ التعليق مع الانحلال هذان معاً في وقت واحد هو ضابطُ الحملية، فلو وُجد الانحلال في الشرطية مع وجود التعليق لا نقول: هي حملية.

(10/11)

________________________________________

(ويرِد قولنا: إن كانت الشمس طالعةً فالنهار موجودٌ، فإن طرفيها مفردان بالقوة؛ لأنه يمكن أن يقال: هذا لازمٌ لذاك) مثل: زيدٌ عالمٌ نقيض زيدٌ ليس بعالم، هذا نقيض هذا.

طيب. هذا لازمٌ لذاك؟ طلوع الشمس لازمٌ للنهار، إذاً: هذا لازمٌ لذاك.

إذاً: انحل إلى مفردين فصارت حملية، يرِد الاعتراض.

لكن يرِد الاعتراض هنا لأنه ما زاد التعليق في الحملية، وإلا يرد الاعتراض، لأنه ما زاد ذاك، ذاك من كلام الشيخ الأمين رحمه الله تعالى.

(هذا لازمٌ لذاك.

وكذلك قولنا: إما أن يكون العدد زوجاً أو فردا، فإن طرفيها مفردان كذلك؛ لأنه يمكن أن يُعبَّر عنهما بمفردين يقال: هذا مباينٌ لذاك).

قال الرازي "الجواب": والأَولى أن يقال: المحكومُ عليه وبه في القضية إن كان مفردين سُمّيت حملية وإلا فشرطية.

يعني: مثل ما قيل هناك في العرَضي والذاتي: ما كان خارجاً هو العرضي، والذاتي ما ليس كذلك، من أجل أن نبرأ من إخراج النوعي عن الذاتي، هنا كذلك.

قال: إن كان مفردين سُمّيت حملية وإلا فشرطية.

إن كان مفردين بالفعل في ظاهرها، حينئذٍ هي الحملية وإلا فشرطية.

قال السعد في الحملية: لم تنحل إلى شيئين يُمكن أن يُعبَّر عنهما بلفظين مفردين حال كونهما محكوماً عليه ومحكوماً به. هذا جوابٌ وجيه أيضاً.

بمعنى: قولُك: هذا نقيض هذا، ليس بحثنا في هذه الجملة .. هذا نقيض هذا جملة، نحن بحثنا في زيدٌ عالمٌ نقيض .. هذا ما انحلّت، هذه نلفظها كما هي، هي حملية أو لا؟ حملية، كونك تأتي بمفسِّر لها أو بمساوي خرجت عن اللفظ.

إذا قلت: زيدٌ عالمٌ نقيض زيدٌ ليس بعالم. هذه حملية، تنحل؟ نعم تنحل.

إذا قلت: هذا نقيض هذا، هاتان جملتان وليست بجملة واحدة.

فقال السعد هنا: لم تنحل إلى شيئين يُمكن أن يُعبَّر عنهما بلفظين مفردين حال كونهما محكوماً عليه ومحكوماً به.

وهذا بخلاف الشرطية فإنها لا يصح فيها أن هذا ذاك، والتعبير عن طرفيها بالمقدَّم والتالي لا يصح عنه إفادة الحكم باللزوم والعناد، فهي لا تنحل بطرفيها إلى شيئين يمكن التعبير عنهما بلفظين مفردين عند قصد إفادة الحكم الذي في الشرطية.

لو ذُكِر مسألة التعليق لانحلت المشكلة، لكن لما لم يَذكر مسألة التعليق وقع عندهم الإشكال هذا؛ لأنه بالفعل تساوى، الحملية قد يُفسَّر المفرد بالقوة، وهنا كذلك وُجد التفسير بالقوة. فحينئذٍ كيف الإشكال؟

كلٌ منهما إن فُسِّر فهو مباينٌ لما سبق، والبحث إنما يكون في الأصل لا في الفرع، لكن نقول كما ذكرنا سابقاً: أن الفرق الجوهري هو في التعليق وعدمه.

وأما الانحلال فهذه مسألة يمكن النظر فيها، فكلٌ منهما يمكن أن يقال: هذا لازمٌ لذاك، هذا مباينٌ لذاك .. لكن تساوى مع الحملية: هذا نقيض هذا، هذا .. إلى آخره.

قال هنا: (وبُحِث فيه بأن طرفي الشرطية مفردان بالقوة؛ إذ يمكن في محل المتصلة هذا ملزومٌ لهذا، وفي محل المنفصلة هذا منافٍ لهذا، فالأولى أن يقال: القضية) هذا توجيه آخر وهو جيد أيضاً.

(إن كان مضمونها) القضية (ثبوت شيءٍ لشيء أو سلبه عنه فحملية، وإن كان معناها ملازمة شيءٍ لشيء أو سلبُها فمتصلة) هذا أحسن مما أجاب به السعد والرازي.

(10/12)

________________________________________

(وإن كان معناها العناد بين شيئين أو سلبُه فمنفصلة) هذا الجواب طيب.

(وأُجيب بأن المراد لا يمكن التعبير في محلهما مع بقائها شرطية) وهذا هو الذي عناه الرازي والسعد.

يعني: إذا عبَّرت بالحملية عن الشرطية، هل الشرطية باقية؟ إذا قلت: إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجودٌ، هذا لازمٌ لهذا. هل الشرطية باقية؟ لا. ليست باقية، انتقلت إلى الحملية.

ولو كانت تُحمَل وتنحل إلى مفردين مع بقاء الشرطية لورد النقض، لو كانت تنحل إلى مفردين مع بقاء الشرط فحينئذٍ يُقال ورَد النقض.

ولذلك قال: (لا تبقى مع وجود الشرط أنها حملية بل هما متنافيان) حينئذٍ كونه يقال: هذا لازمٌ لذاك، نقول: هذا لازمٌ لذاك هذا موضوع، ولازمٌ هذا خبر، ولذاك متعلقٌ به. إذاً: هذه حملية.

لكن مع عدم وجود الشرط، ولذلك قال هنا: (وأُجيب بأن المراد لا يمكن التعبير في محلهما مع بقائها شرطية.

والأمثلة المذكورة لمَّا عُبِّر عنهما بالمفردين صارت حملية) لم تبق شرطية، فإذا قيل: إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجودٌ هذه شرطية، سلَّمنا أنها تنحل إلى مفردين، لكن انتقلت إلى الحملية.

لو انحلَّت إلى مفردين مع بقاء الشرط لورَد النقض، وإلا فلا نقضَ.

قال: (وَإِمَّا شَرطِيَّةٌ. وهي التي لا يكون طرفاها مفردين، وهي إما متصلة .. ) إلى آخره.

قال الشيخ الأمين: وضابط الشرطية أمران:

الأول: أن ينحل طرفاها إلى جملتين، أعني أنه إن أُزيلَت أداة الربط في المتصلة أو أداة العناد في المنفصلة بين طرفيه يصير كلٌ من طرفيه جملة مستقلة، هذا الأصل.

يعني: بظاهره، تقول: هذا زوجٌ وإما فردٌ .. العدد إما زوجٌ وإما فردٌ، إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجودٌ.

إذا انحلت إلى جملتين، وكل واحد من الجملتين حملية، هذا الضابط الأول.

الثاني: أن الحكم فيها معلَّق، لا بد من أداة شرطٍ.

قال: (وهي) يعني: الشرطية.

(إما متصلة وإما منفصلة).

قال: (إما متصلة. وهي) أي: القضية.

(التي يُحكم فيها بصدق قضية أو لا صدقها، على تقدير صِدق قضيةٍ أخرى فالأولى موجَبة والثانية سالبة).

(التي يُحكم فيها) يعني: في القضية.

(بصدق) أي: ثبوت قضية.

(أو لا صدقها) عكسُه يعني: عدم ثبوت القضية.

(على تقدير) أي: فرض.

(صدق قضيةٍ أخرى) إن سُلِّمت.

(فالأولى موجبةٌ) ما هي الأولى؟ صدق قضية.

عندنا ثنتان الآن: (التي يُحكم فيها بصدق) يعني: بثبوت قضية.

(أو لا صدقها) أو عدم ثبوتها.

إذاً: الأُولى موجبة والثانية منفية .. سالبة، فدخلت الموجبة والسالبة هنا.

(على تقدير: صدق قضية أخرى) يعني: هذه تصدق إن صدقت الأخرى، لو قلت: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود.

إن كانت الشمس طالعة، طيب. لو تكلمت الآن قلت: اخرج فإن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، الشمس لم تطلع بعد فالنهار غير موجود.

إذاً: النهار موجود هذه إن سُلِّمت القضية الأولى المقدَّم وهي الشمس طالعة فالنهار موجود، هذا المراد هنا.

(على تقدير) أي: فرض.

(صدق قضيةٍ أخرى، فالأولى موجبة).

(كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ).

(فقد حُكم في هذه القضية بصدق قضية وهي: النهار موجود، المجعولة تالياً) يعني: ثانياً، هي التالي يسمى.

(10/13)

________________________________________

(على تقدير صدق أخرى وهي: الشمس طالعة المجعولة مقدّماً، وتسمية المقدم والتالي قضيتين باعتبار ما كان قبل التعليق بأداة الشرط).

حينئذٍ إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، طبِّق الحد: يُحكَم فيها بصدق قضية على تقدير صدق قضية أخرى.

عندنا قضيتان: بصِدق قضية التي هي: النهار موجود، على تقدير وفرض صدق قضية أخرى التي هي إن كانت الشمس طالعة.

إذاً: صدق قضية التي هي التالي، على تقدير صدق قضية أخرى التي هي المقدَّم.

(فالأولى موجَبة) (كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ).

(والثانية) المشار إليه وهو: (أو لا صدقها).

(والثانية سالبة) (أي: التي حُكم فيها بلا صدق قضية على تقدير صدقٍ أخرى) يعني: كاذبة.

(والثانية سالبةٌ كقولنا: ليس إن كانت الشمس طالعةً فالليل موجود).

إن كانت الشمس طالعةً فالنهار موجود. المثال السابق هي مثبتة، كيف تنفيها؟ أدخل عليها ليس، سواءً وافقت اللغة أم لا، هذا المراد عندهم، لذلك يقع التسامح عندهم في هذه المسألة.

قال: (ليس إن كانت الشمس طالعة فالليل موجود.

قد حُكم فيها بلا صدق قضية وهي الليل موجود، التالي على تقدير صدق أخرى، وهي: إن كانت الشمس طالعة) المقدَّم.

(وقدّم حرف السلب لتكون سالبة؛ إذ لو أخَّره إلى التالي) نحو: إن كانت الشمس طالعة فليس الليل موجوداً هذه موجَبة.

يعني: إذا أدخل السلب على التالي هذه موجبة؛ لأن العبرة بالجملة كلها.

(لكانت موجبة؛ إذ السالبة ما حكم فيها بسلب اللزوم لا بلزوم السلب) فرقٌ بينهما.

يعني: بما حُكم فيها بسلب اللزوم، وهو أن يتقدم السلب على الجملة كلها "على المقدَّم" على المقدَّم يكون المراد جميع الجملة المقدَّم والتالي.

وأما لزوم السلب هذا يدخل حرف السلب على التالي.

قال هنا: (حُكم فيها بلا صدق قضيةٍ وهي الليل موجود) التي هي التالي.

(على تقدير صدق أخرى، وهي: إن كانت الشمس طالعة).

ليس إن كانت الشمس طالعة يعني: إذا لم تكن الشمس طالعة فالليل موجود، هذا بناءً على أنه لا واسطة بين الفجر والنهار، والغروب والليل.

قال: (وسُمّيت شرطية؛ لوجود حرف الشرط فيها).

قال هنا: (بُحث فيه بأن أداة الشرط قد تكون اسماً، كمهما، ومتى.

وأُجيب: بأنه نُظِر لما في المثال) هو نظر لما في المثال السابق.

(وبأن أداة الشرط) جواب آخر بالتسليم (وإن كانت اسماً صورة فهي حرفٌ معنى؛ لتضمُّنِها الشرط الذي هو من معاني الحرف، ونظرُ المنْطِقي إنما هو للمعنى) وقد يقال بأنه اصطلاح المناطقة.

ما دل على السلب فهو حرفٌ، وهو اسمٌ عند أهل اللغة، أما عندهم فهو حرف فهو اصطلاحٌ خاص.

وبعضهم يسميه أداة.

(لوجود حرف الشرط فيها) يعني: في القضية، هذا لكونها شرطية.

(ومتصلة لاتصال طرفيها) يعني: مقدمها وتاليها.

(صدقاً ومعيّة) صدقاً يعني: (في الثبوت إذ يلزم من ثبوت الملزوم ثبوت لازمه).

إن كانت الشمس طالعة لا يتخلف النهار، إن انتفى طلوع الشمس انتفى طلوع النهار. وهو كذلك.

قال: (أي: في الثبوت؛ إذ يلزم من ثبوت الملزوم ثبوت لازمه).

قوله: (معيّة أي: اصطحاباً واقتراناً، فمتى وُجد مقدَّمُها وجد تاليها معه فاتصلا في المصاحبة والوجود).

يعني: لا يتأخر عنه وهو كذلك.

(10/14)

________________________________________

إذاً: هذا ما يتعلق الشرطية المتصلة.

قال الشيخ الأمين: الشرطية المتصلة هي التي يجتمع طرفاها في الوجود.

إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، يجتمعان؟ يجتمعان طلوع الشمس ووجود النهار.

ويجتمعان في العدم، إن لم تكن الشمس طالعة فليس النهار موجود.

إذاً: الشرطية المتصلة يجتمعان في الوجود ويجتمعان في العدم.

بمعنى: أنه يجوز عدمُهما معاً، ويجوز وجودُهما معاً "جواز عقلي" واجتماعهما في الوجود واجتماعهما في العدم هو معنى الاتصال.

وسُمّيت متصلة لاتصال طرفيها في كونهما موجودين، واتصالهما في كونهما معدومين.

فقولك: لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجوداً، يجتمع طرفاها في الوجود فتكون الشمس طالعة والنهار موجود، ويجتمعان في العدم فتكون الشمس ليست بطالعة والنهار ليس بموجود. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

قال رحمه الله تعالى: (وَإِمَّا شَرْطِيَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ) هذا النوع الثاني للشرطية، الشرطية إما متصلة وإما منفصلة.

(وهي) أي: الشرطية المنفصلة.

(القضية التي يُحكم فيها بالتنافي) يعني: والعناد، يعني: عدم الاجتماع.

(بين القضيتين، أو بنفيه) يعني: نفي التنافي.

هل بينهما تنافٍ أو لا؟

التي يُحكم فيها بالتنافي بين القضيتين، أما التي لا تنافي بينهما فليست من المنفصلات، وإن وُجد فيها حرف الانفصال؟ نعم وإن وُجد فيها حرف الانفصال.

تقول: رأيتُ إما زيداً وإما عمرواً. يحتمل أنك رأيتهما معاً، هذه ليست كقولك: العدد إما زوجٌ وإما فردٌ، هذا لا يجتمعان ولا يرتفعان.

فهنا رأيتُ إما زيداً وإما عمرواً، وُجد حرف الانفصال لكنها ليس بينهما تنافي، فلا تكون شرطية منفصلة.

(التي يُحكم فيها بالتنافي بين القضيتين) هذا أخرج الحملية والمتصلة، سواء كان التنافي في الصدق والكذب معاً، أو في أحدهما.

(أو) للتنويع (بنفيِه) أي: التنافي، أي رفعِه وسلبِه.

قال هنا المحشي: (وتسميةُ الحملية والمتصلة والمنفصلة الموجَبات بهذه الأسماء ظاهر؛ لوجود الحمل.

والاتصال والانفصال فيها، وأما تسميته بها وهي سالبةٌ فليست ظاهرة؛ إذ الحكم إنما هو بنفي الحملِ والاتصال والانفصال.

وأُجيب بأنها تسمية اصطلاحية لا لغوية).

يعني: لا يُعترَض هنا بالأسماء في التعميم بكونه المعنى يوجد في بعض دون بعض؛ لأنه خرج عن كونه معنًى فصار لفظاً فقط، إنما هي مسائل اصطلاحية فحسب.

قال: (أو بنفيه والأُولى موجبة كقولنا: العدد إما أن يكون زوجاً أو فرداً) هذه موجَبة، العدد أي: المؤلَّف من آحاد.

(العدد إما أن يكون زوجاً أو فرداً.

فقد حُكم فيها بمنافاة كون العدد زوجاً لكونه فرداً، فلا يجتمعان في عددٍ ولا يرتفعان عنه).

العدد إما زوجٌ وإما فردٌ.

إذاً: هل يكون العدد زوجاً فرداً .. يجتمعان؟ إذاً: لا يجتمعان.

هل يرتفعان .. العدد لا يكون زوجاً ولا فرداً؟ لا. لا يجتمعان، وهذه حقيقية كما سيأتي.

فحينئذٍ نقول: هنا تنافي بينهما في الصدق "في الثبوت"، وفي النفي .. في السَّلبِ .. في العدم.

(والثانية سالبةٌ) أي: التي حُكِم فيها بنفي التنافي يعني: لا منافاة بينهما.

نفي التنافي، نفيُ النفي: إثبات.

(10/15)

________________________________________

(والثانية سالبةٌ كقولنا: ليس إما أن يكون هذا الإنسان أسوداً أو كاتباً، فقد حُكم بنفي التنافي بين كونه أسوداً وكونه كاتباً) يعني: لا منافاة بينهما، فيكون أسود كاتب يجتمعان.

(فيجوز كونه أسود مع كونه كاتباً).

لو قلتَ: إما أن يكون هذا الإنسانُ أسوداً أو كاتباً، هذا تنافي .. من باب التسليم، لو نفيته نفيتَ التنافي.

لو قلت فقط: إما أن يكون هذا الإنسان أسوداً أو كاتباً، هو لا تصح، لكن كمثال: إما أن يكون هذا الإنسان أسود أو كاتب. نقول: هذه بينهما عناد .. تنافي، نفيته بقولك: ليس؛ إذ نفيُ النفي إثباتٌ، فحينئذٍ يمكن الاجتماع، ويمكن الارتفاع؟ يمكن نعم، يكون أبيض لا كاتب، ويجتمعان كذلك.

قال هنا: (وسُمِّيت شرطيةً) يعني: المنفصلة.

(تجوّزاً؛ إذ لا شرط فيها) ليس فيها شرط.

(وهذا باعتبار حال التسمية، وأما الآن فقد صار حقيقة عرفية.

وسُمّيت شرطية تجوزاً لوجود الربط الواقع بين طرفيها بالعناد).

الربط المراد به هنا: قال: بيان لعلاقة المجاز وأنها المشابَهة أو الإطلاق والتقييد.

(وسُمِّيت شرطية تجوزاً) من باب المجاز.

(لوجود الربط) هذا بيان علاقة المجاز.

(الربط الواقع بين طرفيها) المقدَّم والتالي.

(بالعناد) أي: التنافي، صلة الربط.

(ومنفصلة) يعني: سُمّيت منفصلة لماذا؟

(لوجود حرف الانفصال فيها) وهو إما، العدد إما زوجٌ وإما فردٌ، ليس إما أن يكون هذا الإنسان أسود أو كاتباً، فإما هذه هي حرف الانفصال، لكن ليس كلما رأيتَها حينئذٍ تكون منفصلة كما مر في: رأيتُ إما زيدٌ وإما عمروٌ.

(وهو إما الذي صيّر القضيتين قضيةً واحدة) العدد زوجٌ، العدد فردٌ. قضيتان صيَّره قضيةً واحدة.

قال رحمه الله تعالى: (وللقضية ثلاثة أجزاء).

إذاً: عرَّف لنا القضية: (قَوْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ إِنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ) وعرفنا المراد به.

ثم قسَّم القضية إلى حملية وشرطية، وبيَّنا المراد بكلٍ منهما.

ثم قسَّم الشرطية إلى متصلة ومنفصلة.

الآن رجع إلى تأسيس مسألة .. تقعيد قاعدة وهي: بيان أجزاء القضية.

(وللقضية) مطلقاً يعني: لا باعتبار كونها حملية فقط ولا باعتبار كونها شرطية فقط، بل مطلقاً.

(وللقضية ثلاثة أجزاء) أجزاء يعني: مقابِل للركن، (وَالرُّكْنُ جُزْءُ الذَّاتِ) إذاً: مقابل للركن.

يعني: انتفاءُ جزءٍ انتفى معه القضية.

(وللقضية ثلاثة أجزاء) يعني: تتألف وتتركب من ثلاثة أجزاء، فهي أركانٌ فيها.

(فَالجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ الحَمْلِيَّةِ يُسَمَّى مَوْضُوعًا) لا بد منه.

(والجزء الثاني: محمولاً.

والثالث: النسبة) إذاً: لا بد منها.

زيدٌ كاتبٌ قلنا في باب التصورات أنه يُدرَك الموضوع أولاً تصور زيد، إذاً: هذا جزءٌ وهو موضوع، الكاتب هذا محمول. إذاً: جزءٌ ثاني لا بد منه في القضية.

كذلك النسبة بينهما: الربط والتعلق والعلاقة، قلنا: هذا لا بد منه.

إذاً: هذه ثلاثة أركان.

(فَالجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ الحَمْلِيَّةِ يُسَمَّى مَوْضُوعًا).

موضوع اسم مفعول من وضِع قال: (لأنه) أي: هذا الجزء الأول الذي سُمّي موضوعاً.

(لأنه وُضع) أي: ذُكر.

(10/16)

________________________________________

(ليُحكَم عليه بشيء) لأن القاعدة هنا: أن المحمول "حتى في الخبر" أنه صفةٌ في المعنى، والصفة تستلزم موصوفاً.

حينئذٍ لا بد من شيءٍ ينحط عليه، إذا قيل: صفة، الصفة لا تقوم بنفسها، لا بد أن تقوم بشيء.

إذا قيل: زيدٌ قائمٌ. قيام، هذا القيام عرَض، يقوم بماذا؟ بزيد .. وهكذا.

حينئذٍ نقول: المحمول إما صفةٌ للموضوع وإما فِعل له، والفعل وصفٌ في المعنى، ولذلك عند النحاة الأفعال بأنواعها أوصافٌ لفاعِليها.

"قام زيدٌ" أنت وصفتَ زيد بالقيام، لكن قيّدته بالزمن الماضي، زيدٌ قائمٌ وصفت زيد بالقيام.

إذاً: المعاني كلها متحدة، لكن زيدٌ قام أو قام زيد، هذا فيه إسناد الحدث إلى زيد مع تقييده بالوقت بأنه في الزمن الماضي.

إذاً: إما صفةٌ للموضوع وإما فعلٌ له، فإذا قلت: ضرَب زيدٌ، الضرب صفةٌ لزيد أو أنه فعل؟ فعل؛ لأنه إيجاد.

وإذا قلت: زيدٌ عالمٌ العلم هذا فعلٌ منه وقع أو صفة له؟ صفة له. وكلٌ منهما يستلزم آخر، فإذا وقع محمولاً حينئذٍ إن كان صفة استلزم الموصوف، وإن كان فعلاً استلزم الفاعل. فلا بد من شيءٍ يوضع عليه.

ولذلك عبَّر الشيخ الأمين وغيرُه: أنه كالسقف للبُنيان.

والموضوع لا بد أن يكون كالأساس من أجل أن يُحمَل عليه مضمون المحمول، هكذا بينهما تطابق معنوي.

قال: (لأنه وُضِع ليُحكم عليه بشيء).

قال العطار: (اعلم أن الموضوع وهو المحكوم عليه رتبتُه التقدُّم طبعاً) هذا موضوع لأنه محكومٌ عليه.

(رتبتُه التقدم طبعاً) وقد يخالِف في الوضع.

(رتبتُه التقدم طبعاً فيدخل موضوع الحملية التي هي جملة فعلية مثل: ضرَب زيدٌ) ضرب زيدٌ أين الموضوع؟ زيد، أين المحمول؟ ضرَب. كيف عرفت أنه محمول زيد؟ تقول: محكومٌ عليه.

إذاً: هل كل محكوم عليه مسنداً إليه؟ نعم.

هل كل مسندٍ إليه مبتدأ؟ لا. قد يكون فاعلاً.

هنا قال: (فيدخل موضوع الحمْلية التي هي جملةٌ فعلية مثل: ضرَب زيدٌ؛ فإن زيداً موضوعٌ مقدَّمٌ طبعاً وإن كان مؤخَّراً) لأن هنا الفعل لا يتقدم على فاعله.

ملحوظة: إذا قلنا: ضَرَب زيدٌ أو ضُرِب زيدٌ. يصح المثالان.

وَبَعْدَ فِعْل فَاعِلٌ فَإِنْ ظَهَرْ ... فَهْوَ وَإِلاَّ فَضَمِيْرٌ اسْتَتَرْ

 

إذاً: ضرَب زيدٌ، ضرب هذا فاعل. عندنا قاعدة بأن الفاعل لا يتقدم على مفعوله إلا على مذهب الكوفيين.

قال: (والمحمول أعني ضرَب مؤخرٌ طبعاً، وإن كان مقدماً ذكراً، فلا يُتوهم اختصاص الموضوع والمحمول بالجملة الاسمية) هذا الذي يريده العطار والكلام واضح ولا يحتاج إلى إعادة.

الموضوع والمحمول هل هو خاصٌ بالجملة الاسمية؟ الجواب: لا.

إذاً: يشمل الجملة الفعلية.

طيب. هو مقدَّم الموضوع في الجملة الاسمية، نقول: مقدمٌ وضعاً وطبعاً، وقد يؤخَّر .. قد يكون نكرة في مثل: "عندي درهمٌ" فحينئذٍ يجب تأخيره.

كذلك يدخل معنا: إذا كان الموضوع فاعلاً أو نائب فاعل، ولذلك الموضوع إذا طابقناه بما عند النحاة إما أن يكون مبتدأ، وإما أن يكون فاعلاً، أو نائب فاعل. لا يخرج عن هذا.

مبتدأ، أو فاعل، أو نائب فاعل. لا يخرج عن هذه البتة.

(فلا يُتوهم اختصاص الموضوع والمحمول بالجملة الاسمية.

(10/17)

________________________________________

فالمراد بالثبوت في قوله في تعريف الحملية: هي التي حُكم فيها بثبوت مفهومٍ لمفهومٍ مثلاً أعمُّ من الثبوت بطريق الاتحاد، ومن الثبوت بطريق القيام نحو: قام زيدٌ.

قال السعد: واعلم أن ظاهر أحكام المنْطِق أن لا تُستعمل القضية التي موضوعُها فعلٌ، وهي التي تسميها النحاة: جملة فعلية، اللهم إلا أن يُجعل في تأويل: زيدٌ شخصٌ له القيام).

يعني مرادُه: أن بعض المناطقة منعوا استعمال الجملة الفعلية، لكن هذا ليس على إطلاقه، وإنما الجملة الفعلية كالجملة الاسمية من حيث المحكوم عليه والمحكوم به، يُستعمل هذا ويُستعمل ذاك.

ولو أُوِّلتْ الجملة الفعلية بالجملة الاسمية بناءً على أنها أصلها كذلك مطرد.

قال: (يسمى موضوعاً؛ لأنه وضع ليُحكم عليه بشيء).

(وضِع) أي: ذُكر.

(وَالثَّانِي) يعني: الجزء الثاني من أجزاء الحملية.

(مَحْمُولاً) لحمْلِه على شيءٍ. كما فسَّرناه فيما سبق.

(والثالث النسبة الواقعة بينهما) الموضوع والمحمول؛ لأنه قال: (القضية ثلاثة أجزاء: الموضوع، والمحمول، والنسبة).

قال: (والثالث النسبة الواقعة بينهما) أي: بين الموضوع والمحمول.

والنسبة: هي الارتباط أو إن شئت قل: العَلاقة.

وقد يُدل عليها -على النسبة- بلفظٍ، واللفظ الدال عليها يسمى رابطاً.

قوله: (النسبة الواقعة بينهما) أي: المفهومة من القضية وهو التعلُّق المعنوي بين الموضوع والمحمول، أو المقدَّم والتالي.

(وتُطلق النسبة على الإيقاع) هذا زيادة على ما ذكره المصنف.

(تُطلق على الإيقاع أي: إدراك وقوع النسبة الكلامية، أي: موافقتِها للواقع والانتزاع أي: إدراك عدم وقوع النسبة الكلامية أي: مخالفتها للواقع، فأجزاء القضية حينئذٍ أربعة).

لو فسَّرنا التصديق بما مر معنا في أول الكتاب بأنَّ: تصور الموضوع، ثم تصور المحمول، ثم تصور النسبة الحُكمية من غير حكمٍ بانتزاع أو إيقاع، ثم الرابع. حينئذٍ وافق كلام المحشي هنا.

لكن على ظاهر كلام الشارح: أن النسبة الكلامية إدراكُها هي التصديق، وهذا كما ذكر العطار أنه مذهب المتقدِّمين، وأما المتأخرون فلا. هذه النسبة لا تكفي، إدراكُها لا يسمى تصديقاً وإنما يسمى تصديقاً عند المتقدمين، بل لا بد بالنظر إلى الواقع، فإن وقعَت وأُدرِكت فحينئذٍ يسمى تصديقاً.

أو لم تقع وأُدرك عدمُ الوقوع يسمى تصديقاً.

ولذلك قال العطار عند قوله الثالث: النسبة الواقعة بينهما (فيه تصريح بأن أجزاء القضية ثلاثة -هو نص على ذلك- وهو ما ذهب إليه القدماء.

فيكون إدراك النسبة الثابتة بين الموضوع والمحمول هو الحُكم).

وهذا فيه تيسير في فهم التصديق، ذاك فيه شيءٌ من الإشكالات.

(هو الحُكم، وليس مسبوقاً عندهم بتصوير نسبة هي مورِد الحكم، فإن إثباته من تدقيقات المتأخرين؛ حيث رأوا أن في صورة الشك قد تُصوِّرت النسبة بدون الحُكم).

هو الذي أورده، صورة الشك هي محل الإشكال هنا، جعَلَتْهم يقولون بالنسبة الرابعة أن ثَم نسبة هي مشكوكة مُتردَّد في إيقاعها.

حينئذٍ لما وُجدت هذه قالوا: إذاً ثَم جزمٌ وثَم عدم جزم. زيدٌ كاتبٌ تجزم بثبوت الكتابة لزيد، زيدٌ كاتبٌ ويقع في النفس تردُّد.

(10/18)

________________________________________

إذاً: ثَم فرقٌ بين النسبتين، فأضافوا النسبة الرابعة هذه قالوا: إذاً: لا بد من إدراكٍ زائدٍ على مجرد النسبة المشكوك فيها، وهو: هل وقعت بالفعل أو لم تقع؟

فحينئذٍ إدراك الرابع هذا يسمى تصديقاً.

قال: (حيث رأوا أن في صورة الشك قد تُصوِّرت النسبة بدون الحُكم؛ إذ ما لم تتصور النسبة لا يحصل الشك) إذا لم تتصور النسبة لا يحصل الشك .. فلو تُصوِّرت النسبة ما حصل الشك، لكن لما حصل الشك حينئذٍ نقول: النسبة هذه وقع فيها شيءٌ من التردد.

إذاً: هذه مغايِرةٌ للحكم الذي يسمى تصديقاً، وهذا الذي عناه هنا قال: فأجزاء القضية حينئذٍ أربعة.

(فلما لم يُجعل لهذا المعنى الأخير لفظٌ يدل عليه كالأجزاء الثلاثة قلتُ: فلِمَ لم يُجعل لهذا المعنى الأخير لفظٌ يدل عليه كالأجزاء الثلاثة؟

قلتُ: لما كانت النسبة الكلامية لا تُعد رابطة بين الطرفين إلا من حيث الإيقاع أو الانتزاع لم يحتاجوا إلى لفظٍ رابع) ويمكن أن يقال بأن الإيقاع والانتزاع أمرٌ خارجٌ عن اللفظ، ليس هو مأخوذاً من جوهر اللفظ، وإنما الإيقاع والانتزاع هل وقع أو لا؟ مطابقة الخبر للواقع وعدم مطابقته للواقع.

هذا مراده بالنسبة الرابعة.

قال: (النسبة الواقعة بينهما، وقد يُدَل عليها -يعني: النسبة- بلفظٍ، واللفظ الدال عليها يسمى رابطة -تسمية للدال باسم المدلول- لأن الربط هو النسبة، وهو حرفٌ وليس اسماً؛ لأن النسبة التي تربط المحكوم به بالمحكوم عليه معقولة من حيث إنهما حالة بينهما، وآلة التعريف حالهما وليست معنًى مستقلاً يصلح لأن يكون محكوماً به أو عليه، فاللفظ الدال عليها يكون أداة لدلالته على معنًى غير مستقل).

يعني: هذه النسبة والحرف الذي يدل عليها لا نأتي ننازع في مسألة الحرفية هنا؛ لأنه قد يكون الرابط اسماً، إذاً: يسمى حرفاً لعدم استقلاله بالمفهومية. هذا المراد هنا: لعدم استقلاله بالمفهومية. وإن سمَّاه النحاة اسماً. هنا مجرد اصطلاح.

(واللفظ الدال عليها يسمى رابطةً لدلالته على النسبة الرابطة) أي: فهي تسمية مجازية من تسمية الدال باسم مدلوله، وهذا بحسب الأصل ثم صارت حقيقة عُرفية.

قال: (لدلالته على النسبة الرابطة، والرابطة تارة تكون اسماً).

يعني: على المعنى السابق: أن المراد بالربط هنا الحرفية المعنى غير المستقل، حينئذٍ قوله: اسماً يعني: في قالَب الاسم، وهي ليست باسم وإنما هي في قالَب الاسم.

(أي: قد تكون في قالَب الاسم بناءً على أحد الأقوال: أن ضمير الفصل اسمٌ فلا ينافي القولَ بأنها أداةٌ كما تقدم) فهي أداة في صورة الاسم، هذا مجرد اصطلاح عند المناطقة.

فكل ما دل على الربط أو اللفظ الدال على الربط نقول: هذا حرفٌ، وإن شئت قل: أداة، سواءٌ كان في الأصل فِعل، كان اسماً، كان حرفاً عند النحاة .. لا غضاضة؛ لأن ثَم فرقاً بين الفنين.

قال: (والرابطة تارة تكون اسماً كلفظ هُو) ضمير فصل: زيدٌ هو كاتبٌ، زيدٌ كاتبٌ مبتدأ وخبر موضوع ومحمول وفيه نسبة، لكنها اعتبارية يعني: معقولة في الذهن. قد يُدل عليها، إذا أردت أن تُرشد بأن ثم نسبة حينئذٍ ماذا تقول؟ تقول: زيدٌ هو كاتبٌ. زيدٌ مبتدأ، كاتبٌ هذا خبر.

(وهو) هذا لا محل له من الإعراب .. ضمير فصل، يسمى رابطة هنا.

(10/19)

________________________________________

هذا اللفظ دل على النسبة، إذاً: إذا أردت أن تعبِّر عن النسبة تأتي بمِثل هذا اللفظ.

قال: (تارة تكون اسماً كلفظ هو، وتسمى رابطة غير زمانية؛ لعدم دلالة الاسم على الزمان بحسب الوضع) لأنه في الأصل هو اسمٌ.

(وتسمى رابطةً غيرَ زمانية لأنها لا تدل على الزمن) بحسب الوضع.

(وتارة تكون فعلاً ناسخاً للابتداء) يعني: تارة تكون الرابطة، أو اللفظ الرابط يكون فعلاً يعني: لا اسماً.

(ناسخاً للابتداء) يعني: كان وأخواتها و"وَجَدَ" وغيرها كذلك.

(ككان ووَجَد).

قال المحشِّي: كليس أي غيرُ ليس، هو قال: (ككان ووَجَد) أي: غير ليس؛ إذ لا تستعمل رابطة وإن كانت فعلاً ناسخاً لأنها أداة سلب، فلا تُستعمل حرفاً دالاً على النسبة.

(ككان ووَجد، وتسمى رابطة زمانيةً لدلالة الفعل على الزمان وضعاً) وهو فِعلٌ في الأصل.

(فالحمليةُ باعتبار الرابطة إما ثنائية أو ثلاثية).

(إما ثنائية) يعني: معدودةً بالاثنين، مركَّبة من لفظين اثنين.

(أو ثلاثية) أي: مركَّبة من ثلاثة ألفاظ.

(لأنها إن ذُكِرت فيها فثلاثية، وإن حُذِفت لشعور الذهن بمعناها أو لعدم الاحتياج إليها كقام زيدٌ فثُنائية) يعني: النسبة موجودة موجودة، هي معنًى اعتباري.

إن جئت بلفظٍ يُعبِّر عنها صارت الجملة ثلاثة أجزاء: زيدٌ هو كاتب، إن حذفت هو بناءً على أن الأصل هو حملُ المحمول على الموضوع وثَم نسبة .. إلى آخره، ولا تحتاج إليها، حينئذٍ صارت الجملة ثنائية في الظاهر. وثلاثية كذلك في الظاهر.

(لأنها) أي: الرابطة (إن ذُكِرت فيها) يعني: في الجملة الحمْلية أو القضية.

(فثلاثية) فهي ثلاثية. خبر مبتدأٍ محذوف فهي ثلاثية .. إن ذُكرت الفاء واقعة في جواب الشرط فهي ثلاثية.

(وإن حُذفت) يعني: الرابطة "زيدٌ كاتبٌ".

(لشعور الذهن بمعناها) وهو الأصل هذا .. الأصل عدمُ ذكرها.

(أو لعدم الاحتياج إليها كقام زيدٌ فثنائية).

قال: لعدم الاحتياج إليها. أي: في اللغة العربية؛ لقيام الحركات الإعرابية مقامها.

ولذلك مما يدل على النسبة الحركة الإعرابية في اللغة العربية "زيدٌ قائمٌ" ليس: زيد قام أو قائمْ .. " في الأصل لو لم تُحرِّك ما فُهِم الإسناد.

حينئذٍ الذي يدل على النسبة هو الرفع، ولذلك حصَره السعد بأن الرفع هو الذي يدل على النسبة سواءً لُفظ به أو قُدِّر؛ لأن الإعراب بالرفع هذا إعراب العُمد يعني: المبتدأ والخبر والفاعل ونائب الفاعل.

الرفعُ إعراب العمد هذا محل وفاق؛ لأن المبتدأ مرفوع وهو عمدة، والفاعل مرفوع وهو عمدة، وكذلك نائب الفاعل.

أي: في اللغة العربية؛ لقيام الحركات الإعرابية مقامها.

قال السعد في شرح الشمسية: الذي يُفهم منه الربط في لغة العرب هو الحركات الإعرابية، بل حركةُ الرفع تحقيقاً أو تقديراً لا غير.

لأننا نبحث في ماذا؟ حملية التي هي الجملة الاسمية، سواءٌ دخل عليها ناسخ أو لم يدخل فهي راجعة إليها، ولذلك قال: الذي يُفهم منه الربط في لغة العرب هو الحركات الإعرابية، بل حركة الرفع تحقيقاً أو تقديراً لا غير.

(10/20)

________________________________________

لأنا إذا قلنا على سبيل التَّعداد -لا الربط- يعني: ما نويتَ النسبة، قلتَ: زيد عالم بلا حركة إعرابية، لم يُفهم منه الربط، قلتَ: على سبيل التعداد زيد عالم، كأنك تعدّ ألفاظاً مفردة زيد .. عالم .. كاتب .. ماء .. سماء .. وكأنك عددت، هل بينها ربط؟ ليس بينها ربط.

والذي يدل على الربط هو: زيدٌ عالمٌ، حصل الربط بالرفع.

في المثال هذا يكون رفعاً تحقيقاً وتقديراً؛ لأنك في الوقف تقف عليه بالسكون زيدٌ عالمْ سكَّنت الميم. زيدٌ مبتدأ مرفوع بالابتداء ورفعُه ضمة ظاهرة على آخره، عالمْ خبر المبتدأ مرفوعٌ به ورفعه ضمة مقدرةٌ على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بسكون الوقف، هكذا تُعرِب الإعراب الصحيح.

بعضهم يُعربه أنه: ورفعُه حركة ظاهرة. غلط هذا، هذا ما تُعرِب أنه حركة .. أين الظاهرة؟ الأول: زيدٌ عالمٌ هذا من باب الإيضاح فقط من باب التعليم، لكن في الكلام يكون غلط مخالف للقواعد؛ لأن الأصل تُسكِّن "زيدٌ عالمْ" هكذا.

قال هنا: لأنا إذا قلنا على سبيل التعداد: "زيد عالم" بلا حركة إعرابية، لم يُفهم منه الربط ولا الإسناد، وإذا قلنا: زيدٌ عالمٌ بالرفع فُهم منه ذلك، فالرابطة هي الحركة الإعرابية لا غير.

لكن هذا في الأصل .. في لغة العرب، لكن لما جاء المناطقة زادوا فجاءوا بـ: هو وما عُطف عليه فيما سبق.

قال هنا: (والمراد بالجزء الأولِ: المحكومُ عليه وإن ذُكر آخراً).

(المراد) هذا مبتدأ.

(بالجزء الأول) هذا متعلِّقٌ به. أين الخبر؟

(المحكومُ عليه) إذاً تبحث عن المحكوم عليه سواء تقدم أو تأخر.

ولذلك قال: (وإن ذُكر آخراً) يعني: تأخر، والأصل فيه التقدم.

ولذلك قيل: إذا التبس عليك المبتدأ بالخبر أو ما عرفت المبتدأ ابحث عن المحكوم عليه، في الجملة الاسمية طبعاً وإلا يدخل الفاعل هنا.

(وإن ذُكر آخراً، وبالثاني) والمراد بالجزء الأولِ المحكومُ عليه الذي هو الموضوع.

(وبالثاني) يعني: بالجزء الثاني الذي هو المحمول (المحكومُ به).

ولذلك قلنا: هذه عبارات وإن اختلفت في سائر الفنون إلا أنه يؤتى بها في هذا الموضع.

يعني: يقوِّي بعضُها بعضاً أو يشرَح بعضها بعضاً، يلتبس الموضوع بالمحمول، إذاً: الموضوع هو المحكوم عليه، والمحمول هو المحكوم به.

يحصل التباس كذلك تقول: الموضوع هو المبتدأ أو الفاعل ونائبُه، والمحمول هو الخبر أو الفعل. سواء كان مغيَّر الصيغة أو معلوم، هكذا من باب التيسير.

(المحكومُ عليه أي: سواءٌ جاز تأخيرُه كالمبتدأ الذي لم يتضمن معنى الاستفهام نحو: قائمٌ زيدٌ) يعني: قلتَ مثلاً: المبتدأ دائماً يكون محكوماً عليه، هذا الأصل، لكن هذا يستثنى هذا من باب الخروج عن القاعدة.

قلت: أقائمٌ زيدٌ.

مُبْتَدَأ زَيْدٌ وَعَاذِرٌ خَبَرْ

وَأَوَّلٌ مُبْتَدَأ وَالْثَّانِي فَاعِلٌ

وَقِسْ وَكَاسْتِفْهَامٍ النَّفْيُ ... إِنْ قُلْتَ زَيْدٌ عَاذِرٌ مَنِ اعْتَذَرْ

اغْنَى فِي أَسَارٍ ذَانِ

وَقَدْ يَجُوْزُ نَحْوُ فَائِزٌ أولُو الرَّشَدْ

 

إذا قلتَ: أقائمٌ الزيدان. قائمٌ هذا مبتدأ، والزيدان هذا فاعلٌ سد مسد الخبر، قائمٌ هو المحمول هنا وهو مبتدأ، وقع إذاً المبتدأ محمولاً، والزيدان فاعل سد مسد الخبر وقع موضوعاً على الأصل.

(10/21)

________________________________________

لكن الشاهد هنا في: قائم.

إذاً: المبتدأ قد يكون محكوماً به، لكن هذا بضوابطه ليس كل مبتدأ، الأصل في المبتدأ هو ما خلَى عن الشروط هذا الأصل فيه، والكلام فيه الأصل، وأما هذا فهو نوعٌ خارجٌ. ولذلك قال: (وَقَدْ * يَجُوْزُ نَحْوُ فَائِزٌ أولُو الرَّشَدْ) يعني: وقع فيه نزاع، وإن كان هو مرجوح والصواب مذهب البصريين، لكن وقع فيه نزاع.

قال هنا: (المحكومُ عليه أي: سواءٌ جاز تأخيرُه كالمبتدأ الذي لم يتضمن معنى الاستفهام نحو: قائمٌ زيدٌ.

أو وجب كما في الفاعل .. ) إلى آخر كلامه.

قال هنا: (وبالثاني المحكوم به، وإن ذُكر أولاً نحو: عندي درهم) عندي هذا المحكوم به وهو المحمول، ذُكر أولاً.

إذاً: العبرة هنا بالتقدم والتأخير الطبيعي، هذا الأصل موافقٌ للطبع، فإن تقدّم كلٌ منهما أو تأخر فهو خلاف الأصل، وتقدُّمه أو تأخره لا ينفي الوصف الأصلي عنه، فالموضوع يبقى موضوعاً وإن تأخر، والمحمول يبقى محمولاً وإن تقدم. على الأصل.

قال: (وَالجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ الشَّرْطِيَّةِ يُسَمَّى مُقَدَّمًا) (لتقدُّمِه لفظاً أو حُكماً).

(لتقدُّمه لفظاً) إذا كان الشرط مقدماً على الجزاء.

(والثاني) الذي هو حُكماً (إذا كان مؤخراً؛ بناءً على ما ذهب إليه المبرِّد والكوفيون) أنه يجوز.

(والبصريون يمنعون تقدُّم الجزاء على الشرط فنحو: النهار موجودٌ إذا كانت الشمس طالعة) يمنعون هذا البصريون.

النهار موجودٌ إذا كانت الشمس طالعةً، طبعاً ما بعد "إذا" لا يعمل فيما قبله، حينئذٍ إذا كانت الشمس طالعةً هذا الشرط، أين جوابه؟ محذوف.

والنهار موجودٌ السابق هذا دليل الجواب، ليس هو عينه، بخلاف مذهب الكوفيين والمبرِّد على أنه المتقدم هو الجواب، فلا نحتاج إلى التقدير، والمناطقة على هذا؛ لأنهم ينظرون إلى المعنى، وإذا كان كذلك لا إشكال عندهم.

ولذلك قال هنا: (وَالجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ الشَّرْطِيَّةِ يُسَمَّى مُقَدَّمًا) (لتقدمه لفظاً أو حكماً.

فالأول) يعني: لفظاً.

(إذا كان الشرط مقدماً على الجزاء، والثاني: إذا كان مؤخَّراً بناءً على ما ذهب إليه المبرِّد والكوفيون.

والبصريون يمنعون تقدم الجزاء على الشرط، فنحو: النهار موجودٌ إذا كانت الشمس طالعة). الجزاء محذوف على مذهب البصريين فيقدَّر، ثَم دليلٌ يدل عليه.

والذي تقدم على الشرط -النهار موجود- دليلُه عندهم، وعلى هذا فهو مقدمٌ لفظاً دائماً، وهذا عند النحاة.

ومقصود المناطقة المعاني فلا حاجة إلى تقدير شيءٍ يتم المعنى بدونه.

إذاً: وافق المناطقة هنا ما عليه المبرِّد والكوفيون، هذا المراد: أن المتقدِّم يُعتبر هو الجواب، ولا نحتاج إلى تقدير.

لكن هذا ليس بحث المناطقة وإنما يُرجع إلى النحاة، على كلٍ المراد هنا ما ذُكر.

قال: (وَالثَّانِي تَاليًا) (لتلوِّه الأول أي: تبعِيَّتِه له).

قال هنا: (لتقدمه لفظاً وحكماً) فيه إشارة إلى جواز تقديم التالي على المقدَّم عند المنْطِقي. هذا طيب.

وإن امتنع عند البصري؛ لأن نظر المنْطِقي إلى المعنى والتقديم لا يُفسده، ونظر البصري إلى اللفظ .. -ما فيه مقابلة بين المناطقة والبصريين- والتقديم يبطل الصدارة عندهم، لكن هذا فن وهذا فن، وتناولوا المسألة فكانت مشترَكة.

(10/22)

________________________________________

ومثلُه نقول المقدَّم عند النحاة أهل الفن، إلا إذا جاءوا بشيءٍ مطابق لما عند النحاة فلا إشكال.

قال: (وَالثَّانِي تَاليًا) يعني: الجزء الثاني من الشرطية يسمى تالياً، لماذا؟

(لتلوِّه الأول أي: تبعيتِه له) يتبعه.

(والمراد بالأول: الطالبُ للصحبة وإن ذُكر آخراً، وبالثاني المطلوبُ لها وإن ذُكر أولاً كما مر نظيرُه في الحملية).

لكن بقي أن هذا هل يشمل المنفصلة، أم أنه خاصٌ بالمتصلة؟ المتصلة متفقٌ عليه: الأول مقدم والثاني تالي، لكن العدد إما زوجٌ أو فردٌ. هل الأول مقدم والثاني تالي؟ قيل به، وقيل: لا.

التقسيم هذا لا يشمل المنفصل؛ لأنا لا نحتاج، إذا كانت الشمس طالعةً فالنهار موجود. المقدّم يستلزم التالي، بينهما علاقة .. تلازم.

لكن ما بينهما تنافي ليس بينهما تلازم، فإذا قلت: العدد إما زوجٌ أو فردٌ. سمّيت الأول مقدَّماً أو تالياً، والثاني مقدماً أو تالياً لا يضُر، لا ينبني عليه شيء.

وإنما يتعين أن الأول مقدَّم والثاني تالي في الشرطية المتصلة وأما المنفصلة فلا.

قال رحمه الله تعالى: (وَالْقَضِيَّةُ) (بحسب إيقاع النسبة وانتزاعها) (إِمَّا مُوجَبَةٌ، وَإِمَّا سَالِبَةٌ).

أراد أن يقسِّم لنا القضية بحسب إيقاع النسبة وانتزاعها؛ يشير إلى أن هذا تقسيمٌ للقضية باعتبار ما يعرِض لها، وما سبق باعتبار ذاتها، وما بالذات أقوى فلذلك قدَّمه على ما هاهنا.

يعني: هذا تقسيم آخر، تنقسم القضية إلى موجبة وسالبة، لكن باعتبار الإيقاع والانتزاع .. باعتبار النسبة إيقاعها وانتزاعها.

(وَالْقَضِيَّةُ) يعني: الحملية.

(بحسب إيقاع النسبة) يعني: بالنظر إلى هذه الحيثية.

(إيقاع النسبة) أي: إدراك وقوع النسبة.

(وانتزاعها) أي: إدراك انتزاع النسبة.

قال هنا: (إيقاع) إدراك وقوع.

(النسبة) أي: الكلامية، أي موافقتُها للنسبة الواقعية.

(وانتزاعِها) أي: إدراكُ أن النسبة الكلامية ليست واقعة ولا موافقةً للنسبة الواقعية .. على ما مر في الكلام على التصديق.

(إِمَّا مُوجَبَةٌ: كَقَوْلِنَا زَيْدٌ كَاتِبٌ).

(مُوجَبَةٌ) (أي: مسمّاةٌ بهذا لوجوب النسبة فيها أي: ثبوتها) فالإيجاب بمعنى الثبوت، ولذلك تقول: الواجب بمعنى الثابت، والوجوب بمعنى الثبوت (مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ) أي: ما يُثبت من وسائل تؤدي إلى الرحمة.

(أي: مسمّاةٌ بهذا لوجوب النسبة فيها أي: ثبوتِها.

والمشهور فتح الجيم –موجَبَة- على معنى أن المتكلم أوجبَ النسبة أي: أثبتَها فيها).

(ويصح كسرها موجِبة) وإن لم يكن شائعاً، الاستعمال على الأول، لكن يجوز موجِبة.

(على معنى أن القضية أَوجَبَت أي: أثبتت النسبة إسناداً مجازياً).

قال: (إِمَّا مُوجَبَةٌ: كَقَوْلِنَا زَيْدٌ كَاتِبٌ) ليست سالبة.

(وَإِمَّا سَالِبَةٌ) (أي: مسمّاةٌ بهذا لاشتمالها على انتزاع النسبة أي: سلبِها عن الموضوع) (كَقَوْلِنَا زَيْدٌ لَيْسَ بِكاتِبٍ) نفيتَ الكتابةَ عن زيد.

قال: (والموجَبة) أراد أن يقسِّم الموجبة (إما محصّلةٌ أو معدُولة).

(والموجبة إما محصَّلةٌ وإما معدولة).

المحصَّلة قال: هي الوجودية. يعني: أن يكون كلٌ من الطرفين أمراً وجودياً.

(10/23)

________________________________________

زيدٌ كاتبٌ، زيدٌ هذا وجودي، وكاتبٌ هذا وجودي؛ لأن القسمة أربعة: وجودي على وجودي .. أثبتَّ أمراً وجودياً لأمرٍ وجودي، عدمياً لعدمي، عدمي لوجودي، بالعكس: وجودي لعدمي.

المحصَّلة أمرٌ وجودي لوجودي، الثلاثة الأنواع الأُخرى هي المعدولة.

قال: (والموجَبة إما محصَّلةٌ وهي الوجودية أي: التي حُكِم فيها بموجودٍ على موجود) المحمول يكون موجوداً لا عدمياً، والموضع يكون موجوداً لا عدمياً نحو: زيدٌ كاتب.

(أو) النوع الثاني للموجبة المقابل للمحصَّلة (أو معدولة وهي ما ليست كذلك) يعني: ليست كالوجودية في الحكم بوجودي على وجودي.

(بأن حُكم فيها) يعني: في المعدولة.

(بعدميٍ على عدمي) هذه صورة.

(أو عدمي على وجودي) هذه صورة ثانية.

(أو بوجودي على عدم) هذه صورة ثالثة، فالقسمة رباعية: وجودي على وجودي هذه تسمى محصَّلة، ما عداها -الأقسام الثلاثة- تسمى معدولة.

(وسُمّيت معدولة؛ لأن حرف السلب عُدل به عن مدلوله الأصلي) وهو السلبُ، مناسب سلبُ النسبة الحُكمية يعني: الأصل أداة السلب هو سلبُ النسبة.

إذا دخلتْ الآن عندما نقول: القضية إما موجَبة وإما سالبة.

الموجبة هذا وصفٌ للنسبة، والسالبة سلبٌ للنسبة. إذاً: لا للموضوع ولا للمحمول، وإنما للنسبة.

الوجودية المحصَّلة -وجودي على وجودي- على أصلها يعني: الثبوت، وهنا دخل حرف السلب: إما أن يكون دخل على الموضوع فقط، أو على المحمول فقط، أو عليهما معاً. حينئذٍ حصل عدْلٌ ((ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)) [الأنعام:1] يعني: انحراف، عدلٌ يعني: عدمُ وضع الشيء في موضعه.

فالأصل دخول حرف السلب على النسبة، وهنا لم يدخل على النسبة وإنما دخل على غيره، وهذا معنى العدول.

ولذلك قال: (سُمَّيت معدولة لأن حرف السلب عُدِل به عن أصل مدلوله) يعني: عن مدلول أصله، [إضافة ما كان صفةً وإقامةُ المصدر مقام الصفة، والأصل: مدلولِه الأصلي]. وهو السلب .. ليس السلب، هو لم يُعدَل عن السلب فيصير إثباتاً لا، إنما عُدل عن سلب النسبة.

ولذلك المناسب كما قال المحشي: سلبُ النسبة الحكمية، وإلا فما زال السلب موجوداً .. حرف السلب مستعمل في معناه، لكن عدَلْتَ به من دخوله على النسبة إلى دخوله إلى الموضوع أو المحمول أو هما معاً، فهو باقٍ على أصله.

فقوله: (عُدِل به عن أصل مدلوله وهو السلب) قد يظن الظان بأنه انتقل من السلب إلى شيءٍ آخر لا، وإنما عن سلب النسبة، إلا إذا قيل: بأن أل هنا للعهد الذهني.

(وجُعل حُكمُه -أي: حرفُ السلب- حُكمَ ما بعده. أي: سواءً كان محمولاً أو موضوعاً).

(حُكم ما بعده) لو قال: "حكم غيرِه" شمل الموضوع والمحمول أو لى، لكن (ما بعده) هذا فيه تقييد، وإن كان المحشِّي حاول أن يعمم.

(أي: سواءً كان محمولاً أو موضوعاً.

(والمراد مِن جعلِ حُكمِهِ حُكمَ ما بعده تركيبُه معهُ، وجعلُ مجموعِهما محمولاً أو موضوعاً).

حينئذٍ حرفُ السلب يدخل على الموضوع فيكون جزءاً من الموضوع، ويدخل على المحمول فيكون جزءاً من الموضوع، فتقول: الموضوع لا جماد، أو المحمول لا إنسان. حينئذٍ تُدخِل أل على الموضوع أو المحمول فيكون جزءاً منه فتركَّبَ منهما.

(10/24)

________________________________________

ولذلك قال: (جُعِل حكمه) يعني: حكم حرف السلب (حكمَ ما بعده) يعني: ما دخل عليه.

فإن دخل على الموضوع صار حرفُ السلب موضوعاً لأنه جزءٌ من اللفظ، وإذا دخل على المحمول صار حكمُه حكمَ المحمول.

قال هنا: (أصلُ أداة السلبِ سلبُ النسبة، وقد يُعدَل بها عنه، وتُجعل من الموضوع أو المحمول أو منهما، وتسمى القضية معدولةً لذلك موجبةً كانت أو سالبة.

والقضية التي لم يُجعل حرف السلب جزءاً من موضوعها ولا من محمولها تسمى محصَّلة موجَبة كانت أو سالبة).

إذاً: كلٌ من المحصَّلة أو المعدولة .. كلٌ منهما تكون سالبة أو موجَبة، وسيأتي الأمثلة فيما سيذكره الشارح.

قال هنا: (وجُعِل حكمُه حُكمَ ما بعدَه).

قال العطار: (أو لأن الأصل في التعبير عن الأطراف هو الأمور الثبوتية؛ لأن الوجود هو السابق، والسلبُ مضافٌ إليه) وهو كذلك؛ لأنه لا يُفهم السلب إلا بعد إدراك الثبوت.

(ففي التعبير عن طرف القضية بالسلب عُدولٌ عن الأصل.

وأما المحصَّلة فإنما سُمّيت بذلك لعدم اعتبار العدم فيها، والمراد بعدمية الأطراف هنا -عدمي على عدمي- أن يكون حرفُ السلب جزءاً من لفظه كما يُفهم من المقابل، لا أن يكون العدم معتبَراً في مفهومه، فنحو قولنا: لا شيءَ من المتحرك بساكن سالبةٌ محصَّلةُ الطرفين) ليست من المعدولة في شيء، مع أن الساكن هذا عدمي.

إذاً: ليس المراد هنا أن يكون مفهومه عدمي، وإنما يكون مقابل له.

قال: (لا أن يكون العدم معتبراً في مفهومه، فنحو: لا شيء من المتحرك بساكن سالبةٌ محصَّلة الطرفين، ليست من المعدولات في شيء، مع أن السكون عدم الحركة.

ومثل قولنا: زيدٌ لا معدومٌ) هذه تُعتبر معدوم، زيدٌ لا معدومٌ، أدخلنا حرف السلب على معدوم المحمول فصار جزءاً منه.

(لا معدوم) يعني: موجود، مع كون المفهوم -مفهوم اللفظ- يدل على أمر عدمي.

قال هنا: (فقيل في الموجَبة المعدولة موجَبةٌ، أي: مع اشتمالها على حرفِ أو حرفي نفي).

يعني تقول: لا إنسان هو لا جماد –مثلاً-، هذا ثابتة أو سالبة؟ هذه موجَبة؛ لأن الجزء هنا -حرفُ السلب- دخل على الموضوع، قيل: لا جماد أو لا إنسان، هو لا جماد. حرف السلب دخل على الموضوع فصار جزءاً منه، ودخل على المحمول فصار جزءاً منه.

وأما القضية فكما هي على أصلها، ولذلك قلتُ: "هو" للدلالة على أن الربط هنا ثابت، حينئذٍ تكون هذه موجَبة.

وإن كان حرف السلب داخلاً سواء كان واحداً أو متعدداً، ولذلك قال هنا: (أي: مع اشتمالها على حرفِ أو حرفي نفي).

إذا كان دخل على الموضوع فقط، أو على المحمول فقط، أو حرفي نفي إذا دخل عليهما معاً.

(ولم يقل فيها سالبة؛ لأن إيجابَ القضية وسلبَها إنما هو بالنظر لنسبتها. فإن لم يتسلط النفي عليها فهي موجَبة ولو كان طرفاها عدميين نحو: لا حيٌّ هو لا حيوان) لا حي يعني: غير متصف بالحياة، "هو لا حيوان" ليس بحيوان.

"لا حيٌّ هو لا حيوان" هذه موجبة أو سالبة؟ موجبة مع كونه اشتمل على حرفي سلب؛ لأن النفي لم يتسلط على النسبة، والحرف الأول دخل على الموضوع فصار جزءاً منه، ولذلك سُمِّيت معدولة.

(وإن تسلَّط النفي عليها فسالبةٌ، وإن كان طرفاها وجوديين نحو: ليس زيدٌ كاتباً).

ثُم قال: (ثُم المحصَّلة) الوجودية.

(10/25)

________________________________________

(إما محصَّلةٌ بطرفيها: الموضوع والمحمول، تصويرُه: بأن يكونا وجوديين) نحو: الإنسان حيوانٌ. كلٌ منهما وجودي.

(بأن يكونا وجوديين، أو محصَّلةٌ بالموضوع فقط) يعني: ومعدولات المحمول .. محصَّلة الموضوع فقط يعني: الموضوع باقٍ على ما هو عليه، لم يدخل عليه حرف السلب.

معدولة المحمول يعني: دخل عليه حرف السلب، بأن يكون الموضوع وجودياً والمحمول عدمياً نحو: الحيوان لا جماد. لو قلتَ: الحيوان هو لا جماد. لا إشكال.

الحيوان كما هو موضوع، لم يدخل عليه حرف السلب، فحينئذٍ هذه محصَّلة أو معدولة؟

باعتبار الموضوع .. الآن التجزئة باعتبار الموضوع والمحمول، هذه محصَّلة الموضوع ليست معدول؛ لأنه باقٍ على أصله، لم يدخل عليه حرف السلب "الحيوان لا جماد" هذه معدولة الموضوع.

ولذلك قال: (أو محصَّلةٌ بالموضوع فقط، ومعدولةٌ بالمحمول بأن يكون الموضوع وجودياً والمحمول عدمياً نحو: الحيوان لا جماد.

أو بالمحمول فقط) يعني: ومعدولةٌ بالموضوع محصَّلة بالمحمول فقط.

(ومعدولةٌ بالموضوع بأن كان الموضوع عدَمياً، والمحمول وجودياً نحو: لا جمادَ حيوانٌ) دخل حرف السلب على الموضوع، فحينئذٍ صار الموضوع معدولاً.

والثاني -الذي هو حيوان- كما هو على أصله.

قال: (والمعدولة كذلك) يعني: كالمحصَّلة (كذلك) أي: المحصَّلة (في انقسامها ثلاثة أقسام): محصَّلة الطرفين، محصَّلة الموضوع فقط، معدولة المحمول، محصَّلة المحمول، معدولة الموضوع.

الآن قال: (والمعدولة كذلك) يعني: ثلاثة أقسام.

(كذلك أي: مثل المحصَّلة في انقسامها ثلاثة أقسام:

معدولة الطرفين، ومعدولة الموضوع، ومعدولة المحمول فقط.

فالأقسام ستة: ثلاثة للمحصَّلة، وثلاثةٌ للمعدولة. وكلها إما موجَبة أو سالبة فالأقسام اثنا عشر، لكن يدخل بعضُها في بعضٍ فمحصَّلة المحمول فقط هي بعينها معدولة الموضوع فقط، ومحصَّلة الموضوع فقط هي عين معدولة المحمول فقط. فالأقسام السالمة من التكرار أربعة:

محصَّلة الطرفين ومعدولتُهما، ومحصَّلة المحمول معدولةُ الموضوع، ومحصَّلة الموضوع معدولة المحمول. وكلٌ إما موجبة أو سالبة فالأقسام ثمانية) وهي واضحة، إذا تأمَّلتَها وأفردتَّها لا إشكال فيها.

قال هنا: (فمحصَّلة الطرفين نحو: كل إنسان كاتب، حُكِم فيها بوجودي على وجودي.

ومعدولتُهما) أي: الطرفين -الموضوع والمحمول-. كل لا إنسان لا كاتب، هذه مثبتة.

كل لا إنسان، إنسان دخلتَ عليه "لا" إذاً: موضوع، صار جزءاً منه، إنسان صارت معدولة.

لا كاتب، كاتب محمول. دخلتْ عليه "لا" فصار جزءاً منها، إذاً: معدول الطرفين .. عُدل الموضوع وعُدل المحمول.

أي: هو لا كاتب، فتقدر الرابطة قبل لا الثانية لتكون موجبة، وقد حُكم فيها بعدمي على عدمي.

قال هنا: (ومحصَّلة الموضوع معدولة المحمول نحو: كلُّ إنسان هو لا كاتب).

كل إنسان هذه محصَّلة الموضوع، معدولة المحمول لا كاتب، وأتى هنا بالرابطة "هو" للدلالة على الإيجاب قال العطار: (صرَّح الشارح بالرابطة بخصوص هذا المثال ليحصُل الفرق بين المعدولة المحمولة والسالبة البسيطة.

لأنها إذا قُدِّرت سالبةً تؤخَّر أداةُ الربط عن السلب.

(10/26)

________________________________________

والحاصل: أنه إذا ذُكِرت الرابطة لا اشتباه، وعند حذفِها تصلح المادة أن تكون معدولة المحمول وسالبة؛ بحسب تقدير الرابط قبل السلب وبعده، وهما مختلفان في المفهوم .. ) إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

قال هنا: (ومحصَّلةُ الموضوع معدولة المحمول نحو: كل إنسان هو لا كاتب؛ لأن كل إنسان وجودي، حُكِم عليه بأمرٍ عدَمي "لا كاتب".

ومحصَّلة المحمول المعدولة الموضوع نحو: كل لا حيوان جماد؛ لأن جماداً وجوديٌ حُكِم به على أمرٍ عدمي.

والسالبة أيضاً إما محصَّلة أو معدولة) يعني: التقسيم السابق كلُّه للموجبة، والتقسيم الآتي كالسابق لكنه يكون سالبة.

(والسالبة أيضاً أي: في الانقسام إلى الأقسام الأربعة.

وحينئذٍ تكون جميعُ الأقسام ثمانية على التفصيل الذي ذكره المحشي؛ لأن محصَّلة الطرفين قِسمٌ، ومعدولتهما قسمٌ آخر فهذان قسمان.

ومحصَّلة الموضوع معدولة المحمول، وبالعكس فالأقسام أربعة).

طرفان .. الأول دون الثاني، الثاني دون الأول.

(ومحصَّلة الموضوع معدولة المحمول، وبالعكس فالأقسام أربعة، وكلٌ منها إما موجبة أو سالبة.

وقد ذكر الشارح جميع الأقسام، ومن أخذ بالظاهر جعلَها اثني عشر قسماً وكأنه لم يتفطن لاندراج بعض الأقسام في بعض).

لا. هو قال: اثنا عشر، ثم قال: وترجع إلى ثمانية، لا إشكال.

هو الأصل أنها اثنا عشر، لكن دخل بعضُها في بعض والتنصيص عليه مهم، وحينئذٍ صارت أو آلت إلى الثمانية.

(والسالبة أيضاَ إما محصَّلة أو معدولة، وكلٌ منهما) المحصَّلة والمعدولة.

(إما بطرفيها، أو بالموضوع فقط، أو بالمحمول فقط.

فمحصَّلة الطرفين نحو: الإنسان ليس بكاتب) الإنسان مُثبَت غير منفي، كاتب مُثبت غير منفي، إذاً: هذه محصَّلة طرفين: الموضوع والمحمول.

(لأن طرفيها وجوديان، وقد سُلب فيها أمرٌ وجودي عن أمرٌ وجودي.

ومعدولتُهما -أي: الطرفين- كلُّ ما كان غير كاتبٍ ليس غير ساكن الأصابع).

كل ما كان غير كاتب ليس .. "ليس" هذه التي دخلت على النسبة.

"غير ساكن الأصابع" هذا المحمول، "غير" هذه أداة سلب. إذاً: كلٌ منهما مسلوب.

(لأنه سُلِب فيه أمرٌ عدمي عن أمر عدمي).

(سُلِب فيه أمرٌ عدمي) الذي هو: غيرُ ساكن الأصابع.

(عن أمر عدمي) هو غير كاتب.

"كل ما كان غير كاتبٍ" هذا الموضوع، "غير ساكن الأصابع" هذا المحمول.

إذاً: سُلِب عدمٌ عن عدم، و"ليس" هي أداة السلب للنسبة.

(لأنه سُلِب فيه أمرٌ عدمي عن أمر عدمي.

ومحصَّلة الموضوع المعدولةُ المحمول نحو: الإنسان ليس) هذا دخلت على النسبة (غيرَ كاتبٍ) غير كاتب محمول هذا منفي.

(فحرفُ السلب الثاني) الذي هو "غير" جزءٌ من المحمول، "ليس" هذه دخلت على مركَّب، صار كأنه كلمة واحدة وهي غير كاتبٍ.

فحينئذٍ "غير" جزء من المحمول مثل: أقومُ ونقوم صارت حرف المضارعة جزءاً من الفعل المضارع، (حرفُ السلب الثاني وهو غير جزءٌ من المحمول.

وبه صار المحمول عدمياً والأول) الذي هو ليس .. ليس غير.

(خارجٌ عن المحمول، وهو الدال على قطع النسبة بين الطرفين).

قال: (ومحصَّلةُ المحمول معدولةُ الموضوع).

(محصَّلة المحمول) يعني: غير منفي.

(معدولةُ الموضوع) يعني: منفي الموضوع.

(10/27)

________________________________________

(نحو: كلُّ ما ليس بحيوانٍ ليس بإنسان) أين الموضوع؟ ليس بحيوان، بإنسان هذا المحمول باقٍ على أصله، فقد حُكِم بنفي وجودي عن عدمي.

المحصَّلة هي التي لم يدخل حرف السلب على الموضوع ولا على المحمول، وإنما دخل على الأصل وهو النسبة.

والمعدولة عُدل بحرف السلب عن دخوله على النسبة فدخل على الموضوع، فصار جزءاً منه، ودخل على المحمول فصار جزءاً منه، وحينئذٍ تأتي القسمة المذكورة: إما أن يكون كلٌ منهما معدولاً .. طرفان، وإما أحدُهما: المحمول دون الموضوع أو الموضوع دون المحمول. والأمثلة ما ذُكِر، فهي واضحة بيِّنة.

قال الشارح هنا: (ومرادُهم عند الإطلاق بالمحصَّلة) إذا قيل: هذه محصَّلة ما المراد؟

قال: (ما لا عُدول فيها أصلاً) مع أنه فيما سبق فصَّل قال: (محصَّلة الموضوع معدولة المحمول، محصَّلة المحمول معدولة الموضوع) لكن هذا عند الفحص والتعليل.

لكن إذا أُطلقت عندهم فالمراد بالمحصَّلة محصَّلة الطرفين، وأما إذا كانت معدولة أحد الطرفين فهي معدولة.

فـ"لا إنسان جمادٌ" مثلاً، هذه تسمى معدولة لا نقول: محصَّلة المحمول معدولة الموضوع لا، وإنما نقول: محصَّلة. هذا الذي عناه الشارح هنا، وينتقده المحشي.

قال: (ومرادهم عند الإطلاق بالمحصَّلة: ما لا عدول فيها أصلاً) وهي محصَّلة الطرفين.

(وبالمعدولة) المراد بها عندهم إذا أُطلقت (ما فيها عدولٌ –مطلقاً-، سواء كانت بطرفيها -الموضوع والمحمول- أم بأحدهما دون الآخر) فتسمى معدولة.

هنا قال: (ومرادُهم عند الإطلاق بالمحصَّلة: ما لا عدول فيها.

رُدَّ بأن اصطلاحهم أن المحصَّلة إذا أُطلقت فالمراد بها محصَّلة المحمول، سواءٌ كان موضوعها محصَّلاً أو معدولاً، وأن المعدولة إذا أُطلقت انصرفت لمعدولة المحمول سواءٌ كان موضوعُها محصَّلاً أو معدولاً) وهذا مذهبٌ لبعضهم.

وحينئذٍ إذا أُطلقت المحصَّلة يُنظر لمذهب المصنف هل المراد بها الإطلاق السابق أو أراد به شيئاً آخر.

قال رحمه الله تعالى: (واعلم أن الموجبة محصَّلةً كانت أو معدولةً تقتضي وجود الموضوع بخلاف السالبة).

قال العطار: (قال الدواني في شرح التهذيب: معنى قولهم: صدق الموجبة يستلزم وجود الموضوع) هذا التعبير الذي عبَّر به السابق: أن الموجبة تقتضي وجود الموضوع.

قال: (معنى قولهم: صدقُ الموجبة يستلزم وجود الموضوع، أن صدقها يستلزم وجوده حال ثبوت المحمول له، أو اتحادُه معه في طرف ذلك الثبوت، إن ذهناً فذهناً وإن خارجاً فخارجاً، وإن وقتاً فوقتاً وإن دائماً فدائماً).

يعني: إن قُيِّد بقيد تبِع ذلك الثبوت القيد، وإن أُطلق صار مطلقاً دائماً، فإن قُيّد في الذهن صار في الذهن، وإن قيِّد في الخارج صار في الخارج. لكن لا بد من تلازم بينهما.

قال: (توضيحُه: أن الوجود إما خارجي أو ذهني.

والذهني: إما منظورٌ فيه لحالةِ الحُكم فقط، أو لحالة المحمول).

يعني: إما لحالة الحُكم فقط، أو لحالة المحمول.

(فالوجود الذهني المُعْتَبر حالة إيقاع الحُكم تشترك فيه الموجبة والسالبة) لأن السالبة لا يمكن إدراكُها إلا بإدراك الموجبة أولاً، ولذلك قلنا: الأعدام تُعرِف بملَكَاتها.

(10/28)

________________________________________

(وأما الوجود المنظور فيه لحالة المحمول، فإن كان المحمول ثابتاً في الذهن للموضوع على الدوام فالموضوع ثابتٌ في الذهن، وموجودٌ فيه على الدوام، وإن كان ساعة فساعة.

وهكذا إن كان ثابتاً له في الخارج دائماً أو ساعة كان موجوداً في الخارج دائماً أو ساعة. فالموضوع تابعٌ للمحمول.

فقولُه: الموجَبة تقتضي وجود الموضوع مخرَّجٌ على هذا النحو، فيكون انفرادُه عن السالبة بهذا الوجود).

يعني: الموجَبة تقتضي وجود الموضوع بخلاف السالبة فتقتضي عدم وجود الموضوع، هذا من الفوارق بين النوعين.

ولذلك قال: (بخلاف السالبة أي: فإنها لا تقتضي وجودَه؛ لأن سلب شيءٍ عن شيء يصدُق بعدم المسلوب عنه، بخلاف إثبات شيءٍ لشيء، فإن ما لا ثبوت له في نفسه لا يثبُت له غيرُه) وهو كذلك، إذا نُفي الشيء عن الشيء هو لا يثبت في نفسه، هو غير موجود، فكيف يثبت له شيءٌ آخر؟

(فإن ما لا ثبوت له في نفسه لا يثبُت له غيرُه، لكن تحقُّق مفهوم السالبة في الذهن يستلزم وجود موضوعِها فيه حالةَ الحُكم فقط.

والحاصل: أن انتفاء المحمول عن الموضوع لا يقتضي وجودَه، وإن كان ثبوتُه للموضوع يقتضي وجودَه) هذه قاعدة.

إن كان ثبوتاً اقتضى وجودَه، وإن كان انتفاءً لا يقتضي وجودَه.

(وأما الحُكم بالانتفاء والحُكم بالثبوت فلا فرق بينهما في اقتضاء الوجودي الذهني).

قال هنا: (وكل ذلك مبسوطٌ في المطوَّلات).

نقف على هذا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!

(10/29)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

فلا زال الحديث فيما يتعلق بباب القضايا، والقضايا جمعُ قضية، وعرَّفها المصنف بأنها (قَوْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ إِنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ) يعني: فيه.

ثم قسَّم القضية إلى حملية كقوله: زيدٌ كاتب، وإلى شرطية.

القضية: إما حملية وإما شرطية، وعرفنا الفرق بينهما.

ثم قسّم الشرطية إلى: متصلة ومنفصلة، وعرفنا الفرق بينهما.

ثم بيّن أن القضية لها ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: الحملية يسمى موضوعاً.

الثاني: محمولاً، والثالث: النسبة الواقعة بينهما.

ثم قسَّم القضية باعتبار إيقاع النسبة وانتزاعها، إيقاع النسبة يعني: إدراك وقوع النسبة.

والنسبة -المراد النسبة الكلامية- أي: موافقتُها للنسبة الواقعية، وانتزاعها أي: إدراك أن النسبة الكلامية ليست واقعة، ولا موافقةً للنسبة الواقعية، قسَّمها إلى قسمين: إما موجبة وإما سالبة.

ثم قال: (والموجَبة إما محصَّلة وإما معدولة).

ثم قال -المحل الذي وقفنا عنده-: (وكلٌ منهما إما مخصوصةٌ كما ذكرنا وإما كُلّيّة) كلٌ منهما هذا يتعلق البحث بتقسيم الموجبة والسالبة.

(وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا) أي: من الموجبة والسالبة.

(إِمَّا مَخْصُوصَةٌ) يعني: إما تسمى مخصوصة.

(كَمَا ذَكَرْنَا) يعني: في المثالين كما قال الشارح هنا: (كما ذكرنا في المثالين المذكورين) أي: زيدٌ كاتب، زيدٌ ليس بكاتب.

لما قال: تنقسم النسبة بحسب انتزاعها قال: موجبة وسالبة. زيدٌ كاتب، زيدٌ ليس بكاتب. هذه يسمى مخصوصة.

(في المثالين المذكورين) أي: زيدٌ كاتب، زيدٌ ليس بكاتب (آنفاً) أي: قريباً، بالمد -مدِّ الهمزة- وكسر النون (آنِفاً) أي: قريباً.

ثم قال: (وسُمِّيت مخصوصة لخصوص موضوعها) يعني: كونِه خاصاً لا يقبل الاشتراك كزيد .. زيدٌ كاتب، وهذا عالم، وأنا قائم.

يعني: مر معنا أن المفرد إما كُلّي وإما جزئي، الجزئي هو المراد هنا .. بأن يكون الموضوع هنا جزئياً بمعنى أنه لا يقبل الاشتراك، هذا معنى الخصوصية.

وسُمّيت مخصوصة لخصوص موضوعها ما يقابل الكلِّي، يعني: كونه خاصاً لا يقبل الاشتراك كزيد، زيد قلنا هذا جزئيٌ وهو محل وفاق علم شخصي، زيدٌ كاتبٌ، هذا قلنا اسم الإشارة جزئيٌ من حيث الاستعمال، وإن اختُلف فيه من حيث الوضع، هذا عالمٌ وأنا "ضمير" قائمٌ.

إذاً: أسماء الأعلام الشخصية جزئية، وكذلك أسماء الإشارة والضمائر، هذا الصحيح أنها جزئية وخاصةٌ من جهة الاستعمال.

حينئذٍ إذا صُدِّرت الجملة بها نقول: هذه جزئية، هذه مخصوصة. أو تسمى شخصية.

(وسُمّيت مخصوصة لخصوص موضوعها).

قال العطار: (أو لاختصاص حُكمها).

يعني: إما أن يُنظر إلى الحكم بأنه ليس كلياً، أو يُنظر إلى الموضوع ولا إشكال، كلاهما متلازمان.

(11/1)

________________________________________

إذا كان الموضوع خاصاً لزم منه أن تكون النسبة خاصة، وإذا كانت النسبة خاصة لزم منه أن يكون الموضوع خاصاً لا ينفك أحدُهما عن الآخر، فسُمّيت مخصوصة إما لخصوص موضوعها، أو لاختصاص حُكمها؛ لأن الكُلّيّة والجزئية كذلك مدارُ النسبة.

(ويقال لها) يعني: تسمى مع كونها مخصوصة.

(ويقال لها) يعني: للمخصوصة (شخصيةٌ) أيضاً كما يقال لها: مخصوصة، لماذا؟

(لتشخُّص موضوعِها أي: تعيُّنه وكونِه جزئياً حقيقياً، فدَخل فيه سائر المعارف) كما مثَّل المحشِّي هنا: زيدٌ كاتب، هذا عالمٌ، أنا قائمٌ .. هذه كلها نقول: شخصيات وهي كذلك مخصوصات لكون الموضوع فيها شخصياً جزئياً، ولكون كذلك الحكم فيها مختصاً .. اختصاص حُكمها.

(ويقال لها شخصية لتشخُّص موضوعها أي: تعيُّنِه وكونه جزئياً حقيقياً، فدخل فيه سائرُ المعارف) هذا النوع الأول يسمى مخصوصة.

(وإما) هذه مقابل للمخصوصة.

(وَإِمَّا كُلِّيَّةٌ مُسَوَّرَةٌ) نعتٌ لها (مُسَوَّرَةٌ) (أي: مشتملةٌ على السُّور الكلِّي الدال على الحكم على كل فردٍ من أفراد موضوعها الكلِّي).

(كُلِّيَّةٌ) يعني: موضوعُها كُلّي، يقابل المخصوصة.

(مُسَوَّرَةٌ) يعني: أحاط بها لفظٌ، هذا اللفظ يسمى سوراً "وسيأتي تعريفه" يدل على أن الحكم منزَّلٌ مُنصبٌّ على كل فردٍ من أفراد الكلي.

فإذا قلت: كل إنسانٍ حيوان، إنسان قلنا هذا كُلّي؛ لأنه يقبل الاشتراك -ما أفهم اشتراكاً- حينئذٍ إنسان كُلّي.

الإنسان حيوان، حيوان هذا محمول، تقول: كل إنسانٍ.

الإنسان حيوان هذه كُلّيّة، وهي مهملة كما سيأتي، حينئذٍ إذا أَدخلتَ عليها السور الكلِّي "كلُّ إنسانٍ حيوانٌ" هذه كُلّيّة مسورة وهي المعنية هنا.

قال: (وَإِمَّا كُلِّيَّةٌ مُسَوَّرَةٌ) إما بسُورٍ كُلّي أو جزئي كما سيأتي.

(مُسَوَّرَةٌ) (أي: مشتملة على السور الكلِّي) فائدة السور هذا الكلِّي: (الدال على الحكم على كل فردٍ من أفراد موضوعها الكلِّي).

"كل إنسانٍ حيوان" يعني: زيدٌ حيوان، وعمروٌ .. وهكذا، فيصدُق الحكم بالمحمول على جميع الأفراد، بحيث لا ينفك عنه واحدٌ من أفراد الموضوع كما هو الشأن في العام، فيتبَع الحكم كلَّ فردٍ من أفراد الكلِّي، الذي دل على هذا العموم في جميع الأفراد هو السور الكلِّي.

قال: (وَإِمَّا كُلِّيَّةٌ مُسَوَّرَةٌ:

كَقَوْلِنَا) في الموجَبة: (كُلُّ إِنْسَانٍ كَاتِبٌ) يعني: كاتب هذه قد تصدُق وقد تكذب، كل إنسانٍ كاتب بالفعل؟ لا ليست صادقة، كل إنسانٍ كاتب بالقوة؟ صادقة.

إذاً: كل إنسانٍ كاتب يعني: كل فردٍ من أفراد الموضوع يصدُق عليه أنه كاتبٌ بالقوة.

هذه نقول: كُلّيّة مُسورة بسورٍ كُلّي، وهذا السور الكلِّي دل على الحكم على كل فردٍ من أفراد موضوعها الكلِّي، ثم هي موجَبة.

كيف هي موجبة؟ لأنه لم يتقدم عليها سور السلب، وسينصُّ على النوعين، كيف نعرف أن هذا السور للإيجاب وهذا السور للسلب. لهم اصطلاحات خاصة عندهم.

قال: (كُلُّ إِنْسَانٍ كَاتِبٌ) هذه موجَبة وهي كُلِّيّات مسورة بسورٍ كُلّي.

(وَ) في السالبة (لاَ شَيْءَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِكاتِبٍ).

(11/2)

________________________________________

(لاَ شَيْءَ) هذا سورٌ كُلّيٌ لكنه سالب، نكرة في سياق النفي فتعم، إذاً: سورٌ كُلّي، كيف جاءت الكُلّيّة؟ هذا عموم يعني مثل كل، من أين جاء العموم؟

تقول: نكرة في سياق النفي فيعم (لاَ شَيْءَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِكاتِبٍ).

قال: (سُمّيت كُلّيّة لدلالتها على كثيرين) وهذا واضح لأنها تدل على كثيرين.

(بُحث فيه بأن الجزئية والمهملة كذلك) تدل على كثيرين (وأُجيب بأن عِلَّة التسمية لا تقتضيها).

يعني: صار اصطلاحاً، هي في الأصل سُمّيت بذلك ثم صارت حقيقة عرفية فيها، فلا إشكال .. فلا اعتراض.

(وسُميت مسورة لاشتمالها على السور) وهو لفظ "كل"، ولفظ "لا شيء" في المثالين السابقية.

ما هو السور؟

قال: (الذي هو) أي: السور.

(اللفظ الدال على كميّة) يعني: عدد (أفراد الموضوع حاصراً لها محيطاً بها).

السور هو اللفظ إذاً: يكون لفظياً، وهذا فيه نظر لأنه قد يكون معنوياً كما سيأتي، لكن هذا الشائع.

(هو اللفظ الدال) إذاً: موضوع وله معنى في لسان العرب، يدل على ماذا؟

(على كميةِ أفرادِ الموضوع) يعني: عدد أفراد الموضوع.

(حاصراً لها) يعني: هذا السور حاصراً (لها) أي: لأفراد الموضوع.

(محيطاً) أي: السور الكلِّي، أو هذا اللفظ (بها) أي: بهذه الأفراد.

فهذا التعريف هو المشهور في تعريف السُّور أنه: (اللفظ الدال على كميّة أفراد الموضوع).

(وقيل: السُّور أمرٌ دالٌ على الأفراد).

(أمر) يعني: حذَف اللفظ، من أجل أن يعم؛ لأن عندنا ما يدل من صيغ العموم على جميع الأفراد وليس بلفظٍ كالنكرة في سياق النفي، هنا معنًى من المعاني وليس بلفظ على ما ذكره العطار.

(وقيل: السور أمرٌ دالٌ على الأفراد حتى يكون شاملاً لوقوع النكرة في سياق النفي؛ فإنه دالٌ على الاستغراق) يعني: لا يختص باللفظي، بل كل ما دل على كمية الأفراد يسمى سوراً.

حينئذٍ يُنظر إلى لسان العرب، فكل ما دل على جميع الأفراد نقول: هذا سورٌ كُلّي. والنظر هنا نظرٌ لغوي، وقد يصطلح المناطقة على شيءٍ ما فيُنظر إليه كاصطلاح، لكن سيأتي أن السعد نبّه إلى أن المراد به هنا: كل ما يدل على جميع الأفراد.

إذاً: (أمرٌ دالٌ على الأفراد حتى يكون شاملاً لوقوع النكرة في سياق النفي؛ فإنه دالٌ على الاستغراق.

يعني: لا يختص باللفظي بل كل ما دل على كمية الأفراد يسمى سوراً).

قال: (مأخوذٌ) يعني: منقول (من سور البلد المحيط به) وهو كذلك سُور البلد محيطٌ به، سور البيت هذا محيط.

نقول: هذا السور أحاط به .. أحاط بالجميع (ففيه تشبيه المعقول بالمحسوس بجامع الإحاطة).

ثم قال -أراد أن يمثِّل للسور الكلِّي في الكلية الموجَبة، والسور الكلِّي في الكُلّيّة السالبة- قال: (والسور في الكُلّيّة الموجبة: كلٌّ، وأل الاستغراقية، وأو العهدية، وفي السالبة: لا شيء، ولا واحد) كمثال، المراد الأمثلة لا الحصر.

قال: (والسور في الكُلّيّة الموجبة كلٌ) أي: المراد به الكل الإفرادي.

أي: كل واحدٍ من أفراد الموضوع لا الكلي المجموعي؛ لأنها حينئذٍ -إذا كان كلياً مجموعياً- شخصية؛ لأن المجموع من حيث هو مجموع شيءٌ واحد لا يقبل الاشتراك، ولا الكلُِّ الذي لا يمنع تصوُّره الاشتراك به.

إذاً: المراد بقوله: (كل) وهذه من صيغ العموم.

(11/3)

________________________________________

صِيَغُهُ كُلٌّ أَوْ ?لجَمِيعُ ... وَقَدْ تَلاَ ?لَّذِي الَّتِي الفُرُوعُ

 

هو معلومٌ عند الأصوليين، ولها بحث واعتقد أن السبكي له رسالة في لفظ كل، ويفرِّقون بين كل المجموعي والجميع .. على كلام طويل عندهم، لا بد من الوقوف عليه؛ لأنها تعتبر أُمّاً في باب العموم.

إذاً: (كل) المراد به هنا: الكل الإفرادي، معناه: كلُّ واحدٍ من أفراد الموضوعي -كل شخص معيَّن- لا الكل المجموعي؛ لأنها حينئذٍ شخصيةٌ، لأن المجموع من حيث هو مجموع شيءٌ واحد لا يقبل الاشتراك ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)) [الحاقة:17] هذه شخصية، (ثَمَانِيَةٌ) يعني: لا كل واحدٍ منفرد إنما الثمانية معاً، هذا الذي يدل عليه اللفظ.

إذاً: لا ينفرد واحدٌ من الملائكة بحمْل العرش؛ لأن هذه كُلّي مجموعي، بخلاف ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) [آل عمران:185] يتبع الحُكم هنا وهو ذوق الموت أو الموت يتبع كل فردٍ من أفراد النفس، وهنا يحمل هذا الموضوع ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)) [الحاقة:17] ثمانية فاعل يحمل، يحمل ثمانية هل هو مثل: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) [آل عمران:185]؟ الجواب: لا.

هذه مسائل لغوية ليس من تطبيق المنْطِق على هذا، وإنما هي مسائل لغوية.

حينئذٍ نقول: يحمل ثمانيةٌ، هل يستقل واحدٌ منهم بحمل العرش؟ الجواب: لا. ما الفرق بين هذه وكل نفسٍ؟ نقول: كل نفسٍ. كلٌ إفردي بمعنى أن الحكم يتبع كل فردٍ فردٍ على حِدَة .. يكون منفصلاً، كل نفسٍ .. زيدٌ منفصل عن عمرو، وعمرو منفصل عن بكر.

وأما ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)) [الحاقة:17] هنا الحكم مسلَّطٌ على المجموع.

قال: (وأل الاستغراقية) نحو: ((إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)) [العصر:2] أل هذه نقول: أل استغراقية، بدليل صلاحية حلولِ لفظ كل محلَّها حقيقةً لا مجازاً، ويصح أن يقال في غير القرآن: إن كل إنسانٍ لفي خسر، ويدل على ذلك كذلك الاستثناء، بدليل الاستثناء منه من قوله تعالى: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)) [العصر:3] الذين هذا اسم موصول جمْع، استثناه من الإنسان.

فلو كان الإنسان هنا فرداً واحداً لما صح الاستثناء، كيف يُستثنى من المفرد الواحد جمعٌ، ثم ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)) [العصر:3] كثير، حينئذٍ نقول: أل هنا استغراقية بمعنى كل، وهي من صيغ العموم.

وحينئذٍ نقول: إن كل إنسانٍ في قوة ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) بدليل الاستثناء منه في قوله تعالى: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)) [العصر:3] فإنه أمارة العموم.

ومثله -مثل ذا المذكور-: أَجْمَع، وقاطبة، وطُرّاً "طُرّاً بمعنى جميعاً" وكافّة، والنكرة في سياق النفي .. كلُّ ذلك يُعتبر من السور الكلِّي.

قال: (أو العهدية).

قال العطار: (الأَولى حذفُه) لأن العهدية شخصية وليست بكلية.

هكذا شاع عندهم بإطلاق، مع أنه يمكن التفصيل على ما ذكره المحشي، لكن الأغلب عندهم في الاستعمال أن ما دخلت عليه أل العهدية تعتبر شخصية مخصوصة، ولا تكون كُلّيّة.

إذاً: (أو العهدية) نقول: الأَولى حذفُه.

(11/4)

________________________________________

لكن هنا وجهها بقوله: (بُحث فيه بأنه إن كان المعهود جميعَ الأفراد فكلية) وهو كذلك.

تقول مثلاً: جاء العلماءُ فأكرمتُ العلماء. أل هذه للعهد، حينئذٍ جاء علماء فأكرمت العلماء.

إذاً: جميع العلماء الذين جاءوا وقع عليهم الإكرام، حينئذٍ معهودُها جَمْعٌ، وإذا كان كذلك فحينئذٍ تكون داخلة في السُّور الكلِّي، لكن الشائع عندهم لا .. أن العهدية لا تكون كذلك.

قال: (وفي السالبة لا شيءَ) لا شيء من الإنسان بِحَجَر.

شيء نكرة في سياق النفي، حينئذٍ صار عموماً وهو نفي. لا شيء من الإنسان بحجر.

(ولا واحدة) واحدة نكرة في سياق النفي فيعم كقولك: لا واحدة من الحيوان بجماد. وهو كذلك.

(أي: وكل نكرة وقعت في سياق النفي بعد كل، نحو: كل إنسانٍ ليس بفرس) ومنه حديث: {كل ذلك لم يكن} فهو سلبٌ كُلّي خلافاً لمن جعَله جزئياً، على خلافٍ فيما ذُكر في شرح السلَّم يُرجع إليه في هذا النص.

الكُلُّ حُكْمُنَا عَلَى المَجْمُوعِ ... كَكُلُّ ذاكَ لَيْسَ ذَا وُقُوعِ

 

هذا الذي عناه، لكن الصواب أنه من الكل الجميعي لا الكل المجموعي.

إذاً: (لا شيء ولا واحد) ومثلُه: (كل نكرة وقعت في سياق النفي).

"كل إنسانٍ" وقيدها العطار هناك بعد كل: كل إنسانٍ ليس بفرسٍ.

قال: (وَإِمَّا جُزْئِيَةٌ) هذا مقابل للكُلّيّة (إِمَّا كُلِّيَّةٌ، وَإِمَّا جُزْئِيَةٌ).

قال: (وَإِمَّا جُزْئِيَةٌ) كذلك (مُسَوَّرَةٌ).

جزئية يعني: ما كان موضوعها جزئياً ليس كُلّياً .. مقابل له، ثم الجزئية قد تكون مسوّرة وقد لا تكون مسوّرة.

قال: (جُزْئِيَةٌ مُسَوَّرَةٌ) عرَفنا معنى السور فيما مضى.

(كَقَوْلِنَا) في الموجَبة: (بَعْضُ الْإِنْسَانِ كَاتِبٌ) كل إنسانٍ كاتب. بعض، لا شك أن البعض يدل على الجزء وإن كان أفراداً مجموعاً، لكنه لا يدل على الكُلّيّة، وإنما هو يدل على الجزئية، فيسمى سوراً جزئياً، والسابق يسمى سوراً كلياً.

قال: (بَعْضُ الْإِنْسَانِ كَاتِبٌ).

(وَ) في السالبة (بَعْضُ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِكاتِبٍ).

إذاً: الجزئية المسورة قد تكون موجَبةً وقد تكون سالبة.

(سُمّيت جزئية لدلالتها على بعض أفراد الكلِّي) لأن الموضوع كما هو إذا دخل السور، الأصل أنَّ الجملة تكون مركبة هكذا: الإنسان كاتب. هكذا، الإنسان هذا موضوع، وكاتب هذا محمول.

(الإنسان) قلنا هذا كُلّي، يقبل اشتراكاً. إذاً: هو كُلّي.

حينئذٍ الإنسان إذا جُعلت أل استغراقية هنا صار كُلّيّة، فيصدق على جميع الأفراد، فإذا أردتَ بعض الأفراد جئت بسورٍ جزئي يدل على أن الحكم ليس مسلَّطاً على جميع الأفراد تقول: بعض الإنسان.

إذاً: بعض الأفراد ليست كل الأفراد، فبعض الأفراد يصدق عليها الحكم، وبعض الأفراد لا يصدق عليها الحكم. هذا المراد بمفهوم الجزئية هنا.

(لدلالتها على بعض أفراد الكلِّي) الكلِّي الذي هو الموضوع، وبعض أفراده أُخرِج بالسور الجزئي.

فالحُكم الكلِّي يصدق معه الجزئي ولا ينعكس، ولذلك كان الجزئي أعمَّ صِدقاً من الكلِّي.

قال: (ومسوَّرة) يعني: سُمّيت مسوّرة (لاشتمالها على السور وهو اللفظ الدال على كمية أفراد الموضوع حاصراً لها محيطاً بها).

وقلنا: "أمرٌ دل على الأفراد" حتى يدخل فيه السور المعنوي.

(11/5)

________________________________________

قال: (لاشتمالها على السور، وهو في الجزئية الموجَبة) ليس على الحصر وإنما أراد المثال: بعض وواحد.

قال السعد في شرح الشمسية: هذا على سبيل التمثيل.

يعني: ما ذُكر في السور الكلِّي إيجاباً وسلباً، وما ذُكر في السور الجزئي إيجاباً وسلباً على سبيل التمثيل. واعتبار الأكثر لا على سبيل التعيين، فإن القاعدة عندهم: فإن كل ما يُفهم منه بحسب لغة من اللغات أن الحُكم على كل الأفراد أو بعضها فهو سورٌ.

كـ: لام الاستغراق، والنكرة في سياق النفي، والتنوين في الإثبات، واثنان وثلاثة .. ونحوِ ذلك، مما تُفهَم منه الكُلّيّة والبعضية.

إذاً: الحكم ليس هنا على الحصر، وإنما المراد به ذِكر أمثلة فقط .. تعدَاد أمثلة، وهو ما شاع واشتهر عندهم.

والمراد: أن كل ما يُفهِم الكُلّيّة فهو سورٌ كُلّي، وكل ما يُفهم البعضية فهو سورٌ جزئي.

قال: (وهو في الجزئية الموجبة بعض وواحد).

قال هنا العطار: (وجعل السعد من أسوار الجزئية التنوين في الإثبات، وقد يقال إن كون التنوين سوراً للجزئية غالبي لا كُلّي) لماذا؟ لأن النكرة المنوَّنة قد تعم في الإثبات، فإذا جعلنا التنوين سوراً جزئياً صار مطرداً، لكن نقول: هذا غالبي لا كُلّي؛ لأنه يقال: تمرةٌ خيرٌ من جرادة.

"تمرةٌ" حينئذٍ نقول: هذا أفاد العموم، و ((عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ)) [الانفطار:5] نفسٌ هنا أفاد العموم، مع كون التنوين هنا دخل على نكرة، على ما قرره علماء المعاني.

إذاً: التنوين في الغالب يكون سوراً جزئياً لكنه قد يخرج عنه ويكون سوراً كلياً؛ لأن النكرة المنوّنة قد تعم في الإثبات، ولذلك النكرة من حيث هي نكرة قد تعم في سياق الامتنان كذلك، ((فِيهَا فَاكِهَةٌ)) [يس:57] هذا فيه عموم؛ لأنه في سياق الامتنان.

قال: (وفي السالبة أي: الجزئية ليس بعض، وبعض ليس، وليس كل) هذه ثلاثة أمثلة.

(ليس بعض) ليس هنا دخلت على السور، حينئذٍ فُصِل بين حرف السلب -ذات السلب- وبين الموضوع بالسور، إذاً: لم تدخل على الموضوع.

(وبعض ليس) لا شك أن بعض هنا دخلت على الموضوع، فجُعِل حينئذٍ أو يحتمل كما سيأتي أن الموضوع هنا معدول؛ لأن الأصل في حرف السلب أن يدخل على السور، فإذا جاء بعد السور فحينئذٍ صارت الجملة محتمِلة.

قال هنا: (فرقٌ بين: ليس بعض، وبعض ليس:

بأن ليس بعض لا يكون إلا للسلب) إذا تقدمت ليس على الجملة كلها -على السور- لا يكون إلا للسلب قطعاً.

(لأن أصله: ليس بعض الحيوان بإنسان، فلم تدخل ليس على الموضوع بل على السور.

وأما بعض ليس فيصح مجيئُه للعدول الذي هو إيجاب؛ لأن أصله: بعض الحيوان ليس بإنسان، فيصح جعل ليس جزءاً من المحمول، فيصير المعنى: ثبوت غير الإنسان للحيوان لا سلبُ الإنسان عنه).

يعني: إذا جاء حرف السلب قبل بعض، فحينئذٍ ليس إلا السلب، لا يحتمل الإيجاب؛ لأنه هو الأصل. دخول حرف السلب أن يدخل على الموضوع، وهنا جاء الموضوع مسوراً "بعض الحيوان" فدخل ليس بعض الحيوان.

إذاً: ليس عندنا إلا السلب، لكن يبقى لو تأخر: بعض ليس.

مر معنا أن العُدول قد يكون في الموضوع دون المحمول، والمراد به: دخول حرف السلب على الموضوع.

(11/6)

________________________________________

إذاً: بعض ليس، إذاً: دخلت ليس هنا على الموضوع، فيحتمل أنها إيجابية "موجبة" ولا نجزم بأنها للسلب.

قال: (كذلك الفرق بين ليس كل وبين ليس بعض، وبعض ليس).

الأول: الفرق بين ليس بعض وبعض ليس، هنا الفرق بين هذين الأمرين السورين وبين ليس كل.

(بأن ليس كل يدل على سلب الإيجاب الكل مطابقة) ليس كل، دخلت ليس على كل. حينئذٍ صار المعنى يدل على سلب الإيجاب الكل مطابقة.

(وعلى السلب الجزئي التزاماً) لأنه إذا نُفي جميع الأفراد البعض من باب أولى .. إذا نفي جميع الأفراد، حينئذٍ السلب الجزئي التزاماً، دلّت عليه من باب الالتزام؛ لأن الأصل في دخول حرف السلب على لفظ كل: أنه يدل بالمطابقة سلب الإيجاب الكلِّي. لأنها أصلاً موجبة: كل إنسانٍ حيوان، ليس كل إنسان حيوان. لو قيل هكذا، حينئذٍ نقول: سُلب الإيجاب الكلِّي.

من بابٍ أولى أو التزاماً سُلِب بعض أو الجزئية.

قال: (وعلى السلب الجزئي التزاماً؛ لأن معنى كل إنسانٍ حيواناً الإيجاب الكل وليس سلْبُه.

ولزِمه سلب الجزئي؛ لأن سلب الإيجاب الكلي صادقٌ بسلب المحمول عن كل فردٍ، وبسلبه عن بعض الأفراد. وعلى كلٍ فسلبُه عن البعض متحقِّقٌ.

وبأن ليس بعض، وبعض ليس. يدلان على السلب الجزئي مطابقة، وعلى سلب الإيجاب الكل التزاماً) لأنها إذا قيل: ليس بعض، وبعض ليس. دل على سلب الجزء مطابقة؛ لأنه نصٌ فيه.

طيب. السلب الكلِّي؟ التزاماً؛ لأنه إذا نُفي البعض نُفِي الكل.

قال هنا: (يدلان على السلب الجزئي مطابقة، وعلى سلب الإيجاب الكلي التزاماً؛ لأن معناهما: سلبُه عن البعض ورفعُ الإيجاب الكلي لازمٌ له، لأنه إذا لم يَثبت للبعض لم يَثبت لكل فردٍ ضرورةً).

إذاً: فرقٌ بين هذه الأسوار الثلاثة على ما ذُكِر .. ليس بعض، وبعض ليس، وليس كل.

قال: (والمسوّرة تسمى محصورة) المسوّرة بسورٍ كُلّي أو جزئي تسمى محصورة.

إذا قيل: هذه محصورات أو محصورتان أو المحصورة دل على أنها مسوَّرة سواء كانت بسورٍ كُلّي أو بسورٍ جزئي.

(تسمى محصورةً كُلّيّةً كانت أو جزئية).

(وَإِمَّا أَنْ لا يَكُونَ كَذلِكَ).

قال: (إِمَّا مَخْصُوصَةٌ، وَإِمَّا كُلِّيَّةٌ، وَإِمَّا جُزْئِيَةٌ، وَإِمَّا أَنْ لا يَكُونَ كَذلِكَ) يعني: لا مخصوصة، ولا كُلّيّة، ولا جزئية. لا كُلّيّة المقصود ليست مسوّرة بسور كُلّي، ولا جزئية يعني: ليست مسوّرة بسور جزئي.

فحينئذٍ (وَإِمَّا أَنْ لا يَكُونَ) كلٌ من الموجبة والسالبة (كَذلِكَ) أي: مثْل المذكور.

(من المخصوصة، والكُلّيّة المسوّرة، والجزئية المسوّرة).

(وَتُسَمَّى مُهْمَلَةً) يعني: إذا لم تكن مخصوصة ولا كُلّيّة ولا جزئية، حينئذٍ صوَّرها هنا قال: (بأن يكون موضوعُهما كلياً، وحُكِم فيهما على أفراده).

(بأن يكون موضوعُهما) أي: السالبة والموجبة؛ لأن التقسيم فيهما لا زال.

قال: (وَإِمَّا أَنْ لا يَكُونَ) يعني: كلٌ من الموجبة والسالبة .. تقسيم للموجبة والسالبة.

(كَذلِكَ) أي: مثلُ ما سبق من الخصوصية والكُلّيّة والجزئية (أَنْ لا يَكُونَ كَذلِكَ) وحينئذٍ ماذا يكون؟

يكون موضوع كلٍ من الموجبة والسالبة كُلّي.

(وحُكِم فيهما على أفراده) لكن لم يتعرض: هل المراد جميع الأفراد أم بعض الأفراد؟

(11/7)

________________________________________

إذا قيل: الإنسان كاتب، لا على جعلِ أل استغراقية وإلا صار سُوراً كلياً.

"أل" هنا ليست استغراقية "الإنسان كاتبٌ" صارت محتمِلة.

هل المراد كل فردٍ أم المراد بعض؟ صارت محتمِلة.

حينئذٍ أحدُهما متيقَّن والآخر مشكوكٌ فيه، ما هو المتيقن؟ القليل –الجزئية-، القليل متيقَّن، والكل هذا مشكوكٌ فيه.

حينئذٍ حُملت على البعض .. الجزئية، ولذلك المهملة في قوة الجزئية لهذا المعنى.

قال: (ولم يُتعرض فيهما لكون الحكم على كل فردٍ أو على بعض الأفراد).

(وَتُسَمَّى مُهْمَلَةً) بضمٍ فسكون ففتح (لإهمال بيان كمية الأفراد) المحكوم عليها (فيها).

(تسمّى مهملة لإهمال بيان كمية الأفراد فيها، أو لإهمالها في الأدلة استغناءً عنها بالجزئية) يعني: لا تُستعمل في العلوم، لا تكون مسألة .. مقدّمة من المقدمات؛ لأن الذي يكون مقدمة من المقدمات فيما سيأتي في القياس ونحوه إنما هو المحصورات فقط، لا الشخصية ولا الطبيعية، وإن كانت الشخصية قد تُستعمل في بعض الأشكال كما يأتي، لكن الأصل هو العدم.

(وَتُسَمَّى مُهْمَلَةً) (لإهمال بيان كمية الأفراد فيها، كقولنا في الموجَبة: الإنسان كاتب أي: بملاحظة أن أل جنسية لا استغراقية وإلا فكُلّيّة، ولا عهدية وإلا فشخصية).

الإنسان كاتب هذا يحتمِل أنها كُلّيّة مسوّرة بسور كُلّي، ذلك على جعلِ أل للاستغراقية وهي سورٌ كُلّي. الإنسان كاتب أي: كل إنسانٍ كاتبٌ يعني: بالقوة لا بالفعل وهي كُلّيّة.

طيب. إذا جُعلت جنسية يعني: جنس الإنسان، ومعلومٌ أن الجنس صادقٌ بالبعض، فحينئذٍ الإنسان كاتبٌ يعني: بعض الإنسان كاتب.

في ظاهرها أن الحُكم يتبَع كل فرد فرد، لكن لما كان ذلك مشكوكاً فيه لم تُحمل عليه، وإنما حُمل على البعض لأنه هو المتيقَّن.

إذاً: (كقولنا في الموجبة الإنسان كاتبٌ أي: بملاحظة أن أل جنسية لا استغراقية وإلا فكلية، ولا عهدية وإلا فشخصية.

وفي السالبة: الإنسان ليس بكاتب) كسابقها أي: جنس الإنسان، ليس بكاتبٍ يعني: بالفعل.

قال: (والمهملة في قوة الجزئية).

(والمُهملة) التي مر ضبطُها.

(في قوة الجزئية) يعني: بمعنى الجزئية، تُفسَّر بالجزئية.

حينئذٍ إذا قيل: جزئية كُلّيّة الفرق الجوهري بينهما: أن الكُلّيّة يصدُق المحمول على جميع الأفراد، ولذلك قلنا: الكل المراد به الكل الإفرادي الجميعي لا المجموعي.

والجزئية يصدق المحمول على بعض الأفراد.

فحينئذٍ المهملة عندما لا تكون كُلّيّة ولا جزئية، كيف نفسِّرها؟

قال: (في قوة الجزئية) يعني: بمعنى الجزئية. فيصدُق حينئذٍ المحمول على بعض الأفراد.

قال المحشي هنا: (يعني: أنهما متلازمان في الصدق ثبوتاً ونفياً) يعني: الجزئية والمهملة متلازمان في الصدق ثبوتاً ونفياً.

(فكلما تحقق الحكم على الأفراد في الجملة) يعني: بعض الأفراد ليس في الجميع، في الجملة إذا قيل حينئذٍ يراد به بعض الأفراد لا جميع الأفراد.

(فكلما تحقق الحكم على الأفراد في الجملة الذي هو معنى المهملة، تحقق الحكم على البعض الذي هو معنى الجزئية) تلازما هنا.

(وكلما تحقق الحكم على البعض تحقق الحكم على الأفراد في الجملة، وإلا لزم عدم تحققه مع تقدير تحققه وهو تناقضٌ محال) موجودٌ غير موجود.

(11/8)

________________________________________

(وكلما لم) جاء في النفي، فيما سبق في الإثبات.

(وكلما لم يتحقق الحكم على الأفراد في الجملة لم يتحقق الحكم على بعضها، وكلما لم يتحقق على بعضها لم يتحقق الحكم عليها في الجملة وإلا لزم تحققه على تقدير عدم تحققه وهو محال.

فإذا قلنا: الإنسان كاتبٌ -على جعل أل جنسية- فقد حكمنا بثبوت الكتابة على ما صدق عليه الإنسان قطعاً).

هنا إجمال، ما صدق عليه الإنسان، الذي هو أفراد الإنسان قطعاً هذا ظاهر اللفظ.

(لكن هذا المصدق) الذي هو الأفراد، الذي هو مصدق الإنسان.

(يحتمل كل الأفراد فيكون كلية، ويحتمل بعضها -بعض الأفراد- فيكون جزئية، والثاني) الذي هو بعض الأفراد (متيقَّن) واليقين لا يزول بالشك.

(والأول مشكوكٌ فيه، فحُمِل على المتيقَّن وأُلغي المشكوك وجُعلت في قوة الجزئية) هذا وجهُه وهذا محل وفاق عندهم (المهملة في قوة الجزئية).

قال: (والشخصيةُ في حُكم الكُلّيّة) الشخصية التي موضوعها شخصي .. مخصوصة هذه في حكم الكُلّيّة.

(هكذا اشتهر وصرّح به غير واحدٍ من المحققين) هكذا قال العطار.

(ولكنها غير معتبرة كالطبيعية) كما سيأتي في الطبيعية.

(والشخصية في حُكم الكُلّيّة) يعني: في معنى الكُلّيّة، ليس المراد أنها تصدق على ما لا يصدُق عليه الموضوع لا، وإنما المراد: أن المحمول حُمل على جميع مدلول الموضوع.

في الكُلّيّة ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) [آل عمران:185] ((ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) هذا الخبر، يصدُق على جميع ما دل عليه ((كُلُّ نَفْسٍ)) على الجميع لا على البعض، إذاً: دل على الجميع.

زيدٌ كاتبٌ، كاتبٌ يُحمل على جميع ما دل عليه زيد، ففيه تشابه مع الكُلّيّة، في ماذا؟ في كونه لا يُستثنَى بعض الموضوع، فيبقى على ما هو عليه.

يَتأكد هذا في الآية التي ذكرناها ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)) [الحاقة:17] قلنا: يحمِل هذا محمول، ثمانيةٌ هذا فاعل.

حينئذٍ هل هذه كُلّيّة أم جزئية؟ لا يستقل واحد، نقول: من الكل المجموعي.

هل هي كُلّيّة بمعنى الكل الجميعي .. جميع الملائكة، أم أنه خاصٌ بالثمانية؟ خاصٌ بالثمانية.

إذاً: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)) [الحاقة:17] ثمانيةٌ يحمِلون، هل يتبَعُ هذا المحمول -الذي هو الحملُ- كل فردٍ على انفراده؟ الجواب: لا، وإنما يصدق على المجموع. إذاً: صدَق على جميع ما دل عليه اللفظ وهو ثمانية، فلم يخرج عنه واحدٌ البتة، كذلك قيل هنا في الشخصية.

إذاً: (والشخصية في حُكم الكُلّيّة هكذا اشتهر عندهم، لكنها غير معتبرة كالطبيعية.

ولمَا تبين أن المهملة في قوة الجزئية، وكانت الشخصيات مما لا يُعتد بها في العلوم، صارت القضايا المعتبرة هي المحصورات الأربعة).

ما هي المحصورات الأربعة؟ الكُلّيّة بنوعيها: الإيجاب والسلب، والجزئية بنوعيها: الإيجاب والسلب. هذه المعتبرة هي التي عليها العمل إن شاء الله تعالى.

الكُلّيّة بنوعيها الإيجاب والسلب: كُلّيّةٌ سالبة، كُلّيّة موجَبة، جزئيةٌ سالبة، جزئية موجَبة.

أما المهملة فهي في قوة الجزئية، وأما الشخصية فهي في حكم الكُلّيّة. وكلاهما غير معتبرين.

(11/9)

________________________________________

لماذا ذُكِرت الشخصية؟ سيأتي أنه قد تأتي أحياناً طرفاً في بعض أقيسة الشكل الأول.

بقي الطبيعية، الطبيعية هذه لا تُذكر أصلاً ولا تُجعل قسماً، لذلك لم يجعلها؛ لكونها لا تُستعمل في العلوم .. إما الحكمية أو العلوم على جهة العموم لا إشكال فيه، هذا أو ذاك.

قال: (إذاً: صارت القضايا المعتبرة هي المحصورات الأربعة.

قال الجرجاني: إن الشخصيات لا تعتبر في العلوم، وسبق أن الجزئي لا يُبحث عنه في الفن أصلاً) وإنما يبحث عنه استطراداً، مر معنا أن الأصل تقسيم المفرد إلى كُلّي وجزئي، أن المراد هو الكلِّي والجزئي هذا من باب الاستطراد.

(وحينئذٍ فاعتبار الشخصية مبنيٌ على ظاهر الحال بناءً على وقوعها كبرى القياس، وهذا القدر كافٍ في ذكر الشخصية دون الطبيعية في التقسيم) لأنه ذُكر الشخصية إما مخصوصة وإما كُلّيّة، لماذا ذَكر المخصوصة؟ لأنها قد تأتي فرعاً في بعض أنواع الأقيسة، ولذلك قال: (ولهذا اعتُبرت الشخصية في كبرى الشكل الأول نحو: هذا زيدٌ وزيدٌ إنسان) لكن هذا ليس على جهة التأصيل وإنما على جهة التفريع.

(ولهذا) تعليل لأي شيء؟ تعليل لِذِكر الشخصية في هذا الموضع، مقابلة للكُلّيّة.

ثم كونها في حكم الكُلّيّة؛ لهذا الأمر .. هذا تعليل.

(اعتُبرت الشخصية) صارت معتبرة (في كبرى الشكل الأول نحو: هذا زيدٌ وزيدٌ إنسان) انظر هنا زيدٌ هذا الحد الأوسط جاء مكرراً، محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى، هذا يسمى الشكل الأول.

قال: (وزاد بعضهم قسماً رابعاً).

(وزاد بعضهم) يعني: بعض المناطقة.

(قسماً رابعاً) أو خامساً؟

قال: هذا باعتبار عدِّ المحصورة بقسميها قسماً واحداً وإلا فهذا خامس في الأصل. هذا خامس يُعتبر.

(وزاد بعضهم قسماً رابعاً يسمى الطبيعية) لكنها لا تُذكَر في التقسيم، وزادها بعضهم بناءً على الإتمام فقط يعني: استطراداً، أما ما عليه العمل فلا.

(الطبيعية) قال هنا: (وهي قضيةٌ قد أُخذت الطبيعة أي: الحقيقةُ فيها من حيث إنها شيءٌ واحد بالوحدة الذهنية، فيصدُق عليها بهذا الاعتبار ما لا يتعدى إلى أفرادها كالنوعية مثلاً).

يعني: إذا قيل: الموضوع والمحمول، القاعدة هنا؛ لأنه سيأتي عكسُه في التناقض أو في العكس.

القاعدة هنا: أنه إذا قيل: موضوعٌ ومحمول، أنه يُحمل "الحمل الذي هو الإسناد" يُحمل مفهوم المحمول على أفراد الموضوع.

يعني: الموضوع قد يكون له مفهوم، وقد يكون له أفراد.

"الإنسان كاتبٌ" الإنسان موضوع، وكاتب هذا محمول. كيف يكون الحمل في باب المنْطِق -وعام يعني-؟

حينئذٍ نقول: مفهوم كاتب وهو ثبوت الكتابة، يَثبت لأي شيء؟ عندنا إنسان، الإنسان له ثلاث جهات: إنسان لفظ أو اسم، إنسان له مفهوم وهو حيوانٌ ناطق، إنسان له أفراد.

اللفظ يُنطَق، والمفهوم اعتبارٌ ذهني؛ لأنه ما يقبل الاشتراك، بقي الأفراد وهي في الخارج.

ثبوتُ الكتابة لأي شيء: للفظي، أو للمفهوم، أو للأفراد؟ للأفراد.

هنا في الطبيعية الحُكم للمفهوم لا للأفراد، إذا قلت مثلاً: الحيوان جنس. الحيوان هذا موضوع، وجنسٌ مر معنا: ما يقع في جواب ما هو .. إلى آخره.

الحيوان جنس، جنس هذا محمول، بمفهومه الذي هو المعنى الجنسي السابق الذي مر معنا الحد، هو نوعٌ من الكُلِّيّات.

(11/10)

________________________________________

الحيوان جنس. الحيوان له لفظٌ وله مفهوم وهو المدرِك .. إلى آخره.

وله أفراد: فرس .. إلى آخره.

حينئذٍ الذي ثضبت له أنه جنس ما هو: اللفظ أو المفهوم أو الأفراد؟ المفهوم، هذه تسمى طبيعية، فأُخذت الطبيعة التي هي الحقيقة وجُعل المحمول منصبّاً عليها لا على الأفراد، وإلا لو قلتَ: الحيوان جنسٌ. الإنسان جنس، والبغل جنس صحَّ؟ ما يصح هذا.

لو قلت: الإنسان نوعٌ. زيدٌ نوع، بكرٌ نوعٌ؟ ما صح. إذاً: لا يكون على الأفراد وإنما يكون على المفهوم.

هذه تسمى طبيعية يعني: نسبة إلى الطبيعة.

قال: (وهي قضية قد أُخذت الطبيعةُ أي: الحقيقةُ فيها من حيث إنها شيءٌ واحد بالوحدة الذهنية، فيصدُق عليها بهذا الاعتبار ما لا يتعدى إلى أفرادها كالنوعية مثلاً في قولنا: الإنسان نوعٌ) الإنسان نوعٌ صدَق النوع هنا الحمل على مفهوم الإنسان الذي هو حيوان ناطق، أما أفراده فلا؛ لأنه يكون غلطاً، أفراده زيدٌ وعمرو وبكر، هذه أشخاص جزئيات وليست بأنواع.

(الإنسان نوعٌ. ولذلك لا يصح الحُكم عليها بالتعميم والتخصيص، بل هي شخصية.

وأما المهملة فقد أُخذت الحقيقةُ فيها من حيث هي هي بلا زيادة شرطٍ، فيصلُح الحكم الصادق عليها بهذا الاعتبار للتخصيص والتعميم).

المهملة يدخل فيها التعميم بخلاف الطبيعية.

(أي: الكُلّيّة والجزئية، فقد ظهر الفرق بين الطبيعية والمهملة، وإنما سُمّيت بذلك لكون الحكم إنما وقع على طبيعة الكل أي: ماهيتِه لا على ما صدق عليه).

ولذلك قال هنا: (من الفوارق: موضوعُ الطبيعية يتحقق بتحقق فردٍ ما وينتفي بانتفاء جميع الأفراد.

وموضوعُ المهملة يتحقق بتحقق فردٍ ما وينتفي بانتفائه فقط لا بجميع الأفراد).

فرق ثالث وهو أوضح: (موضوع الطبيعية ليس بموجود في الخارج) وإنما هو ذهني.

(والقضية المعقودة منه لا تكون إلا ذهنية) الإنسان نوعٌ .. كلُّه في الذهن، ليس له وجود في الخارج.

(وموضوع المهملة موجودٌ في الخارج، والقضية المعقودة منه تكون خارجية) إذاً: هذا من أبرز الفوارق بين النوعين.

قال هنا: (وزاد بعضُهم قسماً رابعاً يسمى الطبيعية وهي -أي: الطبيعية-: التي) أي: القضية.

(التي) هذا جنس شمل الأقسام الخمسة.

(لم يبيَّن فيها كميةُ الأفراد لعدم صلاحيتها لذلك).

قال: (ولم تصلح لأن تصدق كُلّيّة ولا جزئية) ولذلك مر معنا أنه لا تصلح للتخصيص ولا للتعميم بخلاف المهملة.

يعني: الطبيعية لا تصلح أن تفسَّر بالكُلّيّة ولا بالجزئية بخلاف المهملة فيصح؛ لأنها في قوة الجزئية، هذا المراد بأنها لم تصلح.

فقوله: (ولم تصلح) عطفُ لازمٍ على ملزومٍ وهو معنى القول السابق: لا يصح الحُكم عليها بالتخصيص والتعميم.

إذاً: (لم يبيَّن فيها كميةُ الأفراد.

ولم تصلح لأن تصدق كُلّيّة ولا جزئية كقولنا: الحيوان جنس والإنسان نوعٌ).

قال العطار: المحكومُ عليه حقيقةُ الحيوان) الحيوان جنس.

(المحكوم عليه حقيقة الحيوان لا أفرادُه) أي: الجسم النامي الحساس لا أفراده؛ لأن أفرادَه ليست أجناساً بل أنواع: الإنسان، والفرس .. إلى آخره، أنواع وليست بأجناس فتكون كاذبة.

(11/11)

________________________________________

(وكذلك الإنسان نوعٌ المحكوم عليه هو حقيقة الإنسان -يعني: الحيوان الناطق- لا أفرادُه؛ فإن أفراده أشخاص لا أنواع) يعني: آحاد.

(فالحُكم في الطبيعية على مفهوم الموضوع باعتبار وجودِه في الشعور الذهني مع قطع النظر عن الفرد؛ بحيث لا يتعدى الحُكم إليه قطعاً) هذا معنى الكلام الذي ذكرناه سابقاً.

قال: (وإنما تركها الأكثرون لأنها ليست بمعتبرة في العلوم).

تَرَك ماذا؟ ذِكر الطبيعية، لا يذكرونها، ولذلك كثيراً ما يقال في الحواشي .. النحو والأصول: طبيعية طبيعية .. كثير جداً، في حواشي جمع الجوامع وغيره، الطبيعية هي المراد هذه، أنها ذهنية ليس لها وجود في الخارج، وإنما البحث فيها بحثٌ ذهني، ولذلك لا تُذكَر.

قال: (وإنما تركَها) يعني: الطبيعية (الأكثرون) من المناطقة (لأنها) أي: الطبيعية (ليست بمعتبرة في العلوم).

قال العطار: (أي: الحِكمية كما صرَّح بذلك بعضهم أي: لا تقع مسألة في تلك العلوم).

(وعلَّلوا ذلك: بأن الموجودات المتأصِّلة هي الأفراد، والطبيعية إنما توجد في ضِمنها، والمقصود في العلوم الحِكمية هو البحث عن أحوال الموجودات كما يُشعِر بذلك تعريف الحكمة؛ بأنها علمٌ باحثٌ عن أحوال الموجودات على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية).

إذاً: بحثُهم في الموجودات وموضوع القضية الطبيعية ليست من قبيل الموجودات، وإنما هي أمرٌ ذهني فوجودُه وجودٌ ذهني بحت.

إن وُجد في الخارج فوجودُه في ضمن فردٍ من أفراده أو في ضمن أفراده.

(هذا كلُّه في الحملية) هذا كله -ما سبق التقسيم- في الحملية.

(وأما الشرطية) قلنا القضية إما حملية وإما شرطية.

(وأما الشرطية) التي هي نسبةً إلى الشرط.

(وأما الشرطية) كأنه قيل: أما التقسيم في الحمليات فكذا وكذا.

وأما التقسيم في الشرطيات فكذا وكذا؛ لأن أما التفصيلية تقتضي ذِكرَ المتعدد بعدها، وأما مقابلةٌ لها (وأما الشرطية).

(فالحُكم فيها) يعني: في الشرطية.

(بالاتصال والانفصال) بالاتصال يعني: التلازم، والانفصال يعني: العناد والتنافي، والواو هنا بمعنى أو .. الاتصال أو الانفصال؛ لأنه لا يجتمعان، ومر معنا أن الشرطية إما متصلة وإما منفصلة .. مرَّ الفرق بينهما.

هنا قال: (حُكِم فيها) الشرطية (بالاتصال) يعني: التلازم بين المقدَّم والتالي.

(والانفصال) يعني: العناد والتنافي بين المقدَّم والتالي إذا سمّينا الأول مقدماً والثاني تالياً. والواو هنا بمعنى أو.

قال: (إن كان) أراد أن يقسِّم: مخصوصة أو كلية، التقسيم السابق: كُلّيّة وشخصية أو مخصوصة، تقسيمٌ باعتبار الحمليات.

هل هذا التقسيم يجري في الشرطيات؟ قال: نعم.

يعني: ليس خاصاً بالحمْليات، ولذلك في السلَّم أجراه على الحمليات فقط؛ لأنه لا فائدة فيه هنا، فحينئذٍ أجرى المصنف هنا التقسيم السابق في الشرطيات، وأما الشرطيات فالحُكم فيها بالاتصال والانفصال.

(إن كان على وضعٍ معيَّن نحو: إن جئتني الآن أكرمتُك، وزيدٌ الآن إما كاتبٌ أو غير كاتب فمخصوصة.

أو على جميع الأوضاع الممكنة نحو .. إلى آخره، فمحصُورة ٌ كُلّيّة، أو على بعضها الغير معيَّن).

(11/12)

________________________________________

إذاً: قسَّمها كالتقسيم السابق، فلا فرق بين الحملية والشرطية في هذا التقسيم، وإنما الأمثلة تختلف، والمعاني كذلك تختلف.

قال: (إن كان) هذا شروعٌ في التقسيم (إن كان على وضعٍ معيَّن).

(وضع) قال: أي زمن أو حال.

(معيَّن نحو) قدَّر هنا مثالاً آخر: (إن كان زيدٌ منتصباً للشمس وقت الضحى كان له ظلٌ ممتدٌ إلى المغرب).

(إن كان زيدٌ منتصباً للشمس) يعني: واقف للشمس وقت الضحى، قيَّده هنا بوقتٍ معيَّن وقت الضحى لا الظهر ولا الصباح مثلاً يعني: قبل الضحى.

(كان له ظلٌ ممتدٌ إلى المغرب).

قال: (فقد حُكم بلزوم الظل إلى المغرب لانتصابه لها في وقت معيَّن).

هذا المراد بماذا؟ إن كان على وضعٍ معيّن إما زمن وإما حال.

الزمن تقييدُه بوقت معيّن وقت الضحى مثلاً وقت الظهيرة، أو بحالٍ معيَّن كأن يكون متكئاً أو نائماً أو آكلاً أو شارباً، هذا يسمى حالاً معيَّناً لا مطلقاً.

قال: (إن كان على وضعٍ معيَّن) وضعٍ يعني: زمن أو حال.

معيَّن يعني: خاص.

قال هنا: (نحو: إن جئتني الآن أكرمتُك) هنا فيه اتصال، الإكرام متوقفٌ على المجيء، لكن قيَّده بالآن فهو على وضعٍ معيَّن لا مطلقاً، لو قال له: إن جئتني أكرمتك فأطلق، أو قال في أي وقتٍ حينئذٍ صارت عامة.

(إن جئتني الآن أكرمتُك) فقد حُكِم بلزوم الإكرام لمجيئه مقيَّداً بوقت معين وهو الآن.

(وزيدٌ الآن إما كاتبٌ أو غير كاتب) أراد أن يمثِّل للمتصلة والمنفصلة، الأُولى للمتصلة والثانية للمنفصلة.

(زيدٌ الآن) قيَّده بوقت معيَّن.

(إما كاتبٌ أو غيرُ كاتب) فقد حَكم فيها بالعناد بين المقدَّم والتالي مقيَّداً بالآن.

(فمخصوصةٌ) ما إعراب مخصوصة؟ فهي مخصوصة يعني: خبر مبتدأ محذوف، والفاء هذه واقعة في جواب الشرط.

(إما) لأنها مضمَّنة الشرط.

(إما كاتبٌ أو غيرُ كاتب فمخصوصة) فهي مخصوصة.

(إن كان على وضعٍ معيَّن) فهي مخصوصة. إن كان الشرط هذا.

(فمخصوصة) يعني: فهي مخصوصة أي: وشخصيةٌ أيضاً.

هذا إن كان على بعض الأوضاع.

(أو) هذا للتنويع .. النوع الثاني.

(على جميع الأوضاع الممكنة) (أي: التي يمكن اجتماعُها مع المقدَّم) ولم يذكر الشارح هذا القيد، لا بد من ذكره؛ لأنه ليس كل حالٍ أو وضعٍ يمكن اجتماعه مع المقدَّم، لكن الذي يُفترض اجتماعُه.

قال: (أو على جميع الأوضاع الممكنة) أي: التي يمكن اجتماعُه مع المقدم.

أي: الأحوال الحاصلة للمقدم بسبب اجتماعه مع الأمور الممكنة، فإذا قلنا: كلما كان زيدٌ إنساناً فهو حيوان.

صادقة أو لا؟ صادقة، أطلقَها (كلما كان زيدٌ إنساناً فهو حيوان) فقد حكَمْنا بلزوم كون زيد حيواناً وهو التالي لكونه إنساناً وهو المقدَّم مع كل وضعٍ من أوضاع زيدٌ، ككونِه قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً، على أيمن أو أيسر، أو على ظهره أو بطنه، نائماً أو يقظان، آكلاً أو .. جميع الأحوال لا ينفك عن كونه حيواناً .. في جميع الأحوال: قائماً نائماً، كل زيد يعتبر إنساناً أو حيواناً، لا ينفك عنه، هذا يسمى جميع الأوضاع الممكنة.

غير الممكنة: لو قدَّرت افتراضاً -كما سيذكره الشارح- فحينئذٍ يكون خارجاً عن المذكور، لكن الغالب أنه يكون في الأشياء الممكنة .. الأصل في إطلاق اللفظ على الممكن.

(11/13)

________________________________________

قال هنا: (أو على جميع الأوضاع الممكنة) أي: الممكن اجتماعُها مع المقدَّم.

قال: وإنما قُيدت الأوضاع بإمكان اجتماعها مع المقدم؛ لئلا يلزم من إطلاقها ألا تصدُق قضيةٌ شرطية كُلّيّةٌ أصلاً، لأن بعض الأوضاع مما لا يصلح مع اللزوم والعناد، وهذا إذا فُرِض المقدَّم مع نقيض التالي أو ضدِّه، فإنه حينئذٍ لا يلزمه التالي لضرورة امتناع استلزام الشيء للنقيض كما سيأتي في الشرح.

قال: (نحو: كلما كانت الشمس طالعةً فالنهار موجودٌ. فقد حُكم بلزوم وجود النهار لطلوع الشمس على كل وضعٍ يمكن اجتماعُه مع طلوعها ككونها مغيَّمة أو غير مغيمة، وكونه أول النهار أو فيما بعده من أجزاءه .. إلى آخره.

وكون الفصل ربيعاً أو صيفاً أو خريفاً أو شتاءً، وكون البلد شرقياً أو غربياً أو جنوبياً .. ) إلى آخره دون استثناء.

هذا عموم للأوضاع في الأزمان والأحوال، إما بالزمن وإما في الحال.

(فالنهار موجود) هذا مثالٌ للمتصلة.

قال: (ودائماً إما أن يكون العدد زوجاً أو فرداً، فقد حُكم فيها بمنافاة زوجية العدد لفرديته على كل وضعٍ يمكن اجتماعُه معهما، ككون المعدود ذهباً أو فضة أو غيرَهما، وكون الشمس طالعةً أو غائبة).

قال المحشي هنا: (وقيَّدنا الأحوال بالممكنة لأنه لو اعتُبرت الممتنعة أيضاً لما صدقت قضيةٌ كُلّيّة مثلاً: إذا قيل: كلما كان هذا إنساناً كان حيواناً.

واعتبرنا) في الذهن يعني (حالة لا يمكن أن يجتمع المقدَّم مع التالي.

واعتبرنا وضعاً ممتنعاً وهو كون الإنسان غير حيوان لم يصدق) كلما كان هذا إنساناً كان حيواناً، والمراد بالإمكان هنا الأعم المقابل للامتناع الصادق بالوجوب والجواز.

قال: (فمحصورة كُلّيّة) يعني فهي محصورة كُلّيّة، إن كان على وضعٍ معيّن فمخصوصة، إن كان على جميع الأوضاع الممكنة دون استثناء شيءٍ منها، هذا الأصل فيه -في الممكنة يعني- فحينئذٍ تكون محصورةً كُلّيّة.

(أو على بعضها) يعني: بعض الأوضاع الممكنة، حينئذٍ صارت جزئية.

(أو على بعضها) أي: الأوضاع الممكنة.

(الغير المعيَّن) يعني: البعض.

(نحو: قد يكون) هذا جزئي عندهم في هذا الموضع.

(إذا كان الشيء حيواناً كان إنساناً) كأنه قال في الحمْليات: بعضُ الحيوان إنسان.

(قد يكون إذا كان الشيءُ حيواناً كان إنساناً.

فقد حُكم فيها بملازمة كونه إنساناً لكونه حيواناً، لا على جميع الأوضاع الممكنة بل على بعضها ككونِه حيواناً متفكراً).

يعني: الوضع هذا لا يؤخذ من اللفظ، وإنما يكون بأمرٍ خارج عنه، قد يُذكر فيما سيأتي في الضروريات ونحوها، لكن هذا لا يُفهم هنا من كونه يُذكر القيد في اللفظ، وإنما يكون باعتبار شيءٍ خارجٍ عنه.

قال: (أو على بعضها الغير المعيَّن نحو: قد يكون إذا كان الشيء حيواناً كان إنساناً، وقد يكون إما أن يكون الشيء حيواناً أو أبيض).

يعني: أراد أن يمثّشل للنوعين: المتصلة والمنفصلة (هذه حُكم فيها بالعناد بين كون الشيء حيواناً وكونه أبيض) إما أن يكون الشيء حيواناً أو أبيض، قد يكون غير ذلك، هذا إذا اعتُبر ماذا؟ (لا على جميع الأوضاع الممكنة بل على بعضها وهو كونُه أسود) يعني: لا يجتمعان، لكن هذا اعتبار خارجي يعني، من عنده يفترض أمراً لا يجتمع معه فيستثنيه.

(11/14)

________________________________________

(فمحصورةٌ جزئية) وسورُها قد يكون.

(وإلا فمهملةٌ) أي: وإن لم يبيَّن فيها كميةُ الأوضاع والأحوال كلاً أو بعضاً كإطلاق (إنْ) و (لو) و (إذْ) في المتصلة، و (إمَّا) في المنفصلة أي: تجريدُها عن السور الكلِّي والجزئي فهي مهملة.

إذاً: الشرطيات تنقسم إلى أربعة أقسام.

(وإلا فمهملةٌ نحو: إن كانت الشمس طالعةً فالأرض مضيئة.

وإما أن يكون العدد زوجاً أو فرداً) إلى هنا انتهى التقسيم الرباعي للشرطيات، والمعاني والأمثلة كررها مثالاً للمتصلة ومثالٌ للمنفصلة.

قال: (وسور الموجبة الكُلّيّة في المتصلة) يعني: الذي يدل على أنها مسوَّرة بسور كُلّي وهو موجَب في المتصلة.

(كلما، ومهما، وحيثما، ومتى، ومتى ما).

قال السعد: مهما بحسب اللغة إنما هي لعموم الأفراد، حتى تصلح سور الكُلّيّة الحملية وهم -يعني: المناطقة- قد نقلُوها إلى عموم الأوضاع أي: الأزمان والأحوال وجعلُوها سور الكُلّيّة المتصلة.

يعني: لهم اصطلاحٌ خاص، وإلا في لسان العرب فلها معنًى آخر.

قال: وفي المنفصلة "دائماً" -يعني: لفظُ دائماً- وسور السالبة الكُلّيّة فيهما -في المتصلة والمنفصلة- ليس البتة. يعني: هذا اللفظ المركّب من كلمتين كلا شيء في الحملية.

وسور الموجبة الجزئية فيهما -يعني: المتصلة والمنفصلة- قد يكون.

وسور السالبة الجزئية فيهما -المتصلة والمنفصلة- قد لا يكون، كالسابق لكنه سُلِّط عليه النفي.

قد لا يكون يعني: هذا اللفظ المركّب من الكلمات الثلاثة: قد، لا، يكون. جُعل سوراً واحداً كأنه كلمة واحدة.

إذاً: هذا هو المشهور عندهم في السور الداخل على المتصلة وعلى المنفصلة.

قد لا يكون، ولذلك هذه يهملها بعضهم؛ لأنها كما تقرأ الأمثلة فيها ركاكة وليست كما سبق: أل الاستغراقية، وكل، وقاطبة، وطرّاً .. كل هذه الألفاظ هي من صيغ العموم، ولها أمثلة كثيرة حتى في القرآن والسنة.

لكن كلما كانت الشمس .. إلى آخره، ليس له وجود، وإنما هي أمثلة اصطناعية، ولذلك فيها ركاكة.

ولذلك بعضهم لا يرى أن هذه الشرطيات تنقسم؛ لأنه لا فائدة فيها كبرى.

قال رحمه الله تعالى: (وبالجملة فالأوضاع هنا بمنزلة أفراد الموضوع في الحملية).

الأوضاع التي هي الزمن أو الحال، والتي ذكرناها هنا.

(هنا) يعني: في هذا التقسيم .. تقسيم الشرطية.

قال: (هنا) أي: في مقام تقسيم الشرطية.

(بمنزلة أفراد الموضوع في الحملية) إذاً: متقابلان: الأوضاع هنا سواءً كانت كلَّها جميعَها أو بعضَها يقابِل الأفراد في الحملية.

قال العطار: (فيه ردٌ على قومٍ زعموا أنَّ كُلّيّةَ الشرطية وإهمالَها وشخصيتَها بحسب الأجزاء، فإن كانت الأجزاء كُلّيّة كقولنا: إن كان كلُّ إنسانٍ حيواناً فكلُّ كاتب حيوان. فالشرطية كُلّيّة.

وإن كانت شخصية كقولنا: كلما كان زيدٌ يكتب فهو يحرك يده. فهي شخصية).

يقصد بحسب الأجزاء يعني: الموضوع والمحمول.

إن كان الموضوع شخصياً فهي شخصية، وإن كان كُلّياً فهي كُلّيّة. نقول: لا، ليس هذا الاعتبار، إنما الاعتبار في الإسناد .. في الاتصال والعناد.

قال: (بحسب الأجزاء، فإن كانت الأجزاء كُلّيّة كقولنا: إن كان كل إنسانٍ حيوان –هذا كلي- فكل كاتب حيوان. فالشرطية كُلّيّة.

(11/15)

________________________________________

وإن كانت شخصية كقولنا: كلما كان زيدٌ يكتب –هذه شخصية- فهو يحرك يده. فهي شخصية.

وإن كانت مهملة فمهملة).

قال: (ولو نظروا بعين التحقيق لوجدوا الأمر بخلاف ذلك؛ فإن الحملية لم تكن لأجل كُلّيّة الموضوع والمحمول، بل لأجل كُلّيّة الحُكم) لكنه مستفاد كذلك من قضية الأسوار.

(ونظيرُه هنا الاتصال والعناد، فكما يجب في الحمليات أن تنظر إلى الحُكم لا إلى الأجزاء كذلك في الشرطيات يجب ارتباط الأحوال بالحُكم، وكُلِّيَّة المتصلة والمنفصلة اللزوميتين بعموم اللزوم والعناد، جميعُ الفروض والأزمنة والأحوال).

إذاً: النظر هنا يكون باعتبارٍ إسنادي: الاتصال والانفصال، كما هو الشأن في الحمليات، لكن الحمليات ظاهر تلازُم بين الإسناد الكلِّي وكون الموضوع كُلّياً، والإسناد الجزئي وكون الموضوع جزئياً؛ لأنه باعتبار وضعِه يكون كذلك.

ولذلك كل، وأل الاستغراقية، وما مر معنا في الأسوار الكلِّية أو الجزئية بعض .. ونحوها، هذه كلها باعتبار اللغة العربية تدل على الجميع في الكُلِّيّات وعلى البعض في الجزئيات.

فإذا أردتَ بالإسناد الحكم على الجميع -جميع الأفراد- انتقيتَ موضوعاً كُلّياً وسوراً كُلّياً، فهما متلازمان.

لكن لعدم الظهور هنا في الشرطيات قد يقال بما نصَّ عليه العطار.

قال هنا: (واعلم أنه قد جرَت عادةُ القوم).

العادة: هو الفعل الدائم والأكثر، يقابلها: النادر.

(واعلم أنه قد جرت عادة القوم بأنهم يعبِّرون عن الموضوع بـ: جيم، وعن المحمول بـ: باء).

"كل جيم باء" هكذا في كثير من الكتب، يعبِّرون عن القضية .. ما يقولون: كل إنسان حيوان يقولون: كل جيم باء، من باب الاختصار.

قال: (جرت عادة القوم) المناطقة.

(بأنهم) في كثير من أحوالهم ليس مطَّرِداً (يعبِّرون عن الموضوع بجيم) يعني: بهذا اللفظ المسمى جيماً.

(وعن المحمول بباء) يعني: بهذا اللفظ المسمى باءً. يعني: لا يقال جَهْ أو بَهْ، إنما يقال: جيم، باء .. كل جيم باء.

(قال العصام: قد اشتَهر بين المحصِّنين التلفظ به بسيطاً) يعني: تَهْ بَهْ. هكذا بسيط.

(والحق أن يُتلفظ به هكذا: جيم، باء. والاقتصار على جريان العادة من غير وجهٍ لاختيار جيم وباء من بين حروف الهجاء تنبيهٌ على أنه اتفاقيٌ لا موجِب له).

يعني: لماذا جيم، ولماذا باء؟ الله أعلم، هكذا انتقائي .. اتفاقي، ليس له عِلَّة.

أنت تقول: سمعنا وأطعنا هنا، تقلِّد في مثل هذه الأشياء.

قال: (والتعبير عن الموضوع بجيم ليس معناه التعبير عن مفهوم الموضوع بجيم، بل عن فردٍ مبهمٍ).

التعبير بجيم، بباء. ليس عن موضوعٍ معيَّن ولا محمولٍ معيَّن، وإنما أرادوا به أن هذا كناية عن مبهمٍ .. عن فردٍ.

وحينئذٍ يصدُق على كل موضوع، والمحمول يصدق على كل محمول. ولذلك اختاروا هكذا انتقائية وهو مبهم من حيث التعليل؛ ليصدُق على كل موضوعٍ وكل محمول، هكذا قيل.

(والاقتصار على جرَيان العادة من غير وجهٍ لاختيار جيم وباء من بين حروف الهجاء تنبيهٌ على أنه اتفاقيٌ لا موجِب له.

(11/16)

________________________________________

والتعبير عن الموضوع بجيم ليس معناه التعبير عن مفهوم الموضوع بجيم، بل عن فردٍ مبهمٍ، وكذا التعبير عن المحمول بباء. فيسري الحُكم إلى هذه الصورة في جميع القضايا من غير اختصاصٍ بمادة) فلا يقال: كل جيم باء المراد به: كل إنسان حيوان بذات اللفظ والتركيب، فما عداه لا يصدُق عليه لا، يصدق على كل مؤلَّفٍ من موضوعٍ ومحمول، يصح أن يقال: كل جيم باء .. إلى آخره.

(بناءً على أن الناظر إذا وجدها محتمِلة لكل قضية، ولم توجد قضيةٌ أَولى بالحكم من أخرى، علم أنه لا اختصاص له بواحدة منها، وكأنهم توسَّلوا في هذا بحروف الهجاء لمناسبة أنها موضوعة لأن يُتوسل بها إلى أداء جميع المعاني، فناسب أن يؤدَّى ببعضٍ منها جميع).

يعني: الحروف كلها تؤدي جميع المعاني، لكن أنت ركِّب ما شئت، قالوا: كذلك جيم باء، حينئذٍ يصدُق تحته كلُّ فردٍ من أفراد الموضوع والمحمول، فلا يختص.

كما أن الحروف الهجائية لا تختص بمعنًى من المعاني، هذا المراد. على كلٍ لا يُعلَّل.

قال: (جرت عادة القوم بأنهم يعبِّرون عن الموضوع بجيم، وعن المحمول بباء، فيقولون: كل جيم باء دون: كل إنسان حيوان مثلاً) كل جيم باء هكذا التعبير.

(فكأنهم قالوا: كل موضوعٍ محمول) لأن الباء كنايةٌ عن المحمول، وجيم كناية عن الموضوع.

إذاً: كل جيم باء، إذاً: كل موضوعٍ محمول، هكذا قيل.

(كأنهم قالوا: كل موضوعٍ محمول، وهذه قضية مخصوصة كاذِبة) لأنه ليس كل موضوع محمول.

(لا سيما إذا امتنع حملُ الجزئي الحقيقي) كل موضوعٍ محمول، إذاً: يكون الموضوع محمولاً، ومر معنا أن الموضوع قد يكون جزئياً، والجزئي الحقيقي لا يقع محمولاً. إذاً: هذه كاذبة.

(لا سيما إذا امتنع حملُ الجزئي الحقيقي فينبغي أن يُحمل الكلام على أنه كأنهم قالوا: كل إنسان حيوان) .. إلى آخر الأحكام.

(إلا أنه لما جمعَ جميع الأحكام في هذه العبارة اختلت العبارة) صار فيها شيءٌ من الاختلال قاله العصام.

قال العطار: (قولُه: هذه قضية مخصوصة أي: خاصة من بين القضايا وفردٌ من أفرادها.

وقولُه: كاذبة وجه ذلك أنه ليس كل موضوعٍ محمولاً، بل بعض الموضوعات لم يُحمل على شيء) كالجزئيات، بناءً على أن المشهور أن المحمول لا يكون إلا كُلِّياً.

(وقوله: لا سيما إذا امتنع حمل الجزئي الحقيقي فإنه حينئذٍ يظهر كذِب هذه القضية غاية الظهور؛ إذ كثيراً ما يكون الموضوع جزئياً حقيقياً فلا يصلح لأن يكون محمولاً أصلاً) لما مر.

قال: (فيقولون: كل جيم باء دون: كلِّ إنسانٍ حيوانٍ مثلاً) أي: دون أن يقولوا هذا القول.

يعني: (كل إنسانٍ حيوان) دون أن يقولوا هذا القول (كل إنسان حيوان) يقولون: كل جيم باء، (مثلاً) هذا راجعٌ إلى أي شيء؟ (فمثلاً من جملة المقول لا أنه راجعٌ للقول).

يعني: كل إنسانٍ حيوان، وكل إنسانٍ كاتب.

(مثلاً) يعني: وغيرَه، كأنه قال: إلى آخره؛ لأن كل جيم باء كناية عن أفرادٍ مبهمَة، فيصدُق على هذا كما تقول: أعتق عبداً، يصدُق على زيدٌ أنه عبد، ويصدُق على عمرو أنه عبد، ويصدُق .. إلى آخره، فهو مطلق.

فعمومُه شمولي أو بدلي؟ بدلي، بمعنى أنه يصدُق على الجميع، لكن إن صدَق مرة على شخصٍ خرج البقية. هذا مِثلُه.

(11/17)

________________________________________

(دون كل إنسان حيوان. أي: دون أن يقولوا هذا القول أعني -كل إنسانٍ حيوانٍ مثلاً- فمثلاً من جملة المقول لا أنه راجعٌ للقول.

ويكون المعنى دون قولهم: كل إنسانٍ حيوان أي: أو كل فرسٍ صاهل، فالمقصود بمثلاً التنصيص على العموم) مثلاً كأنه قال: إلى آخره، يعني: أراد أن يعمِّم.

قال: (للاختصار) يعني: هذا تعليلٌ لأي شيء؟ لما سبق، أنهم يُكَنُّون عن الموضوع بجيم وعن المحمول بباء، لماذا يقولون ذلك أو جرت العادة بينهم؟

قال: (للاختصار، ولدفع توهُّم انحصار جزئيات الأحكام في مادةٍ) وهذا قد يقال؛ لأنهم دائماً يمثِّلُون (كل إنسانٍ حيوان) فيظن الظان أنه لا يوجد إلا هذا المثال وهو كذلك، فيظن الظان أنه لا يوجد إلا هذا المثال فكأن الأحكام لا توجد إلا في هذا، فلو خرج عنها حينئذٍ لا يصح أن تجري عليه الأحكام، فدفْعاً لهذا الاحتمال .. التوهُّم، حينئذٍ قال: كل جيم باء؛ ليصدق على كل إنسان حيوان، وعلى غيره.

(للاختصار) هذه عِلَّة.

(ولدفع توهم انحصار جزئيات الأحكام في مادة) هذه عِلَّةٌ أخرى.

ولذلك قال العطار: (تعليلٌ لما ذُكِر أي: أنهم إنما فعلوا ذلك لفائدتين:

فالدَّاعي إلى الطريقة المذكورة مجموع فائدتين لا كلٌ منهما).

قال: (والخطْبُ يسير) الخَطْب أي: الحُكم، بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء المهملة أي: الحُكم (يسير) أي: سهلٌ وهو الجواز والاستحسان الاصطلاحي بحيث لا يُحكَم لا مخالفه بالخطأ.

فإذا رأيت من يقول: كل إنسانٍ حيوان أو كل جيم باء، حينئذٍ لا تُخَطِئ، قل: هذه طريقة وعليها الأكثر، وهذه طريقة. المتقدِّمون لهم شيء والمتأخرون لهم شيءٌ آخر.

(فلهذا خالفهم المصنف).

(فلهذا) لكون الخطْب يسير، والمسألة اصطلاحية واستحسان عقلي.

(خالفهم المصنف) أي: في تمثيله بالمواد دون الحروف تسهيلاً على المبتدئ. هذا في بعضها وإلا سيأتي أنه يعبِّر بالحروف، لكن في الغالب فيما مضى يقول: كل إنسانٍ حيوان، كل إنسانٍ كاتب .. إلى آخره، يأتي بالمادة؛ لأنها أوضح عند المبتدئ، لكن إذا قال: كل باء جيم ويأتي في الموضع الثاني كل باء جيم .. كل باء جيم، فحينئذٍ يقع فيه إشكال عنده في الفهم.

قال: (وأنه كما لا بد للقضية من نسبةٍ -كما مر- لا بد لها من كيفيةٍ في الواقع).

(وأنَّه) هذا عطْفٌ على قوله: (واعْلم أنه قد جرت عادة القوم) يعني: من المأمور بعلمه "واعلم أنه كما لا بد للقضية من نسبةٍ لا بد لها من كيفية" عطفٌ على قوله: (قد جرت .. ) إلى آخره، (فهو من المأمور بعِلمِه) وهذا شروعٌ من المصنِّف في بحث الموجَّهات جمعُ موجَّهَة والموجَّهَة قضيةٌ ذُكِرت فيها الجهة.

قال: (وأنه كما لا بد للقضية من نسبةٍ كما مرَّ) أين مرَّ؟ في قوله: (والقضية ثلاثة أجزاء .. ) إلى آخره، هذا معلومٌ مما سبق، ما الذي أراده هنا؟

(لا بد لها) أي: النسبة (من كيفية في الواقع).

إذاً: النسبة يجب أن تَعلم أنها جزءٌ من أجزاء القضية الثلاثة، وعرَفنا المراد بالنسبة، هنا يجب أن تعلم أن لها كيفيةً في الواقع (لا بد لها من كيفية في الواقع).

قال: (وتسمى) أي: هذه الكيفية (مادةً، فإن ذُكر لها لفظٌ يدل عليها سُمّي جهةً، وسُمّيت القضية موجَّهَة).

(11/18)

________________________________________

إذاً: التوجيه هنا حاصلٌ في كون اللفظ يُذكر مبيِّناً لكيفية النسبة، فإن ذُكر اللفظ حكَمنا على أنها موجَّهة، وأن هذا اللفظ جهة، ولذلك سُمّيت موجَّهة؛ لذكر الجهة فيها.

قال هنا: (وأنه كما لا بد للقضية من نسبة -كما مر- لا بد لها) أي: للنسبة (من كيفيةٍ في الواقع) يعني: في الخارج؛ لأن النسبة كما مر معنا هي أمرٌ ذهني.

قلنا: الإدراك للموضوع، ثم إدراكٌ للمحمول، ثم إدراكٌ للنسبة التي هي ارتباط الموضوع بالمحمول. هذا كلُّه في العقل.

حينئذٍ نقول: في الواقع لا بد له من دليل يدل عليه، فإن وُجد فهي التي تسمى بالموجَّهة؛ لأنها تعتني ببيان كيفية النسبة في الخارج.

(وتسمى مادة) أي: وعنصراً (باعتبار وقوعِها في الواقع.

وأما باعتبار حصولها في العقل فتسمى جهة) وعبارة القطب في شرح الشمسية: نسبة المحمول إلى الموضوع سواءٌ كانت بإيجابٍ أو سلبٍ لا بد لها من كيفية في نفس الأمر -وهو كذلك- كالضرورة واللا ضرورة، والدوام واللا دوام.

وتلك الكيفيات الثابتة في نفس الأمر تسمى مادةَ القضية، واللفظ الدال عليها في القضية الملفوظة أو حُكمَ العقل بأن النسبة مكيِّفة بكيفية في القضية المعقولة يسمى جهة.

يعني: اللفظ دال على. كما يقول: كل إنسان حيوان بالضرورة، بالضرورة اللفظ هذا كما سيأتي في الأنواع الأربعة، بالضرورة هو الذي نسميه جهة؛ لأنه دل على كيفية وقوع النسبة في الخارج، وهي أربعة أجزاء كما سيأتي.

قال هنا: ومتى خالفَت الجهةُ مادةَ القضية كانت كاذبة.

إذاً: (وتُسمى مادةً، فإن ذُكر لها لفظٌ يدل عليها فهي جهة) سُمّيت جهةً (وسُمّيت القضية موجَّهة).

قال هنا: (وهي إما ضرورية).

(وهي) أي: القضية الموجَّهة.

قال هنا: (كيفيات النسبة) هذه قاعدة وضابط لها.

(كيفيات النسبة كلُّها منحصرةٌ في الضرورة ومقابِلها) الإمكان.

(والدوامِ ومقابِله) عدم الدوام، هذه أربعة، ولذلك قيل هنا: أصول المادة أربعة: الضرورة أي: الوجوب .. المراد به الوجوب العقلي.

الثاني: الدوام.

الثالث: الإمكان.

الرابع: الإطلاق. أي: الحصول بالفعل.

هذا المراد بالموجَّهات هنا، اللفظ الذي يدل على الجهة وتسمى القضية بها موجَّهة واحدٌ من هذه الأربعة، وكلها أنواع .. سيأتي.

إما قولك بالضرورة، أو قولك بـ: دائماً مثلاً أو لا دائماً: إثباتاً ونفياً، أو بالإمكان: العام أو الخاص، أو الإطلاق أي: الإطلاق بالفعل. هذا يسمى أصول المادة الأربعة.

إذاً: لا بد للنسبة من صفة في الواقع، تسمى مادة وعنصراً، واللفظ الدال عليها جهة، والقضية المشتملة عليها موجَّهة، وأصول المادة أربعة:

الضرورة أي: الوجوب. هذا الأول.

الثاني: الدوام، الثالث: الإمكان، الرابع: الإطلاق أي: الحصول بالفعل.

ويستعمل المادة مشتقة من هذه الألفاظ: ضرورة .. بالإمكان العام .. بالإمكان الخاص .. دائماً .. مطلقاً .. إلى آخره، إن وَجدتَ هذه الألفاظ فاحكم بأنها موجَّهة كما سيأتي.

إذاً: كيفيات النسبة كلها منحصرةٌ في: الضرورة ومقابِلها، والدوام ومقابِله. هذه أربعة، وهي ترجع إلى ثلاثة أمور: وجوب وجود، وامتناعُه وهي الاستحالة، وإمكانٌ خاص وهو الجواز العقلي. وهذه الثلاثة هي أقسام الحُكم العقلي.

(11/19)

________________________________________

قال هنا: (وهي) أي: القضية الموجَّهة.

(إما ضرورية) قال: (أي: منسوبةٌ للضرورة أي: الوجوب العقلي، نسبةَ الكل لجزئه، وهي القضية التي فيها لفظٌ يدل على ضرورة نسبتها أي: اتصافها بأنها ضرورية أي: واجبةٌ عقلاً لا تَقبل الانتفاء).

مثاله -ما ذكره الشارح-: كل إنسانٍ حيوانٌ بالضرورة، لا ينفك عنه .. وجوبٌ عقلي. لا ينفك عنه أبداً، يعني: كيفيتُه في الخارج لا بالجواز وإنما هو بالضرورة يعني: الوجوب. لا ينفك الإنسان عن كونه حيواناً.

إذاً: النسبة بين الإنسان وبين الحيوان هو وجوب الوجود، ولكن هذا في الخارج كما هو الشأن في النَّفْس.

ما الذي دل على ذلك؟ لفظ "بالضرورة"، حينئذٍ تكون هذه موجَّهة، اللفظ الذي دل على الجهة هو قولُك: بالضرورة.

إذاً: الضرورة المراد بها منسوبةٌ للضرورة أي: الوجوب العقلي، وهي القضية التي فيها لفظٌ يدل على ضرورة نسبتِها أي: اتصافها.

أي: القضية بأنها ضرورية أي: واجبةٌ عقلاً لا تقبل الانتفاء.

وإذا استعملنا هذا في الشرعيات كذلك، عندنا من المعلوم من الدين بالضرورة، ولا شك أنها تدخل في هذه.

(وهي إما ضرورية نحو: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ بالضرورة.

أو دائمةٌ: وهي التي فيها لفظٌ دالٌ على دوام النسبة نحو: كل إنسانٍ حيوانٌ دائماً) وجيء باللفظ: دائماً.

(أو لا ولا) هذا اختصار: [وَالحَنبَليُّ لاَ وَلاَ] لا تصح ولا أجر، (أو لا ولا) يعني: لا ضرورية ولا دائمة؛ لأنه قال: (وهي إما ضرورية، أو دائمة، أو لا ولا) يعني: لا ضرورية ولا دائمة.

(وهذا صادقٌ بقسمين: الممكنة والمطلَقة).

نحن قلنا: الضرورة، الدوام، الإمكان، الإطلاق. أربعة، ذكَر الضرورية وذكر الدائمة، بقي: أو لا ولا. ليست ضرورية ولا دائمة، ماذا بقي؟ الممكنة والمطلقة.

(والممكنة: هي القضية التي فيها لفظٌ دالٌ على أن مادتها الإمكان) إمكان الخاص يعني: أنه جائزٌ.

(والمطلقة: هي القضية التي فيها لفظٌ دالٌ على أن مادتها الحصول بالفعل) كما ذكَرنا.

ثم قال: (وقد تتعدد القضايا بحسب ذلك) تتعدد القضايا يعني: الأربعة هذه، ما هي الأربعة؟ الضرورية، والدائمة، والممكنة، والمطلقة. هذه قد تتعدد.

إذاً: هي الأصول الأربعة، هي القوا؟؟ الأربعة، ثم قد تتعدد بحسب ذلك.

(وتعدد القضايا) أي: الضرورية والدائمة والممكنة والمطلقة (بحسب ذلك) أي: المذكور من الضرورة والدوام وغيرهما.

(أي: بحسب إطلاق الضرورة والدوام والإمكان والإطلاق وتقيِيدها) إما تكون ضرورة مطلقة وإما خاصة، دوامٌ مطلق دوامٌ خاص، إمكانٌ مطلق إمكانٌ خاص .. وهكذا تتعدد.

قال هنا: (وحصَرها المتأخرون في ثلاث عشرة قضية ترجع إلى أربعة أقسام).

حصَرها من؟ المتأخرون.

حصروا ماذا؟ الموجَّهات .. البحثُ في الموجَّهات.

(وحصرها) أي: الموجَّهات (المتأخرون) يعني: المناطقة؛ لأن عنايتهم دائماً بالعدِّ أكثر من المتقدمين، المتقدمون يذكرون القواعد أهم شيء.

ثُم حصر العدد وما ينتُج هذا ما يلتفتون إليه في الغالب، لكن المتأخرون للفراغ عندهم وجدوا أنهم يحصُرون بعض الأشياء ويوصلونها إلى ألف وخمسمائة ..

قال: (وحصَرها المتأخرون في ثلاث عشرة قضية).

(11/20)

________________________________________

قال العطار -كقاعدة عامة-: (المحصور في هذا العدد هو القضايا التي جرت العادة بالبحث عنها، بأن تحقَّقُوا مفهوماتِها وبيَّنُوا النسبة بينها وعن أحكامها، بأن بيّنوا نقائضَها وعكوسَها، فهي المحصورة فيما ذُكر، وإلا فهي تزيد على هذا العدد).

إذاً: الذي عليه العمل هو هذا: الذي بيّنوا عكوسها، ونقائضها، ومفهوماتها، ومعانيها، وكل ما يتعلق بها .. هي الثلاث عشرة هذه.

(فهي المحصورة فيما ذُكر، وإلا فهي تزيد على هذا العدد.

وهذه الثلاث عشرة منها بسائط ومنها مركَّبات) بسيط ومركَّب.

(فالبسائط: ما تكون حقيقتُها إيجاباً فقط، أو سلباً فقط) هذه بسيطة تسمى، إيجاب فقط أو سلباً فقط.

(والمركبات: ما تكون حقيقتها مركبة من الإيجاب والسلب) اجتمع فيها الأمران.

(إما باعتبار اللفظ كقولنا: كل إنسانٍ ضاحكٌ بالفعل لا دائماً).

(كل إنسانٍ) هذا موجب (لا دائماً) هذا سلب، اجتمع فيها السلب والإيجاب.

(أي: لا شيء من الإنسان بضاحكٍ بالفعل، وإما باعتبار دلالة الجهة كقولنا: كل إنسانٍ كاتبٌ بالإمكان الخاص، فإنه في معنى كل إنسانٍ كاتبٌ لا بالضرورة، ولا شيء من الإنسان بكاتبٍ لا بالضرورة، والعبرة بالجزء الأول من المركبة فإن كان إيجاباً فموجَبة أو سَلباً فسالبة).

المراد من هذا الكلام: أن الحصر هنا في ثلاث عشرة قضية لا يدل على أنها لا تزيد، وإنما اعتنوا بهذا العدد لماذا؟ لكونها هي التي تُعتبر منتجة، أو النظر فيها باعتبار ثبوت العُكوس لها والنقائض، وبيان مفهوماتها.

قال: (وحصَرها المتأخرون في ثلاث عشرة قضية تَرجع إلى أربعة أقسام: الأول: الضروريات الخمس) هي سبعة لكن أَسقَط اثنتين.

(الضرورية المطلقة، والمشروطةُ العامة، والمشروطة الخاصة، والوقتية، والمنتشِرة) هذه خمس.

(الثاني) القسم الثاني.

(الدوائم الثلاث): الدائمة المطلقة، والعرفية العامة، والعرفية الخاصة) ثلاث.

(الثالث: المُمْكِنات): الممكنةُ العامة، والممكنة الخاصة.

(الرابع: المطلقات الثلاث): المطلقة العامة، والوجودية اللادائمة، والوجودية اللاضرورية).

وبيان هذه القضايا مع أمثلتها، وتمييزِ بسيطها من مركبها مذكورٌ في المطولات، فلترجعوا إليه.

قال العطار: (واعلم أن مباحث الموجَّهات هو أصلُ مباحث المنْطِق وأدقِّها، والكلام على تفصيلها يستدعي تطويلاً لا يليق بهذه الرسالة).

(ولما فرغ من تقسيم الحملية أَخذَ في تقسيم الشرطية متصلةً كانت أو منفصلة، فقال) (وَالمُتَّصِلَةُ: إِمَّا لُزُومِيَّةٌ).

(وهي) أي: اللزومية.

(التي) أي: القضية.

(التي يُحكم فيها بصِدق قضية) هذا جنسٌ شامل اللزومية والاتفاقية.

(بصدق قضية على تقدير صِدق أخرى لعلاقة) أخرج الاتفاقية، الاتفاقية لا لعَلاقة، هذا الفرق بينهما.

إذاً: (إِمَّا لُزُومِيَّةٌ، وَإِمَّا اتِّفَاقِيَّةٌ).

قولُه: (يُحكم فيها بصدق قضية على تقدير صدق أخرى) شمل النوعين: الاتفاقية واللزومية.

(لعَلاقةٍ بينهما) هذا أَخرج الاتفاقية؛ لأنه ليس بينهما علاقة.

قال هنا: (وهي التي يُحكم فيها بصدق قضية) الصدق هذا لا شك أنه من دلائل الإيجاب.

حينئذٍ عرَّف الموجَبة ولم يذكر السالبة، ولذلك قال العطار: (هذا التعريف خاصٌ بالموجبة لا السالبة).

(11/21)

________________________________________

(فلو أُريد ما يعمُّها والسالبة، زِيدٌ قوله: أو بسلب اللزوم بينهما)؛ لأنه قال: (بصدق قضية) والصدق إنما هو الثبوت.

(فلو أُريد ما يعمها والسالبة زِيد قوله: أو بسلب اللزوم بينهما، وكذلك بقية التعريفات، إنما تعرِض للموجبات فيها دون السوالب، فيُطلب بشمول السوالب مثلما ذكرناه.

ولعله اقتصر عليها لأن عِلَّة التسمية فيها ظاهرة بخلاف السوالب فإنها محمولةٌ عليها) كما قلنا في الحملية، موجبة هذا واضح أنَّ فيها حمل، وأما السالبة ليس فيها حمل إنما فيها انتفاء .. رَفْع .. سَلْب وإزالة. حينئذٍ كيف يكون حملاً؟ من باب توسِعة الاصطلاح.

فيصدُق على البعض التعليل ولا يصدق على البعض الآخر، ولا إشكال؛ لأن المراد أنه يسمَّى هذا النوع بالحملية، بقطع النظر عما يدل عليه المفهوم.

قال هنا: (واعلم أنَّ صدق الشرطية وكذبَها ليس بحسب صدق الأخير) الذي هو التالي.

يعني: الصدق والكذِب هنا ليس باعتبار التالي .. الصدق والكذب في الشرطية ليس باعتبار التالي.

(فإنها قد تصدق وطرفاها كاذبان) يعني: المقدَّم لوحده كاذب، والتالي لوحده كاذب.

(بل مناط الصدق والكذب فيها هو الحكم بالاتصال والانفصال، فإن طابق الواقع فهو صادق وإلا فهو كاذب).

الاتصال والانفصال يعني: بالنظر إلى المجموع.

قال هنا: (وإلا فهو كاذب سواءٌ صدق طرفاها أو لم يصدُقا، لكنها لا تصدق عن مقدَّمٍ صادق وتالٍ كاذب؛ لامتناع استلزام الصادق الكاذب.

لأن معنى اللزوم هنا: هو وجوب صِدق التالي إن صَدق المقدَّم، أو وجوب كذِب المقدَّم إن كذَب التالي، فلو كان الصادق مستلزِماً للكاذبِ لزِم كذِبُ الملزوم الصادقِ لِكذِب لازِمه.

وصِدق اللازم الكاذب بصدْق ملزومه فيجتمع النقيضان وهو محال).

إذاً: العبرة ليست بالنظر إلى الأخير فحسب.

قال: (وهي التي يُحكم فيها بصدق قضية على تقدير صِدْق أُخرى).

(على تقدير) زاد لفظ التقدير للإشارة إلى أنه لا يُشترط تحقُّقُ المقدَّم بالفعل؛ لأنه قد يكون محالاً ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)) [الأنبياء:22] هذه لزومية ليست اتفاقية، لو فكَكتها ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ)) هذا لا يصح، إذاً: هذا محال.

إذاً: (على تقدير صِدق أخرى) حينئذٍ نقول: لا يلزم أن يكون صادقاً، بل قد يكون محالاً.

(زاد لفظ التقدير للإشارة إلى أنه لا يُشترط تحقُّق المقدَّم بالفعل، بل يكفي فرضُ تحقُّقِه كما في قولنا: إن كان زيدٌ حماراً فهو ناهق) وليس بحمار فليس بناهق.

(إن كان زيدٌ حماراً فهو ناهق) زيدٌ حمار هذه صادقة أو كاذبة؟ كاذبة، لكن الجملة كلُّها صادقة أم لا؟ صادقة (إن كان زيدٌ حماراً فهو ناهق) فليس بناهق لكونه ليس بحمار، لكنه ليس بناهق فليس بحمار.

(فإن هذه قضية صادقة، فإن المقصود من الشرطية إثبات اللزوم في الموجبة، أو رفعُه في السالبة.

وصدقُها بمطابقة ذلك للواقع وكذِبُها بعدمها، ولا عبرة فيها بصدق الطرفين أو كذبهما، هذا هو مذهب المناطقة) وهو مذهب أهل اللغة على الصحيح، أيَّده الشيخ الأمين رحمه الله تعالى في المقدمة.

(11/22)

________________________________________

(وأما أهل العربية فذكَرَ السعد أنهم على خلاف ذلك، وأبدى فرْقاً بين المذهبين فقال: إذا قلنا إن كانت الشمس طالعةً فالنهار موجودٌ) يعني: المسألة تتعلق هنا بالجواب والجزاء.

(فعند أهل العربية النهار محكومٌ عليه، وموجودٌ محكومٌ به، والشرط قيدٌ للجزاء.

ومفهوم القضية حينئذٍ: أن الوجود يثبت للنهار على تقدير طلوع الشمس.

فالمعتبر في الصدق والكذب إنما هو مفهوم الجزاء، وأما عند المناطقة فمعناه الحُكم باللزوم بين وجود النهار وطلوع الشمس) يعني: عند أهل العربية لا تلازُم، وعند المناطقة تلازم، هذا التفريق الذي أراده، والصواب أنه ثَم تلازم كذلك عند أهل العربية.

وأطال الشيخ الأمين في الأضواء وكذلك في المقدمة في بيان ذلك، وهنا وقع الغلط من الرازي وغيره في بعض تفسير الآيات.

قال: (وأما عند المناطقة فمعناه الحكم باللزوم بين وجود النهار وطلوع الشمس) بين قضيتين، ليست القضية فقط: النهار موجود ونقيِّده بالجزاء، ثم لا علاقة في التلازم بينهما لا، ثَم تلازمٌ بينهما والنظر يكون بالنظر إلى المقدَّم والتالي.

(وكلٌ من الطرفين قد انخلع عن الخبَرية واحتمال الصدق والكذب.

وذهب بعضهم إلى أن ما ذهب إليه المناطقة لا يخالف أهل العربية، وهذا هو الصحيح).

قال: (وهي التي يُحكم فيها بصدق قضية على تقدير صدق أخرى لعلاقةٍ بينهما) يعني: بين قضيتين.

قال العطار: (لا يُشترط في العَلاقة أن تكون مذكورة) يعني: لا يُشترط النص عليها مثل العلاقة هناك في المجاز أن تكون لفظية، وقد تكون معنوية، لكن الأكثر والأصل أنها تكون لفظية.

(بل يكفي ملاحظتُها، بل لا يصح أن تُذكَر، بل لا يتَأتى ذلك، بل هي ملاحظة دائماً).

قال: (لعَلاقةٍ بينهما) أي: بين القضيتين.

(تُوجِب) تلك العلاقة (ذلك) ما هو ذلك؟ أي: الحُكم المذكور.

(وهي) أي: العلاقة.

(ما بسببه) أي: معنًى أو شيءٌ، هذا جنس شامل للعلاقة وغيرها.

(بسببه) أي: بسبب هذا الشيء.

(يستلزم المقدَّمُ التالي) يكون بينهما ارتباط، هذا الارتباط ذكَر هنا قال: (كالعلِّيِّة والتضايُف) يعني: إما أن يكون الأول عِلَّة للثاني، أو بالعكس، أو كلٌ منهما معلولاً لخارجٍ.

والتضايف المراد به النسبة كالابن للأب، والأب للابن.

إذاًك لا يُدرك أحدُهما إلا بإدراك الآخر.

قال: (وهي ما بسببه يستلزم المقدم التالي كالعلِّيِّة والتضايف.

أما العلِّيِّة فبِأن يكون المقدَّم عِلَّة للتالي) يعني: له أثرٌ فيه، إما أن يُجعل العِلَّة هنا بالمعنى الأعم الشامل للسبب والعِلَّة التي هي المعنى المؤثر.

يعني: لك أن تجعل العِلَّة هنا بالمعنى الأعم.

وَمَعَ عِلَّةٍ تَرَادَفَ السَّبَبْ ... وَالفَرْقُ بَعْضُهُمْ إِلَيْهِ قَدْ ذَهَبْ

 

(وَمَعَ عِلَّةٍ تَرَادَفَ السَّبَبْ) يعني: قد يُفسَّر العِلَّة بالسبب والسبب بالعِلَّة، والسبب يُعمَّم: ما يؤثر وما لا يؤثر يعني: ما له تأثير وما ليس له تأثير.

والعِلَّة تكون أخص (وَالفَرْقُ بَعْضُهُمْ إِلَيْهِ قَدْ ذَهَبْ) قال: السبب ما لا تأثير له كالشمس بالنسبة للظهور، وما له تأثير كالإسكار حيث يدور معه الحكمُ. هذا على التفريق بينهم.

على كلٍ المراد هنا أن العِلَّة تُحمل على ما يُعم السبب وغيره، المؤثر وغيره.

(11/23)

________________________________________

(فبِأَن يكون المقدَّم عِلَّة للتالي) (كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَت الشَّمْسُ طَالِعًة فالنَّهَارُ مَوْجُودٌ).

الشمس طالعة، النهار موجود. لا شك أن الأُولى عِلَّة للثاني .. سببٌ في وجوده.

(أو معلولاً له، بأن يكون المقدَّم معلُولاً للتالي) يعني: التالي عِلَّة، والسابق معلول.

(كقولنا: إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة) إن كان النهار موجوداً هذا معلول، والشمس طالعةٌ هذا عِلَّة.

(أو يكونا) وهما المقدَّم والتالي.

(معلولي عِلَّةٍ واحدة كقولنا: إن كان النهار موجوداً) هذا معلول (فالعالَمُ مضيء) وهذا معلول، والعِلَّة ليست مذكورة: طلوع الشمس. إذاً: كلٌ من المقدَّم والتالي معلولين.

إذاً: هذه ثلاث صور:

أن يكون المقدَّم عِلَّة للتالي.

الثانية: أن يكون التالي عِلَّة للمقدم.

الثالثة: أن يكون كلٌ منهما معلول والعِلَّة تكون خارجة.

(أو يكونا معلولي عِلَّةٍ كقولنا: إن كان النهار موجوداً) هذا معلول (فالعالم مضيء) هذا معلول.

(إذ وجود النهار وإضاءة العالم معلولان لطلوع الشمس).

قال: (وأما التضايف).

(حقيقة التضايف: هو أن يكون الأمران بحيث يكون تعقُّل كلٍ منهما بالقياس إلى تعقُّل الآخر) يعني: لا يُتعقَّل إلا بتعقل الآخر كالأب بتعقل الابن، والابن بتعقل الأب. يسمى تضايف .. نسبة، كلٌ منهما مضافٌ إلى الآخر.

لا يُدرك الأب وحدَه، ولا الابن وحدَه، التناسب هنا أو المناسبة يسمى تضايف، وبعضهم يسميه الإضافة.

(حقيقةُ التضايف هو: أن يكون الأمران بحيث يكون تعقُّل كلٍ منهما بالقياس إلى تعقُّل الآخر، وهذا يكون في اللزوم بين الطرفين) كالمثال المذكور في الشرح.

(وأما في مجرد اللزوم فيكفي مجرد الإضافة كالعمَى والبصر، فإن اللزوم من طرفٍ واحد) وهو كذلك لكن ليس مراداً هنا.

قال هنا: (وأما التضايف فبأن يكون كلٌ منهما مضافاً للآخر).

(يعني: لا يُعقَل ويُفهَم معناه إلا بإضافته ونسبتِه إلى شيءٍ آخر كقولنا: إن كان زيدٌ أباً لعمروٍ كان عمروٌ ابنَه) وهذا لا بد منه، هذا يسمى تضايف، لكن الشأن هنا في المثال.

إن كان زيدٌ أبا عمروٍ كان عمروٌ ابنَه. وهو كذلك.

إن كنتَ أنت ابناً لأبيك فأبوك أبٌ لك، وهو كذلك، هذا من إيضاح الموضَحات.

إذاً: هذا ما يسمى باللزومية.

(وَالمُتَّصِلَةُ: إِمَّا لُزُومِيَّةٌ).

(وهي التي حُكم فيها بِصدق تاليها على فرض صِدق مقدَّمها إن كانت موجبة، أو بلا صدق تاليها على فرض صدق مقدمها إن كانت سالبة؛ لعلاقةٍ بينهما توجب ذلك كالعلِّيِّة والتضايف).

العلِّيِّة -بكسر العين-: كون المقدَّم عِلَّة للتالي أو بالعكس، أو كونهما معلولي عِلَّة واحدة، أو كونهما أمرين إضافيين متوقف كلٌ منهما على الآخر. كالمثال الذي ذكره المصنف.

قال هنا: (وَإِمَّا اتِّفَاقِيَّةٌ) وهي كالسابقة لكن لا لعَلاقة.

قال: (وهي) أي: القضية.

(التي يكون الحكم فيها بما ذُكر) أي: صِدقِ قضية على تقدير صدق أخرى، كالسابق يعني.

(لا لعلاقةٍ توجبُه، بل لمجرد الصُّحبة والازدواج) الاقتران .. اتفاقية.

ليس كل منهما مستلزم الآخر، مثل التي مرت معنا: إن كان كذا فهو كذا.

(11/24)

________________________________________

قال: (كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ نَاطِقًا فَالْحِمَارُ نَاهِقٌ) ما العلاقة بينهما؟ لا علاقة.

هذا مُنفكّ وهذا منفك، الإنسان ناطق والحمار ناهق، إن كان زيدٌ نائماً فالحمار مستيقظ. لا علاقة بينهما .. ليس بينهما علِّيِّة ولا تضايف، ليس أحدُهما عِلَّةً للآخر ولا معلولاً ولا معلولي لعلة خارجة، ولا تضايف.

هذا يسمى اتفاقية .. ازدواج فقط، ازدواج واتفاق واصطحاب في الشرط؛ لأن الشرط لا بد له من قضيتين.

(إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ نَاطِقًا فَالْحِمَارُ نَاهِقٌ).

قال: (لا لعلاقةٍ) هذا فصلٌ مخرجٌ اللزومية أي: لا لملاحظة علاقةٍ.

قال: (إذْ لا علاقة بين ناطقية الإنسان وناهقية الحمار؛ حتى تستلزم إحداهما الأخرى، بل توافقا على الصدق هنا.

أي: فليست إحداهُما عِلَّةً للأخرى، ولا معلولي عِلَّة واحدة، وليست إحداهما نسبة متوقفة على الأخرى).

قال: (وَالمُنْفَصِلَةُ) أراد أن يقسِّم المنفصلة إلى ثلاثة أقسام.

قبل ذلك قال هنا في العلاقة: (واعلم أن ما ذكرَه هنا من العلاقات هو علاقات المتصلة اللزومية، أما علاقات المنفصلة العنادية فهو أن يكون المقدَّم عِلَّةً لمقابل التالي) ليس للتالي، إنما لمقابِله.

(نحو: دائماً إما أن تكون الشمس طالعةً أو لا يكون النهار موجوداً).

لا يكون النهار موجوداً هذا التالي، مقابله ماذا؟ النهار موجود. إذاً: المقدَّم عِلَّةٌ له "للمقابل لا للمذكور".

(أو يكون المقدَّم معلولاً لمقابل التالي نحو: دائماً إما أن لا يكون النهار موجوداً أو تكون الشمس طالعةً) لا تكون الشمس طالعة، لأنه مقابل التالي.

(أو يكون المقدَّم معلولاً لعلة مقابل التالي نحو: دائماً إما أن يكون النهار موجوداً أو لم يكن العالمُ مضيئاً) أو يكن العالم يعني: عِلَّة لمقابل التالي، ليس للتالي إنما لمقابله.

قال: (وَإِمَّا اتِّفَاقِيَّةٌ).

(وهي التي يكون الحُكم فيها بما ذُكر، لا لعلاقةٍ توجبُه، بل لمجرد الصحبة والازدواج).

قال هنا السعد: التحقيق أن المعيّةَ في الوجود أمرٌ ممكن.

وهو كذلك .. كلٌ منهما موجود، إن كان زيدٌ ناطقاً فالحمار ناهق، حينئذٍ المعيّة في الوجود أمرٌ ممكن، كلٌ منهما موجود.

(ولا بد له من عِلَّة تقتضيه) هذا في السابق.

(إلا أنهم لما لاحظوا المقدَّم، فإن اطَّلعوا على أمرٍ يقتضي صِدق التالي على تقدير صدقِه واعتبروا ذلك، سمَّوا المتصلة لزومية وإلا فاتفاقية).

هو يريد أن يشير إلى أن الاتفاقية .. ، وهذا فيه خلل، ورد عليهم الشيخ الأمين كثير في الأضواء وفي المقدمة.

الاتفاقية الصحيح: أنه لا علاقة بين المقدّم والتالي، هو يريد أنه قد يكون ثَم علاقة، فإذا حُدِّدت العلاقة في اللزومية بالعلِّيِّة والتضايف إذاً: إن ظهرت علاقة بينهما فهي اللزومية، وإلا فاتفاقية وقد تكون ثَم علاقة لكنها ليست بظاهرة، لكن هذا ليس على إطلاقه.

قال: (والاتفاقية على هذا لا بد من صِدق طرفيها، وتسمى اتفاقيةً خاصة. كقولنا: كلما كان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق.

وقد تقال على ما يُحكم فيها بصدق التالي على تقدير صِدق المقدَّم لا لعلاقة، وتسمى اتفاقية عامة؛ لأنها أعم من الأُولى) وهي التي ذكرها المصنف هنا.

(11/25)

________________________________________

(ويكفي فيها صِدقُ التالي فقط. كقولنا: إن كان الخلاء موجوداً فالإنسان ناطق، لكن يجب أن يصدُق التالي على تقدير صدق المقدَّم حتى لو كان التالي الصادق منافياً للمقدَّم كقولنا: إن لم يكن الإنسان ناطقاً فالإنسان ناطق لم تصدق اتفاقية).

على كلٍ: الاتفاقية الصحيح: أنه لا علاقة بين المقدّم والتالي، ليس بينهما علاقة إلا الاتفاق والازدواج فقط، وإذا كان ثَم علاقة بينهما حينئذٍ دَخلَت في اللزومية، إن كان على العلِّيِّة والتضايف.

قال: (وَالمُنْفَصِلَةُ: إِمَّا حَقِيقَّةٌ).

(وهي التي يُحكم فيها بالتنافي بين طرفيها صِدقاً وكذِباً)

الحقيقية قالوا: ضابطها أن تتركب من الشيء ونقيضه، أو المساوي لنقيضه.

يعني: هنا عندنا المنفصلة: إما وإما، العدد إما زوجٌ وإما فردٌ.

الحقيقية وهي إذا أُطلقت المنفصلة انصرفت إليها. يعني: لا يجتمعان ولا يرتفعان.

كيف يتركَّب، كيف نؤلفُها؟ ما هي مادتُها؟

المادة تتركب من الشيء ونقيضه .. العدد إما زوجٌ أو؟

النقيض أدخل حرف السلب على المفرد نفسه، زيد نقيضُه لا زيد، إنسان لا إنسان. أدخل حرف السلب على نفس اللفظ، هذا النقيض، أما إذا قلت: سماء أرض. ضدان هذان.

حينئذٍ العدد إما زوجٌ أو لا زوج، إذاً: تركبت هنا من الشيء الذي هو الزوج، ونقيضِه: لا زوج.

(أو المساوي لنقيضه) العدد إما زوجٌ أو فرد، فرد هذا ليس بنقيض وإنما هو مساوي.

ما معنى فرد؟ يعني: ليس بزوج، ما معنى ليس بزوج يعني: فرد. فهو مساوٍ له، لا يزيد أحدُهما عن الآخر.

إذاً: الحقيقية تتركب من الشيء ونقيضِه كالعدد إما زوجٌ أو غير زوج.

أو الشيء والمساوي لنقيضه: العدد إما زوج أو فردٌ. تُسمى الحقيقية، لا يجتمعان ولا يرتفعان.

قال: (وهي التي يُحكم فيها) يعني: في القضية.

(بالتنافي بين طرفيها) يعني: المقدّم والتالي إن سميناهما مقدَّماً وتاليا.

(بالتنافي بين طرفيها صِدقاً وكذِباً) صدقاً يعني: في الثبوت، وكذِباً يعني: في الانتفاء.

هذا فصلٌ مُخرجٌ مانعة الجمع فقط، ومانعة الخلو فقط.

(كَقَوْلِنَا: الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ) هذا من الشيء والمساوي لنقيضه.

قال العطار: (هو بمعنى قولنا: هذا العدد زوجٌ وهذا العدد فردٌ. مما لا يصدقان معاً ولا يكذِبان معاً.

ويندفع بهذا ما يقال: إن الشرطية تنحلُّ إلى قضيتين، وهذه المنفصلات تنحل إلى مفردين وهما الزوج والفرد.

وحاصل الجواب: أن أطراف المنفصِلات قضايا معنى).

(أطراف المنفصلات) زوج، فردٌ. هذه قضايا في المعنى يعني: هذا زوجٌ وهذا فردٌ .. هذا العدد زوجٌ وهذا العدد فردٌ.

قال: (كَقَوْلِنَا: الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ.

وَهِيَ إِمَّا مَانِعَةُ الجَمْعِ وَالْخَلَوِّ مَعًا كَمَا ذَكَرْنَا) في المثال.

(لأن طرفي القضية) العدد زوج أو فرد (فيه لا يجتمعان) فيكون زوجاً فرداً (ولا يرتفعان) فلا يكون زوجاً ولا فرداً.

هذا يسمى مانعة الجمع والخلو.

مانعة الجمع فلا يجتمعان، فلا يكون العدد الواحد زوجاً فرداً في آن واحد.

والخلو يعني: الارتفاع، خلا الشيء يعني: ارتفع معاً، فلا يكون زوجاً ولا فرداً، هذه هي الأعلى درجة، تسمى مانعة الجمع والخلو.

(11/26)

________________________________________

(لأن طرفي القضية فيه لا يجتمعان) أي: لا يثبُتان معاً.

(ولا يرتفعان) أي: لا ينتفيان معاً؛ لأنهما نقيضان أو مساويان لهما.

لأنك إذا أردتَ أن تجمع بينهما حينئذٍ تجمع بين نقيضين، وإذا حَكَمت بارتفاعهما حكَمت بارتفاع النقيضين، وضابط النقيضين: أنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان، هذا هو التعليل.

يعني نقول: هي تتركب من الشيء ونقيضِه. إذاً: لا يجتمعان ولا يرتفعان، أو من الشيء والمساوي لنقيضه. كذلك لا يجتمعان ولا يرتفعان.

هذا الفائدة من التنصيص على المادة تعرِف العِلَّة.

قال: (وَإِمَّا مَانِعَةُ الجَمْعِ فَقَطْ) يعني: مجوِّزة الخلو، يعني: يمتنعان هنا في الجمع .. مجوّزة الخلو.

(وَإِمَّا مَانِعَةُ الجَمْعِ فَقَطْ) (وهي التي تتركب من الشيء والأخص من نقيضه، هذا الشيء إما شجر أو حجر) قالوا: شجر أخصُّ من لا حجر (تتركب من الشيء والأخص من نقيضه هذا الشيء إما شجر أو حجر).

شجر هذا الشيء، حجَر نقيضُه: لا حجر. أيهما أخص الشجر أم لا حجر؟ الشجر أخص.

يجتمعان؟ نحن نقول: (مَانِعَةُ الجَمْعِ) لا يجتمعان، لا يكون الشيء شجراً حجراً.

يرتفعان؟ نعم، يكون ماء لا شجر ولا حجر، يكون إنساناً لا شجر ولا حجر.

قال هنا: (وَإِمَّا مَانِعَةُ الجَمْعِ فَقَطْ) (وهي التي تتركب من الشيء والأخص من نقيضه وهذا الشيء إما شجر أو حجَر).

(وَإِمَّا مَانِعَةُ الجَمْعِ فَقَطْ).

(أي: دون الخلو وهي التي يُحكم فيها بالتنافي بين طرفيها صِدقاً فقط) يعني: ثبوتاً واجتماعاً، وأما في التنافي والارتفاع فلا.

(كقولنا: هذا الشيء إما شجرٌ أو حجرٌ؛ إذْ يستحيل كون الشيء شجراً وحجراً في وقت واحد، فلا يجتمع الطرفان على الصدق على الثبوت، ويجوز ارتفاعُهما معاً. كأن يكون الشيء حيواناً) زيداً من الناس، هذا لا شجر ولا حجر.

(ارتفاعُهما أي: انتفائُهما معاً؛ إذ لا يلزم من ارتفاع الأخص ارتفاع الأعم، فلا يلزم من ارتفاعهما ارتفاعُ النقيضين) وهو كذلك.

(وَإِمَّا مَانِعَةُ الْخُلُوَّ فَقَطْ) تتركَّب من الشيء والأعم من نقيضه، عكس مانعة الجمع.

قال هنا: (وَإِمَّا مَانِعَةُ الْخُلُوَّ فَقَطْ).

(أي: دون الجمع، وهي التي يُحكم فيها بالتنافي بين طرفيها كذِباً فقط) (مَانِعَةُ الْخُلُوَّ فَقَطْ).

يعني: لا يجتمعان لكن قد يرتفعان، أنت تأخذ من التركيب نفسه (مَانِعَةُ الجَمْعِ وَالْخَلَوِّ) إذاً: لا يرتفعان ولا يجتمعان.

(مَانِعَةُ الجَمْعِ فَقَطْ) لا يجتمعان لكن يرتفعان.

(مَانِعَةُ الْخُلُوَّ فَقَطْ) يعني: لا يرتفعان لكن قد يجتمعان.

فالتعبير واضح بيِّن، يحتاج إلى إدراك فقط.

(وَإِمَّا مَانِعَةُ الْخُلُوَّ فَقَطْ).

(أي: دون الجمع وهي التي يُحكم بالتنافي بين طرفيها كذِباً فقط) (مَانِعَةُ الْخُلُوَّ فَقَطْ).

(كَقَوْلِنَا: زَيْدٌ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْبَحْر، وَإِمَّا أَنْ لاَ يَغْرَقَ).

يقول الشارح: (إذ يستحيل كونُه في غير البحر) ما هو غير البحر؟ البر كمثال، وإلا؟؟؟ البحر هو هذا؛ لأن البحر ما يمكن أن يغرق فيه، يعني: البئر، الزيت الكثير لو غرق فيه يسمى بحراً، المثال المراد به هذا: أن يغرق.

(11/27)

________________________________________

(إذ يستحيل كونه في غير البحر -وهو البر- ويغرق) يستحيل كونه في البر ويغرَق، كيف يغرق هذا؟ يعني: أن لا يكون في مادة يمكن أن يَغرَق فيها ويَغرق؟ لا يمكن.

(فلا يرتفعان، ويجوز اجتماعُهما على الصدق، بأن يكون في البحر ولا يَغرق) ممكن؟ كيف ممكن؟ يكون في سفينة.

إذاً: مانعة خلوٍ يمكن أن يجتمعان، (زَيْدٌ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْبَحْر، وَإِمَّا أَنْ لاَ يَغْرَقَ) إما أن يكون في البحر وألا يغرق، نعم يمكن أن يكون في البحر ولا يغرق .. يكون في سفينة، لكن: لا يكون في البحر ولا يغرق الارتفاع لهما هذا ممتنع.

قال: (إذ يستحيل كونُه في غير البحر وهو البر ويَغرق) فلا يرتفعان (ويجوز اجتماعهما على الصدق، بأن يكون في البحر ولا يَغرق).

قال هنا: قد يكون في البحر، وإما أن لا يغرق. نقيض يكون في البحر: لا يكون في البحر، بأن يكون في البر، وهذا أخص من لا يغرق؛ لصدقه بكونه في البحر في سفينة أيضاً فيجتمعان، ونقيضُ لا يغرق: يغرق وهذا أخص من: يكون في البحر لصدقه بكونه في سفينة أيضاً.

(قوله: إذ يستحيل كونه في غير البحر. تعليلٌ لكونها مانعة خلوٍ، وكونه في غير البحر نقيض يكون في البحر، ويغرق نقيض لا يغرق. وهذا تصويرٌ للخلو عن الطرفين الذي منعَتَه المنفصلة).

قال هنا: (وقولُه: بأن يكون في البحر ولا يغرق تصويرٌ لاجتماعهما في الصدق).

قال: (وسُمِّيت الأولى حقيقية) ما هي الأولى؟ مانعة الجمعِ والخلو.

(وسُمّيت الأولى حقيقية؛ لأن التنافيَ بين طرفيها أتمُّ منه في الأخيرين) لأنه يتعلَّق بالجمع والخلو معاً، تعلَّق بالطرفين.

يعني: عندنا جمع وعندنا خلو، اجتماع وارتفاع. ما تعلَّق بهما معاً لا شك أنه أخص، ما تعلَّق بأحد الطرفين دون الآخر سواءٌ كان خلواً أو جمعاً لا شك أنه مغايرٌ للسابق.

(وسُمّيت الأُولى حقيقية).

(الأُولى) أي: مانعة الجمع والخلو معاً (المركبة من نقيضين أو مساويين لهما حقيقية؛ لأن التنافيَ بين طرفيها –المقدم والتالي- أتمُّ منه في الأخيرتين) أي: مانعة الجمع فقط، ومانعة الخلو فقط.

(والثانية: مانعةَ جمعٍ) يعني سُمِّيت مانعةَ جمعٍ.

(لاشتمالها على منعِ الجمع بين طرفيها في الصدق) وهو واضح.

(والثالثة: مانعة خلوٍ لاشتمالها على منع الخلو بين طرفيها في الكذِب؛ إذ الواقع لا يخلو عن أحدهما) إما هذا وإما ذاك.

قال: (ومرادُهم بالبحر: ما يمكن الغرق فيه عادة من ماءٍ، بل من سائر المائعات لا البحر نفسه. فلا يتوهم اجتماع طرفين في الكذب بأن يكون زيدٌ في بئرٍ أو حوضٍ ويغرق) لأنه لا يَرِد هذا نقضاً.

قال رحمه الله تعالى: (وَقَدْ تَكُونُ المُنْفَصِلاَتُ) الثلاث (أي: كلٌ منها).

(وَقَدْ تَكُونُ المُنْفَصِلاَتُ) الثلاث أي: الحقيقية، ومانعةُ الجمع فقط، ومانعةُ الخلو فقط. الثلاث أي: كلٌ منها.

(ذَاتِ أَجْزَاءٍ) كما تكون ذات جزأين كما مر: العدد إما زوجٌ وإما فردٌ .. إما أن يكون في البحر وإما أن لا يغرق، دائماً يكون التقابل بين شيئين .. بين جزأين، هل تأتي من ثلاث وأربع وخمس وعشر؟ هذا محل البحث.

هل يُزاد الثالث والرابع والخامس؟ ولو زِيد هل تكون الزيادة حقيقية أم أنها في قوة الجزأين؟ هذا محل البحث.

(11/28)

________________________________________

(وَقَدْ تَكُونُ المُنْفَصِلاَتُ) الثلاث أي: كُلٌ منها ذات أجزاء كما تكون ذات جزأين.

قال العطار: (تركُّب المنفصلات من أكثر من جزأين أمرٌ ظاهريٌ) يعني: في الظاهر، هو في الظاهر يمكن ويأتي مثالُه، ولذلك نقول: العدد إما زائد أو ناقص أو مساوٍ. هذه ثلاثة أجزاء.

يقول: (تركُّب المنفصلات من أكثر من جزأين أمرٌ ظاهريٌ.

وأما عند التحقيق فالمنفصلة مطلقاً لا تتركب إلا من جزأين) اثنين فقط.

(لأنها تتحقق بانفصالٍ واحد) إما هذا وإما هذا، حتى لو وصلْتَ بالعدِّ إلى العشرة النتيجة: إما هذا وإما هذا. فيجتمع بعض الأجزاء في وصفٍ واحد أو جزءٍ واحد فيتقابلان.

العدد إما زائدٌ أو ناقص أو مساوٍ. إما مساوٍ أو غير مساوٍ.

غير مساوٍ دخل فيه الناقص والزائد، إذاً رَدَدْتَه إلى الجزأين.

قال: (لأنها تتحقق بانفصالٍ واحد، والنسبة الواحدة لا تكون إلا بين شيئين، فعند زيادة الأجزاء تتعدد المنفصلة، لكنه في الظاهر.

فإذا قلنا اللفظ إما اسمٌ أو فعلٌ أو حرفٌ، فهي حقيقتان على معنى أنه اسمٌ أو غيرُه، والغير هذا يدخل تحتَه الفعل والحرف.

قال شارح المطالع: الحقُّ أن شيئاً من المنفصلات لا يمكن أن يتركب من أجزاءٍ فوق اثنتين).

حينئذٍ ما سيذكره المصنف هو سيرجع يقرِّر هذا، إنما يكون أمراً ظاهرياً فقط.

إذاً: (قد تكون منفصلات ذاتَ أجزاءٍ كما تكون ذاتَ جزأين كما مر) يعني: في الأمثلة السابقة: العدد إما زوجٌ وإما ..

قال: (كَقَوْلِنَا) يعني: في التمثيل لذات الأجزاء (كَقَوْلِنَا: الْعَدَدُ إِمَّا زَائِدٌ أَوْ نَاقِصٌ أَوْ مُسَاوٍ).

(ونحو: الكلمة إما اسمٌ، أو فعلٌ، أو حرفٌ.

ونحو: العنصر إما ماء، أو هواء، أو نار، أو تراب.

ونحو: الكلِّي إما جنس، أو نوع، أو فصل، أو خاصة، أو عرضٌ عام.

ونحو: العدد إما واحد، أو اثنان، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة .. إلى ما لا نهاية).

وهذه أمثلة للحقيقية.

(ومثال مانعة الجمع نحو: الشيء إما شجر، أو حجر، أو حيوان) .. إلى آخر ما ذكره.

إذاً: يحصل التعدد في النوعين.

(كَقَوْلِنَا: الْعَدَدُ إِمَّا زَائِدٌ أَوْ نَاقِصٌ أَوْ مُسَاوٍ).

(لأنه حُكم فيه بأن هذا الجمع لا يجتمع على عددٍ واحد) ليس عندنا عدد واحد يقال فيه زائد، ناقص، مساوٍ. يوجد؟ لا يوجد. عدد زائد، ناقص، مساوٍ لا يجتمع على واحد.

(لأنه حُكم فيه بأن هذا الجمع لا يجتمع على عددٍ واحدٍ، ولا يخلو العدد عن أحدِها) فحينئذٍ تكون مانعةَ جمعٍ وخلو، لا تجتمع كلها فتقول: هذا العدد زائد مساوي ناقص، ولا يرتفع .. لا بد من صدق واحدٍ منها، إذاً: المثال هذا في الحقيقية، فهي حقيقية.

(وأُورد عليه -على المثال- أن طرفي الحقيقية ومانعة الخلو لا يرتفعان، وهنا يرتفعان؛ لأن قولَك مساوٍ يرتفع معه زائد وناقص) اثنان.

أي: وناقص يرتفعه معه زائد ومساوٍ، وزائد يرتفع معه ناقص .. يعني: إذا أثبت واحد ارتفع اثنان.

وأُجيب بأن المرتفعين وإن تعدد لفظُهما "دون ألِف" فهما متَّحدان معناً.

والأصل العدد إما مساوٍ أو غير مساوٍ.

يعني: الناقص والزائد يدخل تحت غير مساوٍ، اتحدا في المعنى.

ولكن غير المساوي إما زائد أو ناقص، فالعناد حقيقةً إنما هو بين المساوي وغيرِه، وهذان لا يرتفعان.

(11/29)

________________________________________

(واعلم أن كلاً من المتصلات والمنفصلات يتألف من حمْليات أو شرْطِيات، أو منهما، وأمثلتُها مع بيان أقسامها مذكورةٌ في المطولات، والحمد لله رب العالمين.

ثم قال: (ومن الاصطلاحات المنطقية) (التَّنَاقُضُ).

هذا نجعله غداً إن شاء الله التناقض والعكس، ونقف على هذا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!

(11/30)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

وقفنا عند قول المصنف رحمه الله تعالى: (ولما فرغ مما يتوقف عليه القياس من القضايا، وما يعرِض لها من تناقضٍ وغيره، أَخذَ في بيان القياس وهو المقصود) يعني: للمنطقي، وهو المقصود الأهم.

(وغيرِه) لا يُعنى به إلا القياس المستوي، وهو عامٌ مرادٌ به خاص.

(أخذ في بيان القياس وهو المقصود) أي: للمنطقي.

(الأهم) يعني: مقدَّمٌ على غيره.

(لأنَّ المقصود بالذات من العلوم المدونة الأحكامُ) هذا المقصود، التصورات هذه وسيلة وليست مقصودة لذاتها، وإنما المقصود هو التصديقات، التصديقات إنما هي الأحكام وهي التي تؤخذ من هذا الباب.

(لأنَّ المقصود بالذات من العلوم المدونة الأحكامُ التي إدراكُها يسمى تصديقاً، والمعاني التي إدراكُها يسمى تصوراً لا تُطلب في العلوم المدونة لذاتها، بل لكونها وسائط ووسائل للتصديقات، والإدراكات التصديقية أشرفُ منها) ولا شك هي العلوم.

(وأعلى) يعني: منها.

(وغرضُ المنطقي: بيان الطريق الموصل إلى المجهول التصوري، والطريق الموصل إلى المجهول التصديقي.

والقياس: هو الموصل إلى التصديق. فهو أشرف الطريقين وإنما لم يُقدَّم في الوضع لتقدُّم التصور عليه في الطبع؛ إذ الحكم على المجهول أو به محال).

حينئذٍ إذا قيل بأنه أشرف وأنه أعلى، لماذا لم يقدمه على التصور؟

نقول: لا يمكن، التصور جزءٌ، كل تصديقٍ يتضمن تصورات ومن غير عكس.

إذاً: لا بد أن يكون مقدَّماً عليه بالطبع، فيقدَّم عليه بالوضع؛ إذْ الحكمُ على المجهول غير المتصوَّر هذا محال.

كذلك الحكم بالمجهول أو على المجهول، به وعليه. نقول: هذا يُعتبر محالاً.

قال: (لأنه العمدة في تحصيل المطالب التصديقية لأنه القياس).

(العمدة) أي: المعوَّل عليه المُعتدُّ به دون الاستقراء والتمثيل، فقال رحمه الله تعالى: (الْقِياسُ) أي: هذا باب القياس. هذه ترجمة لهذا الباب وهو خاتمة هذه الأبواب؛ لأن المباحث خمسة كما مر، خاتمتُها الخامس هو القياس.

قال: (وهو لغة: تقدير شيءٍ على مثالِ آخر. بإضافة مثال إلى آخر) ليس على مثالٍ آخر، على مثالِ آخر بالإضافة: مضاف ومضاف إليه.

(بإضافة مثالِ إلى آخر: على مثالِ شيءٍ آخرَ، كتقدير الثوب على الآلة المسماة بالذراع، فإن الآلة المذكورة مثالٌ لما في الذهن المقدَّر.

فالذراع حقيقةً هو الذي في الذهن، والآلة المحسوسة مثال) كالميزان الذي يُقدَّر به الأشياء.

ولذلك سُمي كذلك القياس بالميزان.

قال المحشي هنا: (على مثالِ آخر أي: يعرِضه على مثال شيءٍ آخر، فمثال مضاف لآخر كتقدير الثوب بعرْضه على الآلة المسماة ذراعاً التي هي مثالٌ للذراع الحقيقي المستحضَر في الذهن).

(واصطلاحاً) أي: هنا عند المناطقة، ليس مطلقاً فيشمل القياس عند الأصوليين.

(13/1)

________________________________________

قال: (هُوَ قَوْلٌ مَلْفُوظٌ أَوْ مَعْقُولٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ مَتَى سُلِّمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ) هذا تعريف القياس هنا.

(قَوْلٌ)، (مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ مَتَى سُلِّمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ).

(قَوْلٌ) مر معنا المراد بالقول، وهذا جنس شمل القياس والقضية الواحدة مطلقاً.

وبعضهم خصَّه بالمركب التام، فإذا قيل أنه جنس كما قال المحشي هنا: شمل القياس والقضية الواحدة مطلقاً. حينئذٍ يكون تاماً.

ومر معنا أن القول قد يُفسَّر بالأقوال التامة والناقصة، وهما اصطلاحان والله أعلم أنه قد يُفسَّر في موضع بمعنى وفي موضع آخر بمعنى آخر، لكن المراد هنا التامة؛ لأنه سيأتي يقول: (قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ) المراد بالأقوال هنا قضايا .. مقدمتين، وكل مقدمة هي قولٌ تام .. مركَّب تام.

إذاً: لا يتأتى هنا المركّب الناقص، ولذلك عيَّنه (أي: مركَّبٌ تامٌ جنسٌ شمِل القياس والقضية) يعني: القضية الواحدة.

قال: (قَوْلٌ مَلْفُوظٌ أَوْ مَعْقُولٌ) وحينئذٍ فسَّر القول بالملفوظ أو المعقول كما هو الشأن في القول الشارح، وكما هو الشأن في تعريف القضية: قولٌ يصح أن يقال لقائله صادقٌ فيه أو كاذب.

فالتعميم هنا لأن الأصل في حملِ هذه المصطلحات على المعقولات، ولكن لما كان اللفظ وسيلة في تأديتها حينئذٍ لا بد من مراعاة اللفظ، هل اللفظ مشترَك، أو أنه حقيقةٌ وفي بعضها مجازٌ، أو أنه متواطئ كما مر معنا؟ هذا محل خلاف، ولكن لا بد من التعميم خاصة في هذه المواضع (قَوْلٌ مَلْفُوظٌ أَوْ مَعْقُولٌ) وأو هنا للتنويع.

(قال بعضهم: القياس، والقضية، والقول) هذه ثلاثة ألفاظ، كذا قال العطار.

(القياس، والقضية، والقول. إما مشترَك لفظي أو حقيقةٌ ومجاز، إما في اللفظ أو في المعنى) كما قيل: حقيقةٌ في اللفظ مجازٌ في المعقول، المعنى المراد به المعقول، وقيل: بالعكس، وقيل: مشترَكٌ بينهما. هذه ثلاثة أقوال.

أما الاحتمال الرابع فلا مساغ له.

(وفي حاشية السيالكوتي على الخيالي: الحق أن إطلاق الدليل على الملفوظ مجازٌ، باعتبار دلالته على ما هو الدليل في الحقيقة أعني المعقول).

إطلاق الدليل، قد يُطلِق بعضهم الدليل يريد به القياس .. إطلاق القياس أو الدليل على المعقول حقيقة، وإطلاقُه على الملفوظ مجازٌ؛ لأن القاعدة في هذا الفن أنه يُبحث في المعقولات لا في الملفوظات.

قال: (الحق أن إطلاق الدليل على الملفوظ مجازٌ، باعتبار دلالته على ما هو الدليل في الحقيقة أعني المعقول.

وقال قبل ذلك: الأظهرُ أن يقال هذا في المؤلَّف أي: الشمولي للملفوظ والمعقول.

وأما القول فيختص بالمعقول) هذا على قول.

قال العطار: فعلى ما حققه السيالكوتي يظهر لك أنه لا وجه لتقديم الملفوظ على المعقول) كما صنع المصنف هنا قال: (مَلْفُوظٌ أَوْ مَعْقُولٌ).

(وقد يقال: التقديم لملاحظة أن الملفوظ دالٌ، فهو من هذه الحيثية سابق في الاعتبار).

إذاً: (قَوْلٌ مَلْفُوظٌ أَوْ مَعْقُولٌ) هذا تعميم؛ ليشمل القول اللفظ، ويشمل القول كذلك المعقول، وإن كان الأصل حقيقةً حملُ اللفظ على المعقول.

(13/2)

________________________________________

ثم هل هو مشترَك أو مجازٌ في الملفوظ أو متواطئ؟ هذا محل نزاع، والأمر فيه واسع.

قال: (مُؤَلَّفٌ) قيل: مستدرَك هذا (مُؤَلَّفٌ) لأنَّ: (قَوْلٌ) و (مُؤَلَّفٌ) بمعنًى واحد.

(قيل: مستدرَكٌ لأن المؤلَّف مرادفٌ للقول في اصطلاحهم، وإنما ذُكر في التعريف توطئة ليتعلق به قولُه: مِنْ أَقْوَالٍ).

حينئذٍ (مُؤَلَّفٌ) هذا هو بمعنى القول، ما الفرق بينهما؟ لا فرق بينهما، فالمؤلَّف هو المركَّب التام معقولاً أو ملفوظاً، وكذلك القول هو المركَّب التام معقولاً أو ملفوظاً.

إذاً: لماذا ذكر هذه اللفظة وهي مرادفة للقول؟ نقول: توطئة، بمعنى أنه يجعلُه متعلَّقاً لقوله: (مِنْ أَقْوَالٍ) تمهيد.

(مُؤَلَّفٌ إنما ذُكر ليتعلق به قوله: مِنْ أَقْوَالٍ، وإلا فقوله: قَوْلٌ مغنٍ عنه).

(مِنْ أَقْوَالٍ) (منْ هذه تبعيضية فلا يَحتاج لتأويل الأقوال بما فوق الواحد يعني: باثنين، وقد قيل: كل جمعٍ يُذكر في التعريف مرادٌ به ما فوق الواحد).

إذا قيل: (مِنْ أَقْوَالٍ) المراد به القولان فأكثر، والمراد بالقول هنا القضية والمقدِّمة .. مقدمتين فأكثر.

فحينئذٍ (مِنْ أَقْوَالٍ) ظاهرُه أنَّ أقل الجمع ثلاثة، حينئذٍ لا يتألف القياس إلا من ثلاث مقدِّمات، هل هذا مراد؟ الجواب: لا.

فحينئذٍ نقول: مِنْ تبعيضية أو نقول: في استخدام هذا الفن كثيراً ما يُطلق الجمع ويُراد به الإثنان، وحينئذٍ (مِنْ أَقْوَالٍ) يُفسَّر بالقولين.

(وقد قيل: كل جمعٍ يُذكر في التعريف مرادٌ به ما فوق الواحد.

والمراد بأقوال هنا القضايا صادقةً كانت أو كاذبة) يعني: لا يُشترط فيها الصدق، ولذلك أطلقها.

قال: (قولين فأكثر) فأكثر هذا أراد به أن الجمع هنا ما فوق الواحد.

(إشارة إلى أنه أراد بالجمع ما زاد على واحد، ضرورةَ صحةِ تأليف القياس من مقدمتين.

(مَتَى سُلِّمَتْ) يعني: هذه الأقوال.

(مَتَى سُلِّمَتْ) هذه الأقوال (لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ).

(مَتَى سُلِّمَتْ) يدخل فيه القياس الصادق والمقدِّمات.

(كقولنا: كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم) كل إنسان جسم.

(والكاذب المقدِّمات كقول القائل: كل إنسانٍ فرس) هذه كاذبة (وكل فرسٍ صهَّال) هذه صادقة.

(لأن القياس من حيث هو قياس إنما يجب أن يؤخذ بحيث يشمل البرهاني والجدلي والخَطابي والسفسطائي، والشعري) فيعُم جميع الأدلة الآتية.

فيدخل فيه الشعر، ويدخل فيه الجدل وهو نوعٌ من أنواع الأدلة عندهم، وكذلك يدخل فيه البرهان، والخَطابة .. ونحوها، فلا بد من التعميم.

وبعضها مشتملٌ على قضايا كاذبة قطعاً كالسفسطة فيها قضايا كاذبة، يقول: هذا فرسٌ. ثم يبني عليه، نقول: القضية هذه الصغرى كاذبة.

إذاً: قوله: (مَتَى سُلِّمَتْ) فيه إشارة إلى أن القضايا هذه لا يُشترط فيها أن تكون صادقة. يعني: المقدمتان فأكثر قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة، فشمل حينئذٍ كل قياس. فيُنظر إليه من هذه الحيثية.

(مَتَى سُلِّمَتْ) أي: الأقوال (لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا).

قال هنا: (لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا أي: لزوماً ذهنياً.

(13/3)

________________________________________

بمعنى: أنه متى حصلت الأقوال في الذهن انتقل إلى القول الآخر) الذي هو النتيجة، تتصور القياس .. معلوم، العالم متغيِّر وكل متغير حادث العالم حادث، استحضِر هذا في ذهنك تفهم التعريف.

إذاً قوله: (مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ) من قولين فأكثر: العالم متغير وكل متغير حادث، العالم حادث إذاً: هذه نتيجة.

متى سُلِّم النظر في تلك المقدمتين -يعني: كلٌ منهما صادقة على فرض صدقها وقد تكون كاذبةً كما مر- حينئذٍ يلزم من هاتين المقدمتين قولٌ آخر، هذا القول الآخر يسمى نتيجة؛ إذ كل قياس لا بد له من نتائج.

حينئذٍ إذا نُظر في المقدمتين قد يُتوصَّل بالانتقال الآتي ذكرُه -وخاصة في باب الأشكال- يُتوصل بالنظر والتأمل والتفكر في هاتين المقدمتين لذات المقدمتين، دون واسطة خارجة عن المقدمتين.

ولذلك قال: (لِذَاتِهَا) أي: لذات المقدمتين؛ لأنه قد يأتي قياس المساوي .. أنه قد يستلزم النتيجة لكن بالنظر لمقدمة خارجة عن المقدمتين.

هذا نقول: نعم سُلِّمت القضايا ولزم منها قولٌ آخر وهو النتيجة، لكن لا لذات المقدمتين، حينئذٍ لا يكون داخلاً معنا.

ولذلك قال: (لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا) (أي: لزوماً ذهنياً. بمعنى أنه متى حصلَت الأقوال في الذهن) مع الارتباط كما سيأتي ليس هكذا، إنما لا بد من الموضوع يكون محمولاً، وفي الصغرى موضوعاً في الكبرى، الحد الأوسط يكون داخلاً، التكرار .. سيأتي بحثه.

(في الذهن انتقل إلى القول الآخر).

قال العطار هنا: (قوله: لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا. لا يخفى أن الاستلزام ظاهرٌ في القياس العقلي) هذا واضح.

كون الشيء يستلزم الشيء هذا في العقلي واضح، لكن لو كتبت هكذا في اللفظ: العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادث. هل هذا اللفظ يستلزم النتيجة؟ اللفظ لا يستلزم شيئاً، إنما الذي يستلزم الذي يكون في الذهن، هذا واضح بيِّن.

إذاً: يختص حينئذٍ الاستلزام بالمعقول، ونحن قد أدخلنا الملفوظ فكيف يستلزم؟ بل يكاد يكون بحثُنا هنا في الملفوظات، والملفوظات دوال المعقول.

حينئذٍ كيف نقول بأن الاستلزام قد وقع واللفظ لا يستلزم شيئاً؟ وإذا كان كذلك فانحصر الاستلزام في الذهن.

قال العطار: (لا يخفى أن الاستلزام ظاهرٌ في القياس العقلي).

العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادِث، هذا قياسٌ عقلي لفظي. كيف قياس عقلي لفظي؟

لفظي لأنك تنطق به وتكتبه، وقياس عقلي لأن مدلوله في الذهن .. رتَّبته في الذهن: العالم متغيِّر، أدركتَ الموضوع والمحمول، وكل متغير حادث أدركت الموضوع والمحمول، أدركت الترابط بينهما .. هذا كله في العقل.

حينئذٍ هذا قياسٌ عقلي؛ لأنه جاء بالنظر العقلي، وأما إذا تلفَّظت به صار قياساً لفظياً، والذي استلزم هو الذي في العقلي.

قال هنا: (لا يخفى أن الاستلزام ظاهرٌ في القياس العقلي، وأما اللفظي ففيه إشكال؛ لأن التلفظ بالدليل لا يستلزم المدلول.

وأفاد السيالكوتي أنَّ تلفظ الدليل يستلزم التعقُّل بالنسبة إلى العالِم بالوضع.

بمعنى: أن التلفظ آلةٌ لملاحظة ذلك المتعقَّل بالنسبة إلى العالِم) وهو ما يمر معنا دائماً: دال المعقول.

(13/4)

________________________________________

حينئذٍ التلفظ يستلزم التعقل، التعقل الذي هو التصور، فإذا حصل التصور حينئذٍ صار هذا اللفظ دليلاً على المعقول، فحينئذٍ المعقول إما ابتداءً وإما بواسطة اللفظ.

(وليس المقصود من التلفظ إلا إحضارُ ذلك المتعقَّل في الذهن، فالملحوظ المستلزَم هاهنا هو المعاني، إلا أنه في قالَب الألفاظ فيصدق عليه أنه مؤلَّفٌ يستلزم لذاته قولاً آخر، بمعنى أنه كلما تلفظ به العالِم بالوضع لزِمه العلم بالمطلوب الخبري .. ) إلى آخر كلامه.

إذاً: النظر في دلالة المقدمتين استلزاماً للنتيجة باعتبار اللفظ لا لذات اللفظ، بل بكونه متعقَّلاً في الذهن، حينئذٍ رجَع إلى المعقول، واللفظ والتلفظ يكون دالاً فقط، وإلا القياس في الأصل هو القياس العقلي.

قال هنا: (مَتَى سُلِّمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ).

(لَزِمَ) (مراده اللزوم الذهني بمعنى: أن المقدمتين متى حصلتا في الذهن انتقل الذهن إلى النتيجة، سواءٌ كان اللزوم بيِّناً) ما هو اللزوم البيّن؟ الذي لا يحتاج إلى دليل.

(كما في الشكل الأول أو غير بيِّن) وهو الذي يحتاج إلى دليل (كما في بقية الأشكال.

ثم إن أُريد باللزوم عدم الانفكاك عقلاً كان التعريف جارياً على مذهب الحكماء والمعتزلة، وإن أُريد عدم الانفكاك في الجملة سواءٌ كان عقلياً أو عادياً صح على رأي الأشاعرة).

يعني: هل الدليل هنا يستلزم المدلول عقلاً أو ضرورة أو عادة؟ عادة، قد يتخلَّف.

قال هنا: (مَتَى سُلِّمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ).

قال: (قَوْلٌ آخَرُ. فصلٌ مخرجٌ مجموع قولين -يعني: قضيتين- كجاء زيدٌ وذهب عمروٌ، فإنَّ مجموعَهما وإن استلزَم إحداهما استلزام الكل لجزئه لكن اللازم ليس مغايراً لكلٍ منهما، بل عينُ إحداهما.

وأيضاً ليس لكل واحدة منهما دَخَلٌ في استلزام الأخرى، وإلا لزِم أن الجزء يستلزم الكل).

يعني: ليس كلما ضُمَّت قضيتان قيل أنَّ كلاً منهما يستلزم الآخر. نقول: جاء زيدٌ وذهب عمروٌ ليس بينهما استلزام؛ لأن هذا الاستلزام لا بد أن يكون منطبقاً على القواعد الآتي ذكرُها في الأشكال ونحوها. يعني: لا بد من وجود الحد الأوسط، ولا بد من تَكراره، لا بد أن يكون من الأشكال الأربعة، لا بد أن يكون منتِجاً.

حينئذٍ يكون مستلزماً، وأما هكذا ضمُّ قضية إلى قضية ثم يقول: هذا قياس لا، ليس كل قضية تُضم مع أخرى نقول: هذا قياس، بل لا بد من استيفاء الشروط الآتي ذِكرُها.

قال: (مَتَى سُلِّمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ) (أي: مغايرٌ لكلٍ منهما) يعني: عنى بكون هذا القول .. بكونه آخر يعني: مغايِر.

يعني: ليس هو عين المقدمة الصغرى وليس هو عين المقدمة الكبرى، بل لا بد أن تكون النتيجة مغايِرة.

ولو كانت من حيث المادة موجودة مذكورة يعني: من حيث الموضوع والمحمول: العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادث العالم حادث، جملة: العالم حادث مبتدأ وخبر وموضوع ومحمول ليست موجودة، لكن كلمة "العالم" ملفوظٌ بها، وكذلك "حادث" ملفوظٌ بها.

إذاً: المراد (قَوْلٌ آخَرُ) هنا أنه مغايرٌ لكلٍ من المقدمتين، ولا يكون عين إحدى المقدمتين.

(قَوْلٌ آخَرُ) (أي: مغايرٌ لكلٍ منها) أي: الأقوال.

(13/5)

________________________________________

(بحيث لا يكون عينَ قضية منها، وإن كان مؤلفاً من حدودها، وحاصل معنى المغايرة هنا: أن لا يكون القولُ عينَ الصغرى ولا نفس الكبرى) عين ونفس بمعنى واحد.

قال هنا: (فالمؤلَّف من قولين. كقولنا: العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادث، وهذا مؤلَّفٌ من قولين يلزم عنهما -عن القولين- قولٌ آخر وهو النتيجة) وهو العالم حادث.

(والمؤلَّف من أكثر من قولين) لأنه قال: من قولين فأكثر.

مُفادُه: أنَّ القياس قد يتألف من أكثر من مقدمتين، لكن بالتنصيص أنه لا يتألف من قضية واحدة، ولذلك قلنا: من أقوال خرج من قضية واحدة، ولذلك قولُه: (قَوْلٌ) شمل القياس -وهو جنس- شمل القياس والقضية الواحدة، من قولين أو من أقوال أخرج القضية الواحدة.

إذاً: القضية الواحدة لا تسمى قياساً، وإن استلزَمَتْ؟ وإن استلزمت؛ لأن الجملة الواحدة تستلزم نقيضها، وكذلك الأصل يستلزم عكْسَه. إذاً: فيه معنى الاستلزام لكنه لا يسمى قياساً؛ لأن القياس لا يكون من قضية واحدة، فلو كانت مستلزِمة لشيءٍ آخر إلا أنه لا يكون قياساً.

قال: (والمؤلَّف من أكثر من قولين كقولنا: النبَّاشُ) النبَّاش هذا السارق، لكنه سارق خاص يعني: يسرِق الأكفان.

(النبَّاش) (أي: لقبرِ الميت عَقِبَ دفنِه؛ لأَخذِ كفنِه).

(النبّاش آخِذٌ للمال) الكفن يعني، الكفن مال.

(النبّاش آخذٌ للمال خُفْية) هذه مقدمة.

(وكل آخذٍ للمال خفيةً سارق) هذه كبرى، والسابقة صغرى.

(وكل سارقٍ تُقطع يدُه) هذه ثلاث (فهذا مؤلَّفٌ من ثلاثة أقوال، يلزم عنها قولٌ آخر وهو: النبّاش تُقطعُ يدُه).

إذاً: هذا مثالٌ لقياس مؤلَّف من ثلاث مقدمات: الأُولى: النبَّاش آخذٌ للمال خفية.

الثانية: كل آخذٍ للمال خفية سارق.

وكل سارق تُقطع يدُه. فهذا مؤلفٌ من ثلاثة أقوال يلزم عنها قولٌ آخر: والنبّاش تُقطع يدُه، هذا يسمى قياساً مركباً.

والأول قال: يسمى قياساً بسيطاً والثاني: قياساً مركباً.

(يسمى قياساً بسيطاً، تسميتُه بذلك لمقابلة المركّب الذي هو من أكثر من مقدمتين -تقابل بسيط ومركَّب- وإلا فهو مركَّبٌ أيضاً) هو مركَّب .. مؤلَّف من قضيتين.

إذاً: التركيب موجود هنا وموجودٌ هنا، لكن لما كان في مقابلة ما زاد على قضيتين .. مقدِّمتين، فحينئذٍ سُمّي بسيطاً.

يعني: جاء على أصله، أقل ما يصدُق عليه أنه قياس مقدمتان، فسُمّي بسيطاً. إن زاد على ذلك فهو مركَّب لزيادته على الأصل.

(وإلا فهو مركَّبٌ أيضاً، لكنهم قصدوا المغايرة بينهما في التسمية رفعاً للالتباس.

وخصوا البساطة به لأن المقدمتين أقلُّ من الثلاثة فهو إلى البساطة أقرب، بل جاء على أصله.

أو أنه لما كان بحسب الظاهر مركباً من قياسين ناسَب أن يسمى مركَّباً في مقابلة البسيط المركَّب من مقدمتين.

ثم الحقُّ: أن القياس إنما يتركب من مقدمتين فقط) وأما هذه الثلاث المقدمات فهي قياسان متداخلان يعني: قياسان مؤلفان من قياسين بسيطين، حُذِفت فيه إحدى النتيجتين.

يعني: القياس الأول حُذفت نتيجتُه، فحينئذٍ جيء بكبرى جُعلت ضمناً مع صغرى النتيجة -القياس الأول- لكنها لم يُلفظ بها، بل هي محذوفة، فحينئذٍ جُعل قياس في ضمن قياس.

(ثم الحق: أن القياس إنما يتركب من مقدمتين فقط.

(13/6)

________________________________________

فقوله: النبّاش .. ) إلى آخره .. السابق.

(قياسان بسيطان، أُخذت نتيجة إحداهما وجُعِلت صغرى في الثاني، وهو قسمان:

ما ذُكرت فيه نتيجةُ كل قياس ويسمى موصول النتائج) يُنصُّ عليها، سيأتي.

(وما لم يُذكر فيه نتائج يسمى مطويَ النتائج ومفصولها) مطوي النتائج: طويت فيه النتيجة يعني: لم تُذكر بل حُذِفت.

إذاً: ليس عندنا قياس مركَّب من ثلاث مقدِّمات.

إن وُجد كالمثال المذكور نقول: هذان قياسان بسيطان، قد تُذكر نتيجة القياس الأول البسيط وقد تُحذف، إن ذُكِرت فحينئذٍ يسمى متصل النتائج، وإن حُذفت يسمى مطوي النتائج ومفصولها. هذا يسمى قياساً بسيطاً.

قال هنا: (والأول يسمى قياساً بسيطاً) ما هو الأول؟ المؤلَّف من قولين، المثال السابق: العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادث العالم حادث، هذا يسمى قياساً بسيطاً.

قال: (والأول يسمى قياساً بسيطاً) أي: المؤلَّف من قولين.

(والثاني قياساً مركباً) الثاني الذي هو النبَّاش .. إلى آخره (مركباً؛ لتركُّبِه من قياسين).

أي: نتيجةُ أولهما صغرى للثاني ولم تُذكر في المثال المذكور؛ لكونها معلومة، والأصل هكذا: النبّاش آخذٌ للمال خفية، وكل آخذٍ للمال خُفية سارق، فالنباش سارق. نتيجة .. هذا قياس.

النبّاش سارق وكل سارق تُقطع يدُه، إذاً: النبّاش تُقطع يدُه.

إذاً: عندنا قياسان حُذفت النتيجة -نتيجة القياس الأول- وجيء بالكبرى مركبة معها وهي محذوفة مقدرة، والمحذوف للعلم به كالمذكور [وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ] لكن لا بد أن يكون المحذوف كالمذكور، فإذا كان كذلك فحينئذٍ نقول: هذا قياسٌ بسيط حُذفت نتيجتُه ورُكِّب مع نتيجته قياس آخر.

قال: (وكل سارقٍ تُقطع يدُه، وكون القياس مركباً فالنبّاش سارقٌ، وكل سارقٍ تُقطع يدُه.

وكون القياس مركَّباً من ثلاث قضايا أمرٌ ظاهري، وفي الحقيقة هما قياسان بسيطان).

قال: (فخرج عن أن يكون قياساً القولُ الواحد أي: عُرفاً. وإن تركب من قولين).

القول الواحد يعني: القضية الواحدة، فلا تكون قياساً.

(فخرج عن أن يكون قياساً القول الواحد أي: عُرفاً).

لماذا قال: عُرفاً؟ يعني: في الحقيقة العرفية؛ لأنه إذا قلت مثلاً: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، هذه قضية واحدة .. شرطية لزومية متصلة.

إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود. كم جملة فيها؟ جملتان: الشمس طالعة، والنهار موجود.

لكن في العُرف جُعلت قضية واحدة، إذا قلت: كل إنسانٍ حيوان. هذه قضية واحدة لا شك فيها؛ لأنها حملية، وإذا قلت: إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، حينئذٍ نقول: هذا مؤلفٌ من قضيتين .. من جملتين.

لكن في العُرف عند المناطقة هي قضية واحدة، ولذلك تكون مقدَّماً ويأتي تالي .. إلى آخره.

قال: (القول الواحد أي: عُرفاً. وإن تركَّب من قولين بحسب الأصل نحوُ: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، ونحو: متى كان كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود) هذه قضية واحدة.

فمتى كان كلما كانت الشمس طالعة فالليل ليس بموجود، كل هذه قضايا واحدة، وإن كانت في الحقيقة مؤلفة من قضيتين .. مقدمتين، أو من جملتين، لكنها مقدِّمة واحدة.

(13/7)

________________________________________

قال: (فخرج عن أن يكون قياساً القولُ الواحد. وإن لزم عنه لذاته قولٌ آخر كعكسه المستوي) كما ذكرتُ سابقاً: أنه ليس كلما لزم عن المقدمة أو الجملة أو القضية قولٌ آخر صار قياساً لا، ولذلك القول الواحد قد يستلزم عكسَه المستوي، لكن لا يكون قياساً.

قال: (وإن لزم عنه لذاته قولٌ آخر نحو: كل إنسانٍ حيوان. فإنه يلزمه عكسُه المستوي وهو: بعض الحيوان إنسان، وعكسُ نقيضِه الموافق وهو: كل ما ليس بحيوان ليس بإنسان، وعكس نقيضه المخالِف وهو: لا شيء مما ليس بحيوان بإنسان).

إذاً: (فخرج عن أن يكون قياساً القولُ الواحد) يعني: القضية الواحدة (عُرفاً).

(وإن لزم عنه) عن القول الواحد.

(لذاته) لا لأمرٍ خارجٍ؛ لأنه موافق هنا، لو كان لأمرٍ خارج لا يرِد، ولكن لما كان لذاته لا بواسطة مقدِّمة خارجة حينئذٍ ورَد الإشكال.

قال: (وإن لزم عنه) يعني: الواو حالية هنا.

(وإن لزم عنه لذاته قولٌ آخر كعكسِه المستوي، وعكسُ نقيضه) ومر المثال.

لماذا؟

(لأنه لم يتألف من أقوال) لو قال: من قولين. لكان أحسن، ما دام أنه شرح فيما سبق (من أقوالٍ أي: قولين فأكثر) لو قال هنا: لأنه لم يتألف من قولين. لكان أحسن.

(لأنه لم يتألف عِلَّةٌ لقوله: خرج القولُ الواحد).

قال: (والاستقراءُ) أي: خرج القول الواحد .. وخرج الاستقراء والتمثيل، كلٌ منهما خرج وهو دليلٌ مستقل –الاستقراء-، وكذلك التمثيل المراد به القياس الفقهي: حملُ جزئيٍ على جزئي لعلةٍ، وهذا يسمى قياساً كذلك، والاستقراء يسمى قياساً كذلك، لكنه لا يدخل في هذا الحد، بل هو دليلٌ مستقل.

قال: (والاستقراء، والتمثيل) أراد به الاستقراء غير التام، وسيأتي تعريفُه في آخره.

والتمثيل أراد به القياس الفقهي.

قال: (والظاهر أن الاستقراء والتمثيل لا يخرجان عن القياس وإلا خرجت السفسطة والجدل والخَطابة والشعر لعدم إفادتها اليقين).

هو سيأتي ذكرُه الاستقراء، قلنا: المراد به هنا: الاستقراء غير التام.

الذي يفيد اليقين ما هو؟ الاستقراء التام، والقياس التمثيلي في الجملة عندهم لا يفيد اليقين .. ليس من اليقينيات.

وحينئذٍ سيُذكر له حدٌ خاصٌ في كل منهما، هل هو داخلٌ هنا؟ نقول: لا. ليس بداخل.

لكن هل معنى ذلك أنه لا يسمى قياساً؟ نقول: لا. ليس البحث هنا في كونه هل يسمى قياساً أو لا، لكنه هل هو القياس الذي هو حجة هنا ويُطلق القياس في باب المنْطِق الذي هو الطريق الموصل إلى التصديق المجهول؟ الجواب: لا.

إذاً: فرقٌ بين مسألتين:

هل القياس يُطلق على الاستقراء فيسمى قياس الاستقراء؟ نعم.

هل القياس يُطلق على التمثيل؟ هذا باتفاق؛ لأن الأصوليين هو الذي يُعنون له عندهم، هل يسمى قياساً للتمثيل؟ نعم يسمى قياساً للتمثيل.

لكن هل هو داخلٌ في هذا النوع من القياس؟ الجواب: لا. هذا الذي أراده هنا وسيأتي في آخر الكتاب ذكرُ النوعين.

(والاستقراء والتمثيل؛ لأنهما وإن تألَّفا من أقوالٍ، لكن لا يلزم عنهما -الاستقراء والتمثيل- شيءٌ آخر؛ لإمكان التخلُّف في مدلوليهما عنهما).

الاستقراء أراد به غير التام. إذاً: يمكن أن يتخلف، وسيأتي فيما يأتي.

(13/8)

________________________________________

إذاً: المراد هنا: أنه لا يلزم عنهما شيءٌ آخر: الاستقراء لا يستلزم شيئاً آخر، وقياس التمثيل لا يستلزم شيئاً آخر، هذا المراد هنا.

ولذلك قال: (لإمكان التخلُّفِ في مدلوليهما) يعني: مدلول الاستقراء والتمثيل (عنهما) يعني: ليس ثَم تلازم بينهما.

قال: (وما يلزم عنه قولٌ آخر لا لذاته).

(وما يلزم) أي: وخرج، هذا معطوفٌ على السابق .. على الأول: (خرج القول الواحد والاستقراء والتمثيل، وما يلزم عنه قولٌ آخر) لكن (لا لذاته) هذا عطفٌ على فاعل خرَج أيضاً.

(بل بواسطة مقدمة أجنبية) مقدِّمة أو خصوص مادة، قد يكون لخصوص المادة .. لذاتها -سيأتي مثاله-، وقد يكون لمقدمة أجنبية يعني: خارجة .. ليست مذكورة في القياس.

(وخرج أيضاً ما يلزم لخصوص المادة كما في قولنا: لا شيء من الإنسان بحجر، وكل حجرٍ جماد. فإنه يلزم منه: لا شيء من الإنسان بجماد) لكن لا من ذات المقدمتين وإنما من أمرٍ خارجي.

قال: بل بواسطة مقدمة أجنبية كما في قولنا: فلانٌ المريض يتحرك) هذه صغرى (فهو حيٌ) هنا حذَفَ الكبرى، يجوز حذفُ الصغرى أو الكبرى المعلومة .. المشهورة، فتأتي بمقدمة واحدة تذكُرُها وإذا كان ثَم قضية أو مقدمة مشهورة بينك وبين الخصم أو المستمع جاز لك حذفُها وتأتي بالنتيجة، لكنها تكون مقدرة.

(فلان المريض يتحرك. هذه صغرى، والكبرى محذوفة أي: وكل من يتحرك فهو حيٌ يُنتِج فلان المريض) هذا المخصوص "حيٌ" هذا يسمى قياساً.

هنا بواسطة أنَّ كل متحركٍ بالإرادة حيٌ، لكن هذا يرد عليه إشكال: أنه لا بواسطة مقدمة ليست مذكورة وإنما محذوفة ويجوز الحذف، فإخراج هذا النوع فيه إشكال؛ لأنه من المقرر أنه إذا تألف القياس من مقدمتين جاز حذفُ إحدى المقدمتين، بل يجوز حذف النتيجة أحياناً، ولذلك كثيراً ما يكتفي بعض الممثلين لبعض المسائل قال: العالم متغير كل متغير حادث فقط، ولا يأتي بالنتيجة لأنها معلومة، فيجوز حذفها، لكن ليس معناها أن هذا القياس لا يستلزم نتيجة.

وكذلك قد تأتي بالصغرى وتحذف الكبرى، أو تأتي بالكبرى وتحذف الصغرى، إذا كان كلٌ من المحذوف مشهوراً عند السامع فيجوز، حينئذٍ لا يكون طعناً في القياس، ولا يكون هذه القضية المحذوفة ليست أجنبية وإنما هي من أصل القياس، لكنه حذَفها للعلم بها.

قال هنا: (كل متحرِّك بالإرادة حيٌّ، وكما في قياس المساواة) قياس المساواة من مقدمة أجنبية خارجة عن القياس.

(وكما في قياس المساواة وهو) أي: قياس المساواة (ما يتركب من قولين) هذا جنس شمِل المعرَّف وغيرَه.

(يكون متعلِّقُ محمولِ أولهِّما موضوعَ الآخَر. كقولنا: أَلِف مساوٍ لباء، وباء مساوٍ لجيم) هل يستلزم ألف مساوٍ لجيم؟ نعم يستلزمه، لكن لا لذات المقدمتين، وإنما لمقدمة خارجة: مساوي المساوي مساوي .. مساوي لشيء ساواه زيدٌ ساواه.

لو قلت: هذا إيهاب ساوى محمد، ومحمد ساوى فؤاد. إذاً: إيهاب مساوٍ فؤاد. مساوي المساوي مساوي، هذه المقدمة خارجة يعني: معلومة من الذهن وليست من ذات القياس.

حينئذٍ لزم عن القولين قولاً آخر، لكن لا لذات المقدمتين وإنما لمقدمةٍ أجنبية خارجة عن القياس يعني: استعانة بشيءٍ منفصل.

(13/9)

________________________________________

ولذلك قال: (كقولنا: ألف مساوٍ لباء، وباء مساوٍ لجيم. فإنَّ هذين القولين يستلزمان ألفاً مساوياً لجيم) ألف مساوي لجيم ليس لباء؛ لأنه لم يقل ألف ساوى جيماً، وإنما قال: ألف ساوى باءً، هذه مقدِّمة.

ثم باء مساوٍ لجيم، ما العلاقة بين ألف وجيم؟ متساويان.

(فإنَّ هذين القولين يستلزمان ألفاً مساوٍ لجيم لا لذاتهما بل بواسطة مقدمة أجنبية).

يعني: ليست إحدى مقدمتي القياس بل هي أجنبية، هذا المراد بالأجنبية هنا.

(وهي) أي: هذه المقدمة الأجنبية (أنَّ مساوي المساوي لشيء مساوٍ له).

(لشيء) متعلِّق بقوله: (المساوي) المُحلى بأل .. المتأخر.

(مساوٍ له) أي: لذلك الشيء.

إذاً: هذا ما يسمى بقياس المساواة.

قال العطار: (سُمّي قياس مساواة لأن إنتاجَه يتوقف على مساواة ملزوم جيم، وملزوم ملزوم جيم في النسبة إلى جيم بالملزومية، ومن لم ينتبه لهذا قال: سُمِّي قياس مساواة باعتبار الفرد المُعْتَبر في المساواة، ثم إنه لا وسطَ في قياس المساواة) ليس عندنا وسط متكرر.

(فليس داخلاً حتى يخرج، لكنه لما لم يذكُر في التعريف قيْد تكرُّرِ الوسط احتِيج إلى إخراجه بقوله: بذاته) لا بد من تكرُّر الوسط كما سيأتي.

(والمقصود من إخراج هذه المذكورات عدمُ تسميتها قياساً منطقياً، لا عدمَ تسميتها قياساً مطلقاً؛ لأنها تسمى قياساً بالتقييد: بالتمثيل والاستقراء والمساواة) فخرجت هذه الثلاثة: قياس الاستقراء، قياس التمثيل، قياس المساواة. خرجت كلها من هذا الحد.

قال رحمه الله تعالى: (ولذلك لا يتحقق الاستلزام فيه).

(ولذلك) أي: كونُ إنتاجِه للمقدمة لا لذاته.

(لا يتحقق الاستلزام فيه) يعني: قياس المساواة.

(إلا حيثُ تصدق هذه المقدمة) يعني: الأجنبية، لا بد أن تكون صادقة، فلو كانت كاذبة ما يصح.

مباين المباين للشيء مباينٌ لذلك الشيء، هذه ليست صادقة هذه كاذبة.

قال: (إلا حيث تصدق هذه المقدمة الأجنبية) لا بد أن تكون صادقة.

(كما في قولنا: ألِفٌ ملزومٌ لباء، وباء ملزومٌ لجيم فألِف ملزومٌ لجيم؛ لأن ملزوم الملزوم ملزوم) هذه صادقة أو لا؟ صادقة .. ملزوم الملزوم ملزوم.

(فإن لم تصدق تلك المقدمة) يعني: الأجنبية.

(لم يحصل منه -قياس المساواة- شيءٌ) يعني: نتيجة صادقة.

(كما إذا قلنا: ألف مباينٌ لباء، وباء مباينٌ لجيم. لا يلزم منه أنَّ ألفاً مباينٌ لجيم).

المباينة يعني: المخالَفة .. إذا ألف باين باء وباء باين جيم، لا يلزم أنَّ ألفاً يباين جيماً.

قال: (فإن لم تصدق تلك المقدمة الأجنبية لم يحصل منه -قياس المساواة- شيءٌ –نتيجة- كما إذا قلنا: ألِف مباينٌ لباء، وباء مباينٌ لجيم. لا يلزم منه أنَّ ألفاً مباينٌ لجيم؛ لأنَّ مباين المباين لشيءٍ لا يلزم أن يكون مبايناً له أي: لذلك الشيء.

بل يجوز أن يكون أعم كالحيوان المبايِن للجماد المباين للإنسان).

الحيوان مباينٌ للجماد مخالِف، والجماد مباين للإنسان، الحيوان والإنسان الحيوان أعم من الإنسان.

(وأن يكون أخص كالإنسان المباين للجماد والجماد المباين للحيوان) إنسان وحيوان إنسان أخص.

إذاً: لا يلزم منه المباينة من كل وجه، وإلا الخصوصية والعموم هذا فيه شيءٌ من المباينة.

قال هنا: (لا يلزم أي: أن يكون مبايِناً له.

(13/10)

________________________________________

مثلاً: الإنسان مباين للفرس والفرس مباين للناطق، ولا يخفى أن الإنسان مساوٍ للناطق؛ لأن مباين المباين للشيء لا يلزم أن يكون مبايناً له.

وكذا إذا قلنا: ألِف نِصفُ باء وباء نصف جيم) ألِف نِصفُ باء يعني: اثنين نصف أربعة، وباء نصف جيم يعني: أربعة نصف ثمانية. هل يلزم أن ألف نصف جيم؟ لا. غلط.

ألف نصف باء يعني: اثنين نصف أربعة، وباء نصف جيم يعني: أربعة نصف ثمانية، اثنين نصف ثمانية؟ ما يصح، ما يتأتى. إذاً: ليست مطردة، إنما هي في المساوي فقط، أما التنصيف لا.

(لا يلزم منه أن ألفاً نصفُ جيم) اثنين نصف ثمانية لا يلزم.

(لأنَّ نصفَ نصفِ الشيء لا يكون نِصفاً له) يعني: لذلك الشيء.

(نصف نصف الشيء) نصف نصف الثمانية، (لا يكون نصفاً له) للثمانية.

(والمراد باللزوم) لزِم عنه (ما يعم البيِّن وغيره) كما مر معنا.

(فيتناول القياس الكامل) ما الذي يتناول هنا؟ يعني: حد القياس .. تعريف القياس. تفريعٌ على قوله: (المراد باللزوم ما يعم البيَّن وغيره).

(فيتناول) حينئذٍ تعريفُ القياس (القياسَ الكامل) وهو الشكل الأول.

أعظم ما يُعتمد هنا الشكل الأول، ولذلك إذا ضُبط انتهى الباب .. الشكل الأول ضروبُه وإنتاجُه وحقيقتُه انتهى الباب، هو المعوَّل.

ولذلك هو القياس الكامل عندهم من كل وجه، ولذلك الثاني والثالث يُردَّان إلى الأول.

قال: (الكامل) أي: المستقل باستلزام النتيجة، بحيث لا يحتاج إلى ردٍّ ولا استدلال. بل الثاني والثالث يُردَّان إليه.

قال العطار: (الكامل وهو ما يظهر عنه المطلوب من غير تغيير شيءٍ مما في القياس وهو الشكل الأول) يعني: في الشكل الثاني إذا جيء بالقياس لا بد أن يحصل فيه تغيير، أو عَكْس الصغرى مثلاً في الثاني ليرجع إلى الأول. إذاً: يتغير، والثالث يتغير أما هذا لا، والذي لا يتغير أكمل؛ لأنه يعتبر دليلاً على أنه مستقلٌ بذاته لا يفتقر إلى غيره، بخلاف الشكل الثاني يفتقر إلى الشكل الأول، والثالث يفتقر إلى الشكل .. إذاً: ليس لذاته، ليست به قوة مستقلة، وإنما لا بد من ردِّه إلى الشكل الأول فيتقوَّى ثم بعد ذلك يُنتِج.

ولذلك: (الكامل وهو ما يظهر عنه المطلوب من غير تغيير شيءٍ مما في القياس وهو الشكل الأول.

والقياس الاستثنائي غيرُ الكامل: ما يبيِّن لزوم النتيجة عنه بتغيير وضع الحدود كالشكل الثاني والثالث والرابع) هذا غير بيِّن وغير كامل.

(ثم القول اللازم يجب أن يكون مغايراً لكل واحدٍ من المقدمات، فإنه لو لم يُعتبر ذلك لزم أن يكون كلُّ قضيتين قياساً كيف كانتا لاستلزامهما أحدَهما) هذا قولٌ لبعضهم.

(وفيه: أن المتبادر من التعريف أن القول الآخر هو الباعث للتأليف فهو المترتب عِلمُه على علم المقدمتين) إذاً: لا بد من تلازم.

قال هنا: (فيتناول القياس الكامل وهو الشكل الأول، وغير الكامل وهو الاستثنائي والأشكال غير الشكل الأول، وهو باقي الأشكال.

وأشار بقوله: مَتَى سُلِّمَتْ -يعني: تلك الأقوال- إلى أن تلك الأقوال لا يلزم أن تكون مسلَّمة في نفسها) يعني: صادقة.

(بل أن تكون بحيث لو سُلِّمت أي: وإن كانت كاذبة) لكن نقدِّر ونفرض أنها صادقة، فنركِّب عليها القياس دخل في الحد.

(13/11)

________________________________________

لو قال: أقدِّر أن كل ناطقٍ ناهق .. لو قدَّر هكذا ورتَّب عليه قياس، يكون داخلاً في الحد؟ نعم. يكون داخلاً في الحد.

لو قال: (مَتَى سُلِّمَتْ) يعني: سلَّمها الخصم ولو من باب التنزُّل، فدخلت القضايا الكاذبة.

القضايا الكاذبة القياس يكون فاسداً، لكنه يدخل تحت الحد، وهذا كذلك يقال في القياس الفقهي هناك.

يعني: يكون القياس في ظنِّ المجتهد.

قال: (بقوله: مَتَى سُلِّمَتْ. إلى أن تلك الأقوال لا يلزم أن تكون مسلَّمة في نفسها) يعني: صادقة في نفسها مطابقةً للواقع.

(بل أن تكون بحيث لو سُلِّمت) أي: وإن كانت كاذبة.

(لزم عنها قولٌ آخر؛ ليدخل في التعريف القياس الذي مقدماتُه صادقةٌ -كما مر- والذي مقدماتُه كاذبة. كقولنا: كل إنسانٍ جماد، وكل جماد حمار.

فهذان قولان وإن كذَبا في أنفسهما إلا أنهما بحيث لو سُلِّما لزم عنهما أنَّ كل إنسان حمار؛ لأن لزوم الشيء للشيء كونُ الشيء بحيث لو وجِد وُجد لازمُه).

يعني: يدخل معنا القياس الكاذب، هذا مراده.

متى سُلِّمت تلك الأقوال بمعنى أنه لا يلزم أن تكون صادقة في نفسها مطابقة للواقع، بل متى ما اعتقد .. افترض ولو ذهناً عقلاً، ولو سفسطة أنها صادقة وبنا عليها لزِم عنه قولٌ آخر.

فحينئذٍ يكون هذا القياس بهذا النوع داخلاً في التعريف.

قال: (بل أن تكون بحيث لو سُلِّمت لزم عنها قولٌ آخر؛ ليدخل في التعريف القياس الذي مقدماتُه صادقة) وهذا هو الأصل.

(والذي مقدماتُه كاذبة) يعني: القياس الذي مقدماته كاذبة.

كل إنسان جماد كذِب، باتفاق هذا.

كل جماد حمار كذِب، كذِب في كذب كلُّه: المقدمة الصغرى والمقدمة الكبرى.

(فهذان قولان) المقدمتان (وإن كذبا في أنفسهما إلا أنهما بحيث لو سُلِّما) لو أراد أن يجعلهما قياس ويعتقد أن بينهما تلازم، وأَجرى قواعد الأشكال على هاتين المقدمتين (لزم عنهما أنَّ كل إنسان حمار) ولذلك كل إنسانٍ جماد وكل جماد حمار، الحد الأوسط جماد، هو محمولٌ في الصغرى موضوعٌ في الكبرى.

قال: (لزم عنهما أن كل إنسانٍ حمار؛ لأن لزوم الشيء للشيء) الشيء الأول لازم، والشيء الثاني ملزوم.

(كونُ الشيء) الملزوم (بحيث لو وُجِد) الشيء الملزوم (وُجد لازمه) كوجود الأربعة .. وجود الشيء الأربعة وُجد لازمُه الذي هو الزوجية، وحينئذٍ يلزم منه.

(وإن لم يوجدا في الواقع.

وإنما قال -المصنف في تعريف القياس-: مِنْ أَقْوَالٍ. ولم يقل من مقدمات؛ لئلا يلزم على قول مقدِّمات الدور) لئلا يلزم الدور.

(لأنهم عرَّفوا المقدمة بأنها ما جُعلت جزء قياس، فأخذوا القياس في تعريفها، فلو أُخذت هي أيضاً في تعريفه لزم الدور) ما هو العِلم؟ إدراكُ المعلوم، ما هو المعلوم؟ مشتقٌ من العلم.

اعرف أولاً العِلم ثم تعرف المعلوم، كيف نعرف العلم؟ هو إدراك المعلوم، وتبقى هكذا.

هذا كذلك: ما هي المقدِّمة؟ جزء قياس، قال هنا: (ما جُعلت جزء قياس) ما هو القياس؟ قولٌ مؤلَّف من مقدمين أو من مقدمات، ما هي المقدمة؟ ما جُعلت جزء القياس. هذا يسمى دوراً يعني: كلٌ منهما ينبني على الآخر لا يمكن عِلمُه، تبقى في دوامه.

ففراراً من الدور عبَّر بالأقوال.

قال: (لزِم الدور) أي: لتوقُّفش كلٍ منهما على الآخر بأخذِه في تعريفه.

(13/12)

________________________________________

(لأنهم عرَّفوا المقدِّمة بأنها ما جُعلت جزء قياس، فأخذوا القياس في تعريفها، فلو أُخذت هي أيضاً في تعريفه لزم الدور).

هذا ما يتعلق بتعريف القياس، الآن كله تعريف القياس هذا.

(قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ مَتَى سُلِّمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ) يعني: مغاير لهما.

ثم قسَّم لك القياس إلى نوعين: اقتراني واستثنائي.

(وَهُوَ) أي: القياس.

(إِمَّا اقْتِرَانِيٌ، وَإِمَّا اسْتِثْنَائِيٌ) يعني: اقتراني نسبة إلى الاقتران، واستثنائي نسبة إلى الاستثناء، وهو سهلٌ إن شاء الله.

قال: (إِمَّا اقْتِرَانِيٌ).

(وهو) أي: القياس الاقتراني.

(الذي) أي: القياس.

قلنا: الذي إذا جاءت في التعريف لا بد من جعل المعرَّف أو المقسوم موصوفاً له، هو الذي يكون جنساً.

(وهو الذي) الذي صفة لموصوفٍ محذوف أي: القياس.

(الذي لم يُذكر فيه نتيجةٌ ولا نقيضُها بالفعل).

يعني: ليس المراد أنه ليس له نتيجة لا، له نتيجة، لكن النتيجة أحياناً بلفظِها موضوعِها ومحمولِها تكون منصوصةً في القياس نفسه، وأحياناً لا تكون منصوصة، وإنما تكون المادة موجودة يعني: موضوع النتيجة موجود في إحدى المقدمتين، ومحمول النتيجة موجودٌ في إحدى المقدمتين، لكن التأليف والتركيب هذا غير موجود.

"العالم متغير" هذه مقدمة صغرى، كل متغير حادث، ما هي النتيجة؟ العالم حادث.

هل عندنا في المقدمتين العالم حادث؟ ليس عندنا، كلمة العالم هي موضوع الصغرى "العالم متغير".

وكل متغير حادث، حادث الذي هو محمول النتيجة هو محمول الكبرى.

إذاً: هي موزعة، حينئذٍ وجودُها في المقدمتين بالقوة؛ لأنها مبعثرة فيه، وإذا وُجد الشيء مبعثراً في شيءٍ ما قيل: هو موجودٌ بالقوة لا موجوداً بالفعل.

قال هنا: (وهو الذي لم يُذكر فيه) يعني: في ضمن المقدمتين.

(نتيجةٌ ولا نقيضُ النتيجة، بالفعل) أي: هي مذكورة فيه بالقوة، لماذا؟ (لأن القياس مشتملٌ على مادتها) ما هي مادة النتيجة؟ الموضوع والمحمول.

من أين جئنا بموضوع النتيجة من خارج؟ لا. من ضمن القياس، من أين جئنا بمحمول النتيجة من خارجٍ؟ لا. من ضمن القياس.

فالعالَم متغير كلمتان موجودتان في المقدمتين: الكلمة الأولى .. موضوع النتيجة هو موضوع الصغرى، ومحمولُه هو محمول الكبرى.

إذاً نقول: هي موجودة في القياس في المقدمتين، لكنها بالقوة لا بالفعل.

قال هنا: (لأن القياس مشتملٌ على مادتها وهو الموضوع والمحمول.

ومادة الشيء: ما يكون الشيء به بالقوة كالخشب للسرير فإنه سريرٌ بالقوة).

لو أراد أن يصنع .. ليس كل خشب، لو أراد أن يصنع سريراً فوضع الخشب، حينئذٍ نقول: هذا سريرٌ بالقوة؛ لأنه مادة للسرير، بقيت الصورة فقط، تقول: هذا الخشب سريرٌ، كيف جاء السرير؟ تنام عليه مباشرة لا، لا بد أن يُصنع أولاً.

فحينئذٍ نقول: هو سريرٌ بالقوة.

قال هنا: (كالخشب للسرير فإنه سرير بالقوة، فإن انضم إلى ذلك التأليف المخصوص وهو الجزء الصوري حصل ذلك الشيء بالفعل، والمراد بالقوة الاستعداد للحصول بالفعل).

إذاً: الاقتراني ذُكرت .. هكذا بعبارة مخالفة لِما ذكره المصنف: (الاقتراني دل على النتيجة بالقوة لا بالفعل).

(13/13)

________________________________________

القياس الذي يدل على النتيجة بالقوة. يعني: بمادة نتيجة يسمى قياساً اقترانياً، ولا نحتاج أن نقول: بالفعل ولا نقيضها.

(وهو الذي لم يُذكر فيه نتيجة ولا نقيضها بالفعل).

قال: أي: بمادتها وهيئتها قيْدٌ لإدخال الاقتران في تعريفه، ولو حُذف لم يدخل فيه لِذكرِ نتيجته بالقوة؛ لاشتماله على مادتها.

كقولنا: كل جسمٍ مؤلَّف، وكل مؤلَّفٍ حادث، فكل جسم حادث.

هذه هي النتيجة: هل ذُكرت بعينها؟ لا، هل ذُكرت بنقيضها؟ لا، هل ذُكرت بمادتها؟ نعم، المادة يعني: الموضوع والمحمول ذُكِرا منفردين في ضمن الصغرى والكبرى. نقول: نعم وُجدا بالمادة. أي: بالقوة.

فحينئذٍ هذا القياس دل على النتيجة بالقوة لا بالفعل.

قال: (هذه النتيجة ولم تُذكر هي ولا نقيضُها في القياس بالفعل، نعم ذُكرت فيه بالقوة لاشتماله على مادتها).

إذاً: القياس الاقتراني ضابطُه: هو القياس الذي دل على نتيجةِ القياس بالقوة لا بالفعل، ونفسِّر القوة بأنه قد اشتمل على مادة النتيجة وهي الموضوع والمحمول، لا مضمومين وإنما مفترقان.

قال: (وسُمي اقترانياً لاقتران الحدود) المراد بالحدود: الأصغر والأوسط والأكبر، سيأتي بيانها، اقترنت فيه الحدود.

اقترنت بمعنى أنها اتصلت، كيف اتصلت؟ هنا إما أن يُفصَل بلكن أو لا، القياس الاستثنائي هو الذي يؤتى بلفظ لكن استثنائية هنا عندهم اصطلاح خاص.

حينئذٍ قال: (لاقتران الحدود فيه) يعني: في القياس.

(بلا استثناء) أي: عدم الفصل بينها بلفظ لكن، وهذا إنما يكون في قياس الاستثنائي.

ولذلك تَقرأ: كل جسمٍ مؤلَّف، كل مؤلَّف حادث، وكل جسم حادث. ليس عندنا لكن.

إذاً: لم يُفصَل بين هذه الحدود الثلاثة: الأصغر، والأكبر، والأوسط.

قال هنا: (المراد بها الأصغر والأوسط والأكبر.

سُمِّي ما تنحل إليه المقدمة من موضوعٍ ومحمولٍ أو مقدَّمٍ وتالٍ حداً؛ لأنه ظرفٌ للنسبة، وقيل: سُمي بذلك لأن جمْع المقدمتين فيه بحرف دالٍ على الجمع، واجتماع المقدمتين في التحقيق أعني كلمة الواو العاطفة، كما أنَّ جمْعها في مقابلة الحرف الاستثنائي).

المراد: أنه لم يأتي بحرف لكن، وحرف لكن هي استثنائية وهي التي تختص بالنوع الثاني، هذا النوع الأول.

قال: (وَإِمَّا اسْتِثْنَائِيٌ) نسبة إلى الاستثناء.

(وهو الذي ذُكر فيه نتيجةٌ أو نقيضُها بالفعل) متقابلان.

إذاً: كلٌ من القياس الاستثنائي والاقتراني دلا على النتيجة.

فالنتيجة تؤخذ من القياس نفسه .. من المقدمتين، لكن القياس الاقتراني بالقوة لا بالفعل، القياس الاستثنائي بالفعل. النتيجة إما هي بعينها ملفوظة أو نقيضها، هذا أو ذاك.

ولذلك قال: (وَإِمَّا اسْتِثْنَائِيٌ) (وهو الذي ذُكر فيه نتيجةٌ أو نقيضُها بالفعل).

يعني: أن النتيجة أو نقيضَها مذكورٌ بمادته وهيئته، وإن طرأ عليه ما أخرجه عن كونه قضية وعن احتمال الصدق والكذب) لأنه سيكون جزء قضية.

لأنَّ الشرطية المتصلة هذه مؤلفة من حمليتين: إذا كانت الشمسُ طالعةً فالنهار موجودٌ، كلٌ منهما قد يكون النتيجة هي الجزء الأول، وقد تكون النتيجة هي الجزء الثاني، لا يلزم أن تأتي بالشرطية كاملة لا، وإنما يُذكر فيها -كما سيأتي في الأمثلة- بعضُ المقدمة.

(13/14)

________________________________________

قال هنا: (وهو الذي ذُكر فيه نتيجةٌ أو نقيضها بالفعل. أي: بالمادة والصورة) يعني: بذاتها، بنفسها.

فسَّر ذلك -كونه بالفعل .. أو نقيضها بالفعل- فسَّره بماذا؟ بأن يكون طرفاها أو طرفا نقيضِها مذكورَين فيه يعني: في القياس بالفعل، بأن يكون طرفاها: الموضوع والمحمول، أو المقدَّم والتالي.

قال: (أي: موضوعها ومحمولها إن كانت حملية، ومقدمُها وتاليها إن كانت شرطية، فعبّر بالطرفين لشمولها) يشمل الشرطية كذلك (تصويرٌ لِذكرِها أو نقيضها بالفعل فيه).

(بأن يكون طرفاها) أي: طرفا النتيجة أو طرفا نقيضها.

(مذكورَين) يعني: طرفين (فيه) في القياس بالفعل (أي: المادة والصورة).

قال: (كقولنا) في الثاني، ما هو الثاني؟ ما يتعلق بالنقيض (إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجودٌ لكن) جاء بحرف الاستثناء، سُمِّي استثنائياً للكن هذه.

قل هنا: (إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجودٌ) هذه شرطية متصلة، كبرى مقدَّمها الشمس طالعة، وتاليها النهار موجود.

قال: (لكنَّ النهار ليس بموجود، فالشمس ليست بطالعة) هذه النتيجة، الشمس ليست بطالعة هذه نقيضة الشمس طالعة.

إذاً: ذُكرت النتيجة هنا بنقيضها لا بذاتها، وعرفنا النقيض أنه بالإيجاب والسلب: الشمس طالعة الشمس ليست طالعة. حينئذٍ نقول: الثاني هذا النتيجة نقيضُها مذكورٌ في القياس .. نقيضُ النتيجة مذكور في القياس، فالقياس دل على النتيجة بنقيضها بالفعل، ليست مبعثرة فتجمعُها وإنما بلفظها: الشمس طالعة الشمس ليست طالعة.

هنا قال: (فقد ذُكر في القياس نقيض النتيجة وهو مقدَّم الشرطية بالفعل).

(وفي الأول) ما هو؟ دون النقيض .. بذاتها .. بالفعل، إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجودٌ، لكن الشمس طالعةٌ فالنهار موجود.

النهار موجود هذه نتيجة، ذُكرت بعينها وهي التالي من قوله: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، وسيأتي الضابط هنا إذا أَثبتَ ورفعتَ .. إلى آخره فيما يتعلق في الاستثنائي.

(لكن الشمس طالعةٌ فالنهار موجود، فالنتيجة هي عين التالي) نفسُه ذاتُه.

(فهي مذكورةٌ في القياس بالفعل).

قال هنا: (ولا يُشكِل بما مر من أنه يُعتبر في القياس أن يكون القول اللازم وهي النتيجةُ مغايراً لكل من مقدماته).

وهنا ليس كذلك، قلنا: هناك متى سُلِّمت لزِم عنها لذاتها قولٌ آخر، وهنا في هذا النوع بعينها موجودة، يرِد إشكال؟ يرِد إشكال.

مر معنا في التعريف: متى سُلِّمت تلك الأقوال لزم عنها لذاتها قولٌ آخر، قلنا: مغايرٌ لكلٍ منهما: من المقدمتين، أو منها: من الأقوال.

وهنا عينُها بالفعل، فما الجواب؟

قال: (ولا يُشكل بما مر من أنه يُعتبر) بما مر يعني: بالسبب الذي تقدَّم في تعريف القياس.

(من أنه يُعتبر) يعني: يُشترَط، الاعتبار دائماً نفسره بالاشتراط هذا الأصل فيه.

(أنه يُعتبر في القياس) أي: يُشترط في تحقُّقه.

(أن يكون القول اللازم وهو النتيجة مغايراً لكلٍ من مقدماته.

وهنا في الاستثنائي ليس القول الذي هو النتيجة كذلك) يعني: ليس مغايراً لكلٍ من مقدمتيه؛ لأنا نقول: بل هو كذلك).

(بل هو) أي: القول الذي هو النتيجة.

(كذلك) أي: مغايرٌ لكلٍ من المقدمتين. لماذا؟

(13/15)

________________________________________

(لأنه ليس بواحدٍ منهما -من المقدمتين- وإنما هو جزء إحداهما) هو عين التالي أو عين المقدَّم، أو نقيض التالي أو نقيض المقدَّم).

ونحن قلنا: مغاير لكلٍ منهما. يعني: لا توجد بعينها، وإنما وُجدت جزء قضية، ما هي المقدمة إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود؟ هي كلها، هذه مقدمة واحدة، لكنها مؤلَّفة من مقدَّم وتالي.

فإذا كان القول الآخر هو جزءٌ من تلك، حينئذٍ لم يكن عين المقدمة وإنما كان جزءاً منها، يعني: وجدوا مخرجاً.

(لأنا نقول: بل هو كذلك. أي: معارِضٌ لكلٍ من المقدمتين أو مغايرٌ لكل من المقدمتين، ليس بواحدٍ منهما -من المقدمتين-، وإنما هو) أي: القول اللازم (جزءُ إحداهما).

(وإنما هو) أي: القول اللازم (جزء إحداهما) أي: المقدمتين؛ لأنه تالي الشرطية.

(إذْ المقدمة) يعني: الشرطية الكبرى (ليست قولَنا: النهار موجود) وإنما المقدمة، ما هي؟

إذا كانت الشمس طالعة في النهار موجود، والنتيجة النهار موجود) فحينئذٍ هي جزءٌ من المقدمة.

(بل استلزام طلوع الشمس له الحاصل: ذلك من المقدَّم والتالي)

بل استلزام. استلزام هذا ظاهرُه أن المقدمة هي الاستلزام وليس كذلك.

وجوابه أن الكلام على حذف مضاف أي: دال الاستلزام. وهو مجموع قولنا: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود. هذه هي المقدمة، والنتيجة هي جزء من المقدمة.

حينئذٍ حصلت المغايرة؟ حصلت المغايرة.

(إذْ المقدمة) يعني: الشرطية الكبرى (ليست قولَنا: النهار موجود) فقط (بل استلزام طلوع الشمس) الذي هو المقدَّم.

(له) أي: النهار موجود الذي هو التالي.

(الحاصل ذلك من المقدَّم) يعني: الاستلزام والتالي، وسُمّي ذلك استثنائياً؛ لاشتماله على أداة الاستثناء أعني: لكن.

يعني: سُمِّي ذلك أي: المشتمل على النتيجة أو نقيضها بالفعل، سُمي استثنائياً لاشتماله على أداة الاستثناء أعني: لكن.

قال العطار: فإنها بمعنى إلا، في الاستثناء المنقطع، فعدَّه المناطقة الناظرون إلى المعنى حرف استثناء كما أنَّ إلا التي هي أداة استثناء حقيقةً بمعنى لكن.

إذاً: هي للاستدراك في الأصل، لكن يسمونها استثناءاً، ليست إلا، وإنما أرادوا به لكنَّ، وهذا مجرد اصطلاح عندهم.

أعني: لكن هذا الاصطلاح لأهل المنْطِق.

قال: (وَالمُكَرَّرُ بَيْنَ مُقَدِّمَتَيِ) يأتي بحثُه، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!

(13/16)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

بعدما قسَّم القياس إلى اقتراني واستثنائي، عرَفنا الفرق بينهما مع مثال كلٍ منهما قال: (وَالمُكَرَّرُ بَيْنَ مُقَدِّمَتَيِ القِيَاسِ) (فأكثرَ سواءٌ كان محمولاً، أم موضوعاً، أم مقدَّماً، أم تالياً) (يُسَمَّى حَدًّا أَوْسَطَ).

يعني: لا يصح أن يكون ثَم ترابط بين مقدِّمتي قياس إلا إذا كان بينهما وسط يعني: ما يجمع بينهما، وهو ما يسمى هنا بالحد الأوسط، لذلك قال: مكرَّر يعني: الذي تكرر.

(وَ) الحد (المُكَرَّرُ بَيْنَ مُقَدِّمَتَيِ القِيَاسِ) فأكثر مبنيٌ على ما سلف من جواز تركيب القياس الاقتران، وتقدم أن الحق خلافه.

يعني: من باب الظاهر فقط، وإلا هو كذلك قال: بأن القياس لا يتألف أكثر من مقدمتين، فإن وُجدت حينئذٍ هما قياسان بسيطان، وقوله: (فأكثر) حينئذٍ كأنه يخالف ما سبق لا، الحكم هنا باعتبار الظاهر.

(وَالمُكَرَّرُ بَيْنَ مُقَدِّمَتَيِ القِيَاسِ) (فأكثر سواءٌ كان محمولاً) أي: هذا المكرر (فيهما أو في أحدهما، أم موضوعاً، أم مقدماً، أم تالياً) فعمَّم المصنف هنا.

قال: (عمَّم؛ ليدخُل القياسُ الاقتراني المركّب من الحمليات والشرْطيات).

(سواءٌ) هذا فيه تعميم.

(من مقدمتي القياس) والمقدمة تُطلق ويراد به الحملية، وتُطلق ويراد بها الشرطية.

ومعلومٌ أن الحملية موضوع ومحمول، والشرطية مقدَّم وتالي، فهنا عمَّم فجاء بلفظ سواء.

(سواءٌ كان محمولاً) ما هو الذي كان؟ أي: المكرَّر بين مقدمتي القياس (محمولاً، أم موضوعاً، أم مقدَّماً، أم تالياً) هذا فيه تعميم ليشمل القياس الاقتراني المركَّب من الحمليات والشرطيات.

(فالأوسط إن كان تالياً في الصغرى مقدَّماً في الكبرى فهو الشكل الأول) يعني: ليس خاصاً بالحمليات، الحمليات أمرُها ظاهر.

(وإن كان العكس فهو الرابع، وإن كان تالياً فيهما فهو الثاني، وإن كان مقدَّماً فيهما فهو الثالث) فيما سيأتي إن شاء الله.

(وعلى قياس الحمليات شرائطُ إنتاجها حتى يُشترط في الأول -الشكل الأول- إيجاب الصغرى وكُلِّيَّة الكبرى، وفي الثاني اختلافُ المقدمتين في الكيف وكُلِّيَّة الكبرى نحو: كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، وكلما كان النهار موجوداً فالأرض مضيئة).

يعني: كل ما سيذكره المصنف هنا مما يتعلق بالحمليات فالشرطيات كذلك، كما أن الحمليات تكون في الشكل الأول والثاني والثالث والرابع، تنقسم الأشكال أربعة أنواع، هذا ليس خاصاً بالحمليات وإنما يدخل كذلك الشرطيات، وكل ما تعلَّق بالشكل من ضروب وأشكال ونتائج كذلك الشأن في الحمليات كالشأن في الشرطيات، والشأن في الشرطيات كالشأن في الحمليات. لا فرق بينهما البتة.

ولذلك عمَّم المصنف هنا قال: (سواءٌ كان محمولاً أم موضوعاً) هذا في الحمليات (أم مقدَّماً أم تالياً) فكل ما سيأتي حينئذٍ يُحمل على الحملية والشرطية.

(14/1)

________________________________________

(وتعميم الشارح فيه توركٌ على المصنف حيث خص البيان بالقياس الاقتراني الحملي بقوله: (يُسَمَّى حَدًّا أَوْسَطَ)؛ لتوسُّطه بين طرفي المطلوب).

(وَمَوْضُوعُ المَطْلُوبِ يُسَمَّى حًدًّا أَصْغَرَ.

وَمَحْمُولُهُ يَسَمَّى حَدًّا أَكْبَرَ).

قال: "موضوع ومحمول" إذاً: ما عمَّم، فأراد الشارح أن يُنكِّت عليه .. يورِّك عليه، فحينئذٍ قال: (سواءٌ كان محمولاً أم موضوعاً، أم مقدَّماً أم تالياً، فإن البيان المذكور إنما يجري فيه دون الشرط) لو قيدناه بالموضوع والمحمول (كما قصر البيان في العكس والتناقض عليه.

ولو قال بدل الموضوع المحكوم عليه، وبدل المحمول المحكوم به فإنَّ هذه الاصطلاحات المذكورة جارية في القياس الاقتراني المركَّب من الشرطيات لكان أضبط وأفيَد) من أجل التعميم؛ لئلا يُظن بأن الحكم خاصٌ بالحمليات.

قال: (وَالمُكَرَّرُ بَيْنَ مُقَدِّمَتَيِ القِيَاسِ يُسَمَّى حَدًّا أَوْسَطَ).

(أما تسميتُه حداً فلِوقُوعه طرفاً للقضية) يعني: جزءاً، الطرف ليس المراد الأخير لا، قد يكون موضوعاً، المراد طرفاً يعني: جزءاً من القضية.

(موضوعاً أو محمولاً، أو مقدَّماً أو تالياً، ولكونه طرفاً للنسبة).

قال الشارح: (لتوسطه بين طرفي المطلوب) المطلوب المقصود به هنا: النتيجة.

(لتوسطه بين طرفي المطلوب) يعني: طرفي النتيجة.

(لتوسطه عِلَّةٌ لتسميته أوسط أي: لأنه وسيلةٌ لنسبة الأكبر للأصغر، فهو في المعنى وسطٌ بينهما).

يعني: إذا قيل: العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادِث، أين المكرَّر هنا بين قضيتين؟ متغيِّر، جاء محمولاً في الصغرى .. العالم متغيِّر جاء محمولاً، وكل متغير هذا جاء موضوعاً.

حينئذٍ ما وجهُ الربط، هو جيء به للتوسط بين طرفي المطلوب يعني: يكون واسطة، كيف واسطة؟ العالم متغيِّر وكل متغيِّر .. دخل فيه العالم، صار من أفراده العالم.

إذاً: صار ارتباط بين المقدمتين، فصار شبه امتزاج بين المقدمتين.

فحينئذٍ العالم متغيِّر. حكَمْت على العالم بكونه متغيراً، ثم جئتَ بمقدمة كبرى قلتَ: كل متغيِّر حادث. هل هذه أجنبية من كل وجه عن المقدمة الصغرى لا، بينهما ارتباط، ما هو؟ أن العالم فردٌ من أفراد موضوعها، كيف عرَفنا؟ لكونه موضوعاً وحُمل عليه الحد الأوسط، ولذلك هو يُدخل الموضوع -موضوع الصغرى- في الوصف ثم يكون فرداً من أفراد موضوع الكبرى، فصار بينهما ترابط.

ولذلك قلنا فيما سبق أن المقدمتين هكذا: جاء زيدٌ وذهب عمروٌ. لا يكون بينهما قياس؛ لأنه ليس بينهما ارتباط، والارتباط إنما يحصل بالحد الأوسط، الحد الأوسط هو المكرر قد يكون موضوعاً في الصغرى محمولاً، قد يكون .. ولذلك عمَّم قال: (سواءٌ كان محمولاً، أم موضوعاً، أم مقدَّماً، أم تالياً) يأتي في هذه المواضع الأربعة.

حينئذٍ نقول: هذا يسمى الحد الأوسط (وَالمُكَرَّرُ بَيْنَ مُقَدِّمَتَيِ القِيَاسِ يُسَمَّى حَدًّا أَوْسَطَ) (لتوسطه بين طرفي المطلوب) العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادث العالم حادث، كيف جئنا إلى العالم حادث؟ قلنا: بواسطة، هذه الواسطة هي التحليل السابق الذي ذكرناه في إدخال أحد النوعين تحت الآخر، ولذلك قال هنا: (لتوسُّطه عِلَّةٌ لتسميته أوسط.

(14/2)

________________________________________

أي: لأنه وسيلةٌ لنسبة الأكبر للأصغر، فهو في المعنى وسطٌ بينهما).

قال: (وَمَوْضُوعُ المَطْلُوبِ) (في الحملية ومقدَّمُه في الشرطية) (يُسَمَّى حًدًّا أَصْغَرَ).

موضوع النتيجة العالم، حينئذٍ نقول: العالم هذا موضوع النتيجة، يسمى حداً أصغر.

أين هو موجود؟ هو موضوع الصغرى.

(يُسَمَّى حًدًّا أَصْغَرَ) (لأنه أخصُّ في الأغلب) أخص من ماذا؟ من المحمول.

(والأخصُّ أقلُّ أفراداً، بخلاف الأعم فهو أكثر أفراداً).

قال: (وَمَحْمُولُهُ) (أي: المطلوب في الحملية، وتاليهِ في الشرطية) (يَسَمَّى حَدًّا أَكْبَرَ).

إذاً: عندنا ثلاثة حدود: الأول الحد الأوسط وهو المكرر .. مقدمتين. يعني: الحد الأوسط تنظر إلى القياس .. المقدمتين، المكرر فيهما -في القضيتين .. في المقدمتين- هو الحد الأوسط.

الأصغر والأكبر تنظر إلى النتيجة، فموضوعُها هو الأصغر، ومحمولُها هو الأكبر، أو مقدَّمُها هو الأصغر، وتاليها هو الأكبر.

قال: (وَمَحْمُولُهُ) (أي: المطلوب في الحملية، وتاليه في الشرطية) (يَسَمَّى حَدًّا أَكْبَرَ) (لأنه أعمُّ في الأغلب).

العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادث العالم حادث، حادث أعم يشمل العالم وغيرَه.

(لأنه أعمُّ في الأغلب، والأعمُّ أكثر أفراداً).

قال: (وَالمُقَدِّمَةُ الَّتِي فِيهَا الْأَصْغَرُ تُسَمَّى صُغْرَى) (لاشتمالها على الأصغر).

(وَالَّتِي فِيهَا الْأَكْبَرُ تُسَمَّى كُبْرَى) (لاشتمالها على الأكبر) هذا لا إشكال فيه.

قال: (واقتران الصغرى بالكبرى في الإيجاب والسلب، وفي الكُلّيّة والجزئية يسمى قرينة وضَرْباً).

(اقتران) يعني: اجتماع واصطحاب.

(الصغرى بالكبرى) العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادث اصطحبا، ثم نُظر إليهما باعتبار السلب والإيجاب الكُلّيّة والجزئية، النظر هذا في هذه الهيئة من حيث السلب والإيجاب والكُلّيّة والجزئية لا باعتبار الحد الأوسط وتَكراره، أو الأصغر أو الأكبر لا، لا بالنظر إلى الحدود وإنما بالنظر إلى السلب والإيجاب أو الكُلّيّة والجزئية، يسمى قرينة وضرباً.

(ظاهرُه أن القرينة والضرب اسمٌ لذلك الاقتران، ومثلُه يقال في: وهيئة التأليف .. إلى آخره).

قال السعد: التحقيق أنَّ القياس باعتبار إيجاب مقدمتيه المقترنتين وسلبهما وكليتهما وجزئيتهما يسمى قرينة وضرباً.

وباعتبار الهيئة الحاصلة له من كيفية وضْع الحد الأوسط عند الأصغر، والأكبر من جهة كونِه موضوعاً لهما أو محمولاً عليهما، أو محمولاً على أحدِهما، وموضوعاً للآخر يسمى شكلاً). إذاً: فرْقٌ بين الضرب والشكل.

الضَّرْب يُنظر إلى السلب والإيجاب والكُلّيّة والجزئية، وأما باعتبار النظر في الحد في كونه محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى .. إلى آخره هذا يسمى شكلاً.

قال: (يسمى شكلاً. فقد يتعدد الضرب ويتحد الشكل) يتعدد الضرب .. الشكل واحد، حملٌ بالصغرى ووضعُه بكبرى، لكن تكون الأولى موجبة والثانية سالبة، تكون الأولى كُلّيّة والثانية كُلّيّة، الأُولى جزئية والثانية جزئية .. يتعدَّد، لكن الشكل واحد.

(وقد يكون بالعكس كالموجَبتين الكليتين من الشكل الأول والثالث.

وعبارة القطب: واقتران الصغرى بالكبرى في إيجابهما وسلبهما، وكليتهما وجزئيتهما يسمى قرينة.

(14/3)

________________________________________

والهيئة الحاصلة من وضع الحد الأوسط عند الحدين الآخرين بحسب حمله عليهما أو وضعه لهما أو حمله على أحدهما ووضعه للآخر تسمى شكلاً).

إذاً: اتفقا القطب والسعد.

قال هنا: (واقتران الصغرى بالكبرى في الإيجاب والسلب، وفي الكُلّيّة والجزئية يسمى قرينة وضرباً).

(وَهَيْئَةُ التَّألِيفِ) المراد به التركيب.

(وَهَيْئَةُ التَّألِيفِ) (أي: التركيب الحاصلة للقياس من اجتماع الصغرى والكبرى) (تُسَمَّى شَكْلاً) (تشبيهاً لها بالهيئة الحسية الحاصلة من إحاطة الحد الواحد أو الحدود بالمقدار).

إذاً: هيئة التأليف من اجتماع الصغرى والكبرى باعتبار الحد الأوسط. نقول: هذا يسمى شكلاً.

وبالنظر إلى السلب والإيجاب الكُلّيّة والجزئية يسمى ضرباً.

قال: (وَالْأَشْكالُ أَرْبَعَةٌ) الآن شُرُوعٌ في الأشكال (والأشكال أربعةٌ؛ لأن النظر هنا يكون باعتبار الحد الأوسط؛ لأن الحد الأوسط إن كان محمولاً) يعني: على الأصغر (في الصغرى موضوعاً) للأكبر (في الكبرى).

حملٌ بصغرى وضعُه بكبرى، هذا يسمى شكلاً أولاً.

كل جيم باء وكل باء ألف، انظر هنا: باء تكرَّر صار محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى.

إذاً: إذا تكرَّر الحد الأوسط، لا بد من وجود حد أوسط.

إن كان محمولاً في الصغرى، موضوعاً في الكبرى فهو الشكل الأول.

إذاً: (لِأَنَّ الحَدَّ الْأَوْسَطَ إِنْ كَانَ مْحمُولاً) على الأصغر (فِي الصُّغْرَى مَوْضُوعًا) للأكبر (فِي الْكُبْرَى) نحو: كل جيم باء وكل باء ألف (فَهُوَ الشَّكْلُ الْأَوَّلُ)

(الحَدَّ الْأَوْسَطَ إِنْ كَانَ مْحمُولاً فِي الصُّغْرَى مَوْضُوعًا فِي الْكُبْرَى) يسمى شكلاً أول، هذا أهم شيء، إذا حفظتَه طيب هذا.

الحد الأوسط إن كان محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى، حينئذٍ يسمى شكلاً الأول.

العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادث هذا من الشكل الأول.

لأن الحدَّ الأوسط وهو متغير وقع محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى.

(فَهُوَ الشَّكْلُ الْأَوَّلُ) لأنه على الترتيب الطبيعي وهو الانتقال من الأصغر للأوسط، ثم الانتقال منه إلى الأكبر.

قال هنا: (وَإِنْ كَانَ مَحْمُولاً فِيهِمَا) يعني: الحد الأوسط محمولاً فيهما: في الصغرى والكبرى، نحو: كل جيم باء ولا شيء من ألف باء.

انظر باء هو الحد الأوسط، جاء مكرراً. محمولاً في الصغرى ومحمولاً في الكبرى نحو: كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم مثلاً، حينئذٍ نقول: حيوان هذا حدٌ أوسط جاء محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى.

قال هنا: (فَهُوَ) الشكل (الثَّانِي) يعني: إن كان الأوسط محمولاً فيهما أي: في المقدمتين.

(فَهُوَ) الشكل (الثَّانِي).

(يعني: يتلو الشكل الأول؛ لأنه شابه الأول في حمل الأوسط في صُغراه التي هي أشرف من كُبراه؛ لاشتماله على الأصغر الأشرف من الأكبر.

نحو: كل جيم باء ولا شيء من ألف باء، فهو الشكل الثاني.

(وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا فِيهِمَا) يعني: في المقدمتين الصغرى والكبرى نحو: كل جيم باء وكل جيم دال صار موضوعاً في الصغرى والكبرى.

جيم باء، جيم دال. إذاً: جيم هو الحد الأوسط.

(فَهُوَ) الشكل (الثَّالِثُ).

(لأنه أشبه الأول في وضع الوسط للأكبر في الكبرى نحو: كل جيم باء وكل جيم دال.

(14/4)

________________________________________

وإن كان موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى -عكس الشكل الأول- نحو: كل باء جيم وكل ألف جيم فهو الشكل الرابع المخالِف للأول في مقدمتيه البعيد عن مقتضى الترتيب الطبيعي جداً؛ لأنَّ فيه انتقالاً من الوسَط للأصغر، ثم من الأكبر إليه).

إذاً: هذه أربعة أشكال: الأول: حملٌ بصغرى وضعٌ بكبرى. الذي هو الشكل الأول.

الثاني: أن يكون محمولاً فيهما.

الثالث: أن يكون موضوعاً فيهما.

الرابع: عكس الأول: أن يكون موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى.

قال رحمه الله تعالى: (فإن قلتَ) اعتراض (فلا يتكرر الحد الأوسط إلا في الثاني والثالث) يعني: دون الأول والرابع (فلا يتكرر الحد الأوسط فيهما، وتَكراره شرطٌ في كل شكلٍ).

يعني: مرادُه ما مرَّ معنا مراراً وهو: أن الموضوع إذا نُقل هل يُنقل بِصدقِه على ما صدق عليه في الأول أو لا؟ هذا المراد.

يعني: إذا قلنا: كل العالم متغيِّر، المتغيِّر المراد به المفهوم لا الأفراد. وكل متغيِّر هنا مكرر، هل المراد به المفهوم؟ لا. المراد به الأفراد، فكيف تكرر؟ إذاً: اختلفا.

قال السعد: الحد الأوسط في الشكل الأول والرابع ليس بمكررٍ؛ لأنه إذا وقع محمولاً فالمراد به المفهوم، وإذا وقع موضوعاً فالمراد به الذات) يعني: الأفراد، والجواب ما سيذكره المصنف.

قال: (فإن قلتَ: فلا يتكرر الحد الأوسط إلا في الثاني والثالث؛ لأنَّ المراد بالأوسط: إذا وقع موضوعاً الذات -يعني: الأفراد- وإذا وقع محمولاً المفهوم).

اللفظ ولو اتحد، ولو كان عينَه، إذا وقع موضوعاً فالمراد به الذات -يعني: الأفراد- وإذا وقع محمولاً فالمراد به المفهوم.

يعني: المعنى الحقيقي الذي يكون ذهنياً.

قلنا: (وقوعُه) يعني: الأوسط.

(محمولاً) في صغرى الأول مثلاً.

(وإن أُريد به) يعني: بالأوسط (المفهوم، لكن ليس المراد أن ذات الموضوع عينُ المفهوم).

(ليس المراد أن ذات الموضوع) يعني: أفراد الأصغر (عين المفهوم) للأوسط.

(بل أنه يصدُق عليه المفهوم) يعني: المراد به الأفراد ولا شك أنه إذا أُريد به الأفراد لا ينفك عنه المفهوم كُلّياً .. متباينان لا، الأفراد يصدُق عليه المفهوم.

الإنسان حيوان ناطق، إذا اعتبرت الإنسان أنه محمولاً، فالمفهوم هو الحيوان الناطق، وإذا اعتبرتَه أفراداً فحينئذٍ الأفراد هذه لم تنفك عن المعنى، بل يصدُق عليها. هذا المراد هنا.

ولذلك قلنا: العالم متغيِّر. أدخلتَ العالم، فحكمت عليه بأنه متغيِّر، ثم صار العالم متغيِّر داخلاً في كل متغيِّر، صار فرداً من أفراده.

فيصدُق عليه المفهوم كما يصدُق عليه الذات، فحينئذٍ لا انفكاك.

قال: (قلنا: وقوعُه محمولاً) يعني: الأوسط محمولاً في الصغرى .. الأول مثلاً.

(وإن أُريد به المفهوم) لا نخالِف في هذا. ما دام أنه وقع محمولاً فالمراد به المفهوم.

(لكن ليس المراد أن ذات الموضوع) إذا جُعل موضوعاً (عين المفهوم) للأوسط.

(بل أنه يصدُق عليه) أي: أن ذات الموضوع وأفراده يصدق عليها المفهوم للأوسط، فيتكرر الأوسط في جميع الأشكال لأنه بمنزلة أن يقال: ذات الأصغر يصدُق عليه مفهوم الأوسط، وكلُّ ما يصدُق عليه مفهوم الأوسط يثبُت له الأكبر.

(14/5)

________________________________________

ذاتُ الأصغر يصدُق عليه مفهوم الأوسط: العالم ذات الأصغر، يصدق عليه مفهوم الأوسط أنه متغيِّر، وكلُّ ما يصدق عليه مفهوم الأوسط أنه متغيِّر يثبُت له الأكبر وهو أنه حادِث.

قال رحمه الله تعالى: (وقدَّم الشكلَ الأول لأنه المنتِج للمطالب الأربعة كما سيأتي) يعني: له إنتاجات أربعة وكلُّها مستوفاة.

قال هنا: (للمطالب الأربعة أي: الموجَبة الكلية والجزئية والسالبة كذلك).

قال: (ولأنه على النظم الطبيعي).

(أي: موافق للطبع في الاستدلال على المطلوب بخلاف باقي الأشكال، ولذا تُرَدُّ إليه عند الاحتياج إليها، فمن ثَم جُعل في الرتبة الأُولى، والنظم الطبيعي هو الانتقال على التدريج من الأصغر إلى الأوسط) العالم تُدخِله في المتغير، ثُم تنتقل إلى المتغير فيكون موضوعاً، فدخل فيه العالم متغيّر وانتقلتَ إلى أنْ صدَقَ عليه محمولُ الكبرى ثم النتيجة.

إذاً: فيه ترتيب، وهذا الترتيب موافق للطبيعة.

(الانتقال على التدريج من الأصغر للأوسط، ثم منه إلى الأكبر. وهذا لا يوجد إلا في الأول فهو أقرب إلى الطبع، بمعنى أن الطبيعة مجبولةٌ على الانتقال من الشيء إلى الواسطة، بأن يتصور العقل أولاً شيئاً، ثم يحكُم عليه بالواسطة بأن يحمِلها عليه، ثم يحكم على الواسطة بأن يحمل عليه شيئاً آخر، فيلزم من هذين الحُكمين الحكمُ على الشيء الأول بالشيء الآخر نحو: العالم متغير وكل متغير حادث؛ فإنك لما حكمتَ على جميع أفراد العالم بالمتغير، وحكمت على جميع أفراد المتغير بحادث لزِم أن يُحكم على جميع أفراد العالم بحادث، فيكون حكم الواسطة مقتضياً للمطلوب) على ما ذكرناه (أي: الحُكم على العالم بأنه حادث).

قال رحمه الله تعالى: (ولأنه على النظم الطبيعي وهو الانتقال من الموضوع إلى الحد الأوسط، ثم منه إلى المحمول حتى يلزم الانتقال من الموضوع إلى المحمول).

يعني: لو قال من الحد الأصغر إلى الحد الأكبر كان أحسن، من الموضوع يعني: الحد الأصغر. إلى المحمول يعني: الحد الأكبر. هذا أحسن.

(ثم الثاني) يعني: ثنَّى به .. الشكل الثاني.

(لأنه) أي: الشكل الثاني.

(أقربُ الأشكال الباقية إليه) يعني: الأَول.

(لمشاركته الثاني إياه) الأول، في ماذا؟ (في صغراه التي هي أشرف المقدمتين؛ لاشتمالها على الموضوع الذي هو أشرف من المحمول؛ لأن المحمول إنما يُطلب لأجله) للموضوع (إيجاباً أو سلباً).

إذاً: هنا الثاني ثنَّى به لأنه اشترك مع الأول في الصغرى، في أن الحد الأوسط في كلٍ منهما محمولاً. الشكل الأول: الحد الأوسط محمول في الصغرى، وفي الثاني: كذلك محمولٌ في الصغرى بخلافه في الكبرى؛ لأنه محمولٌ فيهما.

فحينئذٍ نقول: اشترَكا. إذاً: الجزء الأول استوى فيه الشكل الأول والثاني فصار قريباً منه.

(ثم الثالث لأن له قُرباً ما إليه؛ لمشاركته إيَّاه في أخص المقدمتين) وهي الكبرى.

وإنما كانت أخص لاشتمالها على محمول المطلوب الذي يُطلب لأجل الموضوع فيكون الموضوع أشرف منه وهو أخص) القضية المشتملة عليه أخص.

(ثم الثالث لأنَّ له) يعني: الثالث (قُرباً ما إليه) للأول.

(لمشاركته) يعني: الثالث (إيّاه) الأول (في أخص المقدمتين، بخلاف الرابع لا قرب له أصلاً) لأنه عكْس السابق.

(14/6)

________________________________________

يعني: في الصغرى خالفَه صار موضوعاً، وفي الكبرى خالفَه فصار محمولاً.

(لمخالفته إياه فيهما، وبُعدِه عن الطبع جداً؛ إذ لا يُستحصل به المطلوب إلا بعد أعمالٍ كثيرة، ولذا أًسقَطه الرئيس والفارابي من الأشكال) يعني: عدوا الأشكال ثلاثة، الرابع هذا لا يُلتفت إليه.

الخِسَّة المراد بها اشتمالها على محمول المطلوب الذي يُطلب لأجل الموضوع، فيكون الموضوع أشرف منه وهو أخص.

عندهم قاعدة: الموضوع أشرف من المحمول، والنتيجة فيها موضوعٌ وفيها محمول. حينئذٍ المقدِّمة التي اشتملت على موضوع النتيجة أشرف، وأشرف من المقدمة التي اشتملت على المحمول، هذا الذي يترتب عليه قضية الشرف.

(وَالشَّكْلُ الثَّانِي مِنْهَا) من الأشكال أي: الأشكال الأربعة، وهو ما حُمل فيه الأوسط في المقدمتين نحو: كل فرسٍ حيوان ولا شيءٍ من الحجر بحيوان، يُنتِج لا شيء من الفرس بحجر.

(يَرْتَدُّ إِلَى الْأَوَّلِ) يعني: يَرجع إلى الأول، فالرِّدة هنا اصطلاحية عُرفية يعني: رجَع إلى الأول.

(وَالشَّكْلُ الثَّانِي مِنْهَا يَرْتَدُّ إِلَى الْأَوَّلِ) يعني: يرجع إلى الأول. بماذا؟

(بَعَكِسِ الْكُبْرَى) يعني: تأتي بعكسها، لا بد أن تكون ضابط العكس، لا بد أن تأتي بالعكس.

(وهي في قولنا في المثال المتقدم: لا شيء من الحجر بحيوان وعكسُه: لا شيء من الحيوان بحجر؛ لأنها سالبةٌ كُلِّيَّة، عَكْسُها كهي) يعني: السور السلبي يبقى كما هو.

(ويُضم هذا العكس للصغرى فيَرجع للأول هكذا: كل فرسٍ حيوان) جاء محمولاً (ولا شيء من الحيوان بحجر) جاء موضوعاً، هذا الشكل الأول. رَدَدته بعد أن كان محمولاً فيهما إلى الشكل الأول (يُنتِج: لا شيء من الفرس بحجر).

إذاً: (الثَّانِي مِنْهَا يَرْتَدُّ إِلَى الْأَوَّلِ) يعني: ترُده إلى الأول، كيف ترُده؟

إذا وقع محمولاً فيهما، ترُده (بَعَكِسِ الْكُبْرَى) تأتي بالعكس.

وحينئذٍ ينتظم منها قياس، فيكون محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى.

قال: (لأنها المخالِفة للنظم الطبيعي) لأنها أي: العكس .. الكبرى.

الكبرى مخالفة للنظم الطبيعي يعني: لماذا نأتي بعكسها؟ لأنها مخالفة للنظم الطبيعي، فنحتاج إلى تقريبها ما يكون موافقاً للطبيعة.

يرد السؤال أولاً، الشكل الثاني مخالف للأول، يمكن أن ترُده إلى الشكل الأول، ماذا تصنع؟ تعكس الكبرى، لماذا الكبرى دون الصغرى؟ لأنها هي التي خالفت النظم الطبيعي، ونحن قلنا الشكل الثاني أقلَّ موافقة للطبيعة، حينئذٍ نريد أن نرُده، نرُده بماذا؟ بعكس الكبرى؛ لأن الكبرى هي التي وقع فيها الخلاف.

(لأنها) أي: الكبرى في الشكل الثاني هي المخالفة للنظم الطبيعي.

(بأن تقول في مثاله السابق) هذا تصوير لعكس الكبرى (في مثاله السابق: ولا شيء من باء ألف) ذكرناه فيما مضى.

(ولا شيء من باء ألف لأنها سالبة كُلِّيَّة عكسُها مثلُها).

قال هنا: (وَالثَّالِثُ يَرْتَدُّ إِلَيْهِ) يعني: إلى الأول.

(وَالثَّالِثُ) ما هو الثالث؟ أي: الذي الحد الأوسط موضوعٌ فيه فيهما: كل جسمٍ مؤلَّف وكل جسم حادث .. جسم جسم، وقع موضوعاً في المقدمتين.

قال: (وَالثَّالِثُ يَرْتَدُّ إِلَيْهِ) يعني: الأول.

(بِعَكْسِ الصُّغْرَى) لأنها هي المخالفة.

(14/7)

________________________________________

(لأنها) أي: الصغرى في الثالث (المخالفة لذلك) أي: للنظم الطبيعي.

(بأن تقول في المثال السابق: بعض باء جيم) لأنها كُلِّيَّة.

(يَرْتَدُّ) أي: يَرجع (إِلَيْهِ بِعَكْسِ الصُّغْرَى) بأن يقال في المثال: بعض المؤلَّف جسم؛ إذ عكسُ الموجبة الكُلِّيَّة سالبة جزئية.

قال: (إذ عكسُ الموجَبة الكُلِّيَّة موجَبة جزئية، ويُظم هذا العكس صغرى لكبرى، فيرجع للأول هكذا: بعض المؤلَّف جسمٌ وكل جسمٍ حادث يُنتِج بعض المؤلَّف حادث.

حينئذٍ ينتظم الثالث مع عكس الصغرى فيكون كالأول) رجع إلى الأول، بأنْ كان محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى.

قال هنا: (بأنها المخالفة لذلك -أي: النظم الطبيعي- وهي صغرى الأَول، بأن تقول: تصوير العكس الصغرى، مثاله السابق -أي: في قوله: وإن كان موضوعاً فيهما- نحو: كل جيم باء وكل جيم دال بعض باء جيم) هذه الصغرى بعد عكسِها؛ لأنها موجبة كُلِّيَّة وعكسها موجبة جزئية.

(وَالرَّابِعُ) (أي: ما وُضع فيه الحد الأوسط في الصغرى، وحُمل في الكبرى نحو: كل إنسانٍ حيوان وكل ناطقٍ إنسان).

صار موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى، عكس الشكل الأول، هذا أبعدُها.

(يَرْتَدُّ إِلَيْهِ) يعني: يرجع إلى الأول (بِعَكْسِ التَرْتِيبِ).

تصوير هذا العكس الترتيبي:

بأن تقول في مثاله السابق: كلُّ باء ألف كل جيم باء. إذاً: عكَسَه قال: كل ألف باء وباء جيم. يعني: يَجعل الموضوع محمولاً والمحمول موضوعاً وهكذا.

قال هنا: (بِعَكْسِ التَرْتِيبِ) (أي: بين المقدمتين بتأخير الصغرى وجعلِها كبرى، وتقديمِ الكبرى وجعلِها صغرى، بأن تقون مثال المتقدم: كل ناطق إنسان وكل إنسان حيوان، يُنتج: كل ناطقٍ حيوان).

إذا رَدَدتَه إلى الأَول وهو الشكل الرابع رَدَدته إلى الأول (بِعَكْسِ التَرْتِيبِ) يعني: بقلْب المقدمتين.

قال هنا: (أَوْ بِعَكْسِ المُقَدِّمَتَيْنِ جَمِيعًا) (أي: بعكس كل واحدة باقيةً في محلها) يعني: تأتي بعكسها، المقدمة الصغرى تُبقيها كما هي وتأتي بعكسِها، والمقدمة الكبرى تبقيها كما هي وتأتي بعكسها، فتُثبت العكس.

كأنه يقول: الارتداد في الرابع له صورتان: إما عكسُ الترتيب، وإما إثبات الصغرى في محلها لكن بعكسها -العكس الاصطلاحي المستوي- أو إبقاء الكبرى في محلها مع عكسها –الذي هو عكس المستوي- فله صورتان.

(أَوْ بِعَكْسِ المُقَدِّمَتَيْنِ جَمِيعًا) (أي: بعكس كل واحدة باقيةً في محلها، بأن تقول في المثال المتقدم: بعض الحيوان إنسان) هو كل (وبعض الإنسان ناطق فقد رجع إلى الأول لكن لضربٍ عقيم لعدم كُلِّيَّة الكبرى) يعني: لا يُنتج.

يعني: الرابع رَدَدناه بلا فائدة؛ لأنه لن ينتج، هو رجَع لكنه صار عقيماً، والعقيم الذي لا يُنتج. هذا المراد به هنا.

(أَوْ بِعَكْسِ المُقَدِّمَتَيْنِ جَمِيعًا) (بعكس كل واحدة باقيةً في محلها).

(بأن تقول) يعني: التصوير لهذا العكس (فيه: بعض جيم باء وبعض باء ألف، وإن كان هذا غير منتجٍ لعدم كُلِّيَّة الكبرى.

ومثال ما يُنتج منه) من الرابع (كلُّ جيم باء ولا شيء من ألف جيم فيُردُّ بالعكس) الصورة الثانية (إلى بعض باء جيم ولا شيء من جيم ألف) هذا تمثِّله بالحيوان الناطق وتأتي معك.

(14/8)

________________________________________

ذكَره هنا: (بأن تقول فيه) أي: المثال السابق (تصويرٌ لعكس المقدمتين: بعض جيم باء .. ) إلى آخره.

(لأن الموجبة الكُلِّيَّة عكسُها موجَبة جزئية، وإن كان) هذه الواو حالية (منه) أي: الرابع (بعكس مقدمتيه).

قولُه: جيم باء أي: كل إنسان حيوان. كل جيم باء السابق هذا.

ولا شيء من ألف جيم أي: من الحجَر إنسان بالعكس أي: لكل مقدمة مع بقائها في محلها، قولُه: بعض باء جيم أي: هذا، فيُرد بالعكس إلى بعض باء جيم.

أي: لأن عكس الموجَبة الكُلِّيَّة موجبة جزئية، ولا شيء من جيم ألف؛ لأن السالب الكُلِّيَّة عكسُها مثلها، يُنتج ليس بعض باء ألف: ليس بعض الحيوان حجراً مثلاً.

قال رحمه الله تعالى: (وَالْكامِلُ) أي: الشكل الأول.

(الْبَيِّنُ الْإِنْتَاجِ) الكامل إنما كان كاملاً لإنتاجه المطالب الأربعة.

أي: لإنتاجه المطالب الأربعة مع كونه على النظم الطبيعي.

(الْبَيِّنُ) أي: الظاهر الذي لا خفاء في إنتاجه.

(الْبَيِّنُ الْإِنْتَاجِ) إنما (هُوَ) الشكل (الْأَوَّلُ) لما مر؛ لأنه موافقٌ للطبع .. إلى آخره.

(وَالشَّكْلُ الرَّابِعُ مِنْهَا بَعِيدٌ عَنِ الطَّبْعِ جِدًّا.

والَّذِي لَهُ طَبْعٌ مُسْتَقِيمٌ وَعَقْلٌ سَلِيمٌ) سليم من موانع الإدراك، أو لا خلل فيه.

(والَّذِي لَهُ طَبْعٌ) أي: ذهن (مُسْتَقِيمٌ) مستقيم أي: لا عوج فيه.

(لاَ يَحْتَاجُ إِلَى رَدِّ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ) وإنما مباشرة يأتي بالنتائج.

(لاَ يَحْتَاجُ إِلَى رَدِّ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ) في استنتاجه لأَقربِيَته إليه كما مر؛ لأنه قريبٌ منه يعني: اشتركا في المقدمة الصغرى، كلٌ منهما: الحد الأصغر صار موضوعاً، فهو قريبٌ منه لا يحتاج إلى أن يُعمل ذهنه فيرُده إلى الشكل الأول، مباشرة يأتي بالنتائج.

قال: (في استنتاجه لأقربيته) يعني: الثاني (إليه) يعني: إلى الأول.

(كما مر) أي: في قوله: (ثُم الثاني لأنه أقرب الأشكال الباقية إليه .. ) إلى آخره.

قال هنا –فائدة-: (ولأن حاصل الثاني الاستدلال بتنافي اللوازم على تنافي الملزومات مثلاً: كل إنسانٍ حيوان ولا شيء من الحجر حيوان، قد تنافى لازم الإنسان وهو الحيوان ولازم الحجر، لا شيء من الحجر حيوان، مع أنه أثبت كل إنسان حيوان، ولا شيء من الحجر حيوان) نفاه (وقد تنافى هنا لازم الإنسان وهو حيوان، ولازم الحجر وهو لا حيوان، فلزم تنافي الإنسان والحجر).

قال هنا: (وَإِنَّمَا يُنْتِجُ الثَّانِي عِنْدَ اخْتِلاَفِ مُقَدِّمَتَيْهِ بِالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ).

أخَّر شرط الإنتاج، يعني: الأشكال الأربعة كل واحد لها شروط.

قال هنا: (وَإِنَّمَا يُنْتِجُ الثَّانِي عِنْدَ اخْتِلاَفِ مُقَدِّمَتَيْهِ بِالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ).

(عِنْدَ اخْتِلاَفِ مُقَدِّمَتَيْهِ) (أي: وعند كُلِّيَّة كبراهما).

يعني: شرطُه الاختلاف في الكيف: إحداهما موجبة والأخرى سالبة، مع كُلِّيَّة الكبرى يعني: له شرطان.

(أي: وعند كُلِّيَّة كبراهما، فإنتاج الثاني متوقفٌ على شرطين: اختلاف المقدمتين في الكيف في السلب والإيجاب، وكُلِّيَّةِ كُبراهما).

لكن اقتصر على أحد الشرطين.

(14/9)

________________________________________

قال: (وَإِنَّمَا يُنْتِجُ الثَّانِي عِنْدَ اخْتِلاَفِ مُقَدِّمَتَيْهِ بِالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ)

قال: (بأنْ) الباء هذه للتصوير يعني: أراد أن يفصِّل لك ما سبق، الاختلاف ما المراد به؟

(بأن تكون إحداهما موجَبة) إحدى المقدمتين الصغرى أو الكبرى، لكن إذا كانت الصغرى موجبة لزم الثانية أن تكون سالبة، وإذا كانت الصغرى سالبة لزم أن تكون الكبرى موجبة.

(بأن تكون إحداهما موجبة والأخرى سالبة؛ إذ) للتعليل، لماذا هذا القيد؟

(لو كانتا موجبتين أو سالبتين لاختلفت النتيجة) يعني: اضطربت، تصدُق تارة ولا تصدُق تارة، ومر معنا أنه إذا كانت النتيجة مضطربة غير مطردة لا قاعدة؛ لأن القوم هنا لا يُقعِّدون هنا إلا للمطّرد، فغير المطَّرد حينئذٍ لا يقعِّدون له.

(لاختلاف النتيجة؛ إذ لو كانتا موجَبتين) هذه علة (لاشتراط اختلافهما كيفاً في إنتاجه).

(لاختلاف النتيجة) أي: بصدقِها تارة وكذِبها أُخرى، وهذا يفيد أنها ليست لازمة.

(يُفيد عدمَ لزومها القياس، وأنها ليست نتيجتَه؛ إذ يستحيل انفكاكُ اللازم عن ملزومه) الملزوم الذي هو المقدمتان، واللازم الذي هو النتيجة.

فَإِنَّ لاَزِمَ المُقَدِّمَاتِ ... بِحَسَبِ المُقَدِّمَاتِ آتِ

 

(إذ لو كانتا موجَبتين أو سالبتين لاختلفت النتيجة) أراد أن يبين .. أمثلة ما نحتاجها.

(أما في الموجبتين، فلأنه يصدق كل إنسان حيوان وكل ناطق حيوان).

كل إنسان حيوان صادق، كل ناطق حيوان صادق.

(والحق الإيجاب) أي: كون النتيجة موجبة (وهي: كل إنسانٍ ناطق كما استلزمه القياس).

إذاً: صدَقتْ هنا.

(ولو بدَّلنا الكبرى: كل ناطق حيوان بقولنا: وكل فرسٍ حيوان كان الحق السلب أي: كون النتيجة سالبة وهي: لا شيء من الإنسان بفرس أي: والذي أنتَجه القياس الإيجاب).

(الحق السلب) يعني: الحق الذي ينبغي أن تكون النتيجة عليه لكن لم تكن وإنما جاءت موجَبة إذاً: لم تطرد النتيجة.

(والحقُّ السلب) يعني: الحق أن تكون سالبة، لكن النتيجة ليست سالبة بل هي موجبة.

قال هنا: (السلب أي: كون النتيجة سالبة وهي: لا شيء من الإنسان بفرس أي: والذي أنتجه القياس الإيجاب وهو: بعض الإنسان فرس. وهي كاذبة.

وأما في السالبتين فلأنه يصدُق: لا شيء من الإنسان بحجر، ولا شيء من الفرس بحجر، والحق السلب.

أي: وهو لا شيء من الإنسان بفرس كما أنتجه القياس) صدَقَت يعني.

(ولو بدّلنا الكبرى بقولنا: ولا شيء من الناطق بحجر كان الحق الإيجاب أي: وهو كل إنسانٍ ناطق. والقياس المذكور يُنتج: لا شيء من الإنسان بناطق وهو كاذب).

إذاً: هذا السر في اشتراط اختلاف الكيف: أنَّ إحداهما تكون سالبة والأخرى تكون موجبة.

إذ لو كانتا سالبتين صدَقت تارة وكذَبت تارة، أو كانتا موجبتين صدقت تارة وكذبت تارة أخرى. هذا المراد.

قال هنا: (ويُشترط في إنتاجه) أي: الثاني.

(أيضاً كُلِّيَّة الكبرى) لم يذكره الماتن، وإنما ذكره زيادة الشارح.

(ويُشترط في إنتاجه) يعني: إنتاج الثاني (أيضاً كما اشتُرط فيه اختلاف الكيف) فهما شرطان لا بد من توفرهما معاً.

قال: (كُلِّيَّة الكبرى، وإلا) أي: تكن كُلِّيَّةً بأن كانت جزئية.

(14/10)

________________________________________

(لاختلفت النتيجة) يعني: لم تطرد، وهذا ينافي كونها لازمة للقياس، إذا لم تطرد بمعنى أنها تصدق تارة وتكذب أخرى، فحينئذٍ نقول: هذا ينافي كونها لازمة للقياس؛ لأن اللازم لا يتخلف عن ملزومه.

قال هنا: (وإلا لاختلفت النتيجة).

أي: بصِدقها مع صدق القياس تارة وكذِبها معه أخرى.

وهذا يستلزم أنها ليست نتيجة لأنها لازمٌ وهو لا ينفك عن ملزومه. كقولنا: لا شيء من الإنسان بفرس، وبعض الحيوان فرس، والحق الإيجاب: كل إنسانٍ حيوان، فنتيجة القياس: بعض الإنسان ليس بحيوان وهو باطل.

ولو قلنا: وبعض الصاهل فرس كان الحق السلب أي: بعض الإنسان ليس بصاهل كما أنتجه القياس.

قال هنا: (وكقولنا: كل إنسانٍ حيوان) صادقة (وبعض الجسم ليس بحيوان) نعم. جماداً مثلاً.

(وبعض الجسم ليس بحيوان، والحق الإيجاب) أي: كل إنسانٍ جِسم، ونتيجة القياس: بعض الإنسان ليس بجسم كاذبة.

(ولو قلنا: وبعض الحجر ليس بحيوان كان الحق السلب) أي: بعض الإنسان ليس بحجر كما أنتجه القياس، فصدقت هنا (كان الحق السلبَ).

فشرط إنتاج الثاني بحسب الكيف اختلاف مقدمتيه سلباً وإيجاباً، وبحسب الكم كُلِّيَّة الكبرى، لا بد أن تكون الكبرى كُلِّيَّةً، فلو كانت جزئية حينئذٍ يكون عقيماً.

قال: (وشرطُ إنتاج الثالث بحسب الكيف) يعني: اختلاف مقدمتيه في الكيف (هذا يفيد أن الثاني لا ينتج إلا السلب كُلِّيَّاً أو جزئياً إذ النتيجة تتبع الخسيس دائماً) النتيجة تتبع الأخص منهما.

يعني: إن كان إحداهما سالبة والأخرى موجبة، كانت النتيجة سالبة، إن كانت إحدى المقدمتين جزئية والأخرى كُلِّيَّة كانت النتيجة جزئية .. وهكذا.

قال هنا: (وشرطُ إنتاج الثالث بحسب الكيف: إيجابُ الصغرى، وبحسب الكم: كُلِّيَّةُ إحدى مقدمتيه) سواءٌ كانت الصغرى أو الكبرى، ليس كالسابق.

(وشرطُ إنتاج الرابع بحسب الكيف والكم: إمَّا) للتخيير.

(إما إيجابُ المقدمتين مع كُلِّيَّة الصغرى، أو اختلافُهما بالكيف مع كُلِّيَّة إحداهما) يعني: هذا أو ذاك.

(وشرطُ إنتاج الأول بحسب الكيف: إيجاب الصغرى، وبحسب الكم: كُلِّيَّة الكبرى. كما يؤخذ من كلامه الآتي) ولذلك أخَّره، قدَّم ما يتعلق بالثاني والثالث والرابع؛ لأنه لن يفصِّل فيها، وإنما يفصِّل في الشكل الأول وهو الكامل.

قال: (وَالشَّكْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي جُعِلَ مِعْيَارَ الْعُلُومِ) يعني: النظرية .. ميزان، معيار كميزان وزْناً ومعنًى.

(وَالشَّكْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي جُعِلَ مِعْيَارَ الْعُلُومِ).

قال العطار: (كمكيال: ما يُقدَّر به الشيء، والمراد بالعلوم: النتائج) ولكن هنا عمم الشارح لم يخصَّه بالنتائج إلا إذا قيل: النتائج تستلزم المقدِّمات.

(والمراد بالعلوم النتائج، ولما كانت بقية الأشكال تُرَد إليها عند تحقُّق إنتاجها جُعل كأنه ميزانٌ لها، يُرفع به صحيحُها من فاسدها).

قال هنا: (وَالشَّكْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي جُعِلَ مِعْيَارَ الْعُلُومِ).

قال في الحاشية: (النظرية أي: ميزانُها؛ لارتداد البقية إليه كما مر).

(14/11)

________________________________________

(لارتداد البقية إليه المناسب لإنتاجه المطالب الأربعة، وكونه على النظم الطبيعي) هذه العِلَّة أحسن، لا لكون الأربعة أو الثلاثي ترتَد إليه وإنما لكونه على النظم الطبيعي وإنتاجه الأربعة. ولذلك سُمّي كاملاً لهذه العِلَّة، لا لكون الثاني يُرد إليها والثالث أو الرابع لا، ليس لهذه العِلَّة.

(فَنُورِدُهُ) (هنا وحدَه) يعني: نذكره هنا في التفصيل (وحدَه) الذي هو الكامل، الشكل الأول.

(مع ضروبه) (لِيُجْعَلَ دُسْتُورًا).

قال: (الدُّستور: بالضم النسخة المعلومة للجماعات التي فيها تحريرُها، مُعرَّبة والجمع دساتير).

فقول الشارح: (أي: قانوناً تفسيرُه باللازم) هكذا قال في القاموس: الدُّستُور: بالضم النسخة المعلومة للجماعات.

قال: (لِيُجْعَلَ دُسْتُورًا) بالضم، أي: قانوناً .. الدستور بمعنى القانون.

(وَليُسْتَنْتَجَ مِنْهُ المَطَالِبُ كُلُّهَا) وهي الموجَب الكُلِّيّ، والسالبُ الكُلِّيّ، والموجب الجزئي، والسالب الجزئي .. الإنتاجات الأربعة. بخلاف بقية الأشكال أي: لأن الثاني لا يُنتِج إلا السلب، والثالث لا يُنتج إلا الجزئي، والرابع لا يُنتج الإيجاب الكُلِّيّ. هذه فوائد طيبة.

الثاني لا ينتج إلا السلب، والثالث لا ينتج إلا الجزئي، والرابع لا ينتج الإيجاب الكُلِّيّ.

بخلال الشكل الأول فإنه ينتج المطالب كلها.

تُستنتَج منه المطالب كلها: الموجب الكُلِّيّ، والسالب الكُلِّيّ .. الكُلِّيّة بنوعيها.

والموجب الجزئي، والسالب الجزئي .. الجزئية بنوعيها، بخلاف بقية الأشكال.

قال: (وضُروبُه كضروب سائر الأشكال بحسب القسمة العقلية ستة عشر).

ضروب الشكل الأول (كضروب سائر) سائر بمعنى باقي، تأتي بمعنى جميع وتأتي بمعنى باقي.

(كضروب سائر الأشكال بحسب القسمة العقلية ستة عشر) كيف وصلنا إلى هذه الستة عشر؟

(لأن كلاً من مقدمتيه إما موجبة أو سالبة، وكلٌ من هاتين إما كُلِّيَّة أو جزئية) اثنين في اثنين= بأربعة، فجملةُ كلٍ منهما= أربعة .. مقدمتيه.

إما كُلِّيَّة أو جزئية، ثم إما سالبة أو موجبة. اثنان في اثنين بأربعة، صارت أربعة.

(والحاصل: من ضرب أربعة في أربعة ستة عشر) من أين جاءت الأربعة الثانية هذه؟

يعني: المقدمة الصغرى لها سالب موجب، كُلِّيَّة جزئية: اثنين في اثنين بأربعة، إذاً: أربعة.

ثم أربعة في الكبرى مثلها.

قال: (من ضرْب أربعة في أربعة ستة عشر، يسقط منها) من هذه الستة عشر، ليست كلها منتجة بل بعضُها عقيم.

(يَسقط منها بشرطي إنتاجه السابقَين) هما: إيجاب الصغرى وكُلِّيَّة الكبرى.

(اثنا عشر عقيمةً) يسقط اثنا عشر فاعل يسقط.

إذاً: من الستة عشر اثنا عشر عقيم، بقي أربعة من ستة عشر، والعقيمة كاسمها عقيمة .. لا تُنتج.

(اثنا عشر) هذا فاعل يسقط (عقيمة. ثمانية خرجت منها) من اثني عشر (بالأول) إيجاب الصغرى.

(حاصِلَةٌ: مِن ضرْب الكُلِّيَّة والجزئية السالبتين من الصغرى في الأربع الكُبْرَيات).

سقَطَ من الصغرى قلنا: إيجابُ الصغرى، اشترطنا إيجابَ الصغرى.

ما الاحتمالات للصغرى؟

كُلِّيَّة موجبة، جزئية موجبة. بقي اثنان.

(14/12)

________________________________________

كُلِّيَّة سالبة، جزئية سالبة خرجَت ليست مرادة، ولذلك قال: هما (إِيجَابُ الصُّغْرَى وَكُلِّيَّةُ الْكُبْرَى) (عقيمة لا تنتج منها) أي: الاثني عشر (بالأول) أي: إيجاب الصغرى.

(حاصلةٌ) أي: الثمانية.

(من ضرب الكُلِّيَّة والجزئية السالبتين من الصغرى) هذه خارجة.

(في الأربع الكُبريات) يعني: الكبريات الأربع كما هي.

فنأتي إلى الصغرى، اشترطنا الإيجاب، حينئذٍ السالبة الكُلِّيَّة والجزئية السالبة اثنان، اثنين في أربع بثمان، خرَجتْ بالشرط الأول.

قال: (يسقط منها بشرطي إنتاجه السابقين اثنا عشر عقيماً ثمانيةٌ منها بالأول) إيجاب الصغرى.

من أين جاءت الثمانية هذه؟ (حاصلة) الثمانية يعني: تحصَّلنا عليها.

(من ضرب الكُلِّيَّة والجزئية السالبتين من الصغرى) من الصغرى هذا حالٌ من الكُلِّيَّة والجزئية، يعني: هذا لا يُنتج؛ لأننا اشترطنا إيجابَ الصغرى.

إذاً: الكُلِّيَّة السالبة خرجت، وهي لها أربعة أحوال، والجزئية السالبة خرجَت ولها أربعة أحوال هذه ثمانية في الأربع الكبريات.

(وأربعة بالثاني) ما هو الثاني؟ الشرط الثاني: كُلِّيَّة الكبرى، كُلِّيَّة الكبرى سواء كانت موجبة أو سالبة، خرجت الجزئية الموجبة والجزئية السالبة، مع اثنين، اثنين في اثنين بأربعة.

قال: (وأربعة بالثاني) يعني: بالشرط الثاني "كُلِّيَّة الكبرى".

(حاصلةٌ من ضرب الجزئية الموجبة والجزئية السالبة من الكبرى في الكُلِّيَّة والجزئية الموجبتين من الصغرى) اثنان في اثنين بأربعة.

قال: (وَضُرُوبُهُ المُنْتِجَةُ أَرْبَعَةٌ)

(الضَّرب الأول: أن تكون المقدمتان موجبتين كليتين، والنتيجة: كُلِّيَّة موجَبة).

المقدمتان -الصغرى والكبرى- موجبتين كليتين، إيجاب الصغرى تحقَّق، الكُلِّيَّة الكبرى تحقق، النتيجة: كُلِّيَّة موجبة نحو: (كل جسمٍ مؤلَّف، كل مؤلَّفٍ حادث) أولاً هو من الشكل الأول، مؤلَّف هذا الحد الأوسط، محمولٌ في الصغرى، موضوعٌ في الكبرى.

النتيجة: فكل جسمٍ حادث، جعلَه أولاً لاشتماله على شرَفين: الكُلِّيَّة والإيجاب.

قال هنا: (فكل جسمٍ حادث) هذه النتيجة كُلِّيَّة موجبة؟ كُلِّيَّة موجبة. إذاً: أَنتَج.

(الثاني: أن تكونا -أي: المقدمتين- كليتين، والكبرى: سالبة، والنتيجة: سالبة كُلِّيَّة) تتبَع الأخص (كُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ) هذه صغرى، كُلِّيَّة موجبة.

(وَلاَ شَيْء مِنَ المُؤَلَّفِ بِقَدِيمٍ) هذه كُلِّيَّة سالبة.

(فَلاَ شَيْءَ مِنَ الْجِسْمِ بِقَديمٍ) هي النتيجة لأنها تتبَع خسيس المقدمتين في السلب أو الجزئية.

الثالث: (أن تكونا موجَبتين، والصغرى: جزئية، والنتيجة: موجبة جزئية نحو) (بَعْضُ الْجِسْمِ مُؤَلَّفٌ) هذه موجبة جزئية.

(وَكُلُّ مُؤّلِفٍ حَادِثٌ) كُلِّيَّة موجبة.

(فَبَعْضُ الْجِسْمِ حَادِثٌ) هذا موجبة جزئية، جعلَه ثالثاً لاشتماله على شرف الإيجاب.

(الرابع: أن تكون الصغرى موجبة جزئية، والكبرى سالبةً كُلِّيَّة، والنتيجة: سالبة جزئية نحو) (بَعْضُ الْجِسْمِ مُؤَلَّفٌ) جزئية موجبة.

(وَلاَ شَيْءَ مِنَ المُؤَلَّفِ بِقَدِيمٍ) هذه سالبة كُلِّيَّة.

(فَبَعْضُ الْجِسْمِ لَيْسَ بِقَدِيمٍ) هذه النتيجة سالبة جزئية.

(14/13)

________________________________________

قال: (والمنتج من ضروب الشكل الثاني أربعةٌ أيضاً -أي: كما أنتج السابق-، ومن الثالث ستة، ومن الرابع ثمانية عند المتأخرين، وخمسة عند المتقدمين. وعليه ابن الحاجب.

وتفصيل ذلك وأمثلتُه وإقامةُ البرهان عليه يُطلب من المطولات).

قال رحمه الله تعالى: (وَالْقِيَاسُ الاِقْتِرَانِيُّ).

عرفنا القياس الاقتراني: الذي دل على النتيجة بالقوة يعني: لا بالفعل.

قال: (وَالْقِيَاسُ الاِقْتِرَانِيُّ: إِمَّا أَنْ يَتَرَكَّبَ مِنْ حَمْلِيَّتيْنِ كَمَا مَرَّ:

وَإِمَّا مِنْ مُتَّصِلَتَيْنِ، وَإِمَّا مُرَكَّبٌ مِنَ مُنْفَصِلَتَيْنِ).

يعني: أراد أن يبين لك الاقتراني مما يتألف.

فقال: (إِمَّا أَنْ يَتَرَكَّبَ مِنْ حَمْلِيَّتيْنِ كَمَا مَرَّ) في الأمثلة السابقة كما في قولنا: كل جسمٍ مؤلَّف وكل مؤلَّف محدَث، هذا قياسٌ اقتراني مركبٌ من حمليتين، المقدمة الصغرى حملية، والمقدمة الكبرى حملية.

الصورة الثانية مما يتألف منه الاقتراني: وإما من الشرطيتين، المراد بالشرطيتين هنا: يعني: ما تقابل الحمليّة.

الحمليّة: قلنا لها ضابطان:

الأول: أن تنحل إلى مفردين، الثاني: أن لا يكون فيها تعليق.

الشرطية: أن تنحل إلى مفردين أو ألا تنحل؟

لو انحلَّت -على الخلاف- فحينئذٍ يكون بالقوة ولكن الشرط الثاني وهو أن يكون الحُكم فيها مُعلَّقاً، فالتعليق مهمٌ في الحمليّة والشرطية.

قال: (وإمَّا من الشرطيتين المتصلتين).

قال: (الأَولى وإما من الشرطيات، فيصدُق تركُّبُه منها وحْدَها، أو مع الحمليَّة، فإنَّ أقسامَه خمسة ويسمى شرطياً، فإن كانت أجزاءُه شرطيات فالتسمية ظاهرة، أو بعضُها حملي وبعضُها شرطي فتسميتُه بذلك لعلاقة الجزئية، وغلَّبوا في التسمية الجزء الشرطي لكونه أعظم).

يعني: قوله: من الشرطيتين، لو قال: من الشرطيات لكان أحسن؛ لأنه يصدق على الشرطيتين محضاً وعلى الشرطية والحملية، لا مانع أن تكون الصغرى حملية والكبرى شرطية. وبالعكس كما أنه قد يتألف من حمليتين أو شرطيتين كذلك باختلاف الحمليّة والشرطية.

قال هنا العطار: (قولُه: وإما من الشرطيتين المتصلتين. لما كان الأحق بهذا الاسم من بين الأقسام ما يتركب من متصلتين؛ لأن إطلاق الشرطية المتصلة حقيقي دون المنفصلة) وهو كذلك.

(وقع البَداءةُ في البحث به وهو على ثلاثة أقسام: لأنَّ المشترَك بينهما إما أن يكون جزءاً تاماً منهما -المقدَّم المقدم والتالي-، أو غير تامٍ، وإما جزءاً تاماً من أحدهما غير تامٍ من الآخر.

والمطبوع منه -يعني: المقبول، الذي تقبله النفس والطبيعة- ما كانت الشركة في جزءٍ تامٍ من المقدمتين، وتنعقد فيه الأشكال الأربعة؛ لأنه إن كان تالياً في الصغرى مقدَّماً في الكبرى فهو الشكل الأول، وإن كان تالياً فيهما فهو الشكل الثاني، وإن كان مقدماً فيهما فهو الشكل الثالث، وإن كان مقدماً في الصغرى تالياً في الكبرى فهو الشكل الرابع) يعني: عكْس الأول.

(14/14)

________________________________________

(وشرائطُه وعددُ الضروب والنتيجة في الكمية والكيفية في كل شكلٍ كما في الحمليات من غير فرقٍ) لا فرق بينهما البتة (حتى يُشترط في الأول: إيجاب الصغرى وكُلِّيَّة الكبرى، وفي الشكل الثاني: اختلافُ مقدِّمتيه في الكيف وكُلِّيَّة الكبرى إلى غير ذلك.

وكذلك عددُ ضروبها إلا في الشكل الرابع، فإن ضروبَه هنا خمسة .. ) إلى آخر ما ذكَره؛ لأنا لم نذكر ما يتعلق بالشكل الرابع.

إذاً: (وإما من الشرطيتين المتصلتين) (كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ وَكُلَّمَا كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا فالْأَرْضُ مُضِيئَةٌ، يُنْتِجُ: إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالْأَرْضُ مُضِيئَةٌ).

(إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ) الشمس طالعة هذا مقدَّم، فالنهار موجودٌ هذا تالٍ.

(وَكُلَّمَا كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا) هذا حد الوسط محمولٌ في الصغرى موضوعٌ في الكبرى.

(فالْأَرْضُ مُضِيئَةٌ) هذا التالي مقدِّمة كبرى.

(يُنْتِجُ: إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالْأَرْضُ مُضِيئَةٌ).

قال: (وإما من شرطيتين منفصلتين) يعني: كما تألَّف من المتصلتين، تألّف كذلك من المنفصلتين.

قال العطار: (وأقسامُه ثلاثةٌ أيضاً، والمطبوع منه ما كانت الشركة في جزءٍ غير تام من المقدمتين، وشرطُ إنتاجه: إيجابُ المقدمتين وكُلِّيَّةُ إحداهما.

وصِدقُ منع الخلو، وتنعقد فيه الأشكال الأربعة أيضاً بحسب الطرفين المشاركين، والشرائط المعتبرة بين الحمليتين معتبرة هنا بين المشارِكَين ومحلُّه المطولات).

قال: (كَقَوْلِنَا: كُلُّ عَدَدٍ إِمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ).

(كل عدد فهو: إما زوجٌ وهو المنقسم بمتساويين) أي: صحيحين، أخرج الفرد.

(أو فردٌ وهو ما ليس كذلك) يعني: ما لا ينقسم إلى متساويين.

(وَكُلُّ زَوْجٍ فَهُوَ إِمَّا زَوْجِ الزَّوْجِ أَوْ زَوْجُ الْفَرْدِ).

الأربعة زوج الزوج.

(وَكُلُّ زَوْجٍ فَهُوَ إِمَّا زَوْجِ الزَّوْجِ).

قال: (وهو ما يتركب من ضرب زوجٍ في زوج) يسمى زوج الزوج، زوج في زوج: اثنين في أربعة، اثنين في ستة، ستة في ثمان .. كل هذا يسمى زوج الزوج؛ لأنه ضرْبُ زوجٍ في زوجٍ.

(أَوْ زَوْجُ الْفَرْدِ) (وهو ما تركب من ضرب زوجٍ في فردٍ) كالستة مثلاً: ثلاثة في اثنين، اثنين هذه زوج ضُرِب في ثلاث، يسمى زوج الفرد.

والعشرة: اثنين في خمسة إذاً: زوجٌ في فرد.

(وفسَّره بعضُهم بما لو قُسِم قسمةً واحدة لانتهت قسمتُه إلى عددٍ فردٍ غير الواحد) هذا زوج الفرد يعني: إذا قسَمه قسمة واحدة .. مرة واحدة، لانتهت قسمته إلى عددٍ فردٍ غير الواحد -يعني: نصف الاثنين- كستة وعشرة.

ستة تقسمها على اثنين= ثلاثة، إذاً: انتهى إلى فرد، عشرة تقسمها على اثنين انتهى إلى فرد .. خمسة.

(يُنْتِجَ: كُلُّ عَدَدٍ إِمَّا فَرْدٌ، أَوْ زَوْجُ الزَّوْجُ، أَوْ زَوْجُ الْفَرْدِ).

قال هنا: (وفسَّره بعضهم بما لو قُسِم قسمة واحدة) الذي هو زوج الفرد.

(لو قُسم قسمة واحدة لانتهت قسمتُه إلى عددٍ فردٍ غير الواحد كستة وعشرة.

(يُنْتِجَ: كُلُّ عَدَدٍ إِمَّا فَرْدٌ) وهو الذي لا ينقسم إلى متساويين.

(14/15)

________________________________________

(أَوْ زَوْجُ الزَّوْجُ) وهو ما تركب من ضرب زوجٍ في زوج.

(أَوْ زَوْجُ الْفَرْدِ) على المعنيين المذكور: إما أنه يتركب من ضرب زوجٍ في فرد، أو أنه يُقسم قسمة واحدة تنتهي إلى عددٍ فردٍ غير الواحد.

(وبقي زوج الزوج والفرد، وهو ما انقسم أكثر من مرة وانتهى تنصيفُه إلى عددٍ فردٍ ليس بواحد) احترز به عن اثنين (كاثني عشر) هذا ينقسم أكثر من مرة (إذ كلٌ من نصفيها ستة.

(وهي) أي: الستة (زوجٌ، وكلٌ من نصفي الستة ثلاثة وهي فردٌ.

بقي زوج الزوج والفرد، وهو ما انقسم أكثر من مرة) وما سبق انقسم مرة واحدة، هذا الفرق بينهما .. ما مر السابق انقسم مرة واحدة، هنا انقسم أكثر من مرة.

تقول: اثني عشر تقسِمه على اثنين= ستة، ستة على اثنين= ثلاثة. إذاً: انقسم أكثر من مرة.

(وهو ما انقسم أكثر من مرة وانتهى تنصيفُه إلى عددٍ فردٍ –ثلاثة- ليس بواحدٍ) وهذا احترز به عن الأربعة، فإنها زوج الزوج فقط.

(كاثني عشر؛ إذْ كلٌ من نصفيها ستة) يعني: إذا قُسِمت على اثنين.

(وهي زوجٌ) يعني: الستة.

(وكلٌ من نصفي الستة ثلاثة -إذا قُسِمت على اثنين- وهي فردٌ، فهذا مركَّبٌ من القسمين قبلَه؛ لأنه من حيث إنه انقسم نصفين كلُّ نصفٍ منهما زوجٌ).

انقسم قسمين: اثني عشر على اثنين= ستة.

(كل نصفٍ منهما زوجٌ أشبه زوجَ الزوج، ومن حيث إنه وُصِل به التقسيم إلى عددٍ فردٍ) إلى الثلاث، ستة على اثنين= ثلاثة.

(ومن حيث إنه وصل به التقسيم إلى عددٍ فردٍ غير الواحد أشبه زوج الفرد) إذاً: المراد المثال هنا فقط .. المثال السابق.

(أو من حمليَّة ومتصلة) يعني: الاقتراني يتألف من حملية ومتصلة.

(وأقسام هذا القياس أربعة) لأن الحمليّة إما أن تكون صغرى أو كبرى، وأياً ما كان فالمشارك لها إما مقدم متصلة أو تاليها.

(والمطبوع من بين الأقسام ما تكون حمليَّة كبرى والشرِكة مع تالي المتصلة؛ لأنه كلما يصدق المقدَّم يصدُق التالي بالضرورة) الاستلزام السابق: كلما صدق المقدَّم صدَق التالي.

(والحمليَّة صادقةٌ في نفس الأمر، وتنعقد فيه الأشكال الأربعة باعتبار تأليف التالي مع الحمليَّة) كما مر معنا.

قال هنا: (أو من حمليَّة ومتصلة سواءٌ كانت الحمليَّة صغرى والمتصلة كبرى، أم بالعكس) أي: المتصلة صغرى والحمليَّة كبرى.

(وهو المطبوع منها) أي: الموافق للطبع.

(بشرط اشتراك المقدمتين في تالي المتصلة) كما في مثال المصنف.

(ولذا مثّل به المصنف هنا وفيما يأتي).

قال: (وهو) ما هو الضمير هنا، يعود إلى ماذا؟

(سواءٌ كانت الحمليَّة صغرى والمتصلة كبرى، أم بالعكس)، قال: (وهو المطبوع منهما) في نسخة العطار (بينهما) ومنهما أحسن.

(وهو) ردَّه هناك الضمير يعود إلى العكس أي: الموافق للطبع، ورده هنا إلى الجميع وهو الظاهر.

(كقولنا: كلما كان هذا إنساناً فهو حيوان، وكل حيوانٍ جسمٌ يُنتج: كلما كان هذا إنساناً فهو جسمٌ) هذا مؤلَّف من ماذا؟ (كلما كان هذا إنساناً فهو حيوان، وكل حيوانٍ جسمٌ) إذاً: الصغرى شرطية متصلة، والكبرى حمليَّة.

(يُنتِج: كلما كان هذا إنساناً فهو جسمٌ.

ومثال كون الحمليَّة صغرى: كل إنسانٍ حيوان، وكلما كان الشيء حيواناً فهو جسمٌ، يُنتِج كل إنسانٍ جسمٌ).

(14/16)

________________________________________

قال: (وإنما كان الذي متصلتُه صغرى مطبوعاً؛ لأن مقدم المتصلة متميزٌ عن تاليها، بحسب المفهوم؛ لأن المقدَّم ملزومٌ والتالي لازمٌ، فيقدَّم الأول ليوافق الوضعُ الطبعَ).

مطبوع المقبول يعني، الذي يوافق النفس.

قال هنا: (وإما من حمليَّةٍ ومنفصلة سواءٌ كانت الحمليَّة صُغرى والمنفصلة كبرى أم بالعكس كقولنا: كل عددٍ إما زوجٌ أو فردٌ، وكل زوجٍ فهو منقسمٍ بمتساويَين) الصغرى منفصلة والكبرى حمليَّة.

(يُنتِج: كل عددٍ إما فردٌ أو منقسمٌ بمتساويين).

(فنتيجةُ هذا منفصلة مانعة خلوٍ) الظاهر أنه المراد به القياس، هذا النوع يعني الذي ذكره هنا.

(فنتيجة هذا منفصلةٌ مانعة خلوٍ) أي: وجمعٍ أيضاً (فهي حقيقية مركّبةٌ مما لم يُشارَك ومن نتيجة التأليف الحاصل مما يُشارَك ومن الحمليَّة).

(فنتيجة هذا منفصلة مانعة خلوٍ مركّبة مما لم يُشارَك -بفتح الراء- أي: الطرف الذي لم تُشارِك الحمليَّةُ الشرطيةَ فيه) الذي لم يُشارَك وهو فردٌ هنا مثلاً.

لأنه قال ماذا؟ كل عددٍ إما زوجٌ أو فردٌ، وكل زوجٍ فهو منقسم ومتساوي يُنتِج كل عدد إما فردٌ أو منقسم متساويين، والذي لم يُشارَك فهو فردٌ في مثال المصنف.

قال هنا: (فنتيجة هذا مانعة خلوٍ مركّبة مما لم يُشارَك، ومن نتيجة التأليف الحاصل مما يُشارَك ومن الحمليات).

قال العطار هنا: (قوله: مركَّبة مما لم يُشارَك. والذي يظهر ليس في حل هذه العبارة أن المنفصلة القائلة: كلُّ عددٍ إما زوجٌ وإما فردٌ، الواقعة صغرى مركبة من قضيتين حمليتين هما العدد زوجٌ العدد فرد).

يعني: ردَّ المنفصلة إلى حمليتين.

(لِما تقرر أن أجزاء الشرطيات متصلة كانت أو منفصلة حمليات) يعني: المقدَّم هو في الأصل حمليَّة: إذا كانت الشمس طالعة، الشمس طالعة حمليَّة فالنهار موجود هذه حمليَّة.

إذاً: أجزاء الشرطيات حمليات.

قال: (وأن الحمليَّة الواقعة كبرى هي كل زوجٍ منقسمٌ بمتساويين، فموضوع الحمليَّة الكبرى أحد أجزاء المنفصلة وهو الزوج، وهذا معنى المشاركة) أنه شارك.

(إذ مُقدَّم المنفصلة وقع موضوعاً في الحمليَّة، وأما التالي وهو فردٌ فلم تقع فيه مشارَكة) وإنما وقعت المشاركة في الزوجي لا في الفردي.

(فإذا ركَّبنا قياساً من حمليتين) ولذلك قال: (ومن نتيجةِ التأليف الحاصل).

التأليف يعني: القياس، الحاصل: مما يُشارَك ومن الحمليَّة، هذا الذي عناه هنا العطار.

(فإذا ركّبنا قياساً من حمليتين: صُغراهما مقدم المنفصلة، وكبراهما الحمليَّة الواقعُ كبرى مع المنفصلة. انتظم قياساً اقترانياً من الشكل الأول.

هكذا العدد زوجٌ، وكل زوجٍ فهو منقسمٌ بمتساويين يُنتِجُ: العدد منقسمٌ بمتساويين.

فإذا ضممتَ هذه النتيجة إلى الجزئي الغير المشترِك وهو العدد الفرد، وأدخلتَ عليه أداة الانفصال صار هكذا: العدد إما فردٌ أو منقسمٌ بمتساويين.

فهذه المنفصلة التي حكمنا عليها بأنها نتيجةُ القياس، المركب من منفصلة وحمليَّة، مركبة من الجزء الغير المشارِك ومن التأليف أي: نتيجة التأليف أي: المؤلَّف الذي هو القياس الاقتراني.

الذي قررناه لك: المركب من الجزء الغير مشارَك ومن الحمليَّة).

(14/17)

________________________________________

إذاً: قوله: (ومن نتيجة التأليف الحاصل مما يُشارَك ومن الحملي) المقصود به: الفرد الذي لم يُشارَك كان في النتيجة.

قال: (وقد تتعدد فيه الحمليات).

هنا قال: (نتيجةُ هذا منفصلة: مانعة خلوٍ مركّبةٌ) النتيجة هي: كل عددٍ إما فردٌ أو منقسمٌ بمتساويين .. إما فردٌ أو منقسمٌ.

لذلك قلنا: مانعة جمعٍ، زِد: مانعة خلوٍ، زِد: وجمعٍ.

لا بد من الزيادة؛ لأنه قال: كل عدد إما فردٌ أو منقسمٌ بمتساويين، ما هو المنقسم بمتساويين؟ الزوج، إذاً: هذه مانعة جمعٍ وخلو.

هو قال: مانعة خلوٍ فقط، زِد: وجمعٍ؛ لأنها هي الحقيقية.

هذه مؤلَّفة من فردٍ لم يُشارَك الذي هو الفرد، من فرد يعني: يقصد به الفرد الذي هو الجزء .. من جزءٍ لم يُشارَك.

(ومن نتيجة التأليف الحاصل مما يُشارَك -بفتح الراء- أي الطرف الذي شاركت الحمليَّة الشرطية فيه وهو زوجٌ في مثال المصنف).

قال رحمه الله تعالى: (وقد تتعدد فيه الحمليات).

(فيه) الضمير يعود إلى: القياس المؤلَّف من منفصلة صغرى وحمليَّةٌ كبرى.

يعني: الاقتراني قلنا: يتألف من حمليَّة ومنفصلة، قال: (وقد تتعدد فيه) أي: القياس المؤلَّف من منفصلة صغرى وحمليَّة.

(تتعدد فيه الحمليات) هذا مقابل قولِه: (وإما من حمليَّة ومنفصلة) أشار به إلى أن هذا القِسم تارة تكون الحمليَّة فيه واحدة كمثال المتن، وقد تتعدد وهو القياس المقسَّم. هذا كلامٌ منفصل.

(وقد تتعدد فيه) يعني: القياس الاقتراني.

(الحمليات، بتعدد أجزاء الانفصال) يعني: عدِّد ما شئت، تقول مثلاً: الجسم إما ترابٌ وإما ماءٌ وإما نارٌ .. إلى ما شاء الله، هذا يسمى تعدُّد.

وقلنا: كل واحدٍ من هذه الجزئيات في قوة حمليَّة: هذا ترابٌ، هذا ماءٌ. إذاً: تعددت الحمليات، هذا المراد هنا.

(بتعدُّدِ أجزاء الانفصال) يعني: المنفصلة.

(كقولنا: كل جيم إما باء وإما دال وإما هاء، وكل باء طاء، وكل دال طاء، وكل هاء طاء. يُنتج: كل جيم طاء.

فنتيجة هذا حمليَّة ويسمى القياس المقسَّم) أو المقسِّم ضَبَطَه بالاثنين.

قال هنا: المقسَّم بفتح السين لاشتماله على أقسامٍ متعددة.

هنا قوله: (كل جيم إما باء وإما دال) أي: كل كلمة إما اسمٌ وإما فعلٌ وإما حرفٌ، تعدَّد.

(وكل اسمٍ قولٌ مفرد، وكل فعلٍ قولٌ مفرد، وكل حرفٍ قولٌ مفرد. يُنتج: كل كلمة قولٌ مفرد) مثلاً، حصل التعدُّد؟ حصل التعدد.

المراد: أنه كالسابق، لكن في السابق زوجٌ فردٌ، وهنا زاد التعدد، ويسمى القياس المقسَّم. قاله العطار.

(أي: يسمى هذا القسم الثاني وهو ما تعدَّد فيه الحمليات بتعدد أجزاء الانفصال، واتحد تأليفُ النتيجة بهذا الاسم) بهذا الاسم مقسَّم.

(فأما إن اختلف تأليف النتيجة كقولنا: كل جسمٍ فهو إما نباتٌ أو حيوانٌ أو معدنٌ، وكل نباتٍ نامٍ، وكل حيوانٍ حسَّاس، وكل معدنٍ جوهر فنتيجتُه منفصلة مانعة خلوٍ هي: كلُّ جسمٍ إما نامٍ أو حسَّاسٍ أو جوهرٍ، ولا يسمى قياساً مقسِّماً) أو مقسَّماً.

قال: (وضبطَهُ المحشِّي بصيغة اسم المفعول).

(14/18)

________________________________________

قال العطار: (والذي يظهر لي صحةُ قراءته بصيغة اسم الفاعل على طريق الإسناد المجازي، وعلى صيغة اسم المفعول على أنه من الحذف والإيصال أي: المقسَّمُ فيه؛ لأن صورته على صورة التقسيم) إذاً: يجوز فيه الوجهان.

قوله: (فنتيجةُ هذا حمليَّة؛ وذلك لأنه لا بد من صِدق أحد الأجزاء -أجزاء الانفصال-؛ إذ شرطٌ هذا القياس أن تكون منفصلة موجبةً كُلِّيَّة، مانعة خلوٍ وحقيقية.

ومعلومٌ أنَّ الحمليات صادقةٌ في نفس الأمر، فأيُّ جزءٍ يُفرض صدقه من أجزاء المنفصلة صدَق ما يشاركه في الحمليات ويُنتِج النتيجة المطلوبة؛ لأنه في قوة الحمليَّة).

قال: (أو من متصلة ومنفصلة) نقف على هذا. والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!

(14/19)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

شرح المطلع على متن إيساغوجي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

وقفنا عند قول المصنف رحمه الله تعالى: (أو من متصلة ومنفصلة) وهذا كله بيان لما يتركب منه القياس الاقتراني؛ حيث قال: (القياس الاقتراني يتركب إما من الحمليتين -كما مر-، وإما من المتصلتين، وإما من المنفصلتين، أو من حمليَّة ومتصلة، أو من متصلة ومنفصلة).

إذاً: جاء دَور المنفصلة والمتصلة معاً، وحينئذٍ يتألف القياس الاقتراني منهما.

قال: (أو من متصلة ومنفصلة).

(سواءٌ كانت المتصلة صغرى والمنفصلة كبرى. وهذا هو المطبوع، أمْ بالعكس).

العكس بأن تكون المنفصلة صغرى والمتصلة كبرى، هذا هو العكس.

(كقولنا: كلما كان هذا إنساناً فهو حيوان) هذه متصلة (وكل حيوانٍ فهو إما أبيض أو أسود) وهذه منفصلة (يُنتِج: كلما كان هذا إنساناً فهو إما أبيض أو أسود) مركباً من نوعين.

قال هنا: (واعلم أن الاشتراك الواقع بين الشرطيتين إما في جزء تامٍ بهما) أي: أو بين الشرطية والحمليَّة، وليس الحكم خاصاً بالشرطيتين؛ لأن الجزء غير التام لا يخص الشرطيتين، بل يكون في الحمليَّة والشرطية أيضاً.

قوله: (التام) أي: فيهما. يعني: في الشرطيتين أو في الشرطية والحمليَّة.

(وهو) أي: الجزء التام.

(المقدَّم أو التالي بكماله) لا جزءٌ منه يعني: الجزء هنا المقصود به المقدَّم أو التالي، إمَّا أن يؤخذ بكماله فهو التام، أو جزءٌ منه فهو غير التام.

قال: (إما في جزءٍ تامٍ فيهما وهو المقدَّم) أي: الجزء التام الذي اشترك فيه المقدِّمتان.

(وهو المقدَّم أو التالي بكماله، وإما في جزءٍ غير تامٍ) كذلك فيهما نقدِّر، يعني: في المقدَّم والتالي.

(وإما في جزءٍ غير تامٍ فيهما من ذلك) أي: المقدَّم والتالي.

(فالتامُّ كقولنا: كلما كان ألف باء فجيم دال، ودائماً إما جيم دال أو هاء زاي).

كلما كان ألف باء أي: الشمس طالعةً، فجيم دال: الأرض مضيئة.

ودائماً إما جيم دال أي: الأرض مضيئة مثلاً.

أو هاء زاي: أو الليل موجود.

(يُنتج دائماً: إما ألف باء) الشمس طالعة أو الليل موجود.

كلما كانت الشمس طالعة فالأرض مضيئة، وكلما كانت الأرض مضيئة فالليل موجود، يُنتج دائماً: الشمس طالعة أو الليل موجود؛ باعتبار ما مضى.

(وغير التام. كقولنا: كلما كان ألف باء -الشيء حيواناً- فكل جيم دال -فكل ناطق إنسان-.

ودائماً إما كل دال هاء -كل ناطق إما أبيض أو أسود- كل دال هاء أو زاي. يُنتج: كلما كان ألف باء -أي: الشيء حيواناً- فإما كل جيم هاء أو زاي -كل إنسان إما أبيض وإما أسود-).

هم يقولون: الحروف هذه ميسِّرة للمبتدئ، والظاهر أنها العكس، الظاهر أنها ليست تسهيلاً، التسهيل إنما يكون الاختصار في ذِكر المسميات لا الكناية، كل حيوان .. إلى آخره.

(15/1)

________________________________________

على كلٍ هنا: (كلما كان الشيء حيواناً فكل ناطقٍ إنسان، ودائماً إما كل ناطقٍ إما أبيض أو أسود يُنتج: كلما كان الشيء حيواناً، وإما كل إنسانٍ إما أبيض أو أسود، وتفصيلُ ذلك وبيان شروطه يُطلَب من المطولات).

قال: (وشرطُ الحمليَّة والمتصلة -فيما ذُكر-: لزوميتُهما) يعني: لزومية الحمليَّة والمتصلة، هذا الأصل.

فخرج الاتفاقية في المقدمتين أو إحداهما، وفيه بسطٌ يُعلَم من المطولات، لكن وصفُ اللزومية لا يأتي في الحمليَّة، لكن ظاهر كلام المصنف .. لو قال: وشرطُ الحمليَّة والمتصلة أو والحمليَّة والمتصلة وشرطُها لزوميتها، لاختص الشرط بالمتصلة، لكن قال: (وشرطُ الحمليَّة والمتصلة لزوميتُهما) أي: الحمليَّة والمتصلة، فقدَّم الشرط على الحمليَّة، والحمليَّة يُشترط فيها على كلامه.

لكن المشهور أنه لا يتأتى في الحمليَّة، وإنما اللزوم يكون في المتصلة فقط.

قال: (وأما القياسُ الاستثنائي) هذا شروعٌ فيما يتعلق بالنوع الثاني.

(وأما القياس الاستثنائي) وهذا لا يكون من حمليات محضة.

(وتنعقد فيه الأشكال الأربعة، وأقسامُه خمسة؛ لأنه إما من متصلتين، أو منفصلتين، أو متصلة ومنفصلة، أو حمليَّة مع إحداهما) منفصلة أو متصلة.

(وشروطُه ثلاثة:

الأول: كون المتصلة لزومية والمنفصلة عنادية) على الأصل فيها.

(فإن كانت إحداهما اتفاقية فهو عقيم، والثاني كون الشرطية موجبة؛ إذ مدلول السالبة رفعُ اللزوم أو العناد، فلا يلزم من وضْع أحدهما وضع الآخر ولا رفعه) وضْع يعني: ثبوت .. لا يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ولا رفعه.

(والثالث: كليتُهما أو كُلِّيَّةُ وضع أحد الطرفين أو رفعِه؛ إذ لو كانتا جزئيتين لجاز أن يكون اللزومُ فيهما في بعض الأوقات والحالات.

وثبوتُ المقدَّم في وقتٍ أو حالٍ آخر فلا يلزم ثبوتَ الآخر.

قال السنوسي: المدار على كون الاستثناء في وقت اللزوم وإن لم يُصرَّح بالكُلِّيَّة).

لزوم وقت ماذا؟ على كون الاستثناء في وقت اللزوم يعني: الاستثناء حاصلٌ مقيَّداً باللزوم، أما في غير اللزوم فهذا ليس مراداً هنا.

(وأما القياس الاستثنائي فيتركَّب من مقدمتين: إحداهما شرطية، والأُخرى وضعُ أحدِ جزئيها أي: إثباتُه أو رفعُه) يتركب من مقدمتين.

(إحداهما شرطية أي: وهي ما قبل لكن، والأخرى ما بعد لكن) هذا الفرق بين المقدمتين .. ما قبل لكن هذه مقدمة، وما بعد لكن هذه مقدمة أُخرى.

(والأخرى) يعني: مقابل الشرطية.

(وضعُ أحدِ جزئيها) إما المقدَّم أو التالي.

وضع يعني: إثبات، ولذلك قال: (أي: إثباتُه) يعني: يقول: كذا لكنَّ النهار موجود، هذا إثبات.

(أو رفعُه) يعني: رفع أحد الجزأين: المقدم أو التالي، يقول: لكنه ليس بموجود أو ليس النهار موجوداً .. وهكذا.

فالرفع المراد به السلب، والوضعُ المراد به الإثبات.

لأحد جزئيها يعني: إما المقدَّم وإما التالي.

قال: (ورفعُه أي: نفيُه؛ ليلزم وضعُ الجزء الآخر أو رفْعَه) لفٌّ ونشرٌ مرتَّب.

(أي: يلزم من وَضْعِ أحد جزئي الشرطية وضعُ الجزء الآخر، ومِن رفْعِه رفعُ الجزء الآخر. وهذا إنما يتأتى في القياس الاستثنائي الذي تكون إحدى مقدمتيه متصلة.

فأما إذا كانت منفصلة فإنَّ الوضع يستلزم الرفع وبالعكس) يأتي مثالُه.

(15/2)

________________________________________

قال هنا: ليلزم وضعُ الجزء الآخر أو رفعُه راجعان للوضع وللرفع.

قال رحمه الله تعالى: (فالشرطية الموضوعة فيه إن كانت متصلة).

(الشرطية الموضوعة) أي: المذكورة في القياس.

(فيه) أي: القياس الاستثنائي.

قلنا: مِن شرطية، الأُولى شرطية وهي ما قبل لكن.

(فيه) أي: القياس الاستثنائي.

(إن كانت متصلة) وسيأتي ذِكرُ المنفصلة.

(فاستثناءُ عين المقدَّم ينتج عين التالي).

استثناء عين المقدَّم: لكنَّه أو لكنَّ، تأتي بعين المقدَّم لا بنقيضه .. بعينه بذاته، يُنتِج ماذا؟ يُنتِج عين التالي.

أمَّا أن نقول: أنه مؤلَّف من مقدَّم وتالي، إذا استثنينا عينَ المقدَّم لا نقيضَه أنتَج عينَ التالي لا نقيضَه.

(وإلا) أي: بأن لم ينتِج استثناء عين المقدَّم عينَ التالي.

(لزم انفكاكُ اللازم عن الملزوم فيبطُل اللزوم) لأن المقدَّم ما علاقته بالتالي؟ يستلزمه، المقدَّم ملزوم واللازم تالي، فإذا أثبتنا المقدَّم .. عين المقدَّم إذا لم يستلزم، النتيجة تكون التالي .. عين التالي بطَل اللزوم.

إذْ العلاقة بينهما التلازم، فالمقدَّم ملزوم والتالي لازم: إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، النهار موجود هذا لازم، والشمس طالعة هذا ملزومٌ.

لكن الشمس طالعةٌ فالنهار موجود، هكذا .. استثناء.

إذا كانت الشمسُ طالعةً فالنهارُ موجودٌ.

فتقول: لكنَّ الشمس طالعةٌ، يُنتج: فالنهارُ موجودٌ.

قال: (وإلا) يعني: وإن لم يكن النتيجة كالسابق -استثناء عين المقدّم ينتج عين التالي- (لزم انفكاكُ اللازم) الذي هو التالي.

(عن الملزوم) الذي هو المقدَّم.

(فيبطُل اللزوم) أي: كون التالي لازماً للمقدَّم. وهذا فيه إشكال.

قال العطار: (قولُه: وإلا يُنتج عين التالي بل أنتج نقيضَه، لزم .. إلى آخره).

(كقولنا: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان، لكنه إنسان فهو حيوان).

انظر: إن كان هذا إنساناً، هذا مقدَّم فهو حيوان .. حيوان التالي، لكنه إنسان أين الصغرى وأين الكبرى؟

لكنه إنسان كبرى، فهو حيوان هذه النتيجة.

إذاً: عندنا مقدمتان هنا ليس مقدمة واحدة:

المقدمة الأولى: ما قبل لكن، المقدمة الثانية: ما دخلت عليه لكن: لكنه إنسان.

(فهو) الفاء دخلت على النتيجة، فهو حيوان.

هنا انظر: إن كان هذا إنساناً هذا مقدَّم، فهو حيوان هذا التالي، استثنيتَ بلكن عينَ المقدَّم: إنسان، ما قلت: لكنه ليس بإنسان، استثنيت عين المقدَّم أنتَج: فهو حيوان. عين التالي.

(فلا يُنتج استثناء عين التالي عينَ المقدَّم).

إن كان هذا إنساناً فهو حيوان، لكنه حيوان فهو إنسان. لا ينتج، استثنينا المقدَّم .. عين المقدَّم أنتج عين التالي، لو عكسْنا يعني: استثنينا عين التالي: لكنه حيوان فهو إنسان؟ لا. كذَبَت ليس بإنسان.

(فلا يُنتج استثناءُ عين التالي عينَ المقدَّم؛ إذ لا يلزم من وجود اللازم) الذي هو التالي (وجود الملزوم) الذي هو المقدَّم .. (لا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم).

أي: لجواز كون اللازم أعم من الملزوم، ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص، كالإنسان الملزوم للحيوان، فيلزم من وجود الإنسان وجود الحيوان ولا يلزم من وجود الحيوان وجود الإنسان.

(15/3)

________________________________________

لأنه إذا ثبَت الأعم لا يثبت الأخص، فقد تقول: هذا حيوان والمراد به فرس ولا يرد الإنسان .. ليس عندنا إنسان. نقول: ما دخل هذا البيت إلا كذا ولا يكون إنساناً، وهو كذلك.

قال هنا: (وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي يُنْتِجُ نَقيضَ المُقَدَّمِ).

(وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي) إن كان هذا إنساناً فهو حيوان، لكنه ليس بإنسان فهو ليس بحيوان.

إذاً: استثناء نقيض المقدم، النقيض يكون بالسلب، يُنتج ماذا؟ نقيض التالي.

(وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي يُنْتِجُ نَقيضَ المُقَدَّمِ).

(وإلاَّ يُنتِج نقيض المقدَّم لزِم وجود الملزوم بدون لازمه وهو محال، فيبطُل به قاعدة اللزوم.

وإلا لزم وجود الملزوم وهو المقدَّم بدون اللازم وهو التالي، فيبطل اللزوم.

كقولنا: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان، لكنه ليس بحيوان) استثنى نقيض التالي: ليس بحيوان (فلا يكون إنساناً) نقيض المقدَّم.

(فلا يُنتِج استثناءُ نقيض المقدَّم نقيضَ التالي) عكْسُه.

(إذ لا يلزم من عدم الملزوم عدم اللازم) أي: لجواز كون الملزوم أخص من اللازم، ولا يلزم من عدم الأخص عدم الأعم، بخلاف العكس فهو لازم.

قال: (والحاصل) هذه الخلاصة.

(أنه يلزم من إثبات عين المقدَّم إثبات عين التالي ولا عكْس، ويلزم من إثبات نقيض التالي إثبات نقيض المقدَّم ولا عكس.

فللمتصلة أربعة أضرُب: ضربان منتجان وضربان عقيمان).

ما أثبته -ضربان منتجان- عكسُهُما لا يُنتج وهما ضربان عقيمان.

قال هنا: (وشرطُ إنتاج المتصلة لزوميتُها، وإيجابُ الشرطية وكليتُها أو كُلِّيَّةُ الاستثناء) هذا مر معنا.

قال الرازي في شرح الشمسية: ويُعتبر لإنتاج هذا القياس شرائط:

يعني: وشرط إنتاج المتصلة، ذَكَر ثلاثة شروط: لزوميتها، وإيجاب الشرطية، وكليتها أو كُلِّيَّة الاستثناء.

قال: (أحدُها: أن تكون الشرطية موجبة، فإنها لو كانت سالبة لم تُنتج شيئاً لا الوضع ولا الرفع، فإن معنى الشرطية السالبة: سلب اللزوم أو العناد.

وإذا لم يكن بين أمرين: لزومٌ أو عناد، لم يلزم من وجود أحدهما أو عدمِه وجود الآخر أو عدمه) وهو كذلك.

إذا لم يكن بينهما تلازم فحينئذٍ لا يأتي عندنا رفعٌ ولا إثبات، لأنَّ الإثبات يلزم منه رفع المقابل، إذاً: ليس عندنا تلازم، فإذا لم يكن بينهما تلازم فحينئذٍ لا إثبات ولا رفع.

ولذلك قال: (فإنها لو كانت سالبةً لم تُنتِج شيئاً) فاشترطنا أن تكون موجبة، لماذا؟ (فإنَّ معنى الشرطية السالبة سلبُ اللزوم أو العناد.

وإذا لم يكن بين أمرين: لزومٌ أو عناد، لم يلزم من وجود أحدهما أو عدمِه وجودُ الآخر أو عدمه.

(وثانيهما) الشرط الثاني (أن تكون الشرطية لزومية إن كانت متصلة، وعنادية إن كانت منفصلة؛ لأنَّ العِلم بصدق الاتفاقية أو كذبها موقوفٌ على العلم بصدق أحد طرفيها أو كذِبه، فلو استُفيد العلم بصدق أحد الطرفين أو بكذبه من الاتفاقية للزم الدور.

(15/4)

________________________________________

(ثالثُها: أحد الأمرين: وهو إما كُلِّيَّة الشرطية، أو كُلِّيَّة الاستثنائية) أي: كُلِّيَّة الوضع أو الرفع، الاستثنائية المقصود بها الوضع أو الرفع (فإنه لو انتفى الأمران، احتمل أن يكون اللزوم، أو العناد على بعض الأوضاع والاستثناء على وضعٍ آخر –افترقا-، فلا يلزم من إثبات أحد جزئي الشرطية أو نفيه ثبوتُ الآخر أو انتفاءه، اللهم إلا إذا كان وقت الاتصال والانفصال ووضعُهما هو بعينه وقت الاستثناء ووضعِه.

فإنه يُنتِج القياس ضرورة. كقولنا: إن قدِم زيدٌ في وقت الظهر مع عمروٍ أكرمتُه) قيَّده: وقت الظهر (لكنه قدم مع عمروٍ في ذلك الوقت فأكرمتُه.

والمراد بكُلِّيَّة الاستثناء ليس تحقق الاستثناء في جميع الأزمنة فقط، بل هو مع جميع الأوضاع التي لا تنافي وضع المقدَّم). انتهى كلامه.

إذاً: وشرطُ إنتاج المتصلة لزوميتها، فإن لم تكن فحينئذٍ لا تلازم؛ لأن الوضع والرفع إنما يتصف به ما كان بين المقدمتين تلازُم.

وإيجابُ الشرطية وكليتُها أي: الشرطية، أو كُلِّيَّةُ الاستثناء.

قال: (وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً) انتهى من المتصلة.

(وَإِنْ كَانَتْ) (أي: الشرطية الموضوعة في الاستثناء)

(مُنْفَصِلَةً حَقِيقِيَّةً) يعني: مانعة جمعٍ وخلو المعنى، يعني: المركبة من الشيء ونقيضه أو الشيء ومساوي النقيض.

قال هنا: (وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً) (أي: الشرطية الموضوعةُ في الاستثناء منفصلة).

(حَقِيقِيَّةً فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ أَحَدِ الجُزْئَيْنِ يُنْتِجُ نَقِيضَ الجُزْءِ التَّالِي).

(فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ أَحَدِ الجُزْئَيْنِ).

العدد إما زوجٌ أو فردٌ، لكنه زوجٌ فليس بفردٍ. هنا الاستثناء لأي شيء؟ لعين المقدَّم، وهنا قيل: مقدَّم وتالي لا أثَر له، العدد إما زوجٌ وإما فردٌ، لكنه فردٌ فليس بزوجٍ. هذا المراد هنا.

قال: (فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ أَحَدِ الجُزْئَيْنِ) مقدَّماً كان أو تالياً.

(يُنْتِجُ نَقِيضَ الجُزْءِ التَّالِي) ليس بزوجٍ ليس بفردٍ.

(أي: الآخر) التالي يعني: الآخر، عبَّر بالآخر هنا المراد به أنَّ المقدَّم والتالي ليس بوصفٍ لازم، كما هو الشأن في المتصلة.

(لامتناع الجمع بينهما) لأنها مانعة جمع وخلو (كَقَوْلِنَا: الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ لكِنَّهُ زَوْجٌ، يُنْتِجُ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْدٍ، أَوْ لكِنَّهُ فَرْدٌ يُنْتِجُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ.

وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا يُنْتِجُ عَيْنَ التَّالِي) يعني: أحد جزئي الحقيقية.

(أي: الآخر؛ لامتناع رفْعِهما) لأنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان .. لا ينتفيان معاً، هذا الكلام في الحقيقية.

(كقولنا في هذا المثال: لكنه ليس بزوجٍ يُنتج أنه فردٌ) استثنى نقيض المقدَّم، أصل المثال: العدد إما زوجٌ. إذاً: نقيض المقدَّم.

ولكنه ليس بفردٍ يُنتج أنه زوجٌ، هذا في الحقيقية.

(وأما مانعةُ الخلو -أي: فقط- وهي المركبة من قضيتين، كلٌ منهما أعم من النقيض).

قال: (فاستثناء نقيض أحد الطرفين يُنتج عينَ الآخر؛ لامتناع الخلو عنهما).

قال هنا في الحاشية: كلٌ منهما أعم من نقيض الأُخرى نحو: هذا إما لا شجر وإما لا حجر.

(15/5)

________________________________________

كلٌ منهما أعم من نقيض الآخر: لا شجر أعمُّ من حجر، ولا حجر أعم من شجر. هكذا متقابلان، إما لا شجر وإما لا حجر، لا شجر أعم من حجر الذي هو نقيض لا حجر، ولا حجر أعم من شجر الذي هو نقيض لا شجر.

فلا شجر يشمل الحيوان والحجر الذي هو نقيض لا حجر، ولا حجر يشمل الحيوان والشجر الذي هو نقيض لا شجر.

فكلٌ من لا شجر ولا حجر أعم من نقيض الآخر، وهو كذلك .. لا شجر أعم من نقيض لا حجر الذي هو حجر، ولا حجر أعم من نقيض لا شجر الذي هو الشجر.

قال: (فكلٌ مِن لا شجر ولا حجر أعم من نقيض الآخر، ونحو: زيد إما في البحر وإما ألا يغرق).

فنقيض لا يغرق: يغرق، والكون في البحر، في البحر يشمله ويشمل السلامة من الغرق، ونحو: السفينة، أو عومٍ.

ونقيضُ في البحر: ليس في البحر، لا نقول في البر؛ هذا ضده، إنما نقول: نقيضه تسلّط النفي فقط، في البحر ليس في البحر هكذا، وإن كان يصدق على البر، فالبر قد يقال بأنه مساوي للنقيض كما مر معنا: ليس المنقسم المتساويين هذا مساوٍ لزوج.

قال هنا: (ونقيض في البحر: ليس في البحر، ونفيُ الغرق يشمل السلامة المذكورة.

فكلٌ منهما أعم من نقيض الآخر، ويلزم من نفي الأعم نفيُ الأخص، فيلزم من انتفائهما انتفاءُ النقيضين وهو محال.

فلذا أنتج رفْعُ أحدهما وضْعَ الآخر) الخلو ممنوع، والاجتماع جائز: يكون في البحر ولا يغرق.

مانعة الخلو مباشرة تفهم منْع الخلو –الانتفاء يعني- لا يرتفعان وإنما يجتمعان.

قال هنا: (فاستثناءُ نقيض أحدِ الطرفين يُنتِج عينَ الآخر) لاستلزامه الخلو عن النقيضين.

مثالُه: هذا الشيء إما لا شجر أو لا حجر، لكنه شجر. استثنى نقيض أحد الطرفين الذي هو المقدَّم فهو لا حجر، يُنتج عين الآخر.

استثناء نقيض أحد الطرفين: هذا الشيء إما لا شجر أو لا حجر، لكنه شجر. هذا نقيض لا شجر الذي هو المقدَّم، فهو لا حجر يعني: يُنتج عينَ التالي.

(فاستثناء نقيض أحد الطرفين يُنتج عين الآخر) لماذا؟ (لامتناع الخلو عنهما.

واستثناءُ العين) يعني: عين أحدهما.

(لا يُنتج) استثناء العين لا ينتج، وإنما الذي يُنتج استثناء النقيض -نقيض العين-.

قال: (واستثناء العين) أي: عين أحدهما (لا يُنتج).

فضُرُوبُه أربعة: اثنان منتجان واثنان عقيمان؛ لأنك تستثني نقيض المقدَّم، تستثني نقيض التالي. هاتان صورتان، تستثني عين لا يُنتج. إذاً: ضُروبه أربعة: اثنان منتجان واثنان عقيمان.

قال هنا: (لا يُنتج لاحتمال اجتماعهما على الصدق) أي: لاستلزامه اجتماع النقيضين على الصدق، ليلزم من صدق الأخص صدقُ الأعم.

فلو صدَقا معاً لصدَق كلٌ منهما مع صدق نقيضه وهو محال.

قال: (كقولنا: هذا الشيء إما لا شجر أو لا حجر، لكنه شجرٌ فهو لا حجر، أو لكنه حجرٌ فهو لا شجر. بخلاف: لكنه لا شجر عين المقدَّم فلا يُنتج فهو حجر.

أو لكنه لا حجر فلا يُنتج فهو شجر.

وأما مانعةُ الجمع وهي المركَّبة من قضيتين كلٌ منهما أخص من نقيض الأخرى.

فاستثناءُ أحدِ الطرفين يُنتِج نقيض الآخر؛ لامتناع اجتماعهما على الصدق، واستثناء النقيض لا يُنتج؛ لاحتمال اجتماعهما على الكذب).

مانعةُ الجمع تمنع الجمع فقط وأما الخلو فجائز، إذاً: يرتفعان لكن لا يجتمعان.

(15/6)

________________________________________

قال: (لاحتمال اجتماعهما على الكذِب؛ إذْ لا يستلزم ذلك كذب النقيضين) إذ لا يلزم من كذب الأخص كذب الأعم.

قال هنا: (واستثناء النقيض لا يُنتج لاحتمال اجتماعهما على الكذب. كقولنا: هذا الشيء إما شجرٌ أو حجرٌ) نقيض شجر: لا شجر، وهو أعم من التالي الذي هو حجر؛ لشمول الحيوان أيضاً.

ونقيض حجر: لا حجر، وهو أعم من شجر؛ لانفراده عنه بالحيوان.

قال هنا: (الشيء إما شجرٌ أو حجر) طبِّق القاعدة السابقة: استثناء أحد الطرفين يُنتج نقيض الآخر: إما شجرٌ أو حجر، لكنه شجر. استثنى عينَ المقدَّم، أنتج نقيض التالي: لا حجر.

أو لكنه حجراً استثنى عين التالي، أنتج نقيض المقدَّم فهو لا شجر، بخلاف لكنه لا شجر فلا يُنتِج، فهو حجر، إذا قيل: لا شجر إذاً: فهو حجر، كل ما ليس بشجر فهو حجر، أنت لست بشجر وأنت إنسان فهو لا حجر، أو لكنه حجر فهو لا شجر. بخلاف: لكنه لا شجر فلا يُنتج لا حجر، أو لكنه لا حجر فلا يُنتج: فهو شجر.

هذا ما يتعلق بالقياس الاستثنائي.

قال: (الْبُرْهَانُ).

(هذا البرهان) أي: هذا باب بيان البرهان، البرهان هذا عندهم من أعلى الدرجات.

قال: (الْبُرْهَانُ هو ترجمةٌ، وذكَر معه أقسام الحجة الباقية، اقتصر عليه لأنه العمدة).

فيما سبق قال: القياس لأنه العمدة، وهو البرهان قياسٌ، والفرق بين هذا وذاك قد يقال بأن ذاك أعم؛ لأنه لا يختص من حيث المقدمات من كونها يقينية أو ظنية.

وقلنا: الكاذبة تدخل كذلك فهو عام، لكن البرهان خاص باليقينيات، أو ما كان مآلها إلى ذلك.

حينئذٍ هو أخص من مطلق القياس السابق.

إذاً: (الْبُرْهَانُ هو ترجمةٌ، وقد ذَكَر معه أقسام الحجة الباقية، اقتصر عليه لأنه العمدة).

قال: (وهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيةٍ).

قال: (الْبُرْهَانُ: وهُوَ) يعني: حقيقتُه وتعريفه.

(قِيَاسٌ) هذا النُّسخ اختلفت فيه، في بعض النسخ (قولٌ) هنا قال: قياس ولا إشكال فيه.

(قِيَاسٌ) هذا جنس شمل البرهان والجدل والخَطابة والشعر والسفسطة.

(قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ) مقدِّمات أي: مقدمتين فأكثر على ما سبق: البسيط والمركب وكل ما قيل هناك يقال هنا.

(مِنْ مُقَدِّمَاتٍ) أي: مقدمتين توطِئة لقوله: (يَقِينِيةٍ) لأن مؤلَّف يكفي، وقياس يكفي.

(قِيَاسٌ) مضمونُه أنه من مقدمته، وإلا لم يكن قياساً.

(مُؤَلَّفٌ) يعني: مركّب من مقدمتين، والمؤلَّف يرادف القياس، والقياس والمؤلف يرادفان القول .. كلُّها بمعنى واحد، وزد عليها القضية كذلك.

(مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ) ذكَر المقدمات هنا تمهيداً –توطئة- لقوله: (يَقِينِيةٍ).

يَقِينِيةٍ نسبة إلى اليقين، فصْلٌ مخرجٌ الأربعة الأخيرة) يعني: الجدل، والخطابة، والشعر، والسفسطة.

دخل في قوله: قياس الخمسة: البرهان، والجدل، والخطابة، والشعر، والسفسطة.

(يَقِينِيةٍ) هذا احتراز عن الأربعة الأخيرة: الجدل، والخطابة، والشعر، والسفسطة.

مُخرجٌ الأربعة الأخيرة. نحو ماذا اليقينية؟ سقفُ البيت جزءٌ منه، هذا يقين .. مقدمة يقينية، وكل جزءٍ أصغرُ من كله، هذه مقدمة يقينية يعني: لا تحتمِل.

(15/7)

________________________________________

(مِنْ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيةٍ) (نسبةً إلى اليقين أي: معتقَد اعتقاداً جازماً مطابقاً للواقع عن دليل، فصلٌ مُخرجٌ ما عدا البرهان).

وقوله: (لِإِنْتَاجِ الْيَقِينِيَّاتِ) (ذكَره تكميلاً لأجزاء حد البرهان، لأنه عِلَّةٌ غائية له) يعني: لإنتاج يقينيات (قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيةٍ لِإِنْتَاجِ الْيَقِينِيَّاتِ) هذا ليس من الحد، وإنما هو غاية.

(ذكَره تكميلاً لأجزاء حد البرهان؛ لأنه عِلَّةٌ غائيةٌ له) يعني: الغاية أو الهدف من تأليف هذا القياس هو الوصول إلى يقينيات.

قال: (واليقين اعتقاد أن الشيء كذا) الشيء: أي شيءٍ كان (كذا) على حالةٍ ما.

(معَ) زيادةً على ذلك (اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا) يعني: لا يحتمِل النقيض؛ لأن ما احتمل النقيض، هذا خرج عن كونه يقينياً، صار ظناً أو غيرَه.

قال: (مع اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا) ولذلك قال: (فصلٌ مُخرِجٌ الظنَّ).

واعتقاد أن الشيء كذا دخل فيه جميع الإدراكات الذي هو اليقين، والظن، والتقليد، والجهل المركب .. كلها إدراكات، إدراك الشيء على ما هو عليه هذا إدراك، وإدراك التقليد كذلك يسمى اعتقاداً، والاعتقاد يعم الجهل المركب، ويعم الظن، ويعم كذلك التقليد.

(مع اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا) يعني: رفَعَ عنه احتمال النقيض، (فصلٌ مُخرِجٌ الظنَّ).

قال: (مع مطابقته للواقع) أخرج الجهل المركب؛ لأنه غير مطابق للواقع. ولو اعتقد في ظنه أنه كذا، اعتقاد الفلاسفة قِدَم العالم هذا دين عندهم، حينئذٍ يعتقد أنه مطابق للواقع، لكنه في نفس الأمر لا.

قال: (مع مطابقته للواقع فصْلٌ مخرجٌ الجهلَ المركب، وامتناع تغيّره) هذا قيْد، امتناع تغيّره أي: الاعتقاد (فصلٌ مخرجٌ التقليد) التقليد قابل للتشكيك .. المقلِّد مسكين كلما لاحَت له بادرةُ حجة مضى معها، وإذا لم يكن كذلك بقي على ما هو عليه، فيُنظر في حاله، إذا لاحت له بادرة حجة قوية ظنَّ أنها هي الحق، فانتقل عن قوله السابق .. وهكذا.

قال هنا: (والبرهان قسمان: أحدُهما: لِمِّيٌّ) لِمِّيٌّ بكسر اللام وتشديد الياء، لِمِّيٌّ نسبة إلى لِمَ.

(لِمِّيٌّ) بكسر اللام والميم مشددة مع الياء، نسبةً لـ (لِم) كما يأتي، بكسر اللام والميم المشددة.

(لِمِّيٌّ وهو) أي: اللِمِّيّ (ما كان الحدُّ الوسط فيه عِلَّةً لنسبة الأكبر إلى الأصغر في الذهن والخارج) عِلَّة في الذهن والخارج، هذا الفرق بين اللِمِّي والإنّي، كلٌ منهما يشتركان أن الحد الوسط "عرفنا المراد بالحد الوسط المكرر" فيه عِلَّة لنسبة الأكبر إلى الأصغر، وعرفنا كيفية النسبة.

(في الذهن والخارج معاً) هذا هو اللِمِّيّ، في الذهن فقط لا في الخارج هو الإنّي، هذا فرقٌ بينهما.

يعني: كونه عِلَّةً له في الذهن فقط لا في الخارج، هذا يسمى إنِّيّاً، وإذا كان في الذهن والخارج معاً فهو اللِمِّي.

قال هنا: (كقولنا: زيدٌ متعفِّن الأَخلاط، وكل متعفّن الأخلاط محمُوم، فزيدٌ محموم.

فتعفُّن الأخلاط) هذا الحد الأوسط؛ لأنه هو المتكرر.

(زيدٌ متعفِّن الأخلاط) صار محمولاً.

(وكل متعفِّن الأخلاط محمُوم) هذا الشكل الأول.

(15/8)

________________________________________

(فزيدٌ محمومٌ، فتعفُّن الأخلاط) الذي هو الحد الأوسط، الأخلاط قالوا: هي الدم والسواد، والبلغم والصفراء، وتعفُّنُه: خروجُه عن الكيفية فقط لاهي والكمية.

يعني: دليل المرض.

(فتعفُّن الأخلاط عِلَّةٌ لثبوت الحُمى لزيدٍ في الذهن والخارج معاً).

إذاً: لمَ ثبتت له الحمى؟ لتعفُّن الأخلاط، هذا عِلَّةٌ له في الذهن وفي الخارج، في الذهن كذلك وفي الخارج كذلك، لكنْ التلازم في الذهن هنا ليس من جهة العقل، لا تلازم بينهما، وإنما عادة أو تجرِبة أو نحو ذلك، وأما في الخارج فهو ثابتٌ.

قال هنا: (وسُمّي لِمِّيّاً لإفادته اللِمِّيّة) أي: العِلَّة (إذ يجاب بها السؤال: بلِمَ كان كذا) نسبة لـ (لِم) التي أصلها اللام الجارّة وما الاستفهامية، ومعلوم أن ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر حُذِفت الألف ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)) [النبأ:1] أصلُها (عمَّا) بالألف، لكن القاعدة هنا إذا دخل حرف الجر على ما الاستفهامية حُذِفت ألفها ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)) [النبأ:1]، ليس عندنا التقاء ساكنين حتى تُحذف الألف، وإنما حُذفت هكذا قاعدة، والحُجة للسماع، الاستقراء دل على ذلك.

إذاً: لِم .. السؤال عنها بلِم: لِم كان كذا؟ فيكون الجواب: لتعفُّن الأخلاط.

(والثاني) أي: القسم الثاني من البرهان.

(إِنِّيٌ) نسبةً إلى إِنَّ وسيأتي لأنه.

(وهو ما كان الحد الوسط عِلَّةً لذلك في الذهن لا في الخارج) كسابقه (كقولنا: زيدٌ محمومٌ، وكل محمومٍ متعفِّن الأخلاط) ليس تلازم بينهما، ليس كالسابق .. كل متعفّن الأخلاط هنا محموم فَجَعلة عِلَّةً، هنا عِلَّة لكنه ليس فيه تلازم، ولذلك اكتفينا به في الذهن دون الخارج.

قال: (وكل محمومٍ متعفُّن الأخلاط فزيدٌ متعفّن الأخلاط، فالحُمَّى عِلَّةٌ لثبوت تعفُّن الأخلاط) وفيما سبق قال: تعفّن الأخلاط عِلَّة للحمى، فرْق بين التركيبين.

(فالحمى عِلَّةٌ لثبوت تعفّن الأخلاط لزيدٍ في الذهن وليست عِلَّة له في الخارج، بل الأمر بالعكس؛ إذ التعفّن عِلَّةٌ للحمى) فرْق بينهما كما مر.

(وسُمّي إنّيّاً لاقتصاره على إنّيّة الحكم أي: ثبوتِه دون لِمِّيّته من قولهم: إنَّ الأمر كذا، فهو منسوبٌ لـ"إنَّ"، والأول لـ"لِم").

قال رحمه الله تعالى: (وَالْيَقِينِيَّاتُ أَقْسَامٌ).

هذا شروعٌ بعدما عرَّف لنا البرهان أنه: القياس المؤلَّف من مقدمات يقينية، وقسَّمه إلى لِمِّيّ وإنّي، شرع في ذكر المواد التي تتركب منها الأقيسة.

(بعد الفراغ من الكلام على الصورة التي هي شرائط الإنتاج.

فإنه كما يجب على المنطقي النظر في صورة الأقيسة، كذلك يجب عليه النظر في موادها؛ حتى يُمكنَه الاحتراز عن الخطأ في الفكر من جهة الصورة والمادة).

يعني: الخطأ إما من جهة الصورة يعني: الهيئة .. التأليف.

وإما في المادة: التركيب يعني: اللفظ نفسه.

والقياس المؤلَّف من هذه الست يسمى: برهاناً، واعترض السعد حصْرهم اليقينيات في الست بأنَّ اليقينيات قد تكون مكتسَبة بالبرهان.

وأجاب: بأن المقصود اليقينيات الأُوَل تنحصر في الست، وأما المكتسَبات فهي ليست أُوَل بل ثواني.

إذاً: (وَالْيَقِينِيَّاتُ أَقْسَامٌ) (ستةٌ).

(15/9)

________________________________________

قال المحشي هنا: (ظاهر كلام المصنف أن مقدمات البرهان يجب أن تكون من هذه الست وليس هذا مرادَه؛ فإن مقدماته قسمان: مقدمات أَوَّلِيَّة) دون نظر للكسب (ومقدمات ثواني أو فوقها.

فالأول: الضروريات الست، والثواني وما فوقها هي المكتسبات.

(وأما ما يقال من أن البرهان لا يتألف إلا من الضروريات، فمعناه: أنه لا يتألف إلا من قضايا يكون التصديق بها ضرورياً "أي: واجباً"، سواءٌ كانت ضرورية في نفسها "أي: نسبتها واجبة"، أو كانت ممكنة "أي: نسبتها غير واجبة".

أو كانت وجودية "أي: نسبتُها واقعةٌ بالفعل من غير تعرُّض فيها للوجوب والدوام، ولا غيرِهما، وسواءٌ كانت بديهية أو مكتسبة.

قال السعد في شرح الشمسية: أقول: مقدمات البرهان لا يجب أن تكون من الضروريات الست، بل قد تكون من الكسبيات المنتهية إليها.

فمرادُ المصنف: أن القياس الذي مواده الأُوَل من الضروريات الست، سواءٌ كانت مقدمتاه ضروريتين أو مكتسبتين أو مختلفتين يسمى: برهاناً.

وما يقال: إن البرهان لا يتألف إلا من الضروريات فمعناه: أنه لا يتألف إلا من قضايا يكون التصديق بها ضرورياً، سواءٌ كانت ضرورية في نفسها، أو ممكنة، أو وجودية.

وسواءٌ كانت بديهية أو مكتسبة، فهو إذاً قياسٌ مؤلَّفٌ من يقينياتٍ لإفادة اليقين، سواءٌ كانت ابتداءً أو انتهاءً).

(أَوَّلِيَّاتٌ) بفتح الهمز والواو، وكسر اللام مثقَّلاً.

(وهي) هذه المقدمات اليقينية: النوع الأول: أَوَّلِيَّاتٌ.

(وهي) حقيقتُها (ما يَحكُم فيه العقل بمجرد تصور طرفيه).

(ما يحكم فيه العقل) العقل المراد به هنا التعقُّل.

(ما يحكم فيه العقل) جنس يشمل الأقسام الستة وغيرها، وهو أراد أن يجعلها أشبه ما يكون بالتعاريف، لا بد من الإدخال والإخراج، مع أنها واضحة لا تحتاج إلى احترازات.

(بمجرد تصور طرفيه. فصْلٌ مخرجٌ ما سوى المعرَّف) المراد بالطرفين: الموضوع والمحمول في الحمليَّة، والمقدَّم والتالي في الشرطية.

(وسواءٌ كان تصور الطرفين ضرورياً نحو: الواحد نصف الاثنين).

الواحد هذا موضوع ومحمول، الواحد نصف الاثنين. الواحد موضوع، نصف الاثنين هذا محمول.

بمجرد تصوُّر الطرفين، حصل ما لا يمكن دفعُه وهو العلم به، ولا يحتاج إلى إثبات .. لا يحتاج إلى بحث ولا إلى نظر.

(أو نظرياً نحو: الإنسان حيوان) هذا هو الأصل فيه.

قال هنا: (وقد يتوقف العقل في الحكم الأَول بعد تصوُّر طرفيه لعارضٍ كنقصان غريزة كحال الصبيان، والبُلْهِ، أو تدنس الفطرة بالعقائد المضادة للأوليّات كحال بعض العوام) والأشاعرة مثلُهم (والجهل، فلا يُخرجها ذلك عن كونها أوّليّات).

لأنهم يقولون: هؤلاء حصل عندهم خلل في تصور المسائل، طيب وأنتم على أي مستوى يعني، هل تفترقون عن العامة أو لا؟ العامة حالُهم أحسن.

إذاً: قال: (ما يحكم فيه العقل بمجرد تصور طرفيه) فقط، لا يحتاج إلى أمرٍ خارج أو زيادة على ذلك.

(كَقَوْلِنَا: الوَاحِدُ نِصْفُ الاِثْنَيْنِ وَالْكُلُّ أَعْظَمُ مِنَ الجُزْءِ) لا يحتاج إلى دليل (والسواد والبياض لا يجتمعان.

(15/10)

________________________________________

(فالمراد ببداهة تلك المقدمات: هو أنه بعدَ تصور الطرفين يكون الحُكم بالنسبة بديهياً أي: لا يحتاج لشيءٍ بعد تصور الطرفين، وإن كانت الأطراف قد تكون نظرية) يعني: النسبة بينهما.

قال: (والسواد والبياض لا يجتمعان).

(وَمُشَاهَدَاتٌ) هذا النوع الثاني.

(وهي: ما لا يَحكم فيه العقل بمجرد ذلك) يعني: تصور طرفين.

(بل يحتاج إلى المشاهدة بالحس) خرج به المجرَّبات وما يليها.

قال: (فإن كان الحس ظاهراً، كالبصر والسمع، واللمس فتُسمى حسِّيات) (كَقَوْلِنَا: الشَّمْسُ مُشْرِقَةٌ وَالنَّارُ مُحْرِقَةٌ).

الشمس مشرقة هذا يُدرك بالبصر مثلاً، رأيتَها أشرقت الشمس.

والنار محرقة باللمس، هذه حِسيّات.

(وإن كان باطناً) يعني: الحس الباطن.

(فوُجدانيات كقولنا: إن لنا جوعاً وغضباً) الجوع باطن، والغضب كذلك باطن.

قال هنا: (جعَلَ الشارح المشاهدات شاملة للحسيات والوجدانيات) والكثير منهم يفْصِلون بينها، يجعلون الحسيّات هذه منفصلة والوُجدانيات هذه منفصلة.

قال: (جعلَ الشارح المشاهدات شاملة للحسيات والوجدانيات، كما في الشمسية.

ومنهم من جعل الحسيات قسماً مستقلاً، وخصص من المشاهدات بالوجدانيات.

والأحكام الحسية والوجدانية كلها جزئيات) هذه قاعدة.

الأحكام الحسيّة كل ما كان مدركاً بالحس فهو جزئي؛ لأنه خاص ليس كلّي، يعني: لِمس بارد، فنقول: هذا حكمٌ جزئي؛ لأن اللمس منك خاص والنار خاصة، أنت ما لمست مثلاً الماء البارد كله في العالم حتى يكون كلّي لا، وإنما شيءٌ خاص.

كذلك النار محرقة، حينئذٍ الذي لمَس هذا جزئي، والنار خاصة .. جزئية؛ لأنها شيءٌ معيّن ليست كل النار.

إذاً: الأحكام التي تترتب على الحس كلها جزئية، والأحكام الحسية والوجدانية كلها جزئيات، فإن الحس الباطني مثلاً لا يفيد إلا أن هذا الجوع مؤلِم لزيد، هو الذي شعر به ولم يشعر به غيره، وإن شَعر غيره بالجوع -بمطلق الجوع- لكن بجوعٍ خاص، الذي شعر به زيد هذا لا مؤلم، وأما الحكم على كل جوعٍ أنه مؤلم فعقليٌ.

كقاعدة كُلِّيَّة: الكُلِّيَّات التي بُنِيت على الحسيات هذه عقليات، ولذلك نقول: النار محرقة. هذه جزئية حسية، وقد تكون عقلية.

أنت الآن تعرف أن النار محرقة، لكن ما جرّبت "عافاك الله" لكن تحكم، حكمك هذا عقلي ليس بحسي؛ لأنك ما جربت، لو لمست ووجدت الحرارة والحُرقة، حينئذٍ هذا يسمى حسيّاً، وأما أن تحكم بأن الماء بارد أو المكيف بارد وأنت ما جرّبت، نقول: هذا يسمى حكماً عقلياً.

فالقواعد العامة والكُلِّيَّات المأخوذة من الحسيات هذه عقليات، وأما الجزئي فهو حسي.

ولذلك قال: (وأما الحكم على كل جوعٍ أنه مؤلم فعقليٌ، استُفيد من الإحساس بجزئيات ذلك، والوقوف على عِلَّته، وكذا الحس الظاهر كاللمس، لا يفيد إلا أنَّ هذه النار حارة) فقط .. خاصة جزئية.

(وأما الحكم على كل نارٍ بأنها حارة فحُكم عقليٌ مبدأُه الحس).

يعني: فلان أحرقته، وزيد وعبيد .. إلى أن صار حكماً عاماً فاستقر.

قال هنا: (فحكم عقليٌ مركب من الحسي والعقلي لا حسي مجرد، ولا تقوم حجة على الغير بالحس إلا إذا شارك في إحساس الشيء؛ إذْ إنكارُه حينئذٍ مكابرة).

(15/11)

________________________________________

إذا شارك حينئذٍ لا يمكن نفيه، ونفيه حينئذٍ يكون مكابرة، لو لمس النار قال: ليست محرقة، فحينئذٍ نقول: يكون هذا من باب المكابرة.

إذاً قال: (فإن كان الحس ظاهراً فتسمى حسيّات) (كَقَوْلِنَا: الشَّمْسُ مُشْرِقَةٌ وَالنَّارُ مُحْرِقَةٌ).

(وإن كان باطناً فوُجدانيات كقولنا: إن لنا جوعاً وغضباً).

إذاً: النوع الأول: أَوَّلِيَّات هذه قضايا يحكُم فيها العقل بمجرد تصور طرفيه، والمشاهدات: قضايا يُحكم بها بواسطة الحس الظاهرة، وتسمى حسيات كالحكم بأن الشمس مضيئة، أو الحواس الباطنة وتسمى وجدانيات كالحكم بأن لنا خوفاً وغضباً.

(وَمُجَرَّبَاتٌ) وهي ما يحتاج العقل في جزم الحكم به إلى تجرِبة، إلى تَكرار المشاهدة مرة بعد أخرى).

التجربة لا تكون إلا بالتكرار. يعني: مرة واحدة تقرأ كتاب لا تقول: جربتُ، قرأتُ كذا. لا، لا بد من مرة بعد أخرى؛ حتى تستنبط حكماً مبناه على التجربة، أما مجرد كتاب وتحكم جربتُ كذا!

قال هنا: (إلى تَكرار المشاهدة، مُخرجٌ الأَوَّلِيَّات والمشاهدات، والحدَسيات وما يليها.

وتفيد المجربات اليقين بواسطة قياسٍ خفي) هو ذكَرها من اليقينيات.

(بواسطة قياسٍ خفي وهو الوقوع المتكرر على وجهٍ واحد لا بد له من سبب).

يعني: إلى تكرار المشاهدة مرة بعد أخرى، لا بد مع انضمام قياسٍ خفي، وهو أنه لو كان اتفاقياً، لما كان دائماً أو أكثرياً، هذا القياس الخفي.

لأنه كلما تكرر مرة بعد مرة حصل نفس الحكم. إذاً: ثم سبب ومسبَّب، فالقياس الخفي هو أنه لو كان اتفاقياً لما كان دائماً أو أكثرياً.

قال هنا: (لا بد له من سبب، ومتى وُجد السبب وجد مسببُه يقيناً، وهي قسِمان –المجربات-: خاصة نحو: السَّقَمُونِيَا) بفتح السين والقاف (السَّقَمُونِيَا تسهل الصفراء) نبتٌ له دَورٌ (تسهل الصفراء، وعامة نحو: الخمر مسكر).

قال: (إلى تَكرار المشاهدة مرة بعد أخرى) (كَقَوْلِنَا: السَّقَمُونِيَا مُسَهِّلَةٌ لِلصَّفْرَاءِ) هذه مجربة لكنها خاصة، والعامة: الخمر مسكرٌ.

(وَحَدْسِيَّاتٌ) (وهي ما يحكم فيه العقل بحدْسٍ مفيدٍ للعلم) يعني: ظن وتخيُّل وتخمين.

قال: السَّقَمُونِيَا: نبتٌ يستخرج من تجاويفه شيءٌ رطبٌ، ويُجَفَّف مضادٌ للمعدة والأحشاء، أشد من جميع المسهِّلات تُصلحه الأشياء العطرة كالفلفل والزنجبيل .. إلى آخره.

(بحدْسٍ) أي: حَرْزٍ وتخمين قوي مُخرج لباقي اليقينيات.

قوله: (مفيدٌ للعلم) أي: دُفعة، بخلاف الحاصل بالتجربة فتدريجي، الذي يحصل بالتجربة، العلم الحاصل منه اليقيني -على كلامه ليست بظنية- نقول: هذا يحصل تدريجياً ليس دفعياً (ولذا اختلف الناس فيه بُطئاً وسرعة).

قال هنا: (وهي ما يحكم فيه العقل بحدْسٍ مفيدٍ للعلم) حدْسٍ بإسكان الدال.

(كقَوْلِنَا: نُورُ القَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ).

هذا حدسية .. ظن، ما رأوها .. قديماً هذا، قد يكون الآن أثبت شيء الله أعلم به، لكن قديماً هذا من باب الظنيات .. التخيُّل.

(لاختلاف تشكُّلاته) صوره وهيئته النورية المنسوبة إلى النور (بحسب قُربه) أي: القمر (من الشمس، وبُعده) أي: القمر (عنها).

(وفُرِّق بينها وبين المجربات بأنها واقعة بغير اختيارٍ بخلاف المجربات).

(15/12)

________________________________________

يعني: الحدسيات هذه ليس فيها اختيار، بخلاف المجربات فإنه يختارها، يعني: بفعل الفاعل .. اختيار الفاعل.

قال: (وفُرِّق بينها) أي: الحدسيات.

قال السعد: الحدسيات كالمجربات في تكرر المشاهدة، ومقارنة بالقياس الخفي، إلا أن السبب في المجرَّبات معلوم السببية، مجهول الماهية، وفي الحدسيات معلومٌ بالوجهين.

قال هنا: (وفُرِّق بينها وبين المجربات بأنها) أي: الحدسيات.

(واقعة بغير اختيارٍ بخلاف المُجربات فإنها بالاختيار).

قال هنا: (قال الرازي: الفرق بين التجرِبة والحدْس: أن التجربة تتوقف على فعلٍ يفعله الإنسان حتى يحصلَ المطلوب بسببه، فإن الإنسان لم يجرب الدواء بتناوله وإعطائه غير مرة بعد أخرى، لا يحكم عليه بإسهالٍ أو عدمه) مرة واحدة لا يحكم، ولو حصل شيءٌ لا يجزم به.

ولذلك هنا ترتبط قاعدة السببية في باب التوحيد: كل ما لم يثبته الشرع سبباً شرعاً أو قدراً، فالاعتماد عليه يُعتبر إما: شركٌ أكبر وإما شركٌ أصغر، وإن كان الأصل في إطلاق القاعدة الشرك الأصغر، لكن قد يكون، على حسب الاعتقاد هنا؛ لأنه كلما كان الشرك أصغر لا يمنع أن يكون أكبر، كلما يقال فيه أنه من صور الشرك الأصغر لا يمنع أن يكون من الشرك الأكبر.

ولذلك الرياء الذي لا يستمر شرك أصغر، لكن قد يكون أكبر .. إذا غلب على الإنسان قد يكون أكبر.

قال: (بخلاف الحدْس فإنه لا يتوقف على ذلك، وهو قريبٌ مما ذكره الشارح).

قال هنا: (والحدْس سرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب، ويقابله الفكر، فإنه حركة الذهن نحو المبادئ، ورجوعِها عنه إلى المطالب، فلا بد فيه من حركتين بخلاف الحدْس؛ إذ لا حركة فيه أصلاً، والانتقال فيه ليس بحركة).

قال: (سُرعة الانتقال) قال: (فيه تسامح؛ لأن الانتقال في الحدس دفعي من المبادئ إلى المطالب) عرَفنا المبادئ والمطالب، وحقيقتُها: أن تسنح المبادئ المرتبة في الذهن فيحصل المطلوبُ.

قال: (والمجربات والحدسيات لا يُحتج بها على الغير؛ لجواز ألا يكون له شيءٌ منهما) يعني: إذا عندك مقدمة ثبتت عن تجربة، هل تحتج بها على الغير؟ لا؛ لأنه قد يكون لم يجرب هو، فكيف يسلِّم بها؟ المناظرة يستلزم تسليم المقدمات.

(وَمُتَوَاتِرَاتٌ) (وهي ما يحكم فيه العقل بواسطة) هي (السماع) يعني: إضافة بيانية.

(من جمعٍ يُؤمن تواطؤهم على الكذب) كما هو الشأن في باب المصطلح.

(فهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة كثرة الشهادات الموجبة لليقين، كالعلم بوجود مكة) يعني: الذي لم يرى مكة فحينئذٍ العلم بوجود مكة يقين؛ لأنه أخبره زيد وعمرو وشاع .. إلى آخره، فإذا كان كذلك كثُرت المشاهدات والإخبار، فصارت كل واحدة في قوة قضية، هذا يسمى تواتراً.

قال: (فهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة كثرة الشهادات الموجبة لليقين، كالعلم بوجود مكة، وحصول اليقين يتوقف على أمرين: الأمن من التواطؤ على الكذب) يعني: اتفاق (واستناد الخبر إلى المحسوس، ولا ينحصر مبلِّغ الشهادات في عددٍ، بل القاضي بكمال العدد حصولُ اليقين).

والمسألة خلافية كذلك في علم المصطلح.

(قال السعد: وشرطُه الاستناد إلى الحس؛ حتى لا يُعتبر التواتر إلا فيما يستند إلى المشاهدة).

قال: (كَقَوْلِنَا) يعني: في مثاله على اليقينيات.

(15/13)

________________________________________

(مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- ادَّعى النُّبُوَّةَ، وَظَهَرَتِ المُعْجِزَةُ عَلَى يَدِهِ) وظهرت المعجزة على صدقه -نسختان يعني-. هذا يقيني؟ نعم يقيني قطعاً.

(مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- ادَّعى النُّبُوَّةَ، وَظَهَرَتِ المُعْجِزَةُ عَلَى يَدِهِ) ادعى النبوّة وظهرت المعجزات. هذه نسخة.

(أي: الأمور المخالفة للعادة المقرونة بالتحدي بها، على صدقه أي: على تصديقه في دعواه النبوة).

"على يده، على صدقه" صِدقه أحسن، أما "على يده" ما يكفي يعني: تظهر المعجزة على يده فتدل على كذِبه، لكنها دلَّت على صِدقه.

قال: (وَقَضَايَا قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا) وتسمى القضايا النظرية .. نظرية القياس.

(وَقَضَايَا) نظرية ليست فطرية.

(والمحققون على أنها ليست من الضروريات بل هي كسبية، لكن لما كان برهانُها ضرورياً لا يغيب عن الخيال عند الحكم عُدّتْ من الضروريات، فكأنها لا تحتاج إلى ذلك البرهان).

قال: (وَقَضَايَا قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا) (وهي ما يحكم فيه العقل بواسطةٍ لا تغيب عن الذهن عن تصور الطرفين) يعني: الأصغر والأكبر.

(بواسطةٍ لا تغيب) مُخرجٌ لباقي اليقينيات.

(أي: بسبب قياسٍ متوسط بين الأصغر والأكبر) يعني: قياس خفي كالسابق.

قال: (وهي ما يحكم فيه العقل بواسطة لا تغيب عن الذهن، عند تصور الطرفين) هذه يسمونها قضية قياسُها معها، لا يَتصور الطرفين إلا ويَتصور هذا القياس المتوسط بينهما.

(كَقَوْلِنَا: الْأَرْبَعَةُ زَوْجٌ بِسَبَبِ وَسَطٍ حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ الاِنْقِسَامُ بِمُتَسَاوِيَيْنِ) كلما قلت: زوج استحضرت انقسام إلى متساويين.

إذاً: هذا الذي يكون وسطاً خارجاً.

(وَهُوَ الاِنْقِسَامُ بِمُتَسَاوِيَيْنِ) والوسط ما يُقرَن بقولنا: لأنه .. لأنه ينقسم إلى متساويين.

(كَقَوْلِنَا: الْأَرْبَعَةُ زَوْجٌ) (لأنها منقسمةٌ بمتساويين) هذا الوسط.

(وكل منقسمٍ بمتساويين زوجٌ، وهذا الوسط متصورٌ في الذهن عند تصور الأربعة زوجاً) هذا ما يتعلق باليقينيات الستة.

ثم قال: (ثم أخذ في بيان غير اليقينيات فقال) (وَالجَدَلُ) أعاذنا الله وإياكم من الجدل الباطل، ليس كل جدلٍ يكون باطلاً، وإنما الجدل منه حقٌ ومنه باطل، وما أكثر الاشتغال بالجدل الباطل العقيم، الذي ليس فيه إلا هم إثبات الرأي المختار وإبطال قول الآخر من أجل إسقاطه، لا من أجل الوصول إلى الحق.

قال: (وَالجَدَلُ: وَهُوَ قِيَاسٌ) إذاً: أَخَذه جنساً، لا بد أن يكون قياساً.

(وَالجَدَلُ: وَهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَشْهُورَةٍ أو مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ النَّاسِ أَوْ عِنْدَ الخَصْمَيْنِ).

(قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ) انظر البرهان هناك مؤلَّف من مقدمات يقينية، هنا (مُقَدِّمَاتٍ مَشْهُورَةٍ أو مُسَلَّمَةٍ).

(مشهورة فصْلٌ مخرجٌ البرهان والخطابة والشعر والمغالطة، وسبب شُهرتها: اشتمالُها على مصلحة عامة نحو: العدل حسن) هذه مقدمة مشهورة.

(والظلم قبيح) وهذه كذلك مشهورة.

(أو مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ عِنْدَ الخَصْمَيْنِ) (ويسمى صاحبُه مجادلاً).

(15/14)

________________________________________

(كَقَوْلِنَا: الْعَدْلُ حَسَنٌ وَالظُّلُمُ قَبِيحٌ) (ومراعاة الضعفاء محمودة، وكشفُ العورة مذموم) هذه أربعة أمثلة، كلها على المشهورة، ولم يأت بمثال للمسلَّمة؛ لأنها تختلف، التسليم هذا خاص، مسلَّمة عند الخصمين، وهذان يختلفان من شخصين إلى شخصين آخرين.

(الأمثلة المذكورة للمقدمات المشهورة، لم يذكر مثالاً للمسلَّمة لعدم تعيُّنها؛ إذْ المدار فيها على تسليم الخصم لها، وإن لم تكن حقةً عنده) إذاً: لا مثال له إلا ما يكون في باب المناظرات في الفقهيات وغيرها.

(والغرض منه: إلزام الخصم وإفحامُه، واعتيادُ النفس تركيب المقدمات على أي وجهٍ شاء وأراد.

وإقناع من هو قاصرٌ عن إدراك مقدمات البرهان) يعني: إقناع القاصرين عن درجة البرهان.

قال هنا العطار: (مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَشْهُورَةٍ أَو مُسَلَّمَةٍ) قال في شرح المطالع: (المشهورات قضايا يحكم العقل بها بواسطة اعتراف عموم الناس بها، إما لمصلحة عامة كقولنا: العدل حسن والظلم قبيح، أو بسبب رقة "في الطبع يعني" كقولنا: مواساة الفقراء محمودة، أو حمِيَّة. كقولنا: كشف العورة مذموم.

أو بسبب عادات وشرائع وآداب. كقولنا: شكر المنعم واجب.

وقد تشتبه بالأَوَّلِيَّات –المشهورات-، والفرق بينهما: أنَّ الإنسان لو قُدِّر .. ) انتبه لهذا المثال (أنَّ الإنسان. ز) أراد أن يفرق بين الأَوَّلِيَّات وبين المشهورات.

(أن الإنسان لو قُدِّر أنه خُلِق دَفعة واحدة من غير مشاهدة أحدٍ وممارسة عمل) هكذا دون أن يتعلق بشيء.

(ثم عُرض عليه هذه القضايا توقَّف فيها بخلاف الأَوَّلِيَّات).

الأَوَّلِيَّات يقبلها يعني: الجزء أكبر من الكل، وإذا ما رأى جزءاً ولا كلاً، كيف يحكم بأن الجزء أصغر من الكل والكل أكبر من الجزء؟ هذا فيه إشكال.

قال: (فإنه لم يتوقف فيها، والمشهورات قد تكون حقة وقد تكون باطلاً).

اليقينيات هناك في الأصل فيها أنها حقة، إذا كان يقين عند أهل الإسلام مثلاً حينئذٍ تكون حقة، لكن المشهورات لا، اشتهر .. مقدمة مشهورة، ثم قد تكون حقة وقد تكون باطلة.

(والأَوَّلِيَّات لا تكون إلا حَقَّةً.

والمسلَّمات قضايا تؤخذ من الخصم مسلّمة فيما بين الخصوم، فيبني عليها كل واحدٍ منهم الكلام في دَفع الآخر حقّةً كانت أو باطلة، كحُجية القياس والدوران ونحوها).

(المشهورات إما مشهورة على الإطلاق أو بحسب صناعةٍ كقولنا: التسلسل باطل، أو عند أرباب مِلَّةٍ كقول: الإله واحد، والربا حرام.

فإن قلتَ حينئذٍ: لا تكون من المشهورات، إلا أنها هي التي يعترِف بها عموم الناس -على ما قالوا- قلتُ: إن الناس إما جميع أفراد الناس وهي المشهورات على الإطلاق، أو جميع أفراد طائفة، وهي المشهورات عند طائفة من الناس) يعني: عند فئة معيّنة.

قال هنا: (والغرض منه) يعني: من الجدل (إلزام الخصم).

قال السعد في شرح الشمسية: الغرض من الجدل إقناع من هو قاصرٌ عن إدراك البرهان، وإلزام الخصم؛ فالجدلي قد يكون مجيباً حافظاً لرأيه، وغايةُ سعيه ألا يصير ملزوماً.

وقد يكون سائلاً معترِضاً هادماً لوضعٍ ما، وغاية سعيه أنه يُلزِم خصمَه.

قال: (وَالخَطَابَةُ) بفتح الخاء.

(15/15)

________________________________________

(وَهِيَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَقْبُولَةٍ مِنْ شَخْصٍ مُعْتَقَدٍ فِيهِ أَوْ مَظْنُونَةٍ).

قال هنا: (ظاهر صنيع المصنف أن الخَطابة مغايرة للجدل، فلا تجتمع معه، وقد يقال: المقدمات المقبولة تكون مشهورة أيضاً، ويسمى قياسُها جدلاً وخطابة) يعني: يشتركان.

(والمظنونة تكون مسلَّمةً عند الخصم) إلا أن يقال بأن ثم حيثية تعتبر في محالّها.

قال: (وَالخَطَابَةُ: وَهِيَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَقْبُولَةٍ مِنْ شَخْصٍ مُعْتَقَدٍ فِيهِ) كما هو معروف (مُعْتَقَدٍ فِيهِ) المراد به: (أي: لسببٍ إما سماوي كالمعجزات) الأنبياء كذلك، معتقدٍ فيه النبوة والرسالة، هذا حقٌ.

(أي: لسببٍ إما سماوي كالمعجزات "للأنبياء" والكرامات "للأولياء"، أو اختصاصه بمزيد عقلٍ ودين) كأهل العلم.

قال: (والخَطابة نافعةٌ جداً في تعظيم أمر الله تعالى والشَّفَقِة على خلقه تعالى).

ولذلك الخَطَابَةُ تتنوع، فالخَطابة: سياسية وخَطابة شرعية، خَطابة اجتماعية، اقتصادية .. تختلف باختلاف المراد طرحُه.

قال: (أو مقدمات مظنونة أي: معتقَدٍ فيها اعتقاداً راجحاً، وقضية العطف أن المقبولة من شخصٍ معتقَد فيه، لا تكون مظنونة وفيه نظر، بل قد تكون ظنية أيضاً، وقد تكون يقينية، خصوصاً المقبولةُ من نبيٍّ، إلا أن يقال: قيْدُ الحيثية معتبر كما تقدم).

قال السعد: وقد تقبل الخَطَابَةُ بدون نسبتها إلى أحد كالأمثال السائرة.

قال هنا: (كقولنا: فلانٌ يطوف بالليل، وكل من يطوف بالليل سارقٌ) يطوف بالليل في غير الكعبة يعني.

(كقولنا: فلانٌ يطوف بالليل، وكل من يطوف بالليل سارقٌ، والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم كما تفعله الخطباء والوُعَّاظ).

قال: (وَالشِّعْرُ: وَهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ تَنْبسِطُ مِنْهَا النَّفْسُ أَوْ تَنْقَبِضُ) يعني: تتسع أو تنشرح؛ للرغبة فيها، أو تضيق عنه وتنفُر منه.

(فالغرض منه انفعال النفس ببسطٍ أو قبضٍ بسبب ترغيبٍ أو ترهيب؛ ليصير ذلك مبدأ الفعل أو ترْكٍ، أو مبدأ فعلٍ أو تركٍ، أو رضاً أو سُخطٍ.

ولذا يفيد في بعض الحروب والاستعطاف ما لا يفيد غيرُه) يعني: هذا النوع.

(فإنَّ الناس أطوع للتخيُّل منهم للتصديق لكونه أعذب وألذ، وفي الخبر: إنَّ من البيان لسحراً. أي: يَعملُ عمل السحر في سَرِقة القلوب، "ومن الشعر لحكمة" والحكمةُ شأنُها رغبةُ النفوس فيها وميلُها إليها).

قال هنا: (وَالشِّعْرُ: وَهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ تَنْبسِطُ مِنْهَا النَّفْسُ) تنشرح (أَوْ تَنْقَبِضُ).

(كما إذا قيل: الخمر ياقوتة) أي: حمراء كالياقوتة.

(الخمر ياقوتة سَيّالة) يعني: سريعة السيلان والجريان في الحلق (انبسطت النفس) ليس بأي نفس.

(انبسطتْ النفس ورغِبتْ في شُربها، وإذا قيل: العسل مِرَّةٌ) (مِرّة) بكسر الميم وتشديد الراء: ماءٌ مرٌ أصفر.

(مُهَوِّعَةٌ) يعني: مُقِيئَة.

(انقبضتْ النفس ونفرت عنه) عن العسل، هذا مثال [وَالشَّأنُ لاَ يُعْتَرَضُ المِثَالُ].

(والغرضُ منه: انفعال النفس بالترغيب والترهيب.

(15/16)

________________________________________

قال العلامة الرازي: ويزيد في ذلك) يعني: الترغيب والترهيب (أن يكون الشعر على وَزْنٍ أو يُنشَدُ بسوط.

مقتضاه: أن الشعر قد لا يكون موزوناً، وهو كذلك).

الشعر عند المتقدمين من المناطقة، بل عند المناطقة عموماً إذا قيل: الشعر. ليس المراد به الشعر الموزون، قد يكون وقد لا يكون، بل الأصل فيه هو المنثور.

(مقتضاه: أن الشِّعر قد لا يكون موزوناً. وهو كذلك؛ فإنَّ المراد به هنا: قياسٌ مؤلَّفٌ من مقدِّماتٍ مُتخَيّلَة، وهو لا يكون موزوناً، فإنَّ شِعر اليونانيين محض مقدمات متخيلة فقط) ليس فيه وزن (أو يُنشد بسوطٍ).

قال: (طيب) يعني: حسَن جميل.

قال هنا: (والقدماء لم يعتبروا في الشعر إلا التخيل، والمحدَثُون اعتبروا كونَه مزوناً أيضاً، فحينئذٍ يكون قياساً بالقوة).

إذا جاء موزوناً يكون قياساً بالقوة، بمعنى: أنه لو حُلِّلت تلك المقدمات الموزونة ورُكِّبت على صورة القياس كان قياساً.

فلا يقال: إذا نحَى به نحوَ الشعر العربي وَوُزِن خَرج عن أن يكون قياساً؛ إذ لا تُطابق صورة القياس موازين الشعر.

قال: (وَالمُغَالَطَةُ: وَهِيَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مَقَدِّمَاتٍ كَاذِبَةٍ شَبِيهَةٍ بِالْحَقِّ أَوْ بِالْمَشْهُورِ أَوْ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَهْمِيَّةٍ كَاذِبَةٍ) المقدمات الوهمية قال: (هي قضايا كاذبة يحكُم بها الوهمُ الإنساني في أمورٍ غير محسوسة كقولنا: لكل موجودٍ مُشارٌ إليه) يعني: نقول: هذا فرس .. يأتي يرسِم إنسان يقول: هذا فرس، أو يَرسِم فرس يقول: هذا فرسٌ يجري. هذا كذِب .. سفسطة هذه.

(أَوْ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَهْمِيَّةٍ).

(ولولا دفعُ العقل والشرع لها لعُدَّت من الأَوَّلِيَّات، وإنما قيَّد الأمور بالغير المحسوسة؛ لأن أحكام الوهم والمحسوسات غير كاذبة).

قال هنا: (مُؤَلَّفٌ مِنْ مَقَدِّمَاتٍ كَاذِبَةٍ شَبِيهَةٍ بِالْحَقِّ أَوْ بِالْمَشْهُورِ أَوْ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَهْمِيَّةٍ كَاذِبَةٍ).

قال السَّعد في شرح الشمسية: الوهْمِياتُ قضايا كاذبة، يحكُم بها وهم الإنسان في غير المحسوسات؛ قياساً عليها، كما يقال: إن وراء العالم خلاء لا يتناهى.

كما يُحكَم على كل جسمٍ بأنه متحيِّز؛ لإدراكِه أن كل جسمٍ مشاهد محسوس متحيّز، ولولا دفع العقل والشرع لكانت من الأَوَّلِيَّات .. إلى آخر كلامه.

قال: (وهي) أي: المغالَطة.

(بقسميها لا تُفيد يقيناً) قسميها أي: المؤلَّف من شبيهة بالحق أو المشهورة، والمؤلَّف من وهمية كاذبة. يعني: فيما يتضمنه الحد السابق.

(لا تُفيد يقيناً ولا ظناً).

قال السعد: والغرض منها إسكاتُ الخصم وتغليطُه، وأقوى منافعها الاحتراز عنها.

عَرَفْتُ الشَّرَّ لاَ لِلشَّرِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيْهِ ... وَمَنْ لَمْ يَعْرِفَ الخَيْرَ مِنْ الشَّرِّ يَقَعْ فِيْهِ

 

إذاً: دراستُها لماذا؟ للحذر منها، كما يقول بعضهم: تعلَّم السحر لئلا يقع فيه! هذا غريب هذا!

قال: (لا تُفيد يقيناً ولا ظناً، بل مجرد الشك والشبهة الكاذبة، ولها) أي: المغالطة (أنواعٌ) ظاهرُها أنها متباينة، وكلامُ السعد يفيد أنها متحدة الذات مختلفة بالاعتبار.

(15/17)

________________________________________

قال السعد: المفيد للتصديق الجازم غير الحق هو السفسطة، وللتصديق الجازم الذي لا يُعتبر فيه كونُه حقاً أو غير حق، بل عموم الاعتراف هو المُشاغبة، وهما تحت قسمٍ واحد وهي المغالَطة.

قال: (ولها أنواعٌ بحسب مُستعمِلها، وما يستعملها فيه.

فمن أوهم بذلك. أي: المذكور من الشبيه بالحق: ما مضى .. المقدِّمات.

(فمن أوهم بذلك العوام أنه حكيم يعني: عالمٌ بالحِكمة الطبيعية والإلهية.

(مستنبطٌ للبراهين يسمى سُفسطائياً أي: منسوباً للسُفسطاء وهي: الحِكمة المُمَوِّهَة والعِلمُ المُزَخْرَف؛ لأن معنى سُوف: العِلم، ومعنى سطا: مزخرف وباطل وغَلطٌ).

قال: (ومن نصَب نفسَه للجدال وخِداع أهل التحقيق، والتشويش عليهم بذلك يسمى مشاغباً مهيِّجاً للشر ممارياً) أي: مجادلاً.

(ومنها نوعٌ يستعمله الجهَلة وهو: أن يَغيض أحدُ الخصمين الآخر بكلامٍ يُشغِل فِكرَه ويغضبه كأنْ يسُبَّه أو يعيبَ كلامَه أو يُظهرَ له عيباً يعرِفُه فيه) يعني: خارج عنه: كُنتَ وكنتَ.

(أو يقطع كلامه، أو يغلب عليه بعبارة غير مألوفة، أو يخرج به عن محل النزاع .. ) هذا كله مغالطة.

(ويسمى هذا النوع المغالطة الخارجية؛ لكونها بأجنبيٍ خارجٍ عن المتكلَّم فيه) إذا تكلَّم في موضوع يسبُّه، يتكلم في موضوع أَخْذ وعطاء في إثبات الأدلة، ومن أنت؟ وكيف تعترض؟ .. إلى آخره، كل هذا خروجٌ عن المقصود.

(وهو مع أنه أقبحُ أنواع المغالطة لقصدِ فاعلِه إيذاءَ خصْمه، وإيهامِ العوام أنه قَهَره وأسكتَه، أكثرُ استعمالاً في زماننا؛ لعدم معرفة غالب أهله بالقوانين ومحبتِهم الغلبة، وعدم اعترافِهم بالحق) نعم هذا يُنتبه له، حتى طلاب العلم، إذا أراد أن يناقش مسألة لا بد أن يستحضر في قلبه أنه لا يريد إلا الحق، لا يريد إفحام من هو أمامه ولو كان لا يُحبه أو يبغضُه أو يكرهه؛ لأنَّ الحق هنا ليس مناطاً أو مُعلَّقاً بالأشخاص، وإنما مردُّه إلى الكتاب والسنة.

ولذلك ابن القيم له كلمة جميلة جداً في مدارج السالكين، يقول -يقرِّب مسألة وهي-: أنَّ الحق لا يجوز ردُّه، وأن الحكمة ضالة المؤمن ولو نطق بها كافِر.

نقول: لماذا؟ ما العِلَّة هنا؟

يقول: لأنه ما من حقٍ في السماء والأرض إلا وهو أَثَرٌ من آثار اسم الله الحق، فإذا ردَدْتَه رَدَدْتَ على الله تعالى.

ولذلك الإنسان يوطِّن نفسه، أنه ما يسمع قولاً وتظهر عليه أدلة الحق إلا ويُسرِع إليه، ولو كان هو يعتقد، أو أنه يجادل أو يناظر في قول، فتبين له خلافُه يرجع مباشرة؛ الرجوع للحق فضيلة وليس بعلامة جهل. ولذلك من الأمور المكتسَبة عند الناس هنا: أن الشخص إذا رجع عن قوله، أو تبيّن له غلطُه أنه نوع نقص، وأنه يدل على عدم ضبطٍ للعِلم لا، ليس كذلك.

الإمام أحمد وهو إمام له قولان وثلاثة وأربعة، يقول في عامٍ قولاً، ثم في عامٍ آخر .. وما أدراك لعلَّه بعده بأيام رجَع عن قوله، وكذلك الإمام أبو حنيفة والصحابة .. ابن عباس كم من مسألة له قولان، عمر له قولان!

(15/18)

________________________________________

هذا لا يدل على جهل أو نقص في العلم، بل الرجوع يدل على كمال العِلم؛ لأن العِلم المراد به العِلم النافع الذي يُوجِب العملَ الصالح، وأما العلم مجرد المسائل وإدراكُها، والتبجُّح بذكرها وأدلتها دون عمل، هذا عليك لا لك، ولا يكون عِلماً نافعاً.

ولذلك شاعتْ هذه الأمور حتى في زماننا. يعني: حُبُّ الغلبة وعدم الاعتراف بالحق، ولو ظاهر أن هذا القول هو الصحيح أو أنه الحق، لكنه لا يريد أن يَرجع أمام الناس، ويرى أنه عيب ونقْص، وماذا يقولون؟ لعلَّه نقصٌ في العِلم، أو أنه ما تأمَّل، أو ما قرأ، أو نقصٌ في الاطلاع .. كل هذه تجعلُه تحت قدميك؛ لأنَّ هذه من حُظوظ النَّفْس، والنَّفْس إذا لم تضْعَها تحت قدميك لن تنجُو.

قال هنا: (والغلطُ إما من جهة الصورة) الغلط مبتدأ.

(إما من جهة الصورة. كقولنا: في صورةِ فرسٍ منقوشةٍ على جدارٍ أو غيرِه: هذه فرس، وكل فرسٍ صهَّال، يُنتِج هذه الصورة صَهَّالة) هذا كذِب. يعني: يرسِم صورة ثم يقول: هذا فرس "صورة فرس"، ثم يقول: وكل فرسٍ صهّال إذاً: هذا صهّال.

إذاً: تركيب المادة هنا .. التأليف غلط (وسبب الغلط فيه اشتباه الفرس المجازي) قوله: هذا فرس، هو ليس حقيقة؛ هذه صورة فرس ليس فرساً.

(وسبب الغلط فيه اشتباهُ الفرس المجازي الذي هو محمولُ الصُّغرى) هذه فرس (بالحقيقي الذي هو موضوع الكبرى) اختلفا، ولذلك قال هنا: من جهة الصورة أي: عدم شرط الإنتاج. ككون صغرى الشكل الأول سالبة أو كبراه جزئية، أو عدم تكرُّر الحد الأوسط فيه.

أي: وأما من جهة المادة بأن تكون المقدمتان أو إحداهما كاذبة شبيهةً بالحق.

قال هنا: (إما من جهة الصورة، وإما من جهة المعنى. كقولنا: كل إنسانٍ وفرسٍ إنسانٌ) حكم على جزئين: كل إنسانٍ وفرسٍ -معطوف على إنسان .. مضاف إلى كل- إنسان.

هذه شبيهة بالقضية الصادقة. نحو: كلُّ حيوانٍ ناطقٍ حيوانٌ. صحيح؟

"كل إنسان حيوان" إنسان ضع مكانه تعرِيفَه: كل حيوانٍ ناطقٍ حيوان، التي هي أَوَّلِيَّة؛ لأن كل من تَصور الكل والجزء جزم بأن الجزء لازمٌ لكله، فموضوع كلٍ من القضيتين كلٌ وله أجزاء.

إذاً: بعض الأجزاء قد تصدُق وبعض الأجزاء قد لا تصدق.

قوله: "كل إنسانٍ وفرس إنسان" غلَط؛ لأنه حَكَم بإنسان -بمفهومه على جزئين مختلفين بينهما تفاوت، "وكل إنسانٍ وفرسٍ فرسٌ" مثلُها، يُنتج: بعض الإنسان فرس.

أي: لأنَّ المثال المذكور من الشكل الثالث .. إلى آخره.

قال هنا: (وسبب الغلط فيه: أن موضوع المقدمتين -إنسان وفرس- فيهما غير موجود؛ إذ ليس لنا موجودٌ يصدُق عليه أنه إنسانٌ وفرس، وهو إنسان.

وكقولنا: كل إنسانٍ بشر، وكل بشر ضحَّاك يُنتِج: كل إنسانٍ ضحَّاك.

وسبب الغلط فيه: ما فيه من المصادرة على المطلوب أي: جَعْلِ الأوسط نفسَ الأصغر) كل إنسانٍ بشر وكل بشرٍ ضحاك، كل إنسانٍ بشر ما الفرق بين إنسان وبشر؟ هوَ هُو .. عينُه.

إذاً: المصادر على المطلوب (سببُ الغلط فيه: ما فيه من المصادرة على المطلوب) ما هو المطلوب؟ النتيجة.

قال هنا: (أي: جعلُ الأوسطِ نفس الأصغر كمثال الشارح).

أين الأوسط؟ بشَر، أين الأصغر الذي هو موضوع النتيجة؟ إنسان، هو عينُه، لم يتغايرا.

(15/19)

________________________________________

(لِما مر في تعريف القياس أن النتيجة يجب أن تكون قولاً آخر، وهي هنا ليست كذلك، بل هي عينُ إحدى المقدمتين لمُرادَفةِ الإنسان للبشر) لا فرْق بينهما.

قال: (ومن غير اليقينيات الاستقراءُ الناقص) تقدَّم أنه والتمثيل خرجا من تعريف القياس بقوله: لزم عنه لذاتها قولٌ الآخر.

ومثال الاستقراء الناقص: كل حيوانٍ إما إنسان، أو فرس، أو حمار.

وكل إنسانٍ يحرِّك فكَّه الأسفل عند مضغه، وكل فرسٍ كذلك، وكل حمارٍ كذلك، فكل حيوانٍ كذلك، وهي كاذبة لكذب الصغرى؛ لأن الحيوان ليس محصوراً في المذكورات، قولُه: الحيوان إما إنسان أو فرس أو حمار فقط، ما صح هذا، هذه كاذبة.

(فقد يكون من أفراده الخارجة عنها ما ليس كذلك، لا سيما وقد ذكروا أن التِّمساح يحرِّك فكَّه الأعلى عند مضغه.

واحترز بالناقص عن التام؛ فإنه من اليقينيات. نحو: كل كلمة إما اسمٌ أو فعلٌ أو حرف، وكلٌ منها قولٌ مفرد فهي قولٌ مفرد).

قال: (الاستقراء الناقص وهو) أي: الاستقراء الناقص.

(حُكمٌ على كُلِّيٍّ لوُجُوده في أكثر أجزائه) أكثر أجزائه هذا احترازاً عن التام، لو قال: في جميع أجزائه لصار تاماً، والتام من اليقينيات وهو أراد غير اليقينيات.

قال: (حُكمٌ على كُلِّيٍّ لوجودِه) أي: الحُكم (في أكثر جزئياته).

قال السعد: وفي تفسيرهم تسامح ظاهر؛ لأن الاستقراء حُجةٌ مُوصلةٌ إلى التصديق الذي هو الحُكم الكُلِّيّ، فإثبات الحكم الكُلِّيّ هو المطلوب وليس هو الاستقراء.

الاستقراء قال: (هو حُكمٌ) لكن ليس هو الحكم، الاستقراء هو البحث والنظر .. التصفُّح. هذا هو الاستقراء، قد يكون تاماً وقد يكون ناقصاً.

يُنتِج حُكماً وليس الاستقراء هو الحكم، ولذلك قال: هذا فيه تسامح ظاهر.

قال السعد: وفي تفسيرهم تسامح ظاهر؛ لأن الاستقراء حجةٌ موصِلةٌ إلى التصديق) هو يوصل إلى الحكم وليس هو عين الحكم (الذي هو الحكم الكُلِّيّ، فإثبات الحكم الكُلِّيّ هو المطلوب من الاستقراء لا نفْسُه، فكأنهم أرادوا أن إثبات المطلوب بالاستقراء هو إثبات حُكْمٍ كُلِّيٍّ لوجوده في أكثر الجزئيات.

والصحيح في تفسيره ما ذكرَه الإمام حجةُ الإسلام الغزالي، وهو: أنه عبارةٌ عن تصفُّحِ أمورٌ جزئية. هذا جيد.

تصفُّح أمورٍ جزئية ليُحكَم بحكمها على أمرٍ مشتملٍ على تلك الجزئيات وهو الموافق لكلام أبي نصر الفارابي من أنه عبارة عن تصفُّح شيءٍ من الجزئيات الداخل تحت أمرٍ كلي لتصحيح حكمٍ ما حُكِم به على ذلك الأمر بإيجابٍ أو سلبٍ.

قال: (فتَصَفُّحُنا جزئياتِ الداخل تحت أمر كلي لِطلبِ الحُكم فيه في واحدٍ هو الاستقراء) التصفح هو الاستقراء (فيُنتج الحكم وليس الحكم هو عين الاستقراء.

وإيجابُ الحُكم بذلك الأمر الكُلِّيّ أو سلْبُه عنه هو نتيجةُ الاستقراء، سمّي بذلك لأن المستقري يستتْبِع الجزئيات، جزئياً فجزئياً ليحصُل المطلوب، تقول: استقرأتُ البلاد إذا تتبعتَها قريةً فقرية من أرضٍ إلى أرض).

إذاً: حُكمٌ على كلي لوجودِه أي: الحُكم في أكثر جزئياته، قلنا: هذا فيه نظر، بل هو تسمُّحٌ، والأصح أن يقال: تصفّحٌ .. إلى آخر ما ذكره الغزالي.

(15/20)

________________________________________

(كقولنا: كل حيوانٍ يحرِّك فكَّه الأسفل عند المضغ؛ استقراءً) يعني: استدلالاً بالاستقراء (بما شاهدنا.

ويجُوز في بعض الأفراد ما يخالف ذلك) أي: تحريك الأسفل بأن يحرِّك الأعلى.

قال: (ويجوز في بعض الأفراد) يعني: الحيوان.

(ما يخالِف ذلك) أي: تحريك الأسفل بأن يحرِّك الأعلى (كالتمساح؛ لما قيل: إنه يحرِّك فكَّه الأعلى).

قال: (والتمثيل) هذا الثاني، مما لا يدل على اليقين، عندهم أنه ظني.

قال: (والتمثيل) أي: قياس التمثيل.

(وهو) عَطْفٌ على الاستقراء الناقص، فهو من غير اليقينيات.

(وهو -أي: التمثيل- إثبات حُكمٍ واحدٍ في جزئيٍ؛ لِثُبُوتِه) يعني: ذلك الحُكم (في جزئيٍ آخر، لمعنًى مشتركٍ بينهما) أي: الجزئين، فهو عِلَّة للإثبات.

(والفقهاء يسمَّونه قياساً) يعني: القياس التمثيلي: حملُ معلومٍ على معلومٍ لعلةٍ جامعة بينهما في الحُكم. إلحاقُ فرعٍ بأصل؛ لعلة جامعة في الحكم.

قال السعد: فسَّروا التمثيل بإثبات الحكم في جزئي؛ لثبوته في جزئيٍ آخر، لمعنًى مشترك بينهما وفيه تسامح، مثلُ ما مر في تفسير الاستقراء.

والأصوَب أنه تشبيه جزئيٍ بجزئيٍ في معنًى مشترَك بينهما؛ ليثبُت في المشبَّه الحُكم الثابت في المشبَّه به المعلَّل بذلك المعنى.

إذاً: هو تشبيهٌ وليس فيه حُكمٌ.

قال رحمه الله تعالى: (وَالْعُمْدَةُ) (أي: ما يُعتَمَد عليه من هذه القياسات) (هُوَ الْبُرْهَانُ) يعني: كلُّ ما مر من أول باب القياس، ولذلك قلنا: القياس وما يتعلَّق به تَقْدُمَة للبرهان، وهو العُمدة عنده.

(وَالْعُمْدَةُ) (أي: ما يُعتمد عليه من هذه القياسات) (هُوَ الْبُرْهَانُ).

(من هذه القياسات أي: البرهان والجدل والخَطابة والشعر والمغالطة).

(لتركُّبِه من المقدمات اليقينية، ولكونه كافياً في اكتساب العلوم التصدِيقية أي: المنسوبة للتصديق نسبة الجزئيات لكلِّيها).

قال: (والله سبحانه وتعالى أعلم).

وبهذا نكون قد انتهينا من التعليق على هذا الكتاب، وإن كان تعليقاً ليس مَرْضِياً، لكن نحاول إن شاء الله أن نُتَمِّمَه، وجزاكم الله خير، وجزى الله القائمين على هذه الدورة ومن سعى في ذلك خير الجزاء.

ولا تنسوا إخوانكم بالدعاء لهم في ظهر الغيب ... !!! _________

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...